نفحات الرحمن في تفسیر القرآن

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان واسم المؤلف: نفحات الرحمن في تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندي ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیة ، موسسة البعثه قم .

تفاصيل المنشور: قم : موسسة البعثة ، مرکز الطباعه و النشر، 1386.ش 1428 ه.ق

مواصفات المظهر: 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

حالة الاستماع: فیپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج. 3 و 4 (الطبعة الأولى: 1428 ق. = 1386).

ملحوظة : ج. 5 (الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة : فهرس .

موضوع : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

المعرف المضاف: موسسة البعثة. قسم الدراسات الاسلامیة

المعرف المضاف: موسسة البعثة. مركز النشر

ترتيب الكونجرس: BP98 /ن9ن7 1386

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-37490

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الأول

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 3

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 4

مقدمة المؤسسة

إن تأسيس مؤسسة البعثة تعود الى الشهور الاولى بعد انتصار الثورة الاسلامية حيث بدأت نشاطاتها فى مدينة طهران أولا و كان الهدف من وراء إنشاء هذه المؤسسة تجميع كافة البرامج الثقافية و الخدمية الاجتماعية التى كنت نظمتها و أنجزتها قبل انتصار الثورة ضمن مؤسسة موحدة، و بفضل من اللّه سبحانه و تعالى و رعاية بقية اللّه الأعظم المهدى الموعود عجل اللّه فرجه الشريف فقد تم انجاز خطوات هامة جدا فى الأقسام المختلفة من المؤسسة لا أرى أن الفرصة سانحة لذكرها الآن.

و من نشاطاتها، قسم الدراسات الإسلامية، فقد نشط هذا القسم فى مدينة طهران أولا، ثم انتقل إلى مدينة قم، و باشر ادارته سماحة العلامة حجة الاسلام و المسلمين الحاج الشيخ جعفر الخراسانى.

و خلال اربعة عشر عاما من النشاط المستمر حسب الخطة المرسومة تم انجاز أكبر حجم من البحوث و الدراسات حول تراث، متقدمى أعلام الامامية و التى تدور حول موضوعين أساسيين هما القرآن و العترة و كذا ترجمة آثار فارسية مفيدة للقارئ العربى.

و من جملة كتب التفسير التى تم تحقيقها بأسلوب علمى فنى تفسير البرهان و تفسير آلاء الرحمن و تفسير العياشى و تفسير نفحات الرحمن، و كما تم تحقيق كتاب الأمالى للصدوق و أمالى للشيخ الطوسى و دلائل الإمامة، و من الكتب التى قام قسم الترجمة فى المؤسسة مجموعة طيبة من المؤلفات الفارسية الحديثة التى يستفيد منها القارئ العربى ك «تفسير الأمثل فى كتاب اللّه المنزل» و ترجمة مؤلفات الخطيب المعروف الشيخ الفلسفى رحمه اللّه و الكاتب الاسلامى الشهير الشهيد مطهرى رحمه اللّه و كتب قيمة أخرى.

و من ضمن التحقيقات التى اجريت بشأن التفاسير، نشير هنا إلى التفسير المروى عن أهل البيت عليهم السّلام حيث جمعت كافة الروايات التفسيرية المنتشرة فى ما يقارب من مائتي مصدر من المصادر المعتبرة، و تم تصنيفها و تبويبها فى كتاب بعنوان «معجم تفسير أهل البيت عليهم السّلام» و هو

ص: 5

جاحز للطبع. و قد جاهز كل الروايات التفسيرية في الاقراص CD المظبوطة لتكون الكتاب في تناول ايدى المحققين و يسهل الرجوع اليه.

فقد توقف عمل المؤسسة بصورة موقتة بسبب بعض مشاكل و أملنا كبير بأن نباشر العمل من جديد و من جملة البرامج التى نحاول اعادة العمل بها و تنشيطها هى نهضة الترجمة، لأنّ اللغة العربية هى اللغة الأولى للعالم الإسلامى، و نعتقد أن أى تأليف مفيد للمجتمع الإسلامى يجب أن ينشر باللغة العربية اولا و من ثم باللغة الفارسية و اللغات الأخرى.

و فى الوقت الذى نسعى إلى تنشيط و تفعيل هذه الوحدة من جديد، يعصر قلوبنا ألما لفقد صديقنا العزيز و الغالي الذى كان محور الحركة فى المؤسسة ألا و هو الشيخ الخراسانى، فقد لقى ربه، و ندعو اللّه بأن يمطر على روحه شآبيت رحمته و رضوانه، و يكون نهجه مستمرا و ماثلا أمام أعين تابعيه و محبيه. آمين رب العالمين.

علي الاسلامي

مؤسسة البعثة

ص: 6

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

مقدمة التحقيق

الحمد للّه ربّ العالمين و أفضل الصلاة و أتمّ التسليم على محمّد الأمين و آله الهداة الميامين.

و بعد:

لقد حثّ اللّه تعالى عباده على تدبّر آيات الكتاب الكريم و فهم معانيه السامية و ألفاظه الدقيقة، فقال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (1) و قال سبحانه: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (2).

و كان الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله هو الذي تحمّل خلال حياته المباركة عبء تفسير آيات الكتاب الكريم و بيان مضامينه المتعلّقة باقامة الدلائل على أصول الاعتقاد و أحكام الشريعة و تنظيم حياة المجتمع الاسلامي و شئون الدولة الإسلامية و غيرها.

قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3) و كان بيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما صدر عنه من التنزيل و التأويل وحيا من اللّه تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى (4).

و توجّهت رجالات الأمة منذ عصر الصحابة و إلى يومنا هذا جيلا بعد جيل إلى تفسير آي القرآن الكريم، و تدبّر آياته، و البحث في إعجازه و علومه المختلفة، ممّا أدى إلى إيجاد نهضة فكرية قيّمة، و بناء تراث علمي فذّ زخرت به حياة الأمة في مختلف فروع العلم و المعرفة.

و لكي نتّجه صوب تحقيق البناء الفكري السليم و التحصين العقائدي الصحيح، لا بدّ أن نميّز بين التفسير الخالص لوجه اللّه المجرّد عن الهوى و الميول، و بين التفسير العقيم الذي يميل بكلام اللّه حيثما شاء هوى المفسر و ميوله و أغراضه. فاذا كان الأول يسهم في بناء الذات أخلاقا و عقائدا، و في بناء المجتمع أفرادا و أسرا، فانّ الثاني من أشدّ عوامل الهدم و الانحراف.

ص: 7


1- محمّد: 24/47.
2- سورة ص: 29/38.
3- النحل: 44/16.
4- النجم: 3/53 و 4.

و ممّا لا ريب فيه أنّ التفسير القويم تجده عند أهله، أولئك الذين نزل في بيوتهم، و اقترنوا به إلى قيام الساعة، فقد تواتر عند جميع المسلمين أنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إني تارك فيكم، ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(1).فقرن صلّى اللّه عليه و آله بين الكتاب و عترته المعصومين منذ فجر الرسالة و حتى يوم القيامة.

فأهل البيت عترة النبي المصطفى صلوات اللّه عليهم هم الأجدر بإدراك مضامين الكتاب الكريم و فهم دقائقه، و أبعاد مضامينه العالية، و تصاريف أغراضه و مراميه، و قولهم الصدق، و تفسيرهم عين الحقّ ، قال تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2).

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام: «و اللّه ما نزلت آية إلا و قد علمت فيما نزلت، و أين نزلت، و على من نزلت، إنّ ربي وهب لي قلبا عقولا، و لسانا طلقا سئولا »(3).

و قال الإمام محمد بن علي الباقر عليه السّلام: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلّمه إياه، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »(4).

و قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: «نحن الراسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله »(5).

و عليه فانّ حديث أهل البيت عليهم السّلام من أهمّ مفاتيح فهم كتاب اللّه تعالى، و لا يتيسّر للمفسّر أن يفهم القرآن الكريم على وجهه الصحيح إذا لم يستأنس بأحاديثهم عليهم السّلام في فهم دقائق مضامينه و إدراك معانيه، و إذا لم يضع أمامه تصورا عن المنهج الذي اتبعه أهل البيت عليهم السّلام في تفسير القرآن الكريم و الخطوط الأساسية التي رسموها لفهم الكتاب العزيز.

من هذا المنطلق نهض قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة و منذ فجر تأسيسه بمهمة إعداد و تحقيق و نشر سلسلة من التفاسير التي تصبّ في هذا الهدف السامي، فكان حاصل الجهود الخيرة العاملة في هذا الحقل هو إعداد (معجم تفسير أهل البيت عليهم السّلام) و الذي يضمّ ما تفرّق من حديثهم عليهم السّلام الوارد في التفسير من مصادر الحديث و الرواية المعتبرة باستثناء كتب التفسير.

و من نتائج أعمال قسم الدراسات الاسلامية في هذا المجال تحقيق و نشر (تفسير العياشي)

ص: 8


1- سنن الترمذي 3786/663:5 و 3788 - كتاب المناقب، مستدرك الحاكم 148:3.
2- الأحزاب: 33/33.
3- كنز العمال 36404/128:13.
4- تفسير القمي 96:1، تفسير العياشي 646/293:1.
5- الكافي 1/166:1، تفسير العياشي 648/239:1.

لمحمد بن مسعود العياشي المتوفى نحو سنة 320 ه ، و كتاب (البرهان في تفسير القرآن) للسيد هاشم البحراني المتوفى سنة 1107 ه ، و كتاب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) للشيخ محمد جواد البلاغي المتوفى سنة 1352 ه ، و غيرها من التفاسير و الدراسات التي صدرت، أو لا تزال قيد الطبع أو التحقيق و تنتظر دورها في النشر و التوزيع باذن اللّه و توفيقه.

و الكتاب الذي بين يديك (نفحات الرحمن في تفسير القرآن) واحد من سلسلة التفاسير التي تبنّى قسم الدراسات الاسلامية تحقيقها و إخراجها بشكل أنيق يناسب مكانة مؤلفيها و جلالتهم، و هو من تأليف الشيخ محمد بن عبد الرحيم النهاوندي أحد أعلام الطائفة الحقّة و شيوخها المبرّزين قدس اللّه روحه و نور ضريحه، نرجو من اللّه تعالى أن ينفع به الاخوة المؤمنين سيما طلبة القرآن و علومه السامية.

ص: 9

ص: 10

ترجمة المؤلف

هو الشيخ محمد بن الميرزا عبد الرحيم بن الميرزا نجف المستوفي بن الميرزا محمد علي الشيرازي النهاوندي(1).

ولادته و نشأته و رحلاته

ولد الشيخ محمد النهاوندي في الخامس عشر من شهر رجب سنة 1291 ه (2) في النجف الأشرف، فنشأ منذ طفولته المبكرة في بيئة علمية و وسط يزخر بالفضيلة و المعرفة، حيث أمضى نحو ثلاث سنوات من أيام طفولته في النجف الأشرف مهد العلم و الورع و التقوى، و عاش في كنف أبيه العالم المتبحر و الفقيه البارع الميرزا عبد الرحيم النهاوندي نحو ثلاثة عشر عاما (1291-1304 ه ) نهل خلالها من فيض علمه و معرفته و اكتسب معالم تقواه و زهده.

و عند ما لبّى أبوه نداء الحق في التاسع من ربيع الثاني سنة 1304 ه توفّر الشيخ محمد على الأخذ عن أخيه الميرزا محمد حسن النهاوندي الذي كان عالما عاملا و فقيها بارعا، و أخذ عن مدرسي المدرسة الفخرية (مدرسة الخان مروي) في طهران و التي كان والده مدرسا بها.

و في سنة 1317 ه تشرف الشيخ محمد مع أخيه الميرزا محمد حسن بزيارة مشهد الامام الرضا عليه السّلام و جاور هناك مدة أخذ فيها عن فضلاء عصره المعروفين كالحاج الشيخ حسن علي الطهراني و مير سيد علي الحائري اليزدي و غيرهما.

و في نحو سنة 1324 ه توجّه الشيخ محمد إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة و إدامة الدرس

ص: 11


1- ترجم له الشيخ آقابزرك في نقباء البشر: 128 (مخطوط )، و في الذريعة 1006:9 عند ذكر ديوانه، و 163:12 عند ذكر كتابه (سراج النهج) و 122:15 عند ذكر كتابه (ضياء الأبصار) و 247:24 عند ذكر كتابه (نفحات الرحمن). و ذكره في أثناء ترجمة والده الميرزا عبد الرحيم النهاوندي في نقباء البشر 1108:3، فوائد الرضوية: 228، ريحانة الأدب 266:6، الذريعة 687:9 عند ذكر ديوان والده.
2- و ذكر الشيخ آقابزرك في نقباء البشر 1109:3 (ترجمة الشيخ عبد الرحيم النهاوندي) أن ولادته كانت في سنة 1289 ه و هي السنة التي عاد فيها والده من النجف إلى إيران، و ما أثبتناه بناء على ما رواه في الذريعة 687:9 عن الشيخ محمد النهاوندي في تاريخ ولادته و بعض تفاصيل حياته، و ما أثبتناه موافق أيضا للذريعة 1006:9 و 12: 163، و نقباء البشر (القسم المخطوط ): 128 - ترجمة الشيخ محمد النهاوندي.

و التحصيل، فتلمذ في كربلاء للسيد إسماعيل الصدر الأصفهاني، و توفّرت له فرصة التلمذة في الفقه و الأصول و العقائد و الأخلاق عند فضلاء ذلك العصر و أعلامه المعروفين حيث حضر أبحاث الملا كاظم الخراساني، و السيد محمد كاظم اليزدي، و الحاج ميرزا حسين الخليلي، و الشيخ عبد اللّه المازندراني، و الملا لطف علي، و حضر في سامراء دروس آية اللّه الميرزا محمد تقي الشيرازي، و غير هؤلاء من جهابذة العلم و المعرفة حتى وصل إلى كمال الاجتهاد في العلوم النقلية و العقلية.

و عاد إلى خراسان على أثر وفاة أخيه الميرزا محمد حسن و ذلك نحو سنة 1329 ه و جاور المشهد الرضوي المقدس، و قام مقام أخيه في التصدّي لشئون الزعامة الدينية و تولي شئون المرجعية و الافتاء في المسائل الشرعية و الأحكام، و اشتغل أيضا خلال مدة إقامته في مشهد بالتدريس و البحث و التأليف.

و في سنة 1360 ه توجه إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، و في هذه الرحلة زار العتبات المقدسة في العراق ثمّ عاد إلى مشهد و بقي هناك حتى وافاه الأجل.

وفاته:

توفي الشيخ محمد النهاوندي في الخامس من جمادى الأولى سنة 1371 ه و دفن في الحرم الرضوي الشريف في مشهد(1).

اسرته العلمية

1 - جدّه أبيه

كان جدّه أبيه محمد علي الشيرازي حاكما في نهاوند من قبل السلطان محمد شاه القاجاري، و استوطن أولاده و أحفاده بها، و منهم والد المؤلف الميرزا عبد الرحيم النهاوندي.

2 - والده

كان والده الميرزا عبد الرحيم النهاوندي(2) عالما متبحرا و فقيها بارعا و زاهدا تقيا، ولد في نهاوند سنة 1237 ه ، و اشتهر في أول أمره بحسن الخطّ و تجويده حتى بلغ الكمال فيه، ثمّ توجّه إلى تحصيل العلوم الدينية، فهاجر من موطنه إلى بروجرد، فقرأ على علمائها المعروفين آنذاك، ثمّ توجه إلى العراق فتلمذ للشيخ محمد حسن صاحب الجواهر حتى توفّي الأخير سنة 1266 ه ، فقرأ بعده على

ص: 12


1- راجع نقباء البشر (مخطوط ): 128، الذريعة 1007:9 و 163:12.
2- راجع ترجمته في أعيان الشيعة 470:7، نقباء البشر 1108:3، الفوائد الرضوية: 228، ريحانة الأدب 266:6، الذريعة 687:9.

الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري، و تصدّى خلال ذلك للتدريس، فحظي بتأييد استاذه الشيخ الأنصاري و تقديره.

و بعد وفاة الشيخ الأنصاري في سنة 1281 ه تفرّغ للتدريس في النجف، و أصبح من مشاهير علمائها و أعلامها المحقّقين و تخرّج عليه جمع من الفضلاء.

و غادر الشيخ عبد الرحيم النهاوندي أرض العراق بعد إقامة استمرت نحو ثلاثين عاما، و ذلك سنة 1291 ه (1) ،و هي السنة التي ولد فيها ابنه محمد صاحب النفحات، و تشرف بزيارة مرقد الامام الرضا عليه السّلام في مشهد، و أقام لمدة سنة مجاورا للمشهد الرضوي المقدس، ثمّ غادر بعدها مارا في طهران، و هناك ألحّ عليه جماعة من فضلائها و علمائها لطلب الاقامة بها و تولي التدريس في المدرسة الفخرية (المعروفة بمدرسة مروي) فأقام في طهران ملبيا طلبهم، و فوّض إليه الحاج ملا علي الكني مهمة التدريس في المدرسة المذكورة، و تولّى أيضا مهام المرجعية و الافتاء و إقامة صلاة الجماعة حيث كان يقتدي به عامة متديني المدينة و أعلامها، لما يتصف به من زهد و تقوى و ما يحظى به من وجاهة تامة و مكانة مرموقة.

و تخرج عليه جماعة من الأعلام كالحاج ميرزا علي تقي سبط السيد محمد المجاهد، و السيد محمد الطباطبائي، و الحاج ميرزا مهدي كلستانه و غيرهم.

و بقي الشيخ عبد الرحيم مقيما في طهران حتى وافاه الأجل في يوم الثلاثاء التاسع من ربيع الثاني سنة 1304 ه و حمل جثمانه إلى قم(2) فدفن في أول حجرة من حجرات الصحن الجديد للسيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر عليه السّلام على يسار الداخل من الباب الشرقي.

و ترك الشيخ عبد الرحيم مجموعة من الآثار العلمية منها في الأصول مقدار من أصل البراءة، و حاشية القوانين، و في الفقه: كتاب العتق، و كتاب الوقف، و ديوان شعر فيه مجموعة من أشعاره في كراريس بخطه كانت عند ولده الشيخ محمد.

3 - أخوه

ص: 13


1- قيل أيضا: سنة 1289 ه ، كما في نقباء البشر 1109:3 (ترجمة الشيخ عبد الرحيم النهاوندي) و ريحانة الأدب 6: 268، و ما أثبتناه موافق لرواية الشيخ آقابزرك عن الشيخ محمد النهاوندي، في الذريعة 687:9، و راجع أيضا: نقباء البشر (مخطوط ): 128 ترجمة الشيخ محمد، و الذريعة 1006:9 و 163:12.
2- ذكر الشيخ آقابزرك في نقباء البشر 1109:3 أنه حمل جثمانه إلى النجف، و هو وهم، فقد ذكر في الذريعة 687:9 أنه دفن في قم، و هو مطابق لحقيقة الحال و لكافة المصادر التي ترجمت له، راجع الفوائد الرضوية: 229، ريحانة الأدب 268:6.

أكبر إخوته الشيخ الميرزا محمد حسن (1) ،و كان عالما عاملا و فقيها بارعا، تشرف بعد وفاة أبيه سنة 1304 ه بزيارة الامامين العسكريين في سامراء، و مكث هناك مدّة حضر فيها دروس المجدد الشيرازي، ثم عاد إلى طهران و منها إلى مشهد، فأقام بها متوليا شئون التدريس و المرجعية و الافتاء حتى وفاته في نحو سنة 1329 ه (2) فقام مقامه بالتدريس و الامامة أخوه الشيخ محمد صاحب النفحات.

مصنفاته:

ذكر الشيخ آقابزرك في الذريعة أربعة مصنفات تركها الشيخ محمد النهاوندي، و هي:

1 - ديوانه، قال الشيخ آقابزرك: له ديوان شعر... و قد استكتبت منه قصيدته المستزاد في رثاء الحسين الشهيد عليه السّلام(3).

2 - سراج النهج في مسائل العمرة و الحج، قال الشيخ آقابزرك: استدلالي مبسوط ، يقرب من ثلاثة آلاف بيت(4).

3 - ضياء الأبصار في مباحث الخيار، قال الشيخ آقابزرك: تكلم [فيه] على الخيارات السبعة و بحث في كل منها في سبعة مقامات، و بحث في الخاتمة عن أحكام الخيار في تسع كراريس، يقرب من 8000 بيت(5).

4 - نفحات الرحمن في تفسير القرآن، و هو هذا الكتاب، قال الشيخ آقابزرك: ملمّع عربي و فارسي، للمحدّث النهاوندي محمد بن عبد الرحيم الطهراني النهاوندي، نزيل مشهد خراسان، المجلد الأول منه طبع سنة 1357 ه على الحجر في 496 صفحة مع مقدمة تشتمل على 40 طرفة فيما يتعلق بالقرآن، و المجلد الثاني الى آخر سورة الاسراء (6) ،و طبع الرابع سنة 1370 ه في 504 صفحة(7).

ص: 14


1- راجع ترجمته في نقباء البشر 406:1 و 1109:3.
2- كذا في الذريعة 687:9 و 1007، و نقباء البشر 1109:3، لكن في نقباء البشر 406:1 أرّخ وفاته في حدود سنة 1328 ه و كلا التاريخين ليس فيهما جزم و تحديد.
3- الذريعة 1006:9.
4- الذريعة 163:12.
5- الذريعة 122:15.
6- و طبع الجزء الثالث في النصف من شهر رمضان المبارك سنة 1363 ه .
7- الذريعة 247:24.

هذا الكتاب

اشارة

هو تفسير مزجي متوسط بين البسط و الايجاز، كتبه المؤلف باسلوب واضح و عبارة سائغة خالية من التعقيد و الابهام، و سمّاه في المقدمة حيث قال: و سمّيته ب (نفحات الرحمن في تفسير القرآن) و هكذا جاء اسمه في الذريعة على ما تقدّم، لكنّه جاء بزيادة (و تبيين الفرقان) كما في صدر الجزء الأول و الثالث و الرابع من الطبعة الحجرية، المذكورة. و فرغ منه في آخر سنة 1369 ه .

منهجه في التفسير

رسم المؤلف في اوّل مقدمته الخطوط العامة التي اتبعها في تفسيره، و هي بمجموعها تمثل طريقته التي نهجها في تفسير القرآن، و يمكننا أن نحصرها في سبع نقاط اعتمادا على ما ذكره حيث قال:

1 - اصطفيت من التفاسير ما هو لبابها.

2 - اكتفيت من الوجوه بما هو صوابها.

3 - بالغت في الجدّ بنقل ما وصل إليّ بطرق الخاصة و العامة من الروايات.

4 - استفرغت الوسع في بيان وجه النظم بين السور و الآيات.

5 - صرفت الهمّ في التعرض لأسباب النزول الواردة في الآثار.

6 - بذلت الجهد في الاسفار عن وجوه بعض النكت و الأسرار.

7 - كففت عن التكلم في أعاريب الكلمات و بيان وجوه القراءات التي كانت مخالفة للقراءة المشهورة، إلاّ التي وجدتها عن أهل الذكر مأثورة.

طرف الكتاب

قبل أن يشرع المؤلف في التفسير مهّد لتفسيره بأربعين طرفة و خاتمة، و قد تضمّنت الطرف بحوثا مهمة في علوم القرآن كاعجاز القرآن و دلائله، و نزوله، و ترتيبه و جمعه، و أسمائه، و محكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه، و سلامته من التحريف، و ثواب تعلّمه و تعليمه، و آداب تلاوته و حفظه، و فضائل السور و الآيات و غيرها من البحوث و التحقيقات المهمة في علم التفسير.

مصادر الكتاب

و جعل المؤلف خاتمة طرفه الأربعين في ذكر المصادر التي اعتمدها في تفسيره، و هي عشرة من

ص: 15

مصادر التفسير و الحديث:

1 - جوامع الجامع في التفسير، لأمين الاسلام الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي.

2 - بحار الأنوار، للعلامة محمد باقر المجلسي.

3 - حواشي على كتاب أنوار التنزيل، للشيخ محمد بن حسين بن عبد الصمد العاملي المعروف بالشيخ البهائي.

4 - الصافي في تفسير القرآن، للمولى محمد محسن المعروف بالفيض الكاشاني.

5 - مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي.

6 - الاتقان، لجلال الدين السيوطي.

7 - تفسير أبي السعود.

8 - أنوار التنزيل، للبيضاوي.

9 - روح البيان، للشيخ إسماعيل حقي البروسوي.

10 - تفصيل وسائل الشيعة، للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي.

طبعاته

طبع هذا التفسير طبعة واحدة في أربعة أجزاء على الحجر في حياة مصنفه؛ و ذلك في الفترة الواقعة بين سنة (1357-1370 ه ) و هذه الطبعة نادرة الوجود عزيزة الحصول فضلا عن أنها تزخر بكثير من التصحيف و التحريف و العيوب الطباعية، و لهذا عمد قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة إلى تجديد طباعته بعد تحقيقه وفقا لأساليب التحقيق العلمي المعروفة، ليأخذ حيّزه في المكتبة الاسلامية، و يكون أكثر فائدة لمريدي التفسير و محبّي الكتاب العزيز.

منهج التحقيق

اتبعنا اسلوب التحقيق الجماعي المعمول به في قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة، أي تقسيم العمل ثم انجازه خطوة خطوة من قبل مجاميع متخصصة و متدربة في هذا الفن.

و قبل أن نذكر خطوات العمل في هذا التفسير المبارك، لا بد من الاشارة إلى مسألتين:

1 - إننا قد اعتمدنا في تحقيقنا هذا على الطبعة الحجرية المشار إليها آنفا، بعد تخليصها من عيوب الطباعة القديمة.

2 - إنّ المؤلف قد ذكر مختصرا من التفسير باللغة الفارسية في تلك الطبعة، و لم نورده في طبعتنا هذه، لأنّ المؤلف لم يمزجه أثناء تفسيره العربي بل جعله منفصلا عنه بحيث يمكن جعله كتابا

ص: 16

مستقلا، و إذا تمّ طبعه بشكل مستقلّ سيكون أسهل تناولا و أكثر فائدة لقرّاء اللغة الفارسية.

أما خطوات العمل في هذا التفسير فيمكن تلخيصها بالنقاط التالية:

1 - تخريج النصوص القرآنية و الحديثية و أقوال المفسرين و غيرهم من المصادر التي اعتمدها المؤلف أو من مصادرها الأولية، و قد لاحظنا أنّ نقول المصنف من مصادر الحديث كالتهذيب و الكافي و مصنفات الشيخ الصدوق و غيرها، منقولة بالواسطة عن (تفسير الصافي) و ذلك لكثرة الفوارق بين نصوص (نفحات الرحمن) و نصوص المصادر المشار إليها مع تطابقها تماما مع (تفسير الصافي) و لذلك خرّجنا مثل هذه الأحاديث عن مصادرها الأولية و عن (تفسير الصافي) أيضا، ليتضح للقارئ مدى التفاوت بين الروايتين.

2 - مقابلة النصوص و المتون المنقولة بالمصادر التي نقل عنها المصنف أو بمصادرها الأولية مع الاشارة في حال الاختلافات الضرورية أو في حال اعتمادنا نسخة المصدر.

3 - ترقيم الآيات الواردة في متن التفسير ليكون أسهل تناولا.

4 - تقويم النص بتخليصه من التصحيف و التحريف الوارد في طبعته الحجرية الأولى، و شرح الغريب، و وضع الحركات الضرورية في مواضع الحاجة.

5 - وضعنا ما أثبتناه لاقتضاء السياق بين معقوفتين إشارة إلى عدم وجوده في نسخة التفسير، و كذلك ما رأيناه ضروريا من المصادر.

6 - صياغة هوامش الكتاب بالاعتماد على سلسلة الخطوات السابقة.

7 - الملاحظة النهائية و تتضمن مراجعة متن الكتاب و هوامشه بدقة للتأكد من سلامة النصّ و ضبطه.

تقدير و ثناء

تقدّم وافر الشكر و مزيد الامتنان للاخوة العاملين في (قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة - قم) على جهودهم القيمة التي بذلوها لانجاز تحقيق هذا السفر المبارك، و نخصّ بالذكر منهم الاستاذ المحقق الاخ علي الكعبي دام فضله، و السادة الأفاضل عبد الحميد الرضوي و موسى دانشمند محولاتي و عصام البدري وفّقهم اللّه لمراضيه.

و للّه سبحانه الفضل و المنة و منه نستمد العون و التوفيق.

قسم الدراسات الاسلامية

مؤسسة البعثة - قم

ص: 17

ص: 18

الصورة

ص: 19

الصورة

ص: 20

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، و أنزل الكتاب و لم يجعل له عوجا قيّما ليبشّر المؤمنين بأنّ لهم من اللّه فضلا كبيرا، و جعله في ظلمات الأرضين شمسا مضيئة و قمرا منيرا، و أبلج به عن هدى رسوله، و أوضح به الحقّ و أرشد البريّة إلى سبيله، و ذكّرهم به تذكيرا، تحدّى(1) الجاحدين في إتيان سورة من مثله فلم يفعلوا و لن يفعلوا و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، و تجلّى فيه بظهور قدرته، و بهور حكمته، و سطوع نور عظمته، حتى رآه بقلبه من كان بصيرا.

و الصلاة و السّلام على من أرسله برحمته و فضله إلى النّاس بشيرا، و ختم به الرسالة، و بشّر به المرسلون أممهم تبشيرا، و شرّف الملائكة المقرّبين بأن جعلهم له ظهيرا و نصيرا.

و على ابن عمّه، و كاشف غمّه، و زوج ابنته، و المخصوص بأخوّته، الذي وهبه اللّه له وصيّا و وزيرا، و على الأئمّة من ذرّيّته الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا.

أمّا بعد: فقد طال ما جال فكري في أن أكتب للكتاب الكريم تفسيرا، كي يكون ذخري لحين فقري و نجاتي في يوم يكون شرّه مستطيرا، و إن كان لقصور باعي و قلّة اطّلاعي عليّ عسيرا، إلاّ أنّ شوقي الأكيد هاج روعي، و كلّفني السّعي فوق ما في وسعي، فشمّرت للغوص في هذا البحر العميق، فشرعت فيه سائلا من اللّه الإعانة و التوفيق.

فاصطفيت من التفاسير ما هو لبابها، و اكتفيت من الوجوه بما هو صوابها، و بالغت في الجدّ بنقل ما وصل إليّ بطرق الخاصّة و العامّة من الروايات، و استفرغت الوسع في بيان وجه النظم بين السور و الآيات، و صرفت الهمّ في التعرّض لأسباب النزول الواردة في الآثار، و بذلت الجهد في الإسفار عن وجوه بعض النكت و الأسرار، و كففت عن التكلّم في أعاريب الكلمات، و بيان وجوه القراءات التي

ص: 21


1- في النسخة: و حدّ.

كانت مخالفة للقراءة المشهورة، إلاّ الّتي وجدتها عن أهل الذّكر مأثورة، و سمّيته ب (نفحات الرّحمن في تفسير القرآن).

ثمّ إنّي رأيت أن أهدي للمهتدي البصير، قبل الشروع في التفسير، طرائف بارعة، و لطائف نافعة، تثبيتا للقلوب، و تمهيدا للمطلوب، و تشحيذا للأذهان، و تنبيها للوسنان، فهيّأت مع قلّة البضاعة، و عدم التدرّب في الصناعة، ببذل الجهد و تحمّل الكلفة، من المطالب المرتبطة بعلم القرآن أربعين طرفة، و جعلتها مقدّمة، و جئت لها بخاتمة (1) ،راجيا من اللّه أن يجعل ذلك لي و لإخواني المؤمنين نعمة دائمة، و أن ينعم عليّ بالاعتصام في مزالّ الأقدام.

ص: 22


1- في النسخة: خاتمة.

الطرفة الأولى في أنّ الكتاب العزيز أعظم معجزات خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله

لا ريب في أنّ الكتاب العزيز كان من أعظم معجزات خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله حيث إنّه كانت جهة الإعجاز فيه أظهر من المعجزات الباهرة التي كانت لسائر الأنبياء العظام، و تأثيره في النفوس أشدّ من تأثيرها؛ لبداهة أنّ المؤمنين به صلّى اللّه عليه و آله من العرب مع عرافتهم بشدّة العصبيّة و اللّجاج، كانوا في زمانه أكثر من المؤمنين بسائر الأنبياء في زمانهم، و كان إيمان أتباعه به، و انقيادهم لأمره - مع كونهم أشدّ الخلق تكبّرا، و أكثرهم تفاخرا - أقوى و أزيد من إيمان سائر الأمم بأنبيائهم، و انقيادهم لأوامرهم.

و كان حبّ العرب له، و شغفهم به - مع كونهم أقسى النّاس قلبا، و أقلّهم رأفة - أشدّ و أكثر من حبّ بني إسرائيل لموسى بن عمران عليه السّلام مع كونه صاحب تسع آيات بيّنات، و من حبّ الحواريّين لعيسى بن مريم عليه السّلام مع كونه محيي الأموات، و مبرئ الأكمه و الأبرص.

حيث إنّ المؤمنين بنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله كانوا يتسابقون إلى بذل المهج، و الغور في اللّجج، و يتسارعون إلى معانقة السيوف، و شرب الحتوف، تحفّظا لسلامته، و ترويجا لشريعته، و بنو إسرائيل كانوا أحفظ لأنفسهم من نفس موسى عليه السّلام حيث إنّه لمّا قال لهم يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ (1)قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ (2) و إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (3).

و لم ينقل عن(4) حواريّي عيسى عليه السّلام فزع شديد حين رأوه على الصليب، و نقل أنّه لمّا مات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله عزيزا في فراشه غشي على بعض المؤمنين من شدّة الحزن، و جنّ آخر، و صار يوم موته مثلا في شدّة البكاء و الحزن، و لم يكن جميع ذلك إلاّ لكون إعجاز كتابه الكريم أشدّ تأثيرا في

ص: 23


1- المائدة: 21/5.
2- المائدة: 22/5.
3- المائدة: 24/5.
4- في النسخة: من.

نفوسهم من آيات نبوّة موسى و عيسى عليهما السّلام في نفوس أتباعهما.

مع أنّ القرآن العظيم أوجد في نفوس العرب آثارا لم توجدها(1) معجزات سائر الأنبياء، حيث إنّه أخرجهم بسماعه من ظلمات الجهالة و غمرات الضلالة، بعد تماديهم فيها و تمرّنهم عليها، إلى نور الهداية و أوج الحكمة، و صيّرهم بعد أمّيّتهم علماء حكماء، بل كادوا أن يكونوا من الحكمة و المعرفة أنبياء، و بلغوا من العلم إلى أن صاروا بعد وحشيّتهم أساتيذ الأمم، و سادة العجم.

انظر إلى حواريّي عيسى مع كونهم أكمل من آمن به، و أعلم بما جاء به، قالوا: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ (2) و أطفال أمّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله في زمانه كانوا يقولون: إنّ اللّه على كلّ شيء قدير، و لا يعجز اللّه شيء في الأرض و لا في السّماء.

و الحاصل أنّ العاقل المتأمّل في آيات(3) القرآن المجيد، لا يرتاب في أنّها كلام اللّه، و أنّها أعظم المعجزات، و قد أفرد جمع كثير من علماء الاسلام إعجاز القرآن بالتصنيف، و مع ذلك حاروا في كشف حجب البيان عن وجوه إعجازه بعد أن ثبتت عندهم بالوجدان و البرهان.

فالمنصف يرى القرآن في الهداية و البيان كالروح في الجسد، يعرف بمظاهره و آثاره، و يعجز العارفون عن بيان حقيقته و كنهه. فإنّ قريشا(4) كانت أفصح العرب لسانا، و أعذبهم بيانا، و أخلصهم لغة، و أرفعهم عن الرداءة لهجة، و مع ذلك كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحتجّ عليهم بالقرآن صباحا و مساء، و يحثّهم على أن يعارضوه بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلّما ازداد تحدّيا لهم بها و تقريعا عليهم، كشف عجزهم عن نقصهم ما كان مستورا (5) ،و ظهر منهم ما كان خفيا، فحين لم يجدوا حيلة و لا حجّة، قالوا: أنت تعرف أخبار الأمم، و لذا تقدر على ما نعجز عنه، فقال: جيئوا بها مفتريات، و لذا لم يأت بمثله أريب عن معارضة، و لم يبرم ذلك خطيب، و لا طمع فيه شاعر، و لا تكلّفه طبع فصيح ماهر، و لو تكلّفه لظهر ذلك، فدلّ ذلك على عجز القوم عن معارضته مع كثرة كلامهم، و سهولة ذلك عليهم، و كثرة شعرائهم، و كثرة من هجاه منهم و عارض شعراء أصحابه و خطباء أتباعه.

و من الواضح أنّهم لو جاءوا بسورة واحدة أو آيات يسيرة بدل الهجاء و معارضة الشعراء، لكان

ص: 24


1- في النسخة: يوجدها.
2- المائدة: 112/5.
3- في النسخة: الآيات.
4- في النسخة: القريش.
5- كذا، و لا تخلو العبارة من اضطراب. و لعلّها: كشف عجزهم ما كان مستورا من نقصهم.

أنقض لقوله، و أفسد لأمره، و أضرّ عليه و على أصحابه، مع أنّ الكلام سيّد عملهم و قد احتاجوا إليه، و الحاجة تبعث على الفكر و الجدّ في الأمر الغامض المشكل، فكيف بالسّهل الجليل المنفعة و العظيم الفائدة!

روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه، قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقرأ عليه القرآن، فكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقال: يا عمّ ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه لأن لا تأتي(1)

محمّدا، و لتعرض لما قاله (2).قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك كاره له. قال: و ما ذا أقول ؟ فو اللّه ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي، و لا برجزه، و لا بقصيده، و لا بأشعار الجنّ ، و اللّه ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، و و اللّه إنّ لقوله الذي يقوله حلاوة، و إنّ عليه لطلاوة (3) ،و إنّه لمثمر أعلاه، معذق(4) أسفله، و إنّه ليعلو و لا يعلى عليه، و إنّه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه. قال: فدعني حتّى أفكّر. فلمّا فكّر قال: هذا(5) سحر يؤثر، يأثره عن غيره(6).

روي أنّ قوله عزّ و جلّ فى أوّل حم السجدة إلى قوله: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (7) نزل في شيبة و عتبة ابني ربيعة، و أبي سفيان بن حرب، و أبي جهل، و ذكر أنّهم بعثوهم و غيرهم من وجوه قريش بعتبة بن ربيعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله ليكلّمه، و كان حسن الحديث، عجيب الشأن، بليغ الكلام، و أرادوا أن يأتيهم بما عنده. فقرأ النبيّ صلوات اللّه و سلامه عليه سورة حم السجدة من أوّلها حتّى انتهى إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (8) فوثب مخافة العذاب، فاستحكوه ما سمع، فذكر أنّه لم يسمع منه كلمة واحدة، و لا اهتدى لجوابه (9).و لو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج و الرّدّ.

قال عثمان بن مظعون: و اللّه، لعلموا أنّه من عند اللّه إذ لم يهتدوا لجوابه(10).

و روي أنّ جبير بن مطعم ورد على النبي صلّى اللّه عليه و آله في حليف له أراد أن يفاديه، فدخل و النبيّ صلوات

ص: 25


1- في الاتقان و حياة الصحابة: فانك أتيت.
2- في الاتقان و حياة الصحابة: لما قبله.
3- الطّلاوة: الحسن و الرّونق.
4- في الاتقان و حياة الصحابة: مغدق.
5- في حياة الصحابة: إن هذا إلاّ.
6- الاتقان في علوم القرآن 5:4، حياة الصحابة 63:1.
7- فصلت: 4/41.
8- فصلت: 13/41.
9- الدر المنثور 309:7.
10- في النسخة: بجوابه، و كذا في المورد المتقدّم.

اللّه عليه يقرأ سورة وَ الطُّورِ * وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (1) في صلاة الفجر، قال: فلمّا انتهى إلى قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (2) قال: خشيت أن يدركني العذاب فأسلمت(3).

و روي أنّ ابن أبي العوجاء و ثلاثة نفر من الدّهريّة(4) اتّفقوا على أن يعارض كلّ واحد منهم ربع القرآن، و كانوا بمكّة، و عاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل، فلمّا حال الحول، و اجتمعوا في مقام ابراهيم عليه السّلام قال أحدهم: إنّي لمّا رأيت قوله: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ (5) كففت عن المعارضة.

و قال الآخر: و كذلك أنا، لمّا وجدت قوله: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (6) أيست عن المعارضة. و كانوا يسرّون بذلك، إذ مرّ عليهم الصادق صلوات اللّه عليه فالتفت [إليهم] و قرأ عليهم:

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ (7) فبهتوا (8).و أمثال هذه الروايات كثيرة جدّا.

و ممّا يشهد على أنّ القرآن العظيم فوق طوق البشر، أنّ من قايس بين آياته و كلمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطبه البليغة، وجد التفاوت بينهما تفاوت الخالق و المخلوق، و الواجب و الممكن، مع أنّه صلوات اللّه عليه كان أفصح من نطق بالضّاد، و لم يسمع بكلام أحسن أسلوبا، و ألطف لفظا، و أعدل وزنا، و أجمل مذهبا، و أحسن موقعا، و أسهل مخرجا، و أفصح بيانا، و أبين فحوى، و أكرم مطلعا من كلامه صلّى اللّه عليه و آله.

و الحاصل: أنّ الكتاب العزيز في لسان العربيّة بلغ مبلغا من الفصاحة و البلاغة و حسن النظم و الاسلوب لا يمكن للبشر أن يدانيه بالفطرة و العقل و الاكتساب. و قد صدق الصادق صلوات اللّه عليه حيث قال: «لقد تجلّى اللّه تعالى لخلقه في كلامه، و لكنّهم لا يبصرون »(9).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في وصف القرآن قال: «ظاهره أنيق، و باطنه عميق، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه »(10).

ص: 26


1- الطور: 1/52 و 2.
2- الطور: 7/52 و 8.
3- الكشاف 409:4.
4- رجل دهري: ملحد لا يؤمن بالآخرة، يقول ببقاء الدهر. المعجم الوسيط 299:2.
5- هود: 44/11.
6- يوسف: 80/12.
7- الإسراء: 88/17.
8- الخرائج و الجرائح 5/710:2.
9- أسرار الصلاة/للشهيد الثاني: 140.
10- تفسير العياشي 1/74:1، الكافي 2/438:2.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لا تنقضي عجائبه، و لا يشبع منه العلماء، هو الذي لم تلبث(1) الجنّ إذ سمعته أن قالت: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ (2).

و سيأتي - إن شاء اللّه - عند تفسير قوله عزّ و جلّ : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا (3) مزيد بيان لذلك و التعرّض لوجوه إعجازه بمقدار فهمي القاصر.

الطرفة الثانية في تعريف المعجزة و أنّ القرآن العظيم معجزة عقلية

المعجزة: هي الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتحدّي السالم عن المعارضة من مدّعي النبوّة عند احتمال صدقه في الدعوى، و هي قسمان: حسّيّة؛ كصيرورة العصا ثعبانا، و إحياء الموتى، و إطعام الجمع الكثير بالطعام اليسير. و عقليّة: كإعجاز القرآن المجيد.

قيل: كانت معجزات أنبياء بني إسرائيل أكثرها حسّيّة، لبلادة أممهم، و قلّة ذكائهم، بخلاف معجزات نبيّنا صلوات اللّه عليه و آله فإنّ عمدتها عقليّة لفرط ذكاء أمّته، و كمال فهمهم، و لأنّ هذه الشريعة و نبوّة هذا النبيّ باقية دائمة مدى الدهر، و أحكامه مستمرّة إلى يوم القيامة، فخصّ نبيّنا بأن أعظم معجزاته عقليّة باقية ليراها ذوو(4) البصائر قرنا بعد قرن، كالشمس تجري ما استقرّت الأرضون و دارت السماوات.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلاّ أعطي ما بمثله آمن(5) البشر، و إنّما كان الذي أوتيته(6) وحيا أوحاه اللّه إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا »(7).

قال بعض العلماء: إنّ معناه أنّ معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلاّ من حضرها، و معجزة القرآن مستمرّة إلى يوم القيامة. و خرقه العادة في فصاحته و بلاغته و نظمه و اسلوبه و إخباره بالمغيبات باق إلى آخر الدهر، فلا يمرّ عصر من الأعصار إلاّ و يظهر فيه شيء ممّا أخبر به أنّه

ص: 27


1- في تفسير العياشي: لم تكنّه.
2- تفسير العياشي 2/75:1، و الآيتان من سورة الجن: 1/72 و 2.
3- البقرة: 24/2.
4- في النسخة: ذو.
5- في صحيح البخاري: ما مثله آمن عليه.
6- في صحيح البخاري: أوتيت.
7- صحيح البخاري 3/313:6، و زاد فيه: يوم القيامة.

سيكون (1) ،و كلّ من سمعه في القرون المتطاولة، و كان عارفا بكلام العرب و اسلوب بيانهم، تتمّ عليه الحجّة بسماعه، كما قال اللّه عزّ و جلّ : أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (2) و قال تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ (3) فإنّ الآيتين دالّتان على أنّ الحجّة بتلاوة الكتاب العزيز و سماع كلام اللّه تتمّ على كلّ أحد من العارفين بكلام العرب و محاوراتهم.

روي أنّ رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام: ما بال القرآن لا يزداد على النشر و الدرس(4) إلاّ غضاضة(5) ؟ فقال عليه السّلام: «لأنّ اللّه تبارك و تعالى لم يجعله(6) لزمان دون زمان، و لا لناس دون ناس، فهو فى كلّ زمان جديد، و عند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(7).

و في خطبة طويلة لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقّده، و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ ناهجه (8) ،و شعاعا لا يظلم ضوءه، و فرقانا لا يخمد برهانه، و بنيانا لا تهدم أركانه »(9).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام: «لا يخلق على الأزمنة، و لا يغثّ (10) على الألسنة، لأنّه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، و حجّة على كلّ إنسان لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (11).

و في خطبة فاطمة عليها السّلام في أمر فدك: «للّه فيكم عهد قدّمه إليكم، و بقيّة استخلفها عليكم: كتاب اللّه، بيّنة بصائره، و آي منكشفة سرائره (12) ،و برهان متجلّية ظواهره، مديم للبريّة استماعه، و قائد إلى الرضوان أتباعه، و مؤدّ إلى النّجاة أشياعه، فيه تبيان حجج اللّه المنيرة، و محارمه المحرّمة، و فضائله المدوّنة، و جمله الكافية، و رخصته الموهوبة، و شرائطه المكتوبة، و بيّناته الجالية »(13).إلى غير ذلك من الروايات.

ص: 28


1- فتح الباري 5:9.
2- العنكبوت: 51/29.
3- التوبة: 6/9.
4- في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: عند النشر و الدراسة.
5- الغضّ : الطريّ ، و الغضاضة: الطّراوة و النّضارة.
6- في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: لم ينزله.
7- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 32/87:2، أمالي الطوسي: 1203/580.
8- في النهج: نهجه.
9- نهج البلاغة: 314 الخطبة 198.
10- خلق الثوب: بلي، و غثّ حديث القوم: ردؤ و فسد.
11- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 9/130:2، و الآية من سورة فصلت: 42/41.
12- في النسخة: سرائرها.
13- بلاغات النساء: 25، دلائل الإمامة: 113، الاحتجاج: 99.

هذا في حقّ العارف بلسان العرب، و أمّا غير العارف فتتمّ عليه الحجّة بتصديق أهل اللّسان إعجازه، كما تمّت الحجّة على بني إسرائيل الجاهلين بعلم السحرة بتصديق السحرة إعجاز العصا، و على الجاهلين بعلم الطبّ بتصديق الأطبّاء إعجاز إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى.

الطرفة الثالثة في أنّ الكتاب العزيز مع قطع النظر عن وجوه إعجازه دليل صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله

لا شبهة أنّ الكتاب العزيز مع غضّ النظر عن وجوه إعجازه، يكون من أقوى دلائل صدق نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله لوجوه، منها:

[1] - أنّه صلّى اللّه عليه و آله أعلن في النّاس بصريح كتابه الكريم بأنّ موسى بن عمران عليه السّلام بشّر أمّته بظهوره صلوات اللّه عليه و بعثته، و أخبر بعلائمه و نعوته، و أنّ عيسى بن مريم عليه السّلام بشّر مع ذلك باسمه السامي، حيث قال في كتابه العزيز: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (1).

فلو لم يكن نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله صادقا في دعواه، و على حجّة فيما ادّعاه، ما كانت اليهود و النصارى مع كثرة عددهم و رهبانهم، و شدّة عداوتهم له صلّى اللّه عليه و آله و لجاجهم في ملّتهم، ساكتين عن معارضته مع تمكّنهم من إدحاض حجّته، و قدرتهم على إبطال دعوته، و لبادروا إلى تكذيبه، و لتسارعوا إلى تفضيحه و تنكيبه بأن كانت الأحبار و الرهبان لحفظ رياستهم و ملّتهم حرّموا على أنفسهم الرّقاد، و تنادوا بأعلى أصواتهم في البلاد، و أحضروا الناس في الميعاد، و أتوا بكتبهم في محضر الحاضر و البادي، و فتحوها على رءوس الأشهاد، و ألزموا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أن يريهم منها آية فيها اسمه أو نعته، و يخرج منها عبارة فيها علامته و صفته فيظهر عند ذلك بعجزه، إفحامه و بهته، فلم يمكن أن يخضرّ له بعد ذلك عود، و لم يقم له عمود، فلمّا لم يظهر تظاهرهم في ردّه - و لو كان لبان - علمنا بثبوت نعوته في كتبهم، و تيقّنّا بصدقه في إخباره.

إن قيل: قد نطق الكتاب العزيز في عدّة مواضع، بأنّ اليهود و النصارى حرّفوا الكتابين، و غيّروا

ص: 29


1- الصف: 6/61.

الآيات المبشّرات ببعثته، الدالات على نعوته، و اتّفق المسلمون عليه، و لازم ذلك أنّه لم يكن في ذلك الوقت في الكتابين آية دالّة على نعته، و لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قادرا على إثبات بشارة موسى و عيسى عليهما السّلام بمجيئه و رسالته، و لذلك لم يؤمن أكثر أهل الكتابين بنبوّته، و لو كان في الكتابين ذكر علائمه المنطبقة عليه، لم يبق لهم عذر في عدم الايمان و التسليم.

قلنا: نعم، و لكنّه لم يقع التحريف في جميع النسخ الموجودة في ذلك العصر من الكتابين، و إنّما وقع في عدّة كتب كانوا يظهرونها لعوامّهم، و يتلونها عليهم إضلالا لهم، و حفظا لرياستهم في السرّ و الخفاء، و لم يقدروا على التجاهر بالمعارضة لكون النسخ غير المحرّفة كثيرة الوجود، و كانت عدّة من المسلمين من علماء الفريقين مطّلعين على الآيات غير المحرّفة، قادرين على إفحام المعارضين الجاحدين، فلم يجسر أحد على التظاهر بالتكذيب و الإنكار، بل سلك المتمرّدون مع النبيّ و المسلمين سبيل النفاق.

[2] - و منها: أنّ العادة قاضية بأنّ كلّ من يريد أن يثبت لنفسه بين الناس مرتبة من الكمال التي ليست له، و يدّعي كونه في مرتبة الواجدين أو فوقهم، و كان لتلك المرتبة من الكمال آثار في الأنظار، لا بدّ لذلك المدّعي الكاذب من السّعي في إلقاء الشّبهات في ملازمة تلك الآثار لتلك المرتبة من الكمال، و إزالة اعتقاد الناس بها، و من المبالغة في تنقيص من عرف بهذه المرتبة و تكذيبه في دعوى وجدانه الآثار، و تكذيب نقلها عنه، و من الجدّ في الإرزاء به حتّى تحصل له رفعة القدر و سماع الدعوى.

مثلا إذا ادّعى مدّع كاذب لنفسه مرتبة النبوّة، و كانت في اعتقاد الناس ملازمة لإتيان المعجزة و عمل خارق للعادة، و كان المدّعي عاجزا عن ذلك، فلا بدّ له من إنكار ملازمة النبوّة للاعجاز، و من السّعي في إلقاء الشبهات في أذهان المعتقدين بصدور الإعجاز و خوارق العادات من الأنبياء عليهم السّلام، و من حطّ رتبتهم و قدرهم، و من سلب العصمة عنهم حتّى يمكنه دعوى التساوي معهم أو التعالي عليهم.

كما ترى ذلك من الفرقة الضالّة البابيّة (1) ،حيث إنّهم على ما نقل عنهم أنكروا جميع المعجزات

ص: 30


1- البابيّة: فرقة أسسها علي محمد، الملقب بالباب، المولود بشيراز سنة 1235 ه و المقتول سنة 1266 ه في تبريز بإيران، و ادّعى أنه الباب الذي لا يجوز الدخول إلاّ منه، و قال بنسخ فرائض الإسلام، و إنه أفضل من الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله، و إن أقرانه أفضل من الصحابة، و إن البشر يعجز عن الإتيان بقرآنه، و سمّى كتابه (البيان) و كان يقول إنه المهدي. معجم الفرق الإسلامية: 48.

و نسبوها إلى الكذب و قالوا: إنّه لا برهان على صدق دعوى مدّعي النبوّة إلاّ نفوذ قوله و تأثيره في النفوس و قبول الناس.

و كما نرى من أهل السنّة من القول بعدم لزوم عصمة الإمام، حتّى يتمشّى من الفرقة الأولى دعوى النبوّة أو مرتبة فوقها، و من الفرقة الثانية دعوى إمامة أئمّتهم مع اتّفاق المسلمين على أنّهم كانوا مشركين في المدّة المديدة من عمرهم.

و لمّا رأينا أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله بالغ في كتابه العزيز في تعظيم سائر الأنبياء أكثر من تعظيم أممهم لهم، و أثبت لهم من المعجزات و خوارق العادات أزيد ممّا اعتقد بها المؤمنون بهم، كتكلّم عيسى عليه السّلام في(1) المهد، و عروجه حيّا إلى السّماء، و إلقاء شبهه على غيره، ثم ادّعى لنفسه النبوّة، بل ادّعى أنّه أفضل و أعظم شأنا من الأنبياء الذين هم ذوو المعاجز الباهرة، ثم علمنا أنّه آمن به كثير من العقلاء و جمع من امم سائر الأنبياء كاليهود و النّصارى و غيرهم من مشركي العرب مع نهاية افتتانهم بآلهتهم و كمال ثباتهم في ملّتهم، علمنا أنّ هذا المدّعي للنبوّة كان قادرا على ما كان سائر الأنبياء قادرين عليه من المعجزات، و أتى بخارق عادة دالّ على صدقه كما أتى غيره من الأنبياء، و كان له من العلم ما كان لهم، و من الأخلاق و الأعمال ما يشبه أخلاقهم و أعمالهم، و إلاّ لم يكد يمكن أن ينتظم آخره، و يبهر نوره، و يزداد على الشمس ظهوره.

إن قيل: إنّ كتابه ناطق أنّه لم يكن له معجزة من معاجز موسى بن عمران عليه السّلام حيث قال سبحانه:

فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى (2) بل فيه آيات دالّة على أنّه لم يكن له معجزة أصلا كقوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ (3) ثمّ لم يجبهم الرسول بأنّي قد جئتكم بما جاء به موسى أو: آتيكم بعد به، أو: أتيتكم بمثل ما أتى به سائر الأنبياء و الرّسل، بل أجابهم بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ (4) أو قوله: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ أو قوله: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (5) و أمثال ذلك.

قلنا: إنّه يكفي في إثبات النبوّة إتيان أمر خارق للعادة بحيث يكون إيجاد اللّه له بيد ذلك النبيّ تصديقا منه تعالى لدعواه، و إن لم يكن من أنواع إعجاز سائر الأنبياء، كما أنّه كان لكل واحد من أنبياء

ص: 31


1- في النسخة: على.
2- القصص: 48/28.
3- يونس: 20/10.
4- القصص: 48/28.
5- العنكبوت: 50/29.

بني إسرائيل نوع خاصّ من الإعجاز، أو أنواع مخصوصة، و لم يكونوا متوافقين على نوع واحد أو أنواع خاصّة، فإنّ موسى عليه السّلام كان له معجزة العصا، و اليد البيضاء، و فلق البحر، و سائر الآيات التسع، لاقتضاء زمانه لها و عدم اقتضائه لغيرها، و لم يظهر من عيسى عليه السّلام هذه الأنواع من المعجزات، بل ظهر منه ما ناسب زمانه من إحياء الأموات و إبراء الأكمه و الأبرص و غير ذلك.

فلازم النبوّة إتيان جنس المعجزة كي يكون دليلا على صدق الدعوى، فإذا أتى مدّعي النبوّة بمعجزة دالّة على صدق دعواه، وجب الإيمان به، و التصديق بنبوّته، و اتّباع أحكامه، و لو لم يكن من الأنواع التي كانت لغيره.

نعم إذا توقّف هداية شخص على الإتيان بمسئوله، و كان سؤاله عن إرادة الاهتداء لا عن التعنّت و اللّجاج، كان على النبيّ إجابة مسئوله و إزالة شبهته، و أمّا إذا كان السؤال عن تعنّت و لجاج بعد وضوح الحقّ ، فلم يحسن إجابة السائل المتعنّت، بل يجب جوابه بما يدلّ على تعنّته، كما أجابهم اللّه بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ (1).

و الغرض من التقرير السابق، هو علمنا من الأمارة القاطعة بأنّه كان له عليه السّلام معجزة ظاهرة دالّة على صدقه إجمالا، و لو لم يكن من أنواع معجزات سائر الأنبياء عليهم السّلام بل كان أقلّ ، كتحرّك الشجر من مكانه بأمره، أو تسبيح الحصاة في يده، أو أعظم كانشقاق القمر، و إحياء الرّمم، فبعد ثبوت إتيانه بما كان مشتركا مع معجزات سائر الأنبياء في جنس الإعجاز، و إن كان مغايرا لها بالنوع، يظهر صدقه و يجب اتّباعه.

و لا ينافي هذه الآيات ما ادّعيناه حيث إنّ الظاهر أنّ الكفّار سألوا إتيان الأنواع المعهودة من سائر الأنبياء كموسى و عيسى، لا أنّهم سألوا صدور جنس المعجزة منه صلّى اللّه عليه و آله بل الكتاب العزيز دالّ بالصراحة على أنّه كان له معجزة و آية حيث قال: وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ (2) و قال في تقريع معارضته: وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (3) و أمثال ذلك.

و لمّا كان سؤالهم تعنّتا لم يحسن إجابة مسئولهم، و لذا لم يجبهم إلاّ بالتقريع و التبكيت كقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ (4) ،و قوله: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (5) ،و قوله: إِنَّ اللّهَ

ص: 32


1- القصص: 48/28.
2- الأنعام: 124/6.
3- القمر: 2/54.
4- القصص: 48/28.
5- .الأنعام: 124/6.

قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (1) ،و قوله: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) إلى غير ذلك.

[3] - و منها: أنّ العاقل المنصف، البصير ببيانات الأنبياء و المرسلين، و كلمات الأولياء المقرّبين، و الحجج المعصومين، إذا تأمّل في الكتاب العزيز و مطالبه، و تدبّر في مضامينه و جوانبه، علم أنّ هذه المطالب المهمّة الشافية، بهذه البيانات اللطيفة العالية الوافية، لا يمكن أن تصدر إلاّ من لسان النبوّة، و أنّ هذه الدرر الثمينة لا تخرج إلاّ من معدن الرسالة، و هذه الأنوار الباهرة لا تشرق إلاّ من عالم الربوبيّة، حيث إنّه ليس فيه إلاّ بيان التوحيد بأنواعه، من الذاتيّ و الصفاتيّ و الأفعاليّ ، و بيان الصفات الجلاليّة السلبيّة، و الجمالية الثبوتيّة، و الحثّ على القيام بالعبودية، و الدعوة إلى المحسّنات العقليّة كالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و اليتامى و المساكين و الجار ذي القربى و ابن السبيل، و صلة الرّحم، و الوفاء بالعقود و العهود و غير ذلك، و الزجر من المنكر و الفحشاء و البغي، و بيان أحكام العبادات و المعاملات، و قوانين السياسات، و الترغيب إلى تهذيب الأخلاق، و الزهد في الدنيا، و التوجّه إلى الآخرة، و بيان العبر و المواعظ ، و ذكر حكم بعض الأحكام، و قصص الأنبياء السالفة، و عظمة شأنهم و تفصيل معاجزهم و كيفية دعوتهم و شرح معاملة أممهم معهم، و استئصال من خالفهم بالعذاب، و بيان المعاد، و إقامة الأدلّة عليه و كيفيّة الحشر و الصراط و الميزان و الحساب، و التّلطّف و العتاب، و بيان الجنّة و كيفية نعمها، و بيان النّار و تفصيل شدائدها.

و قال بعض: إنّ القرآن العظيم قد اشتمل على كلّ شيء، أمّا أنواع العلوم فليس منها باب و لا مسألة هي أصل إلاّ و في القرآن ما يدلّ عليها، و لا يعلمها إلاّ الراسخون، و فيه الأمر و النهي، و الوعد و الوعيد، و وصف الجنّة و النّار، و تعليم الإقرار باللّه و بصفاته و أفعاله، و تعليم الاعتراف بإنعامه، و الشكر عليها، و الاحتجاج على المخالفين، و الرّدّ على الملحدين، و بيان الرّغبة و الرّهبة، و الخير و الشّر، و الحسن و القبيح، و نعت الحكمة، و فضل المعرفة، و مدح الأبرار و ذمّ الفجّار، و التسليم و التحسين، و التوكيد و التقريع، و بيان الأخلاق الذميمة، و شرف الآداب.

و فيه عجائب المخلوقات، و ملكوت السماوات و الأرض، و ما في الأفق الأعلى و تحت الثرى، و بدء الخلق، و أسماء مشاهير الأنبياء و الرسل و الملائكة، و عيون أخبار الأمم السالفة، و قصّة آدم مع

ص: 33


1- الأنعام: 37/6.
2- العنكبوت: 50/29.

إبليس في إخراجه من الجنّة، و رفع إدريس إلى السماء، و إغراق قوم نوح، و قصّة عاد الاولى و الثانية، و ثمود و الناقة، و قوم يونس، و قوم شعيب، و قوم لوط ، و قوم تبّع، و أصحاب الرّسّ ، و قصّة إبراهيم في مجادلة قومه و مناظرته نمرود، و قصّة ابنه إسماعيل مع أمّه بمكّة، و بنائه البيت، و قصّة الذبح، و قصّة يوسف بطولها، و قصّة موسى في ولادته و إلقائه في اليمّ ، و قتل القبطي، و مسيره إلى مدين و تزوّجه بنت شعيب، و كلامه تبارك و تعالى معه بجانب الطور، و مجيئه إلى فرعون، و خروجه مع بني إسرائيل من مصر، و إغراق عدوّه فرعون و جنوده، و قصّة العجل، و القوم الذين خرج بهم إلى الطور و أخذتهم(1) الصاعقة، و قصّة القتيل من بني إسرائيل، و ذبح البقرة، و قصّته مع الخضر (2) ،و قصّته في قتال الجبّارين، و قصّة القوم الذين ساروا في سرب(3) من الأرض إلى الصّين، و قصّة طالوت و داود مع جالوت، و قصّة سليمان و فتنته و خبره مع ملكة سبأ، و إتيان عرشها(4).

و قصّة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم اللّه ثمّ أحياهم، و قصّة ذي القرنين و مسيره إلى مغرب الشمس و مطلعها، و بنائه السّدّ، و قصّة أيّوب، و ذي الكفل، و إلياس، و قصّة أصحاب الرّقيم، و قصّة بخت نصّر (5) ،و قصّة الرّجلين اللذين لأحدهما الجنّة، و قصّة أصحاب الجنّة، و قصّة مؤمن آل ياسين، و قصّة أصحاب الفيل.

و فيه من شأن النبي صلّى اللّه عليه و آله دعوة إبراهيم به، و بشارة عيسى بمجيئه، و بعثته، و هجرته، و من غزواته سريّة ابن الحضرميّ في سورة البقرة، و غزوة بدر في سورة الأنفال، و غزوة أحد في سورة آل عمران، و قصّة بدر الصغرى فيها، و غزوة الخندق في سورة الأحزاب، و قصّة الحديبية في سورة الفتح، و قصّة بني النّضير في سورة الحشر، و غزوة حنين و تبوك في سورة البراءة، و حجّة الوداع في سورة المائدة، و نكاحه زينب بنت جحش في سورة الأحزاب، و تحريم سرّيّته و تظاهر أزواجه عليه، و قصّة الإفك، و قصّة الإسراء، و انشقاق القمر، و سحر اليهود إيّاه.

و فيه بدء خلق الإنسان إلى موته، و كيفية الموت و قبض الروح و ما يفعل بها بعده، و صعودها إلى السّماء، و فتح باب السماء للروح المؤمنة، و إلقاء الكافرة في النّار، و عذاب القبر و السّؤال فيه، و مقرّ الأرواح، و أشراط الساعة الكبرى؛ و هي نزول عيسى، و خروج الدّجّال، و يأجوج و مأجوج، و دابّة

ص: 34


1- في النسخة: و أخذهم.
2- في النسخة: خضر.
3- السّرب: الحفير تحت الأرض.
4- في النسخة: عرشه.
5- في النسخة: بخت النصر.

الأرض، و الدّخان، و رفع القرآن، و الخسف، و طلوع الشمس من مغربها، و غلق باب التوبة، و أحوال البعث من النّفخات الثلاث: نفخة الفزع، و نفخة الصّعق، و نفخة القيام، و الحشر و النشر و أهوال الموقف، و شدّة حرّ الشّمس، و ظلّ العرش، و الميزان، و الحوض، و الصراط ، و الحساب لقوم و نجاة آخرين منه، و شهادة الأعضاء، و إيتاء الكتب بالأيمان و الشمائل و خلف الظهر، و الشفاعة و المقام المحمود، و الجنّة و أبوابها، و ما فيها من الأنهار و الأشجار و الأثمار و الحليّ و الأواني و القصور و الحور و الدّرجات و مقام الرضوان، و التجلّيات الإلهيّة، و النار و أبوابها و ما فيها من الأودية و السلاسل و الأغلال و أنواع العقارب و ألوان العذاب و الزقّوم و الضريع و الحميم.

و فيه جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث (1) ،و جملة أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه شعب الإيمان، و مقامات المتّقين، و شرائع الاسلام، و أنواع الكبائر، و كثير من الصغائر، و غير ذلك من العلوم.

و قد أفرد جمع من العلماء كتبا فيما تضمّنه القرآن. و الظاهر أنّ جميع ما تضمّنه ظاهر الكتاب تحت ثلاثة عناوين:

التوحيد: و يدخل فيه معرفة اللّه بصفاته و أفعاله، و معرفة أنبيائه و مخلوقاته.

و التذكير: و فيه قصص الأمم الماضية، و المعاد، و الوعد، و الوعيد، و الجنّة، و النار.

و الأحكام: من العمليّات و الأخلاقيّات.

قيل: و لذلك ورد أنّ الفاتحة أمّ القرآن لأنّ فيها الأقسام الثلاثة، و سورة الإخلاص ثلثه لأنّ فيها التّوحيد كلّه، فهل يأتي بمثل هذا الكتاب غير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ؟ و هل يكون الغرض من بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلاّ تكميل النفوس بمعرفة المبدأ و المعاد و الحكمة النظريّة و الحكمة العمليّة من العبادات و المعاملات و السياسات و الأخلاق و تربية النفوس بالقيام بها؟ و هل يقاس القرآن بسائر الكتب السماويّة التي ليس فيها عشر ما في القرآن من العلوم و الحكم ؟ فإن كان سائر الكتب السماويّة من عند اللّه و منتسبا إلى اللّه، فهذا الكتاب الكريم أحقّ و أولى بالانتساب منها، فإنّ جميع ما ذكرنا فهو ظاهره، و أما باطنه فبحر لا ينزف وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ (2).

ص: 35


1- راجع التوحيد للصدوق: 8/194.
2- لقمان: 27/31.

نقل أنّه قيل لموسى بن عمران: يا موسى، إنّما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن، كلّما مخضته أخرجت زبدته.

الطرفة الرابعة في بيان سرّ نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور في ليلة القدر

قد اتّفقت الأمّة من الخاصّة و العامّة، و تظافرت بل تواترت نصوصهم على أنّ الكتاب العزيز نزل أوّلا في ليلة القدر مجموعا من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور الذي يكون في السماء الرابعة، أو إلى بيت العزّة في سماء الدنيا إلى السّفرة الكرام البررة، ثمّ نزل به جبرئيل نجوما على خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله في مدّة عشرين، أو ثلاث و عشرين، أو خمس و عشرين سنة على حسب اختلاف العلماء في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و آله بمكّة بعد بعثته و قبل هجرته.

و قيل في سرّ إنزاله جملة أوّلا إلى سماء الدنيا أو إلى البيت المعمور: إنّه تفخيم أمر القرآن و أمر النبيّ الذي أنزل إليه، و ذلك لأنّ فيه إعلام سكّان السماوات السبع بأنّ هذا الكتاب آخر الكتب، منزل على آخر الرسل و خاتمهم لأشرف الأمم، قد قرّبناه إليهم لننزله عليهم، و لو لا أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت وصوله إليهم منجّما بحسب الوقائع لنزّلناه إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، و لكنّ اللّه باين بينه و بينها، فجعل لهذا النبيّ الكريم الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرّقا، تشريفا للمنزل عليه.

و قيل: إنّ السّرّ هو تسليمه تبارك و تعالى لهذه الأمّة ما كان أبرز لهم من الحظّ من الرّحمة التي استحقّوها لأجل مبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كانت رحمة، فلمّا خرجت الرحمة و فتح بابها جاءت بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن معا، فوضع القرآن ببيت العزّة في السّماء الدنيا ليدخل في حدّ الدنيا، و وضعت النبوّة في قلب محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و جاء جبرئيل عليه السّلام بالرسالة ثمّ بالوحي، كأنّه تعالى أراد أن يسلّم إلى الامّة الرحمة التي كانت حظّها من اللّه.

و قيل: إنّ السّرّ في نزوله جملة إلى سماء الدنيا، تكريم بني آدم و تعظيم شأنهم عند الملائكة، و تعريفهم عناية اللّه بهم و رحمته لهم، و لهذا المعنى أمر اللّه سبعين ألف ملك أن يشيّعوا سورة

ص: 36

الأنعام، و زاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبرئيل بإملائه على السفرة الكرام و إنساخهم إيّاه و تلاوتهم له.

و فيه أيضا التسوية بين نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و بين موسى بن عمران و عيسى بن مريم عليهما السّلام في إنزاله كتابه جملة كما أنزل كتابيهما جملتين، و التفضيل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله في إنزاله عليه منجّما لحكم كثيرة لا يعلمها إلاّ اللّه.

أقول: يمكن أن يكون السّرّ تكميل عالم الملكوت و وجود الرّوحانيّين بإيجاد الكتاب الكريم فيهم، و تقريره أن يقال: المراد من إنزاله إلى سماء الدنيا أو إلى البيت المعمور هو إبداعه تعالى و إيجاده كتابه الكريم بوجوده الجوهري و صورته النوريّة في ملكوت السّماء و عالم الأنوار، بعد وجوده في مكنون علمه المعبّر عنه بالعرش تارة و باللّوح المحفوظ أخرى.

و لمّا كان وجود خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله رحمة للعالمين، حصل ببركته استعداد الكمال لجميع العوالم الملكيّة و الملكوتيّة، و كما كان للكتاب العظيم تأثير عظيم بوجوده اللّفظي و الكتبي في تكميل النفوس المستعدّة في عالم الملك، كان لوجوده الجوهريّ النّوريّ في عالم الملكوت تأثير في تكميل وجود الذوات المستعدّة الملكوتية و الملكيّة، و بحصول مرتبة من الكمال الوجودي لعالم الوجود صار مستحقّا لتزيينه بوجود خاتم النبيّين، و تكميله ببعثته، فشملته هذه الرّحمة العظيمة، و بعثه اللّه فيه.

ثمّ بعد هذا الفيض حصل له استعداد قبول فيض آخر، و استحقاق رحمة أتمّ من إنزال كتابه الكريم الذي هو تجلّي صفاته التامّة في العوالم، و كان إيجاد الكتاب الكريم في عالم الملكوت تكميل الرحمة على جميع الموجودات الملكيّة و الملكوتيّة ببركة وجود نبيّ الرحمة صلّى اللّه عليه و آله و إرساله رحمة للعالمين.

و لعلّ هذا الوجه الذي ذكرناه، أوجه في الواقع، و أقرب إلى الأذهان من الوجه الذي ذكره الفيض رحمه اللّه في مقدّمات (الصافي) فإنّه بعد نقل الرّوايات الدالّة على نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور في ليلة القدر؛ قال: كأنّه أريد به نزول معناه على قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله كما قال اللّه تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ (1) ثمّ نزل في طول عشرين سنة نجوما من باطن قلبه إلى ظاهر لسانه

ص: 37


1- الشعراء: 193/26 و 194.

كلّما أتاه جبرئيل بالوحي و قرأه عليه بألفاظه.

إلى أن قال رحمه اللّه: و بهذا التحقيق حصل التوفيق بين نزوله تدريجا و دفعة، و استرحنا من تكلّفات المفسّرين (1) ،انتهى.

مع أنّه ليس فيما ذكرناه حمل الروايات على خلاف ظاهرها، إذ من الواضح أنّه ليس المراد من القرآن الذي نزل في البيت المعمور الأصوات المعتمدة على المخارج، المعبّر عنها بالحروف و الكلمات، و لا النقوش المنطبعة في الأوراق و الصّفحات، بل وجوده الجوهريّ ، فإنّ له صورة في عالم الملكوت مغايرة لصورته في هذا العالم، و استعمال لفظ الإنزال في معنى الإيجاد غير عزيز كما قال تعالى: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ (2) أي أوجد لكم.

نعم في خبر المفضّل إشعار بتوجيهه رحمه اللّه حيث قال: قال الصادق عليه السّلام: «يا مفضّل، إنّ القرآن نزل في ثلاث و عشرين سنة، و اللّه تعالى يقول: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (3) ،و قال: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ (4) ،و قال:

لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ (5) .

قال المفضّل: يا مولاي، فهذا تنزيله الذي ذكره اللّه في كتابه، فكيف ظهر الوحي في ثلاث و عشرين سنة ؟

قال: «نعم يا مفضّل، أعطاه اللّه القرآن في شهر رمضان، و كان لا يبلّغه إلاّ في وقت استحقاق الخطاب، و لا يؤدّيه إلاّ في وقت أمر و نهي، فهبط جبرئيل عليه السّلام بالوحي فبلّغ ما يؤمر به [و هو قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ». (6)

فقال المفضّل: أشهد أنّكم من علم اللّه علمتم، و بقدرته قدرتم، و بحكمه نطقتم، و بأمره تعملون(7).

و يمكن حمله على ما ذكرنا من الوجه، أو إبقاؤه على ظاهره إن كان له ظهور فيما ذكره رحمه اللّه من التوجيه و القول بنزوله في البيت المعمور و في قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا منافاة بينهما.

في بيان أسرار نزول القرآن العظيم نجوما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و أمّا سرّ نزوله نجوما، فكثير منه:

[1] - أنّه صلّى اللّه عليه و آله بنزوله نجوما كان يتحدّى بكلّ نجم من آية أو سورة تنزل عليه، و من

ص: 38


1- تفسير الصافي 57:1.
2- الزمر: 6/39.
3- البقرة: 185/2.
4- الدخان: 3/44-5.
5- الفرقان: 32/25.
6- القيامة: 16/75.
7- بحار الأنوار 38:92.

الواضح أنّ عجز الفصحاء عن الاتيان بمثل كلّ واحد من النجوم أظهر في الإعجاز من عجزهم عن إتيان مثل المجموع إذا كان نزوله جملة واحدة إذا كان تحدّى به.

[2] - و منه: أنّ في إنزاله نجوما كان لطفا على المؤمنين، حيث إنّه كان بنزول نجم يزداد فرحهم و يقينهم، كما قال اللّه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (1).

[3] - و أيضا: كان بنزول الآيات في مواقع الجهاد يزداد نشاطهم و رغبتهم و جدّهم فيه، و إذا نزلت بهم بليّة ثم نزلت في شأنهم آية، كان يهون عليهم تلك البليّة، و إذا وقعوا في تعب و عناء، كان نزول الآيات يزيل تعبهم و عناءهم بتكميل بصيرتهم و يقينهم.

[4] - و منه: أنّ مناسبة الوقائع، و خصوصيّات المقامات، و انضمام القرائن الحاليّة، كانت موجبة لزيادة البلاغة.

[5] - و منه: أنّ نزول بعض الآيات ردّا على الكفّار في مواقع معارضتهم، أو إلقاء شبهاتهم، أو تهديدا لهم عند صدور استهزاءاتهم و الطعون منهم على الاسلام و المسلمين، أو زجرا لهم عند إرادتهم الفساد في الدّين، كان أشدّ تأثيرا في تبكيتهم و تقريعهم و ردعهم و زجرهم و هدايتهم و تبعهم إلى الايمان و الانقياد للحقّ .

[6] - و منه: أنّ نزوله مفرّقا أدعى لقبوله و تحمّل إطاعة أحكامه، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنّه كان يثقل قبوله على كثير من الناس لكثرة ما فيه من الفرائض و المناهي.

روي عن عائشة أنّها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل(2) فيها ذكر الجنّة و النار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام، و لو نزل أوّل شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، و لو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزّنا أبدا(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ليس أحد أرفق من اللّه تعالى، فمن رفقه تبارك و تعالى أنّه نقلهم من خصلة إلى خصلة، و لو حمل عليهم جملة واحدة لهلكوا »(4).

و في رواية عنهم عليهم السّلام: «أنّ اللّه تعالى إذا أراد أن يفرض فريضة أنزلها شيئا بعد شيء، حتّى يوطّن

ص: 39


1- التوبة: 124/9.
2- قيل: المفصل: مجموعة سور تبدأ من سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله إلى آخر القرآن، سميت بذلك لكثرة الفواصل بينها. تفسير الصافي 18:1، و راجع: الطرفة (13).
3- صحيح البخاري 14/318:6.
4- الكافي 3/395:6، التهذيب 443/102:9.

الناس أنفسهم عليها، و يسكنوا إلى أمر اللّه و نهيه [فيها]، و كان ذلك من [فعل اللّه عزّ و جلّ على وجه] التدبير فيهم أصوب و أقرب لهم إلى الأخذ بها، و أقلّ لنفارهم منها »(1).

أقول: و لعلّه إلى جميع الوجوه المذكورة أشار سبحانه و تعالى بقوله: وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (2).

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكن(3) عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر اللّه أن يبلّغهم من الوظائف، فثقلت عليهم و أبوا أن يقرّوا بها حتّى نتق اللّه عليهم الجبل كأنّه ظلّة، و دنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم، فأقرّوا بها(4).

أقول: لعلّه من الآصار التي كانت على بني إسرائيل أنّه نزلت التوراة على موسى دفعة، و حمل عليهم جميع التكاليف بدوا، فصار ثقيلا عليهم، فأبوا عن قبولها.

الطرفة الخامسة في أنّ جمع القرآن كان في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و بأمره

الحقّ الذي لا ينبغي أن يعرض عنه، هو أنّ جمع القرآن كان في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بأمره لشهادة الآثار، و حكم العقل، و مساعدة الاعتبار.

[أولا]: أمّا الآثار فقد روي عن ابن عبّاس، قال: قلت لعثمان: ما حملكم [على] أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني، و إلى براءة و هي من المئين، فقرنتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتموهما في السبع الطوال(5) ؟

فقال عثمان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تنزل عليه [السور] ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا، و كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، و كانت براءة من آخر القرآن نزولا، و كانت قصّتها شبيهة بقصّتها، فظننت أنّها منها، فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّن لنا أنّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما و لم أكتب بينهما سطر

ص: 40


1- الكافي 2/407:6.
2- الاسراء: 106/17.
3- في الاتقان: سكت.
4- الإتقان في علوم القرآن 154:1.
5- قيل: السبع الطوال هي السبع الأول بعد الفاتحة، و المئين من سورة الإسراء إلى سبع سور، سميت بذلك لأنّ كلّ منها على نحو مائة آية، و المثاني بقية السور. تفسير الصافي 18:1، و راجع: الطرفة (13).

بسم الله الرحمن الرحيم ،و وضعتهما في السبع الطوال، انتهى(1).

فدلّت هذه الرواية على أنّ كتّاب الوحي كانوا يكتبون السور و الآيات في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله مجموعة مرتّبة بأمره.

و عن أبي عبّد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: يا عليّ ، القرآن خلف فراشي في الصحف و الحرير و القراطيس، فخذوه و اجمعوه، و لا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التّوراة. فانطلق علي عليه السّلام فجمعه في ثوب أصفر و ختم عليه في بيته، و قال: لا أرتدي حتى أجمعه قال: كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء، حتّى جمعه »(2).

قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما انزل، ما اختلف اثنان »(3).فإنّ الظاهر منه عدم تأخير أمير المؤمنين عليه السّلام في امتثال أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنّه جمعه في حياته.

و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص (4) ،قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد اللّه بن مسعود، و سالم، و معاذ، و أبيّ بن كعب »(5).

و عن قتادة، قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ قال: أربعة، كلّهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت، و أبو زيد. قلت: من أبو زيد؟ قال:

أحد عمومتي(6).

و عن ابن حجر: قد ذكر ابن أبي داود في من جمع القرآن قيس بن أبي صعصعة(7).

و روي عن غيره أنّ أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السّكن، إلى أن قال: و مات و لم يدع عقبا، و نحن ورثناه(8).

و عن ابن أبي داود: أنّه مات قريبا من وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فذهب علمه و لم يؤخذ عنه(9).

و قال أبو أحمد العسكريّ : لم يجمع القرآن من الأوس غير سعد بن عبيد(10).

ص: 41


1- مستدرك الحاكم 221:2.
2- تفسير القمي 451:2.
3- تفسير القمي: 451:2.
4- في النسخة: عبيد اللّه بن عمر بن العاص، تصحيف، انظر تهذيب الكمال 357:15.
5- الإتقان في علوم القرآن 244:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 244:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 249:1.
8- الإتقان في علوم القرآن 249:1.
9- الإتقان في علوم القرآن 250:1.
10- في النسخة: سعيد بن عبيد، تصحيف، انظر الطبقات الكبرى 355:2.

و قال محمّد بن حبيب: سعد بن عبيد أحد من جمع القرآن على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(1).

و عن قتادة، عن أنس قال: افتخر الحيّان: الأوس و الخزرج، فقال الأوس: منّا أربعة: من اهتزّ العرش له: سعد بن معاذ، و من عدلت شهادته شهادة رجلين: خزيمة بن ثابت، و من غسّلته الملائكة: حنظلة بن أبي عامر، و من حمته الدّبر (2):عاصم بن ثابت. فقال الخزرج: منّا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم(3).

و روي البخاري عن أنس، قال: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت، و أبو زيد(4).

قال بعض الفحول: قد استنكر جماعة الحصر في الأربعة(5).

و قال المازني: لا يلزم من قول أنس: لم يجمعه غيرهم، أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك، إلى أن قال: و قد تمسّك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، و لا متمسّك لهم فيه، فإنّا لا نسلّم حمله على ظاهره(6).

و عن القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء، و قتل في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببئر معونة مثل هذا العدد. قال: و إنّما خصّ أنس الأربعة بالذكر لشدّة تعلّقه بهم(7).

أقول: الظاهر أنّ القرّاء مع حفظهم لجميع القرآن كان عندهم مكتوبا جميعه، فإذا طعنت الملاحدة على القرآن، و أنكروا تواتره، تمسّكا برواية أنس، فكيف لم يطعنوا و لا يطعنون على من اعتقد أنّ القرآن لم يكن مجموعا في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل كانت آياته و سوره متفرّقة عند النّاس ثمّ تصدّى لجمعه بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبو بكر و عمر، مع عدم علمهما بجميع القرآن حتّى جمعوه - على ما قيل - بشهادة شاهدين ؟

و عن النسائي، عن عبد اللّه بن عمر، قال: جمعت القرآن فقرأت به كلّ ليلة، فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال:

ص: 42


1- المحبر: 286، الإتقان في علوم القرآن 249:1.
2- الدّبر: النّحل، و عاصم بن ثابت. يسمّى حمي الدّبر، و ذلك لأنّه لما أصيب يوم الرجيع أراد المشركون أن يأخذوا رأسه، فبعث اللّه سبحانه عليه مثل الظّلة من الدّبر فحمته منهم، و كان قد عاهد اللّه تعالى ان لا يمس مشركا و لا يمسه مشرك. أسد الغابة 73:3.
3- الإتقان في علوم القرآن 247:1.
4- صحيح البخاري 25/321:6.
5- الإتقان في علوم القرآن 245:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 245:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 245:1.

«اقرأه في شهر »(1).

و عن محمّد بن كعب القرطبي (2) ،قال: جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسة من الأنصار:

معاذ بن جبل، و عبادة بن الصامت، و أبيّ بن كعب، و أبو الدرداء، و أبو أيوب الأنصاري(3).

و عن ابن سيرين، قال: جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة لا يختلف فيهم: معاذ بن جبل، و أبيّ بن كعب، و أبو زيد، و اختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبو الدرداء و عثمان، و قيل: عثمان و تميم الداري(4).

و عن الشّعبي، قال: جمع القرآن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ستّة: ابيّ ، و زيد، و معاذ، و أبو الدرداء و سعد بن عبيد، و أبو زيد، و مجمّع بن جارية قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاثة(5).

و عن أبي عبيد في كتاب (القراءات) أنّه ذكر القرّاء من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فعدّ من المهاجرين:

الخلفاء الأربعة، و طلحة، و سعد، و ابن مسعود، و حذيفة، و سالما. و عدّ ابن أبي داود من القرّاء: تميم الدّاري، و عقبة بن عامر (6).قال: و ممّن جمعه أيضا أبو موسى الأشعري(7).

و روى في (الطبقات): أنّ امرأة من الصحابيّات جمعت القرآن. و روى عن امّ ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يزورها و يسمّيها الشهيدة رحمها اللّه، و كانت قد جمعت القرآن(8).

أقول: العجب كلّ العجب أنّ أحدا من هؤلاء لم يعدّوا في من جمع القرآن على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام، بل روى ابن حجر و غيره من علماء العامّة أنّ عليّا عليه السّلام جمع القرآن على ترتيب النزول بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(9).

إن قيل: إنّ المراد من جمع القرآن في الروايات السابقة هو حفظ جميعه لا تدوينه في القراطيس.

قلنا: هذا الاحتمال في غاية البعد، إذ لا يمكن عادة أن ينحصر في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله حفّاظ جميع القرآن في أربعة أو خمسة من الصّحابة مع وضوح اشتياق المؤمنين إلى تلاوة القرآن، و كمال قوّة

ص: 43


1- الإتقان في علوم القرآن 248:1.
2- في النسخة: القرطبي.
3- الطبقات الكبرى 356:2.
4- الإتقان في علوم القرآن 248:1.
5- الإتقان في علوم القرآن 248:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 248:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 249:1.
8- الطبقات الكبرى 457:8، الإتقان في علوم القرآن 250:1.
9- الطبقات الكبرى 338:2، الصواعق المحرقة: 128.

حفظهم، و كون تلاوة القرآن و تعلّمه من أهمّ مشاغلهم، و أفضل عباداتهم، بل الظاهر أنّ المراد من جمع القرآن هو تدوينه مع ما أفاده النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تفسير آياته، و بيان معضلاته، و كيفيّة قراءته و سائر العلوم الراجعة إليه.

و على هذا النحو من الجمع يحمل ما روته العامّة من أنّه لمّا بويع أبو بكر، و تخلّف عليّ عليه السّلام عن بيعته، و جلس في بيته، بعث إليه أبو بكر، و قال: ما أبطأك عنّي، أكرهت إمارتي ؟ قال عليّ عليه السّلام: ما كرهت إمارتك، و لكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلاّ للصّلاة حتّى أجمع القرآن(1).

و كذا ما روي في (الاحتجاج) عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه أنّه لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع عليّ عليه السّلام القرآن، و جاء به إلى المهاجرين و الأنصار و عرضه عليهم، لما قد أوصاه بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا فتحه أبو بكر خرج في أوّل صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر و قال: أردده يا عليّ ، فلا حاجة لنا فيه.

فأخذه عليّ عليه السّلام و انصرف(2).

فإنّ خروج فضائح القوم فيما جمعه عليّ عليه السّلام لذكره شأن نزول الآيات، فإنّ كثيرا منها نزلت بسبب عصيان أصحابه، كما روت العامّة أنّه بعد ما أجبر عمر زوجته على المواقعة في ليلة الصّيام حراما، نزل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (3) ،و أنّه بعد ما أبى أبو بكر و عبد الرحمن بن عوف و جمع من الصحابة عن قبول آية محاسبة ما في النفس، نزل قوله تعالى:

لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (4) و أنّه بعد ما شرب جمع من الصحابة الخمر و تكلّم بعضهم في حال السكر بالكفر نزلت آية تحريم الخمر (5) ،أنّه بعد ما قتل اسامة مسلما ألقى إليه السّلام بطمع الغنيمة نزلت آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا (6) إلى غير ذلك ممّا ذكر في مواقعها.

و الحاصل: أنّ الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين عليه السّلام كان فيه بيان شأن نزول الآيات، و أسماء الّذين نزلت فيهم و أوقات نزولها، و تأويل متشابهاتها، و تعيين ناسخها و منسوخها، و ذكر عامّها و خاصّها، و بيان العلوم المرتبطة بها، و كيفية قراءتها.

ص: 44


1- الطبقات الكبرى 338:2، الصواعق المحرقة: 128.
2- الاحتجاج: 155.
3- الدر المنثور 477:1، و الآية من سورة البقرة: 187/2.
4- تفسير الرازي 125:7، و الآية من سورة البقرة: 286/2.
5- أسباب النزول: 87.
6- الدر المنثور 634:2، و الآية من سورة النساء: 94/4.

و يؤيّد ذلك أنّه نقل عن ابن سيرين أنّه قال: بلغني أنّه كتبه على تنزيله، و لو اجيب إلى ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير(1).

و نقل عنه أيضا أنّه قال: كتب عليّ عليه السّلام في مصحفه الناسخ و المنسوخ(2).

بل يشهد لذلك ما رواه الطبرسيّ في (الاحتجاج) في جملة احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام على جماعة من المهاجرين و الأنصار أنّ طلحة قال له في جملة مسائله عنه: يا أبا الحسن، أريد أن أسألك عن مسألة، رأيتك خرجت بثوب مختوم، فقلت: «أيّها الناس، إنّي لم أزل مشتغلا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغسله و كفنه و دفنه، ثمّ اشتغلت بكتاب اللّه حتّى جمعته، فهذا كتاب اللّه عندي مجموعا، لم يسقط عنّي حرف واحد».

إلى أن قال: فما يمنعك أن تخرج كتاب اللّه على الناس، و قد عهد عثمان حين أخذ ما ألّف عمر فجمع له الكتاب، و حمل النّاس على قراءة واحدة، فمزّق مصحف أبيّ بن كعب و ابن مسعود و أحرقهما بالنّار؟

فقال له علي عليه السّلام: «يا طلحة، إنّ كلّ آية أنزلها اللّه عزّ و جلّ على محمد صلّى اللّه عليه و آله [عندي] بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّ يدي [و تأويل كل آية أنزلها اللّه على محمّد، و كلّ حرام و حلال أو حدّ أو حكم أو شيء إليه تحتاج الامّة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّ يدي] حتّى أرش الخدش »(3).

قال طلحة: كلّ شيء من صغير و كبير، أو خاصّ أو عامّ ، كان أو يكون إلى يوم القيامة، فهو عندك مكتوب ؟!

قال: «نعم، و سوى ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسرّ إليّ في مرضه مفتاح ألف باب [من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب] و لو أنّ الامّة منذ قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اتّبعوني و أطاعوني، لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم».

إلى أن قال: ثمّ قال طلحة: لا أراك - يا أبا الحسن - أجبتني عمّا سألتك عنه من أمر القرآن، أ لا تظهره للنّاس ؟ قال: «يا طلحة، عمدا كففت عن جوابك».

ص: 45


1- الاستيعاب - المطبوع بهامش الاصابة 253:2.
2- الإتقان في علوم القرآن 204:1.
3- الأرش: دية الجراحات.

قال: فأخبرني عمّا كتب عمر و عثمان، أ قرآن كلّه، أم فيه ما ليس بقرآن ؟ قال: «يا طلحة، بل قرآن كلّه». قال: «إن أخذتم بما فيه نجوتم من النّار و دخلتم الجنّة، فإنّ فيه حجّتنا و بيان حقّنا و فرض طاعتنا». قال طلحة: حسبي إذا كان قرآنا فحسبي.

قال طلحة: فأخبرني عمّا في يديك من القرآن، و تأويله، و علم الحلال و الحرام، إلى من تدفعه، و من صاحبه بعدك ؟ قال عليه السّلام: «إنّ الذي أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أدفعه إليه وصيّي و أولى الناس بعدي بالنّاس ابني الحسن، ثمّ يدفعه ابني الحسن إلى ابني الحسين، ثم يصير إلى واحد بعد واحد [من ولد الحسين] حتى يرد آخرهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حوضه [هم مع القرآن] لا يفارقونه و القرآن معهم لا يفارقهم »(1).

و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّه جمع القرآن كلّه، ظاهره و باطنه غير الأوصياء عليهم السّلام »(2).

و عنه أيضا، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «ما من أحد من النّاس يقول [إنّه] جمع القرآن كلّه كما أنزل اللّه إلاّ كذّاب، و ما جمعه و ما حفظه كما أنزل اللّه إلاّ عليّ بن أبي طالب و الأئمّة من بعده عليهم السّلام »(3).

و ممّا يؤيّد ما ذكرنا من كون القرآن مجموعا على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بل يدلّ عليه، أنّ اسم الكتاب لا يصحّ إطلاقه عرفا إلاّ على المطالب المجتمعة المرتّبة المدوّنة في أوراق منضودة لغرض واحد، فإذا كانت مطالب متفرّقة غير مدوّنة أو مدوّنة في أوراق متشتّتة، لا يسمّى كتابا، و لا شبهة أنّ اللّه تعالى بعد هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سمّى جميع ما أنزله على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كتابا بقوله في سورة البقرة التي هي أوّل ما نزلت في المدينة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (4).

و كذا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أطلق على ما انزل عليه لفظ الكتاب على ما في كثير من الروايات المعتبرة، بل المتواترة، منها الرواية المتّفق عليها بين الخاصّة و العامّة من قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي مخلّف فيكم الثّقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي» الخبر (5).فإنّه نصّ في أنّه كان في ذلك الوقت

ص: 46


1- الاحتجاج: 153.
2- بصائر الدرجات: 1/213.
3- بصائر الدرجات: 2/23.
4- البقرة: 2/2.
5- معاني الأخبار: 1/90-5، صحيح مسلم 1873:4 و 1874، سنن الترمذي 3786/662:5 و: 3788/663، مسند أحمد 14:3، 17 و 367:4، 371 و 182:5، 189، سنن الدارمي 432:2، مصابيح السنة 4800/185:4 و: 4816/190.

آيات و سور مدوّنه مستحقّة لإطلاق اسم الكتاب عليها، و لا يمكن القول بأنّ هذا الإطلاق كان من باب المشارقة حيث(1) إنّه كان يعلم أنّ بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله يجمع ما انزل عليه و يكون كتابا، [لأنّا] نعلم أنّ التسمية كانت بعد تدوين مقدار من السّور و الآيات المنزلة و تحقّق مصداق الكتاب، و لذا لم يذكر في السور القصار المكيّة التي كانت من أوائل ما نزل لفظ الكتاب.

و الحاصل: أنّ لفظ الكتاب بعد ثبوت كونه حقيقة عرفيّة في مطالب مرتّبة مجموعة مدوّنة ظاهر في أنّ كلّ آية تضمّنته كقوله: ذلِكَ الْكِتابُ أو تَنْزِيلُ الْكِتابِ أو إِنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ

أو تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ (2) نزلت بعد تحقّق مصداقه و تدوين سور و آيات مرتّبة مجموعة في أوراق و صفحات أو أكتاف أو عسب مجتمعة، و لا يلزم الالتزام بنزول جميع الآيات و السور قبل هذا الإطلاق حتّى يعترض عليه بأنّه خلاف الإجماع و المتواتر من الأخبار من أنّ القرآن نزل متدرّجا إلى قبيل وفاته بأيّام أو ساعات.

نعم، يلزم القول بتغيير مصداق الكتاب صغرا و كبرا، بسبب انضمام ما ينزل فيما بعد التدوين إليه تدريجا، فيرجع الكلام إلى أنّ جميع القرآن في كلّ زمان، و كتاب اللّه في كلّ وقت، كان مقدارا من هذا المجموع الذي بأيدينا، و بضمّ الآيات شيئا فشيئا بلغ ما بلغ.

فما ذكره المرتضى رضوان اللّه عليه من أنّ القرآن كان عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن، و أن جماعة من الصّحابة مثل عبد اللّه بن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عدة ختمات (3) ،حقّ غير مخدوش، فإنّ المراد جمعه و ختمه بمقدار المنزل في وقت الختم و الجمع، فإنّ تمام القرآن كان في وقت الختم ذلك المقدار الذي ختموه، و ليس مراده ختم جميع ما انزل إليه إلى حين وفاته.

و ليت شعري، كيف قال عمر في مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد أمره بإحضار الدّواة و الكتف: إنّ الرجل ليهجر، حسبنا كتاب اللّه!(4) مع كون آيات الكتاب متفرّقة بين الأصحاب، و عدم علم أحد غير أمير المؤمنين عليه السّلام بجميعها، و عدم معرفة مثل زيد بن ثابت بها، حتّى نقل عنه أنه جمعها بشهادة الشهود

ص: 47


1- في نسخة: بملاحظة.
2- البقرة: 2/2، السجدة: 2/32، الزمر: 41/39، يونس: 1/10.
3- مجمع البيان 84:1.
4- راجع: صحيح مسلم 1637/1257:3، مسند أحمد 222:1، مسند أبي يعلى 2409/298:4، البداية و النهاية 5: 200، تاريخ الطبري 193:3، تاريخ ابن خلدون 485:2.

إلاّ آية من سورة الأحزاب، فإنّه لم يجدها إلاّ عند خزيمة بن ثابت، فأدخلها في القرآن بشهادته وحده، و لم يكن غيره مطّلعا عليها!

و كيف لم يعترض أحد على عمر بأنّك لا تدري أين آيات الكتاب و عند من تكون ؟ فعلم أنّ الكتاب كان جميعه معيّنا معلوما مشهورا بين الأصحاب.

[ثانيا]: و أمّا حكم العقل فبيانه: أنّه لا شبهة أنّ جمع الآيات كان من أهمّ الواجبات لأنّ فيه حفظ أصلها من الضياع، و حفظ ترتيبها و نظمها من الاختلال مع أنّ عليها مدار شرع الإسلام، و أساس الدّين و الأحكام، و لم يكن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين شغل واجب أهمّ منه إلاّ الجهاد، و لم يكن مزاحما به في أغلب الأوقات مع كون أمير المؤمنين عليه السّلام و كثير من الصحابة الخلّصين غالب الحضور، و عنده صلّى اللّه عليه و آله، و كان جمع القرآن و ترتيبه في غاية السّهولة، فكيف يمكن القول بالتسامح و التساهل و التسويف من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام و الخلّصين من الصحابة في مدّة عشرين سنة، و تأخير أمير المؤمنين عليه السّلام هذا الواجب إلى بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى يقع كثير من الآيات معرضا للتغيير و الضياع ؟

و الحاصل: أنّ جمع الكتاب و ترتيب كلّ ما نزل منه في كلّ وقت و تدوينه و نشره، كان من أوجب الواجبات و أهمّ الامور، لوضوح أنّه كان من أعظم معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أتمّ الدلائل على صدق النبوّة و أساس الشريعة، و مأخذ الأحكام الإلهيّة، و لم يكن مزاحما بأهمّ منه في أغلب الأوقات، مع أنّا نعلم أنّه كان أغلب أوقات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين الصادقين مصروفا في العبادات، و أىّ عبادة كان أهمّ من جمع القرآن الذي كان بجمعه و حفظه حفظ الإسلام مع علمهم بكثرة المنافقين و المعاندين للدّين مع إقدامهم في مشاقّ الامور لحفظ الاسلام.

و كان جمع القرآن عليهم في غاية السّهولة، خصوصا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع ملازمة أمير المؤمنين عليه السّلام لخدمته في اللّيل و النّهار، فالمتأمّل المنصف يقطع بوقوع الجمع متدرجا بتدرّج النزول بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خطّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، يقطع بجمع كثير من المؤمنين له و تأليف نسخ كثيرة منه، و عرضها على النبي صلّى اللّه عليه و آله و عدم تساهل كثير منهم فيه، حيث لم يكن في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علم غير علم القرآن، و لم يكن للصحابة حظّ و عبادة أكثر من تلاوة القرآن.

[ثالثا]: و أمّا العادة و الاعتبار فبيانه: أنّه كان لعدّة من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله منصب كتابة الوحي، فلا بدّ

ص: 48

لهم بحسب العادة [من] تهيئة لوازم الكتابة من القلم و المداد و الأوراق، أو غير ذلك من الأشياء القابلة للكتابة، حتّى لا يكون لهم تعطيل في موقع الحاجة و القيام بالوظيفة و حفظ الترتيب و إيراد كلّ سورة أو آية في محلّها و موردها، حتّى لا يحصل لهم تحيّر و كلفة في الكتابة، و بعيد غايته أنّهم كانوا يكتبون الآيات في أوراق متفرّقة غير منتظمة، بحيث إذا أمرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يضعوا آية كذا في موضع كذا، كانوا يدوّرون(1) تلك الأوراق و يفتّشون الصحائف المتشتّتة حتّى يجدوا موقعها.

و الحاصل: أنّ التأمّل الصادق قاض بأنّ الكتّاب الذين كان منهم أمير المؤمنين عليه السّلام كانوا قد جمعوا جميع الآيات المنزلة على الترتيب الذي كان يأمرهم به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكونوا غير معتنين بجمعه و ترتيبه، و لا يمكن القول بأنّهم كتبوا الآيات في أشياء متفرّقة من غير ترتيب و نظم إلى أن دعا اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى جواره، و تقمّص أبو بكر خلافته، و اتّفق قتل كثير من القرّاء باليمامة، و لم تكن في جميع المدّة نسخة مجموعة من الكتاب العزيز بين المسلمين، و كان أربعة أو خمسة من الصحابة حافظين لجميع القرآن، و تالين له عن ظهر القلب، و غيرهم لم يكونوا مطّلعين إلاّ بقليل من آياته، و كان عند كلّ منهم جزء قليل منه حتّى صمّم أبو بكر و عمر لخوف ذهاب القرآن، على جمعه و ترتيبه و كتابة نسخة منه، كما رواه بعض العامّة.

روى البخاري عن زيد بن ثابت، قال: أرسل [إليّ ] أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطّاب عنده، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحرّ(2) يوم اليمامة بقرّاء القرآن، و إنّي أخشى أن يستحرّ بالقرّاء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، و إنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ قال عمر: هو و اللّه خير. فلم يزل [عمر] يراجعني حتّى شرح اللّه صدري لذلك، و رأيت الذي رأى عمر.

قال زيد: قال أبو بكر: إنّك [رجل] شابّ عاقل لا نتّهمك، و قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فتتبّع القرآن و اجمعه. قال زيد: فو اللّه لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قال: هو و اللّه خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر و عمر، فتتبّعت

ص: 49


1- كذا، و مراده يبحثون، و الكلمة عامية عراقية تؤدّي هذا المعنى.
2- استحرّ القتل: اشتدّ.

القرآن أجمعه من العسب و اللخاف(1) و صدور الرجال، و وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاريّ لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2) حتّى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه اللّه، ثمّ عند عمر حياته، ثمّ عند حفصة بنت عمر(3).

و عن اللّيث بن سعد، قال: أول من جمع القرآن أبو بكر، و كتبه زيد، و كان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلاّ بشهادة عدلين، و إنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. و إنّ عمر أتى بآية الرّجم (الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما بما قضيا من اللّذّة نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم)(4) فلم يكتبها لأنّه كان وحده(5).

و عن ابن أبي داود، قال: قدم عمر و قال: من [كان] تلقّى شيئا من القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فليأت به. و كانوا يكتبون ذلك في الصحف و الألواح و العسب، و كان لا يقبل من أحد شيئا حتّى يشهد شهيدان(6).

و عن [ابن] أبي داود: أنّ عمر سأل عن آية من كتاب اللّه، فقيل: كانت مع فلان، قتل يوم اليمامة.

فقال: إنّا للّه، و أمر بجمع القرآن، فكان أوّل من جمعه(7).

أقول: لعمري، إنّ في هذه الأخبار تضعيف الثقل الأكبر و توهين نبوّة خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و تخريب أساس الدّين، و تلقين الملحدين الحجّة في إنكار تواتر الكتاب المبين، و ليس ببعيد من

ص: 50


1- العسب: جمع العسيب، و هي جريدة النخل المستقيمة، يكشط خوصها، و اللخاف: جمع اللّخفة: و هي حجر أبيض عريض رقيق.
2- التوبة: 128/9.
3- صحيح البخاري 8/314:6، الإتقان في علوم القرآن 203:1.
4- من الثابت أن القرآن الكريم نقل إلينا بالتواتر، و قد نقلته الجماعة عن الجماعة و ذلك مقطوع به عند جميع أهل الإسلام، و آية الرجم المزعومة منقولة بالآحاد، بدليل قوله في آخر الحديث (فلم يكتبها لانّه كان وحده) و القرآن لا يثبت إلاّ بالتواتر، و عليه فإن أمثال هذه الروايات لا يؤخذ بها في إثبات القرآن الكريم، فإن أمكن حملها على أحد وجوه الحمل و إلاّ فليضرب بها الجدار. و قد حمل ابن حزم في (المحلّى) آية الرجم على نسخ التلاوة، أي مما نسخ لفظه و بقي حكمه. هو حمل باطل، لأنها لو كانت منسوخة التلاوة لما جاء عمر ليكتبها في المصحف. و في برهان الزركشي 43:2 أن ابن ظفر أنكر في (الينبوع) عدّها مما نسخ تلاوة و قال: لأنّ خبر الواحد لا يثبت القرآن. و حملها أبو جعفر النحاس على السنة حيث قال: ليس حكمها حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة، لكنها سنة ثابتة. راجع: سلامة القرآن من التحريف: 64.
5- الإتقان في علوم القرآن 206:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 205:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 204:1.

المستضعفين للثقل الأصغر و المنكرين لإمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و المعرضين عن أهل الذكر و الحجج المعصومين.

و ليت شعري، ما ألجأ عمر و أبا بكر إلى التوسّل بزيد بن ثابت الشابّ الحدث في جمع الكتاب الكريم مع عدم علمه بجميع الآيات، و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه بين أظهرهم، و هو باتّفاق الأمّة أعلم الناس بكتاب اللّه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟!

و ما السبب في اعتمادهم بشهادة شاهدين في كون شيء من كتاب اللّه إلاّ في آيتين من آخر براءة فاكتفوا فيه بشهادة خزيمة و لم يراجعوا إلى عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه في شيء مع أنّه كان عنده جميع القرآن، و كان أصدق و أوثق من خزيمة و سائر الأمّة ؟

و كيف قال عمر بعد سؤاله عن آية من الكتاب و اطّلاعه على كونها عند قتيل اليمامة: إنّا للّه، مع علمه بأنّه لم يفت عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه شيء من الآيات، و أنّه لم يكن يكتم آيات الكتاب من البرّ و الفاجر؟

الطرفة السادسة في أنّ القرآن العظيم جمع ثلاث مرات أحدها كان بحضرة النبي صلّى اللّه عليه و آله

قال الحاكم في (المستدرك): جمع القرآن ثلاث مرّات: أحدها بحضرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استدل بحديث زيد بن ثابت، قال: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نؤلّف القرآن من الرقاع(1).

الثانية: بحضرة أبي بكر - و أستدلّ برواية البخاري عن زيد بن ثابت، من بلوغ خبر مقتل أهل اليمامة، و قول عمر: أنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن يوم اليمامة.. إلى آخره (2)- و قد مرّ ذكره في الطرفة السابقة.

و عن الحارث المحاسبي في كتاب (فهم السنن): كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يأمر بكتابته، و لكنّه كان مفرّقا في الرّقاع و الأكتاف و العسب، فإنّما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، و كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها القرآن منتشر فجمعها جامع،

ص: 51


1- مستدرك الحاكم 229:2.
2- صحيح البخاري 199/135:6.

و ربطها بخيط حتّى لا يضيع منها شيء.

قال: فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع و صدور الرجال ؟

قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز و نظم معروف، قد شاهدوا تلاوته من النبي صلّى اللّه عليه و آله عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونا، و إنّما [كان] الخوف من ذهاب شيء من صحفه.

و قد تقدّم في حديث [زيد] أنّه جمع القرآن من العسب و اللخاف. و في رواية: و الرقاع، و في اخرى: من قطع الأديم، و في اخرى: و الأكتاف، و في اخرى: و الأضلاع، و في اخرى: و الأقتاب(1).

قال الحاكم: و الجمع الثالث هو ترتيب السور في زمن عثمان(2).

روى البخاري عن أنس، أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، و كان يغازي أهل الشّام في فتح إرمينية و آذربيجان مع أهل العراق، فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك [هذه] الأمّة قبل أن يختلفوا [في الكتاب] اختلاف اليهود و النّصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد ابن ثابت، و عبد اللّه بن الزبير، و سعيد بن العاص، و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، و قال عثمان للرهط القرشيّين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، و أرسل إلى كلّ افق بمصحف ممّا نسخوا، و أمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق.

قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاريّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ (3)..الآية، فألحقناها في سورتها في المصحف(4).

و قال جمع من العامّة: إنّ جمع عثمان كان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتّى قرءوه بلغاتهم على اتّساع اللغات، فأدّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتّبا لسوره، و اقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجّا بأنّه

ص: 52


1- الإتقان في علوم القرآن 206:1.
2- مستدرك الحاكم 229:2.
3- الأحزاب: 23/33.
4- صحيح البخاري 9/315:6.

نزل بلغتهم(1).

و قال الحارث المحاسبي: المشهور أنّ جامع القرآن عثمان، و ليس كذلك، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه و بين من شهده من المهاجرين و الأنصار لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق و الشّام في حروف القراءات(2).

أقول: الظاهر من بعض الروايات، و جمع من العلماء، أنّ الجمع الذي وقع في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان مشتملا على العلوم المرتبطة بالقرآن، من بيان شأن نزول الآيات، و من التفسيرات و التأويلات المأخوذ من النبي صلّى اللّه عليه و آله و وجوه القراءات، كما نقل عن ابن سيرين أنّه قال: بلغني أنّه كتبه عليّ عليه السّلام على تنزيله، و لو أجيب إلى ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير(3).

و قال: إنّه كتب في مصحفه الناسخ و المنسوخ(4).

و قال بعض العامّة: قد كان بعض الصحابة يدخلون في قراءتهم شيئا من التفسير إيضاحا، لأنّهم محقّقون فيما تلقّوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرآنا، فهم آمنون من أن يلبس بعض ذلك ببعض، و ربّما كان يكتبه بعضهم (5) ،كقراءة ابن عباس: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ (6) ثمّ يزيد (7)(في مواسم الحجّ )(8).

أقول: و لعلّ قراءة بعض الآيات المنسوبة إلى عبد اللّه بن مسعود من هذا القبيل، كقراءته قوله تعالى:

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فاختلفوا فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (9).

ثم إنّه لمّا كان في هذا الجمع فضائح القوم؛ أسقط أبو بكر شأن نزول الآيات و تفسيرها و تأويلها، و جمعه ثانيا مع إثبات وجوه القراءات، ثمّ في زمان عثمان لمّا كثر الاختلاف جمعه ثالثا على قراءة زيد بن ثابت، و حمل الناس على قراءته، و أسقط سائر القراءات و أحرق مصاحف الكمّلين من قرّاء الصحابة كعبد اللّه ابن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما.

و نقل عن ابن مسعود ما يقرب من هذا المضمون: لو كان لي مثل ما لهم لفعلت بصحفهم مثل ما

ص: 53


1- الإتقان في علوم القرآن 210:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 211:1.
3- الاستيعاب - المطبوع بهامش الاصابة 253:2.
4- الإتقان في علوم القرآن 204:1.
5- النشر في القراءات العشر 32:1.
6- البقرة: 198/2.
7- أي بعد الآية للتفسير و الايضاح.
8- صحيح البخاري 44/59:6.
9- البقرة: 213/2.

فعلوا بصحيفتي، و لقد قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعين سورة، و كان زيد بن ثابت في صلب أبيه الكافر - أو قال: - كان يلعب مع الصّبيان(1).

الطرفة السابعة في أنّ ترتيب سور القرآن و آياته كان بأمر اللّه و وحيه

لا ريب في أنّ لآيات الكتاب العزيزة و سوره ترتيبا مرضيّا عند اللّه، ثابتا في اللّوح المحفوظ ، منزّلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بواسطة جبرئيل عليه السّلام، لأنّ حسن الترتيب و النظم ممّا له مدخل تامّ في حسن الكتاب، و في القرآن المجيد الذي هو أحسن الكتب، و مطالبه أحسن الحديث، و العلوم المنطوية فيه أشرف العلوم و أعلاها، و بيانه في الفصاحة و البلاغة فوق طوق البشر، لا بدّ من أن يكون ترتيبه على أحسن الوجوه، و نظمه أحسن النظام، بل قال بعض العلماء: إنّ حسن نظم آيات القرآن و سوره من وجوه إعجازه، و من بدائع اسلوبه، و على هذا لا بدّ أن يكون نظمه و ترتيبه من قبل اللّه تعالى، و لا يكون من البشر، و يؤيد ذلك أنّ اللّه تعالى أضاف الكتاب الكريم إلى ذاته المقدّسة.

و من الواضح أنّ الكتاب اسم لمجموع المطالب المرتّبة المنظّمة، فإذا ألّف أحد الأحاديث النبوية و بوّبها و رتّبها في دفتر، أو جمع شخص خطب أمير المؤمنين عليه السّلام في ديوان، منضمّا و مرتّبا، لا ينسب ذلك الدفتر و الديوان إلى النبيّ ، و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما، بل يضاف إلى المؤلّف و الجامع، و على هذا يدلّ إطلاق كتاب اللّه في الآيات الكريمة، و الروايات المتواترة على هذه المجموعة المرتّبة المنظّمة، على أنّ علومها و عباداتها و نظمها و ترتيبها و تأليفها من اللّه تعالى، لا شريك له فيها من خلقه.

و يدلّ على ذلك ما روي عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت جالسا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ شخص ببصره ثمّ صوّبه، ثمّ قال: أتاني جبرئيل، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى (2) إلى آخرها(3).

ص: 54


1- مستدرك الحاكم 228:2.
2- النحل: 90/16.
3- مسند أحمد 218:4، الإتقان في علوم القرآن 212:1.

و ما روي من أنّ جبرئيل عليه السّلام لمّا أتى بآية: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ (1) قال: ضعها بين آيتي الرّبا و الدّين (2).و في رواية: ضعها بعد مائتين و ثمانين آية من سورة البقرة(3).

و ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال »(4) ،و غير ذلك من الروايات.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه بعد ما ثبت أنّ جمع الكتاب الكريم كان في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و بأمره، لا بدّ من القول بكون ترتيب جميع آياته و سوره مطابقا للترتيب الذي أوحى اللّه به إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و موافقا لما نزل به جبرئيل عليه السّلام، فكلّما نزل من الآيات و السور كان يأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كتّاب الوحي بكتابتها في موضعها الذي يأمر جبرئيل بوضعها في ذلك الموضع، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما كان مأمورا بتبليغ أصل الآيات و السور إلى الأمّة، كان مأمورا بتبليغ نظمها و ترتيبها إليهم، و لا يمكن منه التقصير في التبليغ و أداء وظيفة الرّسالة، فكلّ من كان حافظا للآيات و السور، كان عالما بترتيبها و نظمها، و كلّ من جمع القرآن في عصره صلّى اللّه عليه و آله كان جمعه على الترتيب المأمور به، مع أنّ كثيرا من الصحابة كانوا يعرضون على النبي صلّى اللّه عليه و آله كلّ ما حفظوه من القرآن أو جمعوه، فلو لم يكن على الترتيب المنزل لكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يغيّره.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ كلّ ما كتبه كتّاب الوحي، و كلّ ما جمعه الصّحابة من القرآن في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لا جرم كان موافقا في النظم و الترتيب لما كان له من النظم في اللّوح المحفوظ .

و يؤيّد ذلك ما روي عن ابن الزبير، قال: قلت لعثمان: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ (5) قد نسختها الآية الاخرى فلم تكتبها أو(6) تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكانه(7).

و ما رواه مسلم، عن عمر، قال: ما سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن شيء أكثر ممّا سألته عن الكلالة حتّى طعن بإصبعه في صدري، و قال: «تكفيك آية الصيف(8) التي في آخر سورة النساء »(9).

ص: 55


1- البقرة: 281/2.
2- الإتقان في علوم القرآن 217:1.
3- تفسير الرازي 104:7.
4- الإتقان في علوم القرآن 218:1.
5- البقرة: 240/2.
6- في المصدر: و لم.
7- الإتقان في علوم القرآن 213:1.
8- قال الجزري في شرح الحديث: أي التي نزلت في الصيف، و هي الآية التي في آخر سورة النساء، و التي في أولها نزلت في الشتاء. النهاية 68:3.
9- الإتقان في علوم القرآن 213:1.

و ما روته عائشة من أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ في الليل سورة البقرة، و آل عمران، و النساء(1).

و قال السيد المرتضى رضوان اللّه عليه: إنّ القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان، أي عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - إلى أن قال: - و إنّ جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عدّة ختمات، و كلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور و لا مبثوث(2).

أقول: كلّ ذلك يورث القطع بأنّ ترتيب الآيات و السور لم يكن بأهواء الصّحابة و سلائقهم، بل كان بوحي اللّه و أمر رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

الطرفة الثامنة في أنّ ترتيب القرآن ليس بترتيب النزول بل لمناسبات لطيفة

لا شبهة في أنّ الترتيب المقرّر عند اللّه، المنزل على النبيّ بين الآيات و السور لمناسبات لطيفة، و روابط منيفة، و نكت بديعة، و حكم بليغة لا يعلم جميعها إلاّ اللّه و الراسخون في العلم، و لا يدركها إلاّ من نوّر اللّه قلبه، و خصّ بالانقياد ربّه، و وهب له فهم القرآن، و باشر روحه روح الايمان.

قال بعض العلماء: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات و الروابط (3).

و قال آخر: من تأمّل في لطائف نظم السور(4) و في بدائع ترتيبها علم أنّ القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه و شرف معانيه، فهو أيضا معجز بسبب ترتيبه و نظم آياته(5).

و قال آخر: ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتّى تكون كالكلمة الواحدة متّسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم(6).

هذا، و لعمري أنّ ما ذكرته بالنظر إلى حكمة اللّه البالغة، و عدم إمكان وضعه الشيء في غير موضعه، و ترجيحه أمرا بلا مرجّح، من أوضح الواضحات و أبين البيّنات، غنيّ عن الاستدلال و التأييد بأقوال

ص: 56


1- مسند أحمد 92:6.
2- مجمع البيان 84:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 369:3.
4- في الإتقان: و قال الإمام الرازي في سورة البقرة: و من تأمل في لطائف نظم هذه السورة.
5- الاتقان في علوم القرآن 370:3.
6- الإتقان في علوم القرآن 369:3.

الرجال، و العجب مع ذلك من بعض حيث قال (1):علم المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد، مرتبط أوّله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة، لم يقع فيه ارتباط ، و من ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلاّ بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلا عن أحسنه، فإنّ القرآن نزل في نيّف و عشرين سنة في أحكام مختلفة شرّعت لأسباب مختلفة، و ما كان كذلك لا يتأتّى ربط بعضه ببعض (2) ،انتهى.

فإنّ مثل هذا الكلام في ترتيب كلام اللّه لا ينبغي صدوره من عاقل، فضلا عن فاضل، إذ من الواضح أنّ كلّ من ألّف كتابا مشتملا على مطالب متفرّقة و قضايا متشتّتة، يلاحظ البتّة في ترتيبها مناسبة و ارتباطا، فكيف بالحكيم المتعال!

فإنّ المناسبات بين القضايا المتفرّقة و الأحكام المختلفة كثيرة جدّا خصوصا في نظر من كان عالما بحقائق الأشياء و جهات الامور، نعم فهم غير العلماء الراسخين الربّانيّين قاصر عن درك جميع المناسبات اللّطيفة المنظورة للّطيف الخبير، و لذا لم يحم حوله المفسّرون، و لم يخض فيه المتبحّرون.

نعم، تكلّف قليل من علماء العامّة لبيانها، و أجالوا الفكر في هذه العرصة مع عدم كونهم من فرسانها، و أين لهم التمكّن في هذا القصر المشيد، و أنّى لهم التناوش من مكان بعيد؟ حيث إنّهم ما ثقفوا بحبل اللّه المتين، و ما اتّخذوا سبيلا مع الهداة الرّاسخين.

و إنّي و إن سلكت في هذا الطريق الزليق، و غصت في هذا البحر العميق، و خضت كالذي خاضوا، و أفضت من حيث أفاضوا، غير أنّي لمعرفتي بقصوري ما غضضت على ما نلت بضرس قاطع، و ما حكمت فيما قلت على أنّه هو الحقّ الواقع، بل أبديت ما يليق بالظّنّ و الاحتمال لئلا يتوهّم في ترتيب الكتاب العزيز ما توهّمه هذا البعض من الأمر المحال.

قال الشيخ وليّ الدين الملوي: قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة، لأنّها على حسب الوقائع المفرّقة، و فصل الخطاب أنّها على حسب الوقائع تنزيلا، و على حسب الحكمة ترتيبا و تأصيلا، فالمصحف على وفق ما في اللّوح المحفوظ مرتّبة سوره كلّها و آياته بالتوقيف كما انزل جملة إلى بيت العزّة، و من المعجز البيّن أسلوبه و نظمه الباهر، و الذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أوّل

ص: 57


1- هو الشيخ عز الدين بن عبد السّلام.
2- الإتقان في علوم القرآن 370:3.

كلّ شيء عن كونها مكمّلة لما قبلها أو مستقلّة، ثم المستقلّة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جمّ ، و هكذا في السور، يطلب وجه اتّصالها بما قبلها و ما سبقت له(1).

قال بعض العلماء: سورة الفاتحة تضمّنت الإقرار بالربوبيّة و الالتجاء إليه في دين الاسلام و الصّيانة عن دين اليهوديّة و النّصرانيّة، و سورة البقرة تضمّنت قواعد الدّين و إقامة الدّليل عليه، و آل عمران مكمّلة لمقصودها، فالبقرة بمنزلة إقامة الدّليل على الحكم، و آل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، و لهذا ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسّك به النصارى، و في البقرة ذكر أنّ الحجّ مشروع و أمر بإتمامه بعد الشروع، و أوجب الشروع فيه في آل عمران(2).

و كان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أنّ خطاب اليهود في البقرة أكثر؛ لأنّ التوراة أصل و الانجيل فرع لها، و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا هاجر إلى المدينة دعا اليهود و جاهدهم، و كان جهاده للنّصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، و لهذا كانت السور المكّيّة فيها الدّين الذي اتّفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميع الناس، و السور المدنيّة فيها خطاب من أقرّ بالأنبياء من أهل الكتاب و المؤمنين فخوطبوا بيا أيّها الذين آمنوا، و يا أهل الكتاب، و يا بني إسرائيل.

و أمّا سورة النساء فتضمّنت أحكام الأسباب التي بين النّاس، و هي نوعان: مخلوقة للّه و مقدورة لهم كالنسب و الصّهر، و لذا افتتحت بقوله: اِتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ثمّ قال: وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ (3) فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح و براعة الاستهلال حيث تضمّنت الآية المفتتح بها، ما أكثر السورة في احكامه، من نكاح النساء و محرّماته و المواريث المتعلّقة بالأرحام، فإنّ ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم، ثمّ خلق زوجته منه، ثمّ بثّ منهما رجالا كثيرا و نساء كثيرة.

و أمّا المائدة فسورة العقود، تضمّنت بيان تمام الشرائع و مكمّلات الدّين، و الوفاء بعهود الرّسل، و ما أخذ على الأمّة، و بها تمّ الدّين، فهي سورة التّكميل لأنّ فيها تحريم الصّيد على المحرم الذي هو [من] تمام الإحرام، و تحريم الخمر الذي هو [من] تمام حفظ العقل و الدّين، و عقوبة المعتدين من

ص: 58


1- الإتقان في علوم القرآن 370:3.
2- في الإتقان: النصارى، و أوجب الحجّ في آل عمران، و أما في البقرة فذكر أنه مشروع، و أمر باتمامه بعد الشروع فيه.
3- النساء: 1/4.

السّرّاق و المحاربين، الذي هو من تمام حفظ الدّماء و الأموال، و إحلال الطيّبات الذي هو من تمام عبادة اللّه، و لهذا ذكر فيها ما يختصّ بشريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كالوضوء، و التيمّم، و الحكم بالقرآن على كلّ ذي دين.

و لهذا أكثر فيها من ذكر الإكمال و الإتمام، و ذكر فيها أنّ من ارتدّ عوّض اللّه بخير منه، و لا يزال هذا الدين كاملا، و لهذا ورد أنّها آخر سورة نزلت، و فيها من إشارات الختم و التمام، و هذا الترتيب بين هذه السور الاربع المدنيّات [من] أحسن الترتيب(1).

و قال بعض آخر: إذا اعتبرت افتتاح كلّ سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثمّ هو يخفى تارة و يظهر أخرى، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنّه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء، كما قال تعالى: وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2).

و كافتتاح سورة فاطر بالحمد، فإنّه مناسب لختام ما قبلها من قوله: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ (3) كما قال تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (4).

أقول: الغرض من نقل هذه العبائر و الوجوه هو التأييد، و إن قلنا إنّ المدّعى لوضوحه غنيّ عنه.

الطّرفة التّاسعة في أسامي الكتاب العزيز و وحيه و مناسبة تسميته بالقرآن

قال بعض (5):إنّ اللّه تعالى سمّى كتابه العزيز بخمسة و خمسين اسما (6).كالفرقان، و الذكر، و أحسن الحديث، و غيرها. و الظاهر أنّ جميعها ألقاب و أوصاف له، إلاّ القرآن فإنّ الأقوى و الأظهر أن يكون علما له بوضع اللّه تعالى.

ص: 59


1- الإتقان في علوم القرآن 381:3.
2- الزمر: 75/39.
3- سبأ: 54/34.
4- الإتقان في علوم القرآن 380:3، و الآية من سورة الأنعام: 45/6.
5- القائل: هو القاضي أبو المعالي عزيزى بن عبد الملك المعروف بشيذلة، صاحب كتاب (البرهان في مشكلات القرآن) و المتوفّى سنة 494. راجع: شذرات الذهب 401:3، كشف الظنون 241:1.
6- البرهان في علوم القرآن 343:1، الإتقان في علوم القرآن 178:1.

و قد ذكروا في اشتقاقه، و وجه مناسبته وجوها، و الأظهر الأشهر أن يكون القرآن مهموزا، من القرء بمعنى الجمع، و منه: قرأت الماء في الحوض: أي جمعته، و على هذا يكون وجه مناسبة التّسمية كونه جامعا لثمرات جميع الكتب السالفة المنزلة(1).

قالوا: إنّ اللّه جمع جميع الكتب السّماويّة في التوراة و الإنجيل، و جمع جميع ما في التوراة و الانجيل في القرآن(2).

و يشهد له ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أعطيت السور الطوال مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزّبور، و فضّلت بالمفصّل ثمان و ستون(3) سورة »(4).

و الأوفى و الأنسب كونه جامعا لجميع أنواع العلوم كلّها، كما قال اللّه تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ (5) ،و قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ (6).

و عنه عليه السّلام: «من فهم القرآن فسّر [به] جمل العلم »(7).

و قال عليه السّلام في وصف القرآن: «ظاهره حكم، و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق، له تخوم(8) ، و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار(9) الحكمة »(10).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «[قد] ولدني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا أعلم كتاب اللّه، و فيه بدء الخلق، و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و فيه خبر السماء و خبر الأرض، و خبر الجنّة و النّار، و خبر ما كان و ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّي، إنّ اللّه تعالى يقول: فيه تبيان كلّ شيء »(11).

و عن ابن عباس، قال: لو ضلّ منّا عقال كنّا نجده بالقرآن (12) ،إلى غير ذلك من الأخبار.

ص: 60


1- الاتقان في علوم القرآن 182:1.
2- نحوه في الإتقان في علوم القرآن 28:4.
3- في تفسير العياشي: سبع و ستين.
4- الكافي 10/439:2، تفسير العياشي 102/107:1.
5- النحل: 89/16.
6- الأنعام: 38/6.
7- إحياء علوم الدين 342:1.
8- التخم: منتهى كلّ قرية أو أرض، يقال: فلان على تخم من الأرض، و الجمع تخوم، مثل: فلس و فلوس.
9- في العياشي: و منازل.
10- تفسير العياشي 1/74:1.
11- الكافي 8/50:1. و الآية من سورة النحل: 89/16.
12- نحوه في الإتقان في علوم القرآن 30:4-31.

الطّرفة العاشرة فى أنّ الكتاب الذي بأيدينا هو الكتاب المنزل المجموع بأمر النبى صلّى اللّه عليه و آله بلا تحريف و تغيير و زيادة و نقصان.

الحقّ أنّ الكتاب العزيز الذي بأيدينا، هو ذلك الكتاب المنزل، المجموع، المرتّب بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عصره بلا تحريف و تغيير، و زيادة و نقصان، لتواتره بين المسلمين كلاّ و أبعاضا و ترتيبا و قراءة، و نهاية اهتمام المسلمين كافّة، خصوصا علماءهم و قرّاءهم، في حفظه، و تلاوته، و البحث عنه، لأنّه أساس الإسلام، و أعظم معجزات سيّد الأنام عليه و على آله الصّلاة و السّلام، و مأخذ الأحكام، و منشور اللّه إلى خلقه، و نوره المبين في أرضه.

عن السيّد المرتضى، على ما حكي عنه في جواب مسائل الطّرابلسيّات: أنّ العلم بصحّة نقل القرآن، كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار، و الوقائع العظام، و الكتب المشهورة، و أشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت، و الدّواعي توفّرت على نقله و حراسته، و بلغت حدّا لم يبلغه فيما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة و مأخذ العلوم الشرعيّة و الأحكام الدينيّة، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه، من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا أو منقوصا مع العناية الصادقة و الضّبط الشديد؟!

و قال قدس اللّه روحه أيضا: إنّ العلم بتفسير القرآن و أبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، و جرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة، ككتاب سيبويه، و المزني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف و ميّز و علم أنّه ملحق و ليس من أصل الكتاب، و كذلك القول في كتاب المزني، و معلوم أنّ العناية بنقل القرآن و ضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء.

و ذكر أيضا أنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن، و استدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، و أنّه كان يعرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يتلى عليه، و أنّ جماعة من الصحابة مثل

ص: 61

عبد اللّه بن مسعود، و أبيّ ابن كعب و غيرهما، ختموا القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عدّة ختمات، و كلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور، و لا مبثوث، و ذكر أنّ من خالف في ذلك [من] الإماميّة و الحشويّة لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته(1).

و لعمري، إنّه رضوان اللّه عليه أبان الحقّ و أجاد، و أتى بما فوق المراد، و إن قال الفيض رحمه اللّه بعد نقله:

لقائل أن يقول: كما أنّ الدواعي كانت متوفّرة على نقل القرآن و حراسته من المؤمنين، كذلك كانت متوفّرة على تغييره من المنافقين المبدّلين للوصيّة، المغيّرين للخلافة، لتضمّنه ما يضادّ رأيهم و هواهم(2).

أقول: نعم، و لكن كان توفّر دواعيهم على التغيير، كتوفّر دواعيهم على إطفاء نور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إبطال أمره، فكما لم ينالوا بمقصودهم في أمر النبوّة لحفظ اللّه و تأييده، و قوّة المسلمين و كثرتهم بحيث صار المنافقون بينهم كالشّامة السوداء في الثور الأبيض، لم ينالوا من القرآن ما كان في قلوبهم من الغرض، بل كان دون نيلهم إليه خرط القتاد.

ثمّ قال الفيض رحمه اللّه: و التغيير فيه إن وقع، فإنّما وقع قبل انتشاره في البلدان، و استقراره على ما هو عليه الآن، و الضبط الشديد إنّما كان بعد ذلك، فلا تنافي بينهما(3).

أقول: قد ثبت أنّ القرآن كان مجموعا في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان شدّة اهتمام المسلمين في حفظ ذلك المجموع بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في زمان احتمل بعض وقوع التحريف فيه، كاهتمامهم في حفظ أنفسهم و أعراضهم، و من الواضح أنّه لم ينتشر الاسلام في بقاع الأرض و أقطارها إلاّ بانتشار الكتاب المجيد فيها، حيث إنّ إعجاز القرآن دعا الناس إلى الاسلام و الإيمان بخاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله، بل كان نشر الكتاب و شيوعه بين النّاس أكثر من نشر الإسلام، إذ الكفّار المعاندين للدّين، لشدّة(4) إعجابهم بآيات اللّه و سور القرآن، كانوا يحفظونها و يتلونها أكثر من حفظهم و قراءتهم لقصائد(5) شعراء العرب كامرئ القيس و أضرابه، و خطب الفصحاء، مع شيوع قوّة الحافظة في أهل ذلك العصر بحيث كان كثير منهم يحفظون الخطب الطوال بسماعها مرّة واحدة، و لذا كانت العادة مقتضية لأن تكون كلّ آية و سورة في

ص: 62


1- مجمع البيان 83:1، تفسير الصافي 47:1.
2- تفسير الصافي 48:1.
3- تفسير الصافي 48:1.
4- في النسخة: بشدّة.
5- في النسخة: من قصائد.

حفظ جمع كثير كان عددهم فوق حدّ التواتر، مع أنّه كان حفظ القرآن و تلاوته من أعظم عبادات المسلمين، فالعادة تقتضي أن يكون جمع كثير منهم حافظين لجميع القرآن.

و من الواضح أنّه كان اهتمامهم بحفظ القرآن من التغيير، و صيانتهم له من التحريف؛ كاهتمامهم بحفظ الإسلام و حفظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أن تصيبه آفة و جراحة، حيث إنّهم كانوا يفدون أنفسهم و أولادهم و أعراضهم و أموالهم دون نفسه الشريفة.

و من الغرائب، قوله رحمه اللّه: بل لقائل أن يقول: إنّه إنّما لا يتغير(1) في نفسه، و إنّما التغيير في كتابتهم إيّاه، و تلفّظهم به، فإنّهم ما حرّفوا إلاّ عند نسخهم من الأصل، و بقي الأصل على ما هو عليه عند أهله؛ و هم العلماء به، فما هو عند العلماء به ليس بمحرّف، و إنّما المحرّف ما أظهروه لأتباعهم (2).انتهى.

فإنّ هذا الاحتمال مبنيّ على فرض كون القرآن الموجود في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعده، نسخة واحدة أو نسختين عند واحد من الصحابة أو اثنين، ثمّ اسستنسخه جماعة من المنافقين مع عدم اطّلاع أكثر المسلمين به و بآياته، ثمّ خفي الأصل عن الأنظار، و انتشر المحرّف في الأقطار، و هذا الاحتمال ممّا لا ينبغي انقداحه في ذهن أحد، حيث إنّ القرآن كان بآياته و سوره أظهر من الشمس عند المسلمين، و لم يكن بينهم علم غير علم القرآن، فكيف يمكن عدم اطّلاع أغلبهم بآياته و سوره و محلّ آياته و كيفيّة قراءته!

و قال شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسى رضوان اللّه عليه: و أمّا الكلام في زيادته و نقصانه فممّا لا يليق به، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، و النقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا، و هو الذي نصره المرتضى، و هو الظاهر في الرّوايات، غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة و العامّة بنقصان كثير من آي القرآن، و نقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علما [و لا عملا] فالأولى الإعراض عنها، و ترك التشاغل بها، لأنّه يمكن تأويلها(3).

و قال شيخنا الصدوق رحمه اللّه في (اعتقاداته): اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه على نبيّه هو ما بين الدّفّتين و [هو] ما في أيدي النّاس، ليس بأكثر من ذلك، و من نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو

ص: 63


1- في تفسير الصافي: إنه ما تغير.
2- تفسير الصافي 48:1.
3- تفسير التبيان 3:1.

كاذب علينا (1) ،انتهى.

و العجب مع هذا الكلام من الصدوق أنّه نسب إلى الكليني رضوان اللّه عليه الذي هو من مجدّدي المذهب الجعفريّ القول بتحريف القرآن (2) ،مستندا إلى نقله بعض الروايات التي وردت في هذا المعنى، و عدم تعرّضه للقدح فيها، مع ذكره في أوّل الكافي أنّه كان يثق بما رواه فيه، فإنّه لا دلالة لنقل الروايات و الوثوق بصدورها على اعتقاد الناقل بمضمونها أو إفتائه به، لإمكان حملها على محامل، كالتقيّة أو غيرها، أو ردّ الناقل علمها إلى الراسخين في العلم، مع أنّ الصدوق رحمه اللّه كان أعرف بمذهب الكلينيّ رحمه اللّه من غيره، و كيف يمكن تكذيبه نسبة التحريف إلى الإمامية مع قول شيخه به.

و الظاهر أنّ الصدوق رحمه اللّه لعلمه بإجماع الاماميّة، و دلالة روايات كثيرة، بل الكتاب المجيد على عدم تحريفه، و ملاحظة لزوم الوهن من القول به في أساس الإسلام، و تواتر الكتاب أعرض عن الروايات الكثيرة الدالّة على وقوع التّحريف فيه، مع أنّه لغاية تعبّده بظواهر الأخبار ذهب إلى القول بجواز السّهو على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

نعم، نسب السيّد المرتضى رحمه اللّه الخلاف في ذلك إلى قوم من أصحاب الحديث من الإماميّة مع تخطئة لهم قال: إنّ من خالف في ذلك من الإماميّة و الحشويّة لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته(3).

و لعلّ في قوله: (مضاف إلى قوم) دلالة على عدم ثبوت النسبة عنده، و المراد من (أصحاب الحديث) عليّ بن إبراهيم القمّي رحمه اللّه و من حذا حذوه.

قال القمّيّ رحمه اللّه في تفسيره: و أمّا ما كان خلاف ما أنزل اللّه، فقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ

ص: 64


1- اعتقادات الصدوق: 93.
2- لم نجد في ساتر مصنفات الشيخ الصدوق أي تصريح أو تلميح بنسبة القول بالتحريف إلى ثقة الاسلام الكليني، كما لم نجد أحدا نقله عن الشيخ الصدوق، و قد استند بعض المحدثين الذين نسبوا إلى الشيخ الكليني القول بالتحريف (كالفيض في الصافي 47:1) على جملة من روايات الكافي، مع أنه لا توجد في الكافي رواية واحدة تدلّ دلالة صريحة على التحريف، و لكن اشتبه عليهم حال بعض الروايات، و هي إحدى و ستون رواية فقط بجميع أجزاء الكافي، لظهورها باختلاف القراءة أو التفسير، فعدّوا ذلك من أصل المصحف، و قد بيّنت بعض الدراسات الحديثة ذلك بكلّ تفصيل. راجع: دفاع عن الكافي 219:2-501.
3- مجمع البيان 83:1، تفسير الصافي 47:1.

لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (1) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام لقارئ هذه الآية: «[خير أمّة] يقتلون أمير المؤمنين و الحسين بن عليّ عليهما السّلام ؟».

فقيل له: كيف نزلت يا ابن رسول اللّه ؟ فقال: «إنّما نزلت: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ) أ لا ترى مدح اللّه لهم في آخر الآية: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ » (2).

و مثله: أنّه قرئ على أبي عبد اللّه عليه السّلام: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (3) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لقد سألوا [اللّه] عظيما أن يجعلهم للمتّقين إماما».

فقيل له: يا ابن رسول اللّه، كيف نزلت ؟ فقال: «إنّما نزلت: (و اجعل لنا من المتّقين إماما)».

و قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ (4) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«يحفظ الشيء من أمر اللّه! و كيف يكون المعقّب من بين يديه ؟»

فقيل له: [و] كيف ذلك يا ابن رسول اللّه ؟ فقال: «إنّما نزلت: (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ و رقيب يحفظونه بأمر اللّه)» و مثله كثير.

و أمّا ما هو محذوف عنه(5) فهو قوله تعالى: لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ - في على كذا نزلت - أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ (6) و قوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - في علي - وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (7) و قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا - آل محمد حقهم - لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (8) و قوله: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا - آل محمد حقهم - أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (9) و قوله: وَ لَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ - آل محمد حقهم - فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ (10) و مثله كثير نذكره في مواضعه إن شاء اللّه.

قال: و أمّا التقديم و التأخير فإنّ آية عدّة النساء الناسخة التي هي أربعة أشهر

و عشر، قدّمت على المنسوخة الّتي هي سنة، و كان يجب [أوّلا] أن تقرأ المنسوخة التي نزلت قبل، ثمّ الناسخة التي نزلت بعد.

و قوله: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً (11)

و إنّما هو: (و يتلوه شاهد منه إماما و رحمة و من قبله كتاب موسى).

ص: 65


1- آل عمران: 110/3.
2- آل عمران: 110/3.
3- الفرقان: 74/25.
4- الرعد: 11/13.
5- في المصدر: محرف منه.
6- النساء: 166/4.
7- المائدة: 67/5.
8- النساء: 168/4.
9- الشعراء: 227/26.
10- الأنعام: 93/6.
11- هود: 17/11.

و قوله: إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا (1) و إنّما هي (نحيا و نموت) لأنّ الدّهريّة لم يقرّوا بالبعث بعد الموت، و إنّما قالوا: نحيا و نموت، فقدّموا حرفا على حرف، و مثله كثير.

قال: و أمّا الآيات التي هي في سورة و تمامها في سورة أخرى؛ فقول موسى عليه السّلام: أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ (2) و قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ (3) فنصف الآية في سورة البقرة، و نصفها في سورة المائدة.

و قوله: اِكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (4) فردّ اللّه عليهم وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ (5) فنصف الآية في سورة الفرقان، و نصفها في سورة العنكبوت، و مثله كثير (6) ،انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: إلى هذه الأخبار الضعاف أشار الشيخ قدّس سرّه بقوله: أنّه وردت أخبار كثيرة من جهة الخاصّة و العامّة بنقصان كثير من آي القرآن و نقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علما، فالأولى الإعراض عنها و ترك التشاغل بها، لأنّه يمكن تأويلها.

إلى أن قال: و رواياتنا متناصرة بالحثّ على قراءته و التمسّك بما فيه، و ردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه، و عرضها عليه، فما وافقه عمل عليه، و ما خالفه يجتنب، و لم يلتفت إليه(7).

أقول: أخبار العرض على الكتاب متضافرة، بل متواترة معنى أو إجمالا، و أخبار وقوع التحريف و التغيير مخالفة للكتاب العزيز، فيشملها قولهم عليهم السّلام: «ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف» أو «باطل» أو «فاضربه على الجدار» أو «لم نقله »(8).

فإنّ قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) دالّ على تشريف القرآن و تفضيله على سائر الكتب السماويّة بضمانه تعالى بحفظه من الاندراس و الانطماس، و تعهّده على صيانته من التحريف و التغيير إلى يوم القيامة، فكما أنّ ذهاب جميع القرآن و محوه من بين الناس و جعل كتاب آخر فيهم ينافي ضمانه تعالى لحفظه، كذلك إسقاط آية أو سورة، أو تغيير كلمة منه أو هيئته المنزلة

ص: 66


1- المؤمنون: 37/23.
2- البقرة: 61/2.
3- المائدة: 22/5.
4- الفرقان: 5/25.
5- العنكبوت: 48/29.
6- تفسير القمي 10:1.
7- تفسير التبيان 3:1.
8- الكافي 55:1 /باب الأخذ بالسنة و شواهد الكتاب.
9- الحجر: 9/15.

ينافي ضمانه تعالى لحفظه، لأنّ كلّ آية منه قرآن، و محو شيء منه مادّة أو كيفيّة محو للقرآن.

و تقريبه ببيان أوضح: أنّ اللّه تعالى فضّل دين الإسلام على سائر الأديان بوعده بظهوره على الدّين كلّه، و من الواضح أنّ ظهور هذا الدّين المبين بظهور القرآن المبين، و هو ببقائه بين النّاس محفوظا من التغيير و التحريف و الاندراس و الانطماس، فلذا تعهّد سبحانه و تعالى بحفظه من جميع ذلك، و فضّله على سائر الكتب السماويّة بضمان صيانته من كيد المعاندين و دسّ الملحدين، و لم يكن منه تعالى هذا التعهّد و الضّمان في سائر الكتب، و لذا وقع فيها التحريف و التغيير، و سقطت عن الحجّيّة و الاعتبار كسائر الأديان، فلو قلنا بوقوع التحريف في القرآن - و لو من جهة الترتيب - لنافى الضمان منه تعالى، و ارتفع بمزيّته على الكتابين و فضيلته من هذه الجهة من البين.

إن قيل: حفظه تعالى النسخة التي جمعها و كتبها أمير المؤمنين عليه السّلام و أودعها عند أوصيائه المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين و بقاؤها عند خاتمهم إلى الآن، و إلى آخر الزمان، كاف في الوفاء بالعهد و أداء الضّمان.

قلنا: ليست هذه الدرجة من الحفظ مزيّة و فضيلة له، لكونها مشتركة بين القرآن و سائر الكتب السّماويّة، حيث إنّ من المقطوع أنّه كانت نسخة واحدة غير محرّفة من سائر الكتب محفوظة عند الأنبياء و الأوصياء، و لعلّها من مواريثهم الموجودة الآن عند خاتم الوصيّين و وارث علوم الأنبياء المرسلين عجّل اللّه فرجه، فلا يكون وجود هذه النسخة الصحيحة غير المحرّفة منها الذي يكون كوجودها في اللوح المحفوظ مزيّة و فضيلة للكتاب الكريم.

قال فى (كشف الغطاء)(1) في كتاب القرآن، المبحث الثامن في نقصه: لا ريب أنّه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الدّيّان، كما دلّ عليه صريح القرآن، و إجماع العلماء في كلّ زمان، و لا عبرة بالنادر، و ما ورد من أخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها، إلى أن قال: فلا بدّ من تأويلها بأحد وجوه(2).

و عن الشيخ البهائي رحمه اللّه في تغيير القرآن، قال: و الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك، زيادة كان أو نقصانا، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (3) و ما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم

ص: 67


1- للشيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء المتوفّى سنة 1228 ه .
2- كشف الغطاء: 298.
3- الحجر: 9/15.

أمير المؤمنين عليه السّلام منه في بعض المواضع، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ - في علي - (1) و غير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء(2).

و عن الشيخ عليّ بن عبد العالي رحمه اللّه أنّه صنّف في نفي النّقيصة في القرآن رسالة مستقلّة، و ذكر كلام الصدوق المتقدّم، ثمّ اعترض بما يدلّ على النقيصة في الأحاديث، فأجاب عنها بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدّليل من الكتاب و السنّة المتواترة أو الإجماع، و لم يمكن تأويله و لا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه(3).

و بالجملة: أخبار التحريف مع مخالفتها للكتاب الكريم، و وهن سند كثير منها، و إعراض أعيان الأصحاب عنها، و مخالفتها لحكم العقل و العادة و الاعتبار، غير قابلة لأن يعتدّ بها عاقل، فضلا عن فاضل، بل نقل كثير من الأصحاب الإجماع على خلافها كما ظهر من كاشف الغطاء، و الشيخ البهائي و غيرهما قدس اللّه أسرارهم.

و عن القاضي نور اللّه رحمه اللّه في كتاب (مصائب النواصب): ما نسب إلى الشيعة الإماميّة من وقوع التغيير في القرآن، ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة، إنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم(2).

و عن المفيد قدّس سرّه أنّه قال: قال جماعة من أهل الإماميّة إنّه لم ينقص من كلمة و لا من آية و لا من سورة، و لكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين عليه السّلام من تأويله و تفسير معانيه على حقيقة تنزيله(3).

و عن المقدّس البغدادي قدس اللّه روحه في (شرح الوافية )(4):و إنّما الكلام في النقيصة، و المعروف بين أصحابنا - حتّى حكي عليه الاجماع - عدم النقيصة أيضا (5) ،انتهى.

مع أنّ ما ذكر في الروايات من الساقطات كآية رجم الشيخ و الشيخة و أمثالها، و كلمة (من خلفه و رقيب) من قوله: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ (6) و غير ذلك، بعيد من فصاحة الكتاب العزيز و أسلوبه، بل يدفعها السنّة المتواترة من خبر الثّقلين.

ص: 68


1- المائدة: 67/5. (2و3) آلاء الرحمن 65:1.
2- آلاء الرحمن 64:1.
3- أوائل المقالات: 81.
4- الوافية في الأصول: للمولى عبد اللّه بن محمد، المشهور بالفاضل التوني، المتوفّى سنة 1071 ه .
5- آلاء الرحمن 65:1.
6- الرعد: 11/13.

قال الشيخ رحمه اللّه: و قد ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رواية لا يدفعها أحد، أنّه قال: «إنّي مخلّف فيكم الثّقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» قال: و هذا يدلّ على أنّه موجود في كلّ عصر، لأنّه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسّك بما لا نقدر على التمسّك به، كما أنّ أهل البيت و من يجب اتّباع قوله حاصل في كلّ وقت، و إذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحّته، فينبغي أن نتشاغل بتفسيره و بيان معانيه و نترك ما سواه(1).

و حمل كلامه رحمه اللّه على وجوده جميعا عند أهله كما صدر عن الفيض رحمه اللّه خلاف نصّه (2) ،فإنّ القرآن الذي فيه جميع الأحكام، حتّى أرش الخدش، غير مقدور التمسّك به (3) ،و لا ينتقض بعدم إمكان التمسّك بالعترة في زمان الغيبة، فإنّ المراد بالتمسّك بهم تولّيهم و الأخذ بأقوالهم، و هذا ممكن لكلّ أحد في كلّ عصر لوجود رواياتهم، و إن لم يمكن التشرّف بحضرتهم، و اكتساب الفيوضات الخاصّة من زيارتهم، و اقتباس الأنوار ببركة صحبتهم.

فيتبيّن من جميع ما فصّلناه عدم المجال لاحتمال وقوع التحريف في القرآن الشريف بوجه من الوجوه، فضلا عن القول به من كلّ وجه.

الطّرفة الحادية عشرة فى عدد سور القرآن، و بيان الاختلاف فيه

المشهور بين الإمامية رضوان اللّه عليهم أنّ عدد سور الكتاب العزيز مائة و اثنا عشر، لعدّهم الضّحى و الانشراح سورة واحدة، و الفيل و قريش أيضا سورة واحدة، بل ادّعى بعض الأساطين الإجماع عليه (4) ،و عليه النصوص المعتبرة عن أهل البيت عليهم السّلام(5).

و نقل جماعة من العامّة أنّ في مصحف أبيّ أنّ سورة الفيل و سورة لإيلاف واحدة(6).

و نقل عن طاوس و غيره من مفسّري العامّة، على ما في (إتقان السّيوطي): أنّ الضّحى و أ لم نشرح

ص: 69


1- تفسير التبيان 3:1.
2- راجع تفسير الصافي 49:1.
3- لعلّه يريد به القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين علي عليه السّلام، و هو لا يختلف عن الكتاب الذي بين أيدينا إلاّ في الترتيب، حيث إنه عليه السّلام جمعه على ترتيب النزول، و قدّم فيه المنسوخ على الناسخ، و كتب فيه تأويل بعض الآيات و تفسيرها.
4- اعتقادات الصدوق: 93.
5- مجمع البيان 769:10 و 827.
6- تفسير الرازي 104:32.

سورة واحدة(1).

و خالف في ذلك أكثرهم، و ذهبوا إلى أنّ عدد السور مائة و أربع عشرة، و ادّعوا عليه إجماعهم(2).

نعم، قال بعضهم بكونه مائة و ثلاث عشرة، بجعل الأنفال و البراءة واحدة، لعدم البسملة بينهما، و لما روي عن مجاهد و سفيان و أبي روق (3) ،و هو بمكان من الضعف لاشتهار تعدّدهما و تعدّد اسمهما بين المسلمين، و لرواية المجمع عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة براءة؛ لأنّ بسم الله للأمان و الرّحمة، و نزلت براءة لرفع الأمان بالسيف »(4).

و عن ابن عبّاس، قالت: سألت علي بن أبي طالب: لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟قال: «لأنّها أمان، و براءة نزلت بالسيف »(5).

و قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني، و إلى براءة و هي من المئين، فقرنتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتموها في السبع الطوال ؟ فقال عثمان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينزل عليه السور ذات(6) العدد...(7) الخبر، و قد مرّ تمامه في بعض الطرائف(8) السابقة(9).

و روى الصّدوق رحمه اللّه في (ثواب الأعمال)، و العيّاشي، عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الأنفال و سورة البراءة في كلّ شهر لم يدخله نفاق أبدا »(10).

فمن جميع ذلك، و من عدم ظهور شبهة في تعدّدهما بين الأصحاب، مع تعرّضهم لاتّحاد بعض السور كما مرّ، لا ينبغي الإشكال في تعدّد البراءة و الأنفال، و إنّ ما رواه الطّبرسيّ و العيّاشيّ عليهما الرّحمة عن الصادق عليه السّلام: «الأنفال و براءة واحد»(11) مؤوّل أو مطروح.

ص: 70


1- الإتقان في علوم القرآن 228:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 225:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 225:1.
4- مجمع البيان 4:5.
5- مستدرك الحاكم 330:2.
6- في المستدرك: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مما يأتي عليه الزمان و هو ينزل عليه من السور ذوات.
7- مستدرك الحاكم 330:2.
8- كذا، و الطرائف جمع طريفة، أما الطرفة فجمعها طرف.
9- تقدم في الطرفة الخامسة.
10- ثواب الأعمال: 106، تفسير العيّاشي 1768/213:2.
11- مجمع البيان 4:5، تفسير العيّاشيّ 1770/213:2.

الطّرفة الثانية عشرة في بيان معنى السورة، و أنّ اسم كلّ سورة كان بتوقيف من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

السّورة: اسم لطائفة من القرآن ذات فاتحة و خاتمة، مسمّاة باسم خاصّ بتوقيف من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قد نصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأسامي السور في الأحاديث و الآثار.

روي عن عكرمة، قال: كان المشركون يقولون: سورة البقرة، و سورة العنكبوت، يستهزءون بها، فنزل: إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (1).

و وجه التسمية بالأسامي المعيّنة المعروفة ظاهر، فإنّ سورة الحمد سميّت بالفاتحة لافتتاح القرآن بها، و سورة البقرة لذكر قصّة البقرة فيها، و لم تذكر في غيرها، و سورة آل عمران لذكر آل عمران فيها، و هكذا سائر السّور، و أمّا وجه تسمية كلّ قطعة معيّنة بالسورة لارتفاع منزلتها و شأنها لأنّها كلام اللّه.

و تطلق السورة على المنزلة الرفيعة، و قيل: إنّها مأخوذة من سور البلد لإحاطتها بآياتها، و اجتماعها كاجتماع البيوت بالسور، و منه السّوار لإحاطته بالسّاعد.

الطّرفة الثالثة عشرة في أنّ عدّة سور من القرآن سمّيت بالطوال و عدّة منها بالمئين و عدّة بالمثاني و عدّة بالمفصّل و وجه التّسمية

كما سمّيت كلّ سورة باسم خاصّ ، سمّيت عدّة سور باسم مخصوص.

عن (الكافي): بإسناده عن سعد الإسكاف، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أعطيت السور الطوال مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزّبور، و فضّلت بالمفصّل ثمان و ستّون سورة، و هو مهيمن على سائر الكتب، فالتوراة لموسى، و الإنجيل لعيسى، و الزبور لداود »(2).

ثمّ اعلم أنّه يستفاد من الرواية الشريفة امور:

ص: 71


1- الإتقان في علوم القرآن 187:1، و الآية من سورة الحجر: 95/15.
2- الكافي 10/439:2.

الأوّل: أنّ جميع سور القرآن يكون داخلا تحت العناوين الأربعة، لا تخرج منها سورة.

الثاني: أنّ الطوال مقدّم في الترتيب على المئين، و المئين على المثاني و المثاني على المفصّل.

الثالث: أنّ الطوال أفضل من المئين، لكونها بمنزلة التوراة التي هي أفضل من الإنجيل، و المئين أفضل من المثاني لكونها بمنزلة الإنجيل الذي هو أفضل من الزّبور، و يمكن استفادة كون المفصّل أفضل من المثاني، لأنّها ممّا فضّل به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: الطول كصرد. و في بعض روايات العامّة: الطوال، قيل: سمّيت به لكثرة طولها، و سمّي ما بعدها مئين لأنّ كلّ سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها، و سمّي ما ولي المئين بالمثاني، لأنّها ثنتها أي كانت بعدها، فهي لها ثوان و المئون لها أوائل.

و قال الفرّاء: المثاني: هي السور التي آيها أقلّ من مائة، لأنّها تثنّى أكثر ممّا يثنّى الطّول و المئون.

و قيل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر و الخبر، أو لتثنية القصص فيها.

و سمّي ما ولي المثاني من قصار السور بالمفصّل لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة. و قيل:

لقلّة المنسوخ منه، و لهذا يسمّى بالمحكم أيضا(1).

في تعيين السور الطوال و المئين و المثاني و المفصّل

روي عن سعيد بن جبير، قال: إنّ الذي تدعونه المفصّل هو المحكم، و آخره سورة النّاس بلا نزاع(2).

ثم لا إشكال في أنّ عدد الطوال سبع، لرواية واثلة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة »(3).

و عن ابن عباس رحمه اللّه: أنّ السّبع الطوال (4):البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنعام، و الأعراف (5).قال الراوي: فذكر السابعة فنسيتها. و في رواية اخرى عنه: أنّها الكهف(6).

و عن مجاهد و سعيد بن جبير: أنّها يونس(7).

و قال الفيض رحمه اللّه: الطوال(8) السبع بعد الفاتحة، على أن تعدّ الأنفال و البراءة واحدة، لنزولهما جميعا

ص: 72


1- الإتقان في علوم القرآن 220:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 221:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 218:1.
4- في الإتقان: الطّول.
5- الإتقان في علوم القرآن 220:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 220:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 220:1.
8- في تفسير الصافي: الطّول.

في المغازي، و تسميتهما بالقرينتين(1).

و فيه: أنّه بعد ما ثبت أنّ الأنفال و براءة سورتان، كيف يمكن عدّهما واحدة، إلاّ أن يحمل ما روي عن الصادق عليه السّلام من قوله: «الأنفال و براءة واحد»(2) على تنزيلهما منزلة الواحد من هذه الجهة، مؤيّدا بالإشعار النبويّ على تقدّم السبع الطوال على غيره.

ثمّ قال: و المئين: من بني إسرائيل إلى سبع سور [سمّيت بها] لأنّ كلاّ منها على نحو مائة آية.

و المفصّل: من سورة محمّد إلى آخر القرآن، سمّيت به لكثرة الفواصل [بينها ](3).

أقول: هذا مبنيّ على عدّ الضحى، و الانشراح، و الفيل، و قريش، أربع سور، و هذا خلاف الأخبار و المعروف بين الأصحاب، و عليه فلا بدّ أن يعدّ المفصّل من الجاثية حتّى تتمّ ثمان و ستّون سورة إلى آخر القرآن على ما في الرواية الشريفة.

ثمّ قال رحمه اللّه: و المثاني بقية السور، و هي التي تقصر عن المئين، و تزيد على المفصّل(4).

أقول: كان عليه أن يكتفي في تعيين المثاني بذكر بقيّة السور، إذ بعض المثاني لا تزيد على بعض سور المفصّل على ما حدّه، لأنّ عدد آيات سورة الرحمن التي جعلها في المفصّل ثمان و سبعون، و سورة الواقعة ستّ و تسعون، و ليس في المثاني بعد الكهف سورة تكون آياتها بهذا العدد إلاّ قليلا كطه، و الأنبياء، و المؤمنون، و الشّعراء، و الصّافّات.

و نقل عن جرير بن عبد الحميد أنّه قال: تأليف مصحف عبد اللّه بن مسعود، الطوال (5):البقرة، و آل عمران، و النساء، و الأنعام، و الأعراف، و المائدة، و يونس.

و المئين: براءة، و النحل، و هود، و يوسف، و الكهف، و بني إسرائيل، و الأنبياء، و طه، و المؤمنون، و الشعراء، و الصافّات.

و المثاني: الأحزاب، و الحجّ ، و القصص، و النّمل، و النّور، و الأنفال، و مريم، و العنكبوت، و الروم، و يس، و الفرقان، و الحجر، و الرّعد، و سبأ، و الملائكة، و إبراهيم، و ص، و الذين كفروا، و لقمان، و الزمر.

و الحواميم: حم المؤمن، و الزخرف، و السجدة، و حمعسق، و الأحقاف، و الجاثية، و الدخان.

ص: 73


1- تفسير الصافي 18:1.
2- مجمع البيان 4:5، تفسير العياشي 1770/213:2.
3- تفسير الصافي 18:1.
4- تفسير الصافي 18:1.
5- في الإتقان: الطّول.

و الممتحنات (1):إنّا فتحنا لك، و الحشر، و تنزيل السّجدة، و الطلاق، و ن و القلم، و الحجرات، و تبارك، و التغابن، و المنافقون، و الجمعة، و الصّفّ ، و قل أوحي، و إنّا أرسلنا، و المجادلة، و الممتحنة(2).

و المفصّل: من الرّحمن إلى آخر القرآن(3).

أقول: الظاهر من هذا الخبر أنّ الممتحنات و الحواميم عند ابن مسعود قسمان خارجان من الأقسام الأربعة، و أنّه كان ترتيب السور في مصحفه على خلاف المصحف الذي بأيدينا، إلاّ أنّه لا اعتبار بهذا النقل.

الطّرفة الرابعة عشرة في فوائد تقطيع القرآن سورا، و اختلافها في الطول و القصر و التوسّط

قال الزمخشريّ : الفائدة في تفصيل القرآن و تقطيعه سورا كثيرة، و كذلك أنزل اللّه التوراة و الإنجيل و الزبور، و ما أوحاه إلى أنبيائه مسوّرة، و بوّب المصنّفون في كتبهم أبوابا موشّحة الصدور بالتراجم.

منها: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع و أصناف كان أحسن و أفخم من أن يكون بابا واحدا.

و منها: أنّ القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب، ثم أخذ في آخر كان أنشط له و أبعث على التحصيل منه لو استمرّ على الكتاب بطوله، و مثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا، نفّس ذلك منه و نشط للسّير. و من ثمّ جزّئ القرآن أجزاء و أخماسا.

و منها: أنّ الحافظ إذا حفظ (4) السورة اعتقد أنّه أخذ من كتاب اللّه طائفة مستقلّة بنفسها، فيعظم عنده ما حفظه.

و منه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة و آل عمران جدّ فينا، و من ذلك(5) كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل.

و منها: أنّ التفصيل بسبب تلاحق الأشكال و النظائر و ملائمة بعضها لبعض، و بذلك تتلاحظ

ص: 74


1- (و الممتحنات) ليست في الإتقان.
2- زاد في الإتقان: و يا أيها النبي لم تحرم.
3- الإتقان 223:1.
4- في المصدر و الإتقان و البرهان: حذق.
5- في المصدر: ثمة، و في الإتقان و البرهان: ثم.

المعاني و النظم، إلى غير ذلك من الفوائد، انتهى(1).

و قيل: إنّ الحكمة في تسوير القرآن سورا تحقيق كون السورة بمجرّدها معجزة و آية من آيات اللّه، و الإشارة إلى أنّ كلّ سورة نمط مستقلّ ، فسورة يوسف تترجم عن قصّته، و سورة براءة تترجم عن أحوال المنافقين و أسرارهم، إلى غير ذلك.

و أمّا حكمة اختلاف السور طولا و قصرا، التنبيه على أنّ الطّول ليس من شرائط الإعجاز، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات و هي معجزة إعجاز سورة البقرة.

و أمّا الحكمة في جعلها مختلفة المراتب في الطول و القصر و التوسّط بينهما سهولة التعليم و التعلّم و تدريج الأطفال و المتعلمين من السور القصار إلى ما فوقها حتّى ينتهون إلى الأوساط و منها يتدرّجون إلى الطوال على اختلاف مراتبها، و تيسير اللّه على عباده في حفظ كتابه(2) و في قراءة سوره في أضيق الأوقات و أوساطها و طوالها في الصلوات و غيرها، إلى غير ذلك من الحكم و المصالح التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

الطّرفة الخامسة عشرة في أنّ البسملة جزء من كلّ سورة، بل هي أعظم آياتها

لا شبهة أنّ البسملة آية من آيات القرآن، و جزء من الفاتحة، و غيرها من السور عدا براءة، بل هي أعظم الآيات و أفضلها، حيث روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللّه الاعظم من ناظر العين إلى بياضها »(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه: بسم الله الرحمن الرحيم(4) الخبر.

و العياشي، عن الصادق عليه السّلام قال: «ما لهم ؟ - يعني العامّة - قاتلهم اللّه، عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها [و هي بسم الله الرحمن الرحيم]»(5) إلى غير ذلك من الروايات.

و أمّا كونها جزءا من الفاتحة، فلما روي في الصحيح عن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا

ص: 75


1- الكشاف 97:1، الإتقان في علوم القرآن 229:1، البرهان في علوم القرآن 334:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 228:1.
3- التهذيب 1159/289:2.
4- تفسير العياشي 77/100:1.
5- تفسير العياشي 89/103:1.

عبد اللّه عليه السّلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم، أ هي الفاتحة ؟ قال: «نعم».

قلت: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من السبع المثاني ؟ قال: «نعم (1) ،أفضلهنّ »(2).

و عن الحسن العسكري، عن آبائه عليهم السّلام، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه قال في حديث:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية من فاتحة الكتاب، و هي سبع آيات تمامها بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » (3).

و في (عيون الأخبار) قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: أخبرنا عن بسم الله الرحمن الرحيم، أ هي من فاتحة الكتاب ؟ قال.

فقال: «نعم، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقرؤها و يعدّها آية منها و يقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني »(4).

و عن أمّ سلمة - بالطريق العامّيّ -: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (5) إلى أن قالت: و عدّ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية، و لم يعدّ: عليهم(6).

و عن عليّ عليه السّلام أنّه سئل عن السبع المثاني، فقال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » فقيل له: إنّما هي ستّ آيات ؟ فقال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية »(7).

و عن ابن عبّاس، قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. قيل: فأين السابعة ؟ قال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (8).

و عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قرأتم الحمد، فاقرءوا، بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فإنّها أمّ القرآن، و أمّ الكتاب، و السبع المثاني، إحدى بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آياتها »(9).

و أمّا كونها كجزء من سائر السور، فلما روي عن معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إذا قمت للصلاة، أقرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في فاتحة القرآن ؟ قال: «نعم». قلت: فإذا قرأت فاتحة القرآن، أقرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مع السّورة ؟ قال: «نعم »(10).

ص: 76


1- في التهذيب: نعم، هي.
2- التهذيب 1157/289:2.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 10/29.
4- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 59/301:1.
5- الفاتحة: 1/1 و 2.
6- سنن الدارقطني 21/307:1.
7- سنن الدارقطني 40/313:1، السنن الكبرى 45:2.
8- السنن الكبرى 45:2.
9- سنن الدارقطني 36/312:1، السنن الكبرى 45:2، و فيهما: إحداها، بدل: إحدى آياتها.
10- الكافي 1/312:3، الاستبصار 1155/311:1.

و عن يحيى بن أبي عمران، قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك، ما تقول في رجل ابتدأ ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في صلاته وحده في أمّ الكتاب، فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها، فقال العباسي: ليس بذلك بأس ؟ فكتب بخطّه: «يعيدها مرّتين على رغم أنفه» يعني العباسي (1).و الظاهر أنّ إيجاب الإعادة لعدم تماميّة السورة، لا لكون البسملة واجبا مستقلا.

و من طرق العامّة، ما روي عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يعرف فصل السورة حتّى تنزل عليه بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .

و زاد البزّاز: فإذا أنزلت، عرف أنّ السورة [قد] ختمت، و استقبلت، أو ابتدئت سورة أخرى(2).

و عن ابن عبّاس، قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتّى تنزل بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ،فإذا انزلت علموا أنّ السورة قد انقضت(3).

و عنه أيضا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ،علم أنّها سورة(4).

و عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «كان إذا جاءني جبرئيل بالوحي، أوّل ما يلقي عليّ : بسم الله الرحمن الرحيم »(5).

و عنه أيضا، قال: «نزلت بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في كلّ سورة »(6).

و عن أنس، قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسّما فقال: «أنزلت عليّ آنفا سورة، فقرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (7).

و لا يخفى أنّ على ما ذكرنا اتّفقت الإماميّة رضوان اللّه عليهم أجمعين، و أمّا العامّة فقد اختلفوا على أقوال شتّى، منهم من انكر كونها من القرآن، و إليه أشار ابن عبّاس بقوله: استرق الشيطان من النّاس

ص: 77


1- الكافي 2/313:3، الاستبصار 1156/311:1، و المراد بأبي جعفر الجواد عليه السّلام، و العباس هو هشام بن إبراهيم، و كان يعارض الرضا و الجواد عليهما السّلام، و قوله «يعيدها مرّتين» يمكن أن يكون متعلّقا بكتب، فيكون من تتمة كلام الراوي، و قال الفيض: «يعيدها» يعني الصلاة أو البسملة، و الأول أظهر، «مرتين» متعلق بقوله: «فكتب» لا بقوله: «يعيدها» إذ لا وجه لتكرار الإعادة.
2- الإتقان في علوم القرآن 268:1.
3- مستدرك الحاكم 232:1.
4- مستدرك الحاكم 231:1.
5- سنن الدارقطني 13/305:1، الإتقان في علوم القرآن 270:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 270:1.
7- صحيح مسلم 53/300:1، الإتقان في علوم القرآن 270:1، و الآيتان من سورة الكوثر: 1/108.

أعظم آية من القرآن: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1).

و بقوله: أغفل النّاس آية من كتاب اللّه لم تنزل على أحد سوى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أن يكون سليمان بن داود، بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2).

و في ذيل كلامه إشارة إلى ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا أخرج من المسجد حتّى أخبرك بآية لم تنزل على نبيّ بعد سليمان غيري» ثمّ قال: «بأيّ شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصّلاة ؟» قلت: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . قال: «هي هي »(3).

و ما عن الباقر عليه السّلام: «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه، بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » (4) و ينبغي الإتيان بها عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.

و منهم من قال إنّها آية مستقلّة ليست جزءا من سورة.

و منهم من قال إنّها جزء من الفاتحة دون غيرها من السور.

و استدلّ من قال منهم بأنّها جزء من جميع السور بأنّه يكفي في إثبات تواتر كونها من جميع السور إثباتها في مصاحف الصّحابة فمن بعدها بخطّ المصحف مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه كأسماء السور، و آمّين، و غير ذلك، فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخطّه من غير تمييز، لأنّ ذلك يحمل النّاس على اعتقادها قرآنا فيكونون مغرّرين بالمسلمين، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا، و هذا ممّا لا يجوز اعتقاده في الصّحابة.

إن قيل: لعلّه اثبتت للفصل بين السور. اجيب: بأنّ هذا فيه تغرير، و لا يجوز ارتكابه لمجرّد الفصل، و لو كانت لكتبت بين براءة و الأنفال.

الطّرفة السادسة عشرة في أنّ آيات الكتاب العزيز بين محكم و متشابه و في تعريف كلّ منها

لا ريب في أنّ آيات الكتاب العزيز قسمان: محكم و متشابه، كما قال اللّه تعالى: آياتٌ مُحْكَماتٌ

ص: 78


1- الإتقان في علوم القرآن 268:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 268:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 268:1.
4- تفسير العياشي 77/100:1.

هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (1) و اختلفت في تعريفهما الروايات و كلمات العلماء.

و الحقّ أنّ المراد بالمحكم: هو الكلام الواضح الدّلالة بحيث لا يكون للعرف - و لو بملاحظة القرائن المكتنفة به - تحيّر في استفادة المراد منه، و لا يحتاج في تعيين المقصود منه إلى الرّجوع إلى العالم أو إلى القرائن المنفصلة و الأدلّة العقليّة و النّقليّة الخارجيّة.

و المراد بالمتشابه: هو الكلام المجمل أو المبهم الّذي يشتبه المراد منه على العرف، بحيث لا يكون له بالوضع أو بالقرائن المتّصلة حقيقة أو حكما ظهور في المراد منه، بل لا بدّ في الاستفادة منه من الرّجوع إلى العالم الخبير بمراد المتكلّم، أو إلى الاجتهاد في تحصيل القرائن المنفصلة عن الكلام من حكم العقل المستقلّ ، أو سائر كلمات المتكلّم.

و لعلّه إلى ما ذكرنا يرجع ما عن العيّاشيّ رحمه اللّه عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المحكم و المتشابه فقال:

«المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهله»(2) فإنّ الظاهر أنّ المراد من قوله: «ما يعمل به»، هو الكلام الّذي لا يتوقّف العرف في فهم المراد منه و العمل به، و هو جميع آيات الأحكام.

كما روي عن ابن عبّاس، قال: المحكمات: ناسخه، و حلاله، و حرامه، و حدوده، و فرائضه، و ما يؤمن به و يعمل به، و المتشابهات: منسوخه، و مقدّمه، و مؤخّره، و أمثاله، و أقسامه، و ما يؤمن به و لا يعمل به(3).

و عن مجاهد، قال: المحكمات: ما فيه الحلال و الحرام، و ما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضا(4).

في أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و المعصومين من ذريته عليهم السّلام عالمون بتأويل المتشابه، و في تغليط القائلين باختصاص علمه باللّه تعالى

و عن الرّبيع، قال: المحكمات: هي أوامره و زواجره (5).إلى غير ذلك من التعريفات، فإنّ جميعها بيان لموارد التّنصيص و الظهور، و هي جميع الأحكام دون غيرها، فإنّ في غير آيات الأحكام كثيرا ما يكون الإجمال و الإهمال.

ثمّ إنّه قد غلط من قال باختصاص العلم بتأويل المتشابهات باللّه سبحانه، و إنّه ممّا استأثر به ذاته المقدّسة، و لا يعلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصياؤه المعصومون صلوات اللّه

ص: 79


1- آل عمران: 7/3.
2- تفسير الصافي 295:1، تفسير العيّاشي 38/87:1 «نحوه».
3- تفسير الطبري 115:3.
4- تفسير الطبري 115:3، الإتقان في علوم القرآن 4:3.
5- الإتقان في علوم القرآن 5:3، و فيه: هي الآمرة الزاجرة.

عليهم أجمعين، فإنّ فائدة الكلام تفهيم الغير، فلو خلا عن هذه الفائدة، و لو بالنسبة إلى الواحد، كان لغوا، و الحكيم تعالى منزّه عنه، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يتحدّى بكلّ آية من الكتاب العزيز، و لا يمكن أن يتحدّى بما لا يعرف المراد منه، و لا يفهم معناه، مع أنّه تعالى استثنى عن جميع الخلق غير العالمين بتأويل المتشابهات الراسخين في العلم، و قرنهم بذاته المقدّسة في العلم بتأويلها، و المراد بالراسخين في العلم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصياؤه من بعده صلوات اللّه عليهم كما في رواية. [عن أحدهما عليهما السّلام] قال: «فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الرّاسخين في العلم، قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »(1).

و عن أمير المؤمنين - في حديث - قال: «إنّ اللّه جلّ ذكره بسعة رحمته و رأفته بخلقه، و علمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كلامه (2) ،قسّم كلامه ثلاثة أقسام؛ و جعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه، و لطف حسّه، و صحّ تميّزه، ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلاّ اللّه و أنبياؤه(3) و الراسخون في العلم »(4).

و عن العيّاشيّ : عن الصادق عليه السّلام - في حديث - قال: «نحن الرّاسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله »(5).

و عن ابن عبّاس بطريق عامّي في قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (6) قال: أنا ممّن يعلم تأويله(7).

و عن مجاهد، في قوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال: يعلمون تأويله، و يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ (8).

و عن الضحّاك، قال: الرّاسخون في العلم يعلمون تأويله، و لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه و منسوخه (7) ،و لا حلاله و لا(10) حرامه، و لا محكمه عن(11) متشابهه(12).

و عن النوويّ على ما نقله السيوطيّ عنه، أنّه قال في (شرح مسلم): إنّه الأصح؛ لأنّه يبعد أن يخاطب اللّه عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته(13).

ثمّ أنّ منشأ غلط أكثر أهل السّنّة في المقام، توهّم كون الواو في وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استئنافا

ص: 80


1- الكافي 2/166:1.
2- في الاحتجاج: كتابه.
3- في الاحتجاج: و امناؤه.
4- الاحتجاج: 253، تفسير الصافي 295:1.
5- تفسير العيّاشيّ 648/293:1، تفسير الصافي 295:1.
6- آل عمران: 7/3. (7و8) الإتقان في علوم القرآن 6:3.
7- في الإتقان: من منسوخه. (10و11) في الإتقان: من. (12و13) الإتقان في علوم القرآن 6:3.

و [ما] بعده مبتدأ و قوله: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ (1) خبره، و هو بمكان من الضّعف لقوّة ظهور الواو في العطف، و عدم وجود قرينة في المقام تليق أن تكون صارفا عنه.

و أضعف منه تأييد بعضهم هذا التّوهّم بأن الآية دلّت على ذمّ متّبعي المتشابه، و وصفهم بالزّيغ و ابتغاء الفتنة، و على مدح الذين فوّضوا العلم إلى اللّه، و سلّموا إليه، حيث إنّ الآية دالّة على ذمّ أهل الزيغ غير العالمين بتأويل المتشابه، بأنّهم مع جهلهم بتأويله يؤوّلونه و يتّبعونه لا طلبا للحقّ ، بل ابتغاء للفتنة، ففيهم جهات عديدة الذمّ .

و أمّا الرّاسخون في العلم فإنّهم لعلمهم بتأويله، و معرفتهم بالعلوم المندرجة في المتشابهات، يتجاهرون بالإيمان بها، و يشهدون على رءوس الأشهاد بأنّها كلام اللّه كالمحكمات.

و لو كان أهل الزيغ و العلم مشاركين في الجهل بالتأويل متفاوتين في الإيمان و النفاق لم يحسن توصيف المؤمنين بالعلم، بل كان الأنسب أن يقال: (و أما الرّاسخون في الايمان يقولون آمنّا به كلّ من عند ربنا) مع أنّ التأييد المذكور لا يقاوم البرهان الّذي قدّمناه من لزوم اللّغو على الحكيم، و هو محال عند العدليّة، و مستبعد عند من يجوّز القبيح على اللّه من الأشاعرة.

و أمّا استدلالهم بما رووه بطرقهم، عن الأعمش، قال: إنّ في قراءة ابن مسعود (إن تأويله إلاّ عند اللّه و الراسخون في العلم يقولون آمنّا به)(2) فموهون سندا و دلالة، لعدم كون ما نقل عنه قرآنا يقينا، بل هو تفسير له، و لعلّ مراده أنّ الراسخين لا يؤوّلون المتشابه من قبل أنفسهم و أهوائهم، بل بتعليم اللّه إيّاهم.

فالعلم به أولا عند اللّه، ثمّ بإفاضته يعلمه الراسخون و يقولون: آمنّا به كلّ من المحكم و المتشابه من عند اللّه، كاشفات عن العلوم غير المتناهية الإلهيّة، و بهذا يجمع بين الرواية السابقة عن ابن عبّاس، و ما روي عنه من قراءته: (و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه و يقول الراسخون في العلم آمنّا به)(3) و ما روي عن أبيّ بن كعب أنّه قرأ: (و يقول الرّاسخون )(4).

و مثله في الوهن استدلالهم بما روي عن أبي مالك الأشعري أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «لا أخاف على أمّتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، و أن يفتح لهم الكتاب

ص: 81


1- آل عمران 7:3.
2- الإتقان في علوم القرآن 7:3، و الآية من سورة آل عمران: 7/3.
3- الإتقان في علوم القرآن 6:3.
4- الإتقان في علوم القرآن 7:3.

فيأخذه المؤمن، يبتغي تأويله و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه »(1).حيث إنّ المراد من الأمّة المخوف عليهم التأويل، غير الرّاسخين في العلم، كما أنّ المراد من الّذين يخاف عليهم التحاسد و المقاتلة غير المعصومين منهم، و لا دلالة لعدم ذكر بقيّة الآية على شيء.

كما أنّ الخطاب فيما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعلموا به، و ما تشابه فآمنوا به»(2) متوجّه إلى غير الرّاسخين في العلم العالمين بتأويله من لدن حكيم عليم، فإنّهم الّذين لا يجوز لهم إلاّ الإيمان و التعلّم من أهل العلم و الذّكر.

و كذا ما عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «كان الكتاب الأوّل ينزل من باب واحد على حرف واحد، و نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، و آمر، و حلال، و حرام، و محكم، و متشابه، و أمثال، فأحلّوا حلاله، و حرّموا حرامه، و افعلوا ما أمرتم به، و انتهوا عمّا نهيتم عنه، و اعتبروا بأمثاله، و اعلموا بمحكمه، و آمنوا بمتشابهه، و قولوا آمنّا به كلّ من عند ربّنا »(3).

فحاصل مدلول هذه الروايات، أنّ وظيفة غير الرّاسخين من النّاس السّكوت عن تأويل المتشابهات، و عدم القول فيه من قبل أنفسهم، و الإيمان بها، و الإقرار بأنّها من عند اللّه، كما نقل عن ابن عبّاس رحمه اللّه أنّه قال: نؤمن بالمحكم و ندين به، و نؤمن بالمتشابه و لا ندين به - أي لا نعمل به - و هو من عند اللّه كلّه(1).

و أعجب من جميع الاستدلالات، استدلالهم بصنيع عمر بن الخطّاب، حيث روي أنّ رجلا يقال له عبد اللّه بن صبيغ(2) قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر و قد أعدّ له عراجين النّخل، فقال: من أنت ؟ قال: أنا عبد اللّه صبيغ، فأخذ [عمر] عرجونا فضربه حتّى أدمى رأسه(3).

و في رواية: فضربه بالجريد حتّى ترك ظهره دبرة ثمّ تركه حتّى برى، ثمّ عاد [له] ثمّ تركه حتّى برئ، ثمّ دعاه ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، فأذن له الرّجوع إلى أرضه، و كتب إلى أبي موسى الأشعري: ألاّ يجالسه أحد من المسلمين، انتهى(4).

فإنّ الاستدلال بهذا الخبر على الطّعن في عمر و أنّه أظلم الظالمين، أولى من الاستدلال به على

ص: 82


1- الإتقان في علوم القرآن 8:3.
2- في النسخة: صنيع (بضيع)، و ما أثبتناه من المصادر.
3- تفسير القرطبي 14:4، الدر المنثور 152:2، الإتقان في علوم القرآن 8:3.
4- الإتقان في علوم القرآن 8:3.

عدم العلم بتأويل المتشابهات حتّى للرّاسخين، لأنّ فعله لا يكون حجّة إلاّ على ظلمه، و لعلّ ارتكابه له في حقّ هذا السائل المتعلّم، من جهة أنّ سؤاله هذا كان سببا لاهتدائه إلى باب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و شدّة ظهور فضله على النّاس، و جهل غيره.

و كأنّ ذهاب أكثر شيعته إلى القول بجهل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالكتاب الّذي أنزل عليه، لتلازم اعترافهم بعلم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله اعترافهم بعلم أمير المؤمنين عليه السّلام به، و اضطرار الخلق إلى بابه، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله باتّفاق الأمّة مدينة العلم، و عليّ بابها، و إليه أشار أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث بيان المتشابه حيث قال:

«إنّما فعل [اللّه] ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من علم الكتاب ما لم يجعله لهم، و ليقودهم الاضطرار إلى الائتمار بمن ولاّه أمرهم فاستكبروا عن طاعته تعزّزا و افتراء على اللّه عزّ و جل...» الخبر(1).

الطّرفة السابعة عشرة في حكم كون كثير من الآيات متشابها، و عدم كون جميعها محكمات

لا يخفى أنّ فوائد جعل كثير من آيات القرآن متشابهات، و عدم جعل كلّها محكمات كثيرة و حكمه وفيرة:

منها: ما أشار إليه أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في الرواية السابقة من اضطرار النّاس إلى الرّجوع إلى الرّاسخين في العلم، و الائتمار بأوامرهم، فإنّهم إذا حضروا في مجالسهم لاستفادة علم القرآن، عرفوا شأنهم و علوّ مقامهم، و ازدادوا [في] موالاتهم و محبّتهم، و اقتدوا بأعمالهم، و اكتسبوا من أخلاقهم.

و منها: تبيّن فضل العلماء على سائر النّاس و اختلاف مراتبهم.

و منها: اضطرار أهل الإيمان إلى التّدبر و التّفكّر في القرآن، فبالتّدبّر فيه تظهر دقائقه، و تكشف حقائقه، و يحصل كمال التوحيد، و تمام المعرفة، و قوّة اليقين، و ثبات الإيمان، و لو كان كلّه محكما لتعلّقوا به لسهولة مأخذه، و أعرضوا عن الغور في غوامضه.

ص: 83


1- الاحتجاج: 253.

و منها: شدّة الاهتمام بحفظه، و زيادة الحبّ بمضامينه، إذ الانسان إذا تحمّل المشقّة في تحصيل شيء، كان له أحبّ و أحفظ .

و منها: زيادة عظم القرآن في الأنظار، حيث إنّ العادة قاضية بأنّ كلّ كتاب كان فهم مطالبه أشكل، كان قدره عند النّاس أعظم.

و منها: فتنة الخلق و امتحانهم بها، و تبيّن الصادقين في الإيمان من الكاذبين، فإنّ الحكمة البالغة مقتضية لأن لا ينسدّ على أحد باب الغيّ و الضّلال في حال من الأحوال، و لا يكون لأحد إلجاء و قهر على الالتزام بالحقّ و قبول الرّشاد، و إذا كانت جميع الآيات محكمات لم يكن لأهل الزيغ مجال ابتغاء الفتنة و الفساد مع إتمام الحجّة عليهم بالأمر بالرجوع فيها إلى الحجج البالغة، و الزّجر عن التكلّم فيها، و ابتغاء تأويلها بالأهواء الزائغة.

و الحاصل: أنّ الحكيم المتعال جعل كتابه التّدوينيّ مطابقا لكتابه التّكوينيّ ، و كما أنّه جعل غالب آيات الكتاب التّكويني من موجودات العالم متشابهات، حيث جعل الطبائع فيها، و الأسباب و المؤثّرات لها، حتّى يبقى للذّوات الخبيثة و ذوي الأهواء الفاسدة و العقول المغلوبة الكاسدة مجال للقول بخالقيّة الطبيعة، و ألوهيّة الشمس و سائر الأجرام الفلكيّة، و إنكار الصانع الحكيم لعدم علمهم بتأويلها، و قصور نظرهم عن رؤية ما وراء طبائعها و أسبابها، و زيغ قلوبهم عن إدراك مسبّب الأسباب و خالقها، مع إتمام الحجّة عليهم بإرسال العقل، العالم بتأويل تلك المتشابهات إليهم، و جعله هاديا لهم، و تأييده بالأنبياء المرسلة و الكتب المنزلة.

فالذّوات الخبيثة بزيغ قلوبهم يؤوّلون تلك الموجودات المتشابهات التكوينيّة من قبل أنفسهم، و يتّبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة، و أمّا الذّوات الطيّبة، و النفوس الزكيّة، فببصيرة قلوبهم يراجعون إلى العقل السليم الذي هو الإمام الراسخ في العلم، و يتعلّمون منه التأويل، و يتمسّكون بالبرهان من عدم إمكان كون المخلوق خالقا، و المتغيّر واجبا، فعند ذلك يقولون: آمنّا، كلّ من المحكمات الواضحات الدلالات على خالقها، و المتشابهات من الموجودات بالأسباب و المؤثّرات التي جميعها آيات كتاب التّكوين، من عند ربّنا.

كذلك جعل كثيرا من آيات كتاب التّدوين و هو القرآن المبين متشابهات، ليمتاز أهل الزيغ و النفاق من المتظاهرين بالإيمان بالكتاب، عن أهل الصدق و الإخلاص، فلو لم يكن في موجودات العالم

ص: 84

تشابه، و لم يكن في كتاب التّكوين متشابه، بل كان كلّها محكمات، لم يحصل الامتحان و الاختيار، و كان إيمان المؤمن شبه الإلجاء و الإجبار، و كذلك لو لم يكن في القرآن متشابهات لم يحصل للمقرّين به الفتنة و الامتحان أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (1).

الطّرفة الثامنة عشرة في أنّ الحروف المقطّعة التي تكون في أوائل السّور من أبين مصاديق المتشابه، و بيان المراد منها

من أبين مصاديق المتشابه في القرآن، الحروف المقطّعات التي تكون في أوائل السور، و لا شبهة أنّها رموز و أسرار بين اللّه تعالى و الرّاسخين في العلم، لا يطّلع عليها غيرهم.

عن الشّعبيّ ، أنّه سئل عن فواتح السور، فقال: إنّ لكلّ كتاب سرّا، و إنّ سرّ هذا القرآن فواتح السور(2).

و اختلفت الأخبار في بيان المراد منها، و أكثرها تدلّ على أنّ كلّ حرف منها رمز من اسم من الأسماء الحسنى، كما عن السّدّي، قال: فواتح السور أسماء من أسماء الربّ جلّ جلاله، فرّقت في القرآن(3).

و قال الزّجّاج: إنّ العرب كانوا ينطقون بالحرف الواحد، كناية عن الكلمة التي هو منها(4).

و قال القاضي أبو بكر ابن العربي في الحروف المقطّعات: إنّه لو لا أنّ العرب كانوا يعرفون أنّ لها مدلولا متداولا بينهم، لكانوا أوّل من أنكر ذلك على النبي صلّى اللّه عليه و آله بل تلا عليهم حم فصّلت و ص و غيرهما، فلم ينكروا عليه ذلك، بل صرّحوا بالتسليم له في البلاغة و الفصاحة مع تشوّقهم إلى عثرته، و حرصهم على زلّته، فدلّ على أنّه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار لهم فيه، انتهى(5).

أقول: كان يكفي تداول التّكنية و الإرماز بالحروف المقطّعة في عدم تمكنهم على الإنكار و الاعتراض، و لا يلزم معرفتهم بخصوص المعنى تفصيلا، و لعلّ مراده المعرفة الاجماليّة. و قد تظافرت روايات الخاصّة و العامّة على أنّها رموز و كنايات عن أسماء اللّه تعالى و تعيينها و تبيينها.

ص: 85


1- العنكبوت: 2/29.
2- الإتقان في علوم القرآن 24:3.
3- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
4- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
5- الإتقان في علوم القرآن 30:3.

عن (المجمع): عن الصادق عليه السّلام: «أنّ (ص) اسم من أسماء اللّه تعالى، به أقسم اللّه »(1).

و عن ابن عباس، قال: (الم) و (طسم) و (ص) و أشباهها قسم أقسم اللّه به، و هو من أسماء اللّه تعالى(2).

و عن أبي العالية في (الم) قال: هذه الأحرف الثلاثة من الأحرف التسعة و العشرين، دارت بها الألسن، ليس منها حرف إلاّ و هو مفتاح اسم من أسمائه تعالى(3).

أقول: يدلّ على ذلك ما وراه الصدوق رحمه اللّه في (أماليه) من تفسير المعصوم: «كلّ حرف من حروف (أبجد) باسم من أسماء اللّه تعالى »(4).

و عن تفسير ابن ماجة، من طريق نافع، عن أبي نعيم القارئ، عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه أنّها سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: «يا كهيعص اغفر لي »(5).

و عن (المجمع): عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه قال في دعائه: «[أسألك يا] كهيعص »(6).

و عن الصادق عليه السّلام في حديث: «و أمّا (الم) في [أوّل] آل عمران فمعناه: أنا اللّه المجيد »(7).

و عنه عليه السّلام في حديث: «و (المص) معناه: أنا اللّه المقتدر الصادق »(8).

و من طريق العامّة عن الضحاك مثله(9).

و قيل: معنى (المص): المصوّر(10).

و عن محمد بن كعب القرظي، قال: (المص) الألف: من اللّه، و الميم من الرحمن، و الصاد: من الصّمد(11).

و عن ابن عباس: معنى (المص): أنا اللّه أفصل(12).

و عن الصادق عليه السّلام في كهيعص: «معناه أنا الكافي، الهادي، الوليّ ، العالم، الصادق الوعد »(13).

و عنه عليه السّلام أيضا: «كاف لشيعتنا، هاد لهم، وليّ لهم، عالم بأهل طاعتنا، صادق لهم وعده حتّى يبلغ

ص: 86


1- مجمع البيان 726:8، تفسير الصافي 290:4.
2- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
3- الإتقان في علوم القرآن 30:3.
4- انظر أمالي الصدوق: 508/395.
5- الإتقان في علوم القرآن 28:3.
6- مجمع البيان 775:6، تفسير الصافي 273:3.
7- معاني الأخبار: 1/22.
8- معاني الأخبار: 1/22.
9- الإتقان في علوم القرآن 25:3.
10- الإتقان في علوم القرآن 25:3.
11- الدر المنثور 413:3.
12- الاتقان في علوم القرآن 24:3.
13- معاني الأخبار: 1/22.

[بهم] المنزلة الّتي وعدهم إياها في نصّ (1) القرآن »(2).

و عن ابن مسعود و ناس من الصحابة، في قوله تعالى: كهيعص (3):قالوا هو هجاء مقطّع؛ الكاف من الملك، و الهاء من اللّه، و الياء و العين من العزيز، و الصاد من المصوّر (4).و في نقل آخر: و الصاد من الصّمد(5).

و عن أمّ هاني، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «كاف، أمين (4) ،عالم، صادق »(5).

أقول: الظاهر أنّه سقط من الرواية تفسير الهاء، كما أنّ الظاهر سقوط تفسير الياء أو العين ممّا نقل عن ابن مسعود.

و عن ابن عبّاس في قوله: كهيعص قال: الكاف: الكافي، و الهاء: الهادي، و العين: العالم، و الصاد: الصادق(6).

و عن عكرمة في قوله: كهيعص قال: يقول: أنا الكبير، أنا الهادي، أنا عليّ أمين صادق(7).

و عن ابن عبّاس، قال: الكاف من كريم، و الهاء من هاد، و الياء من حكيم، و العين من عليم، و الصاد من صادق(10).

و عنه أيضا: كاف، هاد، أمين، عزيز، صادق(11).

و عن محمّد بن كعب، في قوله: طه (8) ،قال: الطاء من ذي الطّول(9).

أقول: و في عدّة من روايات الخاصّة و العامّة، أنّ (طه) اسم من أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و في بعضها:

معناه: يا طالب الحقّ (10).

و عن محمّد بن كعب، في قوله: طسم (11) ،قال: الطاء من ذي الطّول، و السين من القدّوس، و الميم من الرحمن(12).

ص: 87


1- في المعاني و الصافي: بطن.
2- معاني الأخبار: 6/28، تفسير الصافي 273:3.
3- مريم: 1/19. (4و5) الدر المنثور 478:5.
4- في الإتقان: كاف، هاد، أمين، و في الدر: كاف، هاد.
5- الإتقان في علوم القرآن 26:3، الدر المنثور 478:5.
6- الدر المنثور 25:5.
7- الإتقان في علوم القرآن 26:3، الدر المنثور 478:5. (10و11) الإتقان في علوم القرآن 25:3.
8- طه: 1/20.
9- الدر المنثور 551:5.
10- معاني الأخبار: 1/22، و زاد فيه: الهادي إليه.
11- الشعراء: 1/26، القصص: 1/28.
12- الإتقان في علوم القرآن 26:3.

و عن الصادق عليه السّلام: «أمّا حم (1) فمعناه: الحميد المجيد »(2).

و عن سعيد بن جبير، في قوله: حم قال: الحاء اشتقّت من الرحمن، و الميم اشتقّت من الرّحيم(3).

و عن محمّد بن كعب، في قوله: حم * عسق (4) قال: الحاء و الميم من الرحمن، و العين من العليم، و السين من القدّوس، و القاف من القاهر(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أمّا حم * عسق فمعناه: الحكيم، المغيث (6) ،العالم، السميع، القادر، القويّ »(7).

و قال بعض العامّة: إنّ القاف هنا اسم الجبل المحيط بالأرض و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله: ق (8).

و حكي عن الكرماني في قوله: ق أنّه حرف من اسمه قادر و قاهر(9).

و قال بعض في قوله: ن (10):إنّه مفتاح اسمه تعالى: نور و ناصر(11).

و روي عن الصادق عليه السّلام: «إنّه اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله »(12).

أقول: يمكن أن يستفاد من مجموع الروايات و اختلافها أنّ كلّ حرف من الحروف المقطّعات رمز عن الأسماء الحسنى التي تضمّنت ذلك الحرف، فالقاف رمز عن اسم القاهر، و القادر، و القيّوم، و غير ذلك، و الصاد: رمز عن المصوّر، و الصّمد، و الصادق، و غير ذلك، و العين: رمز عن العزيز، و العالم، و العليم، و أمثال ذلك.

و في روايات عديدة: أنّ مجموع الحروف المقطّعات رمز عن اسم اللّه الأعظم.

عن القمّي، عن الباقر عليه السّلام، في بيان الحروف المقطّعات: «هو حروف من اسم اللّه الأعظم المقطوع،

ص: 88


1- غافر: 1/40،....
2- معاني الأخبار: 1/22.
3- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
4- الشورى: 1/42 و 2.
5- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
6- في المعاني: الحليم المثيب.
7- معاني الأخبار: 1/22.
8- معاني الأخبار: 1/22، الإتقان في علوم القرآن 33:3، و الآية من سورة ق: 1/50.
9- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
10- القلم: 1/68.
11- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
12- مختصر بصائر الدرجات: 67، الخصال: 2/426 عن الباقر عليه السّلام.

يؤلّفه النبي صلّى اللّه عليه و آله و الامام عليه السّلام، فيكون الاسم الأعظم الذي إذا دعي اللّه به أجاب »(1).

و عن المعاني: عن الصادق عليه السّلام: الم هو حرف من حروف اسم اللّه الأعظم [المقطّع في القرآن الذي] يؤلّفه النبيّ و الإمام، فإذا دعا به اجيب »(2).

و عن ابن مسعود، بسند صحيح عند العامّة: هو اسم اللّه الأعظم(3).

و عن ابن عبّاس، قال: الم اسم من أسماء اللّه الأعظم(4).

و نقل ابن عطيّة عن بعض القول: بأنّها الاسم الأعظم، إلاّ أنّا لا نعرف تأليفه منها(5).

و مقتضى بعض الروايات أنّ الراسخين في العلم يستفيدون من تأليفاتها و من أعدادها بحساب الجمّل و علم الحروف، علوما كثيرة، كما عن الباقر عليه السّلام: «علم كلّ شيء في عسق » (6).

و عن (المجمع) عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه قال: «لكلّ كتاب صفوة، و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي »(7).

و عن (المعاني) و (العياشي): عن الصادق عليه السّلام أنّه أتاه رجل من بني أميّة و كان زنديقا، فقال له: قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه: المص (8) أيّ شيء أراد بهذا، و أي شيء فيه من الحلال و الحرام، و أيّ شيء فيه مما ينتفع به النّاس ؟

قال: فاغتاض عليه السّلام من ذلك، فقال: «أمسك ويحك؛ الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، كم معك ؟» فقال الرجل: مائة و إحدى و ستّون. فقال عليه السّلام: «إذا انقضت إحدى و ستّون و مائة ينقضي ملك أصحابك».

قال: فنظر الرجل فلمّا انقضت إحدى و ستّون(9) و مائة يوم عاشوراء دخل المسوّدة الكوفة، و ذهب ملكهم(10).

و في رواية أبي لبيد المخزوميّ ، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ لي في حروف القرآن المقطّعة لعلما

ص: 89


1- تفسير القمي 267:2.
2- معاني الأخبار: 2/23.
3- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
4- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
5- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
6- تفسير القمي 268:2، و الآية من سورة الشورى: 2/42.
7- مجمع البيان 112:1.
8- الأعراف: 1/7.
9- كذا في العياشي، و في معاني الأخبار: سنة إحدى و ثلاثون، و هو الصحيح الموافق لتاريخ سقوط دولة بني أمية، و للعلامة المجلسي رحمه اللّه تأويل للتاريخ المذكور (161). راجع بحار الأنوار 1/163:10.
10- تفسير العياشي 1544/135:2، معاني الأخبار: 5/28.

جمّا، إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل الم * ذلِكَ الْكِتابُ (1) فقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله حتّى ظهر نوره، و ثبتت كلمته، و ولد يوم ولد، و قد مضى من الالف السابع مائة سنة و ثلاث سنين».

ثمّ قال: «و تبيانه في كتاب اللّه في الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار، و ليس من الحروف المقطعة حرف تنقضي أيّامه إلاّ و قائم من بني هاشم عند انقضائه».

ثمّ قال: «الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فذلك مائة و إحدى و ستّون، ثمّ كان بدو خروج الحسين بن عليّ عليهما السّلام الم * اَللّهُ (2) فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العبّاس عند المص و يقوم قائمنا عند انقضائها ب المر فافهم ذلك و عدّ(3) و اكتمه» الخبر(4).

و لا يخفى أنّ الرواية من المشكلات التي يجب ردّ علمها إليهم عليهم السّلام و إن تصدّى لشرحها جماعة من العلماء، و لعلّه يستفاد من قوله: «أنزل الم * ذلِكَ الْكِتابُ فقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله» وجه تقديم هذه السورة على سائر السور، حيث إنّ فيها إشارة إلى قيام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بدو بعثته.

و من طريق العامّة: عن ابن عبّاس، عن جابر بن عبد اللّه بن رياب، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من اليهود برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يتلو فاتحة سورة البقرة الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ

فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون! و اللّه لقد سمعت محمّدا يتلو فيما انزل عليه: الم * ذلِكَ الْكِتابُ فقال: أنت سمعته ؟ فقال: نعم. فمشى حيي في اولئك النفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: أ لم تذكر أنّك تتلو فيما انزل عليك الم * ذلِكَ الْكِتابُ ؟ فقال: «بلى».

فقالوا: لقد بعث اللّه قبلك أنبياء ما نعلمه بيّن لنبيّ منهم ما مدّة ملكه و ما أجل امّته غيرك؛ الألف بواحد، و اللام بثلاثين، و الميم بأربعين، فهذه إحدى و سبعون سنة، أ فندخل في دين نبيّ إنّما مدّة ملكه و أجل امّته إحدى و سبعون سنة ؟!

ثمّ قال: يا محمّد، هل مع هذا غيره ؟ قال: «نعم، المص». قال: هذه أثقل و أطول، الألف بواحد، و اللام بثلاثين، و الميم بأربعين، و الصاد بتسعين، فهذه إحدى و ستّون و مائة سنة، هل مع هذا غيره ؟ [قال: «نعم، الر»، قال: هذه أثقل و أطول، الألف واحدة، و اللام ثلاثون، و الراء مائتان، هذه إحدى و ثلاثون و مائتا سنة. هل مع هذا غيره ؟] قال: «نعم، المر». قال: هذه أثقل و أطول، الألف بواحد، و اللام

ص: 90


1- البقرة: 1/2 و 2.
2- آل عمران: 1/3 و 2.
3- في العياشي و البحار: و عه.
4- تفسير العياشي 1545/136:2، تفسير الصافي 77:1، بحار الأنوار 23/383:92.

بثلاثين، و الميم بأربعين، و الراء بمائتين، هذه إحدى و سبعون و مائتا سنة.

ثمّ قال: لقد لبّس علينا أمرك حتّى ما ندري أ قليلا اعطيت أم كثيرا. ثمّ قال: قوموا عنه.

ثمّ قال أبو ياسر لأخيه و من معه: ما يدريكم، لعلّه قد جمع هذا كلّه لمحمّد؛ إحدى و سبعون، و إحدى و ستّون و مائة، و إحدى و ثلاثون و مائتان، و إحدى و سبعون و مائتان، فذلك سبعمائة و أربع و ثلاثون سنة. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره. فيزعمون أنّ [هؤلاء] الآيات نزلت فيهم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (1).

و عن (الاكمال) عن الحجّة القائم عجّل اللّه فرجه في حديث أنّه سئل عن تأويل كهيعص فقال:

«هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع اللّه [عليها] عبده زكريّا ثم قصّها على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط اللّه عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و عليّا و فاطمة و الحسن عليهم السّلام سرّي عنه همّه و انجلى كربه، و إذا ذكر الحسين عليه السّلام خنقته العبرة، و وقعت عليه البهرة(2).

فقال ذات يوم: الهي، ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، و إذا ذكرت الحسين عليه السّلام تدمع عيني، و تثور زفرتي ؟ فأنبأه تبارك و تعالى عن قصّته، فقال: كهيعص فالكاف اسم كربلاء، و الهاء هلاك العترة، و الياء يزيد لعنه اللّه، و هو ظالم الحسين عليه السّلام و العين عطشه، و الصاد صبره. فلمّا سمع ذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، و منع فيها الناس من الدخول عليه، و أقبل على البكاء و النحيب»(3) الخبر.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا منافاة بين الأخبار لإمكان أن تكون ذات الحروف المقطّعة كناية و رمزا عن امور، و تركيبها عن امور، و عددها إشارة إلى امور.

و يستفاد بعض أنحاء استفادتهم عليهم السّلام العلوم من الكتاب، من الرواية الواردة عن الباقر عليه السّلام في تفسير الصّمد حيث سألوه عن مسائل و أجابهم، ثمّ سألوه عن الصّمد، فقال: «تفسيره فيه، الصّمد خمسة أحرف: فالالف دليل على إنّيّته و هو قوله عز و جل: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ (4) ،و ذلك تنبيه

ص: 91


1- تفسير الطبري 71:1، الإتقان في علوم القرآن 29:3، و الآية من سورة آل عمران: 7/3.
2- البهرة: تتابع النفس و انقطاعه من الأعياء.
3- كمال الدين: 21/461.
4- آل عمران: 18/3.

و إشارة إلى الغائب عن درك الحواسّ ، و اللام دليل على إلهيّته و أنّه هو اللّه، و الألف و اللام مدغمان لا يظهران على اللّسان و لا يقعان في السّمع، و يظهران فى الكتابة، دليلان على أنّ إلهيّته بلطفه خافية لا تدرك بالحواسّ ، و لا تقع في لسان واصف، و لا اذن سامع، لأنّ تفسير الإله: هو الذي إله الخلق عن درك ماهيّته و كيفيّته بحسّ أو بوهم، لانّه مبدع الأوهام، و خالق الحواسّ ، و إنّما يظهر ذلك عند الكتابة دليل على أن اللّه تعالى أظهر ربوبيّته في إبداع الخلق و تركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه، كما أنّ لام الصّمد لا تبين(1) و لا تدخل في حاسّة من الحواسّ الخمس، فإذا نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي و لطف، فمتى تفكّر العبد في ماهيّة الباري و كيفيّته أله فيه و تحيّر و لم تحظ فكرته بشيء يتصوّر له، لأنّه عزّ و جلّ خالق الصّور، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنّه عزّ و جلّ خالقهم و مركّب أرواحهم و أجسادهم(2).

و أمّا الصّاد فدليل على أنّه عزّ و جلّ صادق، و قوله صدق، و كلامه صدق، و دعا عباده إلى اتّباع الصدق [بالصدق و] وعد بالصدق دار الصدق.

و أمّا الميم فدليل على ملكه و إنّه الملك الحقّ ، لم يزل و لا يزال [و لا يزول] ملكه.

و أمّا الدّال فدليل على دوام ملكه، و أنّه عزّ و جلّ دائم متعال عن الكون و الزوال، بل هو عزّ و جلّ مكوّن الكائنات، الذي كان بتكوينه كلّ كائن».

ثمّ قال عليه السّلام: «لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه عزّ و جلّ حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الإيمان و الدّين و الشرائع من الصّمد، و كيف لي بذلك و لم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه، حتّى كان يتنفّس الصّعداء و يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّ بين الجوانح منّي علما جمّا، هاه هاه، ألا لا أجد من يحمله، ألا و إنّي عليكم من اللّه الحجّة البالغة» الخبر(3).

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه من الفوائد للحروف المقطّعة مختصّ بالخواصّ ، و هم الراسخون في العلم، و أمّا فائدتها لعامّة النّاس فهي على ما قيل: إنّ العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل اللّه تعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، فيكون تعجّبهم منه سببا لاستماعهم، و استماعهم له سببا لاستماع ما بعده، فترقّ القلوب و تلين الأفئدة(4).

ص: 92


1- في التوحيد: لا تتبيّن.
2- في التوحيد: في أجسادهم.
3- التوحيد: 6/92.
4- الإتقان في علوم القرآن 31:3.

و قيل: إنّه ذكرت هذه الحروف المقطّعة إشعارا بأنّ القرآن مؤلّف من الحروف التي هي (ا، ب، ت) ليدلّ القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنّه بالحروف التي يعرفونها و يتداولونها في ألسنتهم، فيكون ذلك تقريعا لهم و دلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله بعد أن علموا أنّه منزل بالحروف التي يعرفونها و يبنون كلامهم منها(1).

و إلى هذا الوجه أشار العسكري عليه السّلام في التفسير المنسوب إليه(2).

الطّرفة التاسعة عشرة في بيان معنى التفسير و التأويل، و عدم كون بيان المراد من الظاهر تفسيرا منهيا عنه، و اختصاص العلم بالتأويل بالراسخين في العلم

التفسير: هو كشف القناع عن المعنى، و توضيح المقصود من الكلمة أو الكلام.

و التأويل: هو أول الكلام و إرجاعه إلى بعض المعاني البعيدة المحتملة منه. و قيل: هما واحد.

و الظاهر أنّ بيان المراد من المحكمات، نصّا كان المحكم أو ظاهرا، ليس من التفسير أو من المنهي عنه، لتواتر الأمر بالتمسّك بالكتاب و العمل به، و عرض الأحاديث عليه، و ترجيح المتعارضات منها به، و تميّز الشروط الصحيحة عن الفاسدة بموافقتها له، و سيرة المسلمين و الأصحاب على التمسّك بظواهره، فضلا عن نصوصه.

و أمّا غير المحكمات فلا شبهة أنّ العلم به مخصوص بالراسخين في العلم، و أنّه لا يجوز لغيرهم التكلّم فيه برأيه و من قبل نفسه عن جزم و بتّ ، و عليه تحمل الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، أو عليه و على القول في المحكمات من دون فحص في الأخبار المعتبرة عن الهداة صلوات اللّه عليهم عن ناسخها و مقيّدها و مخصّصها و مبيّنها.

في نقل تحقيق بعض العامة في وجه الحاجة إلى تفسير الكتاب بالرجوع إلى الراسخين في العلم

و قال بعض في وجه الحاجة إلى تفسير الكتاب بالرّجوع إلى الراسخين في العلم زائدا على ما ذكرنا: إنّ من المعلوم أنّ اللّه تعالى خاطب خلقه بما يفهمونه، و لذلك أرسل كلّ رسول بلسان قومه، و أنزل كتابه على لغتهم، و مع ذلك يحتاج إلى التفسير

ص: 93


1- الإتقان في علوم القرآن 31:3.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 62.

لوجه يظهر بعد تقرير قاعدة، و هي أنّ كلا من البشر إذا وضع كتابا فإنّما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح، و إنّما احتيج إلى الشروح لامور ثلاثة:

أحدها: كمال فضيلة المصنّف، فإنه لقوّته العلميّة يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز، فربّما عسر فهم مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفيّة، و من هنا كان شرح بعض الأئمّة تصنيفه أدلّ على المراد من شرح غيره له.

و ثانيها: إغفاله بعض تتمّات المسألة، أو شرط (1) لها اعتمادا على وضوحها، أو لأنّها من علم آخر فيحتاج إلى الشارح لبيان المحذوف و مراتبه.

و ثالثها: احتمال اللفظ لمعان، كما في المجاز و الاشتراك و دلالة الالتزام، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنّف و ترجيحه، و قد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السّهو و الغلط ، أو تكرار الشيء، أو حذف مبهم و غير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.

إذا تقرّر هذا فنقول: إنّ القرآن إنّما نزل بلسان عربيّ في زمان أفصح العرب، و كانوا يعلمون ظواهره و أحكامه، أمّا دقائق باطنه فإنّما كان يظهر لهم بعد البحث و النظر مع سؤالهم(2) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الأكثر، كسؤالهم لمّا نزل قوله: وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ (3) فقالوا: و أيّنا لم يظلم نفسه! ففسّره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالشّرك، و استدلّ عليه بقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (4) ،و كسؤال عائشة عن الحساب اليسير، فقال:

«ذلك العرض»، و كقصّة عدّي بن حاتم في الخيط الأبيض و الأسود، و غير ذلك ممّا سألوا عن آحاد منه، و نحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه، و زيادة على ذلك ممّا لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللّغة بغير تعلّم، فنحن أشدّ النّاس احتياجا إلى التفسير، و معلوم أنّ تفسير بعضه يكون من قبيل [بسط ] الألفاظ الوجيزة و كشف معانيها، و بعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض، انتهى(5).

و قال بعض آخر: علم التفسير عسير يسير، أمّا عسره فظاهر من وجوه، أظهرها أنّه كلام متكلّم لم نصل إلى مراده بالسماع منه، و لا أمكن الوصول إليه، بخلاف الأمثال و الأشعار و نحوها، فإنّ الانسان يمكن علمه به إذا تكلّم بأن يسمع منه أو ممّن سمع منه، و أمّا القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم

ص: 94


1- في الاتقان: أو شروط .
2- في النسخة: و السؤال عن، و ما أثبتناه من الإتقان.
3- الأنعام: 82/6.
4- لقمان: 13/31.
5- الإتقان في علوم القرآن 195:4.

إلاّ بأن يسمع من الرسول صلّى اللّه عليه و آله(1).

أقول: و لذا ورد: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» كما عن الباقر عليه السّلام في رواية (الكافي): بإسناده عن زيد الشّحّام، قال: دخل قتادة على أبي جعفر عليه السّلام فقال: «يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة ؟». فقال:

هكذا يزعمون.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «بلغني أنّك تفسّر القرآن!» قال له قتادة: نعم.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «بعلم تفسّره أم بجهل ؟» قال: لا، بل بعلم.

فقال له أبو جعفر عليه السّلام: «فإن كنت تفسّره [بعلم] فأنت أنت، و أنا أسألك» قال قتادة: بسلني.

قال: «أخبرني عن قول اللّه تعالى في سبأ: وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ (2) ؟»

فقال قتادة: ذلك: من خرج من بيته بزاد و راحلة و كراء حلال يريد هذا البيت، كان آمنا حتّى يرجع إلى أهله.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «نشدتك باللّه يا قتادة، هل تعلم أنّه قد يخرج الرجل من بيته بزاد و راحلة و كراء حلال، يريد هذا البيت، فيقطع عليه الطريق، فتذهب نفقته و يضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه ؟» قال قتادة: اللّهمّ نعم.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت و أهلكت.

ويحك يا قتادة، ذلك من خرج من بيته بزاد و راحلة و كراء حلال يؤمّ (3) هذا البيت عارفا بحقّنا، فهوانا(4) قلبه، كما قال اللّه تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (5) و لم يعن البيت فيقول:

إليه، فنحن و اللّه دعوة إبراهيم التي من هوانا قلبه قبلت حجّته، و إلاّ فلا. يا قتادة، فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنّم يوم القيامة».

قال قتادة: لا جرم و اللّه، لا فسّرتها إلاّ هكذا.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «ويحك يا قتادة، إنّما يعرف القرآن من خوطب به »(6).

و عنه عليه السّلام: «ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من تفسير القرآن، إنّ الآية ليكون أوّلها في شيء،

ص: 95


1- الإتقان في علوم القرآن 196:4.
2- سبأ: 18/34.
3- في المصدر: يروم.
4- في المصدر: يهوانا.
5- إبراهيم: 37/14.
6- الكافي 485/311:8.

و آخرها في شيء، و هو كلام متّصل ينصرف(1) على وجوه »(2).

في أنّه لا يجوز العمل بالقرآن إلاّ بعد الفحص عن تفسير

فتحصّل ممّا ذكرنا أنه لا يجوز تفسير المتشابهات و بيان تأويلها إلاّ بالنّصّ المعتبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو أحد من ورّاث علمه من أوصيائه المعصومين عليهم السّلام.

بل قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ في القرآن المجيد ناسخا، و منسوخا، و عامّا اريد به الخاص، و مطلقا اريد به المقيّد، و كذا العكس، فلا يجوز العمل بمحكماته إلاّ بعد الرجوع إلى العلماء بها و هم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام، فإنّ العلم بجميعها عندهم، و لا حظّ لأحد غيرهم فيها إلاّ من قبلهم، كما روي (الكافي): بإسناده عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين عليه السّلام - في حديث - قال: «ما نزلت آية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أقرأنيها، و أملاها عليّ ، فكتبتها بخطّي، و علّمني تأويلها، و تفسيرها، و ناسخها، و منسوخها، و محكمها، و متشابهها [و خاصّها، و عامّها]، و دعا اللّه أن يعلّمني(3) فهمها و حفظها، فما نسيت آية من كتاب اللّه، و لا علما أملاه عليّ فكتبته منذ دعا، و ما ترك شيئا علّمه اللّه من حلال و لا حرام و لا أمر و لا نهي، كان أو يكون (4) ،من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه و حفظته، فلم أنس حرفا واحدا.

ثمّ وضع يده على صدري و دعا اللّه أن يملأ قلبي علما و فهما و حكمة و نورا. فقلت: يا رسول اللّه بأبي أنت و أمّي، مذ دعوت اللّه لي بما دعوت لم أنس شيئا، و لم يفتني شيء لم اكتبه، أو تتخوّف عليّ النسيان فيما بعد؟ فقال: [لا] لست أتخوّف عليك نسيانا و جهلا »(5).

و في ذيل رواية اخرى قريبة من هذه: «و قد أخبرني ربّي أنّه قد استجاب لي فيك و في شركائك الّذين يكونون من بعدك. فقلت: يا رسول اللّه، و من شركائي من بعدي ؟ قال: الذين قرنهم اللّه بنفسه و بي، فقال: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (6).

فقلت: و من هم ؟ قال: الأوصياء منّي إلى أن يردوا [عليّ ] الحوض، كلّهم هادون مهديون (7) ،لا يضرّهم من خذلهم، هم مع القرآن، و القرآن معهم، لا يفارقهم و لا يفارقونه، بهم تنصر امتي و بهم تمطر (8) ،و بهم يدفع عنهم البلاء، و بهم يستجاب دعاؤهم.

ص: 96


1- في العياشي: يتصرّف.
2- تفسير العياشي 39/87:1.
3- في المصدر: يعطيني.
4- زاد في المصدر: و لا كتاب منزل على أحد قبله.
5- الكافي 1/52:1.
6- النساء: 59/4.
7- في العياشي: هاد مهتد.
8- في العياشي: يمطرون.

فقلت: يا رسول اللّه، سمّهم لي. فقال: ابني هذا - و وضع يده على رأس الحسن عليه السّلام - ثمّ ابني هذا - و وضع يده على رأس الحسين عليه السّلام - ثمّ ابن لي(1) يقال له عليّ ، و سيولد في حياتك فأقرأه منّي السّلام، ثمّ تكملة اثني عشر من ولده »(2).

فقلت له: بأبي أنت و امّي، سمّهم لي. فسمّاهم رجلا رجلا. فقال: «فيهم و اللّه - يا أخا بني هلال - مهديّ امّه محمّد، الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا، و اللّه إنّي لأعرف من يبايعه بين الركن و المقام، و أعرف أسماء آبائهم و قبائلهم »(3).

و فيه، بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي [أنّ ] عنده جميع القرآن كلّه، ظاهره و باطنه غير الأوصياء »(4).

و بإسناده، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (5) قال:

«هم الأئمّة عليهم السّلام »(6).

و في (العلل) بإسناده، عنه عليه السّلام أنّه قال لأبي حنيفة: «أنت فقيه أهل العراق ؟» قال: نعم. قال: «فبم تفتيهم ؟» قال: بكتاب اللّه و سنّة نبيّه.

قال: «يا أبا حنيفة، تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته، و تعرف الناسخ و المنسوخ ؟». فقال: نعم.

فقال: «يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علما، ويلك ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الّذين أنزله عليهم، ويلك و لا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا، و ما أراك تعرف(7) من كتابه حرفا، فإن كنت كما تقول، و لست كما تقول، فأخبرني عن قول اللّه تعالى: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ (8) أين ذلك من الأرض ؟» قال: أحسبه ما بين مكّة و المدينة.

فالتفت أبو عبد اللّه عليه السّلام إلى أصحابه، فقال: «تعلمون أنّ النّاس يقطع عليهم ما بين المدينة و مكّة فتؤخذ أموالهم، و لا يأمنون على أنفسهم، و يقتلون ؟» قالوا: نعم. فسكت أبو حنيفة.

فقال: «يا أبا حنيفة، أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (9) أين ذلك من الأرض ؟» قال: الكعبة. قال: «أ فتعلم أنّ الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في

ص: 97


1- في العياشي: له.
2- في العياشي: من ولد محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
3- تفسير العياشي 52/91:1.
4- الكافي 2/178:1.
5- العنكبوت: 49/29.
6- الكافي 2/167:1.
7- في المصدر: ما ورثك اللّه.
8- سبأ: 18/34.
9- آل عمران: 97/3.

الكعبة فقتله، كان آمنا فيها؟» فسكت، الخبر(1).

و روى العامّة أنّه قال عليّ عليه السّلام لقاض (2): «أ تعرف الناسخ من المنسوخ ؟» قال: لا. قال: «هلكت و أهلكت »(3).

إن قلت: يلزم ممّا ذكرت عدم جواز العمل بمحكمات القرآن، لسقوط جميع نصوص الكتاب و ظواهره عن الحجّيّة، للعلم الإجمالي بنسخ بعض أحكامها، و تخصيص بعض عموماتها، و تقييد بعض مطلقاتها، و إرادة المجاز من بعض ظواهرها، مع أنّك ادّعيت جواز العمل بالمحكمات للأدلّة المتقدّمة من الأوامر الواردة بالتمسّك بالكتاب و عرض الشروط و الأخبار المتعارضة عليه، و سيرة المسلمين.

قلنا: بعد الفحص في الروايات المرويّة عن المعصومين عليهم السّلام و تحصيل الناسخ، و المخصّص، و المبيّن، و المقيّد، بمقدار ينطبق عليه المعلوم بالإجمال ينحلّ العلم الإجمالي و تبقى أصالة الظهور و أصالة الحقيقة على حجّيّتها في البقيّة بلا إشكال.

الطّرفة العشرون في تعريف النّسخ و إمكان وقوعه في أحكام اللّه تعالى، و بيان الآيات الناسخة

النّسخ: هو رفع الحكم الثابت في الزمان السابق و إزالته، و لا شبهة في حكم العقل بإمكان وقوعه في أحكام اللّه، و ليس من البداء المحال على اللّه، و لا يلزم منه الجهل الممتنع عليه، و لا التّجهيل القبيح منه.

و قد اتّفقت الشرائع على وقوعه، إذ لم تكن شريعة إلاّ و هي ناسخة لبعض أحكام الشرائع السابقة، و إنّما المقصود هنا بيان الآيات الناسخة، و هي قسمان:

[1] إمّا ناسخة لأحكام الشرائع السابقة، أو الأحكام الجاهليّة التي لم يردع عنها النبي صلّى اللّه عليه و آله في بدو بعثته لمداراة النّاس، و لم ينزل فيها قرآن، و هي كثيرة جدّا.

[2] و إمّا ناسخة لأحكام نزلت بها آيات قرآنية، فكانت الناسخة و المنسوخة في القرآن، ففي هذا

ص: 98


1- علل الشرائع: 5/89.
2- في الإتقان: لقاصّ .
3- الإتقان في علوم القرآن 66:3.

القسم اختلف كثير من الخاصّة و العامّة، و أفرده جمع كثير منهم بالتصنيف.

و لا يذهب عليك أنّ المصطلح في النسخ هو إزالة الحكم الذي يكون ظاهر دليله استمراره بحكم آخر، و على هذا يكون عدّ بعض الآيات التي نزلت في الوعد و الوعيد خارجة عن المصطلح و الحقيقة، فعدّ آية: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ (1) ناسخة لقوله: إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها (2) كما عن بعض، ليس على حقيقته، و كذا عدّ الحكم المغاير للحكم السابق المغيّى بغاية معيّنة بعد بلوغ غايته، كقوله تعالى: فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ (3) فإنّ حكم وجوب الجهاد ليس ناسخا لحكم وجوب العفو و الصّفح، بل هو أمر اللّه الذي كان غاية له.

و الحاصل: أنّه بعد ملاحظة القيود المعتبرة في المعنى الحقيقيّ للنسخ، و ملاحظة المقصود منه، من كون الناسخ و المنسوخ كليهما في القرآن، كان عدد الأحكام المنسوخة فيه قليلا. منها: أربعة أحكام في سورة البقرة:

أحدها: قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (4).

عن (التهذيب) و (الخصال): عن الصادق عليه السّلام، و عن العياشي عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في أهل الذّمّة - أي أهل الكتاب - ثمّ نسخها قوله تعالى:

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ » (5) .

و عن القمّي رحمه اللّه: أنّها نزلت في اليهود، ثمّ نسخت بقوله تعالى: اقتلوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (6).

و اورد عليه بأنّ قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً حكاية للحكم الذي أخذ اللّه الميثاق من بني إسرائيل على العمل به، لأنّه في ضمن آية: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا

ص: 99


1- هود: 118/11 و 119.
2- مريم: 71/19.
3- البقرة: 109/2.
4- البقرة: 83/2.
5- التهذيب 336/115:4، الخصال: 18/275، تفسير العياشي 1809/228:2، و الآية من سورة التوبة: 29/9.
6- تفسير القمي 51:1، و الآية من سورة التوبة: 5/9.

اَلزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (1) .فليس هذا الحكم من أحكام هذه الأمّة حتّى يعدّ من المنسوخ.

و يمكن دفعه بأنّ أخذ الميثاق و العهد المؤكّد من بني إسرائيل على هذه الواجبات التي يحكم العقل بحسنها، دالّ على جريانه في جميع الأعصار على جميع الامم، و لمّا كان المراد من النّاس في مخاطبة بني إسرائيل خصوص قبيلتهم، لأنهم كانوا مأمورين بالجهاد مع غيرهم من الكفّار، كانوا مخصوصين في هذه الأمّة المرحومة بحسن القول و المخاطبة معهم، و سيجيء عند تفسير الآية الكريمة بعض الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

و ثانيها: قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (2).

عن القمّي، و النعماني رحمهما اللّه و كثير من العامّة، أنّها منسوخة بقوله تعالى في سورة المائدة:

اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إلى قوله: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (3).

قال القمّي رحمه اللّه: و ترك قوله: وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا (4) و لا يخفى أنّه قد اختلفت رواياتنا في الناسخ منهما، و ليس في المقام مجال البسط في الكلام.

و ثالثها: قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ (5).

روى العيّاشي و الطّبرسيّ رحمهما اللّه عن الصادق عليه السّلام: «كان في بدو الإسلام إذا مات الرجل أنفق على امرأته من صلب المال حولا، ثمّ اخرجت بلا ميراث، ثمّ نسختها آية الرّبع و الثّمن »(6).

و عنه، و عن الباقر عليهما السّلام: «هي منسوخة، نسختها: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً (7)

و نسختها آيات الميراث »(8).

أقول: يعني نسخت المدّة بآية التّربّص، و النفقة بآيات الميراث، و هي و إن كانت متقدّمة في

ص: 100


1- البقرة: 83/2.
2- البقرة: 221/2.
3- تفسير القمي 72:1، تفسير النعماني: 28، تفسير الطبري 221:2، و الآية من سورة المائدة: 5/5.
4- تفسير القمي 73:1، و الآية من سورة البقرة: 221/2.
5- البقرة: 240/2.
6- تفسير العياشي 530/247:1، مجمع البيان 602:2، تفسير الصافي 248:1.
7- البقرة: 234/2.
8- تفسير العياشي 529/247:1، و مجمع البيان 602:2 عن الصادق عليه السّلام.

الترتيب و التلاوة، إلاّ أنّها متأخّرة في النزول، و يأتي بعض الكلام فيه عند تفسيرها إن شاء اللّه.

و رابعها: قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ .

في (الاحتجاج) عن الكاظم، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام في حديث يذكر مناقب النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (1) فكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة، قوله تعالى: لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2).و قد كانت الآية عرضت على الأنبياء من لدن آدم إلى أن بعث اللّه تبارك اسمه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، و عرضت على الامم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، و قبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عرضها على امّته فقبلوها، فلمّا رأى اللّه عزّ و جلّ منهم القبول علم أنّهم لا يطيقونها، فلمّا صار(3) إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه فقال: آمَنَ الرَّسُولُ » (4).

إلى أن قال الكاظم عليه السّلام: «ثمّ قال اللّه عزّ و جلّ : أمّا إذا قبلت الآية بتشديدها و عظم ما فيها، و قد عرضتها على الامم فأبوا أن يقبلوها و قبلتها أمّتك، فحقّ عليّ أن أرفعها عن أمّتك، و قال: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (5) الخبر.

و روى الفخر الرازي في تفسيره، عن ابن عبّاس، أنّه قال: لمّا نزلت [هذه] الآية جاء أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف و ناس إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه، كلّفنا من العمل ما لا نطيق، إنّ أحدنا ليحدّث نفسه بما لا يحبّ أن يثبت في قلبه، و أنّ له الدنيا.

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا! (6) قولوا: سمعنا و أطعنا».

و اشتدّ ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولا، فأنزل اللّه: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها فنسخت هذه الآية، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم ما لم يعملوا و يتكلّموا به »(7).

أقول: قد دلّت هذه الرّواية أنّ الرّهط الذين شكوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شدّة الآية لم يكونوا داخلين فيمن قبلها، و لذلك قال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سمعنا و عصينا! قولوا: سمعنا

ص: 101


1- النجم: 9/53 و 10.
2- البقرة: 284/2.
3- في المصدر: فلما أن سار.
4- البقرة: 285/2.
5- الاحتجاج: 220، و الآية من سورة البقرة: 286/2.
6- البقرة: 93/2.
7- تفسير الرازي 125:7.

و أطعنا». و ليس في الرّواية أنّهم قالوا: سمعنا و أطعنا بعد [أن] أمرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذا القول.

و منها: في سورة آل عمران، قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1).

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها، فقال: «منسوخة». قيل: و ما نسخها؟ قال: «قول اللّه:

فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ » (2) .

و من طرق العامّة: عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه قال: لمّا نزلت [هذه] الآية، شقّ ذلك على المسلمين، لأنّ حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، و أن يشكر فلا يكفر، و أن يذكر فلا ينسى، و العباد لا طاقة لهم بذلك، فأنزل اللّه تعالى بعد هذه: فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ و نسخت هذه الآية أوّلها، و لم ينسخ آخرها(3).

أقول: المراد من قوله: «و العباد لا طاقة لهم بذلك» هي الطاقة و القدرة العرفيّة، و هي عدم العسر و الحرج في العمل مع بقاء القدرة العقليّة، فيكون حاصل كلامه أنّ اللّه أمر عباده بالتّقوى التي فيها العسر و الحرج، ثم خفّف عنهم بأن أمرهم بالتقوى التي استطاعوها بالاستطاعة العرفيّة، و هي ما لا حرج فيه، فلم يكن في المنسوخ التكليف بغير المقدور حتّى يستدلّ به على جوازه، كما ذهب إليه المشهور من أهل السّنّة.

و منها: في سورة النساء، قوله تعالى: وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (4).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، قال: «هي منسوخة». قيل: كيف كانت ؟ قال: «كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود، ادخلت بيتا و لم تحدّث و لم تكلّم و لم تجالس، و اوتيت بطعامها و شرابها حتّى تموت أو يجعل اللّه لهنّ سبيلا»، قال: «جعل السبيل الجلد و الرّجم »(5).

و عن العيّاشيّ : عنه عليه السّلام: «هي منسوخة، و السبيل [هو] الحدود »(6).

و عن القمّي رحمه اللّه فيها و في الآية التي بعدها: وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً (7).

ص: 102


1- آل عمران: 102/3.
2- تفسير العياشي 760/333:1، و الآية من سورة التغابن: 16/64.
3- تفسير الرازي 161:8.
4- النساء: 15/4.
5- تفسير العياشي 903/377:1.
6- تفسير العياشي 902/377:1.
7- النساء: 16/4.

قال: كان في الجاهليّة إذا زنى الرجل يؤذى، و المرأة تحبس [في بيت] إلى أن تموت، ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى: اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا (1) الآية.

أقول: لا يبعد أن يكون إطلاق النسخ بالنسبة إلى الآية الاولى على خلاف المصطلح، لأنّ الحكم فيها معنيّ بجعل السبيل، فلا يكون جعل السبيل، و هو الحدود، ناسخا.

و منها: قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (2).

عن العيّاشي، عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «نسختها آية الفرائض »(3).

و عن القمّي رحمه اللّه: هي منسوخة بقوله: يُوصِيكُمُ اللّهُ .. (4).

و في رواية عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: أ منسوخة هي ؟ قال: «لا، إذا حضروا(5) فأعطهم »(6).

أقول: نسخها بلحاظ حكم الوجوب، و عدم نسخها باعتبار الاستحباب.

و منها: في سورة الأنفال، قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً (7).فإنّه نسخ بقوله تعالى: اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ (8).

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام في حديث ذكر فيه الآية، فقال: «نسخ الرجلان العشرة »(9).و عن القمّي ما يقرب منه(10).

و منها: في سورة الأحزاب، قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (11) فإنّه حكى بعض أصحابنا قولا بأنّها منسوخة بقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ (12) و لم أظفر على رواية دالّة عليه.

و منها: في سورة الممتحنة، قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ

ص: 103


1- تفسير القمي 133:1، تفسير الصافي 398:1، و الآية من سورة النور: 2/24.
2- النساء: 8/4.
3- تفسير العياشي 876/371:1 و 878، تفسير الصافي 393:1.
4- تفسير القمّي 132:1، تفسير الصافي 393:1، و الآية من سورة النساء: 11/4.
5- في العياشي: حضرك، و في الصافي: حضروك.
6- تفسير العياشي 877/371:1، تفسير الصافي 393:1.
7- الأنفال: 65/8.
8- الأنفال: 66/8.
9- الكافي 1/69:5، تفسير الصافي 313:2.
10- تفسير القمي 280:1، تفسير الصافي 314:2.
11- الأحزاب: 52/33.
12- تفسير الصافي 198:4، و الآية من سورة الأحزاب: 51/33.

نَجْواكُمْ صَدَقَةً (1) .

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «قدّم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بين يدي نجواه صدقة، ثمّ نسخها قوله: أَ أَشْفَقْتُمْ ...» (2).

و قد استدلّ الخاصّة و العامّة بهذه الآية على فضيلة أمير المؤمنين عليه السّلام على غيره من الصحابة(3) ، و تقريره أنّه سبق سائر الصّحابة إلى العمل بمضمونها، و بعد عمله بها نسخت، فكان نزولها بيانا لأفضليّته عليهم، لمسارعته إلى قبول أوامر اللّه تعالى و العمل بها قبلهم فكان أفضل منهم.

و قال بعض أصحابنا: فيه تكذيب لمن يدّعي من أهل السّنّة أنّ أبا بكر ذا مال، و كان يصرف أمواله في سبيل اللّه، حيث إنّ من بخل بصدقة درهم أو درهمين بين يدي نجوى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و رضي بمفارقته عشرة أيّام و ترك مكالمته، كيف يرضى بإنفاق المال الكثير؟!.

و منها: في سورة المزّمّل، قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ (4).

عن القمّي، عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية: «ففعل ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و بشّر النّاس به، و اشتد ذلك عليهم [و قوله:] عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ و كان الرجل يقوم و لا يدري متى ينتصف الليل، و متى يكون الثلثان، و كان الرجل يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظه، فأنزل اللّه: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلى قوله]:

عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ .. (5) يقول: متى يكون النّصف و الثّلث، نسخت هذه الآية: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ » (6).

و أمّا ما عدّه العامّة من الآيات المنسوخة مضافا إلى ما ذكر، فآيات:

منها: قوله تعالى في سورة النساء: وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (7) قالوا: كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، و هدمي هدمك (8) ،و سلمي سلمك، و حربي حربك، و ترثني و أرثك، و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحليف السّدس من ميراث الحليف، فنسخ بقوله تعالى: وَ أُولُوا

ص: 104


1- المجادلة: 12/58.
2- تفسير القمي 357:2، و الآية من سورة المجادلة: 13/58.
3- تفسير الطبري 14:28، الكشاف 494:4، الدر المنثور 84:8، تفسير القمي 357:2.
4- المزمل: 20/73.
5- المزمل: 20/73.
6- تفسير القمي 392:2، تفسير الصافي 243:5.
7- النساء 33:4.
8- الهدم - بالفتح -: المهدر من الدماء، يقال: دمه هدم، أي هدر، و الهدم - بالكسر -: كساء من صوف، و الظاهر أنّ المراد الأوّل.

اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ... (1) .

و عن القمّي رحمه اللّه: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ ... نسخت قوله: وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ (2).

و في (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «إذا والى الرجل الرجل فله ميراثه و عليه معقلته »(3).يعني دية جناية خطأه، فتدلّ هذه الرّواية على أنّها غير منسوخة على الإطلاق، و يجمع بينها و بين الروايات السابقة بأنّ آية اولو الأرحام نسخت إطلاق حكمها و قيّدتها بصورة فقد اولي الأرحام، كما عليه الأصحاب.

و قال بعض العامّة: معناه أعطوهم نصيبهم من النّصر، و العقل، و الرفد (4) ،و لا ميراث (5).و على هذا فلا تكون أيضا منسوخة.

و منها: قوله تعالى في سورة البقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (6) فكان يحرم عليهم الجماع في اللّيل، مطلقا على قول، أو بعد صلاة العشاء، أو بعد النوم، و هذا حكم صوم أهل الكتاب، فنسخ بقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (7) و ببالي أنّ به قال النعماني من أصحابنا(8).

و فيه: أنّه لا دلالة في قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ على حرمة الرّفث في اللّيل للصّائم، و لم يرد في أخبار أهل البيت عليهم السّلام ما يدلّ على إرادة هذا الحكم من التشبيه، بل فيها ما يدلّ على خلافه، حيث إنّه فسّر بأنّ الصوم واجب عليكم كوجوبه على سائر الامم أو على خصوص الأنبياء السّلف.

و ظاهر هذا التّفسير تشبيه الوجوب بالوجوب، لا تشبيه الواجب بالواجب، مع أنّه لم يثبت أنّ من أحكام صوم الذين من قبلهم حرمة الجماع عليهم باللّيل، حتّى يدخل في كيفيّات الصّوم الذي هو في الشّرع الإمساك في النّهار عن الامور المعيّنة.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ (9).

قال بعض العامّة: كان المسلمون مخيّرين بين الصّوم و الفدية في أوّل الأمر، ثمّ نسخت بقوله

ص: 105


1- تفسير الطبري 34:5، الدر المنثور 510:2، تفسير الصافي 414:1، و الآية من سورة الأنفال: 75/8.
2- تفسير القمي 137:1، تفسير الصافي 414:1، و الآية من سورة النساء: 33/4.
3- الكافي 3/171:7.
4- في تفسير الطبري: و الرفادة.
5- تفسير الطبري 35:5.
6- البقرة: 183/2.
7- البقرة: 187/2.
8- تفسير النعماني: 10.
9- البقرة: 184/2.

تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (1).

و المرويّ عن الصادق عليه السّلام «أنّ المراد بذلك الحامل المقرب، و المرضعة القليلة اللّبن، و الشّيخ و الشّيخة »(2).

و في رواية: «المرأة التي تخاف على ولدها، و الشيخ الكبير »(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «الشيخ الكبير، و الذي يأخذه العطاش »(4).

أقول: على هذه الروايات ليست الآية منسوخة.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (5).

قال بعض العامّة: إنّها نسخت بآية الميراث(6).

و أنكر النسخ بعض أصحابنا (7).و قد وردت أخبار كثيرة ببقاء حكمه، و إن روى العيّاشيّ عن أحدهما عليهما السّلام أنّها منسوخة بآية المواريث (8) ،إلاّ أنّها محمولة على التّقيّة لموافقتها مذهب العامّة(9).

و يحتمل بعيدا حملها على نسخ الوجوب مع بقاء الاستحباب و الرّجحان.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ (10).

قال بعض العامّة: إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (11).

و فيه: أنّ الآية الاولى مخصّصة للثانية لا منسوخة.

و عن (المجمع): إنّها لم تنسخ، لأنّه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال(12).

و منها: قوله تعالى في المائدة: وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ ... (13).

ص: 106


1- صحيح البخاري 34/55:6، سنن أبي داود 2315/296:2 و 2316، سنن النسائي 190:4، و الآية من سورة البقرة: 185/2.
2- تفسير الصافي 201:1.
3- تفسير العياشي 286/184:1، تفسير الصافي 202:1.
4- تفسير العياشي 285/184:1، تفسير الصافي 202:1.
5- البقرة: 180/2.
6- تفسير الطبري: 68/2، تفسير الرازي 61:5.
7- مجمع البيان 483:1.
8- تفسير العياشي 273/180:1.
9- تفسير الصافي 198:1.
10- البقرة: 217/2.
11- الإتقان في علوم القرآن 73:3، و الآية من سورة التوبة: 36/9.
12- مجمع البيان 552:1.
13- المائدة: 2/5.

قال بعض العامة: إنّ هذا الحكم منسوخ بآية القتال(1).

و فيه: أنّه روي عن الباقر عليه السّلام «أنّه لم ينسخ من سورة المائدة شيء...»(2) الخبر. مع أنّه لا وجه للقول بالنسخ مع إمكان التخصيص كما ذكرنا في الآية السابقة.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (3).

قالوا: إنّ الآية منسوخة بقوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ ... (4).

و فيه: أنّه روي في (التهذيب) عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و [أهل] الإنجيل يتحاكمون إليه، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم»(5) انتهى، و عليه لا تكون منسوخة.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ (6) قالوا: هي منسوخة بقوله تعالى:

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (7) .

و فيه: أنّ التّخصيص أولى من النسخ، و قد اتّفق النّصّ و الفتوى على جواز شهادة أهل الكتاب إذا كانوا عدولا في دينهم في خصوص الوصيّة في السّفر إذا لم يجد الموصي مسلما(8).

و منها: قوله تعالى في سورة البراءة: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً (9).

قالوا: هي منسوخة بآيات العذر(10).

و فيه: أنّها مخصّصة لا ناسخة، كما يشهد عليه قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ (11).

و منها: قوله تعالى في سورة النّور: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (12).

ص: 107


1- تفسير الطبري 39:6، الإتقان في علوم القرآن 74:3.
2- مجمع البيان 239:3.
3- المائدة: 42/5.
4- الكشاف 635:1، الدر المنثور 83:3، الإتقان في علوم القرآن 74:3، و الآية من سورة المائدة: 49/5.
5- التهذيب 839/300:6.
6- المائدة: 106/5.
7- الإتقان في علوم القرآن 75:3، و الآية من سورة الطلاق: 2/65.
8- الكافي 8/399:7، التهذيب 655/253:6.
9- التوبة: 41/9.
10- الإتقان في علوم القرآن 75:3.
11- النساء: 95/4.
12- النور: 3/24.

قالوا: إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ (1).

و فيه: أنّ ظاهر الآية الأولى يدلّ على جواز نكاح الزّاني المسلم للمشركة، و جواز نكاح المشرك الزّانية المسلمة، و الظاهر أنّ هذا الحكم لم يكن في وقت من الأوقات، فلا بدّ من حمل الآية على الزّاني و الزّانية الكافرين، بقرينة قوله: وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .

و من الواضح أنّ حرمة نكاح الزّاني الكافر و المشرك للمؤمنة و نكاح الزانية الكافرة و المشركة للمؤمن غير منسوخة، و روايات أهل البيت و إن كانت متعارضة في جواز نكاح الزّانية قبل التّوبة، إلاّ أنّ الأخبار المانعة غير معمول بها عند المشهور من أصحابنا، فلا بدّ من حملها على الكراهية.

و الحاصل: أنّه لم يثبت من طريق أهل البيت عليهم السّلام نسخ لحكم الآية الاولى، بل الظاهر من الرّوايات العديدة عدمه، و تفسيرها بالمشهورات بالزّنا(2).

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ (3).

قال بعضهم: إنّها منسوخة، و لم يذكر الناسخ، و أنكره بعض آخر (4).و لم أظفر في رواياتنا ما يدلّ على نسخها.

و منها: قوله تعالى في سورة الأحزاب: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (5).

قالوا: هي منسوخة بقوله تعالى: إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاّتِي الآية(6).

و فيه: أنّه لم أفهم له وجها، و لم يرد فيه خبر.

و منها: قوله تعالى في الممتحنة: فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا (7).

قال بعض منهم: إنّها منسوخة بآية السّيف (8) ،و بعض آخر: بآية الغنيمة(9).

و منها: قوله تعالى في سورة المنافقون: وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ (10).

ص: 108


1- الإتقان في علوم القرآن 75:3، و الآية من سورة النور: 32/24.
2- راجع: الكافي 6/355:5.
3- النور: 58/24.
4- الإتقان في علوم القرآن 76:3.
5- الاحزاب: 52/33.
6- الإتقان في علوم القرآن 76:3، و الآية من سورة الأحزاب: 50/33.
7- الممتحنة: 11/60.
8- هي الآية الخامسة من سورة التوبة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ....
9- الإتقان في علوم القرآن 76:3.
10- المنافقون: 10/63.

قالوا: منسوخة بآية الزّكاة(1).

و منها: قوله تعالى في سورة التّين: أَ لَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (2).

قالوا: منسوخة بآية السّيف (3) ،و في هذه الآيات الثلاث، و إن كان احتمال النسخ قريبا، إلاّ أنّه لم يرد به نصّ من طرق أصحابنا.

الطرفة الحادية و العشرون في إبطال عدّ نسخ التلاوة من أقسام النسخ

قد عدّ جمع من العامة من أقسام النسخ نسخ التلاوة، و ذكروا لذلك أمثلة من عبارات مرويّة عن عمر و ابنه عبد اللّه و عائشة و غيرهم من الصحابة (4) ،و هذا من الأغلاط المشهورة بينهم، و العبارات المنقولة التي قالوا إنّها من الآيات المنسوخة التلاوة لا تشبه كلمات فصحاء العرب فضلا عن آيات القرآن المجيد. و المتأمّل المنصف يقطع بأنّها ممّا اختلقه المنافقون لتخريب أساس الدّين، و توهين الكتاب المبين، و يؤيّد ذلك بل يشهد عليه أنّه لم ينقل عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عبّاس و المعتمدين من أصحاب الرّسول رضوان اللّه عليهم أمثال هذه الرّوايات، مع كونهم أعرف بآيات القرآن من غيرهم.

و العجب من بعض العامّة حيث إنّهم أنكروا هذا القسم من النسخ، و نفوا كون هذه العبارات المنقولة من القرآن، مستدلاّ بأنّ الأخبار الواردة أخبار آحاد، و لا يجوز القطع على إنزال القرآن و نسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها، مع أنّ العبارات الباردة المنقولة التي أكثرها رواية ما سمّوه آية الرّجم، من قولهم: (الشيخ و الشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتّة بما قضيا من اللّذّة نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم) ممّا ينادي عند كلّ ذي مسكة بأنّه ليس من كلام اللّه المنزل للإعجاز.

بل يستفاد ممّا رواه بعضهم عن عمر أنّه قال: لو لا أن يقول النّاس: زاد عمر في كتاب اللّه، لكتبتها - يعني آية الرّجم - (5) أنّه لم يكن أحد مطّلعا على هذه العبارة التي سمّوها آية، مع أنّ مقتضى كثير من

ص: 109


1- الإتقان في علوم القرآن 71:3.
2- التين: 8/95.
3- الإتقان في علوم القرآن 71:3.
4- راجع: الإتقان في علوم القرآن 81:3-84.
5- مسند أحمد: 29، الاتقان في علوم القرآن 85:3.

رواياتهم أنّه كان يكتب آيات القرآن بشهادة شاهدين(1).

فلعلّ عدم اجترائه على كتابتها في القرآن لعلم جميع الناس بأنّ مثل هذه العبارة ليس بكلام اللّه و لا من آيات القرآن، و أنّه ليس إضافتها إلى الكتاب العزيز إلاّ فرية و بهتان.

الطرفة الثانية و العشرون في أنّ للقرآن المجيد ظهرا و بطنا، و بيان المراد منهما

قد تضافرت أو تواترت الروايات من طرق الخاصة و العامّة في أنّ للقرآن العظيم ظهرا و بطنا.

عن الباقر عليه السّلام أنّه قال في حديث: «يا جابر، إنّ للقرآن بطنا، و للبطن بطن و ظهر، و للظهر ظهر »(2).

و عنه، في رواية اخرى: «ما في القرآن آية إلاّ و لها ظهر و بطن »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بسند عامّي: «إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطّلعا»(4) إلى غير ذلك من الروايات.

و الظاهر أنّ المراد من ظهر القرآن ظواهر آياته التي يفهمها كلّ أحد من مدلولاتها المطابقيّة و الالتزاميّة الظاهرة، و من باطنه دلالاته الالتزاميّة الخفيّة و إشاراته الايهاميّة، و لطائفه و دقائقه، و ما يستفاد منه بعموم العلّة أو أقوائيّة الملاك(5) أو خصوصية الكلمات و الحروف، أو بعلم الحساب و الأعداد، فإنّ كلّ واحد من هذه الطرق ممّا يستفاد به من الآيات علوم وفيرة و تكون له بطون كثيرة، كما روي «أنّ للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطن إلى سبعة أبطن »(6).

و قد يطلق على ظهره: التنزيل، و على بطنه: التأويل، كما روي عن الباقر عليه السّلام قال: «ظهره تنزيله، و بطنه تأويله »(7).و إلى ما ذكرنا من معنى الظهر و البطن أشار الصادق عليه السّلام بقوله في رواية: «كتاب اللّه على أربعة أشياء: العبارة، و الإشارة، و اللّطائف، و الحقائق، فالعبارة للعوام، و الإشارة للخواصّ ، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء »(8).

ص: 110


1- الإتقان في علوم القرآن 205:1، كنز العمال 4759/574:2.
2- تفسير العياشي 39/87:1، تفسير الصافي 27:1.
3- تفسير العياشي 36/86:1.
4- إتحاف السادة المتقين/للزبيدي 527:4، تفسير الصافي 28/1.
5- أي قوة الملاك.
6- تفسير الصافي 52:1.
7- بصائر الدرجات: 7/216، تفسير الصافي 27:1.
8- الدرة الباهرة: 31.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «من ما من آية إلاّ و لها أربعة معان: ظاهر، و باطن، و حدّ، و مطّلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحدّ هو أحكام الحلال و الحرام، و المطّلع هو مراد اللّه من العبد بها »(1).

و الظاهر من قوله: «و الباطن الفهم» فهم ما وراء الظاهر من العلوم الكثيرة بالطرق المذكورة المعلومة عندهم.

في بيان أنّ علوم النّبيّ و الأئمّة عليهم السّلام جميعا مستفادة من القرآن

بل يستفاد من بعض الأخبار أنّ علوم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه صلوات اللّه عليهم مستفادة من القرآن العظيم، و القرآن مظهر للعلوم غير المتناهية الإلهيّة و مجلاه، و لذا قال الصادق عليه السّلام: «لقد تجلّى اللّه تعالى [لخلقه] في كلامه، و لكنّ النّاس لا يبصرون »(2).

و روي عنه عليه السّلام أنّه سئل: هل عندكم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيء من الوحي سوى القرآن ؟ قال: «لا و الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، إلاّ أن يعطى عبد فهما في كتابه »(3).

و الظاهر أنّ المراد من إعطاء الفهم إنارة قلب العبد و تقوية عقله، و جودة ذهنه، و تكميل قوّته النّظريّة، و تعليمه طرق الاستفادة.

و توضيح المقام بمقدار يسعه الافهام أنّه لا شبهة أنّ لكلّ موجود وجودات مختلفة في عالم الألفاظ ، و عالم الذهن، و عالم المثل و الصور، و عالم الحقائق، على اختلاف مراتبها و درجاتها قوّة و ضعفا و سعة و ضيقا، و قد حقّق في محلّه أنّ كلّ عالم مرتبط بالعوالم الاخر و قشر لما فيه مستتر، و لكلّ وجود آثار في عالمه، و لكلّ أثر ملاك و أثر و حكم و مصالح بلا عدّ و مرّ، فمن زكت نفسه، و كملت جودته، ينتقل ذهنه من عالم إلى عالم، و من مناسب إلى مناسب، و من ملزوم إلى لازم، و من مؤثّر إلى أثر، و من أثر إلى أثر ما شاء اللّه، فمن رزقه اللّه فهم كتابه، يصل من ظاهره إلى لبابه، و منها إلى دقائقه، و منها إلى حقائقه، حتّى يبلغ إلى درجة لا يخفى عليه خافية، و يحيط بحقائق الأشياء في عوالمها كما هي.

و قد حكى الفيض رحمه اللّه عن بعض أهل المعرفة ما ملخّصه: إنّ العلم بالشيء إمّا يستفاد من الحسّ

ص: 111


1- تفسير الصافي 28:1.
2- أسرار الصلاة للشهيد الثاني: 140.
3- تفسير الصافي 29:1.

برؤية أو تجربة أو سماع خبر أو شهادة أو اجتهاد أو نحو ذلك، و مثل هذا العلم لا يكون إلاّ فاسدا متغيّرا محسورا(1) متناهيا غير محيط ، لأنّه إنّما يتعلّق بالشيء في زمان وجوده علم، و قبل وجوده علم آخر، و بعد وجوده علم ثالث و هكذا، كعلوم اكثر النّاس.

و أمّا ما يستفاد من مبادئه و أسبابه و غاياته كان(2) علما واحدا كلّيّا بسيطا محيطا(3) على وجه عقليّ غير متغيّر، فإنّه ما من شيء إلاّ و له سبب و لسببه سبب، و هكذا إلى أن ينتهي إلى مسبّب الأسباب.

و كلّ ما عرف سببه من حيث يقتضيه و يوجبه فلا بدّ أن يعرف ذلك الشيء علما ضروريا دائما، فمن عرف اللّه تعالى بأوصافه الكماليّة و نعوته الجلاليّة، و عرف أنّه مبدأ كلّ وجود و فاعل كلّ فيض وجود، و عرف ملائكته و علم ملائكته(4) المقرّبين، ثمّ ملائكته المدبّرين المسخّرين للأغراض الكلّيّة العقليّة بالعبادات الدائمة و النسك المستمرّة من غير فتور و لغوب، الموجبة لأن يترشّح عنها صور الكائنات، كلّ ذلك على الترتيب السّببي و المسبّبي، فيحيط علمه بكلّ الامور و أحوالها و لواحقها علما بريئا من التغير و الشك و الغلط ، فيعلم من الأوائل الثواني، و من الكلّيّات الجزئيّات المترتّبة عليها و من البسائط المركّبات، و يعلم حقيقة الانسان و أحواله، و ما يكمّلها و يزكّيها و يسعدها، و يصعدها إلى عالم القدس و ما يدنّسها و يرديها و يشقيها و يهويها إلى أسفل سافلين، علما ثابتا غير قابل للتغيير، و لا محتمل لتطرّق الريب، فيعلم الامور الجزئيّة من حيث هي دائمة كلّيّة و من حيث لا كثرة فيه و لا تغيّر، و إن كانت هي كثيرة متغيّرة في أنفسها بقياس بعضها إلى بعض.

و هذا كعلم اللّه سبحانه بالأشياء، و علم ملائكته المقرّبين، و علوم الأنبياء و الاوصياء بأحوال الموجودات الماضية و المستقبلة، و علمهم بما كان و ما سيكون إلى يوم القيامة من هذا القبيل، فإنّه علم كليّ ثابت غير متجدّد بتجدّد المعلومات، و لا متكثّر بتكثّرها، و من عرف كيفيّة هذا العلم، عرف معنى قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ (5) و يصدّق بأنّ جميع العلوم و المعاني في القرآن الكريم عرفانا حقيقيّا و تصديقا يقينيا على بصيرة لا على وجه التقليد و السماع و نحوهما، إذ ما من أمر من الامور إلاّ و هو مذكور في القرآن، إمّا بنفسه أو بمقوّماته و أسبابه و مبادئه و غاياته، و لا

ص: 112


1- في تفسير الصافي: محصورا.
2- (كان) ليس في تفسير الصافي.
3- (محيطا) ليس في تفسير الصافي.
4- (و علم ملائكته) ليس في تفسير الصافي.
5- النحل: 89/16.

يتمكّن من فهم [آيات] القرآن و عجائب أسراره و ما يلزمها من الأسرار(1) و العلوم التي لا تتناهى إلاّ من كان علمه بالأشياء من هذا القبيل، انتهى(2).

و عن معلّى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ و له أصل في كتاب اللّه، و لكن لا تبلغه عقول الرّجال »(3).

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتّى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه العباد حتّى [لا] يستطيع عبد يقول: لو كان هذا نزل في القرآن، إلاّ و قد أنزله [اللّه] فيه »(4).

و لا شبهة أنّ العلم ببطون القرآن بالغا ما بلغ مختصّ بالأئمّة الطاهرة، و هم بالقرآن يعلمون، لما كان و ما يكون و ما هو كائن، و ما يمكن أن يعلمه البشر.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ هاهنا - و أشار إلى صدره - لعلما جمّا لو وجدت له حملة »(5).

و روى الغزالي في (الإحياء) و الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء) عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلاّ و له ظهر و بطن، و إنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر و الباطن(6).

و روى النّقّاش في (تفسيره) عن ابن عباس ما يقرب ممّا قال ابن مسعود(7).

في نقل كلام الغزالي في فضيلة أمير المؤمنين عليه السّلام و وفور علمه عليه السّلام

و عن الغزالي قال: قال: أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدخل لسانه في فمي، فانفتح في قلبي ألف باب من العلم، مع كلّ باب» ألف باب إلى أن قال الغزالي: و هذه المرتبة لا تنال بمجرّد التعلّم (8) ،بل يتمكّن المرء في هذه الرّتبة بقوّة العلم اللّدنّيّ (9).

و قال علي عليه السّلام لما حكى عهد موسى على نبينا و آله و عليه السّلام: «إنّ شرح كتابه كان أربعين جملا، لو أذن اللّه و رسوله لي لا تسرع(10) في شرح معاني ألف الفاتحة حتّى يبلغ مثل ذلك» يعني أربعين وقرا أو جملا(11).

ص: 113


1- في تفسير الصافي: من الأحكام.
2- تفسير الصافي 50:1.
3- المحاسن: 355/265، الكافي 6/49:1.
4- الكافي 1/48:1.
5- الخصال: 257/186، نهج البلاغة: 147/496.
6- حلية الأولياء 65:1.
7- مناقب ابن شهرآشوب 43:2.
8- في البحار: العلم.
9- بحار الانوار 104:92.
10- كذا في النسخة و البحار و الظاهر: لاشرع.
11- بحار الأنوار 104:92.

و ذكر أبو عمر(1) الزاهد أنّ علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: «يا ابن عبّاس إذا صلّيت العشاء الآخرة فالحقني إلى الجبّان». قال: فصلّيت و لحقته و كانت ليلة مقمرة.

قال: فقال لي: «ما تفسير الألف من الحمد؟» قال: فما علمت حرفا أجيبه. قال: فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.

قال: ثمّ قال لي: «فما تفسير اللاّم من الحمد؟» قال: فقلت: لا أعلم. فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.

ثمّ قال: «فما تفسير الميم من الحمد؟» فقلت: لا أعلم. قال: فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.

قال: ثم قال: «ما تفسير الدال [من الحمد]؟» قال: قلت: لا أدري. قال: فتكلّم فيها حتى برق عمود الفجر. قال: فقال لي: «يا ابن عبّاس، قم إلى منزلك و تأهّب لفرضك».

قال أبو العباس عبد اللّه بن عبّاس: فقمت و قد وعيت كلّ ما قال، ثمّ تفكّرت فإذا علمي بالقرآن في علم عليّ كالقرارة في المثعنجر (2) ،انتهى(3).

قالوا: القرارة: الغدير، و المثعنجر: البحر.

و عن عليّ عليه السّلام قال: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب »(4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه عزّ و جلّ حملة، لنشرت التوحيد و الإسلام [و الإيمان] و الدّين و الشرائع من الصّمد »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّي لأعلم خبر السّماء، و خبر الأرض، و خبر ما كان و ما هو كائن، كأنّه في كفّي».

ثمّ قال: «من كتاب اللّه أعلمه، إنّ اللّه يقول: (فيه تبيان كلّ شيء )»(6).

و في رواية عن أبي عبد اللّه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «ليس شيء أبعد عن عقول(7) الرّجال من تفسير القرآن، و في ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلاّ ما شاء اللّه، و إنّما أراد اللّه بتعميته في ذلك أن

ص: 114


1- في النسخة: أبو عمرو، و هو أبو عمر الزاهد، محمد بن عبد الواحد اللغوي المشهور بغلام ثعلب، المتوفّى سنة 345 ه . راجع: فهرست ابن النديم: 113، تاريخ بغداد 356:2، لسان الميزان 268:5، وفيات الأعيان 329:4.
2- المثعنجر: الماء وسط البحر و ليس في البحر ماء يشبهه، و السيل الكثير، و القراءة: القاع المستدير يجتمع فيه الماء، يقال: علمي إلى علمه كالقرارة في المثعنجر، أي مقيسا إلى علمه كالقاع الصغير موضوعا في جنب البحر.
3- بحار الأنوار 104:92.
4- إحياء علوم الدين 334:1 و 341، أسرار الصلاة للشهيد الثاني: 138.
5- التوحيد: 6/92.
6- تفسير العياشي 2415/18:3.
7- في المحاسن: شيء بابعد من قلوب.

ينتهوا إلى بابه و صراطه، و أن يعبدوه و ينتهوا إلى طاعة القوّام بكتابه، و الناطقين عن أمره، و أن يستنبطوا ما(1) احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم. ثمّ قال: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (2).و أمّا غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا، و لا يوجد.

و قد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الأمر، إذا لا يجدون من يأتمرون عليه، و لا من يبلّغونه أمر اللّه و نهيه، فجعل [اللّه] الولاة خواصّا ليقتدي بهم [من] لم يخصصهم بذلك.

فافهم ذلك إن شاء اللّه، و إيّاك و تأويل القرآن برأيك، فإنّ النّاس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الامور، و لا قادرين عليه و لا على تأويله، إلاّ من حدّه و بابه الذي جعله اللّه له، فافهم إن شاء اللّه، و اطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء اللّه »(3).

الطرفة الثالثة و العشرون في أنّ جميع القرآن في الأئمة و ولايتهم و وجوب اتّباعهم و شئونهم و شئون أوليائهم و أعدائهم، و توضيحه

قد استفاضت الأخبار عن الأئمّة الأطهار صلوات اللّه عليهم في أنّ جميع القرآن فيهم، و في ولايتهم، و وجوب اتّباعهم، و شئونهم و شئون أوليائهم و أعدائهم.

عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه - عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - في حديث ذكر فيه محامد أهل بيته عليهم السّلام - قال: «نحن معدن التنزيل، و معنى التأويل »(4).

و قريب منه ما روي عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث طويل ذكر فيه صفات الإمام(5).

و لا ينافي ذلك ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، قال: «القرآن نزل على أربعة أرباع: ربع فينا، و ربع في عدوّنا، و ربع سنن و أمثال، و ربع فرائض و أحكام، و لنا كرائم القرآن »(6).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «أنّه نزل أثلاثا: ثلثي القرآن فينا و في شيعتنا، فما كان من خير فلنا

ص: 115


1- في النسخة: يستنبطوا لما، و في المحاسن: يستنطقوا ما.
2- النساء: 83/4.
3- المحاسن: 356/268، بحار الأنوار 72/100:92.
4- مشارق أنوار اليقين: 40، بحار الأنوار 38/22:25.
5- مشارق أنوار اليقين: 114.
6- تفسير فرات: 2/46.

و لشيعتنا، و الثلث الباقي اشركنا فيه النّاس، فما كان من شرّ فلعدوّنا »(1).

فإنّ الاختلاف بين الأخبار راجع إلى اختلاف اللّحاظ و الاعتبار، فباعتبار يكون جميع ما ذكر فيه من مدح المؤمنين و ثوابهم، و ذمّ الكفّار و عقابهم راجعا إلى شيعتهم و أعدائهم، و جميع الفرائض و الأحكام مرتبطا بولايتهم، و جميع ما ذكر فيه من قصص الأنبياء و أممهم جاريا فيهم.

عن الكاظم عليه السّلام في قوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ (2) قال: «القرآن له ظهر و بطن، فجميع ما حرّم اللّه في الكتاب هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الجور، و جميع ما أحلّ اللّه في الكتاب هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الحقّ »(3).

و عن أبي بصير، قال: قال الصادق عليه السّلام: «يا أبا محمّد، ما من آية تقود إلى الجنّة و يذكر أهلها بخير إلاّ و هي فينا و في شيعتنا، و ما من آية نزلت تذكر أهلها بشرّ و تسوق إلى النّار، إلاّ و هي في عدوّنا و من خالفنا »(4).

و في (التوحيد) بأسانيده: عنه عليه السّلام أنّه قال: «ما من آية تسوق إلى الجنّة إلاّ و هي في النبيّ و الأئمّة عليهم السّلام و أشياعهم و أتباعهم، و ما من آية تسوق إلى النّار إلاّ و هي في أعدائهم و مخالفيهم »(5).

و عن الصادق عليه السّلام و كثير من الصّحابة و التابعين «أنّه ما من آية أوّلها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ بن أبي طالب أميرها و قائدها و شريفها و أوّلها »(6).

و عن (الاحتجاج) عن الباقر عليه السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خطبة يوم الغدير: معاشر النّاس، هذا عليّ (7) أحقّكم بي، و أقربكم إليّ (8) ،و اللّه عزّ و جلّ و أنا عنه راضيان، و ما نزلت آية رضا إلاّ فيه، و ما خاطب [اللّه] الذين آمنوا إلاّ بدأ به، و ما نزلت آية مدح في القرآن إلاّ فيه(9).

معاشر النّاس، إنّ فضائل عليّ عند اللّه عزّ و جلّ ، و قد أنزلها عليّ في القرآن أكثر من أن احصيها في مكان(10) واحد، فمن نبّأكم بها و عرفها فصدّقوه »(11).

أقول: لا ريب في أنّ كلّ ما نزل من الآيات في فضائل عليّ عليه السّلام فهو جار في أوصيائه

ص: 116


1- بصائر الدرجات: 2/141، بحار الأنوار 18/85:92.
2- الأعراف: 33/7.
3- الكافي 10/305:1.
4- الكافي 6/36:8.
5- اعتقادات الصدوق: 95.
6- تفسير فرات: 48-4/51 و 6-9، مناقب الخوارزمي: 198، ذخائر العقبى: 89.
7- زاد في المصدر: انصركم لي و.
8- زاد في المصدر: و أعزكم عليّ .
9- الاحتجاج: 61.
10- في المصدر: مقام.
11- الاحتجاج: 66.

المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين أيضا، كما روي عن الباقر عليه السّلام في حديث، قال: «ظهر القرآن للذين نزل فيهم، و بطنه للذين(1) عملوا بمثل أعمالهم »(2).

و في رواية اخرى: عنه عليه السّلام قال: «و لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم، ثمّ مات اولئك [القوم] ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، و لكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات و الأرض »(3).

و عنه عليه السّلام في رواية، قال في قوله تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (4)«عليّ الهادي، و من الهادي [اليوم]؟» فقلت: أنت جعلت فداك الهادي. قال: «صدقت، إنّ القرآن حيّ لا يموت، و الآية حيّة لا تموت. فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام و ماتوا ماتت الآية لمات القرآن (5) ،و لكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين »(6).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ القرآن حيّ لا يموت، و إنّه يجري كما يجري اللّيل و النّهار، و كما تجري الشمس و القمر، و يجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا »(7).

و بالجملة: الرّوايات الّتي تدلّ على أنّ جميع القرآن في شأن الأئمّة عليهم السّلام و إيجاب ولايتهم كثيرة جدّا، بل وردت روايات في آيات ظاهرها بيان الأحكام، و باطنها بيان شأنهم، كما روي عن عبد اللّه بن سنان، قال ذريح المحاربيّ : سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ (8) فقال:

«المراد لقاء الإمام عليه السّلام».

[قال عبد اللّه بن سنان]: فأتيت أبا عبد اللّه صلوات اللّه عليه و قلت له: جعلت فداك، قول اللّه عزّ و جلّ : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ؟ قال: «أخذ الشّارب و قصّ الأظفار و ما أشبه ذلك» فحكيت له كلام ذريح، فقال عليه السّلام: «صدق ذريح، و صدقت [أنت]، إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا، و من يحتمل ما يحتمل ذريح !»(9).

قال الفيض: إنّ جماعة من أصحابنا صنّفوا كتبا في تأويل القرآن على هذا النّحو، جمعوا فيها ما ورد عنهم عليهم السّلام في تأويل آية آية، إمّا بهم أو بشيعتهم أو بعدوّهم على ترتيب القرآن، و قد رأيت منها

ص: 117


1- في تفسير العياشي: الذين.
2- تفسير العياشي 34/86:1.
3- تفسير العياشي 31/85:1، بحار الأنوار 4/115:92.
4- الرعد: 7/13.
5- في العياشي: في الأقوام ماتوا فمات القرآن.
6- تفسير العياشي 2185/379:2.
7- تفسير العياشي 2185/379:2.
8- الحج: 29/22.
9- معاني الأخبار: 10/340.

كتابا كاد يقرب من عشرين ألف بيت(1).

و قد ذكر أصحابنا لذلك أسرارا، أحسنها أنّه تعالى لمّا جعل الأنوار المقدّسة في الخلق مظاهر لصفاته الجلاليّة و الجماليّة بهم عرف اللّه و بهم عبد، فلا يحصل لأحد قرب إلى اللّه إلاّ بالقرب إليهم، و لا الإيمان باللّه إلاّ بالايمان بهم، و لا يعرف اللّه الاّ بمعرفتهم، و لا ينال أحد درجة عند اللّه إلاّ بولايتهم.

فكلّ أمر في القرآن بالإيمان باللّه و بعرفانه و بالقرب إليه، يكون أمرا بالإيمان بهم و بعرفانهم و بالقرب إليهم، و كلّ تكليف جعل مقرّبا إلى اللّه، يكون مقرّبا إليهم، و كلّ مدح يكون للمؤمنين، يكون لهم و لشيعتهم، و كلّ ذمّ و وعيد يكون للكفار و لأعداء اللّه، يكون في الواقع راجعا إلى الكافرين بهم و إلى أعدائهم، و كلّ ما هو راجع إلى اللّه، راجع إليهم، فهم صلوات اللّه عليهم مع اللّه، و اللّه معهم، لا يفارقونه في شيء و لا يفارقهم.

و يشهد لما ذكر الأخبار الواردة في أنّ ولايتهم قرينة ولاية اللّه و توحيده، و أنّهم علّة غائيّة لخلق العالم، و أنّ جميع الأنبياء من أوّل الخلق، كما كانوا مأمورين بدعوة اممهم إلى التوحيد، كانوا مأمورين بدعوتهم إلى الإقرار بولايتهم و معرفة حقوقهم.

في (تفسير الإمام عليه السّلام) أنّه قال: «ولاية محمّد و آل محمّد صلوات اللّه عليهم هي الغرض الأقصى و المراد الأفضل، ما خلق اللّه أحدا من خلقه، و لا بعث أحدا من رسله إلاّ ليدعوهم إلى ولاية محمّد و عليّ و خلفائه صلوات اللّه عليهم، و يأخذ عليهم العهد ليقيموا عليه، و ليعلموا به(2) سائر عوامّ الأمم »(3).

و عن (أمالي الشيخ): عن محمّد بن عبد الرحمن، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ولايتنا ولاية اللّه التي لم يبعث نبيّ قطّ إلاّ بها »(4).

و في (الكافي): عن عبد الأعلى، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ما من نبيّ جاء قطّ إلاّ بمعرفة حقّنا، و تفضيلنا على من سوانا »(5).

و فيه أيضا: عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «ولاية عليّ صلوات اللّه عليه مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، و لم يبعث اللّه رسولا إلاّ بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و وصيّة عليّ عليه السّلام »(6).

ص: 118


1- تفسير الصافي 23:1، منها تأويل الآيات لشرف الدين النجفي، و كتاب الهداية القرآنية إلى الولاية الإمامية للسيد هاشم البحراني.
2- في التفسير: و ليعمل به.
3- التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام: 264/379.
4- أمالي الطوسي: 1412/671.
5- الكافي 4/362:1.
6- الكافي 6/363:1.

و عن (تفسير العياشي )(1):عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام أنّه قال: «من دفع فضل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه [على جميع من بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله] فقد كذّب بالتّوراة و الانجيل و الزّبور و صحف إبراهيم و موسى و سائر كتب اللّه المنزلة، فإنّه ما نزل شيء [منها] إلاّ و أهمّ ما فيه بعد الإقرار(2) بتوحيد اللّه عزّ و جلّ و الاقرار بالنبوّة، الاعتراف بولاية عليّ و الطيّبين من آله عليهم السّلام »(3).

[و عن (أمالي الشيخ): عن جعفر بن محمّد الصادق، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام،] قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما قبض اللّه نبيّا حتّى أمره أن يوصي إلى [أفضل] عشيرته من عصبته، و أمرني أن اوصي، فقلت: إلى من يا ربّ ؟ فقال: إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب، فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة، و كتبت فيها أنّه وصيّك، و على ذلك أخذت ميثاق الخلائق، و مواثيق أنبيائي و رسلي، أخذت مواثيقهم لي بالرّبوبيّة، و لك يا محمّد بالنبوّة، و لعليّ بالولاية »(4).

و عن (كتاب سليم بن قيس الهلاليّ ): عن المقداد رضى اللّه عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «و الذي نفسي بيده، ما استوجب آدم أن يخلقه اللّه و ينفخ فيه من روحه، و أن يتوب عليه و يردّه إلى جنّته إلاّ بنبوّتي و الولاية لعليّ بعدي.

و الذي نفسي بيده، ما رأى(5) إبراهيم ملكوت السماوات (6) ،و لا اتّخذه اللّه خليلا إلاّ بنبوّتي و معرفة عليّ بعدي. و الذي نفسي بيده، ما كلّم اللّه موسى تكليما و لا أقام عيسى آية للعالمين إلاّ بنبوّتي و الإقرار لعليّ بعدي. و الذي نفسي بيده، ما تنبّأ نبيّ قطّ إلاّ بمعرفتي(7) و الإقرار لنا بالولاية، و لا استأهل خلق من اللّه النظر [إليه] إلاّ بالعبوديّة له و الإقرار لعليّ بعدي »(8).

و عن جابر الجعفيّ ، عن الباقر عليه السّلام - في رواية طويلة - قال: «فنحن أوّل خلق اللّه، و أوّل خلق عبد اللّه و سبّحه، و نحن سبب خلق اللّه الخلق، و سبب تسبيحهم و عبادتهم من الملائكة و الآدميّين، فبنا عرف اللّه، و بنا عبد اللّه، و بنا وحّد اللّه، و بنا أكرم اللّه من أكرم من جميع خلقه، و بنا أثاب اللّه [من

ص: 119


1- لم نجده في تفسير العياشي، و الظاهر أنّه و هم، فقد ورد في التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام و تأويل الآيات.
2- في تفسير العسكري و تأويل الآيات: الأمر.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 46/88، تأويل الآيات 4/33:1.
4- أمالي الطوسي: 160/104، بحار الأنوار 44/111:38.
5- في المصدر: ما اري.
6- زاد في المصدر: و الأرض.
7- في المصدر: بمعرفته.
8- كتاب سليم: 206.

أثاب]، و بنا عاقب من عاقب، ثمّ تلا قوله تعالى: وَ إِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَ إِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (1) ، و قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (2) فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوّل من عبد اللّه، و أوّل من أنكر أن يكون له ولد أو شريك، ثمّ نحن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» الخبر(3).

فظهر من جميع ما ذكر أنّ حقيقة الدّين و روح الأحكام؛ معرفتهم و ولايتهم، و جميع الخلق راجع إليهم، فجميع آيات الكتاب تكون فيهم و ما يتعلّق بهم.

الطرفة الرّابعة و العشرون في دفع توهّم استلزام أمر اشتمال القرآن على البطون استعمال اللفظ في أكثر من معنى

قد يتوهّم المتوهّم أنّه يلزم من إرادة المعاني الظاهريّة، و البطون الكثيرة من الآيات، إرادة المعاني الكثيرة من اللّفظ الواحد في استعمال واحد، و قد تقرّر في علم الاصول عدم جوازه، بل امتناعه، و بعد الإحاطة بما ذكرنا سابقا من اختلاف جهات الدلالة و استنباط المعاني منها، يندفع هذا التوهّم، فإنّ الانتقال من اللفظ إلى المعنى، و استفادة المطلب من الكلام، ليس منحصرا في الدلالة بجهة واحدة و وجه فارد، بل كلّما استعملت الجمل المركّبة من المفردات تركيبا مفيدا، فهي تدلّ على معانيها الظاهريّة مطابقة، و على أجزائها العقليّة و الخارجية تضمّنا، و على عللها و أجزاء عللها و شرائطها، إلى أن ينتهي إلى مبدأ المبادئ، و علّة العلل و معلولاتها، إلى ما شاء اللّه التزاما.

هذا بالنسبة إلى الجملة الواحدة بالنظر إلى الدّلالات الثلاث مع قطع النّظر عن انضمامها إلى الآيات الاخر، و عن الدلالات غير الكلاميّة من كيفية الألفاظ و أعداد حروفها و سائر طرق الاستفادة منها، التي لا يعلمها إلاّ الرّاسخون في العلم.

فبتلك الوجوه يكون لكلّ آية ظاهر، و ظاهرها ظاهر و باطن و باطن باطن إلى ما شاء اللّه، و بها يجمع بين الأخبار المتنافية الواردة في تفسير بعض الآيات كالمختلفات في تفسير قوله تعالى:

وَ رابِطُوا في آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا (4) ففي بعضها أنّ المراد منه

ص: 120


1- الصافات: 165/37 و 166.
2- الزخرف: 81/43.
3- بحار الأنوار 31/20:25.
4- آل عمران: 200/3.

التوقّف في الثغور، و ربط الخيل للتهيّؤ للجهاد (1).و في بعضها الآخر: أنّ المراد الانتظار للصّلاة بعد الصّلاة (2).و ثالث: أنّه لقاء الإمام(3).

فليس التعارض بين الروايات المختلفة الواردة في تفسير آية من قبيل التعارض الذي يجب الرجوع فيه إلى المرجّحات المنصوصة أو غير المنصوصة، و عند فقدها يلتزم بالتوقّف أو التّخيير، فإنّ الجمع الدلاليّ ممكن فيها، و مقدّم على المرجّحات السّنديّة.

و كذا الروايات المختلفة الواردة في شأن نزول الآيات، فإنّها محمولة على تقارن الوقائع، و إنّ جميعها كان سببا للنزول، أو على أنّ النزول كان متكرّرا، فإنّه ممكن، بل واقع، أو على أنّها نزلت عند أوّل واقعة، ثمّ وقعت وقائع اخرى كلّ واحد منها مناسب لمضمون الآية، فقرأها النبي صلّى اللّه عليه و آله عنده فتوهّم الرّاوي نزولها فيه.

نعم، يكون اختلاف الروايات في كيفيّة القراءة من التّعارض الذي ليس فيه جمع دلاليّ بناء على ما هو الحقّ المحقّق من بطلان القول بتعدّد القراءات التي نزل بها جبرئيل، و فساد القول بأنّ القراءات السّبع متواترة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و إنّ الحقّ أنّ القرآن نزل على حرف واحد من عند إله واحد، كما نطقت به بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام (4) ،و لكن لا يمكن إثبات كيفيّة القراءة بخبر الواحد، كما لا يمكن إثبات الآية به، نعم يترتّب عليه على تقدير استجماعه شرائط الحجّيّة الحكم الشرعيّ الذي يكون لمؤدّاه، إن لم تكن القراءة المشهورة متواترة، و إلاّ فلا بدّ من طرح تلك الروايات و القراءة، و العمل بالقراءة المشهورة، و عند ذلك لا فائدة في تلك الأخبار خصوصا مع قولهم صلوات اللّه عليهم «اقرأ كما يقرأ النّاس »(5).

فلا يجوز قراءة السور بالقراءات غير المشهورة في صلاة الفريضة، و لو كانت مرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام بسند صحيح معتبر.

ص: 121


1- الكشاف 460:1، تفسير روح البيان 157:2.
2- تفسير الطبري 148:4، مجمع البيان 918:2، تفسير القرطبي 323:4، تفسير روح البيان 157:2.
3- راجع: الكافي 3/66:2، غيبة النعماني: 13/199، تفسير القمي 129:1، مختصر بصائر الدرجات: 8.
4- راجع: الكافي 12/461:2 و 13، تفسير الصافي 53:1.
5- راجع: الكافي 23/462:2.

الطرفة الخامسة و العشرون في عدم حجّية الأمارات الدّالّة على تفسير الآيات غير المرتبطة بالأحكام الشرعية العملية

لا شبهة في عدم حجّيّة الأمارات الشرعيّة في مورد ليس له بنفسه أو بتوسّط اللوازم العقليّة أو العاديّة حكم شرعيّ عمليّ ، حيث إنّ الحجّيّة إمّا عبارة عن حكم شرعيّ تكليفيّ طريقيّ بترتيب الأحكام العمليّة الواقعيّة على مؤدّى الأمارة الدّالّة عليها أو على وجود موضوعها عند جهل المكلّف بها أو بموضوعها، أو حكم وضعيّ و جعل إنشائيّ ممّن له الحكم.

و الجعل يكون منشأ لاعتبار عقلائي يستتبع الآثار العقليّة من تنجيز الأحكام الشرعيّة الواقعيّة التي تكون مؤدّاها أو العقلائيّة كذلك و لو بالوسائط العقليّة أو العاديّة عند الإصابة و العذر عند الخطأ و الموافقة و التجرّي عند المخالفة، فلا يتصوّر تحقّق مفهوم الحجّيّة و جعلها إلاّ لأمارة كان مؤدّاها حكما عمليا، أو موضوعا(1) ذا حكم و لو بواسطة امور غير شرعيّة، فلا معنى لحجّيّة الأخبار غير العمليّة الواردة في بيان شأن نزول الآيات أو تفسيرها أو بطونها و تأويلها إذا لم يترتّب عليها حكم شرعيّ و لم يكن لها دخل في فهم الآيات الدّالّة على الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة، و لا يجوز ترتيب أثر العلم على تلك الأمارات المجعولة.

و لو كان العلم مأخوذا فيها على جهة الكشف و الطريقيّة، فعلى المكلّف أن يرتّب على الأمارات آثار المعلوم، لا آثار العلم، فعلى هذا لا يجوز الإخبار بتحقّق مؤدّاها لأنّ جواز الإخبار بالواقع من آثار العلم به لا من آثار نفسه، فإنّ دليل الحجّيّة لا يفي بإثبات آثار العلم للأمارة، و إنّما يثبت لها أثر الكشف عن الواقع الذي للعلم، إلاّ أن يقوم دليل غير دليل الحجّيّة على جواز ترتيب أثر العلم على الأمارة.

فعلى هذا لا يجوز الارتماس في الماء للصائم، و لا يجوز الإخبار بأنّ الارتماس مبطل للصّوم في حكم اللّه الواقعي، لأنّه كذب على اللّه و على رسوله إذا كان الكذب هو الإخبار بشيء لا يعلم به.

نعم، له أن يقول: رأيي، أو رأي مقلّدي عدم جواز الارتماس حال الصّوم، أو يقول: مقتضى الأخبار كذا، إلاّ أن يقال: إنّ أقوى دليل حجّيّة الروايات هو بناء العقلاء و سيرتهم على العمل بالخبر الموثوق

ص: 122


1- في النسخة: حكم عمليّ أو موضوع.

به، و كما أنّ سيرتهم قائمة على جواز العمل، كذلك قائمة على جواز الإخبار بالواقع الذي يكون مؤدّاه.

فإذا أخبر أحد بشأن نزول آية، أو تفسيرها، أو تأويلها، أو بحكم من أحكام اللّه الواقعية، ثمّ سئل عن مدرك إخباره، فأجاب بأنّه ورد خبر معتبر به، لا يلام عند العقلاء على إخباره، مع عدم علمه به، و تؤيّده الرواية في جواز الشّهادة على الملك الواقعيّ بالاستصحاب و اليد(1).

و الحاصل: أنّ في الحجج العقلائيّة من خبر الثقة و ظواهر الألفاظ و غيرها سيرتين منهم، إحداهما:

على جواز العمل بمؤدّاها على أنّه الواقع. و ثانيتهما: على جواز الإخبار بالواقع الذي تكون أمارة عليه.

الطرفة السادسة و العشرون في دفع توهّم التناقض و التعارض بين الآيات الكريمة

قد توهّم الجاهلون التناقض في جملة من آيات الكتاب العزيز، و التعارض بين كثير منها، مع بداهة أنّ كلامه تعالى منزّه عن ذلك، قال تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2)

و قد تعرّض جمع من العلماء لذكر الآيات الموهمة لذلك، و لبيان وجه الجمع بينها و دفع التوهّم فيها.

روي عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس رضى اللّه عنه فقال: رأيت أشياء تختلف عليّ من القرآن. فقال ابن عبّاس: ما هو أشكّ ؟! قال: ليس بشكّ ، و لكنّه اختلاف، قال: هات ما اختلف عليك من ذلك.

قال: أسمع اللّه يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (3) و قال: وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً (4) فقد كتموا. و أسمعه يقول: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (5) ثمّ قال:

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (6) .و قال: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... حتّى بلغ طائِعِينَ (7) ثمّ قال في الآية الاخرى: أَمِ السَّماءُ بَناها (8) ثم قال: وَ الْأَرْضَ

ص: 123


1- وسائل الشيعة 336:27 - باب 17.
2- النساء: 82/4.
3- الأنعام: 23/6.
4- النساء: 42/4.
5- المؤمنون: 101/23.
6- الصافات: 27/37، الطور: 25/52.
7- فصلت: 9/41-11.
8- النازعات: 27/79.

بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (1) .و أسمعه يقول: كانَ اللّهُ (2) ما شأنه يقول: و كانَ اللّهُ ؟ (3).

فقال ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أمّا قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فإنّهم لمّا رأوا يوم القيامة أنّ اللّه يغفر لأهل الإسلام، و يغفر الذنوب، و لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، و لا يغفر شركا، جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم، فقالوا: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فختم اللّه على افواههم و تكلّمت أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك يودّ الّذين كفروا و عصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض و لا يكتمون اللّه حديثا.

و أمّا قوله: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ فإنّه إذا نفخ فى الصّور فصعق من فى السّماوات و من فى الأرض إلاّ من شاء اللّه، فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون، ثمّ نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون و أقبل بعضهم على بعض يتسألون.

و أمّا قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فإن الأرض خلقت قبل السماء، و كانت السماء دخانا فسوّاهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض.

و أمّا قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقول: جعل فيها جبلا، و جعل فيها نهرا، و جعل فيها شجرا، و جعل فيها بحورا.

و أمّا قوله: كانَ اللّهُ فإنّ اللّه كان و لم يزل كذلك و هو كذلك عزيز حكيم عليم قدير لم يزل كذلك

أقول: الظاهر أنّ المراد من الجواب الآخر أنّ الزّمان ليس بداخل في مفهوم الفعل وضعا، أو يكون داخلا، و لكن صار منسلخا من الزّمان هنا بالقرينة القطعيّة.

ثمّ قال: فما اختلف عليك من القرآن فهو يشبه(2) ما ذكرت لك. و إنّ اللّه لم ينزل شيئا إلاّ و قد أصاب به الّذي أراد، و لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون(3).

و عن [ابن] أبي مليكه قال: سأل رجل ابن عبّاس رضى اللّه عنه عن فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ (4) و قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (5) فقال ابن عبّاس: هما يومان ذكرهما اللّه في كتابة، اللّه أعلم بهما(6).

ص: 124


1- النازعات: 30/79. (2و3) آل عمران: 179/3.
2- في النسخة: يشبهها.
3- الإتقان في علوم القرآن 88:3.
4- السجدة: 5/32.
5- المعارج: 4/70.
6- الإتقان في علوم القرآن 93:3.

و زاد في رواية اخرى: ما أدري ما هما و أكره أن أقول فيهما ما لا أعلم(1).

قال ابن [أبي] مليكة: فضربت البعير حتّى دخلت على سعيد بن المسيّب، فسئل عن ذلك، فلم يدر ما يقول: فقلت له: أ لا أخبرك بما حضرت من ابن عبّاس ؟ فاخبرته، فقال ابن المسيّب للسائل:

هذا ابن عبّاس قد اتّقى أن يقول فيهما و هو أعلم منّي(2).

و في رواية اخرى عن ابن عبّاس: إنّ يوم الألف هو مقدار سير الأمر و عروجه إليه، و يوم الألف في سورة الحجّ هو أحد الأيّام السّتّة التي خلق اللّه فيها السماوات، و يوم الخميس ألفا هو يوم القيامة (3).

و عن عكرمة، عنه رضى اللّه عنه أنّ رجلا قال له: حدّثني ما هؤلاء الآيات فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ و يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ و قال:

وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ ؟ (3) فقال: يوم القيامة حساب خمسين ألف سنة، و خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام، كلّ يوم يكون ألف سنة. و يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ قال: ذلك مقدار السّير (4) ،انتهى(5).

و قال بعض: إنّ المراد من اليوم في جميع الآيات يوم القيامة، و أنّ الاختلاف باعتبار اختلاف حال المؤمن و الكافر(6).

و قيل: إنّ المراد من ألف سنة سنين الآخرة، و من خمسين ألف سنة سنين الدنيا(7).

و نقل: أنّه سأل رجل بعض العلماء عن قوله: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (8) فأخبر اللّه أنّه لا يقسم به، ثم أقسم به في قوله: وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (9).فقال: أيّما أحبّ إليك، اجيبك ثمّ أقطعك، أو أقطعك ثمّ اجيبك ؟ فقال: بل اقطعني ثمّ أجبني.

فقال: اعلم أنّ هذا القرآن نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحضرة رجال و بين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا و عليه مطعنا، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلّقوا به و أسرعوا بالرّدّ عليه، و لكنّ القوم علموا و جهلت و لم ينكروا ما أنكرت.

ثمّ قال له: إنّ العرب قد تدخل (لا) في أثناء كلامها و تلغي معناها، و أنشد فيه أبياتا(10).

ص: 125


1- الإتقان في علوم القرآن 93:3.
2- الإتقان في علوم القرآن 93:3.
3- الحج: 47/22.
4- في الإتقان: المسير.
5- الاتقان في علوم القرآن 93:3.
6- الإتقان في علوم القرآن 94:3.
7- مجمع البيان 142:7.
8- البلد: 1/90.
9- التين: 3/95.
10- الإتقان في علوم القرآن 99:3.

و عن بعض العلماء: في المقام كلام ملخّصه: أنّ للاختلاف أسباب.

أحدها: وقوع المخبر به على أحوال(1) مختلفة و تطويرات شتّى، كقوله في خلق آدم مرّة مِنْ تُرابٍ (2) و مرّة مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (3) و مرّة مِنْ طِينٍ لازِبٍ (4) و مرّة مِنْ صَلْصالٍ (5) فهذه ألفاظ مختلفة، و معانيها في أحوال مختلفة، إلاّ أنّ كلّها يرجع إلى أصل واحد و هو التراب.

و كقوله تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (6) في موضع و تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ (7) في موضع، و الجانّ :

الصّغير من الحيّات، و الثعبان: الكبير منها، و ذلك الاختلاف بلحاظ أنّ خلقها خلق الثعبان العظيم، و حركتها و خفّتها كحركة(8) الجانّ و خفّته.

و ثانيها: اختلاف الموضع (9) ،كقوله: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (10) و قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (11) مع قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (12).و ذلك بلحاظ اختلاف الأماكن، لأنّ في القيامة مواقف كثيرة، ففي موضع يسألون، و في آخر لا يسألون.

و قيل: إنّ السؤال المثبت سؤال تبكيت و توبيخ، و المنفيّ سؤال المعذرة و بيان الحجّة.

و قيل: إنّ السؤال الأوّل عن التوحيد و تصديق الرّسل. و السّؤال الثاني عمّا يستلزمه الإقرار بالنبوّات من شرائع الدّين و فروعه.

و كقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً (13) مع قوله: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ (14) فمن الاولى يفهم إمكان العدل، و ممن الثانية عدم إمكانه، فالاولى في توفية الحقوق، و الثانية في الميل القلبيّ ، و ليس في قدرة الإنسان.

أقول: و قريب من هذا الوجه مرويّ عن الصادق عليه السّلام(15).

قال: و كقوله: إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ (16) مع قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها (17) فالاولى في الأمر التشريعيّ ، و الثانية في الأمر التّكوينيّ ، بمعنى القضاء و التقدير.

ص: 126


1- في الاتقان: أنواع.
2- آل عمران: 59/3.
3- الحجر: 28/15.
4- الصافات: 11/37.
5- الرحمن: 14/55.
6- الأعراف: 107/7، الشعراء: 32/26.
7- النمل: 10/27، القصص: 31/28.
8- في الإتقان: كاهتزاز.
9- في الاتقان: الموضوع.
10- الصافات: 24/37.
11- الأعراف: 6/7.
12- سورة الرحمن: 39/55.
13- النساء: 3/4.
14- النساء: 129/4.
15- راجع: تفسير القمي 155:1، تفسير العياشي 1130/448:1.
16- الأعراف: 28/7.
17- الإسراء: 16/17.

و ثالثها: الاختلاف في جهتي الفعل، كقوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى (1) اضيف القتل إليهم و الرّمي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على جهة المباشرة، و نفاه(2) عنهم و عنه صلّى اللّه عليه و آله باعتبار الأسباب(3).

و رابعها: الاختلاف في الحقيقة و المجاز، كقوله: وَ تَرَى النّاسَ سُكارى أي من الأهوال مجازا، و قوله: وَ ما هُمْ بِسُكارى (4) أي من المسكر حقيقة.

و خامسها: اختلاف الوجه و الاعتبار، كقوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (5) مع قوله تعالى:

خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ (6) فالأول باعتبار زوال المانع، و الثاني باعتبار الخوف.

و كقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ (7) مع قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (8) فيظنّ أنّ الوجل خلاف الطمأنينة، و جوابه أنّ الطمأنينة بانشراح الصّدر بمعرفة اللّه، و الوجل من خوف الزّيغ و الذّهاب عن الهدى(9).

أقول: و كقوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا (10) مع قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (11) فإنّ النسيان في الاولى بمعنى ترك إثابتهم و عدم الأمر لهم بخير، و في الثانية بمعنى عدم الذكر.

و كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (12) مع قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (13) فإنّ النّظر في الأوّل النظر إلى ثوابه، أو إلى ربّهم كيف يثيبهم.

و كقوله تعالى: كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (14) و كقوله: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (15) و قوله: فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (16) مع قوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (17)

[فإنّما يعني بقوله لَمَحْجُوبُونَ أي عن ثواب ربّهم يوم القيامة] و إن الذّهاب في قوله تعالى: إِنِّي ذاهِبٌ بمعنى التوجّه و العبادة، و إتيان اللّه بمعنى إرسال العذاب، و كذلك إتيانه بنيانهم [في قوله

ص: 127


1- الأنفال: 17/8.
2- في النسخة: و يفنا.
3- في الاتقان: باعتبار التأثير.
4- الحج: 2/22.
5- سورة ق: 22/50.
6- الإتقان في علوم القرآن 95:3، و الآية من سورة الشورى: 45/42.
7- الرعد: 28/13.
8- الأنفال: 2/8.
9- الإتقان في علوم القرآن 96:3.
10- الأعراف: 51/7.
11- مريم: 64/19.
12- القيامة: 22/75 و 23.
13- الأنعام: 103/6.
14- المطففين: 15/83.
15- الصافات: 99/37.
16- الحشر: 2/59.
17- الحديد: 4/57.

تعالى: فَأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ (1)]بمعنى إرسال العذاب عليهم.

و كقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (2) مع قوله: وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (3) و قد يسمّى الانسان سميعا و بصيرا، فإنّما عنى بالاولى: هل تعلم أحدا اسمه اللّه غير اللّه ؟

و كقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً (4) مع قوله: قالُوا وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (5) فالاولى في موطن من مواطن القيامة، و الثانية في موطن آخر.

روي: أوّلا يفرّ بعضهم من بعض و لا يتكلّمون، و في موطن آخر يستنطقون فيه، فيقولون: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فيختم على أفواههم و تستنطق الأيدي و الأرجل و الجلود فتشهد بكلّ معصية كانت منهم، ثمّ يرفع عن ألسنتهم الختم، فيقولون لجلودهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا (6) إلى آخر الآية.

و ببالي أنّ جميع ما ذكرت مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية طويلة(7).

الطرفة السّابعة و العشرون في أفضلية الكتاب العزيز على سائر الكتب السماوية

لا يداني الكتاب العزيز شىء من الأشياء و كتاب من الكتب في الفضيلة و الشرف، فإنّ فضله على سائر الكتب كفضل اللّه على سائر خلقه، حيث إنّه كلامه الناطق، و نوره السّاطع، مضافا إلى أنّ فضيلة الكتاب بفضيلة ما اشتمل عليه من العلم، و الكتاب المجيد مشتمل على أفضل العلوم، من علم المبدأ و المعاد و المعارف الإلهيّة، و بيان حقائق الامور و الحكم الكامنة في الأشياء و الأحكام الشرعيّة و الآداب الدّينيّة.

عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه: خير الحديث كتاب اللّه(8).

ص: 128


1- النحل: 26/16.
2- مريم: 65/19.
3- الشورى: 11/42.
4- النبأ: 38/78.
5- الأنعام: 23/6.
6- فصلت: 21/41.
7- الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل أجاب فيه عليه السّلام الزنديق الذي ادّعى التناقض في بعض آي القرآن الكريم بجواب مفصّل يزيل الوهم و الشكّ ، رواه الشيخ الصدوق في التوحيد: 5/254 و الطبرسي في الاحتجاج: 240، و عنهما العلامة المجلسي في بحار الأنوار 1/98:93 و: 2/127 و الظاهر أنّ المصنف أورد طرفا منها بالمعنى لا باللفظ ، يشهد له قوله (و ببالي).
8- الإتقان في علوم القرآن 122:4.

و عن ابن عمر، مرفوعا: القرآن أحبّ إلى اللّه من السّماوات و الأرض و من فيهنّ (1).

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام) قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ هذا القرآن هو النّور المبين، و الحبل المتين، و العروة الوثقى، و الدرجة العليا، و الشّفاء الأشفى و الفضيلة الكبرى، و السّعادة العظمى، من استضاء به نوّره اللّه، و من عقد به اموره عصمه اللّه، و من تمسّك به أنقذه اللّه، و من لم يفارق احكامه رفعه اللّه، و من استشفى به شفاه اللّه، و من آثره على ما سواه هداه اللّه، و من طلب الهدى في غيره أضلّه اللّه، و من جعله شعاره و دثاره أسعده اللّه، و من جعله إمامه الذي يقتدي به و معوّله الذي ينتهي إليه أدّاه اللّه إلى جنّات النّعيم و العيش السليم »(2).

عن الحارث الأعور، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه - في رواية - قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أتاني جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمّد ستكون في امّتك فتنة. قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب اللّه، فيه بيان ما قبلكم من خبر، و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم، و هو الفصل ليس بالهزل، من وليه(3)

من جبّار فعمل بغيره قصمه اللّه، و من التمس الهدى في غيره أضلّه اللّه، و هو حبل اللّه المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصّراط المستقيم، لا تزيغه الأهوية، و لا تلبسه الألسنة، و لا يخلق على الرّدّ، و لا تنقضي عجائبه، و لا يشبع منه العلماء، هو الذي لم تلبث(4) الجنّ أن قالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ (5).

من قال به صدق، و من عمل به اجر، و من اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم، هو الكتاب العزيز الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » (6).

و من طرق العامّة، عن الحارث، عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما يقرب منه(7).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا جمع اللّه الأوّلين و الآخرين، إذا هم بشخص قد أقبل، لم ير قطّ أحسن صورة منه، فإذا نظر إليه المؤمنون - و هو القرآن - قالوا: هذا منّا، هذا أحسن شيء رأيناه. فإذا انتهى إليهم جازهم، ثمّ ينظر إليه الشّهداء حتّى إذا انتهى إلى آخرهم جازهم، فيقولون: هذا القرآن،

ص: 129


1- الإتقان في علوم القرآن 120:4، كنز العمال 2363/528:1.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 297/449.
3- في النسخة: ولاه.
4- في العياشي و البحار: لم تكنه.
5- الجن: 1/72 و 2.
6- تفسير العياشي 2/75:1، بحار الأنوار 25/24:92، و الآية من سورة فصلت: 42/41.
7- سنن الدارمي 435:2، سنن الترمذي 2906/172:5.

فيجوزهم كلّهم، حتّى إذا انتهى إلى المرسلين، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم ثمّ ينتهي حتّى يقف عن يمين العرش، فيقول الجبّار: و عزّتي و جلالي، و ارتفاع مكاني لاكرمنّ اليوم من أكرمك، و لأهيننّ من أهانك »(1).

أقول: قد وردت أخبار كثيرة في تمثّل القرآن يوم القيامة بأحسن صورة(2).

و قال بعض المحقّقين: إنّ للقرآن وجودا كتبيّا بين الدّفّتين، و وجودا لفظيّا للقارئ منّا و من المعصومين عليهم السّلام، بل يمكن أن يقال: من الملائكة كجبرئيل عليه السّلام، و وجودا علميّا في لوح النّفس مكتسبا من المرتبتين الاوليين، و وجودا علميّا من إلقاء الرّوح الذي من عالم الأمر إيّاه في القلب بأمر اللّه سبحانه، كما لعلّه يرشد إليه قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (3) أو من انتقاش الألفاظ الغيبيّة في لوح القلب عند مواجهته لها و مقابلته إيّاها، و لعلّه يؤمى إليه قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (4) ،و وجودا عينيا كتبيّا في لوح غيبيّ هو المبدأ لهذه النّقوش الواقعة في لوح القلب، و به يصير القلب مصحفا لوجه أوراقه، و تلك النّقوش كتابته، و لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (5) و وجودا لفظيّا عينيّا هو كلام اللّه سبحانه الذي أوجده و أسمعه من شاء من عباده من الملك و النبيّ ، و لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ (6) و وجودا إجماليّا قبل التفصيل، و لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ (7).

و هو الأصل، و الباقي تنزّلاته و مراتبه و شئونه، كأصل الشجرة بالنّسبة إلى ساقها و اغصانها، و لعلّ إلى هذه المقامات الإشارة بإطلاق الإنزال و التّنزيل على القرآن في مواضع كثيرة.

ثمّ إنّ لنا صعودا أيضا، فإنّ القرآن اللفظيّ الصادر منّا، يتمثّل بمثال و يتشكّل بصورة جوهري في عالم أرفع من هذا العالم على ما تحقّق و ثبت في محلّه بالآيات و الأخبار الكثيرة الواردة في الموارد الكثيرة، المعتضدة بالاستبصارات العقليّة و غيرها من أنّ الأعمال الحسنة و السيّئة تتجسّم و تتمثّل و تبقى في عالم البرزخ مع الميّت، و قراءة القرآن منها بل من اولى أفرادها بهذا الحكم، و كتابة القرآن أيضا عمل يتجسّم كذلك، فيتحقّق في القرآن قوسان: قوس نزول ينتهي إلى وجوده اللّفظيّ و الكتبيّ

ص: 130


1- الكافي 14/440:2.
2- راجع الكافي 11/439:2.
3- الشعراء: 193/26 و 194.
4- العنكبوت: 49/29.
5- الواقعة: 77/56-79.
6- الزمر: 23/39.
7- هود: 1/11.

الواقع في هذه النشأة، و قوس صعود واقع في عالم البرزخ، كما هو الحال في حقيقة الإنسان.

ثمّ إنّ حقيقة القرآن ليست مقصورة على عالم الألفاظ و النّقوش الواقعة في عالم الملك و الملكوت، بل مداليل الكلمات القرآنيّة أولى بالدخول في حقيقة القرآن منها، و لها وجود في عالمها، فهي أيضا يصحّ أن تعدّ مقاما آخر له، و مراتبه المعنويّة تنتهي إلى حقيقة الاسم الالهي الذي هو المبدأ للقرآن، و يشبه أن يكون هو حقيقة اسم الهادي و النّور الذي ربّما أطلق اسمه على القرآن في مواضع.

ثمّ إنّ عالم القيامة الكبرى لمّا كان يوم الجمع بين العوالم، و يوم إبلاء السّرائر، و إظهار المكنونات، و إبراز الامور الغيبيّة بصور حسّيّة مطابقة لها حتّى تتوافق النّشآت و العوالم لينبئهم بما عملوا، و لتبلى كلّ نفس ما كسبت، و يحصد كلّ زارع ما زرع، و الزرع تابع للبذر، لزمه أن(1) ينزّل القرآن من عالم الغيب إلى ظاهر عالم القيامة مصورا بصورة حسنة حتّى يوافق حسنه المعنويّ ، لأنّه أحسن ما يكون، و له بهاء و جمال و نور حسّيّ ، كما أنّ هذه الصّفات اليوم في عالم الغيب على وجه غيبيّ ، فإنّ الدنيا بمنزلة الامّ للآخرة.

ثمّ إنّه لا بدّ و أن يمرّ على صفوف المؤمنين كما يمرّ على قلوبهم و نفوسهم في دار الدنيا ليطابق الظاهر الباطن، و القالب الروح، و الصورة المعنى، مبتدئا المرور من الأدنى إلى الأعلى، لأنّه سالك في الاستكمال متوجّه إلى ربّ العزّة، فيلزمه الكون مع النّازل قبل الكون مع الكامل، و أن يكون مع كلّ صنف منهم بصورة ذلك الصّنف، لأنّه عند كلّ منهم واقع في مرتبتهم بزيادة بهاء و جمال و نور، لعدم مخالطته بما يضادّ هذه الصّفات من ظلمة و كدورة، و لأنّهم لا يدركون منه إلاّ المقدار الذي كان لهم في الدنيا، و منه الشأن المتعلّق بصفتهم و مقامهم و حالهم، كما أنّ كلاّ منهم حال قراءته للقرآن يشاهد المعنى الموافق لمقامه من الظاهر و الباطن و باطن الباطن.

و إن كان الكامل مشتملا على الناقص فلا بدّ و أن يظنّ كلّ صنف منهم أنّه منهم كما كانوا يظنّون في الدنيا أنّه بيان طريقتهم و صفة حالهم، و أن يعرفه كلّ منهم بنعته و صفته عند المواجهة، كما كان يعرف ذلك المقدار في دار الدّنيا من القرآن و معانية، إذ القدر الظاهر منه في كلّ مقام يساوي ذلك المقام.

و لو لم يعرف أهل الصّنف ذلك القدر الظاهر، لم يكونوا من أهل ذلك المقام، إلى أن ينتهي إلى

ص: 131


1- في النسخة: مصوّرة.

ربّ العزّة إلى آخر قوسه الصّعوديّ ، فيسجد صورة كما سجد بالخضوع المطلق و الفناء معنى، و قد كان مصير القرآن إليه سبحانه في النّشأة الاولى.

الطرفة الثامنة و العشرون في أفضلية تعلّم القرآن و تعليمه على سائر الأعمال و العبادات

قد ظهر ممّا ذكر في فضل القرآن أنّ تعليمه و تعلّمه من أفضل الأعمال مضافا إلى روايات كثيرة دالّة على فضلهما و كثرة الثّواب عليهما.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تعلّموا القرآن - إلى أن قال: - و يكسى أبواه خلّتين إن كانا مؤمنين، ثمّ يقال لهما: هذا لما علّمتماه القرآن »(1).

و في حديث أبي ذرّ: لأن تغدو فتتعلّم آية من كتاب اللّه خير لك من أن تصلّي مائة ركعة(2).

و عن أبي هريرة: ما من رجل يعلّم ولده القرآن إلاّ توّج يوم القيامة بتاج في الجنّة(3).

و في رواية عن عثمان: إنّ أفضلكم من تعلّم القرآن و عمل به(4).

و في رواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من تعلّم منه حرفا ظاهرا كتب اللّه له عشر حسنات، و محا عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات».

قال: «لا أقول بكلّ آية، و لكن بكلّ حرف باء أو ياء أو شبههما »(5).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: من تعلّم كتاب اللّه ثمّ اتّبع ما فيه، هداه اللّه به من الضّلالة، و وقاه يوم القيامة سوء الحساب(6).

و عن سعد الخفّاف، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «تعلّموا القرآن، فإنّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق - إلى أن قال: - حتّى ينتهي إلى ربّ العزّة فيخرّ تحت العرش فيناديه تبارك و تعالى: يا حجّتي في الأرض، و كلامي الصادق النّاطق، ارفع رأسك، و سل تعط ، و اشفع تشفّع [فيرفع رأسه، فيقول اللّه تبارك و تعالى]: كيف رأيت عبادي ؟ فيقول: يا ربّ منهم من صانني و حافظ عليّ و لم

ص: 132


1- الكافي 3/441:2.
2- الإتقان في علوم القرآن 124:4.
3- الإتقان في علوم القرآن 123:4.
4- الإتقان في علوم القرآن: 123:4، و فيه: القرآن و علّمه.
5- الكافي 6/448:2.
6- الاتقان في علوم القرآن 124:4.

يضيّع شيئا، و منهم من ضيّعني و استخفّ بي(1) و كذّب بي، و أنا حجّتك على جميع خلقك. فيقول اللّه عزّ و جلّ : و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لأثيبنّ اليوم عليك أحسن الثّواب، و لاعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب» الخبر(2).

قيل: إنّ سجدة القرآن كناية عن فنائه في اللّه، و رفع رأسه كناية عن بقائه به بعد فنائه فيه، و كما أنّه كان في الدّنيا مقرّبا للعباد إلى اللّه، و سببا لشمول رحمته لهم و دفع عذابه عنهم في الدنيا، يكون شفيعا لهم إلى اللّه و وسيلة وسائلا لثوابه العظيم عليهم، و دفع عذابه عنهم في الآخرة.

عن الشيخ، بإسناده: عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: خياركم من تعلّم القرآن و علّمه »(3).

و عن عقبة بن عمّار، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يعذّب اللّه قلبا وعى القرآن »(4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ هذا القرآن مأدبة اللّه، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم، إنّ هذا القرآن حبل اللّه، و هو النّور المبين »(5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا قال المعلّم للصبيّ : قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبيّ : بسم الله الرحمن الرحيم، كتب اللّه براءة للصبيّ ، و براءة لوالديه و براءة للمعلّم من النّار »(6).

و عن (المجمع): عن معاذ، قال: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ما من رجل علّم ولده القرآن إلاّ توّج اللّه أبويه يوم القيامة بتاج الملك، و كسيا حلّتين لم ير النّاس مثلهما »(7).

و في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال في خطبة له: «و تعلّموا القرآن [فإنّه أحسن الحديث و تفقّهوا فيه] فإنّه ربيع القلوب »(8).

و عن عليّ بن ابراهيم: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتّى يتعلّم القرآن، أو أن يكون في تعليمه »(9).

و الظاهر من جميع هذه الرّوايات تعلّم عبارات آياته و كيفيّة قراءته، إلاّ أنّه يحتمل شمول كثير منها تفاسيرها و بطونها، و جميع العلوم الراجعة إليها، فإنّ تعلّم جميعها تعلّم القرآن، و قد صرّح بعض أصحابنا بوجوب تعلّم القرآن و تعليمه كفاية، و هو الحقّ ، لا أحتمل فيه خلافا بين المسلمين.

ص: 133


1- في الكافي: و استخف بحقي.
2- الكافي 1/436:2، بحار الأنوار 16/319:7.
3- أمالي الطوسي: 739/357، بحار الأنوار 2/186:92.
4- أمالي الطوسي: 7/6.
5- مجمع البيان 85:1، كنز العمال 2356/526:1.
6- مجمع البيان 90:1.
7- مجمع البيان 75:1.
8- نهج البلاغة: 164 الخطبة 110.
9- الكافي 3/444:2، عدة الداعي: 7/287.

الطرفة التاسعة و العشرون في أنّ حفظ القرآن من أهمّ العبادات

حفظ القرآن من أهمّ العبادات، و أوكد المستحبّات، في (الوسائل): عن عقبة بن عمّار، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يعذّب اللّه قلبا وعى القرآن »(1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ القرآن حتّى يستظهره و يحفظه، أدخله اللّه الجنة، و شفّعه في عشرة من أهل بيته، كلّهم قد وجبت لهم النّار »(2).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ القرآن و هو شاب مؤمن، اختلط بلحمه و دمه، و جعله اللّه مع السّفرة الكرام البررة، و كان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة »(3).

أقول: لا يبعد أن يكون المراد من اختلاط القرآن باللّحم و الدّم حفظه، كما قال عليه السّلام في رواية اخرى: «حافظ القرآن العامل به مع السّفرة الكرام البررة »(4).

و يحتمل أن يكون المراد حفظ ألفاظه مع حفظ معانيه، و الإيمان به، و العمل بموجبه، و التخلّق بما فيه من الأخلاق الإلهيّة و الآداب الشرعيّة، فيكون أهل القرآن، كما في رواية الكلينيّ ، بسنده عن السّكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميّين ما خلا النّبيّين و المرسلين، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فإنّ لهم من اللّه العزيز الجبّار لمكانا [عليّا ]»(5).

و ما رواه الطّبرسيّ : عن النبيّ قال: «أهل القرآن هم أهل اللّه و خاصّته »(6).

و في حديث عقبه بن عامر، عن النبيّ : «لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النّار».

قال أبو عبيد (7):أراد بالإهاب قلب المؤمن و جوفه الذي قد وعى القرآن(8).

و في حديث أمير المؤمنين عليه السّلام: «من قرأ القرآن و استظهره فأحلّ حلاله، و حرّم حرامه، أدخله اللّه الجنّة، و شفّعه في عشرة من أهل بيته، كلّهم قد وجبت لهم النّار »(9).

أقول: الظاهر أنّ المراد من قوله: فاستظهره حفظه و جعله في ظهر قلبه، كما أنّ الظاهر من حمل

ص: 134


1- أمالي الطوسي: 7/6.
2- مجمع البيان: 85:1.
3- الكافي 4/441:2.
4- الكافي 2/441:2.
5- الكافي 1/441:2.
6- مجمع البيان 84:1.
7- في النسخة: أبو عبيدة، و هو أبو عبيد القاسم بن سلاّم الهروي المتوفّى سنة 224 ه .
8- الإتقان في علوم القرآن 121:4.
9- الإتقان في علوم القرآن 123:4.

القرآن ذلك.

عن الصّدوق، بإسناده: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أشراف امّتي حملة القرآن و أصحاب اللّيل »(1).

و الظاهر أنّ المراد بأصحاب اللّيل الذين يسهرون اللّيل بتلاوة القرآن و القيام بالعبادة.

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام): عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «حملة القرآن المخصوصون برحمة اللّه، الملبسون نور اللّه، المعلّمون كلام اللّه، المقرّبون عند اللّه، من والاهم فقد والى اللّه، و من عاداهم فقد عادى اللّه» الخبر(2).

أقول: لمّا كان حفظ القرآن عن معرفة و إيمان مورثا لنورانيّة القلب و انشراح الصّدور و انبساط الرّوح و تهذيب النّفس، كان أجره مسانخا له في القيامة من كون الحافظ مغمورا في نور اللّه، مخصوصا برحمة اللّه، موسوما بكلام اللّه، مقرّبا عند اللّه.

ثمّ لا شبهة أنّ حفظه بمشقّة و كلفة أعظم أجرا من حفظه بسهولة، لعموم قوله: «إنّ أفضل الأعمال أحمزها»(3) و لخصوص ما روي عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ الذي يعالج القرآن و يحفظه بمشقّة منه، و قلّة حفظ ، له أجران »(4).

و من الأسف أنّ هذه العبادة الفاضلة صارت متروكة في زماننا هذا بعد شيوعها في الأزمنة السابقة، بحيث كان غير الحافظ له موهونا بين المسلمين على ما قيل.

الطرفة الثلاثون في ثواب تلاوة القرآن العظيم

لتلاوة الكتاب الكريم ثواب عظيم و فضل جسيم.

عن الصادق عليه السّلام في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام قال: «و عليك بتلاوة القرآن على كلّ حال »(5).

و عنه عليه السّلام في حديث: «و من قرأ نظرا في غير صلاة(6) كتب اللّه له بكلّ حرف حسنة و محا عنه سيّئة، و رفع له درجة - إلى أن قال: - و من قرأ حرفا و هو جالس في صلاة، كتب اللّه له به خمسين حسنة و محا عنه خمسين سيّئة، و رفع له خمسين درجة. و من قرأ و هو قائم في صلاته، كتب اللّه له مائة

ص: 135


1- الخصال: 21/7.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 1/13.
3- النهاية 440:1، و أحمزها: أي أقواها و أشدها.
4- الكافي 1/443:2.
5- الكافي 33/79:8.
6- في الكافي: من غير صوت.

حسنة و محا عنه مائة سيئة، و رفع له مائة درجة. و من ختمه كانت له دعوة مستجابة، مؤخّرة أو معجّلة».

قال: قلت: جعلت فداك، ختمه كلّه ؟ قال: ختمه كلّه(1).

و عنه عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في رواية، قال: «يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميل، شاحب اللون، فيقول له: أنا القرآن الذي كنت أسهرت ليلك و أظمأت هواجرك، و أجففت ريقك، و أسبلت دمعك (2)- إلى أن قال: - فأبشر فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه، و يعطى الأمان بيمينه، و الخلد في الجنان بيساره، و يكسى حلّتين، ثمّ يقال له: اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية صعد درجة» الخبر(3).

و عن الكلينيّ رحمه اللّه بسنده: عن حفص، قال: سمعت موسى بن جعفر عليهما السّلام يقول في حديث: «إنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن. يقال له: اقرأ و ارق، فيقرأ ثمّ يرقى »(4).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «عليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية رقى درجة»(5) إلى غير ذلك.

و لعلّ السّرّ في ذلك أنّ في كلّ آية علما و نورا و معرفة و هداية و دعوة إلى اللّه، فبالتمسّك بكلّ منها، و المعرفة بها، و التخلّق بموجبها، و العمل بها، يحصل للعبد درجة في كمال النّفس و القرب إلى اللّه، و بالتمسّك بجميعها نهاية الكمال و منتهى القرب إليه سبحانه، و لمّا كانت درجات الجنّة على حسب مراتب كمال العبد و قربه، و مطابقا لها، بل هي معانيها و أرواحها، و الآثار المترتّبة عليها، كانت درجات الجنّة بعدد الآيات.

عن الزهريّ ، قال: قلت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام: أيّ الأعمال أفضل ؟ قال: «الحالّ المرتحل».

قلت: و ما الحالّ المرتحل ؟ قال: «فتح القرآن و ختمه، كلّما جاء بأوّله ارتحل بآخره »(6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ مائة آية يصلّي بها في ليلة، كتب اللّه له بها قنوت ليلة. و من قرأ مائتي آية في غير صلاة [لم يحاجّه القرآن يوم القيامة، و من قرأ خمسمائة آية في يوم و ليلة في صلاة النهار و] اللّيل، كتب اللّه له في اللوح [المحفوظ ] قنطارا من الحسنات، و القنطار ألف و مائتا اوقيّة،

ص: 136


1- الكافي 6/448:2.
2- في الكافي: و أسلت دمعتك.
3- الكافي 3/441:2.
4- الكافي 10/443:2.
5- أمالي الصدوق: 586/440.
6- الكافي 7/442:2.

و الاوقيّة أعظم من جبل احد »(1).

و عن عليّ بن بابويه، بسنده، عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين، و من قرأ مائتي آية كتب من القانتين، و من قرأ ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن »(2).

و عن (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل العبادة قراءة القرآن »(3).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه صلوات اللّه عليهم - في رواية -: «و من قرأ القرآن ابتغاء وجه اللّه و تفقّها في الدّين، كان له من الثواب مثل ما اعطي(4) الملائكة و الأنبياء و المرسلون »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث - قال: «ما من عبد من شيعتنا يتلو القرآن في صلاته قائما، إلاّ و له بكلّ حرف مائة حسنة، و لا قرأ في صلاته جالسا، إلاّ و له بكلّ حرف خمسون حسنة، و لا في غير صلاة إلاّ و له بكلّ حرف عشر [حسنات ]»(6).إلى غير ذلك من الرّوايات.

و لعلّ اختلاف مراتب الثّواب باختلاف مراتب الإيمان و المعرفة و التّدبر، ففي مرتبة يكون ثواب كلّ حرف حسنة، و في مرتبة عشر حسنات، هذا مضافا إلى أنّ لذّة تلاوة كتاب اللّه للمؤمن العارف المتدبّر أعلى و أتمّ من كلّ لذّة، فإنّه يرى نفسه حاضرا في مجلس القرب، فيخاطبه ربّه و مليكه و يشافهه بأحسن كلام، و ألطف بيان، ثمّ إنّ لكلّ سورة من السّور ثوابا خاصّا و فضيلة مخصوصة، سنذكره إن شاء اللّه بعد إتمام تفسير كلّ منها.

الطرفة الحادية و الثلاثون في آداب تلاوة الكتاب الكريم

آداب تلاوة الكتاب العزيز كثيرة:

أحدها: أن يكون التّالي متطهّرا حال التّلاوة، عن ابن فهد رحمه اللّه قال: قال عليه السّلام: «لقارئ القرآن بكل حرف يقرؤه في الصّلاة قائما مائة حسنة، و قاعدا خمسون [حسنة]، و متطهّرا في غير الصّلاة خمس و عشرون حسنة و غير متطهّر عشر حسنات» الخبر(7).

و لعلّ السرّ أنّ المتطهّر أقرب إلى الاستفاضة بأنوار القرآن من المحدث، كما أنّ طاهر القلب أقبل

ص: 137


1- الكافي 9/455:2.
2- معاني الأخبار: 96/410.
3- مجمع البيان 84:1.
4- في عقاب الأعمال: مثل جميع ما يعطى.
5- عقاب الأعمال: 293.
6- الكافي 260/214:8.
7- عدة الداعي: 8/287.

لفيوضاته.

ثانيها: أن لا يكون عريانا، لما روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه نهى عن قراءة القرآن عريانا(1).

ثالثها: الاستعاذة قبلها، عن (تفسير العيّاشيّ ) عن الحلبيّ ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن التّعوّذ من الشّيطان عند كلّ سورة يفتتحها؟ قال: «نعم، فتعوّذ باللّه من الشّيطان الرّجيم »(2).

أقول: مقتضى إطلاق قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (3)

استحبابه قبل تلاوة آية أو بعض آية.

رابعها: التّسمية قبل التّلاوة، عن الصادق عليه السّلام: «أغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة، و افتحوا أبواب الطّاعة بالتّسمية »(4).

خامسها: التلاوة في المصحف، و إن كان التّالي حافظا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ القرآن في المصحف [نظرا] متّع ببصره، و خفّف على والديه و إن كانا كافرين »(5).

و عن إسحاق بن عمّار، عنه عليه السّلام قال: جعلت فداك، إنّي أحفظ القرآن عن ظهر قلبي، فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل، أو أنظر في المصحف ؟

قال: فقال عليه السّلام لي: «بل اقرأه و انظر في المصحف، فهو أفضل، أ ما علمت أنّ النّظر في المصحف عبادة »(6).

و عن أبي ذرّ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «النّظر إلى عليّ بن أبي طالب عبادة، و النّظر إلى الوالدين برأفة و رحمة عبادة، و النّظر في الصّحيفة - يعني صحيفة القرآن - عبادة، و النّظر إلى الكعبة عبادة »(7).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ليس شيء أشدّ على الشّيطان من القراءة في المصحف نظرا »(8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قراءة القرآن في المصحف تخفّف العذاب عن الوالدين و إن كانا كافرين »(9).

و لعلّ السرّ في كون النّظر إليه عبادة، أنّ النّظر إلى كتابته يورث نورانيّة في القلب، بل النظر إلى جميع المقدّسات الإلهية و إلى وجه العالم و المؤمن، له هذا الأثر، كما أنّ النّظر إلى وجه الكفّار

ص: 138


1- بحار الأنوار 19/216:92.
2- تفسير العياشي 2427/23:3.
3- النحل: 98/16.
4- دعوات الراوندي: 130/52.
5- ثواب الأعمال: 102.
6- عدة الداعي: 290.
7- أمالي الطوسي: 1016/454.
8- أعلام الدين: 37/368.
9- الكافي 4/449:2.

و العصاة، و ما هو مبغوض عند اللّه كالخمر و الميسر و الأصنام، بل الزخارف الدّنيويّة، يؤثر ظلمة في القلب، و كدورة في النّفس، كأنّه يقتبس الروح من هذه الخبائث خباثة و شقاوة، كما يقتبس من الطيّبات و المقدّسات طيبا و قداسة و سعادة، مع أنّ في النّظر الى المصحف زيادة توجّه القلب إليه، و صرف النّفس عن شغلها بغيره.

سادسها: ترتيل القرآن و تلاوته بمكث و بطاء بلا عجلة و سرعة، عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى:

وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (1) قال: «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: بيّنه تبيانا و لا تهذّه(2) هذّ الشّعر، و لا تنثره نثر الرّمل، و لكن أفزعوا به قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السّورة »(3).

و عن ابن عبّاس، في تفسير الآية: بيّنه تبيانا(4) و أقرأه على هينتك (5) ،ثلاث آيات، و أربعا، و خمسا(6).

و قيل: الترتيل هو أن يقرأه على نظمه و تواليه، و لا يغيّر لفظا و لا يقدّم مؤخّرا(7).

سابعها: تحسين الصوت به، عن الصادق عليه السّلام في تفسير التّرتيل قال: «هو أن تتمكّث فيه، و تحسّن به صوتك »(8).

و عنه عليه السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لكلّ شيء حلية، و حلية القرآن الصّوت الحسن »(6).

و عن الرضا عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصّوت الحسن يزيد القرآن حسنا »(7).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام أحسن النّاس صوتا بالقرآن، و كان السّقّاءون يمرّون فيقفون ببابه يسمعون قراءته »(8).

و عن أبي الحسن عليه السّلام قال: ذكر الصّوت عنده، فقال: «إنّ عليّ بن الحسين كان يقرأ، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته »(9).

ثمّ لا يذهب عليك أنّ حسن الصّوت مغاير للغناء الذي هو من الأصوات الملهية المطربة المعهودة عند العرف، و يرجع في تمييزها إليهم، و هو من الكبائر، خصوصا في القرآن.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل

ص: 139


1- المزمل: 4/73.
2- هذّه: قطعه سريعا، و هذّ القرآن: أسرع في قراءته، و هذّ قراءته: إذا أسرع فيها.
3- الكافي 1/449:2.
4- في المجمع: بيانا.
5- الهينة: السكينة. (6و7و8) مجمع البيان 569:10.
6- الكافي 9/450:2.
7- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 322/69:2.
8- الكافي 11/451:2.
9- الكافي 4/450:2.

الكبائر، فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النّوح و الرّهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة و قلوب من يعجبه شأنهم »(1).

ثامنها: القراءة بالحزن، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن »(2).

تاسعها: التلاوة: كأنّ التالي يخاطب إنسانا، عن حفص: ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام - إلى أن قال: - فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنسانا(3).

عاشرها: التّفكّر في معاني القرآن، و الاعتبار و الاتّعاظ بما يقتضي الاعتبار و الاتّعاظ و التأثّر.

عن (الكافي) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى، و مصابيح الدّجى، فليجل جال بصره، و يفتح للضّياء نظره، فإنّ التّفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنّور »(4).

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: أ لا اخبركم من الفقيه حقّا - إلى أن قال: - ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه »(5).

حادي عشرها: ختم سورة شرع فيها، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لبلال رضى اللّه عنه: «إذا قرأت السورة فأنفدها »(6).

ثاني عشرها: عدم خلط بعض سورة ببعض سورة اخرى، عن سعيد بن المسيّب: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ ببلال و هو يقرأ من هذه السّورة و من هذه السورة، فقال: «يا بلال، مررت بك و أنت تقرأ من هذه السّورة و من هذه السّورة» قال: أخلطت الطّيب بالطّيب. فقال: «اقرأ السورة على وجهها» - أو قال: «على نحوها »(7).

ثالث عشرها: أن يقرأ السورة من أوّلها مستقيما إلى آخرها، لا من آخرها منكوسا إلى أوّلها.

عن ابن مسعود، أنّه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا قال: ذاك منكوس القلب(8).

رابع عشرها: حفظ الآداب العرفية، كترك الضّحك، و العبث، و مكالمة النّاس، و النّظر إلى ما يلهيه.

ص: 140


1- الكافي 3/450:2.
2- الكافي 2/449:2.
3- الكافي 10/443:2.
4- الكافي 5/438:2.
5- معاني الأخبار: 1/226.
6- الإتقان في علوم القرآن 379:1. (7و8) الإتقان في علوم القرآن 378:1.

قال بعض العلماء: يكره قطع القراءة لمكالمة أحد، لأنّ كلام اللّه لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره(1).

خامس عشرها: ترك الإفراط في مقدار القراءة، على ما يظهر من جملة الأخبار.

عن الكليني رحمه اللّه بسنده عن محمّد بن عبد اللّه، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقرأ القرآن في ليلة ؟ قال:

«لا يعجبني أن تقرأه في أقلّ من شهر »(2).

و عن الحسين بن خالد، عنه عليه السّلام قال: قلت له: في كم أقرأ القرآن ؟ فقال: «اقرأه أخماسا، اقرأه أسباعا، أما إنّ عندي مصحفا مجزّى أربعة عشر جزءا »(3).

عن عليّ بن أبي حمزة، قال: سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر، فقال له: جعلت فداك، أقرأ القرآن في ليلة ؟ فقال: «لا». فقال: في ليلتين ؟ فقال: «لا» حتّى بلغ ستّ ليال، فأشار بيده فقال: «ها».

ثمّ قال [أبو عبد اللّه عليه السّلام]: «يا أبا محمّد، إنّ من كان قبلكم من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ القرآن في شهر و أقلّ ، إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة، و لكن يرتّل ترتيلا، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها و تعوّذت باللّه من النّار».

فقال له أبو بصير: أقرأ القرآن في رمضان في ليلة ؟ فقال: «لا». فقال: ففي ليلتين ؟ فقال: «لا». فقال:

«ففي ثلاث ؟» قال: «ها» و أومأ بيده «نعم، شهر رمضان لا يشبهه شيء من الشّهور، له حقّ و حرمة، أكثر من الصّلاة ما استطعت »(4).

سادس عشرها: استشعار الرّقّة، و اللّين، و الوجل، و الدّمعة، دون إظهار الغشية.

عن (مصباح الشريعة) عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «من قرأ القرآن و لم يخضع للّه، و لم يرقّ قلبه، و لا ينشئ حزنا و وجلا في سرّه، فقد استهان بعظم شأن اللّه، و قد خسر خسرانا مبينا، فقارئ القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء: قلب خاشع، و بدن فارغ، و موضع خال »(5).

عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت: إنّ قوما إذا ذكّروا شيئا من القرآن أو حدّثوا به، صعق أحدهم حتّى ترى أنّ أحدهم لو قطعت يداه و رجلاه(6) لم يشعر بذلك ؟ فقال عليه السّلام: «سبحان اللّه! ذلك من الشّيطان، ما بهذا نعتوا، إنّما هو اللّين، و الرّقّة، [و الدمعة] و الوجل »(7).

ص: 141


1- الإتقان في علوم القرآن 377:1.
2- الكافي 1/451:2.
3- الكافي 3/452:2. و في النسخة: أربعة عشر أجزاء.
4- الكافي 5/452:2.
5- مصباح الشريعة: 28.
6- في الكافي: أو رجلاه.
7- الكافي 1/451:2.

الطرفة الثانية و الثلاثون في بيان ما يستحبّ أن يقال بعد تلاوة بعض الآيات الكريمة

يستحبّ سؤال الجنّة بعد تلاوة آية فيها ذكر الجنّة، و التّعوّذ من النّار عند تلاوة آية فيها ذكرها، و التّسبيح عند آية فيها الأمر به، و السؤال عند آية فيها الأمر به، و الدّعاء بعد آية فيها ذكر الدّعاء، و ذكر قول كان في الآية الأمر به.

عن عوف بن مالك، قال: قمت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، و كان لا يمرّ بآية رحمة إلاّ وقف و سأل، و لا يمرّ بآية عذاب إلاّ وقف و تعوّذ(1).

و عن حذيفة، قال: صلّيت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثمّ النّساء فقرأها، ثمّ آل عمران فقرأها، يقرأ مترسّلا، و كان إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، و إذا مرّ بآية فيها سؤال سأل و إذا مرّ بآية فيها تعوّذ تعوّذ(2).

و عن جابر، أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأ: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (3) الآية فقال: «اللهمّ أمرت بالدّعاء و تكفّلت بالإجابة، لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد و النّعمة لك و الملك، لا شريك لك، أشهد أنّك فرد أحد صمد، لم تلد و لم تولد و لم يكن لك كفوا أحد، و أشهد أنّ وعدك حقّ و لقاءك حقّ ، و الجنّة حقّ ، و النّار حقّ ، و السّاعة آتية لا ريب فيها، و أنّك تبعث من في القبور »(4).

و عن ابن عباس رضى اللّه عنه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (5) قال: «سبحان ربّي الأعلى »(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا قرأتم من المسبّحات الأخيرة، فقولوا: سبحان ربّي الأعلى»(7) الخبر(8).

و عن رجاء بن [أبي] الضّحّاك، قال: كان الرضا عليه السّلام في طريق خراسان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مرّ بآية فيها ذكر الجنّة أو النّار بكى و سأل اللّه الجنّة و تعوّذ به من النّار.

ص: 142


1- السنن الكبرى 310:2، الإتقان في علوم القرآن 369:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 369:1.
3- البقرة: 186/2.
4- الإتقان في علوم القرآن 370:1.
5- الأعلى: 1/87.
6- الإتقان في علوم القرآن 369:1.
7- في الخصال: اللّه.
8- الخصال: 10/629.

إلى أن قال: و كان إذا قرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ قال سرّا: «اللّه أحد» قال: و لمّا فرغ منها، قال: «كذلك اللّه ربّي(1) ثلاثا».

و كان إذا قرأ سورة الجحد، قال في نفسه سرّا: «يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ » فإذا فرغ منها قال: «ربّي اللّه، و ديني الإسلام» ثلاثا.

و كان إذا قرأ وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ قال عند الفراغ منها: «بلى، و أنا على ذلك من الشاهدين».

و كان إذا قرأ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، قال عند الفراغ منها: «سبحانك اللّهمّ بلى »(2).

و كان يقرأ في سورة الجمعة قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ للّذين اتّقوا (3)وَ اللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ (4).

و كان إذا فرغ من الفاتحة، قال: «اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .

و إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال سرّا: «سبحان ربّي الأعلى».

و إذا قرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال: «لبّيك اللّهمّ لبّيك» سرّا(5).

أقول: لا يبعد أنّه وقع في الرّواية سهو من الراوي، فإنّ قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا بعد قوله تعالى: ما عِنْدَ اللّهِ أنسب من ذكره بعد اللهو و التّجارة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فقال: «سبحان ربّي الأعلى» و هو في الصّلاة، فقيل له: أ تزيد في القرآن ؟ قال: «لا، أمرنا بشيء فقلته »(6).

أقول: يستفاد من هذه الرّواية أنّ كلّ أمر في القرآن بقول من إقرار بإيمان، أو تسبيح، أو تحميد، أو توكّل، أو تسليم، أو ذكر أو دعاء، كقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى (7)

أو قوله: اُذْكُرُوا اللّهَ (8) و قوله: وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (9) و قوله: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ (10) و غير ذلك، يستحبّ امتثاله عند تلاوة آيته بأن يقول القارئ: آمنت باللّه و بما انزل إلينا، و سبحان اللّه، و الحمد للّه، و سلام على عبادة الذين اصطفى، و توكّلت على اللّه.

ص: 143


1- في العيون: ربنا.
2- (بلى) ليس في عيون أخبار الرضا عليه السّلام.
3- الظاهر أنّ هذه الزيادة محمولة على التوضيح و البيان لا على أنّها من القرآن، لثبوت سلامته من الزيادة و النقصان.
4- الجمعة: 11/62.
5- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 5/183:2.
6- الدر المنثور 482:8، كنز العمال 4114/317:2.
7- النمل: 59/27.
8- الأحزاب: 41/33.
9- ابراهيم: 11/14، التغابن: 13/64.
10- البقرة: 136/2.

و لا ينحصر مورد استحباب التّسبيح بسورة الأعلى، بل يستحبّ عند قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السّاجِدِينَ (1) بل يستحبّ عند ذكر التسبيح و التحميد كقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى (2) ، و قوله: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ (3) للرّواية المرويّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

و كذا يستحبّ الصّلاة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند تلاوة آية فيها الأمر بها، للرّواية المذكورة، و لما روي عنه عليه السّلام في رواية: «و إذا قرأتم إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... (4) فصلّوا عليه، في الصّلاة كنتم أو في غيرها »(5).

و كذا يستفاد من الرّوايات أنّ كلّ سؤال يناسب جوابه من التّالي أن يجيبه، كقوله تعالى: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ (6) ،و كقوله تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ (7) بأن يقول: لا نكفر، بل نؤمن بألسنتنا و قلوبنا، أو ما أشبه ذلك من العبارات الّتي تدلّ على الإيمان و اعتقاد الحقّ .

عن جابر، قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الصّحابة فقرأ عليهم سورة الرّحمن من أوّلها إلى آخرها فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجنّ فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلّما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (8) قالوا: و لا بشيء من نعمتك(9) ربّنا نكذّب، فلك الحمد »(10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية: «و إذا قرأتم (و التّين) فقولوا في آخرها: و نحن على ذلك من الشّاهدين »(11).

و عن التّرمذي [في حديث]: «من قرأ وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ فانتهى إلى آخرها: أَ لَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (12) فليقل: بلى، و أنا على ذلك من الشّاهدين (13).و من قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى آخرها أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (14) فليقل: بلى و من قرأ وَ الْمُرْسَلاتِ فبلغ إلى قوله (15):فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (16) فليقل: آمنّا باللّه »(17).

ص: 144


1- الحجر: 98/15.
2- الإسراء: 1/17.
3- البقرة: 30/2.
4- الأحزاب: 56/33.
5- الخصال: 10/629.
6- فصلت: 9/41.
7- آل عمران: 101/3.
8- الرحمن: 13/55...
9- في الإتقان: نعمك.
10- الإتقان في علوم القرآن 369:1.
11- الخصال: 10/629.
12- التين: 8/95.
13- الترمذي 3347/443:5.
14- القيامة: 40/75.
15- في النسخة: فبلغ بقوله.
16- المرسلات: 50/77.
17- الإتقان في علوم القرآن 369:1.

و كذا يستحبّ قول (آمين) بعد آية فيها الدعاء للمؤمنين، عن أبي ميسرة: أنّ جبرئيل لقّن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند خاتمة البقرة آمين(1).

و عن معاذ بن جبل، أنّه كان إذا ختم سورة البقرة، قال: «آمين »(2).

و عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا تلا هذه الآية وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (3) وقف ثمّ قال: «اللهم آت نفسي تقواها [أنت وليها و مولاها و خير من زكّاها »(4).

و عن أبي هريرة سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقرأ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قال: اللهم آت نفسي تقواها] و زكّها، أنت خير من زكّاها، أنت وليّها و مولاها» قال: هو في الصلاة(5).

أقول: إنّ هذه الرّوايات إمّا عاميّة أو إماميّة ضعيفة لا يمكن أن يعتمد عليها في إثبات حكم شرعيّ حتى يجوز قصد التّعبّد و الورود بما تضمّنته (6) ،خصوصا في الصلاة، إذا لم يكن من ذكر اللّه، أو من الدعاء، كقول: (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) بعد قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (7).

نعم، يمكن الحكم بالاستحباب بضميمة الرّوايات الدالّة على أن من بلغه شيء من الثّواب فعمله رجاء ذلك الثّواب إلى آخره بناء على إفادتها الاستحباب الشّرعيّ كما هو الظّاهر، فعليه، لا إشكال في ذكرها في الصلاة بقصد التعبّد و الورود، و لو لم يكن من الذكر و الدعاء.

الطرفة الثّالثة و الثلاثون في كراهة ترك تلاوة القرآن لحافظه حتّى يؤدّي إلى النسيان

ذهب بعض العامّة إلى أنّ ترك تلاوة القرآن لحافظه حتّى يؤدّي إلى نسيانه معصية كبيرة، لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «عرضت عليّ ذنوب أمّتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثمّ نسيها». و ما روي أنّه «من قرأ القرآن ثمّ نسيه لقى اللّه يوم القيامة أجذم »(8).

و في (الصحيحين): «تعاهدوا القرآن، فو الذي نفس محمّد بيده لهو أشدّ تفلّتا من الإبل في

ص: 145


1- الإتقان في علوم القرآن 370:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 370:1.
3- الشمس: 7/91 و 8.
4- الدر المنثور 529:8.
5- الدر المنثور 529:8.
6- في النسخة: تضمّنها.
7- الكافرون: 1/109.
8- الإتقان في علوم القرآن 363:1.

عقلها »(1).

و عن (أمالي الصّدوق رضوان اللّه عليه) في مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ألا و من تعلّم القرآن ثمّ نسيه متعمّدا، لقي اللّه [يوم القيامة] مغلولا، يسلّط اللّه عليه بكلّ آية منه حيّة تكون قرينه إلى النّار، إلاّ أن يغفر له »(2).

و يؤيد ذلك قوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (3).

هذا ما يمكن أن يستدلّ به لحرمة النسيان، و لم يحضرني في المسألة قول من أصحابنا، و الأظهر كراهة التّرك المذكور لضعف سند ما عدا رواية المناهي، و عدم دلالة بعضها إلاّ على الكراهة، كقوله:

«لقي اللّه يوم القيامة أجذم» بل دلالة ما في (الصّحيحين) على الارشاد بقرينة ذيله، و عدم ربط الآية بالمقام، لأنّ المراد بالنّسيان في قوله: فَنَسِيتَها هو ترك الاعتناء بها، كما أنّ المراد من قوله:

تُنْسى ترك الإثابة، مع معارضة جميعها بما روي عن الهيثم بن عبيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سألته عن رجل قرأ القرآن ثمّ نسيه، - فرددت عليه ثلاثا -: أ عليه فيه حرج ؟ قال: «لا »(4).

و بما رواه عبد اللّه بن مسكان، عن يعقوب الأحمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك، إنّه قد أصابني هموم و أشياء لم يبق من الخير إلاّ [و قد] تفلّت منّي منه طائفة، حتّى القرآن، لقد تفلّت منّي طائفة منه. قال: ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن، ثمّ قال: «إنّ الرجل لينسى السّورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتّى تشرف عليه من درجة من بعض الدّرجات فتقول: السّلام عليك، فيقول: و عليك السّلام، من أنت ؟ فتقول: أنا سورة كذا و كذا، ضيّعتني و تركتني، أما لو تمسّكت بي بلغت بك هذه الدّرجة» الخبر (5) ،فإنّ دلالته على عدم الحرمة، لدلالته على دخول الناسي في الجنّة، و سلام القرآن عليه و حرمانه عن الدّرجات العالية واضحة.

و أمّا رواية المناهي فهي محمولة على تقدير صحّة السّند أو وثاقته على النّسيان المسبب عن الإعراض عن القرآن و التّهاون و عدم الاعتناء به و الاستخفاف بشأنه، و هو من أشدّ المعاصي، بل هو في معنى الكفر.

ص: 146


1- الإتقان في علوم القرآن 363:1.
2- أمالي الصدوق: 707/513.
3- طه: 124/20-126.
4- الكافي 5/445:5.
5- الكافي 6/446:5.

و عليه يحمل أيضا إن لم يكن ظاهرا فيه، ما رواه في (البحار) من كتاب (الإمامة و التّبصرة): عن سهل بن أحمد، عن محمّد بن محمّد بن الأشعث، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «عرضت عليّ الذنوب فلم اصب أعظم من ذنب رجل حمل القرآن ثمّ تركه »(1).

و يؤيّده أنّه إذا كان حفظ القرآن مستحبّا، فالظّاهر أن يكون كثرة تعاهده و إبقائه في الحفظ مستحبّا، و بعيد غايته أن يكون واجبا إلاّ أن يدلّ دليل معتبر عليه من إجماع أو نصّ ، و لو كان ذلك الدّليل لعدّه الفقهاء في الواجبات، و لم أجد في كتب أصحابنا رضوان اللّه عليهم من تعرّض له.

الطرفة الرابعة و الثلاثون في كراهة ختم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام لمنافاته للتّدبّر و التّفكر في آياته

قد مرّ في آداب التلاوة كراهة الإفراط في سرعة التلاوة، و قال جمع بكراهة ختم القرآن العظيم في أقلّ من ثلاثة أيّام(2).

عن ابن مسعود، قال: لا تقرءوا القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام(3).

و عن معاذ بن جبل، أنّه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام(4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام» (5).

أقول: مقتضى هذه الروايات عدم الكراهة في ثلاثة أيّام فما فوقها.

و عن سعيد بن المنذر، قال: قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال: «نعم، إن استطعت »(2).

و عن إبراهيم بن العبّاس، قال: كان الرّضا عليه السّلام يختم القرآن في كلّ ثلاث، و يقول: «لو أردت أن أختمه في أقلّ من ثلاث لختمته، و لكن ما مررت بآية قطّ إلاّ فكّرت فيها، و في أيّ شيء نزلت، و في أيّ وقت نزلت، فلذلك صرت أختم في [كلّ ] ثلاثة أيّام »(3).

ثمّ اعلم أنّ الظاهر من الرّواية أنّ تطويل المدّة لرعاية التّدبّر و التّفكّر في الآيات حيث إنّ تلاوتها

ص: 147


1- جامع الأحاديث: 18، بحار الأنوار 14/189:92، و لم نعثر عليه في كتاب الإمامة و التبصرة. (2و3و4) الإتقان في علوم القرآن 361:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 361:1.
3- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 4/180:2.

من غير تدبّر و تفكّر فيها قليلة النفع، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (1) فإنّه تعالى جعل التدبّر غاية للإنزال، و قال تعالى توبيخا: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (2)

إلى غير ذلك من الآيات.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: أنّ رجلا قال له: إنّي أقرأ المفصّل في ركعة واحدة. فقال: هذّا كهذّ الشّعر، إنّ قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، و لكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع(3).

و عنه رضى اللّه عنه قال: لا تنثروه نثر الدّقل (4) ،و لا تهذّوه هذّ الشّعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا [به] القلوب، و لا يكون همّ أحدكم آخر السورة (5) ،و قد مرّ ما يقرب من ذلك (6).و لذا روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا يعجبني أن يقرأ القرآن في أقلّ من شهر »(7).

فتبيّن من جميع ذلك أنّ مقدار فضيلة تلاوة القرآن على مقدار تدبّر القارئ، فإنّ تلاوة جزء بتدبّر و تفكّر فيه أفضل من قراءة جزءين أو أكثر في قدر ذلك الزّمان بلا تدبّر و تفكّر و ترتيل.

و حينئذ لو فرضنا قدرة القارئ على ختم القرآن في ليلة واحدة مع حقّ التدبّر فيه، كان فضيلته أزيد من ختمه في ليلتين، فالأخبار النّاهية عن ختمه في ليلة أو ليلتين ناظرة إلى حال نوع المؤمنين، فإنّهم عاجزون عن أداء حقّ تلاوته في أقلّ من ثلاث، و على هذا تختلف المدّة باختلاف قدرة التّالي على الختم مع التدبّر، و لذا اختلفت الأخبار في تقدير المدّة على حسب اختلاف الأشخاص.

عن عبد اللّه بن عمر، قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اقرأ القرآن في شهر». قلت: إنّي أجد قوّة. قال:

«اقرأه في عشر». قلت: إنّي أجد قوّة. قال: «اقرأه في سبع و لا تزد على ذلك »(8).

و في رواية اخرى: قال: يا رسول اللّه، في كم أقرأ القرآن ؟ قال: «في خمسة عشر». قلت: إنّي أقوى من ذلك. قال: «اقرأه في جمعة »(9).

قيل: كان للسّلف في قدر القراءة عادات مختلفة، فأكثر ما ورد في كثرة قراءتهم من كان يختم في اليوم و الليلة ثمان ختمات؛ أربعا في اللّيل، و أربعا في النّهار، و يليه من كان يختم في اليوم و اللّيلة

ص: 148


1- سورة ص: 29/38.
2- محمد صلّى اللّه عليه و آله: 24/47.
3- الإتقان في علوم القرآن 367:1.
4- الدّقل: رديء التّمر و يابسه.
5- الإتقان في علوم القرآن 367:1.
6- تقدّم في الطرفة الحادية و الثلاثين.
7- إقبال الأعمال: 110.
8- الإتقان في علوم القرآن 361:1.
9- الإتقان في علوم القرآن 361:1.

أربعا، و يليه ثلاثا، و يليه ختمتين، و يليه ختمة، و قد ذمّت عائشة ذلك.

نقل عن مسلم بن مخراق، قال: قلت لعائشة: إنّ رجالا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرّتين أو ثلاثا؟ فقالت: قرءوا و لم يقرءوا، كنت أقوم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة التمام فيقرأ بالبقرة و آل عمران و النساء، فلا يمرّ بآية فيها استبشار إلاّ دعا و رغب، و لا بآية فيها تخويف إلاّ دعا و استعاذ(1).

و قال بعض العامّة: إنّه يكره تأخير ختمه أكثر من أربعين يوما بلا عذر، حيث روي أنّ عبد اللّه بن عمر سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: في كم أختم القرآن ؟ قال: «في أربعين يوما »(2).

الطرفة الخامسة و الثلاثون في أنّ لمن ختم القرآن دعوة مستجابة

قد ظهر ممّا سبق من بعض الرّوايات أنّ لمن ختم القرآن دعوة مستجابة.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من طرق العامّة: «من ختم القرآن فله دعوة مستجابة »(3).فعلى المؤمن أن يبالغ في الدّعاء بعد الختمة، و أن يسأل أهم الحوائج و هو غفران الذنوب و النّجاة من النّار.

عن أنس بن مالك [مرفوعا] «من قرأ القرآن و حمد الرّبّ و صلّى على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استغفر ربّه، فقد طلب الخير [مكانه ]»(4).

و قد ورد من طرق أصحابنا (رضوان اللّه عليهم) ادعية كثيرة، منها:

ما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرني أن أدعو عند ختم القرآن: اللّهمّ إنّي أسألك إخبات المخبتين، و إخلاص الموقنين، و مرافقة الأبرار، و استحقاق حقائق الإيمان، و الغنيمة من كلّ برّ، و السّلامة من كلّ اثم، و وجوب رحمتك، و عزائم مغفرتك، و الفوز بالجنّة، و النجاة من النّار »(5).

روي عن عاصم، عن زرّ بن حبيش، قال: قرأت القرآن من أوّله إلى آخره في مسجد جامع الكوفة على أمير المؤمنين عليه السّلام - إلى أن قال: - فلمّا بلغت رأس العشرين من (حم * عسق): وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (6) بكى

ص: 149


1- الإتقان في علوم القرآن 360:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 362:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 384:1.
4- الإتقان في علوم القرآن 384:1.
5- مكارم الأخلاق: 342.
6- الشورى: 22/42.

أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى ارتفع نحيبه، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء، و قال: «يا زرّ، أمّن على دعائي» ثمّ قال:

«اللّهمّ إنّي أسألك إخبات المخبتين..» إلى آخر الدعاء.

ثمّ قال: «يا زرّ، إذا ختمت فادع بهذه، فإنّ حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرني أن أدعو بهنّ عند ختم القرآن »(1).

أقول: يستفاد من قوله: «يا زرّ، أمّن على دعائي» استحباب حضور المؤمنين عند الدّعاء و تأمينهم له، خصوصا عند ختم القرآن، و يؤيده ما روي عن أنس: أنّه كان إذا ختم القرآن جمع أهله و دعا(2).

و عن الحكم بن عتيبة (3) ،قال: أرسل إليّ مجاهد و عنده ابن أبي أمامة، و قالا: إنّا أرسلنا إليك لأنّا أردنا أن نختم القرآن، و الدعاء يستجاب عند ختم القرآن(4).

و عن مجاهد، قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن، و يقول: عنده تنزل الرّحمة(5).

و من الأدعية المأثورة: ما روي عن الصادق عليه السّلام: اللّهمّ إنّي قد قرأت ما قضيت من كتابك الذي أنزلته على نبيّك الصادق عليه السّلام فلك الحمد ربّنا، اللّهمّ اجعلني ممّن يحلّ حلاله و يحرّم حرامه و يؤمن بمحكمه و متشابهه، و اجعله لي انسا في قبري، و انسا في حشري، [و انسا في نشري] و اجعلني ممّن ترقيه بكلّ آية قرأتها درجة في أعلى علّيّين، آمين ربّ العالمين »(6).

و الظاهر أنّ هذا الدّعاء ليس مختصّا بختم القرآن، بل يستحبّ عند الفراغ من القراءة، و لو كانت قراءة بعضه من سورة أو آيات.

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه كان إذا ختم القرآن، قال: «اللّهمّ اشرح بالقرآن صدري، و استعمل بالقرآن بدني، و نوّر بالقرآن بصري، و أطلق بالقرآن لساني، و أعنّي عليه ما أبقيتني، فإنّه لا حول و لا قوّة إلاّ بك .»(7).

ثمّ لا يذهب عليك أنّه كما ندب إلى الدعاء بعد ختمه ندب إليه حين الشروع في تلاوته.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه كان إذا قرأ القرآن قال قبل أن يقرأ حين يأخذ المصحف: «اللّهمّ إنّي أشهد أنّ هذا كتابك المنزل من عندك على رسولك محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كلامك الناطق على

ص: 150


1- بحار الأنوار 2/206:92.
2- الإتقان في علوم القرآن 382:1.
3- في النسخة: الحكم بن عيينة، راجع: تهذيب الكمال 114:7.
4- الإتقان في علوم القرآن 382:1.
5- الإتقان في علوم القرآن 382:1.
6- الاختصاص: 141، بحار الأنوار 2/207:92.
7- بحار الأنوار 6/209:92.

لسان نبيّك، جعلته هاديا منك إلى خلقك و حبلا متّصلا فيما بينك و بين عبادك، اللّهمّ إنّي نشرت عهدك و كتابك، اللّهمّ فاجعل نظري فيه عبادة، و قراءتي فيه فكرا، و فكري فيه اعتبارا، و اجعلني ممّن اتّعظ ببيان مواعظك فيه، و اجتنب معاصيك، و لا تطبع عند قراءتي على سمعي، و لا تجعل على بصري غشاوة، و لا تجعل قراءتي قراءة لا تدبّر فيها، بل اجعلني أتدبّر آياته و أحكامه، آخذا بشرائع دينك، و لا تجعل نظري فيه غفلة، و لا قراءتي هذرا [إنك] أنت الرءوف الرّحيم »(1).

الطرفة السّادسة و الثّلاثون:

في أنّ لبعض سور القرآن فضيلة على بعض

مقتضى كثير من الرّوايات أنّ لبعض سور القرآن الكريم فضيلة على بعض، و إن أنكرها قوم من العامّة.

عن أنس: «أفضل القرآن اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (2) أي سورة الفاتحة.

و عن [أبي] سعيد(3) بن المعلّى: «أعظم سورة في القرآن اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (4).

و عن أبيّ بن كعب، مرفوعا: «ما أنزل اللّه في التوراة و لا في الإنجيل مثل أمّ القرآن، و هي السّبع المثاني»

و عن ابن عبّاس: «فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن »(5).

و عن سهل بن سعد: «أنّ لكلّ شيء سناما، و سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشّيطان ثلاثة أيّام، و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشّيطان ثلاث ليال »(6).

و عن بريدة: «تعلّموا سورة البقرة، فإنّ أخذها بركة و تركها حسرة، و لا تستطيعها البطلة،(7) تعلّموا سورة البقرة و آل عمران فإنّهما الزّهراوان، تظلاّن صاحبهما يوم القيامة كأنّهما غمامتان »(8).

ص: 151


1- بحار الأنوار 2/207:92.
2- الإتقان في علوم القرآن 125:4.
3- في النسخة: سعيد، تصحيف، انظر تهذيب الكمال 348:33.
4- الإتقان في علوم القرآن 125:4.
5- الإتقان في علوم القرآن 125:4 و فيه: تعدل ثلثي القرآن، الدر المنثور 15:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 126:4.
7- البطلة: السحرة أو الشياطين.
8- الإتقان في علوم القرآن 126:4.

و في رواية: «الأنعام من نواجب القرآن »(1).

و عن معقل بن يسار: «يس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد اللّه و الدار الآخرة إلاّ غفر له، اقرءوها على موتاكم».(2)

و عن أنس: «أنّ لكلّ شيء قلبا و قلب القرآن يس، و من قرأ يس كتب اللّه له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرّات».

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: «إنّ لكلّ شيء لبابا، و لباب القرآن الحواميم».(3)

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: «الحواميم ديباج القرآن »(4).

و في رواية: «في تنزيل السّجدة و تبارك الملك فضل ستّين درجة على غيرهما من سور القرآن »(5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لكلّ شيء عروس، و عروس القرآن الرحمن »(6).

و عن أنس: «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ عدلت له بنصف القرآن »(7).

و في رواية: «وَ الْعادِياتِ تعدل نصف القرآن »(8).

و في رواية: «أ لا أحدكم أن يقرأ ألف آية في كلّ يوم ؟ قالوا: و من يستطيع أن يقرأ ألف آية ؟ قال: أ ما يستطيع أحدكم أن يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ؟» (9).و الظاهر أنّ المراد أنّ سورة أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ تعدل ألف آية.

و عن أنس: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ربع القرآن »(10).

و عن ابن عبّاس: «أنّها تعدل بربع القرآن» (11).

و عن أنس: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ ربع القرآن» (12).

و عن أبي هريرة: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن »(7).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعقبة: «أ لا أعلّمك سورا ما انزل في التّوراة و لا في الزّبور و لا في الإنجيل و لا في

ص: 152


1- الإتقان في علوم القرآن 128:4، و نواجب القرآن: أفاضل سوره.
2- الإتقان في علوم القرآن 129:4.
3- الإتقان في علوم القرآن 129:4.
4- الإتقان في علوم القرآن 130:4.
5- الإتقان في علوم القرآن 129:4.
6- الدر المنثور 690:7. (7و8) الإتقان في علوم القرآن 132:4. (9و10) الإتقان في علوم القرآن 132:4.
7- الإتقان في علوم القرآن 133:4.

الفرقان(1) مثلها؟» قلت: بلى. قال: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ » (2).

الطرفة السّابعة و الثّلاثون في أنّ لبعض الآيات فضيلة على بعض

مفاد كثير من الرّوايات أنّ لبعض الآيات فضيلة على بعض:

عن العيّاشي رحمه اللّه في بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عن الصادق عليه السّلام، قال: «ما لهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها »(3).

و في رواية: «هي الآية التي قال اللّه عزّ و جلّ : وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً » (4).

و عن الرّضا عليه السّلام: «إنّها أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر(5) العين إلى بياضها »(6).لعلّ المراد أنّ الاسم الأعظم هي الأسامي المباركات في هذه الآية، أو أنّه يستخرج منها.

و عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - في حديث -: «قال اللّه تعالى: و أعطيت لك و لأمّتك كنزا من كنوز عرشي؛ فاتحة الكتاب و خاتمة سورة البقرة »(7).

و عن أبيّ بن كعب: «أعظم آية في كتاب اللّه آية الكرسيّ »(8).

و عن أبي هريرة: «أنّ سيّدة أي القرآن آية الكرسيّ »(9).

و في رواية مرسلة: «أفضل القرآن سورة البقرة، و أعظم آية فيها آية الكرسيّ »(10).

و في حديث أنس: «آية الكرسيّ ربع القرآن »(11).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ فاتحة الكتاب و آية الكرسيّ و آيتين من آل عمران: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ

ص: 153


1- في النسخة: القرآن.
2- الإتقان في علوم القرآن 133:4.
3- تفسير العياشي 89/103:1.
4- تفسير العياشي 79/100:1، و الآية من سورة الإسراء: 46/17.
5- في تفسير العياشي: سواد.
6- تفسير العياشي 86/102:1.
7- علل الشرائع 3/128:1، الخصال: 1/425، معاني الأخبار: 1/50.
8- الاتقان في علوم القرآن 127:4.
9- الاتقان في علوم القرآن 127:4. (10و11) الاتقان في علوم القرآن 127:4.

إِلاّ هُوَ إلى قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ (1) و قُلِ اللّهُمَّ إلى قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ (2) معلّقات، ما بينهنّ و بين اللّه حجاب، قلن: يا ربّ أ تهبطنا إلى أرضك و إلى من يعصيك ؟ قال اللّه عزّ و جلّ : إنّي حلفت لا يقرؤكنّ أحد دبر كلّ صلاة إلاّ جعلت الجنّة مثواه على ما كان منه، و أسكنته في حظيرة القدس، و نظرت إليه بعيني كلّ يوم سبعين مرّة، و قضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة، و أعذته من كلّ عدوّ و حاسد، و نصرته عليهم »(3).

و في حديث معاذ بن أنس: «من قرأ أوّل سورة الكهف و آخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه »(4).

و في رواية: من قرأ في ليلة: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ (5).الآية، كان له نور من عدن إلى مكّة حشوه الملائكة »(6).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المسبّحات يقول: «فيهن آية خير من ألف آية »(7).

قال بعض العلماء: هي قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (8).

و في حديث: «من قرأ حين يصبح ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكّل اللّه به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي، و إن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، و من قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة »(9).

و في حديث: «من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات في يومه أو ليلته، فقد أوجب اللّه له الجنّة »(10).

أقول: لا ريب أنّ فضيلة الآيات بفضيلة ما تضمّنته من العلوم و المعارف الإلهيّة، و على هذا فكلّ آية يكون فيها بيان التّوحيد و الصفات الجلاليّة و الجماليّة و علم المبدأ و المعاد تكون أفضل من غيرها، و عظمة آية الكرسيّ لكونها أشمل، و بهذا الملاك يمكن إلحاق بعض الآيات التي تقاربها في المضمون بها، و اللّه العالم.

ص: 154


1- آل عمران: 18/3 و 19.
2- آل عمران: 26/3 و 27.
3- مجمع البيان 724:2.
4- الإتقان في علوم القرآن 128:4.
5- الكهف: 110/18.
6- الإتقان في علوم القرآن 129:4.
7- الإتقان في علوم القرآن 130:4.
8- الإتقان في علوم القرآن 130:4، تفسير ابن كثير 324:4، و الآية من سورة الحديد: 3/57.
9- الإتقان في علوم القرآن 130:4.
10- الإتقان في علوم القرآن 131:4.

الطرفة الثّامنة و الثّلاثون في أنّ للقرآن العظيم خواصا و آثارا دنيوية مضافا إلى الآثار الاخروية

مضافا إلى أنّ للقرآن العظيم فضائل و آثارا كثيرة اخروية، له خواصّ و آثار دنيويّة.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: «عليكم بالشفاءين: العسل، و القرآن »(1).

و عن واثلة بن أسقع: أنّ رجلا شكا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله وجع حلقه. قال: «عليك بقراءة القرآن »(2).

و عن أبي سعيد الخدري، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّي اشتكي صدري قال: «اقرأ القرآن، يقول اللّه تعالى: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ » (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «القرآن مأدبة اللّه، فتعلّموا من مأدبة اللّه ما استطعتم، فانّه النور المبين، و الشفاء النافع، تعلّموه فإنّ اللّه يشرّفكم بتعلّمه »(4).

عن عليّ بن خلف، قال: شكا رجل إلى محمّد بن حميد الرّازي الرّمد، فقال له: أدم النّظر في المصحف، فإنّه كان بي رمد فشكوت ذلك إلى جرير بن عبد الحميد فقال لي: أدم النّظر في المصحف، فإنّه كان بي رمد فشكوت ذلك إلى الأعمش، فقال لي: أدم النّظر في المصحف، فإنّه كان بي رمد فشكوت ذلك إلى عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه فقال لي: أدم النّظر في المصحف، فإنه كان بي رمد، فشكوت ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لي: «أدم النّظر في المصحف، فإنّه كان بي رمد فشكوت ذلك إلى جبرئيل، فقال لي: أدم النّظر في المصحف »(5).

و مرّ في بعض الرّوايات، في فضائل القرآن «أنّه الشفاء الأشفى »(6) ،و مقتضى إطلاقه أنّه شفاء لجميع الأمراض الظاهريّة و الباطنيّة، بل كما أنّه لا يكون أشفى منه في الأمراض القلبيّة، لا يكون شيء أشفى منه في الأمراض الجسمانيّة.

عن الزّهري، قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: «لو مات من بين المشرق و المغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي »(7).

ص: 155


1- الإتقان في علوم القرآن 158:4.
2- الإتقان في علوم القرآن 158:4.
3- الدر المنثور 366:4 و الآية من سورة يونس: 57/10.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 31/60.
5- المسلسلات: 109.
6- تقدّم في الطرقة (27) ص 212.
7- الكافي 13/440:2.

و عن الرّضا عليه السّلام عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام: «ثلاثة يزدن في الحفظ ، و يذهبن بالبلغم: قراءة القرآن، و العسل، و اللّبان »(1).

و عنه صلوات اللّه عليه يرفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «اجعلوا لبيوتكم نصيبا من القرآن، فإنّ البيت إذا قرئ فيه القرآن يسّر على أهله، و كثر خيره، و كان سكّانه في زيادة، و إذا لم يقرأ فيه ضيّق على أهله، و قلّ خيره، و كان سكّانه في نقصان »(2).

و عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ القرآن فهو غنيّ ، و لا فقر بعده، و إلاّ ما به غنيّ »(3).

و في رواية ما يقرب من هذا المضمون: «من أوتي القرآن فظنّ أنّ أحدا أوتي خيرا منه، فقد حقّر عظيما، و عظّم حقيرا »(4).

أقول: لأنّ القرآن جامع لجميع الخيرات الدنيويّة و الاخرويّة.

عن ابن عبّاس، قال: إذا فقدنا عقالنا كنّا نجده بالقرآن(5).

الطرفة التّاسعة و الثّلاثون في أنّ لبعض سور القرآن خواصا مخصوصة

قد رويت خواصّ خاصّة لبعض سور القرآن:

عن العالم عليه السّلام: «من نالته علّة فليقرأ في جيبه أمّ الكتاب سبع مرّات، فإن سكنت و إلاّ فليقرأها سبعين مرّة، فإنّها تسكن »(6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه دخل عليه رجل من مواليه و قد وعك، فقال له: «ما لي أراك متغيّر اللون ؟» فقال: جعلت فداك، وعكت وعكا شديدا منذ شهر، ثمّ لم تنقلع الحمّى عنّي، و قد عالجت بكلّ ما وصفه لي المترفّعون فلم أنتفع بشيء من ذلك.

فقال له الصادق عليه السّلام: «حلّ أزرار قميصك، و أدخل رأسك في قميصك، و أذّن و أقم و أقرأ سورة

ص: 156


1- مكارم الأخلاق: 165.
2- عدة الداعي: 6/287.
3- الكافي 8/443:2.
4- معاني الأخبار: 279 «نحوه».
5- الإتقان في علوم القرآن 30:4 «نحوه».
6- مكارم الأخلاق: 363.

الحمد سبع مرّات». قال: ففعلت ذلك فكأنّما نشطت من عقال(1).

و في رواية جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّها شفاء من كلّ داء إلاّ السّام» يعني الموت(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يديه فقرأ فاتحة الكتاب و المعوّذتين، ثمّ يمسح بهما وجهه، فيذهب عنه ما كان يجد »(3).

و عن سلمة بن محرز، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «من لم تبرئه سورة الحمد و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ لن يبرئه شيء، و كلّ علّة يبرئها هاتان السورتان »(4).

عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو قرئت الحمد على ميّت سبعين مرّة ثمّ ردّت فيه الرّوح ما كان ذلك عجبا »(5).

و عنه عليه السّلام: «من نالته علّة فليقرأ في جيبه الحمد سبع مرّات، فإن ذهبت العلّة و إلاّ فليقرأها سبعين مرّة، و أنا الضّامن له العافية »(6).

و عنه عليه السّلام قال: «من لم تبرئه الحمد لم يبرئه شيء »(7).

و عن أبي بكر الحضرميّ ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كانت لك حاجة فاقرأ المثاني و سورة اخرى، و صلّ ركعتين، و ادع اللّه». قلت: أصلحك اللّه، و ما المثاني ؟ قال: «فاتحة الكتاب »(8).

و عن العالم عليه السّلام أنّه قال: «إذا بدت بك علّة تخوّفت على نفسك منها فاقرأ الأنعام، فإنّه لا ينالك من تلك العلّة ما تكره »(9).

و عن سلامة بن عمرو الهمداني، قال: دخلت المدينة فأتيت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: يا ابن رسول اللّه، اعتللت على أهل بيتي بالحجّ ، و أتيتك مستجيرا مستسرّا من أهل بيتي من علّة أصابتني، و هي الداء الخبيثة، قال: «أقم في جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في حرمه و أمنه، و اكتب سورة الأنعام بالعسل و اشربه، فإنّه يذهب عنك »(10).

ص: 157


1- طب الائمة عليهم السّلام: 52، يقال: كأنما أنشط من عقال، أي حلّ ، و يقال ذلك للآخذ بسرعة في أيّ عمل كان، و للمريض إذا برئ.
2- تفسير العياشي 82/101:1.
3- طب الأئمة عليهم السّلام: 39.
4- طب الأئمة عليهم السّلام: 39.
5- الكافي 16/456:2.
6- أمالي الطوسي: 553/284.
7- تفسير العياشي 83/101:1.
8- تفسير العياشي 84/101:1.
9- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام: 342.
10- طب الأئمّة عليهم السّلام: 105.

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام يقول: «من قرأ سورة يوسف في كلّ ليلة بعثه اللّه يوم القيامة و جماله على جمال يوسف» إلى أن قال: «و أومن في الدنيا أن يكون زانيا [أو] فحّاشا »(1).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أكثر قراءة سورة الرّعد لم يصبه اللّه بصاعقة أبدا و لو كان ناصبيا »(2).

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة النّحل في كلّ شهر كفي المغرم في الدنيا و سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونها الجنون و الجذام و البرص »(3).

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة المائدة في كلّ خميس، لم يلبس إيمانه بظلم، و لم يشرك به أبدا »(4).

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الأنفال و سورة براءة [في] كلّ شهر، لم يدخله نفاق [أبدا]، و كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة يونس في كلّ شهرين أو ثلاثة، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين»(6) الخبر.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة، لم يمت حتّى يدرك القائم عجل اللّه فرجه فيكون من أصحابه »(7).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة الكهف كلّ ليلة جمعة لم يمت إلاّ شهيدا »(8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أدمن قراءة سورة مريم، لم يمت حتّى يصيب منها ما يغنيه في نفسه و ماله و ولده »(5).

و عنه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها كان ممن يرافق(6) النبيّين أجمعين في جنّات النّعيم، و كان مهيبا في أعين النّاس في الحياة الدنيا »(11).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة الحجّ في كلّ ثلاثة أيّام، لم تخرج سنة حتّى يخرج إلى بيت اللّه الحرام»(12)

الخبر.

و عن ابن مسكان (7) ،عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة المؤمنون ختم اللّه له بالسّعادة، إذا كان يدمن قراءتها

ص: 158


1- تفسير العياشي 2073/331:2.
2- ثواب الأعمال: 106.
3- ثواب الأعمال: 107.
4- ثواب الأعمال: 105. (5و6) ثواب الأعمال: 106. (7و8) ثواب الأعمال: 107.
5- ثواب الأعمال: 108.
6- في ثواب الأعمال: كمن رافق. (11و12) ثواب الأعمال: 108.
7- في ثواب الأعمال: الحسين بن أبي العلاء.

في كلّ جمعة»(1) الخبر.

و عنه عليه السّلام قال: «حصّنوا أموالكم و فروجكم بتلاوة سورة النّور، و حصّنوا بها نساءكم، فإنّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم أو في كلّ ليلة لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتّى يموت »(2).

و عنه عليه السّلام قال: «من قرأ الطواسين الثلاثة في ليلة الجمعة، كان من أولياء اللّه، و في جوار اللّه و كنفه، و لم يصبه في الدنيا بؤس أبدا »(3).

و عنه عليه السّلام قال: «من قرأ الحمدين: حمد سبأ و حمد فاطر في ليلة واحدة، لم يزل في ليلته في حفظ اللّه و كلاءته، و من قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، و أعطي من خير الدنيا و خير الآخرة ما لم يخطر على قلبه و لم يبلغ مناه »(4).

و عنه عليه السّلام قال: «لكلّ شيء قلب و قلب القرآن يس، من قرأها قبل منامه، أو في نهاره قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين و المرزوقين حتى يمسي، و من قرأها في ليله قبل أن ينام وكّل اللّه به ألف ملك يحفظونه من شرّ كلّ شيطان رجيم و من كلّ آفة»(5) الخبر.

و عن أبي جعفر عليه السّلام في رواية ذكر ثواب تلاوة يس إلى أن قال: «و لم يصبه فقر و لا غرم و لا نصب و لا جنون و لا جذام و لا وسواس و لا داء يضرّه» إلى أن قال: «و كان ممّن يضمن اللّه له السّعة في معيشته و الفرج عند لقائه »(6).

و روي «أنّ يس تقرأ للدنيا و الآخرة، و للحفظ من كلّ آفة و بليّة في النفس و الأهل و المال، و إنّه من كان مغلوبا على عقله قرئ عليه، أو كتبه و سقاه، و إن كتبه بماء الزعفران على إناء من زجاج فهو خير فإنّه مبرئ »(5).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، اقرأ يس فإنّ في يس عشر بركات: ما قرأها جائع إلاّ شبع، و لا ظمآن إلاّ روي، و لا عار إلاّ كسي، و لا عزب إلاّ تزوّج، و لا خائف إلاّ أمن، و لا مريض إلاّ برئ، و لا محبوس إلاّ اخرج، و لا مسافر إلاّ أعين على سفر، و لا يقرءون عند ميّت إلاّ خفّف اللّه عنه، و لا قرأها رجل له ضالّة إلاّ وجدها »(6).

ص: 159


1- ثواب الأعمال: 108.
2- ثواب الأعمال: 109.
3- ثواب الأعمال: 109.
4- ثواب الأعمال: 110، مجمع البيان 588:8. (5و6) ثواب الأعمال: 111.
5- مكارم الأخلاق: 364.
6- جامع الأخبار: 245/126، و فيه: إلاّ وجد طريقها.

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في سورة يس، قال: «و تدفع عن صاحبها كلّ سوء، و تقضي له كلّ حاجة» إلى أن قال: «و من كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء، و ألف نور، و ألف يقين، و ألف بركة، و ألف رحمة، و نزعت عنه كلّ غلّ و داء »(1).

و عن عطاء بن أبي رباح (2) ،قال: بلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من قرأ يس في صدر النّهار قضيت حوائجه »(3).

و في رواية عامّيّة، قال: «ما من ميّت يقرأ عنده سورة (يس) إلاّ هوّن اللّه عليه »(4).

و عن أبي قلابة، قال: من قرأ يس غفر له، و من قرأها و هو جائع شبع، و من قرأها و هو ضالّ هدي، و من قرأها و له ضالّة وجدها، و من قرأها عند طعام خاف قلّته بورك فيه، و من قرأها عند ميّت هوّن عليه، و من قرأها عند امرأة عسر عليها الوضع، سهل عليها (5) ،الخبر.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ يس و الصّافات يوم الجمعة ثم سأل اللّه أعطاه سؤله »(6).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الصّافّات في كلّ يوم جمعة، لم يزل محفوظا من كلّ آفة، مدفوعا عنه كلّ بليّة في الحياة الدّنيا، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرّزق، و لم يصبه اللّه في ماله و لا ولده و لا بدنه بسوء من شيطان رجيم و لا [من] جبّار عنيد»(7) الخبر.

و في رواية: «أنّها تقرأ للشرف و الجاه في الدنيا و الآخرة »(8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الزّمر استحقها(9) من لسانه، أعطاه اللّه شرف الدنيا و الآخرة، و أعزّه بلا مال و لا عشيرة حتّى يهابه من يراه» الخبر(10).

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة حم السّجدة، كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره و سرورا، و عاش في الدنيا محمودا مغبوطا »(11).

ص: 160


1- الدر المنثور 38:7.
2- في النسخة: عطاء بن أبي رياح، انظر: تهذيب الكمال 69:20.
3- سنن الدارمي 457:2، الدر المنثور 38:7.
4- الدر المنثور 38:7.
5- بحار الأنوار 6/292:92.
6- الدر المنثور 77:7.
7- ثواب الأعمال: 112، بحار الأنوار 1/296:92.
8- مكارم الأخلاق: 364، بحار الأنوار 2/296:92.
9- في البحار: استخفها.
10- ثواب الأعمال: 112، بحار الأنوار 1/297:92.
11- ثواب الأعمال: 113.

و روي في حم الدخان ما يقرب من خواصّ سوره يس(1).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة اَلَّذِينَ كَفَرُوا (2) لم يذنب(3) أبدا و لم يدخله شكّ في دينه [أبدا] و لم يبتليه اللّه بفقر أبدا، و لا خوف من سلطان أبدا، و لم يزل محفوظا من الشّكّ و الكفر أبدا حتّى يموت»(4) الخبر.

و عنه عليه السّلام: «حصّنوا أموالكم و نساءكم و ما ملكت أيمانكم من التّلف بقراءة إِنّا فَتَحْنا لَكَ (5) الخبر.

و عنه عليه السّلام قال: «من أدمن في فرائضه و نوافله قراءة سورة (ق) وسّع اللّه عليه رزقه»(6) الخبر.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ سورة وَ الذّارِياتِ في يومه أو في ليلته، أصلح اللّه له معيشته، و أتاه برزق واسع»(7) الخبر.

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة وَ الطُّورِ جمع اللّه له خير الدنيا و الآخرة »(8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من كان يدمن قراءة وَ النَّجْمِ في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، عاش محمودا بين النّاس»(9) الخبر.

و عنه عليه السّلام: «من قرأ في كلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه اللّه، و أحبّه إلى النّاس، و لم ير في الدنيا بؤسا أبدا و لا فقرا و لا فاقة و لا آفة من آفات الدنيا»(10) الخبر.

و في رواية اخرى: «من قرأ الواقعة في كلّ جمعة لم ير [في الدنيا] بؤسا»(11) الخبر.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الحديد و المجادلة في صلاة فريضة(12) لم يعذّبه اللّه حتّى يموت أبدا، و لا يرى في نفسه و لا في أهله سوءا أبدا، و لا خصاصة في بدنه »(13).

و عن الثّماليّ ، عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه و نوافله

ص: 161


1- الدر المنثور 397:7، بحار الأنوار 3/300:92.
2- أي سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله.
3- في ثواب الأعمال: يرتب.
4- ثواب الأعمال: 114، بحار الأنوار 1/303:92.
5- ثواب الأعمال: 115، بحار الأنوار 1/303:92.
6- ثواب الأعمال: 115، بحار الأنوار 1/304:92.
7- ثواب الأعمال: 115، بحار الأنوار 1/304:92.
8- ثواب الأعمال: 116، بحار الأنوار 1/304:92.
9- ثواب الأعمال: 116، بحار الأنوار 1/305:92.
10- ثواب الأعمال: 117، بحار الأنوار 1/307:92.
11- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام: 343، بحار الأنوار 1/307:92.
12- زاد في ثواب الأعمال و البحار: أدمنها.
13- ثواب الأعمال: 117، بحار الأنوار 1/307:92.

امتحن اللّه قلبه للايمان، و نوّر له بصره، و لا يصيبه فقر أبدا و لا جنون في بدنه و لا في ولده »(1).

و في رواية اخرى: «يكون محمودا عند النّاس »(2).

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في المكتوبة قبل أن ينام، لم يزل في أمان اللّه حتّى يصبح، و في أمانه يوم القيامة حتّى يدخل الجنّة »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فضائل تلك السورة المباركة و قراءتها عند النّوم، قال: «و بعث اللّه إليه ملكا من الملائكة يبسط عليه جناحه و يحفظه من كلّ سوء حتّى يستيقظ »(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة ن وَ الْقَلَمِ في فريضة أو نافلة آمنه اللّه عزّ و جلّ [من] أن يصيبه فقر أبدا، و أعاذه اللّه إذا مات من ضمّة القبر »(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أكثروا من قراءة الحاقّة، فإنّ قراءتها في الفرائض و النوافل من الإيمان باللّه و رسوله، لأنّها نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و معاوية لعنه اللّه، و لم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى اللّه عز و جل »(6).

و عنه عليه السّلام: «من أكثر من قراءة قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجنّ و لا نفثهم، و لا من سحرهم و لا من كيدهم»(7) الخبر.

و عنه عليه السّلام في رواية في فضل تلاوة سورة المزّمّل في العشاء الآخرة و في آخر الليل، قال: «و أحياه [اللّه] حياة طيّبة، و أماته ميتة طيّبة »(8).

و عن الباقر عليه السّلام في فضل قراءة سورة المدّثّر في الفريضة، قال في جملته: «و لا يدركه(9) شقاء أبدا إن شاء اللّه »(10).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في تلاوة سورة (عم) في كلّ يوم، قال: «لم تخرج سنته(11) حتّى يزور البيت» و في تلاوة سورة وَ النّازِعاتِ قال: «لم يمت إلاّ ريّانا »(12).

ص: 162


1- ثواب الأعمال: 118، مكارم الأخلاق: 365، بحار الأنوار 2/310:92.
2- مكارم الأخلاق: 365، بحار الأنوار 2/310:92.
3- ثواب الأعمال: 119، بحار الأنوار 1/313:92.
4- الدر المنثور 233:8، بحار الأنوار 4/316:92.
5- ثواب الأعمال: 119، بحار الأنوار 1/316:92.
6- ثواب الأعمال: 119.
7- ثواب الأعمال: 120، مكارم الأخلاق: 365.
8- ثواب الأعمال: 120.
9- زاد في ثواب الأعمال: في الحياة الدنيا.
10- ثواب الأعمال: 120.
11- زاد في المصدر: إذا كان يدمنها كل يوم.
12- ثواب الأعمال: 121.

و في رواية اخرى، قال: «لا يدركه(1) شقاء أبدا »(2).

و عنه عليه السّلام في قراءة إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ و إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ : «من قرأهما و جعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة و النافلة لم يحجبه اللّه من حاجة »(3).

و في رواية: «من سقي سمّا، أو لدغته ذو حمة(4) من ذوات السّموم يقرأ على الماء وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ و يسقى فإنّه لا يضرّه إن شاء اللّه »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه أوصى أصحابه و أولياءه: «من كان به علّة فليأخذ قلّة(6) جديدة، و ليجعل فيها الماء و ليسق الماء بنفسه، و ليقرأ على الماء إِنّا أَنْزَلْناهُ على الترتيل ثلاثين مرّة، ثمّ ليشرب من ذلك الماء، و ليتوضّأ، و ليمسح به، و كلّما نقص زاد فيه، فإنّه لا يظهر ذلك ثلاثة أيّام إلاّ و يعافيه اللّه تعالى من ذلك الدّاء »(7).

و عن إسماعيل بن سهل، قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام: إنّي قد لزمني دين فادح ؟ فكتب: «أكثر [من] الاستغفار، و رطّب لسانك بقراءة إِنّا أَنْزَلْناهُ » (8).

و روي أنّه: «من أخذ قدحا و جعل فيه ماء و قرأ فيه إِنّا أَنْزَلْناهُ خمسا و ثلاثين مرّة، و رشّ ذلك الماء على ثوبه، لم يزل في سعة حتّى يبلى ذلك الثّوب »(9).

و في رواية: «من قرأها حبّب إلى النّاس، فلو طلب من رجل أن يخرج من ماله بعد قراءتها حين يقابله لفعل، و من خاف سلطانا فقرأها حين ينظر إلى وجهه غلب له، و من قرأها [حين] يريد الخصومة اعطي الظفر، و من يشفع بها إلى اللّه شفّعه و أعطاه سؤله »(10).

و في رواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «رحم اللّه من قرأ إِنّا أَنْزَلْناهُ إلى أن قال: «لكلّ شيء عون و عون الضعفاء إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و لكلّ شيء يسر و يسر المعسرين إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و لكلّ شيء عصمة و عصمة المؤمنين إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و لكلّ شيء هدى و هدى الصالحين إِنّا أَنْزَلْناهُ » (11) الخبر.

ص: 163


1- زاد في مكارم الأخلاق: في الدنيا.
2- مكارم الأخلاق: 365.
3- ثواب الأعمال: 121.
4- الحمة: الإبرة التي تضرب بها العقرب و الزنبور و نحوهما.
5- مكارم الأخلاق: 365 «نحوه»، بحار الأنوار 2/321:92.
6- القلّة: إناء من الفخّار يشرب منه.
7- طب الأئمّة عليهم السّلام: 123.
8- الكافي 51/316:5.
9- مكارم الأخلاق: 102.
10- مصباح الكفعمي: 587، بحار الأنوار 10/330:92.
11- مصباح الكفعمي: 588، بحار الأنوار 10/331:92.

و عنه صلوات اللّه عليه في رواية اخرى: «هي نعم رفيق المرء، بها يقضى دينه، و يعظّم دينه، و يظهر فلجه، و يطول عمره، و يحسن حاله»(1) الخبر.

و في رواية: «أبى اللّه أن يسخط على قارئها و يسخطه». قيل: فما معنى يسخطه ؟ قال: «لا يسخطه بمنعه حاجته». إلى أن قال: «و أبى اللّه أن ينام قارئها حتّى يحفّه بألف ملك يحفظونه حتّى يصبح، و بألف ملك حتّى يمسي(2) الخبر.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تملّوا [من] قراءة إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ فإنّ من كانت قراءته في نوافله، لم يصبه اللّه عزّ و جلّ بزلزلة أبدا، و لم يمت بها و لا بصاعقة و لا بآفة من آفات الدنيا»(3) الخبر.

و عنه عليه السّلام: «من قرأ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ في فرائضه نفت عنه الفقر، و جلبت عليه الرزق، و تدفع عنه ميتة السّوء »(4).

و نقل عن خطّ الشّهيد رضوان اللّه عليه: عن الصادق صلوات اللّه عليه أنّه قال: «يقرأ في وجه العدوّ سورة الفيل »(5).

و نقل عن الراوندي رضى اللّه عنه في (أخبار المعمّرين) أنّه ذكر بعضهم أنّ والده كان لا يعيش له ولد. قال:

ثمّ ولدت له على كبره، ففرح بي ثمّ مضى و لي سبع سنين، فكفلني عمّي، فدخل بي يوما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له: يا رسول اللّه، إنّ هذا ابن أخي، و قد مضى لسبيله، فعلّمني عوذة أعيذه بها. فقال:

«أين أنت عن ذات القلاقل قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ ».

و في رواية: قُلْ أُوحِيَ .

قال المعمّر: و أنا إلى اليوم أتعوّذ بها، ما اصبت بولد و لا مال، و لا مرضت، و لا افتقرت. و قد انتهى بي السنّ ما ترون(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لدغت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عقرب و هو يصلّي، فلمّا فرغ. قال: لعن اللّه العقرب لا تدع مصلّيا و لا غيره، ثمّ دعا بماء و ملح و جعل يمسح عليها و يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ،

ص: 164


1- مصباح الكفعمي: 588، بحار الأنوار 10/331:92.
2- مصباح الكفعمي: 588، بحار الأنوار 10/332:92.
3- ثواب الأعمال: 124.
4- ثواب الأعمال: 126، بحار الأنوار 1/337:92.
5- بحار الأنوار 3/338:92.
6- دعوات الراوندي: 216/85.

و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ » (1).

و عن جبير بن مطعم، قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أ تحبّ يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون أمثل أصحابك هيئة و أكثرهم زادا؟» فقلت: نعم، بأبي أنت و امّي قال: «فأقرأ هذه السور الخمس قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، و إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ ، و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ،

و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ و افتتح كلّ سورة ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و اختم قراءتك ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ».

قال جبير بن مطعم: و كنت غنيّا كثير المال، فكنت أخرج في سفر فأكون من أبذّهم(2) هيئة، و أقلّهم زادا، فما زلت منذ علّمنيهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرأت بهنّ ، أكون من أحسنهم هيئة، و أكثرهم زادا، حتّى أرجع من سفري(3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ في نافلة أو فريضة، نصره اللّه على جميع أعدائه» إلى أن قال «و يتفتّح له في الدنيا من أسباب الخير ما لم يتمنّ و لم يخطر على قلبه »(4).

و في رواية اخرى: «نصره اللّه على جميع أعدائه، و كفاه المهمّ »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أوى إلى فراشه فقرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ إحدى عشرة مرّة حفظ في داره، و في دويرات حوله».

و عنه عليه السّلام قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر، فلا يدع [أن يقرأ] في دبر الفريضة ب قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ فإنّه من قرأها جمع [اللّه] له خير الدنيا و الآخرة».

و عنه عليه السّلام قال: «من مضت له جمعة و لم يقرأ فيها ب قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ثمّ مات مات على دين أبي لهب »(6).

و عن رجل سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: «من قدّم قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ بينه و بين جبّار منعه اللّه عنه، يقرؤها بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله، فإذا فعل ذلك رزقه اللّه خيره، و منعه شرّه »(7).

و عن مفضّل بن عمر، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا مفضّل، أحتجز من النّاس كلّهم ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ أقرأها عن يمينك و عن شمالك و من بين يديك و من خلفك

ص: 165


1- الدر المنثور 658:8.
2- بذّ يبذّ بذذا، و بذاذة: ساءت حاله، و رثّت هيئته.
3- الدر المنثور 658:8، بحار الأنوار 7/342:92.
4- ثواب الأعمال: 127.
5- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام: 344.
6- ثواب الأعمال: 128.
7- ثواب الأعمال: 129.

و من فوقك و من تحتك، فإذا دخلت على سلطان جائر فاقرأها حين تنظر إليه ثلاث مرّات، و اعقد بيدك اليسرى، ثم لا تفارقها حتّى تخرج من عنده »(1).

و عنه عليه السّلام أنّه قال: «من قرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ نفت عنه الفقر، و اشتدّت أساس دورة، و نفعت جيرانه »(2).

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «من لم يبرأه سورة الحمد و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ لم يبرأه شيء، و كلّ علة تبرأها هاتان السورتان »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ قُلْ هُوَ اللّهُ نظر اللّه إليه ألف نظرة بالآية الأولى، و بالآية الثانية استجاب اللّه له ألف دعوة، و بالآية الثالثة أعطاه اللّه ألف مسألة، و بالآية الرابعة قضى اللّه له ألف حاجة، كلّ حاجة خير من الدنيا و الآخرة »(4).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من أراد سفرا فأخذ بعضادتي منزله فقرأ إحدى عشرة مرّة قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ كان اللّه تعالى له حارسا حتّى يرجع »(5).

و عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ مرّة بورك عليه [و من قرأها مرتين بورك عليه] و على أهل بيته، و من قرأها ثلاث مرّات بورك عليه و على أهل بيته و جيرانه »(6).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أتى منزله و قرأ اَلْحَمْدُ و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ نفى اللّه عنه الفقر، و كثر خير بيته حتّى يفيض على جيرانه »(7).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان سبب [نزول] المعوّذتين أنّه وعك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام بهاتين السورتين، فعوّذه بهما »(8).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه رأى مصروعا، فدعا له بقدح فيه ماء، ثمّ قرأ عليه (الحمد) و (المعوّذتين) و نفث في القدح، ثمّ أمر بصبّ الماء على وجهه و رأسه فأفاق، و قال [له]: «لا يعود إليك أبدا »(9).

الطرفة الأربعون في أنّ لبعض الآيات خواصا و آثارا دنيوية

قد نطقت الروايات ببيان خواصّ و آثار لكثير من الآيات.

ص: 166


1- الكافي 20/457:2.
2- المحاسن: 73/623.
3- طب الأئمة عليهم السّلام: 39.
4- جامع الأخبار: 233/123.
5- الدر المنثور 675:8.
6- الدر المنثور 676:8.
7- الدر المنثور 677:8.
8- تفسير القمي 450:2.
9- طب الأئمّة عليهم السّلام: 111.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من حزنه أمر تعاطاه، فقال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و هو مخلص للّه و يقبل بقلبه [إليه]، لم ينفكّ من إحدى اثنتين: إمّا بلوغ حاجته في الدنيا، و إمّا يعدّ له عند ربّه و يدّخر لديه، و ما عند اللّه خير و أبقى للمؤمنين »(1).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن اللّه عزّ و جلّ : «كلّ [أمر] ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر »(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ العبد إذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملا فيقول بسم الله الرحمن الرحيم فإنّه يبارك له فيه »(3).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «و لربّما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره بسم الله الرحمن الرحيم فيمتحنه اللّه بمكروه لينبّهه على شكر اللّه»(4) الخبر.

و روي أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هل ياكل الشيطان مع الانسان ؟ قال: «نعم، كلّ مائدة لم يذكر بسم الله عليها، يأكل الشيطان معهم، و يرفع اللّه البركة عنها »(5).

و عن ابيّ بن كعب، قال: كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاء أعرابيّ فقال: يا نبيّ اللّه، إنّ لي أخا و به وجع قال: «و ما وجعه ؟» قال: به لمم. قال: «فأتني به» فوضعه بين يديه فعوّذه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بفاتحة الكتاب و أربع آيات من أوّل سورة البقرة، و هاتين الآيتين: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (6) و آية الكرسيّ ، و ثلاث آيات من آخر سورة البقرة، و آية من آل عمران: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ (7) و آية من الأعراف:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ (8) و آخر سورة المؤمنون: فَتَعالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ (9) و آية من سورة الجنّ : وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا (10) و عشر آيات من أوّل الصّافّات، و ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ و (المعوّذتين) فقام الرجل كأنّه لم يشك قطّ (11).

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه موقوفا: «من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة، و آية الكرسي، و آيتين بعد آية الكرسيّ ، و ثلاثا من آخر سورة البقرة، لم يقربه و لا أهله يومئذ شيطان و لا شيء يكرهه، و لا يقرأن

ص: 167


1- التوحيد: 5/232.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 7/25.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 7/25، بحار الأنوار 242:92.
4- التوحيد: 5/231.
5- جامع الأخبار: 220/120.
6- البقرة: 163/2.
7- آل عمران: 18/3.
8- الأعراف: 54/7.
9- المؤمنون: 116/23.
10- الجن: 3/72.
11- الإتقان في علوم القرآن 159:4.

على مجنون إلاّ آفاق »(1).

و عنه رضى اللّه عنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه، علّمني شيئا ينفعني اللّه به. قال: «اقرأ آية الكرسيّ ، فإنّه ينفعك(2) و ذرّيّتك، و يحفظ دارك، حتّى الدويرات حول دارك »(3).

و روي أنّه «من قرأ عشر آيات من البقرة عند منامه لم ينس القرآن، أربع من أوّلها، و آية الكرسيّ و آيتان بعدها، و ثلاث من آخرها »(4).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ آية الكرسيّ مرّة، صرف [اللّه] عنه ألف مكروه من مكروه الدنيا، و ألف مكروه من مكروه الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر، و أيسر مكروه الآخرة عذاب القبر »(5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ أربع آيات من أوّل البقرة، و آية الكرسيّ ، و آيتين بعدها، و ثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه [و أهله] و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه شيطان و لا ينسى القرآن »(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ليقرأ أحدكم إذا خرج من بيته الآيات من [آخر] آل عمران، و آية الكرسيّ ، و إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و امّ الكتاب، فإنّ فيها قضاء حوائج الدنيا و الآخرة »(7).

و عن الرضا عليه السّلام يقول: «من قرأ آية الكرسيّ عند منامه لم يخف الفالج، و من قرأ دبر كلّ صلاة لم يضرّه ذو حمة»(8) أي ذو سمّ .

و في حديث، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، من كان في بطنه ماء أصفر فكتب آية الكرسيّ ، و شرب ذلك الماء، يبرأ بإذن اللّه »(9).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «إذا عاينت الذي تخافه، فاقرأ آية الكرسيّ »(10).

و عنه عليه السّلام قال: «في سمك(11) البيت إذا رفع فوق ثمانية أذرع صار مسكونا، فإذا زاد على ثمانية أذرع فليكتب على رأس الثمانية أذرع آية الكرسي »(12).

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ العفاريت من أولاد الأبالسة تتخلّل و تدخل بين محامل المؤمنين، فتنفّر

ص: 168


1- الإتقان في علوم القرآن 160:4.
2- في الإتقان: يحفظك.
3- الإتقان في علوم القرآن 160:4.
4- الإتقان في علوم القرآن 161:4.
5- أمالي الصدوق: 155/158.
6- تفسير العياشي 104/108:1.
7- الخصال: 10/623.
8- ثواب الأعمال: 105.
9- دعوات الراوندي: 443/160.
10- المحاسن: 11/609.
11- السّمك: السقف.
12- المحاسن: 11/609.

عليهم إبلهم، فتعاهدوا ذلك بآية الكرسيّ »(1).

و نقل من خطّ الشهيد رضوان اللّه عليه رواية عن الحسن عليه السّلام: «أنا ضامن لمن قرأ عشرين آية أن يعصمه اللّه من كل سلطان ظالم، و من كلّ شيطان مارد، و من كلّ لصّ عاد، و من كلّ سبع ضار، و هي:

آية الكرسيّ ، و ثلاث آيات من الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ إلى اَلْمُحْسِنِينَ (2) و عشر من أوّل الصّافّات، و ثلاث من الرّحمن: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إلى تَنْتَصِرانِ (3) و ثلاث من آخر الحشر: هُوَ اللّهُ الَّذِي (4) إلى آخرها »(5).

و في رواية: «و سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ * وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (6).

و أخرج ابن السّني عن فاطمة صلوات اللّه عليها: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا دنا ولادها أمر أمّ سلمة و زينب بنت جحش أن تأتياها فتقرأ عندها آية الكرسيّ و إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ (7) الآية، و يعوّذاها بالمعوّذتين »(8).

و عن أحدهما عليهما السّلام قال: «أيّما دابّة استصعب على صاحبها من لجام و نفار فليقرأ في اذنها أو عليها: أَ فَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ » (9).

و روي أنّ زين العابدين صلوات اللّه عليه مرّ برجل و هو قاعد على باب رجل فقال له: «ما يقعدك على باب هذا الرّجل المترف الجبّار؟» فقال: البلاء. فقال: «قم، فأرشدك إلى باب خير من بابه، و إلى ربّ خير لك منه» فأخذ بيده حتّى انتهى إلى المسجد، مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [ثم] قال: «استقبل القبلة و صلّ ركعتين، ثمّ ارفع يديك إلى اللّه عزّ و جلّ فأثن عليه، و صلّ على رسوله صلّى اللّه عليه و آله ثم ادع بآخر الحشر، و ستّ آيات من أوّل الحديد، و بالآيتين في آل عمران، ثم سل اللّه فإنّك لا تسأل [شيئا] إلاّ أعطاك »(10).

أقول: الظاهر أنّ المراد بالآيتين في آل عمران، آية شَهِدَ اللّهُ (11) و آية قُلِ اللّهُمَّ (12).

ص: 169


1- المحاسن: 159/380.
2- الأعراف: 54/7-56.
3- الرحمن: 33/55-35.
4- الحشر: 22/59.
5- بحار الأنوار 21/271:92.
6- دعوات الراوندي: 328/132، بحار الأنوار 22/271:92، و الآيات من سورة الصافات: 180/37-182.
7- الأعراف: 54/7.
8- الإتقان في علوم القرآن 161:4.
9- الكافي 14/539:6، و الآية من سورة آل عمران: 83/3.
10- دعوات الراوندي: 138/55.
11- آل عمران: 18/3.
12- آل عمران: 26/3.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، أمان لأمّتي من السّرق قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ (1) إلى آخرها و لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2) إلى آخرها »(3).

و في رواية: «من قرأ هاتين الآيتين حين يأخذ مضجعه، لم يزل في حفظ اللّه من كلّ شيطان مريد و جبّار عنيد إلى أن يصبح »(4).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا دخلت مدخلا تخافه، فاقرأ هذه الآية: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً » (5).

و عن الرّضا صلوات اللّه عليه قال: دخل أبو المنذر هشام بن السائب الكلبي على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: «أنت الذي تفسّر القرآن ؟» قال: نعم.

قال: أخبرني عن قول اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (6) ما ذلك القرآن الذي كان إذا قرأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حجب عنهم ؟» قال: لا أدري.

قال: «فكيف قلت إنّك تفسّر القرآن!» قال: يا ابن رسول اللّه، إن رأيت أن تنعم عليّ ، و تعلّمنيهنّ ؟ قال عليه السّلام: «آية في الكهف، و آية في النّحل، و آية في الجاثية، و هي: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (7) و في النّحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (8) و في الكهف: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً » (9).

قال الكسرويّ : فعلّمتها رجلا من أهل همدان و كانت الدّيلم أسرته، فمكث فيهم عشر سنين، ثمّ ذكر الثلاث آيات. قال: فجعلت أمرّ على محالّهم و على مراصدهم فلا يروني، و لا يقولون شيئا حتى خرجت إلى أرض الإسلام.

قال أبو المنذر: و علّمتها قوما خرجوا في سفينة من الكوفة الى بغداد، و خرج معهم سبع سفن

ص: 170


1- الإسراء: 110/17.
2- التوبة: 128/9.
3- دعوات الراوندي: 443/160.
4- عدة الداعي: 3/293.
5- المحاسن: 118/367، و الآية من سورة الإسراء: 80/17.
6- الإسراء: 45/17.
7- الجاثية: 23/45.
8- النحل: 108/16.
9- الكهف: 57/18.

فقطع على ستّ و سلمت السفينة التي قرئ فيها هذه الآيات(1).

و عن الحسين بن عليّ عليهما السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - في حديث -: «أمان لامّتي من الغرق [إذا ركبوا] أن يقرءوا بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (2) و ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية »(3).

و عن اللّيث، قال: بلغني أنّ هؤلاء الآيات شفاء من السّحر، تقرأ على إناء فيه ماء ثمّ يصبّ على رأس المسحور الآية التي في سورة يونس: فَلَمّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَ يُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (4) و قوله: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (5) إلى [آخر] أربع آيات. و قوله: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى (6).

و عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما لزمني(7) أمر إلاّ تمثّل لي جبرئيل، فقال: يا محمّد، قل: توكّلت على الحيّ الّذي لا يموت وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً » (8).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذه الآية أمان من السّرق: قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً * وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (9).

و عن زرّ بن حبيش [قال]: من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقومها من اللّيل قامها: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (10).

قال عبدة: فجرّبناه فوجدناه كذلك(11).

و عن سعد بن أبي وقّاص: «دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ

ص: 171


1- عدة الداعي: 9/295.
2- هود: 41/11.
3- الإتقان في علوم القرآن 161:4، و الآية من سورة الأنعام: 91/6.
4- يونس: 81/10 و 82.
5- الأعراف: 118/7.
6- الإتقان في علوم القرآن 162:4، و الآية من سورة طه: 69/20.
7- في الإتقان: كربني.
8- الإتقان في علوم القرآن 162:4، و الآية من سورة الاسراء: 111/17.
9- الإتقان في علوم القرآن 162:4، و الآيتان من سورة الإسراء: 110/17 و 111.
10- الكهف: 110/18.
11- سنن الدارمي 454:2، الإتقان في علوم القرآن 162:4.

إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ (1) لم يدع بها رجل مسلم في شيء قطّ الاّ استجاب اللّه له »(2).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلاّ فرّج عنه، كلمة أخي يونس:

فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ » (3) .

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه أنّه قرأ في اذن مبتلى فأفاق. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما قرأت في اذنه ؟» قال:

أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ * وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ (4) .فقال: «لو أنّ رجلا مؤمنا قرأ بها على جبل لزال »(5).

عن الصّادق عليه السّلام: «من دخل على سلطان يخافه، فقرأ عند ما يقابله: (كهيعص) و يضمّ يده اليمنى، كلّما قرأ حرفا ضمّ اصبعا، ثمّ يقرأ (حمعسق) و يضمّ أصابع يده اليسرى كذلك، ثمّ يقرأ: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (6) و يفتحها في وجهه كفي شرّه »(7).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من اشتكى ضرسه فليضع إصبعه عليه و ليقرأ هاتين الآيتين سبع مرّات: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (8) و هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) فإنّه يبرأ بإذن اللّه »(10).

و عن ابن عبّاس موقوفا في المرأة تعسر عليها ولادتها، قال: «يكتب في قرطاس [ثم تسقى]: بسم اللّه الذي لا إله إلاّ هو الحليم الكريم، سبحان اللّه و تعالى ربّ العرش العظيم، الحمد للّه ربّ العالمين كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (11)كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (12)

و عنه رضى اللّه عنه: إذا وجدت في نفسك شيئا - يعني الوسوسة - فقل: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ

ص: 172


1- الأنبياء: 87/21.
2- الإتقان في علوم القرآن 163:4.
3- الإتقان في علوم القرآن 163:4، و الآية من سورة الأنبياء: 87/21.
4- المؤمنون: 115/23-118.
5- الإتقان في علوم القرآن 163:4.
6- طه: 111/20.
7- عدة الداعي: 7/294.
8- الأنعام: 98/6.
9- الملك: 23/67.
10- مكارم الأخلاق: 6-4 «نحوه».
11- النازعات: 46/79.
12- الإتقان في علوم القرآن 164:4، و الآية من سورة الاحقاف: 35/46.

وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (1) .

و عن أنس بن مالك: ما أنعم اللّه على عبد نعمة في أهل و لا مال و لا ولد، فيقول: ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ (2) فيرى فيه آفة دون الموت(3).

و لا يذهب عليك أنّ تأثير القرآن العظيم و سوره و آياته في الآثار و الخواصّ المرويّة، ليس على نحو العلّيّة التامّة بحيث لا يمكن تخلّفها عنها، بل هو على نحو الاقتضاء الذي يعتبر فيه وجود الشرائط و عدم الموانع، كالدّعاء الذي اتّفقت الآيات و الروايات بل العقل على أنّه مؤثّر في قضاء الحوائج و حصول المطلوب، و كالأدوية المجرّبة المسطورة في كتب الطبّ ، و كغالب مؤثّرات العالم، و لا شبهة في أنّ من شرائطه الإيمان باللّه و برسوله، و اليقين بأنّ القرآن نازل من قبل اللّه، و أنّه كلامه.

و من الموانع عن التأثير القضاء الحتميّ و عصيان العبد و غير ذلك، فلا ينبغي للمؤمن أن يضعف اعتقاده بتلك التأثيرات عند مشاهدته التخلّف، و اللّه العاصم.

خاتمة في مصادر هذا التفسير

كلّ ما أودعته من الرّوايات في كتابي هذا طرائفه و تفسيره فمأخوذ من الكتب التي في غاية الاشتهار، كالشمس في رائعة(4) النّهار.

[1] منها: كتاب (جوامع الجامع) في التفسير، للشّيخ الأجل البارع المؤتمن أمين الإسلام، الفضل بن الحسن الطّبرسيّ .

[2] و منها: كتاب (بحار الأنوار) للعلامة المتبحّر المولى محمّد المدعوّ بالباقر المجلسيّ .

[3] و منها: (حواشي على كتاب أسرار التّنزيل)(5) للشّيخ الجليل الكبير، و الفاضل القليل النّظير، المؤيّد المسدّد، محمّد بن حسين بن عبد الصّمد، المدعوّ ببهاء الدين.

[4] و منها: كتاب (الصافي) للمحدّث المتقن، المولى محمّد، المدعوّ بالمحسن، المعروف بالفيض، و المحدّث الكاشاني قدس اللّه أسرارهم و أدام في العالمين آثارهم.

ص: 173


1- الإتقان في علوم القرآن 164:4، و الآية من سورة الحديد: 3/57.
2- الكهف: 39/18.
3- الإتقان في علوم القرآن 162:4.
4- في النسخة: رابعة.
5- يريد أنوار التنزيل و أسرار التأويل (تفسير البيضاوي) و سيأتي لا حقا ضمن مصادر المؤلف.

[5] و منها: كتاب (مفاتيح الغيب) للبحر القمقام المعروف بين العامّة بالإمام محمّد الرازي، الملقّب بفخر الدّين.

[6] و منها: كتاب (الإتقان) للقاضي جلال الدّين السّيوطي.

[7] و منها: كتاب (التفسير) للعلامة أبي السعود.

[8] و منها: كتاب (أسرار التنزيل) للقاضي ناصر الدّين أبي الخير عبد اللّه بن عمر بن محمّد بن عليّ الفارسيّ البيضاوي.

[9] و منها: كتاب (روح البيان) للشيخ إسماعيل المدعوّ بحقّي أفندي.

[10] و منها: كتاب (تفصيل وسائل الشيعة) للشيخ الأمجد، و المحدّث المعتمد، محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد، الحرّ العامليّ رضوان اللّه عليه.

ص: 174

في تفسير الاستعاذة

اشارة

فها أنا أشرع في المقصود، مستمدا من اللّه الودود، مبتدئا بالاستعاذة و تفسيرها، امتثالا لأمر اللّه الأكيد عند الشروع في كلّ أمر، سيّما القرآن المجيد.

فأقول و أنا العبد الأثيم محمّد بن المحقّق النحرير عبد الرّحيم النّهاوندي عاملهما اللّه بلطفه العميم، و إحسانه القديم:

أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «(أعوذ باللّه) أمتنع باللّه (السّميع) لمقال الأخيار و الأشرار، و لكلّ المسموعات من الإعلان و الإسرار (العليم) بأفعال الأبرار و الفجّار، و بكلّ شيء ممّا كان و ما يكون و ما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون (من الشّيطان الرجيم) البعيد من كلّ خير المرجوم باللّعن و المطرود من بقاع الخير»(1)

أقول: الظاهر أنّ تفسير كلمة (أعوذ) بأمتنع تفسير باللازم، حيث إنّ صيغة أعوذ مشتقّة من العوذ، و له في اللغة معنيان: الالتجاء، و الالتصاق، و عليه يكون المعنى: ألتجئ باللّه، و ألوذ بحصنه و عصمته، أو ألتصق بفضل اللّه و رحمته، فيحصل بهذا الالتجاء و الالتصاق التحفظ و الامتناع من وساوس الشيطان المانع من كلّ خير، المطرود من بقاعه و محالّه؛ من الجنّة، و مقام القرب، و ساحة الفضل و الرحمة. و ذكر اسم الجلالة هنا لاقتضاء المقام إظهار عظمة المستعاذ به و قدرته و سطوته، و توصيفه باسم السّميع العليم بلحاظ أنّ للمستعيذ التجاء قوليّ و قلبيّ ، إذ حقيقة الاستعاذة و الالتجاء لا تحصل للعبد إلاّ بعد أن يرى العدوّ - و هو الشّيطان - قويا قادرا على إضراره، و نفسه في غاية العجز عن دفع شرّه، و يعلم أنّ اللّه قادر على دفع كلّ شرّ، مانع من كلّ ضرّ، مجير لمن استجار به، مأوى لمن التجأ اليه، مجيب لمن دعاه، رحيم بمن ناداه، كريم لمن قصده و سأله، جواد لمن رجاه و أمّله، عند ذلك

ص: 175


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 3/16.

يحصل له اليقين بأنّه لا حيلة له في التخلّص من كيد الشّيطان و حيله، و النّجاة من أيدي ذلك العدوّ و حبائله، مع شدّة بطشه و كثرة خيله و رجله، إلاّ التّحصّن بحصن اللّه الحصين و الاستجارة بركنه الرّكين، فعند حصول الالتجاء بجنابه، يتضرّع إليه بلسانه، و يقول: يا إلهي السّميع لمقالي، العليم بضرّي و عجزي و استئصالي و ضعف قوّتي و سوء حالي، احفظني و امنعني من بأس الشّيطان و ضرّه، و احرسني من كيده و شرّه، فعند ذلك تشمله العناية فيحصل له الامتناع من وساوسه، و السّلامة من دسائسه.

ثمّ اعلم أنّ للشّيطان في القرآن أسماء مشئومة، و ألقابا مذمومة، و إنّما وصف هنا بالرّجيم لكونه أجمع لمساوئه، فإنّه جامع لجميع ما يقع عليه من العقوبات، لأنّ المطروديّة من مقام الرّحمة من أشدّها، و مستتبع لجميع الدّركات.

و أمّا عداوته للإنسان، فمع أنّها معلومة بدلالة كثير من الآيات، و المتواتر من الرّوايات، يظهر تفصيلها مما روي عن ابن عبّاس، قال: خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم من المسجد، فإذا هو بإبليس، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما الذي جاء بك إلى باب مسجدي ؟» قال: يا محمّد، جاء بي اللّه. قال: «فلم ذا؟» قال:

لتسألني عمّا شئت.

فقال ابن عبّاس رضى اللّه عنه: [فكان] أوّل شيء سأله الصلاة. فقال [له]: «يا ملعون لم تمنع أمّتي عن الصلاة بالجماعة ؟» قال: يا محمّد، إذا خرجت أمّتك إلى الصلوات تأخذني الحمّى الحارّة، فلا تندفع حتّى يتفرّقوا.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «لم تمنع أمّتي عن الدعاء؟» قال: عند دعائهم يأخذني الصّمم و العمى، فلا يندفع حتّى يتفرّقوا.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «لم تمنع أمّتى عن القرآن ؟» قال عند قراءتهم أذوب كالرّصاص.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «لم تمنع أمّتي عن الجهاد» قال: إذا خرجوا إلى الجهاد يوضع على قدمي قيد حتّى يرجعوا، و إذا خرجوا إلى الحجّ اسلسل و أغلل حتّى يرجعوا، و إذا همّوا بالصّدقة توضع على رأسي المناشير فتنشرني كما ينشر الخشب(1).

أقول: الظاهر أنّ الحمّى و الصّمم، و العمى، و الذّوب، و القيد، و التّغليل، و التّنشير، جميعها كنايات

ص: 176


1- تفسير روح البيان 5:1.

عن حالات سيّئة و آلام شديدة تعرض للشّيطان عند اشتغال العبد بهذه العبادات لكمال اشمئزازه عنها.

و نقل أنّه من استعاذ باللّه على وجه الحقيقة و عن صميم القلب، جعل اللّه بينه و بين الشّيطان ثلاثمائة حجاب، كلّ حجاب كما بين السماء و الأرض(1).

و قيل: إنّ التعوّذ باللّه رجوع من الخلق إلى الخالق، و من الحاجة التامّة التي تكون للنّفس إلى الغنى التامّ بالحقّ ، و من العجز إلى القدرة في كلّ الخيرات، و اكتساب البركات، و دفع جميع الشرور و الآفات، ففيه سرّ قوله: فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ (2).

و من الواضح أنّ لكثرة فوائد الاستعاذة كثرت الرّوايات في الترغيب إليها عند الشّروع في كلّ أمر من الامور الدينيّة و الأعمال الخيريّة التي من أهمّها تلاوة القرآن العظيم و الكتاب الكريم.

قال اللّه تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (3) فإنّ التأدّب بأدب اللّه مؤدّ إلى الفلاح الدائم و السعادة اللازمة، ثمّ إنّه بعد ما التجأ العبد إلى اللّه تعالى بالجنان و اللسان، و تمكّن في حصن الرّحمن، و امتنع من مكائد الشّيطان، و حصل له الأمان، ينبغي أن يستمدّ من ربّه، و يقتبس نورا لقلبه، حتّى يقوى على العمل، و يفوز بما رجاه و أمّل من غير ملل و لا فتور و لا كسل، بل بحضور القلب و الانبساط ، و كمال الشوق و النشاط ، و طمأنينة النفس و انشراح الصدر، و ليس ذلك إلاّ بذكر اللّه اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (4) فإنّ بالذكر بعد الاستعاذة تحصل نورانيّة معنويّة للرّوح، كما أنّ به تحصل طهارة ظاهريّة جسمانيّة للحيوان المذكّى، و ترتّب الذكر على الاستعاذة من جهة تأخّر رتبة التحلية على التّخلية، و الإقبال على اللّه على الانقطاع عمّا سواه، إذ إنّه ليس للمؤمن حالّ يكون فيه أقرب إلى اللّه من حال يكون ذاكرا.

ص: 177


1- تفسير روح البيان 5:1.
2- تفسير روح البيان 5:1، و الآية من سورة الذاريات: 50/51.
3- النحل: 98/16.
4- الرعد: 28/13.

ص: 178

في تفسير بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام «أنّه مكتوب في التوراة التي لم تغيّر: أنّ موسى سأل ربّه، فقال: يا ربّ أ قريب أنت منّي فأناجيك، أم بعيد فأناديك ؟ فأوحى اللّه عزّ و جلّ [إليه]: يا موسى أنا جليس من ذكرني(1).

و لمّا كان الكفّار و المشركون يبدءون بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات و العزّى، فعلّم اللّه الموحّدين أن يقولوا عند شروعهم في أمر بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ».

قيل: إنّ اللّه تعالى افتتح كتابه الكريم بأوّل ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ ، و أوّل ما نزل على آدم عليه السلام(2).

و في (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «أوّل كلّ كتاب نزل من السّماء بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » (3).

و عن الرضا عليه السّلام: في تفسير بِسْمِ اللّهِ قال: «يعني أسم [على] نفسي بسمة من سمات اللّه، و هي العبادة» قيل له: ما السّمة ؟ قال: «العلامة »(4).

تحقيق بالتفكر فيه حقيق

أقول: توضيح ذلك أنّ حقيقة العبوديّة و هي الفناء و العجز و الحاجة و التّبعيّة و الانقياد، و هي علامة الربوبيّة التي هي كمال الوجود و الوجوب و الغنى و الجود و السلطنة و المولويّة، فإذا حصل في العبد نور العبوديّة، ظهرت فيه آية الربوبيّة، فمن وسم نفسه بسمة العبوديّة - و هي حالة العجز و الحاجة و الرّجاء و الفقر و العدم و الفناء - فقد وسم نفسه بسمة اللّه، حيث إن المخلوق ليس من جهة نفسه و ذاته إلاّ العدم و القابليّة لقبول فيض الحقّ و فعله و عطائه و إنعامه، و يعبّر عن هذه الحيثيّة بالذّات و الماهيّة، و ما سواها ليس إلاّ فيض الوجود و هي آية الحقّ و تجلّيه.

و كما أنّ جهة ذاته جهة الأنانيّة، و مناط الاحتجاب، و مبدأ كلّ شرّ، يكون فيض الوجود - و هو جهة الربوبيّة - مبدأ كلّ خير، فكلّما اشتدّت فيه هذه الجهة كملت الذّات و كثرت منها الخيرات، لأن كلّ خير من آثار الوجود الذي هو بإفاضة اللّه و جوده، فعلى العبد أن يسأل حين إرادة القيام بوظائف

ص: 179


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 22/127:1 «نحوه»، الكافي 4/360:2 عن الباقر عليه السّلام.
2- تفسير روح البيان 6:1.
3- الكافي 3/313:3.
4- معاني الأخبار: 1/3.

العبوديّة من التلاوة و سائر الطاعات، كمال وجوده و قوّة نفسه، بقوله بقصد الإنشاء و الدعاء: «أسم نفسي بسمة اللّه» أي اللهمّ أعلم نفسي بعلامتك، و أكمل فيض الوجود فيّ بجودك و فيّاضيّتك.

و هذا السؤال و الطلب ملازم للاستعانة و مساو لها، كما أنّ إفاضة الفيّاض عليه إجابة منه و إعانة، فتكون الاستعانة باسم اللّه مدلولا التزاميّا لقوله: أسم نفسي بسمة اللّه.

و لعلّه لكون مفهوم الاستعانة أقرب إلى أفهام العامّة، فسّر بِسْمِ اللّهِ في بعض الروايات بقوله:

أستعين باللّه (1) ،ثمّ يمكن على هذا التفسير أن يكون وجه تعليق الاستعانة بالاسم مع أنّها في الواقع بالمسمّى، و هو ذاته سبحانه و تعالى، أنّ فيه نوع تأدّب في التعبير، أو الإشارة إلى أنّ أسماء اللّه تعالى من جهة حكايتها عن الذّات المقدّسة و اتّحادها معها اتّحاد الكاشف مع المكشوف، لها قوّة نورانيّة و كمال وجوديّ به تكون مؤثّرات في الوجود، و يكفي العبد أن يستعين بها و يطلب القوّة على العمل بذكرها.

و عن (التوحيد): عن الباقر عليه السّلام في تفسير لفظ الجلالة، قال: «اللّه معناه المعبود الذي إله الخلق عن درك ماهيّته و الإحاطة بكيفيّته، و يقول العرب: أله الرجل، إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علما. و وله:

إذا فزع إلى شيء ممّا يحذره و يخافه »(2).

و روي أنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ما معناه ؟ فقال: «إنّ قولك: اللّه أعظم [اسم] من أسماء اللّه عزّ و جلّ ، و هو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه، و لم يتسمّ به مخلوق».

فقال الرجل: بما يفسر قوله: اللّه ؟ قال عليه السّلام: «هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج و الشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرّجاء من جميع من [هو] دونه»(3) الخبر.

في أنّ اسم الجلالة علم لذاته تعالى

أقول: و إن كان الظاهر من الرّوايتين أنّ معنى اللفظ المبارك معنى اشتقاقيّ إلا أنّ الحقّ أنّه علم للذّات المقدّسة، لعدم استعماله وصفا، بل هو في جميع الاستعمالات يكون موصوفا، و لعدم صراحة دلالة كلمة الإخلاص - و هي: لا إله إلاّ اللّه - على التوحيد إلاّ إذا كان لفظ الجلالة علما، و لبعد أن يكون للذّات المقدسة في سائر اللغات علم مخصوص دون اللّغة العربيّة التي هي أوسع من سائر اللغات و أكملها و أشرفها.

و على هذا فلا بدّ من حمل الروايات على بيان وجه مناسبة المعاني الاشتقاقيّة لوضعه العلميّ ، و إنّ

ص: 180


1- راجع: التوحيد 5/230.
2- التوحيد: 2/89.
3- التوحيد: 5/231.

الواضع كان هو اللّه تعالى أو غيره لاحظ حين الوضع العلميّ هذه المناسبات، و إنّ كلّ واحد من المعاني الاشتقاقيّة الكلّيّة حقيقتها و مصداقها منحصر في الذّات المقدّسة، حيث إنّ المعبوديّة المطلقة و المفزعيّة لجميع الموجودات حتّى الجمادات لا يكون إلاّ له تبارك و تعالى، و لا يتصوّر لمشرك أن يدّعي هذه المرتبة من المعبوديّة و الالوهيّة لما اتّخذه معبودا و إلها.

و الحاصل: إنّ العبادة عبارة عن الخضوع التامّ ، و القول بأنّ الصّنم أو الكواكب أو غيرهما معبود لجميع الموجودات حتّى الجمادات غير متصور من ذي مسكة و شعور، و أمّا الواجب تعالى فجميع ما سواه خاضع له، فازع إليه، ضارع لديه، سائل منه.

و توضيحه أنّه قد حقّق في محلّه أنّ الوجود ملازم للشعور، و كلّ ماله حظّ من الوجود، له بمقدار حظّه حظّ من الشعور، و كلّ ما كان حظّه من الوجود أكثر كان حظّه من الشعور أوفر، و يشهد لذلك ما يشاهد من أثر الإدراك في كثير من النباتات فضلا عن الحيوانات.

و أقلّ مراتب الشعور أنّ الموجود يدرك أنّه معلول للعلّة، و موجود بالغير، و إدراك هذه الجهة مقتض لنهاية الخضوع لعلّته و موجده، و الآيات و الروايات توافقنا على أنّ للجمادات تسبيحا و خوفا و تضرّعا إلى اللّه، بل لها معرفة و طاعة للنبيّ و الوليّ .

فعلى هذا، فجميع الموجودات متوجهون إلى خالقهم، خاضعون له، سائلون فيضه و دوامه، خائفون من انقطاعه، فهو المعبود المطلق، و المفزع لجميع الموجودات، و المألوه لجميع المخلوقات عند الشدائد و الحاجات، و هو المحجوب عن إدراك الممكنات، المستور عن العقول بحقيقة الذّات و كنه الصّفات.

و يؤيد ما ذكرنا من حمل الرّوايات أنّه لولاه يلزم استعمال المشترك اللفظي في أكثر من معنى، أو إرادة بيان أنّ لمستعمل لفظ الجلالة أن يريد منه كلّ واحد من المعاني المختلفة، و الأوّل محال، و الثاني بعيد غايته.

و في رواية (التوحيد) المتقدّم صدرها في تفسير اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال عليه السّلام: «الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرّحيم بنا في أدياننا و دنيانا و آخرتنا، خفّف علينا الدّين، و جعله سهلا خفيفا، و هو يرحمنا بتمييزنا عن أعاديه »(1).

و في رواية اخرى: «الرّحمن بجميع خلقه، و الرّحيم بالمؤمنين خاصّة »(2).

أقول: لا ريب أنّ هذين الاسمين المباركين بحسب اللغة صفتان مشبّهتان من الرّحم: و هو التعطّف

ص: 181


1- التوحيد: 5/232، و فيه: بتميزنا من أعدائه.
2- الكافي 1/89:1.

إلى الغير بالإحسان إليه، و دفع المضارّ عنه، الناشئ عن مبدأ في الذّات، كان هو الرّقّة أو الحكمة، و الظاهر أنّه لا وجه لتخصيصه برقّة القلب حتّى يكون معناه الحقيقيّ مختصّا بالمخلوقين، و يكون إطلاقهما على اللّه مجازا.

و لعلّه لدلالة (الرحمن) بهيئته على المبالغة و الشدّة دلّ على الرّحمة العامّة الشاملة لجميع الموجودات من الخلق و الرّزق و سائر الإنعامات، فجميع الموجودات في جميع العوالم من الملك و الملكوت و البرزخ و الآخرة، وجودها و بقاؤها بشمول الرّحمة الرّحمانيّة.

و أمّا (الرّحيم) فلعلّه لعدم دلالته على المبالغة و الشدّة، اختصّ بالرّحمة الخاصّة بالمؤمنين من الهداية إلى الحقّ و التوفيق للإيمان و الأعمال الصالحة و حسن العاقبة و الجنّة و النعم الاخرويّة الدائمة، و لتقدّم الرّحمة العامّة على الرّحمة الخاصّة قدّم اسم الرّحمن على الرّحيم، و إن اقتضت إفادة الشدّة تأخّره عنه لتأخّر مرتبة الشدّة عن الضّعف.

في نكتة الاقتصار في البسملة بذكر الأسامي الثلاثة

و لعلّ وجه الاقتصار في المقام على ذكر الأسامي الثلاثة المباركات جامعيّتها لجميع الخيرات و البركات، حيث إنّ اسم الجلالة مبدأ فيض الخلق و الإيجاد، و اسم الرّحمن مبدأ فيض التربية و النعم الدنيويّة، و اسم الرّحيم مبدأ فيض الهداية و التوفيق و سائر التّفضّلات الاخرويّة على المؤمنين.

قيل: إنّ اللّه تعالى ثلاثة آلاف اسم، ألف منها عرفها الملائكة لا غير، و ألف منها عرفها الأنبياء لا غير، و ثلاثمائة في التّوراة، و ثلاثمائة في الإنجيل، و ثلاثمائة في الزّبور، و تسعة و تسعون في القرآن، و واحد استأثر اللّه به نفسه، و معنى هذه الثلاثة آلاف منطوية في هذه الأسماء الثلاثة، فمن علمها و قالها فكأنّما ذكر اللّه تعالى بكلّ أسمائه(1).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فضيلة هذه الآية المباركة، أنّه قال: «ليلة اسري بي إلى السّماء عرض عليّ جميع الجنان، فرأيت فيها أربعة أنهار: نهرا من ماء، و نهرا من لبن، و نهرا من خمر، و نهرا من عسل.

فقلت: يا جبرئيل، من أين تجيء هذه الأنهار و إلى أين تذهب ؟ قال: تذهب إلى حوض الكوثر، و لا أدري من أين تجيء، فادع اللّه تعالى ليعلّمك، أو يريك. فدعا ربّه، فجاء ملك فسلّم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: يا محمد، غمّض عينيك. قال: فغمّضت عيني، ثمّ قال: افتح عينيك، ففتحت فإذا أنا عند

ص: 182


1- تفسير روح البيان 9:1.

شجرة و رأيت قبّة من درّة بيضاء، و لها باب من ذهب أحمر و قفل، لو أنّ جميع ما في الدنيا من الجن و الإنس وضعوا على تلك القبّة لكانوا مثل طائر جالس على جبل، فرأيت هذه الأنهار الأربعة تخرج من تحت القبّة.

فلمّا أردت أن أرجع قال لي ذلك الملك: لم لا تدخل القبّة ؟ قلت: كيف أدخل و على بابها قفل لا مفتاح له عندي. قال: مفتاحه (بسم الله الرحمن الرحيم) فلمّا دنوت من القفل و قلت: بسم الله الرحمن الرحيم انفتح القفل، فدخلت في القبّة، فرأيت هذه الأنهار تجري من أربعة أركان القبّة، و رأيت مكتوبا على أربعة أركان القبّة بسم الله الرحمن الرحيم و رأيت نهر الماء يخرج من ميم بسم اللّه ،و رأيت نهر اللّبن يخرج من هاء اللّه ،و نهر الخمر يخرج من ميم الرّحمن ،و نهر العسل يخرج من ميم الرّحيم ،فعلمت أنّ أصل هذه الأنهار الأربعة من البسملة.

فقال اللّه عز و جلّ : يا محمّد، من ذكرني بهذه الأسماء من امّتك بقلب خالص من رياء، و قال بسم الله الرحمن الرحيم سقيته من هذه الأنهار »(1).

في بيان فضيلة البسملة

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل، عن ميكائيل، عن إسرافيل عليهم السّلام: قال اللّه تعالى: «يا إسرافيل، بعزّتي و جلالي، و جودي و كرمي، من قرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

متصلة بفاتحة الكتاب مرّة واحدة، فاشهدوا عليّ أنّي قد غفرت له، و قبلت منه الحسنات، و تجاوزت له عن السيئات، و لا احرق لسانه بالنّار، و اجيره من عذاب القبر و عذاب النّار و عذاب يوم القيامة، و الفزع الأكبر »(2).

نقل عن عارف أنّه كتب (بسم الله الرحمن الرحيم) و أوصى أن يجعل في كفنه، فقيل له في ذلك، فقال: أقول يوم القيامة: إلهي، أنزلت كتابا و جعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم

فعاملني بعنوان كتابك(1).

ففي البسملة مثار صفات الحبّ و الحياء و الرّجاء و الخوف التي هي اصول التّقوى و العبوديّة، و لا ينفكّ العابد من أحد هذه الأحوال.

و قيل: إنّ البسملة تسعة عشر حرفا، و الزبانية تسعة عشر، فالمرجوّ من اللّه أن يدفع بليّتها بهذه الحروف التسعة عشر(2).

روي أنّه لا يردّ دعاء أوّله بسم الله الرحمن الرحيم الخبر(3).

ص: 183


1- تفسير الرازي 172:1.
2- تفسير الرازي 172:1 «نحوه».
3- تفسير روح البيان 9:1.

ص: 184

في تفسير فاتحة الكتاب

سورة الفاتحة (1): الآیات 1 الی 7

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ (7)

سورة الفاتحة (1): آیة 1

ثمّ شرع في الكتاب بقوله: اَلْحَمْدُ و الثّناء الجميل - بجنسه أو بجميع أفراده، و تمام مراتبه و أنواعه من القوليّ و القلبيّ ، و الحاليّ و الأفعاليّ - خاصّ و ملك لِلّهِ لا شريك له فيه، لاختصاصه بحسن الفعال من جميع الجهات، ليس فيها شائبة القبح و النّقص، فالقوليّ منه: هو إظهاره باللسان، و القلبيّ : هو استشعار القلب به، و الحاليّ : هو الرّضا بجميع ما يصدر منه تعالى، و الأفعاليّ : هو القيام بطاعته و عبادته عن محبّة و شوق و نشاط .

و أيضا في تخصيص الحمد به تعالى إشعار بأنّ حسن أفعال من سواه راجع إليه تعالى، و حمد غيره على فعله يكون حمده، بل لا يجوز حمد غيره إلاّ بإذنه لأنّه هو مستحقّه و مالكه، ثمّ لا يمكن لأحد حقّ حمده لعدم إمكان إحصاء نعمائه و الإحاطة بحقيقة حسن أفعاله، و لذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج، لمّا أمره اللّه بالثّناء عليه: «لا احصي ثناء عليك »(1).

في بيان فضيلة حمده تعالى

و في افتتاحه تعالى كتابه المجيد بالبسملة و التحميد إشعار بأنّه لا ينبغي الشروع في أمر إلاّ بعد البسملة و الحمد.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حدّثني عن اللّه عزّ و جلّ أنّه قال: كلّ ذي بال لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر »(2).

و في رواية: «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أقطع »(3).

ص: 185


1- تفسير روح البيان 11:1.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 7/25.
3- كنز العمال 2509/558:1.

و عن تفسير الإمام عليه السّلام: عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه سئل عن تفسيره، فقال: «هو أنّ اللّه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتّفصيل لأنّه أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال [لهم]: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا »(1).

و عدم ذكر ما يحمد عليه في الآية، لعدم الاحتياج في المقام، ثمّ وصف ذاته المقدّسة بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ : للإشعار بعلّة استحقاقه الحمد و اختصاصه به، و هو كونه مربّي جميع الكائنات و الموجودات.

و في (العيون) و (تفسير الإمام عليه السّلام): عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «يعني مالك الجماعات من كلّ مخلوق و خالقهم و سائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون، يقلّب الحيوانات في قدرته، و يغذوها من رزقه، و يحوطها بكنفه، و يدبّر كلا منها بمصلحته، و يمسك الجمادات بقدرته، [و] يمسك ما اتّصل منها من التهافت، و المتهافت من التّلاصق و السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، و الأرض أن تنخسف إلاّ بأمره »(2).

قيل: إنّ الرّبّ هنا بمعنى المالك. و قيل: إنّ المراد بالعالمين عالم الملك، و عالم الإنس و عالم الجنّ ، و عالم الأفلاك، و عالم النّبات، و عالم الحيوان، و قد اختلفت الأخبار في عدد العوالم.

في ذكر عدد العوالم

عن الصّدوق في (الخصال) أنّه روي عن الباقر عليه السّلام أنّه ذكر في قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (3): «إنّ اللّه قد خلق ألف ألف عالم، و ألف ألف آدم، و نحن في آخر العوالم و آخر الآدميّين »(4).

نقل عن الهيئة الجديدة التي أسّسها أهل الإفرنج أنّ كلّ كوكب من الكواكب السّيّارة، غير القمر و الشمس، أرض كأرضنا تدور حول الشمس، و الشمس كالمركز لها، و زادوا على السيّارات المعروفة سيّارتين كبيرتين تسمّى إحداهما أورانوس و الاخرى نبتون.

و نقل أنّهم وجدوا سيارات صغارا كثيرة يمتنع إدراكها إلاّ بالآلات المعدّة لهذا الشأن، و اعتقدوا [أن] لكلّ واحد من السيّارات الأوّل ثمانية أقمار و أقلّ إلى واحد، تدور تلك الأقمار على تلك

ص: 186


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 11/30.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 30/282:1، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري: 11/30، تفسير الصافي 71:1.
3- سورة ق: 15/50.
4- الخصال: 54/652.

الأراضي، كما أنّ لأرضنا هذه قمرا يخصّها، و أنّ لكلّ كوكب من الكواكب الثابتة شمسا كشمسنا هذه في فضاء غير متناه مع اختلافها في القرب من شمسنا و البعد منها، و كلّما كان أبعد كان جرمه في أبصارنا أصغر، فاستظهروا من ذلك أنّ لكلّ كوكب منها أراضي كالأراضي التي لشمسنا هذه، و حينئذ تكون الأراضي خارجة عن حدّ الإحصاء، و اللّه تعالى ربّ جميعها.

فظهر أنّ معنى هذه الكلمة و حقيقتها شامل لجميع الموجودات، محيط بها، معط لكمالها، و لكون مرتبة هذا الاسم المبارك تحت مرتبة اسم الجلالة، لكونه مظهر الآثار الالوهيّة، قرنه به في الآية و أخّره عنه في الذكر، و لدلالته على أنّ كلّ خير منه تعالى، و دفع كلّ شرّ إليه، كان فيه غاية التأثير في تهييج حبّ العارفين، و تحريك رجاء الرّاجين، و لهذا السرّ كان ثناؤه تعالى في الأدعية بهذا الاسم المبارك أكثر من ثنائه بسائر الأسماء، و من عرفه بالرّبوبيّة و عرف نفسه بالمربوبيّة المطلقة من كلّ وجه و اعتبار، عرف ما يناسب شأنه من الذلّة و الاستكانة، و قام بوظائفه من الطاعة و العبادة.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم القاصرين أن يكون تربيته للممكنات كتربية الأجرام الفلكيّة و المؤثّرات الكونيّة بغير إرادة و اختيار و حكمة و لحاظ صلاح، أشار بتوصيف ذاته المقدّسة بقوله: اَلرَّحْمنِ

إلى أنّ تربيته العامّة بمبدإ صفة الرّحمانيّة. و بقوله: اَلرَّحِيمِ إلى أنّ تربيته الخاصّة للنفوس القابلة و تكميلها بمبدإ صفة الرّحيميّة، و من الواضح أنّ هاتين الصفتين ملازمتان للعلم و الاختيار و الارادة و الحكمة.

و قيل: إنّ نكتة تكرار هذين الاسمين هي كمال مدخليّتهما في استحقاق الحمد، أو شدّة الاهتمام ببسط رجاء العباد إلى رحمته.

و في حديث معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عالم الملكوت: «ثمّ قال له: احمدني. قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: [في نفسه] شكرا، فقال اللّه تعالى يا محمّد، قطعت حمدي فسمّ باسمي، فمن أجل ذلك جعل في الحمد اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّتين »(1).

أقول: لعلّ وجه كون الشكر قاطعا للحمد أنّ في الشكر التوجّه إلى النّعم، و هو ملازم للتوجّه إلى النّفس، و ليس في الحمد إلاّ التوجّه إلى مقام الالوهيّة و الرّبوبيّة، فلزم تكرار اسم الحقّ سبحانه، و حصر التوجّه فيه، و إفناء ملاحظة النّفس.

ص: 187


1- الكافي 1/485:3.

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لتكميل النفوس بعد إيقاظها بالرّجاء بإنعاشها بالخوف بتنبيهها بالسّلطنة المطلقة في يوم الحساب و الجزاء، و أنّه الحاكم فيه ليس لغيره فيه حكم و سلطان كما كان لغيره في الدنيا بظاهر الأنظار.

عن (تفسير الامام عليه السّلام): «يعني القادر على إقامته، و القاضي فيه بالحقّ و الدّين و الحساب »(1).

و قيل: إنّ في هذه الآية إشعار بأنّ الحمد علّة نيل الرّحمة في الدّنيا و الآخرة، و يؤيده ما روي من أنّ آدم لمّا نفخ فيه الرّوح عطس، فقال: الحمد للّه، و اجيب: يرحمك ربّك، و لذلك خلقتك(2).

فدلّت الآيات الثلاث على أنّه سبحانه منبع الخلق و مبدأ الايجاد، و بفيضه و إرادته تربية الكائنات، و تكميل الموجودات، و أنّ رجوع جميع الخلق إلى حكمه و أمره و سلطانه في الآخرة. فإذا تذكّر العبد هذه الصّفات، و تأمّل في أنّ وجوده و تربيته و بقاءه و تعيّشه في الدّنيا به تعالى، و ارتقاءه من حضيض الحيوانيّة إلى أعلى مدارج القرب و كمال الانسانيّة بلطفه سبحانه، و تفكّر في أنّ مرجعه و معاده في الآخرة إلى حكمه تعالى و سلطانه، علم أنّ من كان إحسانه إليه في زمان بعده عنه و احتباسه في عالم الطبيعة و انغماره في ظلمات الجهل و الغفلة بمقدار لا يمكن عدّة و لا يدرك حدّه، لا يمكن منع فيضه و لطفه و إحسانه و إنعامه حين وروده عليه و وفوده لديه.

فعند ذلك تتكامل معرفته، و تحيط بالقلب محبّته، فيرتفع حجاب غفلته، و تتنوّر عين بصيرته، و تتجلّى أنوار جمال مليكه في ضميره، و يرى نفسه شاخصة بحضرته، فيعترف بالاخلاص في عبوديّته، و يقول: إِيّاكَ نَعْبُدُ و لك خاصة نخضع و ننقاد و نتذلّل.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «قال اللّه تعالى: قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم: إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا، نطيعك مخلصين موحّدين، مع التذلّل و الخضوع، بلا رياء و لا سمعة »(3).

و عن ابن عبّاس: أنّ جبرئيل قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قل يا محمّد: إِيّاكَ نَعْبُدُ. أي إيّاك نأمل و نرجو لا غيرك(4).

و في رواية عاميّة عن الصادق عليه السّلام: «يعني لا نريد منك غيرك، و لا نعبدك بالعوض و البدل كما

ص: 188


1- التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام: 14/38، تفسير الصافي 71:1.
2- تفسير روح البيان 14:1 «نحوه».
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 15/39، تفسير الصافي 71:1.
4- تفسير روح البيان 17:1.

يعبدك الجاهلون بك المغيّبيون عنك »(1).

أقول: الظاهر أنّ المراد من قوله: «لا نريد منك غيرك»، أنّه لا نريد بعبادتك نيل مطلوب من نعم الدنيا أو ثواب الآخرة، و لا دفع مكروه صوريّ أو معنوي، دنيويّ أو اخرويّ ، بل نريد بها أداء حقك حيث إنّك مستحقّ لها بوجوب الذّات و كمال الصّفات و النّعم السابغات، و هذه هي العبادة الحقيقيّة، و غيرها من سائر الغايات المنظورة هي عبادة غيره، و التعبير بصيغة مع الغير لإدراج عبادته في عبادة الحفظة أو حاضري صلاة الجماعة أو سائر العبّاد الموحّدين المخلصين، استحقارا لعبادة نفسه و إشعارا بأنّ عبادته غير قابلة بأن تذكر أو ينظر إليها إلاّ بتبع عبادة المخلصين.

ثمّ لمّا كان العبد مخلوقا من الضّعف، فلا قوّة له على العمل إلاّ بحوله تعالى، و لا حول له إلاّ بعونه، و لا يرجى منه خير إلاّ بتسديده و توفيقه، و كان في إسناد العبادة إلى نفسه إيهام العجب بقدرته و استقلاله في فعله و عمله، أمر بأن يسأل الإعانة من اللّه عليها، بقوله: وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ على طاعتك و عبادتك و العمل بمرضاتك، و على دفع شرور أعدائك و ردّ مكائدهم، و تخصيص الاستعانة به نتيجة التوحيد و معرفة ربوبيّته تعالى و مربوبيّة نفسه، حيث إنّ فيه إشارة إلى أنّه القادر المطلق، و أنّ قدرة غيره منتهية إليه، و أنّه الكافي لجميع ما سواه، و لا كافي غيره، و في إدخال استعانته في ضمن استعانة الموحّدين استيجاب ببركتهم.

ثمّ لمّا كان أهمّ المقاصد و أعظمها هو الهداية إلى عبادات موصلة إلى رضوانه، محصّلة للسّعادات الأبديّة من قربه و جنانه، خصّ طلب الإعانة بها، فكأنّه قال تعالى: كيف اعينك فيقول: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و دلّنا على النّهج الحقّ القويم.

في ذكر معنى الصراط و الجمع بين الأخبار

عن (تفسير الإمام): عن الصادق صلوات اللّه عليه: «يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك، و المبلغ إلى جنّتك، و المانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك »(2).

و عن (المعاني) عنه عليه السّلام: «هي الطّريق إلى معرفة اللّه، و هما صراطان: صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة، فأمّا الصّراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطّاعة، من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مرّ على

ص: 189


1- تفسير الصافي 72:1.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 20/44، تفسير الصافي 72:1.

الصّراط - الذي هو جسر جهنّم - في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصّراط في الآخرة فتردى في نار جهنّم »(1).

و في رواية أخرى: «نحن(2) الصّراط المستقيم »(3).

و في أخرى: «الصّراط المستقيم: هو أمير المؤمنين عليه السّلام و معرفته»(4) الخبر.

أقول: لعلّ وجه الجمع، أنّ حقيقة الصّراط و الطريق المؤدّي إلى رضوان اللّه هي الشريعة المقرّرة المركّبة من العقائد الحقّة، و المعارف الإلهيّة، و الأعمال الصالحة، و الأخلاق المرضيّة، و الهداية إليها في هذا العالم لها أنحاء، أظهرها و أجلاها بحسب العادة هو الهداية إليها بوسيلة هاد من جنس بني آدم و هو النبيّ و الإمام، بل الهداية إليهما هي الهداية إليها، إذ لو كان للشّريعة المطهّرة صورة مجسّمة لكانت هي الانسان الكامل، و هو الإمام و الحجّة، إذ هم المبيّنون بكلامهم و أخلاقهم و أعمالهم حقيقة الدّين و الشرع المتين بهداية العبد إلى الدّين [و] تعريفه إيّاهم، فمن كان بهم أعرف كان إلى الصّراط أهدى، فمعرفتهم عين معرفة الصّراط ، و المقتدي بهم مارّ عليه في الدنيا و الآخرة و منته إلى رضوان اللّه، واصل إلى الجنّة و نعيم دار القرار، و المتخلّف عنهم زال عن الصّراط ، و هاو في النّار، و من الواضح أنّ هذه الهداية من أظهر شئون الرّبوبيّة، و أجلى آثار صفة الرّحيميّة.

ثمّ اعلم أنّ الهداية الحقيقية إليهم لست بالاطّلاع على الأدلّة الدالّة على إمامتهم و وجوب اتّباعهم و طاعتهم، بل تكون بالنّور الّذي يقذفه اللّه في القلب بحيث يؤثّر في ملازمتهم و الاقتداء بهم و بتقوية القوّة العاقلة بحدّ يورث قطع التعلّقات الجسمانيّة، و قمع الشّهوات النفسانيّة، و الاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال و مطالعة أنوار الجلال.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثمّ رشّ عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النّور فقد اهتدى، و من أخطأه فقد ضلّ »(5).و الظاهر أنّ المراد من الظلمة ظلمة الجهل، و من النّور نور العلم و العقل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ في الآية دلالة ظاهرة على نفي الجبر و التفويض، و إثبات الأمر بين الأمرين،

.

ص: 190


1- معاني الأخبار: 1/32، تفسير الصافي 72:1.
2- في النسخة: عن.
3- معاني الأخبار: 5/35، ينابيع المودة: 477، تفسير الصافي 73:1.
4- معاني الأخبار: 3/32 .
5- تفسير روح البيان 23:1.

حيث إنّ الظاهر من قوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ أنّ الإرادة و العمل و القدرة من العبد، و من قوله: إِيّاكَ نَسْتَعِينُ أنّ الإعانة بالهداية و التوفيق من اللّه.

ثمّ أنّه لمّا كان لإظهار فائدة المطلوب و المسئول و تذكّر مضارّ فواته تأثير عظيم في شدّة حرص الطالب على الطلب، و تهييج رحمة المطلوب منه في الإعطاء و الإجابة، وصف الصّراط و بيّنه بقوله:

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و طريقة جماعة خصصتهم بكمال اللطف و تمام الفضل عليهم من العصمة عن الخطأ و الزّلل، و المعرفة بحقائق الامور و اليقين بالمبدإ و المعاد لنورانيّة طينتهم، و قوّة عقولهم، و انشراح صدورهم، و هم النّبيّون، ثمّ الأوصياء، ثمّ الأولياء.

ثمّ وصف المهديّين المنعم عليهم بقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بسبب خبث طينتهم و فساد عقائدهم و أعمالهم، للتّعريض على أنّ الجاحدين للحقّ المعاندين له من اليهود و النّصّاب و أضرابهم في غضب اللّه، و بقوله: وَ لاَ الضّالِّينَ و هم الذين أعرضوا عن الحقّ لتقصيرهم و جهلهم من غير عناد كالنّصارى الّذين قال اللّه فيهم: وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى (1)

و كالشاكّين الذين لم يجهدوا في تحصيل معرفة الحقّ للتّعريض على أنهم في ضلال.

عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: «لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: قال اللّه عزّ و جلّ : قسّمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي، فنصفها لي و نصفها لعبدي [و لعبدي] ما سأل، فإذا قال العبد بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي، و حقّ عليّ أن اتمّم له اموره، و ابارك له في أحواله.

و إذا قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال جلّ جلاله: حمدني عبدي، و علم أنّ النّعم التي له من عندي، و أنّ البلايا التي اندفعت(2) عنه فبتطوّلي، اشهدكم أنّي اضيف له إلى نعم الدّنيا نعم الآخرة، و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.

و إذا قال: اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي بأنّي الرّحمن الرّحيم، اشهدكم لاوفّرنّ من نعمتي(3) حظّه، و لأجزلنّ من عطائي نصيبه.

فإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال اللّه تعالى: اشهدكم كما اعترف بأنّي أنا الملك يوم الدّين،

ص: 191


1- المائدة: 82/5.
2- في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: دفعت.
3- في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: رحمتي.

لاسهّلنّ يوم الحساب حسابه، و لأقبلنّ حسناته، و لأتجاوزنّ عن سيّئاته.

فإذا قال العبد: إِيّاكَ نَعْبُدُ قال اللّه عزّ و جلّ : صدق عبدي، إيّاي يعبد، اشهدكم لاثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي.

فإذا قال: وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ قال اللّه تعالى: بي استعان، و إليّ التجأ، اشهدكم لاعيننّه على أمره، و لاغيثنّه في شدائده، و لآخذنّ بيده يوم نوائبه. فإذا قال: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة، قال اللّه جلّ جلاله: هذا لعبدي، و لعبدي ما سأل، فقد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمّل، و آمنته ممّا منه وجل »(1).

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إبليس رنّ رنينا لمّا بعث اللّه نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على حين فترة من الرسل، و حين نزلت أمّ الكتاب »(2).

قيل: إنّها أوّل سورة نزلت بمكّة، و سورة البقرة أوّل سورة نزلت في المدينة و هي:

ص: 192


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 59/300:1، تفسير الصافي 75:1.
2- الخصال: 141/263.

في تفسير سورة البقرة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البقرة (2): الآیات 1 الی 3

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قد مرّ تفسيره في أوّل الفاتحة، و تفسير:

سورة البقرة (2): آیة 1

الم في طرفة بيان أظهر مصاديق المتشابهات(1).

ثمّ إنّ وجه النّظم بين هذه السورة و سورة الفاتحة، أنّ في تلك السورة سؤال الهداية، و في هذه السورة إجابته بقوله: ذلِكَ القرآن المجيد هو اَلْكِتابُ المعهود الذي بشّر الأنبياء به اممهم، و وعدك اللّه يا محمّد أنّه منزله عليك.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «يعني القرآن الذي افتتح ب (الم) هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى و من بعده من الأنبياء، و أخبروا بني إسرائيل أنّي سانزله عليك يا محمّد كتابا عربيّا لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (2) الخبر.

سورة البقرة (2): آیة 2

لا رَيْبَ فِيهِ و لا مجال لشكّ يعتريه، إنّه منزل من اللّه تعالى لظهور آيات الصّدق فيه، فالشّاكّ فيه كالشّاكّ في ضوء الشّمس إذا كانت في رائعة(3) النّهار، و يكون الشّكّ في قلبه لا في الكتاب.

روي عن الصادق عليه السّلام: «كتاب عليّ لا ريب فيه»(4) فإنّ صدره الشّريف مرآة اللّوح المحفوظ .

ثمّ وصف اللّه الكتاب بأنّه هُدىً و دليل إلى الرّشاد، و بيان من الضّلالة لِلْمُتَّقِينَ و هم المحترزون(5) عن العقائد الفاسدة و الأعمال القبيحة العقليّة، الطالبون(6) لمدارج التقوى.

ص: 193


1- راجع: الطرفة (18).
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 32/62، و الآية من سورة فصلت: 42/41.
3- في النسخة: رابعة.
4- تفسير العياشي 105/108:1.
5- في النسخة: المحترزين.
6- في النسخة: الطالبين.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «الذين يتّقون الموبقات و يتّقون تسليط السّفه على أنفسهم، حتّى إذا علموا ما يجب عليهم عمله، عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم »(1).

و عنه عليه السّلام أيضا، قال: «هُدىً بيان و شفاء للمتّقين من شيعة محمّد و عليّ عليهما و آلهما السّلام أنّهم اتّقوا أنواع الكفر فتركوها، و اتّقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، و اتّقوا إظهار أسرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله فكتموها، و اتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها، و فيهم نشروها »(2).

في بيان مراتب الهداية

أقول: هذا التفسير موافق لما قيل من أنّ المراد بالمتّقين الكاملون في التّقوى، فإنّهم المنتفعون به حقّ الانتفاع و يتوصّلون به إلى أعلى درجاته الذي يتلو مرتبة العصمة، فلا يرد عليه أنّ هداية الكاملين في التّقوى تحصيل الحاصل، و توضيح الدّفع أنّ الهداية لها مراتب ثلاثة: هداية عامّة، و هي الهداية إلى الإسلام لجميع النّاس، و هداية خاصّة لأهل الايمان إلى مرتبة التّقوى، و هداية أخصّ للكاملين في الإيمان و التّقوى إلى مقام المقرّبين.

عن الصادق عليه السّلام: «المتّقون شيعتنا »(3).

سورة البقرة (2): آیة 3

أقول: لأنّهم عليهم السّلام اصول شجرة التّقوى، و الدّعاة إليه، و شيعتهم فروع تلك الشجرة، و المجيبون للدّعوة.

ثمّ عرّفهم اللّه بأنّهم اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ و يصدّقون بما لا تدركه الحواسّ الظاهرة من التّوحيد و البعث و الحساب و جزاء الأعمال و قيام القائم المنتظر.

عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنهم - في حديث - قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «طوبى للصّابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبّته (4) ،اولئك من وصفهم اللّه في كتابه، فقال: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (5) الخبر.

في بيان اختلاف مراتب اليقين و اختلاف الأعمال باختلافها

ثمّ اعلم أنّ الايمان الظاهريّ هو الإقرار باللسان، و الحقيقيّ منه هو الاعتقاد القلبيّ و اليقين الذي لا يشوبه قلق و اضطراب و شكّ ، فإنّه مقابل الرّيب الذي هو الاضطراب في القلب، و لا ريب أنّ للمتّقين مراتب كثيرة ضعفا و شدّة، و أعلى مراتبه ما لو كشف

ص: 194


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 32/62.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 33/67.
3- تفسير العياشي 105/108:1.
4- في كفاية الأثر: للمتقين على محجتهم.
5- كفاية الأثر: 60، بحار الأنوار 60/143:52.

الغطاء عن الموقن ما ازداد يقينا.

و لا شبهة أنّ العمل يختلف باختلاف مراتب اليقين، حيث إنّه نور ساطع في القلب، سار شعاعه إلى الجوارح، فبحسب انبثاث شعاعه ينفذ روح الايمان في الأعضاء و تتقوّى و تتحرّك للقيام بوظائفه، فبنفوذ نور الإيمان و روجه في كلّ جارحة يظهر أثره فيه، فأثر إيمان القلب المعرفة و الانقياد و الخضوع، و أثر إيمان الدّماغ التفكّر و التدبّر في آيات اللّه و دلائل المبدأ و المعاد، و أثر إيمان العين الغضّ عن المحرّمات، و النّظر إلى الآيات، و أثره في سائر الجوارح أداء كلّ جارحة وظيفتها.

نعم، بعض الأعمال يشترك فيه جميع الجوارح كالصلاة، و لذا سمّاها اللّه بالإيمان في قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ (1) و أراد به الصّلاة، و لذا خصّها بالذكر بعد الإيمان بقوله: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ و يتمرّنون لأدائها و حفظ أوقاتها و تعديل أركانها و رعاية فرائضها و سننها و آدابها.

و يمكن أن تكون الصلاة لكونها أهمّ الفرائض البدنيّة كناية عن جميع فرائضها في مقابل الفرائض الماليّة، أو تكون كناية عن جميع الأعمال التي يرجع صلاحها إلى عاملها من غير تعدّ إلى غيره، و يكون قوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و متّعناهم به في الدنيا يُنْفِقُونَ و يبذلون، كناية عن جميع الفرائض الماليّة، أو جميع الأعمال التي فيها صلاح الغير من بذل المال، و تعليم العلم، و إعانة الغير بالقوى البدنيّة و الجاه، و غير ذلك ممّا يحتاج إليه غيره و ينتفع به.

عن الصادق عليه السّلام: «و ممّا علّمناهم يبثّون »(2).

و في رواية: «و ممّا علّمناهم من القرآن يتلون »(3).

و الظاهر أنّ المراد أنّهم يتلونه لغيرهم حتّى يتعلّموا، و قد جمعت الآيتان جميع الوظائف القلبيّة و الجوارحيّة و الماليّة، فإنّ كلّها من لوازم التّقوى.

قيل: إنّ هذه الآية نزلت في مؤمني العرب(4).

سورة البقرة (2): الآیات 4 الی 5

اشارة

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

ص: 195


1- البقرة: 143/2.
2- مجمع البيان 122:1.
3- تفسير القمي 30:1.
4- تفسير روح البيان 40:1.
سورة البقرة (2): آیة 4

ثمّ بالغ في توصيفهم و مدحهم بقوله: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ و يصدّقون تصديقا حقيقيّا لسانيّا و جنانيّا بِما أُنْزِلَ من السّماء متدرّجا إِلَيْكَ من القرآن و جميع أحكام شريعتك، أنّه كلام اللّه، و دينه المرضيّ عنده، و هذا الإيمان مستلزم للايمان بالرّسالة وَ ما أُنْزِلَ من الكتب على سائر الأنبياء مِنْ قَبْلِكَ أنّ جميعها كانت حجّة من اللّه على اممهم و إن نسخت.

و لعلّ ذكر الإيمان بالكتب بعد الإيمان بالغيب، لتنزيله منزلة الإيمان بالمحسوس لوفور دلائل صدقها و حقّانيّتها وَ بِالْآخِرَةِ و المعاد لجزاء الأعمال هُمْ يُوقِنُونَ لا يدخل في قلوبهم شكّ و لا ريب.

قيل: نزلت في مؤمني أهل الكتاب (1) ،و تخصيص اليقين بالآخرة بالذكر مع كونه داخلا في الإيمان بالغيب لكمال مدخليّته في تكميل النفس و استقامة العمل، فإنّ ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها.

في أن المغرورين عشرة

قيل: عشرة من المغرورين: من أيقن أنّ اللّه خالقه و لا يعبده، و من أيقن أنّ اللّه رازقه و لا يطمئنّ به، و من أيقن أنّ الدنيا زائلة و يعتمد عليها، و من أيقن أنّ الورثة أعداؤه و يجمع لهم، و من أيقن أنّ الموت آت و لا يستعدّ له، و من أيقن أنّ القبر منزله و لا يعمّره، و من أيقن أنّ الدّيّان يحاسبه و لا يصحّح حجّته، و من أيقن أنّ الصّراط ممرّه و لا يخفّف ثقله، و من أيقن أنّ النّار دار الفجّار و لا يهرب منها، و من أيقن أنّ الجنّة دار الأبرار و لا يعمل لها(2).

قال بعض: إنّ اليقين بالآخرة داع إلى قصر الأمل، و قصر الأمل يدعو إلى الزهد، و الزهد يورث الحكمة، و الحكمة تورث النّظر في العواقب(3).

و في الآية تعريض على أهل الكتاب حيث إنّهم يثبتون أمر الآخرة على خلاف حقيقته، و إنّ قولهم به ليس عن إيقان، و إنّ اليقين ما عليه المتّقون من المؤمنين بخاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله.

و يبالي فإنّ في رواية: «ما قسّم بين العباد شيء أقلّ من اليقين »(4).

في بيان الملازمة بين الإيمان بالمبدإ و الإيمان بالمعاد

ثمّ لا يذهب عليك أنّ اليقين بالمعاد مستلزم لليقين بالمبدإ، كما أنّ اليقين بالمبدإ مستلزم لليقين بالمعاد، لأنّ اليقين بالصانع يلازم اليقين بحكمته، و الحكمة مقتضية لأن يكون بعد هذا العالم عالم آخر يثاب فيه المؤمن، و يعاقب فيه العاصي، و إلاّ يلزم

ص: 196


1- تفسير روح البيان 40:1.
2- تفسير روح البيان 42:1.
3- تفسير روح البيان 42:1.
4- الكافي 6/43:2.

العبث في الخلق، قال اللّه عزّ و جلّ : أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (1) ،و قال:

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ (2)

إلى غير ذلك.

سورة البقرة (2): آیة 5

ثم بيّن سبحانه ثمرة تقواهم و صفاتهم الكريمة، بقوله أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات الكريمة مختصّون بالركوب عَلى طريق هُدىً كامل، و بيان(3) مقام المقرّبين بتفضّل كائن مِنْ قبل رَبِّهِمْ حيث إنّه أرشدهم إلى الحقّ ، و وفّقهم للطّاعة، و أعانهم على تحصيل مرضاته وَ أُولئِكَ الكاملون في المكارم هُمُ الْمُفْلِحُونَ المختصّون بالنّجاة و النّجاح، الفائزون بالبغية و الدّرجات.

و إنّما أشار إليهم بما يشار إلى البعيد، للإشعار بعلوّ منزلتهم و رفعة مقامهم، و بعدهم عن غيرهم في الأخلاق.

في معنى الفلاح

و في رواية، في ترجمة الأذان: «فأمّا قوله: حيّ على الفلاح، فإنّه يقول: أقبلوا إلى بقاء لا فناء معه، و نجاة لا هلاك معها، و تعالوا إلى حياة لا ممات معها، و إلى نعيم لا نفاد له، و إلى ملك لا زوال معه، و إلى سرور لا حزن معه، و إلى انس لا وحشة معه، و إلى نور لا ظلمة معه، و إلى سعة لا ضيق فيها، و إلى بهجة لا انقطاع لها، و إلى غنى لا فاقة معه، و إلى صحّة لا سقم معها، و إلى عزّ لا ذلّ معه، و إلى قوّة لا ضعف معها، و إلى كرامة يا لها من كرامة، و عجّلوا إلى سرور الدنيا و العقبى، و نجاة الآخرة و الاولى.

و في المرّة الثانية: حيّ على الفلاح، فإنّه يقول: سابقوا إلى ما دعوتكم إليه، و إلى جزيل الكرامة، و عظيم المنّة، و سنيّ النعمة، و الفوز العظيم، و نعيم الأبد في جوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله في مقعد صدق عند مليك مقتدر »(4).

سورة البقرة (2): الآیات 6 الی 7

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

ص: 197


1- المؤمنون: 115/23.
2- سورة ص: 27/38.
3- كذا، و تقرأ أيضا: و تبيان.
4- معاني الأخبار: 1/40، التوحيد: 1/240.
سورة البقرة (2): آیة 6

ثمّ أنّه لما كان من دأب اللّه تعالى في الكتاب العزيز أنّه كلّما ذكر المؤمنين و المتّقين بخير ذكر الكافرين و الفاسقين بسوء، و كلّما وعد المؤمنين بالثواب و الرحمة أوعد الكفّار بالعذاب و النّقمة، أردف هنا ذكر المتّقين و توصيفهم بأحسن صفاتهم، و وعدهم بالفلاح و النّجاح بذكر الكفّار الجاحدين للحقّ ، المصرّين على الكفر، و توبيخهم بأخبث أخلاقهم، و توعيدهم بالعذاب و النّكال، بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله كأبي جهل و أبي لهب و أضرابهما من رؤساء الضلال الذين كانوا في ذلك العصر مصرّين على التمرّد و اللّجاج و العناد للحقّ .

و يحتمل أن يكون المراد من الموصول كلّ من صمّم على الكفر تصميما لا يرعوي بعده، دون غيرهم من الذين لم يبلغوا ذلك الحال، بقرينة قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ و لا يتفاوت حالهم أَ أَنْذَرْتَهُمْ و خوّفتهم من عذاب اللّه و دعوتهم إلى الإيمان و وعظتهم أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فإنّ قلوبهم في أعلى مرتبة القساوة، خارجة عن قابلية التأثّر، و لذا سبق في علم اللّه أنّهم لا يُؤْمِنُونَ بك و بكتابك، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، و لا تطمع في إيمانهم حيث إنّه خَتَمَ اللّهُ و طبع عَلى قُلُوبِهِمْ فلا يدخل فيها شيء من المواعظ ، و لا ينفذ فيها نور الهداية كما كانوا يقولون: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ (1).

وَ ختم عَلى سَمْعِهِمْ لا يدخل فيه كلمات الوعد و الوعيد و الإنذار و التّهديد كما كانوا يقولون: وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ (2)وَ عَلى أَبْصارِهِمْ كأنّه غِشاوَةٌ و غطاء لا يخرج منها نور يرون به آيات الحقّ .

روي عن الرّضا عليه السّلام أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ : خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ قال:

«الختم هو الطبع على قلوب الكفّار، عقوبة على كفرهم، كما قال اللّه عزّ و جلّ : طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً » (3).

و عن العسكري عليه السّلام: في تفسير خَتَمَ اللّهُ أنّه قال: «وسمها بسمة يعرفها من شاء من ملائكته و أوليائه إذا نظروا إليها، بأنّهم الذين لا يؤمنون »(4).

ص: 198


1- فصلت: 5/41.
2- فصلت: 5/41.
3- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 16/123:1، و الآية من سورة النساء: 155/4.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 53/98.

و لعلّ المراد من الختم و السمة الظلمة المحيطة بقلوبهم بسبب تماديهم في الكفر و إصرارهم على العصيان، يراها كلّ من له بصيرة نافذة، و إسناده إلى اللّه لكونها بخذلانه إيّاهم، و هو من أشدّ العقوبات، فإذا انتهى حال قلوبهم إلى أعلى مرتبة القساوة و الظلمة فلا يمكن إيمانهم إلاّ بالقسر و الإلجاء المنافيين للتّكليف، و في تنكير الغشاوة إشعار بأنّها ليست من الغشاوات العاديّة.

في بيان معنى الاختيار و حقيقته

إن قيل: على هذا كان تكليفهم بالايمان بعد الختم تكليفا بغير مقدور و هو محال.

قلنا: مع ذلك كونهم مكلّفين بالايمان قادرين عليه مختارين فيه، من أوضح الواضحات، و أبده البديهيّات.

و توضيحه أنّ القدرة عبارة عن قوّة في الجوارح، و خصوصيّات فيها، لو أراد صاحبها عملا تمكّن بها من إيجاد ذلك العمل، و لذا لا تضاف إلاّ إلى الأفعال الجوارحيّة الإراديّة بالبداهة. فكلّ عمل يكون من مبادئ وجوده الإرادة، يكون من مبادئ وجوده الإرادي القدرة، و كلّ ما لا يكون من مبادئ وجوده الإرادة، لا يكون مقدورا، فالقدرة بوجودها العلمي أو الاحتمالي من شرائط تحقّق الإرادة، و صدور الفعل عن الاختيار.

و على هذا لا تكون نفس الإرادة و مبادئها من العزم و الجزم ممّا يضاف إليها القدرة، لعدم كونها إراديّة، لوضوح أنّ الإرادة لا توجد بأعمال الجوارح، بل هي معلولة للدّاعي، و هو علم الفاعل بصلاح الفعل، و هذا يختلف باختلاف الأنظار الناشئ من اختلاف مراتب العقول و الشّهوات، و من البديهيّ أنّه لا يعتبر في صحّة التّكليف أن يكون عقل المكلّف في أعلى مرتبة الكمال، بحيث لا يصير مغلوبا للشّهوة أبدا، فإنّ هذه مرتبة العصمة.

و الحاصل: إنّ الدّاعي المؤثّر في الإرادة تابع لقوّة العقل و ضعفه، و العلم بالصّلاح في المراد يكون بنظر الفاعل، فالدّواعي الحسنة معلولة لقوّة العقل و طيب الطّينة و جودة النّظر و كمال البصيرة، و الدّواعي السيئة منبعثة من ضعف العقل و خبث الطّينة و غلبة الشّهوة و قصور النّظر و عدم البصيرة.

فاذا كان الطبع مجبولا على رذائل الأخلاق و الصّفات، و النّفس معيوبة و مغمورة في الظلمات، و العقل ضعيفا مغلوبا للشّهوات؛ فلا محالة يصير القلب مغلوبا لا يستقرّ فيه جواهر الحكم، و البصر محجوبا لا يميز النور من الظّلم، فعند ذلك يتيه من هذا حاله في وادي الجهل و الغواية، و لا يرجى منه الرّشد و الهداية، و لا ينقدح في قلبه إرادة الخير و الصّلاح، و لا يصدر منه خيرة الفوز و الفلاح، و يكون

ص: 199

أضلّ من الأنعام، و يتأنّف من الانقياد للملك العلاّم، و يفتخر بعبادة الأصنام، و تكون لذّته في الشرّ و الفساد، و شوقه إلى الظلم على العباد.

و من الواضح أنّ جميع ذلك بقدرته و إرادته، إذ القدرة كما قلنا ليست إلاّ التمكّن من إيجاد ما أراد فعله أو ترك ما أراد تركه، و تناسب جوارحه لصدوره من غير ضعف و قصور، و الإرادة هي انبعاث النّفس إلى إيجاد ما فيه صلاح بنظره، و إن كان الانبعاث ناشئا من الدّواعي الشّهوانيّة و خبث الذّات و الطّينة، أو بإيجاد اللّه تلك الدّواعي في قلبه.

إن قيل: على هذا يلزم الجبر، و ينتفي الاختيار.

في أنّ تعلّق الإرادة التكوينية بأفعال العباد لا يستلزم الجبر و لا ينافي الاختيار

قلنا: لا شبهة أنّ الاختيار في اللّغة هو طلب الخير، كالاكتساب و الاختيار، و إنّما اطلق على الإرادة بلحاظ أنّها معلولة من العلم بالخير و الصّلاح في الفعل المراد، و مؤثّرة في إيجاده، إذ ليس وجودها الخارجيّ و مصداقها الحقيقي إلاّ توجّه النّفس إلى فعل لاحظ الفاعل فيه خيره، أو ترك شيء لاحظ في فعله شرّه، فإذا وجد الفعل و كان الجزء الأخير من علّته تلك الإرادة فهو اختياريّ ، أي منسوب إلى الاختيار و معلول له، و لا معنى لاختياريّة الفعل غير كونه موجودا بالإرادة، و لا يعتبر فيها أن تكون إرادته موجودة بإرادة اخرى، بل يستحيل أن تكون الإرادة للتّالي إراديّة، للزوم التسلسل، و إن أمكن أحيانا و على حسب الاتّفاق كون بعض مباديها إراديا إلاّ أنّه لا بدّ من انتهائه إلى ما لا يكون بالإرادة.

و بالجملة لا يعتبر في اختياريّة الفعل إلاّ إرادة واحدة معلولة للعلم بالصّلاح في المراد، و إن كان ذلك العلم حاصلا من غير المبادئ الاختياريّة أو بإرادة الغير، فإنّ جميع التسبيبات يكون بإيجاد الدّاعي في ذهن المباشر. مثلا إذا أراد أحد تحريك غيره و بعثه إلى قتل نفس محترمة بالإرادة التكوينيّة، لا بدّ له من إيجاد الدّاعي لمن يريد بعثه، و هو يكون بوعده بما يشتاق إليه، و يجعل بوعده الملازمة بين ذلك الفعل و نيل مطلوبه من مال أو جاه، فإنّ الوعد في الحقيقة جعل الملازمة بين الموعود و الموعود عليه، فإذا علم من اشتاق إلى مال أو جاه بأنّه يكون في قتل النّفس الوصول إلى ذلك المال أو الجاه، فعند ذلك يؤثّر ذلك العلم في تعلّق إرادته بالقتل، فإذا انقدح في قلبه إرادته تحرّكت جوارحه نحو القتل، و لكون فعله معلوما عنده بعنوانه و موجودا بإرادته و قدرته، يستحقّ اللّوم و العقاب، و إن لم يكن وجود الدّاعي المؤثر في إرادته بفعله و إرادته، بل بفعل غيره و الوعد

ص: 200

الحاصل من محرّكه.

و بالجملة لا شبهة أنّه يكفي في كون الفعل اختياريا تحقّق إرادة واحدة متعلّقة به، معلولة لداع موجود بالأسباب الاتّفاقية، و لا يحتاج إلى إرادات طوليّة.

و ممّا يوضح ما ذكرنا أنّ أفعال اللّه عزّ و جلّ اختيارية بالضّرورة من العقل، و ليس إلاّ لكونها صادرة عن إرادته التي هي عين علمه بالصّلاح التّامّ ، و هذا العلم هو عين ذاته، ليس موجودا بعلم آخر متعلّق بصلاح ذلك العلم.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لا يخرج الفعل إذا كان الدّاعي إليه باقتضاء الذّات، أو بايجاد الغير، أو بإفاضة اللّه، عن كونه اختياريا، و لا يكون فاعله بالإرادة مجبورا، لبداهة التضادّ بين كون الفاعل مريدا و كونه مجبورا، إذ من الواضح قبح السّؤال عمّن أخبر أنّه فعل فعلا بإرادته: أ كنت مجبورا أم مختارا فيه ؟ و لوضوح أنّه ليس الفارق بين حركة المختار و المرتعش إلاّ أنّ المرتعش لا تكون حركته بالإرادة، بخلاف المختار فإنّها بالإرادة و الدّاعي.

في أنّ ختم القلب و صدور الكفر و المعاصي بخذلان اللّه و إرادته التكوينية لا ينافي صحة العقوبة عقلا عليها

و ليس تعريف الفعل الاختياري و حقيقته عند الوجدان إلاّ أنّه لو شاء فعل، و لو لم يشأ لم يفعل، و ليس في تعريفه و حقيقته أنّه لو شاء شاء، و لا شبهة أنّه إذا كان شخص بهذه الصفة صحّ تكليفه و عقوبته.

ثمّ لا مجال للإشكال على صحّة العقوبة بأنّه مع حصول الختم في القلب و استناد الكفر و العصيان إلى الإرادة المستندة إلى الدّاعي غير الاختياري يكون العقاب عليهما عقابا على ما لا بالاختيار، و هو ظلم و قبيح.

إذ بعد ثبوت كون الكفر و العصيان بالإرادة، و تأثير قدرة الكافر و العاصي في كفره و عصيانه، يحكم العقل بحسن العقوبة و الذّمّ عليهما، إذ لا مدخل لغير الالتفات إلى عنوان الفعل و وجه كونه قبيحا و صدوره عن الإرادة في استحقاق العقوبة و حسنها، و قد تحقّق أنّ العقل هو الحاكم بالاستقلال في الحسن و القبح في المقام.

و بعبارة اخرى أنّ حسن العقوبة و المثوبة ليس إلاّ ملاءمتها لمذاق العقل، و العقل يجد الملاءمة بين العقوبة و صدور القبيح إذا كان منتهيا إلى مبدأ الإرادة و لو لم تكن الإرادة بالإرادة، و لا اعتراض عليه، و لا يسأل عمّا يحكم و هم يسألون، و الظلم هو العقوبة التي لا يحكم العقل بحسنها، و لا يجد لها

ص: 201

موضعا.

فظهر من جميع ذلك أن كلّ فعل صدر من العبد بقوّة جوارحه و إرادته المنقدحة في ذهنه يكون فعله اختياريا(1) و تحسن عقوبته عليه، إذا كان عنوانه الذي يكون به قبيحا ملتفتا إليه، و إن كان مبادئ إرادته بإيجاد اللّه و مشيئته، بل هو سبحانه و تعالى علّة علل جميع الأفعال الاختياريّة، حيث إن وجود جميع الموجودات من الجواهر و الأعراض و الغرضيّات من الفعل و الانفعال و الوضع و الإضافات و الكيفيّات و غير ذلك في جميع العوالم، لا بدّ أن تكون بالإرادة التكوينيّة الإلهيّة لأنّه السلطان المطلق و المالك الحقّ ، و جميع عوالم الوجود مملكته، و ناصية كلّ شيء بيده، ليس لغيره من مخلوقاته تصرّف و سلطان في ملكه و سلطانه، فلا يتحرّك متحرّك و لا يسكن ساكن و لا يؤثّر مؤثّر و لا يتصرّف متصرّف إلاّ بأمره و إذنه. و لا يمكن أن يوجد أحد ما لم يرد اللّه وجوده، أو يعدم ما لم يرد اللّه عدمه، أو يتحرّك أو يسكن إذا لم يرد اللّه حركته أو سكونه.

فعلى هذا يكون إيمان المؤمن و كفر الكافر و طاعة المطيع و معصية العاصي منتهيا إلى مشيئته و أمره، كما قال تعالى: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (2).

في دفع توهّم الفخر الرازي لزوم الجبر إذا كانت الأفعال معلولة للارادة و الإرادة معلولة للدّواعي و الدواعي معلولة للارادة التكوينية الالهية

و قد غلط من توهّم أنّ الفعل إذا كان بالإرادة و الإرادة بتأثير الدّاعي و الدّاعي بإيجاد اللّه لزم الجبر، لما ذكرنا من أنّ الجبر حمل الغير على فعل لا يريده، لا إيجاد علل إرادته، و أنّ الإرادة و الجبر ضدّان لا يجتمعان في فعل واحد، فإذا كان فعل مرادا امتنع أن يكون مجبورا عليه.

و أمّا نفس الإرادة فحيث إنّها ليست إراديّة، لا يعقل أن يضاف إليها الجبر بأنّ يقال: إنّ المريد كان مجبورا في إرادته، فإذا زيّن أحد معصيته في نظر أحد بحيث صار تزيينه لها داعيا، و علة لارادتها لا يعدّ المزيّن فاعلا لها و لا مجبرا عليها، بل يعدّ سببا، و الفاعل المريد مباشرا للمعصية، مستحقّا للذّمّ عليها بسبب إرادته و اختياره.

إن قيل: لا ريب أنّ السبب في صدور فعل القبيح من الغير و تحريكه إليه بإيجاد الداعي له، قبيح كمباشرته، فكيف يجوز نسبة وجود الدّاعي إلى الكفر و المعاصي و تسبيب أسبابه إلى اللّه الحكيم، مع

ص: 202


1- في النسخة: الاختياري.
2- يونس: 100/10.

امتناع صدور القبيح منه سبحانه ؟

قلنا: هو كذلك إذا لم يكن في صدور الفعل القبيح من الغير أو في إيجاد مقتضيات صدوره جهة حسن و صلاح بالنسبة إلى السبب، غالبة على جهة القبح و المفسدة في الفعل. و أمّا إذا كان في الفعل أو وجود الدّاعي إليه في نفس الغير جهة حسن و صلاح غالبة بالنسبة إلى السبب المحرّك، فليس قبيحا، بل هو في غاية الحسن بالنسبة إليه، و إن كان في نهاية القبح بالنسبة إلى المباشر، إذ من الواضح أنّه يختلف الفعل الواحد صلاحا و فسادا باختلاف الأشخاص، و حسنا و قبحا باختلاف الجهات.

و حينئذ نقول: مضافا إلى أنّ إفاضة الوجود الذي هو بالبديهة من العقل و العقلاء خير محض على الممكنات القابلة و الذوات المستعدّة [و] جود و إحسان و تعلية من حضيض النّقص إلى الكمال، و هما من الحسن بمكان، كما أنّ منع الفيض من اللّه قبيح و محال.

إنّ لكلّ ماله حظ من الوجود سواء كان من الجواهر و الأعراض كالخطرات القلبيّة، و الصّور الخياليّة، و الوجودات العلميّة، و حركات الجوارح و غيرها، حتّى حركة الطّرف، و مشي النّملة، و حركة ورق الشجر، و انتقال الرّمل و الحجر، و غير ذلك، صلاحا في نظام العالم، لأنّ جميع العوالم كالشّخص الواحد، و أجزاؤها كأعضائه، يتوقف صلاحها بصلاح جميع أجزائها، و صلاح كلّ جزء يتوقّف على صلاح بقيّة أجزائها، فجميع أجزاء العالم مرتبطات بعضها ببعض، و الإرادة التكوينيّة علمه تعالى بحسن الإيجاد و صلاح الموجودات، و بهذه الإرادة توجد جميع الموجودات من المؤثر و الأثر، و الصادر و المصدر، و الفاعل و الفعل، و الدواعي و مقتضياتها، و تتّسق امور الموجودات و يتمّ نظامها.

في بيان حقيقة الارادة التكوينية و التشريعية و الفرق بينهما و عدم تنافيهما

فإذا كانت الأفعال الإراديّة من الماهيّات القابلة لفيض الوجود، ممّا يتوقّف به حسن النظام، متعلّق بإيجادها، و الإرادة التكوينيّة بتوسّط عللها الطوليّة من الإرادة و مباديها، مثلا إذا أراد اللّه أن يصل مقدار من المال من زيد بإرادته إلى عمرو، يذكّر زيدا سوء حال عمرو و فقره، و يحدث الدّاعي إلى الإعطاء في قلب زيد، و يسهّل عليه إعطاءه، فيقوم زيد بالإرادة، و يذهب بالمال إلى باب عمرو فيعطيه، فيكون هذا الإعطاء من اللّه تعالى بالتّسبيب، و من زيد بقدرته و إرادته و مباشرته. و كذا إذا أراد اللّه أن يأكل أحد طعاما، يوجد فيه الاشتهاء، و يخلق الطّعام، و يمكّنه من أكله، و يرفع الموانع عنه، و يسلّطه عليه فيأكله المشتهي بإرادته

ص: 203

و قدرته و ميله و شهوته، بلا قسر و لا قهر و لا جبر، مع أنّه قد يكون أكل ذلك الطعام قبيحا بالنسبة إلى الآكل لكونه غصبا، و إيجاده بالمقدّمات الإرادية حسنا من اللّه تعالى لكونه مرتبطا بالنظام الأتمّ .

ثمّ اعلم أنّ من العناوين القابلة للوجود المرتبطة بالنظام، عنوان الطاعة و العبوديّة، و عنوان الطّغيان و المعصية، حيث كان الغرض من إيجاد الموجودات معرفته تعالى بأسمائه الحسنى، و صفاته الجماليّة و الجلاليّة، فلو لم توجد الطّاعة و العبوديّة، لم تظهر صفة لطفه و رحمته و رأفته، و لو لم يوجد عنوان الطغيان و الكفر، لم تظهر صفة قهّاريته، و لو لم يوجد عنوان المعصية لم تظهر صفة عفوه و غفوريّته، فعلى هذا تتعلّق الإرادة التكوينيّة بإيجادها بتوسّط إيجاد أسبابها و مقدّماتها.

و من الواضح أنّ من جملة مقدّماتها جعل الأحكام التّكليفيّة و الوضعيّة، و إرسال الرسل و إنزال الكتب، و الوعد بالثواب، و الوعيد بالعقاب، فتنشأ الأحكام طبقا للإرادات التشريعيّة التي هي عين العلم بحسن بعض الأفعال و صلاحه بالنسبة إلى المكلّف، و قبح بعضها و فساده، بالإضافة إليه على اختلاف مراتبهما من الحسن و القبح الملزمين و غير الملزمين، و على اختلاف درجات الصلاح و الفساد من المهمّ و غيره، فبالإنشاء البعثيّ و الزّجريّ الناشئ من تلك الإرادة التشريعيّة يحدث الوجوب و الاستحباب، و الحرمة و الكراهة.

فظهر من ذلك الفرق بين الإرادة التكوينيّة و التّشريعيّة، و أنّ الاولى: هي العلم بحسن الإيجاد، و ارتباط الموجود بصلاح النّظام الأتمّ . و أنّ الثانية: هي العلم بحسن صدور الفعل من فاعله و قبحه، و صلاحه أو فساده بالنسبة إليه، و أنّه لا تنافي بين قبح صدوره من مباشره و حسن التسبّب إليه من سببه، و إنّه لا تنافي بين كونه اختياريّا بالنسبة إلى المباشرة و استحقاقه الثواب أو العقاب عليه، و بين انتهاء وجوده بعلله الطوليّة إلى إرادة اللّه، و إنّه لا تنافي بين كون إيجاده و صدوره متعلّقا بالإرادة التشريعيّة، و تركه متعلّقا للإرادة التكوينيّة، لما ذكرنا من أنّ الإرادة التشريعيّة في طول الإرادة التكوينيّة، و من مبادئ إنفاذها، حيث إنّه لو لم تكن الإرادة التشريعيّة، لم توجد الطّاعة و المعصية اللّتان تكونان متعلّقتين للإرادة التكوينيّة.

في وجه الحاجة إلى ارسال الرسل و إنزال الكتب و أنّ الأحكام التكليفية ألطاف من اللّه تعالى

و اتّضح أيضا وجه الحاجة إلى إرسال الرّسل و إنزال الكتب و إظهار المعجزات و فوائدها.

ثمّ لمّا كانت الأحكام التكليفيّة مقربات إلى المحسّنات العقليّة، و مبعّدات عن

ص: 204

قبائحها، لكونها دواعي الى إتيان ما يأمر به العقل لحسنه أو صلاحه، و إلى ترك ما ينهى عنه العقل لقبحه و فساده، كانت جميعها ألطافا من اللّه، و التوفيق للقيام بها رحمة و عطوفة منه(1) ؛ لأنّ العمل بها مؤثّر في كمال النّفس، و نورانيّة القلب، و الطّهارة من الأخلاق الرّذيلة السّيئة، و التّحلّي بالملكات الجميلة الحسنة، و يكون الانسان بها كاملا في الجهات الانسانيّة، و مظهرا للصفات الإلهيّة، و هذا الكمال و المظهرية هو حقيقة القرب إلى ساحة الربوبية، و الفوز بالمقصد الأعلى من التمحض في العبوديّة، و الاستغراق في بحار الأنوار، و الارتقاء إلى درجة لا ترقى إليها العقول و الأفكار.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تعذيب الكفّار بالطبع و الخذلان، هدّدهم بقوله وَ لَهُمْ خاصّة في الآخرة أو في الدّنيا و الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ لا يدرك شدّته و عظمته إلاّ اللّه، أمّا في الدنيا فبالآلام الواردة عليهم من الأخلاق السيّئة و الذّلة و المسكنة و الطّرد و الشّرد و القتل و سائر البليّات، و أمّا في الآخرة فبنار سجّرها القهّار بغضبه، لا يقضى عليهم فيموتوا، و لا يخفّف عنهم ساعة و هم فيها خالدون.

في أنّ وجه صحّة تعذيب العصاة و إثابة المطيعين هو الاستحقاق العقلي و حسنهما في حكمه.

ثمّ لا يخفى أنّ علّة تعذيب الكفّار و العصاة لا تكون إلاّ استحقاقهم الذي يحكم به العقل عند عصيان العبيد مواليهم الذين تجب طاعتهم، فإذا تحقق الاستحقاق يجب على الحكيم العمل بمقتضاه، إذ الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، و إعطاء الشّيء ما يستحقّه.

إن قيل: لا شبهة في أنّ العفو عن عقوبة من يستحقّها حسن في حكم العقل، فيجب على اللّه بمقتضى حكمته و كرمه.

قلنا: قد تكون المعصية من القبح بمرتبة لا يحسن العفو عن عقوبتها، و يكون العفو عنها مخالفا للحكمة، حيث إنّه كما يعتبر في الإحسان قابليّة المحلّ ، كذلك يعتبر في العفو، مثلا إذا رأى كريم أجنبيا مع زوجته أو بعض محارمه و نواميسه كأمّه و بنته قبح العفو عنه، إذ العفو في المقام كاشف عن عدم الغيرة. و لذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا بقتل جريح القبطيّ بمجرّد سماع رميه بمراودة مارية عن نفسها، و كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: «كان أبي إبراهيم غيورا، و أنا أغير منه »(2).

و لنوضح المقام ببيان مقدّمة، و هي أنّ فعل القبيح عند العقل و العقلاء مقتض لاستحقاق اللّوم، و العصيان من العبد مقتض لاستحقاق العقوبة من المولى، و المراد من الاستحقاق حسن اللّوم

ص: 205


1- كذا، و المصدر من عطف: عطفا و عطوفا.
2- مكارم الأخلاق: 239.

و العقوبة في الموضعين، و حقيقة الحسن و القبح هي الموافقة لمذاق العقل و المنافرة له، و لا شبهة أنّ لكلّ منهما مراتب في الشّدّة و الضّعف باعتبار قوّة منشأهما و ضعفه، فقد يكون الحسن في فعل بمرتبة لا يزاحمه حسن آخر إذا دار الأمر بينهما، و لا قبيح إذا استلزمه فيحسن ارتكابه، و إن لزم منه وجود قبيح آخر أو فوت حسن آخر، و قد تساوي جهة حسنة جهة حسن ضدّه الذي لا يجامعه في الوجود، أو جهة قبح لازمه، فتخيّر الفاعل بين الضدّين في الأوّل و بين النّقيضين من الفعل و التّرك في الثاني، و قد تترجّح إحدى الجهتين على الاخرى رجحانا غير لازم الرّعاية، فتكون رعايتها أحسن و أفضل.

إذا تمهّد ذلك نقول: لا شبهة في أنّ المعصية منشأ لانتزاع حسن اللّوم و العقوبة من حيث إنّها كاشفة عن خبث النفس و سوء السّريرة، ثمّ إنّه قد يتدارك بالتّوبة أو بطاعة مقبولة فينتفي بوجود أحدهما منشأ انتزاع حسن العقوبة.

و بعبارة اخرى التّوبة أو الطاعة المقبولة في حكم العقل مزاحمان لمقتضى الاستحقاق و مزيلان له، و مع عدمهما قد يكون حسن العفو مساويا لحسن العقوبة، و قد يترجّح عليه برجحان غير ملزم فيما لم يكن مقتضى العقوبة في غاية القوّة، مثلا الكفر و الشرك يكونان في اقتضاء العقوبة بدرجة يخرجان صاحبهما عن قابليّة العفو، حيث إنّهما يورثان ظلمة محيطة بالقلب، بحيث لا تبقى فيه شائبة النور، و يخرج عن مسانحة عالم الأنوار، و يصير مناسبا لعالم الظلمات، و يكون كالشّجر اليابس لا يليق إلاّ للإحراق بالنّار، و كالشّيطان لا ينبغي إلاّ أن يكون قرينا للشّياطين في دار البوار، و ليس إسكانه في الجنان إلاّ كإسكان الكلب الأجرب العقور على سرير السّلطان.

في بيان أنّ العفو عن الكافر خلاف الحكمة و وضع الشيء في غير موضعه

و الحاصل: إنّ العفو عنه، و الرّحمة عليه، و الإحسان إليه، خلاف الحكمة، و من قبيل وضع الشّيء في غير موضعه، و قد ورد في الدعاء المأثور: «و أيقنت أنّك أنت أرحم الرّاحمين في موضع العفو و الرّحمة، و أشدّ المعاقبين في موضع النّكال و النّقمة »(1).

فإنّ من الواضح أنّ الشّقاوة ملازمة للبعد و الهلاك، و إنّما الوعد بالعذاب في الحقيقة إخبار بوجود الملاك.

ص: 206


1- إقبال الأعمال: 58.

سورة البقرة (2): الآیات 8 الی 9

اشارة

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)

سورة البقرة (2): آیة 8

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر المتّقين و مدحهم بالصفات الحسنة و وعدهم بالهدى و الفلاح، و ذكر الكفّار و ذمّهم بالأخلاق السيّئة و توعيدهم بالعذاب العظيم، شرع في بيان حال القسم الثالث من النّاس، و هم المنافقون الذين يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر، بقوله: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ بلسانه آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ و الحال أنّهم كاذبون فيما يقولون وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ و لا معدودين في زمرتهم لعدم دخول الإيمان في قلوبهم.

عن القمّي رحمه اللّه: أنّها نزلت في قوم منافقين أظهروا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإسلام، و كانوا إذا رأوا الكفّار قالوا: إنّا معكم. و إذا لقوا المؤمنين قالوا: نحن مؤمنون(1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إنّ الحكم بن عتيبة ممّن قال اللّه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فليشرّق الحكم و ليغرّب، أما و اللّه لا يصيب العلم إلاّ من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه السّلام »(2).

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام): عن موسى بن جعفر صلوات اللّه عليهما - في رواية طويلة ذكر فيها قضيّة يوم الغدير، و نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام للخلافة، و أمره الصّحابة ببيعته بإمرة المؤمنين - إلى أن قال: ثمّ إنّ قوما من متمرّدي جبابرتهم تواطئوا بينهم إن كانت لمحمّد كائنة لندفعنّ هذا الأمر عن عليّ ، و لا يتركونه [له]، فعرف اللّه ذلك في قلوبهم. و كانوا يأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون له: لقد أقمت عليّا أحبّ خلق اللّه إلى اللّه و إليك و إلينا، كفيتنا به مئونة الظّلمة و الجبابرة، و سياستنا(3).

و علم اللّه في(4) قلوبهم خلاف ذلك و مواطأة(5) بعضهم لبعض أنّهم على العداوة مقيمون، و لدفع الأمر عن مؤثره(6) مؤثرون، فأخبر اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله عنهم، فقال: يا محمّد وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ الذي أمرك بنصب عليّ إماما و سائسا لامّتك و مدبّرا وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بذلك و لكنّهم مواطئون على هلاكك و هلاكه»(7) الخبر.

ص: 207


1- تفسير القمي 34:1.
2- الكافي 4/329:1.
3- في المصدر: و الجائرين في سياستنا.
4- في المصدر: من.
5- في المصدر: و من مواطأة.
6- في المصدر: مستحقه.
7- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 58/112. و فيه: و لكنّهم يتواطئون على إهلاكك و إهلاكه.

أقول: الظاهر - بالنّظر إلى الرّوايات - أنّ شأن نزول الآية جماعة المنافقين الذين كانوا من أصحابه صلّى اللّه عليه و آله و لكنّها جارية على سائر المنافقين في سائر الأزمنة إلى يوم القيامة، و فيها دلالة على أنّه لا ينبغي الوثوق بإيمان كلّ من كان داخلا في الصّحابة و عمله و قوله حسنا في الظاهر، كما هو مبنى مذهب العامّة، و فيها إشعار أيضا بأنّ أهمّ أركان الإيمان هو الإيمان بالمبدإ و المعاد.

سورة البقرة (2): آیة 9

ثمّ قرعهم اللّه بقوله: يُخادِعُونَ اللّهَ بمعاملتهم مع رسوله معاملة المخادع، و لكونه صلّى اللّه عليه و آله خليفة اللّه و مظهر صفاته و عينه الناظرة و يده الباسطة و اذنه الواعية نزّل مخادعته منزلة مخادعة اللّه.

عن ابن بابويه: عن الصادق عليه السّلام عن أبيه «[أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله] سئل: فيما النّجاة غدا؟ فقال: إنّما النّجاة في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّه يخدعه و يخلع منه الإيمان، و نفسه يخدع لو يشعر. فقيل له: و كيف يخادع اللّه ؟ فقال: يعمل بما أمره اللّه عزّ و جلّ به ثم يريد به غيره، فاتّقوا اللّه و اجتنبوا الرياء فإنّه شرك باللّه عزّ و جلّ ، إنّ القراءة يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر»(1) الخبر.

و فيه دلالة على أنّ مخادعة اللّه لا تختصّ بالمنافق المعروف، بل تعمّ كلّ من يظهر شأنا و مقاما من الدّين و هو ليس بواجد له، و كلّ من يظهر حقّا لا يوافق ظاهره باطنه وَ يخادعون اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ لأنّ ضرر مخادعتهم راجع إلى أنفسهم لا إلى المؤمنين وَ ما يَشْعُرُونَ

أنّهم بخديعتهم و نفاقهم يضرّون على أنفسهم، بل يحسبون أنّهم يجلبون النّفع، أو لا يشعرون أنّه لا يمكنهم الخديعة بالنّسبة إلى اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، فإنّ الخدعة فعل ما هو مضرّ على الغير مع إخفاء ضرّه و إظهار صلاحه، و اللّه مطّلع على خفايا امورهم، و كفر باطنهم، و هو يطلع نبيّه و المؤمنين، و يأمرهم بلعنهم، فيكون الأمر بخلاف ما تخيّلوا، حيث إنّ نفاقهم مضر عليهم مع خفاء ضرره عنهم، و في سلب الحواسّ الحيوانية عنهم دلالة على انحطاطهم عن مرتبة البهائم.

سورة البقرة (2): الآیات 10 الی 12

اشارة

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)

ص: 208


1- أمالي الصدوق: 921/677.

ثم

سورة البقرة (2): آیة 10

كأنّه يقال: ما سبب نفاقهم مع وضوح الحقّ ؟ فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عظيم من الحسد و الكبر و حبّ الجاه و العناد للحقّ ، فأورث فساد أرواحهم و هلاكهم الأبديّ ، و أين هذا المرض من الأمراض الجسمانيّة التي غاية شدّتها أن تنتهي إلى الموت و فساد الجسد!

و في الحديث: «القلوب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك، و إن أدركه على إيمانه نجا، و قلب منكوس و هو قلب المشرك، و قلب مطبوع و هو قلب المنافق، و قلب أزهر أجرد و هو قلب المؤمن، فيه كهيئة السّراج، إن أعطاه اللّه شكر، و إن ابتلاه صبر»(1) الخبر.

فَزادَهُمُ اللّهُ بسبب ظهور الآيات، و توافر المعجزات، و زيادة حشمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قوّة الإسلام مَرَضاً و حسدا زائدا على حسدهم، و بغضا و عنادا أشدّ من بغضهم و عنادهم السّابق، فإنّ الأمراض القلبية تتزايد، و الصفات الذّميمة تشتدّ إذا لم تعالج عند الأطبّاء الروحانيين و هم الأنبياء و الأولياء.

ثمّ هدّدهم اللّه بقوله: وَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ بالغ ألمه غايته بِما كانُوا يَكْذِبُونَ في قولهم: آمنّا باللّه و باليوم الآخر، أو قولهم: إنّا على البيعة و العهد مقيمون.

سورة البقرة (2): آیة 11

ثمّ بالغ سبحانه في بيان غاية خبثهم و قساوتهم ببيان عدم قبولهم النّصح، بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ

نصحا و وعظا، و الظاهر أنّ القائل بعض المؤمنين المطّلعين على فساد نيّتهم و إفسادهم لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ .

قيل: كان فسادهم فيها أنّهم كانوا يمايلون الكفّار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم، و إغرائهم عليهم، و ذلك ممّا يؤدي إلى هيج الفتن بينهم.

و قيل: هو مداراتهم الكفّار و مخالطته إيّاهم، حيث يوهم ذلك مع تظاهرهم بالإيمان، ضعف أمر النبيّ و أصحابه، فيصير سببا لطمع الكفّار فيهم فتهيج الفتن و الحروب بينهم.

و قيل: كانوا يدعون في السّرّ إلى تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يلقون الشّبه في قلوب المؤمنين.

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالإفساد إظهار معصية اللّه (2).فإنّ الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسّك الخلق بها زال العدوان و لزم كلّ شأنه، فحقنت الدّماء، و ضبطت الأموال، و حفظت الفروج، فكان ذلك صلاح الأرض و أهلها، أمّا إذا أهملت الشريعة و أقدم كلّ أحد على ما يهواه، اشتعلت نوائر

ص: 209


1- الكافي 2/309:2.
2- تفسير الرازي 66:2.

الفتن من كلّ جانب، و حدثت المفاسد.

و عن العالم موسى بن جعفر عليه السّلام: «أنّه إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير: لا تفسدوا في الأرض بإظهار نكث البيعة لعباد اللّه المستضعفين فتشوّشوا عليهم دينهم و تحيّروهم في دينهم و مذاهبهم »(1).الخبر.

أقول: الظاهر إرادة جميع أنحاء الفساد للإطلاق، و عدم ما يدلّ على إرادة فساد خاصّ ، بل الظاهر من حالهم أنّهم كانوا لا يتركون شيئا ممّا يوجب الفساد في الدّين و أمر نبوّة خاتم النبيّين، و كذا في أمر خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام عند قدرتهم عليه، و تيسّره لهم.

و مع ذلك قالُوا جوابا للناصحين من المؤمنين، و ردّا عليهم: لسنا مفسدين، بل إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ بين المشركين و المسلمين بالمداراة معهم، أو المراد أنّهم قالوا لمن كان على طريقتهم و عقيدتهم من الكفر: إنّ نفاقنا و إلقاء الفتنة بين المشركين و المسلمين و إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين محض الصلاح و الإصلاح، حيث إنّا بتلك الأعمال نحفظ ديننا من اليهوديّة و الوثنيّة، و دماءنا و أعراضنا و أموالنا بإظهار الإسلام.

و عن موسى بن جعفر عليه السّلام: «قالوا - يعني الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه السّلام - إنّما نحن مصلحون لأنّا لا نعتقد دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لا غير دين محمّد، و نحن في الدّين متحيّرون، فنحن نرضي في الظاهر محمّدا بإظهار قبول دينه و شريعته، و نقضي في الباطن على شهواتنا، فنتمتع و نترفّه و نعتق أنفسنا من دين محمّد و نكفّها من طاعة عليّ لكيلا نذلّ في الدنيا»(2) الخبر.

سورة البقرة (2): آیة 12

فردّ اللّه عليهم بقوله: أَلا تنبّهوا أيّها المؤمنون إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ في الأرض، لا مفسد أفسد منهم، لأنّ عملهم عين الفساد و محضه، حيث إنّه تشييد للباطل، و تضعيف للحقّ ، و إثارة للفتن، و سبب لكثرة الحروب و إراقة الدّماء، مع غلبة المسلمين.

أو المراد «أنّهم مفسدون امور أنفسهم بما يفعلون، حيث إنّ اللّه تعالى يعرّف نبيّه صلّى اللّه عليه و آله نفاقهم، فهو يلعنهم و يأمر المسلمين بلعنهم أيضا، و لا يثق بهم أعداء المؤمنين لأنّهم يظنّون أنّهم ينافقونهم أيضا

ص: 210


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 61/118. (2و2) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 61/118.

كما ينافقون أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلا ترتفع لهم عندهم منزلة، و لا يحلّون عندهم بمحلّ الثقة»(1)

هكذا مرويّ عن المعصوم.

ثمّ استدرك اللّه تعالى، بقوله وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ أنّهم مفسدون، للإيذان بأنّ تمحّضهم في الإفساد من المحسوسات، لكن لا حسّ لهم حتّى يدركوه، أو المراد أنّهم لا يشعرون بعدم انتفاعهم بالنفاق، بل يتضرّرون به أشدّ الضّرر، أو المراد أنّهم لا يشعرون أنّ صلاح أمرهم في العاجل و الآجل في الإيمان و التّسليم و الوفاء ببيعة أمير المؤمنين عليه السّلام.

قيل: في الآية إشعار بشرف المؤمنين، حيث تولّى اللّه عنهم جواب المنافقين(1).

سورة البقرة (2): الآیات 13 الی 16

اشارة

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)

سورة البقرة (2): آیة 13

ثمّ أكّد اللّه بيان خصلتهم السّيئة بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ من طرف المؤمنين، بطريق الأمر بالمعروف عقيب نهيهم عن المنكر، إتماما للنّصح و إكمالا للإرشاد: آمِنُوا باللّه و اليوم الآخر و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به إيمانا حقيقيّا لا يشوبه شكّ و لا نفاق كَما آمَنَ النّاسُ المخلصون من أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، كسلمان و أبي ذرّ و المقداد و أضرابهم قالُوا

لأصحابهم المطّلعين على سرّهم، الموافقين لهم في كفرهم، إنكارا و تعجيبا: أَ نُؤْمِنُ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دينه كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الذين هم لضعف عقولهم رفضوا دين آبائهم، و أعرضوا عن أرحامهم و أقربائهم، و تركوا جاههم و ثروتهم، و رضوا بالذّلّة و المسكنة لأنفسهم، و اتّبعوا هذا الرجل الضّعيف، و عن قريب يتهاجم عليهم العرب و يقتلونهم عن آخرهم، فينقطع خبرهم، و ينمحي أثرهم.

فردّ اللّه عليهم بقوله: أَلا تنبّهوا أيّها المؤمنون إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ القاصرون عن معرفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّه مؤيّد منصور، و أنّ دينه يقوى و يدوم مرّ اللّيالي و الدهور، و أنّه نبيّ الرّحمة، و أنّ الذين

ص: 211


1- تفسير روح البيان 58:1.

اتّبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، و أنّه يضرب على من خالفه الذّلّ و الهوان، و أنّه باب اللّه الجاري من أوّل الخلق إلى آخر الزمان، و ذلك واضح لمن علم تاريخ الأنبياء السابقة، و الأمم السالفة وَ لكِنْ هؤلاء الجهلة لا يَعْلَمُونَ أحوال الأنبياء و تأييداتهم الغيبيّة الربّانية و لا يطّلعون على تواريخ الامم الماضية.

أو المراد أنّهم لا يعلمون أنّهم السّفهاء، و لا يحيطون بما هم عليه من داء الجهل، و أنّ المؤمنين بإيمانهم و إخلاصهم يبعدون عن السّفه و الجهالة راغبين(1) في العلم و طلب الحقّ .

سورة البقرة (2): آیة 14

ثمّ أوضح اللّه تعالى كيفيّة نفاقهم، بقوله: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا و صادفوهم قالُوا لهم بأفواههم كذبا آمَنّا بما آمنتم به وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ و اجتمعوا في الخلوة مع سائر المنافقين المغوين لهم قالُوا إِنّا مَعَكُمْ في الدّين و تكذيب محمّد و مخادعة المؤمنين إِنَّما نَحْنُ بتصديق النبيّ و إظهار الإسلام مُسْتَهْزِؤُنَ بالمؤمنين، ساخرون منهم، من غير أن يخطر ببالنا الإيمان، و إنّما نظهر موافقتهم لنأمن من شرّهم، و نطّلع على سرّهم و ننكح بناتهم، و نشاركهم في غنائمهم و صدقاتهم.

من طريق العامّة: عن ابن عبّاس: أنّ عبد اللّه بن ابي و أصحابه خرجوا، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فيهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال عبد اللّه بن أبيّ لأصحابه: انظروا كيف أردّ(2) ابن عمّ رسول اللّه، ثمّ قال: يا ابن عمّ رسول اللّه، و سيّد بني هاشم خلا(3) رسول اللّه.

فقال عليّ كرّم اللّه وجهه: يا عبد اللّه، اتّق اللّه و لا تنافق، فإنّ المنافق شرّ خلق اللّه تعالى.

فقال: يا أبا الحسن، و اللّه إنّ إيماننا كإيمانكم، ثمّ تفرّقوا، فقال عبد اللّه بن ابيّ لأصحابه: كيف رأيتم ما فعلت ؟ فأثنوا عليه خيرا. فأنزل اللّه على رسوله وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية(4).

قال موفّق بن أحمد راوي الرّواية: فدلّت الآية على إيمان عليّ كرّم اللّه وجهه ظاهرا و باطنا، و على قطعه موالاة المنافقين، و إظهار عداوتهم(5).

و عن ابن شهرآشوب: عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في ثلاثة لمّا قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالولاية لأمير المؤمنين عليه السّلام أظهروا الإيمان و الرّضا بذلك، فلمّا خلوا بأعداء أمير المؤمنين قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما

ص: 212


1- في النسخة: راغبون.
2- في المناقب: أرادّ.
3- في المناقب: ختن.
4- مناقب الخوارزمي: 196.
5- مناقب الخوارزمي: 196.

نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ » (1) .

سورة البقرة (2): آیة 15

و عن تفسير الهذيل، و مقاتل: عن محمّد بن الحنفيّة - في خبر طويل - إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ

بعليّ بن أبي طالب فقال اللّه تعالى شأنه: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يعني يجازيهم في الآخرة جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه السّلام(2).

و قيل: إنّ المراد أن اللّه يعامل معهم في الدنيا و الآخرة معاملة المستهزئ، أمّا في الدنيا فبأن جعل لهم أحكام الاسلام في الظاهر، فيحسبون أنّ لهم عند اللّه كرامة، و هم في غاية الهوان لكفرهم.

و أمّا في الآخرة: فقد روي عن محمّد بن الحنفيّة، عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما أنّه قال: إذا كان يوم القيامة أمر اللّه الخلق بالجواز على الصّراط ، فيجوز المؤمنون إلى الجنّة، و يسقط المنافقون في جهنّم [فيقول اللّه: يا مالك استهزئ بالمنافقين في جهنم] فيفتح مالك بابا من جهنّم إلى الجنّة، و يناديهم: معاشر المنافقين، هاهنا هاهنا، اصعدوا إلى الجنّة فيسبح المنافقون في بحار(3) جهنّم سبعين خريفا حتّى إذا بلغوا إلى باب الجنّة و همّوا بالخروج أغلقه دونهم، و فتح له بابا من الجنّة من موضع آخر، فيناديهم: اخرجوا إلى الجنّة، فيسبحون مثل الأوّل، فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم و يفتح من موضع آخر، و هكذا أبد الآبدين(4).

و في حديث: يؤمر بنفر من النّاس يوم القيامة إلى الجنّة، حتّى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها، و نظروا إلى قصورها و إلى ما أعدّ اللّه تعالى لأهلها نودوا أن انصرفوا(5) عنها لا نصيب لكم فيها.

فيرجعون بحسرة و ندامة ما رجع الأوّلون و الآخرون بمثلها، فيقولون: يا ربّنا، لو أدخلتنا النّار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك! فيقول: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم، فإذا لقيتم النّاس لقيتموهم مخبتين (6) ،تراءون النّاس، و تظهرون خلاف ما انطوت قلوبكم عليه، هبتم الدنيا و لم تهابوني، و أجللتم النّاس و لم تجلّوني، و تركتم للنّاس و لم تتركوا لي، فاليوم اذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم.

قيل: في الآية إشعار بكرامة المؤمن على اللّه، حيث تدلّ على أنّه سبحانه يستهزئ بمن استهزأ

ص: 213


1- تفسير البرهان 337/145:1.
2- مناقب ابن شهرآشوب 94:3.
3- في المناقب: في نار.
4- مناقب ابن شهرآشوب 94:3، بحار الأنوار 56/301:8.
5- في النسخة: اصرفوا.
6- أي خاشعين متواضعين.

بالمؤمن، كأنّه ينوب عن المؤمن في الاستهزاء بالمستهزئ به، و يجازيهم بالهوان و الخيبة في الدنيا، و بتعذيب يضحك به المؤمن في الآخرة.

ثمّ أكّد اللّه تعالى تهديدهم، بقوله: وَ يَمُدُّهُمْ و يزيدهم و يقوّيهم فِي طُغْيانِهِمْ و بتجاوزهم عن الحدّ في العناد و الإصرار على الكفر و العصيان، و إنّما إمداده تعالى لهم يكون بالإمهال و الخذلان في الدنيا بسبب منع الألطاف عنهم، حتّى يتزايد في المدّة الطويلة من أعمارهم الرّين و الظلمة في قلوبهم، فيستحقّون زيادة العذاب و النّكال في الآخرة.

و لذا فسّر القمي رحمه اللّه: المدّ، بالدّعة، حيث قال: أي يدعهم (1) ،حال كونهم في مدّة تعيّشهم في الدنيا يَعْمَهُونَ و يتردّدون في الضّلالة عمي القلوب، حيارى، لا يدرون أين يتوجّهون، و في أيّ طريق يسلكون، إذ لا يمكنهم الجمع بين الإسلام و الكفر، و صحبة الأبرار و الفجّار، فهم مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ (2) بل هذا حال كلّ من أراد الجمع بين الدنيا و الآخرة مع أنّهما ضرّتان.

سورة البقرة (2): آیة 16

ثمّ بيّن اللّه تعالى غاية سفاهتهم، و ضعف عقولهم، بقوله: أُولئِكَ المنافقون المتميّزون عن سائر النّاس بأقبح الصفات، البعيدون من رحمة اللّه، هم اَلَّذِينَ اشْتَرَوُا و بادلوا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى و اختاروا لأنفسهم الكفر بعوض الإيمان، و الباطل بعوض الحقّ الذي جاءهم من قبل اللّه، و كأنّهم تملّكوه ثمّ رفعوا اليد عنه، و أخذوا الكفر بدله فكأنّهم عاوضوه به، فأيّ صفقة أخسر من هذه ؟

ثمّ كأنّه يقال: فما يكون حال المشترين ؟ فيقال: إذا اشتروا فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ بل خسرت خسرانا مبينا، حيث فاتهم نعيم الأبد، و لازمهم العذاب المخلّد وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى طريق النّجاة و ما كانوا عالمين بصلاح المعاملة، و لذا ابتلوا بغاية الخسارة حيث إنّ المقصود من التجارة سلامة رأس المال مع حصول الرّبح، و هم لجهلهم و غباوتهم أتلفوا رأس المال من الفطرة السّليمة و العقل المستقيم، و العمر الطويل في متجر الدنيا و سوقها المعدّ لتحصيل الرّبح الدائم و الثّواب العظيم، بهذا المتاع الذي أعطاهم اللّه إيّاه.

عن العالم عليه السّلام: «و ما كانوا مهتدين إلى الحقّ و الصواب »(3).

و عن القمّي رحمه اللّه في تفسير الضّلالة و الهدى، قال: الضّلالة هاهنا: الحيرة، و الهدى: البيان. فاختاروا

ص: 214


1- تفسير القمي 34:1.
2- النساء: 143/4.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 126.

الحيرة و الضّلالة على الهدى و البيان(1).

سورة البقرة (2): الآیات 17 الی 20

اشارة

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

سورة البقرة (2): آیة 17

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حقيقة حال المنافقين، عقّبها بضرب مثل لها، زيادة في التّوضيح و التّقرير - حيث إنّ التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، و أقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبيّ حقائق الامور. قيل: إنّ أمثال القرآن العزيز من أعظم علومه، و النّاس في غفلة عنه - فقال: مَثَلُهُمْ و حالهم العجيبة كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً مثل حال من طلب إيقادها و ارتفاع لهبها حتّى ينتفع بضوئها و سائر منافعها فَلَمّا توقّدت و أَضاءَتْ تلك النّار الموقدة أطراف المستوقد و ما حَوْلَهُ من الأشياء خمدت و ذهب نورها و ضياؤها بريح أو مطر، فحرم المستوقد من نفعها، و بقي عليه التعب.

و هذا الجواب المقدّر للمّا يعلم من بيان حال المشبّه، و هم المنافقون في قوله تعالى: ذَهَبَ اللّهُ

و أخذ بِنُورِهِمْ و هو الإسلام الصّوري الظاهري بتفضيحهم على لسان رسوله أو بإمامتهم، فحرموا من منافعه في الدنيا من شركتهم في الغنائم و الصّدقات و المناكحة و سائر أحكام الاسلام وَ تَرَكَهُمْ

اللّه، و طرحهم فِي ظُلُماتٍ متراكمة شديدة غاية الشدّة، من ظلمة الكفر و الطغيان و الحسد و العصيان، كما أنّهم في الآخرة في ظلمة القيامة، و ظلمة الغيّ ، و ظلمة سخط اللّه، فلا يبقى لهم من النّور في الدّارين شيء أبدا.

فإذن حالهم أنّهم لا يُبْصِرُونَ طريق الحقّ و شيئا من آياته، و لا يرون سبيل الخلاص من ضرر المسلمين في الدنيا، كما أنّهم لا يجدون المناص من أهوال القيامة و عذابها في الآخرة.

و يحتمل أن يكون قوله: ذَهَبَ اللّهُ و ما بعده جوابا للمّا، و إفراد ضمير حَوْلَهُ العائد إلى

ص: 215


1- تفسير القمي 34:1.

المستوقد باعتبار لفظه، و جمع سائر الضّمائر الراجعة إليه باعتبار معناه، حيث إنّه جنس صادق على كثيرين.

عن ابن بابويه رحمه اللّه: بإسناده، عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: سألت أبا الحسن الرّضا عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ فقال: «إنّ اللّه لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، و لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر و الضلال، منعهم المعاونة و اللّطف، و خلّى بينهم و بين اختيارهم »(1).

أقول: لعلّ المراد أنّ الترك بمعنى العدم لا ينسب إلى اللّه تعالى، فهو هنا بمعنى الكفّ و المنع الذي هو فعل وجوديّ قابل لأن يتّصف اللّه به.

سورة البقرة (2): آیة 18

ثمّ بالغ سبحانه في تبيين غاية ضلالة المنافقين، بقوله: صُمٌّ منسدّ و المسامع، لا يسمعون المواعظ و آيات القرآن و براهين الحقّ بُكْمٌ خرس الألسن، لا ينطقون بالحق، و لا يقرّون به عُمْيٌ فاقدو الأبصار، لا ينظرون إلى المعجزات و العبر التي تؤدّيهم إلى الهداية، و لا بصيرة لهم حتّى يميّزوا الحقّ من الباطل، و لذا يحشرون في الآخرة عميا و بكما و صمّا

كما قال تعالى:

وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا (2) .

فَهُمْ لاتّصافهم بهذه الصّفات لا يَرْجِعُونَ و لا ينصرفون من طريق الضّلالة إلى سبيل الهداية، مع كونهم بحسب الخلقة و الفطرة قادرين على الرّجوع، و لكن لمّا ضيّعوا فطرتهم و أفسدوا عقولهم صار في حقّهم ممتنعا بالاختيار في الدنيا، و إن كانوا لا محالة يرجعون إليه في الآخرة و لا ينفعهم.

قال بعض العارفين: العجب كلّ العجب ممّن يهرب ممّا لا انفكاك عنه، و هو مولاه الذي منّ عليه بكلّ خير و أولاه، و يطلب ما لا بقاء له معه، و هو ما يوافق النفس من شهوته و هواه (3) ،و يعرض عن الآخرة و هي الدّار الباقية.

سورة البقرة (2): آیة 19

ثمّ بالغ سبحانه و تعالى في توضيح حال المنافقين و شدّة إعراضهم عن الحقّ بضرب مثل آخر أبلغ

ص: 216


1- تفسير القمي 34:1.
2- في النسخة: يحشرون في الآخرة أعمى كما قال تعالى: و نحشرهم يوم القيامة أعمى، و الآية من سورة الإسراء: 97/17.
3- تفسير روح البيان 68:1.

بقوله: أَوْ مثل حال المنافقين بعد نزول القرآن الذي به حياة القلوب و تنوّر الأبصار كَصَيِّبٍ

قيل: إنّ المراد مثل حال ذي صيّب و صاحب مطر شديد، نافع للحيوانات و نبات الأرض، بل جميع الموجودات الجسمانيّة، نازل مِنَ السَّماءِ و هو السّقف المطلّ ، أو جهة العلوّ، و ذكر هذا القيد بناء على إرادة السّماء المعروفة، لعلّه للإشعار بأنّ أصل جميع الأمطار نازل منها، كما في كثير من الأخبار خلافا لمن يقول بأنّها تتكوّن من الأبخرة (1) ،و أمّا بناء على إرادة جهة العلوّ فلعلّه لإظهار إحاطته بجميع الأرض، سهلها و جبلها حال كونه مستقرّا، فِيهِ ظُلُماتٌ ثلاث: ظلمة السّحاب، و ظلمة الشدّة و التّكاثف، و ظلمة اللّيل، أَوْ فيه رَعْدٌ وَ بَرْقٌ .

ثمّ كأنّه يقال: ما يكون عمل أصحاب الصّيّب في هذه الحال ؟ فيقال: إنّهم يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ

جميعها و يدخلونها فِي آذانِهِمْ من شدّة الدّهشة و الوحشة، و لا يكتفون بجعل الأنامل، كما هو المعتاد و الممكن، و فيه غاية المبالغة في حرصهم على سدّ مسامعهم خوفا مِنَ الصَّواعِقِ قيل:

هي رعود هائلة تنقضّ منها شعلة نار محرقة حَذَرَ الْمَوْتِ و تحرّزا من الهلاك بسبب انشقاق قلوبهم، و طلبا للسّلامة منه وَ اللّهُ العظيم القادر العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء مُحِيطٌ

و محدق بقدرته و علمه بِالْكافِرِينَ المنافقين و غيرهم، عالم بأسرارهم، قادر على عقوبتهم.

سورة البقرة (2): آیة 20

ثمّ كأنّه قيل: كيف يكون حال أصحاب المطر حين لمعان البرق ؟ فقال تعالى يَكادُ و يقرب اَلْبَرْقُ اللامع من السّحاب يَخْطَفُ و يستلب بسبب شدّة ضوئه أَبْصارَهُمْ و نور ناظرهم.

ثمّ كأنّه قيل: فما يكون عملهم في هذا الحال ؟ فقال تعالى: كُلَّما أَضاءَ البرق لَهُمْ في تلك الظلمات، و أنار طريقهم و مسلكهم مَشَوْا فِيهِ و خطوا خطوات يسيرة. قيل: عبّر عن سيرهم بالمشي دون السّعي و العدو اللذين فوق المشي للإشعار بشدّة دهشتهم، بحيث لا يقدرون عليها وَ إِذا خفي البرق و أَظْلَمَ الطريق عَلَيْهِمْ و صار مسلكهم مظلما قامُوا و وقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة، متحيّرين مترصّدين لحظة اخرى، عسى أن يتيسّر لهم الوصول إلى المقصد، أو الالتجاء إلى ملجأ عاصم لهم وَ لَوْ شاءَ اللّهُ و أراد لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ

فيبقوا في تلك الأهوال و الشدائد مأخوذا عنهم أسباب التخلّص، إذ المبدأ للخلاص هو الإدراك،

ص: 217


1- قوله تعالى: مِنَ السَّماءِ إشارة إلى جهة نزول المطر، أي يأتي من جهة السماء، و ليس فيه إشارة إلى أن السماء مبدأ تكوّنه، بل الثابت علميا أن مبدأ تكون المطر من الأبخرة.

و العمدة في أسبابه هو السمع و البصر إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ ممكن قابل لتعلّق الإرادة بوجوده قَدِيرٌ بذاته لا يحتاج إلى معاونة غيره، و لا يزاحمه شيء في أمره.

كذلك حال المنافقين، حيث نزل عليهم القرآن، و اشتدّ نور الآيات البيّنات في أنظارهم، بحيث لم يبق لهم مجال للشكّ و الرّيب، و هو بشدّة حبّهم الدّنيا، كلّما كان في الاقرار بالآيات و إظهار تبعيّتها نفع لهم من العزّة و الشركة في الغنائم و سائر أحكام الإسلام النافعة لهم في دنياهم، أقرّوا بها، و أظهروا اتّباعها و الانقياد لها. و إذا كان فيها ضرر عليهم من التكاليف الشاقّة، كوجوب الجهاد، و الإنفاق في سبيل اللّه، و خفض الجناح للمؤمنين و ترك موادّة الأرحام و الأقارب، تركوا اتّباعها و أعرضوا عن موافقتها.

و حاصل الآيتين أنّه تعالى شبّه القرآن و ما فيه من المعارف و الحكم التي هي مدار الحياة الأبديّة بالصّيّب الذي هو سبب الحياة الأرضيّة، و ما عرض لهم بنزولها من الشّكوك و الشبهات و الغموم و الأحزان و انكساف الحال بالظلمات، و ما فيه من الوعد و الوعيد بالرّعد و البرق، و تصاممهم عمّا يقرع أسماعهم من الوعيد و التهديد بحال من يهوله الرّعد و البرق، فيخاف صواعقه فيسدّ اذنه، و اهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يحرزونه بمشيهم في مطرح ضوء البرق، و تحيّرهم في أمرهم حين عنّ بهم معصية أو رأوا في التكاليف ما يشقّ عليهم أو يخالف هواهم بوقوفهم إذا أظلم عليهم.

في أن المنافق أسوأ حالا من الكافر

و في الاقتصار في ذمّ الكفّار و تهديدهم بآيتين، و الإكثار في ذمّ المنافقين و تهديدهم بثلاث عشرة آية، إشعار بأنّ المنافق أسوأ حالا من الكافر، و الاعتبار يساعده لكونهم أشدّ ضررا على الإسلام و المسلمين.

سورة البقرة (2): الآیات 21 الی 22

اشارة

يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

ص: 218

المكلّفين إلى السّلوك في طريق الهداية و القيام بوظائف العبوديّة.

و لمّا كان مهمّا في الغاية و شاقا على نفوس العامّة باشر بذاته المقدّسة مخاطبتهم بطريق المشافهة لتنجبر المشقّة بلذّة المخاطبة، و ترتفع بحلاوة النّداء مرارة الصّبر على التّعب و العناء، و تتوجّه القلوب نحو التّلقّي و الإصغاء، فقال: يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا و أطيعوا رَبَّكُمُ و اخضعوا له.

و في ذكر صفة الربوبيّة دلالة على أنّها مقتضية لنهاية العبوديّة، و أنّ نعمه غير المتناهية موجبة لغاية الشكر، و مؤثّرة في كمال المحبوبيّة، و لذا عدّ بعد توصيف نفسه بها و إضافتها إليهم جملة من نعمه الفائقة، أسبقها و أتمّها و أعلاها نعمة إيجاد العبد، و لذا قدّمها في الذكر بقوله اَلَّذِي خَلَقَكُمْ

و قدّركم و أنعم عليكم نعمة الوجود التي هي أصل النّعم، و من الواضح أنّ هذه النعمة أعظم العلل الموجبة للعبادة الخالصة، و لو مع قطع النظر عن كونها نعمة.

ثمّ أردفها بذكر نعمة خلق الاصول التي هي دون الاولى و فوق سائر النعم، بقوله: وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الآباء و الامّهات، حيث إنّ خلقهم من مقدّمات خلق المخاطبين، مع أنّ النعمة على الآباء و الأمّهات من موجبات الشكر على الأبناء و الأولاد، كما قال تعالى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ (1) مع أنّ في ذكر هذا الوصف دلالة على تفرّده تعالى بخلق المخاطبين، إذ لو لم يكن خالقا لاصولهم، بل كان خالق اصولهم غيره، لم تنحصر شئون الخلق - و هي العبادة - به تعالى، بل شاركه من هو خالق الاصول، أو من كان له في خلقهم نصيب.

و يحتمل أن يكون المراد بالموصول جميع السابقين، لكون خلقهم من مقدّمات وجود اللاحقين، و لكونه في الدّلالة على كمال القدرة أتمّ .

ثمّ بيّن اللّه تعالى فائدة العبارة المأمور بها، بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سخط اللّه و عذابه، و تحترزون منه بسبب عبادته، و يحتمل أن تكون هذه الجملة بيانا لغرض خلق النّاس، كما قال تعالى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (2).

عن (تفسير الإمام عليه السّلام) في هذه الآية، أنّه قال: «لها وجهان:

أحدهما: [خلقكم] و خلق الذين من قبلكم لعلّكم كلّكم تتّقون، أي لتتّقوا، كما قال اللّه عزّ و جلّ :

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ .

ص: 219


1- النمل: 19/27، الأحقاف: 15/46.
2- الذاريات: 56/51.

و الوجه الآخر: اعبدوا الذي خلقكم و الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون، أي اعبدوه لعلّكم تتّقون النّار، و (لعلّ ) من اللّه واجب، لأنّه أكرم من أن يعني عبده بلا منفعة، و يطمعه في فضله ثمّ يخيّبه، أ لا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل: اخدمني لعلّك تنتفع بي، و لعلّي أنفعك. فيخدمه ثمّ يخيّبه و لا ينفعه ؟ فاللّه عزّ و جلّ أكرم في أفعاله، و أبعد من القبيح في أعماله من عباده».

في بيان أنّ كلمة لعلّ في كلام اللّه مستعملة في معناها الحقيقي

أقول: لا يبعد أن تكون كلمة لعلّ موضوعة للدلالة على صلاحيّة متعلّقة و شأنيّته، لأن يرغب فيه و يترقّب وقوعه، و على هذا يكون استعماله من اللّه حقيقة، حيث إنّ الرّجاء الذي هو ملازم التّرديد و الشّكّ ، يكون من اللوازم الغالبيّة(1) في النفوس البشريّة، ثمّ فيه تنبيه على أنّ التقوى منتهى درجة الكمال، و تخصيص الموجودين بالخطاب مع محبوبيّة التقوى من كلّ أحد إلى الأبد لأجل التغليب.

سورة البقرة (2): آیة 22

ثمّ بعد ذكر النعم الداخليّة من الخلق و التربية، ذكر مهمّات النعم الخارجيّة التي كلّ واحدة منها كافية في وجوب العبادة، بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً و بساطا.

عن ابن بابويه: عن العسكري، عن آبائه، عن السجّاد عليهم السّلام في تفسير الآية: «جعلها ملائمة لطباعكم، موافقة لأجسادكم، و لم يجعلها شديدة الحمي و الحرارة فتحرقكم، و لا شديدة البرودة فتجمدكم، و لا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم، و لا شديدة النّتن فتعطبكم، و لا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، و لا شديدة الصّلابة فتمتنع عليكم في دوركم و أبنيتكم و قبور موتاكم، و لكنّه عزّ و جلّ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به و تتماسكون، و تتماسك عليها أبدانكم و بنيانكم، و جعل فيها ما ينقاد به لدوركم و قبوركم و كثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.

ثمّ قال عزّ و جلّ : وَ السَّماءَ بِناءً و سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها و قمرها و نجومها لمنافعكم.

ثمّ قال تعالى: وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر، ينزله من علا ليبلغ قلل جبالكم و تلالكم و هضابكم و أوهادكم، ثمّ فرّقه رذاذا و وابلا و هطلا و طلاّ، لتنشفه أرضوكم، و لم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أراضيكم، و أشجاركم و زروعكم و أثماركم.

ثمّ قال عزّ و جلّ : فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ يعني ممّا يخرجه من الأرض رزقا لكم »(2).

ص: 220


1- كذا، و لعلّه تصحيف الغالبة.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 36/137:1.

و معاشا مأكولا و ملبوسا.

فانظر إلى حسن ترتيب استدلاله سبحانه على استحقاقه العبادة و وجوبها، فإنّه استدلّ أوّلا بأقرب نعمه إلى العبد، و هو إيجاده و تربيته، ثمّ الأقرب و هو خلق الأصول من الآباء و الأمّهات، ثمّ الأقرب و هو نعمة المقرّ و المسكن و هو الأرض، ثمّ بعدها بنعمة السّماء التي تكون سقفا و مدارا للكواكب، و مبدءا لنزول الخيرات، ثمّ بنعمة الثّمرات الحاصلة من بركات السّماء و الأرض لتكون معاشا لهم.

و من الواضح أنّ كلّ واحد من هذه النعم [هي] آيات وحدانيّته و قدرته و عظمته و حكمته، و لذا رتّب عليها النهي عن التشريك، بقوله: فَلا تَجْعَلُوا و لا تتّخذوا لِلّهِ أَنْداداً و شركاء في الخلق و الرّزق و العبادة وَ أَنْتُمْ أيّها العقلاء تَعْلَمُونَ أنّ الأجسام التي اتّخذتموها آلهة لا يقدرون على شيء، و القول الباطل من العالم ببطلانه أقبح و أفضح.

قيل: من تأمّل في هذا العالم وجده كالبيت المعدّ، فيه كلّ ما يحتاج إليه ساكنه، الأرض بساطه، و السّماء سقفه، و النجوم مصابيحه، و الإنسان ساكنه، و ضروب النباتات و الحيوانات و المعادن مهيّئات لمنافعه، مصروفة في مصالحه، فتدلّ هذه الجملة على أنّ هذا العالم مخلوق بتدبير كامل و تقدير شامل، و قدرة غير متناهية، و حكمة بالغة.

و من لطائف ما قيل: إنّ اللّه تعالى لمّا خلق السّماء و الأرض، أوقع بينهما شبه عقد النكاح، فالسّماء مطلّة على الأرض، فينزل الماء من المطلّة على المقلّة المفترشة، فيخرج من بطنها الحيوانات شبه النّسل، ثمّ تربّيها في حجرها كالأمّ ، و تطعمها، و تلبسها من ثمارها، و تحفظها من الحرّ و البرد، فهي رءوفة بنا حين نعيش في حجرها و نربّى بتربيتها، فاذا انتقلنا من حجرها إلى بطنها تكون أرأف بنا بشرط أن ندخل في بطنها كما خرجنا من بطن أمّنا طاهرين من الذنوب، مهذّبين من الرّذائل و العيوب.

في أنّ للشرك مراتب كثيرة و قلّما يخلو الإنسان منه.

ثمّ اعلم أنّ للشرك مراتب كثيرة، و قلّما يكون الانسان بريئا منه، روي: «أنّه أخفى في امّتي من دبيب النّملة على الصّخرة الصّمّاء »(1).

و في حديث طويل، عن معاذ: «و يصعد الحفظة بعمل عبد من زكاة و صوم و صلاة و حجّ و عمرة و خلق حسن، و ذكر للّه، و يشيّعه ملائكة السّماوات حتّى يقطعوا الحجب كلّها إلى اللّه

ص: 221


1- تفسير القمي 213:1 «نحوه».

عزّ و جلّ فيقفوا بين يديه ليشهدوا له بالعمل الصالح المخلص للّه. فيقول اللّه عزّ و جلّ : أنتم الحفظة على عمل عبدي، و أنا الرّقيب على قلبه، إنّه لم يردني بهذا العمل و أراد به غيري فعليه لعنتي. فتقول الملائكة: عليه لعنتك و لعنتنا، فتلعنه السّماوات السّبع و من فيهنّ »(1).

سورة البقرة (2): الآیات 23 الی 24

اشارة

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)

في إثبات رسالة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله بكتابه الذي هو من أعظم معجزاته و تحدّيه به.

سورة البقرة (2): آیة 23

ثمّ إنّه تعالى بعد الدعوة إلى توحيده و استحقاقه العبادة و اقامة البرهان عليهما، شرع في الدعوة إلى الايمان بكتابه الذي هو من أعظم الأدلّة على النبوّة بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ و شكّ مِمّا نَزَّلْنا نجوما و تدريجا من القرآن عَلى عَبْدِنا

محمّد صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه لا مجال للرّيب في أنّه حقّ و نازل من قبل اللّه، لكونه في أعلى درجة الإعجاز فَأْتُوا و هاتوا أيّها الماهرون في الفصاحة و البلاغة بِسُورَةٍ و لو كانت قصيرة، و قطعة كلام و لو كانت مختصرة كائنة مِنْ مِثْلِهِ و على صفة ما نزّلناه من الفصاحة و البلاغة، أو من مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله الأمّيّ الذي لم يقرأ و لم يكتب و لم يتعلّم من أحد في مدّة عمره، و كلّكم مطّلعون على أمره وَ ادْعُوا معاشر المشركين شُهَداءَكُمْ و أصنامكم الذين تعبدونها مِنْ دُونِ اللّهِ

و تسمية الأصنام شهداء بملاحظة أنّ مشركي العرب كانوا يعتقدون أن أصنامهم يشهدون عند اللّه بعبادتهم، و يشفعون لهم، و يغيثونهم عند الشّدائد، و ينجونهم من البلايا و الشدائد.

و يحتمل أن يكون الخطاب شاملا لجميع أهل الكتاب أيضا، و يكون شهداؤهم شياطينهم الذين كانوا يعتقدون أنّهم أنصارهم، و على هذا يكون حاصل المعنى: ادعوا - أيّها المشركون، و معاشر أهل الكتاب - أصنامكم و شياطينكم الّذين هم أنصاركم ليعينوكم على إتيان مثله، و يشهدوا لكم أنّكم أتيتم بعدله في حسن النّظم و فصاحة البيان و الاسلوب البديع إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم: إنّ ما أتى به محمّد قول البشر و ليس من اللّه الأكبر، و إنّه تقوّل في ما أتى به و بهته على اللّه و افتراه فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتكم به من المعارضة، و لم تأتوا بمثله بعد التظاهر و السّعي و الجدّ و التفكّر وَ لَنْ

ص: 222


1- تفسير روح البيان 77:1.

تَفْعَلُوا أبدا، و لا يكون ميسوركم و مقدوركم و لو جئناكم بالإنس و الجنّ مددا فَاتَّقُوا بالإيمان برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و تصديق كتابه أنّه كلام اللّه المنزل عليه اَلنّارَ الَّتِي وَقُودُهَا و ما به اشتعالها اَلنّاسُ وَ الْحِجارَةُ قيل: هي حجارة الكبريت لأنّها أشدّ حرّا، و به رواية (1).و قيل: حجارة الأصنام المنحوتة، لأنّهم أحبّوها في الدنيا، و قد روي: «من أحبّ حجرا حشرة اللّه معه »(2).

قيل: إنّهم لمّا قرنوا أنفسهم في الدنيا بها و ظنّوا أنّ بها نجاتهم في الآخرة، كان اقترانهم بها في العذاب موجبا لزيادة الحسرة عليهم، كما قال تعالى: يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ (3).

و هذه النّار أُعِدَّتْ و هيّئت في الآخرة لِلْكافِرِينَ باللّه و رسله و الدّين المرضيّ عنده.

ثمّ اعلم أنّ التّحدّي من مدّعي النبوّة بما يعجز النّاس عن الإتيان بمثله دليل صدقه، و قد جاء في القرآن على وجوه من البيان.

أحدها: قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (4).

و ثانيها: و هو أقرع من الأوّل، قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ (5).

و ثالثها: و هو أشدّ تقريعا و تبكيتا، هذه الآية المباركة، فترتيب هذه الأنحاء من التحدّي نظير تحدّي مصنّف كتاب بقوله: ائتوني بمثل هذا الكتاب، فإن لم تقدروا فبنصفه، و إن لم تقدروا فبباب أو مسألة منه.

ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى كما جعل معجز موسى في إلقاء العصا لبلوغ علم السحر في زمانه كماله، و معجز عيسى في إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى لبلوغ علم الطّبّ في زمانه نهايته، جعل معجز خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله في فصاحة الكتاب العزيز و بلاغته و حسن اسلوبه لبلوغ علم البيان في عصره أعلى درجته.

فلمّا عجز العرب و فرسان ميدان البيان بعد هذه التقريعات عن المعارضة بالكلمات و الحروف، و بادروا إلى المبارزة بالأسنّة و السّيوف، و حملهم العناد و العصبيّة على شرب كأس الحتوف، أو

ص: 223


1- مجمع البيان 159:1.
2- أمالي الصدوق: 308/278.
3- البقرة: 167/2.
4- الاسراء: 88/17.
5- هود: 13/11.

مفارقة العشيرة و الوطن المألوف، و لو قدروا على إتيان سورة تماثله في الفصاحة و البلاغة لأتوا بها، مع شدّة عداوتهم و حرصهم على معارضته و إبطال أمره، و كمال جدّهم في إطفاء نوره، و هم مهرة فنّ المحاورة و الكلام، و لم يدانهم أحد من الفصحاء مدّ الدّهور و الأيّام، علمنا أنّ الإتيان بمثله فوق طاقة البشر، و أنّ كلّ سورة من الكتاب العزيز معجزة قاهرة، و تصديق دعواه من اللّه الأكبر.

في إثبات كون القرآن معجزا و بيان وجوه إعجازه

و الحاصل: أنّه لا شبهة في أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحدّى العرب، بل العالمين بالقرآن في هذه الآية المتضمّنة للتهكّم بآلهتهم بقوله: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ و تقريعهم بقوله: وَ لَنْ تَفْعَلُوا و توعيدهم بالعذاب الشديد بقوله: فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ و نسبتهم إلى الكفر بقوله: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ .

و لا شبهة أنّ أهل ذلك العصر مع بلوغهم في علم الفصاحة غايته، و في فنّ الكلام نهايته، بحيث لم يأت الزّمان بمثلهم، و لم يتيسّر للدّهر تربيته عدلهم، و فاقوا الأوّل و الآخر، و فضّلوا على الماضي و الغابر، لم يعارضوه بالمثل في شدّة عداوتهم للرّسول، و نهاية تأنفهم عن تلقّي قوله بالقبول، حتّى هاجروا الأوطان، و فارقوا الأولاد و الإخوان، و هجروا العشائر، و أسلموا النفوس و المهج للأسنّة و البواتر، و لو كان في وسعهم إتيان مماثل لأقصر سورة من القرآن، أو مقارب له في حسن النّظم و ملاحة البيان، لأتوا به و لم يتحمّلوا الشدّة و العتب (1) ،و أفحموه و فضحوه بلا نصب، و أبطلوا أمره، و أطفئوا نوره، و أخذوا بنفسه، و استراحوا من بأسه، فعند ذلك لم يمكن أن يخضرّ له عود، و أن يقوم لدينه عمود.

فلمّا رأينا أنّه قد غلب نوره الظلام، علمنا بعجز جميع فصحاء عصره عن معارضته بالكلام، كما أنّا لمّا علمنا بعجز سحرة موسى عن معارضته و إتيان مماثل لما أتى به مع تحدّي موسى بإلقاء عصاه و صيرورتها ثعبانا، علمنا بكونه صادقا في دعواه، مع أنّه لو عارضوه بسورة تماثله لوصلت الينا بالنقل المتواتر، و اثبتت في الزبر و الدفاتر، لتوفّر الدّواعي في نقله كما توفّرت في نقل القرآن.

على أنّه قد تواتر اعترافهم بالعجز، و دلّ عليه كثير من الآيات، كقوله تعالى: عن قولهم: إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (2) و إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (3) و اَللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا

ص: 224


1- كذا، و لعلّها تصحيف التعب.
2- المائدة: 110/5، الأنعام: 7/6.
3- المدّثر: 24/74.

حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (1) و لا مجال لاحتمال كذب نسبة هذه الأقوال إليهم، لاشتهار هذه الآيات بين جميع الطوائف و الطبقات، فلو كانت كذبا كفاه في إبطال دعوته و وضوح فضيحته و انفصام عروته.

ثمّ اعلم أنّ وجه إعجاز القرآن لعامّة النّاس هو فصاحته و بلاغته و حسن اسلوبه و نظمه، و هذا الوجه يعلم من وجوه:

منها: نهاية فصاحة كلّ آية و سورة في نفسها، مع قطع النّظر عن غيرها.

و منها: بالنّظر إلى سائر الآيات و السّور، و هذا أيضا من وجوه:

منها: أنّا قد استقرأنا كلمات فصحاء العرب فرأيناهم مختلفين في صناعة الفصاحة، و أنّ كلّ واحد منهم له مهارة في فنّ الكلام دون فنّ آخر، منهم فصيح في الحماسة، و منهم فصيح في المدح، و منهم فصيح في الهجاء، و منهم فصيح في التّطريب و التعشّق، إلى غير ذلك، و القرآن العظيم في غاية الفصاحة في جميع الفنون من الكلام.

و منها: أنّ مضامين القرآن كلّها في المعارف، و علم الأخلاق، و الحثّ على الزّهد في الدنيا، و الترغيب في الآخرة، و بيان أحكام العبادات و المعاملات و السياسات، و من الواضح أنّ في هذه الامور ليس مجال الفصاحة و ميدان البلاغة، و القرآن العظيم في أعلى درجتها في جميعها.

و منها: أنّ حسن الكلام و ملاحة البيان موقوف على الكذب و الاغراقات و المبالغات، و القرآن العظيم مع عرائه و تنزّهه عن جميعها في غاية الحسن و الملاحة.

و منها: أنّه ما رئي فصيح من الفصحاء أتى بكلام طويل إلاّ كان بعض قضاياه أو بعض كلماته خارجا عن حدّ الفصاحة، أو كان بعضها أفصح من بعض، و القرآن العظيم مع أنّه كتاب مطوّل لم تتنزّل آية منه من أعلى مرتبة الفصاحة فضلا عن خروجها عن حدّها، و إلى هذا أشار سبحانه و تعالى:

وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2) .

و أمّا وجه إعجازه من غير جهة الفصاحة و البلاغة، فامور:

منها: أنّه لا شبهة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان اميّا، لم يتعلّم من أحد، و لم يقرأ كتابا، و هذا الكتاب العزيز الذي جاء به جامع لجميع العلوم، ما من علم إلاّ و فيه أصله بالمعنى الذي مرّ في الطرفة الثالثة، مثل علم

ص: 225


1- الأنفال: 32/8.
2- النساء: 82/4.

المعارف الإلهيّة، فإنّ من نظر في سائر الكتب السماويّة، و زبر العرفاء الربّانيّة، عرف أنّ ما في جميعها من المعارف بالنسبة إلى ما في القرآن المجيد كالقطرة بالإضافة إلى البحر المحيط ، و مثل علم الحكمة و الكلام، و كعلم الأخلاق، و علم الزهد في الدنيا، و تفاصيل الآخرة، و مثل علم الفقه من العبادات و المعاملات و السياسات.

و منها: اشتماله على الإخبار بالمغيّبات عن جزم و يقين، كقوله تعالى في الآية السابقة: وَ لَنْ تَفْعَلُوا و قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ (1) و قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ (2) و قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) و قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ (4) و قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (5).إلى غير ذلك، فإنّ هذه الآيات و نظائرها إخبار بامور قبل وقوعها، ثمّ وقعت مطابقة لها.

و منها: شدّة تأثير القرآن العظيم في النفوس، فإنّه ما من كتاب سماويّ أو معجزة من معجزات الأنبياء السّلف له تأثير في القلوب كتأثيره.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما استدلّ على وجوده و كماله و وجوب عبادته بمخلوقاته، و عظيم نعمائه، و على رسالة عبده و إعجاز كتابه، بعجز جميع الخلق عن إتيان سورة مثله، شرع بقوله: فَاتَّقُوا النّارَ الآية، في ذكر المعاد و بيان عقاب الكفّار في الآخرة.

سورة البقرة (2): آیة 25

اشارة

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

سورة البقرة (2): آیة 25

ثمّ أردفه بذكر ثواب المؤمنين بقوله وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم و قلوبهم وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ بجوارحهم أَنَّ لَهُمْ بالاستحقاق و التفضّل جَنّاتٍ و بساتين عديدة، إذ في التعدّد حظّ ليس في الانفراد.

ص: 226


1- آل عمران: 12/3.
2- البقرة: 137/2.
3- الروم: 2/30 و 3.
4- الفتح: 27/48.
5- آل عمران: 111/3.

قيل: عددها ثمان: دار الجلال كلّها من نور، و دار القرار كلّها من مرجان، و دار السّلام كلّها من الياقوت الأحمر، و جنّة عدن كلّها من زبرجد و هي مشرفة على الجنان كلّها، و جنّة المأوى كلّها من الذّهب الأحمر، و جنّة الخلد كلّها من الفضّة، و جنّة الفردوس كلّها من اللؤلؤ، و جنّة النّعيم كلّها من زمرّد.

و روي أنّ المؤمن إذا دخل الجنّة رأى سبعين ألف حديقة في كلّ حديقة سبعون ألف شجرة، على كلّ شجرة سبعون ألف ورقة، و على كلّ ورقة: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، أمّة مذنبة و ربّ غفور، كلّ ورقة عرضها ما بين المشرق و المغرب(1).

ثمّ وصف الجنّات و أشجارها، بأنّها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لازدياد صفائها و طراوتها و حسنها بها.

قيل: إنّ المراد بالأنهار جنسها.

و قيل: إنّ المراد الأنهار الأربعة: نهر من ماء غير آسن، و نهر من لبن لم يتغيّر طعمه، و نهر من خمر لذّة للشّاربين، و نهر من عسل مصفّى.

ثمّ بعد ذكر مسكنهم و شرابهم، ذكر طعامهم بقوله: كُلَّما رُزِقُوا و اطعموا مِنْها مِنْ نوع ثَمَرَةٍ رِزْقاً و طعاما قالُوا هذَا الثمر من جنس الثّمر اَلَّذِي رُزِقْنا و طعمنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا.

في بيان حكم جعل ثمرات الجنة من نوع ثمرات الدنيا.

قيل: إنّ اللّه جعل ثمرات الجنّة من نوع ثمرات الدنيا لزيادة شوق المؤمنين إليها بعد معرفة جنسها و طعمها، حيث إنّهم إذا لم يعرفوا طعمها و خاصيّتها، و لم يشتاقوا إليها في الدنيا، لم يبادروا في الجنّة إلى تناولها، و لم يفرحوا بها في بدو رؤيتها، و أمّا إذا كانوا مطّلعين على طعمها فرحوا برؤيتها، و علموا أنّها ممّا رزقوا في الدنيا و إن كان التفاوت بينها و بين ما رزقوا في الدنيا كتفاوت الدنيا و الآخرة، و لا يستحيل أحدها إلى ما يستحيل به ثمرات الدنيا.

روي أنّه جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا أبا القاسم، تزعم أنّ أهل الجنّة يأكلون و يشربون ؟ فقال: «نعم، و الذي نفس محمّد بيده، إنّ أحدهم ليعطى قوّة مائة رجل في الأكل و الشرب

ص: 227


1- تفسير روح البيان 82:1.

و الجماع».

قال: فإنّ الذي يأكل له حاجة، و الجنّة طيّبة ليس فيها أذى ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «حاجة أحدهم عرق ريحه كريح المسك »(1).

ثمّ قال تعالى في وصف رزق الجنّة: وَ أُتُوا بِهِ و جيئوا بذلك الرزق مُتَشابِهاً و متماثلا في الحسن و الكمال و اللذّة و النّضج و الطّيب، ليس فيها غير منضوج و لا فاسد و لا قليل اللّذة، بل كلّها في الصفات الكماليّة في أعلى درجة.

وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ طهّرهنّ اللّه من الأدناس و الأرجاس الجسمانيّة، من الحيض و النفاس و الاستحاضة، و من الأخلاق الرّذيلة و الصفات الخسيسة.

قيل: فيه إشارة إلى نهاية كرامة المؤمنين، حيث إنّ اللّه تعالى بذاته المقدّسة باشر تزيين أزواجهم.

عن ابن عبّاس: خلق الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، و من ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، و من ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب - أي الأبيض - و من عنقها إلى رأسها من الكافور، إذا أقبلت يتلألأ نور وجهها كما تتلألأ الشّمس لأهل الدنيا(2).

قيل: إنّه بعد ملاحظة قوله تعالى: اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ (3) يعلم أنّهنّ لا يكنّ إلاّ للمطهّرين من المعاصي و الأخلاق السيّئة و الصفات الذّميمة و حبّ الدنيا الدنيّة، المزيّنين بالملكات الحسنة و الصفات الكريمة.

ثم أنّه قد وردت روايات بأنّ زوجة المؤمن في الدنيا إذا كانت مؤمنة صالحة، تختصّ بزوجها في الجنّة، و تفوق على حور العين في الحسن و الجمال و النور و البهاء.

ثمّ اعلم أنّه لمّا كان اصول النعم في الدنيا المسكن الطيّب، و الشّراب الهنيء، و الطعام اللّذيذ، و الزوجة الجميلة المحبوبة، بشّر اللّه المؤمن بأنّ له هذه النعم في الآخرة.

ثمّ لمّا كان خوف زوال النعمة من منغّصات العيش، بشّر اللّه تعالى المؤمنين بدوام النعمة و بقائهم في الجنّة، بقوله: وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا، لا يخرجون منها و لا يموتون، فلا يخطر ببالهم احتمال زوال النعمة و عود البلايا و المحن الدنيويّة.

ص: 228


1- تفسير روح البيان 84:1.
2- تفسير روح البيان 84:1.
3- النور: 26/24.

عن عكرمة، أنّه قال: أهل الجنّة ولد ثلاث و ثلاثين سنة رجالهم و نساؤهم، و قامتهم سبعون(1) ذراعا على قامة أبيهم آدم، جرد(2) مكحّلون، عليهم سبعون حلّة، لكلّ حلّة في كلّ ساعة سبعون لونا، لا يبزقون و لا يتمخّطون، و ما كان فوق ذلك من أذى فهو أبعد، يزدادون كلّ ساعة حسنا و جمالا كما يزداد أهل الدنيا هرما و ضعفا، لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم(3).

في إثبات المعاد

ثمّ اعلم أنّ المعاد الجسماني من ضروريّات دين الاسلام، بل و سائر الأديان، و العقل القاطع و النّقل الساطع حاكمان على إمكانه و وقوعه، أمّا إمكانه عقلا فلوضوح أنّ إيجاد عالم آخر، و إعادة النّاس، ليس من الممتنعات الذاتيّة كشريك الباري، و لا من المحالات العرضيّة لعدم استلزامه لقبيح أو محال، و القول بأنّ الزائل لا يمكن أن يعود - على فرض تسليمه - فإنّما هو العود بعينه و بجميع مشخّصاته الزمانيّة و المكانيّة و غيرهما.

و أما تصوير مادته بصورة مماثلة لصورتها السابقة، بحيث يقال: هذا هو، فليس من الإعادة التي قالوا بامتناعها، و هذه نظير لبنة سوّيت أولا بتراب مخصوص و قالب خاصّ ، ثمّ كسرت و فتّتت، ثمّ سوّيت ثانيا بذلك التراب و ذلك القالب، بحيث كلّ من رأى اللّبنة الثانية قال: هي اللّبنة الاولى(4).

و أمّا قدرته تعالى فلا يتصوّر و لا يعقل فيها قصور عن الإعادة، و قد استدلّ في مواضع من كتابه العزيز على قدرته على الإعادة بقدرته على الإبداء، قال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (5) و قال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ (6).

بل لا شبهة أنّ الإعادة أهون من الإبداء لكونه بلا مثال سابق كما قال: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (7) فلينظر العاقل إلى بدو خلقه، فإنّ مادّة نطفته كانت ذرّات متفرّقة في أطراف العالم، فجمعها اللّه تعالى في لقمة واحدة، ثمّ فرّق فضلة الهضم الرّابع منها كالذّرّات في جميع أعضاء بدن الرجل، ثمّ جمعها اللّه تعالى بالقوّة الشهويّة في وعاء المنيّ ، و لذا تلتذّ جميع الأعضاء بالوقاع، لحصول انحلال ذرّات المنيّ عنها، ثمّ أخرجها اللّه ماء دافقا إلى قرار الرّحم، فمن هو قادر

ص: 229


1- في تفسير روح البيان: ستون.
2- في تفسير روح البيان: آدم، شباب جرد مرد.
3- تفسير روح البيان 84:1.
4- و قد ورد حديث عن الامام الصادق عليه السّلام في هذا المضمون راجع: الاحتجاج: 354.
5- الاحقاف: 33/46.
6- يس: 79/36.
7- الروم: 27/30.

على جمع الذّرّات المتفرّقة في اللّقمة الواحدة، ثمّ تفريق ذرّات فضلتها في جميع أعضاء الجسد، ثمّ جمعها من تلك الأعضاء في وعاء واحد، ثمّ خلقها شخصا عاقلا بصيرا سميعا، كيف يعجز عن جمع أجزاء ترابه المتفرّقة بالموت و خلقها مرّة اخرى بصورتها الأولى ؟! بل هو سبحانه بالقدرة على هذا الجمع و الخلق أحرى و أولى، و قد نطق الكتاب العزيز بهذه الحجّة في مواضع:

منها: في سورة الحجّ قال تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ إلى قوله: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً إلى قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * وَ أَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (1).

و منها: قوله في الواقعة: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ * أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (2) إلى غير ذلك من الآيات.

ثمّ تفكّر في قدرة اللّه في خلق الأشجار و الزروع كما نبّه اللّه عليه بقوله: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (3)

حيث إنّ للأشجار نواة، و للزروع حبوبا، و لكلّ من النواة و الحبوب أقسام و أشكال، منها مطوّل مشقوق كنواة التّمر و حبّ الحنطة و الشّعير، و منها غير مشقوق كالأرزّ، و منها مثلّث، و منها مربّع، و منها مدوّر إلى غير ذلك من الأشكال.

فإذا وقع الحبّ في الأرض و استولت عليه الرطوبة، مع أنّ مقتضى الطبيعة أن يتعفّن و يفسد، و مع ذلك يحفظه اللّه و يربّيه بين المفسدات، ثمّ إذا ازدادت الرطوبة يظهر في رأس الحبّ الطويل ثقب تخرج منه ورقة طويلة كزرع الحنطة و الشّعير و أمثالهما، و أمّا الحبّ غير الطّويل فينفلق فلقتين فيخرج منه ورقتان، و أمّا النّواة فمع ما فيها من الصّلابة التي يعجز عن فلقها أغلب النّاس فتنفلق بإذن اللّه، فيخرج منها شجران: أحدهما صاعد إلى السّماء، له أوراق و غصون و ثمار، لكلّ جزء منه لون و طعم و طبيعة، مغاير لسائر الأجزاء، و الشجر الآخر هابط غائص في أعماق الأرض، مع اتّحاد طبيعة النّواة و عنصرها الماء و الهواء و التراب.

ثمّ انظر كيف أودعت القدرة في تينك الشجرتين الأجزاء الناريّة التي تباين ما استقرّت فيه من جميع الجهات، فإنّ الشجرتين هابطتان كثيفتان رطبتان باردتان ظلمانيّتان، و النار صاعدة لطيفة

ص: 230


1- الحج: 5/22-7.
2- الواقعة: 5/56-7.
3- الواقعة: 58/56 و 59.

يابسة حارّة نورانيّة، و إليه أشار سبحانه بقوله: أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (1).

و الحاصل: أنّ من أذعن بإمكان الإعادة ذاتا و وقوعا، و أيقن بقدرة اللّه التّامّة، لا يبقى له ريب و إشكال، و إنّما اكتفى سبحانه و تعالى في مقام الاستدلال على الإمكان بالمقدّمة الأخيرة، و هي كمال سعة قدرته و شمول حكمته الظاهران في خلق السّماوات و الأرض، و إرسال الرّياح، و إنشاء السّحاب، و إنزال الأمطار، و خلق الأشجار و جعلها بيوت النّار، و إخراج الثّمار، و خلق النّطف و غير ذلك.

و لم يتعرّض للمقدّمة الاولى لعدم ريب لمنكر الحشر فيها، نعم أضاف إليه سبحانه الاستدلال بوقوع نظائر الحشر في الدّنيا، كإحياء الأرض بعد موتها بإنزال الأمطار، و إحياء القتيل من بني إسرائيل بضربه بجزء من البقرة، و إحياء الالوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، و جمع الأعضاء المتفرّقة من الطيور الأربعة و إحيائها لإبراهيم، و إحياء النبيّ الذي مرّ على قرية و هي خاوية على عروشها فقال: أنّى يحيى هذه اللّه بعد موتها، فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه، و إحياء حماره إلى غير ذلك.

ثمّ اعلم أنّه تبارك و تعالى أكثر في كتابة العزيز من الاستدلال على التّوحيد و النبوّة و إمكان المعاد، لوضوح عدم إمكان التعبّد فيها، و وضوح حكم العقل بها بالبراهين الّتي أقامها سبحانه، و إنّما اكتفى في وقوع المعاد بصرف الدعوى لكفاية إمكانه و ثبوت النبوّة و إخبار اللّه و رسوله بوقوعه في ثبوته، و اليقين به، فإنّ اليقين بصدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في إخباره بوقوعه مستلزم لليقين به، مع أنّ العقل حاكم بوجوب وقوعه لوجوه:

[1] منها: أنّ حكمة خلق الإنسان الذي خلق له غيره من عالم الأجسام لا يتمّ إلاّ بالمعاد، بل لو لا المعاد لكان خلقه و خلق العالم عبثا لا يليق صدوره من الحكيم تعالى شأنه.

أمّا قولنا: إنّ غير الإنسان من الموجودات الجسمانيّة خلق له، فلأنّ موجودات عالم الأجسام بل جميع العوالم مرتبطات بعضها ببعض كأعضاء شخص واحد، و جميعها محصّلات لغرض واحد و مقدّمات لنتيجة واحدة، كشجرة غرست لتحصيل ثمرتها.

و من الواضح أنّ النتيجة متأخّرة عن المقدّمات، و الثّمرة متأخّرة وجودا عن الشجرة، لأنّ العلّة

ص: 231


1- الواقعة: 71/56-72.

الغائيّة و إن كانت بوجودها العلمي بتقدمة على معلولها و لكن بوجودها الخارجيّ متأخّرة عنه.

فعلى هذا، لمّا علمنا أنّ وجود السّماوات بما فيها من الكواكب و الأرض و ما فيها من الجبال و البحار، سابق على وجود الإنسان، علمنا أنّ جميعها مقدّمات لوجوده و مخلوقات له، و أمّا النّباتات و سائر الحيوانات فلمّا رأينا أنّ الإنسان قاهر على جميعها، منتفع بأغلبها، أكمل من كلّها، علمنا أنّه علّة غائيّة لجميعها، لأنّ الأشرف الأكمل لا يمكن أن يكون مقدّمة للأخسّ الأنقص، و لا يعقل أن يكون الأخسّ علّة غائيّة لوجود الأشرف، فثبت أنّ غير الإنسان من الموجودات الجسمانيّة مخلوق له، و هو علّة غائية لإيجاد غيره.

و أمّا قولنا: إنّه لو لا المعاد لكان خلق الإنسان عبثا، فلأنّه لا بدّ أن يكون لخلق الإنسان الذي هو اعجوبة الكون، و آية عالم الملك و الملكوت من غرض مهمّ لائق بالحكيم، و صلاح ملزم في نظر العقل السليم، و لا يمكن أن يكون الغرض و المصلحة في خلقه هو التعيّش في هذا العالم مدّة قليلة، و التمتّع بأمتعتها الخسيسة الرّذيلة، مع شوبها بالآلام الكثيرة و الأسقام الوفيرة، و البلايا و المنايا، و الهموم و الغموم، و المضارّ و المشاقّ ، أضعاف ما يصيب من اللّذّة و التمتّع، ثمّ يكون موت و انعدام، لبداهة عدم صلاحيّته لأن يكون غرضا للحكيم في هذا الخلق القويم الذي أمر ملائكته بالسجود له(1)

الذي هو أعلى مراتب التّعظيم.

فإذن لا يتصوّر غرض آخر في خلقه إلاّ تحصيله الكمالات النفسانيّة، و اكتسابه الملكات الجميلة الروحانيّة و ارتقاؤه إلى درجات القرب و العبوديّة بالمعارف الإلهية و الأعمال الصالحة، و لا يتمّ إلاّ بجعل التكاليف و الأحكام المولويّة و إرسال الرسل و إنزال الكتب، فلو لم يكن عالم آخر يجزى و يثاب فيه المطيع، و يجزى و يعاقب فيه العاصي، لزم كونهما متساويين، و عدم المزيّة في البين، بل كون العاصي أحسن حالا من المطيع لتلذّذه بالمشتهيات النفسانيّة و استفادته بالأمتعة الدنيويّة أزيد من المؤمن المطيع، لكونه مدّة عمره في تعب الطّاعة و مشقّة الزهد و الرياضة.

فثبت أنّه لا بدّ من عالم آخر يجد المطيع فيه ثواب طاعته، و العاصي تبعات معصيته، قال تعالى:

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (2) .

[2] و منها: أنّه لا شبهة أنّ الإنسان خلق مدنيّا بالطبع، بمعنى أنّه لا يمكن لكلّ فرد منه التعيّش إلاّ

ص: 232


1- في النسخة: بسجوده.
2- النجم: 31/53.

بالاجتماع مع غيره و الاستعانة بسائر بني نوعه لكثرة حوائجه و عدم إمكان قيام كلّ واحد بجميعها، ثمّ أنّه من البديهي أنّ طباع بني آدم باقتضاء الجهة الحيوانيّة مجبولة على الظلم و العدوان، و لذا نرى الغالب منهم بين ظالم و مظلوم، و شاتم و مشتوم، و قاتل و مقتول، و غارّ و مغرور، و حاصر و محصور، و كثيرا ما لا يقدر المظلوم في هذه الدنيا على الانتصار من ظالمه، و يبقى الظلم في هذا العالم بلا مكافاة و مجازاة، و مقتضى العدل و الحكمة انتصاره تعالى من الظالم للمظلوم، فلو لم يكن عالم آخر يؤخذ الظالم فيه بظلمه، و يجزى المظلوم على صبره و كظمه، لزم خلاف العدل و عدم قيامه تعالى في عباده بالقسط ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

[3] و منها: أنّ من الواجب في النّظام الأتمّ بعث الرسل و جعل التكاليف على العباد، لأنّهما من اللطف الواجب على اللّه تعالى، و من الواضح أنّه لو لا جعل المجازاة على موافقة التكاليف و مخالفتها، و الوعد بالثواب و الوعيد بالعقاب على طاعتها و عصيانها، لكان البعث و التكليف لغوا، لعدم إمكان اتّباع الامم رسلهم، و تحمّل النّاس مشقّة الطّاعة و التزامهم بالقوانين الإلهيّة، لعدم الداعي في النفوس إلاّ الخوف و الطمع، فلا بدّ في الحكمة و النظام الأتمّ من جعل الثّواب و العقاب على الطاعة و المعصية، إمّا في هذا العالم، أو في عالم آخر، و لمّا لم يكن في الدنيا، فلا بدّ من الحشر في عالم آخر حتّى ينال فيه المستحقّ ما استحقّه من الجزاء، و لذا لم يبعث رسول إلاّ و أخبر بالحشر و النّشر بعد الموت، و الثواب و العقاب في عالم الآخرة.

في إثبات وجوب كون المعاد جسمانيا بالأدلة العقلية

ثمّ اعلم أنّ هذه الوجوه و إن كانت لا تفي بإثبات أزيد من المعاد في الجملة، و المتيقّن منه المعاد الرّوحاني، و لذا قال جمع بأنّه لا طريق للعقل إلى الجسمانيّ منه، بل طريق إثباته منحصر بالنقل، إلاّ أنّ الحقّ أنّه أيضا ممّا يحكم به العقل لوجوه:

[1] منها: أنّه لا شبهة أنّ حدّ استحقاق الثّواب و العقاب لا بدّ أن يكون في حكم العقل على حدّ حسن العمل و قبحه، و لا ريب أنّ منشأهما قد يكون في نفس العمل مع قطع النّظر عن الجهات الخارجيّة الطارئة، كحسن العدل و الإحسان، و قبح الظلم و العدوان، و قد يكون بالنّظر إلى الجهة الخارجيّة الطارئة، و قد يكون للجهتين معا كصيرورة عمل قبيح متعلّقا لنهي المولى، لبداهة أنّ حقّ المولى على العبد إطاعة أوامره و نواهيه، فإذا خالف حكمه كان ظالما عليه.

ثمّ لا شبهة أنّه تتفاوت الجهات الأوّلية في منشئيّتها لانتزاع الحسن و القبح شدّة و ضعفا، لبداهة

ص: 233

أقوائيّة منشأ قبح الزنا من منشأ قبح النظر و القبلة، و منشأ حسن العدل من منشأ حسن الإحسان، و كذلك تتفاوت الجهات الخارجيّة الطارئة على العمل لوضوح تفاوت مراتب عظمة المولى و مقدار حقوقه و نعمه، و درجات تأكّد طلبه و أهميّة غرضه، و تفاوت قبح معصيته و حسن طاعته بذلك التفاوت، فإنّ في ارتكاب مخالفة المولى هتك حرمته و الجرأة عليه و تضييع حقّ مولويّته و كفران نعمته، و في طاعته تعظيمه و حفظ حدوده و أداء حقّه و شكر نعمته، فكلّما ازداد المولى عظمة و نعمة ازداد عصيانه قبحا و طاعته حسنا.

إذا تمهّد ذلك نقول: لا شبهة أنّ عظمته سبحانه و تعالى بلا نهاية، و نعمته غير معدودة، فلا بدّ أن يكون شدّة قبح مخالفته و حسن طاعته و كذا استحقاق العبد العقوبة على الأولى و المثوبة على الثانية غير متناهيين، ثمّ لمّا كان الثّواب و العقاب غير المتناهيين شدّة و كيفيّة غير ممكن الوجود، فلا بدّ من أن يكون الواقع محدودا و إن كان الاستحقاق فوقه.

و لا شبهة أنّ العذاب الجسمانيّ زائدا على الآلام الروحانية ممكن الوجود فلا بدّ من الحكم باستحقاقه، و كذلك الثّواب، فإذا ثبت الاستحقاق فلا بدّ أن تكسى الروح كسوة الجسد ليصير قابلا لذوق العذاب الأشدّ.

إن قيل: إعادة الجسم واجبة إذا كان العذاب الجسمانيّ واجبا، و أمّا مع حسن العفو فلا.

قلنا: مصداق العفو عن العذاب الجسمانيّ لا يتحقّق إلاّ مع إمكان العذاب و هو موقوف على وجود الجسم.

إنّ قيل: سلّمنا وجوب إيجاد جسم تتعلّق به الرّوح لإمكان العذاب الجسمانيّ أو العفو عنه، إلاّ أنّه لا نسلّم وجوب إعادة الجسم الذي كان الروح متعلّقا به في الدنيا.

قلنا: لا بدّ من القول بوجود مرجّح في الخلق الأوّل لعروض الصورة المخصوصة على مادّتها الخاصّة، و لحلول الروح الخاصّ في الجسد المخصوص لئلا يلزم التّرجيح بلا مرجّح، و ليس إلاّ التناسب و السنخيّة بين العارض و الحال، و بين المعروض و المحلّ المخصوصين و عدمهما مع غيرهما، و هذا المرجع و المقتضي موجود في الخلق الثاني، و على هذا لا يمكن تعلّق الروح المخصوص إلاّ بذلك الجسد الذي كان متعلّقا به، فيجب إعادته.

[2] و منها: أنّه لا شبهة في أنّ مقتضى لزوم سنخيّة الروح مع جسده الخاصّ به، لزوم تعلّق الرّوح

ص: 234

الخبيث بالجسد المخلوق من الطّينة الخبيثة، و حينئذ لا بدّ من تأثير كلّ منهما بعلاقة المجاورة في ازدياد خباثة الآخر، فإذا كانا شريكين في التلذّذ بالمشتهيات و الخباثة و دخيلين في ازديادها، لا بدّ في حكم العقل من اشتراكهما في لوازم الخباثة و المعصية و هي العذاب في الآخرة، و أن يعاد الجسد لازدياد عذاب الروح.

[3] و منها: أنّه بعد ما عرفت أنّ الوعد بالثواب و العقاب من متمّمات حكمة التكاليف، و من الواجبات في النّظام الأتمّ ، لا بدّ من القول بوجوب الوعد بالثواب و العقاب الجسمانيّين، لقصور فهم عموم النّاس عن درك الرّوحانيّين منهما، فوجب على اللّه إعادة الجسم حتّى يمكن إنجاز الوعد، أو يصحّ العفو.

سورة البقرة (2): الآیات 26 الی 29

اشارة

إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29)

سورة البقرة (2): آیة 26

ثمّ اعلم أنّه لمّا ضرب اللّه الأمثال العديدة للمنافقين في الآيات السّابقة، تعرّض لدفع شبهات الكفّار في ضربه الأمثال في القرآن.

روي أنّه لمّا ذكر اللّه الذباب و العنكبوت في كتابه، و ضرب للمشركين المثل بهما، ضحكت اليهود و قالوا: ما يشبه هذا كلام اللّه (1) ،و كأنّهم اعترضوا على الكتاب المجيد باشتماله على هذه الأمثال الّتي لا تليق بعظمة الرّبوبيّة لتوهّمهم أنّ هذه الحيوانات الدّنيّة الصغيرة لا تناسب أن يذكرها العظيم المتعال

ص: 235


1- تفسير روح البيان 85:1.

في كلامه.

و قيل: إنّهم قالوا: أ ما يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذباب و العنكبوت ؟! فردّ اللّه عليهم بقوله: إِنَّ اللّهَ في نهاية عظمته و كبريائه لا يَسْتَحْيِي و لا يرى على ذاته المقدّسة عيبا من أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما من الأمثال، و أيّ مثل كان، كان الممثّل به بَعُوضَةً قيل: هي أصغر من البق، و فيها من ظهور قدرة اللّه ما لا يكون في الفيل؛ لأنّها مع صغر حجمها لها جميع أعضاء الفيل مع زيادة جناحيها، و خرطومها مع كونه مجوّفا و في غاية الصغر يغوص في جلد الفيل و الجاموس على ثخانته كما يغوص إصبع الرّجل في الخبيص، و ذلك لما ركّب اللّه في رأس خرطومها من السّمّ .

و قيل: إنّها تحيا ما جاعت، و تموت إذا شبعت(1).

فَما فَوْقَها و ما هو الأكبر منها كالذّباب و العنكبوت و غيرهما، فإنّ المنظور من التّمثيل توضيح المقصود و كشف المستور بالنّظير المحسوس، و لا ينظر إلى حقارة الممثّل به و جلالته و صغره و كبره، و لا إلى دناءته و شرفه، بل ينظر إلى مطابقة المثل للممثّل له، و هو حاصل في أمثال القرآن على النّحو الأتمّ الأكمل.

و قيل: إنّ كلمة (فوق) من الأضداد، تطلق على الأعلى و الأدنى و على هذا يحتمل أن يكون (ما فوقها) بمعنى: ما دونها، و ما هو أصغر منها.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه فَيَعْلَمُونَ بسبب سلامة عقولهم، و بصيرة قلوبهم، و طهارة نفوسهم من الحسد و العناد و حبّ الدنيا حين يسمعون المثل أَنَّهُ الْحَقُّ الثابت مِنْ رَبِّهِمْ لا مجال لإنكاره و الاعتراض عليه، لكونه في غاية الحسن و البلاغة، و كشفه عن العلوم و الحكم الكثيرة، و نظير هذه الأمثال جاء في الكتب السّماويّة كالانجيل و غيره.

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و عاندوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و جحدوا كتابه فَيَقُولُونَ عند سماع المثل، استحقارا له، لقصور عقولهم، و قلّة أفهامهم، و عمى قلوبهم، و فساد أخلاقهم: ما ذا و أيّ شيء أَرادَ اللّهُ بِهذا المثل من حيث كونه مَثَلاً؟ فإن كان له نفع فضرّه يساوي نفعه، لأنّه سبحانه يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً من النّاس لجهلهم بموقعيّة الأمثال وَ إن كان يَهْدِي بِهِ كَثِيراً لاعتقادهم كمال حسنه و كثرة فوائده، فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ الخارجين عن حدود

ص: 236


1- تفسير روح البيان 85:1.

العقل و شئون الانسانيّة و طريق الحقّ و الصواب.

سورة البقرة (2): آیة 27

ثمّ كأنّه قيل: من الفاسقون ؟ فعرّفهم أوّلا بفساد العقائد بقوله: اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ و يخالفون عَهْدَ اللّهِ الذي أخذ منهم على توحيده و رسالة رسوله و ولاية عليّ و المعصومين من ذرّيّته عليهم السّلام، و وجوب طاعتهم، و محبّة المؤمنين و مودّتهم في عالم الذّرّ، بقوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ (1) و في هذا العالم بإقامة الحجج القاطعة و البراهين السّاطعة الّتي هي في حكم العهد مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ و إحكامه، و إتقانه.

ثمّ ذمّهم ثانيا بالإساءة إلى الأقارب بقوله: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام و القرابات النّسبيّة الجسمانيّة بترك تعاهدهم و منع حقوقهم، و من القرابات الرّوحانيّة و هم الأنبياء و الأوصياء الذين هم آباء اممهم و أشياعهم لتوليدهم روح الإيمان في قلوبهم، و لكون طينتهم من سحالة(2) طينتهم الطيّبة، و المؤمنون الذين هم إخوة حقيقة في الدنيا و الآخرة، لكونهم بجهة إيمانهم أولاد أب واحد و هو نبيّهم، و في تربية مربّ واحد هو الإمام و الوصيّ ، و كون جميعهم مخلوقين من أصل واحد و طينة واحدة، و لذا جعل اللّه بينهم حقوق الإخوة.

في الحديث: «إذا أظهر النّاس العلم و ضيّعوا العمل به، و تحابّوا بالألسن و تباغضوا بالقلوب، و تقاطعوا الأرحام، لعنهم اللّه عند ذلك فأصمّهم و أعمى أبصارهم »(3).

ثمّ ذمّهم ثالثا بفساد الأعمال بقوله: وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بقبض الحقوق، و تشييد الكفر، و تضعيف الإسلام، و الصّدّ عن سبيل الحقّ ، و إلقاء الشبه في قلوب المؤمنين أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات الذميمة هُمُ الْخاسِرُونَ في تجارتهم، المغبونون في معاملتهم، كأنّه لغاية خسارتهم لا يكون خاسر سواهم، حيث إنّهم حرموا الجنّات و النّعيم الأبد، و لزمهم النّيران و العذاب المخلّد.

سورة البقرة (2): آیة 28

ثمّ لمّا حكى اللّه تعالى مقالة الكفّار و تهكّمهم بالقرآن، و شدّة كفرهم، و نهاية طغيانهم و عصيانهم، وجّه الخطاب إليهم بالتوبيخ و التقريع بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ و بوحدانيّته، وَ الحال أنّكم كُنْتُمْ أَمْواتاً لا حياة لكم، و نطفا في أصلاب آبائكم و أرحام امّهاتكم فَأَحْياكُمْ بخلق الأرواح و نفخها في أجسادكم بلا مزاج، فبدأ اللّه بتذكيرهم ما هو الأصل لجميع النعم، و هو نعمة الحياة، لأنّه

ص: 237


1- الأعراف: 172/7.
2- السّحالة: برادة الشيء أو ما يسقط منه أو قشره.
3- تفسير روح البيان 88:1.

كلّما عظمت نعمة المولى على العبد عظمت معصيته إيّاه.

ثمّ ذكّرهم زوال هذه النعمة التي صارت سببا لغرورهم بقوله: ثُمَّ بعد مدّة طويلة من الإحياء و تعميركم في الدنيا يُمِيتُكُمْ ثُمَّ بعد مدّة من الإماتة التي فيها تجهّزون و تقبرون يُحْيِيكُمْ في القبور للسؤال و لتنعّم المطيع و لتعذيب العاصي ثُمَّ بعد الإماتة في القبر إِلَيْهِ و إلى سلطانه و حكمه تُرْجَعُونَ و تحيون ثالثا للنشور.

و قيل: أي ترجعون إلى ما وعدكم من الثواب و العقاب على حسب أعمالكم، لا إليه في مكان كما توهّمه المجسّمة.

إن قيل: كيف استدلّ عليهم بالاحياء و الإماتة في القبر، ثمّ بالاحياء في المحشر مع عدم علمهم بذلك ؟

قلنا: تمكّنهم من تحصيل العلم جعلهم بمنزلة العالمين.

سورة البقرة (2): آیة 29

ثمّ أردف سبحانه و تعالى نعمة الحياة بذكر سائر النعم الجسيمة التي خلق لهم في الأرض بقوله:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ بقدرته و رحمته ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الأشياء كي تنتفعوا بها في دنياكم و دينكم، بأن تستدلّوا بها على خالقكم، و تعتبروا بها و تتوصّلوا إلى رضوانه، و تتّقوا عن نيرانه، و تصلحوا بها أبدانكم، و تتقوّوا بها على طاعة ربّكم، و تقبروا فيها إلى يوم بعثكم، و فيه دلالة على أنّ خلق عالم الاجسام لأجل الإنسان و تبيعه.

عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أوّل ما خلق اللّه جوهرة طولها و عرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة، فنظر اليها بالهيبة فذابت و اضطربت، ثمّ ثار منها دخان، فارتفع و اجتمع زبد فقام فوق الماء، فجعل الزبد أرضا و الدخان سماء(1).

ثُمَّ اسْتَوى و توجّه سبحانه و تعالى بالإرادة و الايجاد، و قصد قصدا سويّا لا يلويه عنه شيء إِلَى خلق اَلسَّماءِ فَسَوّاهُنَّ و خلقهنّ معتدلات سَبْعَ سَماواتٍ طباقا ليس فيها خلل و لا فطور و لا اعوجاج.

عن سلمان: اسم الأولى رفيع(2) و هي [من] زمردة خضراء، و اسم الثانية أرفلون و هي من فضة

ص: 238


1- تفسير روح البيان 91:1.
2- في تفسير روح البيان: رقيع.

بيضاء، و الثالثة قيدون(1) و هي من ياقوتة حمراء، و الرابعة ماعون و هي من درّة بيضاء، و الخامسة ديفاء(2) و هي من ذهب أحمر، و السادسة وفناء و هي من ياقوتة صفراء، و السابعة عروباء و هي نور يتلألأ(3).

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ من حقائق الموجودات و استعداداتها و منافعها و مصالحها الراجعة إلى العالم عَلِيمٌ محيط ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

و في التذييل به دلالة على أنّ علّة خلق الأشياء على هذا النمط الأكمل، علمه بكنهها و مصالحها، كما أنّ هذا النّسق العجيب، و الترتيب الأنيق في الخلق دال على كمال علمه تعالى و حكمته.

في بيان أنّ خلق الأرض قبل السّماء

ثمّ اعلم أنّ المستفاد من هذه الآية و غيرها أن خلق الأرض و ما فيها كان قبل خلق السّماوات، و مقتضى قوله تعالى في (النازعات): أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها إلى قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (4) أنّ خلق الأرض كان بعد خلق السّماء.

و قيل في الجمع بينها: إنّ ثُمَّ في تلك الآيات ليس للترتيب، بل إنّما هو على جهة تعديد النعم، كما يقول الرجل لغيره: أ ليس قد أعطيتك النعم العظيمة، ثمّ رفعت قدرك، ثمّ دفعت الخصومة عنك ؟ و لعلّ بعض ما أخّر ذكره قد تقدّم(5).

و قيل: إنّ كلمة بَعْدَ في قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ بمعنى (مع) مثل كلمة (بعد) في قوله عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (6).

و قيل: إنّها على أصلها، و إنّ خلق الأرض كان قبل خلق السّماوات، و دحوها بعده، لما روي عن ابن عبّاس قال: خلق اللّه الأرض قبل السّماء، فقدّر فيها أقواتها و لم يدحها، ثمّ خلق السّماء، ثمّ دحا الأرض من بعدها(7).

في اعتراض الفخر الرازي على قول ابن عبّاس و جوابه

و ردّ هذا القول بوجهين:

الأوّل: أنّ الأرض جسم عظيم لا يمكن انفكاك خلقها عن التّدحية، فإذا كانت التّدحية متأخّرة، كان خلقها متأخّرا.

ص: 239


1- في تفسير روح البيان: قيدوم.
2- في تفسير روح البيان: دبقاء.
3- تفسير روح البيان 91:1.
4- النازعات: 27/79-30.
5- تفسير الرازي 155:2.
6- القلم: 13/68.
7- الدر المنثور 412:8.

و فيه: أنّ التّدحية تسوية سطحها لا توسّعها.

و الثاني: أنّ آية خَلَقَ لَكُمْ دالّة على أنّ خلق ما في الأرض قبل خلق السّماء، و خلق ما في الأرض لا بدّ أن يتكوّن بعد التّدحية(1).

و فيه: أنّ خلق ما فيها من الجبال و المعادن و الأشجار و غيرها، و إن كان لا يستلزم تسطيح وجه الأرض، إلاّ أنّ الانتفاع بها متوقّف عليه، و اللّه العالم.

إن قيل: مقتضى الآية أنّ السماوات سبع، و أهل الرّصد قائلون بها تسعة.

قلنا: إن صحّ قول الرّصديّين، يحمل السبع على ما سوى العرش و الكرسيّ .

سورة البقرة (2): الآیات 30 الی 32

اشارة

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

سورة البقرة (2): آیة 30

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمة الحياة و نعمة خلق ما في الأرض و نعمة خلق السّماوات، ذكر النعمة الرابعة و هي خلق آدم و تعظيمه إيّاه، و تشريفه بالعلم على الملائكة، و كلّها من النعم الجارية في ذريّته، و يمكن أن يكون وجه النّظم أنّه لمّا ذكر اللّه تعالى في الآية السابقة علمه و إحاطته بكلّ شيء، و كان في قضيّة خلق آدم شهادة على كمال علمه و إحاطته بحقائق الموجودات و حكمها قبل إيجادها، شرع في بيانها بقوله: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ و تذكّر حين أوحى لِلْمَلائِكَةِ جميعهم، أو للّذين كانوا في الأرض بعد طرد بني الجانّ منها إِنِّي جاعِلٌ بالخلق أو النّصب فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً

و بدلا منكم و ممّن كان قبلكم فيها، و رافعكم إلى السّماء، هكذا قيل(2).

و الأظهر أنّ المراد بالخليفة هو الحجّة على الخلق من اللّه، إذ الجعل أظهر في النّصب من الخلق، كما قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً (3) و قال مخاطبا لداود عليه السّلام: إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي

ص: 240


1- تفسير الرازي 155:2.
2- تفسير روح البيان 93:1.
3- البقرة: 124/2.

اَلْأَرْضِ (1) و على هذا التفسير جمع من العامّة. و قال بعضهم: إنّ اللّه يحفظ العالم بالخليفة كما يحفظ الخزائن بالختم(2).

قيل: إنّ حكمة إظهار هذه الإرادة للملائكة تعليم العباد المشاورة في الامور، أو سؤال الملائكة عن حكمة الجعل حتّى يظهر لهم شرف آدم و فضله عليهم، فلمّا سمعت الملائكة ذلك الخطاب قالُوا استفهاما لحكمة جعل الخليفة، لا اعتراضا على اللّه: أَ تَجْعَلُ يا ربّ ، و تنصب للخلافة فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها بالعصيان و الطغيان شأنا و استعدادا وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ المحترمة، كما كان بنو الجانّ يفعلون فيها وَ نَحْنُ أولى و أحقّ بالخلافة، لأنّه ليس فينا شأنيّة الفساد و الظلم، بل نحن مجبولون على عبادتك، و شغلنا أنّا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ و ننزّهك عمّا لا يليق بك، مقرونا بثنائك الجميل على نعمتك وَ نُقَدِّسُ الأرض و نطهّرها لَكَ .

قيل: الفرق بين التّسبيح و التّقديس، أنّ التّسبيح: تنزيهه تعالى عمّا لا يليق به. و التّقديس: إثبات ما يليق(3).

فاستحقروا آدم و ذرّيته، و لم يعلموا أنّه أحقّ بخلافة اللّه منهم، لأنّه مجمع عوالم النّفوس و العقول و الأجسام، و فيه انطوى العالم الأكبر، و لعلّه لكون سؤالهم عن حكمة الجعل بصورة الاعتراض - إذ كان حقّ السّؤال أن يقولوا: ربّنا علّمنا حكمة هذا الجعل - طردهم اللّه عن حول العرش، و جعل البيت المعمور توبة لهم على ما روي عن المعصومين عليهم السّلام (4).و لا يخفى أنّ هذه الرّوايات تنافي كون المراد من الملائكة الملائكة الذين(5) كانوا سكّان الأرض.

و على أيّ تقدير، قالَ اللّه في جوابهم: إِنِّي أَعْلَمُ من الحكم و المصالح في هذا الخلق ما لا تَعْلَمُونَ .

و في رواية، قال: «إنّي أخلق خلقا بيدي، و أجعل في ذرّيته الأنبياء و المرسلين، و عبادي الصّالحين، و أئمّة مهديّين، أجعلهم خلفائي في أرضي، على خلقي يهدونهم إلى طاعتي، و ينهونهم عن معصيتي، و أجعلهم حجّة لي عليهم »(6).

أقول: في خلق هذا النوع كمال قدرته و كمال رحمته و فضله و بعصاتهم ظهور صفة عفوه

ص: 241


1- سورة ص: 26/38.
2- تفسير روح البيان 93:1.
3- تفسير روح البيان 95:1.
4- تفسير القمي 37:1، تفسير العياشي 110/114:1.
5- في النسخة: التي.
6- تفسير القمي 37:1.

و قهّاريّته.

سورة البقرة (2): آیة 31

ثمّ خلق وَ عَلَّمَ بإفاضته آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.

عن السجّاد عليه السّلام: «علّمه أسماء كلّ شيء، و فيه أيضا أسماء أنبياء اللّه و أوليائه و عتاة أعدائه »(1).

و عن القميّ رحمه اللّه قال: أسماء الجبال و البحار و الأودية و النّبات و الحيوان(2).

في بيان المراد من الاسماء الّتي علّمها اللّه آدم

و قيل: إنّ المراد بالأسماء حقائق الأشياء، لكون العلم بها أنسب بمقام التفضيل على الملائكة من العلم باللغات. و لعلّ هذا المعنى هو الظاهر ممّا روي عن الصادق عليه السّلام حيث سئل: ما ذا علّمه ؟ قال: «الأرضين، و الجبال، و الشّعاب، و الأودية» ثمّ نظر إلى بساط تحته، فقال: «و هذا البساط ممّا علّمه »(3).

و على هذا، لا بدّ من التقدير في الآية بأن يكون التّقدير مسمّيات الأسماء، أو القول بأنّ الاسم عبارة عمّا هو الدّالّ على الذّات، و كما أنّ الأعلام اللفظيّة دالّة على الذّوات، كذلك جميع الموجودات دالّ و كاشف عن ذاته المقدّسة دلالة المعلول على علّته.

فجميع الموجودات بهذا الاعتبار أسماء اللّه تعالى، أو القول بأنّ المراد من الأسماء علل الموجودات و أسبابها و أرباب أنواعها، و إطلاق الأسماء عليها في الأدعية و كلمات المعصومين غير عزيز.

و الأقرب أنّ يقال: إنّ المراد من الأسماء هو الألفاظ الدالّة على المسمّيات و اللغات الموضوعة للمعاني، كما هو ظاهر الآية المباركة و الروايتين المتقدّمتين، و ظاهر ما ببالي من عبارات التوراة في سفر التكوين، و عليه جلّ مفسّري العامّة لو لا الكلّ (4).

و لا ريب أنّ معرفة أسامي الموجودات بحيث لو رأى موجودا عرف اسمه مستلزم لمعرفة جميع المسمّيات بخصوصيّاتها و مشخّصاتها إلى يوم القيامة، كما أنّ من عرف أسامي الأدوية، بحيث لو احضر دواء أو معجون عنده، قال: هذا اسمه كذا، لا بدّ له من معرفة مشخّصاتها من طعمها و لونها و أجزائها، فعلى هذا يكون الاطّلاع على أسامي الموجودات ملازما لمعرفتها بماهيّاتها و حقائقها

ص: 242


1- تفسير الصافي 96:1.
2- تفسير القمي 45:1، تفسير الصافي 96:1.
3- مجمع البيان 180:1، تفسير الصافي 96:1.
4- الكتاب المقدس: 5 - الاصحاح الثاني من سفر التكوين، و راجع: روح البيان 101:1، تفسير أبي السعود 84:1، تفسير الرازي 175:1.

و مشخّصات أفرادها إلى يوم القيامة، و للاطّلاع على جميع المصنوعات و المخترعات التي تحدث إلى آخر الدّهر كما قال الصادق عليه السّلام: «و هذا البساط ممّا علّمه».

فتعليم الأسماء يدلّ على تعليم المسمّيات بالدلالة الالتزامية، و يدلّ عليه ما روي من أنه لمّا نفخ فيه من روحه علّمه أسماء المسمّيات - أي ألهمه - فوقع في قلبه، فجرى على لسانه ما في قلبه بتسمية الأشياء، فعلّمه جميع أسماء المسمّيات بجميع اللغات بأن أراه الأجناس التي خلقها، و علّمه أنّ هذا اسمه فرس، و هذا اسمه بعير، و هذا اسمه كذا، و علّمه أحوالها و ما يتعلّق بها من المنافع الدينيّة و الدنيويّة، و علّمه أسماء الملائكة و أسماء ذريّته كلّهم، و أسماء الحيوانات و الجمادات، و صنعة كلّ شيء، و أسماء المدن و القرى، و أسماء الطير و الشجر و ما يكون، و كلّ نسمة يخلقها إلى يوم القيامة، و أسماء المطعومات و المشروبات، و كلّ نعيم في الجنّة، و أسماء كلّ شيء حتّى القصعة و القصيعة، و حتّى الجفنة و المحلب(1).

و في الخبر: لمّا خلق اللّه آدم بثّ فيه أسرار الأحرف، و لم يبثّ في أحد من الملائكة، فخرجت الأحرف على لسان آدم بفنون اللغات، فجعلها اللّه صورا له، و مثّلت له بأنواع الأشكال(2).

و في خبر آخر: علّمه سبعمائة ألف لغة، فلمّا وقع في أكل الشجرة سلب اللغات إلاّ العربيّة، فلمّا اصطفاه بالنبوّة ردّ اللّه عليه جميع اللغات(3).

أقول: هذا كمال علميّ و إحاطة بالمغيّبات لا يليق بها الملائكة، حيث إنّه متوقّف على استعداد تامّ و كمال وجوديّ كان لآدم و الطّيّبين من ذرّيّته.

ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي أشباح الموجودات، و في الحديث «أنّه عرضهم أمثال الذّرّ» (4)عَلَى الْمَلائِكَةِ و إرجاع ضمير ذوي العقول إليهم، إمّا لأنّ أشباح الموجودات في عالم الملكوت جميعها ذوو الأرواح و العقول، و إمّا لتغليب جانب ذوي العقول منهم.

فقال اللّه تعجيزا لهم: أَنْبِئُونِي و أخبروني أيّها الملائكة بِأَسْماءِ هؤُلاءِ الأشباح و الصور المثاليّة للموجودات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى أفضليّتكم على ما أردت خلقه، و أولويّتكم بخلافتي منه، حيث كان الدعوى مستفادا من قولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ

ص: 243


1- تفسير روح البيان 100:1.
2- تفسير روح البيان 100:1.
3- تفسير روح البيان 100:1.
4- تفسير روح البيان 101:1.

وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ و لمّا كان مطابقا لاعتقادهم، و إنّ كان مخالفا للواقع، لم يكن كذبا منافيا لعصمتهم.

سورة البقرة (2): آیة 32

قالُوا تنزيها له عن فعل مناف للحكمة أو تعجيبا من أمره بما هو خارج عن وسعهم من إنبائهم بالأسماء مع علمه بجهلهم بها: سُبْحانَكَ إنّك تعلم أنّه لا عِلْمَ لَنا بشيء إِلاّ ما عَلَّمْتَنا

بإفاضتك علينا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ المحيط بجميع المصالح و المفاسد و خفيّات الامور اَلْحَكِيمُ

في جميع أفعالك، لا يصدر منك إلاّ ما فيه الصّلاح الأتمّ .

قيل: إنّ المؤمن بعد اطّلاعه على قول الملائكة: لا عِلْمَ لَنا لا ينبغي أن يتأنّف عن قول لا أدري و لا أعلم(1).

سورة البقرة (2): آیة 33

اشارة

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

سورة البقرة (2): آیة 33

ثمّ قالَ اللّه: يا آدَمُ أظهر سعة علمك للملائكة و أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أي أسماء الأشباح.

فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ و أخبرهم بِأَسْمائِهِمْ قالَ اللّه تعالى تقريرا لهم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و خفيّات أسرارهما و حكم جميع ما خلقته فيها قبل خلقه وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ

من قولكم: أَ تَجْعَلُ فِيها (2) إلى آخره وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ و تخفون في ضمائركم من هذا القول، أو اعتقاد أنّه لم يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منّا.

و قيل: إنّ المراد ما كتم إبليس من تمرّده لأمر اللّه بالسّجود لآدم.

و في الآية دلالة على أفضلية العلم من جميع الكمالات النفسانيّة، حيث احتجّ سبحانه و تعالى على كمال حكمته بظهور علم آدم، و لو كانت صفة اخرى أفضل منه لاحتجّ بها.

في حديث أبي ذرّ رضى اللّه عنه: «حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة، و عيادة ألف مريض، و شهود ألف جنازة» فقيل: يا رسول اللّه، و من قراءة القرآن ؟ قال: «و هل ينفع القرآن إلاّ بعلم »(3).

ص: 244


1- تفسير روح البيان 101:1.
2- البقرة: 30/2.
3- تفسير روح البيان 102:1.

سورة البقرة (2): آیة 34

اشارة

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

سورة البقرة (2): آیة 34

ثمّ لمّا ذكر سبحانه و تعالى سعة علمه و حكمة خلق آدم و تشريفه بالعلم و تنبيه الملائكة بفضله عليهم، ناسب أن يذكر جملة من قضايا بدو خلقته، حيث إنّ منها فوائد عظيمة من وجوب تعظيم العالم و ذمّ الكبر و الحسد، و وخامة معصية اللّه و آثار التوبة و غير ذلك فقال سبحانه: وَ إِذْ قُلْنا بعد خلق آدم و تشريفه بالعلم لِلْمَلائِكَةِ كافّة و فيهم إبليس: اُسْجُدُوا تعظيما و إكراما لِآدَمَ أو طاعة له و تعظيما للانوار الطيّبة المودعة في صلبه.

قال عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما: «حدّثني أبي، عن أبيه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يا عباد اللّه، إنّ آدم لمّا رأى النّور ساطعا من صلبه - إذ كان اللّه

تعالى [قد] نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره - رأى النّور و لم يتبيّن الأشباح، فقال: يا ربّ ما هذه الأنوار؟ فقال عزّ و جلّ : أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، و لذلك أمرت الملائكة بالسّجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح.

فقال آدم: يا ربّ لو بيّنتها لي. فقال اللّه عزّ و جلّ : انظر يا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم و وقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره، كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية، فرأى أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح يا ربّ ؟

قال اللّه: يا آدم، هذه أشباح أفضل خلائقي و بريّاتي، هذا محمّد و أنا الحميد المحمود في فعالي، شققت له اسما من اسمي، و هذا عليّ و أنا العليّ العظيم، شقت له اسما من اسمي، و هذه فاطمة و أنا فاطر السّماوات و الأرض، فاطم أعدائي عن رحمتي يوم فصل قضائي، و فاطم أوليائي عمّا يعروهم، و هذا الحسن و هذا الحسين، و أنا المحسن المجمل، شققت اسميهما من اسمي، هؤلاء خيار خليقتي، و كرام بريّتي، بهم آخذ و بهم اعطي، و بهم اعاقب، و بهم اثيب، فتوسّل بهم إليّ .

يا آدم، و إذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعاءك، [فإنّي] آليت على نفسي قسما حقّا أن لا اخيّب بهم آملا، و لا أردّ بهم سائلا، فلذلك حين زلّت منه الخطيئة، دعا اللّه عزّ و جلّ بهم فتاب عليه، و غفرت له »(1).

ص: 245


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 102/219.

فَسَجَدُوا كلّهم من غير ريث لكونهم مخلوقين من النّور، و اقتضاء النّور الطاعة و الانقياد إِلاّ إِبْلِيسَ فإنّه كان من الجنّ مخلوقا من النّار.

قيل: اسمه حارث، و استثناؤه من الملائكة باعتبار أنّه كان معهم يعبد اللّه حتّى ظنّوا أنّه منهم، فشمله الأمر بالسّجود، فلمّا عصى اللّه تعالى و تمرّد، علموا أنّه لم يكن منهم.

و إنّما سمّي إبليس لكونه مبلسا من رحمة اللّه، فلذلك أَبى و امتنع من السّجود حسدا وَ اسْتَكْبَرَ على آدم.

عن القمّي، عنه عليه السّلام: «الاستكبار أوّل معصية عصى اللّه بها». قال عليه السّلام: «فقال ابليس: ربّ اعفني عن السّجود لآدم، و أنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل. فقال جلّ جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنّما عبادتي من حيث اريد لا من حيث تريد »(1).

وَ كانَ من أجل تمرّده عن طاعة أمر اللّه و تكبّره على آدم معدودا مِنَ الْكافِرِينَ باللّه، و من زمرة الطّاغين عليه.

في (العيون): عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّه أوّل من كفر و أنشأ الكفر »(2).

سورة البقرة (2): الآیات 35 الی 36

اشارة

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)

سورة البقرة (2): آیة 35

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ و استقرّ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حوّاء اَلْجَنَّةَ قيل: إنّها جنّة عدن.

و عن (الكافي) و (العلل) و (القمي): عن الصادق عليه السّلام: «أنّها كانت من جنّات الدنيا، تطلع فيها الشّمس و القمر، و لو كانت من جنّات الخلد ما خرج منها أبدا »(3).

و زاد (القمي) رحمه اللّه: و لم يدخلها ابليس(4).

وَ كُلا مِنْها رَغَداً واسعا بلا تقتير و لا تضييق حَيْثُ شِئْتُما بلا تعب و لا نصب وَ لا تَقْرَبا

ص: 246


1- تفسير القمي 42:1.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/244:1.
3- الكافي 2/247:3، علل الشرائع: 55/600.
4- تفسير القمي 43:1.

هذِهِ الشَّجَرَةَ كي تنالوا من ثمرها.

قيل: إنّها شجرة البرّ. و قيل: شجرة التّين. و قيل: شجرة الكرم. و قيل: شجرة الكافور (1).و في رواية:

أنّها شجرة الحسد.

و في تفسير الامام عليه السّلام: «أنّها شجرة علم محمّد و آل محمّد صلوات اللّه عليهم آثرهم اللّه تعالى بها دون سائر خلقه »(2).

في بيان حكم تسليط الشيطان على آدم

و عن (العيون) عن عبد السّلام بن صالح الهروي، قال: قلت للرّضا عليه السّلام: يا ابن رسول اللّه، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم و حوّاء ما كانت فقد اختلف النّاس فيها، فمنهم من يروي أنّها الحنطة، و منهم من يروي أنّها العنب. و منهم من يروي أنّها شجرة الحسد؟ فقال عليه السّلام: «كلّ ذلك حقّ ».

قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: «يا أبا الصّلت، إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب ليست كشجرة الدنيا، و إنّ آدم عليه السّلام لمّا أكرمه اللّه تعالى بإسجاده ملائكته له و إدخاله الجنّة، قال في نفسه: هل في خلق اللّه بشر أفضل منّي ؟ فعلم اللّه ما وقع في قلبه، فناداه: ارفع رأسك يا آدم، و انظر إلى ساق عرشي، فرفع رأسه فنظر الى ساق العرش، فوجد [عليه] مكتوبا: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، و زوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين، و الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. فقال آدم: يا ربّ ، من هؤلاء؟ فقال عزّ و جلّ :

هؤلاء من ذرّيتك، و هم خير منك و من جميع خلقي، و لولاهم ما خلقتك و لما خلقت الجنّة و النّار، و لا السّماء و لا الأرض، فإيّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد [فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد] و تمنّى منزلتهم، فتسلّط عليه الشّيطان حتّى أكل من الشّجرة التي نهي عنها، و تسلّط على حوّاء لنظرها إلى فاطمة عليها السّلام بعين الحسد حتّى أكلت من الشّجرة كما أكل آدم، فأخرجهما اللّه تعالى من جنّته، و أهبطهما من جواره إلى الأرض »(3).

أقول: المراد من الحسد هنا: الغبطة اللائقة بمقام الأنبياء، و لمّا كان في اغتباط آدم بمقام آل

ص: 247


1- مجمع البيان 195:1.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 103/221.
3- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 67/306:1.

محمّد صلّى اللّه عليه و آله - مع كونه بعيدا عنه بمراحل - ظهور نقصه و قلّة معرفته بنفسه و بمقامهم، حيث إنّ استدعاء من كان رتبته في باب السلطان خدمة الحضور أن يجعله السلطان رئيس وزرائه، كاشف عن نقص إدراكه و عدم معرفته بشأن نفسه و شأن رئاسة الوزراء، فاقتضت الحكمة تسليط الشّيطان عليه حتّى يعرف أنّ من يغرّه الشّيطان لا يليق أن يتمنّى المقام الشامخ الذي لمحمّد و آله صلوات اللّه عليهم، و لعلّ هذا هو المراد من القرب إلى شجرة علم آل محمّد صلوات اللّه عليهم أجمعين، و تسليط الشّيطان عليهما إيكالهما إلى نفسهما و عقلهما و التّخلية بينهما و بين الشّيطان، و ترك حفظهما عن كيده، فصارت الزّلّة سببا لعلمه بنقصه و باعثا له إلى تكميل نفسه الشّريفة.

ثمّ إنّه تعالى لم يقتصر على نهيهما عن الأكل من الشّجرة، بل أكّده ببيان سوء عاقبة عصيانه تتميما للّطف بقوله: فَتَكُونا بعصياني و مخالفة نهيي مِنَ الظّالِمِينَ على أنفسكم حيث إنّكم تحرمون من النّعم و تبعدون عن جوار اللّه و تبتلون بمشاقّ المعيشة فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها بوسوسته، و أوقعهما في الخبط عن الجنّة بخديعته.

روي «أنّ ابليس دخل بين لحيي الحيّة فأدخلته الجنّة، و كان آدم يظنّ أنّ الحيّة هي التي تخاطبه، و بدأ بآدم، فقال: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ إن تناولتما منها تعلمان الغيب و تقدران على ما يقدر عليه من خصّه اللّه بالقدرة، أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ لا تموتان أبدا، وَ قاسَمَهُما و حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ (1) فرد آدم على الحيّة، فقال: أيّتها الحيّة، هذا من غرور ابليس، كيف يخوننا ربّنا، أم كيف تعظّمين اللّه بالقسم به و أنت تنسبينه إلى الخيانة و سوء النّظر، و هو أكرم الأكرمين ؟ أم كيف أروم التوصّل إلى ما منعني منه ربّي و أتعاطاه بغير حكمه ؟!

فلمّا أيس ابليس من قبول آدم منه، عاد ثانية بين لحيي الحيّة، فخاطب حوّاء من حيث يوهمها أنّ الحيّة هي التي تخاطبها، و قال: يا حوّاء، أ رأيت هذه الشجرة التي كان اللّه عزّ و جلّ حرّمها عليكما! لقد أحلّها لكما بعد تحريمها لمّا عرف من حسن طاعتكما له، و توقيركما إيّاه، و ذلك أنّ الملائكة - الموكّلين بالشجرة - التي معها الحراب، يدفعون عنها سائر حيوانات الجنّة، و لا تدفعك عنها إن رمتها، فاعلمي بذلك أنّه قد احلّ لك، و أبشري بأنّك إن تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلّطة عليه الآمرة النّاهية فوقه.

ص: 248


1- سورة الأعراف: 20/7-21.

فقالت [حواء]: سوف اجرّب هذا، فرامت الشجرة، فأرادت الملائكة أن تدفعها عنها بحرابها، فأوحى اللّه إليها: إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره، فأمّا من جعلته متمكّنا مميّزا مختارا، فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجّة عليه، فإن أطاع استحقّ ثوابي، و إن عصى و خالف أمري استحقّ عقابي و جزائي. فتركوها و لم يتعرّضوا لها بعد ما همّوا بمنعها بحرابهم. فظنّت أنّ اللّه نهاهم عن منعها لأنّه قد أحلّها بعد ما حرّمها. فقالت: صدقت الحيّة، و ظنّت أنّ المخاطب لها هي الحيّة، فتناولت منها و لم تنكر من نفسها شيئا؛ فقالت لآدم: أ لم تعلم أنّ الشجرة المحرّمة علينا قد ابيحت لنا، فتناولت منها و لم يمنعني أملاكها، و لم انكر شيئا من حالي ؟! فلذلك اغترّ آدم و غلط و تناول »(1).الخبر.

إن قيل: كيف دخل الشّيطان الجنّة و لم تمنعه الخزنة، مع أنّه اخرج منها و كان منهيّا عن الدخول فيها؟.

قلت: لعلّه كان منه عصيان آخر، و إنّما لم يمنعه الخزنة لأنّ اللّه أراد ابتلاء الحيّة و آدم.

و ما قيل في ردّه من أنّه كان منهيّا عن الدخول بارزا لا مختفيا، ففيه: أنّ الظاهر من الأمر بالخروج هو حرمة الدخول عليه مطلقا، بارزا و مستترا، و الظاهر أنّ وجه اختفائه بين لحيي الحيّة التحرّز - بزعمه - عن اطلاع الخزنة عليه، و عن معرفة آدم و حواء إيّاه، حيث إنّهما مع علمهما بكونه عدّوا لهما؛ لم يكونا معتنيين بقوله.

إن قيل: إذا كان الشّيطان قادرا على أن يدخل بين لحيي الحيّة، كان قادرا على أن يتصوّر بصورتها.

قلت: لعلّ وجه دخوله بين لحييها قصد إغوائها و إيقاعها في الخطيئة و تبعيدها عن ساحة الرّحمة، حيث كان همّه ذلك بالنسبة إلى جميع الخلق.

إن قيل: إذا لم يكن للحيّة عقل، و لم يكن لها تكليف، فكيف يتصوّر وقوعها في الخطيئة ؟

قلت: لعلّه كان لها في ذلك الوقت و ذاك العالم مرتبة من العقل يصحّ معها تكليفها ببعض الامور، فكانت إعانتها لإبليس على دخوله في الجنّة و موادّتها له خطيئة و معصية.

إن قيل: إذا كان أكل آدم و حوّاء من الشجرة لاعتقاد إباحتها لهما و نسخ النّهي و التّحريم أو الكراهة و التنزيه، كانا معذورين في المخالفة، فكيف عوتبا و عوقبا عليها؟

قلت: لعلّه كان اعتقادهما مستندا إلى التّقصير، حيث إنّ اللّه تعالى باشر بذاته المقدّسة مخاطبتهما

ص: 249


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 104/222.

بالنّهي عن قرب الشجرة، و أخبرهما بأنّ الشّيطان لهما عدوّ مبين، فإذن كان عليهم التثبّت و انتظار الإذن الصّريح من اللّه تعالى، و لم يكن لهما الاعتماد بقول الحيّة و الأمارات الظّنّيّة، فلمّا اعتمدا بقول من لا حجّة في قوله، و عملا بالظّنّ النّاشئ عن الطّمع و الهوى كان ذلك خلاف العزم و الحزم، و لذا قال تعالى في حقّ آدم: وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (1) فقول الفخر الرازي: إنّ هذه الرواية ممّا لا يلتفت إليها (2) ،لتوهّمه ورود بعض هذه الاشكالات عليها، ممّا لا يلتفت إليه.

و عن (العيون) عن الرّضا عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى قال لهما: لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و أشار لهما إلى شجرة الحنطة، و لم يقل لهما: لا تاكلا من هذه الشّجرة و لا ممّا كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة، فأكلا من غيرهما لمّا أن وسوس الشّيطان إليهما»(3) الخبر. و فيه إشعار بأنّه كان الأولى أن يراجع آدم عليه السّلام ربّه في إباحة ما كان من جنسها أو يحتاط ، فوسوس إليه الشّيطان و أوهمه نسخ حرمة تلك الشجرة الخاصّة لترتفع جهة الاحتياط ، و عليه كان جهة القبح في أكله أضعف، و مخالفته أهون.

فَأَخْرَجَهُما الشّيطان مِمّا كانا فِيهِ من الجنّة و نعيمها وَ قُلْنَا لآدم و حوّاء و الحيّة و إبليس:

اِهْبِطُوا و تنزّلوا من الجنّة إلى الأرض في حال بَعْضُكُمْ مع نسله لِبَعْضٍ آخر و لذراريه عَدُوٌّ و مبغض.

قيل: كان إهباط الشّيطان بعد إخراجه من الجنّة إهباطا من حواليها.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر غير واحد من الأخبار أنّ الجنّة التي كان آدم فيها كانت في السّماء، و مقتضى ما مرّ(4) من قول الصادق عليه السّلام «إنّها كانت من جنّات الدنيا تطلع عليها الشّمس و القمر» أنّها كانت في الأرض، و على هذا يكون المراد من الإهباط الانتقال من أرض الجنّة الأرضيّة إلى أرض غيرها، كقوله تعالى: اِهْبِطُوا مِصْراً (5).

في بيان حكمة إسكان آدم الجنّة مع أنّه خلق للخلافة في الأرض، و حكمة ابتلائه بالخطيئة و تبعيده

إن قيل: مقتضى قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (6) أنّ خلق آدم كان للسّكونة(7) في الأرض، فلم أسكنه في الجنّة ؟

قلت: لعلّه لإظهار أنّ من لا ذنب له يستحقّ الجنّة.

ص: 250


1- طه: 115/20.
2- تفسير الرازي 15:3.
3- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/196:1.
4- تقدّم في أول تفسير الآيتين (35 و 36) من هذه السورة.
5- البقرة: 61/2.
6- البقرة: 30/2.
7- كذا و مقتضى الاشتقاق أن يكون للسكن أو السّكنى.

إن قيل: لأيّ حكمة ابتلاه اللّه بالذّنب ؟

قلت: كان ابتلاؤه بالذّنب لطفا عليه، حيث إنّ فيه تنبيهه على نقصه، و بعثه إلى تكميل نفسه، حيث إنّ من لا يطّلع على مرضه لا يهتمّ بعلاجه، فكان في تبعيده تكميله و تقريبه.

وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ و محلّ إقامة و موضع تعيّش وَ مَتاعٌ و انتفاع بها و بما فيها من الأمتعة إِلى حِينٍ الموت. و عن القمّي: إلى يوم القيامة (1).و هذا إمّا بالنّظر إلى ما روي من أنّ من مات فقد قامت قيامته (2).و إمّا إلى أنّ أهل البرزخ أيضا متمتّعون في أرض الدنيا، فإذا كانت القيامة تتبدّل الأرض غير الأرض.

عن العيّاشيّ : عن الصادق عليه السّلام «أنّ اللّه تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشّمس من يوم الجمعة، ثمّ برأ زوجته من أسفل أضلاعه [ثم اسجد له ملائكته] و أسكنه جنّته من يومه ذلك، فما استقرّ فيها إلا ستّ ساعات من يومه ذلك حتّى عصى اللّه، فأخرجهما من الجنّة بعد غروب الشّمس، و صيّرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا، و بدت لهما سوآتهما، فناداهما ربّهما أ لم أنهكما عن تلكما الشّجرة ؟ فاستحيى آدم من ربّه و خضع، و قال: ربّنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا. قال اللّه لهما: اهبطا من سماواتي إلى الأرض، فإنّه لا يجاورني في جنّتي عاص و لا في سماواتي».

ثمّ قال عليه السّلام: «إنّ آدم لمّا أكل من الشّجرة ذكر ما نهاه اللّه عنها فندم، فذهب ليتنحّى عن الشّجرة، فأخذت الشجرة برأسه فجرّته إليها، و قالت له: أ فلا كان فرارك من قبل أن تأكل منّي ؟»(3).

و القمّي عن الصادق عليه السّلام: «إن آدم هبط على الصّفا، و حوّاء على المروة، فمكث أربعين صباحا ساجدا، يبكي على خطيئته و فراقه للجنّة »(4).

قيل: وقع آدم بأرض الهند على جبل سرنديب، و لذا طابت رائحة أشجار تلك الأودية، لما معه من ريح الجنّة، و وقعت حوّاء بجدّة و بينهما سبعمائة فرسخ، و الطاوس بمرج الهند، و الحيّة بسجستان أو بأصفهان، و إبليس بسدّ يأجوج و مأجوج(5).

و عن ابن عبّاس: بكى آدم حوّاء مائتي سنة، و لم يأكلا و لم يشربا أربعين يوما، و لم يقرب آدم

ص: 251


1- تفسير القمي 43:1.
2- تفسير روح البيان 387:8.
3- تفسير العياشي 1553/139:2.
4- تفسير القمي 43:1، تفسير الصافي 107:1.
5- تفسير روح البيان 111:1.

و حوّاء مائة سنة(1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «نزل جبرئيل على آدم فقال: يا آدم أ لم يخلقك اللّه بيديه، و نفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته ؟ قال: بلى. قال: و أمرك أن لا تأكل من تلك الشجرة، فلم عصيته ؟

قال: يا جبرئيل، إنّ إبليس حلف لي باللّه أنّه لي ناصح، و ما ظننت أنّ أحدا خلقه اللّه يحلف باللّه عزّ و جلّ كاذبا. فقال له جبرئيل: يا آدم تب إلى اللّه »(2).

سورة البقرة (2): آیة 37

اشارة

فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (37)

سورة البقرة (2): آیة 37

فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ في (الكافي): عن أحدهما عليهما السّلام: «إنّ الكلمات: لا إله إلاّ أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي، فاغفر لي و أنت خير الغافرين، لا إله إلاّ أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي، فاغفر لي و ارحمني إنّك أنت أرحم الرّاحمين، لا إله إلاّ أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي، فتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».

و في رواية: «بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ آدم عليه السّلام قال: بحقّ محمّد أن تغفر لي »(4).

فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ بالتّائبين، و في ذكر الوصفين وعد بليغ بالاحسان مع العفو و الغفران.

في بيان عصمة الأنبياء بدلالة العقل و النقل و الضّرورة

ثمّ اعلم أنّ من ضروريّات مذهب الإماميّة الاثني عشريّة عصمة الأنبياء و الأئمّة و الأوصياء، من بدو تولّدهم في الدنيا إلى خروجهم منها، بمعنى امتناع صدور المعاصي الكبيرة أو الصّغيرة و القبائح العقليّة عنهم عليهم السّلام عمدا أو خطأ أو سهوا أو نسيانا، و الدليل عليه مضافا إلى الضّرورة حكم العقل و تواتر النّقل.

أمّا حكم العقل فتقريره: أنّه لا شبهة في أنّ اللّطف على النّاس بتقريبهم إلى الطّاعة و المحسّنات العقليّة و تبعيدهم عن المعصية واجب على اللّه، لكونه حسنا غير مزاحم بجهة قبح، و كما أنّ من

ص: 252


1- تفسير روح البيان 114:1.
2- تفسير القمي 43:1، تفسير الصافي 107:1.
3- الكافي 472/304:8، تفسير الصافي 105:1.
4- تفسير روح البيان 113:1.

اللّطف نصب الخليفة و السائس و المربّي و الآمر و النّاهي لهم، كذلك من كمال اللّطف تزيينه بالصّفات الحسنة و المكارم الجميلة، و تنزيهه عن الأخلاق السيّئة و ما يوجب نفرة الطباع و اشمئزاز القلوب عن تبعيّته و انقياده، حيث إنّه لا ريب أنّ صدور القبائح و المعاصي - و لو كان عن سهو و نسيان - موجب لانحطاط قدره و سقوطه عن الأنظار، و الاستنكاف عن تبعيّته و قبول طاعته، و عدم تأثير نصحه و موعظته، بخلاف ما إذا كان من بدو أمره و أوّل عمره منزّها عن الرّذائل، مزيّنا بالأخلاق الحميدة و الفضائل، محترزا عن قبائح الأعمال مكترثا عن ذمائم(1) الخصال، فإنّ له وقعا في القلوب، و عظمة في الأنظار، و مهابة في الصّدور، و لكلامه أثر في النّفوس، فيكون النّاس إلى اتّباعه أرغب، و لأوامره و نواهيه أطوع.

و لمّا لم يكن في قدرته تعالى قصور عن إيجاد من هو واجد لهذه الخصال، فالحكمة البالغة و الرّحمة الشاملة مقتضية لايجاده و اصطفائه للهداية و الرّسالة، و إلاّ فهو مناقض لحكمته، مخالف لشئون لطفه و رحمته، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و أمّا النّقل فلتراكم الآيات و تواتر الرّوايات على اعتبار العصمة بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة، حتّى إنّ الأشاعرة المنكرين لوجوب اللطف، و الجاحدين للحسن و القبح، ملتزمون بوجوب عصمة الأنبياء للأدلّة النقليّة.

في بيان حقيقة العصمة و ملاكها

ثمّ لا يذهب عليك أنّه ليس المراد من امتناع صدور المعاصي و القبائح عنهم عدم قدرتهم عليها، أو عدم وجود مقتضيها من الشّهوة و الغضب فيهم، بل المراد وجود المانع عن إرادتها فيهم، و هو كمال عقلهم، و شدّة يقينهم بعظمة اللّه، و وفور علمهم بحقائق المعاصي و قباحتها و سوء آثارها، كما يمتنع من العاقل الكامل العالم بحقيقة النّار و مضرّاتها إلقاء نفسه فيها، أو من الملتفت بشدّة قذارة بعض الأقذار أكله منها، بل لا يخطر بخاطره، بل يتغيّر حاله من تصوّره.

فالعصمة من آثار قوّة العقل و كمال المعرفة و اليقين و نورانيّة القلب و الطّينة المأخوذة من أعلى علّيّين، إذا عرفت ذلك فكلّ ما يكون في الآيات و الرّوايات العاميّة و الإماميّة من ظهور نسبة الخطأ و العصيان إلى الأنبياء و المرسلين و الهداة المعصومين، محمول على ما لا ينافي عصمتهم من فعل ما يكون تركه أولى و ترك ما يكون فعله أحسن، كما أنّ ما ظاهره نسبة العصيان إلى الملائكة الذين هم

ص: 253


1- كذا و الصحيح غير مكترث بذمائم.

معصومون باتّفاق الأمّة و إجماع المسلمين، محمول على ذلك للقرينة العقليّة القطعيّة.

مضافا إلى ما ورد من الرّوايات الكثيرة عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم في تأويل عصيان آدم، و خطيئة داود، و ظهور قول ابراهيم عليه السّلام: هذا رَبِّي (1) في الشّرك، و قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا (2)

في الكذب، و قوله: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (3) في الشّكّ في المعاد، و سؤال موسى عليه السّلام رؤيته تعالى في اعتقاده بالتجسّم، و ظهور قوله تعالى في حقّ يوسف: وَ هَمَّ بِها (4) في قصده عليه السّلام الفاحشة، و أمثال ذلك.

و أمّا ما في رواية (العيون) عن الرضا عليه السّلام من «أنّ اللّه تعالى قال لهما: لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ » إلى أن قال: «و كان ذلك من آدم قبل النبوّة، و لم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النّار، و إنّما كان من الصّغائر التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم. فلمّا اجتباه اللّه تعالى و جعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة، قال اللّه تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى » (5) فمحمول على التقيّة لأنّه قول العامّة، أو مطروح.

سورة البقرة (2): آیة 38

اشارة

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

سورة البقرة (2): آیة 38

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمرهم أوّلا بالهبوط اجمالا، كرّر الأمر ثانيا به لبيان كيفيّته بقوله: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً لا يتقدّم بعضكم بعضا أو لبيان تحتّم مقتضاه.

و قيل: إنّ الأمر الأوّل بالهبوط لبيان أنّ الغرض المعاداة و البليّة، و الأمر الثاني لبيان غرض التّكليف و الامتحان، و يؤيّده قوله: فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً و جاءكم من قبلي رشد و شريعة فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ و أقتدى بشريعتي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدنيا ممّا ينزل من البلايا و المحن بالتّوكل على اللّه و التفويض إليه و بذكر اللّه تطمئنّ قلوب المؤمنين، و في الآخرة من العذاب، ببشارة الملائكة لهم:

أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (6) .

وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الدنيا على ما فاتهم من الفوائد الدنيويّة لحقارتها في نظرهم، و في الآخرة

ص: 254


1- الأنعام: 77/6.
2- الأنبياء: 63/21.
3- البقرة: 260/2.
4- يوسف: 24/12.
5- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/196:1، و الآيتان من سورة طه: 121/20 و 122.
6- فصلت: 30/42.

على انحطاط درجتهم عمّن هو أعلى منهم، لكمال سرورهم بما آتاهم اللّه من فضله.

سورة البقرة (2): آیة 39

اشارة

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

سورة البقرة (2): آیة 39

ثمّ أنّه تعالى لمّا وعد متّبعي الهدى بالأمن ممّا يخاف من العذاب و الفراغ من الحزن، عقّبه بذكر من أعدّ له العذاب الدائم بقوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا برسلنا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة عليهم من الإنس و الجنّ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ و ملازموها غير منفكّين عنها و هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.

سورة البقرة (2): آیة 40

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ (40)

سورة البقرة (2): آیة 40

ثمّ أنّه تعالى بعد ما دعا عموم النّاس إلى الاعتراف بتوحيده و عبادته و الاتّقاء من سخطه و عذابه مستدلا بخلق نعمه العظام من السّماء و الأرض و الأمطار و الثّمار و خلق الاصول و نعمة الحياة و غير ذلك، حيث إنّ كلّ واحد منها دالّ على وجوده و وحدانيّته و استحقاقه العبادة و قدرته على الإعادة و التّعذيب على الشّرك و العصيان، خصّ خصوص طائفة بني إسرائيل منهم بالخطاب و الدّعوة إلى الإيمان بتوحيده و رسالة رسوله و تصديق كتابه، لكونهم في ذلك العصر متخصّصين باللّجاج مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شدّة المعاندة للحقّ ، مستدلا بنعمه الخاصّة بهم و بآبائهم، حيث إنّ فيها مع ذلك استمالة قلوبهم، و كسر لجاجهم و عنادهم، فبدأ سبحانه بتذكيرهم النعم الخاصّة بهم إجمالا بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ و هم اليهود الذين كانوا في ذلك العصر في المدينة و حولها.

روي أنّ إسرائيل لقب يعقوب عليه السّلام و معناه في العربيّة: عبد اللّه، لأنّ اسرا: هو العبد. و ئيل: هو اللّه(1).

و قيل: إسرا: هو الإنسان، فالمعنى: رجل اللّه (2).و في رواية اخرى: اسرا: هو القوّة(3).

اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ و هي نعمة هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى مدينتهم و وضوح علامات نبوّته و دلائل صدقه، أو هي مع سائر النّعم التي أنعم اللّه على آبائهم، فإنّها انعام على أبنائهم.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي أخذه أنبياؤكم من أسلافكم و أمروهم أن يؤدّوه إليكم و إلى أخلافكم، و هو أن تؤمنوا بمحمّد العربيّ القرشيّ الموصوف في كتبهم.

ص: 255


1- تفسير الرازي 29:3.
2- تفسير الرازي 29:3.
3- علل الشرائع: 2/43.

روي عن ابن عباس أنّ اللّه تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التّوراة: أنّي باعث من بني إسماعيل نبيّا امّيّا، فمن تبعه و صدّق [بالنور] الذي يأتي به - أي بالقرآن - غفرت له (1) ،إلى آخره.

إن قلت: لو كان هذا العهد ثابتا، فكيف يمكن جحده من جماعتهم ؟

قلت: يمكن أن يكون العلم بذلك كان حاصلا عند علمائهم فأخفوه عن العوامّ حفظا لرئاستهم، أو أوّلوا عبارة العهد كما أوّل العامّة نصّ الولاية.

أُوفِ بِعَهْدِكُمْ من النّعيم الأبد، و أعطكم الذي وعدتكم جزاء لإيمانكم به وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ

في مخالفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الخروج عن طاعته.

سورة البقرة (2): الآیات 41 الی 42

اشارة

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

سورة البقرة (2): آیة 41

ثمّ بعد تذكيرهم النّعمة و مطالبة الوفاء بالعهد و بيان جزائه، فسّر العهد بقوله: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ

من القرآن، حيث إنّكم ترونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التّوراة، فإنّ التوراة تشهد بأنّه حقّ ، لأنّها مبشّرة ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بكتابه، فالإيمان بالتّوراة مستلزم لتصديق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، و تكذيب القرآن تكذيب التّوراة، و في نسبة التّصديق إلى القرآن إظهار لشرفه و فضيلته على التّوراة، و توصيفه بكونه مصدّقا إقامة الحجّة عليهم في وجوب الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، لوضوح أنّ شهادة الكتب السّماويّة لا تكون إلاّ حقّا مضافا إلى أنّ إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بكون القرآن مصدّقا لما في التّوراة من الإخبار بالمغيّبات لتسالم الكلّ على عدم اطّلاعه بما في التّوراة بالقراءة و التعلّم.

ثمّ أردف الأمر بالإيمان الذي هو من المعروف، بالنّهي عن المنكر، بقوله: وَ لا تَكُونُوا أيّها اليهود أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ مع أنّ اللائق بكم أن تكونوا أوّل مؤمن به، فيتبعكم سائر اليهود و غيرهم من أهل الكتاب، لما ترون من صفات محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفات أصحابه و صفات كتابه مطابقا لما في التّوراة، و أنتم مع ذلك عالمون بشأنه و أهل النّظر في معجزاته و المستفتحون به.

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي و لا تأخذوا بدلا منها ثَمَناً و عوضا قَلِيلاً من الحطام الدنيويّة، و لا

ص: 256


1- تفسير الرازي 35:3.

تحرّفوا الآيات بعوض الأمتعة الدّنيئة و الهدايا القليلة، و في التوصيف بالقلّة إشعار بأنّ جميع ما يأخذون من الأثمان و لو كان كثيرا في جنب النعم الأخرويّة قليل غايته.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّ حيي بن أخطب، و كعب بن الأشرف و آخرين من اليهود كان لهم مأكلة على اليهود في كلّ سنة، فكرهوا بطلانها، فحرّفوا لذلك آيات من التّوراة فيها صفته و ذكره، فذلك الثّمن الذي أريد به في الآية »(1).

وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ في كتمان أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه عليه السّلام.

قيل: الفرق بين الرّهبة و الاتّقاء، أنّ الرّهبة: الخوف في معرض الضّرر و عند إمكان وقوعه، و الاتّقاء:

في مورد تيقّن الضّرر.

سورة البقرة (2): آیة 42

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ المنزل في التّوراة بِالْباطِلِ الذي تخترعونه، أو المراد: لا تلبسوا نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و دلائلها بالشّبهات الباطلة الّتي تلقونها بين النّاس وَ لا تَكْتُمُوا الْحَقَّ بالسّعي في أن لا يطّلع أحد على دلائله وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بأنّ ما تفعلونه كتمان للحقّ و مكابرة لعقولكم، أو تعلمون ما في إضلال الخلق من الضّرر العظيم، و فعل القبيح مع العلم بقبحه أقبح.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من كتم علما و هو يقدر على إظهاره و لا يمنعه التقيّة، الجم يوم القيامة بلجام من النّار »(2).

سورة البقرة (2): آیة 43

اشارة

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (43)

سورة البقرة (2): آیة 43

ثمّ بعد ما دعاهم إلى الإيمان بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعاهم إلى العمل بشريعته، بقوله: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ

المكتوبة في دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ آتُوا الزَّكاةَ زكاة المال و النّفس و الفطرة وَ ارْكَعُوا و تواضعوا لعظمة اللّه مَعَ الرّاكِعِينَ المتواضعين له. و المراد: صلّوا مع المصلّين جماعة و التعبير عن الصّلاة بالرّكوع لاختصاصه بشريعة الإسلام دون اليهود و النّصارى.

سورة البقرة (2): آیة 44

اشارة

أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

ص: 257


1- مجمع البيان 210:1.
2- بحار الأنوار 120/217:7.
سورة البقرة (2): آیة 44

ثمّ لمّا كان دأب علمائهم أن يأمروا بالبرّ و العبادات و الصّدقات، مع تركهم للعمل بها، وبّخهم اللّه تعالى و قرّعهم بقوله: أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ و الصّدقات و العبادات وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تغفلون عن حقّها، كأنّكم نسيتموها وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ و تقرءون اَلْكِتابَ و هو التّوراة الآمرة بالخيرات و الصّدقات، الناهية عن المنكرات أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنّ أنفسكم أحقّ بالأمر و النّهي، و عقابكم مع علمكم أشدّ من عقاب الجهّال!

روي عن أنس، قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «مررت ليلة اسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النّار، فقلت: يا أخي جبرئيل، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون النّاس بالبرّ و ينسون أنفسهم »(1).

إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان على جميع الناس.

و روي عن الصادق عليه السّلام قال: «من لم ينسلخ عن هواجسه و لم يتخلّص من آفات نفسه و شهواتها و لم يهزم الشيطان و لم يدخل في كنف اللّه و أمان عصمته لا يصلح للأمر(2) بالمعروف و النّهي عن المنكر، لأنّه إذا لم يكن بهذه الصّفة، فكلّ ما أظهر [أمرا] يكون حجّة عليه، و لا ينتفع النّاس به، قال اللّه تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ و يقال له: يا خائن، أ تطالب خلقي بما خنت به نفسك و أرخيت عنه عنانك »(3).

و لا يذهب عليك أنّ هذه الرّواية لا تكون مقيّدة لوجوب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، لأنّهما واجبان مطلقان على جميع الخلق.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به، و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه »(4).

بل يجب عليه تحصيل هذه الصّفات، فلو ترك الأمر بالمعروف لعدم وجود هذه الصفات فيه، لكان معاقبا على ترك العمل و ترك الأمر، كما أنّ من ترك العمل بالواجبات لعدم الإيمان الذي هو شرط في صحّة العمل، كان معاقبا على ترك الإيمان و العمل.

ص: 258


1- تفسير الرازي 47:3.
2- في مصباح الشريعة: له الأمر.
3- مصباح الشريعة: 18.
4- تفسير روح البيان 123:1.

سورة البقرة (2): الآیات 45 الی 46

اشارة

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

سورة البقرة (2): آیة 45

ثمّ إنّ اليهود لمّا كانوا مبتلين بمرض حبّ الدنيا، و الغفلة عن اللّه و الدّار الآخرة - و لذا كان تحمّل تكاليف الإسلام، و ترك الرئاسات، و الإعراض عن الجاه و المال شاقّا عليهم - بيّن اللّه دواء مرضهم بقوله: وَ اسْتَعِينُوا على تحمّل مشاقّ التّكاليف، و مخالفة الهوى بِالصَّبْرِ و كفّ النّفس عنها، أو بالصّوم الذي هو كاسر للشّهوات و مصفّ للنّفس وَ الصَّلاةِ التي هي ناهية عن الفحشاء، و معراج المؤمن، فإنّها موجبة لتوجّه القلب إلى اللّه و عظمته و جلاله، و حقوق نعمه و قهره و رحمته، فتسهّل طاعته و ترك معاصيه، لأنّه كلّما أقبل القلب إلى اللّه تعالى و الدّار الآخرة أعرض عن الدنيا و لذّاتها، و كلّما استنار القلب بذكر اللّه خرج من ظلمات هوى النّفس و شهواتها، و كلّما تفكّر في خروجه من الدنيا هانت عليه شدائدها و مصيباتها.

روي عن الصادق عليه السّلام: «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضّأ ثمّ يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو اللّه فيهما؟ أ ما سمعت اللّه يقول: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ..» (1).

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا حزبه(2) أمر فزع إلى الصّلاة(3).

و عن ابن عبّاس، أنّه نعي له بنت و هو في سفر فاسترجع، و قال: عورة سترها اللّه، و مئونة كفاها اللّه، و أجر ساقه اللّه. ثمّ تنحّى عن الطّريق و صلّى، ثمّ انصرف إلى راحلته و هو يقرأ: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (4).

وَ إِنَّها أي الاستعانة بهما، أو أنّ الصّلاة لَكَبِيرَةٌ و ثقيلة شاقّة على النّفوس إِلاّ عَلَى نفوس اَلْخاشِعِينَ الخائفين من عقاب اللّه و سطواته، فإنّ خوف العقاب يهوّن على العبد مشقّة التّكاليف.

سورة البقرة (2): آیة 46

ثمّ وصف الخاشعين بأنّهم اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ و يعتقدون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ محضرون في محضر عدله و حكومته وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ و إلى حكمه راجِعُونَ بعد الموت أو بعد الحشر، لا يملك أمرهم غيره، و التعبير بالرّجوع إليه مع أنّ الانسان لا يخرج في آن من الآنات عن حكم اللّه حتّى

ص: 259


1- تفسير العياشي 143/133:1، مجمع البيان 217:1.
2- حزبه الأمر: نابه و اشتدّ عليه.
3- تفسير روح البيان 124:1.
4- تفسير روح البيان 124:1.

يرجع إليه، لأنّه كان قبل ولادته تحت سلطنة اللّه في الظاهر و الواقع، فلمّا تولّد دخل في تربية والديه و غيرهما، و كان لهما و لغيرهما و لنفسه سلطنة عليه في الظاهر، ثمّ يرجع بعد الموت إلى سلطنة اللّه و حكمه كما كان قبل ولادته.

و قيل: إنّ الظّنّ هنا بمعناه، و المراد أنّهم يظنّون ملاقاة رحمة اللّه و الرجوع إلى رضوانه حيث إنّ المؤمن لا يعلم الوصول إلى رحمة اللّه إلاّ حين الموت و لا يزال خائفا من سوء العاقبة حتّى يأتيه اليقين.

سورة البقرة (2): الآیات 47 الی 48

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

سورة البقرة (2): آیة 47

ثمّ كرّر اللّه تذكير النعم تأكيدا للحجّة و تحذيرا من ترك اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا و اشكروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ قيل: هي النعمة التي أنعمها على أسلافهم من بعث موسى و هارون فيهم و هدايتهم إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و وصاية عليّ عليه السّلام و إمامة عترته الطّيّبين صلوات اللّه عليهم فإنّها فوق النعم و أولى بالامتنان عليهم، ثمّ بعدها ما أشار إليه بقوله: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ بسبب تفضيل آبائكم الأقدمين عَلَى الْعالَمِينَ و جميع أهل زمانهم بقبول ولاية محمّد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين و بتظليلهم الغمام، و إنزال المنّ و السّلوى، و تخصيصهم بسائر النعم العظام (1) ،حيث إنّ الإنعام على الآباء و تشريفهم بالنعماء موجب للشكر على الأبناء و تشريفهم، ثمّ قرّب اللّه تعالى الدّعوة بالوعيد.

سورة البقرة (2): آیة 48

و قيل: إنّ اليهود كانوا يقولون: نحن أولاد إبراهيم الخليل و إسحاق الذبيح، و هما يشفّعوننا في القيامة عند اللّه، فردّهم اللّه بقوله: وَ اتَّقُوا يا بني إسرائيل و احترزوا يَوْماً فيه حشركم و حسابكم و جزاؤكم، فإنّه يوم لا تَجْزِي و لا تكفي نَفْسٌ مؤمنة كانت أم كافرة عَنْ نَفْسٍ كافرة شَيْئاً يسيرا من الإجزاء كما قال اللّه: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ (2) بل قال: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (3) الآية.

ص: 260


1- تفسير الصافي 112:1.
2- الممتحنة: 3/60.
3- عبس: 34/80.

روي أنّ الوالد يتعلّق بولده يوم القيامة فيقول: يا بنيّ ، انّي أنا أبوك في الدنيا، و قد احتجت إلى مثقال حبّة من حسناتك لعلّي أنجو بها ممّا ترى. فيقول له ولده: إنّي أتخوّف مثل الذي تخوّفت أنت، فلا اطيق أن اعطيك شيئا. ثمّ يتعلّق بزوجته فيقول لها: يا فلانة، إنّي زوج لك في الدنيا (1) ،الخبر، و حاصل السؤال و الجواب قريب ممّا بينه و بين ولده.

وَ لا يُقْبَلُ مِنْها و في موردها إذا كانت كافرة شَفاعَةٌ من الشفعاء وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ

و فداء من مال و متاع لو فرض إمكانه وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و لا يعاونون في دفع العذاب و لا يحامون.

و الحاصل: أنّ جميع وجوه التخلّص من المكارة الدنيويّة. منقطع عنهم، حيث إنّها منحصرة في أربع:

أحدها: نيابة الغير عنه في تحمّلها.

و ثانيها: التّفدية بالمال.

و ثالثها: شفاعة الشفعاء.

و رابعها: نصرة الأنصار و دفاع الأحبّة، فلا يبقى للعاصي طمع النّجاة في الآخرة.

إن قيل: مقتضى هذه الآية أنّه لا تنفع شفاعة شفيع للعصاة يوم القيامة، مع أنّ ضرورة المسلمين؛ أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يشفع للعصاة من امّته، و أنّه الشّافع المشفّع، و ضرورة الإماميّة أنّ فاطمة عليها السّلام و الأئمّة يشفعون لعصاة شيعتهم، بل مقتضى كثير من الرّوايات أنّ العلماء أيضا يشفعون لمن استفاد علمهم، بل المؤمنين يشفعون بعضهم لبعض.

قلنا: لا بدّ من تخصيص هذه الآية و أمثالها بالكفّار و من في حكمهم من منكري الولاية و أهل البدع.

و في رواية عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية: «هذا يوم الموت فإنّ الشّفاعة و الفداء لا يغني عنه، فأمّا في القيامة فإنّا و أهلنا نجزي [عن] شيعتنا كلّ جزاء، ليكوننّ على الأعراف بين الجنّة و النّار محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطيّبون من آلهم، فنرى بعض شيعتنا في تلك العرصات، فمن كان منهم مقصّرا، و في بعض شدائدها، فنبعث عليهم خيار شيعتنا كسلمان و المقداد و أبي ذرّ و عمّار

ص: 261


1- تفسير روح البيان 127:1.

و نظرائهم في العصر الذي يليهم، ثمّ في كلّ عصر إلى يوم القيامة، فيقعون(1) عليهم كالبزاة و الصّقور، و يتناولونهم كما تتناول البزاة و الصّقور صيدها، فيزفّونهم إلى الجنّة زفّا، و إنّا لنبعث على الآخرين من محبّينا خيار شيعتنا كالحمام فيلقطونهم من العرصات كما يلقط الطّير الحبّ ، و ينقلونهم إلى الجنان بحضرتنا.

و سيؤتى بالواحد من مقصّري شيعتنا في أعماله بعد أن حاز الولاية و التقيّة و حقوق إخوانه، و يوقف بازائه ما بين مائة و أكثر من ذلك، إلى مائة ألف من النصّاب، فيقال له: هؤلاء فداؤك من النّار، فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنّة، و اولئك النصّاب النّار، و ذلك ما قال اللّه عزّ و جلّ : رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني بالولاية لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) يعني في الدنيا منقادين للامام (3) ،ليجعل مخالفوهم فداءهم من النّار »(4).

سورة البقرة (2): آیة 49

اشارة

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

سورة البقرة (2): آیة 49

ثمّ شرع اللّه تعالى في تعديد نعمه العظام عليهم و على آبائهم مفصّلا بقوله: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ

و اذكروا حين خلّصنا أسلافكم مِنْ تعدّيات آلِ فِرْعَوْنَ و ظلم أشراف قومه.

قيل: كان فرعون لقب ملك العمالقة، كما أنّ كسرى لقب ملك الفرس، و قيصر لقب ملك الروم، و خاقان لقب ملك التّرك، و النّجاشيّ لقب ملك الحبشة(5).

و قيل: اسم فرعون [موسى: هو] الوليد بن مصعب بن ريّان، و كان من القبط ، و عمّر أكثر من أربعمائة سنة (6) ،و كان اسم فرعون يوسف ريّان، و بينهما أربعمائة سنة(7).

ثم بيّن سبحانه أوّلا شدّة ظلم فرعون و آله إجمالا، بقوله: يَسُومُونَكُمْ و يعذّبونكم سُوءَ الْعَذابِ و شديدة، ثمّ فصّله ثانيا بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ و يكثرون القتل فيكم وَ يَسْتَحْيُونَ

ص: 262


1- في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: فينقضّون.
2- الحجر: 2/15.
3- في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: للإمامة.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 119/241.
5- تفسير روح البيان 128:1.
6- تفسير روح البيان 128:1.
7- تفسير روح البيان 128:1.

و يبقون نِساءَكُمْ لخدمتهم و ليكنّ إماء لهم وَ فِي ذلِكُمْ القتل و استحياء النّساء بَلاءٌ و محنة شديدة كائنة مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ و كبير عليكم.

و قيل: إنّ المراد من البلاء هنا العطاء و النعمة، و المعنى أنّ في ذلكم الإنجاء نعمة عظيمة عليكم من ربّكم(1).

سورة البقرة (2): الآیات 50 الی 52

اشارة

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

سورة البقرة (2): آیة 50

ثمّ ذكر النعمة الثانية بقوله: وَ إِذْ فَرَقْنا و شققنا بِكُمُ و لأجل عبوركم اَلْبَحْرَ الذي يقال له القلزم، أو اساف، و فصّلنا فيه اثني عشر مسلكا جافّا فَأَنْجَيْناكُمْ من القتل و الغرق وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ و قومه في البحر وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى غرقهم و هلاكهم.

سورة البقرة (2): آیة 51

ثمّ ذكر النعمة الثالثة بقوله: وَ اذكروا إِذْ واعَدْنا مُوسى و أمرناه أن يأتي الميقات و يقف فيه أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بأيّامها.

في نكتة تعيين عدد الأربعين للميقات

قيل: وجه تعيين عدد الأربعين، اختصاصه بالكمال، لأنّ مراتب الأعداد أربع: الآحاد، و العشرات، و المئات، و الالوف، و عدد العشرة في نفسها عدد كامل، كما قال اللّه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (2) و إذا ضعّفت العشرة أربع مرّات يكون أربعين، ففيه كمال فوق كمال(3).

فذهب عليه السّلام بأمر ربّه إلى الميعاد و استخلف هارون، ثُمَّ بعد ذهابه من بينكم يا بني إسرائيل اِتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلها مِنْ بَعْدِهِ و في غيبته وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ على أنفسكم حيث اعتقدتم أنّ ربّكم حلّ في العجل، و صار العجل حاويا له، مع أنّه متعال عن أن تسعه السّماوات و الأرض، بل هو على كلّ شيء محيط .

و في هذه الحكاية تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ممّا كان يشاهد من مشركي العرب و اليهود و النّصارى من

ص: 263


1- تفسير روح البيان 130:1.
2- البقرة: 196/2.
3- تفسير روح البيان 136:1، و فيه: و إذا ضعّفت العشرة أربع مرات و هو كمال مراتب الأعداد تكون أربعين و هو كمال الكمال.

الخلاف، و ممّا كان يعلم من أمر الخلافة بعده، فإنّ إعراض الأمّة عن وصيّه و خليفته بعد استخلافه إيّاه و تنصيصه على رءوس الأشهاد بولايته و إمامته و وصايته، ثمّ إقبالهم و تبعيّتهم لمن لم يكن له حظّ من العلم و النّسب و الحسب، ليس بأعجب و أفضع من اتّخاذ قوم موسى العجل إلها مع مشاهدة الآيات و المعجزات الظاهرات.

سورة البقرة (2): آیة 52

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي عن أسلافكم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الفعل الشّنيع، و هو عبادة العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لنعمة العفو التي أنعمنا بها على آبائكم، فانّها كانت نعمة عليكم، إذ لو عجّل في عقوبتهم لم يبق لهم نسل.

سورة البقرة (2): آیة 53

اشارة

وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

سورة البقرة (2): آیة 53

ثمّ ذكر النعمة الرابعة بقوله وَ اذكروا إِذْ آتَيْنا و أعطينا مُوسَى الْكِتابَ و هو التّوراة وَ

أعطيناه اَلْفُرْقانَ .

روي أنّه عهد الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه صلوات اللّه عليهم أجمعين، فمن آمن بهم بقلبه ظهر نور في جبهته(1).

و قيل: الفرقان: هي المعجزات الباهرات الفارقة بين المحقّ و المبطل(2).

و قيل: الكتاب و الفرقان واحد، فإنّ التّوراة جامعة بين [كونها كتابا] و بين الحجّيّة و التّفريق بين الحقّ و الباطل(1).

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى الحقّ بالنّظر في الآيات و التدبّر في الكتاب.

سورة البقرة (2): آیة 54

اشارة

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (54)

سورة البقرة (2): آیة 54

ثمّ ذكر النعمة الخامسة بقوله: وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل، شفقة عليهم: يا قَوْمِ اعلموا إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ و أضررتم أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ

ص: 264


1- تفسير روح البيان 134:1.

إلها، إذ حقّت عليكم كلمة العذاب.

ثمّ كأنّهم قالوا: فما نصنع إذن ؟ قال: إن اردتم العلاج فَتُوبُوا و ارجعوا إِلى بارِئِكُمْ و خالقكم الذي برّأكم من العيب و التّفاوت.

ثمّ كأنّهم قالوا: كيف نتوب ؟ فقال: إن عزمتم على التوبة فَاقْتُلُوا أيّها العابدون للعجل أَنْفُسَكُمْ بعضكم بعضا، أو غير العابدين العابدين، فإنّ خالقكم و موجدكم و مبرّئكم من العيوب في الخلق أمركم بالقتل، و رضي بإعدامكم لتبرءوا من الذنب العظيم، فإنّ ذلِكُمْ القتل و إن كان فيه ذهاب الحياة و زوال النعم الدنيوية، خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ من ابتلائكم بالعذابات(1) الاخرويّة الأبديّة.

ثمّ من نعم اللّه عليكم أنّه وفّقكم حتّى فعلتم ما امرتم به فَتابَ عَلَيْكُمْ قبل فناء جميع أسلافكم، و إلاّ لم يبق والد و لا ولد إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ و سريع القبول للإنابة، و هو اَلرَّحِيمُ بعباده، لا يرضى بضررهم و قتلهم إلاّ أن يكون لهم خيرا و لا بعذابهم إلاّ إذا لم يكونوا للعفو و الرّحمة أهلا.

قيل: كان عدّة بني إسرائيل ستّمائة ألفا. و قيل: ستمائة و عشرون ألف مقاتل، لا يعدّون منهم ابن العشرين لصغره، و لا ابن الستّين لكبره (2).و كان عدد عابدي العجل سبعين ألفا. و قيل: كان عدد غير العابدين اثني عشر ألفا(3).

سورة البقرة (2): الآیات 55 الی 56

اشارة

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

سورة البقرة (2): آیة 55

ثمّ ذكّرهم النعمة السادسة، بقوله: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ و لن نصدّقك في دعوى النبوّة و في أن التّوراة كتاب اللّه، و أنّ اللّه يكلّمك حَتّى نَرَى اللّهَ رؤية جَهْرَةً و ظاهرة فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ و أصابتكم النّار المحرقة النازلة مع الصّوت الهائل وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى نزولها إليكم.

قيل: كان القائلون [غير] السبعين الذين اختارهم موسى عليه السّلام لأن يذهبوا إلى الطّور للاعتذار عن

ص: 265


1- في النسخة: بالعذاب.
2- تفسير روح البيان 131:1.
3- تفسير الرازي 82:3.

عبادة العجل(1).

سورة البقرة (2): آیة 56

ثُمَّ بَعَثْناكُمْ و أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ و هلاككم(2) بالصّاعقة، و في هذه الآية دلالة صريحة على إمكان الرّجعة إلى الدنيا بعد الموت لَعَلَّكُمْ بإقراركم بالتّوحيد، و قيامكم بالطّاعة تَشْكُرُونَ نعمة الحياة بعد الموت.

قيل: ماتوا يوما و ليلة ثمّ بعثهم اللّه (3) ،و فيها ردّ على من يقول إنّ نعوت محمّد صلّى اللّه عليه و آله لو كان مخبرا [عنها] في التّوراة، لم يمكن إنكارها من أهل الكتاب، فإنّ أسلافهم مع مشاهدة المعجزات الباهرات قالوا: يا موسى لن نؤمن لك.. إلى آخره.

و فيها أيضا دلالة على امتناع الرّؤية، و كفر المجسّمة.

سورة البقرة (2): آیة 57

اشارة

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

سورة البقرة (2): آیة 57

ثمّ ذكّرهم النعمة السابعة بقوله: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ و جعلناه يظلّكم من الشّمس، و ذلك في التّيه وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ قيل: هو التّرنجبين، كان ينزل عليهم باللّيل، أو من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس، فيأكلونه وَ السَّلْوى و هو السّمانيّ . قيل: هو أطيب طير، فيصطادونه، أو كان يقع على موائدهم مشويّا، فاذا أكلوا و شبعوا طار عنهم.

فقلنا لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و لا تدّخروا منها شيئا، فكفروا و ظلموا و ما أدّوا حقّ النّعم وَ ما ظَلَمُونا بكفرهم و ادّخارهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ابتلوها بضرر سيّئاتهم، من استيجاب العذاب، و سلب النعم، حيث قطع عنهم الرّزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة في الدنيا، و لا حساب في الآخرة، و لم يضرّوا اللّه شيئا.

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ : وَ ما ظَلَمُونا قال: «إنّ اللّه أعظم و أعزّ [و أجلّ ] و أمنع من أن يظلم، و لكنّه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، و ولايتنا ولايته، حيث يقول: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا... (4) يعني الأئمّة »(5).الخبر. و توضيحه: أنّ اللّه قرن ولاية المؤمنين -

ص: 266


1- تفسير روح البيان 139:1.
2- في النسخة: و هلاكهم.
3- بحار الأنوار 247:13.
4- المائدة: 55/5.
5- الكافي 11/113:1.

و هم الأئمّة - الكاملين في الإيمان بولايته بشهادة الآية.

سورة البقرة (2): الآیات 58 الی 59

اشارة

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

سورة البقرة (2): آیة 58

ثمّ ذكّرهم النعمة الثامنة، بقوله: وَ اذكروا إِذْ قُلْنَا بتوسّط يوشع بن نون وصيّ موسى، لأسلافكم من بني إسرائيل حين خروجهم من التّيه: اُدْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ .

قيل: هي مدينة بيت المقدس: و قيل: قرية أريحا(1) من بلاد الشّام قريبة من تلك المدينة، فإذا دخلتم القرية فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ بلا تعب رَغَداً واسعا هنيئا وَ ادْخُلُوا الْبابَ الذي للقرية.

قيل: كان لمدينة بيت المقدس سبعة أبواب، و قد امروا أن يدخلوا من الثاني المعروف الآن بباب حطّة حال كونهم سُجَّداً للّه، شكرا على نجاتهم من التّيه.

و قيل: إنّ المراد الدخول راكعين متواضعين للّه.

وَ قُولُوا حِطَّةٌ و لعلّ المعنى أنّ مسألتنا من اللّه أن يحطّ ذنوبنا، فإن دخلتم بهيئة الرّكوع أو السّجود، و قلتم هذا القول نَغْفِرْ لَكُمْ و نستر عليكم خَطاياكُمْ السّالفة وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

ثوابا. قيل: هم الذين لم يفارقوا الذنوب.

سورة البقرة (2): آیة 59

فَبَدَّلَ و غيّر اَلَّذِينَ ظَلَمُوا و عصوا أمر اللّه قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فلم يسجدوا و لم يركعوا، بل رفعوا أستاههم، أو لم يقولوا: حطّة، و قالوا: حنطة حمراء، سخرية و استهزاء.

قال الفخر في تفسيره: ذكره نعمة قبول التّوبة في مقام الامتنان مناف لكونه واجبا على اللّه عقلا، لأنّه لا امتنان في الواجبات العقلية(2).

و فيه: أنّ وجوب التفضّل و الاحسان عليه لكونه جوادا لا يجوز عليه البخل، و منع التفضّل غير مناف للامتنان عقلا.

فَأَنْزَلْنا عقيب ذلك التّبديل عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتبديل كلام اللّه، أو بفعلهم خلاف

ص: 267


1- تفسير أبي السعود 104:1.
2- تفسير الرازي 90:3.

أمر اللّه رِجْزاً و عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و بسبب خروجهم عن طاعة اللّه.

قيل: مات بالطّاعون مائة و عشرون ألفا في بعض اليوم، و هم الذين كانوا في علم اللّه أنّهم لا يؤمنون، و لا يتوبون(1).

عن (العيّاشي): عن الباقر عليه السّلام قال: «نزل جبرئيل بهذه الآية: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا آل محمّد حقّهم غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا آل محمّد حقّهم رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » (2).

و المراد بإنزال جبرئيل هذه الآية هكذا، بيان تأويلها حين نزولها على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و انطباقها على ظالمي حقّ آل محمّد، لا أنّه كان جزءا للآية، فيكون مؤدّاها كما في الرواية السابقة: إنّ اللّه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمة.

سورة البقرة (2): آیة 60

اشارة

وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

سورة البقرة (2): آیة 60

ثمّ ذكّرهم النعمة التاسعة، بقوله: وَ اذكروا إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ حين عطشوا في التّيه و ضجّوا إليه بالبكاء فَقُلْنَا له بالوحي اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ المعهود الذي جاء به جبرئيل من الجنّة، و كان وقر بعير، على ما في الرواية(3).

قيل: كان عصا من آس الجنّة، طولها عشرة أذرع على طول موسى، و لها شعبتان تتّقدان في الظلمة نورا، حملها آدم، فتوارثها الأنبياء حتّى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى (4) ،فضربه بها داعيا بمحمّد و آله الطيّبين، كما في الرّواية(5).

فَانْفَجَرَتْ و انشقّت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً. قيل: كانت الحجر مربّعا، و انفجر من كلّ طرف منه ثلاثة عيون، لكلّ سبط عين(6).

ص: 268


1- تفسير الصافي 121:1.
2- تفسير العياشي 153/135:1.
3- الكافي 3/180:1.
4- تفسير روح البيان 146:1.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 129/261.
6- تفسير الرازي 95:3.

قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ و سبط مَشْرَبَهُمْ لا يزاحم الآخرين، و قال اللّه: كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّهِ الذي آتاكموه من المنّ و السّلوى، و الماء العذب وَ لا تَعْثَوْا و لا تعتدوا فِي الْأَرْضِ حال كونكم مُفْسِدِينَ عاصين لأوامر اللّه، أو مفسدين بالمبالغة في التّنازع على قسمة الماء، فإنّ لكلّ سبط يخرج بقدر حاجتهم من الماء ثمّ ينقطع.

و كان من معجزات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أيضا أنّه استسقى لقومه، روي أنّ أعرابيّا جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الجمعة، و قال: يا رسول اللّه، هلكت الكراع و المواشي، و أجدبت الأرض، فادع اللّه أن يسقينا. فرفع يديه و دعا، قال أنس: و السّماء كأنّها زجاجة ليس بها قزعة، فنشأت سحابة و مطرت إلى الجمعة القابلة(1).

سورة البقرة (2): آیة 61

اشارة

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)

سورة البقرة (2): آیة 61

ثمّ نبّههم على كمال لطفه به بإجابة مسئولهم مع ما هم عليه من غاية السّفه، بقوله: وَ اذكروا يا بني إسرائيل كفرانكم لنعمة اللّه إِذْ قُلْتُمْ أي قال أسلافكم: يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ

و غذاء واحِدٍ بالنّوع من المنّ و السّلوى، بل لا بدّ لنا من خلط معه، أو تبديل. و لعلّه لملالة طباعهم من الطّعام الواحد بسبب مداومتهم عليه، أو لتوهّم أنّ البقاء على النّهج الواحد موجب لاختلال مزاجهم. و الظاهر من قولهم: لن نصبر، هو الوجه الأوّل.

فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها كالكرّاث و غيره، وَ من قِثّائِها قيل:

هو أخضر(2) شبه الخيار وَ من فُومِها. عن (المجمع): عن الباقر عليه السّلام: «هو الحنطة »(3).

و قيل: هو الثّوم، بقرينة قوله بعده: وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها حيث إنّ العدس يطبخ بالثّوم و البصل.

قالَ لهم موسى تعجّبا و استنكارا منهم: أَ تَسْتَبْدِلُونَ و تعاوضون الطّعام اَلَّذِي هُوَ أَدْنى

ص: 269


1- تفسير روح البيان 148:1.
2- في النسخة: خضر.
3- مجمع البيان 252:1.

و أدون، و لعلّه من حيث المجموع، و إن كانت الحنطة أشرف بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ لكم و أنفع في الدنيا و الدّين، لأنّ ما اختاره اللّه لهم من الطّعام لا بدّ أن يكون أصلح من جميع الجهات، و عدم رضاهم بما رزقهم اللّه، و اتّباعهم شهوة أنفسهم، كان من مذامّ أخلاقهم.

و مع ذلك أجاب اللّه برحمته مسألتهم و قال: إن كنتم تريدون هذه الأشياء اِهْبِطُوا و انزلوا مِصْراً من الأمصار فَإِنَّ لَكُمْ فيه ما سَأَلْتُمْ من البقول و غيرها وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ بعد هذه الألطاف اَلذِّلَّةُ وَ الهوان بإلزامهم بالجزية، و شملتهم اَلْمَسْكَنَةُ و لازمهم الفقر و الفاقة.

قيل: إنّهم و لو كانوا أغنياء، يعيشون عيش الفقراء.

وَ باؤُ و رجعوا أو التجئوا بِغَضَبٍ عظيم، و لعنة دائمة كائنة مِنَ اللّهِ .

ثمّ بيّن سبحانه سبب ذلك العذاب و اللّعنة و هو أمران، أعظمهما ما فعلوه في حقّ اللّه، و لذا بدأ بذكره بقوله: ذلِكَ النّكال و الغضب معلّل بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ دائما بِآياتِ اللّهِ الباهرة، و ينكرون معجزات موسى، و قرآن محمّد صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ بعده ما فعلوه في حقّ الأنبياء، و لذا ثنّاه بقوله:

وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ كشعيب و زكريّا و يحيى و غيرهم، و هم يعلمون أنّ قتلهم يكون بِغَيْرِ الْحَقِّ

الموجب له.

عن ابن عبّاس: أنّه لم يقتل قطّ من الأنبياء إلاّ من لم يؤمر بقتال، و من امر بقتال نصر(1).

ثمّ ذكر سبب وجود الكفر و الطغيان منهم، بقوله: ذلِكَ الكفر و القتل بِما عَصَوْا اللّه في أفعالهم الراجعة إلى أنفسهم وَ بما كانُوا يَعْتَدُونَ في حقوق غيرهم، و يظلمون النّاس، فإنّ عصيانهم أحكام اللّه و اعتداءهم على عباده جرّهم إلى الكفر بآيات اللّه و قتل النبيّين لوضوح أنّ صغار الذنوب تؤدّي إلى كبارها.

عن (الكافي) و (العياشي): عن الصادق عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية، فقال: «و اللّه ما ضربوهم بأيديهم، و لا قتلوهم بأسيافهم، و لكن سمعوا أحاديثهم فأضاعوها، فاخذوا عليها فقتلوا، فصار قتلا و اعتداء و معصية »(2).

سورة البقرة (2): آیة 62

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ

ص: 270


1- تفسير روح البيان 151:1.
2- الكافي 6/275:2، تفسير العياشي 155/135:1.

اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

سورة البقرة (2): آیة 62

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

سورة البقرة (2): آیة 62

ثمّ إنّه لمّا ذكر اللّه تعالى ما حلّ بكفرة أهل الكتاب من النّكال و الغضب و العقوبة، أردفه بذكر ما للمؤمنين من الأجر و الثّواب العظيم، على عادته الجارية في الكتاب العزيز بأن كلّما ذكر العقوبة للكفّار، ذكر المثوبة للمؤمنين حتّى يعلم أنّه كما يجزي المسيء بإساءته، يجزي المحسن باحسانه، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بما جاء به وَ الَّذِينَ هادُوا و اتّخذوا دين اليهوديّة.

قيل: سمّوا بذلك لأنّهم بعد عبادة العجل و توبتهم منها، قالوا: إنّا هدنا، أو لنسبتهم إلى يهوذا(1).

وَ النَّصارى قيل: لقبوا بذلك لأنّهم كانوا يزعمون أنّهم يتناصرون في اللّه.

و عن (العيون) عن الرضا عليه السّلام: «أنّهم من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشّام نزلتها مريم و عيسى بعد رجوعهما من مصر »(2).

وَ الصّابِئِينَ القمى رحمه اللّه: إنّهم ليسوا من أهل الكتاب، و لكنّهم يعبدون الكواكب و النّجوم(3).

قيل: إنّهم سمّوا بالصابئين لأنّهم زعموا أنّهم صبئوا و خرجوا إلى دين الحقّ .

روي أنّه جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: لم سمّي الصابئون صابئين ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لأنّهم إذا جاءهم نبيّ أو رسول أخذوه و عمدوا إلى قدر عظيم فأغلوه حتّى إذا كان محميّ صبوه على رأسه حتّى يتفسّخ »(4) ،الخبر.

فخصوص مَنْ آمَنَ منهم بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ عملا صالِحاً مرضيّا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة حين يخاف الفاسقون، و يحزن المخالفون.

سورة البقرة (2): الآیات 63 الی 64

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)

ص: 271


1- تفسير الرازي 105:3.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 10/79:2.
3- تفسير القمي 48:1، تفسير الصافي 123:1.
4- تفسير روح البيان 153:1.
سورة البقرة (2): آیة 63

ثمّ ذمّهم سبحانه بغاية العصيان و التمرّد بقوله: وَ اذكروا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ و العهد الوثيق منكم أن تعملوا بالتّوراة التي أعطيتها موسى عليه السّلام فأبيتم قبول ذلك وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ.

قيل: أمر اللّه جبرئيل أن يقلع قطعة من جبل فلسطين، فرسخا في فرسخ على قدر عسكر بني إسرائيل، فقطعها و جاء بها فرفعها فوق رءوسهم.

و قيل: الطّور: هو الجبل المعروف الذي ناجى موسى عليه السّلام عليه ربّه، فقال لهم موسى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من التّوراة بِقُوَّةٍ و بجدّ و عزيمة.

عن (المحاسن): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، بقوّة في الأبدان أم بقوّة القلوب ؟ فقال:

«فيهما جميعا »(1).

و نقل أنّه قال لهم موسى عليه السّلام: إمّا أن تأخذوا بما امرتم به فيه، و إمّا أن القي عليكم هذا الجبل.

فألجئوا إلى قبوله كارهين إلاّ من عصمه اللّه عن العناد، فإنّه قبله طائعا مختارا، ثمّ لمّا قبلوه سجدوا و عفّروا، و كثير منهم عفّر خدّيه لا لإرادة الخضوع للّه، و لكن ينظر إلى الجبل هل يقع أم لا(2).

قيل: إنّ موسى جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الأخبار(3) و التكاليف الشّاقّة، فكبرت عليهم و أبوا قبولها، و كان ذلك بعد النّجاة من الغرق و قبل التّيه، فأمر جبرئيل فقطع الطّور من أصله و رفعه و ظلّله فوقهم، و قال لهم موسى: إن قبلتم و إلاّ القي عليكم، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم منها قبلوا و سجدوا، و جعلوا يلاحظون الجبل و هم سجود لئلاّ ينزل عليهم، فصارت عادة [في] اليهود لا يسجدون إلاّ على أنصاف وجوههم(4).

و قد منّ اللّه على امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أن حمل عليهم فرضا بعد فرض، و لم يفرض عليهم جملة، فإذا استقرّ في قلوبهم فرض عليهم الفرض الآخر، و أمّا بنو إسرائيل فقد فرض الفرائض عليهم دفعة واحدة، فشقّ عليهم فلم يقبلوا.

قال بعض: إنّ هذا غير جائز، لأنّه يجري مجرى الإلجاء بالإيمان، و هو ينافي التكليف.

قلنا: الإلجاء الذي يوجب سلب الإرادة و الاختيار ينافي التّكليف، و هذا الإلجاء غير موجب لسلب

ص: 272


1- المحاسن: 319/261.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 134/266، تفسير الصافي 124:1.
3- في تفسير روح البيان: الآصار.
4- تفسير روح البيان 154:1.

الاختيار، بل هو تخويف، كالتخويف بالعذاب الدنيويّ و الاخروي، بل هذا الانقياد كإيمان قوم يونس عليه السّلام لمّا رأوا العذاب.

وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ عن (المجمع): عن الصادق عليه السّلام: «و اذكروا ما في تركه من العقوبة »(1).

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المخالفة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ يعني تولّى أسلافكم و أعرضوا عمّا في التّوراة و عن الميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ العهد الوثيق، بأن كانوا يخالفون موسى عليه السّلام و يعترضون عليه و يلقونه بكلّ أذى، حتّى عوقب بعضهم بالخسف، و بعضهم بالطّاعون، و بعضهم بالنّار، مع مشاهدتهم المعجزات الباهرات.

ثمّ فعل متأخّروهم ما فعلوا من تحريف التّوراة، و قتل الأنبياء، و عبادة الأصنام، فلا عجب في إنكارهم ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله من الكتاب و المعجزات، و جحودهم لحقّه.

فَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ أيّها الحاضرون في هذا العصر، بإمهالكم للتوبة، و عدم أخذكم بالعذاب بغتة لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الهالكين المغبونين البائعين أنفسهم بنار جهنّم.

سورة البقرة (2): الآیات 65 الی 66

اشارة

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

سورة البقرة (2): آیة 65

ثمّ لمزيد تنبّههم بفضل اللّه عليهم، نبّههم بقصّة بعض الخاسرين الذين لم يمهلهم اللّه، بقوله:

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ حال اَلَّذِينَ اعْتَدَوْا و عصوا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ لمّا اصطادوا السّموك فيه، حيث أخذتهم بغتة فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً و كونوا خاسِئِينَ صاغرين مطرودين، و هذا الأمر أمر تكوين لا تكليف، و قد يعبّر عن الإرادة التكوينيّة في مقام الحكاية بالأمر.

نقل أنّه لمّا أبى المجرمون قبول النّصح، قال النّاهون: و اللّه لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسّموا القرية بجدار و صيّروها بذلك ثنتين، فلعنهم داود و غضب اللّه عليهم [لإصرارهم على المعصية]، فمسخوا ليلا. فلمّا أصبح الناهون أتوا أبوابها فإذا هي مغلقة لا يسمع منها صوت، و لا يعلو منها دخان، فتسوّروا الحيطان و دخلوا فرأوهم قد صار الشبّان قردة، و الشّيوخ خنازير لها أذناب، يتعاوون(2).

ص: 273


1- مجمع البيان 262:1.
2- تفسير روح البيان 156:1.
سورة البقرة (2): آیة 66

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة تلك المسخة بقوله: فَجَعَلْناها أي المسخة نَكالاً و عقوبة لِما بَيْنَ يَدَيْها من ذنوبهم الموبقات، أو عبرة للامم، بأن صارت الامّة الممسوخة عبرة للسّالفة، حيث أخبر بها أنبياؤهم، و جعلناها رادعة وَ ما خَلْفَها من الذين شاهدوهم بعد مسخهم، و من الّذين يسمعون القضيّة و المسخة من بعدها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فهذه العقوبة كانت لهذه المصالح لا للتّشفّي.

سورة البقرة (2): الآیات 67 الی 73

اشارة

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

سورة البقرة (2): آیة 67

ثمّ ذكّرهم بنعمة عظيمة اخرى على أسلافهم، و هي أنّه قتل قتيل فيهم و لم يعلموا قاتله، و لمّا كانت هذه الواقعة عظيمة عندهم، و عارا و عزما على أكثرهم، سألوا موسى عليه السّلام أن يدعو اللّه فيكشف عن القاتل، فدعا اللّه عزّ و جلّ ، ثمّ أخبرهم بما حكاه اللّه تعالى، بقوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً و تضربوا ببعضها المقتول بين أظهركم ليقوم حيّا و يخبركم بقاتله قالُوا

إنكارا و تعجيبا: أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً و تسخر منّا؟ كيف يمكن أن يحيا ميت بضرب ميت به ؟

قالَ موسى عليه السّلام: أَعُوذُ بِاللّهِ و أستجير به من أَنْ أَكُونَ مِنَ زمرة اَلْجاهِلِينَ فإنّ السّخرية من السّفه و الجهل، و الافتراء على اللّه من عمل الجاهل بعظمته و سطوته.

سورة البقرة (2): آیة 68

فلمّا علموا أنّهم قد أخطئوا فيما توهّموا من الهزء قالُوا: يا موسى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ

و يوضّح لَنا أنّ البقرة التي أمرنا بذبحها ما هِيَ و ما صفتها حتّى تتبيّن لنا؟ قالَ موسى عليه السّلام،

ص: 274

بعد ما سئل، و راجع ربّه و جاءه الوحي من اللّه: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا هي فارِضٌ كبيرة قاطعة عمرها وَ لا بِكْرٌ صغيرة، بل عَوانٌ و وسط بَيْنَ ذلِكَ الكبيرة و الصغيرة، و هو أكمل أحوالها.

و تذكير الإشارة و إفرادها مع تأنيث المرجع و تعدّده، لكونه إشارة إلى المذكور.

ثمّ قال: إذا علمتم صفتها فَافْعَلُوا و امتثلوا ما تُؤْمَرُونَ به. فلمّا عرفوا السنّ سألوا عن اللّون،

سورة البقرة (2): آیة 69

و قالُوا: يا موسى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها من الألوان، و ما كيفيّة لونها؟ قالَ

موسى عليه السّلام لهم: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ هذا أصل اللّون، و أمّا كيفيّته فإنّه فاقِعٌ لَوْنُها شديدة صفرتها تَسُرُّ النّاظِرِينَ إليها لبهجتها و حسنها.

سورة البقرة (2): آیة 70

قيل في كيفية لونها: إنّها كانت إذا نظر أحد إليها خيّل إليه أنّ شعاع الشّمس يخرج من جلدها.

ثمّ سألوا موسى زيادة توصيف للبقرة حتّى يكونوا أهدى إليها، و قالُوا: يا موسى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ و يزيد لنا في صفتها، حيث إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا و لم يتّضح عندنا كمال الوضوح وَ إِنّا إِنْ شاءَ اللّهُ بعد التّبيين لَمُهْتَدُونَ إليه.

و في [الحديث] النّبويّ : «لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد »(1).

سورة البقرة (2): آیة 71

قالَ موسى عليه السّلام بعد مراجعة ربّه: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ للكراب كي تُثِيرُ الْأَرْضَ

و تقلّبها للزّراعة وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ و البستان بالدّوالي و النّواعير، و صفتها الاخرى أنّها بقرة مُسَلَّمَةٌ من جميع العيوب، و الاخرى أنّها لا شِيَةَ و لا لون غير الصّفرة فِيها روي أنّها كانت صفراء الأظلاف و القرون(2).

فاقتصروا بهذا التعريف، و قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ و حقيقته، و تبيّنت البقرة.

عن (العياشي) عن الرّضا عليه السّلام: «لو عمدوا إلى أيّ بقرة أجزأهم، و لكن شدّدوا فشدّد اللّه عليهم »(3).

فَذَبَحُوها بعد اشترائها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ لغلاء ثمنها، و لخوف الفضيحة بالقتل، و لكنّ اللّجاج و حرصهم على اتّهامهم موسى عليه السّلام حملهم على فعله.

سورة البقرة (2): آیة 72

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً قيل: كان شيخا موسرا، قتله بنو عمّه طمعا في ميراثه - و في رواية: حسدا (4) ،كما

ص: 275


1- تفسير البيضاوي 68:1، تفسير الصافي 127:1.
2- تفسير الرازي 121:3، و فيه: صفراء القرون.
3- تفسير العياشي 161/137:1، تفسير الصافي 127:1.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 274.

يأتي - فطرحوه على باب المدينة، أو حملوه إلى قرية اخرى و ألقوه بفنائها، ثمّ جاءوا يطالبون بديته، كذا قالوا. و تأخير ذكر القتل و التّنازع فيه مع كونه مقدّما على الأمر بذبح البقرة، لكونه المقصود المهمّ من الحكاية.

فَادّارَأْتُمْ و تنازعتم فِيها و أردتم أن تدفعوا القتل عن أنفسكم وَ اللّهُ مُخْرِجٌ و مظهر لكم ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ و تسترون من أمر قاتله لترتفع الفتنة و الفساد.

قيل: إنّ الأمر بذبح البقرة مع قدرة اللّه على إحياء الموتى بغير الأسباب، كان لمصالح، منها: امتحان بني اسرائيل ببذل مال كثير. حيث روي أنّ البقرة لم توجد إلاّ عند شابّ من بني إسرائيل، فقالوا له:

بكم تبيع بقرتك ؟ قال: بدينارين، و الخيار لأمّي. قالوا: رضينا بدينار. فسألها، فقالت: بأربعة. فأخبرهم، فقالوا: نعطيك دينارين. فأخبر امّه، فقالت: ثمانية. فما زالوا يطلبون [على النصف] ممّا تقول امّه، و يرجع إلى امّه فتضعف الثمن، حتّى بلغ ثمنها ملء مسك ثور أكثر ما يكون ملؤه(1) دنانير، فأوجبت لهم البيع ثمّ ذبحوها(2).

و منها: وصول مال كثير إلى الشابّ المطيع لوالده أو والدته.

و منها: أنّ الحجّة على بني إسرائيل بهذا النّحو من الإحياء تكون أوكد.

في إحياء القتيل بضربه ببعض البقرة، و الاستدلال بتلك القضية على صحّة الحشر في الآخرة.

سورة البقرة (2): آیة 73

فَقُلْنا اضْرِبُوهُ أي الميت بِبَعْضِها أي ببعض البقرة، فضربوه بها، فقام الميّت سويّا سالما، و قال: يا نبيّ اللّه قتلني ابنا عمّي، حسداني على بنت عمّي، فقتلاني و ألقياني في محلّة هؤلاء ليأخذا ديتي، فأخذ موسى عليه السّلام الرجلين فقتلهما، هكذا روي(3).

و قال بعض في قوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها تنبيه على أنّ من أراد إحياء قلبه لم يتأتّ له إلاّ بإماتة نفسه، فمن أماتها بأنواع الرياضات، أحيا اللّه قلبه بأنوار المشاهدات(4).

عن (العياشي): عن الرّضا عليه السّلام: «أنّ اللّه أمرهم بذبح بقرة، و إنّما كانوا يحتاجون لذنبها [فشدّدوا] فشدّد اللّه عليهم »(5).

ص: 276


1- في النسخة: ملاء، و ما أثبتناه من تفسير العسكري عليه السّلام.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 278.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 278، تفسير الصافي 129:1.
4- تفسير روح البيان 163:1.
5- تفسير العياشي 162/138:1.

كَذلِكَ الإحياء الذي علم به المنكرون للحشر في هذا الميت في الدنيا يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى في الآخرة، و هذا من أتمّ الدلائل على صحّة الحشر و الإعادة بعد الموت، حيث إنّه بضرب الميت بالميت، إذا حيي الميت (1) ،فبإنزال مطر يكون طبعه طبع النطفة على تراب الأجساد كانت الحياة أولى كما حيي في بدو الخلقة.

فإن قيل: هذا الاستدلال لا يتمّ على المشركين المنكرين للبعث إلاّ إذا ثبتت عندهم هذه الواقعة.

قيل: يتمّ بكونها متواترة، و كونها مدلولة لهذه الآيات الباهرات، فلا مجال لهم لإنكار وقوعها، فكان عليهم أن يعترفوا بإحياء جمع كثير من الأوّلين و الآخرين بعد علمهم بوقوع إحياء ميت واحد بقدرة اللّه سبحانه، و يحتمل أن بعد إحياء الميت قال اللّه لبني إسرائيل: كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى فاستدلّ به على ما حكمت به العقول، و أخبر به الرّسول من إمكانه و وقوعه، كما وقع نظير ذلك لإبراهيم عليه السّلام بعد سؤاله كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (2).

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالّة، من هذه الآية و غيرها، على التّوحيد و النبوّة و المعاد، بل هذه الآية بمنزلة الآيات المتعدّدة لدلالتها على جميع ما ذكر، أمّا بالنّسبة إلى بني إسرائيل و نبوّة موسى عليه السّلام فواضح، و أمّا بالنّسبة إلى نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلكون إخباره بهذه الواقعة إخبارا بالغيب، لوضوح كونه امّيّا غير مطّلع على الكتب إلاّ بالوحي.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تتفكّرون أنّ من هو قادر على إحياء نفس واحدة، قادر على إحياء الأنفس الكثيرة، أو لكي يكمل عقلكم فتعلموا ذلك.

سورة البقرة (2): آیة 74

اشارة

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (74)

سورة البقرة (2): آیة 74

ثُمَّ قَسَتْ و غلظت قُلُوبُكُمْ أيّها اليهود، حتّى خرجت عن قابليّة التأثّر بمطالعة الآيات و الدلائل، بسبب شدّة العناد و اللّجاج، و غاية التوغّل في الكفر و الفساد، بعد أن كانت قابلة لقبول كلّ

ص: 277


1- كذا، و لعل في العبارة تقديما و تأخيرا، هكذا: حيث إنه إذا حيي الميت بضرب الميت بالميت،....
2- البقرة: 260/2.

حقّ ، و الانقياد لكلّ خير.

مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المذكور من إحياء الميّت، و مسخ القردة، و رفع الجبل، و غيرها من الآيات في زمن موسى عليه السّلام و المرئيّ من المعجزات الباهرات من محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فَهِيَ في الغلظة و اليبوسة كَالْحِجارَةِ لا يرجى منها خير، و لا يترشّح منها نفع أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً و غلظة، و لعلّ الإبهام على السامعين لاختلاف قلوبهم في القساوة، أو لأنّ الحكم بعد التّرديد و التبيين بهذا الإبهام أشدّ تأثيرا في قبول السّامع، فكأنّه قال: أحكم بأنّ قلوبهم أشدّ قسوة.

قيل: هذا التعبير أدلّ على فرط القسوة من التعبير بأنّ قلوبهم أقسى(1).

ثمّ أنّه سبحانه علّل حكمه بكون قلوبهم أشدّ قساوة و أصلب، بأنّ للحجارة منافع متعدّدة بخلاف قلوبهم، و ذكر أوّلها بقوله: وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ و ينفتح منه الماء الكثير الذي فيه كلّ خير من حياة الحيوان و النّبات.

و ذكر ثانيها بقوله: وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ القليل، و لا يرجى من قلوبكم الخير الكثير و لا القليل.

وَ إِنَّ مِنْها أي من الحجارة، إذا اقسم عليها باسم اللّه لَما يَهْبِطُ و ينزل من العالي إلى السّافل مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ و خوفه، و قلب الكفّار مع شعور الانسانيّة لا يتأثّر بالخوف من اللّه و عقابه، مع الإبلاغ في الإنذار و الوعظ و التوعيد و التهديد من اللّه و رسوله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ (2).

في أنّ الوجود ملازم للشّعور، و لكلّ موجود شعور و خشية و تسبيح و تحميد

و الظاهر من هذه الآية و عدّة آيات اخر، و كثير من الرّوايات، كرواية تسبيح الحصاة في كفّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسليم الجمادات عليه (3) ،و حنين الجذع، أنّ للجمادات مرتبة من الشّعور و الإدراك و الخوف من اللّه و عقابه، بل لكلّ خضوع و تسبيح و انقياد للّه، و معرفة و اعتراف به و بأوليائه، و قد مرّ أنّه لا يبعد عند العقل أن يكون الوجود ملازما للإدراك، كما نرى في كثير من النباتات.

و الحاصل: أنّ مراتب الإدراك تختلف باختلاف مراتب الوجود، كلّما قوي قوي، و كلّما ضعف

ص: 278


1- تفسير روح البيان 164:1.
2- الحشر: 21/59.
3- الخرائج و الجرائح 46:1-58/47 و 59 و 60، البداية و النهاية 138:6.

ضعف، و أوّل المراتب ما يدرك به صانعه و مفزعه و المهيمن عليه، فيحصل له خضوع و انقياد و خشية من سلب النعمة و انقطاع الفيض عنه، و يمكن أن يستفاد من الآية أنّ كلّ حجر يسقط من مكان بلا سبب ظاهر، يكون سقوطه بتأثير خشية اللّه فيه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في رواية، قال: «إنّ أبعد النّاس من اللّه القلب القاسي »(1).

و حاصل مدلول الآية، أنّ الحجر تحرّكه الخشية، و القلب القاسي لا يتحرّك بالإنذار و التخويف.

وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة من أعمالكم يا معاشر أهل الكتاب، و يجازيكم عليها، إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ.

سورة البقرة (2): آیة 75

اشارة

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)

سورة البقرة (2): آیة 75

ثمّ لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه حريصين على إيمان النّاس خصوصا اليهود، و هم كانوا في غاية اللجاج مع تلك الحجج الباهرة، قال اللّه تعالى تسلية لقلب حبيبه صلّى اللّه عليه و آله، و قطعا لطمع المؤمنين في إيمانهم: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا هؤلاء اليهود لَكُمْ و ينقادوا لدعوتكم، و يصدّقوكم بقلوبهم وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ في زمان موسى عليه السّلام يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ في طور سيناء ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ

و يغيّرونه مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ و فهموه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّه كلام اللّه، و أنّهم كاذبون في تقوّلهم، مع أنّ هؤلاء كانوا خيارهم، فكيف حال بقيّتهم! مع أنّهم في اللجاج و العناد لا يقصرون منهم، بل يزيدون عليهم، فلا تحزنوا من إصرارهم على الكفر.

روي أنّ فريقا من السّبعين الذين اختارهم موسى عليه السّلام لميقات ربّه، سمعوا كلام اللّه حين كلّم موسى عليه السّلام بالطّور، و ما امر به موسى عليه السّلام، و ما نهي عنه، ثمّ قالوا: سمعنا اللّه يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، و إن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس(2).

فإذا كان أسلافهم بهذه المرتبة من الخباثة و الأخلاق الذميمة، فأخلافهم مماثلون لهم، و لا يتأتّى منهم إلاّ ما أتى من أسلافهم، فلا يرجى منهم الإيمان بما أنزل اللّه لدعوتكم.

ص: 279


1- سنن الترمذي 2411/607:4، تفسير روح البيان 165:1.
2- تفسير روح البيان 166:1.

سورة البقرة (2): الآیات 76 الی 78

اشارة

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76) أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77) وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ (78)

سورة البقرة (2): آیة 76

ثمّ أكّد سبحانه غاية حمقهم و لجاجهم بقوله: وَ إِذا لَقُوا و صادفوا هؤلاء المنافقون المطّلعون على التّوراة الأشخاص اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله عن صميم القلب، كسلمان و أضرابه قالُوا

نفاقا آمَنّا بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كإيمانكم، لمّا اطّلعنا على نعوته في كتبنا.

وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ بعد ما نافق المؤمنين بإخبارهم بما في التّوراة من علائم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نعوته إِلى بَعْضٍ لم يعترف بذلك، و كتم نعوته فيها، اعترض الساكتون على المنافقين و قالُوا إنكارا عليهم: أَ تُحَدِّثُونَهُمْ و تخبرونهم بِما فَتَحَ اللّهُ و كشفه عَلَيْكُمْ من صفات محمّد صلّى اللّه عليه و آله و علائمه في التّوراة لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ يوم القيامة عِنْدَ رَبِّكُمْ و يقولوا: إن علمتم بدلائل صدقه، فلم لم تؤمنوا به ؟ أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنّ ما في التّوراة من أوصاف محمّد صلّى اللّه عليه و آله حجّة عليكم ؟

سورة البقرة (2): آیة 77

ثمّ ردّ اللّه عليهم بقوله: أَ يلومونهم على التّحديث وَ لا يَعْلَمُونَ اللائمون لمخافة المحاجّة أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من الكفر و عداوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ ما يُعْلِنُونَ من الإيمان به، فلا ينفعهم اللّوم و العتاب و السّرّ و الكتمان.

سورة البقرة (2): آیة 78

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ الذين لا يعرفون الكتابة و القراءة، و لأجل امّيّتهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ من التّوراة و غيرها إِلاّ أَمانِيَّ و ما يسمعونه من مفتريات علمائهم.

في جواز تقليد العالم الصائن لدينه في الفروع دون الأصول

وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ كونه حقّا بتقليد علمائهم المحرّفين لكلمات اللّه، المغيّرين لأحكامه، و مع عدم يقينهم يتديّنون به، مع أنّ التّقليد محرّم عليهم في اصول العقائد، لأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ ، و الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا، مع أنّهم كانوا يعرفون علماءهم بالتحريف و التغيير و الكذب، فيكون إيمان علمائهم و عوامّهم بالحقّ في غاية البعد، أمّا علماؤهم فلانغمارهم في محبّة الرّئاسة و المال، و أمّا عوامّهم فلالتزامهم بتقليد هؤلاء.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال، له رجل: فإذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم، لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمّهم بتقليدهم و القبول من علمائهم ؟ و هل

ص: 280

عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم ؟ فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال عليه السّلام: «بين عوامّنا و علمائنا، و بين عوامّ اليهود و علمائهم فرق من جهة، و تسوية من جهة. أمّا من حيث استووا فإنّ اللّه قد ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامّهم، و أمّا من حيث افترقوا، فلا».

قال: بيّن لي ذلك يا ابن رسول اللّه.

قال عليه السّلام: «إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّراح و بأكل الحرام و الرّشا و تغيير الأحكام عن واجبها بالشّفاعات و العنايات و المصانعات، و عرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به إيمانهم (1) ،و إنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه، و أعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم، و ظلموهم من أجلهم، و عرفوهم [بأنّهم] يقارفون المحرّمات، و اضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللّه و لا على الوسائط بين الخلق و بين اللّه.

فكذلك ذمّهم لما قلّدوا من قد عرفوا و من قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره و لا تصديقه في حكايته و لا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه، و وجب عليهم النّظر بأنفسهم في [أمر] رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى و أشهر من أن لا تظهر لهم»(2) إلى آخره.

فإن قيل: كيف أمر اللّه أهل الكتاب في مقام المحاجّة عليهم بالسؤال عن علمائهم بقوله في غير موضع من كتابه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (3) مع كون علمائهم معاندين للحقّ ، محرّفين للكتاب ؟

قلت: لم يكن جميعهم بهذه الأوصاف، بل أغلبهم كانوا كذلك، و أمّا الأمر بالسؤال في الاحتجاج، فإنّما هو عن المأمونين عن الكذب، المعروفين عندهم بالصّلاح و السّداد.

إن قيل: إنّ السؤال منهم ليس إلاّ التّقليد المفيد للظّنّ الذي لا يغني في الاصول، بل هو محرّم إجماعا؟

قلت: إنّما السؤال المأمور به هو ما يكون مقدّمة لحصول العلم و اليقين، فإنّه لا شبهة أنّ إخبار

ص: 281


1- في تفسير العسكري عليه السّلام: أديانهم.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 143/299.
3- الأنبياء: 7/21.

جماعة من أهل العلم المأمونين عن الكذب بأمر، سيّما مع انضمامه بأمارات اخر مورث للعلم به، و اليقين بتحقّقه. و هذا في الحقيقة من الاجتهاد اللاّزم في الاصول.

سورة البقرة (2): آیة 79

اشارة

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ (79)

سورة البقرة (2): آیة 79

ثمّ شرع اللّه تعالى في تهديد المحرّفين للتّوراة بقوله: فَوَيْلٌ و هو واد في جهنّم - كما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و عذاب أليم كما عن ابن عبّاس (1)- معدّ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ المحرّف بِأَيْدِيهِمْ

و بمباشرتهم بحيث لا يمكنهم إنكاره ثُمَّ يَقُولُونَ : لعوامّهم هذا المكتوب من جملة التوراة النازلة مِنْ عِنْدِ اللّهِ .

روي أنّ أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلهم و زوال رئاستهم حين قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة، فاحتالوا في تعويق أسافل اليهود عن الايمان، فعمدوا إلى صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في التوراة، و كانت فيها: حسن الوجه، جعد(2) الشعر، أكحل العينين، ربعة - أي متوسّط القامة - فغيّروها، و كتبوا مكانها: طوال، أزرق، سبط الشعر، فإذا سألهم سفلتهم قرءوا عليهم ما كتبوا (3).و قالوا: إنّ صفات النبيّ الموعود مغايرة لصفات محمّد.

و في رواية: قالوا: إنّه(4) عظيم الجثّة و البطن، أصهب الشعر، و محمّد بخلافه، و إنّه يجيء بعد خمسمائة سنة(5).

لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً من المال و الرئاسة على الضعفاء، و لأن لا يتحمّلوا مئونة خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هذا من نهاية شقاوتهم، و غاية دناءتهم حيث رضوا بتحمّل العذاب الشديد الدائم الأجل، لأجل حبّ المال القليل الزائل، و الجاه الوبيل العاجل.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر استحقاقهم الويل لكتابة الكتاب و تحريفه، و افترائهم على اللّه، و أخذهم الأموال، و كان مجال توهّم أنّ الاستحقاق يكون بسبب مجموع الامور، أعاد ذكر الويل لكلّ واحد

ص: 282


1- تفسير الرازي 140:3.
2- في تفسير أبي السعود: حسن.
3- تفسير أبي السعود 120:1.
4- زاد في تفسير العسكري عليه السّلام: طويل.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 145/302.

منها، و بيّن أن كلا منها سبب مستقلّ لاستحقاقه، بقوله: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ حيث إنّه سبب لإضلال النّاس، باق في الدنيا وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ به من المال الحرام و الرئاسة الباطلة، و المعاصي العظيمة.

سورة البقرة (2): الآیات 80 الی 81

اشارة

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)

سورة البقرة (2): آیة 80

ثمّ أشار سبحانه إلى بعض مفترياتهم الذي صار سببا لجرأتهم على اللّه بقوله: وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ في الآخرة إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قليلة.

قيل: المراد بها الأيّام التي عبد فيها العجل، و هي سبعة أيّام على قول (1) ،أو أربعون على آخر(2).

و قالوا: ثمّ نصير بعدها في النّعمة الدائمة، فلا ينبغي أن نتحمّل مكروه تبعيّة محمّد و ذلّها في الدنيا للاحتراز عن العذاب في الأيّام القليلة التي تفنى و تنقضي.

فردّ اللّه عليهم بقوله: قُلْ يا محمّد توبيخا لهم و إنكارا عليهم أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً أنّ عذابكم على الكفر منقطع غير دائم، فإن اتّخذتم هذا العهد فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أبدا، لأنّ خلف العهد و الوعد قبيح لا يصدر من الحكيم إلاّ مع الحاجة و الضّرورة أو الجهل بقبحه، و كلّها نقص و عيب، و الذّات القادرة المحيطة بجميع الكائنات مبرّئ من جميع النقائص و مستجمع لجميع الكمالات بلا شكّ و ريب، فإن ادّعيتم أنّ اللّه تعالى عهد إليكم بهذا فأنتم كاذبون.

أَمْ تَقُولُونَ مفترين عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنّه من اللّه.

روي أنّهم إذا مضت المدّة عليهم في النّار، يقول لهم خزنة جهنّم: يا أعداء اللّه، ذهب الأجل، و بقي الأبد (3) ،فأيقنوا بالخلود.

سورة البقرة (2): آیة 81

بَلى العذاب الدائم ثابت لكم، حيث إنّ : مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً و خطيئة وَ أَحاطَتْ بِهِ

و اشتملت عليه خَطِيئَتُهُ بظلمتها و نكبتها، و استولت على قلبه و لسانه و جميع جوارحه حتّى

ص: 283


1- تفسير الرازي 141:3.
2- جوامع الجامع: 18، الدر المنثور 207:1.
3- أسباب النزول الواحدي: 18.

أخرجته من دين اللّه، و نزعته عن ولايته تعالى، و أبعدته من رحمته سبحانه، و أوقعته في خذلانه، و هو الشّرك باللّه، و الكفر بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ولاية أوصيائه المعصومين فَأُولئِكَ المحاطون بتلك السيّئة أَصْحابُ النّارِ و ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ لا خلاص لهم منها أبدا، و لا يجدون عنها مصرفا، فإنّ ملازمة الكفر مستلزمة لملازمة العذاب.

عن (التوحيد): عن الكاظم عليه السّلام: «لا يخلّد اللّه في النّار إلاّ أهل الكفر و الجحود، و أهل الضّلال و الشّرك »(1).

و عن (الكافي) عن أحدهما عليهما السّلام، قال: «إذا جحدوا إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام فاولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون »(2).

في أنّ تعذيب الكافر أبدا لكفره في المدة القليلة جائز و ليس بظلم

فإن قيل: كيف يجوز تعذيب الكافر بالعذاب الدائم لكفره مدّة قليلة من العمر، بل ساعة، و هل هذا الاّ ظلم، تعالى عن ذلك ؟

قلت: قد مرّ سابقا أنّ عظمة المعصية بمقدار عظمة المعصيّ و كثرة حقوقه و نعمه، فإذا كانت عظمة المعصيّ و نعمه بلا نهاية، فعظم معصيته و لو كان بغير الكفر بلا نهاية، و مقدار العذاب و استحقاقه بمقدار عظمة المعصية.

فلو عذّبنا اللّه تعالى لأصغر معاصيه بالعذاب الدائم ما ظلم و ما تعدّى عن حدّ استحقاقنا، فكلّما خفّف أو عفا فبفضله و رحمته، و أمّا حسن العفو فيعتبر فيه قابليّة المحلّ ، فإذا أخبر اللّه بخلود الكافر، علمنا بخروجه عن قابليّة العفو، فلذا يعذّب بالعذاب الدائم، بخلاف سائر المعاصي فإنّه يبقى معها قابليّة العفو إمّا ابتداء أو بعد التوبة، أو مع الشّفاعة، أو بعد بعض الأعمال الصالحة.

و في بعض الروايات: أنّ الخلود في النّار بسبب نيّة الكافر أن لو خلّد في الدنيا أبدا لعصى اللّه، فالكفّار بنيّاتهم خلّدوا.

سورة البقرة (2): آیة 82

اشارة

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)

ص: 284


1- التوحيد: 6/407.
2- الكافي 82/355:1.
سورة البقرة (2): آیة 82

ثمّ أنّه سبحانه لمّا بيّن حال الكفّار في الآخرة بأنّهم أصحاب النّار، أردفه بذكر حال أهل الإيمان، بقوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و كتبه و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ من التجنّب عن المعاصي و ارتكاب(1) العبادات و الواجبات، حيث إنّ الإيمان الواقعيّ غير منفكّ عن العمل في الجملة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ متنعّمون لا يخافون زوال النعمة.

سورة البقرة (2): آیة 83

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

سورة البقرة (2): آیة 83

ثم أنّه تعالى بعد ذكر نعمة أخذ الميثاق من بني إسرائيل على العمل بالتوراة إجمالا، ذكر نعمة أخذ الميثاق على العمل بتمام ما لا بدّ منه في الدّين تفصيلا، بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ

و العهد المؤكّد الذي وجب أن يكون جاريا في أخلافهم قرنا بعد قرن، و في الامّة المرحومة إلى يوم القيامة، و هو أمور، أهمّها و أعظمها أنّه لا تَعْبُدُونَ بقلوبكم و جوارحكم إِلاَّ اللّهَ و لا تجعلون له شركاء من الأصنام و الشّيطان و هوى النّفس و سائر الخلق.

عن الصادق عليه السّلام: «ما أنعم اللّه عزّ و جلّ على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع اللّه تعالى غيره »(2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من شغلته عبادة اللّه عن مسألته، أعطاه أفضل ما يعطى السائلون »(3).

في وجوب الاحسان بالوالدين الروحانيين و الجسمانيين و حكمته

وَ تحسنون بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مكافأة عن إنعامهما و إحسانهما، فإنّ حقّهما بعد حقوق اللّه، و حقّ الأنبياء و الأوصياء صلوات اللّه عليهم أجمعين أعظم من حقّ كلّ ذي حقّ ، لأنّهما أصلان في وجود الولد في هذا العالم، منعمان عليه بالتغذية و التّربية و الحفظ عن المحبّة و المودّة، بلا طمع في أجر و عوض و لا ملال و لا كلال، و لا يقطعان عنه الإحسان و إن كان مسيئا بهما و عاقّا لهما، و يؤثرانه على أنفسهما و لو كانت بهما خصاصة، فحقّ لهما أن يعظّمهما و يطلب رضاهما، و لا يؤذيهما و إن كانا كافرين.

عن (الكافي): سئل الصادق عليه السّلام: ما هذا الإحسان ؟ قال: «أن تحسن صحبتهما، و أن لا تكلفهما أن

ص: 285


1- كذا و الظاهر و أداء.
2- التفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام: 182/328.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 175/327.

يسألاك شيئا ممّا يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين. أ ليس اللّه يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ؟» (1)

ثمّ إذا كان حقّ الوالدين الجسمانيّين بهذه الدّرجة من العظم، فما أعظم حقّ الوالدين الروحانيّين من النبيّ و الوصيّ ! فإنّ إحسانهما و إنعامهما بأولادهما المؤمنين لا يقاس بالوالدين الظاهريّين الجسمانيّين، فإذا كانا أفضل و أحقّ بمراتب لا تحصى، كانا بالشّكر أحقّ و أولى.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل والديكم و أحقّهما بشكركم محمّد و عليّ »(2).

و عن علي عليه السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أنا و عليّ أبوا هذه الامّة، و لحقّنا عليهم أعظم من حقّ أبوي ولادتهم، فإنّا ننقذهم إن أطاعونا من النّار إلى دار القرار، و نلحقهم من العبوديّة بخيار الأحرار »(3).

ثمّ أمر بالإحسان بذي القربى بقوله: وَ ذِي الْقُرْبى و هم الذين يعدّون في العرف أرحاما و أقرباء للشّخص، و إنّما أردف الأمر بالإحسان إليهم بإحسان الوالدين لأنّ حقّهم تابع لحقّهما، حيث إنّ الإنسان متّصل بهما.

أمّا السبب الأعظم في التأكيد في رعاية هذا الحقّ ، أنّ الارتباط النّسبيّ مقتض للاتّحاد و الالفة، و منشأ لزيادة حسن الرّعاية و النصرة، فلو لم يحصل لكان أشقّ على القلب و أبلغ في الإيلام، و كلّما كان موجب التّألّم أقوى كان دفعه أوجب.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من راعى حقّ قرابات أبويه، اعطي في الجنّة ألف ألف درجة»(4) ثمّ فسّر الدّرجات، ثمّ قال: «من راعى حقّ قربى محمّد و عليّ اوتي من فضائل الدّرجات و زيادة الثواب على قدر زيادة فضل محمّد و عليّ على أبوي نسبه »(5).

وَ الْيَتامى :و هم الصّغار المنقطعون عن آبائهم الكافلين لامورهم. و وجه إرداف الإحسان بهم للإحسان بالأقارب، أنّ في حفظ الصّغار و تدبير امورهم و صحبتهم مع كمال الرعاية لهم مشقّة

ص: 286


1- الكافي 1/126:2، و الآية من سورة آل عمران: 92/3.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 189/330.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 190/330.
4- في تفسير العسكري عليه السّلام: ألف درجة.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 202/333.

عظيمة و رياضة ثقيلة على النّفس، و لذا وعد اللّه عليه الأجر العظيم، و أنّهم لضعفهم و قصورهم أولى بالرّعاية من غيرهم بعد الأقارب.

ثمّ لا ريب أنّ الإحسان و التكفّل ليتامى آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هم المنقطعون عن إمامهم، الجاهلون بشرائعهم و تكاليفهم، أعظم أجرا منه، كما روي عن العسكريّ عليه السّلام: «أنّ من هداه [و أرشده] و علّمه شريعتنا كان معنا في الرّفيع(1) الأعلى »(2).

ثمّ الأولى بعدهم بالرعاية و الإحسان الفقراء وَ الْمَساكِينِ الذين أسكنهم الفقر عن الحركة.

روي: «أنّ من واساهم بحواشي ماله، وسّع اللّه عليه جنانه، و أناله غفرانه و رضوانه »(3).

ثمّ قال: «إنّ من محبّي محمّد صلّى اللّه عليه و آله مساكين مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقر، و هم الذين سكنت جوارحهم و ضعفت قواهم عن مقابلة أعداء اللّه الذين يعيّرونهم بدينهم و يسفّهون أحلامهم، ألا فمن قوّاهم بفقهه و علمه حتّى أزال مسكنتهم، ثمّ سلّطهم على الأعداء الظاهرين من النّواصب، و على الأعداء الباطنين إبليس و مردته حتّى يهزموهم عن دين اللّه و يردّوهم عن أولياء آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حوّل اللّه تعالى تلك المسكنة إلى شياطينهم و أعجزهم عن إضلالهم، و قضى اللّه بذلك قضاء حقّا على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله »(4).

ثمّ بعد ذكر الطوائف الأربع الذين تجب رعايتهم مالا و عشرة، بيّن وجوب الإحسان إلى غيرهم بقوله: وَ قُولُوا لِلنّاسِ الّذين لا مئونة لهم عليكم، سواء كانوا من المؤمنين أو من مخالفيهم من اليهود و غيرهم حُسْناً و عاملوهم و واجهوهم بالبشر و خلق جميل.

عن الباقر عليه السّلام: «قولوا للنّاس [أحسن] ما تحبّون أن يقال لكم »(5).

و في رواية: «أنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم »(6).

عن الصادق عليه السّلام: «قولوا للنّاس كلّهم حسنا مؤمنيهم و مخالفيهم، أمّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه

ص: 287


1- في تفسير العسكري عليه السّلام: الرفيق.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 214/339.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكرى عليه السّلام: 226/345.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 227/346.
5- تفسير العياشي 167/139:1، الكافي 10/132:2، مجمع البيان 298:1.
6- من لا يحضره الفقيه 835/281:4.

و بشره، و أمّا المخالفون فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان، فإن يئس من ذلك يكفّ شرورهم عن نفسه و [عن] إخوانه المؤمنين »(1).

ثمّ قال عليه السّلام: «إنّ مداراة أعداء اللّه من أفضل صدقة المرء على نفسه و إخوانه، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منزله إذ استأذن عليه عبد اللّه بن أبي سلول،

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بئس أخو العشيرة، ائذنوا له، [فأذنوا له] فلمّا دخل، أجلسه و بشر في وجهه، فلمّا خرج قالت له عائشة: يا رسول اللّه، قلت فيه ما قلت، و فعلت فيه [من البشر] ما فعلت!

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عويش، يا حميراء، إنّ شرّ النّاس عند اللّه يوم القيامة من يكرم اتّقاء شرّه »(2).

في أنّ قوله تعالى:

(قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً) هل هو منسوخ أم لا؟

و في رواية عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في أهل الذّمّة، ثمّ نسخها قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ (3)...»إلى آخر الآية(4).

القمّي رحمه اللّه قال: نزلت في اليهود، ثمّ نسخت بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ... (5).

و قال الفيض رحمه اللّه: التوفيق بأن يقال: نسخت في حقّ اليهود و أهل الذمّة المأمور بقتالهم، و بقي حكمها في حقّ سائر النّاس(6).

أقول: ما نسخت في حقّ أهل الذّمة أيضا مطلقا، بل في موقع اقتضت المصلحة الجهاد معهم، و أمّا في موقع الهدنة و موقع يمكن دعوتهم و اجتلابهم إلى الإيمان بالمجادلة الحسنة، فحكم الآية باق في حقّهم أيضا، و أمّا قوله: نزلت في أهل الذمّة أو في اليهود، معناه أنّهم المورد فلا ينافي عموم الحكم لغيرهم.

فإن قيل: الروايتان متعارضتان، حيث إنّ في إحداهما قال: نسخت ب اقتلوا اَلْمُشْرِكِينَ و في الاخرى ب قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ؟

قلت: يمكن الجمع بأنّ كلتي الآيتين بمضمونهما، ناسختان لعمومها. حيث إنّ اليهود من المشركين بقولهم عزير ابن اللّه، و النّصارى بقولهم: إنّ اللّه ثالث ثلاثة، أو قولهم: المسيح ابن اللّه، و كلا الفريقين لا يؤمنون باللّه و اليوم الآخر حقّ الإيمان.

ص: 288


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 240/353.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 241/354.
3- التوبة: 29/9.
4- تفسير العياشي 170/140:1، عن الصادق عليه السّلام.
5- تفسير القمي 51:1، و الآية من سورة التوبة: 5/9.
6- تفسير الصافي 137:1.

ثمّ أنّه بعد ما بيّن كيفيّة حفظ رابطة الوداد بين خلقه، و هو ببذل المال و حسن الكلام و الأخلاق، بيّن ما به يحفظ الرّبط بين العبد و ذاته المقدّسة، و هو بالعبادات البدنيّة و الماليّة:

أمّا البدنيّة، فلمّا كان أهمّها الصّلاة، قال: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بحفظ مواقيتها و إتمام ركوعها و سجودها و أداء حقوقها و شرائطها.

و أمّا الماليّة، فلمّا كان أهمّها الزكاة الواجبة، قال: وَ آتُوا الزَّكاةَ و فيه دلالة على أنّ المراد من الإحسان بذي القربى و اليتامى و المساكين، غير الزّكاة.

ثمّ لمّا كان بيان هذه التكاليف التي هي من المحسّنات العقليّة و أخذ الميثاق على العمل بها نعمة من اللّه عليهم حيث إنّه تربية و هداية، ذمّهم بأنّهم أساءوا على أنفسهم بجهلهم و عدم تلقّيهم هذه النعمة العظيمة بالقبول بقوله: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أيّها اليهود عن الوفاء بالعهد الذي أدّاه إليكم أسلافكم إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عن العهد غير معتنين به.

سورة البقرة (2): الآیات 84 الی 85

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (85)

سورة البقرة (2): آیة 84

ثمّ بعد المنّة عليهم بنعمة هدايتهم إلى الأعمال الحسنة، بيّن منّته عليهم بنعمة نهيهم عن الأعمال القبيحة التي أقبحها الإضرار بالمرتبطين إليهم بالنّسب و الدّين، فإنّ جميع المنتسبين بالنّسبتين، بمنزلة شخص واحد، و الإضرار عليهم أقبح من الإضرار على النّفس، بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ و العهد الأكيد منكم حيث حكمنا عليكم التزمتم بايمانكم بالعمل به، و هو أنّه لا تَسْفِكُونَ و لا تهرقون، ظلما دِماءَكُمْ و لا تقتلون بعضكم بعضا وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ أي بعضكم بعضا.

مِنْ دِيارِكُمْ فإنّ سفك الدّماء و إخراج المؤمنين من ديارهم من أشدّ الظلم و أقبح الفساد.

ثُمَّ بعد الميثاق أَقْرَرْتُمْ و التزمتم به عند أنفسكم وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بذلك الالتزام و العهد

ص: 289

على رءوس الأشهاد.

سورة البقرة (2): آیة 85

ثُمَّ أَنْتُمْ أيّها اليهود الحاضرون هؤُلاءِ الملتزمون بميثاق اللّه و عهده المؤكّد، المقرّون به، الشاهدون عليه، و الآن نقضتموه لخبثكم و طغيانكم، حيث إنكم تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ و تهرقون دماء بعضكم في الحروب مع أنّها كدمائكم وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ قهرا عليهم و تَظاهَرُونَ أنتم و أعداؤهم من المشركين، أو أنتم أنفسكم تتعاونون عَلَيْهِمْ متلبّسين بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ من القتل و الإخراج، و فيه دلالة على حرمة الإعانة على الظلم و العصيان.

وَ إِنْ كان الفريق المخرجون يَأْتُوكُمْ بأن جاء بهم الأعداء إليكم، حال كونهم أُسارى

و مشدودين بقيد الأعداء تُفادُوهُمْ و تعطوا العوض عنهم من أموالكم لتخلّصوهم من الأسر وَ هُوَ أي الشأن أو الإخراج مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ تبيين لمرجع ضمير الشّأن و القصّة، أو تأكيد له.

ثمّ أنكر عليهم بقوله: أَ فَتُؤْمِنُونَ أيّها اليهود بِبَعْضِ الْكِتابِ من وجوب التّفدية، و تعملون به وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ آخر من حرمة القتل و الإخراج، مع أنّ قضيّة الإيمان بالكتاب، الإيمان بكلّه، لأنّ كلّه من عند اللّه فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ التبعيض في الإيمان و الكفر بالكتاب مِنْكُمْ يا معشر اليهود إِلاّ خِزْيٌ و ذلّ مع الفضيحة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من القتل و الأسر و الإجلاء [عن] الوطن و ضرب الجزية عليهم.

نقل أنّ اللّه أخذ على بني إسرائيل في التّوراة أ، لا يقتل بعضهم بعضا، و لا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، و أيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه و أعتقوه، و كانت قريظة و النّضير أخوين، و كذا الأوس و الخزرج، و هم أهل شرك يعبدون الأصنام و لا يعرفون القيامة و الجنّة و النّار و الحلال و الحرام، فافترقوا في حرب شمر، و وقعت بينهم عداوة، فكانت بنو قريظة معينة للأوس و حلفائهم، و النّضير معينة للخزرج و حلفائهم، فكانوا إذا خرجت الأوس و الخزرج للقتال خرجت بنو قريظة مع أوس، و النّضير مع خزرج، فظاهروا حلفاءهم. و إذا غلبوا خرّبوا ديارهم، فإذا انقضت الحرب افتدت قريظة ما كان في أيدي خزرج منهم، و افتدت النّظير ما كان في أيدي الأوس منهم من الاسارى. فعيّرتهم العرب بذلك، فقالوا: كيف تقتلونهم و تفادونهم ؟! قالوا: امرنا أن نفديهم، و حرّم

ص: 290

علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم ؟ قالوا: إنّا نستحيي أن نستذلّ حلفاءنا(1).

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ لأنّ عصيانهم - و هو الكفر - أشدّ المعاصي، و لا ينافي ذلك كون عذاب من هو أكفر منهم(2) كالدّهريّة أشدّ من عذابهم، لتفاوت مراتب الأشدّيّة وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ لأنّ الغفلة ممتنعة عليه، فبقدرته الكاملة و استحقاقكم الكامل يجازيكم على أعمالكم.

سورة البقرة (2): آیة 86

اشارة

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

سورة البقرة (2): آیة 86

ثمّ أعرض سبحانه عن مخاطبتهم، و أعلن في النّاس بذمّهم بقوله: أُولئِكَ الجماعة المذمّون بغاية الذّمّ ، هم اَلَّذِينَ اشْتَرَوُا و استبدلوا، و اختاروا اَلْحَياةَ الدُّنْيا و متاعها الدنيّة الزائلة بِالْآخِرَةِ و بعوض نعمها الدائمة، و آثروا اللذّات الفانية على الجنّة و حظوظها الباقية فَلا يُخَفَّفُ إذن عَنْهُمُ الْعَذابُ لا كيفيّة و لا مدّة وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ من أحد، و لا يعاونون على دفعه.

سورة البقرة (2): الآیات 87 الی 89

اشارة

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)

سورة البقرة (2): آیة 87

ثمّ ذكّرهم اللّه نعمة اخرى و كفرانهم لها بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا مُوسَى الْكِتابَ جملة واحدة وَ قَفَّيْنا و أتبعناه مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يتبع بعضهم بعضا، و الشريعة واحدة إلى زمان

ص: 291


1- تفسير أبي السعود 125:1، تفسير روح البيان 175:1.
2- كذا، و القياس: أشدّ كفرا منهم.

عيسى عليه السّلام وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الآيات اَلْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، و إفراد عيسى عليه السّلام بالذكر بعد الرسل؛ لاستقلاله بالشّريعة، فإنّ شريعته ناسخة لشريعة موسى عليه السّلام.

في وجه تسمية جبرئيل عليه السّلام بروح القدس

وَ أَيَّدْناهُ و أعنّاه بِرُوحِ الْقُدُسِ قيل: هو جبرئيل عليه السّلام (1).حيث إنّه خلق بنفخه و ربيّ بتربيته و رفع إلى السّماء معه.

و اطلاق الرّوح على جبرئيل عليه السّلام لأنّه واسطة إفاضة العلم الذي به حياة القلوب، و لذلك سمّي القرآن من بين الكتب السّماويّة بالروح؛ لاشتماله على المعارف الإلهيّة بمقدار لا يتحمّل فوقه البشر، و على علوم يحتاج إليها الخلائق إلى يوم القيامة.

قيل: إنّ إضافة الرّوح إلى القدس اضافة الموصوف إلى الصفة (2) ،و المعنى: الرّوح المقدّسة من الذّنب.

ثمّ بعد ذكر النعم العظيمة عليهم ذمّهم بكفرانها، و قال تقريعا و توبيخا لهم: أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ يا بني إسرائيل رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ و أتاكم بعهود و أحكام تخالف ميل خاطركم من وجوب اتّباع الكاملين و بذل الأنفس و الأموال لنصرة الدّين، و الإيمان برسالة خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله اِسْتَكْبَرْتُمْ

و استثقلتم ما جاءكم به أو أخذكم الكبر فَفَرِيقاً من الرّسل كَذَّبْتُمْ كموسى و عيسى وَ فَرِيقاً

آخر منهم كنتم تَقْتُلُونَ كزكريّا و يحيى، كما أنّكم كذّبتم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و أردتم قتله. قيل: سمّوه في خيبر.

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله قال عند موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني »(3).

سورة البقرة (2): آیة 88

وَ قالُوا كناية عن نهاية تأبّيهم عن الايمان قُلُوبُنا غُلْفٌ و مغشّاة بأغشية مانعة من دخول ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيها، فلا نفهم ما يقول. فردّ اللّه عليهم بأنّ قلوبهم لم تخلق كذلك بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ و خذلهم بِكُفْرِهِمْ باللّه و رسوله، فأبطل استعدادهم.

أو المراد: أنّ قلوبنا أوعية العلم، و مع ذلك لا نرى لك خبرا في الكتب السّماويّة، و لا على لسان أحد. فردّ اللّه عليهم بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ و أبعدهم عن رحمته بسبب كفرانهم النعمة فَقَلِيلاً ما

أي إيمانا قليلا يُؤْمِنُونَ أو ببعض قليل في غاية القلّة من أحكام اللّه يصدّقون و يلتزمون. قيل: أراد

ص: 292


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 260/371.
2- تفسير الجلالين 13:1.
3- تفسير الرازي 178:3، تفسير أبي السعود 127:1.

بالقلّة العدم(1).

سورة البقرة (2): آیة 89

وَ لَمّا جاءَهُمْ و نزل على هؤلاء الحاضرين كِتابٌ عظيم الشّأن، و هو القرآن مِنْ عِنْدِ اللّهِ

بشهادة أنّه مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التّوراة التي بيّن فيها أوصاف محمّد صلّى اللّه عليه و آله من أنّه نبيّ امّيّ من ولد إسماعيل، حتّى كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ أن يظهر محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة يَسْتَفْتِحُونَ من اللّه و يسألونه الفتح و الظفر به عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا و كان اللّه يجيبهم و يفتح لهم، أو المراد أنّهم يعرّفون المشركين أنّ اللّه يبعث منهم نبيّا و قد قرب زمانه فَلَمّا جاءَهُمْ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو ما عَرَفُوا بنعوته و علائمه كَفَرُوا بِهِ و جحدوا نبوّته حسدا فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ به.

سورة البقرة (2): آیة 90

اشارة

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

سورة البقرة (2): آیة 90

ثمّ بالغ في ذمّهم و تعييبهم على فعلهم من الكفر بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ من الهدايا و الرئاسة الباطلة أَنْفُسَهُمْ و أعرضوا عن النفع الدائم، و رضوا بالعذاب الدائم لها بعوض متاع الدنيا الفانية.

و قيل: إنّهم لمّا تملّكوا أنفسهم و خلّصوها من تبعيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعوض كفرهم بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله فكأنّهم اشتروا أنفسهم.

ثمّ إنّه تعالى فسّر ما اشتروا به بقوله: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ من القرآن المستلزم للكفر بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، كما أنّ الإقرار بأنّه من اللّه إقرار بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ بيّن أنّ كفرهم لم يكن جهلا و قصورا، بل كان بَغْياً و حسدا على أَنْ يُنَزِّلَ اللّهُ نصيبا مِنْ فَضْلِهِ و هو النبوّة و الكتاب عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و يختار من بريّته و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذي أبان بالقرآن نبوّته، و أظهر به آيته.

و عن (الكافي) و (العياشي): عن الباقر عليه السّلام قال: «بما أنزل اللّه في عليّ بغيا»(2) الحديث، و هذا تاويل

ص: 293


1- تفسير أبي السعود 128:1.
2- الكافي 25/345:1، تفسير العياشي 175/143:1.

و بطن.

فَباؤُ و رجعوا ملتبسين بِغَضَبٍ من اللّه عليهم حين جحدوا نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كائن عَلى غَضَبٍ من اللّه عليهم قبله حين أنكروا نبوّة عيسى عليه السّلام فصاروا مستحقّين اللعنة مرادفة اللعنة حيث اقترفوا كفرا إثر كفر.

وَ لِلْكافِرِينَ باللّه و رسله، كانوا يهودا أو غيرهم بسبب كفرهم عَذابٌ مُهِينٌ حيث أهانوا اللّه بمعارضته و رسله بالتّكذيب، فناسب أن يشتمل عذابهم على نهاية الإهانة زائدا على ما يلازم مطلق العذاب.

سورة البقرة (2): آیة 91

اشارة

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

سورة البقرة (2): آیة 91

ثمّ بالغ سبحانه في توبيخ اليهود بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ نصحا و موعظة آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ على محمّد صلّى اللّه عليه و آله من القرآن قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من التّوراة و هم يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ و ما سواه من الكتب السماويّة الّتي أشرفها القرآن، و لا يؤمنون به وَ الحال أنّه هُوَ الْحَقُّ النازل من اللّه، و الناسخ للتّوراة، حال كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من التّوراة التي بشّرت بمجيء محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة و الكتاب.

و لمّا كانوا كاذبين في دعوى الإيمان بها، ردّ اللّه عليهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد ردّا لدعواهم الإيمان بالتّوراة فَلِمَ كنتم تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتّوراة، فإنّ التّوراة حرّمت قتل الأنبياء، و لا بدّ أن يكون قول المؤمن و فعله موافقا.

عن العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «إنّما نزل هذا في قوم [من اليهود] كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقتلوا الأنبياء بأيديهم، و لا كانوا في زمانهم، و إنّما قتل أوائلهم الذين كانوا من قبلهم (1) ،فجعلهم اللّه منهم، و أضاف إليهم فعل أوائلهم بما تبعوهم و تولّوهم »(2).

ص: 294


1- زاد في المصدر: فنزلوا بهم اولئك القتلة.
2- تفسير العياشي 177/143:1.

سورة البقرة (2): الآیات 92 الی 93

اشارة

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

سورة البقرة (2): آیة 92

ثمّ أنّه لمّا كانت عبادتهم العجل و اتّخاذه إلها من أقبح أعمالهم، و فيها نهاية فضيحتهم و ظهور كمال حماقتهم كرّر اللّه ذكره بقوله: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ .

سورة البقرة (2): آیة 93

و يمكن أن يكون تكراره و تكرار أخذ الميثاق و رفع الطّور و الأمر بأخذ ما في التّوراة من الأحكام بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ و يد وَ اسْمَعُوا سماع قبول و طاعة؛ توطئة لحكاية قولهم الشّنيع بقوله: قالُوا جوابا: سَمِعْنا قولك وَ عَصَيْنا

أمرك، و لبيان رسوخ حبّ العجل في قلوبهم بقوله: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قيل: إنّهم بسبب كفرهم أمروا بشرب الماء الذي ذرّيت فيه سحالة(1) العجل حتّى وصل ما شربوه إلى قلوبهم، حتّى تداخلها حبّه، و رسخ فيها صورته لفرط شغفهم به.

نقل أنّ موسى عليه السّلام لمّا خرج إلى قومه امر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذرّى في النّهر، فلم يبق نهر يومئذ إلاّ وقع فيه منه شيء ثمّ قال لهم: اشربوا منه، فمن بقي في قلبه شيء من حبّ العجل ظهرت سحالة العجل على شاربه(2).

و روي عن الباقر عليه السّلام قال: «لمّا ناجى موسى عليه السّلام ربّه، أوحى اللّه إليه: يا موسى، قد فتنت قومك.

قال: بما ذا يا رب ؟ قال: بالسّامريّ . قال: و ما [فعل] السّامريّ ؟ قال: قد صاغ لهم من حليّهم عجلا.

قال: يا ربّ ، إنّ حليّهم لا يحتمل أن يصاغ منه غزال أو تمثال أو عجل، فكيف فتنتهم ؟ قال: إنّه صاغ لهم عجلا، فخار.

قال: يا ربّ و من أخاره ؟ قال: أنا. فقال عندها موسى عليه السّلام: إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ (3).

ص: 295


1- سحالة الشيء: برادته، و هو ما يتساقط من الحديد أو نحوه في أثناء برده.
2- تفسير روح البيان 183:1.
3- الأعراف: 155/7.

قال: فلمّا انتهى موسى عليه السّلام إلى قومه و رآهم يعبدون العجل، ألقى الألواح من يده فكسّرت».

قال أبو جعفر عليه السّلام: «كان ينبغي أن يكون ذلك عند إخبار اللّه تعالى إيّاه. قال: فعمد موسى عليه السّلام فيرد العجل من أنفه الى طرف ذنبه، ثمّ أحرقه بالنّار فذرّه في اليمّ . قال: فكان أحدهم ليقع في الماء و ما به [إليه] من حاجة، فيتعرّض بذلك للرماد(1) و يشربه، و هو قول اللّه تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ » (2).

أقول: ظاهر الرّواية أنّ حبّهم للعجل صار سببا لشربهم من الماء، و يمكن كون حبّ العجل سببا للشّرب، ثمّ صار الشّرب سببا لرسوخ حبّه و ثباته في قلوبهم.

ثمّ لمّا كان ارتكابهم هذه القبائح مبطلا لادّعائهم الإيمان بالتّوراة و بموسى و شريعته؛ أمر اللّه نبيّه بتقريعهم، بقوله: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ و ساء ما يبعثكم إليه إِيمانُكُمْ بالتّوراة من فعل هذه القبائح، و من الكفر باللّه و اليوم الآخر و برسالتي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بها.

سورة البقرة (2): الآیات 94 الی 95

اشارة

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (95)

سورة البقرة (2): آیة 94

ثمّ لمّا كان من عقائدهم السّخيفة و دعاويهم الباطلة أنّ الجنّة و نعيمها في الآخرة خالصة لهم و مختصّة بهم لادعائهم أنّهم أولياء اللّه المخلصون و عباده الصّالحون، و لذا قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً (3) فردّ اللّه عليهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ من جنّتها و نعيمها عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً و مختصة مِنْ دُونِ سائر اَلنّاسِ قيل: المراد من النّاس محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته و أصحابه(4).

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الذي به تصلون إليها لقلّة نعم الدنيا بالنّسبة إلى نعم الآخرة، مع كون نعم الدنيا منغّصة مشوبة بالآلام و المكاره بخلاف نعم الآخرة، فكلّ من أيقن بفلاحه و نجاحه، لا بدّ له من أن يشتاق إلى الموت و يتمنّاه، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل

ص: 296


1- في النسخة: بذلك إليها.
2- تفسير العياشي 178/144:1.
3- البقرة: 111/2.
4- تفسير الصافي 148:1.

بثدي امّه »(1).

و قال عمّار يوم صفّين:

اليوم ألقي الأحبّة *** محمّدا و حزبه(2)

عن الصادق عليه السّلام: «سئل أمير المؤمنين عليه السّلام: بما ذا أحببت لقاء ربّك ؟ قال: لمّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته و رسله و أنبيائه، علمت بأنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني، فأحببت لقاءه »(3).

فمن كان صادقا في الحبّ لا محالة يتمنّى لقاء الحبيب، و لذا قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى حبّكم للّه و تولّيكم إيّاه و اختصاصكم بالجنّة و نعيمها. ثمّ الظاهر أنّ المراد بالتمنّي، التمنّي القوليّ ، كقول: ربّنا أمتنا أو عجّل في وفاتنا و أمثال ذلك، دون التمنّي القلبيّ الذي لا يطّلع عليه أحد.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [أنه] قال لهم بعد ما عرض هذا عليهم: «لا يقوله أحد منكم إلاّ غصّ بريقه فمات مكانه» و كانت اليهود علماء بأنّهم كاذبون، و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه هم الصادقون، فلم يجترئوا أن يدعوا به(4).

شبهة و رفعها

إن قلت: ما الدّليل على أنّه ما وجد منهم هذا القول ؟

قلت: لو قالوا ذلك لنقل إلينا نقلا متواترا، لأنّه أمر عظيم، لأنّه بقولهم ما يشعر بالتمنّي، كان النبيّ محجوجا، و كان يبطل دعواه و نبوّته، و بعدمه يثبت صحّة نبوّته، و ما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة، فوجب أن ينقل نقلا متواترا.

و أيضا لا يمكن أن يتحدّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي كان أعقل من جميع أهل العالم بالإخبار بعدم وقوع أمر جزما إلاّ بإخبار اللّه بعدم وقوعه، و لا يجوز أن يخبر بأمر لا يأمن و لا يثق بتحقّق ما أخبر به، مع أنّه وردت روايات كثيرة متظافرة بأنّهم ما قالوا، و لو قالوه لماتوا مقاعدهم و رأوا مقاعدهم من النّار، بل قيل إنّ هذا الإخبار بلغ مبلغ التواتر.

سورة البقرة (2): آیة 95

و هذا من الأدلّة الواضحة على النبوّة، حيث أخبر عن جزم بأنّهم لا يقولون كلمة دالّة على تمنّي الموت مع سهولتها عليهم، بل أخبر بأنّهم لا يقولونها أبد الدهر، بقوله: وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر و المعاصي.

ص: 297


1- نهج البلاغة: 5/52.
2- وقعة صفين: 341، تفسير أبي السعود 132:1.
3- الخصال: 1/33.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 294/443.

و روي عن (تفسير الإمام) و عن ابن عبّاس: أنّ المراد بتمنّي الموت أن يدعو الفريقان بالموت على الكاذب منهما فيكون نظير المباهلة (1).و هذا خلاف المشهور بين المفسّرين.

روي عن نافع أنّه جلس إلينا يهوديّ يخاصمنا، فقال: إنّ في كتابكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ و أنا اتمنّى، فما لي لا أموت ؟ فسمع ابن عمر هذا فدخل بيته و أخذ السّيف ثمّ خرج، ففرّ اليهوديّ حين رآه. فقال ابن عمر: أما و اللّه لو أدركته لضربت عنقه، توهّم هذا الجاهل أنّه لليهود في كلّ وقت، إنّما هو لاولئك الذين يعاندونه و يجحدون نبوّته بعد أن عرفوه(2).

إن قيل: إن المؤمنين أجمعوا على أنّ الجنّة للمؤمنين دون غيرهم، ثمّ ليس أحد منهم يتمنّى الموت، فكيف وجه الاحتجاج على اليهود؟

قلت: إنّ المؤمنين لم يدّعوا أنّهم أبناء اللّه و أحبّاؤه، و أنّ الجنّة خالصة لكلّ واحد منهم كما ادّعاها اليهود.

ثمّ بعد المحاجّة عليهم و تبكيتهم، هدّدهم بقوله: وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و الطغيان، لا يخفى عليه سوء حالهم و شناعة أعمالهم، فيجازيهم بأسوإ مجازاة.

سورة البقرة (2): آیة 96

اشارة

وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

سورة البقرة (2): آیة 96

ثمّ أخبر اللّه بأنّهم مأيوسون عن نعيم الآخرة بقوله: وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ

طويلة في الدنيا، بل وَ أحرص عليها مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه و لم يؤمنوا بالمعاد، فإنّهم لزعم أنّ الدنيا جنّة لهم، يكونون أكثر حبّا للحياة و أشدّ حرصا على التعيّش فيها.

و هؤلاء اليهود مع اعتقادهم بالمعاد و الجنّة، و ادّعائهم أنّها خالصة لهم، لعلمهم بأنّهم محرمون عن الجنّة و نعيمها و صائرون إلى النّار و أشدّ العذاب بسبب وضوح كفرهم عندهم و عنادهم للحقّ ، يكونون أحرص على التعيّش في الدنيا من المشركين بحيث: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ و يتمنّى لَوْ يُعَمَّرُ

فيها أَلْفَ سَنَةٍ قيل: تخصيص ألف سنة بالذّكر لأنّ عادة المجوس القائلين بالنّور و الظلمة أنّهم

ص: 298


1- تفسير الرازي 191:3، تفسير ابن كثير 132:1، التفسير المنسوب إلى الامام العسكري: 443.
2- تفسير روح البيان 184:1.

عند العطاس يقولون: عش ألف سنة، أو ألف نوروز(1).

وَ ما هُوَ أي التّعمير الطّويل بِمُزَحْزِحِهِ و مباعده مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ لأنّ العمر الطّويل بعد انقضائه كطرفة عين، ثمّ بعده يكون العذاب الدائم.

وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ في أعمارهم فيشدّد عليهم العذاب، فيكون طول العمر شرّا لهم، حيث لا ينالون فيه إلاّ زيادة الكفر و الطّغيان و الإثم و العدوان فيزداد عذابهم، بخلاف أهل الإيمان فإنّهم في كلّ ساعة من العمر يكتسبون خيرا كثيرا لا يعلمه الاّ اللّه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «طوبى لمن طال عمره و حسن عمله »(2).

سورة البقرة (2): الآیات 97 الی 98

اشارة

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)

سورة البقرة (2): آیة 97

ثمّ أنّه لمّا كان من العقائد الفاسدة الزائغة لليهود و من مساوئ أقوالهم اعتقادهم و قولهم: بأنّ جبرئيل عدو لنا؛ لأنّه أنزل القرآن على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نحن نعاديه، أبان اللّه سبحانه سخافة هذا الاعتقاد و شناعة هذا القول بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ و مبغضا له، فإنّه مبطل إذ لا وجه لعدوانه.

فإن قالوا: إنّ العداوة بسبب أنّه أنزل القرآن عليك فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ متدرّجا عَلى قَلْبِكَ الذي هو موضع فهمك بِإِذْنِ اللّهِ و بأمره، لا من قبل نفسه، فهو مأمور و محسن إليهم بتبليغه الكتاب المبين الذي يكون مُصَدِّقاً و موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السّماويّة وَ هُدىً من الضّلالة وَ بُشْرى بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و برحمة اللّه و فضله لِلْمُؤْمِنِينَ فيجب أن يكون جبرئيل محبوبا مشكورا لا مبغوضا منفورا.

عن القمّي رحمه اللّه: أنّها نزلت في اليهود الذين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو كان الملك الذي يأتيك ميكائيل لآمنّا بك، فإنّه ملك الرّحمة و صديقنا، و جبرئيل ملك العذاب و هو عدوّنا(3).

ص: 299


1- تفسير روح البيان 186:1.
2- من لا يحضره الفقيه 842/283:4، تفسير روح البيان 186:1.
3- تفسير القمي 54:1.

أقول: الأخبار الدّالّة على أنّ اليهود كانوا يظهرون العداوة لجبرئيل كثيرة من الخاصّة و العامّة، و لا بعد فيه لكثرة جهالتهم، حيث إنّهم الذين قالوا لموسى عليه السّلام بعد ما رأوا الآيات البيّنات: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (1) ثمّ تمادوا في الجهل و الغواية حتّى انتهوا إلى عبادة العجل، و كادوا أن يقتلوا هارون.

و ما قيل من أنّ اليهود في الأعصار المتأخّرة منكرون معاندة أسلافهم لجبرئيل، فهو باطل مردود؛ لأنّ القرآن كان بمنظر و مسمع من أهل الكتاب من اليهود و النّصارى، و لم يبارزه أحد منهم بالرّدّ و التّكذيب في هذه النّسبة، و إلاّ لنقل إلينا.

اعتراض و ردّ

فإن قيل: نزل القرآن بالاتّفاق على ظاهر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكيف قال: نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ؟

قلنا: نزل القرآن على ظاهره و باطنه، و لمّا كان نزوله على باطنه أشرف و أنفع لعموم الخلق؛ لأنّه بحفظ قلبه حفظ و بقي بين النّاس، خصّه بالذّكر كما قال في الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (2)

سورة البقرة (2): آیة 98

ثمّ بعد بيان أنّه لا جهة لعداوة جبرئيل حيث إنّه عامل بأمر اللّه و مطيع لحكمه، بل على النّاس أن يحبّوه و يشكروه حيث إنّه واسطة لتبليغ الهداية و البشارة، هدّد اللّه المعاندين له، بل معاند جميع المقدّسات بقوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ بأن سبّ اللّه عدوانا، أو خالفه، أو عاند أولياءه، وَ عدوّ مَلائِكَتِهِ المبعوثين لنصرتهم وَ عدوّ رُسُلِهِ المبلّغين عنه، المخبرين بما فيه خير العامّة و صلاح الخلق في الدنيا و الآخرة، وَ عدوّ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ .

عن عكرمة: أن جبر و ميك و إسراف هي العبد بالسّريانيّة، و ئيل: هو اللّه (3) ،و تخصيصهما بالذكر بعد ذكر عموم الملائكة لفضلهما، و لجريان ذكرهما بين الرّسول و اليهود.

فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ بعلّة كفرهم، و عداوة هؤلاء الكفرة لا تضرّ اللّه و ملائكته و رسله و أولياءه، و عداوة اللّه لهم تضرّهم أشدّ الضّرر.

سورة البقرة (2): الآیات 99 الی 100

اشارة

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا

ص: 300


1- الأعراف: 138/7.
2- الشعراء: 193/26 و 194.
3- تفسير روح البيان 188:1.

عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)

سورة البقرة (2): آیة 99

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ دالاّت على صدقك في نبوّتك و في جميع ما تخبر به، موضّحات عن كفر من شكّ فيها وَ ما يَكْفُرُ بِها و ما يجحدها إِلاَّ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه و ولايته، و المتجاوزون عن كلّ حدّ مستحسن في العقل و الشّرع، فإنّ من يكون بصفة التمرّد مجترئ على الكفر بالآيات.

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: أنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس و الخزرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه، فلمّا بعث من العرب كفروا به و جحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه و أسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و نحن أهل الشّرك، و تخبروننا أنّه مبعوث، و تصفون لنا صفته. فقال بعضهم: ما جاء لنا بشيء من البيّنات، و ما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية(1).

و لعلّ المراد من الآيات القرآن و سائر المعجزات، مثل امتناعهم عن المباهلة، و عن تمنّي الموت، و إشباع الخلق الكثير من الطّعام القليل، و نبوع الماء من بين أصابعه، و انشقاق القمر، و غير ذلك.

سورة البقرة (2): آیة 100

ثمّ أنكر عليهم كفرهم بالآيات إعظاما له، و عطف عليه توبيخهم على نقض عهد الأيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله إذا ظهر، و تعاهدهم على إخراج المشركين من ديارهم إذا هاجر إليهم، و أن لا يعينوا عليه أحدا بقوله: أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً من العهود المزبورة نَبَذَهُ و نقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ حيث كفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و لم يؤمنوا به، و أعانوا قريشا عليه يوم الخندق، و ليس هذا الفريق قليلا منهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بنبوّته أبدا بغيا و حسدا.

سورة البقرة (2): آیة 101

اشارة

وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

سورة البقرة (2): آیة 101

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على الكفر بالمعجزات و نقض العهود، وبّخهم على كفرهم بالتّوراة و سائر الكتب السّماويّة بقوله: وَ لَمّٰا جٰاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذي هو مُصَدِّقٌ و مطابق في

صفاته لِما مَعَهُمْ من التّوراة و سائر الكتب السّماويّة نَبَذَ و رمى

ص: 301


1- تفسير الرازي 199:3.

فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود كِتابَ اللّهِ من التّوراة و غيرها وَراءَ ظُهُورِهِمْ

و أعرضوا و تركوا العمل به كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ الكتاب كتاب اللّه، و أنّ ما فيه حقّ . فكما أنّ الجاهل بأنّ التّوراة كتاب اللّه، لا يرى ترك العمل به قبيحا لا يرى هؤلاء العالمون بأنّ التّوراة كتاب اللّه ترك العمل بها قبيحا و شينها(1) على أنفسهم، و هذا من غاية كفرهم و خباثتهم فمثلهم كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (2).

سورة البقرة (2): الآیات 102 الی 103

اشارة

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

سورة البقرة (2): آیة 102

ثمّ ذكر اللّه تعالى نوعا آخر من قبائح أعمالهم، و هو إقبالهم إلى السّحر و عملهم به بقوله:

وَ اتَّبَعُوا بعد ترك اتّباع كتب اللّه ما تَتْلُوا و تقرأه اَلشَّياطِينُ و كفرة الجنّ من كتب السّحر عَلى عهد مُلْكِ سُلَيْمانَ و سلطنته، أو افتروه على ملكه بأن ألقوا لملأ بني إسرائيل أن سليمان بن داود عليهما السّلام إنّما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم.

ثمّ لمّا كان السّحر بمنزلة الكفر في القباحة و المعصية نزّه اللّه سبحانه سليمان عنه بقوله: وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ بعمل السّحر وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا حيث عملوا بالسّحر و علّموه النّاس.

و لعلّ اليهود في زمان سليمان أنكروا نبوّته، و نسبوا جميع ما كان له من خوارق العادة و تسخير الرياح و علمه بمنطق الطّير و سائر معجزاته إلى السّحر، كما أنكر يهود عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نبوّته، و نسبوا الآيات و المعجزات من القرآن المجيد، و شقّ القمر، و طاعة الجمادات له، و تسبيح الحصاة في كفّه و غير ذلك إلى السّحر. و قالوا: نحن أيضا نظهر العجائب بالسّحر، و نستغني عن الانقياد لمحمّد، و لذا

ص: 302


1- كذا، و الظّاهر و شينه، أي شينى الترك.
2- سورة الجمعة: 5/62.

كفروا بالآيات و نبذوا العهود وراء ظهورهم، فردّ اللّه عليهم بأنه ما كَفَرَ و ما سحر سليمان وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا إذ يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَ يعلّمونهم ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ اللّذين نزلا بِبابِلَ و هو بلد بالعراق. و قيل: جبل دماوند. و قيل غير ذلك (1) ،و كان اسم أحدهما هارُوتَ وَ

اسم الآخر مارُوتَ .

قصّة هاروت و ماروت

عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «كان بعد نوح عليه السّلام قد كثر السّحرة و المموّهون (2) ،فبعث اللّه تعالى ملكين إلى نبيّ ذلك الزّمان بذكر ما يسحر به السّحرة و ذكر ما يبطل به سحرهم و يردّ به كيدهم. فتلقّاه النبيّ عن الملكين و أدّاه إلى عباد اللّه بأمر اللّه عزّ و جلّ ، و أمرهم أن يقفوا به على السّحر، و أن يبطلوه، و نهاهم أن يسحروا به النّاس. و هذا كما يدلّ على السّم ما هو، و على ما يدفع به غائلة السّمّ ، ثمّ يقول للمتعلّم: ذلك السّمّ ، فمن رأيته سمّ فادفع غائلته بكذا، و إيّاك أن تقتل بالسّمّ أحدا. قال: و ذلك النبيّ أمر الملكين أن يظهر للنّاس بصورة بشرين و يعلّماهم ما علّمهما اللّه تعالى من ذلك و يعظاهم »(3).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «اتّقوا الدنيا، فو الّذي نفسي بيده إنّها لأسحر من هاروت و ماروت »(4).

روي عن أبي محمّد عليه السّلام أنّ رجلا قال: إنّ قوما عندنا يزعمون أنّ هاروت و ماروت ملكان اختارتهما الملائكة، فلمّا كثر عصيان بني آدم أنزلهما اللّه مع ثالث لهما إلى الدنيا، و أنّهما افتتنا بالزّهرة و أرادا الزّنا بها، و شربا الخمر، و قتلا النّفس المحرّمة، و أن اللّه يعذّبهما ببابل، و أنّ السّحرة منهما يتعلّمون السّحر، و أنّ اللّه تعالى مسخ تلك المرأة بالكوكب الذي هو الزّهرة.

فقال الإمام عليه السّلام: «معاذ اللّه عن ذلك، إنّ ملائكة اللّه معصومون محفوظون عن الكفر و القبائح بألطاف اللّه تعالى، قال اللّه عزّ و جلّ فيهم: لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (5) و قال تعالى: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (6) و قال في الملائكة: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلى قوله: مُشْفِقُونَ » (7).

ص: 303


1- تفسير أبي السعود 138:1، مجمع البيان 338:1.
2- في النسخة: و الموهمون.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 473.
4- كنز العمال 6063/182:3.
5- التحريم: 6/66.
6- الأنبياء: 19/21 و 20.
7- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 475، و الآيات من سورة الأنبياء: 26/21-28.

و في رواية عن الرّضا عليه السّلام أنّه سئل عمّا يرويه النّاس من أمر الزّهرة، و أنّها امرأة فتن بها هاروت و ماروت، و ما يروونه من أمر سهيل و أنّه كان عشّارا باليمن ؟!

فقال عليه السّلام: «كذبوا في قولهم إنّهما كوكبان، إنّهما كانتا دابّتين من دوابّ البحر، فغلط النّاس و ظنّوا أنّهما الكوكبان، و ما كان اللّه عزّ و جلّ ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة ثمّ يبقيها ما بقيت السّماوات و الأرض، و أنّ المسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيام حتّى ماتت، و ما تناسل منها شيء، و ما على وجه الأرض اليوم مسخ، و إنّ الذي وقع عليه اسم المسوخيّة مثل القرد و الخنزير و الدّبّ و أشباهها إنّما هي مثل ما مسخ اللّه عزّ و جلّ على صورها قوما غضب اللّه عليهم و لعنهم بإنكارهم توحيد اللّه و تكذيبهم رسله.

و أمّا هاروت و ماروت، فكانا ملكين علّما النّاس السّحر ليحترزوا به عن سحر السّحرة و يبطلوا به كيدهم»(1) الحديث.

و لا يخفى أنّ الرّوايات التي تكون موافقة لما اشتهر بين العامّة، لا بدّ من حملها على التقيّة لمخالفتها الكتاب و العقل.

و قال بعض العامّة: إنّ مدارها ما روته اليهود (2).و أمّا توجيهها بالذي تكلّفه الفيض رحمه اللّه(3) و بعض العامّة، ففي غاية البعد (4).و حملها على كونها أسرارا لا يناسب رواتها كعطاء(5) و ابن الكوّاء(6) لبداهة عدم كونهما من أهل السّرّ و الفهم.

و الحاصل: أنّ الروايات الدالّة على عصيان الملكين بالشّرك و الزنا و شرب الخمر و قتل النّفس و مسخ الزّهرة، ممّا يجب ردّها أو ردّ علمها إليهم عليهم السّلام لو لم يمكن حمل جميعها على التقيّة.

وَ ما يُعَلِّمانِ السّحر و إبطاله مِنْ أَحَدٍ من النّاس حَتّى يَقُولا للمتعلّم: اعلم إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ و امتحان من اللّه للعباد، ليعلم من يطيعه فيما يتعلّم بإعماله في إبطال السّحر ممّن يعصيه

ص: 304


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2/271:1.
2- تفسير أبي السعود 138:1، تفسير روح البيان 191:1.
3- قال الفيض رحمه اللّه: و أما ما كذبوه من أمر هاروت و ماروت و مسخ زهرة و قصّتهم المشتهرة بين النّاس فقد ورد عنهم عليهم السّلام في صحتها أيضا روايات، و الوجه في الجمع و التوفيق أن تحمل روايات الصحة على كونها من مرموزات الأوائل و اشاراتهم و إنهم لما رأوا أن حكاتها كانوا يحملونها على ظاهرها كذبوها و لا بأس بايرادها و حلها فان هاهنا محلها. الصافي 156:1 و 160.
4- تفسير روح البيان 191:1.
5- تفسير العياشي 180/145:1.
6- تفسير العياشي 181/149:1.

باستعماله في إضرار النّاس فَلا تَكْفُرْ باستعماله للإضرار.

فَيَتَعَلَّمُونَ النّاس مِنْهُما أي من الملكين، أو من الصّنفين؛ من السّحر ما تتلوا الشّياطين و ما انزل على الملكين؛ الأقسام المضرّة أظهرها و أشيعها ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ من الحيل و التّمويهات.

وَ الحال أنّه ما هُمْ أي السّحرة بِضارِّينَ بِهِ أي بالسّحر مِنْ أَحَدٍ من العالمين إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ و تعليمه أو بسبب تخليته بين السّاحر و إرادته الناشئة من خبث ذاته و عمله القبيح، و لو شاء أن لا يصدر منه لأعجزه عنه و حال بينه و بين قلبه و إرادته.

وَ يَتَعَلَّمُونَ هؤلاء اليهود من السّحر ما يَضُرُّهُمْ حيث إنّ ضرره على أنفسهم من العقوبة الاخرويّة أشدّ بمراتب من الضّرر الذي يصل إلى المسحور وَ لا يَنْفَعُهُمْ و لا يفيد لهم فائدة يعتدّ بها العقلاء.

وَ الحال أنّهم لَقَدْ عَلِمُوا سبب تلاوتهم التّوراة المكتوب فيها: أنّه و اللّه لَمَنِ اشْتَراهُ

و عاوض بكتب السّحر و تعلّمه و العمل به كتاب اللّه و أحكامه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ و نصيب من رحمة اللّه، أو خلاص من عقابه وَ باللّه لَبِئْسَ ما شَرَوْا هؤلاء اليهود من العمل بالسّحر، و استبدلوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ حيث عرّضوها للهلاك الأبد.

و هؤلاء اليهود لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ علم اليقين أنّ في هذا الاستبدال خسرانا و وبالا ما فعلوه.

سورة البقرة (2): آیة 103

ثمّ أرشدهم إلى التّجارة المربحة بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالنّبيّ و انقادوا له وَ اتَّقَوْا اللّه في أعمالهم باللّه لَمَثُوبَةٌ و أجر واصل إليهم مِنْ عِنْدِ اللّهِ و لو كان أقلّ قليل في الآخرة خَيْرٌ لهم و أنفع من الدنيا و ما فيها، لبقائه و زواله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و يدركون حقائق الامور.

سورة البقرة (2): الآیات 104 الی 105

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

ص: 305

سورة البقرة (2): آیة 104

ثمّ ذكر اللّه تعالى في عداد قبائح أعمال اليهود إساءتهم الأدب بساحة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث كانوا يخاطبونه بقولهم: راعنا.

قيل: كانت هذه اللفظة في اصطلاحهم بمعنى اسمع غير مسمع(1).

و قيل: كانت مستعملة عندهم في الهزء و السّخرية(2).

روي أنّ سعد بن عبادة سمعها منهم، فقال: يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه، و الذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأضربنّ عنقه. قالوا: أو لستم تقولونها؟ فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا - للنبي صلى الله عليه و آله - راعِنا (3).

قيل: إنّ المؤمنين كانوا إذا سمعوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شيئا من العلم، قالوا: راعنا يا رسول اللّه، أي انظرنا و تأنّ بنا حتّى نفهم، فلمّا سمع اليهود ذلك من المؤمنين اتّخذوه ذريعة لسبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله فنهى اللّه المؤمنين عن هذه الكلمة تعريضا على اليهود (4) ،بقوله: وَ قُولُوا انْظُرْنا أي انظر إلينا.

ثمّ وعظهم بقوله: وَ اسْمَعُوا لما يحكم به اللّه و يأمركم به الرّسول صلّى اللّه عليه و آله سماع طاعة و قبول، و لا تكونوا كاليهود حيث قالوا: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا (5).

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ لِلْكافِرِينَ الذين لا يسلكون معه مسلك الإعظام و التجليل، بل أهانوه بتعريضه للسّبّ و الاستهزاء كاليهود عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

روي عن ابن عبّاس: أنّ اللّه كان يخاطب في التّوراة بقوله: يا أيّها المساكين(6).

قيل: كرامة هذه الأمّة اقتضت مخاطبتهم بأشرف الأوصاف و هو الإيمان، و لمّا خاطب بني إسرائيل أوّلا بقوله: يا أيّها المساكين؛ أثبت عليهم آخرا المسكنة بقوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ (7)

و لمّا خاطب امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أوّلا بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يرجى أن يختم لهم بالإيمان و الأمان من العذاب و الهوان(8).

سورة البقرة (2): آیة 105

ثمّ نبّه اللّه الرّسول و المؤمنين بغاية حسد أهل الكتاب و المشركين عليهم، و شدّة عداوتهم لهم بقوله: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من اليهود و النّصارى وَ لاَ الْمُشْرِكِينَ و ما يحبّون،

ص: 306


1- تفسير الطبري 374:1.
2- تفسير الرازي 224:3.
3- تفسير أبي السعود 141:1.
4- تفسير روح البيان 197:1.
5- البقرة: 93/2.
6- تفسير الرازي 223:3.
7- البقرة: 61/2.
8- تفسير الرازي 223:3 «نحوه».

بل يبغضون أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير مِنْ رَبِّكُمْ من الوحي و النبوّة و الآيات و النّصرة على الأعداء.

أمّا أهل الكتاب فلادّعائهم أنّهم أبناء الأنبياء و الناشئون في مهابط الوحي، فهم أولى بتلك الفضائل من المسلمين الّذين هم امّيّون، و أمّا المشركون فلغرورهم بالجاه و المال، و ظنّهم أنّ من له الرئاسة الدنيويّة أولى بالرئاسة الإلهيّة. و من البديهي أنّ الحسد لا أثر له.

وَ اللّهُ الذي بيده كلّ خير يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ و فضله و إحسانه مَنْ يَشاءُ من عباده على حسب قابليّته و استعداده وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على نبيّه و على المؤمنين، و لا يمنعه حسد الحاسدين.

سورة البقرة (2): آیة 106

اشارة

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)

سورة البقرة (2): آیة 106

ثمّ أنّه لمّا كان من عقائدهم الفاسدة امتناع وقوع النّسخ في النبوّات و الأحكام الإلهيّة، و بهذا المبنى طعنوا في دين الاسلام و قالوا: إنّ محمّدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه، و يقول اليوم قولا و في الغد يرجع عنه (1) ؛ردّ اللّه عليهم بقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ برفع حكمها أَوْ نُنْسِها برفع رسمها و استلاب ذكرها و حفظها عن القلوب (2)نَأْتِ بِخَيْرٍ و أصلح مِنْها أَوْ نأت بآية مِثْلِها

في الصّلاح و النّفع و الحكمة؛ لظهور أنّ الوظائف الشّرعيّة و الأحكام الإلهيّة بالإضافة إلى الأمراض القلبيّة و الرّوحانيّة، كالأدوية بالنّسبة إلى الأمراض الجسمانيّة. فكما أنّ نفع الأدوية يختلف باختلاف الأمزجة و الأوقات، كذلك الأعمال و الوظائف الشّرعيّة، لبداهة اختلاف مصالحها باختلاف القرون و الأزمنة و تغيير الجهات.

في بيان جواز النسخ

إن قيل: كيف يصحّ النّسيان في الآيات و محو رسمها بالكلّيّة مع قوله: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (3) ؟

قلنا: صدق القضيّة الشرطيّة لا يلازم صدق طرفيها، و هذا كقولنا إن عدمت هذه الشّمس يأت اللّه

ص: 307


1- تفسير الرازي 226:3.
2- في النسخة: و استلاب عن القلوب ذكرها و حفظها.
3- الحجر: 9/15.

بشمس اخرى، مع أنّه معارض بقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ (1).

و روي أنّ قوما من الصّحابة قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلاّ البسملة، فغدوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أخبروه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «تلك سورة رفعت بتلاوتها و أحكامها »(2).

و أمّا الآية فيتمكن أن يكون المراد منها أنّ اللّه حافظ له من تغيير الخلق لا من تغيير نفسه إذا اقتضته الحكمة و المصلحة.

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على تصريف المكلّف تحت مشيئته و حكمته و حكمه، لا دافع لما أراد، و لا مانع لما يختار، و ينزل الخير، و يختصّ به من يشاء، و ينسخ الحكم و يبدّل الآيات، و لا يسأل عمّا يفعل.

سورة البقرة (2): آیة 107

اشارة

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107)

سورة البقرة (2): آیة 107

ثمّ قرّر سعة قدرته و أنّه مراع لصلاح المؤمنين و خيرهم ما هو أنفع بحالهم بقوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ

بنورانيّة قلبك و كمال معرفتك أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بالملكيّة الحقيقيّة الإشراقيّة، له التصرّف فيهما و فيما خلق بينهما تصرّف السّلطان المطلق في مملكته وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ و من ما سواه مِنْ وَلِيٍّ و قيّم بالامور وَ لا نَصِيرٍ و معين فهو يقلّبكم بمشيئته و يتصرّف فيكم بإرادته، فلا ناصر لكم غيره، و لا قادر في الوجود الاّ ذاته.

سورة البقرة (2): آیة 108

اشارة

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

سورة البقرة (2): آیة 108

ثمّ إنّه قيل: لمّا اقترح اليهود على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن ينزّل عليهم كتابا من السّماء، كما حكى اللّه عنهم في سورة النساء بقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ (3) الآية، و اقترح عليه المشركون و قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ

ص: 308


1- الأعلى: 6/87 و 7.
2- تفسير روح البيان 201:1.
3- النساء: 153/4.

يَنْبُوعاً (1) إلى آخرها؛ وجّه اللّه الخطاب إلى جميعهم بنحو الإضراب عن ذكر سائر قبائح أعمالهم إلى الإنكار عليهم هذه الاقتراحات بقوله: أَمْ تُرِيدُونَ و هل تعزمون أيّها اليهود و المشركون أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ و تقترحوا عليه كَما سُئِلَ مُوسى و اقترح عليه مِنْ قَبْلُ بقولهم أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً (2) و قولهم: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (3) فإنّ هذه الاقتراحات لا تكون الاّ من الإصرار على الكفر و الإعراض عن الإيمان.

وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ و يختاره لنفسه عوضا عنه فَقَدْ ضَلَّ و أخطأ سَواءَ السَّبِيلِ

و وسط الطّريق الذي يوصله إلى كلّ خير في الدنيا و إلى رحمة اللّه و نعيم الأبد في الآخرة، و أخذ في الطّريق المؤدّي إلى نقمة اللّه و العذاب الدائم.

سورة البقرة (2): آیة 109

اشارة

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109)

سورة البقرة (2): آیة 109

ثمّ إنّه روي أنّ فنحاص(4) بن عازوراء و زيد بن قيس و نفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان و عمّار بن ياسر رضي اللّه عنهما بعد وقعة أحد: أ لم تروا ما أصابكم ؟ و لو كنتم على الحقّ ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم و أفضل، و نحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمّار: كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا: شديد. قال: فإنّي عاهدت أن لا اكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله ما عشت. فقالت اليهود: أمّا هذا فقد صبأ.

و قال حذيفة: أمّا أنا فقد رضيت باللّه ربّا، و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله نبيّا، و بالاسلام دينا، و بالقرآن إماما، و بالكعبة قبلة، و بالمؤمنين اخوانا.

ثمّ أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبراه، فقال: «أصبتما خيرا و أفلحتما »(5).فنزلت: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و تمنّوا لَوْ يَرُدُّونَكُمْ و يصيّرونكم بشبهاتهم و حيلهم و تسويلاتهم مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ

بالرّسول و معرفتكم الحقّ و وضوح آياته كُفّاراً بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه مرتدّين عن دين الإسلام

ص: 309


1- الإسراء: 90/17.
2- النساء: 153/4.
3- الأعراف: 138/7.
4- في النسخة: فنيحاص.
5- تفسير الرازي 236:3، تفسير أبي السعود 145:1.

مع علمكم بنهاية شناعة الكفر بعد الإيمان الراسخ.

و من البديهيّ أنّ هذا الودّ و التمنّي ليس لأجل تديّنهم و معرفتهم بحقّانيّة مذهبهم و نصحهم لكم، بل كان حَسَداً عليكم و تشهّيا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ و من خبث ذاتهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ و ظهر لَهُمُ الْحَقُّ من نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و حقّانيّة دينه و كتابه بدلالة المعجزات السّاطعة و الآيات الباهرة، و لما عاينوا من إخبار التّوراة بظهوره و أوصافه و علائمه المنطبقة عليه.

روي أنّ جماعة استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أن يقتلوا هؤلاء اليهود الذين كفروا بانفسهم، و دعوا المسلمين إلى الكفر (1) ،فنزل: فَاعْفُوا من عقابهم وَ اصْفَحُوا عن تثريبهم و عتابهم حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ فيهم من القتل و التّعذيب إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ في كلّ وقت قَدِيرٌ لا يعجز عن الانتقام إذا حان حينه و آن أوانه، فلا تعجل عليهم.

روي عن ابن عبّاس: أنّه منسوخ بآية السّيف(2).

و عن الباقر عليه السّلام: أنّه لم يؤمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتال حتّى نزل جبرئيل عليه السّلام بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (3) و قلّده سيفا، فكان أوّل قتال قتال أصحاب عبد اللّه بن جحش ببطن نخل، و بعده غزوة بدر(4).

سورة البقرة (2): آیة 110

اشارة

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

سورة البقرة (2): آیة 110

ثمّ إنّه بعد تكليف المؤمنين بالعفو و الصّفح لصلاح حالهم و سلامة أنفسهم من رحمة الكفّار، كلّفهم في حال الفراغ بالعبادات البدنيّة التي أهمّها الصّلاة بقوله: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة، ثمّ بالعبادات الماليّة التي أهمّها الزّكاة بقوله: وَ آتُوا الزَّكاةَ الواجبة، لصلاح حالهم و سلامة أنفسهم من نقمة اللّه. ثمّ بسائر العبادات بقوله: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ و عمل صالح من النّوافل و الزّكاة المستحبّة و سائر أنواع البرّ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إمّا بصورته و حقيقته المثاليّة، بناء على تجسّم

ص: 310


1- تفسير روح البيان 204:1.
2- تفسير أبي السعود 146:1.
3- الحج: 39/22.
4- تفسير الرازي 245:3.

الأعمال كما هو مدلول كثير من الأخبار (1) ،أو بثوابه و جزائه.

ثمّ لزيادة التّرغيب على العمل أكّد ذلك بقوله: إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مطّلع، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فيجازيكم على القليل كما يجازي على الكثير.

سورة البقرة (2): الآیات 111 الی 112

اشارة

وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

سورة البقرة (2): آیة 111

ثمّ نقل أنّ وفد نجران لمّا قدموا المدينة اجتمعوا في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع اليهود، فكذّب بعضهم بعضا، فقالت اليهود لبني نجران: لن يدخل الجنّة إلاّ اليهود. و قال بنو نجران لليهود

: لن يدخلها إلاّ النّصارى (2).فحكى اللّه عنهم الدّعوى بقوله: وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى و إتيان (كان) مفردا باعتبار لفظ الموصول و خبره و هو هود، و النّصارى جمعا باعتبار معنى الموصول و هو جمع، و (أو) التّرديديّة بلحاظ اختلاف القائلين، كما روي في شأن النّزول(3).

و لمّا كان دعوى كلّ طائفة مبنيّة(4) على حقّانيّة دينهم، ردّ اللّه عليهم بقوله: تِلْكَ المقالة التي يدّعونها أَمانِيُّهُمْ و أهواؤهم الباطلة، و من جملة مشتهياتهم الزائغة التي لا حجّة لهم عليها.

قُلْ يا محمّد: هاتُوا و أحضروا بُرْهانَكُمْ و حجّتكم على دعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

فيما تدّعونه.

في عدم صحّة التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقاء الشريعة و نبوة النبيّ السابق

إن قيل: برهانكم على اختصاص الجنّة بهم ثبوت حقّانيّة دينهم، و عدم ثبوت نسخه.

قلت: لا يكفيهم هذا، بل يجب عليهم إقامة البرهان على بقاء دينهم، فكما أنّ الشّريعة الجديدة محتاجة إلى البرهان القاطع، كذلك بقاء الشّرع السابق محتاج إلى الحجّة و الدّليل الساطع، و لا يكفي استصحاب بقاء نبوّة النبيّ السّابق و شريعته، لأنّ الاستصحاب إن كان حجّة في الشّرع السابق فبقاؤه أوّل الكلام، و إن كانت حجّيّته في الشّرع اللاحق، فالمفروض أنّ المتمسّك به لا يعترف بالشّرع اللاّحق، مع أنّه على فرض حجّيّته في الشّريعتين فإنّما

ص: 311


1- راجع: بحار الأنوار 4/44:74.
2- تفسير روح البيان 206:1.
3- راجع تفسير الرازي 3:4.
4- في النسخة: مبنيا.

هو في الفروع و الأحكام العمليّة لا في اصول الدّين؛ لأنّه لا بدّ فيها من القطع و اليقين، و لا يفيد الظّنّ و التّخمين كما قال تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (1).

في إبطال القول بامتناع النسخ في الأحكام

فإن قيل: هذا مبنيّ على إمكان النّسخ، و اليهود قائلون بامتناعه لأنّه يؤول إلى البداء، و هو محال على اللّه.

قلنا: أوّلا: ليس في الحقيقة و الواقع نسخ في الأحكام و الشّرائع بل الشّرع السّابق مقيّد بقاؤه بعدم بعث النّبيّ اللاّحق المبشّر به، فإذا بعث انقضت مدّته مع أنّه منقوض بنسخ شرع إبراهيم عليه السّلام بشرع موسى عليه السّلام، مضافا إلى أنّ من البديهي اختلاف مصالح الأحكام باختلاف الأشخاص و القرون و الأزمان، فقد يكون لحكم مصلحة في زمان، أو لطائفة دون زمان آخر و طائفة اخرى.

نعم، إذا أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببقاء أحكامه و استمرارها إلى يوم القيامة، كما أخبر نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله بذلك، كشف عن جامعيّة أحكامه لمصالح عموم البشر إلى يوم القيامة بخلاف ما إذا لم يخبر بأبديّة دينه، بل كان بيانه مطلقا، فإنّه يحتمل وقوع التّغيير و النّسخ و إن ظنّ من جهة الإطلاق عموم حكمه للأزمنة المتأخّرة، و حينئذ فإذا دلّ دليل معتبر على النّسخ كشف عن خطأ العرف في فهم الاستمرار، و دلّ على كونه مغيّى.

و أمّا ما نقله اليهود من قول موسى عليه السّلام: تمسّكوا بالسّبت أبدا فغير ثابت، مع أنّه يمكن أن يراد منه دوامه ما دام بقاء شريعته، فيرجع إلى الإخبار بأنّ السّبت لا يتغيّر و لا ينسخ ما دام بقاء دينه، مع أنّه معارض بإخباره في عدّة مواضع من التّوراة بمجيء نبيّ آخر بعده.

سورة البقرة (2): آیة 112

فقول اليهود بأنّ الحقّ منحصر في اليهوديّة، و قول النّصارى بمثل ذلك، و دعوى كلّ طائفة منهم أنّه لا يدخل الجنّة غيرهم، بقول بلا برهان، بل البرهان على خلافه، حيث قال اللّه تعالى: بَلى يدخل الجنّة غيرهم بل هم لا يفوزون بها.

ثمّ كأنّ قائلا يقول: فمن يدخل الجنّة ؟ فقال: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ و بذل نفسه لِلّهِ بالانقياد و الخضوع و التذلّل في طاعته، و التجنّب عن اللّجاج و العناد و المعاصي خالصا للّه بلا شوب شرك و هوى وَ هُوَ مُحْسِنٌ لا يكون خضوعه بالأعمال القبيحة، كما نقل عن بعض المرتاضين في الهند

ص: 312


1- يونس: 36/10.

فَلَهُ أَجْرُهُ و ثوابه العظيم الذي أدناه الدّخول في الجنّة حال كونه ثابتا عِنْدَ رَبِّهِ اللّطيف به، المالك لأمره.

وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من انقطاع الثّواب و زوال النّعم و ممّا يشاهدون من عقاب الكفّار وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على فائت عند الموت، حيث يبشّرهم ربّهم برحمة منه و رضوان و هم يقولون اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (1) و هذه نهاية السّعادة و غاية الاسترباح و الاستفادة. و إفراد الضّمير أوّلا باعتبار لفظ الموصول و جمعه(2) آخرا باعتبار المعنى.

سورة البقرة (2): الآیات 113 الی 114

اشارة

وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)

سورة البقرة (2): آیة 113

ثمّ أنّه لمّا حكى اللّه تعالى دعوى اليهود و النّصارى صحّة دينهم، و كونهم على الحقّ ، و اختصاص الجنّة بهم، و توافقهم على أنّ المسلمين على الباطل حكى اللّه تعالى اختلافهم فيما بينهم، و أنّ كلّ واحد من الفريقين ينسب الآخر إلى الكفر و الضّلال من غير تأمّل في كتاب اللّه الذي بينهم حتّى يرشدهم إلى الحقّ بقوله: وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ من دين الحقّ ، بل ما اعتقدوه باطل و كفر. وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ من دين الحقّ ، بل هم على كفر و ضلال وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الذي أنزله اللّه لرفع الاختلاف من التّوراة و الإنجيل، و لا يتأمّلون فيهما حقّ التأمّل حتّى يعرفوا الحقّ و يعلموا دين اللّه بدلالته، بل ما يقولونه ليس إلا عن تقليد و عصبيّة.

كَذلِكَ القول الباطل قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الدّين و الكتاب من المشركين مِثْلَ قَوْلِهِمْ إذ هم أيضا يكفّر بعضهم بعضا فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الذي هو يوم فصل القضاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في الدّنيا بأنّ يدخل جميعهم في النّار و يريهم أنّ الحقّ مع غيرهم، و يبيّن لهم

ص: 313


1- فاطر: 34/35.
2- في النسخة: و جمعيته.

ضلالهم و فسقهم.

في تحاكم اليهود و النصارى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام: «إنّما نزلت لأنّ قوما من اليهود و قوما من النّصارى جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد، اقض بيننا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: قصّوا عليّ قصّتكم. فقالت اليهود: نحن المؤمنون باللّه الواحد الحكيم، و أولياءه، و ليست النّصارى على شيء من الدّين و الحقّ . و قالت النّصارى: بل نحن المؤمنون باللّه الواحد الحكيم، و أولياؤه، و ليست هؤلاء اليهود على شىء من الحقّ و الدّين.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلكم مخطئون، مبطلون، فاسقون عن دين اللّه و أمره، فقالت اليهود: و كيف نكون كافرين و فينا كتاب اللّه التّوراة نقرأه ؟ و قالت النّصارى: كيف نكون كافرين و فينا كتاب اللّه الإنجيل نقرأه ؟ فقال رسول اللّه: إنّكم خالفتم أيّها اليهود و النّصارى كتاب اللّه فلم تعملوا به، فلو كنتم عاملين بالكتابين لما كفّر بعضكم بعضا بغير حجّة؛ لأنّ كتب اللّه أنزلها شفاء من العمى، و بيانا من الضّلالة، يهدي العاملين بها إلى صراط مستقيم، و كتاب اللّه إذا لم تعملوا به كان وبالا عليكم، و حجّة اللّه إذا لم تنقادوا لها كنتم للّه عاصين و لسخطه متعرّضين.

ثمّ أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على اليهود، فقال: احذروا أن ينالكم لخلاف أمر اللّه و خلاف كتابه ما أصاب أوائلكم الذين قال اللّه تعالى فيهم: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ» الخبر(1).

و الظاهر أنّهم لمّا تنازعوا و اكتفوا بالدّعوى بغير إقامة حجّة و برهان، أجابهم صلّى اللّه عليه و آله بأنّ كتاب اللّه انزل لرفع الاختلاف، فلو تأمّلتم فيه حقّ التأمّل، و تركتم العصبيّة و التّقليد، و أعطيتم النّظر فيه حقّه، لارتفع الخلاف من بينكم و هديتم جميعا إلى الحقّ .

و نقل أنّ وفد نجران لمّا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدّين، و كفروا بعيسى عليه السّلام و الإنجيل. و قالت النّصارى لهم نحوه، و كفروا بموسى عليه السّلام و التّوراة(2).

سورة البقرة (2): آیة 114

ثمّ أنّه تعالى لمّا حكى عن اليهود و النّصارى و المشركين دعوى كلّ واحد أنّه على الحقّ و أنّهم

ص: 314


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 325/544، و الآية من سورة البقرة: 59/2.
2- تفسير الرازي 7:4.

أولياء اللّه و أحبّاؤه، ردّهم بأنّهم أظلم النّاس، بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ و هي مساجد خيار المؤمنين، أو بلدة مكّة، أو المسجد الحرام، أو جميع وجه الأرض لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا »(1).

أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها بالمنع من عبادة اللّه فيها، حيث إنّ تعمير المساجد بكثرة العبادة أُولئِكَ المانعون عن ذكر اللّه السّاعون في تخريب بيوت اللّه ما كانَ يحقّ لَهُمْ

بعدل اللّه و حكمته أَنْ يَدْخُلُوها إن كان المراد بلدة مكّة و المسجد الحرام، أو يسكنوها ان كان المراد جميع وجه الأرض إِلاّ خائِفِينَ من سيوف المؤمنين و سياطهم، فهو وعد للمؤمنين بالنّصرة و استخلاص المساجد من سلطة الكفّار.

و قيل: إنّ المراد ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ بخشية و خضوع، فضلا عن الاجتراء على تخريبها(2).

و مع ذلك لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ فضيع بطردهم عن الحرم، و منعهم أن يعودوا إليه، أو بضرب الجزية في حقّ أهل الذّمّة منهم، و بالقتل في حقّ أهل الحرب وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ في النّار بما ارتكبوا من الظلم العظيم، و هو أشدّ من خزي الدنيا و من كلّ عذاب. روي أن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.

عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام: «و لقد كان من المنافقين و الضعفاء و أشباه المنافقين قصدوا إلى تخريب المساجد بالمدينة و تخريب مساجد الدنيا كلّها بما همّوا [به] من قتل عليّ عليه السّلام بالمدينة و قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طريقهم إلى العقبة» يعني [في] غزوة تبوك.

و قيل: إنّ سبب نزول الآية أنّ طيطوس(3) الرّوميّ ملك النّصارى و أصحابه غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، و سبوا ذراريهم، و أحرقوا التّوراة، و أخربوا بيت المقدس، و قذفوا فيه الجيف، و ذبحوا فيه الخنازير، و لم يزل خرابا حتّى بناه أهل الإسلام في أيّام عمر بن الخطّاب(4).

سورة البقرة (2): آیة 115

اشارة

وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)

سورة البقرة (2): آیة 115

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر المساجد و تخريبها، أشار إلى إنّه لا ينبغي أن يصير تخريب المساجد أو المنع

ص: 315


1- مجمع البيان 361:1.
2- تفسير أبي السعود 149:1، تفسير روح البيان 209:1.
3- في تفسير أبي السعود: طيطيوس.
4- تفسير أبي السعود 149:1.

من دخول الحرم أو المسجد الحرام صارفا للمؤمن عن الصّلاة و الاشتغال بذكر اللّه بقوله: وَ لِلّهِ

بالملكيّة الإيحاديّة اَلْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ و جميع الجهات، لا تختصّ به جهة و مكان فَأَيْنَما تُوَلُّوا في أيّ مكان، و تتوجّهوا بقلوبكم، و تستقبلوا بوجوهكم إلى اللّه بالدّعاء و الصّلاة النّوافل فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ و ذاته المقدّسة، إذ لا يخلو منه مكان. أو المراد: فثمّ مرضاته، حيث إِنَّ اللّهَ واسِعٌ

ذاتا و قدرة و فضلا و رحمة على عباده، يبيّن لهم ما فيه صلاحهم كي يصلوا إلى رضوانه عَلِيمٌ

بحقائق الامور و ما يصدر عن العباد من القيام بوظائف العبوديّة و التّفريط فيها.

في بيان معنى وجه اللّه

عن (التّوحيد) عن سلمان الفارسيّ ، في حديث الجاثليق الذي سأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن مسائل فأجابه عنها، أنّ فيما سأله أن قال: أخبرني عن وجه الرّبّ تبارك و تعالى ؟ فدعا عليّ عليه السّلام بنار و حطب فأضرمه، فلمّا اشتعلت، قال [علي عليه السّلام]: «أين وجه هذه النّار»؟ قال النّصرانيّ : هي وجه من جميع حدودها.

قال عليّ عليه السّلام: «هذه النّار مدبّرة مصنوعة لا يعرف وجهها، و خالقها لا يشبهها وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ لا يخفى على ربّنا خافية »(1).

عن القمي رحمه اللّه: أنّها نزلت في صلاة النّافلة، تصلّيها حيث توجّهت إذا كنت في السّفر، و أمّا الفرائض فقوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2) يعني الفرائض لا تصلّيها إلاّ الى القبلة(3).

عن (الفقيه) عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يقوم في الصّلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا؟

فقال: «قد مضت صلاته، و ما بين المشرق و المغرب قبلة، و نزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ » الخبر(4).

في وجه رفع اليد و النظر إلى السماء عند الدعاء

قيل: لمّا نزل وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (5) قالوا: أين ندعوه ؟ فأنزل اللّه:

وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ .. الآية(6).

إن قيل: فما معنى رفع اليد و النظر إلى السّماء عند الدّعاء مع أنّ اللّه منزّه عن الجهة ؟

ص: 316


1- التوحيد: 16/182.
2- البقرة: 144/2.
3- تفسير القمي 59:1.
4- من لا يحضره الفقيه 846/179:1.
5- غافر: 60/40.
6- تفسير روح البيان 211:1.

قلنا: ليس رفع اليد لأنّ اللّه في جهة العلوّ، بل لأنّ في السّماء خزائن رحمته، و العرش مظهر استواء صفة رحمانيّته.

سورة البقرة (2): آیة 116

اشارة

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)

سورة البقرة (2): آیة 116

ثمّ أنّه بعد ما حكى اللّه تعالى تنازع كلّ فريق من اليهود و النّصارى و مشركي العرب في الحقّ و الدّين و وعد الحكومة بينهم في القيامة، حكم على بطلان دعوى جميعهم في الدنيا لقول كلّ طائفة، بما يحكم على خلافه بديهة العقل بقوله: وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً إذ قالت اليهود: عزير ابن اللّه، و قالت النّصارى: المسيح ابن اللّه، و قالت مشركو العرب: الملائكة بنات اللّه.

ثمّ ردّ عليهم بقوله: سُبْحانَهُ إنّه منزّه عن التجسّم و الماهيّة و السّنخيّة(1) مع خلقه بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كلّه ملكه و تحت قدرته.

كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون مقرّون بعبوديّته طبعا و جبلّة، لا يجانسونه و لا يسانخونه. و الحال أنّه لا بدّ من السّنخيّة بين الوالد و الولد، و لمّا كان القنوت في أصل اللّغة بمعنى الدّوام، كان فيه إشعار بأنّ جميع ما في السماوات و الأرض بقاؤه به سبحانه لا تنقطع حاجته عنه، و التعبير بلفظ ما فِي السَّماواتِ مع أنّ كثيرا منها عقلاء للتّحقير بشأنها.

سورة البقرة (2): آیة 117

اشارة

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

سورة البقرة (2): آیة 117

ثمّ أنّه بعد بيان أنّ كلّ ما في السّماوات و الأرض ملكه و مخلوقه، بيّن أنّه أيضا بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و منشئهما من غير مثال.

عن الباقر عليه السّلام في تفسير البديع: «ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السّماوات و الأرضين و لم يكن قبلهنّ سماوات و لا أرضون. أ ما تسمع لقوله تعالى: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ؟» الخبر(2).

ثمّ بيّن كيفية الإبداع بقوله: وَ إِذا قَضى أَمْراً و أراد شيء، كائنا ما كان فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ لا

ص: 317


1- السنخ: الأصل من كلّ شيء.
2- الكافي 2/200:1، و الآية من سورة هود: 7/11.

بصوت يقرع، و لا بنداء يسمع، بل بصرف إرادته فَيَكُونُ و يوجد بمجرّد نفاذ قدرته، و لا يحتاج في خلقه إلى فكر، و استعانة بشيء، و تحقّق مادّة، و مضيّ مدّة، فتمّ البرهان القاطع على امتناع أن يكون شيء ممّا سواه ولدا له، حيث إنّ لازم الولادة هو الحدوث و المسبوقيّة بالعدم، و كلّ مسبوق بالعدم مخلوق بإفاضة الوجود عليه من الواجب، و المخلوق لا يعقل أن يكون ولدا لخالقه، و الوالد لا يمكن أن يكون موجدا و مالكا. و لذا احتجّ في مواضع من الكتاب العزيز على القائلين بأن اللّه ولدا بأنّ من في السّماوات و الأرض عبيد له، و أنّه إذا قضى أمرا يقول له: كن فيكون.

سورة البقرة (2): آیة 118

اشارة

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

سورة البقرة (2): آیة 118

ثمّ إنّه تعالى لمّا بيّن شركهم و اتّخاذهم الولد للّه، عقّبة بذكر شبهاتهم السّخيفة في النبوّة، و إنكارهم لها عن تعنّت و عناد بقوله: وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من جهلة قريش و المشركين و سفهاء أهل الكتاب لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللّهُ كما تدّعي أنّه كلّم موسى في الطّور و كلّمك في معراجك أَوْ تَأْتِينا

من السّماء. آيَةٌ من كتاب و صحيفة، كما قال تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (1) و قال: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ (2).

و تقرير الشبهة أنّ اللّه حكيم، و الحكيم إذا أراد الوصول إلى غرض لا بدّ أن يختار أقرب طرق الوصول إليه، فإذا أراد اللّه تعالى هدايتنا، فأقرب الطرق إليها أن يكلّمنا بنفسه مشافهة، كما كلّم الملائكة و الأنبياء فإنّه أقرب إلى التّصديق و أبعد من الشّكوك و الشبهات، أو ينزّل عليها كتابا يصرّح فيه بنبوّتك، فردّ اللّه عليهم بقوله: كَذلِكَ القول السّخيف قالَ الَّذِينَ كابروا أنبياءهم مِنْ قَبْلِهِمْ من الامم الماضية مِثْلَ قَوْلِهِمْ من التعنّتات و الاقتراحات، بل فاقوا عليهم بقولهم: أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً (3) و قالوا لعيسى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ (4) فهؤلاء و السّابقون عليهم من المصرّين على الكفر تَشابَهَتْ و تماثلت قُلُوبُهُمْ في العمى و العناد و عدم التفقّه، لأنّ المكذّبين للرّسل طينتهم واحدة و أقوالهم و أفعالهم متماثلة.

قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ الباهرات، و أوضحنا صدقك بهذا القرآن الذي هو من أعظم المعجزات،

ص: 318


1- المدثر: 52/74.
2- النساء: 153/4.
3- النساء: 153/4.
4- المائدة: 112/5.

و مجيء الشّجر بأمرك، و تسبيح الحصاة في كفّك، و تكلّم الذئب معك، و إشباع الخلق الكثير بالطعام القليل لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بالحقائق.

فحاصل الجواب: أنّا قد أيّدنا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالآيات الباهرات و المعجزات الظاهرات، فإن كنتم طالبين لليقين فقد جاءكم بأزيد ممّا تحتاجون إليه من الدّلالات و البراهين، و إن كنتم تعنتون فلا يحسن إجابتكم.

سورة البقرة (2): آیة 119

اشارة

إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)

سورة البقرة (2): آیة 119

ثمّ لمّا كثر إصرارهم على الكفر و العناد، و اغتمّ قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله لذلك، سلّى سبحانه و تعالى قلب حبيبه حبّا له، و رحمة عليه، بقوله: إِنّا أَرْسَلْناكَ إليهم إرسالا مقرونا بِالْحَقِّ أو مصاحبا للكتاب المشتمل على حقائق المعارف و دقائق العلوم، لتكون أو حال كونك بَشِيراً بالثّواب لمن أطاعك وَ نَذِيراً بالعقاب لمن كفر و عصى، فليس عليك إتعاب نفسك في ازدياد الدّعوة و المبالغة في التّبليغ، فإنّه لا مزيد على ما فعلت، فلا يكثر همّك من إصرارهم على الكفر، و مكابرتهم للحقّ ، لأنّه ليس عليك تبعة سيّئاتهم.

وَ لا تُسْئَلُ يوم القيامة عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ و لا تؤاخذ بعصيانهم و كفرهم، فإنّ ضررهما راجع إلى أنفسهم لا إليك.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه على النّهي »(1).

أقول: قرأ به نافع أيضا (2) ،و على هذا يكون نهي النبي صلّى اللّه عليه و آله عن السؤال لأجل الإشعار بأنّ شدّة عذابهم و سوء حالهم ممّا لا يسعه البيان.

في تغليط ما روته العامة في كفر والدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و الاستدلال على براءة آبائه و امهاته من الشرك

ثمّ اعلم أنّ من أغلاط كثير من العامّة أنّ النّهي كان عن سؤال النبي صلّى اللّه عليه و آله عن حال أبويه حيث رووا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت(1).

أقول: ليت شعري، كيف يمكن خفاء كذب هذه الرواية على من له أدنى مرتبة [من] الشعور و الدراية، لبداهة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان أعلم الخلق بأنّ الكفّار معذّبون بالنّار، و كان أعرف النّاس بعقائد أبوية، فمع اطّلاعه بكفرهما - تعاليا عن ذلك - كيف يجوز

ص: 319


1- تفسير الرازي 30:4، تفسير روح البيان 216:1.

عليه إظهار الشّكّ و التّرديد في حالهما في الآخرة بقوله: «ليت شعري ما فعل أبواي ؟» مع أنّ الأنبياء خصوصا خاتمهم لا بدّ من كونهم منزّهين من كلّ شين، و أيّ شين أعظم من كفر الأبوين!

مع أنّ اللّه تعالى أمر خليله إبراهيم عليه السّلام بتطهير بيته الخاصّ بعبادته من لوث المشركين و أرجاس الأوثان للطّائفين و العاكفين و الرّكّع السّجود، و كيف يمكن أن لا يطهّر بيتا خصّه بأنوار أنبيائه و نطف أصفيائه من أصلاب الآباء و أرحام الامّهات من دنس الشّرك و رجس الوثنيّة لهم عليهم السّلام مع كونهم أفضل الرّاكعين و الساجدين(1) و العاكفين!

فآية طَهِّرْ بَيْتِيَ (2) دالّة بالفحوى على طهارة آباء الأنبياء و أمّهاتهم من الشّرك، و نزاهتهم من الكفر، هذا مضافا إلى دلالة أخبار كثيرة على أنّهم عليه السّلام لم يتولّدوا إلاّ من الأصلاب الشامخة الطّاهرة، و الأرحام المقدّسة المطهّرة، لم تنجّسهم الجاهليّة بأنجاسها(3).

سورة البقرة (2): آیة 120

اشارة

وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)

سورة البقرة (2): آیة 120

ثمّ أنّه لمّا أراد اللّه راحة قلب حبيبه عن كثرة التّدبير لهداية اليهود و السّعي في دعوتهم إلى الحقّ ، و لم يمكن أن يحصل له الانصراف ما دام له رجاء فيهم، بالغ سبحانه في إقناط رسوله عن إيمانهم و قطع رجائه في اتّباعهم لدين الحقّ ، بقوله: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى بشيء من

ص: 320


1- في النسخة: الركعين و السجدين.
2- الحج: 26/22.
3- و نضيف هنا ما أورده الشيخ ابن شهرآشوب في (متشابه القرآن 64:2) حول هذه المسألة حيث قال في تفسير قوله تعالى: اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ [الشعراء: 218/26 و 219] الثعلبي و الواحدي و ابن بطة في كتبهم عن عطاء و عكرمة، عن ابن عباس: يعنى نذيرك من أصلاب الموحدين من نبي إلى نبي حتّى أخرجك في هذه الامة، و ما زال يتقلب في أصلاب الأنبياء و الصالحين حتّى ولدته امه، و قد جاء في الخبر: فما زال ينقله من الآباء الأخاير و الامهات الطواهر، و قد من اللّه عليه بالآباء الطاهرة الساجدة، و لو عنى شيئا من الأصنام لما منّ عليه، لأنّ المنّ بالكفر قبيح. و قوله سبحانه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة: 84/9] يدل على أن آمنة بنت وهب كانت مؤمنة، لأنه روى مسلم في صحيحه في حديث بريدة: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله أتى إلى رسم قبر و جلس، و جلس النّاس معه حوله فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فقيل: ما يبكيك يا رسول اللّه ؟ قال: هذا قبر آمنة بنت وهب، و قد استأذنت ربي في زيارة قبر امي فأذن فزوروا القبور تذكركم الموت.

المداراة معهم و الإحسان إليهم حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ اليهوديّة و توافقهم في العقائد الفاسدة، و مع ذلك كيف تتوقّع أن يتّبعوا ملّتك الحقّ ؟

فإن سألوا منك الدخول في دينهم قُلْ ردّا عليهم: ليست اليهوديّة دين اللّه و هداه، بل إِنَّ هُدَى اللّهِ و دينه الذي رضي به و هو الإسلام هُوَ حقيق بأن يقال له: اَلْهُدى و طريق مؤدّ إلى رضوان اللّه و رحمته، و أمّا اليهوديّة فإنّ أتباعها أتباع الهوى و عين الضّلال، و اللّه منها بريء.

ثمّ هدّد اللّه على اتّباعها بقوله: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ و أنت أحبّ الخلق إليّ ، و أشرف الممكنات لديّ أَهْواءَهُمْ النّفسانيّة و عقائدهم الناشئة عن القوى الشّهوانيّة الّتي سمّوها دين اليهوديّة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بدين الحقّ على الفرض المحال، يعاقبك اللّه عليه، و ما لَكَ مِنَ اللّهِ و بأسه مِنْ وَلِيٍّ و صديق يشفع لك وَ لا نَصِيرٍ و معين يدفع العقاب عنك. و فيه نهاية التّهديد على اتّباع الهوى بعد وضوح الهدى و قيام الحجّة، كما أنّ في قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لئن عصيت لهويت »(1).غاية الوعيد للعصاة.

سورة البقرة (2): آیة 121

اشارة

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)

سورة البقرة (2): آیة 121

ثمّ إنّه لمّا كان مجال أن يقال: إنّ ملّة اليهوديّة هي الهدى لأنّها ممّا جاء به موسى عليه السّلام، و دلّت عليه التّوراة، فاليهود آخذون ملّتهم من نبيّ اللّه و كتابه، فلا بدّ أن يكون هدى اللّه، دفع اللّه هذا التوهّم بقوله:

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ المعهود الذي نزل على موسى، و هم يَتْلُونَهُ متدبّرا فيه و يقرءونه متفكّرا في معانية و حقائقه، و ذلك يكون حَقَّ تِلاوَتِهِ علموا بدلالته أنّ دين موسى و كتابه منسوخان، و عرفوا أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله نبيّ ، و كتابه حقّ ، فالإيمان بالتّوراة ملازم للإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فالذين يؤمنون من أهل الكتاب بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله أُولئِكَ الّذين يصدّقون بكتاب التّوراة و يُؤْمِنُونَ بِهِ و يختصّون من بين اليهود باتّباعه، كبعد اللّه بن سلاّم و أضرابه.

و أمّا من كفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بكتابه مع دلالة التّوراة على صدقهما، فهو كافر بكتاب التّوراة، و مكذّب له وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ و لا يتّبع ما فيه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في صفقتهم، المغبونون في تجارتهم،

ص: 321


1- الارشاد/للشيخ المفيد 182:1، بحار الأنوار 467:22.

إذ لا دين لهم و لا إيمان، لا بموسى و لا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هذا جار في هذه الأمّة الذين اوتوا القرآن، حيث إنّ المؤمنين به هم الذين يتلونه حقّ تلاوته، و يتدبّرون فيه، و يتّبعون أحكامه.

عن (المجمع) و (العيّاشيّ ) عن الصادق عليه السّلام: «يتلونه حقّ تلاوته بالوقوف عند ذكر الجنّة و النّار(1) ؛ يسأل في الأولى، و يستعيذ من الاخرى »(2).

و عن (الكافي) و (العياشي): «هم الأئمّة عليهم السّلام »(3).

سورة البقرة (2): الآیات 122 الی 123

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

سورة البقرة (2): آیة 122

ثمّ أنّه تعالى لمّا بدأ عند محاجّة اليهود بتذكيرهم نعمته التي أنعم بها عليهم إجمالا، ختم محاجّتهم به لتأكيد الحجّة، و إبلاغ النّصح، و الدّعوة إلى اتّباع الحقّ ، و التّسليم لدينه و أحكامه، و تصديق نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و كتابه المجيد بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ .

سورة البقرة (2): آیة 123

ثمّ أردفه بالتّهديد بما هدّدهم به أوّلا من قوله: وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و قد مرّ تفسيرهما(4).

قيل: نكتة تقديم عدم قبول الفدية في الذكر هنا على عدم قبول الشّفاعة و تأخيره عليه في الآية السابقة، هي الإشارة إلى اختلاف النّاس في حبّ المال و علوّ النّفس، فمن كان حبّه للمال أكثر، يقدّم الاستشفاع على بذل المال، و من كان بالعكس كان عمله بالعكس.

سورة البقرة (2): آیة 124

اشارة

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (124)

سورة البقرة (2): آیة 124

ثمّ لمّا كان مشركو قريش و يهود المدينة من ولد إبراهيم عليه السّلام و كان هو عليه السّلام عظيما عندهم، بل عند

ص: 322


1- تفسير العياشي 189/152:1.
2- مجمع البيان 375:1.
3- الكافي 4/168:1، تفسير العياشي 188/152:1.
4- تقدم في تفسير الآية (48).

جميع الامم أشار سبحانه و تعالى إلى أنّه عليه السّلام لم ينل هذه الكرامة إلا بالتّوحيد و الطّاعة، و أنّه مع علوّ مقامه سأل اللّه تعالى كرامته لذرّيّته، فما اجيب في حقّ الظّالمين و العاصين منهم لعدم قابليّة الظالم و العاصي نيلها، بقوله: وَ إِذِ ابْتَلى و امتحن إِبْراهِيمَ رَبُّهُ برأفة ربوبيّته له، و كمال عنايته به بِكَلِماتٍ .

في ابتلاء إبراهيم عليه السّلام بكلمات، و المراد منها

قيل: المراد بها التّكاليف الشاقّة، و المصائب العظيمة، كإلقائه في النّار، و الختان و هو ابن مائة و عشرين سنة، و الهجرة من الوطن المألوف، و بناء البيت، و ذبح الولد(1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: ابتلاه اللّه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام (2) ؛عشر منها في سورة براءة اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... (3) إلى آخره، و عشر في الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ ... (4) إلى آخره، و عشر في سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (5).

و ما عن القمّي رحمه اللّه: - هو ما ابتلاه به ممّا أراه في نومه من ذبح ولده فأتمّها إبراهيم عليه السّلام و عزم عليها و سلّم (6)- فمحمول على بيان أحد أفراد الكلمات.

و عن (الخصال) عن الصادق عليه السّلام: «هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، و هو أنّه قال:

يا ربّ أسألك بمحمّد(7) و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلاّ تبت عليّ ، فتاب [اللّه] عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم»(8) الخبر.

فَأَتَمَّهُنَّ : إبراهيم عليه السّلام و امتثلهنّ و قام بهنّ حقّ القيام.

عن الصادق عليه السّلام قال: «يعني أتمّهنّ إلى القائم عليه السّلام اثني عشر إماما، تسعة من ولد الحسين »(9).

و عن (العيّاشيّ ) قال: «أتمّهنّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و الأئمّة من ولد عليّ صلوات اللّه عليهم »(10).

أقول: الظاهر أنّ المراد من ابتلاء إبراهيم عليه السّلام بالأسماء المباركات تكليفه بمعرفة ذواتهم المقدّسة و التّصديق بفضلهم عليه و على سائر الخلق، فلمّا امتثله و كملت معرفته بهم إلى قائمهم، صار قلبه

ص: 323


1- تفسير الرازي 37:4 و 38 «نحوه».
2- في مجمع البيان: من شرائع الإسلام.
3- التوبة: 112/9.
4- الأحزاب: 35/33.
5- مجمع البيان 378:1، و الآيات من سورة المؤمنون: 1/23-10.
6- تفسير القمي 59:1.
7- في المصدر: بحق محمّد.
8- الخصال: 84/305، معاني الأخبار: 1/126.
9- الخصال: 84/305، معاني الأخبار: 1/126.
10- تفسير العياشي 193/153:1.

مخزن معرفة اللّه و وعاء علمه، فاستغرق في بحار أنوار رحمته، فعند ذلك أكرمه اللّه بغاية الكرامة، و شرّفه بمنصب الإمامة، و قالَ له ثوابا على القيام بالطاعة و الصّبر عليها: إِنِّي جاعِلُكَ و ناصبك لِلنّاسِ كافّة إلى قيام السّاعة إِماماً و مقتدى يأتمّون بك، و يهتدون بهداك، فلذلك اجتمع أهل الأديان كلّهم على تعظيمه و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باتّباع ملّته كما قال اللّه: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى اتّخذ إبراهيم عليه السّلام عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا، و إنّ اللّه تعالى اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا، و إنّ اللّه تعالى اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا، و إنّ اللّه تعالى اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما، فلمّا جمع له الأشياء قال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً فمن عظمها في عين إبراهيم عليه السّلام قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي » (2).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام: «فقال الخليل عليه السّلام سرورا بها وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي » (3).قالَ اللّه عزّ و جلّ لا يَنالُ و لا يصل عَهْدِي و الإمامة التي أمرها بيدي اَلظّالِمِينَ من ذرّيتك، و العصاة من نسلك، فإنّ الإمام مانع عن الظلم، فلا يجوز أن يكون هو ظالما.

قال الرضا عليه السّلام: «فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة، و صارت في الصّفوة »(4).

و في رواية: «من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما »(5).

و في اخرى، قال عليه السّلام: «لا يكون السّفيه إمام التّقيّ »(6).

و في هذه الرّوايات من التّعريض ما لا يخفى.

و في رواية القمّي رحمه اللّه: «ثمّ أنزل عليه الحنيفيّة، و هي الطّهارة، و هي عشرة أشياء؛ خمسة في الرأس، و خمسة في البدن، فأمّا التي في الرأس: فأخذ الشّارب، و إعفاء اللّحى، و طمّ الشّعر، و السّواك، و الخلال.

و أمّا التي في البدن: فحلق الشّعر من البدن، و الختان، و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة، و الطّهور

ص: 324


1- النحل: 123/16.
2- الكافي 2/133:1، الاختصاص: 22.
3- الكافي 1/154:1، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/217:1.
4- الكافي 1/154:1، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/217:1.
5- الكافي 1/133:1، الاختصاص: 23.
6- الكافي 2/133:1، الاختصاص: 22.

بالماء. فهذه الحنيفيّة الطاهرة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة »(1).

في أن الإمامة لا بد أن تكون بنصّه تعالى و ليس للخلق فيها نصيب

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذه الآية أقوى الأدلّة على أن الإمامة و هي الولاية العامّة و المطاعيّة المطلقة لا بدّ أن تكون بجعل اللّه و نصبه، ليس للنّاس نصيب للتّصريح فيها، على أنّها عهد اللّه، فلا يعقل أن يكون جاعله غيره، و لدلالتها على أنّها مرتبة شامخة فلا يليق أن يكون جاعلها غير اللّه، مع أنّه لو أمكن جعلها من قبل النّاس لما سأل ابراهيم عليه السّلام ربّه أن يجعلها لذرّيته، لإمكان أن يوصي لامّته أن يجعلوها فيهم.

في الاستدلال على وجوب عصمة الأئمة عن المعصية و الخطإ و السهو و النسيان، و كونه عالما بالأحكام و مصالح النّاس

ثمّ اعلم أنّ في الآية دلالة واضحة على لزوم كون الإمام معصوما من المعاصي و الزّلل لوجهين:

الأول: أنّ معنى لفظ الإمام هو من يجب الائتمام به في جميع أقواله و أفعاله، و اتّباعه في جميع أوامره و حركاته و سكناته، و من البديهيّ أنّ من يمكن صدور المعصية منه لا يمكن وجوب اتّباعه على الإطلاق، للزوم إمكان اجتماع الأمر و النّهي، و هو بديهيّ البطلان كوقوعه.

و الثاني: قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ حيث إنّ الظّالم صادق على من تلبّس بمعصيته و لو كانت صغيرة، فصدق عنوان الظّالم و العاصي على أحد في زمان ملازم لحرمانه عن نيل هذا المقام الشامخ أبدا.

ثمّ اعلم أنّها كما تدلّ على لزوم كونه معصوما عن المعاصي، تدلّ على لزوم كونه معصوما عن الخطأ و السّهو و النّسيان لعدم إمكان وجوب اتّباع من أمكن في حقّه ذلك على الإطلاق لما ذكر.

ثمّ لا بدّ أن يكون الإمام عالما بجميع الأحكام حتّى لا يأمر بخلاف ما أمر اللّه و لا يحكم بغير حكمه، بل لا بدّ أن يكون عالما بجميع مصالح الخلق و مفاسدهم، حتّى لا يأمر أحدا بما فيه فساده، و لا ينهاه عمّا فيه صلاحه، و أن يكون أعلم النّاس، و إلاّ لا يكون إماما لجميعهم، بل يكون مأموما لمن يكون هو أعلم منه.

إذا تمهّد ذلك فاعلم أنّه لم تكن هذه الصّفات بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله إلاّ في عليّ عليه السّلام و أحد عشر من ولده، و لم يدّعها أحد لغيرهم، بل ثبت بالضّرورة و اتّفاق الأمّة أنّ غيرهم كانوا فاقدين لها، فوجب أن تكون

ص: 325


1- تفسير القمي 59:1.

الإمامة مختصّة بهم، و عدم صلاحيّة غيرهم لها.

في أنّ الشيخين لم يكونا صالحين للخلافة الإلهية

و الحاصل: أنّ الآية الكريمة ظاهرة الدلالة باتّفاق أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه عليهم على عدم صلاحيّة أبي بكر و عمر للإمامة لوجوه:

منها: أنّهما كانا مشركين باتّفاق الأمّة، و الشّرك ظلم لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (1) فوجب عدم صلاحيّتهما للإمامة بهذه الآية.

إن قيل: إنّهما لم يكونا مشركين في زمان الإمامة ؟

قلنا: صدق مفهوم الظالم عليهما في زمان مخرج لهما عن صلاحيّتها أبدا، كما أنّ صدق السارق على أحد في زمان موجب لقطع يده أبدا، و ليس الحكم دائرا مدار صدق العنوان، لأنّه علّة محدثة لا مبقية حتّى يبقى ببقائه و ينتفي بانتفائه، و الشاهد على ذلك حكم العقل بعدم تناسب الذّوات التي فيها شائبة الخباثة و الدّناءة مع هذه المرتبة الشامخة الإلهيّة.

و منها: أنّ من كان مذنبا في الباطن و السّرّ، كان ظالما في الواقع و إن لم يطّلع عليه أحد، و إذا لم تعرف طهارة باطنة لا يجوز أن يحكم بإمامته، فوجب أن يكون معصوما حتّى يعلم عدم كونه ظالما في الباطن، و لا تعلم العصمة إلاّ بنصّ اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا لم يعرف أنّ أبا بكر و عمر ما كانا ظالمين في الظاهر و الباطن لاتّفاق الأمّة على أنّهما لم يكونا معصومين، لم يجز أن ينصّبا للإمامة، و وجب أن لا تتحقّق إمامتهما.

قال الفخر الرازي: استدلّ الشيعة بهذه الآية على وجوب عصمة الإمام عن المعصية ظاهرا و باطنا، و أمّا نحن فنقول: مقتضى الآية ذلك، إلاّ أنّا تركنا اعتبار الباطن، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة(2).

أقول: في هذا الجواب ما لا يخفى من الوهن.

في أنّ الآيات الدالة على عصيان الأنبياء مؤوّلة

إنّ قيل: إنّ اللّه تعالى حكى عن يونس عليه السّلام أنّه قال: سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ (3) و عن آدم عليه السّلام أنّه قال: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا (4) و عن موسى عليه السّلام أنّه قال:

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي (5) فلا يكون الظلم منافيا للنبوّة.

قلنا: إنّ إطلاق الظلم و إنّ كان منصرفا إلى ارتكاب المنهيّات التّحريميّة، إلاّ أنّه لا بدّ من تأويله في

ص: 326


1- لقمان: 13/31.
2- تفسير الرازي 42:4.
3- الأنبياء: 87/21.
4- الأعراف: 23/7.
5- النمل: 44/27.

موردهم إلى ارتكاب النّواهي التنزيهيّة بالقرينة القطعيّة، و هو ثبوت عصمتهم عليهم السّلام.

سورة البقرة (2): آیة 125

اشارة

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

سورة البقرة (2): آیة 125

ثمّ أنّه تعالى لمّا وهب لإبراهيم عليه السّلام منصب الإمامة و أكرمه به، شرّفه بتشريفات لم يشرّف بها أحدا من أنبيائه، منها: أنّه جعل البيت الذي بناه بيده و الحجر الذي قام عليه شرفا عظيما و فضلا جسيما، فلذا نبّه سبحانه بشرفهما بعد تشريفه عليه السّلام بالإمامة، بقوله: وَ اذكر إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ الذي بناه إبراهيم عليه السّلام و هي الكعبة المعظّمة مَثابَةً و مرجعا و معادا، أو معبدا لِلنّاسِ كافّة من الموحّدين و المشركين إلى يوم القيامة.

عن ابن عبّاس: أنّه لا ينصرف [عنه] أحد إلاّ و [هو] يتمنّى العود إليه(1).

و قيل: إنّ المثابة هي(2) محلّ الثّواب، حيث إنّ النّاس يحجّون إليه فيثابون به(3).

وَ جعلناه أَمْناً و مأمنا، عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «من دخل الحرم من النّاس مستجيرا [به] فهو آمن من سخط اللّه عزّ و جلّ ، و من دخله من الوحش و الطّير كان آمنا من أن يهاج حتّى يخرج من الحرم »(4).

و نقل أنّ أهل الجاهليّة كانوا متمسّكين بتحريمه لا يهيجون على أحد التجأ إليه، و قد أخذوه من دين إسماعيل(5).

و نقل أنّ كلب الصّيد كان يهمّ بالضّبي فيفرّ الضّبي منه فيتبعه حتّى إذا دخل الضّبي الحرم لم يتبعه الكلب(6).

و الروايات في تحريم مكّة كثيرة جدّا، روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللّه حرّم مكّة، و إنّها لم تحلّ لأحد قبلي، و لا لأحد بعدي، و إنّما احلّت لي ساعة من نهار، و قد عادت حرمتها كما كانت »(7).

ص: 327


1- تفسير الرازي 46:4.
2- في النسخة: مثابة هو.
3- مجمع البيان 383:1.
4- الكافي 1/226:4.
5- تفسير الرازي 47:4.
6- تفسير الرازي 47:4.
7- تفسير الرازي 47:4.

و قيل: إنّه موضع آمن من القحط و الجدب(1) لقوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ (2).

وَ قلنا: اِتَّخِذُوا يا عبادي، و اختاروا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ و هو الحجر الذي عليه أثر قدمه مُصَلًّى.

شرح مقام إبراهيم عليه السّلام

عن الباقر عليه السّلام في رواية: «و لقد وضع عبد من عباد اللّه قدمه على صخرة، فأمرنا اللّه تبارك و تعالى أن نتّخذها مصلّى »(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني بذلك ركعتي طواف الفريضة »(4).

روي أنّه لمّا أتى إبراهيم بإسماعيل و هاجر، و وضعهما بمكّة و أتت على ذلك مدّة و نزلها الجرهميّون، و تزوّج إسماعيل منهم امرأة و ماتت هاجر، استأذن إبراهيم عليه السّلام سارة في أن يأتي هاجر، فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل.

فقدم إبراهيم عليه السّلام و قد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت:

ذهب يتصيّد، و كان إسماعيل يخرج من الحرم يتصيّد. فقال لها إبراهيم عليه السّلام: هل عندك ضيافة ؟ قالت:

ليس عندي. سألها عن عيشهم فشكت إليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السّلام و قولي له: فليغيّر عتبة بابه.

و ذهب إبراهيم عليه السّلام، فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا و كذا - كالمستخفّة بشأنه - قال: فما قال لك ؟ قالت: قال: اقرئي زوجك السّلام و قولي له فليغيّر عتبة بابه. قال: ذلك أبي، و قد أمرني أن افارقك، الحقي بأهلك. فطلّقها و تزوّج منهم اخرى.

فلبث إبراهيم عليه السّلام ما شاء اللّه أن يلبث، ثمّ استأذن سارة في أن يزور إسماعيل، فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل. فجاء إبراهيم عليه السّلام حتّى انتهى إلى باب إسماعيل عليه السّلام فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت: ذهب يتصيّد و هو يجيء الآن إن شاء اللّه، فانزل رحمك اللّه.

قال: هل عندك ضيافة ؟ قالت: نعم. فجاءت باللّبن و اللّحم، و سألها عن عيشهم. قالت: نحن في خير و سعة. فدعا لهما بالبركة، و لو جاءت يومئذ بخبز [أو برّ] أو شعير أو تمر، لكانت أكثر أرض اللّه برّا أو شعيرا أو تمرا، و قالت له: انزل حتّى أغسل رأسك. فلم ينزل، فجاءت بالمقام فوضعته على

ص: 328


1- مجمع البيان 387:1.
2- القصص: 57/28.
3- تفسير العياشي 199/155:1.
4- التهذيب 454/138:5.

شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه و هو راكب، فغسلت شقّ رأسه الأيمن، ثمّ حوّلت إلى شقّ رأسه الأيسر فبقي(1) أثر قدميه(2) عليه(3).

و روي أنّ ابراهيم عليه السّلام قام على هذا الحجر و أذّن بالحجّ (4).

و في رواية: أنّ الرّكن و المقام ياقوتتان من يواقيت الجنّة، و لو لا مماسّة أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق و المغرب(5).

و روي أنّه نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة: مقام إبراهيم عليه السّلام، و حجر بني إسرائيل، و الحجر الأسود(6).

ثمّ من تشريفاته عليه السّلام ما ذكره اللّه ثانيا بقوله: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ و أمرناهما أمرا أكيدا و ألزمنا عليهما إلزاما شديدا أَنْ طَهِّرا و نزّها بَيْتِيَ من الأصنام و الأوثان.

عن الصادق عليه السّلام: «نحّيا عنه المشركين »(7).

و قيل: إنّ المراد نزّهاه عن جميع ما لا يليق به(8).

لِلطّائِفِينَ و هم الذين يطوفون به وَ الْعاكِفِينَ و هم الذين يقيمون فيه للعبادة وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ و هم المصلّون فيه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: أ يغتسلن النّساء إذا أتين البيت ؟ قال: «نعم، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ فينبغي للعبد أن لا يدخل إلاّ و هو طاهر قد غسل عنه العرق و الأذى و تطهّر »(9).

سورة البقرة (2): آیة 126

اشارة

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

سورة البقرة (2): آیة 126

و من تشريفاته عليه السّلام أنّه استجاب دعوته في حقّ ساكني مكّة و أهلها، كما قال تعالى: وَ إِذْ قالَ

ص: 329


1- زاد في النسخة: فيها.
2- في مجمع البيان: قدمه.
3- مجمع البيان 383:1.
4- تفسير روح البيان 226:1.
5- تفسير روح البيان 226:1.
6- مجمع البيان 383:1.
7- تفسير القمي 59:1.
8- تفسير الرازي 51:4.
9- تفسير العياشي 200/155:1، علل الشرائع: 1/411.

إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا المكان بَلَداً آمِناً قيل: أي مأمونا من الخسف و المسخ و القتل(1).

وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ و ساكنيه مِنَ الثَّمَراتِ و المأكولات التي تخرج من الأرض و الشجر، من الأطعمة و الفواكه، فجمع في دعائه لأهله بين الأمن و السّعة و طيب العيش.

ثمّ أنّه عليه السّلام لمّا رأى احتجاب دعائه بالإمامة لذرّيّته في حقّ الظالمين منهم، كأنّه احتمل احتجاب هذا الدعاء أيضا في حقّهم، فخصّه بالمؤمنين بقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ.

و أخرج الظالمين عن مسألة درّ الرّزق عليهم، فدفع اللّه هذا التّوهم، و كأنّه قالَ : لا أخصّ الرّزق بالمؤمنين منهم، بل أرزق من آمن منهم وَ مَنْ كَفَرَ حيث إنّ النعم الدنيويّة ليست كالإمامة، بل تعمّ الكافر و المؤمن، إلاّ أنّ المؤمن تتّصل نعمه الدنيويّة بالنعم الأخرويّة، و أمّا الكافر فَأُمَتِّعُهُ تمتيعا قَلِيلاً من النعم الدنيويّة التي لا قدر لها في المدّة القليلة من عمره، ثمّ أقطعها عنه بموته ثُمَّ أَضْطَرُّهُ و ألجأه إِلى عَذابِ النّارِ الذي لا انقطاع له وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع ذلك العذاب الشّديد الدائم.

عن (العلل): عن الرضا عليه السّلام: «لمّا دعا إبراهيم عليه السّلام أن يرزق أهله من الثمرات، أمر بقطعة من الأردنّ فسارت بثمارها حتّى طافت بالبيت، ثمّ أمرها أن تنصرف إلى هذا الموضع الذي سمّي بالطائف، و لذلك سمّي طائفا »(2).

قال بعض: الأردنّ ، بضمّتين: كورة بالشّام(3).

قيل: إنّ وجه اختلاف هذه الآية مع ما في سورة إبراهيم (4)- حيث قال هنا: اِجْعَلْ هذا بَلَداً بغير اللاّم، و هناك مع اللاّم - أنّ دعوته هنا كانت قبل بناء البلد، و هناك بعد بنائه(5).

سورة البقرة (2): الآیات 127 الی 129

اشارة

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ

ص: 330


1- تفسير روح البيان 227:1.
2- علل الشرائع: 2/442.
3- معجم البلدان 176:1، لسان العرب 178:13.
4- في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ابراهيم: 35/14.
5- تفسير الرازي 55:4.

اَلْحَكِيمُ (129)

سورة البقرة (2): آیة 127

في شرح بناء الكعبة و فضلها

و من تشريفاته عليه السّلام أنّه امر ببناء الكعبة، فذكّر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله به بقوله: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ و الأساس من الكعبة، و كان أساسه من زمان آدم عليه السّلام ثمّ خرب بنيانه، فرفع إبراهيم عليه السّلام البنيان على ذلك الأساس.

روي أن آدم عليه السّلام اهبط بالهند فقال: يا ربّ ، ما لي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنّة ؟ قال: بخطيئتك، فانطلق إلى مكّة فابن بها بيتا تطوف به كما رأيتهم يطوفون(1).

أقول: يعني كما رأيتهم يطوفون حول العرش، أو بيت المعمور. قال: فانطلق إلى مكّة فبنى البيت، فكان موضع قدمي آدم قرى و أنهارا و عمارة، و ما بين خطاه مفاوز، فحجّ آدم البيت من الهند أربعين سنة.

و نقل أنّه سأل عمر كعبا، فقال: أخبرني عن هذا البيت. فقال: إنّ هذا البيت أنزله اللّه تعالى من السّماء ياقوته مجوّفة مع آدم عليه السّلام، فقال: يا آدم، إنّ هذا بيتي، فطف حوله، و صلّ حوله كما رأيت ملائكتي يطوفون حول عرشي و يصلّون. و نزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة فوضع البيت على القواعد، فلمّا أغرق اللّه قوم نوح، رفعه اللّه و بقيت قواعده(2).

و روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «البيت المعمور بيت في السّماء يقال له الضّراح، و هو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السّماء كحرمة البيت في الأرض، يصلّي فيه كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة، لا يعودون فيه أبدا »(3).

و روي عنه عليه السّلام قال: «مرّ عليه الدّهر بعد بناء إبراهيم عليه السّلام فانهدم فبنته العمالقة، و مرّ عليه الدّهر فانهدم فبنته جرهم، و مرّ عليه الدّهر فانهدم فبنته قريش، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ شابّ . فلمّا أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: يحكم بيننا أوّل رجل يخرج من هذه السكّة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوّل من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثمّ ترفعه جميع القبائل، فرفعوا كلّهم فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوضعه »(4).

في وجه تسمية البيت بالحرام و الكعبة

و روي: أنّ الكعبة إنّما سميّت بيت [اللّه] الحرام، لأنّه حرّم على المشركين (5).و سمّي

ص: 331


1- تفسير الرازي 50:4.
2- تفسير الرازي 50:4.
3- تفسير الرازي 51:4.
4- تفسير الرازي 51:4.
5- علل الشرائع: 1/398.

الكعبة لأنّها مربّعة، و صارت مربّعة لأنّها بحذاء البيت المعمور و هو مربّع، و صار البيت المعمور مربّعا لأنّه بحذاء العرش و هو مربّع، و صار العرش مربّعا لأنّ الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع، و هي:

سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر(1).

و عن الزّهريّ أنّه قال: بلغني أنّهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه السّلام ثلاث صفوح في كلّ صفح منها كتاب، في الصّفح الأوّل: أنا اللّه ذو بكّة، صنعتها يوم صنعت [الشمس] و القمر،(2) الخبر.

في وجه تسمية البيت بالعتيق

عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا بلغ إسماعيل مبلغ الرّجال، أمر اللّه إبراهيم عليه السّلام أن يبني البيت، فقال: يا ربّ ، في أيّ بقعة ؟ قال: في البقعة التي انزلت بها على آدم القبّة فأضاء لها الحرم، و لم يدر إبراهيم عليه السّلام في أيّ موضع يبني، فإنّ القبّة التي أنزلها اللّه على آدم كانت قائمة إلى أيّام الطوفان أيّام نوح عليه السّلام.

فلمّا غرقت الدنيا رفع اللّه تلك القبّة و بقي موضعها لم يغرق، و لهذا سمّي البيت العتيق لأنّه اعتق من الغرق. فبعث اللّه جبرئيل فخطّ له موضع البيت، فأنزل عليه القواعد من الجنّة، و كان الحجر لمّا أنزله اللّه على آدم عليه السّلام أشدّ بياضا من الثّلج، فلمّا مسّته أيدي الكفّار اسودّ، فبنى إبراهيم عليه السّلام البيت»(3)

الخبر.

وَ إِسْماعِيلُ يعاونه، أو يرفعها معه. عن (الكافي) في رواية: «فلمّا أذن اللّه له في البناء قدم إبراهيم عليه السّلام فقال: يا بنيّ ، قد أمرنا اللّه ببناء الكعبة. و كشفا عنها، فإذا هو حجر واحد أحمر، فأوحى اللّه تعالى إليه أن ضع(4) بناءها عليه. و أنزل اللّه عزّ و جلّ أربعة أملاك يجمعون إليه الحجارة، فكان إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام يضعان الحجارة، و الملائكة تناولهما حتّى تمّت اثنا عشر ذراعا »(5).

و في رواية: بنى إبراهيم و إسماعيل البيت كلّ يوم سافا حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود(6).

قال أبو جعفر عليه السّلام: «فنادى أبو قبيس [إبراهيم عليه السّلام]: إنّ لك عندي وديعة، فأعطاه الحجر فوضعه موضعه »(7).

و عن (العلل) و (العياشي): عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ أنزل الحجر [الأسود] لآدم عليه السّلام

ص: 332


1- علل الشرائع: 2/398.
2- تفسير الرازي 51:4.
3- تفسير القمي 61:1.
4- في النسخة: إليه أصنع.
5- الكافي 3/203:4.
6- الكافي 4/205:4.
7- الكافي 4/205:4.

من الجنّة إلى البيت درّة بيضاء، فرفعه اللّه إلى السّماء، و بقي اسّه. فهو بحيال هذا البيت، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا، فأمر اللّه إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام ببنيان البيت على القواعد »(1).

في أنّ إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام كانا شريكين في رفع القواعد، و أن إسماعيل أول من نطق بالعربية

و اعلم أنّ ظاهر الآية المباركة و الروايات شركة إبراهيم و إسماعيل عليه السّلام في رفع القواعد و بناء البيت.

و في عدّة روايات اخر: أنّ إبراهيم كان متفرّدا في بناء البيت، و إسماعيل كان يناوله الأحجار (2) ،كما عن (المجمع) عن الباقر عليه السّلام: «أنّ إسماعيل أوّل من شقّ لسانه بالعربيّة، و كان أبوه يقول و هما يبنيان: هاي ابني (3) ،أي أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل بالعربيّة: يا أبه، هاك حجرا، فابراهيم يبني و إسماعيل يناوله »(4).

و لعلّ وجه الجمع أنّ إبراهيم عليه السّلام كان شغله منحصرا برفع البناء، و إسماعيل يشاركه في الرّفع و يناوله الحجر أيضا، و الملائكة كانوا يعاونونهما بإعطاء الحجر.

و هما في هذا الحال يدعوان و يقولان: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا عمل بناء بيتك إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ

لدعائنا و مسألتنا اَلْعَلِيمُ بنياتنا و المشقّة التي نتحمّلهما خالصا لك، و تقربا إليك.

و في تخصيص الوصفين به تعالى إشعار بالتّوحيد الصّفاتي، كأنّهما قالا: إنّ سمع كلّ سميع و علم كلّ عليم منك و راجع إليك، و صفات غيرك مندكّة في صفاتك.

سورة البقرة (2): آیة 128

و أمّا الدّعوة الثانية، فقولهما: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا بتوفيقك و تأييدك مُسْلِمَيْنِ منقادين لَكَ

مسلّمين لأوامرك و حكمك، راضين بقضائك و قدرك، خالصين لوجهك، لا نعبد سواك و لا نتوجّه إلى غيرك وَ اجعل بعضا مِنْ ذُرِّيَّتِنا و نسلنا أُمَّةً و جماعة مُسْلِمَةً لَكَ .

و إنّما خصّا الدعاء ببعض ذرّيتهم لعلمهم من قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (5) بأنّه لا بدّ أن يكون بعضهم ظالما، و لم يعلما أنّ فيهم أهل التّسليم و التّفويض، و لذا سألا أن يجعل اللّه بعضهم مسلما مخلصا منقادا كي يكون صالحا للإمامة.

ص: 333


1- تفسير العياشي 203/156:1، علل الشرائع: 1/398.
2- تفسير الرازي 48:4.
3- في مجمع البيان: يا إسماعيل هات ابن.
4- مجمع البيان 389:1.
5- البقرة: 124/2.

و إنّما خصّا ذرّيّتهما بالدعاء لزيادة شفقتهما بهم، و كثرة ثوابهما بعبادتهم، و لأنّ في صلاح أولادهم و كونهم أنبياء صلاح عامّة الخلق.

عن (العياشي): عن الصادق عليه السّلام: «أراد بالامّة بني هاشم خاصّة »(1).

و عنه عليه السّلام: «هم أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و لم يزل في ذرّيّتهما الأنبياء و الرّسل و الأئمّة و الهداة »(2).

و أمّا الدّعوة الثالثة فقولهما: وَ أَرِنا و عرّفنا مَناسِكَنا و عباداتنا التي تلزمنا في هذا المقام.

في وجه تسمية عرفات و حكمة رمي الجمرات

نقل أنّ جبرئيل عليه السّلام أرى إبراهيم عليه السّلام المناسك كلّها حتّى بلغ عرفات، فقال: يا إبراهيم، أعرفت ما أريتك من المناسك ؟ قال: نعم، فسمّيت عرفات، فلمّا كان يوم النّحر أراد أن يزور البيت، عرض له إبليس فسدّ عليه الطّريق، فأمره جبرئيل عليه السّلام أن يرميه بسبع حصيّات، ففعل، فذهب الشّيطان، ثمّ عرض له في اليوم الثّاني و الثّالث و الرّابع، كلّ ذلك يأمره جبرئيل عليه السّلام برمي حصيّات(3).

و أمّا الدّعوة الرّابعة فقولهما: وَ تُبْ عَلَيْنا ممّا فرط منّا من ترك الأولى، و التّوجّه إلى غيرك فإنّ توبة الأنبياء لا تكون من ذنب بل من أحد الأمرين.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّه ليغان(4) على قلبي، و إنّي لأستغفر»(5) إلى آخره.

إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ لمن تاب إليك اَلرَّحِيمُ بمن استرحمك.

سورة البقرة (2): آیة 129

ثمّ ختما دعاءهما بقولهما: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ أي في ولد إسماعيل، أو في الأمّة المسلمة رَسُولاً كائنا مِنْهُمْ روي أنّه لم يبعث فيهم غير نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله(6).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «أنا دعوة [أبي] إبراهيم»(7) و إنّما سألا أن يكون الرّسول في مكة من ذرّيّتهما ليكون بسبب النّسب أرأف و أشفق بهم، و أحرص على دعوتهم و هدايتهم و تربيتهم، و ليكون له عزّا و شرفا فوق الشّرف، فيقوم بدعوتهم و هدايتهم.

يَتْلُوا و يقرأ عَلَيْهِمْ آياتِكَ و دلائل توحيدك و كمال صفاتك وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ المنزل

ص: 334


1- تفسير العياشي 206/157:1، مجمع البيان 393:1.
2- تفسير الصافي 173:1.
3- تفسير الرازي 62:4.
4- الغين: الغيم، و قيل: الغين شجر ملتفّ .
5- صحيح مسلم 2702/2075:4.
6- تفسير الصافي 173:1.
7- تفسير القمي 62:1، مجمع البيان 395:1.

من عندك بمعانيه و حقائقه بعد التّلاوة عليهم وَ يعلّمهم اَلْحِكْمَةَ و ما تكمل به نفوسهم من المعارف و الأخلاق و تمييز الحقّ من الباطل وَ يُزَكِّيهِمْ عن الرّذائل و العيوب و سيّئات الأخلاق حتّى يقوموا بطاعتك و عبوديّتك.

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر الغالب الذي لا يغلب على ما يريد اَلْحَكِيمُ الذي لا يجهل شيئا، و لا يفعل على غير صلاح.

سورة البقرة (2): آیة 130

اشارة

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ (130)

سورة البقرة (2): آیة 130

ثمّ أنّه تعالى بعد ما وصف إبراهيم عليه السّلام بكونه إماما و متّبعا للعالمين و مشرّفا بتشريفات لم يشرّف بها أحد من النبيّين، و كونه أكمل الموحّدين، و أسلم المسلمين، و كان اللازم أن يحكم العقل بوجوب اتّباع مثل هذا النبيّ الكريم و الشخص العظيم، مع أنّ العقل حاكم بمختاره من التّوحيد و التّسليم، نبّه سبحانه على أنّه لا ينبغي لأحد أن يعرض عن اتّباعه، بل ينبغي أن يعدّ المعرض في زمرة السّفهاء و المجانين، بقوله في مقام التعجّب لمن كان أهله: وَ مَنْ يَرْغَبُ و يعرض عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ و هو التّوحيد و التّسليم إِلاّ مَنْ سَفِهَ و استخفّ و أمتهن نَفْسَهُ إذ كلّ من أعرض عن طريق يرغب فيه العقلاء و يوصل الساعي فيه إلى عزّ الدنيا و شرف الآخرة، لا ينبغي أن يحسب في زمرة العقلاء، بل هو أسفه النّاس.

ثمّ العجب من قريش و اليهود الذين أعظم مفاخرهم بالانتساب إلى إبراهيم عليه السّلام الذي قال سبحانه في حقّه: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ و اجتبيناه فِي الدُّنْيا إذ جعلناه أمّة قانتا، و مفخرا، و مطاعا للأمم العظيمة وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (1).

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ الّذين هم أكرم النّاس منزلة، و أرفعهم درجة، إنّهم كيف تركوا ملّته و لم يسلموا لرسول استجاب اللّه به و ببعثته دعوته!

في الاستدلال على النبوّة

ثمّ اعلم أنّ في هذه الآيات و ما بعدها حجّة بالغة على اليهود و غيرهم على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و صدق دعواه، و أنّه المبعوث من اللّه للرّسالة، حيث إنّ دعوة إبراهيم عليه السّلام بأن يبعث

ص: 335


1- مريم: 50/19.

اللّه رسولا في مكّة كان من المسلّمات، و لم يظهر فيها مدّع للنبوّة إلاّ وجوده المقدّس، و كانت هذه الآيات بفصاحتها و اشتمالها على الأخبار الغيبيّة معجزة ظاهرة له، إذ لم يكن عليه السّلام قارئا للكتب و مجالسا لعلماء أهل الكتاب، فثبت أنّه صلّى اللّه عليه و آله هو مسئول إبراهيم عليه السّلام.

إن قيل: كيف يمكن القطع بأنّ جميع ما أخبر به من قصّة إبراهيم، من إتمامه الكلمات، و بناء البيت، و سائر الدعوات، كان مسلّما بين أهل الكتاب، و مسطورا في الكتب ؟

قلنا: لو لم يكن بينهم من الوضوح بمكان، لتسارعوا إلى تكذيبه مع شدّة عداوتهم و حرصهم على إطفاء نوره، و لو كذّبوه في هذه الامور لنقل إلينا، و لو بأخبار الآحاد.

عن (المجمع): عن السجاد عليه السّلام (1): «ما أحد على ملّة إبراهيم إلاّ نحن و شيعتنا، و سائر النّاس منها برآء »(2).

سورة البقرة (2): الآیات 131 الی 132

اشارة

إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

سورة البقرة (2): آیة 131

ثمّ ذكر اللّه علّة اصطفائه بقوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ حين خرج من الغار على ما قيل، بالإلهام في قلبه، و تقوية عقله، و تنفيذ بصيرته، و إرادة الآيات الباهرات أَسْلِمْ و أخلص وجهك للّه قالَ

إبراهيم عليه السّلام مبادرا إلى الطاعة و الانقياد باستعداده الكامل: أَسْلَمْتُ وجهي و أخلصت قلبي لِرَبِّ الْعالَمِينَ بالتّوحيد الكامل، و العرفان التّامّ .

و الظاهر أنّه كان إقراره بلسان حاله و رسوخ المعرفة في شراشر وجوده، لا بلسان قاله، فلمّا كملت نفسه بمعرفة اللّه بادر إلى الدّعوة إلى ملّة التّوحيد و الإسلام.

سورة البقرة (2): آیة 132

وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ قبل سائر النّاس شفقة بهم، قيل: كانوا أربعا و قيل: ثمان(3).

وَ يَعْقُوبُ : وصّى بها بنيه أيضا كجدّه إبراهيم عليه السّلام و كانت وصيّته أن قال: يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ

ص: 336


1- في المحاسن: الحسين بن علي عليهما السّلام.
2- المحاسن 54/147:1، تفسير الصافي 173:1، و لم نعثر عليه في مجمع البيان.
3- تفسير أبي السعود 163:1.

اِصْطَفى و استخلص لَكُمُ الدِّينَ المرضيّ له، و صفوة الأديان الذي اختاره الملائكة و الخلّصون من عباده، بأن نصب الدلائل الظاهرة عليه، و دعاكم إليه.

ثمّ عيّن ذلك الدّين صريحا، و أكّد في وجوب الالتزام به بقوله: فَلا تَمُوتُنَّ في حال من الأحوال إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للّه، موحّدون له. و المعنى: لا تفارقوا دين الإسلام في آن، كي لا يبادركم الموت و أنتم على غيره فيدرككم غاية الخسران.

قيل: في هذه الحكاية دلالة قويّة على أنّ الالتزام بدين الإسلام أهمّ الامور، حيث أمر إبراهيم عليه السّلام بعنوان الوصيّة، و هو آكد من الأمر، و خصّ بها بنيه الّذين كان أشفق عليهم من جميع الخلق، و ما مزج بهذه الوصيّة وصية اخرى، و عبّر عن حقّانيّته بأنّ اللّه اصطفاه لكم، و عمّهم بتلك الوصيّة، و ما قيّدها بزمان دون زمان و حال دون حال، و زجرهم عن أن يموتوا غير مسلمين(1).

ثمّ لمّا كان عليه السّلام مشهورا بالفضل و العقل و الصّلاح و حسن الطّريقة و متانة السّيرة، و مع ذلك اهتمّ بلزوم هذا الدّين نهاية الاهتمام، عرف أنّه أولى الامور و أحقّها به.

سورة البقرة (2): آیة 133

اشارة

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

سورة البقرة (2): آیة 133

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وصيّة إبراهيم و يعقوب عليهما السّلام، بيّن أنّ يعقوب عليه السّلام ما اكتفى بالوصيّة، بل أخذ من أولاده الإقرار و العهد على الالتزام به بقوله: أَمْ كُنْتُمْ قيل: إنّ المراد بل أ كنتم أيّها اليهود الحاضرون، أو معاشر المسلمين شُهَداءَ حضّارا إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ و حين احتضر و قرب وفاته ؟! و الاستفهام على الإنكار، و المعنى - و اللّه العالم - ما كنتم حاضرين عند يعقوب حين حضرته الوفاة، بل إن علمتم به فبالوحي.

إِذْ قالَ حينئذ شفقة لِبَنِيهِ و هم كانوا اثني عشر: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي و أيّ شيء تتّخذونه إلها بعد مفارقتي إيّاكم بالموت ؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ قيل: عدّ اسماعيل في الآباء لأنّ العمّ صنو الأب، و بمنزلته في التّعظيم(2).

ص: 337


1- تفسير الرازي 72:4.
2- تفسير الصافي 174:1.

ثمّ بعد هذا الإقرار الإجمالي صرّحوا بالتّوحيد لاطمئنان قلب يعقوب، بقولهم: إِلهاً واحِداً لا شريك له وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ منقادون.

قيل: إنّ اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ لست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهوديّة يوم مات ؟ فنزلت (1).و على هذا يمكن أن تكون كلمة (أم) وصليّة. و التّقدير: أ تدّعون هذا أم كنتم شهداء؟ يعني أ كان أوائلكم شاهدين و أنتم علمتم ذلك، فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟

و عن بعض التفاسير: أنّ يعقوب عليه السّلام لمّا دخل مصر و رأى أهلها يعبدون النّيران و الأوثان خاف على بنيه الشّرك بعد وفاته، فوصّاهم بهذه الوصيّة، و أخذ منهم الإقرار تحريضا لهم على التمسّك بعبادة اللّه(2).

سورة البقرة (2): آیة 134

اشارة

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)

سورة البقرة (2): آیة 134

ثمّ لمّا كان اليهود يفتخرون بآبائهم إبراهيم و إسحاق، و يرون أنّهم لصلاح آبائهم لا يعذّبون؛ ردّهم اللّه تعالى بقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ و جماعة قَدْ خَلَتْ و مضت، حال كونه لَها ما كَسَبَتْ و عملت، لا يرجع إليكم نفع أعمالهم وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ من أعمالكم، لا يرجع إليهم ثوابها و نفعها وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ و لا تؤاخذون به. فلا تفخروا بأوائلكم إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام اذ لا ينفعكم حسناتكم، و لا يضرّكم سيّئاتهم.

سورة البقرة (2): آیة 135

اشارة

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

سورة البقرة (2): آیة 135

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة البراهين على ضلالة اليهود و النّصارى، بيّن أنّهم مع تلك الحجج القاطعة مصرّون على كفرهم و ضلالهم و اتّباع المسلمين لهم بقوله: وَ قالُوا للمسلمين كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى يعني قالت اليهود: كونوا هودا، و قالت النّصارى: كونوا نصارى، حتّى تَهْتَدُوا و تصيبوا طريق الحقّ .

قُلْ يا محمّد ردّا عليهم: لا نتّبع اليهوديّة و النّصرانيّة بَلْ نتّبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حيث كان

ص: 338


1- تفسير الصافي 174:1.
2- تفسير الرازي 76:4.

حَنِيفاً و مائلا عن كلّ دين باطل إلى دين الحقّ .

و في قوله: وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض عليهم و على غيرهم من أهل الشّرك، لأنّ كلا منهم كانوا يدّعون ملّة إبراهيم عليه السّلام و الحال أنّهم كاذبون، لأنّه ثبت أنّ إبراهيم عليه السّلام كان على التّوحيد، و اليهود كانوا مشركين بقولهم: عزير ابن اللّه، و النّصارى بقولهم بالتّثليث، أو إنّ المسيح ابن اللّه.

عن (العياشي): عن الصادق عليه السّلام قال: «[ان] الحنيفيّة هي الإسلام »(1).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «ما أبقت الحنيفيّة شيئا حتّى إنّ منها قصّ الشّارب، و قلم الأظفار، و الختان »(2).

سورة البقرة (2): آیة 136

اشارة

قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

سورة البقرة (2): آیة 136

ثمّ أنّه تعالى لمّا ردّ قول اليهود و النّصارى بأنّهم متّبعون دين اليهوديّة و النّصرانيّة عن تقليد و بغير دليل، و أنّه لو كان بناء الدّين على التّقليد كان تقليد إبراهيم عليه السّلام الذي عرف بالاستقامة أولى و أقرب إلى السّلامة، بيّن بطلان دينهم بالبرهان، بقوله: قُولُوا أيّها المؤمنون.

عن (الكافي) و (العياشي): عن الباقر عليه السّلام [قال]: «إنّما عنى بذلك عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جرت بعدهم في الأئمّة عليهم السّلام »(3).

آمَنّا بِاللّهِ و هو أوّل الواجبات العقليّة وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا من اللّه، و هو القرآن بدلالة المعجزات الباهرات، و فيه الايمان بنبوّة من جاء به، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ ما أُنْزِلَ من اللّه إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ و هم أحفاد يعقوب من أولاده الاثني عشر، و كان منهم كثير من الأنبياء.

عن (العيّاشي): عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: هل كان ولد يعقوب أنبياء؟ قال: «لا، و لكنّهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلاّ سعداء »(4).

و الظاهر أنّ المراد أنّه لم يكن جميعهم أنبياء.

ص: 339


1- تفسير العياشي 208/158:1.
2- تفسير العياشي 209/158:1.
3- الكافي 19/344:1، تفسير العياشي 212/159:1.
4- تفسير العياشي 211/159:1.

وَ ما أُوتِيَ من قبل اللّه مُوسى بن عمران من التّوراة وَ عِيسى بن مريم من الإنجيل وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من الصّحف و المعجزات حال كون جميعها منزلا مِنْ رَبِّهِمْ و نحن لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان بالبعض و الكفر بالبعض، كما أنتم تفرّقون بينهم بالإيمان و التّكذيب، مع أنّهم سواء في الحجج و الآيات الدالّة على صدقهم لو أنتم تقولون: إنّهم متفرّقون في اصول الدّيانات، و نحن نقول: إنّهم مجتمعون على اصول الإسلام.

وَ نَحْنُ باللّه مؤمنون، و لَهُ مُسْلِمُونَ منقادون، نتّبع ما أمرنا ربّنا، و لا نتّبع هوى أنفسنا، فكلّ من ظهرت دلائل صدقه في دعوى النبوّة نصدّقه و نؤمن به، فلذا نؤمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حيث أظهر المعجزات و أقام الدلائل على صدقه كسائر الأنبياء.

سورة البقرة (2): آیة 137

اشارة

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

سورة البقرة (2): آیة 137

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن حقيقة الهدى التي تحكم العقول السّليمة بها، و هو الإيمان بجميع الكتب السّماويّة و سائر الأنبياء الذين أتوا بالمعجزات الباهرات، عارض قولهم: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا (1) بقوله: فَإِنْ آمَنُوا اليهود و النّصارى و سائر الكفّار بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ من دين الإسلام و ما يشابهه في الصّحة و الاستقامة و السّداد، و أنّى لهم بتحصيل مثل هذا الدّين القويم! و قيل: معنى مثل ما آمَنْتُمْ ، هو ما آمنتم.

فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى طريق الفلاح و النّجاح، و إن لم يتمكّنوا من تحصيل دين مثله، فلا بدّ لهم من الإيمان به و الانقياد له.

وَ إِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن هذا الدّين، فأعرض عنهم فَإِنَّما هُمْ ثابتون مستقرّون فِي شِقاقٍ

و عناد و كفر و مشاقّة مع اللّه و رسوله.

ثمّ لمّا كان الشّقاق ممّا يؤدي إلى الجدال و القتال لا محالة، أردف ذلك بتسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تقوية قلوب المؤمنين بوعد النّصر و الغلبة بقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ و يدفعهم عنك.

قيل: معنى السّين أنّ ذلك كائن لا محالة، و إن تاخّر إلى حين (2).و فيه دلالة على صحّة النبوّة لإنجاز

ص: 340


1- البقرة: 135/2.
2- جوامع الجامع: 27.

اللّه وعده، فوافق المخبر الخبر.

وَ هُوَ السَّمِيعُ لما ينطقون به و ما تدعوهم إليه اَلْعَلِيمُ بما يضمرونه، فيعاقبهم على ذلك، المحيط بما في نيّتك و إرادتك من إظهار الدّين، و هو مستجيب لك. و في هذا التّذييل تأكيد لما سبق من وعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالنّصرة و الغلبة، و وعد الكفّار بالقتل و الخزي.

سورة البقرة (2): آیة 138

اشارة

صِبْغَةَ اللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

سورة البقرة (2): آیة 138

ثمّ لمّا كان دأب النّصارى تغسيل أولادهم بماء أصفر، و يسمّونه المعموديّة، و لعلّه المشهور بغسل التعميد، و كان دأب اليهود على ما قيل صبغ أولادهم بالصّفرة، و كان كلّ طائفة يعدّون و يحسبون ذلك الغسل و الصّبغ طهارة لأولادهم، وصف سبحانه دين الإسلام الذي حقيقته الإيمان بالامور المفصّلة في الآية السابقة بقوله: صِبْغَةَ اللّهِ قيل: إنّ المعنى: قولوا: صبغنا اللّه صبغته (1).و فسّرها الصادق عليه السّلام بالإسلام كما عن (الكافي )(2).و قيل: هي فطرة التوحيد التي فطر النّاس عليها(3).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «هي صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق »(4).

قيل: إنّ اللّه تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا: آمنّا، و صبغنا اللّه بصبغة الإيمان، و أنتم صبغتم أنفسكم بصبغ الصّفرة، و صبغنا تطهير دون صبغكم، حيث طهّرنا من دناسة الشّرك و الكفر و العقائد الفاسدة، بنور التّوحيد و التّسليم و الولاية.

قال بعض المفسّرين: إنّ إطلاق الصبغة على العقائد الحقّة من جهة ظهور أثرها عليهم ظهور الصّبغ على المصبوغ و تداخلها قلوبهم تداخل الصّبغ الثّوب(5).

و قيل: إنّه من باب مجاز المشاكلة و الازدواج، لزعم أهل الكتاب أنّ الصّبغ بالصّفرة طهارة(6) كما مرّ.

في أنّ إطلاق الصّبغة على الاسلام و الإيمان على الحقيقة

و يمكن أن يقال إنّ إطلاق الصّبغ في الآية حقيقيّ بجميع تفاسيره، حيث إنّ للعقائد الحقّة من الإسلام و الإيمان و الولاية نورا في القلب و ضياء في النّفس. و كلّما اشتدّ اليقين بها، اشتدّ ذلك النّور حتّى يحيط بجميع الجوارح، كما أنّ للكفر و العقائد الفاسدة ظلمة محيطة. و من الواضح أنّ لون النّور في الأنظار هو البياض، و لون الظلمة

ص: 341


1- تفسير البيضاوي 90:1.
2- الكافي 2/12:2.
3- تفسير البيضاوي 90:1.
4- تفسير العياشي 214/159:1، تفسير الصافي 176:1.
5- تفسير البيضاوي 90:1، تفسير الصافي 176:1.
6- تفسير أبي السعود 168:1.

هو السّواد، و لذا قال اللّه تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ (1).

و روي: أنّ المؤمنين في القيامة غرّ محجّلون(2).

و في رواية: إن عمل خيرا ظهر في قلبه نقطة بيضاء، ثمّ تزداد حتّى تحيط به، و من عمل سوءا ظهر فيه نقطة سوداء(3).

و من الواضح أنّ المراد من السّواد و البياض في الآية و الروايات هو النّور و الظلمة، و على هذا فالمؤمنون بيض الوجوه في الدنيا و الآخرة، و سيماهم ذلك البياض، كما أنّ سيماء الكفّار أنّهم سود الوجوه فيهما، و يعرفان في الآخرة بسيماهما، و أمّا في الدنيا فلا يرى سيماهما إلاّ من له عين البصيرة.

ثمّ لمّا كان النّور من قبل كمال الوجود الذي هو بإفاضة اللّه تعالى و جوده يضاف البياض و الصّبغ الحاصل منه إليه، و صحّ أن يقال: لذلك البياض: صبغة اللّه، كما أنّ ظلمة الكفر و المعاصي من قبل النّفس و الماهيّة، و يصحّ أن يقال: إنّها صبغة النّفس و الطبيعة، حيث إنّ النّفس مبدأ الاحتجاب عن عالم الأنوار و منشأ الانغمار في الشّهوات و الضّلال.

ثمّ إنّه لمّا كان صبغ البياض أحسن الأصباغ، سيّما إذا كان حاصلا من النّور الذي هو أشرف الموجودات، خصوصا إذا كان حاصلا من الإيمان و الولاية، أنكر اللّه سبحانه كون صبغ أحسن منه، بقوله: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً .

ثمّ لمّا كان الإيمان ملازما للقيام بوظائف العبوديّة، كان قوله: وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ بمنزلة الاستدلال على تحقّق صبغ الإيمان فيهم لدلالة التلبّس بشعار العبادة على تنوّر القلب بنور الإيمان، و صبغ النّفس بأحسن الأصباغ، فلا يبقى لأحد مجال إنكاره. و كان أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله متمحّضين بالعبادة كما قال اللّه تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ (4) فكان دليل صدق دعواهم معهم.

سورة البقرة (2): آیة 139

اشارة

قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

ص: 342


1- آل عمران: 106/3.
2- سعد السعود: 109 «نحوه».
3- الكافي 20/209:2 «نحوه».
4- الفتح: 29/48.
سورة البقرة (2): آیة 139

ثمّ نقل أنّ اليهود و النّصارى كانوا يدّعون أنّهم أحقّ بكرامة اللّه و منصب النبوّة لادّعائهم أنّهم أهل الدّين و الكتاب، و أنّ العرب عبدة الأصنام، فعلّم اللّه نبيّه ردّه بقوله: قُلْ لهم يا محمّد:

أَ تُحَاجُّونَنا فِي أمر اَللّهِ و نبوّته التي اصطفانا بها وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ سواء إليه نسبتنا و نسبتكم، لا قرابة و لا رحميّة بين أحد و بينه، و لا كرامة لأحد عنده إلاّ بالعبوديّة و الأعمال الصالحة.

وَ لَنا كما ترون أَعْمالُنا الحسنة الصالحة وَ لَكُمْ كما تعلمون أَعْمالُكُمْ السّيئة الشّنيعة، و اللّه مطّلع على جميعها، هذا مع أنّ فضل الأعمال و كرامة العامل بخلوص النيّة.

وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في العبادة، و أنتم به مشركون فيها، فليس لكم أن تستبعدوا أن نكون أكرم عنده منكم، و أحقّ بالتّشريف بمنصب النبوّة، و أولى بالتّفضيل بمرتبة الرّسالة، فلم يبق لكم حجّة على وجوب تخصيصكم بهما، بل لنا الحجّة البالغة على أولويّتنا منكم.

سورة البقرة (2): الآیات 140 الی 141

اشارة

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

سورة البقرة (2): آیة 140

ثمّ من شبهاتهم ما أشار إليه بقوله: أَمْ تَقُولُونَ و تدّعون أنّ دينكم يا أهل الكتاب دين اللّه لادّعائكم إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى و أنتم مقتدون بهم في دينهم.

قُلْ يا محمّد ردّا عليهم، و اسألهم تقريرا منهم: أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بدينهم أَمِ اللّهُ أعلم ؟ فإن تقرّوا أنّه تعالى أعلم فإنّه شهد في التّوراة و الإنجيل و سائر الكتب السّماويّة بأنّهم كانوا على الملّة الحنيفيّة و دين الإسلام، و إنّ ملّة اليهوديّة و النّصرانيّة حدّثنا بأهواء أهل الزّيغ بعدهم، و أنتم مطّلعون على تلك الكتب، و العالمون بتلك الشّهادة، و تكتمونها لحبّ الجاه و الرّئاسة و الحطام الدنيويّة.

وَ مَنْ أَظْلَمُ على نفسه و على سائر النّاس مِمَّنْ كَتَمَ و ستر و أخفى من العوامّ شَهادَةً ثابتة عِنْدَهُ صادرة مِنَ اللّهِ و أظهر خلافها بين الخلق ؟

وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ بل مطّلع عليه، و حافظ لجميع سيّئاتكم، من إنكار الحقّ ، و ادّعاء

ص: 343

الأباطيل، و كتمان شهادته، فيعاقبكم عليها أشدّ العقاب، فكونوا منه على حذر و وجل في جميع الآنات(1) و الحالات، و لا تغترّوا بصالح أعمال آبائكم الأنبياء و حسن سيرتهم،

سورة البقرة (2): آیة 141

فإنّ تِلْكَ الآباء الكرام أُمَّةٌ و جماعة صلحاء قَدْ خَلَتْ و مضت من الدنيا، يكون لَها ما كَسَبَتْ من نفع أعمالها و الثّواب الموعود عليها وَ يكون لَكُمْ في الآخرة ما كَسَبْتُمْ من منافع أعمالكم و أجرها و تبعاتها، فلا نصيب لكم من ثواب أعمالهم بشيء، كما لا ضرر عليكم من سيّئاتهم إن كانت لهم وَ لا تُسْئَلُونَ في القيامة عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ في مدّة أعمارهم في الدنيا.

و حاصل الاحتجاج أنّكم يا أهل الكتاب بأيّ حجّة تتمسّكون على دعوى أولويّتكم بفضل اللّه و كرامته منّا! فإن تتمسّكوا بأنّكم موحّدون فقد كذبتم، لبداهة أنّنا موحّدون دونكم، و إن تتمسّكوا بأنكم أتباع دين إبراهيم عليه السّلام و سائر الأنبياء و الصّلحاء بعده فنحن المتّبعون لهم دونكم، و إن تتمسّكوا بانتسابكم إليهم فليس النّسب موجبا للكرامة عند اللّه، و نافعا في القيامة، كما قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ (2).

حكاية هارون و بهلول

حكي أنّ هارون الرّشيد لمّا انصرف من الحجّ ، أقام بالكوفة أيّاما، فلمّا خرج وقف بهلول على طريقه و ناداه بأعلى صوته: يا هارون - ثلاثا - فقال هارون تعجّبا: من الذي يناديني ؟ فقيل له: بهلول المجنون. فوقف هارون و أمر برفع السّتر - و كان يكلّم النّاس من وراء السّتر - فقال له: أ لم تعرفني ؟ قال: بلى أعرفك. فقال: من أنا؟ قال: أنت الذي لو ظلم أحد في المشرق و أنت في المغرب سألك اللّه عن ذلك في القيامة. فبكى هارون و قال: كيف ترى حالي ؟ قال: اعرضه على كتاب اللّه، و هي: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَ إِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ (3).قال: و أين أعمالنا؟ قال: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (4) قال: و أين قرابتنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ قال: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ (5).

سورة البقرة (2): آیة 142

اشارة

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

ص: 344


1- كذا، و الظاهر الآناء.
2- المؤمنون: 101/23.
3- الانفطار: 13/82 و 14.
4- المائدة: 27/5.
5- تفسير روح البيان 245:1.
سورة البقرة (2): آیة 142

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اعتراضات اليهود على النبوّة و ردّها، أخبر بأنّهم سيعترضون على دين الإسلام بوقوع النّسخ فيه بتغيير القبلة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة المعظّمة، بقوله:

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ و الخفاف العقول مِنَ النّاسِ الراغبين عن ملّة إبراهيم عليه السّلام كاليهود.

في اعتراض اليهود على دين الإسلام بوقوع النسخ فيه، و على النبي صلّى اللّه عليه و آله بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

قيل: إنّهم ابتدءوا بالاعتراض لأنّهم كانوا يأنسون بموافقة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله معهم في القبلة، و كانوا يظنّون أنّ هذه الموافقة ربّما تدعوه إلى موافقتهم بالكلّيّة، و لمّا تحوّل عنها اغتمّوا و اعترضوا عليه. ثمّ وافقهم المشركون من العرب لأنّهم كانوا متأذّين من توجّهه إلى بيت المقدّس، و قالوا: رغب عن ملّة آبائه، ثمّ رجع إليها. ثمّ تبعهم المنافقون لحرصهم على الاستهزاء بالدّين، فعابوا جميعهم على الرّسول و المؤمنين بقولهم: ما وَلاّهُمْ و أيّ صارف صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا مواظبين عَلَيْها متوجّهين في صلاتهم إليها، و هي بيت المقدس.

عن (الاحتجاج) و (تفسير الإمام عليه السّلام): أنّه قال: «لمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة أمره اللّه عزّ و جلّ أن يتوّجه نحو بيت المقدس في صلاته، و يجعل الكعبة بينه و بينها إذا أمكن، و إذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة، فلمّا كان بالمدينة و كان متعبّدا باستقبال بيت المقدس استقبله و انحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا. و جعل قوم من مردة اليهود يقولون: و اللّه لا يدري كيف يصلّي حتّى صار يتوجّه إلى قبلتنا، و يأخذ في صلاته بهدينا و نسكنا »(1).

و روي من طرق العامّة: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صلّى إلى نحو بيت المقدس بعد مقدمه المدينة نحوا من سبعة عشر شهرا، تأليفا لقلوب اليهود ثمّ صارت الكعبة قبلة المسلمين إلى نفخ الصّور(2).

و حاصل اعتراض اليهود: أنّ البدء محال على اللّه بالاتّفاق لأنّه مستلزم لجهله بالمصالح، و أمّا النسخ فإن كان واقعيا حقيقيا فهو عين البداء، و إن كان صوريا ظاهريّا، بمعنى أنّ الحكم الواقعيّ و صلاحه كان في الواقع مقيّدا بوقت محدود، فعدم إظهار الحدّ و إطلاق الحكم في ظاهر اللّفظ بحيث يفهم العرف أبديّته، مستلزم للتّجهيل، و هذا قبيح و محال على اللّه، فردّهم اللّه بقوله: قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ

ص: 345


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 312/492، الاحتجاج: 40.
2- تفسير روح البيان 247:1.

وَ الْمَغْرِبُ و به تختصّ جميع الجهات، ليس أحدها أقرب إليه و أخصّ به من الأخرى، و هو يَهْدِي بأمره مَنْ يَشاءُ هدايته من أهل العالم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الطريق الموصل إلى قربه و رضوانه، و هو التوجّه إلى الجهة التي فيها الحكمة و مصلحة العباد، فتارة تكون بيت المقدس، و اخرى الكعبة، و إنّما كان التوجّه إلى الكعبة صراطا مستقيما لأنّه غير مائل إلى قبلة اليهود و هو بيت المقدس، و إلى قبلة النّصارى و هو المشرق، فإنّ المشرق و المغرب مضلّة حيث إنّ في التوجّه إليهما مظنّة التوجّه إلى الشّمس و عبادتها.

و قيل: وجه تقديم هذه الآية على آية: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ (1) و الإتيان فيها بفعل المضارع، تقدّم نزولها على تحويل القبلة و حصول الاعتراض، حيث إنّ قبل الرّمي يراش السّهم، و قبل توجّه الاعتراض يعلّم المؤمنون بيان ردّه، و فيها دلالة على إمكان النسخ و وقوعه.

و حاصل تقرير الجواب: أنّ جميع الأرض ملك للّه، و نسبتها إليه تعالى سواء، ليس مكان أقرب إليه و أخصّ به من مكان آخر، و إنّما المصلحة في جعل جهة القبلة متفاوتة في الأزمنة، فقد تكون المصلحة في الأمر بالتوجّه إلى بيت المقدس في برهة من الزمان، ثمّ تتغيّر و تكون في الأمر بالتوجّه إلى الكعبة، فتغيير الحكم ليس من جهة انكشاف الخطأ في تشخيص المصلحة حتّى يلزم البداء المحال.

و أمّا شبهة التجهيل فواضحة البطلان، فإنّ عدم الإعلام ليس تجهيلا قبيحا لبداهة عدم وجوب الإعلام بالتّكليف بقيوده و غايته قبل وقت الحاجة.

في بيان حكمة جعل القبلة

ثمّ اعلم أنّه ذكر بعض لتعيين القبلة حكما عديدة:

إحداها: أنّ اللّه تعالى خلق في الإنسان قوّة عاقلة مدركة للمجرّدات و المعقولات، و قوّة خياليّة متصرّفة في عالم الأجسام و المحسوسات، و قلّما تنفكّ القوّة العاقلة عن مقارنة القوّة الخياليّة و مصاحبتها و الاستعانة بها.

فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقليّ مجرّد، وجب أن يضع له صورة خياليّة حتّى تكون تلك الصورة الخياليّة معينة على إدراك ذلك المعنى العقليّ ، و لذلك يضع المهندس - إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير - صورة معيّنة و شكلا معيّنا، ليصير الحسّ و الخيال معينين على إدراك ذلك

ص: 346


1- البقرة: 144/2.

الحكم الكلّيّ .

و لمّا كان العبد الضّعيف إذا دخل في مجلس الملك العظيم لا بدّ له من أن يستقبله بوجهه و لا يكون معرضا عنه، و أن يبالغ في الثّناء عليه و التضرّع له و القيام بخدمته؛ كان استقبال القبلة في الصّلاة جاريا مجرى كونه مستقبلا للملك، غير معرض عنه، و القراءة و التّسبيحات جارية مجرى الثّناء عليه، و الرّكوع و السّجود جاريان مجرى خدمته.

ثانيها: أنّ المقصود من الصّلاة حضور القلب، و لا يحصل إلاّ مع السّكون و ترك الالتفات و الحركة، و هذا لا يتأتّى إلاّ إذا بقي في جميع صلواته مستقبلا لجهة واحدة على التّعيين، فإذا اختصّ بعض الجهات بشرف كان الاستقبال إليها أولى.

و نقل عن زردشت أنّه قيل له: اجعل لنا قبلة إذا أردنا أن نتوجّه إلى اللّه نتوجّه إليها؟

قال: أشرف الموجودات الجسمانيّة هو النّور، فتوجّهوا له، فبنوا بيوت النّار فتوجّهوا إليها بعنوان أنّها قبلة.

ثالثها: أنّ اللّه تعالى يحبّ الموافقة و الألفة بين المؤمنين، و قد ذكر المنّة بها عليهم، حيث قال:

وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (1).و لو توجّه كلّ واحد في صلواته إلى ناحية اخرى، لكان ذلك يوهم اختلافا ظاهرا، فعيّن اللّه لهم جهة واحدة، و أمرهم جميعا بالتّوجة إليها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك. و فيه إشارة إلى أنّ اللّه تعالى يحبّ الموافقة بين عباده في أعمال الخير(2).

في حكمة جعل الكعبة قبلة

ثمّ ذكروا لتعيين جهة الكعبة حكما:

أحدها: أنّ اللّه تعالى خصّ الكعبة بإضافتها إلى نفسه بقوله: طَهِّرْ بَيْتِيَ (3) و خصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبوديّة إليه، و كلتا الإضافتين للتّكريم، فكأنّه تعالى قال: يا مؤمن، أنت عبدي، و الكعبة بيتي، و الصّلاة خدمتي، فأقبل بوجهك إلى بيتي في خدمتي، و بقلبك إلى عظمتي.

ثانيها: أنّه قيل: إنّ بعض اليهود استقبلوا إلى المغرب لأنّ النّداء جاء إلى موسى عليه السّلام منه، كما قال اللّه تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا (4) و النّصارى استقبلوا المشرق لأنّ جبرئيل ذهب إلى مريم من جانب المشرق، كما قال تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً

ص: 347


1- آل عمران: 103/3.
2- تفسير الرازي 94:4.
3- الحج: 26/22.
4- القصص: 44/28.

شَرْقِيًّا (1) فأمر اللّه المؤمنين بالتوجّه إلى الكعبة لأنّها قبلة خليلة.

و قيل: إنّ النّصارى استقبلوا مطلع الأنوار، و المؤمنون استقبلوا مطلع سيّد الأنوار و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذي خلق من نوره جميع الأنوار.

ثالثها: أنّ الكعبة سرّة الأرض و وسطها، و في الأمر بالتوجّه إليها إشارة إلى أنّه يجب على المؤمن التوسّط و العدالة في جميع أموره(2).

سورة البقرة (2): آیة 143

اشارة

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

سورة البقرة (2): آیة 143

ثمّ أنّه تعالى لمّا منّ على هذه الامّة بجعل الكعبة التي هي الوسط قبلة لهم، و بهدايتهم إلى الصّراط المستقيم، منّ عليهم أيضا بقوله: وَ كَذلِكَ المذكور من جعلكم مهتدين جَعَلْناكُمْ و نصبناكم أُمَّةً و جماعة وَسَطاً و خيارا، أو متوسّطين بين الإفراط و التّفريط لا يتجاوزون عن الحقّ ، و لا يميلون إلى الباطل.

في أن المراد من الأمة الوسط خصوص الائمّة المعصومين عليهم السّلام

و هم خصوص الأئمّة المعصومين عليهم السّلام لشهادة الوجدان و اتّفاق الامّة على عدم اتّصاف جميع أفراد المسلمين بهذه الصّفة لظهور كون أكثرهم فسّاقا، فلا بدّ من أن يكون المراد من الامّة بعضهم، نظير قول موسى لبني إسرائيل: يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً (3) مع وضوح أنّه لم يكن كلّ فرد منهم ملكا.

عن القمّي رحمه اللّه: يعني الأئمّة(4).

و عن (الكافي) و (العياشي): عن الباقر عليه السّلام: «نحن الأمّة الوسط »(5).

و عن (المناقب): عنه عليه السّلام: «فينا أنزل اللّه وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» الخبر(6).

ص: 348


1- مريم: 16/19.
2- تفسير الرازي 95:4.
3- المائدة: 20/5.
4- تفسير القمي 63:1.
5- الكافي 4/147:1، تفسير العياشي 215/160:1.
6- مناقب ابن شهرآشوب 179:4.

فلا دلالة في الآية على حجّيّة الإجماع كما ادّعاها بعض العامّة، إلاّ من جهة اشتماله على قول المعصوم أو كشفه بالحدس القطعيّ عن موافقة قول المجمعين لقول رئيسهم، و وافقنا الفخر الرّازي و بعض آخر من العامّة في القول بعدم حجّيّة الإجماع إلاّ من جهة اشتماله على قول من هو الوسط في الامّة، و قالوا: إنّا لمّا لا نعرف من يكون بهذه الصّفة، نحتاج إلى الاتّفاق، إلاّ انّهم فارقونا في أنّهم لا يعرفونه بوجه، و نحن بحمد اللّه و منّته نعرفه باسمه و نسبه عليه السّلام.

و ممّا يدلّ على أنّ المراد من الامّة الوسط خصوص الهداة المعصومين قوله تعالى: لِتَكُونُوا

يوم القيامة شُهَداءَ عَلَى النّاسِ من سائر الامم بأنّ الرسل بلّغوهم في الدنيا و بيّنوا لهم الحقّ و الدّين.

في رواية (المناقب) قال: «و لا يكون الشهداء على النّاس إلاّ الأئمّة و الرّسل، فأمّا الأمّة فإنّه غير جائز أن يستشهدها اللّه تعالى و فيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا على حزمة بقل »(1).

روي أنّ الامم يجحدون يوم القيامة تبليغ الأنبياء، فيطالب اللّه تعالى الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا، و هو أعلم، فيؤتى بأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيشهدون لهم، و هو صلوات اللّه عليه يزكّيهم (2) ،و ذلك قوله تعالى: وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.

و قيل: إنّ المراد: لتكونوا شهداء في الدنيا على النّاس (3)- أي حججا عليهم - تبيّنون لهم الحقّ و الدّين، و يكون الرّسول عليكم شهيدا و مؤدّيا للشّرع و مبيّنا لكم أحكام دينه.

ثمّ بيّن اللّه تعالى حكمة جعل بيت المقدس قبلة للمسلمين بقوله: وَ ما جَعَلْنَا القبلة للصّلاة اَلْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ مستقرا عَلَيْها و هي بيت المقدس لشيء من الأشياء و وجه من الوجوه إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ من المسلمين اَلرَّسُولُ و نميّزه مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ و يرتدّ عن دينه الحقّ ، و يرجع القهقرى إلى كفره السابق.

عن (تفسير الإمام) و (الاحتجاج): عنه عليه السّلام: «يعني إلاّ لنعلم ذلك منه موجودا بعد أن علمناه سيوجد. قال: و ذلك أنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة، فأراد [اللّه] أن يبيّن متبع(4) محمّد صلّى اللّه عليه و آله ممّن

ص: 349


1- مناقب ابن شهرآشوب 179:4.
2- تفسير الرازي 100:4.
3- تفسير أبي السعود 173:1.
4- في الاحتجاج: متبعي.

خالفه(1) باتّباع القبلة الّتي كرهها و محمّد صلّى اللّه عليه و آله يامره(2) بها. و لمّا كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها و التوجّه إلى الكعبة، ليتبيّن من يوافق محمّدا عليه السّلام فيما يكرهه و هو مصدّقه و موافقه »(3).

و روى بعض العامّة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل الهجرة يصلّي إلى الكعبة، ثمّ بعد الهجرة - لكون غالب أهل المدينة اليهود - حوّل القبلة إلى بيت المقدس تأليفا لهم، ثمّ رجع إلى القبلة التي كان عليها و هي الكعبة(4).

و على هذا حصل الامتحان المذكور في الآية بمجموع التّحويلين، حيث إنّ العرب بتحويل القبلة إلى بيت المقدس، و اليهود بتحويلها عنه إلى الكعبة، صاروا منزجرين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دينه.

و نقل أنّه رجع جمع عن الإسلام و قالوا: لو كان محمّد على يقين من أمره لما تغيّر رأيه. و كانوا يقولون: مرّة هاهنا و مرّة هاهنا! و قال المشركون: تحيّر محمّد في دينه. و قال اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه و مولده (5)!و لذا قال تعالى: وَ إِنْ كانَتْ التولية من قبلة إلى قبلة، أو القبلة المحوّلة أو الصّلاة إلى بيت المقدس لَكَبِيرَةً و ثقيلة مستنكرة على طباع جميع النّاس إِلاّ عَلَى طباع اَلَّذِينَ هَدَى اللّهُ

قلوبهم، و عرّفهم بقوّة عقولهم و تنوّر بصائرهم أنّ المصالح تتغيّر بتغيّر الأوقات و الأشخاص و سائر الجهات، و أنّه تعالى يتعبّد العبيد بخلاف ما يريدونه ليبتلي طاعتهم في مخالفة هوى أنفسهم.

ثمّ وعد المؤمنين الثابتين على الإيمان و المطيعين للرّسول صلّى اللّه عليه و آله في الصّلاة إلى بيت المقدس بقوله: وَ ما كانَ اللّهُ و ليس من شأنه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ و ثباتكم على تصديق الحقّ أو صلاتكم التي صلّيتم إلى الصّخرة.

عن الصادق عليه السّلام في رواية: «و لمّا أن صرف نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الكعبة عن بيت المقدس، قال المسلمون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أ رأيت صلواتنا الّتي كنّا نصلّي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها و حال من مضى من أمواتنا و هم يصلّون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل اللّه ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فسمّى الصّلاة ايمانا. فمن لقي اللّه حافظا لجوارحه، موفيا كلّ جارحة من جوارحه ما فرض اللّه عليه، لقي اللّه مستكملا لإيمانه

ص: 350


1- في تفسير العسكري عليه السّلام: من مخالفه.
2- في تفسير العسكري عليه السّلام و الاحتجاج: يأمر.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 312/495، الاحتجاج: 42.
4- تفسير الكشاف 200:1، تفسير الرازي 103:4.
5- تفسير الرازي 104:4.

و هو من أهل الجنّة، و من خان في شيء منها، أو تعدّى ما أمر اللّه فيها، لقي اللّه ناقص الإيمان »(1).

و نقل أنّ جماعة من المسلمين كأبي أمامة، و سعد بن زرارة، و براء بن عازب، و براء بن معرور و غيرهم، ماتوا على القبلة الاولى، فتوهّم عشائرهم أنّ الصّلاة التي أتوا بها على القبلة الاولى كانت ضائعة، لتوهّم أنّ الحكم الأوّل كان باطلا. فقالوا: يا رسول اللّه، توفّي إخواننا على القبلة الاولى، فكيف حالهم و حال صلواتهم ؟ فنزلت(2).

فحاصل مفاد الآية و اللّه أعلم: أنّ التّكليف الأوّل كالتّكليف الثاني، كلاهما عن مصلحة تامّة في وقتهما، و المتمسّك بكلّ تكليف في وقته متمسّك بدين اللّه فيوفّيه أجره، إنّه لا يضيع أجر المحسنين.

ثمّ علّل سبحانه تغيير القبلة و عدم الإضاعة بقوله: إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ فلا يرضى بضياع أعمالهم رَحِيمٌ مفضّل عليهم بنقلهم من صلاح إلى ما هو أصلح، و من نافع إلى ما و هو أنفع لهم في الدّين و الدنيا. و المراد أنّه تعالى يعطيهم زيادة على أجر أعمالهم من رحمته و فضله ما لا يتصوّر و لا يحصى.

سورة البقرة (2): آیة 144

اشارة

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (144)

سورة البقرة (2): آیة 144

ثمّ أنّه روي عن العسكريّ عليه السّلام «أنّه بعد حكاية مقالات اليهود في اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبلتهم، قال:

فاشتدّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما اتّصل به منهم، و كره قبلتهم، و أحبّ الكعبة فجاءه جبرئيل، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، لوددت لو صرفني اللّه عزّ و جلّ عن بيت المقدس إلى الكعبة، فلقد تأذّيت بما اتّصل بي من قبل اليهود. فقال جبرئيل عليه السّلام: فسل ربّك أن يحوّلك إليها، فإنّه لا يردّك عن طلبتك، و لا يخيّبك عن بغيتك. فلما استتمّ دعاءه صعد جبرئيل عليه السّلام ثمّ عاد من ساعته، فقال: اقرأ يا محمّد قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» (3) و نشاهد تردّده في جهتها إلحاحا في الدّعاء و تطلّعا

ص: 351


1- تفسير العياشي 220/161:1.
2- تفسير الرازي 106:4.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 312/492.

للوحي.

و روي من طرق العامّة أنّه صلوات اللّه عليه و آله كان يقع في روعه و يتوقّع من ربّه أن يحوّله إلى الكعبة، لأنّها قبلة أبيه إبراهيم عليه السّلام و أقدم القبلتين. و أدعى للعرب إلى الإيمان من حيث إنّها كانت مفخرة لهم و أمنا و مزارا و مطافا، و لمخالفة اليهود، فإنّهم كانوا يقولون إنّه يخالفنا في ديننا، ثمّ إنّه يتّبع قبلتنا، و لو لا نحن لم يدر أين يستقبل. فعند ذلك كره أن يتوجّه إلى قبلتهم - إلى أن قال - إنّه صلّى اللّه عليه و آله جعل يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن يأتيه جبرئيل بالذي سأل ربّه، فأنزل اللّه هذه الآية(1).

ثمّ اعلم أنّ توضيح معنى كراهة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله التوجّه إلى الصّخرة بعد ما اتّصلت به مقالات اليهود، أنّه لاتّصال نفسه المقدّسة باللّوح المحفوظ ، و اطّلاعه على انقضاء عدّة الصّلاح العارضيّ الذي كان في التوجّه إلى الصّخرة، و تحقّق الصّلاح الملزم في التوجّه إلى الكعبة، كره التوجّه إلى الأوّل، و أحبّ التوجّه إلى الثاني، فكان ينتظر الوحي و صدور الأمر من اللّه.

ثمّ لمّا كان تمام الصّلاح في حكمه تعالى متوقّفا على أن يقع التّحويل باستدعائه و إظهار رضاه به، و كراهته عن التوجّه إلى قبلة اليهود، و كان ذلك مصادفا لمقالاتهم الشّنيعة، أظهر عليه السّلام تلك الكراهة و ذلك الرّضا، و سأل و دعا، فأبان اللّه عظمة شأن حبيبه عنده بإجابة دعائه و موافقة رضاه بقوله:

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ و لنعطينّك قِبْلَةً تَرْضاها و لنجعلنّك متمكّنا من استقبال جهة تحبّها لمصالح دينيّة من غير [دواعي] الهوى النفسانيّة.

قيل: إنّه تعالى قال: قِبْلَةً تَرْضاها و لم يقل قبلة أرضاها للإشارة إلى أنّ جميع الكائنات يطلب رضاي و أنا أطلب رضاك في الدّارين، أمّا في الدّنيا فبتحويل القبلة، و أمّا في الآخرة فبالعفو عن أمّتك حتّى ترضى(2).

فَوَلِّ و حوّل وَجْهِكَ مع جميع مقاديم بدنك في حال صلاتك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

و نحوه، و في ذكر الشّطر إشعار بكفاية مراعاة الجهة و عدم لزوم الاستقبال الحقيقيّ لعين الكعبة بحيث إذا خطّ مستقيما انتهى إليها.

و قيل: إنّ فيه إشعارا بوجوب التّوجّه إلى العين لوقوع الكعبة في شطر المسجد و هو نصفه، و الحقّ هو الأوّل.

ص: 352


1- تفسير روح البيان 251:1.
2- تفسير الرازي 95:4.

في تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

عن (الفقيه) في رواية: «ثمّ عيّرته اليهود فقالوا: إنّك تابع لقبلتنا. فاغتمّ لذلك غمّا شديدا، فلمّا كان في بعض اللّيل خرج يقلّب وجهه في آفاق السّماء، فلمّا أصبح صلّى الغداة، فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل، فقال له: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ الآية. ثمّ أخذ بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فحوّل وجهه إلى الكعبة، و حوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرّجال مقام النّساء، و النّساء مقام الرّجال. فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة.

و بلغ الخبر مسجدا بالمدينة و [قد] صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو الكعبة، فكانت أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة، فسمّي ذلك المسجد: مسجد القبلتين »(1).

و قيل: كان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشّمس قبل قتال بدر بشهرين، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مسجد بني سلمة. فسمّي المسجد مسجد القبلتين(2).

ثمّ لئلاّ لا يتوهّم متوهّم أنّ وجوب التّوجه إلى الكعبة مختصّ ببلد المدينة و بشخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه الحاضرين عنده، عمّم سبحانه و تعالى الخطاب ثانيا بقوله: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أيّها المسلمون، و في أيّ مكان صلّيتم فَوَلُّوا و حوّلوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و نحوه.

ثمّ أنّه تعالى لاطمئنان قلوب المؤمنين بأنّ هذا التّحويل من قبل اللّه، أخبرهم بأنّه مكتوب في الكتب السّماويّة، بقوله: وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بقراءتهم في التّوراة و الإنجيل [يعلمون] أنّ من علائم خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله أنّه يصلّي إلى القبلتين، و اللّه لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ النازل مِنْ رَبِّهِمْ فإذا كان ذلك حالهم، فلا ينبغي أن تختلج الشّبهة في قلوبكم أيّها المؤمنون، مع علمكم بصدق نبيّكم بالمعجزات الباهرة.

وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ من اتّباعكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسليمكم لأمره، فيجازيكم عليه أحسن جزاء العاملين.

سورة البقرة (2): آیة 145

اشارة

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ (145)

ص: 353


1- من لا يحضره الفقيه 843/178:1.
2- تفسير أبي السعود 174:1.
سورة البقرة (2): آیة 145

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر أنّ أهل الكتاب عالمون بأنّ تحويل القبلة حقّ ، بيّن أنّ إصرارهم على المخالفة من جهة العناد و اللّجاج بقوله: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النّصارى بِكُلِّ آيَةٍ باهرة و برهان قاطع على أنّ التوجّه إلى الكعبة حقّ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنّ مخالفتهم ليست عن شبهة حتّى يزيلها البرهان، بل عن عناد و لجاج و مكابرة، لعلمهم بكونها حقّا، و المكابر لا تنفعه الدلائل وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ فليس لهم أن يطمعوا في رجوعك إليها.

نقل أنّهم كانوا يتناجون في ذلك و يقولون: لو ثبت محمّد على قبلتنا، لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. و كانوا يطمعون في رجوعه إلى قبلتهم(1).

ثمّ وبّخهم اللّه في قوله: وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ بأنّهم مع اتّفاقهم على مخالفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قبلته ليسوا متّفقين على قبلة واحدة، حيث إنّ اليهود كانوا يستقبلون إلى الصّخرة، و النّصارى إلى المشرق، بل كلّ معرض عن قبلة الآخر، لتصلّب كلّ في التي يهواها بهواه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ دينهم و ثباتهم على قبلتهم صرف متابعة الهوى، و أنّها من أشدّ المعاصي، بالغ في تهديدهم بالكناية التي هي أبلغ من التّصريح، حيث وجّه الخطاب إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ لَئِنْ وافقت أهل الكتاب و اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ و مشتهيات نفوسهم في أمر القبلة مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ بفضل اللّه و رحمته مِنَ الْعِلْمِ بأنّ قبلة اللّه هي الكعبة إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ على نفسك بتعريضها للهلاك و أشدّ العذاب، مع أنّك أشرف الكائنات عند اللّه، و أحبّ الخلق إليه، فكيف بهؤلاء الكفرة و هم أبغض الخلق عنده!

سورة البقرة (2): آیة 146

اشارة

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146)

سورة البقرة (2): آیة 146

ثمّ أكّد سبحانه أنّ مخالفتهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دينه مطلقا، قبلة كان أو غيرها، ليست إلاّ عن عناد و عصبيّة و هوى، لا للشّبهة في نبوّته و صدقه، بقوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ و كان لهم فهم دراسته، كالأحبار و الرّهبان يَعْرِفُونَهُ بالرّسالة لمعرفتهم بعلائمه المذكورة في الكتب السماويّة

ص: 354


1- تفسير الرازي 126:4.

كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يشتبهونهم(1) بغيرهم. و التكنية عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالضّمير من غير سبق ذكره لتعظيمه و تفخيمه و للايذان بشهرته غاية الاشتهار و معروفيّته بغاية المعرفة.

قيل: وجه تخصيص الأبناء بالذكر دون البنات، أنّهم بصحبة الآباء ألزم و بقلوبهم ألصق. و إنّما لم يقل: كما يعرفون أنفسهم، لأنّ الانسان لا يعرف نفسه إلاّ بعد انقضاء برهة من الزّمان من ولادته، و لكن يعرف ولده حين ولادته(2).

نقل أنّه سئل عبد اللّه بن سلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: أنا أعلم به منّي بابني، لأنّي لست أشكّ في محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّه نبيّ ، و أمّا ولدي فلعلّ والدته خانت(3).

وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ و هم المصرّون على اللّجاج دون فريق آخر كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ عنادا و تحفّظا لرئاستهم الباطلة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ محمّدا نبيّ ، و أنّ الكعبة قبلة اللّه، و أنّ كتمان الحقّ من أقبح المعاصي.

سورة البقرة (2): آیة 147

اشارة

اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

سورة البقرة (2): آیة 147

ثمّ لمّا كان تغيير القبلة غريبا في الأنظار، و مجالا لشبهات الكفّار و مقالاتهم، و كانت قلوب ضعفاء المؤمنين معرضا للتزلزل و الشّكّ في دينهم، أكّد اللّه أمر القبلة بقوله: اَلْحَقُّ الذي أنت يا محمّد عليه من أمر القبلة نازل مِنْ رَبِّكَ اللّطيف، بل المتفضّل عليك، فإذا كان ذلك فَلا تَكُونَنَّ فيه مِنَ الْمُمْتَرِينَ و الشاكّين. و المقصود من نهيه نهي امّته عن الامتراء، من باب (إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) و مرجع نهيهم عنه أمرهم بضدّه الذي هو اليقين و طمأنينة القلب.

قيل: إنّ الحقّ مفعول ليعلمون، و منصوب به.

إن قيل: كيف يمكن أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعرف من أبنائهم عندهم إلاّ إذا كان في التّوراة و الإنجيل بيان جميع مشخّصاته؛ من صفاته، و صورته، و شمائله، و اسمه، و اسم أبيه، و امّه، و نسبه، و قبيلته، و زمان ظهوره. و إذا كان ذلك كان هو صلّى اللّه عليه و آله معروفا بين المشرق و المغرب لمعروفيّة الكتابين في أطراف العالم. فإذن لم يمكن لأحد من اليهود و النّصارى إنكاره.

ص: 355


1- كذا، و في روح البيان 252:1 لا يشتبه عليهم كما لا يشتبه أبناؤهم.
2- روح البيان 252:1.
3- تفسير الرازي 128:4.

قلت: يكفي في تعريفه عليه السّلام بيان جملة من صفاته في الكتابين منضمّة إلى معجزاته الباهرات المشهورات في المدينة و نواحيها، فلم يكن لأهل الكتاب الساكنين فيها مجال للرّيب في أنّه هو النبيّ الموعود، خصوصا مع التّصريح باسمه محمّد صلّى اللّه عليه و آله في التّوراة و اسمه أحمد في الإنجيل، مع إخبار جمع من الكهنة بقرب زمان ظهوره، أو ظهوره(1).

سورة البقرة (2): آیة 148

اشارة

وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148)

سورة البقرة (2): آیة 148

ثمّ أنّه تعالى قرّب أمر تحويل القبلة إلى الأذهان، و رفع استبعاد تخصيص المسلمين بوجوب التوجّه إلى الكعبة المعظّمة بقوله: وَ لِكُلٍّ من الامم، و لأيّ ملّة من الملل وِجْهَةٌ معيّنة، و قبلة مختصّة مقرّرة من قبل اللّه هُوَ مُوَلِّيها إيّاهم، و آمر بالتوجّه و الاستقبال إليها كلّهم.

بل قال بعض: إنّ لكلّ طائفة من الملائكة أيضا قبلة خاصّة بهم: العرش قبلة الحملة، و الكرسيّ قبلة البررة، و البيت المعمور قبلة السّفرة(2).

و قال آخر: العرش قبلة المقرّبين، و الكرسيّ قبلة الرّوحانيّين، و البيت المعمور قبلة الكروبيّين، و الحقّ قبلة المتحيّرين، حيث قال: اينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ و بيت المقدس قبلة الأنبياء و المرسلين، و الكعبة قبلة إبراهيم عليه السّلام و خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله (3).فأمر القبلة راجع إلى اللّه، و العبادة و الانقياد راجع إلى العباد.

اذا تبيّن ذلك فَاسْتَبِقُوا و تسارعوا أيّها المؤمنون إلى اَلْخَيْراتِ و الطّاعات و موجبات المثوبات التي منها التزام التوجّه إلى الكعبة و الصّلاة إليها.

أَيْنَ ما تَكُونُوا و في أيّ مكان من أطراف العالم تصلّون يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً و يجمع صلواتكم إلى جهة واحدة و هي الكعبة، على ما قيل (4).أو أينما متّم من البلاد يأت بكم اللّه إلى المحشر فيجازيكم على أعمالكم.

إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من جمعكم في المحشر، و جمع أعمالكم و تأدية ما تستحقّون من

ص: 356


1- كذا، و الظاهر أو بظهوره.
2- تفسير الرازي 95:4.
3- تفسير الرازي 131:4.
4- تفسير أبي السعود 177:1.

الثواب قَدِيرٌ.

عن (الاكمال) و (العياشيّ ): عن الصادق عليه السّلام: «لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم عليه السّلام و إنّهم المفتقدون من فرشهم ليلا، فيصبحون بمكّة، و بعضهم يسير في السّحاب نهارا، نعرف اسمه و اسم أبيه و اسم حليته و نسبه »(1).

و قريب منها روايات محمولة على بيان التأويل و البطن(2).

سورة البقرة (2): الآیات 149 الی 150

اشارة

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

سورة البقرة (2): آیة 149

ثمّ أنّه تعالى لتأكيد أمر القبلة و بيان أنّه لا يوجب اختلاف مكان المصلّي تغييرا فيه، و أنّه أبديّ لا يطروه النسخ، كرّر الحكم بقوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ يا نبيّ الرّحمة، و إلى أيّ مكان سافرت فَوَلِّ و اصرف وَجْهَكَ حال صلاتك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و جانبه، و اعلم في هذا التولّي وَ إِنَّهُ باللّه لَلْحَقُّ الموافق للحكمة و المصلحة، الثابت مِنْ قبل رَبِّكَ لا يطروه التغيير و النسخ أبدا.

ثمّ أردف اللّه التأكيد بالوعد و الوعيد على الطّاعة و المخالفة بقوله: وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ

من التزامكم بامتثال أمره، و تجرّيكم عليه بعصيانه، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

سورة البقرة (2): آیة 150

ثمّ كرّر سبحانه و تعالى قوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أيّها الرّسول فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أيّها المسلمون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .

قيل: في تكرار الحكم في الآيات الثلاث فوائد:

ص: 357


1- اكمال الدين: 24/672، تفسير العياشي 224/166:2، تفسير الصافي 183:1.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 20:2-31.

منها: أنّ في الآية الاولى - و هي قوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ (1)- بيان حكم أهل المسجد، و في الآية الثانية بيان حكم أهل المدينة، و في الثالثة بيان حكم من كان في خارج المدينة و أقطار العالم.

و منها: أنّ المرّة الاولى توطئة لبيان أنّ أهل الكتاب يعلمون أنّ أمر نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أمر القبلة حقّ .

و المرّة الثانية لبيان أنّ اللّه يعلم أنّه الحقّ ، و المرّة الثالثة لبيان ذكر علله، فلاختلاف الفوائد حسن التكرار.

و منها: أنّ في المرّة الاولى بيان حكم القبلة، و في الثانية التّنبيه على أنّه ليس لمحض رضاك بغير ملاحظة صلاح فيه، بل لعلم اللّه بأنّه الحقّ و ذو صلاح تامّ . و فى الثالثة بيان دوام هذا الحكم، بحيث لا يتطرّق إليه النّسخ.

و قيل: إنّ في المرّة الاولى إشارة إلى أنّ أحد علل التّحويل حبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله إيّاها من حيث إنّها قبلة إبراهيم عليه السّلام و أشرف بقاع الأرض، و مورد توجّه العرب.

و في الثانية إشعار بأنّ لكلّ صاحب دعوة و شريعة قبلة مخصوصة، فاختار اللّه لهذه الأمّة التي هي أفضل الامم أشرف البقاع و الجهات.

و في الثالثة دلالة على أنّ فيه قطع حجج اليهود و المشركين(2) حيث قال: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ من المشركين و اليهود عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ و اعتراض، حيث إنّ مشركي العرب كانوا يقولون إنّ محمّدا ليس على ملّة إبراهيم عليه السّلام إذ قبلة إبراهيم عليه السّلام بيت الكعبة و قبلة محمّد بيت المقدس، و إنّ اليهود كانوا يقولون: إنّ النبيّ الموعود من صفاته أنّه يصلّي إلى الكعبة بعد أن كان يصلّي إلى الصّخرة، فلو دمتم على الصّلاة إلى بيت المقدس صرتم ملزمين بحجّة الفريقين. و كان يقع الطعن في نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و دينه، فبتغيير القبلة انقطعت مقالات النّاس(3).

إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أنفسهم و عاندوا الدّين الحقّ من مشركي العرب الذين يقولون: بدا لمحمّد فرجع إلى قبلة آبائه، فيوشك أن يرجع إلى دينهم. و من اليهود الذين يقولون: إنّ محمّدا ما ترك قبلتنا إلاّ حبّا لبلده، و ميلا إلى دين قومه، و لو كان على الحقّ للزم قبلة الأنبياء و لم يعرض عنها.

و من الواضح أنّ هذه الأباطيل غير لائقة للجواب، و إطلاق الحجّة عليها تهكّم أو جري على اعتقادهم حيث إنّهم يسوقونها مساقها.

ص: 358


1- البقرة: 144/2.
2- تفسير الرازي 137:4.
3- تفسير الرازي 139:4.

و عن القمي رحمه اللّه: إنّ (إلاّ) هاهنا بمعنى و لا(1).

فَلا تَخْشَوْهُمْ و لا تخافوا من طعنهم عليكم، فإنّه لا يضرّكم شيئا وَ اخْشَوْنِي في مخالفة امري، و احذروا عقابي في عدو لكم عمّا ألزمتكم عليه من التّوجه إلى بيتي.

ثمّ ذكر لتحويل القبلة علّة ثانية بقوله: وَ لِأُتِمَّ بالتّحويل نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ حيث وجّهتكم إلى القبلة الوسط بعد ما أنعمت عليكم بنبيّ وسط ، و جعلتكم امّة وسطا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تمام النعمة دخول الجنّة »(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تمام النعمة الموت على الإسلام »(3).

أقول: أتمّ النعم نعمة الولاية، حيث قال اللّه تعالى: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (4) و التلازم بين دخول الجنّة و الاسلام الحقيقي و الولاية واضح، و أمر القبلة بعض متمّمات النعم.

قيل: إنّ المسلمين كانوا يفتخرون باتّباع إبراهيم عليه السّلام اصولا و فروعا، فلمّا امروا بالتوجّه إلى بيت المقدس حصل الانكسار و الضّعف فيهم و التكدّر في قلوبهم، و لذلك كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبّ التحوّل إلى الكعبة، فبالتّحويل تمّت النعمة بالنّسبة و الإضافة(5).

ثمّ ذكر اللّه تعالى العلّة الثالثة بقوله: وَ لَعَلَّكُمْ بالاهتداء إلى التّوجّه إلى الكعبة تَهْتَدُونَ إلى ما فيه خيركم و صلاحكم و حسن عاقبتكم.

سورة البقرة (2): الآیات 151 الی 152

اشارة

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152)

سورة البقرة (2): آیة 151

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر أنّ في تغيير القبلة إتمام النعمة، بيّن أنّه في التماميّة كإرسال الرّسول بقوله:

كَما أتممنا عليكم النعمة حيث أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً عظيم الشأن كائنا مِنْكُمْ جنسا و نسبا حتّى يكون لكم شرفا، و هو يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا الدالّة على نبوّته التي هي مبدأ جميع الخيرات الدنيويّة و الأخرويّة.

ص: 359


1- تفسير القمي 63:1، تفسير الصافي 184:1.
2- كنز العمال 2965/17:2، تفسير الصافي 184:1.
3- تفسير الرازي 141:4، تفسير الصافي 184:1.
4- المائدة: 3/5.
5- تفسير الرازي 141:4.

وَ يُزَكِّيكُمْ بتربيته و يطهّر نفوسكم من رذائل الأخلاق بتقوية عقولكم و تضعيف شهواتكم الحيوانيّة، و تزهيدكم عن الدنيا و زينتها، و قطع علائقكم عنها، حتّى تكونوا باتّباعه مهذّبين من النواقص الأخلاقيّة، مبرّئين عن الأهواء النّفسانيّة ؟؟؟

وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ المجيد و القرآن الحميد. و فيه إشارة إلى أنّ تعليم حقائقه و دقائقه بعد تلاوته نعمة فوق نعمة، و في تقديم التّزكية هنا على التّعليم إشعار بتقديم التّخلية على التّجلية، و بأنّها العلّة الغائيّة، و هي مقدّم في القصد و اللّحاظ و مؤخّر في الوجود و الفعل، و لذا أخّرت في دعوة إبراهيم عليه السّلام.

وَ يعلّمكم اَلْحِكْمَةَ قيل: هو العلم بأحكام الشريعة (1)وَ يُعَلِّمُكُمُ بطريق الوحي ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من العلوم بغيره، و لا سبيل لكم إلى إدراكه و استكشافه.

سورة البقرة (2): آیة 152

و قيل: إنّ التّشبيه راجع إلى قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي فعلى هذا يكون المعنى على ما قيل: كما ذكرتكم بإرسال الرّسول فاذكروني بالطّاعة و الانقياد أَذْكُرْكُمْ بالثّواب. أو فاذكروني بقلوبكم اذكركم برحمتي. أو اذكروني بالدعاء أذكركم بالاجابة. أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات.

أو اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي. أو اذكروني بالصّدق و الإخلاص أذكركم بالخلاص و مزيد الاختصاص. أو اذكروني بالرّبوبيّة أذكركم بالرّحمة و العبوديّة.

عن الصادق عليه السّلام في حديث: «يا عيسى، اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، و اذكرني في ملئك اذكرك في ملأ خير من ملأ الآدميّين »(2).

و عن (العياشي) عن الباقر عليه السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الملك ينزل الصحيفة من أوّل النّهار و أوّل اللّيل يكتب فيها عملكم، فاملوا في أوّلها خيرا و في آخرها خيرا، فإنّ اللّه يغفر [لكم] ما بين ذلك إن شاء اللّه، فإنّه يقول: اذكرونى أَذْكُرْكُمْ » (3).

و عنه عليه السّلام: «ذكر اللّه لأهل الطاعة أكثر(4) من ذكرهم إيّاه، أ لا ترى إنّه يقول: اذكرونى أَذْكُرْكُمْ ؟» (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «اذكروا اللّه في كلّ مكان فإنّه معكم »(6).

ص: 360


1- تفسير الرازي 143:4.
2- الكافي 3/364:2، تفسير الصافي 184:1.
3- تفسير العياشي 225/167:1، تفسير الصافي 184:1.
4- في تفسير القمي: لأهل الصلاة أكبر، و في تفسير الصافي: لأهل الطاعة أكبر.
5- تفسير القمي 150:2، تفسير الصافي 184:1.
6- الخصال: 10/613، تفسير الصافي 184:1.

قال لقمان لابنه: يا بنيّ ، إذا رأيت قوما يذكرون اللّه تعالى فاجلس معهم، فإنّك إن تك عالما ينفعك علمك. و إن تك جاهلا علّموك. و لعلّ اللّه يطّلع عليهم برحمته فيصيبك معهم(1).

في أقسام ذكر اللّه و أنواعه

قيل: الذكر قد يكون باللّسان، و قد يكون بالقلب، و قد يكون بالجوارح. فالذكر باللّسان:

أن يحمدوه و يسبّحوه و يمجّدوه و يقرءوا كتابه. و الذكر بالقلب على ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يتفكّروا في الدلائل الدالّة على ذاته و صفاته، و يتفكّروا في الجواب عن الشبه العارضة في ملك اللّه(2).

و ثانيها: أن يتفكّروا في الدلائل الدالّة على كيفيّة تكاليفه و أحكامه، و أوامره و نواهيه و وعده و وعيده، فإذا عرفوا كيفيّة التّكليف و عرفوا ما في الطاعة من الوعد و في تركها من الوعيد سهلت عليهم.

و ثالثها: أن يتفكّروا في أسرار مخلوقات اللّه تعالى حتّى تصير كلّ ذرّة من ذرّات المخلوقات كالمرآة المجلوّة المحاذية لعالم القدس، فإذا نظر [العبد] إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال، و هذا المقام مقام لا نهاية له.

و أمّا الذكر بالجوارح فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي امروا بها، و خالية عن الأعمال التي نهوا عنها. و على هذا الوجه سمّى اللّه تعالى الصّلاة ذكرا، بقوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ (3)

فالأمر في قوله: اذكرونى متضمّن لجميع الطّاعات.

كما نقل عن سعيد بن جبير، أنّه قال في تفسيره: اذكروني بطاعتي(4).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالذكر الذي هو بأحد الوجوه أهمّ العبادات و روحها، أمر بالشّكر بقوله:

وَ اشْكُرُوا لِي على جميع نعمي، ظاهريّة كالصّحّة و الأمنيّة و غيرها. و باطنيّة: كإرسال الرّسول و الهداية إلى الدّين القويم و الطريق المستقيم الذي منها تحويل القبلة.

و هذا أمر بجميع الطاعات، فإنّ من الشكر القيام بالواجبات، و الاهتمام بترك المحرّمات، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «شكر كلّ نعمة الورع عن محارم(5) اللّه (6)».و أقلّ مراتب الشّكر ثناؤه تعالى

ص: 361


1- تفسير روح البيان 257:1.
2- في تفسير الرازي: الشبهة القادحة في تلك الدلائل.
3- الجمعة: 9/62.
4- تفسير الرازي 143:4، تفسير روح البيان 256:1.
5- في الخصال و تفسير الصافي: عمّا حرّم.
6- الخصال: 50/14، تفسير الصافي 185:1.

و حمده.

كما عن (العياشي): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: هل للشّكر حدّ إذا فعله الرّجل كان شاكرا؟ قال: «نعم».

قيل: و ما هو؟ قال: «الحمد للّه على كلّ نعمة أنعمها عليّ ، و إن كان له فيما أنعم به عليه حقّ أدّاه، و منه قول اللّه تعالى: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا » (1).

و عنه عليه السّلام في رواية: «عند النعمة الشّكر فريضة»(2) الخبر.

و إنّما لم يقل: اشكروني، لما في قوله: اُشْكُرُوا لِي إشعار باختصاص الشكر به تعالى، و عدم استحقاق غيره له، لأنّ جميع النعم بفضله و منتهية إليه.

ثمّ لتأكيد ذلك الأمر نهى عن ضدّه بقوله: وَ لا تَكْفُرُونِ نعمي بجحدها، و عصيان أمري، بل عليه يكون ترك الشكر كفرانا.

و قيل: إنّ المراد لا تكفرون بي، و لا تجحدون وحدانيّتي و الوهيّتي، و إنّما خصّ الكفر به تعالى بالنهي عنه، للتّنبيه على أنّه أعظم قباحة بالنسبة إلى كفر نعمه(3).

سورة البقرة (2): الآیات 153 الی 154

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)

سورة البقرة (2): آیة 153

ثمّ لمّا كان حقيقة شكره و هو تذكّر نعمه و القيام بجميع أوامره و ترك ارتكاب جميع منهيّاته شاقّا على النّفوس و ثقيلا على الطّباع، أمر بالصّبر و التوجّه إلى عظمته و سعة رحمته بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا على طاعة اللّه و التورّع عن محارمه و أداء حقّ شكره بِالصَّبْرِ على تحمّل مشاقّ الامور و بكفّ النّفس عن مخالفة أحكام اللّه و اتّباع الشّهوات، فإنّ قوّة تحمّل المشاقّ من غير جزع و اضطراب ذريعة إلى فعل كلّ خير، و مبدأ كلّ فضل.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «الصّبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد »(4).

و قال: «الصّبر خير كلّه، فمن تحلّى بحلية الصّبر سهل عليه القيام بالطّاعات، و الاجتناب عن

ص: 362


1- تفسير العياشي 226/167:1، تفسير الصافي 185:1، و الآية من سورة الزخرف: 13/43.
2- الخصال: 17/86، تفسير الصافي 185:1.
3- تفسير روح البيان 256:1.
4- الكافي 3/72:2، تفسير روح البيان 257:1.

المنكرات، و تحمّل البلايا و المصيبات »(1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث: «ثمّ ينادي مناد: أين أهل الصّبر؟ فيقوم ناس يسيرون سراعا إلى الجنّة فتلقّاهم الملائكة فيقولون: إنّا نراكم سراعا إلى الجنّة، فمن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصّبر. فيقولون:

ما كان صبركم ؟ قالوا: كنّا نصبر على طاعة اللّه، و نصبر عن معاصي اللّه. فيقال لهم: أدخلوا الجنّة »(2).

و عن الصادق عليه السّلام(3) في رواية: «عند البلاء من اللّه الصّبر فريضة »(4).

و قيل: إنّ المراد بالصّبر هنا، الصّبر على الصّوم(5).

ثمّ لمّا كان التوجّه إلى اللّه و حضور القلب عنده في الصّلاة أكمل و أتمّ ، أمر بالاستعانة بها بقوله:

وَ الصَّلاةِ التي روي أنّها معراج المؤمن (6) ،و قربان كلّ تقيّ (7) ،و أنّها الناهية عن الفحشاء و المنكر(8).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: كان إذا حزبه(9) أمر فزع إلى الصّلاة، و تلا هذه الآية(10).

ثمّ لمّا كان الصّبر على الطّاعة متضمّنا للاهتمام بالصّلاة و القيام بسائر العبادات أكّد الأمر بالاستعانة به بقوله: إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ بالتّوفيق و اجابة الدّعوة و النّضرة على الأعداء.

سورة البقرة (2): آیة 154

و قيل: إنّ المراد بالصّبر في الآية الصّبر على الجهاد بشهادة إردافه بقوله: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ و جهاد أعدائه و نصرة دينه و إعلاء كلمته، أنّهم أَمْواتٌ منقطعو الأثر في الدّنيا، فإنّ الميّت من لا يبقى منه أثر بَلْ هم أَحْياءٌ حيث إنّهم أحيوا دين الاسلام و سنّة الجهاد، فما دام الاسلام باقيا في الدّنيا، آثارهم باقية و ثواب عملهم غير منقطع عنهم، لأنّ من سنّ سنّة حسنة، كان له أجر من عمل بها.

وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ بالحواسّ الظاهرة هذا النّحو من الحياة، حيث إنّها أمر معنويّ لا يدرك إلاّ بالعقل السّليم أو بالوحي من اللّه و إخبار أنبيائه.

في عدد قتلى بدر و أسمائهم

روي عن ابن عبّاس أنّها نزلت في قتلى بدر من المسلمين، و هم يومئذ أربعة عشر رجلا ستّة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار، فمن المهاجرين: عبيدة بن الحارث

ص: 363


1- تفسير روح البيان 257:1.
2- تفسير روح البيان 258:1.
3- في الخصال و تفسير الصافي: الباقر عليه السّلام.
4- الخصال: 17/86، تفسير الصافي 185:1.
5- تفسير الرازي 144:4.
6- بحار الأنوار 303:82.
7- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 16/7:2.
8- كما ورد في سورة العنكبوت: 45/29.
9- حزبه الأمر: نابه و اشتدّ عليه.
10- تفسير الرازي 145:4.

بن عبد المطّلب، و عمر بن أبي وقاص، و ذو الشّمالين، و عمرو بن نفيلة، و عامر بن بكر، و مهجع بن عبد اللّه. و من الأنصار سعيد بن خيثمة (1) ،و قيس بن عبد المنذر، و زيد بن الحارث، و تميم بن الهمام، و رافع بن المعلّى، و حارثة بن سراقة، و معوّذ بن العفراء و عوف بن العفراء و كانوا يقولون: مات فلان، و مات فلان، فنهى اللّه تعالى أن يقال فيهم أنّهم ماتوا.

و قيل: إنّ الكفّار و المنافقين قالوا: إنّ النّاس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمّد من غير فائدة، فنزلت هذه الآية(2).

و عن (الكافي) و (التهذيب): عن يونس بن ظبيان، عن الصادق عليه السّلام أنّه قال له: «ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين ؟» قال: يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش.

فقال عليه السّلام: «سبحان اللّه! المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير! يا يونس، إذا كان ذلك أتاه محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الملائكة المقرّبون، فإذا قبضه اللّه تعالى صيّر تلك الرّوح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصّورة التي كانت له في الدنيا »(3).

و عن (التّهذيب): عنه عليه السّلام أنّه سئل عن أرواح المؤمنين فقال: «في الجنّة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت: فلان »(4).

في بيان حال المؤمن في البرزخ

أقول: ظهر أنّ المراد من الحياة في الآية هي الحياة البرزخيّة، التي عبارة عن تعلّق الرّوح بالجسد المثالي الذي هو جوهر هذا الجسد الدنيويّ ، في عالم البرزخ الذي هو عالم بين العالمين، كما دلّت عليه الأخبار المتواترة، و ضرورة المذهب أو الدّين.

و إنّما اختصّ هذه الحياة بالشّهداء و المؤمنين مع كونها للكفّار و العصاة أيضا؛ لأنّ حياة الشّهداء مقرونة باللّذّة و النّعمة و البهجة و الكرامة دون حياة غيرهم، حيث إنّها مقرونة بالعذاب و النّقمة، فكأنّها(5) ليس بحياة، كما قال تعالى في حقّ أهل النّار: لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (6).

سورة البقرة (2): آیة 155

اشارة

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ

ص: 364


1- في النسخة: سعيد بن خثيمة، و ما أثبتناه من تفسير الرازي.
2- تفسير الرازي 145:4.
3- الكافي 6/245:3، التهذيب 1526/466:1.
4- التهذيب 1527/466:1.
5- في النسخة: فكأنّه.
6- طه: 74/20.

وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ (155)

سورة البقرة (2): آیة 155

ثمّ أنّه تعالى لتوطين العباد نفوسهم على الصّبر في المكاره بعد أمرهم بالاستعانة به، نبههم على أنّ جميع البلايا من جانب اللّه لطف بهم و امتحان لهم بقوله: وَ باللّه لَنَبْلُوَنَّكُمْ و لنختبرنّ كمال نفوسكم و قوّة إيمانكم بِشَيْ ءٍ قليل مِنَ الْخَوْفِ من أعدائكم وَ من اَلْجُوعِ العارض لكم بسبب الفقر و القحط وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بالتّلف بالسّرقة و الغارة و غير ذلك وَ من اَلْأَنْفُسِ بالقتل و المرض و الموت و غير ذلك من الآفات الجسمانيّة وَ من اَلثَّمَراتِ

و حاصل الأشجار و الزّرع بالجدب و سائر الآفات.

قيل: في توصيفها بالقلّة إشعار بأنّها و إن كثرت فقليلة بالنّسبة إلى ما فوقها(1).

و قيل: إنّ المراد من الخوف خوف اللّه، و من الجوع الصّيام، و من نقص الأموال الزكاة و الصّدقات، و من نقص الأنفس الجهاد (2) ،و إنّما صارت البلايا امتحانا لأنّ الإخلاص حال البلاء للمؤمن أكثر من الإخلاص حال الرّفاه و الرّخاء.

ثم أنّه تعالى لازدياد رغبة المؤمنين بالتزام الصّبر، وعدهم بالثّواب العظيم إجمالا بقوله: وَ بَشِّرِ

يا رسول اللّه اَلصّابِرِينَ على البلايا و المصائب طلبا لمرضاة اللّه بالرّحمة الواسعة و النعم الدائمة و الفضل الذي لا يسعه البيان.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيّة لمحمّد بن الحنفيّة، قال: «ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر، و عوّد نفسك الصّبر، فنعم الخلق الصّبر، و احملها على ما أصابك من أهوال الدنيا و همومها »(3).

و عن الصّادق عليه السّلام، عن أبيه، قال: قال الفضل بن العبّاس(4) في حديث: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إن استطعت أن تجمّل(5) بالصّبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر فإنّ في الصّبر على ما تكره خيرا كثيرا» الخبر(6).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يا حفص، إنّ من صبر صبر قليلا، و إنّ من جزع جزع قليلا» ثمّ قال:

ص: 365


1- تفسير روح البيان 260:1.
2- تفسير روح البيان 260:1.
3- من لا يحضره الفقيه 830/276:4.
4- في المشكاة و البحار: عبد اللّه بن العبّاس.
5- في المشكاة و البحار: تعمل.
6- مشكاة الأنوار: 20، بحار الأنوار 52/183:70.

«عليك بالصّبر في جميع امورك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فأمره بالصّبر و الرّفق» الخبر(1).

و عنه عليه السّلام في رواية: «فمن صبر كرها و لم يشك إلى الخلق و لم يجزع بهتك ستره فهو من العام، و نصيبه ما قال اللّه تعالى: وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ » الخبر(2).

في أنّ البلاء و المصيبة من ألطاف اللّه بالمؤمن

ثمّ اعلم أنّ الآية صريحة في أنّ البلاء و الرّخاء و النعمة و الشّدّة كلّها من اللّه، و أنّ البلاء و المصيبة من ألطافه تعالى بالمؤمن؛ لأنّه مقدّمة للصّبر الذي هو من أفاضل الصّفات و أكمل الخصال و الملكات للنّفس.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الإيمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر، فإذا صبر المؤمن عند نزول الشّدائد كان له درجات» الخبر(3).

نعم، قد يكون كفّارة للسّيئات كما روي عن (النهج) «أنّ اللّه يبتلي عباده عند الأعمال السّيئة بنقص الثمرات، و حبس البركات، و إغلاق خزائن الخيرات؛ ليتوب تائب، و يقلع مقلع، و يتذكّر متذكّر، و يزدجر مزدجر »(4).

في بيان وجه أفضلية الصبر على الطاعة من الصبر على البلاء

ثمّ أنّه روي: «أنّ الصّبر على الطّاعة من عمل الواجبات و ترك المحرّمات أفضل من الصّبر على البلاء »(5) ،لوضوح أنّه متوقّف على قوّة الإيمان و شدّة اليقين، حيث إنّ الانسان العاقل البالغ المكلّف له قوّة شهويّة تدعوه إلى اللذّات النفسانيّة العاجلة و الاشتغال بها، و قوّة عاقلة تدعوه إلى اللذّات الرّوحانيّة الباقية، و لو كانت آجلة، و التجنّب عمّا يصدّ عنها، فإذا عرف العقل أنّ الاشتغال بطلب اللذّات الفانية يمنعه عن الوصول إلى اللذّات الباقية تكون هذه المعرفة صادّة و مانعة لداعية الشّهوة، فيسمّى ذلك المنع و الصّدّ صبرا.

نقل كلام الفخر الرازي و تزييفه

ثمّ من العجائب، أنّ قال الفخر الرازي في (تفسيره): إنّ هذه الآية تدلّ على أنّ الغذاء لا يفيد الشّبع، و شرب الماء لا يفيد الريّ ، بل كلّ ذلك يحصل بما أجرى اللّه العادة به عند هذه الأسباب؛ لأنّ قوله:

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ صريح في إضافة هذه الامور إلى اللّه، انتهى(6).

ص: 366


1- الكافي 3/71:2، بحار الأنوار 66/202:9.
2- مصباح الشريعة: 186، تفسير الصافي 185:1.
3- تفسير الرازي 149:4، إلى قوله: شكر.
4- نهج البلاغة: 199 الخطبة 143، تفسير الصافي 186:1.
5- بحار الأنوار 16:76.
6- تفسير الرازي 153:4.

و فيه من الوهن ما لا يخفى، إذ يكفي في إضافة هذه الامور إليه تعالى على وجه الحقيقة، إضافة إيجاد أسبابها إليه. و أمّا قوله: إنّ إضافتها بواسطة الأسباب إليه مجاز لا يصار إليه إلاّ بعد تعذّر الحقيقة، فممنوع أشدّ المنع، لوضوح كون إسناد الكتابة التي تحصل بتوسّط القلم إلى الكاتب الشاعر المختار حقيقة عند العرف. نعم، لو كان الواسطة فاعلا عاقلا مختارا، أمكن أن يكون الإسناد إلى غير المباشر مجازا، كإسناد فتح البلد إلى الأمير.

سورة البقرة (2): آیة 156

اشارة

اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)

سورة البقرة (2): آیة 156

ثمّ أنّه تعالى وصف الصّابرين بأنّهم اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ و وصلت إليهم مُصِيبَةٌ و بليّة و كريهة قالُوا تسكينا لقلوبهم، و تسهيلا لتحمّلها على أنفسهم إِنّا مملوكون لِلّهِ مخلوقون بقدرته، مقهورون تحت إرادته، متقلّبون في قبضته بمشيئته وَ إِنّا بعد الموت و الخروج من هذه الدنيا الفانية إِلَيْهِ و إلى حكمه و رحمته و قدرته و سلطانه راجِعُونَ كما كنّا قبل ولادتنا و دخولنا في تكفّل الآباء تحت قدرته و سلطنته، لم يكن لأحد علينا في العوالم السابقة من أصلاب الآباء و أرحام الأمّهات تصرّف و تدبير و إرادة و تقدير، بل كنّا نتقلّب و تعيش فيها بالعيش المناسب لها بمشيئته و حكمته و قضائه و قدره.

ففي الجملة الأولى إقرار بالمبدإ، و في الثانية: بالمعاد. و لا ريب أنّ معرفتهما من أكمل المسكّنات للقلب عند نزول ما يشقّ عليه تحمّله، و رؤية ما لا يلائم طبعه، حيث إنّ العبد إذا عرف أنّه لا وجود له إلاّ بإفاضة اللّه، و لا إرادة له عند إرادته، و لا تصرّف له في شيء من أموره، و لا معرفة له بمصالحه و مفاسده، و أنّ هذه الحياة الدنيا منقطعة، و نعمها زائلة، و أنّه منتقل منها إلى دار الجزاء و عالم البقاء، رضي برضا اللّه، و سلّم الأمر إليه، و هان عليه جميع ما يرد عليه من البلايا و المكاره.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: لئن أخرّ من السّماء أحبّ إليّ من أن أقول في شيء قضاه اللّه: ليته لم يكن(1).

و روي أنّه كلّما اشتدّ الأمر على الحسين بن عليّ عليهما السّلام في يوم الطّفّ أشرق وجهه سرورا (2).و أنّ حبيب بن مظاهر كان يضحك في ذلك اليوم. فقيل له في ذلك، فقال: أيّ موضع أحقّ بالسّرور من

ص: 367


1- تفسير الرازي 155:4.
2- بحار الأنوار 2/297:44.

هذا الموضع! و اللّه ما هو إلاّ أن يقبل علينا هؤلاء القوم بأسيافهم، ثمّ نعانق الحور العين(1).

و عن سعيد بن جبير، قال: ما اعطي أحد في المصيبة ما اعطيت هذه الأمّة - يعني الاسترجاع - و لو اعطيه أحد لاعطي يعقوب، أ لا تسمع إلى قوله في قصّة فقد يوسف يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ (2) ؟

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه طفئ سراجه فقال: «إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » فقيل: أ مصيبة [هي]؟ قال: «نعم، ما(3)

يؤذي المؤمن فهو له مصيبة »(4).

سورة البقرة (2): آیة 157

اشارة

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

سورة البقرة (2): آیة 157

ثمّ بيّن اللّه تعالى ما يبشّر به الصابرون تفضيلا بقوله: أُولئِكَ الصابرون المسترجعون عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ كثيرة و عطوفات خاصة متتالية كائنة مِنْ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف بهم وَ رَحْمَةٌ

عظيمة دائمة غير منقطعة، و هي شاملة لإيصال جميع المسارّ إليهم، و دفع جميع المضارّ عنهم في الدنيا و الآخرة وَ أُولئِكَ المكرمون عند اللّه عَلَيْهِمْ بالخصوص اَلْمُهْتَدُونَ إلى كلّ حقّ و صواب و خير و فلاح، المرشدون إلى مقام القرب و طريق الجنّة و النعم الدائمة.

عن ابن عبّاس، قال: أخبر اللّه تعالى أنّ المؤمن إذا سلّم لأمر اللّه و رجع و استرجع عند مصيبته كتب اللّه تعالى له ثلاث خصال: الصّلاة من اللّه، و الرّحمة، و تحقيق سبيل الهدى(5).

عن (الخصال) و (العيّاشيّ ) عن الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أربع خصال من كنّ فيه، كان في نور اللّه الأعظم: من كان عصمة امره شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه، و من [إذا] أصابته مصيبة قال:

إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و من إذا أصاب خيرا قال: الحمد للّه (6) ،و من إذا أصاب خطيئة قال: أستغفر اللّه و أتوب إليه »(7).

و عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام: «ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة و يصبر حين يفجع إلاّ غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه، و كلما ذكر مصيبته فاسترجع عند ذكر المصيبة غفر اللّه له

ص: 368


1- رجال الكشي: 133/79.
2- تفسير روح البيان 261:1، و الآية من سورة يوسف: 84/12.
3- في تفسير الرازي: نعم كل شيء.
4- تفسير الرازي 155:4.
5- تفسير الرازي 155:4.
6- زاد في الخصال: رب العالمين.
7- الخصال: 49/222، تفسير العياشي 234/169:1.

كلّ ذنب [اكتسب] فيما بينهما »(1).

و عن (الخصال) و (العيّاشيّ ): عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قال اللّه تعالى: «إنّي جعلت(2) الدنيا بين عبادي قرضا، فمن أقرضني منها [قرضا] أعطيته بكلّ واحدة منهنّ عشرا إلى سبعمائة ضعف، و ما شئت من ذلك، و من لم يقرضني [منها قرضا] فأخذت منه قسرا أعطيته ثلاث خصال، لو اعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا: الصّلوات، و الهداية، و الرّحمة. إن اللّه تعالى يقول: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ »

الى آخره(3).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ في الجنّة شجرة يقال لها شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينشر لهم ديوان، و لا ينصب لهم ميزان، يصبّ عليهم الأجر صبّا، ثمّ قرأ إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ » (4).

سورة البقرة (2): آیة 158

اشارة

إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

سورة البقرة (2): آیة 158

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المسلمين بالتوجّه إلى الكعبة في صلاتهم، و اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام في قبلته، أمرهم باتّباعه عليه السّلام في اتّباع سنّته الاخرى بقوله: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ و هما جبلان بمكّة. قيل:

سمّي أحدهما بالصّفا لأنّه جلس عليه آدم صفيّ اللّه، و الاخرى بالمروة لأنّه جلست عليه امرأته حواء(5).

مِنْ شَعائِرِ اللّهِ و أعلام مناسكه و طاعته. قيل: ما بينهما قبر سبعين ألف نبيّ (6).

فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ و قصده أَوِ اعْتَمَرَ و زاره للنّسكين المعروفين. روي أنّ الحجّ و العمرة علمان كالنّجم و البيت في الأعيان(7).

فَلا جُناحَ عَلَيْهِ و لا إثم له في أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما و أن يدور و يسعى بينهما.

ص: 369


1- الكافي 5/224:3.
2- في الخصال و العياشيّ : أعطيت.
3- الخصال: 135/130، تفسير العياشي 232/169:1.
4- تفسير روح البيان 261:1، و الآية من سورة الزمر: 10/39.
5- تفسير روح البيان 262:1.
6- تفسير روح البيان 263:1.
7- جوامع الجامع: 30.

في وجوب السعي بين الصفا و المروة، و نكتة التعبير عنه بنفي الجناح

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل أنّ السّعي بين الصّفا و المروة فريضة أم سنّة ؟ فقال: «فريضة».

قيل: أو ليس قال [اللّه] عزّ و جلّ : فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما؟ قال: «كان ذلك في عمرة القضاء، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصّفا و المروة، و تشاغل رجل عن السّعي حتّى انقضت الأيّام، و اعيدت الأصنام، فجاءوا إليه فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ فلانا لم يسع بين الصّفا و المروة، و قد اعيدت الأصنام! فأنزل اللّه عزّ و جلّ إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ إلى قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [أي] و عليهما الأصنام »(1).

و عن القمّي: «أنّ قريشا كانت وضعت أصنامهم بين الصّفا و المروة و [كانوا] يتمسّحون بها إذا سعوا، فلمّا كان من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة الحديبية ما كان، و صدّوه عن البيت، و شرطوا له أن يخلوا له البيت في العام القابل حتّى يقضي عمرته ثلاثة أيّام، ثمّ يخرج منها، فلمّا كانت عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة دخل مكّة، و قال لقريش: ارفعوا أصنامكم [من بين الصفا و المروة] حتّى أسعى فرفعوها» الحديث (2).كما [رواه] في (الكافي) بأدنى تفاوت(3).

و في (الكافي): عنه عليه السّلام: «أنّ المسلمين كانوا يظنون [أنّ ] السّعي ما بين الصّفا و المروة شيء صنعه المشركون، فأنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية »(4).

قيل: إنّه كان على الصّفا صنم يقال له إساف، و على المروة صنم يقال له نائلة، و إنّهما كانا رجلا و امرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين، فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلمّا طالت المدّة عبدا من دون اللّه، فكان أهل الجاهليّة إذا سعوا بين الصّفا و المروة مسحوهما تعظيما لهما، فلمّا جاء الإسلام و كسّرت الأوثان كره المسلمون الطّواف بينهما لأنّه فعل أهل الجاهليّة، فأذن اللّه تعالى في الطّواف بينهما، و أخبر أنّهما من شعائر اللّه(5).

و روي أنّ الصّفا و المروة بابان من الجنّة، و موضعان من مواضع الإجابة، و سعيهما يعدل سبعين رقبة(6).

ص: 370


1- الكافي 8/435:4.
2- تفسير القمي 64:1.
3- راجع الكافي 8/435:4.
4- الكافي 4/245:4.
5- تفسير روح البيان 262:1.
6- تفسير روح البيان 263:1.

في حكمة تشريع السعي

قيل في حكمة تشريع السّعي: أنّه لمّا اشتدّ العطش على هاجر و ابنها إسماعيل، سعت بين الصّفا و المروة لطلب الماء، فأغاثها اللّه بالماء الذي أنبعه من زمزم، فأمر اللّه الخلق بالسّعي بين الصّفا و المروة ليتذكّروا هذه القصّة، و يعلموا أنّ اللّه و إن كان لا يخلي أولياءه في دار الدّنيا عن المحن و البلايا، إلاّ أنّ فرجه قريب ممّن دعاه، فإنّه غياث المستغيثين. فانظر إلى حال هاجر و إسماعيل كيف أغاثهما اللّه، ثمّ جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة ليعلموا أنّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين.

و قيل: إنّ ذلك تحقيق لما أخبر اللّه تعالى به قبل ذلك من أنّه يبتلي عباده بشيء من الخوف و الجوع إلى آخره، فمن صبر على ذلك نال السّعادة في الدّارين، و فاز بالمقصد الأعلى في المنزلين(1).

عن الصادق عليه السّلام: «جعل السّعي بين الصّفا و المروة مذلّة للجبارين »(2).

قيل: في إيراد التطوّف الذي هو من باب التفعّل إشعار بأنّ من حقّ السّاعي أن يتحمّل الكلفة في السّعي و يبذل جهده فيه(3).

وَ مَنْ تَطَوَّعَ و تبرّع بفعل المستحبّات أو أتى بالطّوع و الرّغبة عملا خَيْراً من الخيرات من السّعي الزائد على القدر الواجب، أو غيره من سائر الصّالحات فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ له، مجاز على عمله.

و في التعبير عن الجزاء بالشّكر اشعار بكمال اللّطف بعبيده عَلِيمٌ بعمله و حسن نيّته و مقدار جزائه، فلا يمكن أن يبخس منه شيئا.

سورة البقرة (2): الآیات 159 الی 160

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ (160)

سورة البقرة (2): آیة 159

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن عدّة من الأحكام، حذّر النّاس عن كتمانها و كتمان كلّ حقّ بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ و يخفون عن تعمّد و عناد ما أَنْزَلْنا مِنَ الآيات اَلْبَيِّناتِ وَ البراهين الموضّحات لأمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صحّة دينه، و من اَلْهُدى و الرّشاد إلى كلّ حقّ و صواب.

ص: 371


1- تفسير الرازي 158:4.
2- الكافي 5/434:4.
3- تفسير أبي السعود 181:1، تفسير روح البيان 263:1.

مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ و أوضحناه و فصّلناه لِلنّاسِ كافّة، الكاتمين و غيرهم فِي الْكِتابِ

السّماويّ من التّوراة و الإنجيل و غيرهما، بحيث يتلقّاه و يفهمه كلّ أحد من غير أن يكون فيه شبهة و ريب.

أُولئِكَ الكاتمون يَلْعَنُهُمُ اللّهُ و يبعدهم من رحمته و فضله في الدّارين وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ من الملائكة و الجنّ و الإنس، بل كلّ ما يتأتّى منه اللّعن من سائر الحيوانات و النّباتات و الجمادات بلسان حالهم و قدر شعورهم، بل حتّى نفس الكاتم حيث إنّه يقول: لعن اللّه الكاتمين.

عن العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام في قوله: اَللاّعِنُونَ قال: «نحن هم، و قد قالوا: هوامّ الأرض »(1).

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: ما تلاعن اثنان إلاّ ارتفعت اللّعنة بينهما، فإن استحقّها أحدهما و إلاّ رجعت على اليهود الذين كتموا صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله(2).

عن (الاحتجاج) و (تفسير الإمام) عن أبي محمّد عليه السّلام قال: «قيل لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه:

من خير خلق اللّه بعد أئمّة الهدى و مصابيح الدّجى ؟ قال: العلماء إذا صلحوا.

قيل: و من شرّ خلق اللّه بعد إبليس و فرعون و ثمود (3) ،و بعد المتسمّين بأسمائكم و المتلقّبين بألقابكم و الآخذين لأمكنتكم و المتأمّرين في ممالككم ؟ قال: العلماء إذا فسدوا، المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، فهم الذين قال اللّه عزّ و جلّ : أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ » (4).

في حرمة كتمان العلم عن المحتاج الأمين

عن القمّي مرفوعا: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا ظهرت البدع في امّتي فليظهر العالم علمه، و من لم يفعل فعليه لعنة اللّه »(5).

و عن النبيّ أنّه قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه، الجم يوم القيامة بلجام من نار »(6).

و عن العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام: «إنّ رجلا أتى سلمان الفارسيّ ، فقال: حدّثني فسكت، ثمّ عاد فسكت، ثمّ عاد فسكت، فأدبر الرّجل و هو يتلو هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ فقال له: أقبل، إنّا لو وجدنا أمينا لحدّثناه» الخبر(7).

فدلّت الرّواية على أنّ مطلق الكتمان لا يكون محرّما، بل يكون مشروطا بكون الطّالب أمينا على

ص: 372


1- تفسير العياشي 247/173:1.
2- تفسير روح البيان 265:1.
3- في الاحتجاج و تفسير الإمام: و نمرود.
4- الاحتجاج: 458، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 144/302.
5- الكافي 2/44:1.
6- مجمع البيان 442:1، تفسير الصافي 189:1.
7- تفسير العياشي 244/172:1، تفسير الصافي 189:1.

العلم، حافظا له كما سمعه، غير مبدّل و لا مغيّر، و أن لا يكون في إظهار العلم ضرر على المظهر و لا على المستمع، و أن يكون العلم ممّا يحتاج إليه السائل في عقيدته و عمله، بحيث يجب عليه تحصيله. و دلّت الرّوايات أيضا على أنّ حكم الآية عامّ ، و إن قيل أنّها نزلت في رؤساء اليهود و أحبارهم(1).

كما روي عن ابن عبّاس أنّه سأل جماعة من الأنصار نفرا من اليهود عمّا في التّوراة من صفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من الأحكام، فكتموا فنزلت(2).

و عنه أيضا أنّه قال: نزلت في أهل الكتاب من اليهود و النّصارى. الخبر(3) لوضوح أنّ خصوصيّة المورد لا يخصّص عموم الحكم.

سورة البقرة (2): آیة 160

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا و رجعوا عن كفرهم، و ندموا على كتمانهم وَ أَصْلَحُوا نيّاتهم و أعمالهم و تداركوا ما أفسدوه وَ بَيَّنُوا للنّاس ما في الكتب السّماويّة من نعوت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و علائمه.

فَأُولئِكَ التائبون الصالحون أَتُوبُ و أرجع عَلَيْهِمْ بقبول التّوبة و الرّحمة المغفرة وَ أَنَا التَّوّابُ السّريع القبول للتّوبة، الواسع المغفرة للتّائبين اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين.

سورة البقرة (2): الآیات 161 الی 162

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

سورة البقرة (2): آیة 161

ثمّ لمّا لم تكن في الآية السابقة دلالة على استمرار اللّعنة عليهم، صرّح سبحانه و تعالى بكونهم ملعونين بعد الموت إذا استمرّوا على كفرهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و بآياته و كتموها عن النّاس وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ لم يرتدعوا عن عقائدهم الفاسدة، و لم يتوبوا من أفعالهم الشّنيعة.

أُولئِكَ المصرّون على الكفر و معاندة الحقّ ، مستقرّ عَلَيْهِمْ بعد خروجهم من الدنيا لَعْنَةُ اللّهِ و طردهم من رحمته وَ لعنة اَلْمَلائِكَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ حتّى الكفّار منهم، حيث إنّهم يلعنون الكفّار في الدنيا لادّعائهم أنّهم ليسوا منهم، و قد أخبر اللّه تعالى بأنّ يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا.

ص: 373


1- تفسير روح البيان 264:1.
2- تفسير الرازي 162:4.
3- تفسير الرازي 162:4.
سورة البقرة (2): آیة 162

و قيل: إنّ المراد بالنّاس في الآية المؤمنون منهم لأنّهم المنتفعون بالإنسانيّة، و أمّا الكفّار فهم كالأنعام بل هم أضلّ (1) ،فاللّعنة محيطة بهم حال كونهم خالِدِينَ و دائمين فِيها لا خلاص لهم منها، فلازم دوام اللّعنة عليهم أنّه لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ كيفيّة و لا يهوّن عليهم ساعة وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و يمهلون لحظة.

و قيل: إنّ المراد أنّه لا ينظر إليهم ربّهم نظر الرّحمة(2).

سورة البقرة (2): آیة 163

اشارة

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)

سورة البقرة (2): آیة 163

ثمّ أنّه لمّا كان الشّرك ساريا في اليهود و النّصارى و غيرهم من العرب، دعا اللّه تعالى جميعهم بعد محاجّتهم في النبوّة إلى التّوحيد الخالص بقوله: وَ إِلهُكُمْ و معبودكم أو مفزعكم أيّها النّاس إِلهٌ واحِدٌ و مفزع أو معبود فارد لا تعدّد له حتّى تباينوا في المقصد و تتشعّبوا في المسلك.

ثمّ قرّر وحدانيّته و أكّدها بقوله: لا إِلهَ موجود و متصوّر إِلاّ هُوَ فلا تعبدوا إلاّ إيّاه، و لا ترجوا و لا تخافوا ما سواه.

و في الإتيان بضمير الغائب إشعار بأنّه تعالى من غاية إبهام ذاته و كنه صفاته، يكون غيب الغيوب و حقيقته من العقول و الأوهام مستورا و محجوبا، لا تدركه الأبصار و القلوب، و هو يدرك الأبصار و الألباب، ليس له دون خلقه ستر و لا حجاب، محيط بذرّات الكائنات، قيّوم على جميع الممكنات، فهو بذاته مع قطع النّظر عن نعمه مستحقّ لأن يعبده جميع الموجودات.

ثمّ أضاف إلى استحقاقه الذاتيّ استحقاقه الصّفاتيّ بقوله: اَلرَّحْمنُ الرَّحِيمُ المولى بجميع النعم، اصولها و فروعها، حيث إنّ جميع ما سواه إمّا نعمة و إمّا منعم عليه من فضله و رحمته، فلا يستحقّ غيره العبادة.

روي عن أسماء بنت يزيد أنّها قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ في هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ و اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (3).

ثمّ أنّه روي أنّه: لمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة، نزلت عليه آية: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فسمع [كفّار]

ص: 374


1- تفسير روح البيان 265:1.
2- تفسير روح البيان 265:1.
3- تفسير روح البيان 267:1 و الآية من سورة البقرة: 255/2، و آل عمران: 2/3.

قريش فقالوا: كيف يسع النّاس إله واحد؟ فنزل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ (1).

و روي أنّ المشركين كان لهم حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما، فلمّا سمعوا آية إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .قالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ .. الآية(2).

و روي عن سعيد(3) بن مسروق، قال سألت قريش اليهود، فقالوا: حدّثونا بما جاءكم [به] موسى من الآيات فحدّثوهم بالعصا و باليد البيضاء، و سألوا النّصارى عن ذلك فحدّثوهم بإبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى.

فقالت قريش عند ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ادعوا اللّه أن يجعل لنا الصّفا ذهبا فنزداد يقينا و قوّة على عدوّنا فسأل ربّه ذلك، فأوحى اللّه تعالى إليه أن يعطيهم، و لكن إن كذّبوك بعد ذلك لاعذّبنّهم عذابا لا اعذّبه أحدا من العالمين!

فقال صلّى اللّه عليه و آله «ذرني و قومي أدعوهم يوما فيوما»، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية مبينا لهم أنّهم إنّ كانوا يريدون أن أجعل لهم الصّفا ذهبا ليزدادوا يقينا، فخلق السّماوات و الأرض و سائر ما ذكر في الآية أعظم(4).

أقول: ظاهر الرّواية أنّ قريش الذين اقترحوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجعل لهم الصّفا ذهبا، كانوا من المؤمنين به، حيث قالوا: فنزداد يقينا و قوّة على عدوّنا، و الظاهر أنّه لم يكن في المؤمنين منهم أجسر من صنميهم.

سورة البقرة (2): آیة 164

اشارة

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

ص: 375


1- تفسير الرازي 179:4، و الآية من سورة البقرة: 164/2.
2- تفسير أبي الفتوح 184:1، تفسير روح البيان 267:1.
3- في النسخة: شعبة، و هو سعيد بن مسروق الثوري، راجع: تهذيب الكمال 60:11.
4- تفسير الرازي 179:4.
سورة البقرة (2): آیة 164

ثمّ شرع اللّه تعالى في إقامة البرهان على وحدانيّته، و من الواضح أنّ الاستدلال بالآثار على وجود المؤثّر أقرب إلى فهم العامّة، و لذا جرت سيرته تعالى في الكتاب العزيز بالاستدلال على وجوده و وحدانيّته بمخلوقاته العجيبة و مصنوعاته البديعة، مع أنّ من توغّل في التفكّر في مخلوقاته تعالى كان أكثر علما بجلال اللّه و عظمته و قدرته و حكمته.

ثمّ لمّا كان من أظهر الآيات و أعظمها في أنظار العامّة خلق السّماوات، بدأ بذكره، بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ السّبع أو التسع و إنشائها على سبيل الاختراع و الإبداع بلا عمد تمنعها من السّقوط ، و علاقة تحبسها عن الوقوع.

ثمّ ثنّاه بذكر الآية التي هي دون السّماوات و فوق غيرها في العظمة، بقوله: وَ في خلق اَلْأَرْضِ مع ما فيها من أعاجيب و بدائع الصنائع التي يعجز عن فهمها عقول البشر.

قيل: إنّما جمع السّماوات و أفرد الأرض، للإشعار بأنّ كلّ سماء ليست من جنس الاخرى بخلاف الأرضين، فإنّها كلّها من جنس واحد و هو التّراب(1).

ثمّ ذكر الآية الاخرى التي تكون من توابع خلق السّماوات بقوله: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ

و تعاقبهما بحيث يخلف كلّ واحد منهما الآخر، أو المراد اختلافهما بالجنس و الهيئة و الصّفات و المنافع، حيث إن الليل جعل سكنا و راحة لظلمته لأن لا ينهك الأبدان بشدّة الكدّ و التعب، و النّهار مبصرا لطلب المعاش و ابتغاء فضل اللّه.

ثمّ ذكر الآية التي تكون من خواصّ الأرض بقوله: وَ الْفُلْكِ و هي السّفن اَلَّتِي تَجْرِي و تسير فِي الْبَحْرِ مصحوبة بِما يَنْفَعُ النّاسَ من الأمتعة.

في وجه كون الفلك و سيرها في البحر من آيات اللّه

و إنّما جعل خلق الفلك و سيرها من آياته مع أنّها مصنوعات خلقه؛ لأنّ في خلق أجزائها بحيث تستقرّ على البحر في أمد بعيد لا تغرق و لا تغوص فيه، كما إذا كان كلّها من حديد، و تسخير البحر لها بحيث تجري فيه بسهولة، و تعليم صنعها حمولة(2)

بحيث تنقل بها الأمتعة النافعة من بلد إلى بلد، و إرسال الرّياح غير العاصفة لتحريكها و تسييرها بسرعة، و تقوية القلوب لركوبها، و جعل الأمتعة فيها حتّى ينتفع عموم النّاس بأشياء نافعة مختصّة ببعض البلاد، حيث إنّه من الواضح اختصاص بعض البلاد ببعض الأمتعة التي يحتاج إليها أهل البلاد

ص: 376


1- تفسير روح البيان 267:1.
2- كذا.

البعيدة، من ظهور قدرة اللّه و حكمته و رحمته ما لا يخفى على ذي لبّ ، حيث إنّه لو لا تبعيّة السّفن بتعليم اللّه و جريانها في البحار، و حفظهما من تلاطم الأمواج، و وكوف الأمطار (1) ،و مصادمة الحيوانات العظيمة، و الجبال و الأشجار من خرق الألواح، و مخالفة عواصف الرّياح، لما وصلت سفينة إلى ساحل سليمة، و لما كثرت في البلاد نعمة و وقع(2) الخلق في مشقّة عظيمة و كلفة وخيمة.

وَ كذا في ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ المطلّة أو من جهة العلوّ، الأمطار التي تكون مِنَ جنس اَلسَّماءِ عظيم النّفع به حياة كلّ شيء و بقاؤه و رزقه، فإنّ دلالة خلق الماء البارد العذب و إنزاله من السّماء حتّى يحيط بجميع الأرض على كمال القدرة و الحكمة أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

في أنّ غالب الأمطار نازل من السماء، لا أنّ كلّها متكوّن من الأبخرة

ثمّ اعلم أنّ ظاهر كثير من الآيات و الأخبار أنّ المطر نازل من السّماء المعروفة إلى السّحاب، و منه إلى الأرض.

و قال الطّبيعيّون: إنّه من أبخرة متصاعدة من الأرض إلى الجوّ البارد بتأثير الشمس فيها فتبرد حينئذ و تنقلب بذرّات الماء فتتّصل الذّرّات فتكون قطرات، و ليس السّحاب إلاّ تلك الأبخرة المتراكمة. و ادّعوا أنّه محسوس لمن مارس، و هذا القول و إن كان في نفسه غير بعيد إلاّ أنّه مخالف لظواهر الآيات و صريح الرّوايات، و لا وجه لرفع اليد عنها بعد إمكان تحقّق مضمونها.

نعم يمكن القول بأنّ الأغلب أنّه نازل من السّماء المعروفة، و قد يوجد بالمبادئ التي ذكروها، و اللّه العالم بحقائق الامور.

فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ و أنبت فيها به أنواع النّباتات و الأزهار و الزّروع و الأشجار، و حصل لها به حسن و رونق و نضارة بَعْدَ مَوْتِها و يبوستها حسب ما

تقتضيه طبيعتها.

قيل: إنّ إطلاق الحياة على حصول النّماء و الإثمار استعارة بعلاقة أنّ الحياة الحقيقيّة - و هي الرّوح في الأحياء - منشأ لوجود الآثار و النّماء و النزهة و البهاء، و فيه أنّ الظاهر أنّ لفظ الحياة حقيقة في كون الشيء مبدءا للآثار المتوقّعة منه. و بهذا المعنى يطلق الحيّ على اللّه تعالى، و على القلوب، و الموت الذي هو ضدّه حقيقة في سقوط الشيء عن قابليّة تلك الآثار.

و لمّا كان الرّوح مبدأ للآثار يطلق عليه الحياة، فعلى هذا يكون لكلّ شيء، و لو كان من الجمادات،

ص: 377


1- وكف المطر: سال و قطر.
2- كذا، و الظاهر: و لوقع.

حياة و موت.

وَ في أنّه تعالى بَثَّ في الأرض و فرّق فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ من الانسان و سائر الحيوانات التي تدبّ و تتحرّك على وجه الأرض، فإنّ من تفكّر في خلق الحيوانات خصوصا الانسان، تحصل له معرفة كاملة بوحدانيّة صانعه و كمال حكمته، فلينظر العاقل إلى بدو خلقته؛ كان نطفة متشابهة الأجزاء، ثمّ بعد استقرارها في الرّحم صارت دما متشابه الأجزاء، ثمّ صار بعد مدّة بعضه عظما، و بعضه لحما، و بعضه عصبا، و بعضه عروقا، و بعضه شحما، و بعضه جلدا، مع كون جميع هذه الأجزاء متخالفات بالطّبع و الوصف و الفائدة، حيث إنّ لكلّ منها فوائد عظيمة غير ما للاخرى.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سبحان من بصّر بشحم، و أسمع بعظم، و انطق بلحم »(1).

في بيان بعض عجائب خلقة الانسان

ثمّ لينظر إلى عجائب تركيب جسده، فإنّ من راجع علم التّشريح وجد فيه من العجائب ما تحار فيه العقول و تضلّ فيه الأفهام، ثمّ ليتفكّر في أنّه بعد انفصاله عن أمّه طفلا لو وضعت على فمه و أنفه خرقة تمنعه من التنفّس لمات في ساعته، و مع ذلك بقي في رحم امّه حيّا من غير تنفّس مدة قريبة من خمسة أشهر و لم يمت.

ثمّ من عجائب خلقة الانسان أنّه بعد ولادته يكون من أضعف الحيوانات بطشا و أقلّها إدراكا، حيث إنّه لا يميّز بين امّه و غيرها، و لا بين الماء و النّار، و النّافع و المضرّ، و الملذّ و المؤذي، ثمّ يصير بعد استكماله أعقل من سائر الحيوانات و أذكى من جميع موجودات عالم الأجسام، بل يصير بإعمال القوّة النظريّة العمليّة جوهرا قدسيّا و عالما عقليّا، مع أنّ أولاد سائر الحيوانات أقوى شعورا و أشدّ بطشا منه حال صغره. و مقتضى الطّبع أنّ كلّ ما كان في صغره و بدو أمره أذكى و أعقل و أبطش، كان في كبره و أوان استكماله أكمل في تلك الصفات (2) ،و ليس هذه المزيّة للإنسان إلاّ من عطايا القادر الحكيم المنّان.

ثمّ من عجائب خلق الانسان كثرة اختلاف ألسنتهم و ألوانهم و طبائعهم و أمزجتهم و أخلاقهم، و كيفية أشكالهم و أصواتهم بحيث لا يكاد يرى فردان من الإنسان متماثلين في الشّكل و كيفيّة

ص: 378


1- تفسير الرازي 199:4.
2- و الانسان على الضدّ من ذلك، و يؤيده ما جاء في الحديث عن العبد الصالح عليه السّلام: «تستحبّ عرامة الصبي في صغره ليكون حليما في كبره، ثمّ قال: ما ينبغي أن يكون إلا هكذا» الكافي 2/51:6.

الصّوت، متوافقين في المزاج و خصوصيّات الأخلاق بحيث لا يتمايز أحدهما عن الآخر، مع أنّ غالب الحيوانات البريّة أو البحريّة لا يكون بين أكثر أفراد نوع واحد منها تميّز ظاهر، و ليس هذا الاختلاف في أفراد الإنسان إلاّ للتّعارف، و لولاه لاختلّت معائشهم و نظام امورهم. و استقصاء الكلام في عجائب خلقة الإنسان بل كلّ من أنواع الحيوانات لا مطمع فيه لأحد، حيث إنّه بحر لا ساحل له(1).

في حكمة تمويج الرياح

وَ في تَصْرِيفِ الرِّياحِ و تحريكها و تمويجها، فإنّ فيه حكمة بالغة و النظام الأتمّ ، حيث إنّ فيه كمال النّفع للنّباتات و الحيوانات، إذ لكلّ منها تنفّس بها، فلو لم يتغير الهواء بهبوب الرّياح لفسد، و بفساده هلكت الحيوانات و النباتات.

قال بعض: لو لم تكن الرّياح و الذباب لأنتنت الدنيا(2).

في وجه تسمية الهواء المتموّج بالريح و بالمبشّر و بيان أقسام الرياح

قيل: سمّيت الرّيح ريحا لأنّ في هبوبها الرّوح و الرّاحة، و في انقطاعها الكرب و الغمّ (3).

و إنّما سمّى اللّه تعالى الرّياح مبشّرات؛ لأنّ فيها مع عظم منافعها تحريك السحاب الممطر الذي به حياة الأرض، و بحياتها حياة جميع الحيوانات، فإنّ بالعشب تعيش الدّوابّ ، و بالثّمار يتقوّت الإنسان.

ثمّ اعلم أنّ للرّياح أقساما أربعة:

أحدها: الصّبا، و يقال لها: القبول لاستقبالها الدّبور، و هي شرقية.

و ثانيها: الدّبور، و هي غربيّة.

و ثالثها: الشّمال و هي شمالية.

و رابعها: الجنوب و هي جنوبيّة.

و كلّ ريح هبّت من بين المهبّين من المهابّ الأربعة تسمّى نكباء، و لكلّ واحدة منها منافع لا تحصى.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه إذا هبّت ريح، قال: «اللهمّ اجعلها رياحا، و لا تجعلها ريحا »(4).

و لعلّ فيه إشارة إلى أنّ هبوب الرّياح من جميع الجوانب إحاطة الرّحمة بالخلق، و أنّ لكلّ ريح

ص: 379


1- تفسير الرازي 200:4.
2- تفسير روح البيان 268:1.
3- تفسير الرازي 201:4.
4- تفسير الرازي 202:4.

فائدة لا تتمّ إلاّ بسائر الرّياح.

و أمّا القسم الخامس فهو الرّيح العقيم التي أهلك اللّه بها عادا، و هي من آيات غضبه تعالى. عن ابن عبّاس، قال: أعظم جنود اللّه الرّيح و الماء(1).

وَ في اَلسَّحابِ الْمُسَخَّرِ المذلّل تحت إرادته و أمره بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فإنّه لا يمسكه مع ثقله بحمل الماء عن السّقوط على الأرض إلاّ إرادة اللّه، و لا يسوقه من بلد إلى بلد إلاّ أمره، فلو انقطع عن بلد عظم الضّرر بسبب القحط و فقد العشب و الزّرع و الثّمار، و لو دام وقوفه عليه عظم الضّرر بسبب استتار ضوء الشّمس و كثرة الأمطار، فهو مسخّر تحت حكم اللّه يأتي به وقت الحاجة و يردّه عند زوالها.

في بيان وجه دلالة الآيات الثمانية على وجوده تعالى و قدرته و إرادته و حكمته و توحيده و وجوب عبادته

ثمّ لمّا كان كلّ واحد من الامور الثّمانية آية عظيمة و دلالة واضحة على وجود الصّانع الواحد القادر المدبّر الحكيم و وجوب طاعته و عبادته، قال: لَآياتٍ بيّنات و دلائل واضحات نافعات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دلالتها، و يتفكّرون فيها بالإدراك السّليم و الفهم المستقيم.

أمّا دلالتها على وجوده تعالى و قدرته، فبأنّه لمّا كان امتناع حدوث الحادث من غير علّة من البديهيّات، كان حدوث هذه الموجودات بعد عدمها دليلا على وجود موجد قادر لها.

و أمّا دلالتها على اختياره و إرادته، فبأنّه لو كان المؤثّر موجبا لدام الأثر، فتغيير الأثر دليل على كون المؤثّر مريدا مختارا.

و أمّا دلالتها على حكمته تعالى، فبظهور كون وجود هذه الموجودات و تغييراتها على وفق الحكمة و الصّلاح.

و أمّا دلالتها على وحدانيّته تعالى، فبكون جميع امورها على نحو الاتّساق و الانتظام، و لو كان موجدها و المتصرّف فيها متعدّدا لاختلّ نظامها.

و أمّا دلالتها على وجوب شكره و عبادته، فبأنّ كلّ واحد منها نعمة عظيمة، و وجوب شكر المنعم من ضروريّات العقل، و من شكره طاعته و عبادته. و إنّما خصّ الآيات بالعقلاء لكونهم المنتفعين بها دون غيرهم، كما أنّ ذوي الأمزجة الصحيحة و الحواسّ غير العليلة مختصّون بالانتفاع بالأطعمة

ص: 380


1- تفسير روح البيان 268:1.

اللّذيذة الدنيويّة و المحسوسات بالحواسّ الظاهريّة.

في بيان دلالة جميع ذرات الموجودات على الصانع و وجوب وجوده و كماله

ثمّ اعلم أنّ الدلالة على وجوده تعالى و كماله في الصّفات غير مختصّ بتلك الآيات المعدودة في الآية، بل كلّ موجود من الموجودات، حتّى النّملة و الذّرّة من آيات وجوده و كماله.

و أتمّ أنحاء الاستدلال بها و أقصرها أن نقول: إنّا نتصوّر جميع ماله حظّ من الوجود بحيث لا يشذّ منه شيء، و حينئذ فإمّا أن نحكم بأنّ جميعه واجب قديم، و إمّا أن نحكم بأنّ جميعه ممكن حادث، و إمّا أن نحكم بأنّ بعضه واجب و بعضه ممكن. و لا سبيل إلى الأوّل لامتناع تعدّد الواجب القديم، حيث إنّ التعدّد مستلزم للتّركّب ممّا به الاشتراك و ما به الامتياز، و التركّب مستلزم للحدوث و الحاجة.

أمّا الحدوث فلأنّ المركّب متأخّر بالطّبع وجودا عن وجود أجزائه، و أمّا الحاجة فلأنّه لو لم تكن الأجزاء لم يكن المركّب، و الواجب قديم بالذّات، مع أنّ قدم الجميع خلاف الحسّ و الوجدان، و لا سبيل إلى الثاني لبداهة أنّ الحادث محتاج إلى العلّة، و المفروض أنّه لا موجود غير ما فرضناه حتّى يكون علّة له، و فرض كون جميع الموجودات حادثا مستلزم لعدم كونها معلولة لعلّة، و هو محال، فتعيّن الثالث و هو كون بعضه واجبا و بعضه ممكنا.

و قد ثبت امتناع تعدّد الواجب، فثبت وحدته، و أنّ ما سواه أثره و صنعه، فتحصّل من جميع ذلك أنّ جميع العالم مرآة جمال اللّه و جلاله، و الانسان العاقل هو المشاهد فيها بعين بصيرته، و إنّما خصّ سبحانه و تعالى الآيات الثّماني بالذكر لظهور عظمها في الأنظار، و إنّها جامعة بين كونها دلائل على معرفته و نعماه على الخلق أجمعين على أوفر حظّ و نصيب. و إذا كانت الدلائل كذلك، كانت انجع في القلوب و أشدّ تأثيرا في النّفوس.

سورة البقرة (2): الآیات 165 الی 167

اشارة

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما

ص: 381

تَبَرَّؤُا مِنّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ (167)

سورة البقرة (2): آیة 165

ثمّ أنّه تعالى بعد ما قرّر توحيد ذاته المقدّسة بالدلائل القاهرة و البراهين الظاهرة، أردفه بتقبيح الشّرك الذي هو ضدّ التّوحيد، بقوله: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ و يختار مِنْ دُونِ اللّهِ و ممّا سواه من الأصنام و رؤساء الضّلال و المطاعين الذين لم ينصّبهم اللّه للطّاعة و الاتّباع أَنْداداً و أمثالا له في الألوهيّة، و شركاء له في العبادة و الطّاعة، حال كون المتّخذين للأنداد يُحِبُّونَهُمْ حبّا كائنا كَحُبِّ اللّهِ و يسوّون بينهم و بينه في التّعظيم و الطّاعة، بل يتّبعونهم فيما خالف رضاه.

عن (الكافي) و (العياشي): عن الصادق(1) عليه السّلام: «هم و اللّه أولياء فلان و فلان [و فلان]، اتّخذوهم أئمّة [من] دون الإمام الذي جعله اللّه للنّاس اماما»(2) الخبر.

و عن بعض العرفاء: كلّ شيء شغف(3) قلبك به سوى اللّه تعالى فقد جعلته ندّا له(4).

وَ الَّذِينَ آمَنُوا و في رواية: هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله (5)أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ من هؤلاء المشركين حيث إنّهم بمعرفتهم عظمة الرّبوبيّة لا يميلون إلى غيره، و لا يتوجّهون إلى ما سواه، بخلاف المشركين الذين يعدلون بهوى أنفسهم من صنم إلى صنم.

عن ابن عبّاس: أن المشركين كانوا يعبدون صنما، فإذا رأوا صنما(6) أحسن منه تركوا ذلك و أقبلوا إلى عبادة الأحسن، انتهى(7).

و بخلاف أتباع رؤساء الضلالة و أئمّة الكفر فانّهم يميلون مع كلّ ريح، و يتّبعون كلّ ناعق.

روي أنّه جاء أعرابي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، متى السّاعة ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أعددت لها؟» فقال: ما أعددت كثير صلوات و لا صيام، إلاّ أنّي أحبّ اللّه و رسوله. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «المرء مع من أحبّ ».

فقال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك(8).

و روي أنّ عيسى عليه السّلام مرّ بثلاثة نفر و قد نحلت أبدانهم و تغيّرت ألوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم

ص: 382


1- في الكافي: عن الباقر.
2- الكافي 11/306:1، تفسير العياشي 248/173:1.
3- في تفسير الرازي و تفسير روح البيان: شغلت.
4- تفسير الرازي 204:4، تفسير روح البيان 391:1.
5- تفسير العياشي 249/174:1، تفسير الصافي 191:1.
6- فى تفسير الرازي: شيئا.
7- تفسير الرازي 208:4.
8- تفسير الرازي 205:4.

إلى ما أرى ؟ فقالوا: الخوف من النّار. فقال: [حقّ ] على اللّه أن يؤمن الخائف.

ثمّ تركهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشدّ نحولا و تغيّرا. فقال لهم: ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام ؟ قالوا: الشّوق إلى الجنّة. فقال: حقّ على اللّه أن يعطيكم ما ترجون.

ثمّ تركهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشدّ نحولا و تغيّرا، كأنّ وجوههم المرايا من النّور، فقال: كيف بلغتم إلى هذه الدّرجة ؟ قالوا: بحبّ اللّه. فقال عليه السّلام: أنتم المقرّبون إلى اللّه يوم القيامة(1).

و نقل عن بعض الكتب: عبدي أنا و حقّك، لك محبّ ، فبحقّي عليك، كن لي محبّا(2).

ثمّ شرع اللّه تعالى في تهديد المشركين بقوله: وَ لَوْ يَرَى و يعلم اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم باعتقادهم الشّرك و اتّخاذهم الأنداد للّه - و الأمثال لمحمّد و آله الأبرار (صلوات اللّه عليهم) - من الكفّار و الفجّار إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ و يوم يشاهدون فيه ما اعدّ لهم من العقاب و النّكال، و عجز أنفسهم عن الدّفاع أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ على الامور جَمِيعاً لا قوّة و لا قدرة لأحد غيره وَ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ عليهم، فيدخلهم من النّدم و التحسّر ما لا يدخل تحت الوصف، و يخرج عن حدّ التصوّر.

سورة البقرة (2): آیة 166

إِذْ تَبَرَّأَ الأصنام و رؤساء الضّلال اَلَّذِينَ اتُّبِعُوا و اطيعوا في الباطل مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا هم و أفنوا أعمارهم في عبادتهم و طاعتهم باعتقاد أنّهم أوكد أسباب نجاتهم في الآخرة وَ الحال أنّ المتبوعين رَأَوُا و عاينوا اَلْعَذابَ المعدّ لهم على إضلالهم وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و زالت عنهم و سائل النّجاة من الشّدائد، من القرابة و الموادّة و المعاهدة و التابعيّة، فعند ذلك لا يقدرون على خلاص أنفسهم، فكيف بخلاص أتباعهم ؟ و لهذا يتبرّءون منهم.

سورة البقرة (2): آیة 167

و يحتمل أن تكون الجملتان بيانا لحال الأتباع، و يكون المعنى: و الحال أنّ الأتباع رأوا العذاب و انقطعت عنهم الوسائل، فتوسّلوا بالرؤساء في نهاية استئصالهم و شدّة الحاجة إليهم، طمعا في إعانتهم لهم، و شفاعتهم عنهم. فإذا رأوا تبرّأ الرؤساء منهم، يدخلهم نهاية الحسرة و غاية النّدامة، وَ حينئذ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا و أطاعوا رؤساء الضّلال، تمنّيا: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً و رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فيها عند ابتلائهم بالشّدائد و حاجتهم إلينا كَما تَبَرَّؤُا مِنّا في الآخرة.

كَذلِكَ الإرادة الفظيعة يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حال كونها حَسَراتٍ مستولية عَلَيْهِمْ

و ندامات واردة بهم، فكأنّهم لا يرون أعمالهم، بل يرون مكانها الحسرة و النّدامة.

ص: 383


1- تفسير الرازي 205:4.
2- تفسير الرازي 205:4.

نقل أنّهم مع ما رأوا من العذاب و تبرّأ الرؤساء منهم، ترفع لهم الجنّة فينظرون إليها و إلى بيوتهم فيها لو أطاعوا اللّه، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه. ثمّ تقسّم بين المؤمنين(1).

و عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ «هو الرّجل يدع المال لا ينفقه في طاعة اللّه بخلا، ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة اللّه أو [في] معصية اللّه، فإن عمل به في طاعة اللّه يراه في ميزان غيره فيراه حسرة، و قد كان المال له، و إن كان عمل به في معصية اللّه، قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية اللّه »(2).

وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ أبدا. روي أنّه يساق أهل النّار إلى النّار، فلا يبقى منهم عضو إلاّ لزمه عذاب، إمّا حيّة تنهشه، أو ملك يضربه. فإذا ضربه الملك هوى في النّار مقدار أربعين يوما لا يبلغ قرارها. ثمّ يرفعه اللّهب و يضربه الملك فيهوي، فإذا بدا رأسه ضربه - إلى أن قال - فإذا عطش أحدهم طلب الشّراب فيؤتى بالحميم، فإذا دنا من وجهه سقط وجهه، ثمّ يدخل في فيه فتسقط أضراسه، ثمّ يدخل بطنه فيقطّع أمعاءه و ينضج جلده(3).

و عن سعيد بن جبير: أنّ اللّه تعالى يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه [في الدنيا] على ربوبيّة الأصنام أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم، فلا يدخلون لعلمهم أنّ عذاب جهنّم على الدّوام. ثمّ يقول للمؤمنين بين أيدي الكفار: إن كنتم أحبّائي فادخلوا جهنّم فيقتحمون فيها، و ينادي مناد من تحت العرش:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ (4) .

سورة البقرة (2): الآیات 168 الی 169

اشارة

يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)

سورة البقرة (2): آیة 168

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن قبح الشّرك، و سوء عاقبته، و كون المشركين معذّبين بالنّار، محرومين من نعم الآخرة، بيّن أنّ نعم الدنيا تعمّهم و لا تختصّ بخصوص المؤمنين، بقوله: يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا

ص: 384


1- تفسير روح البيان 271:1.
2- الكافي 2/42:4، تفسير العياشي 250/174:1، تفسير الصافي 191:1.
3- تفسير روح البيان 271:1.
4- تفسير روح البيان 271:1، و الآية من سورة البقرة: 165/2.

و انتفعوا مِمّا فِي الْأَرْضِ من النعم، حال كونها حَلالاً و مباحا لكم، ليس من اللّه عقدة الحظر و الحرمة طَيِّباً لذيذا أو طاهرا من كلّ شبهة.

وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ و لا تطأوا على عقبه و لا تقتدوا به، ثمّ علّل النّهي بقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عند من له بصيرة نافذة، فلا تتعدّوا عن الحلال إلى ما يدعوكم إليه الشّيطان من الحرام.

عن ابن عبّاس: نزلت الآية في الذين حرّموا على أنفسهم السّوائب و الوصائل و البحائر (1) ،و هم قوم من ثقيف و بني عامر بن صعصعة و خزاعة و بني مدلج(2).

سورة البقرة (2): آیة 169

ثمّ ذكر اللّه تفصيل عداوة الشّيطان بقوله: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ و يدعوكم إلى المعصية وَ الْفَحْشاءِ قيل: هو أقبح أنواع المعاصي، و لذا يقال للزّنا فاحشة(3).

وَ أَنْ تَقُولُوا و تفتروا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنّ اللّه قاله و أمر به، و هو أقبح من الفحشاء، فيدخل في الآية الصّغائر و الكبائر و الشّرك و البدعة في الدّين.

عن (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «إيّاك و خصلتين ففيهما هلك من هلك؛ إيّاك أن تفتي النّاس برأيك، أو تدين بما لا تعلم »(4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن حقّ اللّه على العباد، قال: «أن يقولوا ما يعلمون، و يقفوا عند ما لا يعلمون »(5).

سورة البقرة (2): آیة 170

اشارة

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170)

سورة البقرة (2): آیة 170

ثمّ أنّه تعالى بعد إباحة نعمه الطيّبة لجميع خلقه، التي هي موجبة لتوحيده و عبادته، و نهيه عن اتّباع الشيطان، أخذ في ذمّ المشركين الذين هم أخصّ النّاس باتّباعه، و بيّن نهاية حمقهم، بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ وعظا و نصحا اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ في كتابه و على لسان رسوله من العقائد الحقّة و الأعمال الحسنة.

ص: 385


1- السائبة: الناقة التي كانت تسيّب في الجاهلية لنذر و نحوه، و الوصيلة في الجاهلية: النّاقة التي وصلت بين عشرة أبطن، و البحيرة: الناقة كانت في الجاهلية إذا ولدت خمسة أبطن شقّوا أذنها.
2- تفسير الرازي 2:5.
3- تفسير روح البيان 272:1.
4- الكافي 2/33:1، تفسير الصافي 192:1.
5- الكافي 7/34:1، تفسير الصافي 192:1.

و في التّكنية عنهم بضمير الغائب إشعار بالإعراض عنهم لعدم قابليّتهم للمخاطبة لفرط حماقتهم، فكأنّه تعالى وجّه الخطاب إلى العقلاء، و قال: انظروا أيّها العقلاء إلى هؤلاء الحمقى السّفهاء، أنّهم مع قيام البراهين القاطعة على توحيد اللّه و استحقاقه العبادة؛ إذا قيل لهم اعملوا بكتاب اللّه و تديّنوا بتوحيده و خصّوه بالعبادة قالُوا: لا نتّبع كتاب اللّه، و لا نتديّن بدينه بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا و وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأنداد، و تحريم الطيّبات، و ارتكاب الفحشاء؛ لأنّهم كانوا أعلم منّا.

فعارضوا الأدلّة القاطعة بالتّقليد، فردّ اللّه عليهم بقوله توبيخا و تقريعا لهم: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ و لا يدركون شَيْئاً من الدّين الحقّ وَ لا يَهْتَدُونَ إلى شيء من الصّواب. مع ذلك لا يمكن جواز اتّباعهم في حكم العقل.

قيل: إنّها نزلت في مشركي العرب و كفّار قريش، امروا باتّباع القرآن و سائر ما أنزل اللّه تعالى من البيّنات الباهرة، فجنحوا للتّقليد(1).

و نقل عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في اليهود، و ذلك حين دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الإسلام، فقالوا:

نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا(2).

سورة البقرة (2): آیة 171

اشارة

وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)

سورة البقرة (2): آیة 171

ثمّ أنّه تعالى لتوضيح نهاية حماقة هؤلاء الكفرة لجميع النّاس حتّى لا يبقى لأحد فيها ريب، شبّههم بالبهائم و الأنعام، بقوله: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا و حالهم العجيبة من عبادتهم الأصنام، و عدم فهمهم آيات التّوحيد، و عدم استماعهم لدعوة الرّسل كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ و يصيح بِما لا يَسْمَعُ

من الدّاعي، و لا يدرك من كلامه إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً و غير صوت و صياح من غير فهم شيء من معناه.

قيل: إنّ الفرق بين الدّعاء و النّداء، أنّ الدعاء للقريب، و النّداء للبعيد(3).

عن (المجمع): عن الباقر عليه السّلام: «أي مثلهم في دعائك إيّاهم إلى الإيمان، كمثل النّاعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم، و إنّما تسمع الصّوت »(4).

ص: 386


1- تفسير روح البيان 274:1.
2- تفسير الرازي 6:5.
3- تفسير روح البيان 274:1.
4- مجمع البيان 463:1، تفسير الصافي 193:1.

و قيل: إنّ المراد أنّ مثل داعيهم كمثل داعي البهائم (1).حيث إنّها لا تسمع إلاّ الصّوت و لا تدرك المراد من الألفاظ و مداليلها، فكأنّهم صُمٌّ لا يسمعون الكلام أصلا بُكْمٌ لا يقدرون على إجابة الدّاعي عُمْيٌ لا يبصرون الطّريق حتّى يحضروا عند الدّاعي.

و حاصل المراد - و اللّه أعلم - أنّهم لشدّة إعراضهم عن الدلائل و المعجزات؛ كأنّهم لا يشاهدونها و لا يدركونها بالحواسّ .

ثمّ بيّن أنّ عدم تأثير الدّعوة و البراهين في قلوبهم، لقلّة إدراكهم، بقوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ البرهان و لا يدركون الحقّ بنور العقل.

سورة البقرة (2): الآیات 172 الی 173

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

سورة البقرة (2): آیة 172

ثمّ أنّه تعالى بعد ترخيص عموم النّاس بالانتفاع من النّعم التي خلقها في الأرض، وجّه الخطاب إلى خصوص المؤمنين، تشريفا لهم و لطفا بهم، و خصّهم بالدّعوة إلى طيّبات نعمه و الإرشاد إلى شكرها بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا و تمتّعوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و مستلذّات ما أنعمنا عليكم، فانّها مباحة لكم وَ اشْكُرُوا لِلّهِ على إنعامها و إحلالها، و اثنوا عليه، و اعملوا بمرضاته إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ و له بالعبوديّة تقرّون، و بالالهيّة تؤمنون، و بنعمه تذعنون حيث إنّ عبادته لا تتمّ إلاّ بالشكر.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يقول اللّه تعالى: إنّي و الجنّ و الإنس في نبأ عظيم، أخلق و يعبد غيري، و أرزق و يشكر غيري »(2).

في بيان جملة من المأكولات و المشروبات المحرّمة و المحلّلة

عن الحسن(3) بن عليّ بن شعبة، عن الصادق عليه السّلام في حديث: «و أمّا ما يحلّ للإنسان أكله ممّا أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية: صنف منها جميع الحبّ كلّه من الحنطة و الشّعير و الأرز و الحمّص و غير ذلك من صنوف الحبّ و صنوف

ص: 387


1- تفسير الصافي 193:1.
2- تفسير الرازي 10:5، تفسير أبي السعود 190:1.
3- في النسخة: الحسين، راجع: نوابغ الرواة: 93.

السّماسم و غيرها، كلّ شيء من الحبّ ممّا [يكون] فيه غذاء الإنسان في بدنه و قوته فحلال أكله.

و كلّ شيء [تكون] فيه المضرّة على الإنسان في بدنه و قوته فحرام أكله إلاّ في حال الضّرورة.

و الصنف الثاني: مما أخرجت الأرض من جميع صنوف الثّمار كلّها ممّا يكون فيه غذاء الإنسان و منفعة له و قوته به فحلال أكله، و ما كان فيه المضرّة على الإنسان في أكله فحرام أكله.

و الصّنف الثالث: جميع صنوف البقول و النّبات، و كلّ شيء تنبت [الأرض] من البقول كلّها ممّا فيه [منافع الإنسان و غذاء له فحلال أكله، و ما كان من صنوف البقول ممّا فيه] المضرّة على الانسان في أكله نظير بقول السّموم القاتلة و نظير الدّفلى(1) و غير ذلك من صنوف السّمّ القاتل فحرام أكله.

و أمّا ما يحلّ أكله من لحوم الحيوان فلحوم البقر و الغنم و الإبل، و ما يحلّ من لحوم الوحش، و كلّ ما ليس له ناب و لا له مخلب.

و ما يحلّ أكله من لحوم الطّير كلّها ما كانت له قانصة فحلال أكله، و ما لم تكن له قانصة فحرام أكله، و لا بأس بأكل صنوف الجراد.

و أمّا ما يجوز أكله من البيض، فكلّ ما اختلف طرفاه فحلال أكله، و ما استوى طرفاه فحرام أكله.

و ما يجوز أكله من صيد البحر من صنوف السّمك؛ فما كان له قشور فحلال أكله، و ما لم يكن له قشور فحرام أكله.

و ما يجوز من الأشربة من جميع صنوفها، فما لا يغيّر العقل كثيره فلا بأس بشربه، و كلّ شيء منها يغيّر العقل كثيره فالقليل منه حرام(2).

سورة البقرة (2): آیة 173

ثمّ أنّه تعالى بعد تحليله الانتفاع بعموم نعمه، ذكر بعض أنواعها المحرّمة بقوله: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ و الانتفاع بما فارقته الرّوح بغير ذكاة بالانتفاعات المقصودة منه، كأكل لحمه، وَ حرّم اَلدَّمَ المسفوح لا المتخلّف في الذّبيحة بعد ذكاتها، وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ و تخصيص التّحريم بلحمه مع حرمة بعض الانتفاعات بسائر أجزائه؛ لأنّ المقصود منه للغالب هو أكل لحمه.

وَ حرّم ما أُهِلَّ و رفع الصّوت بِهِ عند ذبحه لِغَيْرِ اللّهِ .

قيل: إنّ المشركين كانوا إذا ذبحوا لالهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها و يقولون: باسم اللاّت

ص: 388


1- الدّفلى: نبت مرّ زهره كالورد الأحمر، يتّخذ للزينة.
2- تحف العقول: 337.

و العزّى(1).

قيل: وجه تخصيص الأنواع الأربعة بالذّكر من بين المحرّمات؛ لأنّ العرب كانوا يستحلّونها و يقولون: تأكلون ما أمتّم و لا تأكلون ما أماته اللّه! و كانوا يشرون الدّم و يأكلونه، و كانوا يأكلون لحم الخنزير و ذبائح الأصنام، فنهى اللّه هذه الأشياء الأربعة.

في جواز أكل المحرّمات في المخمصة و الضرورة مطلقا

ثمّ منّ عليهم بإباحة أكلها في المخمصة(2) بقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ و التجأ إلى أكل شيء من هذه المحرّمات لمجاعة أو إكراه، حال كونه غَيْرَ باغٍ قيل: يعني غير ظالم على مضطرّ آخر بالاستئثار عليه (3)وَ لا عادٍ و مجاوز في أكله عن حدّ سدّ الرّمق و الجوع الشّديد. و روي أنّ الباغي: الظالم، و العادي الغاصب(4).

و عن (الفقيه): عن [محمد بن علي] الرّضا عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقيل [له: يا رسول اللّه] إنّا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة، فمتى تحلّ لنا الميتة ؟ قال: ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا(5) بقلا فشأنكم بهذا »(6).

قال في (المجمع): الاصطباح: أكل الصّبوح و هو الغداء، و الغبوق: أكل العشاء، و أصلهما الشّرب ثمّ استعملا في الأكل(7).

قال عبد العظيم: فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فما معنى قول اللّه عزّ و جلّ : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ؟ قال: «العادي: السّارق: و الباغي: الذي يبغي الصّيد بطرا أو لهوا لا ليعود [به] على عياله، ليس

ص: 389


1- تفسير روح البيان 277:1.
2- أي المجاعة.
3- تفسير روح البيان 277:1، تفسير أبي السعود 191:1.
4- تفسير العياشي 257/176:1، تفسير الصافي 194:1.
5- في التهذيب: (أو تحتفوا) من احتفى البقل: أخذه بأطراف أصابعه من قصره و قلّته، كما في المغرب 131:1، و في القاموس 318:4، احتفى البقل: اقتلعه من الأرض. و نقل ابن الأثير عن أبي سعيد الضرير أنّه قال: صوابه (تحتفوا) بغير همز، من أحفى الشعر، و من قال: تحتفئوا مهموزا هو من الحفأ، و هو البردي، فباطل، لأنّ البردي ليس من البقول. و نقل عن أبي عبيد قوله: هو من الحفأ، مهموز مقصور، و هو أصل البردي الأبيض الرطب منه، و قد يؤكل، يقول ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه. و يروى (تحتفّوا) بتشديد الفاء، من احتففت الشيء: إذا أخذته كله، كما تحفّ المرأة وجهها من الشعر. النهاية 411:1.
6- من لا يحضره الفقيه 1007/217:3، التهذيب 354/83:9، و في من لا يحضره الفقيه: فشأنكم بها.
7- مجمع البحرين 1003:2.

لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا، هي حرام عليهما في حال الاضطرار»(1) الخبر.

و عن (العيّاشيّ ): عن الصادق عليه السّلام: «الباغي الصّيد، و العادي: السارق، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين »(2).

و عن (الكافي) عنه عليه السّلام: «الباغي: الذي يخرج على الإمام، و العادي: الذي يقطع الطّريق، لا تحلّ لهما الميتة »(3).

أقول: ظاهر تلك الرّوايات سوى النّبويّ ، حرمة أكل الميتة على كلّ من اضطرّ في طريق معصية اللّه و في السّفر الحرام، و فيه إشكال لمعارضتها لأدلّة نفي الحرج و الضّرر مع كونها آبية عن التقييد و التخصيص، و على أيّ حال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تناول مقدار يحفظ نفسه.

ثمّ لمّا كان فيه مقتضى الحرمة المزاحم بالأهمّ في الرّعاية، زيل التّرخيص بقوله: إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ

و ستّار لجميع المعاصي و القبائح رَحِيمٌ بعباده، لا يرضى بضررهم و عطبهم و هلاكهم.

في حكم حرمة لحم الخنزير و الدم و الميتة

عن (العلل) و (العيون): عن الرّضا عليه السّلام فيما كتب من جواب مسائل: «و حرّم الخنزير لأنّه مشوّه جعله اللّه عظة للخلق(4) و دليلا على ما مسخ على خلقته، و لأنّ غذاءه أقذر الأقذار، مع علل كثيرة».

إلى أن قال: «و حرّمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان و الآفة، و لما أراد اللّه أن يجعل التسمية سببا للتّحليل و فرقا بين الحلال و الحرام، و حرّم اللّه الدّم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان، و لأنّه يورث الماء الأصفر، و يبخر الفم، و ينتن الرّيح، و يسيء الخلق، و يورث القسوة للقلب و قلّة الرأفة و الرّحمة حتّى لا يؤمن أن يقتل ولده و والده و صاحبه»(5) الخبر.

سورة البقرة (2): الآیات 174 الی 176

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما

ص: 390


1- من لا يحضره الفقيه 1007/216:3.
2- التهذيب 539/217:3، تفسير العياشي 262/177:1 «نحوه»، تفسير الصافي 194:1.
3- الكافي 1/265:6.
4- في العلل و العيون: و عبرة و تخويفا.
5- علل الشرائع: 4/484، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/94:2.

أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)

سورة البقرة (2): آیة 174

ثمّ لمّا كان من دلائل صدق النّبيّ موافقة أحكام شريعته للعقول السّليمة و الأذهان المستقيمة، كانت تلك الأحكام دليلا على صدق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دعوى نبوّته. و على أنّه المبشّر به في التّوراة، و مع ذلك أنكر عليه اليهود و كتموا ما يدلّ على نعوته في كتابهم، فلذلك هدّدهم على كتمانهم طلبا للزخارف الدنيويّة بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ و يطلبون بدل كتمانهم نعوت محمّد صلّى اللّه عليه و آله ثَمَناً قَلِيلاً و عوضا يسيرا من متاع الدّنيا.

أُولئِكَ الكاتمون ما يَأْكُلُونَ و ما يجرون بالمآكل التي(1) يصيبونها من سفلتهم فِي بُطُونِهِمْ شيئا إِلاَّ النّارَ في الآخرة عقوبة على أكلهم الرّشا.

في أنّ للأموال المحرمة صورة برزخية

قيل: إنّ إطلاق النّار على مآكلهم من باب إطلاق المسبّب على السّبب (2).و يمكن أن يكون الاطلاق من باب الحقيقة باعتبار أنّ الأموال المحرّمة صورتها البرزخيّة صورة النّار، و لكن لا يشعرون بحقيقتها و صورتها المعنويّة، حتّى إذا هبّت عليهم ريح عالم البرزخ و الآخرة، فعند ذلك تشتعل في بطونهم.

و يؤيّده أنّه نقل أنّ عالما حضر في محضر سلطان ظالم فأمر السلطان بإحضار الطّعام، فأحضروا الأطعمة الطيّبة، فأمر السّلطان العالم بأكلها، فأبى العالم، فأصرّ السّلطان، فقال العالم: هذه الأطعمة دماء المظلومين. فقال السّلطان مستهزئا به: كيف تكون هذه الأطعمة اللّذيذة دماء؟! فأخذ العالم لقمة منها فعصرها فصبّ الدّم من بين أصابعه، و على ذلك يحمل ما روي من أنّ الشّارب في آنية الذّهب و الفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم(3).

وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بكلام فيه لطف و عطوفة(4) كما يكلّم به أهل الجنّة.

و قيل: إنّ ترك الكلام كناية عن نهاية الإعراض، حيث إنّ عادة الملوك أنّهم لا يكلّمون من يعرضون عنه عند الغضب، و يكلّمون من يرضون عنه بالبشر و اللّطف(5).

وَ لا يُزَكِّيهِمْ و لا يطهّرهم من دنس المعاصي كما يطهّر المؤمنين، لعدم قابليّة الكافر للتّطهير.

ص: 391


1- في النسخة: الذي.
2- تفسير روح البيان 279:1.
3- تفسير الرازي 27:5.
4- كذا، و قياس المصدر: عطف أو عطوف.
5- تفسير الرازي 27:5.

و قيل: إنّ المراد بتزكيتهم المدح و الثّناء عليهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و عقوبة موجعة بالنّار.

سورة البقرة (2): آیة 175

أُولئِكَ البعيدون عن العقل و الإدراك هم اَلَّذِينَ من شدّة حمقهم و خبث ذاتهم اِشْتَرَوُا

و اختاروا لأنفسهم اَلضَّلالَةَ و الجهل و استبدلوها بِالْهُدى و العلم بالحقّ في الدّنيا، حيث إنّهم مع حصوله لهم و وضوح صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صحّة دين الإسلام عندهم، ادّعوا الجهل و اختاروا الكفر، فكأنّهم رفعوا اليد عن الهداية الحاصلة، و أخذوا الضّلالة بدلا منها. و هذا العمل الشّنيع لا يمكن أن يصدر ممّن شمّ رائحة العقل، وَ اشتروا اَلْعَذابَ الأبدي بِالْمَغْفِرَةِ و الرّحمة الدائمة في الآخرة، و ذلك غاية الخسارة. فإذن ينبغي أن يقال تعجّبا: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ! و ما أجرأهم عليها، و كلمة التعجّب كناية عن استعظام الأمر.

عن (الكافي) و (العياشي): ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنّه يصيّرهم إلى النّار(1).

سورة البقرة (2): آیة 176

ذلِكَ العذاب معلّل بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ المجيد و القرآن الحميد حال كونه مقرونا بِالْحَقِّ و شواهد الصّدق، و هم مع وضوح أمره عندهم اتّفقوا على رفضه و تكذيبه، و اختلفوا في وجهه، فقال بعض: إنّه سحر، و بعض: إنّه كهانة، و بعض: إنّه شعر، و بعض: إنّه أساطير.

وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا في أقاويلهم فِي الْكِتابِ العزيز باللّه لَفِي شِقاقٍ و عناد بَعِيدٍ عن الصّواب، أو لفي خلاف بعيد عن الاجتماع على الحقّ .

سورة البقرة (2): آیة 177

اشارة

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

سورة البقرة (2): آیة 177

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر إصرارهم على الضّلال و ثباتهم على معاندة الحقّ ، و كان من ضلالة اليهود و النّصارى أنّهم يكثرون الخوض في أمر تحويل القبلة إلى الكعبة، و كان كلّ منهم يقول: إنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلتنا؛ فردّ اللّه عليهم بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ و الطّاعة التي تنالون بها رضا اللّه و غفرانه،

ص: 392


1- الكافي 2/206:2، تفسير العياشي 263/178:1.

و تستحقّون بها الجنّة و نعيمها أَنْ تُوَلُّوا و تصرفوا يا معشر اليهود و النّصارى وُجُوهَكُمْ في الصّلاة قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ و طرفهما.

عن السّجّاد عليه السّلام: «قالت اليهود: قد صلّينا إلى قبلتنا هذه الصّلاة الكثيرة، و فينا من يحيي اللّيل صلاة إليها. و قال كلّ واحد من الفريقين: أ ترى ربّنا يبطل أعمالنا هذه الكثيرة و صلواتنا إلى قبلتنا لأنّا لا نتّبع محمدا على هواه في نفسه!»(1) الخبر.

ثمّ بعد ذلك أرشدهم إلى ما هو البرّ في حكم العقل و الشّرع بقوله: وَ لكِنَّ الْبِرَّ و الخير الّذي ينبغي أن يهتمّ به برّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ و أقرّ بوحدانيّته.

و قيل: إنّ المراد، و لكن ذي البرّ و البارّ من آمن باللّه(2) و عرف مبدأه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و معاده وَ الْمَلائِكَةِ كلّهم، و أنّهم عباد اللّه لا أولاده و ليسوا بذكور و لا إناث، و هم مكرمون عنده مطيعون لأمره وَ الْكِتابِ الذي أنزله اللّه بتوسّط رسله، و منه القرآن وَ النَّبِيِّينَ جميعا ذوي الشّرائع و عيرهم.

هذا من حيث العقائد، فجمعت الآية الإيمان بالامور الخمسة: الإيمان بالمبدإ، و المعاد، و صحّة الشّرائع التي نزلت بتوسّط الملائكة، و الكتب السّماويّة المنزلة إلى الأنبياء [و الايمان بالأنبياء]، و اليهود قد أخلّوا بجميعها، حيث قالوا بالتّجسيم(3) و البخل في المبدأ (4) ،و أنّه لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ في الآخرة إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً (5) و قالوا: إنّ جبرئيل عدونا و نحن نعاديه، و أنكروا الكتب و كفروا ببعضها، و اقتصروا بالإيمان بالتّوراة، بل كفروا بكثير ممّا فيها، و قتلوا كثيرا من الأنبياء مع أنّ البرّ لا يكون إلاّ الايمان بالامور الخمسة، ثمّ تتميمه بالعمل.

و لمّا كانت الأعمال على قسمين: ماليّة و بدنيّة، و كانت الأعمال الماليّة أشقّ على النّفس من الأعمال البدنيّة؛ قدّم ذكرها بقوله: وَ آتَى الْمالَ و أعطاه عَلى حُبِّهِ و الشّحّ به. و قيل: على حبّ اللّه(6).

و قيل: على حبّ الإيتاء(7) بأن يكون طيب النّفس بإعطائه ذَوِي الْقُرْبى و اولي الأرحام صدقة و برّا و صلة.

ص: 393


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 353/589.
2- مجمع البيان 476:1.
3- في النسخة: بالتجسّم.
4- يريد قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ... [المائدة: 64/5].
5- البقرة: 80/2.
6- جوامع الجامع: 32.
7- جوامع الجامع: 32.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: أيّ الصّدقة أفضل ؟ قال: «أن تؤتيها و أنت صحيح شحيح، تأمل العيش و تخشى الفقر »(1).

و قيل: إنّ المراد بذوي القربى قرابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلاّ إنّهم يعطون هديّة و برّا، لا صدقة(2).

وَ الْيَتامى قيل: إنّ المراد بهم يتامى بني هاشم (3)وَ الْمَساكِينَ الكافّين عن سؤال النّاس وَ ابْنَ السَّبِيلِ و هو المسافر المنقطع به و لا نفقة له وَ السّائِلِينَ الذين ألجأتهم الحاجة إلى أن يتكفّفوا النّاس.

روي أنّ للسّائل حقا و إن جاء على فرس(4).

وَ فِي تخليص اَلرِّقابِ عن قيد الرّقّيّة بشرائها و إعتاقها، أو بإعانتها على أداء مال الكتابة، و في ترتيب ذكر الأصناف إشعار بترتيبهم في أولويّة الرّعاية و الإحسان.

عن الشّعبي، قال: إنّ في المال حقّا سوى الزّكاة، و تلا هذه الآية (5).و لا يخفى أنّ صرف المال في هذه الأصناف مستحبّ إلاّ إذا توقّف صلة الرّحم أو حفظ النّفس عليه.

ثمّ ذكر سبحانه جملة من الأعمال البدنيّة مبتدئا بأهمّها بقوله: وَ أَقامَ الصَّلاةَ المفروضة بحدودها و شرائطها، فإنّها عمود الدّين. ثمّ أردفها بذكر الزّكاة المفروضة بقوله: وَ آتَى الزَّكاةَ

و أعطاها المؤمنين لكونها كالصّلاة ممّا بني عليه الاسلام. و قيل: ذكر إيتاء المال أوّلا لبيان المصارف، و ثانيا لبيان الوجوب(6).

وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا سواء كان العهد بينهم و بين اللّه كالنّذر و الأيمان، أو بينهم و بين الرّسول كالبيعة و أمثالها، أو بينهم و بين النّاس كالعقود و المعاملات، و هذا و إن كان شاملا للمواعدات إلاّ إنّه قد ادّعى الإجماع من الخاصّة و العامّة على عدم وجوب الوفاء بها.

وَ الصّابِرِينَ قيل: إنّ التقدير: و أخصّ بالذكر لفضيلة الصّبر الصّابرين، الذين صبروا فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ عن ابن عبّاس: البأساء: الفقر، و الضّرّاء: المرض، و حين البأس، قال: يريد القتال في سبيل اللّه (7).و اليهود أخلّوا بجميع ذلك فليسوا بارّين، بل أُولئِكَ الموصوفون

ص: 394


1- تفسير البيضاوي 101:1.
2- تفسير الصافي 196:1.
3- تفسير الصافي 196:1.
4- جوامع الجامع: 32.
5- جوامع الجامع: 32.
6- تفسير أبي السعود 194:1.
7- تفسير الرازي 45:5.

بتلك الأوصاف المحمودة هم اَلَّذِينَ صَدَقُوا في دعوى الإيمان و اتّباع الحقّ و طلب البرّ، فإنّ العمل من أعظم شواهد صدق القبول.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن الكفر و الرّذائل في الظّاهر و الباطن، و في تكرير الإشارة إشارة إلى عظمة شأنهم و علوّ منزلتهم، و في توسيط الضّمير دلالة على اختصاص التّقوى بهم.

في بيان جميع ما به كمال الإيمان

فالآية جامعة لبيان الكمالات الإنسانيّة، حيث إنّها بكثرتها و تشعّبها منحصرة في ثلاثة: صحّة الاعتقاد، و تهذيب النّفس، و حسن المعاشرة.

و قد اشير إلى الأوّل بقوله: مَنْ آمَنَ إلى قوله: وَ النَّبِيِّينَ و إلى الثّاني بقوله: وَ أَقامَ الصَّلاةَ

إلى آخر الآية. و إلى الثالث بقوله: وَ آتَى الْمالَ إلى قوله: وَ فِي الرِّقابِ . و لذا روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من عمل بهذه الآية، فقد استكمل الإيمان »(1).

سورة البقرة (2): الآیات 178 الی 179

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

سورة البقرة (2): آیة 178

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر وظائف العبوديّة، شرع في جملة من الأحكام السياسيّة، و لمّا كان أهمّها قانون تحفظ به الدّماء و النّفوس قدّمه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ في اللّوح المحفوظ ، أو فرض عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى و المماثلة في مجازاة جناية القتل و الجرح بأن يفعل بالجاني مثل ما فعله. أمّا الفرض على الجاني فتسليم نفسه، و أمّا على المجنى عليه أو وليّه فعدم التّجاوز عن حدّ المساواة، و أما على سائر المؤمنين فإعانة الجاني في عدم التّعدّي عليه، و إعانة المجنى عليه في استيفاء حقّه.

و لكن يشترط في عدم التّراجع المساواة في الحرّية و الرّقّيّة و الذكورة و الانوثة بأن يقتل اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى قيل في سبب النّزول: إنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء في الجاهليّة، و كان لأحدهما طول(2) على الآخر فأقسموا: لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد، و الذّكر بالأنثى

ص: 395


1- تفسير أبي السعود 195:1.
2- أي قوة و فضل.

و الاثنين بالواحد. فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت، و أمرهم اللّه أن يتساووا و يتعادلوا(1).

في نبذ من أحكام القصاص

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرّين و العبدين و الذّكرين و الاثنين يقع القصاص، و يكفي ذلك فقط . فأمّا إذا كان القاتل للعبد حرّا أو للحرّ عبدا فإنّه يجب مع القصاص التّراجع، و أمّا حرّ قتل عبدا فهو قوده، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحرّ قتلوه، بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحرّ، و يردّوا إلى أولياء الحرّ بقيّة ديته.

و إن قتل عبد حرّا فهو به قود، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد و أسقطوا قيمة العبد من دية الحرّ و أخذوا الدية الكاملة، و إن شاءوا أخذوا كلّ الدّية و تركوا قتل العبد.

و إن قتل رجل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه و أدّوا نصف الدّية. و إن قتلت المرأة رجلا فهي به قود، فإن شاء أولياء الرّجل قتلوها و أخذوا نصف الدّية، و إن شاءوا أخذوا كلّ الدّية و تركوها »(2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «لا يقتل حرّ بعيد، و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم دية العبد نصف الدّية، و لا يقتل الرّجل بالمرأة إلاّ إذا أدّى [أهلها] إلى أهله نصف الدّية »(3).

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ أي إن حصل العفو للقاتل و الجاني مِنْ أَخِيهِ و هو وليّ الدّم شَيْ ءٌ قليل من العفو و بعضه بأن يعفي عن بعض الدّم أو بعوض الدّية، و في التّعبير عن وليّ الدّم بالأخ إشعار بحسن تعطّف كلّ منهما على الآخر.

فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ و المستحسن عند الشّرع و العقل بأن يعامل العافي مع المعفوّ عنه معاملة حسنة و لا يطالبه بالدّية إلاّ مطالبة جميلة من غير تضييق و تشديد وَ أَداءٌ من الجاني الدّية إِلَيْهِ

ملتبسا بِإِحْسانٍ في الأداء بأن لا يبخس منها، و لا يماطل فيه.

ذلِكَ الحكم و التخيير بين القصاص و العفو بالدّية تَخْفِيفٌ و توسعة عليكم، كائن مِنْ رَبِّكُمْ حيث إنّ أهل التّوراة كان عليهم القصاص أو العفو، و لم يكن لهم أخذ الدّية، و كان على أهل الإنجيل العفو و أخذ الدّية و لم يكن لهم القصاص وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى و تجاوز على الجاني بأن قتله بَعْدَ ذلِكَ العفو أو الصّلح بالدّية فَلَهُ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ و قيل: في الدنيا أيضا لقول

ص: 396


1- تفسير روح البيان 284:1.
2- تفسير الرازي 47:5.
3- تفسير الصافي 197:1.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا اعافي أحدا قتل بعد أخذه الدّية »(1).

سورة البقرة (2): آیة 179

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة حكم القصاص و غايته، بقوله: وَ لَكُمْ أيّها النّاس فِي الْقِصاصِ

من الجاني حَياةٌ عظيمة. و في هذا الكلام من كمال الفصاحة ما لا يخفى، حيث إنّ حكم القصاص الذي هو موجب لتفويت الحياة جعل ظرفا و مقرّا لها.

قيل: إنّ العرب كانوا يقتلون بالواحد جماعة، و بالمقتول غير القاتل، فكانت تقع الفتنة و يكثر القتل، فبهذا الحكم سلم النّاس من القتل، و حصل الارتداع عنه، فسلم النّفسان لخوف القود، بل النفوس الكثيرة.

و عن (الأمالي): عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أربعة قلت فأنزل اللّه تصديقي في كتابه - و عدّ منها - قلت: القتل يقلّ القتل، فأنزل اللّه تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ » (2).

يا أُولِي الْأَلْبابِ و العقول. قيل: في ندائهم إشعار بكمال حكمة الحكم من حفظ النّفوس و استبقاء الأرواح (3)لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل، أو المراد: لكي تعملوا عمل أهل التّقوى، فإنّ من أعظم حقوق النّاس الدّماء. و في رواية: أنّها أوّل ما يحاسب به(4).

سورة البقرة (2): الآیات 180 الی 182

اشارة

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

سورة البقرة (2): آیة 180

ثمّ شرع في بيان حكم آخر منها، بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ و ظهر لنفس أماراته إِنْ تَرَكَ خَيْراً أو مالا قليلا أو كثيرا اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ ممّن يرث و ممّن لا يرث بِالْمَعْرُوفِ و المستحسن في الشّرع و العقل، و ذلك يحقّ حَقًّا ثابتا عَلَى الْمُتَّقِينَ

و هم الّذين اتّخذوا التّقوى طريقة و مذهبا لأنفسهم فيشمل عامّة المؤمنين، فدلّت الآية بظاهرها على وجوب الوصيّة للأرحام، و يؤيّده ما روي عن الصادق عليه السّلام عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليهما السّلام قال: «من

ص: 397


1- تفسير الرازي 55:5.
2- أمالي الطوسي: 1082/494.
3- كنز العرفان 358:2.
4- تفسير روح البيان 286:1.

لم يوص عند موته [لذوي قرابته] ممّن لا يرث، فقد ختم عمله بمعصية »(1).

نعم روى العيّاشي عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّها منسوخة بآية المواريث »(2).

و قال بعض الأصحاب: إنّه لا ينسخ القرآن بخبر الواحد. و فيه: أنّه قد حقّق في الاصول جواز نسخه به إذا كان جامعا لشرائط الحجّيّة، كما أنّه يجوز تخصيصه به حيث إنّ النّسخ نوع من التّخصيص.

في استحباب الوصية و كراهة تركها

و يمكن حمل الخبر الأوّل على شدّة الكراهة، و الخبر الثّاني على نسخ الوجوب مع بقاء استحبابه جمعا بين الرّوايات، و قد حمله الشّيخ على التقيّة.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه شىء جعله اللّه لصاحب هذا الأمر». قيل: هل لذلك حدّ؟ قال:

«أدنى ما يكون ثلث الثلث »(3).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن الوصيّة للوارث، قال: «تجوز» ثمّ تلا هذه الآية(4).

و الحاصل: أنّه لا شبهة في استحباب الوصيّة و عدم وجوبها، و إنّ ظاهر الآية محمول على تأكّد الاستحباب.

سورة البقرة (2): آیة 181

فَمَنْ بَدَّلَهُ من الوصيّ و الشاهد و غيرهما من سائر النّاس، و غيّر الإيصاء عن الوجه الذي أوصى به الموصي بَعْدَ ما سَمِعَهُ و حقّقه، و ثبت عنده فَإِنَّما عصيان التّبديل و إِثْمُهُ محمول عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ لا على الموصي و لا على الموصى له.

ثمّ هدّد المبدّلين بقوله: إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ لمقالهم عَلِيمٌ بأفعالهم، فيعاقبهم عليها.

عن (الكافي): عن أحدهما عليهما السّلام و (العيّاشيّ ): عن الباقر عليه السّلام: في رجل أوصى بماله في سبيل اللّه، قال: «أعطه لمن أوصى له، و إن كان يهوديّا أو نصرانيا، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول» و تلا هذه الآية(5).

سورة البقرة (2): آیة 182

ثمّ لا شبهة أنّ إطلاقها و إطلاق بعض الروايات مقيّد بالثلث فما دونه، للرّوايات المتضافرة، منها: ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تصدّق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم »(6).

فَمَنْ خافَ و توقّع، أو علم مِنْ مُوصٍ في وصيّته جَنَفاً و ميلا عن الحقّ . عن الصادق عليه السّلام: «يعني إذا اعتدى في الوصيّة و زاد على الثلث »(7).

ص: 398


1- تفسير العياشي 272/180:1.
2- تفسير العيّاشي 273/180:1.
3- تفسير العياشي 274/180:1.
4- مجمع البيان 483:1.
5- الكافي 2/14:7، تفسير العياشي 275/181:1.
6- تفسير روح البيان 288:1.
7- تفسير العياشي 279/182:1، علل الشرائع: 4/567.

و في بعض الرّوايات: تفسير الجنف بالوصيّة بغير ما أمر اللّه (1) ،أو في ما لا يرضى اللّه به(2).

أَوْ خاف إِثْماً من الموصي في وصيّته، كأن أوصى بمعصيته من عمارة بيوت النّيران، أو تشييد الكفر، أو ترويج الباطل.

فَأَصْلَحَ الوصيّ بَيْنَهُمْ قيل: يعني بين الموصى له و ورثة الموصي (3) ،بأن يردّ الوصيّة إلى الحقّ و الجائز و بدّلها إلى ما هو الصّواب فَلا إِثْمَ و لا وزر عَلَيْهِ في هذا التّغيير و التّبديل، لأنّه تبديل الباطل بالحقّ .

إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ للعصاة رَحِيمٌ بالعباد. قيل: ذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم و كون الفعل من جنس ما يؤثم به (4).و في هذا التذييل وعد للمصلح بالثّواب و الرّحمة.

سورة البقرة (2): الآیات 183 الی 185

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

سورة البقرة (2): آیة 183

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان الأحكام العباديّة، و ذكر حكم الصّوم الذي هو من أفاضل العبادات بقوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و في تخصيص الخطاب بالمؤمنين مع عدم اختصاص الحكم بهم، تهييج المكلّفين على العمل، لأنّ في ذكر هذا الوصف تشريف و إكرام و إشعار بأنّ القيام بأداء التّكاليف من وظائف الايمان و لوازمه، و إشارة إلى اختصاص التّكليف بالبالغين العاقلين دون الصّغار و المجانين.

و لمّا كان في هذا التّكليف مشقّة على النّفوس، وجّه إليهم الخطاب بكلمة النداء كي يهون عليهم

ص: 399


1- تفسير القمي 65:1.
2- تفسير العياشي 278/182:1.
3- تفسير ابن عبّاس: 25.
4- تفسير أبي السعود 198:1.

العناء، كما روي عن الصادق عليه السّلام قال: «لذّة [ما في] النداء أزال تعب العبادة و العناء »(1).

في وجوب صوم شهر رمضان و جملة من أحكامه

كُتِبَ و فرض عَلَيْكُمُ الصِّيامُ و هو الإمساك عن الأشياء المعينة بنيّة القربة، من طلوع الفجر إلى المغرب.

قيل: هذا صوم عامّ ، و أمّا الصّوم الخاصّ فالإمساك عن المنهيّات التّحريميّة و التنزيهيّة، و أمّا الأخصّ فالإمساك عمّا سوى اللّه(2).

ثمّ لتسهيل الأمر عليهم، قال: كَما كُتِبَ الصّوم عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء و اممهم من لدن آدم، فلا يختصّ هذا التّكليف و تحميل هذه المشقّة بكم، و الأمر الشاقّ إذا عمّ سهل.

قيل: إنّ النّصارى كتب عليهم صوم شهر رمضان فأصابهم موتان فزادوا عشرا قبله و عشرا بعده، فصار صومهم خمسين.

و قيل: كان وقوعه في الحرّ الشّديد أو البرد الشّديد، فشقّ عليهم في أسفارهم و معائشهم فحوّلوه إلى الرّبيع، و زادوا فيه عشرين يوما كفّارة للتّحويل.

و أمّا اليهود ففرض عليهم صيام هذا الشّهر، فتركوه و صاموا يوما من السّنة زعموا أنّه يوم غرق فرعون.

و عن الصادق(3) عليه السّلام: «أن صوم شهر رمضان كان واجبا على كلّ نبيّ دون امّته، و إنّما وجب على امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله محبّة لهم»(4) و على هذا يكون المراد من اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ خصوص الأنبياء.

ثمّ أشار إلى فائدة الصّوم بقوله: لَعَلَّكُمْ بالمحافظة عليه و تعظيمه تَتَّقُونَ العذاب أو المعاصي، فإنّ الصّائم أردع لنفسه من مواقعة السّوء، و لوضوح أنّ الصّوم كاسر الشّهوة، روي: أنّ من لم يستطع الباه فليصم، فإنّ الصّوم له و جاء(5).

في حكمة إيجاب الصوم و كون الواجبات الشرعية ألطافا

و في الآية إشارة إلى أنّ الواجبات السّمعيّة ألطاف و مقرّبات إلى الطّاعة و اجتناب كثير من المعاصي، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (6).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه، فلمّا صدّق زاد الصّلاة، فلمّا صدّق زاد الزّكاة، فلمّا صدّق زاد الصيام(7).

ص: 400


1- مجمع البيان 490:2.
2- تفسير روح البيان 289:1.
3- في كنز العرفان: الباقر.
4- كنز العرفان 3/200:1.
5- تفسير الصافي 200:1.
6- العنكبوت: 45/29.
7- تفسير روح البيان 291:1.

قيل: كان وجوبه بعد الهجرة بثلاث سنين.

سورة البقرة (2): آیة 184

ثمّ بيّن اللّه تعالى زمان الصّيام و وقته، بقوله: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ قيل: يعني مقدّرات بعدد معيّن(1).

و قيل: إنّ المراد صوموا أيّاما قلائل، فإنّ الشيء القليل يعدّ عدّا، و الكثير يهال هيلا(2).

ثمّ بيّن حكم ذوى الأعذار بقوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يضرّه الصّوم بتشديد مرضه أو إطالته أو عسر علاجه أَوْ كان راكبا عَلى سَفَرٍ إذا تلبّس به قبل الزّوال فَعِدَّةٌ موافقة لأيّام مرضه أو سفره مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ واجبة عليه قضاء، و لا يجوز له الصّوم في الحالين.

عن الباقر عليه السّلام قال: «سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوما صاموا حين أفطر و قصّر عصيانا »(3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عمّن صام في السّفر؟ فقال: «إن كان بلغه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ذلك فعليه القضاء، و إن لم يبلغه فلا شيء عليه »(4).

و في رواية اخرى: «و إن صام بجهالة، لم يقض »(5).و المشهور نصّا و فتوى أنّ السّفر ثمانية فراسخ، امتداديّة، أو تلفيقيّة.

وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ و يقدرون عليه مع المشقّة و العسرة، كالشّيخ و الشّيخة و ذي العطاش و الحامل المقرب فِدْيَةٌ مقدّرة واجبة عليهم إن أفطروا، و هي طَعامُ مِسْكِينٍ واحد و إشباعه عوضا عن الصّوم الذي فات منه.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّ معناه: «و على الّذين كانوا يطيقون الصّوم ثمّ أصابهم الكبر أو العطاش أو شبه ذلك، فدية لكلّ يوم مدّ من الطّعام »(6).

فَمَنْ تَطَوَّعَ و تبرّع خَيْراً و زاد في الفدية المقرّرة فَهُوَ عند ربّه خَيْرٌ و أنفع لَهُ

و أكثر مثوبة في الآخرة.

وَ أَنْ تَصُومُوا أيّها المطيقون خَيْرٌ لَكُمْ و أفضل من الفدية و التطوّع بالزيادة، و أنتم أيّها المؤمنون إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في الصّوم من الفضيلة اخترتموه لا محالة. في الحديث القدسيّ :

«الصّوم لي، و أنا أجزي به »(7).

ص: 401


1- تفسير الرازي 73:5، و فيه: بعدد معلوم.
2- تفسير روح البيان 290:1.
3- الكافي 6/127:4، تفسير الصافي 200:1، و فيهما: و قصر عصاة.
4- الكافي 1/128:4، تفسير الصافي 200:1.
5- الكافي 3/128:4، تفسير الصافي 200:1.
6- جوامع الجامع: 34.
7- تفسير روح البيان 291:1.
سورة البقرة (2): آیة 185

و الأيّام المعدودات هي شَهْرُ رَمَضانَ قيل: سمّي هذا الشهر برمضان لارتماض الأكباد و احتراقها من الجوع و العطش، و أمّا لارتماض الذنوب بالصّيام فيه(1) و ما لغير ذلك من الوجوه الّتي ذكرت في محلّها.

و روي أنّ رمضان اسم من اسماء اللّه تعالى، و الشّهر مضاف إليه. و روي: لا تقولوا: جاء رمضان، و ذهب رمضان، و لكن قولوا: جاء شهر رمضان، فان رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى(2).

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة تخصيص هذه العبادة العظيمة بهذا الشّهر العظيم، بقوله: اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ابتداؤه أو بيانه أو تأويله أو جميعه دفعة إلى البيت المعمور في ليلة القدر منه.

روي عن (الكافي): عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ و إنّما انزل القرآن في عشرين سنة بين أوّله و آخره ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «نزل [القرآن] جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة»

ثمّ قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، و انزلت التّوراة لست مضين من شهر رمضان، و انزل الإنجيل لثلاث عشرة [ليلة] خلت من شهر رمضان، و انزل الزّبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان، و انزل القرآن في ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان »(3).

و قد تضافرت الرّوايات بأنّها ليلة القدر، فتوصيف هذا الشّهر بذلك الوصف لبيان أنّ هذا الشّهر لفضيلته و شرافته الذاتيّة خصّ بنزول الرّحمة و وفور البركات التي أتمّها نزول القرآن الذي وصفه بكونه هُدىً و دليلا لِلنّاسِ إلى الحقّ القويم و الصّراط المستقيم بما فيه من الإعجاز.

وَ بَيِّناتٍ قيل: يعني آياته موضحات (4)مِنَ الْهُدى الذي يكون في سائر الكتب السّماويّة، و كاشفات عن مبهمات سائر الصّحف التي نزلت لهداية النّاس وَ الْفُرْقانِ الذي يكون فيها.

و الحاصل: أنّ جميع الكتب السّماويّة، و إن كان هاديا إلى الخير و مفرّقا بين الحقّ و الباطل، إلاّ أنّه لا تتمّ هدايتها و تفريقها إلاّ بتوضيحات من القرآن، فالقرآن بيّن بنفسه و مبيّن لغيره من الكتب. فلذا كان أهدى و أفضل و أشرف من سائر الكتب. و هذا الشّهر أفضل و أشرف بسبب نزول القرآن فيه. فحقّ

ص: 402


1- تفسير روح البيان 292:1.
2- تفسير روح البيان 292:1.
3- الكافي 6/460:2.
4- تفسير روح البيان 292:1.

على العباد أن يشكروا للّه فيه و يعبدوه.

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ و حضر في وطنه أو أقام في مكان و لم يكن مريضا فَلْيَصُمْهُ

و ليخصّه بهذه العبادة الفاضلة.

وَ مَنْ كانَ في هذا الشّهر مَرِيضاً و إن كان مقيما أو حاضرا أَوْ كان عَلى سَفَرٍ و إن كان صحيحا سليما فليفطره في الحالين، فإذا أفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ غير شهر رمضان، يصوم قضاء لما أفطر.

قيل: في تكرير هذا الحكم تأكيد الأمر بالإفطار، و إشعار بكونه عزيمة لا يجوز تركه(1).

ثمّ أشار إلى حكمة الحكم بقوله: يُرِيدُ اللّهُ بإباحة الإفطار بِكُمُ الْيُسْرَ و التّسهيل وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و المشقّة بالصّوم في الحالين لغاية رأفته، و سعة رحمته.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ تصدّق على مرضى امّتي و مسافريها بالتّقصير و الإفطار، أ يسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة أن تردّ عليه ؟»(2).

و عن (الخصال): عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أهدى إليّ [و إلى] امّتي هدية لم يهدها إلى أحد من الأمم كرامة من اللّه لنا». قالوا: و ما ذلك يا رسول اللّه ؟ قال: «الافطار في السّفر، و التّقصير في الصّلاة، فمن لم يفعل ذلك فقد ردّ على اللّه عزّ و جلّ هديّته »(3).

ثمّ أشار إلى حكمة الأمر بالقضاء بقوله: وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ المعيّنة من أيّام الصّيام بقضاء الصّوم في غيرها.

ثمّ أشار إلى حكمة الحكمين بقوله: وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ و تعظّموه و تمجّدوه عَلى ما هَداكُمْ

و أرشدكم إليه من أحكامه و طريق امتثالها.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «أما إنّ في الفطر تكبيرا، و لكنّه مسنون »(4).

قال: قلت: و أين هو؟ قال: «في ليلة الفطر في المغرب، و العشاء الآخرة، و في صلاة الفجر، و في صلاة العيد، ثمّ يقطع».

قال: قلت: كيف أقول ؟ قال: «تقول: اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر [و اللّه أكبر] و للّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا. و هو قول اللّه عزّ و جلّ : وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ » (5).

ص: 403


1- تفسير الصافي 203:1.
2- الكافي 2/127:4.
3- الخصال: 43/12.
4- في المصدر: مستور.
5- الكافي 1/166:4.

عن (الفقيه): عن الرّضا عليه السّلام: «و إنّما جعل التّكبير في صلاة العيد أكثر منه في غيرها من الصّلوات؛ لأنّ التّكبير إنّما هو تعظيم اللّه و تمجيده على ما هدى و عافى، كما قال عزّ و علا: وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ » (1) الخبر.

وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ للّه على أفضاله و ألطافه من إيجاب الصّوم الذي هو موجب لتهذيب النّفوس في الشّهر الذي هو أفضل الشّهور و تسهيل الأمر فيه، فإنّ من تفكّر في أنّ اللّه تعالى مع كمال جلاله و استغنائه راعى صلاح عبيده و من عليهم بالألطاف العظيمة، علم أنّه مستحقّ لغاية الشّكر و الثّناء، فيجب عليه المواظبة و الاهتمام به بمقدار قدرته و طاقته.

سورة البقرة (2): آیة 186

اشارة

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

سورة البقرة (2): آیة 186

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أمر بالتّكبير و الشّكر، رغّب عبيده في الدّعاء و طلب الحوائج لتنبيههم بأنّه تعالى كما يطلب منكم الطّاعة و التّكبير و الشّكر، كذلك هو مع كونه منعما عليكم بنعم لا تحصى مجيب لطلباتكم و مستجيب لدعائكم.

قيل: إنّه تعالى لمّا فرض الصّوم و كان من أحكامه أنّ الصّائم إذا نام حرّم عليه الإفطار؛ شقّ ذلك على بعضهم حتّى عصوا. ثمّ ندموا و سألوا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن توبتهم (2) ،فنزل: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي

و روي أنّ أعرابيّا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ قريب ربّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه(3).

فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم لا بالمكان، بل بالقيموميّة و الإحاطة العلميّة و سعة الرّحمة، حيث إنّه إذا كان القرب بالمكان مرادا لامتنع أن تتساوى نسبته إلى جميع خلقه.

نقل كلام الفخر الرازي في تنزيهه تعالى عن المكان

نقل الفخر الرازي (4)[يروى أنّ إمام الحرمين] نزل ببعض الأكابر ضيفا، فاجتمع عنده العلماء و سائر الأكابر، فقال بعض أهل المجلس: ما الدّليل على تنزيهه تعالى عن المكان و هو قال: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) ؟

ص: 404


1- من لا يحضره الفقيه 1488/331:1.
2- تفسير الرازي 94:5.
3- مجمع البيان 500:2، تفسير الرازي 94:5، لباب النقول: 33.
4- وجدناه في روح البيان، و لم نجده عن الفخر الرازي.
5- طه: 5/20.

فقال: الدّليل عليه قول يونس في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ (1).فتعجّب منه النّاظرون، فالتمس صاحب الضّيافة بيانه.

فقال الإمام (2):هاهنا فقير مديون بألف درهم، أدّ عنه دينه حتّى أبيّنه. فقبل صاحب الضّيافة دينه، فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا ذهب في المعراج إلى ما شاء اللّه من العلى، قال: «ربّ لا احصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» و لمّا ابتلي يونس عليه السّلام بالظّلمات في قعر البحر ببطن الحوت، قال: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ فكلّ منهما خاطبه بقوله: (أنت) و هو خطاب الحضور، فلو كان اللّه في مكان لما صحّ ذلك(3).

ثمّ قال اللّه تعالى تقريرا للقربة و ترغيبا للعباد في دعائه: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ و اعطي ما سأله السائل إِذا دَعانِ و سألني حاجته باللّسان و القلب في السّرّ و الجهر. و من الواضح أنّه إذا لم يخالف إجابته القضاء المبرم و لم يكن في إسعاف حوائجهم مفسدة في دينهم و دنياهم.

فإذا كنت مجيبا لدعائهم فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي و ليبادروا إلى إجابة دعائي إلى الإيمان و الأعمال الصّالحة، فكأنّه تعالى قال: أنا مع غنائي عنكم اجيب دعاءكم، فأنتم مع نهاية حاجتكم إليّ في جميع اموركم أحقّ و أولى بإجابة دعائي.

ثمّ بيّن استجابتهم الواجبة(4) بقوله: وَ لْيُؤْمِنُوا بِي فكأنّه قال: إجابة دعائي الإيمان بوحدانيّتي و برسولي بجميع ما جاء به.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ معناه ليتحقّقوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه »(5).

لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ و يصيبون الحقّ و يهتدون إليه، و يمكن أن يكون من وجوه نظم الآية أنّ من وظائف الصّائم الدّعاء، كما روي أنّ دعوة الصّائم لا تردّ(6).

في بيان بعض موجبات عدم استجابة الدعاء

روي أنّ الصادق عليه السّلام قرأ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ (7) فسئل: ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ فقال: «لأنّكم تدعون من لا تعرفون، و تسألون ما لا تفهمون فالاضطرار

ص: 405


1- الأنبياء: 87/21.
2- في النسخة: فقال فخر، و ما أثبتناه من روح البيان، إذ المراد إمام الحرمين لا الفخر الرازي.
3- تفسير روح البيان 365:5.
4- في النسخة: الواجب.
5- مجمع البيان 500:2، تفسير الصافي 204:1.
6- عدة الداعي: 128، بحار الأنوار 36/256:96.
7- النمل: 62/27.

عين الدّين، و كثرة الدّعاء مع العمى عن اللّه من علامة الخذلان، من لم يشهد ذلّة نفسه و قلبه و سرّه تحت قدرة اللّه حكم على اللّه بالسّؤال، و ظنّ أنّ سؤاله دعاء، و الحكم على اللّه من الجرأة على اللّه »(1).

و في رواية: قيل له عليه السّلام: إنّ اللّه يقول: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و إنّا ندعو فلا يستجاب لنا؟ فقال:

«لأنّكم لا توفون بعهده، و إنّ اللّه يقول: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (2) و اللّه لو وفيتم [للّه] لو فى اللّه لكم »(3).

في دفع توهّم عدم الفائدة للدعاء

ثمّ اعلم أنّ بعض الجهّال قالوا: إنّ الدّعاء عديم الفائدة؛ لأنّ المطلوب بالدّعاء إن كان معلوم الوقوع عند اللّه تعالى كان واجب الوقوع، و إن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الدّعاء على التّقديرين.

و هو واضح الفساد، إذ قد يكون أمر معلوم الوقوع على تقدير الدعاء حيث إنّ للدّعاء دخالة تامّة في مصلحة ذلك الأمر، فقد لا تكون المصلحة في إيجاد المطلوب، و بالدّعاء يوجد فيه الصّلاح، و الآيات و الأخبار المتواترة ناصّة على فائدته، بل هي من ضروريّات الدّين فمنكرها كافر.

في دفع المنافاة بين الدعاء و الرضا بقضاء اللّه

و أمّا ما قيل من أنّه: ثبت بشواهد العقل و الأخبار الصّحيحة أنّ الرّضا بقضاء اللّه من أجلّ مقامات الصّدّيقين و أعلاها، و الدّعاء مناف للرّضا، حيث إنّ فيه ترجيح مراد النّفس على مراد اللّه، و طلب حظوظ البشريّة.

ففيه: أنّ الدّعاء إظهار لجهة العبوديّة من الحاجة و الذّلّة و المسكنة مع الرّضا بقضاء اللّه و قدره لعدم المنافاة بينهما، و ذلك من أعظم مقامات الأولياء، بل الآيات و الأخبار المتواترة ناصّة على كونه من أفضل العبادات، بل في تركه مظنّة الاستكبار، و لذا قال سبحانه: وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (4).

سورة البقرة (2): آیة 187

اشارة

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ

ص: 406


1- تفسير الصافي 204:1.
2- البقرة: 40/2.
3- تفسير القمي 46:1، تفسير الصافي 205:1.
4- غافر: 60/40.

وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

سورة البقرة (2): آیة 187

ثمّ أنّه روي أنّ الأكل كان محرّما في شهر رمضان باللّيل بعد النّوم، و كان النّكاح حراما باللّيل و النّهار، و كان رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقال له مطعم بن جبير، نام قبل أن يفطر و حضر حفر الخندق فاغمي عليه، و كان قوم من الشّبّان ينكحون باللّيل سرّا في شهر رمضان، فنزلت (1):أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ و ابيح لكم فيها اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ قالوا: الرّفث: كناية عن المباشرة و الجماع.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة التّرخيص و الإباحة بقوله: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ و متّصلات بكم اتّصال الثّياب بالأبدان وَ أَنْتُمْ أيضا لِباسٌ لَهُنَّ و مخالطون بهنّ .

قيل: وجه شباهة المخالطة و المحرميّة باللباس أنّ الإنسان كما لا يفارق لباسه، و لا يستر عنه عورته، بل يستر عورته به عن غيره، كذلك الزّوج و الزّوجة، و الصّديق الحافظ لأسرار صديقه المؤانس له، فصارت شدّة مخالطة الزّوج و الزّوجة سببا لكمال المشقّة في كفّ النّفس عن المقاربة و الاستمتاع.

ثمّ أخبر اللّه بعصيان كثير من المسلمين فيه بقوله: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ و تظلمون أَنْفُسَكُمْ بتعريضها للعقاب بسبب غلبة الشّهوة و ارتكاب المعصية فَتابَ عَلَيْكُمْ لمّا تبتم وَ عَفا و محا أثر الخيانة عَنْكُمْ بقبول التّوبة.

و روي البيضاوي: أنّ عمر باشر بعد العشاء مع علمه بحرمته (2) ،فندم و أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أعتذر إليه.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما كنت جديرا به»(3) فقام رجال و اعترفوا بما صنعوا بعد العشاء(4).

و في رواية: أنّه أراد الجماع، فقالت امرأته: إنّي نمت. فلم يقبل منها، ثمّ أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت(5).

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ و جامعوا معهنّ في أيّ وقت أردتم من اللّيل وَ ابْتَغُوا بالمباشرة و اطلبوا بها

ص: 407


1- جوامع الجامع: 34.
2- (مع علمه بحرمته) ليس في تفسير البيضاوي.
3- (و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما كنت جديرا به) ليس في تفسير البيضاوي.
4- تفسير البيضاوي 106:1.
5- الدر المنثور 475:1.

ما كَتَبَ اللّهُ في اللّوح المحفوظ ، و ما قدّره لَكُمْ من الولد، و لا يكن غرضكم منها صرف قضاء الشّهوة.

في نقل بعض العامة اعتذار عمر عن عصيانه

و لعلّ فيه التّعريض على عمر، حيث نقل صاحب (روح البيان) أنّ عمر اعتذر عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّي رجعت إلى أهلي بعد العشاء، فشممت رائحة طيّبة، فسوّلت لي نفسي. ثمّ قال بعد نقله: و صارت زلّته سببا للرّحمة على جميع الامّة (1).و ذلك من عجائب الكلام، و ليت شعري كيف يكون لمن لم يقدر على كفّ نفسه بسبب استشمام رائحة من زوجته عن المعصية الكبيرة، كرامة عند اللّه! و لعلّ هذه الرّحمة كانت بسبب رجال شبّان اعترفوا بالخطيئة و كانوا معذورين فيها.

وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا من أوّل ليالي الصّيام حَتّى يَتَبَيَّنَ و يتّضح لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ و هو كناية عن البياض المعترض في الافق مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ و هو كناية عن ظلمة غسق اللّيل الممتدّة فوق البياض، حال كون ذلك البياض مِنَ الْفَجْرِ و انشقاق الصّبح الصّادق.

روي عن سهل السّاعدي: أنّها نزلت و لم يكن قوله: مِنَ الْفَجْرِ و كان رجال [إذا صاموا] يشدّون في أرجلهم خيوطا بيضاء و سوداء، فلم يزالوا يأكلون و يشربون حتّى يتبيّنا لهم، ثمّ نزل البيان في قوله: مِنَ الْفَجْرِ (2).

و عن عديّ بن حاتم أنّه قال: أخذت عقالين أبيض و أسود فجعلتهما تحت و سادتي، و كنت أقوم من اللّيل فأنظر إليهما فلم يتبيّن لي الأبيض من الأسود، فلمّا أصبحت غدوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته، فضحك و قال: إنّك لعريض القفا (3) ،إنّما ذلك بياض النّهار و سواد اللّيل(4).

في ردّ قول بعض العامة بحصر مفطرات الصوم في ثلاثة

ثمّ اعلم أنّ وجه الاقتصار في الآية على حرمة الجماع و الأكل و الشّرب، هو كثرة الابتلاء بها، و كونها مرغوبا إليها لنوع المكلّفين دون سائر المفطّرات كالحقنة و القيء و الارتماس في الماء - على القول بمفطريته - و أنكر بعض العامّة مفطّرية غير الثلاثة المذكورة في الآية، و هو في غاية الفساد لثبوت مفطّرية غيرها بالرّوايات المعتبرة.

ص: 408


1- تفسير روح البيان 299:1.
2- كنز العرفان 7/215:1.
3- قيل: هو كناية عن طول النوم و كثرته، و قيل: كناية عن السّمن. راجع: النهاية 210:3.
4- تفسير الرازي 109:5.

في منع الملازمة بين إباحة الجماع في الليل و إباحة الاصباح جنبا

و عن بعض العامّة: أنّ الآية دالّة على صحّة صوم من أصبح جنبا، حيث إنّ (حتى) غاية لجواز المباشرة و الأكل و الشرب إلى طلوع الفجر، و جواز تأخير الغسل إلى الصّبح لازم إباحة المباشرة في الزّمان المتّصل بالصّبح(1).

و فيه منع الملازمة، فإنّ حرمة الإصباح جنبا لا ينافي جواز المباشرة قبل الفجر، لأنّه إذا باشر قبل الصّبح لم يرتكب حراما من حيث تلك المباشرة، بل بالإصباح جنبا.

و الحاصل: أنّه لو دلّ الدّليل على مفطّريّة الإصباح جنبا، لا يعارضه ظهور الآية، بل الآية ساكتة عن مفطريّة البقاء على الجنابة نفيا و إثباتا.

ثُمَّ أَتِمُّوا و أديموا اَلصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فإنّ أوّله آخر وقته، و يعلم بزوال الحمرة المشرقيّة عن قمّة الرأس.

ثمّ بعد بيان حرمة مباشرة النّساء في زمان الصّيام، بيّن حرمتها في حال الاعتكاف بقوله: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ ليلا و نهارا بالجماع و مقدّماته وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ و مقيمون بقصد العبادة المعهودة فِي الْمَساجِدِ عموما على قول، و في كلّ مسجد جامع على قول آخر، أو خصوص مسجد جمع فيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو الوصيّ جمعة أو جماعة على قول ثالث، فإن باشر أحد في حال الاعتكاف ليلا أو نهارا يبطل على ما ذهب إليه بعض الأصحاب.

ثمّ بالغ في الرّدع عن مخالفة أحكامه بقوله: تِلْكَ الأحكام حُدُودُ اللّهِ و حرماته فَلا تَقْرَبُوها فإنّ النّهي عن القرب أبلغ في التّحريم من النّهي عن المخالفة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ألا و إنّ لكلّ ملك حمى، و إنّ حمى اللّه محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه »(2).

كَذلِكَ التّبيين و التّوضيح الذي لا يبقى الشكّ معه يُبَيِّنُ اللّهُ و يوضح آياتِهِ و حججه على توحيده و نبوّة نبيّه و سائر أحكامه لِلنّاسِ كافّة لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عقابه و يحترزون عن مخالفته.

سورة البقرة (2): آیة 188

اشارة

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

ص: 409


1- تفسير الرازي 110:5، تفسير روح البيان 300:1
2- تفسير الرازي 115:5.
سورة البقرة (2): آیة 188

ثمّ أنّه تعالى بعد نهي النّاس عن أكل أموال أنفسهم في أيام شهر رمضان، نهى عن أكل أموال الغير على خلاف حكمه و بغير الوجه الذي شرّعه في جميع الأوقات، بقوله: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ أي لا يتصرّف بعضكم في أملاك بعض آخر، و لا تتعاملوا بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ و بالوجه الذي يكون منهيّا و محرّما، كأكلها بشهادة الزّور، أو اليمين الكاذبة، أو بالصّلح، مع العلم بعدم الحقّ أو غير ذلك من الوجوه غير الجائزة.

قيل: نزلت في رجلين تخاصما في أرض بينهما، فأراد أحدهما أن يحلف على أرض أخيه بالكذب، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما أنا بشر يوحى إليّ و أنتم تختصمون إليّ ، و لعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له شيئا من حقّ أخيه، فإنّما أقضي له قطعة من نار» فبكيا، و قال كلّ واحد منهما: أنا احلّ لصاحبي. فقال: «اذهبا فتوخّيا ثمّ استهما، ثمّ ليحلّل كلّ واحد منكما صاحبه »(1).

عن الصادق عليه السّلام: «كانت قريش تقامر الرجل في أهله و ماله، فنهاهم اللّه »(2).

و عن (المجمع) عن الباقر عليه السّلام: «يعني بالباطل اليمين الكاذبة، يقتطع بها الأموال »(3).

و عن (الفقيه) و (العياشي): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: الرّجل منّا يكون عنده الشيء يتبلّغ به، و عليه الدين، أ يطعمه عياله حتّى يأتيه اللّه بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزّمان و شدّة المكاسب، أو يقبل الصّدقة ؟

فقال: «يقضي بما عنده دينه، و لا يأكل أموال النّاس الاّ و عنده ما يؤدّي إليهم (4) ،إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ (5)- إلى أن قال -: و لا يستقرض على ظهره [إلاّ و عنده] وفاء»(6) الخبر.

في جواز الاستقراض مع عدم القدرة على الوفاء

و لعلّه لهذه الرواية ذهب أبو الصّلاح إلى حرمة الاقتراض على من لا يكون عنده ما يقتضيه و لا يقدر لو طولب على القضاء(7).

ص: 410


1- تفسير أبي السعود 202:1، تفسير روح البيان 302:1.
2- تفسير العياشي 310/191:1، مجمع البيان 506:2.
3- مجمع البيان 506:2.
4- زاد في تفسير العياشي: حقوقهم.
5- تفسير العياشي 313/192:1، من لا يحضره الفقيه 476/112:3.
6- الكافي 2/95:5.
7- الكافي في الفقه: 330.

و فيه: أنّها معارضة برواية موسى بن بكر (1) ،عن أبي الحسن عليه السّلام: «من طلب هذا الرّزق من حلّه ليعود به [على] نفسه و عياله، كان كالمجاهد في سبيل اللّه عزّ و جلّ ، فإن غلب عليه فليستدن على اللّه عزّ و جلّ و على رسوله ما يقوت به عياله، فإن مات و لم يقضه كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقضه كان عليه وزره، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ إلى قوله:

وَ الْغارِمِينَ (2) فهو فقير مسكين مغرم»(3) و نحوه غيره، و الترجيح معه لتأيّده بإطلاق كثير من الرّوايات و فتاوى جلّ الأصحاب فلا بدّ من حمل الرّواية المانعة على نوع من الكراهة.

ثمّ لكمال شدّة حرمة إعطاء الأموال رشوة خصّه بالذكر مع دخوله في عموم النّهي السابق بقوله:

وَ تُدْلُوا بِها و تلقوها إِلَى الْحُكّامِ و القضاة السّوء بعنوان الرّشوة لِتَأْكُلُوا بأحكامهم الباطلة و الرّشوة و المصانعة فَرِيقاً و قسمة مِنْ أَمْوالِ النّاسِ ملابسا بِالْإِثْمِ و المعصية و الظلم، أو بسبب الإثم من اليمين الكاذبة.

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّكم مبطلون ظالمون، و من الواضح أنّ ارتكاب القبيح مع العلم بقبحه أقبح.

في حرمة الترافع عند قضاة الجور

عن القمي رحمه اللّه: قال العالم عليه السّلام: «قد علم اللّه أنّه قد يكون حكّام يحكمون بغير الحقّ ، فنهى أن يتحاكموا(4) إليهم؛ لأنّهم لا يحكمون بالحقّ فتبطل الأموال »(5).

و قيل: إنّ المراد أن لا تلقوا أمر أموالكم و الحكومة فيها إلى الحكّام لتأكلوا و تأخذوا باليمين الكاذبة و شهادة الزّور و الصّلح - مع العلم بعدم الحقّ - طائفة من أموال النّاس عصيانا و ظلما، فعلى هذا يكون المراد من الحكّام عموم القضاة، و النّهي راجع إلى أخذ أموال النّاس بالدّعوى الباطلة.

عن (العيّاشي) عن الرّضا عليه السّلام أنّه كتب في تفسيرها: «إنّ الحكّام القضاة» ثمّ كتب تحته: «هو أن يعلم الرّجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي حكم له [به] إذا كان قد علم أنّه ظالم »(6).

سورة البقرة (2): آیة 189

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللّهَ

ص: 411


1- في النسخة: موسى بن بكير، راجع: معجم رجال الحديث 22:9.
2- التوبة: 60/90.
3- الكافي 3/93:5.
4- في المصدر: يتحاكم.
5- تفسير القمي 67:1.
6- تفسير العياشي 312/191:1، التهذيب 518/219:6.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

سورة البقرة (2): آیة 189

ثمّ أنّه روي أنّ معاذ بن جبل و ثعلبة بن غنم، و هم كانا من الأنصار، قالا: يا رسول اللّه، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ، ثمّ يزيد حتّى يمتلئ و يستوي، ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعودكما بدأ؟ لم لا يكون على حالة واحدة كالشمس ؟ فنزلت هذه الآية (1).

و لمّا جرى ذكر شهر رمضان لتعيين وقت الصّوم، ذكر اللّه هذا السؤال و جوابه هنا بقوله:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ حكمة اختلاف حال اَلْأَهِلَّةِ بزيادة نورها و نقصانه.

قيل: وجه إطلاق الهلال على أوّل ما يبدو من نور القمر إلى ثلاث ليال أنّ العرب كانوا يرفعون أصواتهم بالذّكر عند رؤيته(2).

و روي عن معاذ: أنّ اليهود سألت عن الأهلّة (3) ،فأجابهم اللّه بقوله: قُلْ لهم يا محمّد أنّ الأهلّة هِيَ مَواقِيتُ و معالم جعلت لِلنّاسِ يوقّتون بها تجاراتهم و ديونهم و عدّة نسائهم، و عباداتهم من صومهم و فطرهم و صلوات جمعهم و أعيادهم، و سائر ما يحتاجون إلى التوقيت من امور معاشهم و معادهم.

ثمّ لكثرة الاهتمام بالحجّ خصّه بالذكر بقوله: وَ الْحَجِّ يعرف بها وقته، حيث إنّه مختصّ بالأشهر المعيّنة، و لا يجوز نقله إلى غيرها كما كانت العرب تفعل ذلك في النّسيء.

ثمّ لمّا جرى ذكر الحجّ في المقام، ذكر اللّه تعالى بدعة من بدع المشركين في حال الإحرام استطرادا.

روي عن الباقر عليه السّلام: «أنّهم إذا أحرموا كانوا لم يدخلوا دارا و لا فسطاطا من بابه، و لكنّهم كانوا ينقبون في ظهور بيوتهم نقبا يدخلون و يخرجون منه، و يسمّونه برّا، فنهاهم اللّه عن التديّن به»(4) بقوله:

وَ لَيْسَ الْبِرُّ و لا القربة إلى اللّه بِأَنْ تَأْتُوا و تدخلوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها و خلفها وَ لكِنَّ الْبِرَّ ما يقرّب إلى جميع الخيرات الدنيويّة و الأخرويّة برّ مَنِ اتَّقى ما حرّم اللّه. كذا روي عن الصادق عليه السّلام(5).

ص: 412


1- تفسير الرازي 120:5، تفسير روح البيان 303:1.
2- تفسير روح البيان 303:1.
3- تفسير الرازي 120:5.
4- مجمع البيان 508:2، تفسير الصافي 208:1.
5- تفسير الصافي 208:1.

قيل في وجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها: إنّهم لمّا سألوا عن حكمة تغيير حال القمر، ردعهم اللّه عن السؤالات غير المفيدة للدّين، كأنّه قال سبحانه: لا تسألوا عمّا لا يهمّكم، بل اسألوا عمّا البحث فيه أهمّ ، و هو أنّكم تظنّون أنّ إتيان البيوت من ظهورها برّ، و هذا خطأ محض، بل البرّ هو تقوى اللّه(1).

في وجوب أخذ العلم من الراسخين في العلم و العلماء الذين يكون علمهم مأخوذا عنهم

و قيل: إنّهم لمّا سألوا عن حكمة اختلاف حال القمر (2) ،علّمهم اللّه طريق تحصيل العلم، بقوله: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و هي كناية عن وجوب السؤال عمّن يعلم أنّه عالم بحقائق الامور و الأحكام من قبل اللّه و هو النبيّ و أوصياؤه صلوات اللّه عليهم، الذين وصفهم اللّه بالرّاسخين في العلم، و العلماء الذين أخذوا العلم منهم، دون من يكون علمه مبنيّا على الخرص و الظنّ و القياس و الاستحسان، و أقوال الرجال الذين لا يؤمنون من الافتراء على اللّه و رسوله.

عن (الاحتجاج): عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قد جعل اللّه للعلم أهلا، و فرض على العباد طاعتهم بقوله: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و البيوت هي بيوت العلم الذي استودعه الأنبياء، و أبوابها أوصياؤهم »(3).

و عنه عليه السّلام: «نحن البيوت التي أمر اللّه [بها] أن تؤتى من أبوابها، نحن باب اللّه و بيوته التي يؤتي منها، فمن تابعنا و أقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، و من خالفنا و فضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها »(4).

و في رواية: «أنّ اللّه عزّ و جلّ لو شاء عرّف النّاس نفسه حتّى يعرفوه [وحده] و يأتوه من بابه، و لكنّه جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه» قال: «فمن عدل عن ولايتنا و فضّل علينا غيرنا، فقد أتى البيوت من ظهورها و إنهم عن الصراط لناكبون »(5) ،الخبر.

و يمكن أن يكون المراد من إتيان البيوت من أبوابها، البيوت الظاهريّة المسكونة، و البيوت المعنويّة العلميّة بإرادة القدر المشترك بين المعنى الحقيقيّ و المجازيّ .

وَ اتَّقُوا اللّهَ و احترزوا مخالفة أحكامه و تغييرها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بجميع الخيرات الدنيويّة و الاخرويّة و المقامات العالية.

ص: 413


1- تفسير الرازي 126:5.
2- تفسير البيضاوي 108:1.
3- الاحتجاج: 248.
4- الاحتجاج: 227.
5- الاحتجاج: 228.

و قيل في تأويل الآية: إنّه كان في الجاهليّة من همّ بسفر أو أمر يصنعه فمنع من ذلك، لم يدخل داره من الباب حتّى يحصل له ذلك. و كانت قريش و قبائل العرب من خرج لسفر أو حاجة ثمّ رجع و لم يظفر بذلك، كان ذلك طيرة، فنهاهم اللّه عن ذلك، و أخبر أنّ الطّيرة ليس ببرّ، و البرّ [برّ] من توكّل على اللّه و لم يخف غيره(1).

سورة البقرة (2): الآیات 190 الی 193

اشارة

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ (193)

سورة البقرة (2): آیة 190

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر بالتّقوى، عقّبه بالأمر بأشدّ أقسامه و أشقّها على النّفوس، و هو قتال أعداء اللّه، بقوله: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ و لطلب مرضاته، و نصرة نبيّه، و إعزاز دينه.

روي أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عمّن يقاتل في سبيل اللّه، فقال: «هو من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا، و لا يقاتل رياء و [لا] سمعة »(2).

اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من الكفّار. عن (المجمع) عنهم عليهم السّلام: «هي ناسخة لقوله تعالى: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ » (3).

و قيل: هذه الآية أوّل آية نزلت في القتال، فلمّا نزلت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاتل من قاتله و يكفّ عن قتال من تركه، و بقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى: اقتلوا اَلْمُشْرِكِينَ (4).

و قيل: إنّه لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الحديبية و عاد إلى المدينة، ثمّ تجهّز في السّنة القابلة، خاف أصحابه أن لا يفوا قريش بالعهد و يصدّوهم و يقاتلوهم، و كانوا كارهين لمقاتلتهم في الشّهر الحرام

ص: 414


1- تفسير روح البيان 304:1.
2- تفسير الرازي 128:5.
3- مجمع البيان 510:2، و الآية من سورة النساء: 77/4.
4- تفسير الرازي 127:5، و الآية من سورة التوبة: 5/9.

في الحرم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات، و بيّن لهم كيفيّة المقاتلة إلى أن احتاجوا إليها، فقال: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (1).

وَ لا تَعْتَدُوا بابتداء القتال في الحرم محرمين، و بقتل الصّبية و النّساء، و بالمثلة إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ و لا يريد بهم خيرا.

سورة البقرة (2): آیة 191

ثمّ شدّد سبحانه في قتال مشركي قريش بقوله: وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ و في أيّ مكان من الحلّ أو الحرم وجدتموهم.

روي عنهم عليهم السّلام: «أنّها ناسخة لقوله تعالى: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ » (2).

وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكّة، و قد فعل صلّى اللّه عليه و آله بمن لم يسلم من كفّار قريش يوم الفتح.

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجلى كلّ مشرك من الحرم. ثمّ أجلاهم من المدينة و من جزيرة العرب، و قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب »(3).

ثمّ أنّه روي أنّ بعض الصحابة كان قتل رجلا من الكفّار في الشّهر الحرام فعابه المؤمنون على ذلك فنزلت(4).

وَ الْفِتْنَةُ و هي محنة الإخراج و جلاء الوطن (5).و قيل: هي الشّرك(6) و صدّهم المسلمين عن الحرم أَشَدُّ و أصعب مِنَ الْقَتْلِ لدوام تعبها و بقاء ألم النّفس بها.

سئل بعض الحكماء: أيّ شيء أشدّ من الموت ؟ قال: الذي يتمنّى فيه الموت(7).

و قيل: إنّ المشركين كانوا يستعظمون القتل في الحرم، و يعيبون المسلمين به، فردّ اللّه عليهم بأنّ الكفر و الشّرك باللّه في الحرم أشدّ قبحا من القتل(8).

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ شرط جواز القتال في الحرم أن يكون بعنوان الدّفاع، بقوله: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ

بادين به عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و لا تهتكوا بالقتال فيه حرمته حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ و يبادروا إلى

ص: 415


1- تفسير الرازي 127:5.
2- مجمع البيان 510:2، و الآية من سورة الأحزاب: 48/33.
3- تفسير الرازي 130:5.
4- مجمع البيان 511:2، تفسير الرازي 130:5.
5- كذا، و الظاهر: و الجلاء من الوطن.
6- تفسير البيضاوي 109:1.
7- تفسير روح البيان 306:1.
8- الكشاف 236:1.

قتالكم.

فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه بادين به فَاقْتُلُوهُمْ فيه دفاعا، و لا تبالوا هتك حرمة الحرم، لأنّهم الذين هتكوا حرمته و أنتم مدافعون عن أنفسكم كَذلِكَ القتل جَزاءُ الْكافِرِينَ على مبادرتهم بالقتال، فإنّه يفعل بهم مثل ما فعلوا.

سورة البقرة (2): آیة 192

فَإِنِ انْتَهَوْا و انصرفوا عن القتال و اعتقاد الشّرك باللّه و تابوا إليه فَإِنَّ اللّهَ يغفر لهم؛ لأنّه غَفُورٌ للعصاة و ستّار للسّيّئات رَحِيمٌ بالمؤمنين التائبين.

سورة البقرة (2): آیة 193

ثمّ أكّد اللّه الأمر بقتال المشركين بقوله: وَ قاتِلُوهُمْ مجدّين فيه حَتّى لا تَكُونَ في الأرض فِتْنَةٌ الشّرك، و حتّى يسلموا وَ يَكُونَ الدِّينُ في الأرض خالصا لِلّهِ لا شرك للشّيطان و الأصنام فيه فَإِنِ انْتَهَوْا و رجعوا عن الشّرك إلى التّوحيد فَلا عُدْوانَ جائز مستحسن على أحد إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الكفر.

قيل: تسمية الجزاء عدوانا من باب المشاكلة و الازدواج(1).

عن (العيّاشي): عن أحدهما عليهما السّلام: «أي لا عدوان إلاّ على ذرّيّة قتلة الحسين عليه السّلام»(2) و قريب منه رواية اخرى(3).

و عن (العيّاشي): عن الرّضا عليه السّلام أنّه سئل: يا ابن رسول اللّه، ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين عليه السّلام بفعال آبائهم ؟» فقال عليه السّلام: «هو كذلك».

فقيل: فقول اللّه عزّ و جلّ : وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (4) ما معناه ؟ فقال: «صدق اللّه في جميع أقواله، لكنّ ذراري قتلة الحسين عليه السّلام رضوا بفعال آبائهم، و يفتخرون بها، و من رضي شيئا كان كمن أتاه، و لو أنّ رجلا قتل في المشرق فرضي [بقتله] رجل في المغرب، لكان الرّاضي عند اللّه شريك القاتل. و إنّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم »(5).

اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ

سورة البقرة (2): الآیات 194 الی 195

اشارة

اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ

ص: 416


1- تفسير الصافي 210:1.
2- تفسير العياشي 320/193:1.
3- تفسير العيّاشي 322/193:1.
4- الزمر: 7/39.
5- علل الشرائع: 1/229، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 5/273:1.

فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

سورة البقرة (2): آیة 194

ثمّ أنّه تعالى بعد ما رخّص المسلمين في قتال المشركين في الحرم دفاعا؛ رخّصهم فيه في الأشهر الحرم قصاصا، بقوله: اَلشَّهْرُ الْحَرامُ يقابل بِالشَّهْرِ الْحَرامِ فلا تبالوا بهتكه بإزاء هتك المشركين إيّاه.

روي: أنّ المشركين قاتلوا المسلمين في عام الحديبية في ذي القعدة (1).و نقل أنّ بعد صدّ المشركين المسلمين، وقع بينهم ترام بسهام و حجارة، و لمّا اتّفق خروج المسلمين لعمرة القضاء في ذلك الشّهر كرهوا أن يقاتلوهم، فنزلت الآية(2).

ثمّ عمّم حكم القصاص بقوله: وَ الْحُرُماتُ و جميع الامور التي يجب رعاية حرمتها، يجري فيها قِصاصٌ و حكم المعاملة بالمثل، فإن صدّكم المشركون عن دخول الحرم عنوة فادخلوا أنتم عليهم عنوة، و إن قاتلوكم في الحرم و في الشّهر الحرام فقاتلوهم، حيث إنّ الحرمات لا تراعى في حقّ من لا يراعيها.

عن (التهذيب) و (العياشي): أنّه سئل عن المشركين أ يبتدئهم المسلمون في القتال في الشّهر الحرام ؟ فقال: «إذا كان المشركون ابتدءوهم باستحلالهم ثم رأى المسلمون أنّهم يظهرون عليهم فيه، و ذلك قوله تعالى: اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ » (3).

ثمّ أنّه تعالى لتقرير ما بيّنه من الحكم ذكر فذلكة له بقوله: فَمَنِ اعْتَدى و تجاوز عليكم نفسا أو عرضا أو مالا فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ و عاقبوه بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ من الجناية، و لا تتجاوزوا عن الحدّ المرخّص فيه.

عن الصادق عليه السّلام في رجل قتل رجلا في الحرم، و سرق في الحرم، فقال: «يقام عليه الحدّ [في الحرم] صاغرا، إنّه(4) لم ير للحرم حرمة، و قد قال اللّه تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ

ص: 417


1- تفسير الصافي 210:1.
2- تفسير روح البيان 307:1.
3- التهذيب 243/142:6، تفسير العيّاشي 321/193:1.
4- في النسخة: و صغار له، لأنه.

مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ يعني في الحرم، و قال: فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ » (1).

وَ اتَّقُوا اللّهَ و احذروا غضبه، فلا تتجاوزوا عمّا رخّص لكم، و لا تفاتحوا بالقتال في الحرم و في الشّهر الحرام وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بالنّصرة و المعونة و الحفظ مَعَ الْمُتَّقِينَ .

ثمّ روي أنّه لمّا نزلت اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قال رجل من الحاضرين: يا رسول اللّه، ما لنا زاد، و ليس أحد يطعمنا، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينفقوا في سبيل اللّه، و أن يتصدّقوا، و أن لا يكفّوا أيديهم عن الصّدقة و لو بشقّ تمرة تحمل في سبيل اللّه، فنزلت [هذه الآية] على وفق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(2).

سورة البقرة (2): آیة 195

وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ و نصرة دينه، و طلب مرضاته من الجهاد و سائر أبواب الخير، و هذا أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالنّفس.

في وجوب الاقتصاد في الانفاق

وَ لكن لا تُلْقُوا أنفسكم، و لا تطرحوها بِأَيْدِيكُمْ و بمباشرتكم إِلَى التَّهْلُكَةِ و التّلف بسبب الإسراف في الإنفاق و تضييع أمر المعاش و سائر ما يؤدّي إلى الهلاك.

عن أبي أيّوب الأنصاريّ ، قال: إنّ اللّه تعالى لمّا أعزّ دينه و نصر رسوله صلّى اللّه عليه و آله قلنا فيما بيننا: إنّا قد تركنا أهلنا و أموالنا حتّى فشا الإسلام و نصر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فلو رجعنا إلى أهلنا و أموالنا فأقمنا فيها و أصلحنا ما ضاع منا؟ فأنزل اللّه هذه الآية. فالتّهلكة ما كان سببا للهلاك من الإقامة في الأهل و المال و ترك الجهاد(3).

في وجوب طاعة السلطان

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «طاعة السّلطان واجبة، و من ترك طاعة السّلطان فقد ترك طاعة اللّه تعالى، و دخل في نهيه، إنّ اللّه يقول: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (4)».

عن (الكافي): عن الصّادق عليه السّلام قال: «لو أنّ رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل اللّه، ما [كان] أحسن و لا وفّق، أ ليس يقول اللّه تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ » (5).

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالإنفاق، بالأمر بالإحسان، من الإنفاق و سائر الأعمال الصّالحة بقوله:

ص: 418


1- الكافي 4/227:4، تفسير الصافي 210:1.
2- تفسير الرازي 135:5.
3- تفسير روح البيان 309:1.
4- أمالي الصدوق: 553/418.
5- الكافي 7/53:4.

وَ أَحْسِنُوا إلى الفقراء و تفضّلوا عليهم مراعين للاقتصاد، أو التزموا بالأعمال الحسنة إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و منهم المقتصدون في الإنفاق.

و قيل: إنّ ممّا يؤدّي إلى الهلاك، ترك الإنفاق في أصحاب الجهاد، فيستولي عليهم العدوّ فيهلكهم(1).

سورة البقرة (2): آیة 196

اشارة

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

سورة البقرة (2): آیة 196

ثمّ أنّه روي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع في العام القابل إلى مكّة فمنعه الكفّار عن الحجّ و العمرة فنزلت: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (2) و اتوا بهما كاملين بشرائطهما و أركانهما خالصين لوجه اللّه.

عن (الكافي) و (العيّاشي) سئل الصادق عليه السّلام عن هذه الآية، فقال: «هما مفروضان »(3).

و عنه عليه السّلام قال: «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ على من استطاع؛ لأنّ اللّه يقول: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ » (4).

و في رواية، قال: يعني بتمامها أداءهما و اتّقاء ما يتّقي المحرم فيهما(5).

و عن (المجمع): عن أمير المؤمنين عليه السّلام و السجّاد عليه السّلام: «يعني أقيموها إلى آخر ما فيها »(6).

و في رواية: «تمامهما اجتناب الرّفث، و الفسوق، و الجدال في الحجّ »(7).

و عن (الكافي): عنه عليه السّلام قال: «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه، و ذكر اللّه كثيرا، و قلّة الكلام إلاّ بخير، في أنّ زيارة الإمام تمام الحجّ

فإنّ من تمام الحجّ و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلاّ من خير »(8).

و عن الباقر عليه السّلام: «تمام الحجّ لقاء الإمام »(9).

ص: 419


1- مجمع البيان 516:2.
2- تفسير الرازي 144:5.
3- الكافي 2/265:4، تفسير العيّاشي 330/195:1.
4- علل الشرائع: 1/408.
5- الكافي 1/265:4، تفسير الصافي 211:1.
6- مجمع البيان 518:2.
7- الخصال: 9/606.
8- الكافي 3/337:4.
9- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 29/262:2.

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا حجّ أحدكم فليختم حجّه بزيارتنا؛ لأنّ ذلك من تمام الحجّ »(1).

أقول: و ذلك لأنّ الحجّ زيارة اللّه في بيته، و لمّا كان الإمام عليه السّلام عين اللّه الناظرة، و يده الباسطة، و جنبه، و بابه الذي يؤتى منه، و خازن علمه، و معدن حكمته، كانت زيارته زيارة اللّه في عرشه، و لذا عدّت من تمام الحجّ .

ثمّ بيّن اللّه تعالى حكم المحصور منه بقوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ و منعتم من الحجّ بعد إحرامه لخوف من عدوّ أو لمرض، و أردتم التّحليل من الإحرام فَمَا اسْتَيْسَرَ و ما تيسّر لكم مِنَ الْهَدْيِ

واجب عليكم، أعلاه البعير، و أوسطه البقرة، و أقلّه الشّاة. و قيل: كلّ ما تيسّر، و إنّما سمّي هديا لأنّه بمنزلة الهديّة التي يهديها العبد إلى ربّه (2) ،و ما تيسّر من شيء واجب عليكم.

وَ لا تَحْلِقُوا أيّها المحصورون رُؤُسَكُمْ و لا تحلّوا من إحرامكم حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ و تعلموا أنّ هديّتكم التي بعثتموها قد بلغت منى الذي يجب النّحر أو الذّبح فيه إن كان الإحرام بالحجّ ، أو مكّة إنّ كان الإحرام بالعمرة.

في حكم المحصور بعد الإحرام

عن (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «المصدود يذبح حيث صدّ، و يرجع صاحبه فيأتي النّساء، و المحصور يبعث بهديه و يعدهم يوما، فإذا بلغ الهدي أحلّ هذا في مكانه »(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «يجزيه شاة، و البدنة و البقرة أفضل »(4).

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ في حال الحصر مَرِيضاً يحتاج إلى حلق الرّأس أَوْ بِهِ أَذىً و ألم كائن مِنْ رَأْسِهِ كقمل أو صداع فَفِدْيَةٌ معيّنة عليه إذا حلق، كانت الفدية مِنْ صِيامٍ في ثلاثة أيّام أَوْ صَدَقَةٍ و هي إطعام ستّة مساكين، لكلّ مسكين مدّان، أو عشرة مساكين لكلّ مدّ أَوْ نُسُكٍ

و هو الذّبيحة، أقلّها شاة، و أوسطها بقرة، و أعلاها بدنة.

عن (الكافي) و (العيّاشي): عن الصادق عليه السّلام: «مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على كعب بن عجرة، و القمل يتناثر من رأسه و هو محرم، فقال له: أ تؤذيك هوامّك ؟ فقال: نعم. فانزلت هذه الآية، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يحلق، و جعل الصّيام ثلاثة أيّام، و الصّدقة على ستّة مساكين، لكلّ مسكين مدّان و النّسك

ص: 420


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 28/262:2.
2- تفسير روح البيان 311:1.
3- الكافي 9/371:4.
4- تفسير العياشي 333/196:1.

شاة »(1).

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «و كلّ شيء في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، يختار ما شاء، و كلّ شيء في القرآن (فمن لم يجد كذا فعليه كذا) فالأولى الخيار»(2) الخبر. و الظاهر من الخيار الأخير الجري بالاختيار.

في حكم حجّ التمتّع في الأمن

ثمّ أنّه لمّا ذكر حكم المحصور لعدوّ أو مرض، بين حكم حال الأمن و السّعة، بقوله:

فَإِذا أَمِنْتُمْ من خوف العدوّ و برئتم من المرض فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ و انتفع بما كان يحرم عليه بعد التّحليل من إحرامها مستمرّا عليه إِلَى الْحَجِّ و إحرامه به فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عليه، و هو شاة، على ما روي عن الصادق عليه السّلام(3).

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ واجب عليه في وقت الحجّ ، أو أيّام اشتغاله به.

عن (الكافي): عن الصّادق عليه السّلام في المتمتّع لا يجد الهدي ؟ قال: «يصوم قبل التّروية [بيوم و يوم التروية] و يوم عرفة».

قيل: قد قدم يوم التّروية ؟ قال: «يصوم ثلاثة أيّام بعد التّشريق».

قيل: لم يقم عليه جمّاله ؟ قال: «يصوم [يوم] الحصبة(4) و بعده يومين».

قيل: و ما الحصبة (5) ؟قال: «يوم نفره».

قيل: يصوم و هو مسافر؟ قال: «نعم، أ ليس [هو] يوم عرفة مسافرا! إنّا أهل بيت نقول ذلك لقول اللّه عزّ و جلّ : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ يقول: في ذي الحجّة »(6).وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أهاليكم تِلْكَ الجملة عَشَرَةٌ كامِلَةٌ و فيه زيادة توصية بصيامها.

في (التهذيب): عن الصادق عليه السّلام أنّه سأل سفيان الثّوريّ : «أيّ شيء يعني بكاملة ؟» قال: سبعة و ثلاثة. قال: «و [يختلّ ] ذا على ذي حجا، إنّ سبعة و ثلاثة عشرة».

قال: فأيّ شيء هو أصلحك اللّه ؟ قال: «انظر!» قال: لا علم لي، فأيّ شيء هو أصلحك اللّه ؟ قال:

«الكاملة كمالها كمال الاضحيّة، سواء أتيت بها أو لم تأت»(7) انتهى. و على هذا يكون المعنى أنّه لا

ص: 421


1- الكافي 2/358:4، تفسير العياشي 336/197:1.
2- الكافي 2/358:4، تفسير العياشي 336/198:1، تفسير الصافي 213:1.
3- الكافي 1/487:4.
4- في النسخة: الخطيئة.
5- في النسخة: الخطيئة.
6- الكافي 1/506:4، تفسير الصافي 213:1.
7- التهذيب 120/40:5، تفسير الصافي 214:1، و في التهذيب: أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية.

تنقص ثواب صيام العشرة عن الأضحيّة.

و ذلِكَ التمتّع بمحرّمات الإحرام جائز بين العمرة و الحجّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بأن يكون بينهم و بين المسجد اثنى عشر ميلا فما دونها من كلّ جانب.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «من كان منزلة على ثمانية عشر ميلا من [بين يديها، و ثمانية عشر ميلا من] خلفها، و ثمانية عشر ميلا عن يمينها، و ثمانية عشر ميلا عن يسارها، فلا متعة له، مثل مرّ(1) و أشباهها »(2).

وَ اتَّقُوا اللّهَ فيما فرض عليكم، كما عن ابن عبّاس (3)وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن تهاون بحدوده و لم يحافظ على أوامره و نواهيه.

سورة البقرة (2): آیة 197

اشارة

اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

سورة البقرة (2): آیة 197

في بيان أشهر الحجّ

ثمّ بيّن اللّه تعالى زمان الحجّ بقوله: اَلْحَجُّ وقته أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ معيّنات عند اللّه، معروفات عند النّاس، و هي: شوّال، و ذو القعدة، و ذو الحجّة، على ما روى عن الصادقين عليهما السّلام قالا: «ليس لأحد أن يحجّ فيما سواهنّ ، و من أحرم بالحجّ في غير أشهر الحجّ فلا حجّ له »(4).

فَمَنْ فَرَضَ و أوجب على نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ بأن اشتغل به و شرع فيه.

عن (الكافي) و (العيّاشي) قال: قال الصادق عليه السّلام: «الفرض: التّلبية و الإشعار و التّقليد، فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحجّ »(5).

أقول: فيه دلالة على وجوب إتمام الحجّ بالاشتغال به و الدّخول فيه و إن كان مندوبا فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ جائز فِي وقت اَلْحَجُّ و زمان الاشتغال بمناسكه.

ص: 422


1- مرّ: واد في بطن إضم، و قيل: بطن إضم، و المرّ أيضا: أرض بالنجد من بلاد مهرة بأقصى اليمن.
2- الكافي 3/300:4.
3- تفسير الرازي 160:5.
4- تفسير العياشي 355/203:1 و 356، تفسير الصافي 214:1.
5- الكافي 2/289:4، تفسير العياشي 358/203:1.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «الرّفث: الجماع، و الفسوق: الكذب و السّباب، و الجدال: قول الرّجل: لا و اللّه، و بلى و اللّه »(1).

و قال: «في الجدال شاة، و في [السباب و] الفسوق بدنة (2) ،و الرّفث فساد الحجّ »(3).

و المراد من النّفي، النّهي بأبلغ بيان، و تخصيص تحريم الثّلاثة بالحجّ مع كونها حراما مطلقا لكون الحرمة فيه أشدّ، كلبس الحرير في الصّلاة.

ثمّ حثّ المؤمنين إلى الأعمال الحسنة بعد النّهي عن القبائح بقوله: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ و عمل صالح و برّ يَعْلَمْهُ اللّهُ فيجازيكم به أحسن الجزاء وَ تَزَوَّدُوا بالأعمال الصالحة لسفر الآخرة فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ فيه اَلتَّقْوى .

أو المراد التزوّد بالمئونة في السّفر الدّنيويّ و لو بسبب التّقوى، كما قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (4).نقل أنّهم كانوا يحجّون بغير زاد، فيكونون كلاّ على النّاس، فأمر اللّه المؤمنين بالتزوّد للشّفر، لأنّه لا ينبغي استطعام النّاس و التّثقيل عليهم(5).

ثمّ بعد بيان فائدة التّقوى، و أنّه خير الزّاد، أمر به بقوله: وَ اتَّقُونِ في مخالفتي و احترزوا عقابي يا أُولِي الْأَلْبابِ و توجيه الخطاب إلى ذوي العقول السّليمة، لأنّ العقل يحثّ العاقل على التّقوى و ملازمته، فمن لا تقوى له لا عقل له، لأنّه ترك ما فيه خير الدنيا و الآخرة.

سورة البقرة (2): آیة 198

اشارة

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ (198)

سورة البقرة (2): آیة 198

ثمّ أنّه روي عن ابن عبّاس أنّه كان ناس من العرب يحترزون من

التجارة في أيّام الحجّ ، و إذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع و الشراء بالكلّيّة، و كانوا يسمّون التاجر في الحجّ الدّاج، و يقولون:

هؤلاء الدّاج و ليسوا بالحاج، و معنى الدّاج المكتسب الملتقط .

و بالغوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوفين، و إعانة الضعفاء، و إطعام

ص: 423


1- الكافي 3/338:4.
2- في الكافي: بقرة.
3- الكافي 6/339:4.
4- الطلاق: 2/65 و 3.
5- تفسير الصافي 215:1.

الجائع، فأزال اللّه هذا الوهم (1) ،بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و بأس في أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً و ربحا كائنا مِنْ رَبِّكُمْ و تطلبوا مالا بالتّجارة المحلّلة.

قيل: إنّ عكاظ و مجنّة و ذا المجاز كانوا يتّجرون في أيّام الموسم فيها، و كانت معائشهم منها، فلمّا جاء الإسلام كرهوا أن يتّجروا في الحجّ بغير الإذن، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت(2).

عن (العيّاشي): عن الصادق عليه السّلام: «فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ يعني الرّزق، إذا أحلّ الرجل من إحرامه و قضى نسكه فليبع و ليشتر في الموسم »(3).

و في رواية اخرى فَضْلاً أي مغفرة(4).

و روي عن الباقر عليه السّلام: «أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجّا أعمالا اخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل اللّه و رحمته، مثل إغاثة الملهوف، و إعانة الضّعيف، و إطعام الجائع »(5).

و قال بعض علماء العامّة معترضا عليه: إنّ هذه الأعمال بين واجب و مندوب، و لا يصحّ أن يقال فيها: (لا جناح) فإنّ هذا التعبير مختصّ بالمباحات(6).

و فيه: أنّ استعمال (لا جناح) في الواجبات غير عزيز إذا كان في مورد توهّم الحصر كقوله تعالى:

ليس عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (7).

ثمّ اعلم أنّه لا تعارض بين الرّوايات المفسّرة للفضل، لأنّ كلّ واحد منها محمول على بيان نوع من أنواعه.

فَإِذا أَفَضْتُمْ و دفعتم أنفسكم للرجوع مِنْ عَرَفاتٍ بكثرة و مضيتم منها إلى المزدلفة، [كما] عن (تفسير الإمام عليه السّلام)(8) و عرفات علم للموقف.

روي: أنّه تمثّل جبرئيل لإبراهيم فيه، فلمّا رآه عرفه، فسمّي ذلك الموضع عرفات(9).

و نقل: أنّ جبرئيل كان يدور به في المشاعر، و يقول: عرفت ؟ فلمّا رآه، قال: عرفت(10).

ص: 424


1- تفسير الرازي 171:5.
2- تفسير الرازي 171:5.
3- تفسير العياشي 366/206:1.
4- عوالي اللآلي 246/92:2.
5- تفسير الرازي 172:5.
6- تفسير الرازي 172:5.
7- النساء: 101/4.
8- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 358/605.
9- تفسير روح البيان 316:1.
10- تفسير روح البيان 316:1.

و نقل أيضا: أنّ آدم و حوّاء اجتمعا بعرفات و تعارفا(1).

فَاذْكُرُوا اللّهَ وجوبا بالدعاء و التّكبير و التّهليل عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و هو جبل سمّي قزح(2) ، و لقّب بالمشعر لأنّه معلم العبادة، و وصف بالحرام لحرمته(3).

روي عن جابر: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس، ركب ناقته حتّى أتى المشعر الحرام، فدعا و كبّر و هلّل، و لم يزل واقفا حتّى أسفر(4).

وَ اذْكُرُوهُ ذكرا حسنا، على ما قيل (5)كَما هَداكُمْ هداية حسنة إلى المناسك و غيرها من العبادات. أو المراد اذكروه لأنّه علّمكم دين الإسلام، أو علّمكم كيف تذكرونه.

وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل الهدى أو التّعليم لَمِنَ الضّالِّينَ بكيفيّة ذكره و عبادته.

نقل عن ابن عبّاس أنّه نظر إلى النّاس في هذا اللّيلة، و قال: كان النّاس إذا أدركوا هذه لم يناموا(6).

سورة البقرة (2): الآیات 199 الی 202

اشارة

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)

سورة البقرة (2): آیة 199

ثمّ أنّه نقل أنّ قريشا و جماعة من حلفائهم كانوا يسمّون بالحمس لتشدّدهم في دينهم، لم يكونوا يقفون بعرفات، بل كان وقوفهم بالمزدلفة، و لا يتجاوزون عنها لأنّهم كانوا يترفّعون على النّاس، و يقولون: نحن أهل اللّه، و لا نحلّ حرم اللّه، و أنّ الحرم أشرف من غيره، فالوقوف به أولى، و سائر النّاس كانوا يقفون بعرفات، فأمر اللّه المؤمنين بالوقوف بعرفات (7) ،بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا و ارجعوا و كلمة (ثمّ ) للتّرتيب في الرّتبة، و لتكن إفاضتكم مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ .

عن الصادق عليه السّلام: «يعني بالنّاس إبراهيم، و إسماعيل، و إسحاق، و من بعدهم ممّن أفاض من

ص: 425


1- تفسير روح البيان 316:1.
2- في النسخة: بقرج.
3- تفسير البيضاوي 112:1، تفسير أبي السعود 208:1.
4- تفسير البيضاوي 112:1.
5- تفسير البيضاوي 112:1.
6- تفسير الرازي 178:5.
7- مجمع البيان 527:2.

عرفات »(1).

و عن (الكافي): عن الحسين بن علي عليهما السّلام: «نحن النّاس »(2).

و عن الصادق عليه السّلام في حديث حجّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ثمّ غدا و النّاس معه، و كانت قريش تفيض من المزدلفة و هي جمع، و يمنعون النّاس أن يفيضوا منها. فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قريش ترجو أن تكون إفاضته [من] حيث كانوا يفيضون، فأنزل اللّه تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ » (3).

وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ من تغييركم المناسك في الجاهليّة، و من سائر المعاصي إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ و ستّار للذّنوب رَحِيمٌ بعباده المؤمنين، لا يقطع عنهم إحسانه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه يباهي ملائكته بأهل عرفات، و يقول: انظروا إلى عبادي جاءوا من كلّ فجّ عميق شعثا غبرا [اشهدوا] أنّي غفرت لهم »(4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أعظم النّاس ذنبا من وقف بعرفة فظنّ أنّ اللّه لا يغفر له »(5).

سورة البقرة (2): آیة 200

فَإِذا قَضَيْتُمْ و أدّيتم أيّها المؤمنون مَناسِكَكُمْ و أعمال حجّكم، و فرغتم منها فَاذْكُرُوا اللّهَ

و آلاءه و نعماءه عندكم، و إحسانه إليكم، و بالغوا فيه كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ .

عن ابن عبّاس: أنّ العرب كانوا عند الفراغ من حجّهم بعد أيّام التّشريق، يقفون بين مسجد منى و بين الجبل، و يذكر كلّ واحد منهم فضائل آبائه في الشجاعة(6) و الحماسة و صلة الرّحم، و يتناشدون فيها الأشعار، و يتكلّمون بالمنثور من الكلام، و يريد كلّ واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشّهرة و الترفّع بمآثر سلفه، فلمّا أنعم اللّه [عليهم] بالإسلام، أمرهم أن يكون ذكرهم لربّهم كذكرهم لآبائهم(7)

أَوْ أَشَدَّ و أبلغ ذِكْراً.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «خيّرهم بين ذلك، و لم يلزمهم أن يكونوا [له] أشدّ ذكرا منهم لآبائهم و إن كانت نعم اللّه عليهم أكثر و أعظم من نعم آبائهم »(8).

و قيل: إنّ المراد أنّ الانسان كما لا ينسى ذكر أبيه، كذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر اللّه(9).

و قيل: إنّ المعنى: اذكروا اللّه بالوحدانيّة كذكركم آباءكم بالوحدانيّة، فإنّ الواحد منهم لو نسب إلى

ص: 426


1- تفسير الصافي 216:1.
2- الكافي 339/244:8.
3- الكافي 4/247:4.
4- تفسير روح البيان 318:1.
5- تفسير روح البيان 318:1.
6- في تفسير روح البيان: السماحة.
7- تفسير روح البيان 183:5.
8- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 358/606.
9- تفسير الرازي 185:5.

و الدين لتأذّى و استنكف، و مع ذلك يثبت لنفسه آلهة، و الحال أنّ المبالغة في التّوحيد أولى(1).

و قيل: إنّ المراد أنّ الطّفل كما يرجع إلى أبيه في طلب المهمّات، و يكون ذاكرا له بالتّعظيم، فكونوا أنتم كذلك في ذكر اللّه(2).

و روي عن ابن عبّاس أنّه قال في تفسير الآية: هو أن تغضب له لو عصي أشدّ من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء(3).

و حاصل جميع الوجوه أنّه يجب على العبد أن يكون دائم الذّكر، و دائم التّعظيم، و دائم الرّجوع إلى ربّه، و دائم الانقطاع عمّن سواه.

قيل: معنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً بل أشدّ ذكرا، لأنّ موجبات ذكر آبائهم قليلة، و صفات اللّه الكماليّة و حقوقه على عباده غير متناهية(4).

ثمّ أنّه لمّا كان ينبغي للعبد بعد أداء مناسك الحجّ - الذي به تنكسر النفس و ترفع عنها غواشي الشّهوات، و توجّهه إليه بذكره الذي به تنجلي في القلوب أنوار عظمته و إشراقات جلاله - أن يشتغل بالدّعاء و الطّلب للمهمّات، و لذا بيّن اللّه تعالى اختلاف همم النّاس بقوله: فَمِنَ النّاسِ الذين يشهدون هذا الموقف العظيم الذي تستجاب فيه الدّعوات مَنْ يَقُولُ في مقام الدّعاء افتتانا بلذّات الدنيا، و نسيانا للآخرة و نعيمها رَبَّنا آتِنا نصيبنا، و أعطنا حظّنا فِي الدُّنْيا من الجاه، و الغنى، بدلا من الآخرة.

و يجيب اللّه مسئوله إن شاء وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ و نصيب من كرامة اللّه و رحمته و ثوابه، لأنّ همّه كان مقصورا على الدنيا الدنيّة الزائلة و لذائذها الفانية، و أعرض عن النّعم الدائمة الباقية لقصور العقل، و عدم اليقين بالمعاد.

سورة البقرة (2): آیة 201

عن ابن عبّاس: أنّ المشركين كانوا يقولون، إذا وقفوا: اللّهمّ ارزقنا ابلا و غنما و بقرا و عبيدا و إماء، و كانوا لا يطلبون التّوبة و المغفرة لأنّهم كانوا ينكرون البعث و المعاد(5).

أقول: و ذلك جار في حقّ بعض المؤمنين الّذين يكون همّهم في الدنيا، و يعملون لها، و ذلك

ص: 427


1- تفسير الرازي 185:5.
2- تفسير الرازي 185:5.
3- تفسير الرازي 185:5.
4- تفسير الرازي 186:5.
5- تفسير الرازي 187:5.

مبلغهم من العلم، مع أنّ مقتضى الإيمان الإعراض عن الدّنيا و ما فيها، و السّعي في تحصيل النعم الباقية و الرّاحة الدّائمة، فلا يطلب المؤمن من الدنيا إلاّ مقدارا يكون له وسيلة إلى نيل السّعادة الاخرويّة، و لذا قال تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا و هب لنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً و هي كلّ ما فيه السّعادة الدنيويّة، و هي: روحانيّة و جسمانية داخليّة و خارجية.

في أنّ السعادة الدنيوية روحانية و جسمانية

أمّا السّعادة الروحانيّة: فكمال القوّة النّظريّة بالعلم، و كمال القوّة العملية بالأخلاق الجميلة الفاضلة، فإنّهما زينة المرء في الدّارين، و أمّا السّعادة الجسمانيّة الداخليّة:

و هي السّعادة البدنيّة من الصحّة و الجمال.

و أمّا السّعادة الخارجيّة فهي: المال و الجاه و الأقارب و الأولاد، و هذه السّعادات كما أنّها حظوظ في الدنيا [فهي] مقدّمات و وسائل لتحصيل حظوظ الآخرة.

و الظاهر أنّ المراد من الحسنة جميع ما له نفع في الآخرة، و ليس حبّها و طلبها من حبّ الدنيا و طلبها، بل عين حبّ الآخرة.

عن ابن عبّاس: أنّ رجلا دعا ربّه فقال: ربّنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النّار.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما أعلم أنّ هذا الرجل سأل شيئا من أمر الدنيا».

فقال بعض الصّحابة: بلى يا رسول اللّه، [إنه] قال: ربّنا آتنا في الدنيا حسنة! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّه يقول: آتنا في الدنيا عملا صالحا »(1).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «السّعة في الرّزق [و المعاش] و حسن الخلق في الدنيا »(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «[أنّ الحسنة] في الدنيا المرأة الصالحة »(3).

و قيل: إنّ المراد بالحسنة العلم و العبادة (4).و الظاهر أنّ جميع المذكورات أنواعها، و الجامع ما ذكرنا، و هو جميع ما يكون له نفع في الآخرة، و ما يكون معينا على تحصيلها.

ثمّ أنّه لإظهار شدّة الاهتمام بالآخرة، و أنّها المطلوب النّفسيّ ، خصّ نعمها أوّلا بالذّكر صريحا، بقوله: وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً و هي الثّواب و الرّحمة (5).و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هي الحوراء »(6).

ص: 428


1- تفسير الرازي 189:5.
2- مجمع البيان 530:2، تفسير الصافي 217:1.
3- تفسير روح البيان 319:1، تفسير الصافي 217:1.
4- تفسير الصافي 217:1.
5- تفسير روح البيان 319:1.
6- تفسير روح البيان 319:1، تفسير الصافي 217:1.

و عن الصادق عليه السّلام: «رضوان اللّه و الجنّة »(1).

و تنكير الحسنة لعلّه لإظهار المذلّة و عدم القابليّة لجميع حسنات الدنيا و الآخرة، و لإظهار جنسها كأنّه يقول: يغنيني حسنة واحدة، فكيف بأكثر منها؟ و ملخّصه: أكثروا من ذكر اللّه و اسألوا سعادتكم في الدّارين.

ثمّ لإظهار أنّ أهمّ الامور النّجاة من العقاب، خصّه بالذكر بقوله: وَ قِنا عَذابَ النّارِ بالمحافظة من ارتكاب الشّهوات و اللذات المؤدّية إليه و بشمول العفو و المغفرة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو عذاب امرأة [السوء]» الخبر (2).و لعلّه لأنّ المرأة السّوء توقع الرّوح في المعاصي.

سورة البقرة (2): آیة 202

أُولئِكَ الدّاعون بهذا الدّعاء على هذا الوصف لَهُمْ نَصِيبٌ وافر حاصل و كائن مِمّا كَسَبُوا و هو الدّعاء الذي هو من أعظم العبادات، أو المراد: لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصّالحة الحسنة، فإنّ لكلّ عمل ما يسانخه من الأجر.

في كيفية الحساب

وَ اللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «معناه أنّه يحاسب الخلائق دفعة كما يرزقهم دفعة »(3).

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام) «لأنّه لا يشغله شأن عن شأن، و لا محاسبة عن محاسبة، فإذا حاسب واحدا فهو في تلك الحال محاسب للكلّ ، يتمّ حساب الكلّ بتمام حساب الواحد، و هو كقوله: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ » (4).

و توصيف نفسه تعالى بسرعة الحساب لعلّه لأن لا يخاف الدّاعي من طول الوقوف في موقف الحساب، بل يطمئنّ بوصوله إلى ما أعدّ له في القيامة بأسرع زمان.

و قيل: إنّ المراد من الحساب مجازاة الخلق على أعمالهم(5).

و قيل: إنّ اللّه يخلق كلاما يسمعه الخلق، يعلم به ما له و ما عليه(6).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل: كيف يحاسب اللّه سبحانه الخلق و لا يرونه ؟ قال: «[كما] يرزقهم

ص: 429


1- التهذيب 900/327:6.
2- تفسير أبي السعود 209:1، تفسير روح البيان 319:1.
3- مجمع البيان 531:2.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 358/606، و الآية من سورة لقمان: 28/31.
5- مجمع البيان 531:2.
6- تفسير الرازي 191:5.

و لا يرونه »(1).

و نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: لا حساب على الخلق، بل يقفون بين يدي اللّه تعالى، و يعطون كتبهم بأيمانهم، فيها سيّئاتهم، فيقال لهم: هذه سيّئاتكم قد تجاوزت عنها، ثمّ يعطون حسناتهم، و يقال: هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم(2).

سورة البقرة (2): آیة 203

اشارة

وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

سورة البقرة (2): آیة 203

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر الوقوف في عرفات و المشعر، و بيّن جملة من وظائفهما، ذكر بعض أحكام الوقوف بمنى، بقوله: وَ اذْكُرُوا اللّهَ بالتّكبيرات في أعقاب خمس عشرة صلاة من ظهر يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ قليلات مسمّيات بأيّام التّشريق لمن كان بمنى، و عشر صلوات لمن كان بغير منى. و كيفيّة التّكبير: «اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر، اللّه أكبر، و للّه الحمد. اللّه أكبر على ما هدانا، اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام» كذا روي عنهم عليهم السّلام(3).

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر مناديا ينادي: «الحجّ عرفة، من جاء ليلة جمع(4) قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحجّ ، و أيّام منى ثلاثة أيّام» الخبر(5).

فَمَنْ تَعَجَّلَ في النّفر و طلب الخروج من منى فِي يَوْمَيْنِ بعد يوم النّحر، إذا فرغ من رمي الجمار فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في التّعجيل وَ مَنْ تَأَخَّرَ النّفر حتّى رمى في اليوم الثالث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ

بالتأخير، فيكون الحاصل التّخيير بين الأقلّ و الأكثر.

و قالوا: هذا ردّ على أهل الجاهليّة، فإنّ منهم من آثم و عيّب المتعجّل، و منهم من عيّب المتأخّر و آثمه، فردّ اللّه عليهم بأنّه لا إثم في التّعجيل و التأخير(6).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «ليس هو على أنّ ذلك واسع، إن شاء صنع ذا و إن شاء صنع ذا، لكنّه يرجع مغفورا له لا إثم عليه و لا ذنب له »(7).

ص: 430


1- نهج البلاغة: 300/528.
2- تفسير الرازي 190:5.
3- تفسير الصافي 218:1.
4- جمع: علم للمزدلفة، سمّيت به لأنّ آدم عليه السّلام و حواء لمّا أهبطا اجتمعنا بها.
5- تفسير الرازي 192:5.
6- تفسير روح البيان 321:1، تفسير الصافي 219:1.
7- من لا يحضره الفقيه 1427/289:2.

و هذا التّرخيص و التّخيير ثابت لِمَنِ اتَّقى اللّه عزّ و جلّ . روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام قال:

«لمن اتّقى الصّيد - يعني في إحرامه - فإن أصابه لم يكن له أن ينصرف(1) في النّفر الأوّل »(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «لمن اتّقى منهم الصّيد، و اتّقى الرّفث و الفسوق و الجدال و ما حرّم اللّه عليه في إحرامه »(3).

و الحاصل: أنّ التّخيير ليس مطلقا بالنسبة إلى كلّ حاجّ ، بل هو لمن اتّقى. و اختلف فيه على قولين:

الأول: من اتّقى الصّيد و النساء في إحرامه.

و الثاني: من اتّقى سائر المحرّمات في الإحرام(4).

و عن الباقر عليه السّلام: «اتّقى الكبر، و هو أن يجهل الحقّ و يطعن على أهله »(5).

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، قال: «أنتم و اللّه هم، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لا يثبت على ولاية عليّ عليه السّلام إلاّ المتّقون »(6).

وَ اتَّقُوا اللّهَ أيّها الحاجّ المغفور لهم ذنوبهم، قلا تعاودوا الموبقات فتعود إليكم أثقالكم، فإنّ السيّئات تذهب بالحسنات وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم بما تعملون.

قيل: كانوا إذا رجعوا من الحجّ يجترءون على اللّه بالمعاصي، فشدّد في تحذيرهم(7).

سورة البقرة (2): الآیات 204 الی 206

اشارة

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ (206)

سورة البقرة (2): آیة 204

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر النّاس بالتّقوى، و كانت حقيقته هو اليقين باللّه و اليوم الآخر، و الخوف الكامن في القلب، الباعث على العمل بإخلاص النيّة و صميم القلب، ذكر حال المنافقين المظهرين للإيمان

ص: 431


1- في التهذيب و الصافي: ينفر.
2- التهذيب 933/273:5، و تفسير الصافي 219:1 عن الصادق عليه السّلام.
3- تفسير العياشي 384/210:1، تفسير الصافي 219:1.
4- كنز العرفان 4/320:1.
5- تفسير الصافي 220:1.
6- تفسير العياشي 389/211:1.
7- تفسير روح البيان 321:1.

و التّقوى، المبطنين للكفر و العناد بقوله: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ و يروقك و يعظم في قلبك قَوْلُهُ بسبب تزيين البيان بالورع و التّقوى ليطلب حظا، إلاّ أنّه يكون إعجابه و حسنه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من غير أن يكون لكلامه المعجب أثر في الآخرة، فإنّ الظواهر تفيد في هذا العالم، و أمّا الآخرة فهي عالم كشف الحقائق و الواقعيّات، ليس فيها ستر و اشتباه.

وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من اليقين و الإخلاص، و يحلف باللّه أنّ باطنه مطابق لظاهره، و مصدّق لكلامه وَ هُوَ في هذه الحالة أَلَدُّ الْخِصامِ و شديد المعارضة و العداوة للّه و لرسوله و للمؤمنين.

في نفاق الأخنس بن شريق الثقفي

نقل أنّها نزلت في الأخنس بن شريق الثّقفي، و هو حليف لبني زهرة، أقبل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أظهر الإسلام و المحبّة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يحلف باللّه على ذلك، و هذا هو المراد بقوله: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ إلى آخره(1).

و روي عن ابن عبّاس أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّا قد أسلمنا، فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك، فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرّجيع، و وصل الخبر إلى الكفّار، فركب منهم سبعون راكبا و أحاطوا بهم و قتلوهم و سلبوهم، ففيهم نزلت (2).و يرجّح الأوّل.

سورة البقرة (2): آیة 205

قوله: وَ إِذا تَوَلّى و انصرف من عندك، و إذا صار غالبا و واليا سَعى و اجتهد فِي الْأَرْضِ

جميعها، لا يتفاوت في نظره مكان لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ نقل أنّ الأخنس لمّا انصرف من عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خرج من المدينة، مرّ بزرع المسلمين فأحرق الزّرع و قتل الحمر(3).

و قيل: كان بينه و بين ثقيف عداوة، فأتاهم ليلا فأحرق زرعهم و أهلك مواشيهم(4).

فإنّ هذه الآية أوفق بما روي عن الأخنس ممّا يروى عن ابن عبّاس.

و قيل: إنّ الأخنس سعى في إدخال الشبهة في قلوب المسلمين، و تقوية الكفر (5) ،و تضعيف الاسلام. و هذا هو السّعي للفساد في الأرض لأنّه موجب للاختلاف بين النّاس و تفريق كلمتهم، فيتبرّأ بعضهم من بعض، و يتقطّعون أرحامهم، و يشتغلون بالحرب، فيهلك الحرث و النّسل.

ص: 432


1- تفسير الرازي 197:5.
2- تفسير الرازي 197:5.
3- تفسير الرازي 197:5.
4- تفسير روح البيان 323:1.
5- تفسير الرازي 200:5.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ بظلمه و سوء سيرته»(1) الخبر، و يحتمل كون المراد أنّ الظلم موجب لانقطاع الرّحمة و ارتفاع البركة.

و عن الصادق عليه السّلام: «الحرث في هذا الموضع الدّين، و النّسل: النّاس »(2).

وَ اللّهُ لا يُحِبُّ و لا يريد بالإرادة التّشريعيّة اَلْفَسادَ في الآفاق و الأنفس، أو لا يريد بالإرادة التّكوينيّة و التّشريعيّة الفساد المحض الذي لا يشوبه صلاح.

سورة البقرة (2): آیة 206

وَ إِذا قِيلَ لَهُ عظة و نصحا اِتَّقِ اللّهَ و خف عذابه، و اترك الفساد، و احذر سوء عاقبته أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ و الأنفة بِالْإِثْمِ و حملته عليه لجاجا فَحَسْبُهُ و كافيه جَهَنَّمُ جزاء و نكالا على سوء فعاله وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ و الفراش الممهّد و المستقرّ المؤبّد هي.

سورة البقرة (2): آیة 207

اشارة

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)

سورة البقرة (2): آیة 207

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن حال المنافق الذي باع دينه بدنياه، عقّبه بذكر حال المؤمن المخلص الذي باع دنياه بدينه، بقوله: وَ مِنَ النّاسِ المؤمنين مَنْ يَشْرِي و يبيع نَفْسَهُ من اللّه اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ و يبذل شراشر وجوده(3) في سبيل اللّه، و طلبا لرضوانه وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ المؤمنين، يدفع عنهم كلّ ضرّ، و ينزل عليهم بكلّ خير.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «هؤلاء خيار أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عذّبهم أهل مكّة ليضلّوهم عن دينهم، فمنهم بلال و صهيب و خبّاب و عمّار بن ياسر و أبواه »(4).

و عن ابن عبّاس: أنّ هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد اللّه بن جدعان (5) ،و في عمّار بن ياسر، و في سميّة امّه، و في ياسر أبيه، و في بلال مولى أبي بكر، و في خبّاب بن الأرتّ ، و في عابس مولى حويطب، أخذهم المشركون فعذّبوهم، فأمّا صهيب فقال لأهل مكة: إنّي شيخ كبير، و لي مال و متاع، و لا يضرّكم كنت منكم أو من عدوّكم، تكلّمت بكلام و أنا أكره أن أنزل عنه، و أنا اعطيكم مالي

ص: 433


1- تفسير العياشي 394/211:1، الكافي 435/289:8.
2- تفسير القمي 71:1، مجمع البيان 534:2.
3- أي جميع وجوده و كيانه، و الشراشر: أطراف الأجنحة، و الجسم بجملته و يقال: ألقى عليه شراشره، أي اعباءه و همومه، أو ألقى عليه نفسه حرصا و محبّة.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 365/621.
5- في النسخة: عبد اللّه بن صرحان.

و متاعي، و اشتري منكم ديني، فرضوا منه بذلك و خلّوا سبيله، فانصرف راجعا إلى المدينة، فنزلت.

و أمّا خبّاب بن الأرتّ ، و أبو ذرّ، فقد فرّا و أتيا المدينة. و أمّا سميّة فربطت بين بعيرين ثمّ قتلت، و قتل ياسر. و أمّا الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا. الخبر(1).

و عنه أيضا: أنّها نزلت في رجل أمر بالمعروف و نهى عن المنكر(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ المراد بالآية الرّجل يقتل على الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر »(3).

في قصة ليلة المبيت

و قال الفخر في (تفسيره): و الرواية الثالثة: أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بات على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة خروجه إلى الغار.

قال: و يروى أنّه لمّا نام على فراشه قام جبرئيل عند رأسه، و ميكائيل عند رجله، و جبرئيل ينادي:

بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي اللّه بك الملائكة؛ و نزلت الآية(4).

و قال الفيض رحمه اللّه: روت العامّة عن جماعة من الصّحابة و التّابعين، و العيّاشيّ ، و عدّة من أصحابنا عن أئمّتنا عليهم السّلام في عدّة أخبار أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام حين بات على فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. الخبر(5).

و يمكن الجمع بين الرّوايات بالقول بتكرّر نزول الآية بعد نزولها أوّلا في مكّة في أمير المؤمنين عليه السّلام ليلة المبيت.

و أمّا قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «المراد الرّجل يقتل» إلى آخره، فلعلّ المراد أنّ مورد نزوله و إنّ كان خاصّا، إلاّ أنّ عنوان الآية بعمومه يشمل هذا المقتول، بل يشمل كلّ من نصر دين اللّه، و بذل نفسه في سبيل اللّه، و إن كان أفضلهم و سيّدهم و مقتداهم أمير المؤمنين عليه السّلام.

و العجب كلّ العجب ممّن يروي قول جبرئيل في عليّ عليه السّلام: من مثلك، إلى آخره، ثمّ يفضّل غيره عليه.

سورة البقرة (2): الآیات 208 الی 209

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

ص: 434


1- تفسير الرازي 204:5.
2- تفسير الرازي 204:5.
3- مجمع البيان 535:2.
4- تفسير الرازي 204:5.
5- تفسير الصافي 221:1.
سورة البقرة (2): آیة 208

ثمّ أنّه تعالى لمّا حكى عن بعض النّاس مضادّة الإسلام، و عن بعض الخلوص فيه، أمر كلّهم بالانقياد، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ و الطّاعة، و الانقياد للّه و رسوله كَافَّةً

و جميعها. أو المراد: التزموا أحكام الإسلام بألسنتكم و قلوبكم جميعا وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بالتفرّق و التّفريق، أو بمخالفة ما امرتم به.

قيل: نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب، كعبد اللّه بن سلاّم و أصحابه، و ذلك لأنّهم حين آمنوا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى عليه السّلام فعظّموا السّبت، و كرهوا لحوم الإبل و ألبانها، و كانوا يقولون: ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام و واجب في التّوراة، فنحن نتركها احتياطا، فكره اللّه ذلك منهم و أمرهم أن يدخلوا في السّلم كافّة، أي في كافة شرائع الاسلام(1).

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «[يعني] في السّلام(2) و المسالمة إلى دين الإسلام كَافَّةً جماعة(3) فيه، و ادخلوا في جميع الإسلام، فتقبّلوه و اعملوا به، و لا تكونوا ممّن يقبل بعضه و يعمل به، و يأبى بعضه و يهجره. و منه الدّخول في ولاية علي عليه السّلام فإنّه كالدّخول في نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لا يكون مسلما من قال إنّ محمّدا رسول اللّه، و لم يعترف بأنّ عليّا وصيّه و خليفته و خير امّته. خُطُواتِ الشَّيْطانِ ما يتخطّى بكم إليه من طرق الغيّ و الضلالة، و يأمركم [به] من ارتكاب الآثام و الموبقات »(4).

و عن (العيّاشيّ ): عن الصادق عليه السّلام: «ولاية عليّ عليه السّلام و الأئمّة الأوصياء من بعده، و خطوات الشّيطان:

ولاية فلان و فلان (5)».و في رواية: «الثّاني و الأوّل »(6).

عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ اللّه تعالى أظهر الشكاية من امّتي، و قال: إنّي طردت الشّيطان لأجلهم، [فهم] يعصونني و يطيعون الشّيطان »(7).

و اعلموا إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة فَإِنْ زَلَلْتُمْ و أخطأتم الحقّ ، و كففتم أنفسكم عن الدّخول في السّلم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الآيات اَلْبَيِّناتُ و الحجج الظاهرات، على أنّ ما دعيتم إليه حقّ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غالب لا يعجز عن الانتقام، و لا يمنع عن مراده شيء، لكمال قدرته،

ص: 435


1- تفسير الرازي 207:5.
2- في المصدر: السلم.
3- زاد في المصدر: ادخلوا.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 366/626.
5- تفسير العياشي 398/213:1.
6- تفسير العياشي 403/214:1.
7- تفسير روح البيان 326:1.

و قوّة سلطانه حَكِيمٌ لا ينتقم إلاّ بالحقّ ، و لا يعذّب إلاّ بالاستحقاق.

سورة البقرة (2): آیة 210

اشارة

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

سورة البقرة (2): آیة 210

ثمّ أنّه تعالى بعد انهماك بيان المنافقين و المشركين في العناد و اللّجاج، و ثباتهم على الكفر و الفساد، أعرض عن مخاطبتهم بالالتفات إلى الغيبة كأنّه يخاطب العقلاء و يستفهم عن سبب عنادهم، توبيخا و إنكارا عليهم، بقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ و ينتظرون من عدم الدخول في الاستسلام و الوقوف على الكفر و النفاق بعد إتمام الحجّة، و مشاهدة ما يمكن ظهوره من الآيات و المعجزات و قطع العذر في التمرّد و المخالفة إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ ببأسه و عذابه الكائن فِي ظُلَلٍ و قطع مظلّلات مِنَ الْغَمامِ و السّحاب الذي يتوقّع منه الرّحمة، فينزل به العذاب و النّقمة، وَ يأتيهم اَلْمَلائِكَةُ

الذين هم وسائط العذاب. أو المراد: أو يأتيهم العذاب في جمع من الملائكة وَ الحال أنّه قُضِيَ الْأَمْرُ و تمّ إهلاكهم، و فرغ منه، و بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون و يتوقّعون، فوضع الماضي موضع المستقبل لتحقّق الوقوع. و ملخّصه أنّ الحجّة قد قامت و تمّت عليهم بحيث لم يبق له انتظار إلاّ نزول عذاب الاستئصال، و يمكن أن يكون المراد: بل ينتظرون يوم القيامة الذي تشقّق فيه الغمام، و تنزّل الملائكة تنزيلا.

وَ إِلَى اللّهِ في ذلك اليوم تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلّها، و منها تعذيب اولئك المصرّين على الكفر.

و التعبير برجوع الامور إليه باعتبار أنّه تعالى قد ملّك النّاس امورا في الدنيا امتحانا، فإذا جاء يوم القيامة ترجع جميع الامور في الظاهر و الواقع من غيره إليه وحده، لا قدرة لغيره على شيء و لو في الظاهر.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام) في تفسير الآية: «أي هل ينظر هؤلاء المكذّبون بعد إيضاحنا لهم الآيات، و قطعنا معاذيرهم بالمعجزات إلاّ أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام و تأتيهم الملائكة، كما كانوا اقترحوا عليك اقتراحهم المحال في الدنيا، في إتيان اللّه الذي لا يجوز عليه الإتيان، و اقتراحهم الباطل في إتيان الملائكة الذين لا يأتون إلاّ مع زوال هذا التعبّد لأنّه(1) وقت مجيء الأملاك بالإهلاك، فهم

ص: 436


1- في المصدر: التعبد، و حين وقوع هلاك الظالمين بظلمهم و وقتك هذا وقت تعبّد لا.

في اقتراحهم مجيء الأملاك جاهلون وَ قُضِيَ الْأَمْرُ أي هل ينظرون [إلاّ] مجيء الملائكة، فإذا جاءوا و كان ذلك قُضِيَ الْأَمْرُ بهلاكهم» الخبر(1).

و أمّا ما عن القمي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه إذا بدا له أن يبيّن خلقه و يجمعهم لما لا بدّ منه، أمر مناديا ينادي فاجتمع الجنّ و الإنس في أسرع من طرفة عين، ثمّ أذن لسماء الدنيا فتنزل فكان من وراء النّاس، و أذن للسماء الثانية فتنزل، و هي ضعف التي تليها، فإذا رآها أهل السماء الدنيا، قالوا: جاء ربّنا؟ قالوا: لا، و هو آت - يعني أمره - حتّى تنزل كلّ سماء، تكون كلّ واحدة منها من وراء الاخرى، و هي ضعف التي تليها.

ثمّ ينزل أمر اللّه في ظلل من الغمام و الملائكة و قضي الأمر و إلى ربك ترجع الامور. ثمّ يأمر [اللّه] مناديا ينادي يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ » (2) فلا ظهور له في تفسير الآية، بل هو بيان بعض أهوال يوم القيامة، و إن عبر عن بعضها بعبارة الآية.

و أمّا ما عن العيّاشي رحمه اللّه: عنه عليه السّلام في هذه الآية، قال: «ينزل في سبع قباب من نور، لا يعلم في أيّها هو حين ينزل في ظهر الكوفة، فهذا حين ينزل »(3).فهو تأويل للآية، كالرّواية الاخرى، عنه عليه السّلام قال:

«كأنّي بقائم أهل بيتي قد علا نجفكم، فإذا علا فوق نجفكم نشر راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإذا نشرها انحطّت عليه ملائكة بدر »(4).

و قال: «إنّه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة على الفاروق، فهذا حين ينزل، و أمّا قُضِيَ الْأَمْرُ فهو الوسم على الخرطوم يوم يوسم الكافر»(5) فتأويل.

و يمكن أن يكون المعنى: هل ينتظر هؤلاء الكفرة في تأخيرهم الايمان مجيء وقت لا ينفع الذين كفروا إيمانهم و لا هم يستعتبون ؟ و هذا الوقت إمّا وقت نزول عذاب الاستئصال بالغمام و الملائكة، كعذاب قوم شعيب، أو وقت ظهور القائم المنتظر عليه السّلام، و رفع التّوبة، و هو القيامة الصّغرى، أو يوم القيامة الكبرى.

ص: 437


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 367/629.
2- تفسير القمي 77:2، و الآية من سورة الرحمن: 33/55.
3- تفسير العيّاشي 405/214:1.
4- تفسير العيّاشي 406/214:1.
5- تفسير العياشي 407/215:1.

و إن كان الأظهر و الأشهر ما ذكرنا من حمل رواية التّفسير، أو هي مع رواية القمّي رحمه اللّه عن الباقر عليه السّلام على التّفسير، و حمل رواية العيّاشي و ما هو على مضمونه على البطن و التأويل.

سورة البقرة (2): آیة 211

اشارة

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)

سورة البقرة (2): آیة 211 ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال الكفّار و المنافقين، و شدّة لجاجهم على الباطل، و تهديد المعاندين للحقّ على الزّلل و العصيان؛ ذكر حال امّة موسى عليه السّلام و شدّة جهلهم و عنادهم للحقّ بعد ظهور الآيات لهم مبالغة في زجر حاضري عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسلية لقلبه الشريف بقوله: سَلْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ لا لتحصيل العلم، بل لأخذ الاعتراف منهم و التّبكيت و التّقريع عليهم كَمْ آتَيْنٰاهُمْ و أنزلنا إليهم مِنْ آيَةٍ و معجزة أو دلالة بَيِّنَةٍ ظاهرة واضحة على صدق الأنبياء، إذ إنّ

في الكتب السماوية التي عندهم دلالة ظاهرة على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و من الواضح أنّ كلّ واحد من المعجزات الدّالّة على صدق الأنبياء، و الآيات الدّالّة على صحّة دين الإسلام و صدق محمّد نعمة عظيمة موجبة لهدايتهم إلى الحقّ ، و نجاتهم من الضّلال، فبدّلوا هذه النعمة بأن جعلوها سببا لضلالهم، إن كان المراد من الآية معجزات الأنبياء، أو بأن حرّفوها، إن كانت آيات الكتب، و شواهد صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دينه.

وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ و يغيّرها عن جهتها أو يحرّفها مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ النّعمة، يعاقبه اللّه بعقوبة شديدة فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لأنّه عظيم الجرم.

سورة البقرة (2): آیة 212

اشارة

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)

سورة البقرة (2): آیة 212

ثمّ ذكر اللّه سبحانه سبب تغييرهم النّعمة و تبديلهم الآيات بقوله: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بنعمة اللّه، و حسنت في أعينهم اَلْحَياةُ الدُّنْيا و أمتعتها و لذائذها لضعف عقولهم و قوّة شهواتهم وَ لذا يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا و يستهزءون بهم حيث تركوا الدّنيا و زهدوا فيها و اختاروا الآخرة.

عن ابن عبّاس: نزلت في أبي جهل و رؤساء قريش، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد اللّه

ص: 438

بن مسعود، و عمّار، و خبّاب، و سالم مولى أبي حذيفة، و عامر بن فهيرة، و أبي عبيدة بن الجرّاح، بسبب ما كانوا فيه من الفقر و الضّر، و الصّبر على أنواع البلاء، مع أنّ الكفّار كانوا في النّعم و الرّاحة(1).

و قيل: نزلت في رؤساء اليهود و علمائهم من بني قريظة و النّضير و القينقاع، سخروا من فقراء المسلمين المهاجرين حيث اخرجوا من ديارهم و أموالهم(2).

و قيل: نزلت في المنافقين عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه، كانوا يسخرون من ضعفاء المسلمين و [فقراء] المهاجرين(3).

أقول: و يمكن القول بنزولها في جميعهم.

وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا و اجتنبوا مخالفة أحكام اللّه من المؤمنين فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنّ المتّقين في أعلى علّيّين و الدّرجة الرفيعة من الجنان، و الساخرين في أسفل السّافلين من النّار و حضيض الذلّة و الهوان. و يحتمل أن يكون تفوّقهم من حيث السّخرية، فإنّ سخرية المؤمنين في القيامة فوق سخرية الكفّار في الدنيا.

ثمّ أنّه لمّا كان للكفّار أن يقولوا: اذا كان المؤمنون المتّقون أكرم عند اللّه فلم يعيشون في الشدّة و الفقر؟ فردّهم بقوله: وَ اللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من خلقه في الدّنيا بِغَيْرِ حِسابٍ و تقدير، فيوسّع استدراجا تارة، و ابتلاء اخرى، أو المراد أنّ رزق الدّنيا قليل، و يرزق في الآخرة من يشاء من عباده بغير حساب و ينعّم المؤمنين في الجنّة بلا إحصاء.

سورة البقرة (2): آیة 213

اشارة

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

سورة البقرة (2): آیة 213

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ هذه المعاندة و المشاقّة مع الأنبياء ليست ممّا حدث في هذا الأوان أو بعد موسى، بل كانت من قديم الزّمان قبل نوح و بعد آدم، بقوله: كانَ النّاسُ جميعهم في أوّل الأمر بعد وفاة آدم أُمَّةً واحِدَةً و جماعة مجتمعين على الجهل، لا يدرون ما الإيمان و ما الكفر و ما

ص: 439


1- تفسير الرازي 5:6. (2و3) تفسير الرازي 5:6.

الشّرك، و كانوا على الفطرة و الاستعداد لقبول الحقّ ، كما عن (المجمع) عن الباقر عليه السّلام: «أنّهم كانوا قبل [نوح] امّة واحدة على فطرة اللّه، لا مهتدين و لا ضلاّلا»(1) الخبر.

فَبَعَثَ اللّهُ فيهم اَلنَّبِيِّينَ حال كونهم مُبَشِّرِينَ للمؤمنين بوحدانيّته و أنبيائه و شرائعه، بفضله و ثوابه وَ مُنْذِرِينَ للكافرين بها من عقابه.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام قال: «كان [النّاس] قبل نوح امّة ضلال، فبدا للّه فبعث النبيّين، و ليس كما يقولون: لم يزل، [و] كذبوا، يفرق [اللّه] في ليلة القدر ما كان من شدّة أو رخاء أو مطر بقدر ما شاء أن يقدّر إلى مثلها»(2) الخبر.

لعلّ المراد أنّ اللّه لم يترك الخلق سدى، و ما كانت يده مغلولة، فكما أنّه يدبر أمور معاشهم في كلّ آن و يقدّرها في كلّ سنة، كذلك يدبّر امور دينهم ببعث الرّسل.

إشكال و حلّ

فإن قلت: يلزم على الرّوايتين أن يكون زمان [ما] خاليا من الحجّة، و هو خلاف ما عليه الإماميّة و ما دلّت عليه الرّوايات المتظافرة إن لم تكن متواترة.

قلت: لعلّ التّرتّب المستفاد من الفاء هو التّرتّب العقليّ لا الزّماني، فإن النّبيّ و إن كان قبل الخلق، و لكن البعث لا يتحقّق إلاّ بعد وجود المبعوث إليه، فيكون مفاد الآية - و اللّه العالم - أنّه لو لم يكن بعث النّبيّين، لم يكن اختلاف بين النّاس لأنّ كلّهم كانوا جهّالا و ضلاّلا، فلمّا بعث الرّسل حدث الاختلاف بينهم، و لم يحدث إلاّ بوجود الاخلاق الرّذيلة من الحسد و البغي على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

توضيح بتمثيل

و هذا نظير ما قيل من أنّ الأجسام ليس لها لون و إنّما اللّون إذا أشرقت الأجسام، فإذا وقع الشّعاع على الجسم فبحسب الاستعداد الّذي يكون للجسم يحصل للنّور لون مناسب لما في كون الجسم من الاستعداد و الخصوصيّة، ففي الحقيقة الألوان المختلفة تكون للنّور لا للجسم، و انّما يظهر كلّ لون من الألوان للنّور بسبب انعكاسه على الجسم الذي تكون فيه خصوصيّة مناسبة لذلك اللّون، فكذلك النّفوس البشريّة ليس فيها فعليّة الاختلاف في الإيمان و الكفر، و لو لم يكن إشراق نور شمس النبوّة و الهداية، كانت جميع النّفوس متساوية. فإذا أشرق نور النبوّة ظهر الاختلاف فيهم بالإيمان و الكفر على حسب اختلاف الاستعدادات و الخصوصيّات، فمن كانت نفسه مستعدّة لقبول الحقّ ، و لم يغلب عليها الحسد و البغي يكون من أهل الإيمان على اختلاف مراتبه، و من فيه الخباثة

ص: 440


1- مجمع البيان 543:2.
2- الكافي 40/82:8، تفسير الصافي 224:1.

و الحسد و حبّ الجاه يكون من أهل الكفر و العناد على اختلاف مراتبهما.

و يمكن أن يقال كما قيل: إنّ الخلق قبل بعث الرّسل - حتّى آدم عليه السّلام - كانوا على العقائد العقليّة، كوحدة الصّانع، و الأحكام العقليّة كوجوب شكره و قبح الظّلم و الكذب، و حسن العدل و الاحسان و غير ذلك، فلمّا نزلت الأحكام الشرعية من العبادات و السياسات على آدم عليه السّلام و بعث على أولاده انقادوا له، ثمّ حصل الاختلاف بين قابيل و هابيل، و ابدع الكفر.

ثمّ بعد وفاة آدم عليه السّلام و بعد برهة من الزّمان نسوا الشّرائع الالهيّة و رجعوا إلى الشرائع العقليّة، ثمّ بعث اللّه النبيّين، ثمّ اختلفوا لأسباب مفصّلة، و للأخلاق الرّذيلة.

و اشير إلى هذا المعنى فيما روي عن الصادق عليه السّلام قال: «[كان] هذا قبل بعث نوح، كانوا امّة واحدة فبدا للّه فأرسل الرّسل قبل نوح».

قيل: أعلى هدى كانوا أم على ضلال ؟ قال: «بل كانوا ضلاّلا، لا مؤمنين و لا كافرين و لا مشركين »(1).

و في رواية عنه عليه السّلام قال: «ذلك أنّه لمّا انقرض آدم و صالح ذرّيّته، بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين اللّه الذي كان عليه آدم و صالح ذرّيّته، و ذلك أنّ قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فسار فيهم بالتقيّة و الكتمان فازدادوا كلّ يوم ضلالا حتّى لحق الوصيّ بجزيرة في البحر يعبد اللّه، فبدا للّه تبارك و تعالى أن يبعث الرّسل. و لو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا: قد فرغ من الأمر، و كذبوا، إنّما شيء يحكم به اللّه في كلّ عام [ثمّ قرأ]: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (2) فيحكم اللّه تعالى ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء، أو مطر أو غير ذلك».

قيل: أ في ضلالة كانوا قبل النبيّين أم على هدى ؟ قال: «لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة اللّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللّه، و لم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم اللّه، أ ما تسمع قول إبراهيم عليه السّلام: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ (3) ؟أي ناسيا للميثاق»(4) الخبر.

في ذكر غيبة القائم عليه السّلام و عدم استلزامها منع اللطف

و ليعلم أنّ غيبة شيث كغيبة القائم المنتظر عليه السّلام في آخر الزّمان، و لا يلزم منها منع لطف على اللّه، فإنّ تأسيس الدّين و إتمام الحجّة على الخلق كان سببه النبيّ الشارع و الأوصياء بعد الأنبياء، الذين هم ذوو الشرائع كوصيّ خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله حفّاظ

ص: 441


1- تفسير العياشي 410/215:1، تفسير الصافي 224:1.
2- الدخان: 4/44.
3- الأنعام: 77/6.
4- تفسير العياشي 413/216:1، تفسير الصافي 224:1.

للشّرع، فإذا منعوا عن إظهار الحقّ و حفاظته، و اتّقوا من الجبابرة، لم يكن للنّاس على اللّه حجّة لكون ذلك بسوء اختيارهم، مع أنّ بركاتهم في غيبتهم متّصلة إلى الموادّ المستعدّة، لو توجّهوا إليهم و استمدّوا منهم.

ثمّ توصيفهم [في كتاب] اللّه تعالى بأنّهم مبشّرين و منذرين دلالة على أنّ الأحكام و الشرائع لو لم يقترنا بالتّبشير بالثّواب و الأجر و الإنذار بالعذاب أو العقاب لكان جعلها لغوا، حيث إنّه لو لم يكن الطّمع و الخوف، لم يعمل أحد بحكم من الأحكام، و لا يجري شرع من الشّرائع في الأنام.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لم يقنع في الهداية بإرسال الرّسل، بل وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ متلبّسا بِالْحَقِّ و دلائل الصّدق.

و الظاهر أنّ المراد بالكتاب جنسه، فإنّ المرويّ أنّ عدد الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألفا، و المرسل منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، و المذكور منهم في القرآن [باسم العلم] ثمانية و عشرون(1) و لم ينزل مع كلّ واحد منهم كتاب، بل الأنبياء بعد موسى عليه السّلام كان كتابهم هو التّوراة، و كانوا حافظين لأحكامها، و كذلك الأنبياء بعد عيسى عليه السّلام كان كتابهم الإنجيل، و كانوا حافظين له، و إن كان لبعض النّبيّين كداود عليه السّلام كتاب و لكن لم يكن فيه أحكام.

لِيَحْكُمَ النّبيّ أو الكتاب المنزل عليه بَيْنَ النّاسِ و ليكون المرجع عندهم فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الحقّ و الدّين وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ و انزل إليهم لرفع الاختلاف من بينهم، فجعلوا الكتاب الذي انزل لرفع الاختلاف وسيلة لشدّة الاختلاف مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ

و الدّلائل الواضحات على الحقّ بحيث لم يكن مجال لأن يشتبه عليهم، و إنّما كان الاختلاف بَغْياً

و ظلما و حسدا بَيْنَهُمْ لحرصهم على الدّنيا و زخارفها.

فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا منهم، و هم امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لِمَا اخْتَلَفُوا سائر النّاس فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ و تبيينه و توفيقه لفهمه و قبوله.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة، و نحن أوّل النّاس دخولا في الجنّة يوم القيامة، بيد أنّهم اوتوا الكتاب من قبلنا و اوتيناه من بعدهم، فهدانا اللّه لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، فهذا اليوم الذي هدانا اللّه (2) ،و النّاس لنا فيه تبع، و غدا لليهود، و بعد غد للنّصارى »(3).

ص: 442


1- راجع: تفسير البيضاوي 115:1.
2- في تفسير الرازي: هدانا له.
3- تفسير الرازي 16:6.

قيل: إنّ النّاس اختلفوا في القبلة، فصلّت اليهود إلى بيت المقدس، و النّصارى إلى المشرق، فهدانا اللّه للكعبة، و اختلفوا في الصّيام، فهدانا اللّه لشهر رمضان، و اختلفوا في إبراهيم عليه السّلام فقالت اليهود: كان يهوديّا، و قالت النّصارى: كان نصرانيّا. فقلنا: إنّه كان حنيفا مسلما. و اختلفوا في عيسى عليه السّلام فاليهود فرّطوا، و النّصارى أفرطوا، و قلنا القول العدل(1).

وَ اللّهُ بلطفه و فضله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بحسب الاستعداد و الطّينة إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

موصل إلى الحقّ القويم، فإنّ الهداية و الضّلالة لا تكون إلاّ بتوفيق اللّه و خذلانه.

سورة البقرة (2): آیة 214

اشارة

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214)

سورة البقرة (2): آیة 214

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن أنّ المؤمنين هم المهتدون إلى الحقّ و إلى طريق مستقيم - و من الواضح أنّ العقائد الحقّة لا بدّ أن تكون مؤثرا في القلب بحيث تبعث الجوارح على الأعمال الشّاقّة في جنب اللّه، فالفتور في الجوارح عن القيام بالوظائف الإلهيّة لا يكون إلا لضعف اليقين و عدم رسوخ الحقّ في القلب - بيّن أنّ امتحان المهتدين إلى الحقّ الموجب لدخول الجنّة لا يكون إلا بالصّبر على الطّاعة كما صبر السّابقون من أهل الايمان، بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ .

قيل: إنّ التّقدير: فصبر الذين هدوا إلى الحق على الشّدائد، فتسلكون سبيلهم أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ من دون تحمّل المشاقّ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ و لم ينزل عليكم بعد مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا

و مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ من المؤمنين و لم تتحملوا مثل ما تحمّلوه من البلايا التي كانت في الشّدّة مثلا.

ثمّ كأنّه قيل: كيف كان مثلهم ؟ فبيّنه تعالى بقوله: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ من الخوف و الفاقة وَ الضَّرّاءُ من القتل و الأمراض، و الخروج عن الأهل و المال وَ زُلْزِلُوا و ازعجوا إزعاجا شديدا لمّا دهمتهم الأهوال و الأفزاع حَتّى بلغت الشدّة إلى أن يَقُولَ الرَّسُولُ مع أنّه أصبر النّاس و أعلمهم بتأييد اللّه و نصره وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و اقتدوا به: مَتى نَصْرُ اللّهِ و أيّ وقت يكون عونه ؟ قد أبطأ إنجاز وعده و طال زمان الشّدّة و العناء بنا، و عجز الصّبر عن تحمّل البلاء. فإذا بلغت

ص: 443


1- تفسير الرازي 16:6.

بهم المحنة إلى الغاية و الضّرّ و البؤس إلى هذه الدّرجة العظيمة، قيل لهم: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ .

و الحاصل: أنّ المؤمنين الذين خلوا، كانوا في هذه المرتبة من البلاء و المحن، و صبروا و لم يتغيّر دينهم حتّى أتاهم النّصر و الفرج، فكونوا أيّها المسلمون كذلك.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «حفّت الجنّة بالمكاره، و حفّت النّار بالشّهوات »(1).

و روي عن خبّاب بن الأرتّ ، قال: شكونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما نلقى من المشركين، فقال: «إنّ من كان قبلكم من الامم كانوا يعذّبون بأنواع البلاء، فلم يصرفهم ذلك عن دينهم، حتّى أنّ الرّجل يوضع على رأسه المنشار فيشقّ فلقتين، و يمشّط الرّجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من اللّحم و العصب، و ما يصرفه ذلك عن دينه، و ايم اللّه ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا اللّه و الذئب على غنمه، و لكنّكم تعجلون »(2).

و عن ابن عبّاس: لمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة اشتدّ الضّرر عليهم، لأنّهم خرجوا بلا مال و تركوا ديارهم و أموالهم في أيدي المشركين، و أظهرت اليهود العداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأنزل اللّه تطييبا لقلوبهم أَمْ حَسِبْتُمْ (3).

و قيل: إنّها نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد و الحزن، و كان كما قال سبحانه: بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (4).

و قيل: نزلت في حرب احد لمّا قال عبد اللّه بن ابيّ لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إلى متى تقتلون أنفسكم و ترجون الباطل ؟ و لو كان محمّد [نبيا] لما سلّط اللّه عليكم الأسر و القتل، فأنزل اللّه هذه الآية (5).و يمكن الجمع بينهما بالقول بتكرّر النزول.

سورة البقرة (2): آیة 215

اشارة

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

سورة البقرة (2): آیة 215

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الصّبر على الضّراء من وظائف الإيمان، و كان الإنفاق في سبيل اللّه أيضا من وظائف الإيمان، حكى اللّه تعالى سؤال المؤمنين عن خصوصيّاته بعد حثّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

ص: 444


1- نهج البلاغة: 251 الخطبة 176.
2- تفسير الرازي 20:6.
3- تفسير الرازي 19:6.
4- تفسير الرازي 19:6، و الآية من سورة الأحزاب: 10/33.
5- تفسير الرازي 19:6.

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ .

عن ابن عبّاس: أنّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح و كان شيخا كبيرا هرما، و هو الذي قتل يوم احد و عنده مال عظيم، فقال: ما ذا ننفق من أموالنا و أين نضعها؟ فنزلت هذه الآية (1).فأجاب اللّه عن السؤالين بقوله: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أيّ خير كان فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ و قد مرّ تفسير جميعها و وجه ترتيبها(2).

و عن ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في رجل أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ لي دينارا. فقال: «أنفقه على نفسك» قال: إنّ لي دينارين، قال: «أنفقهما على أهلك» قال: إنّ لي ثلاثة. قال: «أنفقها على خادمك».

قال: إنّ لي أربعة ؟ قال: «أنفقها على والديك». قال: إنّ لي خمسة. قال: «أنفقها على قرابتك». قال: إنّ لي ستّة. قال: «أنفقها في سبيل اللّه، و هو أحسنها »(3).

و عدم التعرّض في الآية للسائلين و في الرّقاب لعلّه لدخولها تحت عموم قوله: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنّه عامّ لكلّ ما فيه مرضاة اللّه من العبادات و الصّدقات، و في قوله: فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ وعد بالثّواب العظيم.

سورة البقرة (2): آیة 216

اشارة

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)

سورة البقرة (2): آیة 216

ثمّ أنّه سبحانه بعد التّرغيب في الإنفاق في سبيل اللّه - الذي هو الجهاد بالأموال - حثّ على الجهاد بالأنفس.

قيل: لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مأذونا في القتال مدّة إقامته في مكّة، فلمّا هاجر إلى المدينة اذن له في قتال من يقاتله من المشركين، ثمّ اذن له في قتال عامّتهم، و فرض اللّه عليه الجهاد(4) بقوله: كُتِبَ و فرض عَلَيْكُمُ الْقِتالُ مع الكفّار وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ غير ملائم لطباعكم البشريّة، لأنّ فيه الإقدام على بذل المهج و تحمّل المشاقّ ، و خطر الرّوح، و إن كان المؤمن بعد أمر اللّه يحبّه و يشتاق إليه على خلاف الطبيعة، و إطلاق الكره للمبالغة و هو بمعنى المكروه.

ص: 445


1- تفسير الرازي 23:6.
2- الآية (177) من هذه السورة.
3- تفسير الرازي 22:6.
4- تفسير الرازي 26:6.

وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً لما ترون فيه من المشقّة و الضّرر على النّفس و المال من غير صلاح ظاهر وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في الحقيقة، و صلاحكم في الواقع، كما أنّ المريض إذا كان جاهلا بنفع شرب الدّواء المرّ النّتن، لا يتحمّل شربه إلاّ بكره و جبر، بخلاف ما إذا علم بكون شفائه في شربه، فإنّه يشتاق إليه أكثر من اشتياقه إلى شرب الأشربة الحلوة الطيّبة.

وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً و تشتاقوا إليه لجهلكم بضرّه و شرّه، و موافقته لطباعكم وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ

يكون فيه فسادكم و هلاككم، فإنّ الطّفل يشتاق إلى أن يلعب بالحيّة لحسن منظرها و لين لمسها، و جهله بأنها قاتلة، و أنّ في قربها هلاكه.

وَ اللّهُ يَعْلَمُ واقع صلاح الأشياء و فسادها وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئا إلاّ بتعليم اللّه، فما أمركم به فاعلموا أنّ فيه خيركم و صلاحكم، و لا تنظروا إلى كونه مكروها لطباعكم أو مفسدة في اعتقادكم، فعليكم البدار إلى طاعة أوامره و لو كان بإلقاء أنفسكم في المهالك و تحت أظلّة السّيوف.

في دفع توهّم التنافي بين التكاليف الشرعية الشاقة و بين نفي الحرج

فإن قيل: التّكليف بالأعمال الشاقّة و الحرجيّة و الضّرريّة ينافي قوله سبحانه: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) و قوله: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (2) و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام »(3).

قلنا: المراد من العسر و الحرج و الضّرر، ما يكون بجهات طارئة على متعلّق التّكليف، لا ما هو في نوع المكلّف به و حقيقته، مثلا التّكليف بالجهاد و الزّكاة يكون في نوعهما الضّرر و الحرج، و هما باللّحاظ الأوّليّة مقتضي لثبوت التّكليف لا رافع له، و لا يمكن أن يكون مقتضي الشيء مانعا عنه أو رافعا له، بخلاف العسر و الحرج و الضّرر الطارئ على التكليف، كأن يكون المكلّف مريضا أو يكون أداء الزّكاة موجبا - اتّفاقا - لضرر بذل مال آخر في إيصاله إلى الفقير، فإنّ دليل نفي الحرج و الضّرر رافع للتّكليف في هذه الصّورة و لا منافاة.

و الحاصل: أنّ مفاد قوله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أنّ اللّه تعالى أراد من كلّ عمل أمركم به، الصنف الذي ليس فيه مشقّة زائدة على ما اقتضته طبيعة ذلك العمل، و لم يرد منكم الصّنف الذي فيه الضّرر و العسر الزائد بالنسبة إلى أصل الطّبيعة المأمور بها، مثلا الوضوء بالماء، مع كون المشقّة العظيمة في تحصيله و إن كان موجبا للطّهارة و لكنّ اللّه لم يرض بتحمّل تلك المشقّة

ص: 446


1- الحج: 78/22.
2- البقرة: 185/2.
3- من لا يحضره الفقيه 777/243:4.

لعباده إذا كان في التّيمّم بالتّراب مصلحة مقتضية لبدليّته عن الوضوء في تلك الحال، ففي صورة عدم وجدان الماء لم يكلّفنا اللّه بتحصيل الماء و تحمّل المشقّة و الحرج له، بل اكتفى بعمل الطّهور السّهل الذي لا مشقّة فيه، و هو التيمّم بالتّراب.

سورة البقرة (2): الآیات 217 الی 218

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

سورة البقرة (2): آیة 217

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر بالقتال و أوجبه، سأل الكفّار عن حكمه في الأشهر الحرم، فحكى اللّه ذلك السؤال توطئة لجوابه بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ عن قِتالٍ فِيهِ و قيل: إنّ السائلين هم المسلمون، و كان السؤال بعد واقعة عبد اللّه بن جحش الأسدي، و هو ابن عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(1).

عن ابن عبّاس رحمه اللّه أنّه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث عبد اللّه بن جحش قبل قتال بدر بشهرين، و بعد سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة في ثمانية رهط ، و كتب له كتابا و عهدا دفعه إليه و أمره أن يفتحه بعد منزلتين، و يقرأه على أصحابه و يعمل بما فيه، فإذا فيه: «أمّا بعد، فسر على بركة اللّه بمن اتّبعك حتّى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخير».

فقال عبد اللّه: سمعا و طاعة لأمره، فقال لأصحابه: من أحبّ منكم الشّهادة فلينطلق معي فإنّي ماض لأمره، و من أحبّ التخلّف فليتخلّف، فمضى حتّى بلغ بطن نخل بين مكّة و الطّائف. فمرّ عليهم عمرو بن الحضرمي و ثلاثة معه، فلمّا رأوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلقوا رأس واحد منهم و أوهموا بذلك أنّهم قوم عمّار (2) ،ثمّ أتى واقد بن عبد اللّه الحنظليّ - و هو أحد من كان مع عبد اللّه بن جحش - و رمى عمرو بن الحضرمي فقتله، و أسروا اثنين و ساقوا العير بما فيه حتّى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 447


1- مجمع البيان 551:2.
2- أي قادمون للعمرة.

فضجّت قريش و قالوا: قد استحلّ محمّد الشّهر الحرام، شهرا يأمن فيه الخائف، فيسفك فيه الدّماء، و المسلمون أيضا قد استبعدوا ذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام».

فقال عبد اللّه بن جحش: يا رسول اللّه، إنّا قتلنا ابن الحضرمي، ثمّ أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب، فلا ندري أ في رجب أصبناه أم [في] جمادى. فوقّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العير و الاسارى فنزلت [هذه الآية]، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغنيمة(1).

و عن القمّي رحمه اللّه في رواية: فكتبت قريش إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك استحللت الشّهر الحرام، و سفكت فيه الدّم، و أخذت المال. و كثر القول في هذا. قال الصحابة: يا رسول اللّه، أ يحلّ القتل في الشّهر الحرام ؟ فنزلت(2).

و عن ابن عبّاس [أنّه] قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما سألوه إلاّ عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ (3) أي عن قتال فيه.

و قيل: سأل الكفّار عن هذا حتّى لو أخبرهم بأنّه حلال فتكوا به و استحلّوا قتاله فيه (4) ،فأجابهم اللّه بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: قِتالٍ فِيهِ أيّ قتال كان هو إثم كَبِيرٌ و ذنب عظيم.

و قيل: إنّ تنكير القتال في الجواب لإظهار أنّ القتال الذي هو إثم كبير ليس قتال عبد اللّه بن جحش الذي كان لاشتباه الشّهر، أو لنصرة الإسلام و إذلال الكفر أو للدّفاع، بل قتال آخر، و هو القتال الذي فيه هدم الإسلام، أو سائر الأغراض الفاسدة (5).وَ صَدٌّ مخصوص عَنْ سَبِيلِ اللّهِ و هو منع النّاس عن الإيمان باللّه، أو منع المسلمين من أن يهاجروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو منعهم عن العمرة عام الحديبية، و على هذا الاحتمال يكون إخبارا بما وقع بعد مدّة وَ كُفْرٌ بِهِ أي باللّه.

و قيل: المراد: الكفر بأنّه مرسل الرّسول و كونه مستحقّا للعبادة و قادرا على البعث(6).

وَ صدّ عن اَلْمَسْجِدِ الْحَرامِ بناء على أن يكون عطفا على سبيل اللّه، أو المراد: و الكفر بالمسجد الحرام، بناء على كونه عطفا على الضّمير المجرور قبله. و المراد من الكفر بالمسجد: منع المسلمين عن الصّلاة فيه و زيارة البيت و الطّواف به وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ و هم الرّسول و المؤمنون

ص: 448


1- تفسير الرازي 29:6.
2- تفسير القمي 72:1.
3- تفسير الرازي 30:6.
4- تفسير الرازي 30:6.
5- تفسير الرازي 31:6.
6- تفسير الرازي 34:6.

مِنْهُ أي من المسجد، كلّ واحد من هذه الامور إثم من قريش أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ و في علمه من قتال سريّة و قتل ابن الحضرميّ في الشّهر الحرام؛ لأنّ القتال فيه قد يحلّ و الكفر باللّه لا يحلّ بحال.

قيل: إنّ عدّه المسلمين من أهل المسجد مع كونهم خارجين عن مكّة، لكونهم قائمين بأداء وظائفه حافظين لحدوده(1).

وَ الْفِتْنَةُ و الفساد في الأرض، و قيل: إنّ المراد منها الشّرك باللّه و إخراج أهل المسجد (2)أَكْبَرُ

وزرا، و أشدّ قبحا مِنَ الْقَتْلِ الصادر من المسلمين على سبيل الخطأ، و بظنّ عدم دخول الشّهر الحرام.

نقل أنّه لمّا نزلت، كتب عبد اللّه بن أنيس إلى مؤمني مكّة: إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشّهر الحرام، فعيّروهم أنتم بالكفر و إخراج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكّة، و منعهم المسلمين عن البيت(3).

ثمّ بيّن سبحانه، أنّهم كيف يعيّرونكم على قتل واحد وَ هم لا يَزالُونَ في جميع الأوقات يُقاتِلُونَكُمْ و يديمون على عداوتكم و لا ينفكّون عنها حَتّى يَرُدُّوكُمْ و كي يصرفوكم عَنْ دِينِكُمْ الحقّ إلى دينهم الباطل إِنِ اسْتَطاعُوا و أنّى لهم ذلك لتصلّبكم في إيمانكم، و ثباتكم في دينكم، و فيه تطييب لقلوب المؤمنين.

ثمّ أنّه تعالى بعد استبعاد ارتداد أهل الإيمان، أخذ في تحذير من يرتدّ بإضلالهم، بقوله: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ و ينصرف مِنْكُمْ أيّها المسلمون عَنْ دِينِهِ الحقّ إلى الباطل، و عن التّوحيد إلى الشّرك فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ و لم يتب عن ارتداده، و لم يرجع إلى الإسلام، و فيه ترغيب في الرّجوع إلى الاسلام بعد الارتداد و قبل الموت، و دلالة على قبول توبة المرتدّ فَأُولئِكَ المرتدّون البعيدون عن رحمة اللّه حَبِطَتْ و ضاعت أَعْمالُهُمْ الصالحة التي عملوها حال إسلامهم، و لا يترتّب عليها نفع و أثر خير فِي الدُّنْيا فإنّ للأعمال الخيريّة آثارا و فوائد دنيويّة كحسن الذّكر عند المؤمنين، و طلب المغفرة له منهم، و جواز المناكحة، و الموادّة، و ألطاف خاصّة من اللّه في أعقابه.

روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه ليصلح لصلاح(2) المؤمن ولده و ولد ولده، و يحفظه في دويرته و دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ اللّه لكرامته على اللّه»(3) الخبر. فبالارتداد تزول تلك الآثار

ص: 449


1- تفسير الرازي 34:6. (2و3) تفسير روح البيان 335:1.
2- في تفسير العياشي: بصلاح الرجل.
3- تفسير العياشي 2687/106:3.

و الكرامات الدنيويّة، بل يجب قتله عند الظّفر به.

وَ في اَلْآخِرَةِ فإنّهم لا يثابون عليها فيفوتهم ثوابها في الدّارين، و فيه دلالة على اشتراط حبط الأعمال، و ثوابها، و الخلود في النّار، بالموت على الكفر.

وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ و ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ لا مناص و لا خلاص لهم منها أبدا.

سورة البقرة (2): آیة 218

ثمّ روي أنّه قال عبد اللّه بن جحش: يا رسول اللّه، هب أنّه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا و ثوابا؟ فأنزل اللّه تعالى (1)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.

و قيل: إنّه قال قوم: إنّ أصحاب السّريّة إن سلموا من الإثم فلا أجر لهم، فنزلت: (2)وَ الَّذِينَ هاجَرُوا من أوطانهم طلب صحبة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ و طلب مرضاته - و في ذكر الأوصاف إيماء إلى عبد اللّه و أصحابه حيث إنّهم كانوا مؤمنين مهاجرين مجاهدين - أُولئِكَ يَرْجُونَ بأعمالهم الصّالحة رَحْمَتَ اللّهِ و ثوابه. و التّعبير بالرّجاء لأنّ المؤمن لا يزال في خوف و رجاء، و لا يقطع بالفلاح إلاّ عند الاحتضار.

وَ اللّهُ غَفُورٌ لزلاّت المؤمنين رَحِيمٌ بهم بإجزال الأجر.

سورة البقرة (2): الآیات 219 الی 220

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

سورة البقرة (2): آیة 219

و السؤال الرابع من المسلمين، ما بيّنه اللّه بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ و عن حكم شرب المسكر، أ حلال شربه أم حرام ؟

قيل: نزلت في الخمر أربع آيات، نزلت بمكّة آية وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً (3) فطفق المسلمون يشربونها، ثمّ إنّ جمعا من الصّحابة قالوا: أفتنا يا رسول اللّه في الخمر، فإنّها مذهبة للعقل ؟ فنزلت هذه الآية، فشربها قوم و تركها آخرون، ثمّ دعا عبد الرحمن بن

ص: 450


1- تفسير الرازي 39:6.
2- مجمع البيان 553:2، تفسير البيضاوي 118:1.
3- النحل: 67/16.

عوف ناسا منهم، فشربوا و سكروا، و قام أحدهم فقرأ: قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون، إلى آخر الخبر(1).

وَ عن اَلْمَيْسِرِ و هو كلّ ما قومر عليه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير الميسر: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه فهو [من] الميسر »(2).

قُلْ فِيهِما و في استعمالهما إِثْمٌ كَبِيرٌ و ذنب عظيم.

في ذكر مفاسد شرب الخمر و القمار

روي عن الصادق عليه السّلام قال: «الخمر رأس كلّ إثم، و مفتاح كلّ شرّ »(3).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الملائكة لتنفر عند الرّهان، و تلعن صاحبه، ما خلا الحافر، [و الخفّ ] و الرّيش، و النّصل»(4) الخبر.

و اعلم أنّ مفاسد الخمر و الميسر أظهر من أن تخفى على ذي مسكة (5) ،أمّا الخمر فأظهر مفاسدها أنّها مذهبة للعقل.

نقل عن العباس بن مرداس أنّه قيل له في الجاهليّة: لم لا تشرب الخمر فإنّها تزيد في جرأتك ؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، و لا أرضى أن اصبح سيّد قوم و امسي سفيههم(6).

و قال بعض: لو كان العقل يشرى ما كان شيء أنفس منه، فالعجب لمن يشتري الحمق بماله فيدخله في رأسه فيقيء في جيبه و يسلح في ذيله(7).

و أمّا الميسر، فأظهر مفاسده أنّه مذهب للمال لاه عن ذكر اللّه، و من مفاسدهما أنّ تعاطيهما موقع في العداوة و البغضاء كما قال اللّه تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ (8).

ثمّ ذكر سبحانه مقتضى إباحتها بقوله: وَ فيهما مَنافِعُ كثيرة جسمانيّة و مادّية لِلنّاسِ .

قيل: إنّ من منافع الخمر أنّ النّاس كانوا يتعاملون(9) بها إذا جلبوها من النّواحي، و كان المشتري إذا ترك المماكسة(10) في الثّمن، كانوا يعدّون ذلك فضيلة له فكانت تكثر أرباحهم(11).

ص: 451


1- تفسير أبي السعود 218:1.
2- أمالي الطوسي: 681/336.
3- الكافي 4/403:6، تفسير الصافي 227:1.
4- من لا يحضره الفقيه 88/30:3.
5- المسكة: العقل.
6- تفسير الرازي 46:6.
7- تفسير روح البيان 340:1.
8- المائدة: 91/5.
9- في تفسير الرازي: يتغالون، أي يبيعونها بثمن غال.
10- أي التقليل من الثمن.
11- تفسير الرازي 47:6.

و منها: أنّه يقوّي الضّعيف، و يهضم الطّعام، و يعين على الباه (1) ،و يسلّي المحزون، و يشجّع الجبان.

و قيل: إنّ من منافع الميسر التّوسعة على ذوي الحاجة(2).

نقل عن الواقدي أنّه قال: كان الواحد منهم ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له مال كثير ثمّ يصرفه في المحتاجين، فيكتسب منه المدح و الثّناء(3).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ مقتضى الحرمة فيهما آثم و أقوى من مقتضى الإباحة، بقوله: وَ إِثْمُهُما

و ضررهما أَكْبَرُ و أعظم مِنْ نَفْعِهِما لأنّ ضررهما روحانيّ و نفعهما جسمانيّ ، و لا يعادل أضعاف ما يتصوّر لهما من النّفع لأقلّ قليل من غيرهما.

روي من طرق العامّة أنّ جبرئيل عليه السّلام قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تعالى شكر لجعفر بن أبي طالب أربع خصال كان عليها في الجاهليّة و هو عليها في الإسلام. فسأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعفرا عن ذلك فقال: يا رسول اللّه، لو لا أنّ اللّه أطلعك عليها لما أخبرتك بها: ما شربت الخمر قطّ ، لأنّي رأيتها تزيل العقل، و أنا إلى أن أزيد فيه أحوج منّي إلى أن ازيله، و ما عبدت صنما قطّ لأنّي رأيته لا يضرّ و لا ينفع، الخبر(4).

في تنزيه عبد اللّه و أبي طالب عليهما السّلام من الشرك و شرب الخمر

أقول: بعد وضوح أنّ عبد اللّه و أبي طالب عليهما السّلام كانا أعقل و أكمل منه، كانا أجلّ و أنزه من أن يعبدا صنما أو يشربا خمرا.

و عن بعض العامّة، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لو وقعت قطرة من الخمر في بحر ثمّ جفّ فنبت فيه الكلأ لم أرعه »(5).و ببالي أنّ ما يقرب منه مرويّ بطرق أصحابنا.

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ما بعث اللّه عزّ و جلّ نبيّا قطّ إلاّ و [في] علم اللّه تبارك و تعالى أنّه إذا أكمل [له] دينه كان فيه تحريم الخمر، و لم يزل الخمر حراما، و إنّما ينقلون من خصلة ثمّ خصلة (6) ،و لو حمل(7) ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين »(8).

و قال عليه السّلام: «ما أحد أرفق من اللّه تعالى، فمن رفقه تبارك و تعالى أنّه ينقلهم من خصلة إلى خصلة، و لو حمل عليهم جملة لهلكوا »(9).

ص: 452


1- في النسخة: البائه.
2- تفسير الرازي 47:6.
3- و كذا.
4- تفسير روح البيان 339:1.
5- تفسير أبي السعود 218:1، تفسير روح البيان 340:1.
6- في الكافي: من خصلة إلى خصلة.
7- زاد في النسخة: من.
8- الكافي 3/395:6، تفسير الصافي 228:1.
9- الكافي 3/395:6، تفسير الصافي 228:1.

و عنهم عليهم السّلام: «أنّ أوّل ما نزل في تحريم الخمر قول اللّه تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فلمّا نزلت هذه الآية أحسّ القوم بتحريمها [و تحريم الميسر] و علموا أنّ الإثم ممّا ينبغي اجتنابه، و لا يحمل اللّه عزّ و جلّ عليهم من كلّ طريق، لأنّه قال: وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ ثمّ أنزل اللّه تعالى آية اخرى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فكانت هذه الآية أشدّ و أغلظ في التّحريم، ثمّ ثلث بآية اخرى فكانت أغلظ من الآية الأولى و الثّانية و أشدّ، فقال تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (1) فأمر اللّه تعالى باجتنابهما» الخبر(2).

و عن بعض العامّة: لمّا نزلت الآية، قال عمر: قد انتهينا يا ربّ (3).

أقول: فيه دلالة على أنّه كان يشربه.

قيل: حرّمت الخمر في السنّة الثالثة من الهجرة بعد غزوة الأحزاب بأيّام(4).

و قيل في وجه تحريم الخمر على هذا التّرتيب: إنّه تعالى علم أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، و كان انتفاعهم به كثيرا، و علم أنّه لو منعهم دفعة واحدة لشقّ عليهم، فلا جرم استعمل في التّحريم التّدريج و الرفق.

ثمّ لمّا أنزل التّحريم اريقت الخمر (5).قال ابن عمر: خرجنا بالحباب إلى الطّريق فمنّا من كسر حبّه، و منّا من غسله بالماء و الطّين، و لقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر، و فاحت منها ريحها، [و حرّمت الخمر] و لم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، و ما حرّم اللّه عليهم شيئا أشدّ من الخمر(6).

ثمّ أنّه تعالى حكى السؤال الخامس بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ و أيّ مقدار من أموالهم يبذلون ؟ قيل: إنّ السائل عمرو بن الجموح، حيث سأل أوّلا عمّا ينفق من الأموال، و عن مصرفه، ثمّ سأل عمّا ينفق من حيث المقدار و الكمّيّة (7) ،فأجاب سبحانه بقوله: قُلِ الْعَفْوَ قيل: إنّه الزائد عمّا

ص: 453


1- المائدة: 90/5 و 91.
2- الكافي 2/406:6، تفسير الصافي 228:1.
3- تفسير الرازي 40:6، تفسير روح البيان 339:1.
4- تفسير روح البيان 339:1.
5- تفسير روح البيان 339:1.
6- تفسير روح البيان 339:1.
7- تفسير أبي السعود 219:1.

يحتاج إليه المنفق (1).و قيل: أن ينفق ما يسهل و يتيسّر(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «العفو: الوسط »(1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «خير الصّدقة ما أبقت غنى و [لا] يلام على كفاف »(2).

و عن جابر بن عبد اللّه، قال: بينما نحن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب، فقال: يا رسول اللّه، خذها صدقة، فو اللّه لا أملك غيرها، فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ أتاه من بين يديه فقال: «هاتها» مغضبا، فأخذها منه ثمّ حذفه بها بحيث لو أصابته لاوجعته، ثمّ قال: «يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ثمّ يجلس يتكفّف النّاس، إنّما الصّدقة عن ظهر غنى، خذها فلا حاجة لنا فيها »(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ العفو ما يفضل عن قوت السّنة »(4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان يحبس لأهله قوت سنة(7).

قال بعض الحكماء: الفضيلة بين طرفي الإفراط و التّفريط ، فالإنفاق الكثير

هو التّبذير، و التّقليل جدّا هو التقتير، و العدل هو الفضيلة(8).

كَذلِكَ التّبيين و التّوضيح لأحكام الإنفاق يُبَيِّنُ اللّهُ و يوضّح لَكُمُ أيّها المسلمون اَلْآياتِ الدّالّة على سائر الأحكام التي تحتاجون إليها لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ و لكي تنظروا و تتأمّلوا فِي اموركم الرّاجعة إلى اَلدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ و تعلموا مصالحكم فيهما، و تختاروا ما هو أصلح و أنفع لكم.

و قيل: إنّ المراد كبيان الأحكام في كمال الوضوح، يبيّن اللّه لكم دلائل المعاد، لكي تتفكّروا في أنّ أيّهما خير و أبقى فتعملون بما هو أنفع و أصلح لكم(5).

و السؤال السادس: ما حكاه اللّه بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ مخالطة اَلْيَتامى و حكم التصرّف في أموالهم.

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً (6) خرج كلّ من كان عنده

ص: 454


1- تفسير العياشي 418/219:1.
2- تفسير الرازي 49:6.
3- تفسير الرازي 49:6.
4- مجمع البيان 558:2. (7و8) تفسير الرازي 49:6.
5- تفسير أبي السعود 220:1.
6- النساء: 10/4.

يتيم، و سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في إخراجهم »(1).

قيل: كان سبب ذلك أنّ النّاس في الجاهليّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، و ربّما تزوّجوا باليتيمة طمعا في مالها، ثمّ لمّا نهى اللّه تعالى عن مقاربة مالهم و حرمة أكله، و هدّد و شدّد عليه، ترك المؤمنون(2) مخالطة اليتامى و المقاربة من أموالهم، و القيام بامورهم، فعند ذلك اختلّت مصالح اليتامى و ساءت معايشهم (3) ،فثقل ذلك على النّاس(4).

روي: لمّا نزلت الآيات اعتزلوا أموال اليتامى و اجتنبوا مخالطتهم في كلّ شيء حتّى كانوا يضعون لليتيم طعاما فيفضل منه شيء فيتركونه و لا يأكلونه حتّى يفسد، و كان صاحب اليتيم يفرد له منزلا و طعاما و شرابا، فعظم ذلك على ضعفاء المسلمين، فقال عبد اللّه بن رواحة: يا رسول اللّه، ما لكلّنا منازل تسكنها الأيتام، و لا كلّنا يجد طعاما و شرابا يفردهما لليتيم (5).فنزلت قُلْ : يا محمّد إِصْلاحٌ لَهُمْ و مداخلتهم على نحو يكون فيها صلاح حالهم و أموالهم خَيْرٌ لكم و لليتامى من إخراجهم و مجانبتهم.

وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ و تعاشروهم و تتصرّفوا في أموالهم بجهة الإصلاح و الاسترباح لهم فَإِخْوانُكُمْ في الدين.

و من المعلوم أنّ علاقة الاخوّة الدينيّة أقوى من علاقة الاخوة النّسبيّة، و حقّ الاخوّة رعاية صلاح الأخ و السّعي في إيصال النّفع إليه و حسن المخالطة و العشرة معه.

وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ لمال اليتامى، و غيره مِنَ الْمُصْلِحِ له إذ هو وليّ اليتيم، فعليه أن يطالب المفسد و يجازيه على إفساده، و يشكر المصلح و يثيبه على إصلاحه.

عن (الكافي) عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام و معهم خادم [لهم]، فنقعد على بساطهم و نشرب من مائهم و يخدمنا خادمهم، و ربّما طعمنا فيه الطّعام من عند صاحبنا و فيه من طعامهم، فما ترى في ذلك ؟ فقال: «إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، و إن كان فيه ضرر فلا».

ص: 455


1- تفسير القمي 72:1.
2- في تفسير الرازي: القوم.
3- في تفسير الرازي: معيشتهم.
4- تفسير الرازي 50:6.
5- تفسير الرازي 51:6.

و قال: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (1) فأنتم لا يخفى عليكم، و قد قال اللّه عزّ و جل: وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ » (2).

وَ لَوْ شاءَ اللّهُ إعناتكم و إيقاعكم في المشقّة لَأَعْنَتَكُمْ و أوقعكم فيها بتحريم المداخلة و المعاشرة عليكم، و لم يجوّز لكم المخالطة بهم إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجز من الإعنات حَكِيمٌ لا يفعل إلاّ ما فيه حسن و صلاح من غير حرج.

سورة البقرة (2): آیة 221

اشارة

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَ اللّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

سورة البقرة (2): آیة 221

ثمّ أنّه لمّا كان النّكاح مربوطا بإصلاح امور اليتامى كما قال في سورة النساء: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (3) ذكر اللّه تعالى حكم النّكاح بقوله: وَ لا تَنْكِحُوا و لا تتزوّجوا النّساء اَلْمُشْرِكاتِ في حال من الحالات، و وقت من الأوقات حَتّى يُؤْمِنَّ باللّه.

عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث مرثد بن أبي مرثد - و كان حليفا لبني هاشم - إلى مكّة ليخرج منها أناسا من المسلمين سرّا، فعند قدومه جاءته امرأة يقال لها: عناق - خليلة له في الجاهليّة، أعرضت عنه عند الإسلام - فالتمست الخلوة فعرّفها أنّ الاسلام يمنع من ذلك، ثمّ وعدها أن يستأذن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ثمّ يتزوّج بها. فلمّا انصرف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عرفه ما جرى من أمر عناق، و سأله: هل يحلّ له التزويج بها؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية(4).

و روي أنّها منسوخة بالنّسبة إلى الكتابيّة - التي هي داخلة في المشركات - بقوله تعالى في المائدة:

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (5) و سورة المائدة كلّها ثابتة غير منسوخ منها شيء (6) ،و باقية على الحرمة في غيرها.

ص: 456


1- القيامة: 14/75.
2- الكافي 4/129:5.
3- النساء: 3/4.
4- تفسير الرازي 54:6.
5- المائدة: 5/5.
6- تفسير الرازي 58:6، تفسير أبي السعود 221:1، تفسير روح البيان 345:1.

ثم علّل سبحانه الحكم بقوله: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ موحّدة مع ما بها من حسنات الرقّ و فقدانها الشّرف و المال، لكونها متزيّنة بزينة الإيمان و التّوحيد خَيْرٌ لكم بحسب الدّين و الدّنيا يُؤْمِنَّ امرأة حرّة مُشْرِكَةٍ مع ما لها من شرف الحريّة و رفعة الشّأن و كثرة المال وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ تلك المشركة بسبب جمالها و مالها و نسبها و شرفها، حيث إنّ حكمة النّكاح الموادّة بين الزّوج و الزّوجة، و طيب الولادة، و كلاهما منتفيان في نكاحهنّ لعدم حصول الموادّة بين المؤمن و المشركة كما قال تعالى:

لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ (1) و لعدم تحقّق طيب الولادة في نسلهنّ ؛ لأن في خباثة الامّ و نجاسة لبنها أثر عظيم في خباثة الولد كما قال: اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ (2).

و لذا أكّد سبحانه القضيّة بلام الابتداء التي تشبه لام القسم، ثمّ لعين ما ذكر من الملاك نهى اللّه تعالى عن إنكاح المشركين بقوله: وَ لا تَنْكِحُوا و لا تزوّجوا النّساء المؤمنات كنّ حرّات أو إماء اَلْمُشْرِكِينَ سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم حَتّى يُؤْمِنُوا و يصدّقوا باللّه و رسوله و يدخلوا في دين الإسلام، و لا خلاف في هذا الحكم بين المسلمين.

وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ مع ما به من ذلّ العبوديّة و فقد المال و الشّرف و كونه كلاّ على مولاه خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ مع ماله من عزّ الحريّة و الثّروة و نفوذ التصرّفات وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ جماله و ماله و عزّه و خصاله.

ثمّ بعد النّهي عن مزاوجة الكفّار و بيان عدم الصّلاح فيها، و أنّ الصّلاح في مواصلة المؤمنين، بيّن مفسدة عظيمة في مزاوجة الكفّار هي عمدة علل النّهي عنها، بقوله: أُولئِكَ المشركون و المشركات يَدْعُونَ من يعاشرهم إلى الشّرك و الفسق و العصيان الذي يؤدّي إِلَى النّارِ فلا ينبغي للعاقل أن يقاربهم و يواليهم.

نقل أنّ مسلما رأى نصرانيّة سمينة فتمنّى أن يكون [هو] نصرانيّا حتّى يتزوّجها بكفر(3).

وَ اللّهُ برحمته و لطفه يَدْعُوا بالنّهي عن مواصلتهم، و أمركم بالإيمان و مواصلة أهله إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ قدّم الجنّة لمقابلة النّار، و هذه الغاية القصوى لا تحصل لأحد إلاّ بِإِذْنِهِ و توفيقه.

ص: 457


1- المجادلة: 22/58.
2- النور: 26/24.
3- تفسير روح البيان 346:1. و فيه: يكفر و هذا من حماقته...

ثمّ لمّا كانت هذه الأحكام المحكمات آيات ربوبيته و رحمته لكونها جامعة لصلاح العباد، قال:

وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ و دلائل ربوبيّته و رحمته لِلنّاسِ كافّة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ بها، و يتفكّرون فيها، فيعملون بما هو صلاحهم و نجاحهم.

قيل: إنّ إيراد التذكّر هنا للإشعار بأنّه لوضوحها غير محتاجة إلى التفكّر و التّدبّر(1).

سورة البقرة (2): آیة 222

اشارة

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

سورة البقرة (2): آیة 222

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حكم النّكاح الذي هو غير منفكّ عن المواقعة غالبا، حكى السّؤال السابع الذي كان عن حكم المواقعة في حال الحيض بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ و عن مخالطة النّساء في حال تلوّثهنّ بالدّم الخاصّ الخارج من الرّحم.

قيل: إنّ حكاية الأسئلة الثلاثة مقترنة بواو العطف لكون جميعها في وقت واحد بخلاف ما عداها فإنّهم سألوها في أوقات متفرّقة(2).

و قيل: إنّ سبب السؤال أنّ اليهود و المجوس كانوا يتباعدون عن المرأة الحائض بحيث لا يساكنونها و لا يواكلونها، و النّصارى كانوا بخلاف ذلك حتّى إنّهم لم يبالوا بجماعها، و أهل الجاهليّة كانت رؤيتهم رؤية اليهود، فسأل أبو

الدّحداح و نفر من الصّحابة عن الحكم، فنزلت (3)قُلْ هُوَ أَذىً و قذارة مؤذية لمن يقربهنّ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ و اجتنبوا مجامعتهنّ فِي الْمَحِيضِ و مجرى الدّم الخاصّ ، و هو الفرج.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رواية: «أنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود، له دفع و حرارة »(4).الخبر.

و في حكمه ما يخرج في أيّام العادة و لو كان فاقدا للصّفات، لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لزينب بنت جحش(5):

«دعي الصّلاة أيّام أقرائك »(6).

ص: 458


1- تفسير أبي السعود 222:1، تفسير روح البيان 346:1.
2- تفسير الرازي 62:6، تفسير أبي السعود 222:1.
3- تفسير الرازي 63:6.
4- الكافي 1/91:3.
5- في تفسير الرازي: لفاطمة بنت أبي حبيش.
6- تفسير الرازي 67:6.

قيل: إنّ المسلمين أخذوا بإطلاق الاعتزال(1) فأخرجوهنّ من بيوتهنّ ، فقال جمع من الأعراب: يا رسول اللّه، البرد شديد و الثّياب قليلة، فإن آثرناهنّ بالثّياب هلك سائر أهل البيت، و إن استأثرناها هلكت الحائض. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، و لم آمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم» فلمّا سمع اليهود ذلك، قالوا: هذا الرّجل يريد أن لا يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه.

ثمّ جاء عباد بن بشير و اسيد بن حضير إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبراه بذلك، و قالا: يا رسول اللّه، أ فلا ننكحهنّ في المحيض ؟ فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى ظننّا أنّه غضب عليهما، فقاما فجاءته هديّة من لبن، فأرسل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليهما فسقاهما، فعلمنا أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يغضب عليهما(2).

ثمّ أنّه ورد في أخبار كثيرة أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام و أكثره عشرة(3).

ثمّ بيّن سبحانه غاية وجوب الاعتزال بقوله: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ بالمجامعة في القبل حَتّى يَطْهُرْنَ من الحيض و ينقطع الدّم عن باطن الفرج، و يعلم ذلك بالاختبار.

و في رواية: (حتّى يطّهّرن) بالتشديد (4) ،أي يغتسلن.

عن الصادق عليه السّلام [سئل]: ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال: «كلّ شيء ما عدا القبل بعينه »(5).

و عنه عليه السّلام قال: «ترى هؤلاء المشوّهين في خلقهم ؟ «قال: قلت: نعم. قال: «هؤلاء الذين آباؤهم يأتون نساءهم في الطمث »(6).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من جامع امرأته و هي حائض فخرج الولد مجذوما أو أبرص فلا يلومنّ إلاّ نفسه »(7).

فَإِذا تَطَهَّرْنَ و اغتسلن غسل الحيض، و قيل: إنّ المراد: إذا طهرن فَأْتُوهُنَّ و جامعوهنّ ، و ليكن الإتيان و المجامعة مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ عن ابن عبّاس: من حيث أمركم اللّه بتجنّبه، و هو محلّ الحيض، أعني القبل(8).

و قيل: من حيث الطّهر دون الحيض(9).

ص: 459


1- في تفسير الرازي: أخذ المسلمون بظاهر الآية.
2- تفسير الرازي 63:6.
3- تفسير الرازي 67:6.
4- تفسير الرازي 68:6.
5- الكافي 1/538:5.
6- الكافي 5/539:5.
7- من لا يحضره الفقيه 201/53:1. (8و9) كنز العرفان 6/45:1.

و عن محمّد بن الحنفيّة: من قبل النّكاح دون الفجور (1).

و قيل: من الجهة الّتي يحلّ أن يؤتين منها، و لا تقربوهن من حيث لا يحلّ ، بأن يكنّ محرمات، أو معتكفات، أو صائمات(1).

في جواز إتيان النساء بعد النقاء و قبل الغسل على كراهة

ثمّ أنّ مقتضى ظهور قوله: هُوَ أَذىً في كونه علّة لحرمة الوقاع المستلزمة لدوران الحكم مدارها، و ظهور الأمر باعتزالهنّ في المحيض في حال حصره بحال الحيض، و ظهور قوله: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ بناء على قراءة التّخفيف في كون غاية النّهي النّقاء من الدّم؛ هو جواز المواقعة بعد النّقاء و قبل الغسل، فيعارض ظهور قوله:

فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ بناء على إرادة الغسل من التّطهير، حيث إنّ مقتضاه عدم جواز الإتيان قبله، فلا بدّ من حمل الجملة الشّرطيّة على كونها شرطا للإباحة الخالية عن المرجوحيّة، أو حمل يطهرن على معنى طهرن كما قيل.

و أمّا الرّوايات الواردة عن المعصومين عليهم السّلام فعدّة منها دالّة على جواز الإتيان بعد النّقاء و قبل الغسل، كرواية عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا انقطع [الدم] و لم تغتسل، فليأتها زوجها إن شاء »(2).

و عدّة منها دالّة على الحرمة كما روي عنه عليه السّلام قال: سألته عن امرأة حاضت في السّفر، ثمّ طهرت و لم تجد ماء يوما أو اثنين، أ يحلّ لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل ؟ قال: «لا يصلح حتّى تغتسل »(3).

و في رواية: قلت: فيأتيها زوجها في تلك الحال - أي في السّفر مع عدم وجدان الماء - قال: نعم، إذا غسلت فرجها و تيمّمت فلا بأس(4).

فلا بدّ من حمل النّواهي على الكراهة، خصوصا مع ظهور لا يصلح فيها، و شهادة ما روي عن أبي الحسن عليه السّلام عليها قال: سألته عن الحائض ترى الطّهر، أ يقع عليها زوجها قبل أن تغتسل ؟ قال: «لا بأس، و بعد الغسل أحبّ إليّ »(5).و على هذا يتعيّن القول بالكراهة.

إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ حيث إنّ التّوبة تطهير للنّفس من رجس المعاصي وَ يُحِبُّ

ص: 460


1- مجمع البيان 563:2.
2- الاستبصار 464/135:1.
3- الاستبصار 465/136:1، التهذيب 478/166:1.
4- الكافي 3/82:3.
5- التهذيب 481/167:1، الاستبصار 468/136:1.

اَلْمُتَطَهِّرِينَ من أرجاس الأحداث و نجاسات الأقذار الجسمانيّة.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه يحبّ العبد المفتّن(1) التّوّاب، و من لا يكون(2) ذلك منه كان أفضل »(3).

و عن (العلل) و (العياشي) عنه عليه السّلام قال: «كان النّاس يستنجون بثلاثة أحجار لأنّهم كانوا يأكلون البسر فكانوا يبعرون بعرا، فأكل رجل من الأنصار الدّبّاء فلان بطنه و استنجى بالماء، فبعث إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: فجاء الرّجل و هو خائف أن يكون قد نزل فيه أمر يسوؤه في استنجائه بالماء، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: هل عملت في يومك هذا شيئا؟ فقال: [نعم] يا رسول اللّه إنّي - و اللّه - ما حملني على الاستنجاء بالماء إلاّ أنّي أكلت طعاما فلان بطني فلم تغن عنّي الحجارة شيئا، فاستنجيت بالماء.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هنيئا لك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ [قد] أنزل فيك آية، فأبشر إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فكنت أنت أوّل من صنع هذا، و أوّل التّوابين، و أوّل المتطهّرين(4)».

قيل: كان الرّجل الأنصاري هو البراء بن معرور(5).

و قيل: إنّ المراد من المتطهّرين: المتنزّهين عن الفواحش و الأقذار، كمجامعة الحائض (6).و لعلّه المراد من قول الصادق عليه السّلام: «و من لا يكون(7) ذلك منه كان أفضل »(8).

سورة البقرة (2): آیة 223

اشارة

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

سورة البقرة (2): آیة 223

ثمّ لمّا أذن اللّه تعالى في الانتفاع بالنّساء في غير محل الحيض حالته، و فيه أيضا: بعد النّقاء منه، صرّح بتعميم الإباحة من حيث مكان الانتفاع و كيفيّته بقوله: نِساؤُكُمْ و أزواجكم حَرْثٌ لَكُمْ

و مواضع إلقاء بذوركم منهنّ ، تحرثون الولد و اللّذّة. و وجه الشّبه بين النّطفة و البذر ظاهر، فكما أنّ صاحب الحرث له أن يأتي حرثه من أي مكان و بأيّ كيفيّة، كذلك الزّوج.

ثمّ لمّا شبّه الأزواج بامكنة الحرث عبّر عن مجامعتهنّ بالإتيان في قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى

ص: 461


1- أي الممتحن، يمتحنه اللّه بالذنب ثم يتوب، ثم يعود ثم يتوب.
2- في المصدر: لم يكن.
3- الكافي 9/316:2.
4- تفسير العياشي 432/223:1، علل الشرائع: 1/286.
5- من لا يحضره الفقيه 59/20:1، تفسير الصافي 232:1.
6- تفسير روح البيان 347:1.
7- في الكافي: لم يكن.
8- الكافي 9/316:2.

شِئْتُمْ و من أيّ مكان و بأيّ كيفيّة أردتم.

عن الصادق عليه السّلام عن الرّجل يأتي المرأة في دبرها، قال: «لا بأس إذا رضيت».

قيل فأين قول اللّه عزّ و جلّ : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ؟ قال: «هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم اللّه، إنّ اللّه تعالى يقول: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ » (1)

الخبر.

و الظاهر أنّ الاستشهاد بقوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ لجواز الإتيان في الدّبر، و الرّوايات الكثيرة دالّة على جوازه مع كراهة شديدة.

و قيل: إنّ المراد أيّ كيفيّة شئتم، و من أيّ جهة أردتم، بعد أن يكون المأتيّ قبلا(2).

نقل أنّ سبب نزول الآية أنّ اليهود كانوا يزعمون أنّ من أتى امرأته في قبلها من دبرها يأتي ولده أحول، فذكر ذلك للرّسول صلّى اللّه عليه و آله فنزلت الآية ردّا عليهم(3).

و عن الرضا عليه السّلام: «أنّ اليهود كانت تقول: إذا أتى الرّجل المرأة من خلفها خرج ولده أحول، فانزل اللّه: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ من خلف أو قدّام، خلافا لقول اليهود، و لم يعن في أدبارهنّ »(4).

قيل: كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرّجل المرأة من دبرها في قبلها، و كانوا أخذوا ذلك من اليهود و كانت قريش تفعل ذلك، فأنكرت الأنصار ذلك عليهم(5).

و نقل عن ابن عبّاس أنّ عمر جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه هلكت، و حكى وقوع ذلك منه، فنزلت(6).

و عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية: «أي متى شئتم في الفرج »(7).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «من قدّامها و من خلفها في القبل »(8).

و في اخرى عنه عليه السّلام: «أيّ ساعة شئتم »(9).

ص: 462


1- التهذيب 1657/414:7.
2- تفسير روح البيان 347:1.
3- تفسير روح البيان 347:1.
4- تفسير العياشي 437/224:1.
5- تفسير الرازي 71:6.
6- و كذا.
7- تفسير القمي 73:1.
8- تفسير العياشي 436/224:1.
9- تفسير العياشي 439/225:1.

و روى العامّة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث: «ملعون من أتى امرأته في دبرها »(1).و الأظهر ما ذكرنا من الجواز مع الكراهة الشّديدة.

ثمّ لمّا ذكر اللّه تعالى أنّ النّساء حرث، أشار إلى أنّ الدّنيا أيضا حرث الآخرة، بقوله: وَ قَدِّمُوا من الأعمال الصالحة لِأَنْفُسِكُمْ في الدّنيا ما تنتفعون به في الآخرة، و أعملوا ما يكون ثوابه ذخرا لكم ليوم حاجتكم.

قيل: إنّ المراد طلب الولد من إتيان النّساء، حيث إنّه ينفع الوالد في الآخرة، و لا تكونوا في قيد قضاء الشّهوة(2).

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد التّسمية قبل الجماع(3).

ثمّ بعد الأمر بالطاعة أمر بالاجتناب عن المعاصي، بقوله: وَ اتَّقُوا اللّهَ و خافوا عقابه في مخالفة أوامره و نواهيه التي من جملتها ما ذكر من الامور وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ في الآخرة مُلاقُوهُ و ترون جزاءه، فتزوّدوا ما لا تفتضحوا به عنده، و فيه بيان علّة وجوب التّقوى حيث إنّه لو لا الثّواب و العقاب لكان تحمّل المشقّة عبثا.

ثمّ أردف الوعيد بالوعد بقوله: وَ بَشِّرِ بثواب يقصر عنه البيان، و بالكرامة العظيمة عند اللّه اَلْمُؤْمِنِينَ الذين يتلقون أوامر اللّه و نواهيه بحسن القبول و الامتثال.

سورة البقرة (2): آیة 224

اشارة

وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

سورة البقرة (2): آیة 224

ثمّ لمّا أمر سبحانه عباده بالطّاعة و التّقوى، ذكر أنّ الحلف باللّه على تركهما لا أثر له و لا يكون مانعا عنهما بقوله: وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً و مانعا و حاجزا لِأَيْمانِكُمْ و لأجل حلفكم به على ترك عمل برّ من أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ .

روي أن بشير بن نعمان الأنصاري كان قد طلّق زوجته التي هي اخت عبد اللّه بن رواحة، و أراد أن يتزوّجها بعد ذلك، و كان عبد اللّه قد حلف على أن لا يدخل على بشير و لا يكلّمه، و لا يصلح بينه و بين اخته، فإذا قيل له في ذلك، قال: [قد] حلفت باللّه على أن لا أفعل، و لا يحلّ لي إلاّ أن أحفظ

ص: 463


1- تفسير روح البيان 347:1.
2- تفسير الرازي 74:6.
3- ايضا.

يميني و أبرّ فيه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية(1).

و عن بعض العامّة: أنّها نزلت في أبي بكر حين حلف أن لا ينفق على مسطح لخوضه في حديث الإفك(2).

و عن الصادق عليه السّلام في تفسيرها: «إذا دعيت لصلح بين الاثنين فلا تقل: عليّ يمين أن لا أفعل »(3).

و قيل: إنّ المراد لا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم بإكثار اليمين به (4).و علّة هذا النّهي إرادة أن تبرّوا، أي تكونوا بارّين متّقين مصلحين بين النّاس حيث إنّ من عرفه النّاس بالبرّ و التّقوى يقبلون قوله في مقام الإصلاح.

عن الصادق عليه السّلام: «لا تحلفوا باللّه صادقين و لا كاذبين، فإنّ اللّه يقول: وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ » (5) الخبر.

وَ اللّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم عَلِيمٌ بضمائركم و نيّاتكم.

سورة البقرة (2): الآیات 225 الی 227

اشارة

لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

سورة البقرة (2): آیة 225

ثمّ لمّا ذكر اللّه تعالى عدم كون الحلف مانعا عن عمل الخير، ذكر بعض أحكام الحلف من عدم العقوبة و الكفّارة على ما يكون منه لغوا و ساقطا عن الاعتبار، بقوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ و هو كقول العرب: لا و اللّه، و بلى و اللّه، و ذلك مرويّ عن الصادقين عليهما السّلام (6).فإنّه لا يكون معه قصد و عقد في القلب على الحلف، بل يجري على اللّسان على حسب العادة أو بقصد تأكيد الكلام.

و قيل: إنّه حلف الرّجل باللّه على شيء يظنّ أنّه صادق فيه، و ليس كذلك(7).

و قيل: في وجه تسمية الحلف باليمين: إنّ العرب كانوا إذا حلفوا تصافحوا باليمين. أو أنّ أحد

ص: 464


1- تفسير روح البيان 349:1.
2- تفسير أبي السعود 223:1.
3- تفسير العياشي 444/226:1، تفسير الصافي 234:1.
4- جوامع الجامع: 40.
5- مجمع البيان 567:2، تفسير الصافي 234:1.
6- مجمع البيان 568:2، تفسير الصافي 234:1.
7- تفسير روح البيان 350:1.

معاني اليمين: القوّة، و الحالف يتقوّى بحلفه على العمل بما حلف عليه(1).

وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ اللّه و يعاقبكم على حنث الحلف في الدّنيا بإيجاب الكفّارة، و في الآخرة على تقدير عدم التّكفير بالعذاب بِما كَسَبَتْ و انطوت عليه قُلُوبُكُمْ و ضمائركم من الجدّ به و اقترفت من الكذب فيه.

قيل: كسب القلب هو التعمّد، و كسب اللّسان هو الخطأ فيه.

قيل: إنّ المؤاخذة في هذه الآية عقوبة الآخرة. و في قوله: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ (2)

المؤاخذة بالكفّارة(3).

وَ اللّهُ غَفُورٌ و ستّار للذّنوب، كثير الإغماض عن العقوبة، فلا يؤاخذ على يمين اللّغو مع كونه ناشئا من عدم المبالاة و التّقصير في التّحفّظ حَلِيمٌ غير عجول بالعقوبة في مورد استحقاقها غير الصالح للعفو.

في بيان شرائط الإيلاء

سورة البقرة (2): آیة 226

ثمّ لمّا ذكر سبحانه القسمين لليمين، ذكر حكم نوع خاصّ منه، و هو حلف الزّوج على ترك وط ء زوجته بقوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ و يحلفون على التّباعد مِنْ نِسائِهِمْ بترك المجامعة تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ و انتظار انقضائها من زمان الحلف.

فَإِنْ فاؤُ و رجعوا عن حلفهم بأن جامعوهنّ قبل انقضاء المدّة مع أداء الكفّارة فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ للمولى، و ستّار لمعصية حنثه اليمين و قصده الإضرار بالمرأة إذ الفيء مع الكفّارة توبة له رَحِيمٌ بعباده.

سورة البقرة (2): آیة 227

وَ إِنْ عَزَمُوا و قصدوا اَلطَّلاقَ و طلّقوهنّ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ لمقالهم في الطّلاق و لسائر المقالات التي لا يخلو الطّلاق منها عادة عَلِيمٌ بضمائرهم و أغراضهم، و فيه تهديد و وعيد.

قال بعض الفقهاء: يستفاد من الآية وجوب مجامعة الزّوج زوجته في أربعة أشهر مرّة(4).

و فيه: أنّ الاستفادة موقوفة على تقدير المدّة من زمان الجماع لا من زمان الحلف، أو الرّفع إلى السّلطان، و هو خلاف ظاهر الآية و الرّوايات.

ص: 465


1- تفسير روح البيان 350:1.
2- المائدة: 89/5.
3- تفسير روح البيان 350:1.
4- كنز العرفان 293:2.

عن (العيّاشي) عن الرّضا عليه السّلام في رواية: «أنّ أجل الإيلاء أربعة أشهر بعد ما يأتيان السّلطان »(1).

و عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «أيّما رجل آلى من امرأته - و الإيلاء: أن يقول:

و اللّه لا اجامعك كذا و كذا، و اللّه لاغيضنّك، ثمّ يغاضبها - فإنّه يتربص بها أربعة أشهر، ثمّ يؤخذ بعد الأربعة الأشهر فيوقف فإذا فاء - و هو أن يصالح أهله - فإنّ اللّه غفور رحيم، و إن لم يفئ أجبر على الطّلاق، و لا يقع بينهما طلاق حتّى يوقف »(2).

و عنه عليه السّلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام يجعل له حظيرة من قصب و يحبسه(3) فيها، و يمنعه من الطّعام و الشّراب حتّى يطلّق »(4).

و عنه عليه السّلام في المولى: «إمّا أن يفيء أو يطلّق، فإن قبل و إلاّ ضربت عنقه »(5).

و عن الباقر عليه السّلام في رواية قال: «لا يكون إيلاء حتّى يحلف على أكثر من أربعة أشهر »(6).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «لا إيلاء(7) حتّى يدخل بها »(8).

و عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرّجل يؤلي من أمته ؟ فقال: «لا، كيف يؤلي و ليس لها طلاق ؟!»(9).

سورة البقرة (2): آیة 228

اشارة

وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

سورة البقرة (2): آیة 228

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه الطّلاق، تعرّض لبيان بعض أحكامه بقوله: وَ الْمُطَلَّقاتُ من النّساء الحرائر المدخول بهنّ ، غير الحاملات إذا كنّ ذوات أقراء يَتَرَبَّصْنَ و ينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ بأن يحملنها على ترك التّزويج ثَلاثَةَ قُرُوءٍ و هي الأطهار عندنا.

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الأقراء هي الأطهار »(10).

ص: 466


1- تفسير العياشي 450/227:1.
2- الكافي 2/130:6.
3- في النسخة: يحفر له حفيرة من قصب و يجعله.
4- الكافي 10/133:6.
5- الكافي 11/133:6.
6- التهذيب 12/6:8، الاستبصار 907/253:3.
7- في الكافي: لا يقع الإيلاء.
8- الكافي 2/134:6.
9- قرب الإسناد: 1299/363.
10- الكافي 4/89:6.

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى: «القرء ما بين الحيضتين »(1).

و في التّعبير عن الأمر بصيغة المضارع دلالة على تأكّد الوجوب؛ لأنّ فيه إشعار بأنّ هذا الوجوب ملازم للعمل، و يكون امتثاله معه، كما أنّ في تقديم المطلّقات على فعل (يتربّصن) دلالة على قوّة الوجوب.

ثمّ لمّا كان انقضاء العدّة بالأقراء، و لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ من قبل النّساء، نهاهنّ عن كتمانها بقوله: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ و يخفين ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الحيض و الحبل بأن تقول المرأة: لست بحامل؛ لحبّ تعجيل الطّلاق، حيث إنّ الزّوج إذا علم أنّها حامل يمنعه حبّ الولد عن الطّلاق. أو تقول: لست بحائض؛ و هي حائض، لكراهة التّعجيل، حيث إنّها إذا كانت في طهر المواقعة لا يجوز طلاقها، و لا بدّ من انتظار حيضها و طهرها بعده، و قد يكون كتمان الولد لحبّ سرعة انقضاء العدّة إذا كانت عدّة الوضع أطول من مدّة الأقراء، و كتمان الحيض لكراهة سرعة الانقضاء، فتدّعي بقاء العدّة و تأخير الحيض حتّى يرجع إليها الزّوج.

في حجية قول المرأة في الحمل و الحيض و الطهر

ثمّ أنّه استدلّ بحرمة الكتمان على حجّيّة قول النّساء بالنّسبة إلى الحيض و الطهر و الحمل إثباتا و نفيا، و لا شبهة فيها نصّا و فتوى، و ليس تعليق الحكم على الإيمان بالمبدإ و المعاد في قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ لبيان اشتراط حرمة الكتمان به، بل إنّما هو لزيادة التّرغيب على تركه، و التّهديد على فعله، فيكون المفاد أنّ الإيمان مانع عن الكتمان، و أنّ الكاتمة لا إيمان لها.

ثمّ بيّن اللّه تعالى الحكم الثاني في الطّلاق بقوله: وَ بُعُولَتُهُنَّ و هم الأزواج الذين طلّقوهنّ رجعيّا، كما ينبئ عنه التّعبير بالبعولة التي هي جمع بعل، و هو في الأصل المالك للأمر أَحَقُّ

و أملك بِرَدِّهِنَّ إلى الزوجيّة بإنشاء الرّجوع، أو بالتمتّعات التي لا تنبغي إلاّ للزّوج، كالقبلة و الجماع فِي ذلِكَ الزّمان و الأجل المضروب للتربّص إِنْ أَرادُوا الأزواج بالرّجوع إليهنّ إِصْلاحاً لما بينهم و بينهنّ ، أو إحسانا إليهنّ ، و لم يريدوا مضارّتهنّ ، و ليس هذا الشّرط لتأثير الرّجوع في عود العلقة و زوال أثر الطّلاق، بل للحثّ على الإحسان، و الزّجر عن الإضرار.

وَ لَهُنَّ على أزواجهنّ من الحقوق مِثْلُ الحقّ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ لأزواجهنّ في تحتم

ص: 467


1- الكافي 3/89:6.

المحافظة و وجوب الرّعاية و الحقوق المقرّرة ملابسات بِالْمَعْرُوفِ المقرّر عند الشّرع و العقلاء، فلا يكلّف أحدهما الآخر بما ليس له بحقّ .

عن ابن عبّاس: إنّي لا تزيّن لامرأتي كما تتزيّن لي، لقوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ (1).

وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ في الحقوق دَرَجَةٌ زائدة، و مرتبة فاضلة، لكونهم قوّامين عليهنّ .

سئل الصادق عليه السّلام عن حقّ المرأة على زوجها. قال: «يشبع بطنها، و يكسو جثتها، و إن جهلت غفر لها »(2).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، ما حقّ الزّوج على المرأة ؟

فقال لها: أن تطيعه و لا تعصيه، و لا تتصدّق من بيته بشيء إلاّ بإذنه، و لا تصوم تطوّعا إلاّ بإذنه، و لا تمنعه نفسها و إن كانت على ظهر قتب (3) ،و لا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه، فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السّماء و ملائكة الأرض و ملائكة الغضب و ملائكة الرّحمة حتّى ترجع إلى بيتها.

فقالت: يا رسول اللّه من أعظم النّاس حقّا على الرّجل ؟ قال: والداه.

قالت: فمن أعظم النّاس حقّا على المرأة ؟ قال: زوجها.

قالت: فما لي من الحقّ عليه مثل ماله عليّ ؟ قال: لا، و لا من كلّ مائة واحدة.

فقالت: و الذي بعثك بالحقّ نبيّا لا يملك رقبتي رجل أبدا »(4).

و في حديث: «جهاد المرأة حسن التبعّل »(5).

وَ اللّهُ عَزِيزٌ و غالب على خلقه، لا يعجز عن الانتقام ممّن خالفه حَكِيمٌ يشرّع الأحكام على طبق الصّلاح.

سورة البقرة (2): الآیات 229 الی 230

اشارة

اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ

ص: 468


1- تفسير الرازي 94:6.
2- من لا يحضره الفقيه 1327/279:3، تفسير الصافي 236:1.
3- القتب: الرّحل الصغير يوضع على سنام البعير.
4- من لا يحضره الفقيه 1314/276:3، الكافي 1/506:5، تفسير الصافي 237:1.
5- تفسير روح البيان 355:1.

يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

سورة البقرة (2): آیة 229

ثمّ لمّا ذكر الطّلاق الرّجعيّ ، بيّن عدده بقوله: اَلطَّلاقُ الرّجعيّ الذي للزّوج حقّ الرّدّ في عدّته مَرَّتانِ و دفعتان لا أزيد، و فيه دلالة على عدم وقوع الطّلقتين دفعة، بل لا بدّ من التّفريق فيهما.

في حديث ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له: «إنّما السّنّة أن تستقبل الطّهر استقبالا فيطلّقها بكلّ طهر تطليقة»(1) و به وردت روايات أهل البيت عليهم السّلام من طرق أصحابنا، و فيه أيضا دلالة على شرعيّة الرّجوع لأنّ طلاق المطلّقة غير متصوّر عقلا.

قيل: كان الرّجل في الجاهليّة يطلّق المرأة(2) ثمّ يراجعها قبل أن تنقضي عدّتها، و لو طلّقها ألف مرّة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له، فجاءت امرأة إلى عائشة، فشكت أنّ زوجها يطلّقها و يرجعها و يضارّها بذلك، فذكرت ذلك عائشة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ (3) لا يزيد الرّجل عليهما، و أن يؤدّي جميع حقّها و لا يذكرها بسوء.

ثمّ إذا أوقع التّطليقتان، يكون الواجب على الزّوج أحد الأمرين:

أحدهما: ما ذكره اللّه تعالى بقوله: فَإِمْساكٌ للزّوجة و أخذ بعلاقة الزّوجيّة بالرّجوع إليها مقرونا بِمَعْرُوفٍ و حسن العشرة، و لطف السّيرة، و الالتزام بحقوق الزوجيّة.

و ثانيهما: ما ذكره بقوله: أَوْ تَسْرِيحٌ و إرسال مقرون بِإِحْسانٍ بان لا يراجعها حتّى تنقضي عدّتها، و يحتمل أن يراد منه التّطليقة الثالثة، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سئل: أين الثالثة ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أو تسريح بإحسان »(4).

قيل: إنّ المراد منه أن لا يضرّها حتّى تبذل شيئا و تفدي نفسها.

ثمّ بيّن الحكم الرابع بقوله: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أيّها الأزواج أَنْ تَأْخُذُوا بعوض الطّلاق أو لسائر الأسباب مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ و أعطيتموهنّ بعنوان الصّداق أو غيره شَيْئاً قليلا أو كثيرا إِلاّ

ص: 469


1- تفسير الرازي 30:30.
2- في تفسير الرازي: يطلق امرأته.
3- تفسير الرازي 96:6.
4- تفسير البيضاوي 122:1.

بسبب أَنْ يَخافا الزّوجان أَلاّ يُقِيما و لا يرعيا حُدُودَ اللّهِ و حقوقه التي جعلها فيما بينهما من وظائف الزّوجيّة، و فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.

في طلاق الخلع و جملة من أحكامه

فَإِنْ خِفْتُمْ أيّها الحكّام من الزّوجين أَلاّ يُقِيما و لا يرعيا حُدُودَ اللّهِ من حقوق الزوجيّة و أحكامها الواجبة، بأن أظهرت الزّوجة البذاء و سوء الخلق و التعدّي في القول، بأن تقول له: لا أبرّ لك قسما، و لا اطيع لك أمرا، و لأوطئنّ فراشك من تكرهه و غير ذلك، فيخاف من الزّوج التّعدّي عليها و إيذاؤها و حصل من الزّوجة أيضا خوف التعدّي بظهور الكراهة منها لزوجها و هو أمارة قويّة موجبة لخوف الفتنة، فإذا كان ذلك فَلا جُناحَ و لا بأس عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ الزّوجة بِهِ من نفسها ليطلّقها زوجها، و في أخذ الزّوج منها الفداء بعوض طلاقها [سواء أ] كان الفداء مساويا للصّداق أو أزيد منه أو أنقص.

روي أنّ هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن ابيّ ، و في زوجها ثابت بن قيس بن شمّاس، و كانت تبغضه أشد البغض، و كان يحبّها أشدّ الحبّ ، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: فرّق بيني و بينه فإنّي أبغضه، و لقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام، فكان أقصرهم قامة و أقبحهم وجها، و أشدّهم سوادا، و إنّي أكره الكفر بعد الإسلام.

فقال ثابت: يا رسول اللّه، مرها فلتردّ عليّ الحديقة التي أعطيتها. فقال لها: «ما تقولين ؟» قالت، نعم و أزيده. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا، حديقته فقط ». فقال: لثابت: «خذ منها ما أعطيتها و خلّ سبيلها» ففعل، و كان ذلك أوّل خلع في الإسلام(1).

و في رواية: أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصاريّة(2).

و عن (العياشي) عن الصادق عليه السّلام في المختلعة، قال: «لا يحلّ خلعها حتّى تقول: و اللّه لا أبرّ لك قسما، و لا اطيع لك أمرا، و لاوطئنّ فراشك، و لأدخلنّ عليك بغير إذنك، فإذا هي قالت ذلك حلّ خلعها و حل [له] ما أخذ منها من مهرها و ما زاد، و هو قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فإذا فعلت(3) ذلك فقد بانت منه بتطليقة، و هي أملك بنفسها، إن شاءت نكحته، و إن شاءت فلا، فإن نكحته فهي عنده على ثنتين »(4).

ص: 470


1- تفسير الرازي 100:6.
2- تفسير الرازي 100:6.
3- في المصدر: و إذا فعل.
4- تفسير العياشي 470/232:1.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «و من أضرّ بامرأته حتّى تفتدي منه نفسها، لم يرض اللّه له بعقوبة دون النّار، لأنّ اللّه يغضب للمرأة كما يغضب لليتيم».

إلى أن قال: «و أيما امرأة خلعت من زوجها لم تزل في لعنة اللّه و ملائكته [و رسله] و النّاس أجمعين حتى إذا نزل بها ملك الموت قال لها: أبشري بالنّار. فإذا كان يوم القيامة قيل لها: ادخلي النّار مع الدّاخلين، ألا و إنّ اللّه و رسوله بريئان من المختلعات بغير حقّ ، ألا و إنّ اللّه و رسوله بريئان ممّن أضرّ بامرأته حتى تخلع منه »(1).

في حرمة أخذ العوض للطلاق مع عدم كراهة الزوجة

ثمّ أنّ ظاهر الآية و كثير من الروايات حرمة أخذ العوض للطّلاق على الزوج، و عدم صحّة طلاق الخلع مع عدم كراهة الزّوجة؛ و مع ذلك ذهب بعض الأصحاب إلى جواز الطّلاق بالعوض مع عدم تحقّق شرائط الخلع و المباراة لوجوه لا ينبغي أن يعتمد عليها؛ لكونها اجتهادا في مقابل النصّ .

فعلى هذا يكون نفي الجناح في الآية عن الزوج و الزوجة باعتبار أنّ الزّوج عند خوف الفتنة يحلّ له أخذ الفدية، و لا بأس عليه فيه، و يصحّ طلاق الزوجة خلعا، و لا بأس عليها بالتزوّج بالغير.

و تِلْكَ الأحكام حُدُودَ اللّهِ الّتي يجب رعايتها، و المحافظة عليها، و العمل بها فَلا تَعْتَدُوها أيّها المؤمنون بالرفض و عدم المحافظة.

ثمّ أتبع النهي بالتوعيد بقوله: وَ مَنْ يَتَعَدَّ و يتجاوز حُدُودَ اللّهِ و أحكامه فَأُولئِكَ

المتعدّون هُمُ الظّالِمُونَ أنفسهم بتعريضها لسخط اللّه و عذابه.

في حرمة المرأة المطلقة ثلاثا على زوجها إلاّ بعد المحلّل و جملة من أحكامه

سورة البقرة (2): آیة 230

ثمّ بيّن اللّه تعالى الحكم الخامس من أحكام الطّلاق بقوله: فَإِنْ طَلَّقَها ثالثة، و هو اختيار التّسريح بالإحسان بعد التخيير بينه و بين الإمساك فَلا تَحِلُّ لَهُ المرأة المطلّقة بالرجوع أو بالعقد مِنْ بَعْدُ الطّلاق الثّالث. هذا إذا كانت المطلّقة حرّة، و أمّا إذا كانت أمة فمقتضى الروايات أنّها بعد الطلاق الثاني لا تحلّ حَتّى تَنْكِحَ

و تتزوّج تلك المرأة زَوْجاً غَيْرَهُ و تذوق عسيلته (2) ،لما روي أنّ امرأة رفاعة(3) قالت لرسول

ص: 471


1- عقاب الأعمال: 285 و 287.
2- العسيلة: تصغير العسل، قطعة منه، و المراد لذّة الجماع، و التصغير إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحلّ .
3- هي عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك زوجة رفاعة بن وهب بن عتيك، و هو ابن عمها. اسد الغابة 185:2.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي (1) ،و إنّ عبد الرّحمن بن الزبير تزوّجني، و إنّ ما معه مثل هدبة الثوب(2) فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة» قالت: نعم. قال صلّى اللّه عليه و آله: «إلاّ أن تذوقي عسيلته، و يذوق عسيلتك »(3).

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام في الرّجل يطلّق امرأته الطّلاق الذي لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره، ثمّ تزوّج رجلا(4) و لم يدخل بها. قال عليه السّلام: «لا، حتى يذوق عسيلتها »(5).و في التعبير عن الجماع بذوق العسيلة دلالة على اعتبار الوط ء في القبل لعدم كون الوط ء في الدّبر ذوق العسيلة.

قيل: إنّ اشتراط الوط ء يستفاد من لفظ النّكاح الموضوع للوط ء، و العقد يستفاد من إسناده إلى الزّوج(6).

و عن (الكافي): عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن رجل طلّق امرأته طلاقا لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره و تزوّجها رجل متعة. أ يحلّ له أن ينكحها؟ قال: «لا، حتى تدخل في مثل ما خرجت منه »(7).

و في رواية اخرى: «المتعة ليس فيها طلاق»(8) ففيها دلالة على أنّ اشتراط الدوام في عقد المحلّل مستفاد من قوله: فَإِنْ طَلَّقَها الزّوج الثاني المحلّل و انقضت عدّتها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوج الأوّل و المرأة أَنْ يَتَراجَعا بالعقد الدائم، أو الانقطاع إِنْ ظَنّا و حسبا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ

التي وجب رعايتها من حقوق الزوجيّة وَ تِلْكَ الأحكام المبيّنة حُدُودَ اللّهِ و شرائعه المعينة التي يحفظها من التغيير و المخالفة، و هو بذاته المقدّسة يُبَيِّنُها و يوضّحها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ حسن الطاعة، و قبح المعصية، و يعقلون أنّ في العمل بأحكام اللّه خير الدّنيا و الآخرة، فإنّهم المنتفعون بها، و إن كانت الأحكام عامّة.

سورة البقرة (2): آیة 231

اشارة

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ

ص: 472


1- البتّ في الطلاق: هو تطليق الزوجة طلاقا لا رجعة فيه.
2- هدبة الثوب: طرفه الذي لم ينسج، تريد أنه لا يملك شيئا.
3- تفسير البيضاوي 123:1.
4- في المصدر: تزوّجها رجل آخر.
5- الكافي 4/425:5.
6- تفسير أبي السعود 227:1.
7- الكافي 2/425:5.
8- التهذيب 103/34:8.

وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231)

سورة البقرة (2): آیة 231

ثمّ أنّه لمّا كان الإضرار بالمرأة الضّعيفة من القبائح السّخيفة - و من أقسام الإضرار: أن يطلّق ثمّ يعبر عليها(1) حتى إذا بلغت العدّة آخرها راجعها، ثمّ يطلّقها، فتكون مدّة عدّة الطلقات الثّلاث ما يقرب من تسعة أشهر - نهى اللّه تعالى عنه، و كرّر التخيير السابق توطئة للزجر عنه، بقوله: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ و ما يقرب آخر عدّتهن فأنتم بالخيار، فإذا أحببتم إمساكهنّ و مراجعتهنّ فَأَمْسِكُوهُنَّ مقرونا بِمَعْرُوفٍ و الإحسان إليهنّ غير مضارّين بهنّ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ و خلّوهنّ على حالهنّ متلبّسين بِمَعْرُوفٍ و إيصال نفع و خير. و هذا التعليق لبيان لزوم مراعاة الصّلاح في تجديد العقد، لا لبيان اشتراط الصحّة به.

في حرمة الاضرار بالزوجة

وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً و لا ترجعوا إليهنّ لتضارّهنّ من غير رغبة فيهنّ بل لِتَعْتَدُوا و تظلموا، و تتجاوزوا عليهنّ بالتضييق في المعيشة و سوء المعاشرة و تطويل العدّة.

عن (الفقيه): سئل الصادق عليه السّلام عن هذه الآية فقال: «الرّجل [يطلّق] حتّى إذا كاد أن يخلو أجلها [راجعها] ثمّ طلّقها، يفعل ذلك ثلاث مرات، فنهى اللّه عزّ و جلّ عن ذلك»(2) الخبر.

قيل: نزلت في ثابت بن يسار الأنصاري، طلّق امرأته، حتّى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها، ثمّ طلّقها بقصد مضارّتها(3).

ثمّ لشدّة الاهتمام بترك الإضرار، عقّب اللّه النهي بالتّهديد بقوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإضرار فَقَدْ ظَلَمَ و أضرّ نَفْسَهُ بتعريضها لسخط اللّه و عذابه، و بتفويت المنافع الدّنيويّة و الاخرويّة عليها.

ثمّ بالغ سبحانه في التهديد على الإضرار و ترك مراعاة الحقوق الواجبة بقوله: وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّهِ سواء كانت متضمّنة الأحكام أو غيرها هُزُواً و لعبا؛ بأن تكونوا مستخفّين بها متهاونين فيها، معرضين عنها. فإنّ أشقى الأشقياء المتجرّءون على اللّه، المستخفّون بأحكامه.

روي أنّه كان الرّجل في الجاهليّة يطلّق و يقول: طلّقت و أنا لاعب، و يعتق و ينكح و يقول مثل ذلك.

ص: 473


1- كذا، و العبارة غير واضحة، و الذي في أكثر التفاسير: ثمّ يمسك عنها.
2- من لا يحضره الفقيه 1567/323:3.
3- تفسير روح البيان 360:1.

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، فقرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «من طلّق، أو حرّر، أو نكح، فزعم أنّه لاعب، فهو جدّ »(1).

ثمّ بعد المبالغة في التّهديد ببيانات مختلفة رغّبهم في الطّاعة بتذكير نعمه بقوله: وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ الّتي أنعمها عَلَيْكُمْ فإنّ من أتمّها و أكملها هدايتكم إلى ما فيه صلاحكم في الدنيا و الآخرة وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ ببركة النبيّ الأمّي مِنَ الْكِتابِ المجيد وَ الْحِكْمَةِ من العلوم النّظريّة و المعارف و كشف الحقائق، و العلوم العمليّة من الأحكام و الأخلاق، لأن يَعِظُكُمْ بِهِ و يؤدّ بكم بآدابه. فقابلوا نعمه بالشّكر، و أطيعوا أحكامه وَ اتَّقُوا اللّهَ و احذروه في مخالفته و عصيانه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ من مصالحكم و مفاسدكم، و أعمالكم و نيّاتكم عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية، فيجازيكم بما تستحقّون. و هذا تهديد فوق التّهديدات السابقة.

سورة البقرة (2): آیة 232

اشارة

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)

سورة البقرة (2): آیة 232

ثمّ بيّن اللّه تعالى الحكم السادس من أحكام الطّلاق، و هو حكم طلاق المرأة بعد انقضاء عدّتها بقوله: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ أيّها المؤمنون اَلنِّساءَ و الأزواج، بأن وقع الطّلاق من بعض - و هذا من باب نسبة الفعل إلى القبيلة بوقوعه من أحدهم - فَبَلَغْنَ و استوفين أَجَلَهُنَّ المضروب لعدّتهنّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ و لا تمنعوهنّ من أَنْ يَنْكِحْنَ و يتزوّجن أَزْواجَهُنَّ الّذين طلّقوهنّ .

فيكون حاصل المعنى، و اللّه العالم: إذا صدر من أحدكم طلاق، فلا يصدر من أحدكم منع عن التّزوّج بأزواجهنّ ظلما إِذا كان الزوجان تَراضَوْا بالمواصلة بَيْنَهُمْ ملابسين بِالْمَعْرُوفِ و المستحسن عند الشرع بإيقاع العقد و حفظ شرائط الصحّة و رعاية الأحكام و الحقوق.

و روي أنّ معقل بن يسار زوّج اخته جميل بن عبد اللّه بن عاصم، فطلّقها ثمّ تركها حتّى انقضت عدّتها، ثمّ ندم فجاء يخطبها لنفسه، فرضيت المرأة بذلك، فقال لها معقل: إنّه طلّقك ثمّ تريدين

ص: 474


1- تفسير الرازي 110:6.

مراجعته، وجهي من وجهك حرام إن راجعته. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معقل بن يسار و تلا عليه هذه الآية، فقال [معقل]: رغم أنفي لأمر ربّي، اللّهمّ رضيت و سلّمت لأمرك.

و أنكح اخته زوجها(1).

و روي أنّ جابر بن عبد اللّه كانت له بنت عمّ ، فطلّقها زوجها و أراد رجعتها بعد العدّة، فأبى جابر، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، و كان جابر يقول: فيّ نزلت هذه الآية(2).

و يحتمل أن يكون المراد من التّراضي بالمعروف، هو التراضي بما فيه الصّلاح، فإذا تراضوا على شروط يكون للمرأة فيها فساد، فليس منع الوليّ عن التزويج منهيّا.

ذلِكَ النّهي ممّا يُوعَظُ و يرتدع بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنّ من كان من أهل الإيمان ينتفع و ينتهي به، و فيه تهديد مؤكّد للنّهي.

ثمّ أتبعه بالتّرغيب على الطّاعة بقوله: ذلِكُمْ العمل بحكم اللّه أَزْكى لَكُمْ و آثر في تهذيب نفوسكم من الأخلاق الرّذيلة وَ أَطْهَرُ لقلوبكم من أدناس الآثام وَ اللّهُ يَعْلَمُ ما به تزكية نفوسكم و تطهير قلوبكم وَ أَنْتُمْ لقصور عقولكم لا تَعْلَمُونَ و لا تدركون نتائج الأعمال و مقتضيات الأفعال.

سورة البقرة (2): آیة 233

اشارة

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

سورة البقرة (2): آیة 233

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من أحكام الطّلاق، بيّن بعض أحكام الأولاد، لمناسبة أنّه قد يقع التّشاجر بين الزّوج و الزّوجة فيهم، فإنّه قد يريد الزّوج أن يأخذ الولد من الزّوجة، أو يريد أن يرضعه مجّانا و بلا اجرة، و قد تريد الزّوجة الاستنكاف عن إرضاع الولد بغضا لزوجها، أو تريد إلزام الزّوج

ص: 475


1- تفسير الرازي 111:6.
2- تفسير الرازي 111:6.

بإعطاء الزّائد على ما هو المعروف من الأجر.

فبيّن اللّه تعالى أنّه ليس للزوج أخذ الرّضيع من امّه بقوله: وَ الْوالِداتُ [سواء أ] كنّ مزوّجات أو مطلّقات يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وجوبا إن توقّفت حياتهم على إرضاع الوالدات، كأن لم تكن مرضعة اخرى، أو لم يأخذوا ثدي غيرهنّ ، أو كان لبن غيرهنّ مضرّا. أو جوازا في غير الصّور [المذكورة] مع حقّ الأولويّة لهنّ ، فلا يجوز للزّوج أخذ الولد منهنّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ تامّين بالتّدقيق، لا على المسامحة و التّصرّف.

هذا لِمَنْ أَرادَ من الوالد و الوالدة أَنْ يُتِمَّ و يكمل اَلرَّضاعَةَ إذ تمام الحولين أقصى مدّة الرضاع، و يجوز أنقص منهما.

و روي أنّه: «ما نقص عن أحد و عشرين [شهرا] فهو جور على الصّبيّ »(1).

و روي عن ابن عبّاس: «أنّ هذا الحدّ ليس لكلّ مولود، و لكن لمن ولد لستّة أشهر، و إن ولد لسبعة [أشهر] فثلاثة و عشرون، و إن ولد لتسعة [أشهر] فأحد و عشرون شهرا (2).فإن لم يردن تكميل الرضاع فليس للآباء إلزامهنّ على الارضاع في تمام الحولين».

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «لا تجبر الحرّة على إرضاع الولد، و تجبر امّ الولد(3).

و عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله: «ليس للصبيّ لبن خير من لبن امّه »(4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما من لبن ارضع(5) به الصبيّ أعظم بركة [عليه] من لبن امّه »(6).

وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ عبّر به عن الوالد للإشارة إلى أنّ الولد للوالد، و الامّ وعاء، و تجب نفقته عليه، و أجر إرضاعه هو رِزْقُهُنَّ و مأكولهنّ وَ كِسْوَتُهُنَّ و ملبوسهنّ بِالْمَعْرُوفِ بين النّاس ممّا يناسب حال المرأة.

ثمّ لمّا كان مجال أن يقال: لم لم تجب مئونة الأمّهات على أنفسهنّ و لم قيّد إيجاب الإنفاق على الوالد بكونه بالمعروف ؟ فأجاب سبحانه بقوله: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ من كلّ من الوالدين الاخرى إِلاّ وُسْعَها و ما يسهل تحمّله عليها، فإنّ إلزام الامّ على مئونة نفسها، مع ضعفها و عدم قدرتها على

ص: 476


1- مجمع البيان 586:2.
2- مجمع البيان 586:2.
3- الكافي 4/40:6.
4- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 69/34:2.
5- في الكافي: يرضع.
6- الكافي 1/40:6.

التّكسّب، إلزام بما هو خارج عن وسعها.

و كذا إلزام الأب على الإنفاق، فوق حدّ المعروف، إلزام بما هو خارج عن وسعه، و لعلّه للإشارة إلى ذلك قال: لا تُضَارَّ والِدَةٌ والدا بِوَلَدِها بأن تطلب منه ما ليس بعهد من الرّزق و الكسوة، أو تمنع زوجها من نفسها مخافة الحمل وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ والدة بولده بأن يأخذ الولد منها، أو يمنعها شيئا من حقّها بِوَلَدِهِ .

و قيل: إنّ المعنى أنّه لا يجوز أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد، مثل أن ينزع الأب الولد من امّه مع رغبتها في إمساكه، أو يضيّق عليها في الرّزق و الكسوة، أو تطلب منه المواقعة و يتمنّع عليها، و إضرار الأمّ على الأب مثل أن تمتنع من إرضاعه غيظا على الأب و تلقيه إليه، او تطلب منه فوق العدل و المعروف، أو تمتنع من التمكين للزّوج.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام، سئل عن هذه الآية، فقال: «كانت المراضع تدفع إحداهنّ الرّجل إذا أراد الجماع، تقول: لا أدعك إنّي أخاف أن أحبل، فأقتل ولدي هذا الذي ارضعه. و كان الرّجل تدعوه المرأة، فيقول: أخاف أن اجامعك فأقتل ولدي، فيدعها فلا يجامعها. فنهى اللّه تعالى عن ذلك أن يضارّ الرّجل المرأة، و المرأة الرجل »(1).

و عنه عليه السّلام: «إذا طلّق الرّجل امرأته و هي حبلى، أنفق عليها حتى تضع حملها، فإذا أرضعته أعطاها أجرها و لا يضارّها، إلاّ أن يجد من هو أرخص أجرا منها، فإن رضيت بذلك الأجر فهي أحقّ بابنها، حتى تفطمه»(2) الخبر.

ثمّ بيّن الحكم بعد موت الأب بقوله: وَ عَلَى الْوارِثِ من الوالد، يجب مِثْلُ ذلِكَ الرّزق و الكسوة الواجبين على الأب من نصيب الولد من تركة أبيه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قضى في رجل توفّي و ترك صبيّا، و استرضع له: «أنّ أجر رضاع الصّبيّ ممّا يرث من أبيه و امّه »(3).

و عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام، في قوله تعالى: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ : «أنّه نهى أن يضارّ بالصّبيّ ، أو تضارّ امّه في رضاعه. و ليس لها أن تأخذ في رضاعة فوق حولين كاملين »(4).

ص: 477


1- الكافي 6/41:6.
2- الكافي 2/103:6.
3- من لا يحضره الفقيه 1487/309:3.
4- الكافي 3/103:6.

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عنه فقال: «لا ينبغي للوارث أن يضارّ المرأة، فيقول: لا أدع ولدها يأتيها، و يضارّ ولدها، إن كان لهم عنده شيء، فلا ينبغي [له] أن يقتّر عليه »(1).و يحتمل أن يراد من الوارث وارث الرّضيع من رحمه الذي تجب عليه نفقته.

فَإِنْ أَرادا فِصالاً و فطاما عن الرضاع، قبل الحولين - كما روي عن الصادق عليه السّلام (2)- صادرا عَنْ تَراضٍ مبنيّ على صلاح الولد، كائن مِنْهُما لا من أحدهما، وَ تَشاوُرٍ كامل من كلّ مع الآخر؛ لأنّ الأب وليّ و الأمّ شفيقة، أو تشاورهما مع أهل التّجارب، و استجماع الآراء على صلاح فطام الولد، و عدم تضرّره به فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في الفطام، فإنّه قد يتّفق أن تملّ الأمّ من الرّضاع، و الأب من إعطاء الأجر، فيتوافقان على الفطام، مع كونه ضررا على الولد، و لكن قلّما يتّفق هذا لرأفتهما على الولد، سيّما مع المشاورة مع أرباب التّجارب، فينسدّ باب احتمال الضّرر على الولد.

قيل: يفهم من هذه الشّرائط أنّ رعاية اللّه تعالى للضعفاء أكثر، و عنايته بهم أشدّ، و رحمته عليهم أوفر.

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر الوالدات أن يرضعن أولادهنّ ، أوهم أنّه لا يجوز استرضاع غيرهنّ مطلقا، حتى مع رضا الامّ ، أو تعذّره عليها، لانقطاع اللّبن و أمثاله، فأزال التّوهم بقوله: وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أيّها الآباء أَنْ تَسْتَرْضِعُوا المراضع أَوْلادَكُمْ و تستأجروا لإرضاعهم عند سقوط حقّ أولويّة الام فَلا جُناحَ و لا إثم عَلَيْكُمْ في استرضاع غير الأمّ إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المرضعة ما آتَيْتُمْ

و أعطيتم للوالدات، أو ما ألزمتم و شرطتم إعطاءه للمرضعات مقرونا بِالْمَعْرُوفِ و الوجه المتعارف المستحسن شرعا.

و ليس التسليم هنا شرطا لجواز الاسترضاع، بل الغرض من التعليق التنبيه على أنّ المرضعة ينبغي أن تكون طيّبة النّفس حتى تقبل الطّفل بقلبها و تراعي مصلحته حقّ المراعاة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «انظروا من ترضع أولادكم، فإنّ الولد يشبّ عليه »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا تسترضعوا الحمقاء و العمشاء (4) ،فإنّ اللّبن يعدي »(5).

ثمّ حثّ سبحانه على العمل بما شرع في أمر الأطفال و المراضع بقوله: وَ اتَّقُوا اللّهَ و احذروا

ص: 478


1- تفسير العياشي 487/237:1.
2- مجمع البيان 588:2.
3- الكافي 10/44:6.
4- العمشاء: هي الضعيفة البصر.
5- عيون أخبار الرضا 67/34:2.

عقابه في التّهاون في ما شرع من أحكام الأولاد و المراضع.

ثمّ أردفه بالتّهديد بقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ.

سورة البقرة (2): آیة 234

اشارة

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

سورة البقرة (2): آیة 234

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر عدّة المطلّقة، و أنّها ثلاثة قروء بيّن عدّة المتوفى عنها زوجها بقوله:

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ و تقبض أرواحهم بالموت وَ يَذَرُونَ و يتركون من بعدهم أَزْواجاً

كبيرات أو صغيرات، حائلات أو حاملات - إذا وضعن قبل المدّة - دائمات أو منقطعات على قول، حرائر أو إماء على المشهور المنصور، مدخولا بهنّ أو غير مدخول بهنّ يَتَرَبَّصْنَ و يمتنعن عن التّزويج بِأَنْفُسِهِنَّ و يعتددن أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً من زمان العلم بالموت، أو بلوغ خبره.

عن (العياشي): عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية، جئن النّساء يخاصمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قلن: لا نصبر. فقال لهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كانت إحداكنّ إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها(1) ثمّ قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتّتها، ثمّ اكتحلت بها، ثمّ تزوّجت. فوضع اللّه عنكنّ ثمانية أشهر »(2).

عن الصادق عليه السّلام: «لأنّ حرقة المطلّقة تسكن في ثلاثة أشهر، و حرقة المتوفّى عنها [زوجها] لا تسكن إلاّ في أربعة أشهر و عشرا »(3).

و قيل: إنّ الحكمة في هذا التّقدير أنّ الجنين في الغالب يتحرّك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا، و لأربعة أشهر إن كان انثى، فأعتبر أقصى الأجلين، و زيد عليه العشر استظهارا، و ربّما(4) تضعف حركته في البادئ فلا يحسّ بها(5).

ص: 479


1- زاد في المصدر: في خدرها.
2- تفسير العياشي 489/237:1.
3- علل الشرائع: 2/508.
4- في تفسير البيضاوي: إذ ربما.
5- تفسير البيضاوي 126:1.

فَإِذا بَلَغْنَ النّساء أَجَلَهُنَّ المضروب لعدّتهنّ ، و انقضت المدّة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيّها المؤمنون، و الأولياء، و الحكّام فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التّزيين و التّزويج إذا كان بِالْمَعْرُوفِ

المقرّر في الشرع، و ليس لأحد منعها من التعرّض للتّزويج، و سائر محرّمات المعتدّة وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

سورة البقرة (2): الآیات 235 الی 237

اشارة

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

سورة البقرة (2): آیة 235

ثمّ بيّن اللّه تعالى بعض أحكام عدّة البائنة بقوله: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ و لوّحتم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ المعتدّات، و طلب نكاحهنّ .

في جواز التعرّض بالنكاح في العدّة

و حاصل الآية - و اللّه العالم - أنّه لا بأس بإظهار الميل إلى نكاح المعتدّات في عدّتهنّ ، بالإشارة من غير صراحة، كأن يقول لها: إنّك جميلة، أو صالحة، و إنّي راغب إلى نكاح امرأة متّصفة بصفة كذا، و يذكر بعض صفاتها، و أمثال ذلك ممّا يوهم أنّه راغب إلى نكاحها، و لا يصرّح بالنكاح.

أَوْ أَكْنَنْتُمْ و أضمرتم فِي أَنْفُسِكُمْ و قلوبكم من التّصميم على تزوّجهنّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ لا محالة سَتَذْكُرُونَهُنَّ و تنطقون برغبتكم في نكاحهنّ لمالهنّ أو جمالهنّ ، و لا تصبرون على السّكوت و عدم إظهار الرّغبة فيهنّ ، لخوف أن يسبق إليهنّ غيركم، و فيه تعريض على ضعف نفوسهم، و قلّة ثباتهم.

ص: 480

فإذا كان الأمر كذلك، فاذكروهنّ بالتّعريض و التّلويح وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ في مكان سِرًّا

للتّصريح بالخطبة، و لا يصدر منكم شيء في الموعد إِلاّ أَنْ تَقُولُوا فيه لهنّ قَوْلاً مَعْرُوفاً لا ينكره الشّرع، و هو التّعريض بالنكاح.

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية: وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً

فقال: «هو الرّجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدّتها: أواعدك بيت آل فلان، ليعرّض لها بالخطبة.

فعنى بقوله: إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً التّعريض بالخطبة »(1).

نقل أنّ الرّجل كان يدخل على المرأة و هو يعرّض بالنكاح، فيقول لها: دعيني اجامعك، فإذا أتممت عدّتك أظهرت نكاحك، فإنّه تعالى نهى عن ذلك(2).

ثمّ نهى اللّه تعالى عن إيقاع عقد النّكاح بنحو أبلغ بقوله: وَ لا تَعْزِمُوا و لا تقصدوا، أو لا تواجبوا عُقْدَةَ النِّكاحِ و رابطته و علاقته حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ و هو العدّة المكتوبة أَجَلَهُ و آخره، فإذا بلغ فلا بأس في إيجاب العقد.

ثمّ أردف النهي بالتّهديد بقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ و قلوبكم من نيّات السّوء فَاحْذَرُوهُ في مخالفته سرّا و علانيّة وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ في مورد المغفرة حَلِيمٌ في مورد العقوبة، لا يعجل بها، فلا تغترّوا بتأخيرها.

في أنّ المطلقة ليس لها مهر إذا طلقت قبل الدخول، و إنّما يجب إمتاعها بشيء

سورة البقرة (2): آیة 236

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن جملة من أحكام المطلّقة، المدخول بها، المسمّى لها المهر، ذكر حكم المطلّقة التي لم يدخل بها، و لم يسمّ لها مهر، بقوله: لا جُناحَ و لا تبعة عَلَيْكُمْ من حيث المهر، بل و لا من جهة الانتظار و التربّص بالأطهار، فإنّ غير المدخول بها تطلّق على كلّ حال إِنْ طَلَّقْتُمُ و فارقتم اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ

و من قبل أن تجامعوهنّ أَوْ تَفْرِضُوا أي إلاّ أن تقدّروا و تسمّوا لَهُنَّ فَرِيضَةً و مهرا مقدّرا في ضمن العقد.

و الحاصل: أنّه لا تستحقّ الزّوجة المهر إلاّ باشتراط المهر في العقد، أو بالدّخول مع عدم الاشتراط ، فإن اشترط و طلّق قبل الدّخول بها فلها النّصف، و إن لم يشترط و دخل بها فمهر المثل. هذا ممّا اتّفق عليه النصّ و الفتوى.

ص: 481


1- الكافي 1/434:5.
2- تفسير الرازي 132:6.

ثمّ أنّه تعالى بعد نفي استحقاق المهر، أثبت لهنّ حقّ المتعة وجوبا بقوله: وَ مَتِّعُوهُنَّ بشيء من أموالكم و أعطوهنّ منها ما ينتفعن به.

في رواية عن الباقر عليه السّلام: «فإنّهنّ يرجعن بكآبة و حرقة(1) و همّ عظيم و شماتة من أعدائهنّ ، فإنّ اللّه عزّ و جلّ كريم يستحي، و يحبّ أهل الحياء، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراما لحلائلهم »(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ متعة المطلّقة فريضة »(3).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن الرّجل يريد أن يطلّق امرأته قبل أن يدخل بها، قال: «يمتّعها قبل أن يطلّقها، فإنّ اللّه تعالى قال: وَ مَتِّعُوهُنَّ » الآية(4).

و هذه المتعة واجبة عَلَى الْمُوسِعِ و الغنيّ الذي هو في سعة من المال قَدَرُهُ و حدّ سعته وَ عَلَى الْمُقْتِرِ و الفقير قَدَرُهُ و وسعه، و على قدر حاله مَتاعاً أي تمتيعا مقرونا بِالْمَعْرُوفِ و بالوجه الذي تستحسنه الشّريعة و المروءة.

و هذا التمتّع يحقّ حَقًّا و يفرض فرضا عَلَى الْمُحْسِنِينَ على أنفسهم بفعل الطّاعات، و اجتناب المعاصي.

عن (فقه الرضا عليه السّلام): «يمتّعها بشيء قلّ أو كثر، على قدر يساره، فالموسع يمتّع بخادم أو دابّة، و الوسط بثوب، و الفقير بدرهم أو خاتم »(5).

و عن (الفقيه)، روي أنّ الغنيّ يمتّع بدار أو خادم، و الوسط بثوب، و الفقير بدرهم أو خاتم(6).

و روي أنّ أدناه الخمار و شبهه(7).

في أنّ المطلقة غير المدخول بها إذا فرض لها مهر، لا تستحقّ أزيد من نصف المهر المفروض

و في خبر الحلبي: «إن كان الرّجل موسعا؛ عليه أن يمتّع امرأته العبد و الدّابّة، و الفقير(8)

يمتّع بالحنطة و الزّبيب و الثّوب و الدرهم...» الخبر (9).و الظّاهر أنّ جميع ما ذكر في الرّوايات خارج مخرج التّمثّل.

سورة البقرة (2): آیة 237

ثمّ بيّن سبحانه حكم القسم الثّالث من المطلّقات من حيث المهر و هي التي لم يدخل بها و قد سمّى لها المهر بقوله: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ

ص: 482


1- في من لا يحضره الفقيه: و وحشة.
2- من لا يحضره الفقيه 1580/327:3.
3- التهذيب 490/141:8.
4- التهذيب 489/141:8.
5- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام: 242.
6- من لا يحضره الفقيه 1582/327:3.
7- من لا يحضره الفقيه 1583/327:3.
8- في الكافي: و المقتر.
9- الكافي 3/105:6.

و تدخلوا بهنّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ و سمّيتم في ضمن عقد النّكاح لَهُنَّ فَرِيضَةً و مهرا مقدّرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ من المهر يستقرّ في ملكهنّ و يرجع إليكم النّصف الآخر. فحينئذ يجب عليكم إعطاء ما استقرّ للمطلّقات في كلّ حال إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أزواجهنّ من النّصف، بأن يبذلنها لهم و لا يطالبنهم إن كنّ كبارا غير مولّى عليهنّ أَوْ يَعْفُوَا من النّصف الوليّ اَلَّذِي بِيَدِهِ و في سلطنته عُقْدَةُ النِّكاحِ و هو الأب، و الجدّ للأب، إذا كنّ قاصرات عن التّصرّف، كالصّغيرة و المجنونة، هذا هو المعروف بين الإماميّة، و تضافرت به أخبار أهل البيت عليهم السّلام.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو الزوج »(1).و عليه جلّ العامّة، سوى الشّافعي (2).و معنى عفو الزوج إعطاء جميع المهر.

و عن جبير بن مطعم، أنّه تزوّج امرأة و طلّقها قبل الدّخول، و أكمل لها الصّداق، و قال: أنا أحقّ بالعفو(3).

وَ أَنْ تَعْفُوا أيّها المطلّقات و الأولياء، و يمكن إدخال الزّوج في الخطاب على التفسير الثاني، و تذكير الخطاب لتغليب جانب الذّكور، فيكون المراد أنّ العفو من الزوج و الزوجة و أوليائها أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإنّ من سمح بحقّه الحلال يكون أقرب إلى ترك الظّلم، و التجنّب عن المال الحرام و سائر المعاصي.

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام، أنّه حلف على ضرب غلامه، فلم يف به، فلمّا سئل عنه قال: «أ ليس اللّه يقول: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ؟ ...»الخبر (4).و فيه تنبيه على أنّ حسن العفو لا يختصّ بالمهر، بل يعمّ جميع ما يليق للعفو.

ثمّ لمّا كان الطّلاق قبل المسيس سببا لتأذّي المرأة، و إعطاء نصف المهر قبل الدّخول موجبا لتأذّي الزّوج، أكّد اللّه تعالى الأمر بالعفو و الإحسان بالنهي عن ترك التفضّل بقوله: وَ لا تَنْسَوُا و لا تتركوا اَلْفَضْلَ و الإحسان فيما بَيْنَكُمْ .

ثمّ بعد التأكيد أردفه بالوعد بقوله: إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يكاد يضيع عملكم من التّفضّل و الإحسان. و يحتمل أن تكون الجملة تهديدا على ترك التفضّل.

ص: 483


1- تفسير الصافي 245:1.
2- مجمع البيان 597:2.
3- تفسير البيضاوي 128:1.
4- الكافي 4/460:7.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يأتي [على النّاس] زمان عضوض يعضّ كلّ امرئ على ما في يديه، و ينسون الفضل بينهم، قال اللّه تعالى: وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » (1).

سورة البقرة (2): الآیات 238 الی 239

اشارة

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

سورة البقرة (2): آیة 238

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ما يوجب الفصل بين الأزواج و أحكامه، ذكر ما يوجب الوصل بين ذاته تعالى و بين خلقه بقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ .

و يحتمل وجه آخر للنّظم، هو أنّه تعالى لمّا بيّن جملة من أحكام الشّرع، و بالغ في التّهديد على مخالفتها، بيّن ما يستعان به على الطّاعة و زوال كلفة امتثالها؛ و هو الصّلاة كما قال: اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (2) الآية، و ما يوجب الرّدع عن مخالفتها، كما قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (3).

و المراد من المحافظة المداومة عليها، و مراعاة أوقاتها و شرائطها و حدودها.

و عن الصادق عليه السّلام: الصّلوات الخمس المفروضات، من أقام حدودهنّ ، و حافظ على مواقيتهنّ لقي اللّه يوم القيامة و له عنده عهد يدخله به الجنّة، و من لم يقم حدودهنّ ، و لم يحافظ على مواقيتهنّ لقي اللّه و لا عهد له، إن شاء عذّبه و إن شاء غفر له »(4).

و عن (الكافي): عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لا يزال الشّيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على الصّلوات الخمس، فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه فأدخله في العظائم »(5).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الصّلاة إذا ارتفعت في(6) وقتها، رجعت إلى صاحبها و هي بيضاء مشرقة، تقول:

حفظتني حفظك اللّه، و إذا ارتفعت في غير وقتها، بغير حدودها، رجعت إلى صاحبها سوداء مظلمة، تقول: ضيّعتني ضيّعك اللّه »(7).

و عن القمّي، عن الصادق عليه السّلام، في رواية تفسير المحافظة، قال: «هو إقبال الرّجل على صلاته حتى

ص: 484


1- تفسير العياشي 517/244:1.
2- البقرة: 45/2.
3- العنكبوت: 45/29.
4- الكافي 1/267:3.
5- الكافي 8/269:3.
6- زاد في الكافي: أول.
7- الكافي 4/268:3.

لا يلهيه و لا يشغله عنها شيء »(1).

في تعيين المراد من الصلاة الوسطى

ثمّ خصّ من بين الصّلوات أفضلهنّ ، بالأمر بالمحافظة، اهتماما بشأنها بقوله:

وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى التي هي أفضل الصّلوات المفروضات.

في (الكافي) و (التهذيب): عن الباقر عليه السّلام، قال: «هي صلاة الظّهر، و هي أوّل صلاة صلاّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هي وسط النّهار، و وسط صلاتين بالنّهار؛ صلاة الغداة و صلاة العصر »(2).

و في بعض القراءات: (حافظوا على الصّلوات و الصّلاة الوسطى و(3) صلاة العصر و قوموا للّه قانتين)(4) و العطف دالّ على المغايرة.

قال (5): «نزلت هذه الآية يوم الجمعة، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفر، فقنت فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(6)

و تركها على حالها في السفر و الحضر، و أضاف للمقيم ركعتين، و إنّما وضعت الرّكعتان اللّتان أضافهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الجمعة للمقيم، لمكان الخطبة مع الإمام، فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة، فليصلّها أربع ركعات، كصلاة الظّهر في سائر الأيام »(7) ،الخبر.

و بهذا التّفسير وردت عن أهل البيت عليهم السّلام روايات متضافرة، و ادّعى عليه بعض الأساطين إجماع الإماميّة.

و قيل: إنّها صلاة الفجر، و استدلّوا عليه بقوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (8) حيث إنّه فسّر بصلاة الفجر(9).

و قيل: إنّها صلاة العصر، و رواه العامّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام(10).

و روي عنه عليه السّلام قال: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال يوم الخندق: شغلونا عن الصّلاة الوسطى، ملأ اللّه بيوتهم و قبورهم نارا »(11).

و في رواية: «شغلونا عن الصّلاة الوسطى، صلاة العصر »(12).

ص: 485


1- تفسير القمي 79:1.
2- الكافي 21/271:3، التهذيب 954/241:2.
3- (و) ليس في الكافي و التهذيب.
4- الكافي 21/271:3، التهذيب 954/241:2.
5- أي الإمام الباقر عليه السّلام في تتمة الرواية المتقدمة.
6- (رسول اللّه عليه السّلام) ليس في التهذيب.
7- الكافي 1/271:3، التهذيب 954/241:2.
8- الإسراء: 78/17.
9- مجمع البيان 599:2.
10- مجمع البيان 599:2، تفسير الرازي 150:6.
11- تفسير الرازي 150:6.
12- تفسير الرازي 150:6.

و استدلوا أيضا بما روي فيها من التأكيدات ممّا لم يرد في غيرها، قال صلّى اللّه عليه و آله: «من فاته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله »(1).

و أيضا أقسم اللّه تعالى بها فقال: وَ الْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) فدلّ على أنّها أحبّ السّاعات إلى اللّه تعالى (3) ،و أيّدوه بوجوه اعتباريّة.

و الحقّ هو الأوّل، و ما سواه في غاية الوهن.

و قيل: إنّ اللّه تعالى أخفاها في الصّلوات الخمس، ليصير اختصاصها بالفضل موجبا لزيادة الاهتمام بجميع الصّلوات.

نقل عن الرّبيع بن خيثم أنّه سئل عنها فقال: يا ابن عمّ ، الوسطى واحدة منهنّ ، حافظ على الكلّ تكن محافظا على الوسطى. ثمّ قال الربيع: لو علمتها بعينها لكنت محافظا لها و مضيّعا لسائرهنّ (4).

وَ قُومُوا خالصين لِلّهِ في صلواتكم حال كونكم قانِتِينَ داعين في قيامكم. و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام(5).

و قيل: أي: مطعين، روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو الطّاعة »(6).

سورة البقرة (2): آیة 239

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ المحافظة على الأجزاء و الشّرائط مخصوصة بحال الأمن، بقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ

من عدوّ، أو لصّ ، أو سبع، أو غيره فَرِجالاً ماشين صلّوا أَوْ رُكْباناً سائرين.

عن (الفقيه): عن الصادق عليه السّلام، في صلاة الزّحف، قال: «تكبير و تهليل»، ثمّ تلا الآية(7).

و عنه عليه السّلام: «إن كنت في أرض مخوفة، فخشيت لصّا أو سبعا، فصلّ الفريضة [و أنت] على دابّتك »(8).

و في رواية: «الذي يخاف اللصوص يصلّي إيماء على دابّته »(9).

فَإِذا أَمِنْتُمْ على أنفسكم من المخوفات فَاذْكُرُوا اللّهَ و صلّوا كَما عَلَّمَكُمْ من صلاة الأمن ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ .

قيل: إنّما عبّر سبحانه عن الصّلاة بالذّكر لكونه معظم أركانها، أو لأنّه روحها.

ص: 486


1- تفسير الرازي 151:6.
2- العصر: 1/103 و 2.
3- تفسير الرازي 151:6.
4- تفسير الرازي 147:6.
5- مجمع البيان 600:2 «نحوه».
6- تفسير الرازي 152:6.
7- من لا يحضره الفقيه 1344/295:1.
8- من لا يحضره الفقيه 1345/295:1.
9- من لا يحضره الفقيه 1346/295:1.

و قيل: إنّ المراد: فاشكروا اللّه شكرا يوازي تعلّمكم الشّرائع، التي منها كيفيّة صلاة الخوف و الأمن(1).

سورة البقرة (2): الآیات 240 الی 242

اشارة

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

سورة البقرة (2): آیة 240

ثمّ بيّن سبحانه حكم نفقة المتوفّى عنها زوجها، بقوله: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ و يشرفون على الموت مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ و يتركون من بعدهم أَزْواجاً يجب عليهم أن يوصوا وَصِيَّةً نافعة لِأَزْواجِهِمْ و هي أن يتمتّعن من تركة أزواجهنّ مَتاعاً و نفقا كافيا لهنّ إِلَى الْحَوْلِ الكامل من حين الوفاة، حال كونهنّ مقيمات في بيوت أزواجهنّ غَيْرَ إِخْراجٍ أي مخرجات منها.

فلا تدلّ الآية إلى هنا على أنّ عدّة الوفاة كانت سنة، بل ظاهرها وجوب الوصيّة على الزّوج، بالإنفاق و الإسكان إلى الحول، و هذا منسوخ بآية الإرث، و إن قلنا بعدم الدّلالة على الوجوب بل على الجواز و الاستحباب، فحكمها باق بلا نسخ.

و لكنّ قوله تعالى: - فَإِنْ خَرَجْنَ من منزل أزواجهنّ باختيارهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيّها المؤمنون فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ الزّينة و الزّواج، و هو ما لا يكون في الشّرع منهيّا، بناء على كون المراد من عدم الجناح بعد الخروج: عدم وجوب نهيهنّ عن الزّينة و التّزوّج، إن خرجن بعد تمام الحول - يدلّ على وجوب الحداد و ترك التّزوّج قبل تمام الحول، و وجوب نهيهنّ عنهما، فتكون عدّة الوفاة تمام الحول، و يكون منسوخا بآية: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً (2).

و إن كان المراد من الخروج: قبل تمام الحول، يكون محمولا على ما بعد أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً

و لا نسخ أيضا.

و في عدّة روايات عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «هي منسوخة، نسختها آية: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ

ص: 487


1- تفسير روح البيان 373:1.
2- البقرة: 234/2.

أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و نسختها آية الميراث »(1).

و روي بطريق عامّي: أنّ رجلا من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة و له أولاد، و معه أبواه و امرأته و مات، فأنزل اللّه هذه الآية، فاعطى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله والديه و أولاده من ميراثه، و لم يعط امرأته شيئا، و أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا.

و كانت عدّة الوفاة في بدو الإسلام حولا، و كان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، و كانت نفقتها و سكناها واجبة من مال زوجها ما لم تخرج و لم يكن لها ميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، و كان على الرّجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتّى نزلت الآية(2) فنسخ اللّه تعالى نفقة الحول بالرّبع عند عدم الولد، و الثّمن مع الولد(3).

وَ اللّهُ عَزِيزٌ و غالب على خلقه، قادر على الانتقام ممّن خالفه حَكِيمٌ يراعي مصالح العباد في أحكامه و شرائعه.

سورة البقرة (2): آیة 241

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان متاع المتوفّى عنها زوجها - و إن كان منسوخا - بيّن متاع المطلّقة بقوله:

وَ لِلْمُطَلَّقاتِ البائنات، أو مطلقا و لو كنّ رجعيّات مَتاعٌ و تمتّع بِالْمَعْرُوفِ عند الشّرع، و العادة. و هذا التّمتيع يحقّ حَقًّا و يثبت ثبوتا عَلَى الْمُتَّقِينَ فإنّ من لوازم التّقوى التّبرّع بالمتعة تطييبا لقلبها و إزالة لضعفها.

في استحباب امتاع المطلّقات مطلقا

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في رجل يطلّق امرأته أ يمتّعها؟ قال: «نعم، أ ما يحبّ أن يكون من المحسنين، أ ما يحبّ أن يكون من المتّقين »(4).

عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في الرّجل يطلّق امرأته قبل أن يدخل بها، قال: «عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا، و إن لم يكن فرض لها شيئا فليمتّعها على نحو ما يمتّع به مثلها من النّساء»(5)

الخبر، و هذا محمول على إرادة مثلها باعتبار حال الزّوج.

عن الطبرسي، في قوله تعالى: وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ (6) قال: «إنّما

ص: 488


1- تفسير العياشي 529/247:1، مجمع البيان 602:2، تفسير الصافي 248:1.
2- في تفسير روح البيان: نزلت آية الميراث.
3- تفسير روح البيان 375:1، و فيه: الولد و ولد الابن و الثّمن عند وجودهما.
4- تفسير العياشي 499/240:1، الكافي 1/104:6.
5- الكافي 3/106:6.
6- البقرة: 236/2.

تجب المتعة للتي لم يسمّ لها صداق خاصّة »(1).و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام - إلى أن قال -: و عن ابن عبّاس، قال: هذا إذا لم يكن [قد] سمّى لها مهرا، فإذا فرض لها صداق فلها نصفه، و لا تستحق المتعة. قال: و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عن أبي الصبّاح (2) ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إذا طلّق الرّجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها، و إن لم يكن فرض لها مهرا فمتاع بالمعروف»(3) الخبر. و هذا إذا لم يدخل بها، و إلاّ فمهر المثل.

فعلى هذا، فالآية و الأخبار المطلّقة محمولة في غير المفوّضة على الاستحباب المؤكّد، كرواية الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في قوله تعالى: وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ قال:

«متاعها بعد ما تنقضي عدّتها على الموسع قدره، و على المقتر قدره. و كيف [لا] يمتّعها و هي في عدّتها ترجوه و يرجوها، و يحدث اللّه عزّ و جلّ بينهما ما يشاء»(4) الحديث.

سورة البقرة (2): آیة 242

كَذلِكَ التّبيين و التّوضيح يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدّالّة على التّوحيد، و صفاته لَعَلَّكُمْ بدلالتها تخرجون عن حدّ السّفاهة تَعْقِلُونَ و تفهمون إن لكم إليها(5) منه بدؤكم، و إليه عودكم و إيابكم، و عليه حسابكم.

سورة البقرة (2): الآیات 243 الی 244

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

سورة البقرة (2): آیة 243

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من الأحكام، ذكر قضيّة دالّة على وحدانيّته، و كمال قدرته، و صدق نيّته في دعوى نبوّته، لأنّها إخبار بالغيب، و فيها دلالة على إمكان المعاد، ليفيد المستمع اليقين و الاعتبار، و التّجنّب عن التمرّد و العناد، و يزيده الخضوع و الانقياد.

و لمّا كان إخبار اللّه تعالى - لقوّة تأثيره في العلم - بمنزلة الرؤية و المشاهدة لما أخبر به، و كان نور

ص: 489


1- مجمع البيان 595:2، تفسير الصافي 249:1.
2- في النسخة: أبي الصلاح، و ما أثبتناه من تفسير العياشي، راجع معجم رجال الحديث 189:21.
3- تفسير العياشي 500/240:1.
4- الكافي 3/105:6.
5- كذا، و لعلها: و تفهمون بها أن.

نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في عالم الأشباح محيطا و مشاهدا لجميع وقائع هذا العالم، خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: أَ لَمْ تَرَ و لم تنظر إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و قيل: المراد أ لم ينته علمك إليهم ؟ (1)وَ هُمْ أُلُوفٌ

كثيرة حَذَرَ الْمَوْتِ و لأجل الفرار منه فَقالَ لَهُمُ اللّهُ أو بلسان ملك مُوتُوا و إسناده إلى ذاته المقدّسة للتّهويل و التّخويف، أو المراد من القول و صورة الأمر تعلّق إرادته التّكوينيّة بموتهم، كما كنّى عن إرادة الإيجاد بقوله: كُنْ فماتوا جميعا دفعة في مكانهم ثُمَّ أَحْياهُمْ .

عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام، و كانوا سبعين ألف بيت، و كان الطّاعون يقع فيهم في كلّ أوان، فكانوا كلّما أحسّوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم، و بقي فيها الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا، و يقل في الذين خرجوا، فيقول الذين خرجوا:

لو كنّا أقمنا لكثر فينا الموت. و يقول الذين أقاموا: لو كنّا خرجنا لقلّ فينا الموت. فاجتمع رأيهم جميعا على أنّه إذا وقع طاعون [فيهم] و أحسّوا به خرجوا كلّهم من المدينة، فلمّا أحسّوا بالطّاعون خرجوا جميعا، و تنحّوا عن الطّاعون حذر الموت، فساروا في البلاد ما شاء اللّه.

ثمّ أنّهم مرّوا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها و أفناهم الطّاعون، فنزلوا بها، فلمّا حطّوا رحالهم و اطمأنّوا قال لهم اللّه عزّ و جلّ : موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم و صاروا رميما يلوح، و كانوا على طريق المارّة، فكنسهم المارّة و نحّوهم و جمعوهم في موضع، فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل، فلمّا رأى تلك العظام بكى و استعبر و قال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم السّاعة كما أمتّهم، فعمّروا بلادك و ولدوا عبادك و عبدوك مع من يعبدك من خلقك، فأوحى اللّه تعالى إليه:

أ فتحبّ ذلك ؟ قال: نعم يا ربّ ، قال: فأوحى اللّه عزّ و جلّ [إليه] أن قل كذا و كذا، فقال الذي أمره اللّه عزّ و جلّ أن يقوله - قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و هو الاسم الأعظم - فلمّا قال حزقيل ذلك نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض، فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض؛ يسبّحون اللّه عزّ و جلّ ، و يكبّرونه و يهلّلونه، فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أنّ اللّه على كلّ شيء قدير».

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «فيهم نزلت هذه الآية »(2).

أقول: تدلّ الرواية على أنّ الإماتة كانت عقوبة لهم.

و في رواية عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل: أماتهم، أم ردّهم إلى الدّنيا حتى سكنوا الدّور، و أكلوا الطّعام ؟

ص: 490


1- تفسير روح البيان 377:1.
2- الكافي 237/198:8.

قال: «لا بل ردّهم اللّه حتى سكنوا الدّور، و أكلوا الطّعام، و نكحوا النّساء، و مكثوا بذلك ما شاء اللّه، ثمّ ماتوا بآجالهم »(1).

و روي أنّ حزقيل ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا، فأرسل اللّه عليهم الموت، فلمّا كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فلمّا رأى حزقيل ذلك قال: اللّهمّ إله يعقوب و إله موسى ترى خطيئة عبادك، فأرهم آية في أنفسهم تدلّهم على نفاذ قدرتك، و أنّهم لا يخرجون من قبضتك. فأرسل اللّه عليهم الموت، ثمّ أنّه عليه السّلام ضاق صدره بسبب موتهم، فدعا مرّة اخرى، فأحياهم اللّه(2).

و روي عن ابن عبّاس أنّ ملكا من ملوك بني إسرائيل، أمر عسكره بالقتال، فخافوا القتال، و قالوا لملكهم: إنّ الأرض التي تذهب إليها فيها الوباء، و نحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء، فأماتهم اللّه تعالى بأسرهم، و بقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا. و بلغ بني إسرائيل موتهم، فخرجوا لدفنهم، فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم حظائر. فأحياهم اللّه بعد الثّمانية، و بقي فيهم شيء من ذلك النّتن، و بقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم(3).

و قيل: إنّ حزقيل هو ذو الكفل؛ لأنّه تكفّل بشأن سبعين نبيّا و أنجاهم من القتل (4).و لعلّ المراد من ملك بني إسرائيل - في رواية ابن عبّاس - هو حزقيل.

و قيل: إنّه ثالث أوصياء موسى عليه السّلام، و كان أوّلهم يوشع بن نون، و ثانيهم كالب بن يوحنّا، و ثالثهم حزقيل بن يوزا، و يقال له: ابن العجوز، لأنّ امّه كانت عجوزا، فسألت اللّه ولدا بعد ما كبرت و عقمت، فوهبه اللّه لها.

إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ جميعا، حيث إنّه بتلك الإماتة و الإحياء عرّفهم نفسه بالقدرة الكاملة، و الرّحمة الشاملة، و حثّهم على التّوكّل و التّسليم و الإذعان بالمعاد وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ

لانهماكهم في الشّهوات لا يَشْكُرُونَ فضله و إحسانه، و لا يعتبرون بهذه الآيات، و لا ينتفعون بها.

سورة البقرة (2): آیة 244

و قيل: إنّ اللّه سبحانه ساق القصّة للحثّ على الجهاد، لدلالة قوله بعده: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ

و نصرة دينه لإعلاء كلمته، فإنّ الفرار من الموت ليس بمنج منه، كما قال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا

ص: 491


1- مجمع البيان 605:2.
2- تفسير الرازي 163:6.
3- تفسير الرازي 162:6.
4- تفسير الرازي 164:6.

يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ (1) فلا تتركوا الجهاد بسبب خوف الموت وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ لمقالكم في التّرغيب إلى الجهاد و التّرهيب منه عَلِيمٌ بما في قلوبكم من الدّواعي الدّينيّة و الدّنيويّة.

سورة البقرة (2): آیة 245

اشارة

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

سورة البقرة (2): آیة 245

ثمّ لمّا كان الجهاد موقوفا على الإنفاق على نفسه، و على غيره من

العاجزين عن نفقة السّفر و مئونة الجهاد، أردف الأمر بالجهاد بالتّرغيب الأكيد في أداء الصّدقات بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ بالإنفاق على الفقراء من المؤمنين بإخلاص النيّة و طيب النّفس قَرْضاً حَسَناً و مالا حلالا طيبا. و إطلاق القرض على الصّدقة باعتبار أنّ الصّدقة قطع قطعة من المال عن نفسه، بعوض الأجر الموعود من اللّه.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «من تصدّق بصدقة، فله مثلها في الجنّة». فقال أبو الدحداح - و اسمه عمر(2)

بن الدحداح -: [يا رسول اللّه] إنّ لي حديقتين، إن تصدّقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنّة ؟ قال:

«نعم»، قال: و امّ الدحداح معي ؟ قال: «نعم »(3).

و في رواية قال: و الصّبية معي ؟ قال: «نعم». فتصدّق بأفضل حديقتيه(4).

و في رواية ابن عبّاس: كانت تسمّى الحنينة، فدفعها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فضاعف اللّه صدقته ألفي ألف، و ذلك قوله تعالى: أَضْعافاً كَثِيرَةً .

قال: فرجع أبو الدحداح، فوجد امّ الدحداح و الصّبية في الحديقة التي جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة، فكره أن يدخلها، فنادى: يا امّ الدحداح، قالت: لبّيك يا أبا الدحداح، قال: إنّي قد جعلت حديقتي صدقة، [و اشتريت مثليها في الجنّة و امّ الدحداح معي و الصّبية معي] قالت: بارك اللّه في ما شريت و في ما اشتريت. فخرجوا منها، و أسلموا الحديقة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(3).

فَيُضاعِفَهُ لَهُ في الأجر و الثّواب أَضْعافاً كَثِيرَةً لا يعلمها إلاّ اللّه. و قيل: الواحد بسبعمائة؛ نظرا إلى قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ (4).

ص: 492


1- النساء: 78/4.
2- في مجمع البيان: عمرو. (3و4) مجمع البيان 608:2.
3- مجمع البيان 608:2، تفسير الرازي 166:6.
4- البقرة: 261/2.

و عن (المعاني): عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها (1) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ زدني، فأنزل اللّه سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (2).فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ زدني، فأنزل اللّه عز و جل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ الكثير من اللّه لا يحصى و ليس له منتهى »(3).

و عن (الكافي): عنه عليه السّلام، قال: «ما من شيء أحبّ إلى اللّه من اخراج الدّرهم إلى الإمام، و إنّ اللّه ليجعل له الدّرهم في الجنّة مثل جبل احد».

ثمّ قال: «إنّ اللّه يقول في كتابه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً إلى قوله: أَضْعافاً كَثِيرَةً قال:

هو و اللّه في [صلة] الإمام»(4) الخبر.

ثمّ أزال خوف الفقر عن القلوب، بقوله: وَ اللّهُ يَقْبِضُ و يمنع عن الخلق وَ يَبْصُطُ و يوسّع عليهم، فإنّ الغنى و الفقر بتقدير اللّه و بيده، فلا يفقركم الإعطاء، و لا يغنيكم البخل، فتزوّدوا في يومكم هذا ليوم لقاء اللّه، فإنّكم إليه تقلبون وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيوفّي ما اقترض منكم بأحسن وفاء، و يجازيكم بأوفر جزاء.

و فيه تنبيه على أنّ الغنيّ يفارق ماله بالموت، فليبادر إلى الإنفاق قبل الفوت، و في تأخير البسط عن القبض إشارة إلى أنّ اللّه تعالى قد يوسّع على العبد بعد التّقتير، ففيه التّسلية للفقراء.

سورة البقرة (2): الآیات 246 الی 247

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (246) وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)

ص: 493


1- النمل: 89/27.
2- الانعام: 160/6.
3- معاني الأخبار: 54/397.
4- الكافي 2/451:1، تفسير الصافي 251:1.
سورة البقرة (2): آیة 246

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر بالقتال، ذكر قصّة مخالفة بني إسرائيل، و غلبة فئة قليلة منهم فئة كثيرة، ليعلم المؤمنون قبح مخالفة أمر الجهاد، و ليتّكلوا في النّصرة على اللّه لا على الكثرة و العدد و العدّة. و لعلّه لاظهار إحاطة قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - في عالم الأشباح - بجميع وقائع العالم من بدء الخلقة كما مرّ، قال مخاطبا له أَ لَمْ تَرَ إِلَى حال اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ و أشرافهم ؟ و هذا الاستفهام لتقرير من بلغ إليهم القصّة بالتواتر، أو العجب من شأن الملأ و هم كانوا مِنْ بَعْدِ وفاة مُوسى ابن عمران إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ قيل: هو يوشع بن نون وصيّ موسى، و هو من ولد يوسف. و قيل: شمعون من ولد لاوي بن يعقوب. و قيل: إشموئل من بني هارون(1).

نقل أنّه لمّا ادّعى النبوّة كذّبه بنو إسرائيل، و قالوا له: إن كنت صادقا فأتنا بآية. و لمّا كان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، و طاعة الملوك لأنبيائهم، و كان الملك يسيّر الجموع، و النبيّ يقيم أمره، و يشير عليه، قالوا له: إن كنت نبيّا اِبْعَثْ و انهض لَنا مَلِكاً و أميرا نصدر عن رأيه و تدبيره في قتال كفّار العمالقة، حتى نُقاتِلْ معه فِي سَبِيلِ اللّهِ و نصرة دينه.

عن (العيّاشي): عن الصادق عليه السّلام قال: «فإنّ الملك في ذلك الزّمان هو الذي يسير بالجنود، و النبيّ يقيم له أمره و ينبئه بالخبر من عند ربّه »(2).

في استيلاء جالوت رأس العمالقة على بني إسرائيل بعصيانهم و تغييرهم دين اللّه و عتوّهم عن أوامره

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ بني إسرائيل من بعد موسى عملوا بالمعاصي، و غيّروا دين اللّه، و عتوا عن أمر ربّهم، و كان فيهم نبيّ يأمرهم و ينهاهم، فلم يطيعوه، فسلّط اللّه عليهم جالوت، و هو من القبط ، فآذاهم و قتل رجالهم، و أخرجهم من ديارهم، و أخذ أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيّهم، و قالوا: اسأل اللّه تعالى أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه. و كانت النبوّة - في بني إسرائيل - في بيت، و الملك في بيت آخر، لم يجمع اللّه لهم النبوّة و الملك في بيت واحد، فمن ذلك قالوا: ابعث لنا ملكا»(3) الخبر.

قالَ النّبيّ هَلْ عَسَيْتُمْ و قاربتم إِنْ كُتِبَ و وجب عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا جبنا و خوفا، فإنّي أظنّ و أتوقّع جبنكم عن القتال.

قالُوا وَ ما العذر لَنا و أيّ داع يتصوّر في أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ و أن نترك نصرة دينه

ص: 494


1- تفسير الرازي 170:6.
2- تفسير العياشي 541/250:1.
3- تفسير القمي 81:1، بحار الأنوار 4/439:13.

وَ الحال أنّا قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا و طردنا من أوطاننا، و اغتربنا من أهلنا وَ أَبْنائِنا و كلّ من هذه المصائب و البليّات أقوى المهيّجات إلى القتال.

و قيل: إنّ جالوت كان رأس العمالقة و ملكهم، و هو من أولاد عمليق بن عاد، و كان هو و العمالقة يسكنون ساحل بحر الرّوم بين مصر و فلسطين، و ظهروا على بني إسرائيل، و أخذوا ديارهم، و سبوا أولادهم، و أسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة و أربعين نفسا و ضربوا عليهم الجزية و أخذوا توراتهم(1).

فَلَمّا كُتِبَ و فرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بعد دعاء النبيّ و بعث الملك، آل أمرهم إلى أن تَوَلَّوْا

و تخلّفوا عن القتال. قيل: لأنّهم علّلوا قتالهم بحظوظ النّفس، فخذلوا و ظلموا عند الامتحان إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ و هم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، بعدد أصحاب بدر، و أصحاب القائم عليه السّلام وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ

على أنفسهم بالتّقاعد عن الجهاد.

في اصطفاء طالوت للسّلطنة

سورة البقرة (2): آیة 247

ثمّ بيّن اللّه تعالى تفضيل بعث الملك، و تولّي القوم بقوله: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بعد مراجعة اللّه و وحيه: إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً فأطيعوه و قاتلوا عدوّكم معه.

روي أنّه عليه السّلام لمّا دعا ربّه أن يجعل لهم ملكا، أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم، فلم يساوها إلاّ طالوت(2).

قيل: إنّ اشموئيل(3) جاء بعصا و قرن فيه دهن القدس، قال: إنّ صاحبكم الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا، و نقل أنّه ضلّت حمير لأبي طالوت، فأرسله أبوه في طلبها، فمرّ ببيت إشموئل، فدخل عليه حتى يسأله عن الحمير، فقاسه طالوت بالعصا، فكان على طولها، فقال لطالوت: قرّب رأسك فقرّبه، فدهنه بدهن القدس، ثمّ قال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني اللّه أن املّكه عليهم، قال:

بأيّ آية ؟ قال: بآية أنّك ترجع و قد وجد أبوك حميره، فكان كذلك (4).ثمّ أخبر إشموئل بني إسرائيل بنصب طالوت للسلطنة.

و قيل: لمّا كانت السلطنة في بيت يهودا، و كان طالوت من سبط بنيامين، و كان سبط بنيامين قليلا مستحقرا بين بني إسرائيل.

قالُوا متعجّبين من قول النبيّ ، و منكرين له: أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ و السلطنة عَلَيْنا و كيف يمكن أن يكون ذلك وَ نَحْنُ لشرافة بيوتنا أَحَقُّ و أولى بِالْمُلْكِ و السّلطنة مِنْهُ فتقديم

ص: 495


1- تفسير أبي السعود 239:1.
2- تفسير أبي السعود 240:1.
3- في النسخة: الشموئل.
4- تفسير روح البيان 383:1.

غير المستحقّ على من هو أحقّ قبيح، كتقديم أبي بكر على عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام في الخلافة.

ثمّ اعترضوا ثانيا، بقولهم: وَ الحال أنّ طالوت لَمْ يُؤْتَ ثروة و لم يعط سَعَةً مِنَ الْمالِ

فيشرف بالمال إذا فاته شرف الحسب، بل هو فقير معدم، لا مال له كي يتقوّى به في تأسيس ملكه و سلطانه. قيل: كان راعيا، و قيل: مكاريا (1) ،و قيل: دبّاغا، و قيل: سقّاء(2).

قالَ النبيّ ردّا عليهم إِنَّ اللّهَ بحكمته اِصْطَفاهُ و استخلصه للملك و اختاره عَلَيْكُمْ

و ليس لكم أن تعترضوا على اللّه في ما اختاره و اصطفاه.

ثمّ بعد الجواب الإجمالي، شرع في الجواب التّفصيلي بقوله: وَ زادَهُ بَسْطَةً و سعة فِي الْعِلْمِ

بأحكام الدّين و سياسة الملك و شئون الحرب، وَ بسطة في اَلْجِسْمِ و عظمة في الجثّة، و طولا في القامة، و شدّة في البطش.

في أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان أحقّ بالخلافة من غيره

و توضيح الجواب: أنّ شرافة النّسب، و كثرة المال ليستا من الكمالات الحقيقيّة، و ممّا له دخل في لياقة الملك و أهليّة الإمارة، و إنّما الدّخيل في استحقاق هذا المنصب العلم بأحكام الدّين، و سياسة الملك، و عظمة الجسم، و كمال القوى، و الشّجاعة.

فبالعلم تدبّر المملكة و تنظم الامور، و بالجسامة تعظم مهابته في الأنظار، و بالشّجاعة يكايد الأعداء، و يقاوم في الهيجاء، و لذا كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أحقّ بالخلافة من سائر الصّحابة؛ لأنّه كان أعلم و أزهد و أشجع من جميع النّاس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان بخلافته أولى، و هذا مع قطع النّظر عن اصطفائه [من قبل] اللّه و نصبه بالنصّ الصّريح على ولايته.

قيل: كان طالوت أطول من جميع بني إسرائيل برأسه و منكبه، حتى إنّ الرّجل القائم كان يمدّ يده فينال رأسه، و كان أجمل و أقوى من جميعهم.

وَ اللّهُ الذي بيده الملك و الملكوت يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ من عباده. و فيه دلالة على أن لا ملك لغيره وَ اللّهُ واسِعٌ حكمة و فضلا و رحمة، فيوسع على الفقير و يغنيه عَلِيمٌ بمصالح العالم و قابليّات بني آدم.

في اعتراض الفخر الرازي على الإمامة و جوابه

قال الفخر: هذه الآية تدلّ على بطلان قول من يقول: إنّ الإمامة موروثة (3) ،و لعلّ

ص: 496


1- المكاري: هو الذي يكري، أي: يؤجّر الدّواب - من البغال و الحمير - لغيره.
2- تفسير الرازي 173:6.
3- تفسير الرازي 173:6.

اعتراضه على أصحابنا الإمامية.

و فيه: أنّهم لا يقولون بأنّها موروثة، بل يقولون بأنّها منصوصة لمن كان في الأصلاب الشّامخة و الأرحام المطهّرة و النفوس الزّكيّة التي طهّرها اللّه من كلّ رجس.

ثمّ إنّا نقول: إنّ الآية تدلّ على بطلان إمامة من اختاره الخلق، و عدم أهليّة غير الأعلم و الأفضل، و من يقول: أقيلوني، و لست بخيركم و عليّ فيكم لها.

سورة البقرة (2): آیة 248

اشارة

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

سورة البقرة (2): آیة 248

ثمّ أنّه تعالى - بعد نصب طالوت للسلطنة؛ بإخبار النبيّ الذي كان قوله حجّة - جعل لقطع العذر، و دفع اعتراض بني إسرائيل، دليلا و آية على صدق النبيّ ، و كون سلطنة جالوت بنصبه، و هو ما أشار إليه بقوله: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ من قبل اللّه، و علامة سلطنته الإلهيّة أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ .

و قيل: إنّه قال ذلك بعد طلب بني إسرائيل من النبيّ آية على سلطنة طالوت.

في ذكر خصوصيات تابوت بني إسرائيل و آثاره

قيل: كان التّابوت صندوقا أنزله اللّه على موسى عليه السّلام، فوضعته امّه فيه فألقته في اليمّ ، فلمّا حضر موسى عليه السّلام الوفاة، وضع فيه ألواح التوراة و درعه و ما كان عنده من آيات النّبوّة، و أودعه يوشع بن نون وصيّه.

و نقل أنّ اللّه أنزل على آدام تابوتا، فيه صور الأنبياء من أولاده، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب، ثمّ بقي في أيدي بني إسرائيل، فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلّم و حكم بينهم، و إذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم، يستفتحون به على عدوّهم، و كانت الملائكة [تحمله] فوق العسكر و هم يقاتلون العدوّ، فإذا سمعوا من التّابوت صيحة استيقنوا بالنّصرة(1).

و روي أنّ سعته كانت ثلاثة أذرع في ذراعين(2).

و روي أنّه إذا وضع التّابوت بين المسلمين و الكفّار، فإن تقدّم التّابوت رجل، لا يرجع حتى يقتل أو

ص: 497


1- تفسير الرازي 176:6.
2- معاني الأخبار: 2/284.

يغلب، و من يرجع عنه كفر، و قتله الإمام (1).فلمّا عصوا و فسدوا و استخفّوا به - حتى إنّ الصّبيان كانوا يلعبون به في الطرقات و يستخفّون به - سلّط اللّه عليهم العمالقة، فغلبوهم على التّابوت، و سلبوه، فلمّا سألوا نبيّهم آية على ملك طالوت، قال ذلك النبيّ : إنّ آية ملكه أنّكم تجدون التّابوت في داره.

ثمّ أنّ الكفّار الذين سلبوا ذلك التّابوت، كانوا قد جعلوه في موضع البول و الغائط ، فدعا النبيّ في ذلك الوقت، فسلّط اللّه على اولئك الكفّار البلاء، حتّى إنّ كلّ من بال عنده أو تغوّط ، ابتلاه اللّه بالبواسير.

و نقل أنّه هلك من بلادهم خمس مدائن، فعلم الكفّار أنّ ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت، فأخرجوه و وضعوه على ثورين فأقبل الثّوران يسيران، و وكّل اللّه بهما أربعة من الملائكة يسوقونها حتى أتوا منزل طالوت، ثمّ أنّ قوم ذلك النبيّ رأوا التّابوت، فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكا.

فعلى هذا، نسبة الإتيان إلى التّابوت من باب التّوسّع و المجاز، كما يقال ربحت التّجارة(2).

و عن ابن عبّاس: أنّ التّابوت صندوق، كان موسى يضع فيه التوراة، و كان من خشب، و كانوا يعرفونه، ثمّ أنّ اللّه رفعه بعد ما قبض موسى؛ لسخطه على بني إسرائيل، قال نبيّ اولئك القوم: إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التّابوت من السّماء(3).

عن الصادق عليه السّلام: «حيثما دار التّابوت في بني إسرائيل دار الملك، و أينما دار السلاح فينا دار العلم »(4).

و في رواية: «أنّ مثل السّلاح فينا مثل التّابوت في بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل، أيّ أهل بيت وجد التّابوت على بابهم أوتوا النّبوّة، فمن صار إليه السّلاح منّا أوتي الإمامة »(5).

فِيهِ سَكِينَةٌ كائنة مِنْ رَبِّكُمْ سئل الكاظم عليه السّلام عن السّكينة ؟ فقال: «ريح تخرج من الجنّة، لها صورة كصورة الإنسان، و رائحة طيّبة، و هي التي نزلت على إبراهيم، فأقبلت تدور حول أركان البيت و هو يضع الأساطين »(6).

و في رواية اخرى: عنه عليه السّلام، قيل: و ما السّكينة ؟ قال: «روح اللّه يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء

ص: 498


1- تفسير القمي 82:1.
2- تفسير الرازي 176:6.
3- تفسير الرازي 176:6.
4- الكافي 2/185:1.
5- الكافي 1/185:1.
6- قرب الإسناد: 1327/373.

كلّمهم و أخبرهم ببيان ما يريدون »(1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ السّكينة التي كانت فيه ريح هفّافة من الجنّة، لها وجه كوجه الإنسان »(2).

وَ فيه بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ عن الباقر عليه السّلام: «أنّ البقيّة عصا موسى و رضاض(3)

الألواح »(4).

و في رواية: عن الرضا عليه السّلام، قال: «كان فيه ألواح موسى التي تكسّرت، و الطّست التي يغسل فيها قلوب الأنبياء »(5).

و في رواية: «البقيّة ذرّيّة الأنبياء»(6) و الظّاهر أنّ المراد من الذّرّيّة، ما بقي من الأنبياء.

ثمّ بيّن اللّه كيفيّة إتيان التّابوت بقوله: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ .

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام: «فجاءت به الملائكة تحمله »(7).

و في رواية: «يحمله ثوران و الملائكة تسوقهما »(8).

و في رواية: «لم تحمله الملائكة و لا الثوران، بل نزل من السّماء إلى الأرض، و الملائكة يحفظونه »(9).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إتيان التّابوت في منزل طالوت بحمل الملائكة لَآيَةً عظيمة، و معجزة باهرة لَكُمْ يا بني إسرائيل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشيء من الآيات.

ثمّ لمّا أذعنوا له بالملك جهّز الجيش لقتال العمالقة. روي أنّ طالوت قال لقومه: لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه، و لا تاجر مشتغل بالتّجارة، و لا متزوّج بامرأة لم يبن عليها، و لا أبغي إلاّ الشابّ النّشيط الفارغ. فاجتمع إليه ممّن اختار ثمانون ألفا(10).

سورة البقرة (2): آیة 249

اشارة

فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

ص: 499


1- معاني الأخبار: 2/285.
2- مجمع البيان 614:2.
3- في النسخة: رضراض، و الرّضاض: هو فتات الشيء و قطعه المتبقية بعد تحطّمه و تكسّره، أما الرضراض: فهو الصغير من الحجارة و الحصى.
4- مجمع البيان 614:2 عن الصادق عليه السّلام.
5- تفسير العياشي 546/253:1.
6- تفسير العياشي 545/252:1.
7- الكافي 498/316:8.
8- تفسير الرازي 176:6.
9- تفسير الرازي 176:6.
10- تفسير الرازي 179:6.

وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ (249)

سورة البقرة (2): آیة 249

فَلَمّا فَصَلَ و فارق و جاوز طالُوتُ البلد، و قيل: هو بيت المقدس مصاحبا بِالْجُنُودِ

و العساكر. قيل: كانوا ثمانين ألفا، و قيل: سبعون ألفا، و قيل: ثلاثون ألف مقاتل.

في بيان كيفية ابتلاء بني إسرائيل بنهر

قالَ طالوت عن نفسه، أو إخبارا عن نفسه، أو إخبارا عن النبيّ . و روي أنّ القائل للجنود هو النبيّ (1)

إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ و ممتحنكم بِنَهَرٍ حتى يعلم المجاهدين و الصّابرين.

عن ابن عبّاس: أنّه كان بين الأردن و فلسطين(2).

و قيل: كان الوقت قيظا، فسلكوا مفازة فسألوا أن يجري اللّه لهم نهرا فقال: إنّ اللّه مبتليكم بما اقترحتموه من النّهر (3)فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي و من أصحابي المطيعين وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ و لم يذقه فَإِنَّهُ مِنِّي و من أصحابي، و أهل طاعتي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً من الماء بِيَدِهِ فلا بأس بشرب غرفة واحدة، فاختصّ المنع بشرب يكون بوضع الفم في ماء النّهر.

روي عن ابن عبّاس: كانت الغرفة يشرب منها هو و دوابّه و خدمه، و يحمل منها. الخبر (4) ،و لعلّه لبركة اللّه بإعجاز النبيّ .

فلمّا انتهى الجنود إلى النّهر و ابتلوا به فَشَرِبُوا مِنْهُ كالدّوابّ ، و لم يقنعوا بالغرفة فضلا عن أن لا يشربوا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .

و عن الرضا عليه السّلام في رواية: «و قال لهم نبيّهم: يا بني إسرائيل، إنّ اللّه مبتليكم [بنهر] في هذه المفازة، فمن شرب منه فليس من حزب اللّه، و من لم يشرب فهو من حزب اللّه إلاّ من اغترف غرفة بيده.

فلمّا وردوا النّهر أطلق اللّه لهم أن يغترف كلّ واحد منهم غرفة [بيده]، فشربوا منه الاّ قليلا منهم.

فالّذين شربوا منه كانوا ستين ألفا »(5).

و نقل أنّ من لم يقتصر على الغرفة غلب عطشه، و اسودّت شفته، و لم يقدر أن يمضي، و بقي على

ص: 500


1- تفسير القمي 83:1، تفسير الرازي 179:6.
2- الدر المنثور 759:1.
3- تفسير الرازي 180:6.
4- تفسير الرازي 182:6.
5- تفسير القمي 83:1، تفسير الصافي 256:1.

شطّ النّهر. فعرف طالوت الموافق من المخالف.

و أعلم أنّ مثل الدّنيا مثل هذا النّهر، فمن لم يقنع بالكفاف لا يشبع إلاّ بتراب القبر.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «القليل - الّذين لم يشربوا، و لم يغترفوا - ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا »(1).

فَلَمّا جاوَزَهُ أي عبر النّهر هُوَ أي طالوت وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ رأوا قوة جالوت و كثرة جنوده، خافوا و قالُوا عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «قال الّذين شربوا منه »(2):لا طاقَةَ و لا قوّة لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ و بمحاربتهم.

قيل: كانوا مائة ألف مقاتل، كلّهم شاكي السّلاح (3) ،و كان جالوت رأس العمالقة و ملكهم، و كان من أشدّ النّاس و أقواهم، و كان يهزم الجيوش وحده.

قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ و يتيقّنون بالمعاد و لقاء كرامة اللّه و ثوابه، و لم يلههم حبّ الدّنيا و لذّاتها، للمرعوبين من كثرة عدّة العدوّ و شوكتهم: اثبتوا في القتال و لا تنظروا كثرة العدوّ فإنّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ و فرقة قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ و هزمت فِئَةٍ و جماعة كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ و إرادته و نصرته وَ اللّهُ بتأييده و معونته مَعَ الصّابِرِينَ في طاعته و قتال عدوّه، فلا عبرة بكثرة العدوّ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ (4).

سورة البقرة (2): الآیات 250 الی 251

اشارة

وَ لَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)

سورة البقرة (2): آیة 250

وَ لَمّا بَرَزُوا في ميدان الحرب لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ و تهيّئوا لقتالهم مع ما رأوا من قلّة عددهم و ضعفهم، و كثرة عدوّهم و شوكتهم، تضرّعوا إلى اللّه في طلب الإعانة و النّصرة قالُوا (5)رَبَّنا

و يا من بيده تدبير امورنا على وفق صلاحنا أَفْرِغْ و اصبب عَلَيْنا صَبْراً في منازلتهم، و أعطنا

ص: 501


1- تفسير القمي 83:1.
2- تفسير القمي 83:1.
3- تفسير روح البيان 388:1، و رجل شاكي السلاح: تام السلاح كامل الاستعداد.
4- آل عمران: 160/3.
5- في النسخة: بقولهم.

قوّة تحمّل البلايا و المكاره و الآلام في مقاتلتهم وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا في مزاولة النّزال، و معركة القتال وَ انْصُرْنا بإعانتك و تأييدك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الّذين لا يليقون لرحمتك و رأفتك. فحقّق اللّه ظنّهم، و أجاب لهم دعوتهم فَهَزَمُوهُمْ و فرّقوا جمعهم و كسروا شوكتهم بِإِذْنِ اللّهِ و نصره.

قصّة قتل جالوت و انهزام عسكره

عن القمّي، عن الرضا عليه السّلام: «فأوحى اللّه إلى نبيّهم: أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى عليه السّلام، و هو رجل من ولد لاوي بن يعقوب، اسمه داود بن آسي، و كان آسي راعيا، و كان له عشرة بنين أصغرهم داود. فلمّا بعث طالوت إلى بني إسرائيل و جمعهم لحرب جالوت، بعث إلى آسي أن احضر و أحضر ولدك، فلمّا حضروا دعا واحدا واحدا من ولده، فألبسه الدّرع - درع موسى - فمنهم من طالت عليه، و منهم من قصرت عنه، فقال لآسي: هل خلّفت من ولدك أحدا؟ قال: نعم، أصغرهم تركته في الغنم راعيا. فبعث إليه [ابنه] فجاء به، فلمّا دعي أقبل و معه مقلاع (1).قال: فنادته ثلاث صخرات في طريقه، فقالت: يا داود خذنا، فأخذها في مخلاته (2) ،و كان شديد البطش قويا في بدنه شجاعا، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى، فاستوت عليه »(3).

و في رواية العيّاشي: «أنّ داود لمّا دخل العسكر، سمعهم يتعظمون أمر جالوت، فقال لهم: ما تعظّمون من أمره، فو اللّه لئن عاينته لأقتلنّه. فحدّثوا بخبره حتّى ادخل على طالوت، فقال: يا فتى، و ما عندك من القوّة، و ما جرّبت من نفسك ؟ قال: كان الأسد يعدو على الشّاة من غنمي فادركه، فآخذ برأسه فأفكّ لحييه(4) منها، فآخذها من فيه. قال: فقال: ادع إليّ بدرع سابغة (5) ،قال: فأتي بدرع، فقذفها في عنقه فتملّأ(6) منها. قال: فقال طالوت: و اللّه لعسى اللّه أن يقتله به، قال: فلمّا أن أصبحوا و رجعوا إلى طالوت، و التقى النّاس ...»(7).

و في رواية القمّي: «و وقف داود بحذاء جالوت، و كان جالوت على الفيل، و على رأسه التّاج، و في جبهته ياقوتة يلمع نورها، و جنوده بين يديه، فأخذ داود من تلك الحجارة حجرا فرمى به [في] ميمنة جالوت، فمرّ في الهواء و وقع عليهم فانهزموا، و أخذ حجرا آخر فرمى به [في] ميسرة جالوت فانهزموا، و رمى جالوت بحجر(8) فصكّ الياقوتة في جبهته، و وصل إلى دماغه، و وقع إلى الأرض

ص: 502


1- المقلاع: ما يرمى به الحجر.
2- المخلاة: ما يوضع فيه العلف و يعلق في عنق الدابة.
3- تفسير القمي 82:1، تفسير الصافي 255:1.
4- اللّحيان: العظمان اللذان فيهما الأسنان.
5- سابغة: أي واسعة.
6- أي امتلأت به، و استوت عليه فكانت بقدر حجمه.
7- تفسير العياشي 445/134:1، تفسير الصافي 256:1..
8- زاد في المصدر: ثالث.

ميتا »(1).

روي عن ابن عبّاس: أنّ داود كان راعيا، و له سبعة إخوة مع طالوت، فلمّا أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشا، أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم و هم في المصافّ (2) ،و بدر جالوت الجبّار - و كان من قوم عاد - إلى البراز، فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا بني إسرائيل، لو كنتم على حقّ لبارزني بعضكم. فقال داود لإخوته: أ ما فيكم من يخرج إلى هذا الأغلف (3) ؟فسكتوا، فذهب إلى ناحية من الصّف ليس فيها إخوته، فمرّ به طالوت و هو يحرّض النّاس؛ فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأغلف ؟ فقال طالوت: انكحه ابنتي و اعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا خارج إليه، و كان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذّئب و الأسد في المرعى، و كان طالوت عارفا بجلادته. فلمّا همّ داود بأن يخرج إلى جالوت مرّ بثلاثة أحجار، فقلن: يا داود، خذنا معك، ففينا ميتة جالوت. ثمّ لمّا خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره، و نفذ الحجر فيه (4)وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ و قتل بعده ناسا كثيرا، فهزم اللّه جنود جالوت.

و في رواية العيّاشي: «و قال النّاس: قتل داود جالوت، و ملك النّاس حتّى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، و اجتمعت بنو إسرائيل على داود»(5) الخبر.

و في رواية ابن عبّاس: فحسده طالوت، فأخرجه من مملكته، و لم يف له بوعده، ثمّ ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل(6).

وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ و السلطنة على عامّة بني إسرائيل، فاستملك جميع أراضيهم، و لم يتجمّعوا قبل داود على ملك واحد وَ آتاه اَلْحِكْمَةَ قيل: هي النّبوة، و لم يجتمع الملك و النبوّة في بني إسرائيل قبله إلاّ له، بل كان الملك في سبط يهودا، و النّبوة في سبط لاوي. و في رواية: و أنزل اللّه عليه الزّبور(7).

ص: 503


1- تفسير القمي 83:1، تفسير الصافي 256:1.
2- المصافّ : جمع مصفّ ، و هو موقف الحرب؛ حيث يقف و يصطف المقاتلون صفوفا متقابلة مع العدو.
3- الأغلف: الذي لم يختن.
4- تفسير الرازي 188:6.
5- تفسير العياشي 549/255:1، تفسير الصافي 257:1.
6- تفسير الرازي 188:6. (7و4) تفسير العياشي 549/255:1.

وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ و في رواية: علّمه صنعة الحديد، و ليّنه له (1). و قيل: منطق الطّير و النّمل. و قيل:

الحكم و القضاء. و قيل: الألحان (1).و لا يبعد أن يكون المراد هو الجميع.

ثمّ بعد بيان منّته على بني إسرائيل بدفع جالوت و جنوده عنهم و نعمه عليهم، بيّن أنّ هذه النّعمة عامّة لجميع أهل العالم بقوله: وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ الكفّار بِبَعْضٍ المؤمنين.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أي يدفع الهلاك بالبرّ عن الفاجر»(2) الخبر. و لعلّ المراد أنّ اللّه يدفع البلاء ببركة الأخيار عن الفجّار، فيسلم و يعيش أهل الفسق و الفجور بسبب وجود عباده الصّالحين، و لولاهم لمنعت السّماوات و الأرض بركاتها.

و يحتمل أن يكون المراد: لو لا دفع اللّه النّاس بعضهم عن المنكرات؛ بنهي بعضهم لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بمن فيها وَ لكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ جميعا، فيدفع بفضله هذا النّحو من الدفع حتى لا يعمّهم الفساد، فيمتنع الكافر بكفره قليلا، و يربح المؤمن بكسبه جزيلا.

سورة البقرة (2): آیة 252

اشارة

تِلْكَ آياتُ اللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

سورة البقرة (2): آیة 252

تِلْكَ القصص العجيبة الخارقة للعادة آياتُ اللّهِ و دلائل صنعه، و توحيده، و حكمته نَتْلُوها عَلَيْكَ وحيا، أو ننزّلها إليك بتوسّط جبرئيل حال كونها مقرونة بِالْحَقِّ المطابق للواقع، لا يعتريه شكّ و لا ريب وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فاتل تلك الآيات على النّاس ليعتبروا و يهتدوا، و إن أصرّوا على الكفر، فإنّما عليك البلاغ المبين، و فيه إشعار بأنّه غنيّ عن الاعتبار بتلك الآيات، فإنّ الشّهود و العيان مغن عن الدّليل و البرهان، و إنّما عليه تلاوتها على النّاس؛ لأنّ وظيفته الرّسالة.

سورة البقرة (2): آیة 253

اشارة

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

ص: 504


1- مجمع البيان 621:2، تفسير روح البيان 391:1، تفسير الرازي 189:6.
2- مجمع البيان 621:2، تفسير الصافي 257:1.
سورة البقرة (2): آیة 253

ثمّ ذكر اللّه تعالى اختلاف امم الأنبياء، و وقوع القتال بينهم، مع أنّ الأنبياء كانوا في كمال العظمة و علوّ المقام تسلية لقلب حبيبه، بقوله: تِلْكَ جماعة اَلرُّسُلُ الّذين أرسلناهم لإصلاح الأرض، و دفع الفساد، و هداية العباد فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ في المقامات المعنويّة، و مرتبة الرسالة عَلى بَعْضٍ

آخر مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ و شافهه بالمخاطبة كخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج و غيرها، و كموسى بن عمران وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ كثيرة، لا يقاس بغيره.

في أفضلية خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله على جميع الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقرّبين

و لعلّ الفرق بين التّفضيل المذكور في الصدر، و الرفع المذكور هنا، أنّ الأوّل لبيان أفضليّة بعض الرّسل على بعض، و تفاوت مراتب بعضهم بالقياس إلى [بعض] آخر، و هنا لبيان الرّفعة المطلقة من غير إضافة و نسبة إلى بعض آخر، كما أنّ رفعة السّلطان رفعة مطلقة بالنّسبة إلى الفقير، و لا يقال: إنّ السّلطان أرفع قدرا من الفقير الصّعلوك، فإن رتبة الفقير ليس بقابل أن تقع [في] طرف النّسبة لرتبة السّلطان، بخلاف رتبة السلطان بالنّسبة إلى سلطان آخر.

و هذه المرتبة من الرّفعة لخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله، حيث إنّه اوتي ما لم يؤت أحد من المرسلين، و لو أنّ إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام كانوا في زمانه عليه السّلام لم يسعهم إلاّ الايمان به و اتّباع دينه.

عن (العيون): عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما خلق اللّه خلقا أفضل منّي، و لا أكرم عليه منّي».

قال عليّ عليه السّلام: «فقلت: يا رسول اللّه أنت أفضل أم جبرئيل ؟»

فقال: «إنّ اللّه فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلني على جميع النّبيّين و المرسلين، و الفضل بعدي لك يا علي، و للأئمّة من بعدك، و إنّ الملائكة لخدّامنا، و خدّام محبّينا »(1).

عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اعطيت خمسا، لم يعطهنّ أحد قبلي و لا فخر: بعثت إلى الأحمر و الأسود و كان النبيّ قبلي يبعث إلى قومه، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و نصرت بالرّعب أمامي مسيرة شهر، و احلّت لي الغنائم و لم تكن لأحد قبلي، و اعطيت الشّفاعة فادّخرتها لامّتي، فهي نائلة إن شاء اللّه لمن لا يشرك باللّه شيئا »(2).

و روى البيهقي في (فضائل الصّحابة) على ما نقله الفخر الرّازي مع نهاية عصبيّته: أنّه ظهر عليّ عليه السّلام من بعيد، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «هذا سيّد العرب» فقالت عائشة: أ لست أنت سيّد العرب ؟ فقال: «أنا سيّد

ص: 505


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 22/262:1، تفسير الصافي 258:1.
2- تفسير الرازي 198:6.

العالمين »(1).

و قال بعض العلماء: إنّ كلّ أمير تكون مئونته على قدر رعيّته، و سعة مملكته. فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون مئونته بقدر تلك القرية، و من ملك المشرق و المغرب احتاج إلى أموال و ذخائر أكثر من أموال أمير القرية، فكذلك كلّ رسول بعث إلى قومه، اعطي من كنوز التّوحيد و جواهر المعرفة على قدر ما حمّل من الرّسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض، إنّما يعطى من كنوز الرّوحانيّة بقدر ذلك الموضع، و المرسل إلى كلّ أهل المشرق و المغرب إنسهم و جهنّم، لا بدّ و أن يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بامور أهل الشّرق و الغرب.

و إذا كان كذلك، كانت نسبة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلى نبوّة سائر الأنبياء، كنسبة ملك كلّ المشارق و المغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة (2) ،فلا جرم بلغ في العلم و الحكمة و المعرفة إلى حدّ لم يبلغه أحد من البشر، قال تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (3) و في الفصاحة - إلى أن قال: «اوتيت جوامع الكلم» و صار كتابه مهيمنا على سائر الكتب، و صارت امّته خير الأمم(4).

ثمّ خصّ اللّه تعالى عيسى بن مريم بالذكر، بقوله: وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الآيات اَلْبَيِّناتِ

و المعجزات الباهرات كإحياء الطّير المسوّى من الطّين بالنّفخ فيه، و إحياء الموتى و غير ذلك، مع كون معجزات موسى عليه السّلام أكثر لتوبيخ اليهود على عدم الإيمان به، مع وفور معجزاته وَ أَيَّدْناهُ و أعنّاه بِرُوحِ الْقُدُسِ قيل: إنّ القدس هو اللّه، و روحه جبرئيل.

و الإضافة تشريفيّة، فإنّ اللّه أعانه بجبرئيل في أوّل أمره، حيث قال: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا (5)

و في وسطه حيث علّمه العلوم، و في آخره حيث إنّه رفعه إلى السّماء(6).

و هؤلاء النّبيّون مع علوّ شأنهم و إتيانهم المعجزات الباهرات، اختلفت اممهم في الكفر و الإيمان حتى تقاتلوا وَ لَوْ شاءَ اللّهُ و أراد - إرادة تكوينيّة - توافقهم على الحقّ ، و تسالمهم عليه، و ترك مقاتلتهم، لاتّفقوا على الإيمان بالقهر و الجبر مَا اقْتَتَلَ اممهم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ بَعْدِهِمْ

و غبّ (7) وفاتهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من قبل رسلهم، الآيات اَلْبَيِّناتِ و شاهدوا المعجزات،

ص: 506


1- تفسير الرازي 198:6.
2- زاد في تفسير الرازي: و لمّا كان كذلك لا جرم اعطي من كنوز الحكمة و العلم ما لم يعط أحد قبله.
3- النجم: 10/53.
4- تفسير الرازي 198:6.
5- التحريم: 12/66.
6- تفسير الرازي 203:6.
7- أي بعدها.

و وضحت لهم دلائل الحقّ الموجبة لاتّفاقهم و اجتماعهم على الإيمان بهم، و الموادّة بينهم.

وَ لكِنِ مع ذلك - حيث لم يشأ اللّه قهرهم على التّوافق في الإيمان لكونه خلاف الحكمة، و أتمّ النّظام - اِخْتَلَفُوا بأهوائهم الزّائغة اختلافا شديدا فاحشا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بالرّسل و ما جاءوا به، و أطاع وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بهم، و عصى وَ لَوْ شاءَ اللّهُ بعد وقوع الاختلاف بينهم، عدم اقتتالهم مَا اقْتَتَلُوا بأن لم يتحرّك منهم عضو للقتال، و لم يحدث في قلوبهم داع إليه وَ لكِنَّ اللّهَ بقدرته الكاملة يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من الخذلان و العصمة عدلا و فضلا.

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام: «في هذه الآية دلالة على أنّ أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله قد اختلفوا من بعده، فمنهم من آمن، و منهم من كفر »(1).

عن العيّاشي: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الجمل: كبّر القوم و كبّرنا، و هلّل القوم و هلّلنا، و صلّى القوم و صلّينا، فعلام نقاتلهم ؟ فتلا هذه الآية، ثمّ قال: «نحن الّذين من بعدهم»، و قال: «فنحن الّذين آمنّا، و هم الّذين كفروا »(2).

و في رواية، قال: «فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى باللّه عزّ و جلّ و بالنّبيّ و الكتاب و بالحقّ ، فنحن الّذين آمنوا، و هم الّذين كفروا، و شاء اللّه تعالى قتالهم بإرادته و مشيئته »(3).

سورة البقرة (2): آیة 254

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ (254)

سورة البقرة (2): آیة 254

ثمّ لمّا كان في الآية السّابقة إشعار بلزوم القتال بين المؤمنين و الكافرين، و من الواضح أنّه متوقّف على صرف المال، أردفه بالأمر بإنفاقه، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا في الجهاد، و سائر سبل الخير، شيئا مِمّا رَزَقْناكُمْ و تفضّلنا به عليكم إحسانا و كرما.

و فيه دلالة على أنّ كل ما بأيدي النّاس من الأموال، من مواهب اللّه و إنعامه عليهم و ليس لهم شيء منها، و على هذا لا ينبغي أن يصعب على احد إنفاقه، بل عليه أن ينفقه بسهولة و بلا منّة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يوم فاقة جميع النّاس، و غاية استئصالهم، و هو يوم القيامة، حيث إنّه يَوْمٌ لا بَيْعٌ و [لا]

ص: 507


1- الكافي 398/270:8، تفسير الصافي 258:1.
2- تفسير العيّاشي 552/256:1، تفسير الصافي 258:1.
3- أمالي الطوسي: 337/198، تفسير الصافي 258:1.

تجارة يكتسب بها فِيهِ مال يفيد أحدا، و يكون فداء لنفس وَ لا خُلَّةٌ و صداقة فيه بين النّاس، بل الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ وَ لا شَفاعَةٌ نافعة إذ الشّفعاء لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى.

و الحاصل: أنّه لمّا كانت أسباب جلب المنافع في الدّنيا منحصرة بالمعاوضات، و عمدتها البيع، و بالموادّة بالصّلات و الهدايا، و بالمعاونة للغير، و عمدتها الشّفاعة، و الإنسان منقطع عن جميعها في الآخرة، فعليه أن يكتسب نفع الآخرة في الدّنيا بالإنفاق و العمل الصّالح.

و يحتمل أن يكون المراد من الإنفاق بذل جميع ما كان واجدا له بعطاء اللّه من النّفس في الجهاد، و القوى في الطاعات، و العلم في هداية الخلق، و المال لفقراء المؤمنين، و الجاه في قضاء حوائج العباد، و غير ذلك ممّا يمكن صرفه في تحصيل مرضاة اللّه.

وَ الْكافِرُونَ بترك الطّاعة و عدم الإنفاق هُمُ الظّالِمُونَ على أنفسهم و لبلوغهم في هذا الوصف غايته، كأنّ المتّصف بهذا الوصف صار منحصرا بهم، لا يشركهم فيه غيرهم.

و قيل: المراد من الكافرين المؤمنون التّاركون للزّكاة، و التعبير عنهم بالكافرين للإشعار بأنّ ترك الزّكاة بمنزلة الكفر باللّه. و قال بعض: الحمد للّه الذي قال: وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ و لم يقل الظّالمون هم الكافرون(1).

سورة البقرة (2): آیة 255

اشارة

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

سورة البقرة (2): آیة 255

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر جملة من الأحكام و القصص، عاد إلى بيان التّوحيد و صفاته الكاملة الجلاليّة، ليحصل للقلوب نور و نشاط ، و للصدور انشراح و انبساط ، بقوله: اَللّهُ و في ذكر اسم الجلاليّة، ليحصل للقلوب نور و نشاط ، و للصدور انشراح و انبساط ، بقوله: اَللّهُ و في ذكر اسم الجلالة أوّلا إشارة إلى التّوحيد الذّاتي، لإشعار ذكره بانفراده بأنّ الموجود القابل للذّكر هو الذّات المقدّسة، و ما سواه عدم محض و ليس صرف، كما قال: قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ (2) الآية.

ثمّ أشار إلى التّوحيد الصّفاتي بقوله: لا إِلهَ و لا معبود يستحقّ بذاته عبوديّة جميع الموجودات

ص: 508


1- تفسير الرازي 207:6.
2- الأنعام: 91/6.

إِلاّ هُوَ وحده، لا شريك له في الالوهيّة، و فيه تنزيهه من جميع النّقائص.

ثمّ بعد إثبات الصفات الجلاليّة إجمالا، أثبت له الصّفات الجماليّة بذكر الصّفة الجامعة لها، و هي اَلْحَيُّ قيل في معناه: الدّائم، الباقي، الفعّال، المريد. و قيل: إنّه المدرك بذاته، و القادر بإرادته.

و اَلْقَيُّومُ و هو المتقوّم بذاته، المقوّم لكلّ ما عداه في ماهيّته و وجوده، و العالم بتدبير جميع الخلق و حفظهم، فيدلّ هذا الوصف على كون ذاته المقدّسة قديمة، أزليّة، دائمة، غنيّة، قادرة، عالمة.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لمّا كان يوم بدر قاتلت، ثمّ جئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنظر ما ذا يصنع - قال - فجئت و هو ساجد، يقول: يا حيّ يا قيّوم؛ لا يزيد على ذلك، ثمّ رجعت إلى القتال، ثمّ جئت و هو يقول ذلك، فلا أزال أذهب و أرجع و أنظر إليه، و كان لا يزيد على ذلك، إلى أن فتح اللّه له »(1).و قال بعض: إنّه الاسم الأعظم(2).

روي عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: أعظم أسماء اللّه الحيّ القيّوم(3).

و نقل أنّ عيسى عليه السّلام إذا أراد أن يحيي الموتى يقول: يا حيّ يا قيوم(4).

و قيل: دعاء من خاف الغرق في البحر: يا حيّ يا قيّوم(5).

ثمّ قرّر تعالى صفة القيموميّة بذكر لازمها، بقوله: لا تَأْخُذُهُ و لا تعتريه سِنَةٌ و فتور، أو نعاس وَ لا نَوْمٌ قيل: هو كناية عن عدم غفلته عن تدبير الخلق (4) ،كما أنّه يقال لمن غفل عن شيء وضيعة:

إنّك وسنان نائم.

ثمّ أكّد قيمومته، و احتجّ على تفرّده بالتّدبير بأنّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إذ هو خالق جميع الممكنات و مبدعها، فكلّها ملكه و تحت قدرته و سلطانه، ليس لغيره في عوالم الوجود تصرّف و لا حكم و لا نفوذ إرادة.

ثمّ لمّا كانت قريش يعبدون الأصنام بزعم أنّها شفعاء عند اللّه، عظّم كبرياءه، و أثبت توحّده في العبادة، و أنكر عليهم اعتقاد كونهم شفعاء بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ في شيء من الأشياء و أمر من الامور إِلاّ بِإِذْنِهِ و إجازته و رضاه، و من الواضح أنّه لا إذن إلاّ لمن له كرامة لديه، و مقام محمود عنده، كالنبيّ و خلفائه و صلحاء أمّته، دون الأصنام و الكفّار.

ص: 509


1- تفسير الرازي 3:7.
2- تفسير روح البيان 400:1.
3- تفسير الرازي 3:7. (4و5) تفسير الرازي 176:6.. تفسير روح البيان 400:1.
4- تفسير الرازي 6:7.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «أتاني آت [من عند ربي] فخيّرني بين أن يدخل نصف امّتي الجنّة و بين الشّفاعة، فاخترت الشّفاعة »(1).

ثمّ بيّن سعة علمه، و قصور غيره عن معرفة شيء بغير إفاضة منه بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

قيل: المراد ما كان قبلهم في الوجود، و من قوله: وَ ما خَلْفَهُمْ ما لم يكن بعد.

و هو مرويّ عن الرّضا عليه السّلام (2) ،و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي الآخرة؛ لأنّهم يقدمون عليها وَ ما خَلْفَهُمْ أي الدّنيا؛ لأنّهم يخلفونها وراء ظهورهم(3).

وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ و لا يطّلعون على جزء من معلوماته إِلاّ بِما شاءَ أن يعلمه غيره، و يطّلع عليه.

عن القمّي رحمه اللّه: إلاّ بما يوحي إليهم (4).و فيه دلالة واضحة على أنّ جميع العلوم بإفاضته تعالى، و لو لا إفاضته لم يعلم أحد شيئا حتى نفسه.

ثمّ أوضح سبحانه سعة ملكه، و عظمة سلطانه، و كمال إحاطته و علمه بقوله: وَسِعَ و أحاط كُرْسِيُّهُ و هو اسم للسّماء، الذي دون العرش، و فوق سائر الموجودات اَلسَّماواتِ و ما فيها وَ الْأَرْضَ و ما عليها. فعليه يكون الكرسيّ محيطا بجميع الموجودات سوى العرش، و إنّما سمّيت تلك السّماء باسم الكرسيّ تشبيها له بمقرّ سلطنته.

و عن العيّاشي، عنه عليه السّلام: أنّه سئل: إنّ السّماوات و الأرض وسعن الكرسيّ ، أم الكرسيّ وسع السّماوات و الأرض ؟ فقال: «إنّ كلّ شيء في الكرسيّ »(5).

و عن القمّي رحمه اللّه: أنّ عليّا عليه السّلام سئل عن هذه الآية، فقال: «السّماوات و الأرض و ما فيهما في جوف الكرسيّ ، و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه »(6).

و في الحديث النّبويّ : «ليس(7) السّماوات السّبع، و الأرضون السّبع مع(8) الكرسيّ إلاّ كحلقة ملقاة في فلاة، و فضل العرش على الكرسيّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة »(9).

ص: 510


1- تفسير روح البيان 402:1.
2- تفسير القمي 84:1، تفسير الصافي 259:1.
3- تفسير الرازي 10:7.
4- تفسير القمي 84:1، تفسير الصافي 259:1.
5- تفسير العياشي 558/258:1، تفسير الصافي 260:1.
6- تفسير القمي 85:1، تفسير الصافي 260:1.
7- في تفسير روح البيان: ما.
8- في تفسير روح البيان: من.
9- تفسير روح البيان 404:1.

عن (التّوحيد): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن العرش و الكرسيّ ما هما؟ فقال: «العرش في وجه هو جملة الخلق، و الكرسيّ وعاؤه. و في وجه [آخر] العرش هو العلم الذي أطلع اللّه عليه أنبياءه و رسله و حججه، و الكرسيّ هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه و رسله »(1).

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله: وَ لا يَؤُدُهُ و لا يشقّ عليه إقامة السّماوات و الأرض و حِفْظُهُما عن الخلل و الفساد.

ثمّ بيّن كمال تعاليه و عظمته بعد ذكر تلك الصّفات بقوله: وَ هُوَ الْعَلِيُّ بذاته عن الأنداد، و بصفاته عن الأشياء، و هو المتعالي بالقدر و الشأن عن جميع ما سواه، و هو اَلْعَظِيمُ بالمهابة و القهر و الكبرياء، ترتعد من خشيته جميع الأشياء.

في بيان وجه فضيلة آية الكرسي على غيرها من الآيات

ثمّ لمّا كانت الآية الكريمة حاوية لجميع المعارف الإلهيّة، متضمّنة لامّهات مسائل العلوم الرّبّانية - لكونها ناطقة بوجوده تعالى و تفرّده، و وجوب ذاته و حياته، و كمال صفاته، و تنزّهه عن التحيّز و الحلول و التّغيير و الفتور، و كونه موجدا لجميع الكائنات قائما بتدبيرها، و كونه مالك الملك و الملكوت، و مبدع الاصول و الفروع، ذا البطش الشّديد، لا يشفع عنده إلاّ لمن أذن له، عالما بجميع الأشياء جليّها و خفيّها، واسع الملك و القدرة، و لا يشقّ عليه شاقّ ، و لا يشغله شأن عن شأن، متعاليا عمّا تناله الأوهام، عظيما لا تدركه العقول و الأفهام - كانت لها فضيلة فائقة، و عظمة كاملة على سائر الآيات.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ أعظم آية في القرآن آية الكرسيّ ، من قرأها بعث اللّه ملكا يكتب من حسناته و يمحو من سيّئاته إلى الغد من تلك السّاعة »(2).

و روى كثير من العامّة، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه تذاكر الصّحابة أفضل ما في القرآن، فقال عليّ عليه السّلام: «أين أنتم من آية الكرسيّ ؟».

ثمّ قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ ، سيّد البشر آدم، و سيّد العرب محمّد و لا فخر» إلى أن قال:

«و سيّد الكلام القرآن، و سيّد القرآن البقرة، و سيّد البقرة آية الكرسيّ »(3).

و في رواية اخرى، عنه صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، علّمها ولدك و أهلك و جيرانك، فما نزلت آية أعظم منها »(4).

ص: 511


1- معاني الأخبار: 1/29، تفسير الصافي 260:1.
2- تفسير أبي السعود 249:1.
3- تفسير الرازي 3:7.
4- تفسير روح البيان 406:1.

سورة البقرة (2): آیة 256

اشارة

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

سورة البقرة (2): آیة 256

ثمّ أنّه بعد ما بيّن اللّه تعالى اصول المعارف الحقّة - من تفرّده بذاته و تعاليه بالشئون الجليلة الجميلة التي تحكم بها العقول السّليمة، و جملة من الأحكام التي توافق العادات و الحكم الكاملة، و كان فيها الدّلالة الواضحة على صحّة دين الإسلام، بحيث لم يكن لأحد مجال الشّكّ و التّرديد فيه - بيّن أنّه لا عذر في الإقامة على الشّرك و عدم قبول الإسلام بقوله: لا إِكْراهَ فِي قبول اَلدِّينِ

القويم الذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لا مصداق لمفهومه، حيث إنّه بالأدلّة العقليّة و الآيات الباهرة قَدْ تَبَيَّنَ و اتّضح اَلرُّشْدُ و سبيل الحقّ ، و هو ملّة التّوحيد و دين الإسلام، و تميّز مِنَ الْغَيِّ و طريق الضّلال، و هو مذهب الوثنيّة، و سائر الأديان الباطلة.

إن قيل: في تشريع الجهاد إكراه الكفّار، فكيف ينفى مصداقه ؟

قلنا: ليس الإكراه إلزام الغير بما لا يرى فيه صلاحا و خيرا، و بعد وضوح الحقّ يكون الامتناع عن قبوله عنادا و لجاجا، فيكون قتل المعاند الجاحد عقوبة له كسائر الحدود المشروحة لا إكراها على قبول الدّين، فالإسلام للكافر توبة من تلك المعصية.

قيل: إنّ الآية نزلت في المجوس، و أهل الكتاب فإنّهم لا يكرهون على الإسلام، بل تقبل منهم الجزية.

و فيه: أنّه لا يندفع به الإشكال، لوضوح صدق الإكراه عند الإلزام بأحد الأمرين تخييرا، مع أنّ الإكراه على الإسلام يتحقّق بتوعّد المكره و تخييره بين القتل و بذل المال مع الصّغار.

روي أنّه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان، قد تنصّرا قبل مبعثه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قدما المدينة فألزمهما أبوهما، و قال: و اللّه لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت، فخلّاهما(1).

أقول: هذا محمول على ما قبل تشريع الجزية على أهل الكتاب، و يمكن أن يراد بالدّين التّشيّع و الولاية.

ص: 512


1- تفسير أبي السعود 249:1.

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ و يعرض عن كلّ معبود غير اللّه، و كل مطغ عن طاعة اللّه من الشّياطين و الأصنام و مردة الجنّ و الإنس و أئمّة الضّلال.

و عن القمّي: هم الذين غصبوا آل محمّد حقّهم(1).

وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ إيمانا خالصا صادقا. و من العلوم أنّ الإيمان الحقيقي به سبحانه مستلزم للإيمان بكتبه و رسله و حججه و أحكامه، و العمل بها، و في تقديم الكفر بالطّاغوت على الإيمان باللّه إشعار بتقدّم التّخلية على التّحلية و التبرّي على التولّي فَقَدِ اسْتَمْسَكَ و بالغ في الأخذ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى

و الحلقة الوكيدة التي لاَ انْفِصامَ و لا انقطاع لَها أبدا.

و كما أنّ المتمسّك بالحلقة الوكيدة، و الحبل المحكم مأمون من التّردّي في البئر، أو الغرق في البحر، كذلك الملازم للعقائد الحقّة من التّوحيد و الرّسالة و الولاية مأمون من التّردّي في جبّ الهوى و بحر الفتن، و أمواج الشّهوات في الدّنيا، و في نار جهنّم في الآخرة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فليتمسّك بولاية أخي و وصيّي عليّ بن أبي طالب، فإنّه لا يهلك من أحبّه [و تولاّه]، و لا ينجو من أبغضه و عاداه »(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «هي مودّتنا أهل البيت »(3).

ثمّ وعد اللّه المؤمنين و أوعد الكافرين بقوله: وَ اللّهُ سَمِيعٌ لمقال المؤمن و الكافر من إظهار الإيمان و الكفر عَلِيمٌ بما في ضمائرهم و قلوبهم من العقائد الحقّة و الباطلة، و النّيّات الحسنة و السّيّئة، و من حبّ اللّه و بغضه، و ولاية رسوله و أوليائه و معاداتهم، فيجزي كلاّ على وفق قوله و عقد قلبه و عمله. و فيه غاية التّرغيب إلى الإيمان و الطّاعة، و التّرهيب من الكفر و المعصية.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال في تفسيره: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحبّ إسلام أهل الكتاب من اليهود الّذين كانوا حول المدينة، و كان يسأل اللّه ذلك سرّا و علانية. فمعنى قوله: وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يريد:

لدعائك يا محمّد بحرصك عليه و اجتهادك(4).

سورة البقرة (2): آیة 257

اشارة

اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ

ص: 513


1- تفسير القمي 84:1، تفسير الصافي 261:1.
2- معاني الأخبار: 1/368، تفسير الصافي 262:1.
3- مناقب ابن شهرآشوب 3:4، تفسير الصافي 262:1.
4- تفسير الرازي 17:7.

اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

سورة البقرة (2): آیة 257

ثمّ بالغ سبحانه في التّرغيب و التّرهيب بقوله: اَللّهُ تعالى بلطفه و إحسانه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا

و مدبّر امور الّذين أراد إيمانهم. أو المراد محبّ الّذين التزموا بالإيمان و ناصرهم.

و من تدبيره لامورهم، أو من ثمرات حبّه إيّاهم أنّه: يُخْرِجُهُمْ بتوفيقه و تكميل عقولهم مِنَ الظُّلُماتِ ظلمة الضّلال و الجهل و المعاصي إِلَى النُّورِ الذي يعمّ نور الإيمان و الإيقان، و الطّاعة و العلم.

عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: «المؤمن يتقلّب في خمسة من النّور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و منظره يوم القيامة إلى النّور »(1).

و قال بعض: إنّ المؤمنين ثلاث طوائف: عوامّهم، و خواصّهم، و خواصّ الخواصّ منهم. فالعوامّ يخرجهم اللّه من ظلمات الكفر و الضّلالة إلى نور الإيمان و الهداية، و الخواصّ يخرجهم من ظلمات الصّفات النّفسانيّة و الجسمانيّة إلى نور الرّوحانيّة الربّانيّة، و خواصّ الخواصّ يخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور الفناء في اللّه، و كلّها من شئون ربوبيّته و ولايته لهم(2).

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا و خبثت فطرتهم، و سبق في علمه تعالى ضلالتهم، فيكلهم اللّه إلى أنفسهم، فعند ذلك أَوْلِياؤُهُمُ و مدبّر امورهم اَلطّاغُوتُ من الشّياطين و رؤساء الضلال.

عن الباقر عليه السّلام: «أولياؤهم الطّواغيت »(3).

و عن القمّي رحمه اللّه: هم الظّالمون لآل محمّد أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ و هم الّذين تبعوا من غصبهم(4).

و من شئون ولايتهم لأهل الكفر أنّهم يُخْرِجُونَهُمْ بوساوسهم و تسويلاتهم و سائر وسائل الإضلال مِنَ النُّورِ الذي هو الإيمان و العقائد الحقّة إِلَى الظُّلُماتِ الثلاث المذكورة.

قيل: إنّ القضيّة الاولى نزلت في قوم من أهل الكتاب آمنوا بالنبيّ ، و الاخرى في قوم ارتدّوا عن الإسلام.

عن الصادق عليه السّلام: «النّور آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الظّلمات عدوّهم »(5).

ص: 514


1- الخصال: 20/277، تفسير الصافي 262:1.
2- تفسير روح البيان 409:1.
3- الكافي 436/289:8، تفسير الصافي 262:1.
4- تفسير القمي 85:1، تفسير الصافي 262:1.
5- تفسير العياشي 565/260:1، تفسير الصافي 262:1.

و عن ابن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام اخالط النّاس، فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّونكم، و يتولّون فلانا و فلانا، لهم أمانة و صدق و وفاء، و أقوام يتولّونكم ليست لهم تلك الأمانة و لا الوفاء و الصدق!

قال: فاستوى أبو عبد اللّه عليه السّلام جالسا، فأقبل عليّ كالمغضب (1).ثمّ قال: «لا دين لمن دان اللّه بولاية إمام جائر ليس من اللّه، و لا عتب على من دان اللّه بولاية إمام عادل من اللّه».

قلت: لا دين لاولئك، و لا عتب على هؤلاء؟ قال: «نعم، لا دين لاولئك، و لا عتب على هؤلاء».

ثمّ قال -: «أ لا تسمع لقول اللّه عزّ و جلّ : اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ؟

يعني ظلمات الذّنوب إلى نور التّوبة و المغفرة بولايتهم كلّ إمام عادل من اللّه عزّ و جلّ ، و قال:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ إنّما عنى بهذا أنّهم كانوا على نور الإسلام، فلمّا أن تولّوا كلّ إمام جائر ليس من اللّه، خرجوا بولايتهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب اللّه تعالى لهم النّار مع الكفّار »(2).

و زاد العيّاشي بعد قوله: إلى الظلمات، قال: قلت: أ ليس اللّه عنى بهذا الكافر(3) حين قال: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟

قال: فقال: «و أي نور للكافر و هو كافر به(4) فاخرج منه إلى الظّلمات ؟! إنّما عنى بهذا...»(5) إلى آخر الحديث.

أُولئِكَ الكافرون باللّه و رسله، أو بولاية ولاة الحقّ أَصْحابُ النّارِ و ملازموها يُخْرِجُهُمْ

خاصّة فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا.

و في رواية: «فأعداء أمير المؤمنين عليه السّلام هم الخالدون في النّار، و إن كانوا في أديانهم على غاية الورع و الزهد و العبادة »(6).

قيل: إنّه تعالى لم يقل بعد قوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون تعظيما لشأن المؤمنين و إشعارا بأنّ البيان(7) لا يفي بما أعدّ لهم من الثّواب(8).

ص: 515


1- في الكافي و تفسير الصافي: كالغضبان.
2- الكافي 3/307:1، تفسير الصافي 262:1.
3- في تفسير العياشي: بها الكفار.
4- أي بالاسلام.
5- تفسير العياشي 564/259:1، تفسير الصافي 263:1.
6- تفسير العياشي 566/261:1، تفسير الصافي 263:1.
7- زاد في تفسير روح البيان: اللفظي.
8- تفسير روح البيان 409:1، و فيه: أعدّ لهم في دار الثواب.

ثمّ اعلم أنّ الأشاعرة استدلّوا بقوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ على أنّ الإيمان بخلق اللّه من غير تأثير لإرادة العبد و قدرته. و المعتزلة استدلّوا بقوله: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ

على أنّ الكفر و العصيان مستندان إلى الخلق استقلالا، من غير دخل اللّه تعالى فيهما، و كلاهما في غاية الفساد لوضوح استناد الإيمان و الكفر إلى إرادة العبد و قدرته و انتهائهما بالتّسبيب إلى إرادة اللّه.

سورة البقرة (2): الآیات 258 الی 259

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259)

سورة البقرة (2): آیة 258

ثمّ أنّه تعالى استشهد على ولايته للمؤمنين، و ولاية الطّاغوت للكافرين بقصّة محاجّة إبراهيم و ملك زمانه حيث قال مخاطبا لنبيّه: أَ لَمْ تَرَ قد مرّ سابقا أنّ في هذا التّعبير إشعارا بإحاطته صلوات اللّه عليه في عالم الأشباح بجميع وقائع هذا العالم، و حضوره عندها.

في محاجّة نمرود إبراهيم

و قيل: إنّ المعنى: أ لم ينته علمك الذي يضاهي الرؤية و العيان، الحاصل بسبب إخبارنا، الموجب لكمال الإيقان إِلَى نمرود بن كنعان اَلَّذِي حَاجَّ و جادل و خاصم إِبْراهِيمَ لادّعائه الرّبوبيّة لنفسه فِي شأن رَبِّهِ و في التّعريض لعنوان الرّبوبيّة مع إضافته إليه عليه السّلام تشريف له، و إيذان بتأييده بالحجّة. و كانت مخاصمة نمرود لأجل أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ

و السّلطنة الواسعة العظيمة فاغترّ بها و بطر حتى ادّعى الرّبوبيّة.

عن مجاهد: أنّه لم يملك الدّنيا إلاّ أربعة: مسلمان و كافران، فالمسلمان: سليمان و ذو القرنين،

ص: 516

و الكافران: نمرود و بخت نصّر، و هو شدّاد بن عاد الذي بنى إرم في بعض صحاري عدن(1).

و عن البرقي، مرفوعا، ما يقرب منه، إلى قوله: و بخت نصّر(2).

و نقل: أنّ نمرود أوّل من وضع التّاج و تجبّر، و دعا النّاس إلى عبادته(3).

و قيل: أنّ المراد أنّه حاجّ إبراهيم عليه السّلام شكر اللّه لأجل أن آتاه الملك، على طريقة العكس، كقولك:

عاديتني لأنّي أحسنت إليك.

قيل: إنّ المحاجّة كانت بعد كسر إبراهيم عليه السّلام الأصنام، و قبل إلقائه في النّار.

روي من طرق العامّة أنّه عليه السّلام لمّا كسر الأصنام سجنه نمرود، ثمّ أخرجه ليحرقه، فقال: من ربّك الذي تدعونا إليه ؟(4).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه كان بعد إلقائه في النّار(5).

ثمّ شرح اللّه المحاجّة بقوله: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ بعد سؤال نمرود عن ربّه: رَبِّيَ القادر اَلَّذِي يُحْيِي الميت وَ يُمِيتُ الحيّ ، فاستدلّ بفعله الذي لا يشاركه فيه أحد من الخلق. و تقديم الإحياء لكون القدرة فيه أظهر.

فعارضه نمرود و قالَ لغاية بلادته، أو للتّمويه و التّلبيس على النّاس: أَنَا أيضا أُحْيِي

الميت وَ أُمِيتُ الحيّ .

روي أنّه دعا برجلين قد حبسهما، فقتل أحدهما، و أطلق الآخر، فقال: قد أحييت هذا و أمتّ هذا(6).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ إبراهيم عليه السّلام قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا »(7).

ثمّ أعرض عن جواب معارضته الفاسدة، لكون بطلانها من الظّهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد، و أتى بحجّة لا يقدر الأحمق على معارضتها بمثل هذا التمويه قالَ إِبْراهِيمُ عليه السّلام: إنّ كنت قادرا على مثل مقدورات اللّه فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إلى المغرب قسرا، بمشيئته و قدرته، لوضوح أنّ الحركة ليست من لوازم ذات الجسم، و إلاّ لم يوجد جسم منفكّا عن الحركة، و هو خلاف الحسّ و الوجدان، فلا بدّ أن يكون محرّك جرم الشّمس مع كمال عظمته هو خالقها، و ليس إلاّ اللّه

ص: 517


1- تفسير روح البيان 410:1.
2- الخصال: 130/255، تفسير الصافي 263:1.
3- تفسير روح البيان 410:1، و فيه: و تجبّر، و ادعى الربوبية.
4- تفسير روح البيان 410:1.
5- مجمع البيان 635:2، تفسير الصافي 263:1.
6- تفسير روح البيان 410:1.
7- مجمع البيان 636:1، تفسير الصافي 263:1.

الذي هو خالق سائر الموجودات، فهو بقدرته يسيّرها و بحكمته يحرّكها إلى المغرب. فإن كنت تدّعي الالوهيّة الملازمة للقدرة الكاملة فَأْتِ و سيّر بِها مِنَ الْمَغْرِبِ إلى المشرق.

فَبُهِتَ و تحيّر الملك اَلَّذِي كَفَرَ في الجواب، و صار كالمدهوش، لم يجد للردّ مقالا، و للمعارضة مجالا؛ لبداهة أنّه ليس للبشر التصرّف في الفلكيّات، سيّما مثل هذا التّصرّف وَ اللّهُ لا يَهْدِي و لا يوفّق للرّشد إلى صراط الحقّ و طريق الجنّة اَلْقَوْمَ الظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الكفر و الضّلال؛ لخبث طينتهم، و سوء سريرتهم، فاستحقّوا الخذلان و النّكال.

قصّة النبي الذي مرّ على قرية

سورة البقرة (2): آیة 259

ثمّ أنّه تعالى - بعد إقامة البرهان على التّوحيد؛ بذكر محاجّة إبراهيم عليه السّلام - أخذ في إقامة البرهان على إمكان المعاد بذكر قصّة متضمّنة لوقوع نظيره الذي هو أقوى البراهين على إمكانه، بقوله: أَوْ رأيت كالنبيّ الذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ بيت المقدس. و هل اطّلعت على لطف ربّك باحد مثل لطفه بذلك النبيّ ؟ حيث إنّ اللّه هداه إلى المعرفة الكاملة بالمعاد، و كيفيّة البعث و إحياء الرّمم، حتى بلغ من مرتبة علم اليقين إلى درجة عين اليقين، و ذلك من شئون ولايته للمؤمنين.

روي أنّ بني إسرائيل لمّا بالغوا في تعاطي الفساد سلّط اللّه عليهم بخت نصّر، فسار إليهم في ستّمائة ألف راية، حتّى وطئ الشّام، و خرّب بيت المقدس، و جعل بني إسرائيل أثلاثا: ثلثا منهم قتلهم، و ثلثا منهم أقرّهم بالشّام، و ثلثا منهم سباهم. و كانوا مائة ألف غلام يافع و غير يافع، فقسّمهم بين الملوك الّذين كانوا معه، فأصاب كلّ ملك منهم أربعة غلمة، و كان عزير من جملتهم(1).

و عن ابن عبّاس: أنّه كان من علمائهم (2) ،و جاء بهم إلى بابل، فلمّا نجّاه اللّه منهم بعد حين مرّ بحماره على بلدة بيت المقدّس، فرآها وَ هِيَ خاوِيَةٌ و ساقطة بحيطانها عَلى عُرُوشِها و سقوفها، خالية من أهلها. فلمّا رأى العزير الأجساد البالية قالَ - استعظاما لقدرة اللّه، و اعترافا بقصور فهمه عن كيفيّة الإحياء، أو تلهّفا على القرية و أهلها، و تشوقا إلى عمارتها مع استشعار اليأس عنها، لا شكّا و إنكارا -: أَنّى يُحْيِي هذِهِ العظام، أو هذه القرية، و كيف يبعثها اَللّهُ أو يعمّرها بَعْدَ مَوْتِها

و بلائها، أو بعد خرابها و عفو آثارها.

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: أنّ عزيرا دخل يوما تلك القرية، و نزل تحت شجرة و هو على حمار، فربط

ص: 518


1- تفسير روح البيان 412:1.
2- تفسير الرازي 31:7.

حماره، و طاف في القرية، فلم ير فيها أحدا، فعجب من ذلك، و قال: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها

لا على سبيل الشكّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، و كانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التّين و العنب، و شرب من عصير العنب، و نام (1)فَأَماتَهُ اللّهُ و قبض روحه في منامه، و أبقاه على الموت مِائَةَ عامٍ .

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في حديث: «فبعث اللّه عزيرا نبيّا إلى أهل القرى التي أمات اللّه عزّ و جلّ [أهلها]، ثمّ بعثهم، و كانوا من قرى شتّى، فهربوا فرقا من الموت فنزلوا في جوار عزير، و كانوا مؤمنين، و كان [عزيز] يختلف إليهم و يسمع كلامهم و إيمانهم فأحبّهم على ذلك و آخاهم عليه، فغاب [عنهم] يوما واحدا، ثمّ أتاهم فوجدهم صرعى موتى، فحزن عليهم و قال: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها تعجّبا من(2) حيث أصابهم، و قد ماتوا أجمعين في يوم واحد، فأماته اللّه»(3) الحديث.

و في رواية ذكر فيها تسلّط بخت نصّر على بني إسرائيل، و قتله إيّاهم، و سبيه ذراريهم، و اصطفى من السّبي دانيال و عزيرا، و هما صغيران، و كان دانيال أسيرا في يده سبعين(4) سنة - إلى أن قال -: «و فوّض بخت نصّر إليه امور ممالكه، و القضاء بين النّاس، و لم يلبث إلاّ قليلا حتّى مات، و افضي الأمر بعده إلى عزير، فكانوا يجتمعون إليه و يستأنسون به، و يأخذون عنه معالم دينهم، فغيّب اللّه عنهم شخصه مائة عام، ثمّ بعثه »(5).و الظاهر أنّ المراد بالغيبة الموت.

و في رواية القمّي و العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المارّ على القرية هو أرميا »(6).و عليه بعض المفسّرين من العامّة، ثمّ أنّهم اختلفوا فقال بعضهم: إنّه أرميا بن حلقام (7) ،و بعضهم قالوا: إنّ أرميا هو الخضر بعينه(8) و الأشهر الأقوى هو الأوّل.

و عن (المجمع): عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ عزيرا خرج من أهله و امرأته حامل، و له خمسون سنة، فأماته اللّه مائة عام »(9).

ص: 519


1- تفسير الرازي 31:7.
2- في كمال الدين و تفسير الصافي: منه.
3- كمال الدين: 20/266، تفسير الصافي 268:1.
4- في كمال الدين و تفسير الصافي: تسعين.
5- كمال الدين: 157 و 17/158، تفسير الصافي 269:1.
6- تفسير القمي 86:1، تفسير العياشي 570/262:1، تفسير الصافي 264:1.
7- في تفسير أبي السعود: أرميا بن حلقيا.
8- تفسير أبي السعود 252:1.
9- مجمع البيان 641:1، تفسير الصافي 269:1.

و في رواية: أعمى اللّه تعالى عنه عيون المخلوقات فلم يره أحد، فلمّا مضى من موته سبعون سنة وجّه اللّه عزّ و علا ملكا عظيما من ملوك فارس، يقال له: يوشك إلى بيت المقدس ليعمّره، و معه ألف قهرمان (1) ،و مع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، فجعلوا يعمّرونه، و أهلك اللّه بخت نصّر ببعوضة دخلت في دماغه، و نجّى اللّه من بقي من بني إسرائيل، و ردّهم إلى بيت المقدس، فتراجع من تفرّق منهم، فعمّروه ثلاثين [سنة]، فلمّا تمّت المائة من موت عزير أحياه اللّه (2) ،و ذلك قوله: ثُمَّ بَعَثَهُ

و التّعبير عن الإحياء بالبعث للدّلالة على السّرعة، و سهولته على اللّه، مع كونه بعد الموت في مدّة طويلة.

و في رواية القمّي: عن الصادق عليه السّلام أنّه لمّا سلّط اللّه بخت نصّر على بني إسرائيل هرب أرميا، و دخل في عين و غاب فيها، و بقي ميّتا مائة سنة، ثمّ أحياه [اللّه تعالى] و أوّل ما أحيا منه عينيه في مثل غرقئ(3) البيض، فنظر(4) ثمّ قالَ اللّه وحيا كَمْ لَبِثْتَ و بقيت ميّتا.

و في رواية ابن عبّاس رحمه اللّه: و نودي من السّماء: يا عزير كم لبثت بعد الموت ؟(5) قيل: كان السّؤال لأجل أن يظهر له عجزه عن الإحاطة بشئون الرّبوبيّة، و ليعلم بالبرهان أنّ إحياءه كان بعد مدّة طويلة حتى تنحسم مادّة استبعاده بالمرّة(6).

قالَ عزير أو أرميا - على وجه الحسبان و التّخمين -: لَبِثْتُ يَوْماً ثمّ نظر إلى ضوء الشّمس باقيا في رءوس الجدران كما روي، فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ و قيل: إنّه قال: يوما أو بعض يوم، اقتصارا لمدّة لبثه(7).

ثمّ قالَ اللّه ما لبثت المدّة اليسيرة بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ قيل: فائدة إماتته مائة عام و إعلامه بها - مع كفاية الإحياء بعد موت ساعة لثبوت المطلوب، و هو القدرة على الإحياء بعد الموت - أنّ الإحياء بعد مثل هذه المدّة الطويلة أدلّ على القدرة؛ لأنّ إحياء العظام الرّميم أبعد في العقول، كما هو واضح.

ثمّ كأنّه قال اللّه: إن شئت أن يزيد عرفانك بكمال قدرتي فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ من التّين و العنب اللذين يفسدان من غاية اللّطافة في اليوم و اللّيلة وَ شَرابِكَ من العصير أو اللّبن، مع أنّهما يتغيّران

ص: 520


1- القهرمان: أمين الملك و وكيله الخاص.
2- تفسير أبي السعود 253:1.
3- الغرقئ: القشرة الرقيقة الملتزقة ببياض البيض.
4- تفسير القمي 90:1، تفسير الصافي 267:1.
5- تفسير الرازي 31:7.
6- تفسير روح البيان 413:1.
7- تفسير روح البيان 413:1.

في بعض يوم واحد لَمْ يَتَسَنَّهْ و لم يتغيّر في السّنين المتطاولة.

روي أنّه رأى تينة و عنبة كما جنى، و عصيره كما عصر (1) ،ثمّ لمّا رأى ذلك، و كان مجال توهّم الاستدلال به على قصر مدّة موته، دفع اللّه ذلك التّوهّم بإقامة دليل قاطع على طول مدّة موته بقوله:

وَ انْظُرْ إِلى عظام حِمارِكَ كيف صار رميما، ليتبيّن لك موتك في المدّة المديدة، و إنّما فعلنا ما رأيت من الإماتة و إحياء الرّمم، و حفظ التّين و العصير من التّغيير و الفساد، لتشاهد كمال قدرتنا و تزداد يقينا بالمعاد وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً نافعة لِلنّاسِ جميعا، حيث يزدادون بقضيّتك معرفة و يقينا.

ثمّ لمّا أمره أوّلا بالنّظر إلى الحمار البالي؛ لتبيين طول مدّة موته، أمره ثانيا بالنّظر إلى عظام نفسه، أو عظام حماره بقوله: وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ المتفرّقة الرّميمة كَيْفَ نُنْشِزُها و نرفع بعضها إلى بعض، و نردّها إلى أماكنها من الجسد ثُمَّ نَكْسُوها و نلبسها لَحْماً و نسترها به؛ ليشاهد به كيفيّة الإحياء في نفسه، أو في غيره، بعد ما شاهدها في نفسه.

في رواية عن القمّي، عن الصادق عليه السّلام: «فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطّرة تجتمع إليه، و إلى اللّحم الذي قد أكلته السّباع، يتالف إلى العظام من هاهنا و هاهنا و يلتزق بها، حتى قام و قام حماره »(2).

و في رواية اخرى: و نظر إلى عظامه كيف تلتئم و تلبس اللّحم، و إلى مفاصله و عروقه كيف توصل، فاستوى قاعدا (3)فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ كمال قدرة اللّه بما عاين من إحياء الرّمم قالَ أَعْلَمُ الآن بالشّهود أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ ممّا أمكن و أراد قَدِيرٌ لا يستعصي عليه أمر.

قصّة عزير النبيّ

روي أنّه ركب حماره و أتى محلّته، فأنكره النّاس، و أنكر النّاس، و أنكر المنازل، فانطلق على وهم منه حتّى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير، فقال لها عزير: يا هذه، هذا منزل عزير؟ قالت: نعم. و أين ذكرى عزير و قد فقدناه منذ كذا و كذا! فبكت بكاء شديدا، قال: فإنّي عزير، قالت: سبحان اللّه أنّى يكون ذلك ؟ قال: قد أماتني اللّه مائة عام، ثمّ بعثني.

قالت: أنّ عزيرا كان مستجاب الدّعوة، فادع اللّه بردّ بصري حتى أراك، فدعا ربّه، و مسح بين عينيها ففتحتا، فأخذ بيدها، فقال: قومي بإذن اللّه، فقامت صحيحة كأنّها انشطت من عقال (4) ،فنظرت إليه،

ص: 521


1- تفسير روح البيان 413:1.
2- تفسير القمي 90:1، تفسير الصافي 267:1.
3- الاحتجاج: 344، تفسير الصافي 268:1.
4- أنشطت من عقال: أي اطلقت من قيدها.

فقالت: أشهد أنّك عزير. فانطلقت إلى محلّة بني إسرائيل و هم في أنديتهم، و كان في المجلس ابن العزير، قد بلغ مائة و ثماني عشرة سنة و بنو بنيه شيوخ، فنادت: هذا عزير قد جاءكم، فكذّبوها، فقالت:

انظروا؛ فإنّي بدعائه رجعت إلى هذه الحالة، فنهض النّاس، فأقبلوا إليه، فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه مثل هذا الهلال، فكشف فإذا هو كذلك، و قد كان قتل بخت نصّر ببيت المقدس من قرّاء التّوراة أربعين ألف رجل، و لم يكن بينهم يومئذ نسخة من التّوراة، و لا أحد يعرف التّوراة، فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخرم منها حرفا - أي ينقص و يقطع - فقال رجل من أولاد المسبيّين، ممّن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصّر: حدّثني أبي، عن جدّي أنّه دفن التّوراة يوم سبينا في خابية في كرم، فإن أريتموني كرم جدّي أخرجتها لكم، فذهبوا إلى كرم جدّه ففتّشوه فوجدوها، و عارضوها(1) بما أملى عليهم عزير عن ظهر القلب، فما اختلفا في حرف واحد، فعند ذلك قالوا: عزير ابن اللّه(2).

و عن (المجمع): عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ عزيرا خرج من أهله، و امرأته حامل، و له خمسون سنة، فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه، فرجع إلى أهله ابن خمسين، و له ابن له مائة سنة، فكان ابنه أكبر منه، فذلك من آيات اللّه »(3).

اعلم أنّ الروايات في هذه القضيّة، و إن كانت مختلفة من جهات عديدة، إلاّ أنّه لا يهمّنا الجمع بينها بالتّكليف، لعدم حجّيّتها، و عدم ترتّب أثر عليها، و أنّها كانت تدلّ على قدرة اللّه و صحّة المعاد الجسماني.

سورة البقرة (2): آیة 260

اشارة

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

سورة البقرة (2): آیة 260

ثمّ أنّه تعالى - لازدياد يقين المؤمنين بالمعاد حتّى يخرجوا من ظلمات الجهل أو ضعف اليقين إلى نور حقّ اليقين - أردف قصّة عزير بقصّة تضاهيها عن إبراهيم عليه السّلام، و كان دليلا آخر على ولايته تعالى

ص: 522


1- عارضوها: أي قابلوها.
2- تفسير أبي السعود 255:1، تفسير روح البيان 414:1.
3- مجمع البيان 641:1، تفسير الصافي 269:1.

للمؤمنين، و كأنّه تعالى قال: وَ أ لم تر، أو وَ اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ استدعاء و استعطافا: رَبِّ أَرِنِي بلطفك على أنّك كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى و بصّرني كيفيّة الإحياء و هيئته بعد العلم بأصله إجمالا.

قيل: إنّه تعالى ذكر اسم إبراهيم هنا لإظهاره العبوديّة، و حفظه للأدب، حيث أثنى على اللّه أوّلا بتوصيفه بالرّبوبيّة، بخلاف النبيّ الذي مرّ على القرية، و لذلك جعل اللّه الإماتة و الإحياء في قصّة إبراهيم عليه السّلام في الطّيور، و في قصّة النبيّ في نفسه. و يمكن أن يكون وجه ذكر اسمه عليه السّلام عظمة شأنه و كرامته عند اللّه، زيادة على عزير و على من هو أعظم منه.

و في قول إبراهيم: (ربّي) إشعار بأنّ من كمال الدّعاء و موجبات سرعة الإجابة، الثّناء على اللّه قبل الدّعاء.

و عن جمع من المفسّرين أنّ إبراهيم رأى جيفة مطروحة في شطّ البحر، فإذا مدّ البحر أكل [منها] دوابّ البحر، و إذا جزر جاءت السّباع فأكلت، و إذا ذهبت السّباع جاءت الطّيور فأكلت و طارت. فقال إبراهيم: ربّ أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السّباع و الطّيور و دوابّ البحر(1).

قالَ اللّه وحيا: أ لم تعلم أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ بأنّي قادر على الإحياء كيف أشاء؟! قالَ إبراهيم:

بَلى آمنت و أيقنت وَ لكِنْ سألت هذا لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و ينضمّ علمي بالبرهان؛ بالشّهود و العيان.

قيل: إنّ سؤال اللّه تعالى مع علمه بقوّة يقين إبراهيم؛ ليعلم النّاس أنّه عليه السّلام لم يكن على شكّ ، و للإشعار بأنّ على المؤمن أن يكون في طلب زيادة اليقين و الارتقاء إلى درجة الشّهود.

عن العيّاشي: سئل الرضا عليه السّلام أ كان في قلب إبراهيم شكّ ؟ قال: «لا، كان على يقين،(2) و لكنّه أراد من اللّه الزيادة في يقينه».(3)

و قيل: إنّه عليه السّلام بعد مناظرته مع نمرود لمّا قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ (4)

فأطلق محبوسا(5) و قتل رجلا، قال [إبراهيم]: ليس هذا بإحياء و إماتة، و عند ذلك قال: رَبِّ أَرِنِي

ص: 523


1- تفسير الرازي 38:7.
2- (كان على يقين) ليس في المصدر.
3- تفسير العيّاشي 576/266:1، تفسير الصافي 270:1.
4- البقرة: 258/2.
5- أي نمرود.

كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى لتنكشف هذه المسألة عند نمرود(1).

و قيل: إنّ نمرود قال له: قل لربّك حتى يحيي و إلاّ قتلتك، فسأل اللّه ذلك. و قوله: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

أي بنجاتي من القتل، أو ليطمئنّ قلبي بقوّة حجّتي و برهاني.(2)

عن ابن عبّاس، و سعيد بن جبير: أنّ اللّه أوحى إليه: أنّي متّخذ بشرا خليلا، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه السّلام و قال: إلهي ما علامة ذلك ؟ فقال: علامته أن يحيا الميّت بدعائه. فلمّا عظم مقام إبراهيم عليه السّلام في درجات العبوديّة، و أداء الرّسالة، خطر بباله: إنّي لعلّي أكون ذلك الخليل. فسأل إحياء الميّت، فقال اللّه: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأنّي خليل لك(3)

فإذن قالَ اللّه مستجيبا لدعائه: إن أردت ذلك فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل: إنّما خصّ الطّير؛ لأنّه أقرب إلى الإنسان، و أجمع لخواص الحيوان (4)فَصُرْهُنَّ و اضممهنّ إِلَيْكَ كي تتأمّلها و تعرف أشكالها مفصّلة حتى لا يلتبس عليك أحد منها بعد الإحياء.

عن الرضا عليه السّلام: «فأخذ إبراهيم عليه السّلام نسرا و بطّا و طاووسا و ديكا »(5).

و في رواية، بدل البطّ : الغراب (6).و في اخرى: الهدهد (7).و في ثالثة، بدل النّسر: الحمامة (8).و في رابعة:

النّعامة (9).و في خامسة: الصّرد(10).

عن الصادق عليه السّلام: «فذبحهنّ و عزل رءوسهنّ ، ثمّ نحز(11) أبدانهن في المنحاز بريشهنّ و لحومهنّ و عظامهنّ حتى اختلطت »(12).

و عنه عليه السّلام، في حديث: «أنّ إبراهيم دعا بمهراس فدقّ فيه الطّير جميعا، و حبس الرءوس عنده »(13).

و في رواية (الكافي): «فقطعهنّ و اخلطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السّباع التي أكل

ص: 524


1- تفسير الرازي 38:7.
2- تفسير الرازي 38:7.
3- تفسير الرازي 38:7.
4- تفسير أبي السعود 256:1، تفسير الصافي 272:1.
5- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/198:1، تفسير الصافي 271:1.
6- تفسير الرازي 40:7.
7- تفسير العياشي 579/267:1، تفسير الصافي 272:1.
8- تفسير الرازي 40:7.
9- تفسير العياشي 575/265:1.
10- تفسير العياشي 581/269:1، و الصّرد: طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس و المنقار يصيد صغار الحشرات.
11- النّحز: الدق و السحق و الهرس بأداة كالهاون و المهراس.
12- الخصال: 146/265، تفسير الصافي 271:1.
13- تفسير العياشي 577/266:1، تفسير الصافي 271:1.

بعضها بعضا »(1).

ثُمَّ غبّ (2) اختلاطهنّ اِجْعَلْ وضع عَلى كُلِّ جَبَلٍ من الجبال التي حولك - عن الصادق عليه السّلام: «أنّها عشرة »(3).و قيل: كانت سبعة، و قيل: أربعة (4)- مِنْهُنَّ جُزْءاً من الأجزاء المختلطة ثُمَّ ادْعُهُنَّ بأسمائهنّ إليك، و قل لهنّ : تعالين بإذن اللّه، فإذا دعوتهنّ يَأْتِينَكَ

و يسعين إليك سَعْياً سريعا طيرانا، أو مشيا.

عن الرضا عليه السّلام: «جعل مناقيرهنّ بين أصابعه، ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ ، و وضع عنده حبّا و ماء، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان، و جاء كلّ بدن حتى انضمّ إلى رقبته و رأسه، فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ فطرن، ثمّ جئن و شربن من ذلك الماء، و التقطن من ذلك الحبّ و قلن: يا نبيّ اللّه أحييتنا أحياك اللّه، فقال إبراهيم عليه السّلام: بل اللّه يحيي و يميت، و هو على كلّ شيء قدير »(5).

و عن الصادق عليه السّلام، - في حديث ذكر فيه أخذ إبراهيم الطّيور الأربعة، و خلط أجزائهنّ ، و جعلها على عشرة أجبل - قال: «هذا تفسيره في الظّاهر، و تفسيره في الباطن: خذ أربعة ممّن يحتمل الكلام فاستودعهم علمك، ثمّ ابعثهم في أطراف الأرضين حججا (6) ،و إذا أردت أن يأتوك دعوتهم بالاسم الأكبر يأتونك سعيا بإذن اللّه» الخبر (7) ،هذا أحد بطون الآية.

و قيل: إنّ منها أنّ إبراهيم عليه السّلام سأل من اللّه حياة قلبه؛ فأشار إليه بذبح الطّيور: الطّاوس كناية عن الزّينة، و الغراب عن الأمل، و الدّيك عن الشّهوة، و البطّ عن الحرص. فأشار إلى أنّه ما لم يذبح نفسه بالمجاهدة، و لم يقلع هذه الرّذائل عن النّفس، لم يحيى قلبه بالمشاهدة(8).

وَ اعْلَمْ بالشّهود بعد البرهان أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب على أمره، قادر على إنفاذ إرادته حَكِيمٌ في أفعاله، لا يصدر عنه من العاديّات و خوارقها إلاّ ما فيه الصّلاح التّام.

سورة البقرة (2): آیة 261

اشارة

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ

ص: 525


1- الكافي 473/305:8، تفسير الصافي 270:1.
2- أي بعد.
3- تفسير العياشي 574/265:1.
4- تفسير الرازي 42:7، تفسير أبي السعود 257:1.
5- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/198:1، تفسير الصافي 271:1.
6- زاد في الخصال: لك على النّاس.
7- الخصال: 146/265، تفسير الصافي: 271.
8- تفسير روح البيان 416:1.

سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)

سورة البقرة (2): آیة 261

ثمّ بعد ما بيّن اللّه تعالى من اصول العلم بالمبدإ و المعاد، و الاستدلال بالوقائع المسلّمة بين أهل الكتاب على صحّتهما، شرع في بيان جملة من الشّرائع و الأحكام، و لمّا كان من أشقّها التّكليف ببذل المال و الإنفاق على الفقراء و في سائر وجوه الخير، بدأ بترغيب العباد فيه بقوله: مَثَلُ نفقة المؤمنين اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ و يصرفون أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ و طريق الخير، و وجوه البرّ كَمَثَلِ حَبَّةٍ و قيل: إنّ المراد مثل المنفقين كمثل باذر حبّة صحيحة، زرعت في أرض عامرة مغلّة (1) ،فعند ذلك أَنْبَتَتْ و أخرجت تلك الحبّة سبعة سوق، لكلّ ساق سنبلة، فيكون المجموع سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما يشاهد في الذّرة و الدّخن، مع أنّه تمثيل لتصوير مضاعفة الثّواب، و يكفي فيه كونه معقولا و إن لم يكن له مصداق في الوجود، مع أنّه يحتمل أنّ زرع الحنطة كان سنبله في بدو الخلقة أو في بعض الأراضي المغلّة كذلك.

وَ اللّهُ يُضاعِفُ ثواب المنفق زائدا على تلك المضاعفة إلى ما شاء اللّه لِمَنْ يَشاءُ أن يضاعف له بفضله، و على حسب حال المنفق و الإنفاق، من إخلاصه و تعبه و خصاصته و مصرف إنفاقه، ككونه في الجهاد، أو على الوالدين، أو العلماء، أو ذراري الرّسول، فإنّه يتفاوت ثواب الأعمال بتفاوت الجهات و الخصوصيّات.

عن الصادق عليه السّلام: «هذا لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه »(2).

و عنه عليه السّلام: «إذا أحسن العبد عمله ضاعف اللّه عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف »(3).

و فيهما دلالة على أنّ تلك المضاعفة جارية في جميع الأعمال و العبادات.

وَ اللّهُ واسِعٌ جودا و فضلا لا يضيق عليه إعطاء الزّيادة كائنا ما كان

عَلِيمٌ به، و بنيّة المنفق و خلوصه و مقدار إنفاقه.

سورة البقرة (2): آیة 262

اشارة

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

ص: 526


1- المغلّة: الأرض المنتجة للغلات.
2- تفسير القمي 92:1، تفسير الصافي 272:1.
3- ثواب الأعمال: 168، تفسير الصافي 272:1.
سورة البقرة (2): آیة 262

ثمّ بيّن اللّه تعالى ما يعتبر في صحّة الإنفاق بقوله: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ من جهاد أو غيره من وجوه الخير ثُمَّ بعد التّوفيق بهذا العمل الصّالح النّافع لا يُتْبِعُونَ و لا يعقبون ما أَنْفَقُوا مَنًّا و إظهار حقّ على المنفق عليه، و حسن اصطناع به وَ لا أَذىً و إساءة بكلام أو فعل فيسوؤه، كأن يقول للفقير: تأذّينا منك، أو: لا نستريح من شرّك و زحمتك، أو يتطاول عليه، و أمثال ذلك. و تقديم ذكر المنّ لكونه أكثر وقوعا من الأذى، و ذكر كلمة (ثمّ ) لإظهار مباينة الإنفاق لهما، و كمال البعد بينه و بينهما.

عن الصادق عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أسدى إلى مؤمن معروفا، ثمّ آذاه بالكلام، أو منّ عليه، فقد أبطل اللّه صدقته »(1).

فتحصّل من الآية المباركة و الرواية الشّريفة أنّ الصّدقة، بل كلّ معروف، كزرع المؤمن، و المنّ و الأذى آفتاه، فعلى المؤمنين أن يحفظوا زرعهم من الآفة، فإذا حفظوه منها كان لَهُمْ أَجْرُهُمْ

و ثوابهم الموعود، في الآية السّابقة، المذخور عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللّطيف بهم وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من نقص الأجر، و الابتلاء بالعذاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلّفوه من الدّنيا، و ما فاتهم من مطلوب.

روى العامّة أنّها نزلت في عثمان حين جهّز جيش العسرة في غزوة تبوك، بألف بعير بأقتابها و أحلاسها، و ألف دينار (2).و في عبد الرّحمن بن عوف حيث تصدّق بأربعة آلاف درهم على رواية، أو دينار على اخرى، أو بنصف ماله على ثالثة(3).

و على هذا يحتمل أن يكون في ذكر المنّ و الأذى التّعريض عليهما، و الإشارة إلى منّهما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بصدقتهما، كما يستفاد ممّا روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ما من النّاس أحد أمنّ علينا في صحبته و ذات يديه من ابن أبي قحافة »(4).أنّه منّ بإسلامه و صحبته على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان من مصاديق قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا (5).

في ردّ ما روته العامّة في قضية أبي بكر

و قد أوّل بعض العامّة المنّ في الحديث بكثرة إنعامه بماله. و فيه: أنّه ما نقل من أحد

ص: 527


1- تفسير القمي 91:1، تفسير الصافي 272:1.
2- الأحلاس جمع حلس: و هو كلّ ما على ظهر الدابة تحت الرّحل و القتب و السّرج.
3- تفسير الرازي 45:7، تفسير أبي السعود 258:1، تفسير روح البيان 419:1.
4- تفسير الرازي 46:7.
5- الحجرات: 17/49.

أنّه كان قبل البعثة و بعدها غنيّا ذا ثروة، مع وضوح كون أمير المؤمنين عليه السّلام أمنّ عليه صلّى اللّه عليه و آله منه، حيث إنّه عليه السّلام بذل في محبّته نفسه و ماله. و كيف كان أبو بكر كثير الإنعام مع بخله بصدقة درهم لنجوى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ؟! و لذلك ترك مكالمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نجواه عشرة أيّام.

و الحاصل: أنّه لا دلالة في الآية إلاّ على اشتراط أجر الصّدقة بخلوّها عن المنّ و الأذى، و انّهما مبطلان لها و محبطان لأجرها، و كونها عند الاقتران بهما حسرة و وبالا، و لا صراحة بل لا ظهور لها في المدح، و إنّما الصّراحة فيما نزل في صدقة أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (1).

رواية عامية في فضيلة الحسن بن علي عليهما السّلام

و روى بعض العامّة - في شأن نزول الآية - أنّ الحسن بن علي عليهما السّلام اشتهى طعاما، فباع قميص فاطمة عليها السّلام بستّة دراهم، فسأله سائل فأعطاها، ثمّ لقي رجلا يبيع ناقة، فاشتراها بأجل و باعها من آخر، فأراد أن يدفع الثّمن إلى بائعها فلم يجده. فحكى القضيّة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: أمّا السائل فرضوان، و أمّا البائع فميكائيل، و أمّا المشتري فجبرائيل، قوله تعالى:

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ... الآية(2).

أقول: الرواية قرينة على سوق الآية في غاية المدح.

سورة البقرة (2): آیة 263

اشارة

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

سورة البقرة (2): آیة 263

ثمّ أكّد سبحانه اشتراط قبول الصّدقة بعدم اقترانها بالمنّ و الأذى بقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ و ردّ جميل عند عدم الإنفاق، كأن يقول للفقير: أنا منفعل منك، و معتذر إليك و اللّه يرزقك، و يوسّع عليك، حتى يسرّ قلبه و يطيب خاطره وَ مَغْفِرَةٌ و ستر لإلحاف السّائل في المسألة، و عفو عن تعدّيه في القول و بذاءة لسانه، و صفح عن إساءته خَيْرٌ لكم عند ربّكم، و أنفع مِنْ صَدَقَةٍ تحسبونها خيرا، إذا كان يَتْبَعُها أَذىً و إساءة؛ لأنّ في الكلام الجميل مسرّة قلب الفقير بلا ضرر عليه، بخلاف الإعطاء مع المنّ و الأذى، فإنّ فيه ضررا بما يكون تحمّله أشقّ عليه من تحمّل مرارة الفقر وَ اللّهُ غَنِيٌّ عمّن ينفق على الفقراء الذين هم عياله، و عن إنفاقكم، حيث إنّه بفضله و رحمته يرزقهم من حيث لا يحتسبون، بل أنتم محتاجون إلى الإنفاق حتّى يكون ذخرا لكم، و هو حَلِيمٌ غير عجول

ص: 528


1- الإنسان: 8/76.
2- تفسير روح البيان 419:1.

بعقوبة المانّ و المؤذي في صدقته، و فيه من السّخط و الوعيد لهم ما لا يخفى.

سورة البقرة (2): آیة 264

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)

سورة البقرة (2): آیة 264

ثمّ أكّد سبحانه اشتراط صحّة الإنفاق و حسنه بعدم الإتباع بالمنّ و الأذى، بالنّهي الصّريح، و التّنصيص بالبطلان بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ و لا تحبطوا أجرها و ثوابها الموعود لكم بِالْمَنِّ وَ الْأَذى و في التوجّه من الغيبة إلى الخطاب، و توصيف المخاطبين بالإيمان غاية التّهيّج و كمال التّرغيب إلى العمل بموجب النّهي اهتماما به.

ثمّ للمبالغة في توضيح البطلان ضرب اللّه مثلا معقولا، و هو ما أفاد من أنّ إبطال المانّ و المؤذي إنفاقهما كَالَّذِي أي مثل إبطال المنافق الذي يُنْفِقُ مالَهُ في وجوه البرّ و سبل الخير، حال كونه مريدا بإنفاقه رِئاءَ النّاسِ و نفاقهم، غير قاصد لوجه اللّه و التّقرّب إليه؛ لأنّه لا يصدّق بقلبه وَ لا يُؤْمِنُ في ضميره بِاللّهِ حتى يكون في طلب رضاه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و دار الجزاء، حتى يهتمّ في تحصيل الثّواب و النّجاة من العقاب. فبطلان هذا المنافق لكفره و فساد نيّته أظهر من الشّمس، فكذلك بطلان عمل المانّ و المؤذي.

عن العيّاشي: عنهما عليهما السّلام: «نزلت في عثمان، و جرت في معاوية و أتباعهما »(1).

ثمّ مع وضوح حبط الصّدقات بالرّياء، بالغ سبحانه في توضيح خسران القراءة، بضرب مثل محسوس له بقوله: فَمَثَلُهُ و حاله المعجب في إبطاله إنفاقه بالرّياء كَمَثَلِ صَفْوانٍ و حجر صلب أملس كان عَلَيْهِ تُرابٌ يسير فَأَصابَهُ و انصبّ عليه وابِلٌ و مطر شديد عظيم القطر، فغسل كلّ ما على الحجر من التّراب فَتَرَكَهُ صَلْداً أملس ليس عليه شيء من الغبار.

ثمّ بيّن وجه شباهة اولئك المبطلين لإنفاقهم بقوله: لا يَقْدِرُونَ اولئك الخاسرون بسبب المنّ و الايذاء و الرّياء عَلى ثواب شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا و عملوا و لا يستطيعون [على] الانتفاع بما فعلوا؛

ص: 529


1- تفسير العياشي 586/271:1، تفسير الصافي 273:1.

لحبط أعمالهم و ضياعها، و عدم استحقاقهم الأجر عليها.

فالكافر المنافق كالحجر الأملس، و إنفاقه كالتّراب على الحجر، و الكفر و الرّياء كالمطر الشّديد، و كذلك المنفق و المؤذي كالحجر، و المنّ و الأذى كالمطر الشّديد يذهبان بما للإنفاق من الأجر و الثّواب.

ثمّ أشار سبحانه إلى سبب هذا الخسران بقوله: وَ اللّهُ لا يَهْدِي و لا يوفّق لسلوك طريق الخير و الرّشاد اَلْقَوْمَ الْكافِرِينَ .

و فيه تعريض على المانّ المؤذي في إنفاقه، و إشعار بأنّ الخصال المزبورة من خصال الكفّار، و المؤمن منزّه عنها، أو إيماء على أنّ المانّ المؤذي و القراءة يموتون كفّارا، و يحشرون كفارا.

نقل عن بعض أن مثل من يقصد بالطّاعة الرّياء و السّمعة، كمثل رجل خرج إلى السّوق و ملأ كيسه حصى، فيقول النّاس: ما أملأ كيس هذا الرّجل! و لا منفعة له سوى مقالة النّاس، فلو أراد أن يشتري به شيئا لا يعطى به شيئا.

نقل أنّ بعضا بالغوا في إخفاء الصّدقة، و كانوا يطلبون فقيرا أعمى لا يعلم من المتصدّق، أو كانوا يربطون في ثوب الفقير و هو نائم، أو كانوا يلقونها في طريق الفقير ليأخذها(1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر» قالوا: يا رسول اللّه، و ما الشّرك الأصغر؟ قال: «الرّياء، يقول اللّه لهم حين يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون لهم، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟»(2).

سورة البقرة (2): آیة 265

اشارة

وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

سورة البقرة (2): آیة 265

ثمّ أنّه سبحانه بعد ذكر المثل لإنفاق المانّ و المؤذي و القراءة، ذكر مثلا لإنفاق المؤمن المخلص في إنفاقه و كثرة ثوابه بقوله: وَ مَثَلُ إنفاق المؤمنين اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ في وجوه الخير قاصدين بإنفاقهم اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ و طلب ثوابه وَ تَثْبِيتاً لبعض مِنْ أَنْفُسِهِمْ و جعلا

ص: 530


1- تفسير روح البيان 423:1.
2- تفسير روح البيان 423:1.

لمقدار منها مستقرّا على الإيمان، و ترسخا لليقين في قلوبهم.

قيل: إنّ العلائق الدّنيويّة تعلّق القلب بين الدنيا و الآخرة و بين الإيمان و الكفر، فما لم يقطع المؤمن جميع العلائق الدّنيويّة من قلبه لا يستقرّ قلبه على الإيمان و يتمحّض للآخرة، و لا شكّ أنّ من العلائق حبّ المال، و منها حبّ الحياة، و منها حبّ الأهل و الأولاد، فكلّما قطع علاقة منها حصل له بعض الثّبات، أو حصل لبعض نفسه الاستقرار على الإيمان، و لبعض قلبه التّوجّه إلى الحقّ .

أقول: لا ريب أنّ المواظبة على العبادات و الرّياضات النّفسانيّة تورث القلب نورا و ضياء تزول به ظلمة الشّكوك و الشّبهات و يزداد به اليقين فيها حتى تكون المعارف و العقائد الحقّة راسخة فيها فتكون كلّ عبادة من العبادات موجبا لزيادة مرتبة من اليقين، و ثبات بعض القلب على الإيمان.

فالإنفاق لهذين الغرضين يكون مثله في كثرة النّفع و الثّواب كَمَثَلِ جَنَّةٍ واقعة بِرَبْوَةٍ و نظير بستان كائن في مكان مرتفع مصون من أن يفسده البرد للطافة الهواء و هبوب الرّياح.

قيل: إنّ الأشجار الواقعة في الرّبوة تكون أحسن منظرا و أزكى ثمرا، و أمّا الأراضي المنخفضة فقلّما تسلم ثمارها من البرد، لكثافة هوائها بركود الرّياح(1).

و قيل: إنّ المراد من الربوة الأرض اللّيّنة الجيّدة، بحيث إذا نزل عليها المطر انتفخت و نمت، فإذا كانت الأرض كذلك يكثر ريعها، و تكمل ثمارها و أشجارها (2) ،بخلاف الأراضي المرتفعة، فإنّها يقل انتفاعها من الأنهار، و تكثر فيها الرّياح المضرّة.

و على أي تقدير يفرض أنّ تلك الجنّة العالية أَصابَها و نزل عليها وابِلٌ مطر نافع عظيم القطر فَآتَتْ تلك الجنّة صاحبها حينئذ أُكُلَها و ثمارها ضِعْفَيْنِ قيل: يعني مثلي ما كان يعهد من هذا البستان من الثّمر(3).

عن ابن عبّاس: حملت في سنة من الرّيع ما يحمل غيرها في سنتين. و قيل: الضّعف: مثلي الشيء، و ضعفيه: أربعة أمثاله(4).

فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ و مطر صغير القطر، يكفيها لمضاعفة ثمرها، لكرامة منبتها، و جودة

ص: 531


1- تفسير روح البيان 425:1.
2- و كذا.
3- تفسير روح البيان 425:1.
4- تفسير روح البيان 425:1.

محلّها، و برودة هوائها.

قيل: إنّ المطر الخفيف و رطوبة الهواء إذا داما يفيدان فائدة المطر العظيم.

و قيل: إنّ المراد أنّ الطلّ يكفي لأن يكون لها ثمر، إن كان ثمرها دون الضّعف، و على أي تقدير لا تبقى بلا ثمر.

عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في عليّ صلوات اللّه عليه »(1).

وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الإنفاقات و سائر العبادات بَصِيرٌ و مطّلع كالناظر إليه، لا يمكن أن تخفى عنه قليلة و كثيرة؛ فيجازي بأضعاف الجزاء و أحسنه.

سورة البقرة (2): آیة 266

اشارة

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

سورة البقرة (2): آیة 266

ثمّ أنّه تعالى للمبالغة في توضيح بطلان صدقات المانّ و المؤذي و حسرتهما على حبطها، مع كمال الحاجة إليها، ضرب مثلا آخر بقوله: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أيّها المؤمنون العقلاء أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ

و بستان تكون أكثر أشجارها مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ هما أنفع الأشجار و أشرفها، و مع ذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فإذن تكون في غاية الحسن و النّظارة و النّفع، ثمّ مع هذين الجنسين من الأشجار الجامعة لفنون المنافع يكون لَهُ فِيها رزق وافر، و حظّ متكاثر مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الأخر.

و تخصيص النّخل و العنب - مع دخولهما في عموم الثّمرات - و تقديمهما، لكونهما الأصل و الرّكن فيها، و أكرم الأشجار و أنفعها.

ثمّ بعد بيان صفة الجنّة، و كمال نفعها بحيث لا يتصوّر أحسن و أنفع منها، بيّن شدّة حاجة صاحبها إليها، و إلى منافعها بقوله: وَ الحال أنّه أَصابَهُ الْكِبَرُ و الهرم و الضّعف الذي هو مقتضي لشدّة الحاجة إلى منافعها، و العجز عن تدارك أسباب المعاش من غيرها وَ لَهُ مع ذلك الهرم و الضّعف ذُرِّيَّةٌ و أولاد ضُعَفاءُ عجزة عن تحصيل القوت الذي يسدّون به الرّمق، لأجل الصّغر و الضّعف، فكلّهم صاروا كلاّ على والدهم الضّعيف، و حياتهم و معاشهم على هذا الفرض منوطان

ص: 532


1- تفسير العياشي 589/272:1.

بثمار تلك الجنّة و منافعها، بحيث لو لم تكن لوقعوا جميعا في المخمصة و الهلاك فَأَصابَها إِعْصارٌ و ريح عاصفة شديدة تستدير في الأرض، ثمّ تنعكس منها ساطعة إلى السّماء كهيئة العمود.

قيل: يسمّيها العرب الزّوبعة (1) ،و العجم (گردباد).

و من الواضح أنّ هذه الرّيح بنفسها قالعة للأشجار و معدمة للجنّة، و مع ذلك كانت فِيهِ نارٌ

شديدة محرقة فَاحْتَرَقَتْ بها الجنّة و أشجارها، و ذهبت ثمارها، و خرّبت و محت آثارها.

فانظر كيف يبقى صاحب هذه الجنّة متحيّرا، حيث إنّه لا يجد ما يعود على نفسه و عياله، و لا يقوى أن يغرس مثلها و لا يعينه أحد من ذرّيّته، إذن لكونهم في غاية العجز و الضّعف، فليس لهم إلاّ الهلاك.

كذلك من ينفق ماله، أو يفعل الأعمال الحسنة، ثمّ يحبط أجرها بالمنّ و الأذى و الرّياء و غيرها من الآفات، لا ينتفع بها يوم القيامة مع شدّة الحاجة إليها، فكما لا يودّ أحد أن يكون له شأن تلك الجنّة، كذلك لا يودّ أن يحبط أجر أعماله و صدقاته، لكون حسرته و أسفه أشدّ من صاحب الجنّة.

كَذلِكَ التّبيين الواضح لسوء عاقبة المنّ و الأذى و الرّياء في الصّدقات و العبادات يُبَيِّنُ اللّهُ

و يوضّح لَكُمُ الْآياتِ الدّالّة على ولايته للمؤمنين، و الدّلائل المثبتة للشّرع المتين، و العبارات المبيّنة لحكم أحكام الدّين لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فيها، و لكي تتدبروها، و تعتبروا بها، و تلتزموا باتّباعها.

سورة البقرة (2): آیة 267

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

سورة البقرة (2): آیة 267

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن شرائط صحّة الإنفاق، من حيث نيّة المنفق و أخلاقه و سلوكه مع الفقير، بيّن شرط صحّته أو كماله، من حيث نفس المال، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا و تصدّقوا في سبيل اللّه مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ بالتّجارة من الأموال، و من جياد ما استفدتم من الارباح.

روي أنّها نزلت في قوم لهم مال من ربا الجاهليّة، و كانوا يتصدّقون منه، فنهاهم اللّه عن ذلك و أمرهم بالصّدقة بالحلال(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان القوم قد كسبوا مكاسب [سوء] في الجاهليّة، فلمّا أسلموا أرادوا أن

ص: 533


1- تفسير الرازي 60:7.
2- مجمع البيان 655:2.

يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها، فأبى اللّه تبارك و تعالى إلاّ أن يخرجوا من طيّب(1) ما كسبوا »(2).

و روي أنّ اللّه طيّب، و لا يقبل إلاّ الطيّب (3) ،و على هذا تكون الآية في بيان شرط صحّة الإنفاق.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصّدقة »(4).

و عليه تكون بيانا لشرط كماله. و يحتمل أن يكون المراد من الطّيّب القدر المشترك بين الحلال و الجيّد.

و قيل: إنّ شرط الحلّيّة مستفاد من الأمر حيث إنّ الإنفاق من الحرام لا يؤمر به، و من قوله تعالى بعده: وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ و الخبيث هو الرّديء المستخبث، و اعتبار جودة المال يستفاد من قوله: طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ .

اعتراض و دفع

إن قيل: قد ثبت في الشّرع على مذهب الإمامية وجوب أداء الخمس من المال المختلط بالحرام، إذا لم يعلم مالكه و قدره - و هو مناف لمدلول الآية من اعتبار الحلّية في المال - فإنّ الأمر بأداء الخمس من المال المختلط بالحرام، أمر بالإنفاق من المال الحرام.

قلنا: يستفاد من تشريع الخمس تحقّق المعاوضة القهريّة من مالك الملوك الذي هو وليّ المؤمنين، بأن يصير مال الحرام حين الاختلاط ملكا للمتصرّف بعوض الخمس الذي يصرفه في مصارفه.

وَ أنفقوا مِمّا من طيّبات ما أَخْرَجْنا و أنبتنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ من الحبوب و الثّمار و المعادن وَ لا تَيَمَّمُوا و لا تقصدوا حين إرادة الإنفاق اَلْخَبِيثَ من المال، و هو المال الحرام، أو المعيوب حال كونهم مِنْهُ خاصّة تُنْفِقُونَ في سبيل اللّه، و تختارون لأنفسكم الحلال و الجيّد.

و فيه إشعار بأنّه لا بأس بالإنفاق من الرّديء إذا كان كلّ المال رديئا.

و قيل: إنّ قوله: مِنْهُ تُنْفِقُونَ بتقدير همزة الاستفهام التّوبيخي، فيكون المعنى: أ من الخبيث تنفقون ؟! وَ الحال أنّكم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ من أخذه عوضا من حقوقكم، أو في معاملاتكم في وقت من الأوقات، أو بوجه من الوجوه إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا و تسامحوا فِيهِ مخافة فوت حقّكم، أو لاحتياجكم إليه.

ص: 534


1- في الكافي: أطيب.
2- الكافي 10/48:4، تفسير الصافي 274:1.
3- صحيح مسلم 1015/703:2.
4- مجمع البيان 655:2، تفسير الصافي 275:1.

و قيل: إنّ المراد أنّه لو اهدي إليكم الرّديء لا تأخذونه إلاّ عن استحياء و إغماض.

عن الصادق عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أمر بالنّخل أن يزكّى، يجيء أقوام بألوان من التّمر هو من أردأ التّمر، يؤدّونه من زكاتهم، تمرة يقال لها الجعرور(1) و المعافارة، قليلة اللّحاء، عظيمة النّواة، و كان بعضهم يجيء بها عن [التمر] الجيّد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تخرصوا هاتين التّمرتين، و لا تجيئوا منهما بشيء. و في ذلك نزل: وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ » (2) الخبر.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عن إنفاقكم، و أمره به ليس لحاجة إليه، بل إنّما هو لنفعكم و حاجتكم إليه في تكميل نفوسكم حَمِيدٌ قيل: يعني مستحقّ للحمد على نعمه عليكم، و قيل: إنّ معناه أنّه حامد على إعطاء الجيّد، و مثيب عليه.

و في الأمر بالعلم إشعار بأنّ إعطاء الرّديء لا يكون إلاّ لأجل الجهل بغنائه تعالى، و لتوهّم حاجته و اضطراره إلى هذا الرّديء، فيقبله البتّة، و أما إذا علم أنّ ما يعطيه بمنزلة البذر، ليحصد حاصله في يوم فقره و فاقته، فلا بدّ من أن يبالغ في جودته.

سورة البقرة (2): آیة 268

اشارة

اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)

سورة البقرة (2): آیة 268

ثمّ لمّا رغّب سبحانه في الإنفاق بجياد المال، و كان الشّيطان يمنع عنه بوسوسته، و يردع عنه بتسويله، نبّه المؤمنين به، و بقبح طاعته بقوله: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ و يوسوس في قلوبكم أنّ عاقبة إنفاقكم عدم المال، و صفر اليد، و الابتلاء بشدّة الحاجة وَ يَأْمُرُكُمْ بتسويله و يغريكم بِالْفَحْشاءِ و القبائح العقليّة من البخل و منع الحقوق الواجبة وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ في إنفاقكم مَغْفِرَةً

و سترا كائنا مِنْهُ لذنوبكم وَ فَضْلاً و زيادة في المال و الأجر.

عن ابن مسعود: أنّ للشّيطان لمّة (3) ؛و هي الإيعاد بالشّرّ، و للملك لمّة؛ و هي الوعد بالخير، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من اللّه، و من وجد الأوّل فليتعوّذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. ثمّ قرأ هذه الآية(4).

وَ اللّهُ واسِعٌ و منبسط فضله على المنفقين في وجوه الخير عَلِيمٌ بمقدار إنفاقهم و خلوص

ص: 535


1- الجعرور: ضرب من التمر صغار لا ينتفع به.
2- الكافي 9/48:4، تفسير الصافي 275:1.
3- لمّة الشيطان: هي همّته و خطرته في قلب الإنسان.
4- تفسير الرازي 64:7.

نيّاتهم؛ فينجز ما وعده على إنفاقكم، و لا يضيع أجركم.

سورة البقرة (2): آیة 269

اشارة

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)

سورة البقرة (2): آیة 269

ثمّ أنّه تعالى - بعد ما نبّه على وعد الشيطان و تسويله، و وعد الرّحمن و إلهامه - أشار إلى أنّ ترجيح الثّاني على الأوّل متوقّف على العقل السليم و العلم و التّوفيق للعمل بقوله: يُؤْتِي اللّه اَلْحِكْمَةَ

قيل: هي العلم، و توفيق العمل(1).

عن الصادق عليه السّلام: «الحكمة: المعرفة، و الفقه في الدّين، فمن فقه منكم فهو حكيم، و ما [من] أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من فقيه »(2).

و عنه عليه السّلام قال: «طاعة اللّه، و معرفة الإمام »(3).

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى: «معرفة الإمام، و اجتناب الكبائر »(4).

و قيل: هي القرآن و ما فيه من المواعظ و عجائب الأسرار (5).و مرجع الجميع إلى المعنى الواحد، و هو معرفة اللّه و العلم بالأحكام، و من الواضح أنّ طريقهما منحصر بمعرفة النبيّ و الإمام، و العلم بحقيقة القرآن و أسراره.

و التّوفيق للعمل ملازم لهذه المعارف، فإنّ جميعها هو الحكمة التي تكون فضلا من اللّه يعطيه مَنْ يَشاءُ و يختاره من النفوس الزّكيّة و الذّوات الطّيّبة وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ من قبل اللّه، و بإفاضته و تفضّله فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً و نفعا كَثِيراً لا يعدله خير في الدّنيا و الآخرة.

عن الصادق عليه السّلام: «الحكمة ضياء المعرفة، و ميراث(6) التّقوى، و ثمرة الصّدق. و ما أنعم اللّه على عباده بنعمة أنعم و أعظم و أرفع و أبهى من الحكمة »(7).

قيل: إنّما سمّى اللّه الدّنيا بأسرها قليلا حيث قال: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ (8).و سمّى الحكمة خيرا

ص: 536


1- تفسير روح البيان 431:1.
2- تفسير العياشي 603/276:1، تفسير الصافي 276:1.
3- الكافي 11/142:1، تفسير الصافي 276:1.
4- الكافي 20/216:2، تفسير الصافي 276:1.
5- تفسير الرازي 67:7.
6- في مصباح الشريعة: و ميزان.
7- مصباح الشريعة: 198، تفسير الصافي 276:1، و في مصباح الشريعة: الحكمة للقلب.
8- تفسير الرازي 67:7، و الآية من سورة النساء: 77/4.

كثيرا؛ لأنّ الدّنيا محدودة من جميع الجهات، و العلم لا نهاية لمراتبه و مدّة بقائه، فالعلم و الحكمة خير من الدّنيا و ما فيها.

وَ ما يَذَّكَّرُ لتلك الفضيلة، و لا يتنبّه لهذه المزيّة للحكمة أحد إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ و ذوو العقول السّليمة، الخالصة عن شوائب الأوهام، الغالبة على الشّهوات. و هم الحكماء الرّبانيّون و العلماء باللّه، لوضوح أنّ من لا غلبة لعقله على هواه ليس له ذلك التّنبّه و الاتّعاظ .

سورة البقرة (2): آیة 270

اشارة

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)

سورة البقرة (2): آیة 270

ثمّ أنّه تعالى - لشدّة الاهتمام بالانفاق الذي هو أحسن الأعمال و أنفعها - أكّد أمره به بالوعد بالثّواب العظيم، و التّحذير عن تركه بالعقاب الشّديد، بقوله: وَ ما أَنْفَقْتُمْ في سبيل اللّه مِنْ نَفَقَةٍ

و بأيّ شيء تصدّقتم من قليل أو كثير، في حقّ أو باطل، في سرّ أو علانية أَوْ نَذَرْتُمْ و التزمتم على أنفسكم مِنْ نَذْرٍ و التزام معلّق أو مطلق، في طاعة كنذر أمير المؤمنين و فاطمة عليهما السّلام صيام ثلاثة أيّام لشفاء ولدهما، أو معصية كنذر نسوة من قبيلة بني أود أن تنحر كلّ واحدة منهن عشر قلائص(1)

إن قتل الحسين عليه السّلام، على ما نقله ابن أبي الحديد (2)فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ فيثيب على مستحسنها، و يعاقب على قبيحها. و فيه - مع كمال اختصاره - وعد عظيم و وعيد شديد.

ثمّ أكّد الوعيد بقوله: وَ ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم بترك الإنفاق الواجب، أو إبطاله بالرّياء و السّمعة أو المنّ و الأذى، أو بالصّرف في تشييد الكفر و تضعيف الحقّ ، أو بنذره في المعصية مِنْ أَنْصارٍ و أعوان مدافعين عنهم بأس اللّه و عذابه، فلا شفاعة و لا مدافعة. و إيراد (الأنصار) بصيغة الجمع لمقابلة الجمع و هو (الظالمين) و عطف النّذر على الإنفاق، لغلبة استلزامه إيّاه.

سورة البقرة (2): آیة 271

اشارة

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

ص: 537


1- القلائص: جمع قلوص، و القلوص من الإبل: الفتية من حين تركب إلى التاسعة من عمرها.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 61:4.
سورة البقرة (2): آیة 271

ثمّ بيّن سبحانه مراتب رجحان الصّدقات من حيث الإعلان و الإسرار، و تفاوتهما في الأجر بقوله:

إِنْ تُبْدُوا و تظهروا اَلصَّدَقاتِ المفروضة و المندوبة، كما هو ظاهر عموم اللّفظ فَنِعِمّا هِيَ

أي شيء ممدوح، ذلك الإبداء عند اللّه إن سلم من السّمعة و الرّياء.

وَ إِنْ تُخْفُوها من النّاس وَ تُؤْتُوهَا الذين علمتموهم اَلْفُقَراءَ و غير المالكين مئونة سنتهم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و أحسن و أفضل عند اللّه من الإبداء، حيث إنّ الإعطاء في الخفاء أبعد من الرّياء، و أحفظ لعرض الفقراء.

قيل: وجه التّصريح عند الإخفاء بالإيتاء للفقراء - مع أنّه واجب في الإبداء أيضا - أنّ الإخفاء مظنّة الالتباس، فإنّ الغنيّ ربّما يدّعي الفقر و يقبل الصّدقة سرّا، و لا يفعل ذلك عند النّاس(1).

وَ يُكَفِّرُ اللّه و يستر عَنْكُمْ بعفوه بعضا مِنْ سَيِّئاتِكُمْ و شيئا من ذنوبكم، و قيل: إنّ (من) زائدة، و المعنى: يمحو عنكم جميع ذنوبكم (2).فجعل اللّه ستر الذّنوب جزاء لستر الصّدقات.

وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الصّدقات و سائر العبادات، و لو كان في السّرّ و الخفية خَبِيرٌ و مطّلع، فمن يطلب بها مرضاة اللّه يحصل مطلوبه بإتيانها في السّرّ، إذ لا تخفى على اللّه خافية.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «صدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ ، و تدفع(3) الخطيئة، كما يطفئ الماء النّار، و تدفع سبعين بابا من البلاء »(4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه - إلى أن قال -: و رجل تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينه ما أنفق بشماله »(5).

و عن الباقر عليه السّلام، في قوله عزّ و جلّ : إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ قال: «يعني الزّكاة المفروضة» قال: قلت: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ؟ قال: «يعني النّافلة »(6).

و عن الصادق عليه السّلام، في قوله: تُخْفُوها قال: «هي سوى الزّكاة، إنّ الزّكاة علانيّة خير له »(7).

و عنه عليه السّلام: «فإنّ كلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره [و كلّ ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه] و لو أنّ رجلا حمل زكاته على عاتقه، فقسّمها علانيّة، كان ذلك حسنا جميلا »(8).

ص: 538


1- تفسير روح البيان 432:1 و 433.
2- تفسير الرازي 76:7.
3- في مجمع البيان: و تطفئ.
4- مجمع البيان 385:2. طبعة شركة المعارف الإسلامية.
5- مجمع البيان 663:2.
6- الكافي 1/60:4.
7- الكافي 17/502:3، و فيه: علانية غير سرّ.
8- الكافي 16/501:3.

و عن ابن عبّاس رحمه اللّه: صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، و صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة و عشرين ضعفا(1).

سورة البقرة (2): آیة 272

اشارة

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)

سورة البقرة (2): آیة 272

ثمّ أنّه قيل: لمّا كثر المسلمون(2) نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الإنفاق على المشركين حتّى تحملهم الحاجة على الدّخول في الإسلام، فنزلت (3)لَيْسَ بالواجب عَلَيْكَ هُداهُمْ و إرشادهم جبرا، و إدخالهم في دين الإسلام اضطرارا، بل إنّما عليك البلاغ و الإرشاد بالبيان و الدّعوة إلى الحقّ ، و المجادلة بالتي هي أحسن و الوعظ و النّصح وَ لكِنَّ اللّهَ بتوفيقه و تأييده يَهْدِي و يوصل إلى الحقّ مَنْ يَشاءُ هدايته و إيصاله إليه من النّفوس الزّكيّة و الذّوات المستعدّة القابلة التّابعة للعقل.

و روي أنّ نتيلة امّ أسماء بنت أبي بكر جاءت إلى ابنتها تسألها، و كذلك جدّتها - و هما مشركتان - فقالت: لا اعطيكما حتى أستأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك، فنزلت [الآية] فأمرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تتصدّق عليهما(4).

و قيل: كان اناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة و النّضير، و كانوا لا يتصدّقون عليهم، و يقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئا(5).

و قيل: جيء بها على طريق تلوين الخطاب، و توجيهه إلى شخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للمبالغة في إقبال المؤمنين على الامتثال.

ثمّ صرّح بتأكّد رجحانه و كثرة الثواب عليه لعموم المؤمنين بقوله: وَ ما تُنْفِقُوا و أي شيء تتصدّقوا أيّها المسلمون مِنْ خَيْرٍ و مال، كان المنفق عليه كافرا أو مسلما فَلِأَنْفُسِكُمْ نفعه و ثوابه، لا لغيركم، و لا يضرّكم كفر الفقير.

ص: 539


1- تفسير أبي السعود 264:1، تفسير روح البيان 433:1.
2- في تفسير أبي السعود و تفسير روح البيان: كثر فقراء المسلمين.
3- تفسير أبي السعود 264:1، تفسير روح البيان 434:1.
4- تفسير الرازي 76:7.
5- تفسير الرازي 76:7.

وَ ما تُنْفِقُونَ و لا تتصدّقون على المشركين - و لو كانوا من أرحامكم و أقاربكم - لعلّة من العلل، أو وجه من الوجوه إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ و طلبا لمرضاته، لا لتأييدهم في كفرهم، و لا للرّكون إليهم في باطلهم، فإنّ اللّه عالم بما في قلوبكم من الإخلاص، و قصد صلة الرّحم، و سدّ خلّة المضطرّ. و أمّا تلبّسهم بالكفر فليس بمانع عن الإنفاق، إلاّ إذا كان من الصّدقات المفرضة كالزّكاة و الفطرة، أو كان في الإنفاق عليهم تقوية الباطل و تضعيف الحقّ ، ففي الصورتين لا يجوز الإنفاق على غير أهل الحقّ .

ثمّ بالنّظر إلى العداوة الدّينيّة بين المسلمين و الكفّار الرّادعة للمسلمين عن الإنفاق عليهم، و قوّة توهّم مرجوحيّة الإنفاق عليهم في نظر المسلمين، أكّد اللّه سبحانه فضله و كثرة ثوابه بقوله: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ و مال على المسلم أو الكافر يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أجره المضاعف، و يوفّر لكم ثوابه، مضافا إلى ما يخلفه كما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ اجعل للمنفق خلفا، و للممسك تلفا »(1).

وَ أَنْتُمْ أيّها المنفقون لوجه اللّه لا تُظْلَمُونَ في حقّكم، و لا تنقصون من أجركم، فلا ينبغي التّسامح فيه.

قال بعض: لو كان الفقير شرّ خلق اللّه، لكان لك ثواب نفقتك(2).

سورة البقرة (2): آیة 273

اشارة

لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

سورة البقرة (2): آیة 273

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن تعميم استحباب الصّدقة للمؤمن و الكافر، بيّن أولويّة المؤمنين الخلّص؛ بالإنفاق، و أفضليّة التّصدّق عليهم بقوله: لِلْفُقَراءِ من المؤمنين الخلّص، اجعلوا صدقاتكم، و هم اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا و حبسوا عن تحصيل المعاش، لاستغراق أوقاتهم بالعبادات من الجهاد فِي سَبِيلِ اللّهِ و نصرة الدّين، و منهم العلماء المروّجون للشّرع، و المشتغلون بتحصيل العلوم الدّينيّة، فإنّهم لا يَسْتَطِيعُونَ لكثرة اشتغالهم بالعبادات و المهام الإسلاميّة ضَرْباً و سيرا فِي الْأَرْضِ للتّجارة، و طلب المعيشة.

ذكر أصحاب الصّفة و أوصافهم

قيل: نزلت في فقراء المهاجرين، و كانوا نحوا من أربعمائة، لم يكن لهم مسكن

ص: 540


1- تفسير أبي السعود 265:1.
2- الكشاف 317:1، تفسير الرازي 78:7.

و عشائر بالمدينة، و كانوا ملازمين للمسجد ساكنين في صفّته (1) ؛و هي مسقّفة، يتعلّمون القرآن باللّيل، و يستغرقون أوقاتهم بالتّعلّم و العبادة و الجهاد، و يخرجون في كلّ غزوة و سريّة بعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(2).

عن ابن عبّاس، قال: وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما على أصحاب الصّفّة، فرأى فقرهم و جهدهم(3) ، فطيّب قلوبهم فقال: «أبشروا يا أصحاب الصّفّة، فمن لقيني من امّتي على النّعت الذي أنتم عليه؛ راضيا بما فيه، فإنّه من رفقائي »(4).

و عن ابن عبّاس رحمه اللّه، في تفسير الآية قال: هؤلاء قوم(5) حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل اللّه، فعذرهم اللّه(6).

ثمّ بعد بيان واقع حالهم، بيّن حال عشرتهم و سلوكهم مع النّاس بقوله: يَحْسَبُهُمُ و يظنّهم اَلْجاهِلُ بحالهم و شأنهم غير المختبر لأمرهم كونهم أَغْنِياءَ مِنَ أجل غاية اَلتَّعَفُّفِ و كفّ النّفس عن مسألة النّاس، و إظهار الحاجة إليهم. روي أنّهم كانوا يقومون باللّيل للتّهجّد، و يحطبون بالنّهار للتّعفّف(7).

ثمّ كأنّه قيل: فكيف يعرف فقرهم ؟ فقال سبحانه: تَعْرِفُهُمْ بالفقر و الفاقة بِسِيماهُمْ

و علامات الفقر فيهم من صفرة اللّون، و نحول الجسم، و ضعف القوى، و رثاثة الثّياب، و أمثال ذلك.

ثمّ لمّا كان الإنسان لا يكاد يخلوا عن الاضطرار إلى السؤال و طلب الحاجة من الغير، و لو بالغ في التّعفّف، وصفهم سبحانه - بعد توصيفهم بالمبالغة في التّعفّف - بأنّهم قوم إذا اضطرّوا إلى سؤال حاجة دنيويّة لا يَسْئَلُونَ النّاسَ حاجتهم إِلْحافاً و إلحاحا.

عن ابن مسعود: أنّ اللّه يحبّ العفيف المتعفّف، و يبغض الفاحش البذيء.

و قيل: السائل الملحف: الذي إن اعطي كثيرا أفرط في المدح، و إن اعطي قليلا أفرط في الذّمّ (8).

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يفتح أحد باب مسألة إلاّ فتح اللّه عليه باب فقر، و من يستغن يغنه اللّه، و من يستعفف يعفّه اللّه، لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب فيبيعه بمدّ من تمر، خير له من أن يسأل

ص: 541


1- الصّفّة: المكان المظلّل في مسجد المدينة، حيث كان يأوي إليه فقراء المهاجرين و يرعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هم أصاب الصفّة.
2- تفسير الرازي 79:7.
3- في تفسير الرازي: وجدهم.
4- تفسير الرازي 79:7، و فيه: من رفاقي.
5- زاد في تفسير الرازي: من المهاجرين.
6- تفسير الرازي 80:7.
7- تفسير الرازي 81:7.
8- تفسير الرازي 81:7.

النّاس »(1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله «لأن يأخذ أحدكم حبله، فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيكفّ بها وجهه، خير له من أن يسأل النّاس أشياءهم؛ أعطوه أو منعوه».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف، و يبغض البذيء السّائل الملحف »(2).

و قيل: إنّ المراد من الآية نفي السؤال و الإلحاف جميعا، أي لا يسألون النّاس أصلا فيكون إلحافا(3).

ثمّ حثّ سبحانه على مطلق الإنفاق، سيّما على الموصوفين بتلك الصّفات، بأبلغ بيان و أخصره و أوجزه بقوله: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ و مال، أو من كلّ ما وجدتموه، ممّا ينتفع به الغير؛ علما أو جاها أو مالا فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم به أحسن الجزاء.

سورة البقرة (2): الآیات 274 الی 276

اشارة

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ (276)

سورة البقرة (2): آیة 274

ثمّ بيّن شمول حسن الإنفاق لجميع الأوقات و الأحوال بقوله: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في أيّ وقت من الأوقات كان بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ و في أيّ حال من الأحوال كان سِرًّا وَ عَلانِيَةً لا يخصّون إنفاقهم بوقت دون وقت، و بحال دون حال. و لعلّ وجه تقديم اللّيل و السّرّ، مزيّتهما على النّهار و العلانيّة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ و ثوابهم الموعود المدّخر عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللّطيف بهم وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه آت وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ من محبوب فات.

ذكر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السّلام

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ عليّا عليه السّلام ما كان يملك غير أربعة دراهم؛ فتصدّق بدرهم ليلا، و بدرهم نهارا، و بدرهم سرّا، و بدرهم علانيّة. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما حملك على هذا»

ص: 542


1- و كذا.
2- تفسير روح البيان 435:1.
3- تفسير روح البيان 435:1.

فقال عليه السّلام: «استوجب ما وعدني ربّي» فقال صلوات اللّه عليه: «لك ذلك» فأنزل اللّه هذه الآية(1).

و عن العيّاشي و الطّبرسي: عن الصادقين(2) عليهما السّلام، ما يقرب منه(3).

و من عجائب الرّوايات ما عن الزّمخشري، و بعض العامّة: أنّها نزلت في أبي بكر حين تصدّق بأربعين ألف دينار؛ عشرة آلاف في اللّيل، و عشرة آلاف في النّهار، و عشرة آلاف في السّرّ، و عشرة آلاف في العلانيّة (4).فإنّه لم ينقل أنّ أبا بكر كان في زمان شركه غنيّا، بل المنقول أنّه و أباه كانا في مكّة من الفقراء، و ليت شعرى، من أين وجد في المدينة تلك الثّروة العظيمة ؟

و عن بعض العامّة: أنّه لمّا نزل قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بعث عبد الرّحمن بن عوف إلى أصحاب الصّفّة بدنانير، و بعث عليّ عليه السّلام بوسق(5) من تمر ليلا، فكان أحبّ الصّدقتين إلى اللّه صدقته (6).و يمكن القول بوقوع كلتا الصّدقتين من أمير المؤمنين عليه السّلام.

و عن الفقيه: أنّها نزلت في النفقة على الخيل(7).

و عن أبي هريرة، أنّه إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية(8).

و الحقّ أنّها نزلت في شأن أمير المؤمنين عليه السّلام لاتّفاق روايات الخاصّة و العامّة عليه، فلا يعبأ بغيرها.

بيان معنى الرّبا و أقسامه

سورة البقرة (2): آیة 275

ثمّ لمّا كان بين النّفقة و الرّبا مناسبة التّضادّ - حيث إنّ الإنفاق موجب لتنقيص المال مع رجحانه و الأمر به، و الرّبا موجب لازدياد المال مع مبغوضيّته و النّهي عنه - عقّب سبحانه بيان أحكام النّفقات ببيان جملة من أحكام الرّبا بقوله: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا و يتعاملون في متّحدي الجنس بزيادة و يأخذونها. قيل: عبّر عن التّصرّف بالأكل؛ لأنّه المقصود الأعظم منه، و لشيوعه في المطعومات.

قال الفاضل المقداد رحمه اللّه: كان الرّجل في الجاهليّة إذا حلّ له دين على غيره و طالبه، يقول له الغريم:

زدني في الأجل [حتى] أزيدك في المال(9).

ص: 543


1- تفسير الرازي 83:7.
2- في تفسير العياشي: عن أبي إسحاق.
3- تفسير العياشي 607/277:1، مجمع البيان 667:2.
4- الكشاف 319:1، تفسير الرازي 83:7، تفسير روح البيان 435:1.
5- الوسق: مكيلة معلومة، و هي ستون صاعا، و الصاع خمسة أرطال و ثلث.
6- تفسير الرازي 83:7.
7- من لا يحضره الفقيه 852/188:2، تفسير الصافي 278:1.
8- تفسير الرازي 83:7.
9- كنز العرفان 35:2.

أقول: الرّبا في الشّرع قسمان: ربا المعاوضة، و ربا القرض.

أمّا الأوّل: فهو معاوضة جنس بجنسه - إذا كانا مكيلين أو موزونين - مع الزّيادة في أحد العوضين.

فيعتبر في الرّبا المعاملي أمران: اتّحاد الثّمن و المثمّن في الجنس، و كونه مكيلا أو موزونا. فإذا تحقّق الشّرطان تعتبر المساواة، و تحرم الزّيادة، بلا خلاف نصّا و فتوى، سواء كانت المعاملة بصيغة البيع أو الصّلح أو غيرهما على الأظهر، لإطلاق الرّوايات و عموم العلّة.

و أمّا الثاني: فهو إقراض مال - مكيلا كان أو موزونا، أو غيرهما - مع شرط النّفع بالعين، أو الصّفة، أو تمديد أجل الدّين بشرط النّفع.

و لا ريب أنّه بكلا قسميه من الكبائر، حيث أوعد اللّه الآكلين له و المتصرّفين فيه بأنّهم لا يَقُومُونَ من قبورهم حين بعثهم منها إِلاّ كَما يَقُومُ المصروع اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ و يصرعه اَلشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ قيل: إنّ من عذاب أكل الرّبا أنّه يحشر في القيامة مجنونا، و يكون ذلك سيماهم يعرفون به في المحشر.

و قيل: إنّ التّعبير عن الجنون أو الصّرع بالخبط الحاصل من مسّ الشّيطان، مبنيّ على زعم العرب من كون الجنون و الصّرع حاصلين من مسّ الشّيطان و الجنّ .

و قيل: إنّ آكل الرّبا يعظم بطنه في المحشر، بحيث يقوم و يسقط من ثقله، و سائر النّاس يوفضون إلى المحشر، و هو لا يقدر على سرعة المشي، بل لعظم بطنه و ثقله بسبب أكل الرّبا، ينهض و يسقط كالمصروع (1) ،لا أنّه يصير مصروعا أو مجنونا.

عن القمّي رحمه اللّه و (المجمع): عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا اسري بي إلى السّماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر لعظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الرّبا، لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ ، فإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النّار غدوّا و عشيّا، يقولون: ربّنا متى تقوم السّاعة» الخبر (2).و فيه دلالة على وجود عالم الصّور و المثال.

ذلِكَ العذاب المقرّر للمربين(3) معلّل بِأَنَّهُمْ بنوا على حلّيّة الرّبا، حتى جعلوه أصلا، و شبّهوا

ص: 544


1- تفسير روح البيان 436:1.
2- تفسير القمي 93:1، مجمع البيان 669:2، تفسير الصافي 278:1.
3- المربي: من يأتي الرّبا.

البيع به في الحلّيّة و قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ في الحلّيّة، و في الفائدة مِثْلُ الرِّبا فكما يجوز بيع سلعة تكون قيمتها درهما بدرهمين، كذلك يجوز بيع عين الدّرهم بدرهمين، و كما يجوز بيع ما يساوي درهما بدرهمين إلى شهر، يجوز بيع درهم أو قرض درهم بدرهمين أو بشرط أداء درهمين إلى شهر لعدم الفرق عقلا. فنظموا الرّبا و البيع في سلك واحد، لإفضائهما إلى الرّبح، فخالفوا اللّه بهذه التسوية الاعتبارية التي لا اعتبار بها.

فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ أَحَلَّ اللّهُ العالم بحقائق الأشياء، و واقعيّات مصالح الامور و مفاسدها اَلْبَيْعُ لوجوب ملاك حسن ترتيب الأثر فيه، و معاملة الصّحة معه وَ حَرَّمَ الرِّبا لوجود ملاك القبح فيه، و ترتّب الفساد عليه. فعليكم التسليم و الانقياد لقصور عقلكم، و الدّين و الأحكام لا يصاب بالعقول القاصرة.

عن (الكافي): «إنّما حرم اللّه الرّبا لئلاّ يمتنع النّاس من اصطناع المعروف »(1).

أقول: الظّاهر أنّ المراد بالمعروف هنا القرض الحسن و المواساة و الإحسان بالإخوان.

فَمَنْ جاءَهُ و بلغه مَوْعِظَةٌ و زجر مِنْ رَبِّهِ عن أكل الرّبا لتربيته بالخصال الحسنة، و صرفه عن الأخلاق السيّئة على حسب وظيفة الرّبوبيّة فَانْتَهى عنه و اتّعظ بالموعظة الإلهيّة و اتّبع النهي و تاب فَلَهُ من تلك الزّيادة ما سَلَفَ أخذه، و أخذه قبل العلم بالنّهي.

عن (الكافي) و (الفقيه): عن الصادق عليه السّلام: «كلّ ربا أكله النّاس بجهالة ثمّ تابوا، فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التّوبة».

و قال: «لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا، و عرف أنّ في ذلك المال ربا، و لكن قد اختلط في التّجارة بغيره حلالا (2) ،كان حلالا طيّبا فليأكله، و إن عرف منه شيئا معزولا [أنّه ربا] فليأخذ رأس ماله و ليردّ الرّبا، و أيّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه [من] الرّبا، فجهل ذلك ثمّ عرفه بعد، فأراد أن ينزعه، مضى فله، و يدعه فيما يستأنف »(3).

وَ أَمْرُهُ و شأنه راجع إِلَى اللّهِ يجازيه في الآخرة بحسب ما علم من صدق نيّته في الانتهاء، و قيل: يحكم في شأنه في القيامة (4).و ليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به.

ص: 545


1- الكافي 8/146:5، تفسير الصافي 279:1.
2- في الكافي: حلال.
3- الكافي 4/145:5، من لا يحضره الفقيه 787/175:3 و 788، تفسير الصافي 279:1.
4- جوامع الجامع: 50.

وَ مَنْ عادَ إلى معاملة ربويّة، و أخذ الرّبا مستحلاّ له، بعد علمه بالنّهي فَأُولئِكَ المستحلّون أَصْحابُ النّارِ و ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «درهم من الرّبا أعظم عند اللّه من سبعين زنية بذات محرم، في بيت اللّه الحرام »(1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الرّبا خمسة: آكله، و موكله، و شاهديه، و كاتبه »(2).

سورة البقرة (2): آیة 276

ثمّ بعد النّهي عن أكله، و بيان عقوبته المترتّبة عليه، بيّن سبحانه عدم نفع دنيوي فيه بقوله: يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا و يذهب به، حتّى لا يبقى منه شيء ينتفع به.

قيل: إنّ اللّه يذهب بركته، و يهلك المال الذي يدخل فيه، و لا ينتفع به ولده، و تبقى على المربي تبعته و عقابه.

وَ يُرْبِي اللّه و يضاعف اَلصَّدَقاتِ و يزيد في ثوابها في الآخرة، بل تكون الصّدقة التي هي تنقيص في المال سببا لزيادته، بخلاف الرّبا الذي هو سبب لتكثير المال، فإنّه بالمال موجب لتنقيصه، حيث إنّه يتلف بنفسه، و يتلف المال الذي يدخل فيه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما نقص مال عن صدقة »(3).

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الملك ينادي كلّ يوم: اللّهم يسّر لكلّ منفق خلفا »(4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه يقبل الصّدقة و يربّيها، كما يربّي أحدكم مهره »(5).

و عن الصادق عليه السّلام مثله(6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ما نقصت زكاة من مال قطّ »(7).

وَ اللّهُ لا يُحِبُّ بل يبغض كُلَّ كَفّارٍ مصرّ على تحليل المحرّمات، و كلّ أَثِيمٍ منهمك في المعاصي و اتّباع الشهوات، فيعاقبهم في الآخرة بأشدّ العقوبات.

سورة البقرة (2): آیة 277

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

ص: 546


1- من لا يحضره الفقيه 824/266:4.
2- مجمع البيان 671:2.
3- جوامع الجامع: 50، تفسير الصافي 280:1.
4- تفسير الرازي 95:7.
5- تفسير روح البيان 436:1، تفسير أبي السعود 267:1، و المهر: أول ما ينتج من الخيل و الحمر الأهلية و غيرها.
6- تفسير العياشي 615/279:1.
7- تفسير أبي السعود 267:1، تفسير روح البيان 436:1.
سورة البقرة (2): آیة 277

ثمّ بعد ما بيّن سبحانه إعراضه عن الكفرة العصاة و بغضه إيّاهم، أعلن بحبّه لأهل الإيمان، و إقباله برحمته و ثوابه إلى المطيعين و معطي الزّكاة و الصّدقات بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه، و رسوله، و كتابه، و دينه وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ التي تكون من وظائف الإيمان وَ أَقامُوا الصَّلاةَ و أتوا بها بحدودها من أجزائها و شرائطها و ما يعتبر في صحّتها وَ آتَوُا الزَّكاةَ و صرفوها في مصارفها المقرّرة و في تخصيص الصّلاة و الزّكاة بالذّكر مع دخولهما في الأعمال الصّالحات، دلالة على كمال الاهتمام بهما و كونهما من أعظم الواجبات لَهُمْ أَجْرُهُمْ و ثوابهم الموعود، حال كونه مذخورا عِنْدَ رَبِّهِمْ و مالكهم الرّءوف بهم وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لقاء مكروه، و نقص أجر وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على مفارقة الدّنيا و ما فيها، و تنزّل الدّرجة في الآخرة.

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة، و لا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدّنيا (1) ،و على ما فاتهم من النّعم الزّائدة التي حصلت لغيرهم من السّعداء.

سورة البقرة (2): الآیات 278 الی 280

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279) وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

سورة البقرة (2): آیة 278

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حلّيّة الرّبا الذي كان قبل النّهي عنه، بيّن اختصاصها بالرّبا المقبوض من الغريم دون غير المقبوض، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ و احذروه في مخالفة حكمه و صونوا أنفسكم من عقابه وَ ذَرُوا و اتركوا ما بَقِيَ عند الغريم مِنَ الرِّبا بالكلّيّة، و لا تطالبوا منه ما لم تقبضوه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و اليوم الآخر، فإنّ لازم الإيمان الالتزام بأحكام اللّه، و ترك مطالبة بقيّة الرّبا. و فيه غاية التّهديد، لدلالته على أنّ مطالب البقيّة خارج عن الإيمان.

عن الصادق(2) عليه السّلام: «أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهليّة، و بقي له بقايا على ثقيف، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها - بعد أن أسلم - فنزلت [الآية ]»(3).

ص: 547


1- تفسير الرازي 97:7.
2- في مجمع البيان و تفسير الصافي: عن أبي جعفر الباقر.
3- مجمع البيان 673:2، تفسير الصافي 673:1.
سورة البقرة (2): آیة 279

و قيل: كان العبّاس بن عبد المطلب و خالد شريكين في الجاهليّة يسلفان في الربا، فجاء الإسلام، و لهما أموال عظيمة في الرّبا فأنزل اللّه هذه

الآية، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهليّة موضوع، و أوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب، و كلّ دم في الجاهليّة موضوع، و أوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب »(1).

و عن القمّي رحمه اللّه: لمّا نزلت اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا قام خالد بن الوليد، فقال: يا رسول اللّه ربا(2) أبي في ثقيف، و قد أوصاني عند موته بأخذه، فأنزل اللّه (3):فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما امرتم به من الاتّقاء، و ترك بقايا الرّبا، فقد عارضتم اللّه، و تجرّأتم عليه فَأْذَنُوا و اعلموا بِحَرْبٍ عظيمة، و غضب شديد، و عذاب أليم، كائن مِنَ اللّهِ بالنّار وَ من رَسُولِهِ بالقتال و السّيف.

روي أنّه كان لثقيف مال على بعض قريش، فطالبوهم عند المحل بالمال و الرّبا، فنزلت الآية، فقالت ثقيف: لا بدّ لنا بحرب اللّه و رسوله(4).

وَ إِنْ تُبْتُمْ من أخذ الرّبا بعد ما سمعتموه من النّهي و الوعيد فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أن تأخذوها كاملا لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزّيادة وَ لا تُظْلَمُونَ أنتم من قبلهم بالتّنقيص و المماطلة.

سورة البقرة (2): آیة 280

وَ إِنْ كانَ و وجد في غرمائكم ذُو عُسْرَةٍ و غير متمكّن من تهيئة المال - زائدا على المستثنيات المعهودة في الفقه - بسبب التّلف، أو كساد المتاع، أو انقطاع تصرّفه عنه مع وجوده، بظلم ظالم و نحوه فَنَظِرَةٌ و إمهال واجب عليكم إِلى زمان حصول مَيْسَرَةٍ و قدرة على الأداء، فلا يجوز مطالبته بالدّين.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «خلّوا سبيل المعسر كما خلاّه اللّه »(5).

روي أنّه لمّا نزلت آية فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ قالت الإخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا: بل نتوب إلى اللّه، فإنّه لا طاقة لنا بحرب اللّه و رسوله، فرضوا برأس المال، و طالبوا بني المغيرة بذلك، فشكا بنو المغيرة العسرة، و قالوا: أخّرونا إلى أن ندرك الغلاّت، فأبوا أن يؤخّروهم، فنزلت

ص: 548


1- مجمع البيان 673:2.
2- كذا، و الظاهر رابى بمعنى أعطى ماله بالربا.
3- تفسير القمي 93:1، تفسير الصافي 281:1.
4- تفسير أبي السعود 267:1.
5- الكافي 3/35:4، تفسير الصافي 282:1.

وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ (1) .

و في التّعبير ب (ذو عسرة) دون (ذا عسرة) دلالة على عموم الحكم لعموم المديونين، و عدم اختصاصه بالرّبا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحلّ دين رجل مسلم فيؤخّره، إلاّ كان له بكلّ يوم صدقه »(2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من أنظر معسرا أو وضع له، أنجاه اللّه من كرب يوم القيامة »(3).

عن الصادق عليه السّلام قال: «صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر ذات يوم، فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على أنبيائه، ثمّ قال: أيّها النّاس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا، كان له على اللّه في كلّ يوم صدقة بمثل ماله، حتى يستوفيه - ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام -: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ »

الخبر(4).

عن العيّاشي: عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه النّظرة التي ذكرها اللّه عزّ و جلّ في كتابه، لها حدّ يعرف، إذا صار هذا المعسر لا بدّ له من أن ينظر، و قد أخذ مال هذا الرّجل و أنفقه على عياله، و ليس له غلّة ينتظر إدراكها، و لا دين ينتظر محلّة، و لا مال غائب ينتظر قدومه ؟ قال: «نعم، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام، فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين، إذا كان أنفقه في طاعة اللّه، فإن كان أنفقه في معصية اللّه فلا شيء له على الإمام» قيل: فما لهذا الرّجل الذي ائتمنه، و هو لا يعلم فيما أنفقه، في طاعة اللّه أم في معصيته ؟ قال: «يسعى له في ماله، فيردّه و هو صاغر »(5).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من غريم ذهب بغريمه إلى وال من ولاة المسلمين، و استبان للوالي عسرته، إلاّ برئ هذا المعسر من دينه، و صار دينه على والي المسلمين فيما في يديه من أموال المسلمين »(6).

وَ أَنْ تَصَدَّقُوا على المعسرين بإبراء ذمّتهم من الدّين كلّه، فهو خَيْرٌ لَكُمْ و أكبر ثوابا من الإنظار و إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك عملتم به.

عن الصادق عليه السّلام: «إن كنتم تعلمون أنّه معسر، فتصدّقوا بما لكم عليه »(7).

ص: 549


1- تفسير الرازي 102:7.
2- تفسير الرازي 103:7.
3- مصابيح السنة 2131/341:2، تفسير روح البيان 438:1.
4- الكافي 4/35:4.
5- تفسير العياشي 625/281:1، تفسير الصافي 282:1.
6- تفسير القمي 94:1، تفسير الصافي 282:1.
7- الكافي 4/36:4، تفسير الصافي 282:1.

و عنه عليه السّلام: «من أراد أن يظلّه اللّه يوم لا ظلّ إلاّ ظله - قالها ثلاثا، فهابه النّاس أن يسألوه، فقال -:

فلينظر معسرا، أو ليدع له من حقّه »(1).

روي أنّه جاء رجل إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له: يا [أبا] عبد اللّه قرض إلى ميسرة. فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إلى غلّة تدرك» فقال الرّجل: لا و اللّه. قال: «فإلى تجارة تئوب» قال: لا و اللّه. قال: «فإلى عقدة(2) تباع» فقال: لا و اللّه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «فأنت ممّن جعل اللّه له من أموالنا حقّا» ثمّ دعا بكيس فيه دراهم، فأدخل يده فيه، فناوله منه قبضة(3).

سورة البقرة (2): آیة 281

اشارة

وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

سورة البقرة (2): آیة 281

ثمّ ختم سبحانه أحكام الرّبا و المعسر بالتّوعيد بالعقاب على المخالفة، و الوعد بالثّواب على الطّاعة بقوله: وَ اتَّقُوا يَوْماً عظيما، كثير الأهوال و الشّدائد تُرْجَعُونَ و تردّون فِيهِ قهرا إِلَى اللّهِ

و حكمه، فيحاسب فيه أعمالكم ثُمَّ تُوَفّى و تعطى كاملا كُلُّ نَفْسٍ من المطيع و العاصي ما كَسَبَتْ و حصّلت من جزاء أعمالها في الدّنيا من الطّاعة و العصيان وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ من قبل اللّه بتنقيص ثواب أو زيادة عقاب. و فيه تأكيد لتوفية الجزاء، و إشعار بأنّ العذاب - و إن كان مؤبدا، و في أعلى مرتبة الشّدة - لا يكون ظلما، بل هو على حسب الاستحقاق.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذه الآية آخر أية نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك لأنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا حجّ نزلت يَسْتَفْتُونَكَ (4) و هي آية الكلالة، ثمّ نزل و هو واقف بعرفة اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (5) ثمّ نزل وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ فقال جبرئيل: يا محمّد، ضعها على رأس ثمانين آية و مائتي آية من البقرة، و عاش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعدها أحدا و ثمانين يوما(6).

أقول: قيل: أحدا و عشرين، و قيل: سبعة أيّام، و قيل: ثلاث ساعات (7).و لا ينافي ذلك ما روي من أنّ سورة النّصر آخر ما نزل؛ لأنّها آخر سورة، و هذه آخر آية.

ص: 550


1- الكافي 1/35:4، تفسير الصافي 282:1.
2- العقدة: كلّ ما يمتلكه الإنسان من ضيعة، أو عقار، أو متاع، أو مال...
3- الكافي 14/501:3، تفسير الصافي 282:1.
4- النساء: 176/4.
5- المائدة: 3/5. (6و7) تفسير الرازي 104:7.

سورة البقرة (2): الآیات 282 الی 283

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282) وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

سورة البقرة (2): آیة 282

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم دين المعسر من وجوب إنظاره، و استحباب التّصدّق عليه، بيّن طريق حفظ الدّين عن التّورى(1) و التّلف بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ و تعاملتم بِدَيْنٍ

و بعوض في الذّمّة، سلما كانت المعاملة أو نسيّة إِلى أَجَلٍ و أمد مُسَمًّى و معيّن مشروط في العقد كاليوم و الشّهر و السنة، دون غير المعيّن عند المتعاملين كالحصاد و الدّياس(2) و قدوم الحاج لعدم الخلاف ظاهرا في أنّ التّوقيت بأمثالها مفسد للمعاملة.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّها نزلت في السّلف؛ لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قدم المدينة و هم يسلفون في التّمر السّنتين و الثّلاث، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، و وزن معلوم »(3).

قيل: في ذكر الدّين منكرا دلالة على أنّ اشتراط كون الدّين في المعاملة واحدا، ثمنا كان أو مثمنا،

ص: 551


1- التّورى: أي الهلاك و التلف.
2- الدّياس: دوس الحصيد ليخرج الحبّ منه، و ذلك بوطئه بالأرجل أو غيرها.
3- تفسير الرازي 108:7.

و عليه لا يجوز بيع الدّين بالدّين؛ لأنّه معاملة بدينين لا بدين، و هو المعروف بالكالي (1) ،و لا خلاف في بطلانه.

قيل: ما من لذّة، و لا منفعة، يوصل إليها بطريق محرّم، إلاّ جعل اللّه سبحانه للوصول إلى تلك اللّذّة و المنفعة طريقا حلالا، و سبيلا مشروعا (2).و لمّا حرّم اللّه استفادة الرّبح بطريق الرّبا، أذن في بيع السّلم و النّسيئة؛ لوجود جميع المنافع المطلوبة في الرّبا فيهما.

ثمّ بيّن سبحانه طريق الاحتياط في الأجل و الكيل و الوزن في الدّين بقوله: فَاكْتُبُوهُ بجنسه و صفاته و وزنه و أجله؛ لكون الكتب أوثق و أدفع للنّزاع. و لا شبهة أنّ الأمر هنا ليس للوجوب النّفسي، بل للإرشاد أو الاستحباب.

عن (العلل): عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ عرض على آدم أسماء الأنبياء و أعمارهم، قال: فمرّ بآدم اسم داود النبيّ ، فإذا عمره في العالم أربعون سنة، فقال آدم: يا ربّ ما أقلّ عمر داود و أكثر عمري! يا ربّ إن أنا زدت(3) داود ثلاثين سنة ثبت ذلك له ؟ قال: نعم يا آدم، قال: فانّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة، فأنفذ ذلك و أثبتها له عندك، و اطرحها من عمري».

قال أبو جعفر عليه السّلام: «فأثبت اللّه عزّ و جلّ لداود في عمره ثلاثين سنة، و كانت له عند اللّه(4) مثبتة.

فذلك قوله عزّ و جلّ : يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (5) فمحا اللّه ما كان عنده مثبتا لآدم، و أثبت لداود ما لم يكن عنده مثبتا.

قال: فمضى عمر آدم فهبط ملك الموت لقبض روحه، فقال له آدم: يا ملك الموت إنّه قد بقي من عمري ثلاثون سنة، فقال له ملك الموت: يا آدم أ لم تجعلها لابنك داود النبيّ ، و طرحتها من عمرك حين عرض عليك أسماء الأنبياء من ذرّيّتك، و عرضت عليك أعمارهم، و أنت يومئذ بوادي الأحياء (6) ؟فقال له آدم: ما أذكر هذا.

قال: فقال له ملك الموت: يا آدم لا تجحد، أ فلم تسأل اللّه عزّ و جلّ أن يثبتها لداود و يمحوها من عمرك، فأثبتها لداود في الزّبور و محاها من عمرك في الذّكر؟ قال آدم: حتى أعلم ذلك».

ص: 552


1- الكالي: أي المتأخر.
2- تفسير الرازي 108:7.
3- في النسخة: ازددت.
4- في النسخة: عند ذلك.
5- الرعد: 39/13.
6- في المصدر: بوادي الدخياء.

قال أبو جعفر عليه السّلام: «و كان آدم صادقا» قال: «لم يذكر، و لم يجحد، فمن ذلك اليوم أمر اللّه تبارك و تعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا و تعاملوا إلى أجل، لأجل نسيانه(1) و جحوده [ما] على نفسه» انتهى(2).

أقول: مع وضوح مصلحة كتابة الدّين على كلّ ذي مسكة (3) ،من غير حاجة إلى الاطّلاع على وقوع هذه القضيّة من آدم، ففي تلك الرواية وجوه من الإشكال:

أحدها: دلالتها على نسيان النبيّ مع ثبوت عصمته منه عقلا.

و ثانيها: جحود آدم ما أخبر الملك المعصوم بثبوته، مع أنّه موجب للقطع به.

و ثالثها: أنّ آدم كيف بذل سنين من عمره لداود بسبب اطّلاعه على قصر عمره، و لم يبذل يوما منه ليحيى و عيسى، مع أنّهما أفضل و أقصر عمرا من داود.

و الحاصل: أنّ الرواية من المشكلات التي يجب ردّ علمها إلى الرّاسخين في العلم صلوات اللّه عليهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أمر بكتابة الدّين المؤجّل إجمالا، بيّن كيفيّتها و الصّفة المعتبرة فيمن يتولاّها بقوله: وَ لْيَكْتُبْ كتاب الدّين بَيْنَكُمْ أيّها المتعاملون كاتِبٌ كان من كان، و لكن لا بدّ من كون كتابه ملتبسا بِالْعَدْلِ و التّسوية بين الدّائن و المديون، من غير ميل إلى أحدهما، بحيث لا يزيد في مقدار الدّين و الأجل و لا ينقص و لا يغيّر.

و قيل: إنّ من عدل الكاتب أن لا يجمل و لا يهمل في عبارة الكتاب، و أن يكتبه على نحو تكون صحّته متّفقا عليها بين العلماء، حتى لا يتردّد فيها عالم.

و قيل: في ذكر (بينكم) إشعار بأنّ للكاتب أن يكتب السّند، مع حضور المتداينين، و لا يكتفي بتقرير أحدهما.

فإذا دعا المتعاملان كاتبا ينبغي له إجابتهما وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ من الكتّاب، و لا يمتنع من أَنْ يَكْتُبَ كتاب الدّين كَما عَلَّمَهُ اللّهُ و مثل ما عرف بفضله تعالى من كتبة الحجج و الوثائق، من إيضاح مداليله و شرائطه، بلا إغلاق و لا خلل.

ص: 553


1- في المصدر: إلى أجل مسمى لنسيان آدم.
2- علل الشرائع: 1/553.
3- المسكة: الرأي و العقل.

و قيل: إنّ المراد من أن لا يأب الكاتب، من أن ينتفع النّاس بكتابته، كما نفعه اللّه بعلمها و علّمه إيّاها، فيكون نظير: أحسن كما أحسن اللّه إليك.

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالكتابة بالعدل؛ بقوله: فَلْيَكْتُبْ الكاتب كتاب الدّين مطابقا لإملاء المديون، المستفاد من قوله: وَ لْيُمْلِلِ المطالب، و ليقرّرها على الكاتب المعامل اَلَّذِي ثبت عَلَيْهِ الْحَقُّ و استقرّ على ذمّته الدّين؛ لأنّه المقرّ و المشهود عليه وَ لْيَتَّقِ المديون المملي في إملائه اَللّهَ رَبَّهُ .

و في الجمع بين اسم الجلالة و النّعت الجميل مبالغة في التّحذير من الإملاء بنحو يكون فيه ضياع حقّ الدّائن، لما في المملي من الدّاعي النّفساني إلى تغيير الدّين، و دفع الضّرر عن نفسه، و تخفيف ما في ذمّته.

و لذا أكّد الأمر بالاتّقاء بالنّهي عن البخس بقوله: وَ لا يَبْخَسْ من الدّين و لا ينقص مِنْهُ شَيْئاً

و إن كان مثقال ذرّة من خردل فَإِنْ كانَ العامل اَلَّذِي استقرّ عَلَيْهِ الْحَقُّ و الدّين سَفِيهاً

ناقص العقل غير مميّز بين المعاملة النّافعة و المضرّة.

عن الصادق عليه السّلام: «السّفيه: الذي يشتري الدّرهم بأضعافه »(1).

و قيل: إنّ المراد المبذّر الذي يصرف المال في الأغراض غير العقلائية(2).

أَوْ كان ضَعِيفاً لصباوة أو شيخوخة أو هرم بحيث صار مختلّ الحواس.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «يعني ضعيفا في بدنه، لا يقدر أن يملّ ، أو ضعيفا في فهمه و علمه، لا يقدر أن يملّ و يميّز الألفاظ التي هي عدل عليه و له، من الألفاظ التي هي جور عليه و على حميمه »(3).

أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ مقصوده على الكاتب، لخرس أو جهل.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «هو بمعنى أن يكون مشغولا في مرمّة(4) المعاش (5) ،أو تزوّد المعاد (6) ،أو لذّة في غير محرم. فإنّ تلك الأشغال التي لا ينبغي لعاقل أن يشرع في غيرها »(7).

أقول: الظاهر أنّ المراد مطلق من يتعذّر أو يتعسّر عليه الحضور عند الكاتب، أو البيان و الإملاء

ص: 554


1- التهذيب 731/182:9، تفسير الصافي 284:1.
2- في النسخة: العقلانية.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 369/634، تفسير الصافي 284:1.
4- مرمّة المعاش: إصلاحه و السعي فيه.
5- في المصدر: لمعاش.
6- في المصدر: لمعاد.
7- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 369/634، تفسير الصافي 284:1.

عليه، مع استجماعه شرائط نفوذ الإقرار، من البلوغ و العقل.

و حينئذ فَلْيُمْلِلْ و ليقرّر على الكاتب بدلا من المديون وَلِيُّهُ و من إليه أموره شرعا، من الأب و الجدّ للأب، في السّفيه الذي بلغ فاسد العقل و في الصبيّ ، و من الفقيه العادل، في السّفه و الجنون المنفصلين الطّارئين بعد البلوغ - على الأظهر الأشهر -، و من عدول المؤمنين عند فقد اولئك الأولياء، و من الوكيل و المترجم في غير الأضعاف المذكورة. و لا بدّ من أن يكون إملاؤهم ملتبسا بِالْعَدْلِ

و التّوسّط من غير نقص و لا زيادة و لا تغيير.

وَ اسْتَشْهِدُوا و أحضروا لتحمّل الشّهادة على الدّين و خصوصيّاته، عند الكتابة شَهِيدَيْنِ

كائنين مِنْ رِجالِكُمْ و أهل دينكم، من البالغين العاقلين، فلا تقبل شهادة الصبيّ ، و الكافر.

و على مذهبنا يعتبر فيهما أن يكونا من أهل الولاية، فلا تقبل شهادة غيرهم. و إطلاق الشّهيد قبل تحمّل الشّهادة مجاز بعلاقة المشارفة.

و عن بعض الفضلاء: الفرق بين الشاهد و الشّهيد: أنّ الشاهد بمعنى الحدوث، و الشّهيد بمعنى الثّبوت، فإذا تحمّل الشّهادة فهو شاهد باعتبار الحدوث و التّحمّل، فإذا(1) ثبت تحمّله زمانين أو أكثر فإنّه شهيد(2).

فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ لإعوازهما، أو لعلّة اخرى فَرَجُلٌ واحد وَ امْرَأَتانِ كاف في الشّهادة، و إثبات الحقّ ، حيث إنّهم يقومون مقام رجلين مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ.

روي في تفسيره عليه السّلام: «ممّن ترضون دينه و أمانته، و صلاحه و عفّته، و تيقظه في ما يشهد به، و تحصيله و تمييزه، فما كلّ صالح مميّز و لا محصّل، و لا كلّ محصّل مميّز صالح، و إنّ من عباد اللّه لمن هو أهل لصلاحه و عفّته، و لو شهد لم تقبل شهادته لقلّة تمييزه»(3) الخبر. و تخصيص الرّجل و امرأتين بالوصف - مع اعتباره في الشّاهد مطلقا - لقلّة اتّصاف النّساء به.

ثمّ بيّن سبحانه علّة اعتبار التّعدّد في النّساء بقوله: أَنْ تَضِلَّ و تنسى الشّهادة إِحْداهُما ذلك توطئة لبيان العلّة الحقيقيّة و محقّق لموضوعها، و هي قوله: فَتُذَكِّرَ النّاسية إِحْداهُمَا الْأُخْرى

لوضوح أنّه لو لا النّسيان لا يتحقّق التّذكار.

ص: 555


1- في كنز العرفان: حدوث تحمله و إذا.
2- كنز العرفان 50:2.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 375/672، تفسير الصافي 284:1.

و حاصل الآية أنّ اعتبار التّعدّد لأجل أن تذكّر إحداهما الاخرى، إن ضلّت الاولى و نسيت الشّهادة.

في أنّ المراد من نهي الشهداء عن الإباء، الإباء عن التحمل، و إمكان إرادة الأعم

ثمّ أنّه تعالى - كما نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة - نهى الشاهد عن الإباء عن الحضور لتحمّل الشّهادة أو لأدائها، بقوله: وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ عن التّحمّل أو أداء الشّهادة إِذا ما دُعُوا إلى التّحمّل أو الأداء.

في الصّحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في قول اللّه عزّ و جلّ : وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ قال:

«قيل الشّهادة »(1).

و عنه عليه السّلام، في تفسير الآية، قال: «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها، أن يقول: لا أشهد لكم عليها »(2).

و قريب منها أو مثلها عدّة روايات اخر، الظّاهرة في كون المراد حرمة الإباء عن التّحمّل (3).و لا معارض لها، إلاّ ما عن (تفسير الإمام عليه السّلام): عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «تفسير هذه الآية: من كان في عنقه شهادة، فلا يأب إذا ما دعي لإقامتها »(4).

و من الواضح أنّ هذه الرّواية مع ضعف السّند، لا تكافئ الرّوايات الكثيرة المعتبرة، مع إمكان الجمع بالقول بأنّ متعلّق إِذا ما دُعُوا أعمّ من التّحمّل و الأداء، و لا يرد عليه ما قاله الفاضل المقداد رحمه اللّه من استلزامه استعمال المشترك في أكثر من معنى (5) ،لوضوح أنّه على تقدير جعل المقدار الأعمّ من التّحمّل و الأداء، لم يستعمل لفظ الدّعوة في غير معناه الظّاهر، و تكون الكثرة في المحذوف، و هو المدعو إليه.

و يمكن أن يكون نظره رحمه اللّه إلى أنّه على تقدير إرادة الأعمّ ، لزم استعمال لفظ الشّهداء في المعنى الحقيقي و المجازي، حيث إنّ استعماله في من لم يتحمّل بعد، مجاز بعلاقة المشارفة، فتأمّل.

ثمّ إنّ النّهي عن الإباء دالّ بالالتزام على الأمر بالإجابة، فتكون الإجابة واجبة، و لا بدّ من القول بكون وجوبها كفائيا لمعلوميّة الغرض، كما أنّ وجوب الكتابة على الكاتب كذلك، و لا منافاة بين كون أمر المديون بالاستكتاب و الاستشهاد إرشاديّا أو ندبيّا، و بين كون الأمر بالكتابة و تحمّل الشّهادة على

ص: 556


1- الكافي 4/380:7، تفسير الصافي 285:1.
2- الكافي 1/379:7، تفسير الصافي 285:1.
3- الكافي 3/380:7-6.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 378/676، تفسير الصافي 285:1.
5- كنز العرفان 54:2.

الكاتب و الشّاهد وجوبيّا مولويّا، كما لا يخفى.

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب إلى المديونين و نهاهم عن التّواني في الكتابة بقوله: وَ لا تَسْئَمُوا و لا تملّوا لكثرة مدايناتكم، أو لقلّة هذا الدّين، من أَنْ تَكْتُبُوهُ سواء كان صَغِيراً و قليلا كدينار أو درهم أَوْ كَبِيراً و كثيرا كمائة أو ألف، حال كونه مستقرّا في الذّمّة إِلى أَجَلِهِ المعيّن، و وقته المعلوم.

قال بعض: الملالة و الكسالة من الشّيطان.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يقول المؤمن كسلت »(1).

ثمّ بيّن سبحانه فوائد الكتب بقوله: ذلِكُمْ الكتب أَقْسَطُ و أعدل عِنْدَ اللّهِ و في حكمه، حيث إنّ فيه حفظ الحقّ وَ أَقْوَمُ و أثبت لِلشَّهادَةِ و أعون على إقامتها وَ أَدْنى و أقرب إلى أن تكونوا موقنين به لا تَرْتابُوا و لا تشكّوا فيه من حيث الجنس و المقدار و الوصف و الأجل، و سائر ما اعتبر فيه.

فتحصّل من الآية أنّ للكتابة ثلاث فوائد:

الاولى: كونها أقسط باعتبار أنّ المتداينين إذا وجدوا كتابا، فلا بدّ لهم من العمل، فلا يقع التّعدّي من أحدهما على الآخر.

و الثانية: أنّ الشّاهدين إذا نسوا القضيّة، تكون الكتابة سببا لحفظها و تذكّرها، ثمّ أنّه قد يكون المتداينان حاضرين لأداء الحقّ ، و لكن قد يكون في قلبهما ريب؛ إمّا في أصله، أو في مقداره، أو أجله.

و الفائدة الثالثة: أن تكون الكتابة موجبة لزوال ريبهما.

قيل: إنّه تعالى بالغ في هذه الآية المباركة في التّأكيد، و البسط الشّديد في الأمر بكتابة الدّين و الإشهاد عليه، بعد المنع عن تحصيل المال بالرّبا، مع بنائه تعالى في بيان الأحكام في الكتاب المجيد على الاختصار، نظرا إلى حفظ المال الحلال عن الضّياع و البوار، حتى يتمكّن المؤمن من الإنفاق في سبيل اللّه، و الإعراض عن مساخطته من طلب المال بالرّبا، و سائر الوجوه المحرّمة.

ثمّ بيّن سبحانه عدم الرّجحان للكتابة في المعاملة النّقديّة بقوله: إِلاّ أَنْ تَكُونَ المعاملة تِجارَةً

ص: 557


1- تفسير أبي السعود 271:1.

حاضِرَةً و معاملة نقديّة تُدِيرُونَها و تتعاطونها بَيْنَكُمْ يدا بيد، فإن كانت المعاملة هكذا فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و ضرر أن لا تَكْتُبُوها لبعدها عن النّسيان و التّنازع وَ لكن أَشْهِدُوا

شهيدين إِذا تَبايَعْتُمْ مطلقا، سواء كان البيع نقديّا أو سلما أو نسيئة، لكونه أحفظ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ يحتمل كون الفعل مبنيّا على الفاعل، و على المفعول؛ فعلى الأوّل يكون نهيا للكاتب و الشّاهد عن الإضرار بالمتداينين، بترك الإجابة، أو التّغيير، أو التّحريف في الكتب و الشّهادة.

و على الثاني يكون نهيا للمتداينين عن الإضرار بهما (1) ،بأن يعجلاهما عن مهمّاتهما، أو يلزماهما على الخروج عن الحدود الشّرعيّة في الكتابة و الشّهادة، أو لا يعطيا الكاتب جعله، و الشّاهد مئونة مجيئه.

و الثاني هو الأظهر، لقوله تعالى بعده، مخاطبا للمتداينين: وَ إِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتكم عنه من الإضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ و خروج عن حدود الشّرع و العقل، ملتبس بِكُمْ .

ثمّ أكّد الوعيد بقوله: وَ اتَّقُوا اللّهَ في مخالفة أحكامه التي من جملتها حرمة الإضرار وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ما فيه صلاح دينكم و دنياكم وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ من مصالح الامور و مفاسدها، و حسن الأشياء و قبحها عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية.

و تكرير لفظ الجلالة في الجمل الثّلاث، لتربية المهابة و قيل: للتّنبيه على استقلال كلّ منها بمعنى على حياله، حيث إنّ الاولى حثّ على التّقوى، و الثّانية وعد بالإنعام، و الثّالثة تعظيم لشأنه تعالى.

أقول: في الجملة الثّانية إشعار بحكمة الأمر بالتّقوى، و إنّه لصلاح راجع إلى العباد لا إليه سبحانه، و في الثّالثة دلالة على عدم إمكان الخطأ و الاشتباه منه تعالى في ما علمه من الصّلاح و الفساد.

ثمّ اعلم أنّ الآية المباركة أطول آية في الكتاب العزيز، و فيها دلالة على كمال لطفه على عباده، و نهاية رفقه بهم، و أنّه تعالى إذا كان حافظا لمصالح دنياهم بهذه المرتبة من الاهتمام، يكون لمصالح آخرتهم أحفظ بمراتب، و أنّه لا يرضى بوقوع الظّلم و التّنازع بينهم، و أنّه يحبّ القيام بحوائجهم، و إعانتهم على إحقاق حقوقهم.

عن القمّي رحمه اللّه: في [سورة] البقرة خمسمائة حكم، و في [هذه] الآية خمسة عشر حكما(2).

في شرعية أخذ الرهن للدين و عدم اختصاصها بالسفر

سورة البقرة (2): آیة 283

ثمّ بيّن سبحانه طريقا آخر لحفظ الدّيون، أوثق من الكتابة، و هو أخذ الرّهن و الوثيقة عليها، بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ راكبين عَلى سَفَرٍ و متلبّسين به، أو مشرفين عليه

ص: 558


1- أي بالكاتب و الشاهد.
2- تفسير القمي 94:1، تفسير الصافي 286:1.

و متوجّهين إليه، و احتجتم إلى التّداين وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب الدّين بحيث تستوثقون بكتابته فَرِهانٌ و وثائق من الأعيان مَقْبُوضَةٌ و مسلّمة إليكم، قائمة مقام الكتابة، بل أحفظ منها للدّين.

و إنّما شرط السّفر في جواز الرّهن - مع عدم كونه مشروطا به، بل يجوز في الحضر إجماعا - لكون السّفر مظنّة شدّة الحاجة إليه، و انحصار طريق الاستيثاق به، لغلبة إعواز الكاتب فيه. فالكلام خرج على الأعمّ الأغلب، و ليس في الواقع على سبيل الاشتراط .

روي أنّه رهن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعا من شعير، و أخذه لأهله(1).

في بيان اشتراط صحّة الرهن بالقبض

ثمّ أنّ ظاهر الآية اشتراط صحّه الرّهن بالقبض، و يعضده ما روي عن الصادق عليه السّلام:

«لا رهن إلاّ مقبوضا »(2) ،و ادّعى شهرته بين الأصحاب. و الإشكال في دلالة الآية، و سند الرّواية - بل و دلالتها - ضعيف في الغاية.

ثمّ بيّن سبحانه القسم الثّالث من الدّين، و هو ما لم يؤخذ عليه كتاب و لا رهن، بقوله: فَإِنْ أَمِنَ

الدّائن الذي هو بَعْضُكُمْ و من جملتكم بَعْضاً آخر، و هو المديون، و اطمأنّ قلبه به، بحيث لا يخاف منه الجحود و الإنكار، حتّى يحتاج إلى الاستيثاق بالكتاب و الرّهن فَلْيُؤَدِّ المديون اَلَّذِي اؤْتُمِنَ على الدّين إلى الدائن أَمانَتَهُ و حقّه. و إطلاق الأمانة عليه، لمعاملة الدّائن مع المديون و دينه معاملة الأمين و الأمانة، من عدم أخذ الكتاب و الرّهن و الشّهود عليه وَ لْيَتَّقِ المديون أن يعصي اَللّهَ رَبَّهُ و مليكه اللّطيف بإنكار هذا الدّين الذي هو بمنزلة الأمانة، و المماطلة في أدائه.

ثمّ لمّا كانت الشّهادة على الدّين بمنزلة أمانة الدائن عند الشّاهد، أمر سبحانه بأدائها و نهى عن كتمانها بقوله: وَ لا تَكْتُمُوا أيّها الشّهود اَلشَّهادَةَ على حقوق النّاس إذا دعيتم لأدائها وَ مَنْ يَكْتُمْها و أمتنع من أدائها عند الحاجة إليها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قيل: إنّ إسناد الإثم إلى القلب، لاستلزامه إثم جميع الجوارح، لكون القلب رئيسها، فمن كان قلبه آثما كانت جميع جوارحه آثمة.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «كافر قلبه »(3).

ص: 559


1- تفسير أبي السعود 272:1.
2- تفسير العياشي 630/283:1، التهذيب 779/176:7 عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 286:1.
3- من لا يحضره الفقيه 115/35:3، تفسير الصافي 286:1.

و قيل: كتمان الشّهادة هو أن يضمرها و لا يتكلّم بها، فلمّا كان(1) مقترفا بالقلب اسند إليه، لوضوح أنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، كما يقال: هذا ممّا أبصرته عيني، و عرفه قلبي(2).

و قيل: هذا الإسناد؛ لئلا يظنّ أنّه من الآثام المتعلّقة باللّسان فقط ، و ليعلم أنّ القلب أصل متعلّقة، و معدن اقترافه، و اللّسان ترجمان عنه، و لأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال الجوارح، إذ هي لها كالأصل الذي تنشعب منه. أ لا ترى أنّ أصل الحسنات و السيّئات الإيمان و الكفر، و هما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشّهادة من آثام القلب، فقد شهد له بأنّه من معظّمات الذّنوب(3).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أكبر الكبائر الإشراك باللّه، لقوله تعالى: فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (4) و شهادة الزّور، و كتمان الشّهادة(5).

و في حديث مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و نهى عن كتمان الشّهادة... بقوله: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (6).

وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الطّاعة و المعصية، و الخيانة في الأمانة و ردّها، و كتمان الشّهادة و أدائها عَلِيمٌ فيجازيكم أوفق الجزاء. و فيه غاية التهديد.

سورة البقرة (2): آیة 284

اشارة

لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284)

سورة البقرة (2): آیة 284

ثمّ لزيادة التّرهيب على المخالفة و الكتمان، ذكّر العباد سعة قدرته و إحاطة علمه، و نبّههم بهما. أما سعة قدرته فبقوله: لِلّهِ بالملكية الحقيقية الإشراقيّة، لا الاعتباريّة الإضافيّة ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جميعا، لا يخرج موجود من الموجودات - في عوالم الملك و الملكوت، قويّها و ضعيفها و عظيمها و حقيرها - من تحت قدرته و سلطانه، فلا عجز له من عقوبة من عصاه، و إثابة من أطاعه، هذا سعة قدرته.

و أمّا إحاطة علمه سبحانه فبقوله: وَ إِنْ تُبْدُوا تظهروا بالقول أو الفعل ما فِي أَنْفُسِكُمْ

ص: 560


1- أي الكتمان.
2- تفسير روح البيان 443:1.
3- تفسير روح البيان 443:1.
4- المائدة: 72/5.
5- تفسير روح البيان 443:1.
6- من لا يحضره الفقيه 1/7:4، تفسير الصافي 286:1.

و قلوبكم من الإيمان و الكفر، و الإرادات الحسنة و السّيّئة أَوْ تُخْفُوهُ و تستروه من كلّ أحد، من الإرادات و العزمات، دون الوساوس و خطورات النّفس التي لا عقد و لا عزيمة فيها، لعدم الوسع في دفعها يُحاسِبْكُمْ

و يؤاخذكم بِهِ اللّهُ يوم الحساب.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: لمّا نزلت [هذه] الآية جاء أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف(1)

و ناس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: يا رسول اللّه، كلّفنا من العمل ما لا نطيق، إنّ أحدنا ليحدّث نفسه بما لا يحبّ أن يثبت في قلبه، و أنّ له الدّنيا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سمعنا و عصينا، قولوا: سمعنا و أطعنا». و اشتدّ ذلك عليهم، فمكثوا في ذلك حولا، فأنزل اللّه: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (2) فنسخت هذه الآية، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم، ما لم يعملوا و يتكلّموا به »(3).

في رد استدلال العامّة بآية المحاسبة على بطلان مذهب الخاصة

أقول: في الاعتراض و في الجواب من الدّلالة على فساد ضمائر المعترضين ما لا يخفى.

قيل: إنّما قدم الإبداء على الإخفاء؛ لأنّ المتعلّق بما في أنفسهم هو المحاسبة، و الأصل فيها الأعمال البادية(4).

و قال جمع من العامّة: إنّ في الآية ردّ على منكري المحاسبة بما في النّفس، من الإمامية و المعتزلة(5).

و فيه: أنّه إن اريد بما في النّفس الخطورات القلبيّة و حديث النّفس، فأصحابنا الإمامية متّفقون على عدم المحاسبة به، و ما من ذي مسكة يخالفهم في ذلك. و لا شبهة أنّ عموم الآية - بقرينة حكم العقل بقبح المؤاخذة على ما لا يطاق - مخصوص بغيره.

و إن اريد به(6) العزم و الإرادة، فانكار المحاسبة ليس ممّا اتّفقت عليه الإمامية، لذهاب كثير منهم إلى ثبوت المحاسبة به، و العقاب عليه، مستدلّين بحكم العقل، و كثير من الرّوايات. و أمّا ذهاب كثير منهم الى المعفوّ عنه، فلتقييدهم الآية بطائفة اخرى من الأخبار المعتبرة، و حملهم إطلاقها على الكفر

ص: 561


1- زاد في تفسير الرازي: و معاذ.
2- البقرة: 286/2.
3- تفسير الرازي 125:7.
4- تفسير أبي السعود 272:1.
5- تفسير أبي السعود 272:1، تفسير روح البيان 444:1.
6- أي و إن أريد بما في النفس.

و العقائد الباطلة، أو مع النّيات السّيّئة بالنسبة إلى غير المؤمن.

و على هذا يكون قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وعدا بالمغفرة لمن تاب و آمن، فلا يؤاخذ بنيّته المعاصي الجوارحيّة، ما لم يقترفها، و قوله: وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه، وعيدا لمن مات على الكفر و العقائد الباطلة.

في الاستدلال على العفو عن النيات السيئة المجرّدة عن العمل

و ممّا يدلّ على العفو عن نيّات السوء، و عدم المحاسبة بها، قوله صلّى اللّه عليه و آله في الرّواية السابقة: «إنّ اللّه تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم، ما لم يعملوا، أو يتكلّموا به »(1).

فإنّه نصّ صريح في عموم العفو للنيّات و الارادات المجرّدة عن العمل.

و رواية ابن عبّاس: أنّ اللّه تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم، فالمؤمن يخبره ثمّ يعفو عنه، و أهل الذّنوب يخبرهم بما أخفوا من التّكذيب و الذنب(2).

و أمّا ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في (نهج البلاغة) من قوله: «و بما في الصّدور تجازى العباد »(3).

فالظّاهر أنّ المراد أنّ العباد بنيّاتهم يجازون على أعمالهم، فمساقه مساق قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الأعمال بالنّيّات »(4).

و توضيح المرام أنّ حسن الأعمال و العبادات و قبحها، دائران مدار القصد و النّيّة، لوضوح أنّ ضرب اليتيم بقصد التأديب حسن، و بقصد الإيذاء قبيح، و كذا الكذب بقصد الإصلاح حسن، و بغيره قبيح، و العبادات بقصد الإخلاص تكون حسنا، و بقصد الرّياء و السّمعة تكون شركا و قبيحا.

فظهر أنّ حسن الأعمال و قبحها بحسب النّيّات التي في الصّدور، فالاعتراض على الإمامية - تمسّكا بإطلاق الآية المباركة - ناشئ عن عدم فهم السّنّة و عدم التمسّك بالثّقلين اللذين [هما] كلّ مبيّن للآخر.

ثمّ قرّر سبحانه تعالى سعة قدرته و أكّدها بقوله: وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من المحاسبة، و التّعذيب، و المغفرة، و غيرها ممّا يكون في حيّز الإمكان قَدِيرٌ و لا قصور في قدرته، و لا مانع عن نفوذ إرادته.

روى الطّبرسي رحمه اللّه في (الاحتجاج)، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في ضمن بيان قصّة المعراج: «فكان

ص: 562


1- تفسير الرازي 125:7.
2- تفسير الرازي 126:7.
3- نهج البلاغة: 103 /الخطبة 75، تفسير الصافي 286:1.
4- التهذيب 218/83:1.

قاب قوسين بينهما أو أدنى، فأوحى اللّه إلى عبده ما أوحى، فكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة: لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الآية، و كانت الآية ممّا(1) عرضت على الأنبياء - من لدن آدم إلى أن بعث (تبارك اسمه) محمّدا صلّى اللّه عليه و آله - و على الامم، فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، و قبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عرضها على امّته فقبلوها »(2).

أقول: المراد من الأمّة التي قبلتها أمير المؤمنين عليه السّلام و الأوحدي من أصحابه، لظهور أنّ الّذين شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ثقل الآية، فقال لهم: «لعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ، قولوا: سمعنا و أطعنا» - على ما في الرّواية السّابقة - لم يكونوا ممّن قبلها؛ لأنّهم لم يقولوا: سمعنا و أطعنا، بل روي أنّه اشتدّ ذلك [عليهم]، فمكثوا في ذلك حولا(3).

سورة البقرة (2): آیة 285

اشارة

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

سورة البقرة (2): آیة 285

ثمّ أنّه تعالى - لمّا بيّن التّكاليف الكثيرة، ثمّ عقّبها بآية المحاسبة - مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به بكمال الإيمان و السّمع و الطّاعة بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ حقّ الإيمان بالمشاهدة و العيان، لا بالدّليل و البرهان بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من المعارف و الحكم و الأسرار و حقائق الأشياء التي يمكن تحمّلها، المنطوية في القرآن المجيد.

قيل: إنّه تعالى لمّا بيّن في فاتحة السّورة الكريمة؛ أنّ الكتاب العظيم الذي أنزله على رسوله، هدى للمتّقين المتّصفين بالصّفات الفاضلة، و لم يبيّن مصداقا لهم، عيّن في خاتمتها المتّصفين بها، و حكم بعنوان الشّهادة لهم بكمال الإيمان و حسن الطّاعة، و إنّما بدأ تعالى بذكره صلّى اللّه عليه و آله بطريق الغيبة، مع ذكره هناك بطريق الخطاب، لما أنّ حقّ الشّهادة الباقية مرّ الدّهور أن لا يخاطب بها المشهود له.

و إيراده بعنوان الرّسالة المنبئة عن كونه صلّى اللّه عليه و آله صاحب كتاب و شرع تمهيدا لقوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ ،

و التّعرّض لعنوان الرّبوبيّة مع إضافته إليه تشريف له، و تنبيه على أنّ إنزاله إليه تربية و تكميل له صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ أتبع مدحه بمدح تابعيه بقوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ المعهودون المعروفون، الخاصّون الصّدّيقون

ص: 563


1- في المصدر: قد.
2- الاحتجاج: 220، تفسير الصافي 289:1.
3- تفسير الرازي 125:7.

كُلٌّ منهم ببركة هداية ذلك الرّسول المكرّم آمَنَ بِاللّهِ و بوحدانيّته و بصفاته الجلاليّة و الجماليّة، بحقيقة الإيمان، و صميم القلب، كما قال سيّدهم و أميرهم (1): «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا »(2).

ثمّ أنّه تعالى عند تفصيل العقائد المعتبرة في الإيمان و مدح المؤمنين بها، قدّم الإيمان بالملائكة و الكتب في الذكر على الإيمان بالرّسل بقوله: وَ مَلائِكَتِهِ من حيث إنّهم عباد مكرمون له، لا يسبقونه بالقول، و هم بأمره يعملون، و من شأنهم التّوسط بينه تعالى و بين الرسل بإنزال الكتب و إلقاء الوحي وَ كُتُبِهِ المنزلة لهداية الخلق و إقامتهم بالقسط وَ رُسُلِهِ المبعوثين من قبله تعالى، لتربية النّفوس، و إتمام الحجّة، و تبيين الأحكام.

مع أنّ الرّسل أرفع شأنا من الملائكة، بمقتضى الرّوايات المتضافرة، بل المؤمنون أكرم عند اللّه منهم؛ لأنّ الملائكة وسائط الوحي، و الكتب منشور اللّه و وحيه، فترتيب النّظم مقتضي لتقديم المرسل، ثمّ واسطة الإرسال، ثمّ الرّسالة و المرسول، ثمّ المرسل إليه.

و أمّا تغيير الاسلوب بإضافة إيمان الرّسول إلى ما انزل إليه - مع كون الإيمان بالملائكة و الكتب و الرّسل داخلا فيه بنحو الإجمال، و ذكر التّفصيل في إيمان المؤمنين - فإنّما هو لتعظيم الرّسول و تشريفه، بحيث ينبغي أن يقال في التّعبير: الملائكة و الرّسل آمنوا بالرّسول، فتعظيمه صلوات اللّه عليه اقتضى الاكتفاء في بيان ما آمن به بذلك الإجمال الذي يعلم تفصيله من تفصيل ما آمن به المؤمنون بذلك الرّسول.

ثمّ بعد وصف المؤمنين من حيث العقائد و المعارف، وصفهم من حيث المقال بأنّهم قائلون: نحن لا نُفَرِّقُ و لا نميّز بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ من حيث الإيمان و الكفر، و التّصديق و التّكذيب، و لا نقول كما قال اليهود: نؤمن ببعض و نكفر ببعض وَ قالُوا إظهارا للانقياد لأحكام اللّه: ربّنا سَمِعْنا نداء منادي الإيمان، و تلاوة آيات القرآن، و فهمنا ما جاءنا من الحقّ و الأحكام وَ أَطَعْنا

أوامرك و نواهيك، و أجبنا ذلك المنادي بالإيمان و الانقياد و الطّاعة، فإذن نسأل غُفْرانَكَ خطايانا و ذنوبنا يا رَبَّنا و مالك أمرنا اللّطيف بنا، فإنّك مرجعنا في القيامة وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ و المنقلب بعد الموت، و عند الحشر.

قيل: لمّا نزلت الآية قال جبرئيل للرّسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه قد أثنى عليك و على امّتك، فسل تعط ، فقال

ص: 564


1- أي أمير المؤمنين علي عليه السّلام.
2- مناقب ابن شهرآشوب 38:2، بحار الأنوار 209:69.

[الرسول صلّى اللّه عليه و آله]: «غفرانك ربّنا »(1).

و في ندائه بعنوان الرّبوبيّة مضافا إلى أنفسهم مبالغة في التّضرّع، و جلب العطوفة (2).و تقديم ذكر السّمع و الطّاعة على سؤال المغفرة، لكونه أدعى إلى القبول و الإجابة، و في الإقرار بالمعاد بقوله:

وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ بيان لعلّة كمال الحاجة إلى المغفرة.

و في رواية (الاحتجاج): عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قصّة معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «فلمّا أن صار إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه، فقال: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، فأجاب صلّى اللّه عليه و آله مجيبا عنه و عن امّته فقال: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، فقال جلّ ذكره: لهم الجنّة و المغفرة على أن فعلوا ذلك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أمّا إذا فعلت ذلك بنا فغفرانك ربّنا و إليك المصير - يعني المرجع في الآخرة - قال: فأجابه اللّه جل ثناؤه: قد فعلت ذلك بك »(3).

سورة البقرة (2): آیة 286

اشارة

لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

سورة البقرة (2): آیة 286

ثمّ بعد ما بيّن اللّه طاعة المؤمنين و انقيادهم له، ذكر منّته عليهم بالتّسهيل في الأحكام بقوله: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً و لا يلزم على نسمة عملا إِلاّ وُسْعَها و ما يسهل عليها، و تسع له قدرتها؛ بحيث لا يكون عليها فيه ضيق و لا حرج، فضلا منه و رحمة على هذه الامّة.

عن الصادق عليه السّلام: «ما امر العباد إلاّ دون سعتهم، و كلّ شيء امر النّاس بأخذه فهم متّسعون [له]، و ما لا يتّسعون [له] فهو موضوع عنهم، و لكنّ النّاس لا خير فيهم »(4).

ثمّ بعد بيان المنّة عليهم بالتّخفيف و التّسهيل في التّكليف، رغّب في الطّاعة بقوله: لَها ثواب ما كَسَبَتْ و عملت من خير و طاعة، لا لغيرها. ثمّ رهّب عن المخالفة و العصيان بقوله: وَ عَلَيْها

عقاب مَا اكْتَسَبَتْ و حصّلت من الشّرّ و الضّرّ و المعصية، لا على غيرها.

ص: 565


1- تفسير روح البيان 447:1.
2- كذا، و قياس المصدر: العطف أو العطوف.
3- الاحتجاج: 221، تفسير الصافي 289:1.
4- التوحيد: 6/347.

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان مقال المؤمنين في مقام الدّعاء و التّضرّع و الخوف بقوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا.

و في رواية المعراج: «فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا سمع ذلك: أما إذا فعلت [ذلك] بي و بامّتي فزدني، قال:

سل، قال: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، قال اللّه تعالى: لست اؤاخذ امّتك بالنسيان و الخطأ لكرامتك عليّ . و كانت الأمم السّالفة، إذا نسوا ما ذكّروا به، فتحت عليهم أبواب العذاب، و قد رفعت [ذلك] عن امّتك. و كانت الأمم السّالفة إذا أخطئوا أؤاخذهم بالخطإ و عوقبوا عليه، و قد رفعت [ذلك] عن امّتك لكرامتك عليّ » الخبر(1).

توضيح المراد من رفع الخطأ و النسيان

توضيح الآية و الرّواية: أنّ المراد من النّسيان و الخطأ العمل الذي صدر عن النّسيان و الخطأ في الحكم أو الموضوع، لوضوح أنّ صفة النّسيان و الخطأ ليستا من متعلقات التّكليف، و لا قابلتين للمؤاخذة عليهما حتى يرفع عنهما، و ما ليس قابلا للوضع ليس قابلا للرّفع.

إن قيل: كما لا يمكن جعل المؤاخذة على نفس الصّفتين، لا يمكن جعلها على العمل الصّادر عنهما، فكيف يصحّ الامتنان برفعها عنه ؟

قلت: نعم، و لكن يمكن جعل المؤاخذة على عدم المبالاة و عدم المحافظة المؤدّيين إلى الخطأ و النّسيان، لكونهما مستندين إلى الاختيار و التّقصير، و يصحّ جعل العقوبة عليهما بجعل وجوب الاحتياط و إيجاب التّحفّظ . فمعنى رفع المؤاخذة و العقوبة على العمل الصادر عن الخطأ و النّسيان، رفع إيجاب التّحفّظ .

و قيل: إنّ المراد من النّسيان ترك العمل، و من الخطأ الذّنب.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ معناه لا تعاقبنا إن عصيناك جاهلين، أو متعمّدين(2).

رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ و لا تجعل عَلَيْنا إِصْراً و تكليفا شاقّا ثقيلا كَما حَمَلْتَهُ و جعلته عَلَى

الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِنا.

ذكر الآصار التي كانت على الامم

و في الرّواية المعراجيّة السّابقة: «فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اللهم: إذا أعطيتني ذلك فزدني، فقال اللّه تعالى: سل، قال: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ

ص: 566


1- الاحتجاج: 221، تفسير الصافي 289:1.
2- جوامع الجامع: 52.

قَبْلِنا يعني بالإصر الشّدائد التي كانت على من كان قبلنا، فأجابه اللّه تعالى [إلى] ذلك، فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن امّتك الآصار التي كانت على الامم السّالفة، كنت لا أقبل صلاتهم إلاّ في بقاع من الأرض المعلومة(1) اخترتها لهم و إن بعدت، و جعلت الأرض كلّها [لامّتك] مسجدا و طهورا، فهذه من الآصار التي كانت على الامم قبلك، فرفعتها عن امّتك.

و كانت الامم السّالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم، و قد جعلت الماء طهورا لامّتك، فهذه من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن امّتك.

و كانت الامم السّالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس، فمن قبلت ذلك منه أرسلت إليه نارا فأكلته فرجع مسرورا، و من لم أقبل ذلك منه رجع مثبورا، و قد جلعت قربان امّتك في بطون فقرائها و مساكينها، فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة، و من لم أقبل منه رفعت عنه عقوبات الدّنيا.

إلى أن قال: و كانت الامم السّالفة صلواتها مفروضة عليها فى ظلم اللّيل و أنصاف النهار، و هي من الشّدائد التي كانت عليهم، فرفعتها عن امّتك، و فرضت عليهم صلواتهم في أطراف اللّيل و النّهار، و في أوقات نشاطهم.

و كانت الامم السّالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا، و هي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن امّتك، و جعلتها [خمسا] في خمسة أوقات »(2).

و قيل: إنّ من الآصار: قتل النّفس في التّوبة، و قطع الأعضاء الخاطئة، و حرمة أكل الصائم بعد النوم و بعض الطّيّبات عليهم بالذّنوب، و كتابة ذنب اللّيل على الباب بالصّبح، و كون الزّكاة ربع ما لهم، و غير ذلك من الشّدائد. و قد عصم اللّه عزّ و جلّ هذه الامّة من أمثال ذلك، و أنزل في شأنهم وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (3) ،و قال صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت بالحنيفيّة السّهلة السّمحة »(4).

ثمّ كرّر النّداء بقوله: رَبَّنا إظهارا لمزيد الضّراعة وَ لا تُحَمِّلْنا و لا تنزل بذنوبنا و إسرافنا على أنفسنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و لا صبر لنا عليه، من البلايا و العقوبات النازلة على الامم السّالفة.

و استدل الأشاعرة به على جواز التّكليف بما لا يطاق.

ص: 567


1- في المصدر: بقاع معلومة من الأرض.
2- الاحتجاج: 221، تفسير الصافي 289:1.
3- الأعراف: 157/7.
4- تفسير روح البيان 449:1.

و فيه: أنّه لا موقع لاستدعاء عدم تحميل التّكليف بغير المقدور، بعد سؤال عدم تحميل الإصر الذي هو التّكاليف الشّاقة، و إجابته منه تعالى.

إن قيل: إنّ المراد بالإصر البلايا و العقوبات.

قلنا: مضافا إلى أنّه خلاف المشهور بين المفسّرين، و كثير من الروايات، لا يمكن حمل ما لا يطاق على غير المقدور؛ لحكم العقل بقبح التّكليف به، فلا بدّ من حمله على غير المقدور العرفي، و هو ما يكون فيه حرج و مشقّة.

و في الرّواية المعراجيّة: «قال: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا أعطيتني ذلك فزدني، قال: سل: قال: وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال تبارك اسمه: قد فعلت ذلك بك و بأمّتك، و قد رفعت عنهم عظيم بلايا الامم؛ و ذلك حكمي في جميع الامم أن لا اكلّف خلقا فوق طاقتهم »(1).

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية سؤال المؤمنين أهمّ حوائجهم في الدّنيا، حكى عنهم سؤال أهمّ حوائجهم في الآخرة بقوله: وَ اعْفُ عَنّا ذنوبنا وَ اغْفِرْ لَنا سيّئاتنا وَ ارْحَمْنا.

و الفرق بين العفو و المغفرة و الرّحمة، أنّ العفو: هو التّجاوز عن عقوبة الذّنب. و المغفرة: هي ستر الذّنب أو مطلق السّتر، ذنبا كان المستور أو نقصا و عيبا، بحيث لا يطّلع عليه أحد. و الرّحمة: هي التعطّف بإعطاء الثّواب، أو بالأعمّ منه و من دفع البلاء و المحن و الكروب و أهوال القيامة.

ثمّ حكى ختمهم الدّعاء بأهمّ الحوائج بقوله: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ و فيه دلالة على أنّ إعلاء كلمة الحقّ و الجهاد في سبيل اللّه، و الغلبة على الكفّار، و النّصرة على أعداء الدّين بالسّيف و الحجّة، غاية آمال المؤمنين.

و لمّا كان في الأدعية الثّلاثة الاول مقام إظهار غاية الضّراعة، كان الأنسب توصيفه تعالى بصفة الرّبوبيّة؛ لإشعارها بكمال ذلّة الدّاعي، و تأثيرها في سرعة إجابة الدّعاء.

و أمّا في السؤال الرابع؛ و هو طلب النّصرة على الكفّار، فلمّا كان مقام الاستعانة و الانتصار، كان المناسب توصيفه تعالى بالمولويّة، حيث إنّ المولى إن كان بمعنى النّاصر و المعين، أو بمعنى المالك و السيّد، فالمناسبة ظاهرة، حيث إنّ من وظيفة السّيد و المالك أن يكون ناصرا لعبده و حافظا له، و إن كان بمعنى متولّي الامور فيدخل فيه النّصرة على الأعداء.

ص: 568


1- الاحتجاج: 222، تفسير الصافي 291:1.

و في الرّواية المعراجية: عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «قال صلّى اللّه عليه و آله: وَ اعْفُ عَنّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا قال اللّه تعالى: قد فعلت ذلك بتائبي امّتك. قال صلّى اللّه عليه و آله: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ

قال اللّه جلّ اسمه: إنّ امّتك في الأرض كالشّامة البيضاء في الثور الأسود، هم القادرون، و هم القاهرون، يستخدمون و لا يستخدمون لكرامة امّتك(1) عليّ ، و حقّ عليّ أن اظهر دينك على الأديان، حتى لا يبقى في شرق الأرض و غربها دين إلاّ دينك، و يؤدّون إلى أهل دينك الجزية »(2).

و روي من طرق العامّة أنّه لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انتهي به إلى سدرة المنتهى، و هي في السّماء السّادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، و إليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (3) قال: فراش من ذهب، قال: فاعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثا:

اعطي الصلوات الخمس، و اعطي خواتيم سورة البقرة، و غفر لمن لا يشرك باللّه شيئا من امّته(4).

قال صلّى اللّه عليه و آله: «قرّبني اللّه و أدناني إلى سند العرش، ثمّ ألهمني اللّه أن قلت: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كما فرّقت اليهود و النّصارى».

قال: فما قالوا؟ قلت: «قالُوا: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ،و المؤمنون قالوا: سمعنا و أطعنا». فقال: صدقت، فسل تعط ، فقلت: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد رفعت عنك و عن امّتك الخطأ، و النّسيان، و ما استكرهوا عليه.

فقلت: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود. قال: لك ذلك و لامّتك.

قلت: وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال: قد فعلت.

قلت: وَ اعْفُ عَنّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال: قد فعلت(5).

عن معاذ: أنّه كان إذا ختم سورة البقرة يقول: آمّين(6).

ثمّ اعلم أنّ مقتضى هذه الرّوايات؛ أنّ آية آمَنَ الرَّسُولُ إلى قوله وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ، و من قوله:

ص: 569


1- في المصدر: لكرامتك.
2- الاحتجاج: 222، تفسير الصافي 291:1.
3- النجم: 16/53.
4- تفسير روح البيان 449:1.
5- تفسير روح البيان 449:1.
6- تفسير روح البيان 450:1.

رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إلى قوله: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من كلام الرّسول في ليلة المعراج، و إنّما حكاه اللّه في كتابه؛ و ليس بكلام اللّه. مع أنّ الإجماع و الضّرورة من الدّين حاكمان بأنّ جميع ما بين الدّفّتين كلام اللّه، ليس كلام المخلوق، إلاّ أن يقال: أنّ اللّه تعالى حكى المعاني بكلام نفسه، و المعصوم حكاها بكلام اللّه.

ثمّ أنّه تعالى حكى الدّعاء، و لم يحك الإجابة؛ لظهورها بقرينة سعة الرّحمة، و ظهور استحقاق الدّاعي للإجابة.

ص: 570

في تفسير سورة آل عمران

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة آل عمران (3): الآیات 1 الی 2

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)

وجه إرداف البقرة بآل عمران

ثمّ أنّه تعالى لمّا ختم السورة المباركة بالدعاء بالنصرة على الكافرين بالسيف و الحجّة، و كان ربعها أو أزيد تقريبا في المحاجّة مع اليهود، اقتضى حسن النّظم إردافها بسورة آل عمران، المتضمّنة لإجابة ذلك الدّعاء، من جهة دلالتها على غلبة النبيّ و المسلمين؛ بنصرته تعالى، على النّصارى، بالحجّة و المباهلة، و بشارة المؤمنين بغلبتهم على الكفّار، و نصرته لهم بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ (1) ،و اشتمالها على خذلان الكفّار في غزوة احد، و كونها إلى بضع و ثمانين آية في المحاجّة مع النّصارى.

قصة وفد نصارى نجران

روي أنّه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وفد نجران، و كانوا ستّين راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم؛ ثلاثة منهم أكابر، إليهم يؤول أمرهم، أحدهم أميرهم و صاحب مشورتهم العاقب، و اسمه عبد المسيح، و ثانيهم وزيرهم و مشيرهم السيّد، و اسمه الأيهم، و ثالثهم حبرهم و اسقفّهم و صاحب مدارسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، و قد كان ملوك الرّوم شرّفوه و موّلوه و أكرموه لما بلغهم من علمه و اجتهاده في دينهم، و بنوا له كنائس، فلمّا خرجوا من نجران ركب أبو حارثة بغلته، و كان أخوه كرز بن علقمة إلى جنبه، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت، فقال كرز تعسا للأبعد - يريد به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - فقال له أبو حارثة: بل تعست امّك، فقال كرز: و لم يا أخي ؟ [فقال أبو حارثة:] إنّه و اللّه النبيّ الذي كنّا ننتظره.

فقال أخوه كرز: فما يمنعك عنه، و أنت تعلم هذا؟! قال: لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة

ص: 571


1- آل عمران: 12/3.

و أكرمونا، فلو آمنّا به لأخذوا منّا كلّ هذه الأشياء، فوقع ذلك في قلب كرز، و كان يضمره إلى أن أسلم، فكان يحدّث بذلك.

فأتوا المدينة، ثمّ دخلوا مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد صلاة العصر، عليهم ثياب خيّرات، من جبب و أردية فاخرة، يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله: ما رأينا وفدا مثلهم. و قد حانت صلاتهم فقاموا ليصلّوا في المسجد، فقال عليه السّلام: «دعوهم» فصلّوا إلى المشرق.

ثمّ تكلّم أولئك الثّلاثة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا تارة: عيسى هو اللّه؛ لأنّه كان يحيي الموتى، و يبرئ الأسقام، و يخبر بالغيوب، و يخلق من الطّين كهيئة الطّير؛ فينفخ فيه فيطير، و تارة اخرى: هو ابن اللّه؛ إذ لم يكن له أب يعلم، و تارة اخرى: إنّه ثالث ثلاثة؛ لقوله تعالى: (فعلناه) و (قلنا) و لو كان واحدا لقال: فعلت و قلت.

فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أسلموا». فقالوا: أسلمنا قبلك. قال صلّى اللّه عليه و آله: «كذبتم، كيف يصحّ إسلامكم و أنتم تثبتون للّه ولدا، و تعبدون الصّليب، و تأكلون الخنزير؟»

قالوا: إن لم يكن ولد اللّه فمن أبوه ؟ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى في ذلك أوّل سورة آل عمران(1).

سورة آل عمران (3): آیة 1

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم و قد مرّ تفسير البسملة، و تأويل الحروف المقطّعة، و إنّما بدأ السورة بها لتوجيه الأذهان إلى إصغاء ما بعدها من البراهين القاطعة على التّوحيد، و إبطال الشّرك.

سورة آل عمران (3): آیة 2

و لمّا كان مقام الاحتجاج مع النّصارى، بدأ سبحانه - على قانون الجدل - ببيان التّوحيد الذاتي، الذي هو المدّعى الأوّل بقوله: اَللّهُ حيث إنّه علم للذات الواجب، المستجمع لجميع الكمالات، الممتنع تعدّده و تكثّره، ثمّ ثنّاه ببيان التّوحيد العبادتي بقوله، مخبرا عن ذاته بأنّه لا إِلهَ و لا معبود متصوّر أو موجود إِلاّ هُوَ.

فالجملة الخبريّة دلّت على نفي الوهيّة عيسى و معبوديّته، ردّا على النّصارى، حيث إنّ طائفة منهم كانوا يقولون: عيسى هو الخالق و المعبود لا غيره، و طائفة اخرى يقولون: هو أحد المعبودين الثّلاثة، و ثالثة يقولون: هو أحد المعبودين لكونه ابن اللّه.

ثمّ أخذ سبحانه في الاستدلال على وحدانيّة ذاته بقوله مخبرا عنه بأنّه اَلْحَيُّ الذي لا يموت

ص: 572


1- تفسير الرازي 154:7، تفسير روح البيان 2:2.

و اَلْقَيُّومُ الذي بيده تدبير كلّ شيء، فإذا حكم العقل بأنّ خالق العالم لا بدّ من أن يكون واجدا لهذين الوصفين، حكم بفساد القول بكون عيسى إلها؛ لضرورة حياته بعد موته، و موته بعد حياته، و عجزه عن الاستقلال بتدبير نفسه، فضلا عن تدبير السّماوات و الأرض و ما فيهما.

و في الرّواية السّابقة لمّا قالوا: فمن أبوه ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلاّ و يشبه أباه ؟!» فقالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت، و أنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟» قالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّ ربّنا قيّوم على كلّ شيء يحفظه و يرزقه ؟» قالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟» قالوا: لا(1).

و روي أنّ هذين الاسمين اسم اللّه الأعظم(2).

سورة آل عمران (3): الآیات 3 الی 4

اشارة

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)

سورة آل عمران (3): آیة 3

ثمّ استدلّ سبحانه على انحصار استحقاق العبادة فيه، بنعمه العظام التي أهمّها إنزال الكتب السّماوية لهداية البشر إلى العقائد الحقّة، و المحسّنات العقليّة، و المصالح الدّنيويّة، بقوله مخبرا عن ذاته المقدّسة بأنّه نَزَّلَ نجوما و تدريجا عَلَيْكَ يا محمّد؛ لهداية الخلق إلى يوم القيامة اَلْكِتابَ المجيد و القرآن المجيد.

قيل: عبّر سبحانه عنه باسم الجنس للإشعار بتفوّقه في الكمالات الجنسيّة كأنّه الحقيق بهذا الاسم دون غيره من الكتب.

ثمّ استدلّ على كونه منزلا من اللّه بكونه ملتبسا بِالْحَقِّ و العدل، أو بالصّدق في أخباره، التي من جملتها خبر التّوحيد، و سائر المعارف، و ما فيه من الوعد و الوعيد، أو مقرونا بدلائل الصّدق؛ من إعجاز البيان، و الإخبار بالمغيّبات، و الاشتمال على العلوم غير المتناهية، مع كون من أتى به امّيّا، حال كونه مُصَدِّقاً لِما نزل بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السّماويّة؛ حيث إنّه أخبر جميعها ببعثة نبيّ من ولد إسماعيل، له نعوت و صفات خاصّة، و كتاب ناسخ لسائر الكتب.

ص: 573


1- تفسير أبي السعود 3:1.
2- تفسير أبي السعود 3:1.

و جميع هذه العلائم المذكورة في الكتب منطبقة على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، فلو لم يكن صادقا في دعوى رسالته و كتابه منزلا من اللّه، لكان إخبار الكتب السّماويّة كذبا، فجميع الكتب المنزلة شواهد صدق القرآن، و أدلّة كونه منزلا من اللّه، فكلّ من آمن بها يلزمه الإيمان به.

ثمّ استدلّ سبحانه بنعمه السّابقة على الامم السّالفة بقوله: وَ أَنْزَلَ سبحانه دفعة اَلتَّوْراةَ على موسى بن عمران وَ الْإِنْجِيلَ على عيسى بن مريم مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السّابقة على نزول القرآن؛ لأجل أن يكون كلّ واحد منهما هُدىً و دليلا مرشدا لِلنّاسِ المكلّفين باتّباعهما إلى الحقّ و الرّشاد.

و لا يذهب عليك أنّه ظهر من تفسيرنا الفرق بين التّنزيل و الإنزال، و أنّ التّنزيل متضمّن للكثرة و التّدرّج في النّزول دون الإنزال. و لمّا كان القرآن جامعا بين الجهتين، باعتبار نزوله دفعة إلى البيت المعمور، و تدريجا إلى الأرض، اسند إليه التّنزيل في أوّل الآية.

ثمّ للدلالة على كونه أعظم شأنا، و أتمّ نعمة من غيره، أعاد ذكره بقوله: وَ أَنْزَلَ الكتاب الذي جعله اَلْفُرْقانَ بين الحقّ و الباطل، و المائز بين الضّلال و الرّشاد، و المبيّن لمشتبهات سائر الكتب السّماويّة، و المهيمن عليها.

عن الصّادق عليه السّلام: «القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به »(1).

و في رواية: «الفرقان كلّ آية محكمة »(2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «سمّي القرآن فرقانا؛ لأنّه متفرّق الآيات، و السّور انزلت في غير الألواح و غير الصّحف (3) ،و التّوراة [و الإنجيل] و الزّبور انزلت كلّها جملة في الألواح و الأوراق »(4).

أقول: لا منافاة بين هذه الأخبار، لإمكان إطلاق هذا الوصف عليه بكلا الاعتبارين، فتحصّل من الآيات أنّ من كان كمال قدرته، و سعة لطفه و رحمته، و وفور نعمته بهذه المرتبة، كان هو المعبود بالاستحقاق دون عيسى و غيره من الخلق.

ثمّ بعد وضوح الحقّ و إبطال الشّرك بالبراهين القاطعة، أخذ سبحانه في التّهديد على الكفر

ص: 574


1- الكافي 11/461:2، تفسير الصافي 292:1.
2- جوامع الجامع: 53، تفسير الصافي 292:1.
3- في علل الشرائع: و غيره من الصحف.
4- علل الشرائع: 33/470، تفسير الصافي 292:1، و فيهما: الألواح و الورق.

و الشّرك، و إنكار كلّ حقّ بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و ألحدوا بِآياتِ اللّهِ و دلائل توحيده، و معجزات نبيّه، من القرآن و غيره، قد هيّأ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ غاية الشّدّة، خارج عن حدّ البيان وَ اللّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره، قاهر على خلقه ذُو انْتِقامٍ عظيم من أعدائه، و منكري توحيده، و رسالة رسوله، و دينه.

سورة آل عمران (3): الآیات 5 الی 6

اشارة

إِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

سورة آل عمران (3): آیة 5

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيد ذاته - الملازم لاستحقاقه العبادة دون غيره، بسعة علمه، و كمال إحاطته بجميع ذرّات الكائنات و خفايا أحوالها - بقوله: إِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ من الأشياء، و ذرّة من الذّرّات، و حال من أحوالها، لا ما كان فِي الْأَرْضِ حتّى خطرات القلوب، و مكنونات الضّمائر، من التّوحيد و الشّرك و الإيمان و الكفر، و الإرادات الحسنة و السيئة وَ لا ما كان فِي السَّماءِ حتّى ضمائر الملائكة، و مكتوماتهم.

و فيه مزيد تهديد، حيث إنّ القدرة الكاملة على العقوبة غير كافية في الرّدع عن المعاصي الخفيّة و العقائد السيّئة، إلاّ إذا علم أنّ المنتقم مطّلع على الخفيّات، عالم بالسّرائر و المستورات.

و التّعبير عن علمه بعدم خفاء شيء عليه، للإشعار بأنّ علمه بالأشياء بحضورها عنده، و الإحاطة التّامّة القيموميّة عليها، لا بالصّور الذّهنيّة، فلا يشبه علمه علم المخلوقين.

و في ذكر الأرض و السّماء تأكيد لسعة علمه، و تصريح بشموله، و لدفع توهّم اختصاص علمه بخصوص ما في الأرض، و في تقديم ذكر الأرض إشعار بكمال الاعتناء بإحاطته بأحوال أهلها.

و في رواية محاجّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع وفد نجران: قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّ اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السّماء؟!» قالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «فهل يعلم عيسى شيئا إلاّ ما علّم ؟» قالوا: لا(1).

سورة آل عمران (3): آیة 6

ثمّ أوضح سبحانه كمال قدرته، و سعة إحاطته بقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ و يخلقكم على هيئة خاصّة، و شكل مخصوص، و أنتم فِي مضائق اَلْأَرْحامِ و ظلماتها الثلاث: ظلمة البطن، و ظلمة المشيمة، و ظلمه الرّحم كَيْفَ يَشاءُ لكم من الصّور، من الذّكورة و الانوثة، و التّمام و النّقص،

ص: 575


1- .تفسير روح البيان 3:2.

و الطّول و القصر، و الحسن و القبح.

و في رواية المحاجّة: قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّ ربّنا صوّر عيسى في الرّحم كيف شاء، و أنّ ربّنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث ؟» قالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّ عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة، و وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثمّ غذّي كما يغذّى الصّبيّ ، ثمّ كان يطعم الطّعام، و يشرب الشّراب، و يحدث الحدث ؟» قالوا: بلى، قال: «فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا، فأبوا إلاّ جحودا »(1).

و في الآيتين أيضا تقرير لصفتي حياته و قيموميّته.

ثمّ أعاد سبحانه ذكر المدّعى و هو التّوحيد - بعد إقامة البرهان عليه تفصيلا، لإشرابه في القلوب - بقوله: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فنزّه ذاته المقدّسة عن أن يكون عيسى مثله و شبيهه في الالوهيّة.

ثمّ أعاد حاصل البرهانين المذكورين، بقوله: اَلْعَزِيزُ الغالب غير المتناهي في قدرته اَلْحَكِيمُ و المتقن في أفعاله و مخلوقاته. فعيسى مقهوره و مغلوبه و بديع صنعه، لكونه مركبا من المادّة و الصّورة، و محتاجا إلى المركّب، و معرّضا للانحلال و الفناء.

و حاصل ما استفيد من الآيتين في الردّ على النّصارى: أنّهم إن تمسّكوا في الوهيّة عيسى بعلمه بالمغيّبات، حيث كان ينبئهم بما يأكلون و ما يدّخرون. ففيه: أنّ علمة كان مقصورا ببعض الامور الجزئيّة، و العلم اللاّئق بمقام الالوهيّة هو العلم المحيط بجميع جزئيّات الكائنات، و أجزاء الموجودات، و صفاتها، و أحوالها، و إن كان مثقال حبّة من خردل في صخرة في الظّلمات، و بالضّرورة لم يكن هذا العلم الشّامل، لعيسى و لا لغيره.

و إن تمسّكوا بقدرته على ما لا يقدر عليه البشر؛ من إبراء الأكمه و الأبرص، و خلق الطّير و إحياء الموتى، ففيه: أنّها قدرة ناقصة مفاضة إليه من خالقه و مصوّره، إذ من الواضح أنّه مصنوع غيره، صوّره قادر مطلق في رحم امّه من غير أب، لبداهة أنّه عليه السّلام لم يخلق امّه، و لم يصوّر نفسه في رحمها.

في كيفية خلق الجنين في الرحم و مقدّماته

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه تعالى إذا أراد أن يخلق النّطفة، التي هي ممّا أخذ عليه(2) الميثاق، من(3) صلب آدم، أو ما يبدو له فيه، و يجعلها في الرّحم، حرّك الرّجل للجماع، و أوحى إلى الرّحم أن افتحي بابك حتّى يلج فيك خلقي و قضائي

ص: 576


1- تفسير روح البيان 3:2.
2- في المصدر: عليها.
3- في المصدر: في.

النّافذ و قدري، فتفتح الرّحم بابها، فتصل النّطفة إلى الرّحم، فتردّد فيه أربعين يوما، ثمّ تصير علقة أربعين يوما، ثمّ تصير مضغة أربعين يوما، ثمّ تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة، ثمّ يبعث اللّه إليه ملكين خلاّقين يخلقان في الأرحام ما يشاء اللّه، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرّحم، و فيها الرّوح القديمة المنقولة في أصلاب الرّجال و أرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة و البقاء، و يشقّان له السّمع و البصر و جميع الجوارح و جميع ما في البطن بإذن اللّه تعالى»(1) الخبر.

أقول: الظّاهر أنّ المراد من قوله: (و ما يبدو له) من يريد خلقه ممّن لم يأخذ عليه الميثاق، و هم الّذين يموتون قبل البلوغ و التعبير بالبداء لكون الغرض في خلقهم مترتّبا على الغرض من خلق من أخذ عليه الميثاق، و متأخّرا عنه في الرّتبة، فكأنّه حدثت إرادته بعد إرادته.

و من قوله: (حرّك الرّجل للجماع) أنّه أوجد مبادئ هيجان الشّهوة. و من قوله: (فأوحى إلى الرّحم) جعل قوّة الانفتاح فيه، و تعلّقت الإرادة التّكوينيّة بفتحه. و من قوله: (فتردّد فيه) تغيّر شيئا فشيئا، و من حال إلى حال، حتّى تصير علقة.

و من قوله: (الرّوح القديمة) استعداد صيرورته إنسانا. و من قوله: (البقاء) هو روح البقاء، و قوّة التّغذية و التنمية. و أنّ المراد من الواو في قوله: (و يشقّان) الجمع المطلق، كما هو مقتضى العطف به، لا الترتيب، فلا ينافي تسوية الأعضاء و الأحشاء قبل ولوج الرّوح.

إلى أن قال عليه السّلام: «ثمّ يوحي اللّه إلى الملكين اكتبا عليه قضائي و قدري و نافذ أمري، و اشترطا لي البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا ربّ ما نكتب ؟ قال: فيوحي اللّه عزّ و جلّ إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس امّه، فيرفعان [رءوسهما]، فإذا اللّوح يقرع جبهة امّه، فينظران فيه فيجدان في اللّوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه، شقيّا أو سعيدا، و جميع شأنه.

قال: فيملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللّوح، و يشترطان البداء فيما يكتبان، ثمّ يختمان الكتاب، و يجعلانه بين عينيه، ثمّ يقيمانه قائما في بطن امّه. قال: فربّما عتا فانقلب، و لا يكون ذلك إلاّ في كلّ عات أو مارد »(2).

و عن الصّادق عليه السّلام، في رواية: «أنّ اللّه تبارك و تعالى إذا أراد أن يخلق خلقا جمع كلّ صورة ما بينه

ص: 577


1- الكافي 4/13:6، تفسير الصافي 293:1.
2- الكافي 4/14:6، تفسير الصافي 293:1.

و بين آدم (1) ،ثمّ خلقه على صورة إحداهنّ (2) ،فلا يقولنّ أحد لولده: هذا لا يشبهني و لا يشبه أحدا من آبائي »(3).

سورة آل عمران (3): آیة 7

اشارة

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)

سورة آل عمران (3): آیة 7

ثمّ أنّه روي أنّ الوفد قالوا: يا محمّد، أ لست تزعم أنّ عيسى كلمة اللّه و روح منه ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «بلى» قالوا: حسبنا(4).

و الظّاهر من قولهم: (حسبنا) أنّك اعترفت بقولك: (إنّه كلمة اللّه) أنّه ابنه، و بقولك: (أنّه روح منه) بأنّه ثالث ثلاثة.

فنزل في ردّهم قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ هذا اَلْكِتابَ المجيد المسمّى بالقرآن، حال كونه مشتملا على نوعين: نوع مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قطعيّات الدّلالة، ناصّات في المراد، أو ظاهرات فيه، بنفسها أو بالقرائن المتّصلة؛ من اللّفظيّة أو العقليّة أو المقاميّة.

و تلك الآيات هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ و أصل فيه، باعتبار وجوب إرجاع سائره إليها، فقوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (5) مرجع لقوله: نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ (6) ،و قوله: إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ (7) مرجع لقوله:

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها (8) ،و قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (9) مرجع لقوله: وَ رُوحٌ مِنْهُ (10) لوضوح أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون جزءا لخالقه، إلى غير ذلك.

و نوع منه آيات وَ أُخَرُ هنّ آيات مُتَشابِهاتٌ الدّلالة، محتملات لمعاني متعدّدة، لا رجحان لبعضها على بعض في استحقاق الإرادة بها، و لا يتّضح المقصود منها إلاّ بالقرائن المنفصلة، كالمجملات و المبهمات، أو الظواهر التي يكون مدلولها مخالفا للعقل السّليم، كقوله: يَدُ اللّهِ فَوْقَ

ص: 578


1- في العلل: صورة بينه و بين أبيه إلى آدم.
2- في العلل: أحدهم.
3- علل الشرائع: 1/103 باب 93، تفسير الصافي 293:1.
4- تفسير الرازي 155:7.
5- مريم: 64/19.
6- التوبة: 67/9.
7- الأعراف: 28/7.
8- الإسراء: 16/17.
9- الإسراء: 85/17.
10- النساء: 171/4.

أَيْدِيهِمْ (1) ،و قوله: وَ جاءَ رَبُّكَ (2) و قوله: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (3) لحكم العقل بتنزّه خالق الأجسام و الأمكنة عن الجسم و الصّورة و المكان و الحركة.

في معنى المحكم و المتشابه

عن الصّادق عليه السّلام أنّه سئل عن المحكم و المتشابه، فقال: «المحكم: ما يعمل به، و المتشابه: ما اشتبه على جاهله »(4).

و الظّاهر أنّ المراد من قوله: (ما يعمل به) ما لا يتوقّف العرف في مدلوله و مفاده.

و عن (الكافي): عنه عليه السّلام، في تأويله: «أنّ المحكمات أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام، و المتشابهات فلان و فلان »(5).

ثمّ اعلم أنّ تقسيم الكتاب بجعل بعضه محكما و بعضه متشابها، لا ينافي تسمية كلّه محكما في قوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ (6) ،و أنّ معناه: أنّه اتقنت مطالبه، بحيث لا يتوهّم التّناقض فيها، و حفظت من أن يعتريها الخلل و التّحريف و النّسخ، و لا توصيف كلّه بالمتشابه في قوله: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ (7) لأنّ معنى المتشابه هنا: المتماثل الآيات في صحّة المعاني، و جزالة النّظم، و حقّيّة المدلول.

و قد سبق في الطّرفة السّابعة عشرة بيان فوائد كثيرة و حكم وفيرة في جعل كثير من الآيات القرآنية متشابها، و عدم جعل جميعها محكمات، من أراد الاطّلاع عليها فليراجعها، و عمدة حكمها ابتلاء الخلق، و التمييز بين الثّابت على الحقّ و أهل الزّيغ.

فَأَمَّا الَّذِينَ كان فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ و ميل عن الحقّ إلى اتّباع الهوى، و انحراف عن الصّراط المستقيم إلى شعب الضّلال فَيَتَّبِعُونَ من ذلك الكتاب ما تَشابَهَ مِنْهُ و يتمسّكون - لإثبات عقائدهم الفاسدة و أعمالهم الباطلة - بظاهر آيات مخالف للمحكمات، أو بمجملات غير ظاهرة الدّلالة، و يؤوّلونها بالظّنون و الاستحسانات، لا تحرّيا للحقّ و طلبا للصّواب، بل اِبْتِغاءَ الْفِتْنَةِ

و قصد إلقاء الشّبهات في قلوب ضعفاء العقول و الإيمان، و سعيا في إضلال النّاس عن طريق الحقّ و الهدى وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ و طلبا لتطبيقه على باطلهم، و إرجاعه إلى ما هو مشتهى أنفسهم من

ص: 579


1- الفتح: 10/48.
2- الفجر: 22/89.
3- طه: 5/20.
4- تفسير العياشي 643/292:1، تفسير الصافي 295:1.
5- الكافي 14/343:1، تفسير العياشي 642/292:1، تفسير الصافي 295:1.
6- هود: 1/11.
7- الزمر: 23/39.

الخرافات، و إرجاعه إلى معنى يوافق ما راموه من الكفر، لحبّ الغلبة على الخصم، و حفظ الجاه و المال، كتمسّك الوفد بقوله: إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ (1) و بقوله: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ (2) لإثبات أنّ عيسى ابن اللّه، أو ثالث ثلاثة، مع قصور دلالتهما و معارضتهما لحكم العقل و محكم الآيات من قوله: ما كانَ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ (3) و قوله: لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ (4) و خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ (5).

هُوَ الحال أنّه ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ و حقيقة المراد من المتشابه أحد إِلاَّ اللّهُ العالم بحقائق الامور وَ الرّاسِخُونَ الثّابتون المتمكّنون فِي الْعِلْمِ المستغرقون في بحر الحكمة و المعرفة، المقالون بتأييد اللّه عن العثرة في مزالّ الأقدام، السّالكون بنور الهداية في ظلمات الأهواء و الأوهام، و هم النبيّ و أوصياؤه الكرام.

في تعريف الراسخين في العلم

عن (الكافي): «الرّاسخون في العلم من لا يختلف في علمه »(6).

أقول: الظّاهر أنّ المراد منه من لا يكون علمه عن رأي و اجتهاد، حتى تتغيّر فتواه و يختلف حكمه، و هم الذين يكون علمهم بإفاضة اللّه و إلهامه، كالنبيّ و أوصيائه و خلفائه.

روي أنّه قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لأبي حنيفة: «أنت فقيه أهل العراق ؟» قال: نعم، قال: «فبأيّ شيء تفتي ؟» قال: بكتاب اللّه و سنة نبيّه، قال: «يا أبا حنيفة، تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته [و] تعرف النّاسخ من المنسوخ ؟» قال: نعم، قال: «يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علما، ويلك ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الّذين انزل عليهم، ويلك ما هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا، و ما ورّثك اللّه من كتابه حرفا »(7).

في (الاحتجاج): عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في حديث قال: «إنّ اللّه جلّ ذكره - لسعة رحمته، و رأفته بخلقه، و علمه بما يحدث المبدّلون، من تغيير كلامه (8)- قسّم كلامه ثلاثة أقسام؛ فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه و لطف حسّه و صحّ تميزه، ممّن شرح اللّه

ص: 580


1- آل عمران: 45/3.
2- النساء: 171/4.
3- مريم: 35/19.
4- الإسراء: 111/17.
5- الأنعام: 101/6.
6- الكافي 1/190:1، تفسير الصافي 295:1.
7- علل الشرائع: 5/89، تفسير الصافي 22:1.
8- في الاحتجاج: كتابه.

صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلاّ اللّه و أنبياؤه(1) و الرّاسخون في العلم، و إنّما فعل [اللّه] ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل - من المستولين على ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - من علم الكتاب ما لم يجعله لهم، و ليقودهم الاضطرار إلى الائتمار بمن ولاّه أمرهم، فاستكبروا عن طاعته تعزّزا و افتراء على اللّه عزّ و جلّ ، و اغترارا بكثرة من ظاهرهم، و عاونهم، و عاند اللّه جلّ اسمه و رسوله »(2).

و روى الفخر الرّازي عن ابن عبّاس أنّه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدا جهله، و تفسير تعلمه العرب بألسنتها، و تفسير يعلمه العلماء، و تفسير لا يعلمه إلاّ اللّه(3).

عن (الكافي): عن الصّادق عليه السّلام: «نحن الرّاسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله »(4).

و في رواية: «فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الرّاسخين في العلم، قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التّنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »(5).

ثمّ وصف سبحانه و تعالى الرّاسخين في العلم بأنّهم - مع علمهم بالتّأويل، و فهمهم حقيقة المتشابه كالمحكم - يَقُولُونَ بألسنتهم طبقا لما في قلوبهم: آمَنّا بِهِ و صدّقنا بحقيقة المراد منه، فإنّه كُلٌّ من الآيات المتشابهات، أو منها و من المحكمات، حقّ نازل مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

و يمكن أن يكون حكاية هذا القول عنهم، لتعليم المؤمنين الّذين لا يعلمون التّأويل أن يقولوا مثله، و لا يشكّوا - لعدم فهم المراد من المتشابه - في أنّه من عند اللّه، و لا يخوضوا في تفسيره بالظنون و الاستحسانات، بل عليهم أن يؤمنوا به، و يسلّموا له، و يفوّضوا علمه إلى اللّه تعالى، و إلى خزّان علمه و مهابط وحيه.

ذكر قول بعض العامة و رده

قيل: إنّ اَلرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ، و قوله: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ خبره، و إنّ المتشابه هو ما استأثر اللّه بعلمه و بمعرفة الحكمة فيه، كعدد الزّبانيّة، و عدّة بقاء الدّنيا، و وقت قيام السّاعة، إلى غير ذلك(6).

و هذا القول في غاية الفساد، إذ يلزمه أن يكون الرّسول جاهلا بكثير من الآيات، و غير مطّلع بالمراد ممّا انزل إليه، مع أنّ القرآن نزل لينتفع النّاس به، و لو ببيان حملته و أوعية علمه، فلو كان فيه ما لا

ص: 581


1- في الاحتجاج: و امناؤه.
2- الاحتجاج: 253، تفسير الصافي 295:1.
3- تفسير الرازي 178:7.
4- الكافي 1/166:1، تفسير الصافي 295:1.
5- الكافي 2/166:1، تفسير الصافي 295:1.
6- تفسير روح البيان 5:2.

يعلمه إلاّ اللّه لكان تنزيله لغوا، لعدم انتفاع أحد به، تعالى عن ذلك.

وَ ما يَذَّكَّرُ و لا يفهم حقيقة تأويل المتشابهات، و حكمة نزولها حقّ التّذكّر و التّفهّم أحد إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ و أصحاب العقول السّليمة من غلبة الشّهوات، و ذوو الأفهام المستقيمة الخالصة عن شوائب الأهواء الزائغات.

و من الواضح أنّ هذا المدح الفائق، و الثّناء الرّائق، لا يليق إلاّ بمن يصيب الحقّ ، و يهتدي إلى حقيقة المراد، و يصل إلى أصل المقصود من كلام الملك العلاّم، بجودة الذّهن، و إصابة النّظر، و تنوّر الفكر، و تجرّد العقل عن غواشي الحسّ و الأوهام.

سورة آل عمران (3): الآیات 8 الی 9

اشارة

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

سورة آل عمران (3): آیة 8

ثمّ لمّا كان جميع الخيرات و الكمالات حدوثا و بقاء بإفاضة اللّه و لطفه و توفيقه، كان على المؤمن اللّبيب أن لا يغترّ بوجدان خير، و لا يطمئنّ ببقاء كمال و دوام فضيلة، بل عليه أن يتضرّع إلى اللّه، و يسأل إدامته منه تعالى.

فلذا مدح اللّه الرّاسخين في العلم بأنّهم الّذين يقولون، تضرّعا و استكانة: رَبَّنا و يا من بلطفه تكميل نفوسنا، و توفيق هدايتنا لا تُزِغْ و لا تمل قُلُوبَنا عن نهج الحقّ ، في تأويل المتشابهات و غيره، إلى الباطل و الضّلال بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى الحقّ و الصّواب، في العقائد و الأعمال و التّأويل و التّفسير.

و قيل: إنّ المراد: لا تبتلنا ببلاء تزيغ منه قلوبنا.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن، إن شاء أقامه على الحقّ ، و إن شاء أزاغه عنه »(1).

و الظّاهر أنّ كلمة (الإصبعين) كناية عن رضا اللّه و غضبه، أو عن الملك المرشد و الشّيطان المغوي، أو عن التّوفيق و الخذلان.

ثمّ أنّهم - بعد سؤال أن لا يسلب اللّه عنهم ما ألبسهم من الكمال، و لا يستردّ ما أعطاهم من العلم

ص: 582


1- تفسير أبي السعود 9:2.

و توفيق الرّشد إلى الحقّ - سألوا زيادة الرّحمة و العلم و التّوفيق بقولهم: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ و من خزائن جودك رَحْمَةً نفوز بها إلى أعلى درجات قربك و رضوانك إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ

للخيرات، المعطي المعطي للسّؤلات. و التّذييل به للإشعار بأنّ هذا المسئول في جنب عطاياه الكثيرة، في غاية القلّة.

عن الكاظم عليه السّلام، في حديث: «يا هشام، إنّ اللّه تعالى قد حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ حين علموا أنّ القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها، إنّه من لم يخف اللّه(1) لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلاّ من كان قوله لفعله مصدّقا، و سرّه لعلانيته موافقا؛ لأنّ اللّه تعالى لم يدلّ على الباطن الخفيّ من العقل إلاّ بظاهر منه، و ناطق عنه »(2).

عن العيّاشي، عن الصّادق عليه السّلام: «أكثروا من أن تقولوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا و لا تأمنوا الزّيغ »(3).و في الآية دلالة على أنّ الهداية و الضّلال بتوفيق اللّه و خذلانه.

سورة آل عمران (3): آیة 9

ثمّ لبيان شدّة افتقارهم إلى التّحفّظ عن الزّيغ و شمول الرّحمة، عرضوا على ربّهم كمال اطمئنانهم و قوّة يقينهم بالمعاد و الحشر في القيامة، للجزاء على العقائد و الأعمال، بقولهم: رَبَّنا إِنَّكَ وعدت العباد في كتابك الحقّ ، و بلسان نبيّك الصّادق، أنّك جامِعُ النّاسِ بعد الموت، و حاشرهم لِيَوْمٍ عظيم، حتّى تحاسب فيه أعمال العباد، و تثيب فيه المؤمن المطيع، و تعاقب فيه الكافر و العاصي، و لا رَيْبَ فِيهِ لنا، و لكلّ عاقل بصير من حيث وقوعه و عظمته و شدّة أهواله، و إنّ من زاغ قلبه ليبتلى بعذاب أليم دائم، و من أعطيته التّوفيق و الهداية و شملته الرّحمة، ينال السّعادة و الكرامة و النّعم الباقية كما وعدت إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ و ذكر اسم الجلالة لبيان مباينة خلف الوعد لالوهيّته المستلزمة للحكمة و الغنى و التنزّه عن كلّ نقص.

سورة آل عمران (3): آیة 10

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ

ص: 583


1- في الكافي: إنه لم يخف اللّه من.
2- الكافي 12/14:1، تفسير الصافي 296:1.
3- تفسير العياشي 649/294:1، تفسير الصافي 297:1.

وَقُودُ النّارِ (10)

سورة آل عمران (3): آیة 10

ثمّ - لمّا علم أنّ هذا الإيمان همّهم في طلب الهداية إلى الحقّ في الدّنيا، و نيل الرّحمة، و الفوز بالسّعادة في الآخرة، لا في المال و الأولاد و الحطام الفانية، بخلاف الكفّار و أهل الزّيغ المتّبعين للمتشابهات، كما نقل أنّ بعض الوفد(1) بعد اعترافه بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله هو النبيّ الموعود المنتظر، قال:

إن آمنّا به أخذ منّا أموالنا و ذهب جاهنا عند الملوك - بيّن اللّه حال الكفّار في الآخرة، و هدّدهم بشديد عقابه، و أنّ أموالهم لا تنجيهم منه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من نصارى نجران، و سائر صنوف المعاندين للحقّ ، تنقطع عنهم وسائل النّجاة من العذاب في الآخرة، حيث إنّه لَنْ تُغْنِيَ و لا تجزي أبدا عَنْهُمْ في الآخرة، أو فيها و في الدّنيا أَمْوالُهُمْ التي جمعوها و اكتسبوها في الدّنيا، بقصد جلب المنافع و دفع المضارّ عن أنفسهم بها وَ لا أَوْلادُهُمْ الّذين يعوّلون عليهم في الخطوب، و يتناصرون بهم في دفع الكروب مِنَ عذاب اَللّهِ أو من عند اللّه شَيْئاً قليلا من الإغناء، أو من العذاب.

و تخصيص الأموال و الأولاد من وسائل الدّفاع و النّجاة بالذّكر، لكونهما من أهمّها و أقواها، و تقديم ذكر الأموال لأنّها أوّل عدّة يفزع إليها عند الملمّات.

وَ أُولئِكَ البعيدون عن رحمة اللّه، بعد قطع امنيات الخلاص عَنْهُمْ خاصّة وَقُودُ النّارِ

فتشتعل نار جهنّم فيهم كاشتعالها في الحطب و الحشائش. و هذا أوضح بيان لكمال ملابستهم بالنّار، و لسوء حالهم، و تهويل شأنهم.

سورة آل عمران (3): الآیات 11 الی 12

اشارة

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12)

سورة آل عمران (3): آیة 11

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ عادة هؤلاء الكفّار و شأنهم؛ في التّمادي في الكفر، و تكذيب الرّسول، و التّمرّد عن الحقّ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ و مثل شأنهم وَ شأن اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من العتاة و المردة و معاملتهم معك كمعاملتهم مع موسى عليه السّلام و سائر الأنبياء العظام عليهم السّلام.

ص: 584


1- وفد نصارى نجران المتقدّم ذكره في أول السورة.

ثمّ كأنّه قيل: كيف كان شأنهم و حالهم مع الأنبياء؟ فأجاب سبحانه: بأنّهم كَذَّبُوا بِآياتِنا

و جحدوا المعجزات التي أظهروها، و أعرضوا عن البراهين العقليّة التي أقاموها، فنسبوا المعجزات الباهرات إلى السّحر، و البراهين السّاطعات إلى أساطير الأوّلين و تلفيقات المجانين فَأَخَذَهُمُ اللّهُ

و عذّبهم بِذُنُوبِهِمْ الموبقة في الدّنيا بأنواع العذاب؛ من الغرق و الخسف و الصّيحة و غيرها وَ اللّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ و ذكر اسم الجلالة و تكراره لإظهار الرّوعة و تربية المهابة.

سورة آل عمران (3): آیة 12

ثمّ أكّد سبحانه تهديد الكفّار و المردة - لازدياد الرّعب في قلوبهم - بتوعيدهم بعذاب الدّنيا؛ من القتل و التشريد، مع عذاب الآخرة، بقوله: قُلْ يا محمّد لِلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه، و بما انزل إليك؛ من اليهود و النّصارى و عبدة الأوثان: إنّكم أيّها الطّغاة سَتُغْلَبُونَ عن قريب، و تقهرون بأيدي المسلمين و سيوفهم في الدّنيا وَ تُحْشَرُونَ من قبوركم، و تساقون في الآخرة إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ و الفراش، و ساء المقرّ الذي هيّأتموه لأنفسكم من النّار.

روي أنّها نزلت قبل وقعة بدر، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لمشركي قريش يوم بدر: «إنّ اللّه غالبكم و حاشركم إلى جهنّم، و بئس المهاد »(1).

و عن ابن عبّاس: أنّ يهود المدينة لمّا شاهدوا وقعة بدر، قالوا: و اللّه هذا هو النبيّ الأمّيّ الذي بشّرنا به موسى في التوراة، و نعته بأنّه لا تردّ له راية، و همّوا باتّباعه، فقال بعضهم: لا تعجلوا حتّى ننظر إلى وقعة اخرى له. فلمّا كان يوم أحد شكّوا - و قد كان بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهد إلى مدّة فنقضوه - و انطلق كعب بن أشرف في ستّين راكبا إلى أهل مكّة، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت [الآية ](2).

و روي عن بعض العامّة، و نسب أيضا إلى روايات أصحابنا: أنّه لمّا أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قريشا ببدر، و قدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: «يا معشر اليهود، احذروا من اللّه بمثل ما نزل بقريش يوم بدر، و أسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، و قد عرفتم أنّي نبيّ مرسل» فقالوا: يا محمّد لا يغرّنّك أنّك لقيت قوما أغمارا(3) لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، أما و اللّه لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن النّاس، فنزلت [الآية ](4).

ص: 585


1- تفسير أبي السعود 11:2.
2- تفسير أبي السعود 11:2.
3- الأغمار: جمع غمر، و هو من لم يجرّب الأمور، و لا علم له بها.
4- مجمع البيان 706:2.

في إخبار القرآن بالغيب و وهم و دفع

و على أيّ تقدير، فهذه الآية دالّة على إخبار اللّه بغلبة المسلمين على اليهود و سائر المشركين، قبل وقوعها، عن جزم و يقين، مع وجود الأمارات العاديّة - من ضعف المسلمين، و شوكة الكفّار - على خلافه.

ثمّ صدّق اللّه الوعد بقتل بني قريظة، و إجلاء بني النّضير، و فتح خيبر، و وضع الجزية على من بقي منهم، و خذلان المشركين و مغلوبيّتهم و طردهم و تشريدهم مع كثرة شوكتهم. فلا شبهة أنّ هذا الإخبار - كإخبار عيسى عليه السّلام بما يأكلون و ما يدّخرون - من آيات النّبوّة، و صدق النبيّ في دعواه.

إن قيل: لعلّ وقوع ما أخبر به كان من الاتّفاقيّات، و كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة.

قلنا: من المتّفق عليه بين العقلاء أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان أعقل أهل عصره، لو لم يكن أعقل عقلاء العالم، و لا ريب أنّ العاقل إذا ادّعى أمرا كالنّبوّة، و كان ظهور كذبه في خبر مبطلا لدعواه، يمتنع أن يخبر عن الجزم و اليقين بأمر يكون في نفسه احتمال خلافه، و قد أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بغلبته على الكفّار عن جزم و يقين، مع تراكم الأمارات العاديّة على خلافها، و عدم إمكان الجزم إلاّ بالوحي.

فإن قيل: لعلّ الجزم به حصل له بطريق الجفر و الحساب، أو علم النّجوم، أو الكهانة.

قلنا: مضافا إلى أنّ هذا الاعتراض وارد على إخبار عيسى عليه السّلام - و غيره من الأنبياء - بالمغيّبات، فما كان دافعا لهم في إخبارهم كان دافعا له في إخباره صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لا شبهة أنّ تحصيل هذه العلوم محتاج في العادة إلى التّعلّم من أهلها، و الحضور عندهم، و من المسلّم أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان امّيّا لم يحضر عند عالم، و لم يتعلّم من أحد، و لم يراجع كتابا، فلا بدّ من اليقين بكون إخباره بالمغيّبات بالوحي.

سورة آل عمران (3): آیة 13

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

ص: 586

وادي بدر؛ إحداهما فِئَةٌ مؤمنة، قليلة العدّة و العدد، و هم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و ثلاثمائة و ثلاثة عشر من أصحابه، و كانت تلك الفئة تُقاتِلُ و تجاهد فِي سَبِيلِ اللّهِ و طاعته، و طلبا لمرضاته، وَ فئة أُخْرى منهما كافِرَةٌ باللّه و رسوله، و هي طائفة قريش، و فيها صناديدهم و شجعانهم، حيث صمّموا على قتال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه حين سمعوا أنّه صلّى اللّه عليه و آله قصد عيرهم.

و إنّما لم يوصف قتال الفئة الكافرة بكونه في سبيل الطّاغوت؛ لوضوح أنّ قتالهم كان على ضدّ قتال الفئة المؤمنة، و لعدم الاعتداد بقتالهم، و للإشعار بأنّهم لم يكونوا قاصدين له لما اعتراهم من الرّعب.

روي أنّ المشركين كانوا تسعمائة و خمسين رجلا مقاتلا، و كان رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، و فيهم أبو سفيان بن حرب و أبو جهل، و قادوا مائة فرس، و كان فيهم سبعمائة بعير، و أهل الخيل كانوا كلّهم دارعين، و كان في الرجّالة دروع سوى ذلك، و من أصناف الأسلحة عدد لا يحصى.

و كان المسلمون ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا؛ سبعة و سبعون رجلا من المهاجرين، و مائتان و ستة و ثلاثون من الأنصار، و كان صاحب راية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المهاجرين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، و صاحب راية الأنصار سعد بن عبادة الخزرجي، و كان في العسكر تسعون بعيرا و فرسان، أحدهما للمقداد بن عمرو و الآخر لمرثد بن أبي مرثد، و ست أدرع و ثمانية سيوف(1).

فلمّا تراءت الفئتان كان المشركون إذا نظروا إلى المسلمين يَرَوْنَهُمْ مع كونهم قريبا من ثلثهم مِثْلَيْهِمْ و ضعف عددهم - أي ستمائة و نيفا و عشرين، بناء على إرجاع ضمير (مثليهم) إلى المسلمين، و يحتمل رجوعه إلى المشركين، فيكون عدد المسلمين في نظرهم ألفا و تسعمائة (2)- رؤية ظاهرة لكونها رَأْيَ الْعَيْنِ لا يحتمل الالتباس فيها، كما يحتمل في سائر المعاينات، و قيل: إنّ المراد رؤية المعاينة، من غير محاسبة.

قيل: إنّ اللّه تعالى قلّل المسلمين أوّلا في أعين المشركين، حين التقت الفئتان، ليتجرّءوا على قتال المسلمين، و قلّل المشركين في أعين المسلمين، لئلاّ يتخاذلوا في قتالهم لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً (3) كما في سورة الأنفال، فلمّا تبارزوا للقتال، و اشتبكت الحرب، كثّر اللّه المسلمين في أعين

ص: 587


1- تفسير الرازي 189:7، تفسير أبي السعود 13:2.
2- في النسخة: ألفا و ست مائة.
3- الأنفال: 42/8.

المشركين، ليخذلهم بالرّعب، فكان التّقليل و التّكثير في حالين مختلفين، و كان أبلغ في القدرة و إظهار الآية(1).

روي عن سعد بن أوس أنّه قال: أسر المشركون رجلا من المسلمين، فسألوه: كم كنتم ؟ قال:

ثلاثمائة و بضعة عشر. قالوا: ما كنّا نراكم إلاّ تضعفون علينا(2).

و يحتمل أن يكون المراد أنّ اللّه قلّل المشركين في أعين المسلمين حتّى رأوا أنفسهم مثلي المشركين، و يمكن كون تكثير المسلمين في نظرهم أو في نظر المشركين بدخول الملائكة فيهم، أو بالتّصرّف في القوّة الواهمة.

في بيان معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله في وقعة بدر

ثمّ اعلم أنّه كانت في تلك الواقعة آيات كثيرة، و معجزات عديدة ظاهرة.

منها: إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بنصرتهم على قريش قبل الواقعة.

و منها: التّقليل و التّكثير اللّذان حكاهما اللّه تعالى في هذه الآية و في سورة الأنفال.

و منها: إخباره صلّى اللّه عليه و آله قبل القتال بأنّ هنا مصرع فلان، و هنا مصرع فلان، فلمّا أنقضت الوقعة رأوا ما وقع مطابقا لما أخبر به.

و منها: تأييد اللّه تعالى المسلمين بألف من الملائكة مردفين(3) روي أنّه كان سيماء الملائكة أنّه كان على أذناب خيولهم و نواصيها صوف أبيض(4).

وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ و يقوّي بِنَصْرِهِ و عونه، بلا توسيط الأسباب العاديّة مَنْ يَشاءُ نصره من عباده، كما أيّد أصحاب بدر بالملائكة، و أيّد الرّسول و المؤمنين على الكفّار بالحجج البالغة إِنَّ فِي ذلِكَ

المذكور من إراءة الجمع القليل كثيرا لَعِبْرَةً عظيمة و موعظة و هداية ظاهرة كائنة لِأُولِي الْأَبْصارِ الصّحيحة، و ذوي البصائر النّافذة، و العقول السّليمة.

سورة آل عمران (3): آیة 14

اشارة

زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

ص: 588


1- تفسير روح البيان 8:2.
2- تفسير أبي السعود 13:2، تفسير روح البيان 8:2.
3- كما في سورة الأنفال: 9/8.
4- تفسير الرازي 190:7.
سورة آل عمران (3): آیة 14

ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان آية التّوحيد و النّبوّة الظّاهرة في قضيّة بدر و التّنبيه على لزوم اعتبار ذوي الأبصار بها - بيّن علّة عمى القلوب و عدم تأثّرها بها بقوله: زُيِّنَ و حسّن بوساوس الشّيطان و اقتضاء الطّبيعة لِلنّاسِ نوعا حُبُّ الشَّهَواتِ و تعلّق القلوب بالنّفسانيّات و المستلذّات.

و في التّعبير عنها بالشّهوات دون المشتهيات إيذان بأنّهم من شدّة حبّها، كأنّهم يحبّون شهوتها، و إشعار بغاية رذالتها، لوضوح أنّ الشّهوة من صفات البهائم.

و تزيّن حبّها بحسبانهم أنّ حبّها مقتضى العقل و كمال النّفس، و لذا يلومون المعرض عنها و ينسبونه إلى السّفه، مع وضوح أنّ حبّها لا يكون إلاّ من ضعف العقل و غلبة الحيوانيّة و فقد البصيرة بحقائقها.

ثمّ فصّل سبحانه عمد المشتهيات بأنّها مِنَ قبيل جنس اَلنِّساءِ اللاّتي لعرافتهنّ في معنى الشّهوة عددن من حبائل الشّيطان، و قدّمن في الذّكر.

ثمّ اردفن بقوله: وَ الْبَنِينَ الّذين هم من أعظم الفتن، كما قيل: أولادنا فتنة، إن عاشوا فتنونا، و إن ماتوا أحزنونا(1).

و تخصيص البنين بالذّكر من بين الأولاد، لكون حبّهم - من جهة السّرور و التّكثّر - أكثر من حبّ البنات، بل كان العرب يكرهونهنّ ، كما قال تعالى: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (2).

و الافتتان بهم يشغل القلب بهم عن ذكر اللّه، و الاهتمام بحفظ خاطرهم بالتّعرّض لمعصيته، و الحرص على جمع الأموال لهم من الحلال أو الحرام، و لذا عقّب ذكرهم بقوله: وَ الْقَناطِيرِ و هو جمع قنطار.

روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّه(3) ملء مسك ثور من الذّهب »(4) ،و قيل: مائة ألف دينار. و قيل:

ثمانون ألف. و قيل: سبعون ألف: و قيل: أربعون ألف مثقال من الذّهب. و قيل: ألف و مائتا مثقال.

و قيل: ألفا دينار (5).و قيل: ألف. و قيل: اثنا عشر ألف درهم (6).و على أي تقدير هي كناية عن المال الكثير.

ص: 589


1- تفسير روح البيان 10:2.
2- النحل: 58/16.
3- أي القنطار.
4- مجمع البيان 712:2، تفسير الصافي 298:1.
5- تفسير أبي السعود 14:2.
6- تفسير الرازي 196:7.

اَلْمُقَنْطَرَةِ مأخوذة من القنطار، قيل: جيء بها للتّأكيد. و قيل: معناه: الكثيرة، المنضّدة بعضها على بعض. و قيل: المضروبة المنقوشة، حال كونها مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ .

و علّة حبّهما كونهما ثمن سائر الأشياء، فمالكهما كمالك جميع الأشياء، و لذا قدّمهما سبحانه بالذّكر على قوله: وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ و الافراس المرسلة من كثرتها، للرّعي وَ الْأَنْعامِ الثّلاثة من الإبل و البقر و الغنم، بأصنافها وَ الْحَرْثِ من الغرس و الزّرع.

و حبّ هذه الأشياء و إن كان ممّا يقوم به نظام العالم و يتمّ عيش بني آدم، إلاّ أنّها لمّا كانت في الأغلب ملهية عن ذكر اللّه و شاغله عن طاعته، ذمّها سبحانه بقوله: ذلِكَ المذكور من المشتهيات مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الدّنيّة الفانية، و ملذّاتها اليسيرة الزائلة.

فلا ينبغي للعاقل المؤمن أن يتوجّه إليها، و يتعلّق قلبه بها، و يصرف همّه فيها، بل عليه أن يتوجّه بكلّه إلى اللّه و الدّار الآخرة، و يجعل حبّ هذه الامور تابعا لحبّ اللّه، و تحصيلها وصلة إلى طاعة اللّه و مرضاته؛ لوضوح أنّ جميع هذه النّعم مقدّمات للأعمال الصّالحة، و وسائل لتحصيل الدّرجات الاخرويّة.

في أنّ المؤمن يحبّ الدنيا لتحصيل الآخرة بها

فالمؤمن اللّبيب يحبّ المال و يكتسبه للإنفاق في سبيل اللّه، و الإرفاق بعباده؛ و يحرث لأن يوفّق لأداء الزكاة، و يتّجر للتّوسعة على العيال و الصّدقة على الفقراء، و يتزوّج لتحصين الفرج من الحرام و حفظ الإيمان و تكثير النّسل و تثقيل الأرض بالولد الموحّد الصّالح، و يأكل و يشرب للتّقوّي على الطّاعة، و القيام بوظائف العبوديّة.

و الحاصل: أنّ المؤمن يحبّ الدّنيا و ما فيها لغرض تحصيل الآخرة، و لذا فسّر قوله تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً (1) بالمرأة الصّالحة و سعة الرّزق. فاتّضح أنّ حبّ الدّنيا لحبّ اللّه و طلب مرضاته، ليس الحبّ المذموم، بل هو ممدوح غايته، لكونه عين حبّ اللّه و حبّ طاعته و مرضاته، فإنّ من يتحمّل شرب الدّواء المرّ للبرء من المرض و طلب السّلامة منه، لا يعدّ محبّا للدّواء، بل هو محبّ للبرء من المرض، و طالب له.

و الحاصل: أنّ المؤمن الكامل لا ينال من الدّنيا إلاّ لنيل الآخرة، و القرب من اللّه، و مع قطع النّظر عن ذلك يكون مبغضا لها و معرضا عنها، و تكون عنده أهون من عراق(2) خنزير في يد مجذوم، و أضرّ من

ص: 590


1- البقرة: 201/2.
2- العراق: العظم اكل لحمه.

السّمّ ، فكيف يلتذّ المؤمن بلذائذ الدّنيا، و يشتاق إليها، و هو يعلم أنّه مفارقها، و تبقى عليه تبعاتها؟ التي أقلّها أن يقال له في الآخرة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها (1).

وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ و المرجع من الجنّة و نعمها الباقية.

سورة آل عمران (3): آیة 15

اشارة

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)

سورة آل عمران (3): آیة 15

ثمّ بعد الإشارة الإجماليّة الى فضيلة نعم الآخرة على نعم الدّنيا، ذكر سبحانه اصول نعم الآخرة تفصيلا بقوله: قُلْ يا محمّد، لامّتك: أَ أُنَبِّئُكُمْ و هل اخبركم بِخَيْرٍ و أحسن مِنْ ذلِكُمْ

المشتهيات الدّنيويّة ؟

ثمّ لمّا كان السّؤال مقتضيا للجواب، فكأنّه قيل في الجواب: نعم أنبئنا و أخبرنا، فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اللّه، و خافوا عقابه في مخالفة أحكامه و عصيان تكاليفه، و أعرضوا من الدّنيا، و أقبلوا إلى الآخرة عِنْدَ رَبِّهِمْ اللّطيف بهم تفضّلا منه عليهم جَنّاتٌ متعدّدة لكلّ واحد منهم. و قيل: إنّ التعدّد بلحاظ تعدّد الأشخاص.

ثمّ وصف نضارتها بأن لها أشجارا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة المعهودة، حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا، غير خائفين من الخروج منها، و زوال نعمها.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «شبر من الجنّة خير من الدّنيا و ما فيها »(2).

ثمّ لمّا كان من تمام النّعمة الزّوجة الصّالحة الموافقة الأنيسة، بشّر اللّه المؤمنين بها بقوله: وَ لهم أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ منزّهة، طهّرهنّ اللّه من دنس الحيض و النّفاس و الكثافات(3) الجسمانيّة، و نزّههنّ من العيوب و الأخلاق السّيّئة؛ كالحسد و الغضب و الطمع و النّظر إلى غير أزواجهنّ .

ثمّ بشّرهم بعد النّعم الجسمانيّة بأعلى النّعم الرّوحانيّة بقوله: وَ رِضْوانٌ عظيم لا يوصف ببيان، كائن مِنَ اللّهِ من تجلّي أنوار جلاله تعالى، الذي هو أقصى الآمال، و أعلى الحظوظ ، و منتهى الكرامة للمؤمن وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ المتّقين، فيثيبهم على حسب درجاتهم، و يجازيهم على قدر زهدهم في الدّنيا، و إقبالهم إلى اللّه، و قيامهم بوظائف العبوديّة.

ص: 591


1- الأحقاف: 20/46.
2- تفسير روح البيان 10:2.
3- يريد بها الأوساخ.

سورة آل عمران (3): الآیات 16 الی 17

اشارة

اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النّارِ (16) اَلصّابِرِينَ وَ الصّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)

سورة آل عمران (3): آیة 16

ثمّ عرّف اللّه سبحانه عباده المتّقين، المعدّ لهم هذه الكرامات، و مدحهم أوّلا باليقين بالمبدإ و المعاد، و الخوف و الخشية بقوله: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ بلسان قالهم و حالهم: رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا

بوحدانيّتك، و نبوّة نبيّك، و صدق كتابك، و دار ثوابك و عقابك فَاغْفِرْ لَنا بحرمة الإيمان ذُنُوبَنا

و إسرافنا على أنفسنا، و استر خطايانا يوم كشف السّرائر وَ قِنا عَذابَ النّارِ و احفظنا منه. و فيه دلالة على أنّ أهمّ حوائج المؤمن في الدّنيا غفران الذّنوب و النّجاة من العذاب.

سورة آل عمران (3): آیة 17

ثمّ بعد ما مدحهم اللّه بالإيمان و الخوف، مجّدهم بكمال الأخلاق النّفسانيّة ثانيا بقوله:

اَلصّابِرِينَ على تحمّل مشاقّ الطّاعات، من أداء الواجبات، و اجتناب المحرّمات، الحابسين أنفسهم عن الجزع ممّا ينزل بهم من المحن و الشّدائد و البليّات. و في ذكر صفة الصّبر - من الصّفات الكماليّة النّفسانيّة و الاقتصار عليها - دلالة على أنّها أكمل الصّفات، و كونها جامعة لسائر الكمالات.

ثمّ وصفهم ثالثا بحسن القول و الفعل بقوله: وَ الصّادِقِينَ في أقوالهم و أفعالهم و نيّاتهم، على ما قيل من أنّ الصّدق، كما يكون في القول بمطابقته للواقع، يكون في الفعل بالجدّ بإتمامه و عدم الانصراف عنه، و يكون في النّيّة بإنفاذ الإرادة و إمضاء العزم وَ الْقانِتِينَ المواظبين على الطّاعات المداومين على العبادات وَ الْمُنْفِقِينَ ما زاد عن كفافهم من الأموال في القربات وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.

عن (المجمع): عن الصادق عليه السّلام: «المصلّين وقت السّحر »(1).

و عنه عليه السّلام: «من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر اللّه و أتوب إليه، سبعين مرّة، و هو قائم، فواظب على ذلك حتى تمضي له سنة، كتبه اللّه عنده من المستغفرين بالأسحار، و وجبت له المغفرة من اللّه »(2).

في أنّ أفضل أوقات الدعاء وقت السحر

و في رواية: «من استغفر سبعين مرّة (3) ،فهو من أهل هذه الآية »(4).

و في تخصيص الاستغفار بالأسحار إشعار بأنّها أفضل أوقات الدّعاء و العبادة، لأنّ

ص: 592


1- مجمع البيان 714:2، تفسير الصافي 299:1.
2- الخصال: 3/581، تفسير الصافي 299:1.
3- في مجمع البيان: استغفر اللّه سبعين مرة في وقت السحر.
4- مجمع البيان 714:2، تفسير الصافي 299:1.

النّفس فيها مصفّاة و العبادة أشقّ .

و عن مجاهد: في قول يعقوب عليه السّلام: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي (1) أخّره إلى وقت السّحر، فإنّ الدّعاء فيه مستجاب. و قال: إنّ اللّه لا يشغله صوت عن صوت، لكنّ الدّعاء في السّحر دعوة في الخلوة، و هي أبعد من الرّياء و السّمعة فكانت أقرب إلى الإجابة(2).

سورة آل عمران (3): آیة 18

اشارة

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

سورة آل عمران (3): آیة 18

ثمّ اعلم أنّه تعالى بعد جعل ذاته المقدّسة أوّلا في المحاجّة مع النّصارى، مدّعيا لتوحيده الذّاتي و الصّفاتي - و إقامة البراهين العقليّة القطعيّة عليه، و الحكم بكفر جاحديه، و تهديدهم بالعقوبة الدّنيويّة و الأخرويّة، و تنبيه النّاس بعلّة اختيار الكفر، من تزيين مشتهيات الدّنيا في نظرهم، و أمر نبيّه ببشارة الموحّدين بالثّواب العظيم، و مدحهم بالصّفات الحميدة الفائقة جعل ثانيا نبيّه مدّعيا.

ثمّ أقام الشّهود الذين(3) لا يمكن ردّهم، على صدق دعواه، تاييدا للبرهان بها بقوله: شَهِدَ اللّهُ

عن علمه الحضوري، و أخبر في كتابه التّكويني بدلالة كلماته التّامة - التي هي صنائعه البديعة، و اتّساق نظامها الأتمّ - على أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا خالق و لا معبود سواه، هُوَ شهدت اَلْمَلائِكَةُ

بلسان الحال و المقال، و بدلالة الأفعال، لمعاينتهم عظمته و قدرته، هُوَ شهد أُولُوا الْعِلْمِ من عباده، عن العلم البرهاني و العياني، بما شهد به سبحانه.

روي عن الباقر عليه السّلام: «أنّ أولي العلم هم الأنبياء و الأوصياء »(4).

ثمّ لمّا كان المعتبر عدالة الشّاهد، و عدم جوره في الشّهادة، أثنى سبحانه على نفسه في المقام بكونه قائِماً بِالْقِسْطِ و عاملا بالعدل في جميع الامور، من قسمة الأرزاق، و الإثابة، و التّعذيب.

و من عدله أمر عباده بالعدل و التّسوية، و عدم رضاه بالظّلم و الجور. و فيه بيان كماله تعالى في أفعاله، إثر بيان كماله في ذاته.

و في الرّواية السّابقة، عن الباقر عليه السّلام بعد تفسير أُولُوا الْعِلْمِ بالأنبياء و الأوصياء، قال: «و هم قيام

ص: 593


1- يوسف: 98/12.
2- تفسير روح البيان 11:2.
3- في النسخة: التي.
4- تفسير العياشي 658/296:1، تفسير الصافي 299:1.

بالقسط »(1).

و الظّاهر أنّ المراد أنّ الأنبياء و الأوصياء، لمّا كانوا مظاهر صفاته تعالى، كان ظهور صفة قيامه تعالى بالقسط في قيامهم به، فكان قيامه تعالى بالقسط عين قيامهم به، و يمكن كون (قائما) حالا لاولي العلم و أفراده بلحاظ كلّ واحد منهم.

ثمّ كرّر سبحانه ذكر التّوحيد المشهود به بقوله: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ تأكيدا له، و اهتماما به، و تقريرا لقيامه بالقسط ، حيث إنّ الالوهيّة لا تجامع الظّلم و الجور، و توطئة للشّهادة على كمال قدرته و علمه بقوله: اَلْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حتّى يعلم أنّه المنعوت بهما دون غيره.

و تقدّم صفة العزيز لتقدّم العلم بقدرته على العلم بحكمته. و فيه تهديد بالانتقام ممّن لا يوحّده بما لا يقدر عليه غيره، و بالحكم بما يريد في خلقه.

قيل: نزلت الآية حين جاء رجلان من أحبار الشّام، فقالا للنبي صلّى اللّه عليه و آله: أنت محمّد؟ قال: «نعم» فقالا:

أنت أحمد؟ قال: «أنا محمّد و أحمد» قالا: أخبرنا عن أعظم الشّهادة في كتاب اللّه، فأخبرهما(2).

عن ابن عبّاس: خلق اللّه تعالى الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، و خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد لنفسه قبل خلق الخلق، حين كان و لم تكن سماء و لا أرض، و لا برّ و لا بحر، فقال: شَهِدَ اللّهُ ... الآية(3).

روي عن سعيد بن جبير أنّه كان حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما، فلمّا نزلت هذه الآية الكريمة خرّوا سجّدا(2).

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يجاء بصاحبها(3) يوم القيامة، فيقول اللّه عزّ و جلّ : إنّ لعبدي هذا عندي عهدا، و أنا أحقّ من وفى بالعهد، ادخلوا عبدي الجنّة »(4).

سورة آل عمران (3): آیة 19

اشارة

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)

سورة آل عمران (3): آیة 19

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيد ذاته بالبراهين العقليّة و شهادة الشّهود العدول، أشار إلى النّتيجة

ص: 594


1- و ايضا. (2و3) تفسير روح البيان 12:2.
2- تفسير أبي السعود 17:2.
3- أي صاحب الشهادة.
4- تفسير أبي السعود 17:2.

بقوله: إِنَّ الدِّينَ الحقّ المرضيّ عِنْدَ اللّهِ من لدن آدم إلى قيام السّاعة هو اَلْإِسْلامُ و الانقياد له، و الالتزام بالتّوحيد الخالص عن شوب الشّرك، المستلزم للاعتقاد بالمعاد و الإيمان بالرّسل و الشّرائع، بالضّرورة من العقل و دلالة الأدلّة القاطعة، بحيث لا مجال للشّكّ فيه.

ففيه دلالة على أنّ أصل الدّين في جميع الأزمنة واحد، و إنّما الفرق في بعض الفروع و الأحكام.

و مع ذلك اختلف النّاس فيه، و أنكروا التّوحيد و تديّنوا بالشّرك وَ مَا اخْتَلَفَ فيه اليهود و النّصارى اَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من التّوراة و الإنجيل، و ما اختاروا الشّرك بقولهم: عزير ابن اللّه، أو المسيح ابن اللّه، أو ثالث ثلاثة، في حال من الأحوال، أو وقت من الأوقات إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ

بالتّوحيد، و صحّة دين الإسلام، و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و لم يكن اختلافهم لخفاء الحقّ و الشّبهة فيه، بل كان بَغْياً و حسدا كائنا فيما بَيْنَهُمْ حيث إنّ الاختلاف بعد وضوح الحقّ غايته، لا يمكن تحقّقه الاّ لأجل الأخلاق الذّميمة، و حبّ الدّنيا و الرّئاسة.

و فيه غاية التّشنيع، و دلالة على ترامي حالهم في الكفر و الضّلالة.

ثمّ هدّد الجاحدين بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللّهِ الدّالاّت على الحقّ ، و يعرض عن الحجج السّاطعة على الصّواب فَإِنَّ اللّهَ يحاسبه و يجازيه بأشدّ العقاب من غير بط ء و مهلة، حيث إنّه سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب جميع الخلائق في أقلّ من لمحة.

سورة آل عمران (3): آیة 20

اشارة

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

سورة آل عمران (3): آیة 20

ثمّ أنّه تعالى بعد ظهور لجاج الكفّار و عنادهم، بحيث لا تنفعهم الحجج، قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: فَإِنْ حَاجُّوكَ في التّوحيد، و جادلوك في الحقّ ، و عارضوك في النّبوّة فَقُلْ في جوابهم، معرضا عنهم:

إنّي أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ و أخلصت قلبي و نفسي و شراشر(1) وجودي لِلّهِ وحده لا اشرك في انقيادي [إليه] غيره. وَ أسلم له أيضا مَنِ اتَّبَعَنِ و آمن بي و اهتدى بهداي وَ قُلْ بعد ذلك لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النّصارى وَ الْأُمِّيِّينَ الّذين لا علم لهم و لا كتاب، من مشركي

ص: 595


1- الشّراشر: معظم الشيء و جملته.

العرب، تقريرا: أَ أَسْلَمْتُمْ بعد وضوح الحقّ ، و تمام الحجّة، و ظهور المعجزات الباهرة، كما أسلم أتباعي، أم أقمتم بعد لجاجا و عنادا على كفركم ؟ و فيه تعييرهم على اللّجاج بقلّة الإنصاف، و توبيخهم بالبلادة و الجهل، و تهييجهم على الانقياد و التبعية.

فَإِنْ أَسْلَمُوا للّه، و التزموا بالتّوحيد، و اعترفوا بنبوّتك و صحّة دينك فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى الحقّ ، و سلكوا الصّراط المستقيم، و فازوا بالنّجاة من العذاب، و أصابوا جميع الخيرات وَ إِنْ تَوَلَّوْا عن قبول قولك، و أعرضوا عن الإسلام و الإيمان بك، فليس لك مسئولية، و ما عليك من تبعة فَإِنَّما

الواجب عَلَيْكَ الْبَلاغُ و الدّعوة، و إقامة الحجّة، و إيضاح الحقّ ، و قد أدّيت ما عليك بما لا مزيد عليه، و بالغت في تبليغك بلا توان و لا فتور وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ و مطّلع على فطرتهم، و سجيّتهم، و سوء أخلاقهم، و قبائح أعمالهم. و فيه غاية التّهديد.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قرأ هذه الآية على أهل الكتاب، قالوا: أسلمنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله لليهود:

«أ تشهدون أنّ عيسى كلمة اللّه و عبده و رسوله ؟» فقالوا: معاذ اللّه.

و قال صلّى اللّه عليه و آله للنّصارى: «أ تشهدون أنّ عيسى عبد اللّه و رسوله ؟» فقالوا: معاذ اللّه أن يكون عيسى عبدا، و ذلك قوله: وَ إِنْ تَوَلَّوْا (1).

سورة آل عمران (3): الآیات 21 الی 22

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)

سورة آل عمران (3): آیة 21

ثمّ اعلم أنّه تعالى بعد تهديد المصرّين على الكفر، المعرضين عن الإسلام - بنحو الإجمال - هدّدهم بعد بيان خبث ذاتهم، و شناعة أعمالهم تفصيلا بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ توحيد اَللّهِ و يجحدون الحقّ و دلائله، و ينكرون نبوّة نبيّه و معجزاته وَ يَقْتُلُونَ لعنادهم الحقّ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ يتصوّر، و من غير استحقاق في نظرهم، كما قتلهم أسلافهم.

و روي أنّ نسبة القتل إلى الّذين في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باعتبار رضاهم بفعل أوائلهم.

وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ و يدعون إلى الحقّ و العدل مِنَ النّاسِ .

ص: 596


1- تفسير أبي السعود 19:2، تفسير روح البيان 14:2.

عن أبي عبيدة [بن] الجرّاح: قال: قلت يا رسول اللّه، أيّ النّاس أشدّ عذابا يوم القيامة ؟ قال: «رجل قتل نبيّا أو رجلا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر» ثمّ قرأها، ثمّ قال: «يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيّا من أوّل النّهار، في ساعة واحدة، فقام مائة رجل و اثني عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، و نهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا من آخر النّهار في ذلك اليوم، و هو الذي ذكره اللّه »(1).

قيل: إنّ تكرير الفعل للإشعار بالتّفاوت بين القتلين من الفظاعة، أو باختلافهما في الوقت.

ثمّ لمّا كان اشتياق هؤلاء إلى الفحشاء و المنكر بمنزلة اشتياقهم إلى العذاب، عبّر عن إنذارهم بالعذاب بالتّبشير بقوله: فَبَشِّرْهُمْ يا نبيّ الرّحمة بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الآخرة.

سورة آل عمران (3): آیة 22

أُولئِكَ البعيدون عن رحمة اللّه، المبتلون بأسوإ الأحوال، هم اَلَّذِينَ حَبِطَتْ و بطلت أَعْمالُهُمْ الخيريّة و أفعالهم الحسنة في الدّارين، فلا يترتّب عليها الأثر المرغوب منها، من المدح و الثّناء و العزّ و الرّفاه و البركة و السّلامة فِي الدُّنْيا - بل يذمّون عليها و يلعنون بها و يقتلون و يغار عليهم(2) و يسبون و يسترقّون - وَ لا في اَلْآخِرَةِ من الخلاص من النّار، و الفوز بالجنّة، بل يحرمون منها، و يساقون إلى جهنّم و أشدّ العذاب وَ ما لَهُمْ حينئذ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم على اللّه، أو يشفعون لهم عنده، أو يدفعون عنهم عذابه.

سورة آل عمران (3): آیة 23

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

سورة آل عمران (3): آیة 23

ثمّ أنّه تعالى - لتوضيح غاية خبث ذاتهم، و شدّة لجاجهم، و دفع العجب من نهاية تمرّدهم عن الإيمان بخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و بكتابه المشتمل على الإعجاز - ذكر تمرّد علمائهم عن أحكام التّوراة التي كانوا معترفين بكونها الحقّ المنزل من اللّه؛ بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد إِلَى ما يعجبك من صنيع أحبار اليهود اَلَّذِينَ أُوتُوا من جانب اللّه نَصِيباً وافرا، و حظّا متكاثرا مِنَ العلوم التي في اَلْكِتابِ الذي علموا أنّه حقّ منزل من اللّه تعالى، و هو التّوراة، و اعترفوا بصحّة جميع ما فيه. و قد أخبر اللّه فيه ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و نعوته و حقّانيّة دينه.

ص: 597


1- تفسير الرازي 214:7، و فيه: اليوم فهم الّذين ذكرهم اللّه تعالى.
2- في النسخة: و يغارون.

ثمّ كأنّه قيل: ما ذا يصنعون من العجائب حين ينظر إليهم ؟ فأجاب سبحانه: يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللّهِ الذي اوتوا نصيبا منه، و آمنوا به لِيَحْكُمَ ذلك الكتاب بأوضح بيان (فيما) وقع الاختلاف فيه بَيْنَهُمْ و بين النبيّ و المسلمين.

ثُمَّ يقع منهم ما هو في غاية المباينة من إيمانهم بالكتاب، و هو أنّه يَتَوَلّى عن تلك الدّعوة و لا يجيبها فَرِيقٌ مِنْهُمْ بعد علمهم بوجوب الرّجوع إليه، و الالتزام بما فيه وَ هُمْ في هذا الحال مُعْرِضُونَ عن ذلك الكتاب و أحكامه بقلوبهم.

و قيل: إنّ المراد: أنّ ديدنهم الإعراض عن الحقّ ، و الإصرار على الباطل.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل مدارس اليهود، فدعاهم إلى الإيمان، فقال له رئيسهم نعيم بن عمرو:

و على أيّ دين أنت ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «على ملّة إبراهيم» قال: إنّ إبراهيم كان يهوديّا، قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ بيننا و بينكم التّوراة فهاتوها»، فأبوا، فنزلت (1)[الآية].

و عن الكلبي: أنّها نزلت في الرّجم: فجر رجل و امرأة من أهل خيبر، و كانا في شرف منهم، و كان في كتابهم الرّجم، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجاء رخصة عنده، فحكم عليهم بالرّجم، فقالوا: جرت علينا، ليس عليهما الرّجم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بيني و بينكم التّوراة» قالوا: قد أنصفتنا، قال: «فمن أعلمكم بالتوراة ؟» قالوا: ابن صوريا، فأرسلوا إليه، فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بشيء من التّوراة فيه الرّجم دلّه على ذلك ابن سلاّم، فقال له: «اقرأ» فلمّا أتى على آية الرّجم وضع كفّه عليها، و قام ابن سلاّم فرفع إصبعه عنها، ثمّ قرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و على اليهود: إنّ المحصن و المحصنة إذا زنيا، و قامت عليهما البيّنة رجما، و إن كانت المرأة حبلى تربص حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك، فرجعوا كفّارا، فأنزل اللّه هذه الآية(2).

سورة آل عمران (3): آیة 24

اشارة

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)

سورة آل عمران (3): آیة 24

ثمّ بيّن اللّه سبحانه علّة تولّيهم عن الكتاب، و جرأتهم على اللّه بقوله: ذلِكَ التّولّي عن إجابة الدّعوة، و الإعراض بالقلب عن الكتاب، كان بِأَنَّهُمْ قالُوا اختلافا من عند أنفسهم، و افتراء على اللّه

ص: 598


1- تفسير روح البيان 15:2.
2- تفسير روح البيان 15:2.

لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ في الآخرة بسبب الكفر و المعصية أبدا إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ قلائل. روي أنّهم كانوا يقولون: مدّة عذابنا سبعة أيّام، و قيل: هي أربعون يوما، مقدار عبادة بني إسرائيل العجل(1).

فهوّن عليهم الذّنوب و الخطوب رسوخ اعتقادهم على ذلك وَ غَرَّهُمْ و خدعهم فِي مخالفة دِينِهِمْ و أحكامهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ على اللّه من قولهم: أنّه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذّب أولاده إلاّ تحلّة قسم(2).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: زعمت اليهود أنّهم وجدوا في التّوراة: أنّ ما بين طرفي جهنّم أربعون سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزّقّوم، و إنّما نعذّب حتّى نأتي إلى شجرة الزّقّوم، فتذهب جهنّم و تهلك، و أصل الجحيم سقر، و فيها شجرة الزّقّوم، فإذا اقتحموا من باب جهنّم و تبادروا في العذاب حتّى انتهوا إلى شجرة الزّقّوم و ملئوا البطون قال لهم خازن سقر: زعمتم أنّ النّار لن تمسّكم إلاّ أيّاما معدودات، قد خلت أربعون سنة و أنتم في الأبد(3).

أقول: فيه دلالة على أن المراد من الأيّام المعدودات أربعون سنة و عبّر عنها بها تقليلا لها.

سورة آل عمران (3): آیة 25

اشارة

فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

سورة آل عمران (3): آیة 25

ثمّ أبطل اللّه سبحانه ما غرّهم باستعظام عذابهم، و تهويل ما يحيق بهم بقوله: فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أخرجناهم من قبورهم و جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ عظيم شديد الأهوال يكون وقوعه ممّا لا رَيْبَ فِيهِ لعاقل.

روي أنّ أوّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفر راية اليهود، فيفضحهم اللّه عزّ و جلّ على رءوس الأشهاد، ثمّ يأمر بهم إلى النّار(4).

وَ في ذلك اليوم وُفِّيَتْ و اعطيت من غير نقص كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس جزاء ما كَسَبَتْ و حصّلت من عمل خير أو شرّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بتنقيص الثواب، أو زيادة العقاب. و فيه دلالة على أنّ الثّواب و العقاب يكونان بالاستحقاق.

ص: 599


1- تفسير الرازي 218:7.
2- تفسير روح البيان 16:2.
3- نفس المصدر.
4- تفسير روح البيان 16:2.

و أستدلّ بعض العامّة به على أنّ العبادة لا تحبط (1).و فيه: أنّ إيفاء جزاء المعصية يكون بحبط ثواب العبادة، كما أنّ إيفاء ثواب العبادة يكون بالعفو عن عقوبة المعصية.

سورة آل عمران (3): الآیات 26 الی 27

اشارة

قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

سورة آل عمران (3): آیة 26

ثمّ - لمّا كان من أباطيل اليهود قولهم: بأنّه لا بدّ أن تكون النّبوّة و الملك فيهم، و أنّهم أحقّ بهما لكونهم من بيوت الأنبياء، و من أهل العلم و الكتاب، و لا يجوز أن يكونا في العرب لكونهم أمّيّين - أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يثنيه بالقدرة الكاملة و الفضل الشّامل الدّالّين على بطلان قولهم، بقوله: قُلِ يا محمّد اَللّهُمَّ يا مالِكَ الْمُلْكِ ملكا حقيقيا إشراقيّا و يا سلطان عالم الوجود، لا شريك لك فيه و لا معادل، تتصرّف فيه كيف تشاء، إيجادا و إعداما و إحياء و إماتة و فضلا و منعا و تعذيبا و إثابة، و تدبّره كيف تريد؛ و من تدبيرك و سلطانك أنّك تُؤْتِي و تهب اَلْمُلْكِ و السّلطنة أو النّبوّة مَنْ تَشاءُ

أن تملّكه و تشرّفه بفضلك وَ تَنْزِعُ و تسلب اَلْمُلْكِ و السّلطنة الدّنيويّة و الدّينيّة، و هي النبوة مِمَّنْ تَشاءُ أن تنزعها عنه، و تنقلها إلى قوم آخرين. و فيه إشعار بأنّ السّلطنة الحقيقيّة مختصّة به تعالى، و سلطنة غيره بطريق المجاز.

وَ تُعِزُّ في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما مَنْ تَشاءُ أن تعزّه في الدّنيا بمنصب النّبوّة، و المطاعية المطلقة، و الفضائل الكريمة، و الهداية و التّوفيق، و النصر و الغلبة، و في الآخرة بالجنّة العالية، و المقامات الرّفيعة، و النّعم الدّائمة وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ذلّة في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، بالخذلان و البعد عن الرّحمة، و الكفر و الضّلال و الأخلاق الرّذيلة، و الفقر و المسكنة و اللّعنة الدّائمة بِيَدِكَ و قدرتك خاصّة دون غيرك اَلْخَيْرُ كلّه، قبضا و بسطا، على حسب مشيّئتك و حكمتك، و على ما تقتضيه قابليّة القوابل، و استعداد الممكنات.

و إنّما خصّ الخير بالذّكر - مع أنّ جميع الامور بيده حتّى الشّرّ - لكون الكلام في ما يسوقه سبحانه

ص: 600


1- تفسير الرازي 219:7-220.

إلى المؤمنين، من النّبوّة و الهداية و الكتاب، أو لأنّ كلّ ما هو من قبل اللّه تعالى، من النّافع و الضّار، عين الخير و الصّلاح، و موافق للحكمة و النّظام الأتمّ ، أو لأنّ الشّرور من قبل الماهيّات و الخيرات، من قبل الوجود المفاض منه تعالى، أو لمراعاة الأدب، لوضوح منافاته لخطابه: بأنّ الشّرّ منك.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خطّ الخندق عام الأحزاب، و قطع لكلّ عشيرة(1) من أهل المدينة أربعين ذراعا، و جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، فأخذوا يحفرونه، خرج من بطن الخندق صخرة كالفيل العظيم، لم تعمل فيها المعاول، فوجّهوا سلمان رضى اللّه عنه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخبره.

فجاء صلّى اللّه عليه و آله و أخذ المعول من سلمان، فضربها ضربة صدعتها مقدار ثلثها، و برق منها برقا أضاء ما بين لابتيها (2) ،كأنّه مصباح في(3) بيت مظلم، فكبّر و كبّر معه المسلمون، و قال: «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنّها أنياب الكلاب»، ثمّ ضرب الثّانية، فقال: «أضاءت [لي] منها قصور الحمر في أرض الرّوم» ثمّ ضرب الثّالثة، فقال: «أضاءت لي قصور صنعاء، و أخبرني جبرئيل عليه السّلام أنّ امّتي ظاهرة على الامم كلّها؛ فابشروا».

فقال المنافقون: أ لا تعجبون ؟ يمنّيكم و يعدكم الباطل، و يخبركم أنّه يبصر(4) قصور الحيرة، و مدائن كسرى، و أنّها تفتح لكم، و أنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق (5) ،لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزلت [الآية ](6).

ثمّ قرّر سبحانه سعة قدرته، و أكّدها بقوله: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من إيتاء الملك و نزعه، و الإعزاز و الإذلال، و غيرها من الامور الممكنة قَدِيرٌ لا يتصوّر فيك عجز و لا قصور.

سورة آل عمران (3): آیة 27

تُولِجُ و تدخل اَللَّيْلَ فِي النَّهارِ بتعقيبه إيّاه، أو تنقيص الأوّل و زيادة الثّاني، حتّى يصير النّهار خمس عشر ساعة، و اللّيل تسع ساعات(7) و يمكن أن يكون تأويله، إدخال ظلمة الكفر في نور الفطرة وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بالتّعقيب، أو الزّيادة و النّقصان، بعكس الأوّل. و يمكن أن يكون من بطونه(8)

ص: 601


1- في تفسير روح البيان: عشرة.
2- أي لابتي المدينة، مثنى لابة، و هي الحرّة، أي الأرض ذات الحجارة السّود، و المدينة تقع بين لابتين.
3- زاد في تفسير روح البيان: جوف.
4- زاد في تفسير روح البيان: من يثرب.
5- أي الخوف.
6- تفسير روح البيان 18:2.
7- في النسخة: آيات.
8- أي من بطون تفسير هذه الآية، بمعنى التأويل.

إدخال نور الإيمان أو نور الموجود في ظلمة الماهيّة.

وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ و تخلقه مِنَ الجسم اَلْمَيِّتِ و من مادّة لا حياة لها من تراب، أو نطفة، أو بيضة. أو المراد: تخلق العالم من الجاهل وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ كالنّطفة و التّراب و غيرهما مِنَ المبدأ اَلْحَيَّ كالإنسان و غيره من الحيوانات.

و عن (المعاني): عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المؤمن إذا مات لم يكن ميّتا، و أنّ الميّت هو الكافر»، ثمّ فسّر الآية: بأنّ المؤمن يخرج من الكافر، و الكافر من المؤمن(1).

وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ أن ترزقه بِغَيْرِ حِسابٍ و تعب، أو بغير تقتير.

عن أبي العبّاس المقري، قال: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه: بمعنى التّعب، قال تعالى: وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، و بمعنى العدد، قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (2) ،و بمعنى المطالبة، قال تعالى: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (3).

سورة آل عمران (3): آیة 28

اشارة

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28)

سورة آل عمران (3): آیة 28

ثمّ بعد ما بيّن اللّه سبحانه أنّ الملك و العزّة و الخير و الرّزق كلّه بيد اللّه، نهى المؤمنين عن موالاة الكفّار بطمع الخير و العزّة و المال بقوله: لا يَتَّخِذِ و لا يختار اَلْمُؤْمِنُونَ لقرابة، أو صداقة جاهليّة، أو جوار أو غيرها من الأسباب اَلْكافِرِينَ الّذين هم أعداء اللّه، و أعداء دينهم أَوْلِياءَ

و أحبّاء لأنفسهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الّذين هم أولياء اللّه و أحبّاؤه، و بدلا منهم، مع كونهم للأخوّة الحقيقيّة المعنويّة أحقّاء بالموالاة، و الكفّار أحقّاء بالمعاداة للمباينة الدّينيّة.

فليس للمؤمن أن يؤثر ولاية أعداء اللّه و المباينين له في الدّين على ولاية أحبّائه و اخوّتهم الدّينيّة وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الفعل الشّنيع من اتّخاذ أعداء اللّه أولياء فَلَيْسَ مِنَ ولاية اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ

يصحّ أن يطلق عليه اسم الولاية، و يكون خارجا عنها و منسلخا منها رأسا، لكمال التّنافي بين ولاية

ص: 602


1- معاني الأخبار: 10/290، تفسير الصافي 301:1.
2- الزمر: 10/39.
3- تفسير روح البيان 18:2، و الآية من سورة ص: 39/38.

المتعاديين.

فلا يجوز أن تتولّوا الكفّار ظاهرا و باطنا في حال من الأحوال إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا و تخافوا مِنْهُمْ

و تتحذّروا من شرّهم و ضرّهم تُقاةً باطنيّة و حذرا واقعيّا، فلا بأس بإظهار موالاتهم مع اطمئنان النّفس بعداوتهم و بغضهم، حتّى يزول مقتضى التّقيّة، فيجب عند ذلك معاداتهم ظاهرا و باطنا.

في وجوب التقية

عن (الاحتجاج): عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في حديث: «و آمرك أن تستعمل التّقيّة في دينك، فإنّ اللّه يقول: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الآية - إلى أن قال -: و إيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك، و أن تترك التّقيّة التي أمرتك بها، فإنّك شائط بدمك(1) و دماء إخوانك، معرّض لنعمك و نعمهم للزّوال، تذلّهم في أيدي أعداء دين اللّه، و قد أمرك اللّه بإعزازهم »(2).

و عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا إيمان لمن لا تقيّة له »(3).

و عنه عليه السّلام: «التّقيّة ترس اللّه بينه و بين خلقه »(4).

و في رواية: «التّقيّة ديني و دين آبائي »(5).

ثمّ أردف اللّه سبحانه النّهي بالتّهديد بقوله: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ و يخوّفكم من سطوته، كي لا تعصوه فتستحقّوا عقابه.

ثمّ أكّد التّهديد و التّحذير بقوله: وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ و المنقلب لعامّة الخلق، فلا يخرج أحد عن سلطانه و [من] تحت قدرته. و في تكرير اسم الجلالة إدخال الرّوعة و تربية المهابة.

سورة آل عمران (3): آیة 29

اشارة

قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29)

سورة آل عمران (3): آیة 29

ثمّ لمّا أذن سبحانه و تعالى في التّقيّة، و إظهار الموالاة لهم، و كان مدارها الخوف القلبي - و هو أمر باطنيّ لا يطّلع عليه أحد، و قد يجعل مندوحة للمعاشرة و المودّة في الظّاهر، مع عدم تحقّق خوف منهم في الباطن، بل الموالاة الباطنيّة صارت منشأ للموالاة الظّاهريّة، و لكن عند اعتراض المؤمنين

ص: 603


1- شاط دمه: أي ذهب هدرا.
2- الاحتجاج: 239، تفسير الصافي 302:1.
3- تفسير العياشي 664/297:1، تفسير الصافي 302:1.
4- الكافي 19/175:2، تفسير الصافي 302:1.
5- جامع الأخبار: 657/253.

الصّادقين عليهم، يعتذرون لهم بالخوف - أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإعلام المنافقين المحتالين في موالاتهم بسعة علمه تعالى بالسّرائر كالظّواهر، بقوله: قُلْ يا محمّد: إِنْ تُخْفُوا أيّها المنافقون ما فِي صُدُورِكُمْ و ضمائركم من نيّات السّوء و موالاة الكفّار أَوْ تُبْدُوهُ و تظهروه للنّاس يَعْلَمْهُ اللّهُ و يطّلع عليه.

فإنّه لا سرّ إلاّ و هو عنده تعالى علانيّة، و لا باطن إلاّ و هو عنده ظاهر، و كيف يخفى عليه سرائركم أَوْ هو يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ من الخفايا و الدّقائق، فإنّ وجود جميع ما فيها بإفاضته و تدبيره، فإذا كانت إحاطته بهذه المرتبة من الكمال، يجب على العباد أن يحذروا من مخالفته في الباطن و السّرّ أيضا؛ لأنّه يعلمها و يعاقب عليها وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من العقوبة و غيرها قَدِيرٌ و فيه غاية التّهديد و الوعيد.

سورة آل عمران (3): الآیات 30 الی 31

اشارة

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)

سورة آل عمران (3): آیة 30

ثمّ بيّن اللّه تعالى صفة اليوم الذي يكون مصير الخلق فيه إليه، و يجب على النّاس الحذر منه تعالى فيه، بقوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس المكلّفة ما عَمِلَتْ في الدّنيا مِنْ خَيْرٍ و صالح مُحْضَراً عندها، أحضره اللّه بصورته المثاليّة التي تكون لذلك العمل في عالم المثل و الصّور، لما حقّق في محلّه من أنّ لكلّ شيء في هذا العالم - و لو كان من الأعراض - صورة جوهريّة في عالم الصّور و المثل المعلّقة، كما هو مستفاد من كثير من الأخبار. أو المراد إحضاره بوجوده الكتبي في صحيفة الأعمال، أو بجزائه و آثاره.

وَ كذا تجد ما عَمِلَتْ النّفس مِنْ عمل سُوءٍ و قبيح محضرا عندها بصورته الجوهريّة أو بجزائه، فتضجر و تستوحش منه، بحيث تَوَدُّ قيل: كأنّه يقال: حال النّفس التي عملت الخير معلوم أنها في سرور و أمن، فما حال النّفس الشّرّيرة التي عملت السّوء؟ فقال تعالى: تودّ و تتمنّى تلك النّفس، حين ترى السّوء لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً و بونا بَعِيداً من سوء المنظر و وخامة

ص: 604

الآثار.

و قيل: معنى الآية: تودّ و تتمنّى كلّ نفس، يوم تجد صحائف أعمالها، أو جزاء أعمالها، من الخير و الشّرّ حاضرة، لو أنّ بينها و بين ذلك اليوم و هو له أمدا بعيدا(1).

و قيل: المعنى: اذكروا يوم تجد كلّ نفس و (تودّ) حال من الضّمير في (عملت) أو خبر ل (ما عملت من سوء).

ثمّ بالغ سبحانه في التّحذير و أكّده بتكرار قوله: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ فاحذروا سخطه و بأسه.

ثمّ لتربيته الخوف و الرّجاء في القلوب أردف الوعيد بالوعد، و أعلن برأفته، بقوله: وَ اللّهُ رَؤُفٌ

سريع الرّضا، و كثير الرّحمة بِالْعِبادِ المؤمنين.

و يحتمل كون التّذييل به، لبيان علّة التّحذير، و هي الرأفة العظيمة منه بهم، حيث يكون تحذيره كتحذير الوالد الشّفيق ولده عمّا يوبقه و يضرّه.

في أن حبّ اللّه مستلزم لحبّ محبوباته

سورة آل عمران (3): آیة 31

ثمّ لمّا قالت اليهود و النّصارى: نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه، أمر اللّه رسوله بردّهم بقوله:

قُلْ لهم: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ كما تقولون، فلازم حبّه طاعته و الانقياد له، و طلب القرب منه بالقيام بمرضاته، حيث إنّ الحبّ هو ميل النّفس إلى شيء، لإحرازها كمالا و حسنا فيه، بحيث يحملها إلى ما يقرّبها إليه.

فإن علمتم أنّ ذاته المقدّسة مستجمعة لجميع الكمالات، بل لا كمال لأحد إلاّ هو منه و بإفاضته، فعليكم أيّها المدّعون لمحبّته أن تطلبوا رضاه و قربه بطاعته.

ثمّ لمّا تبيّن لكم أنّي رسوله إليكم، و أنّه ما من شيء يقرّبكم إليه إلاّ [و] أنا آمركم به، و ما من شيء يبعدكم عنه إلاّ و أنا ناهيكم عنه، إذن فَاتَّبِعُونِي في ما أدعوكم إليه، و آمركم به من الإقرار برسالتي، و العمل بأحكامي، فإذا فعلتم ذلك يُحْبِبْكُمُ اللّهُ و يرضى عنكم، و يقرّبكم إليه.

و هذا أجزل الاجور و أعظم المثوبات، لوضوح أنّ أقصى آمال المحبّ كونه محبوبا عند حبيبه، و لا يتحقّق إلاّ بإتيان محبوباته، و حبّ أحبّائه.

و من الواضح أنّ أحبّ النّاس إلى اللّه رسوله و خلفاؤه، و لذا قال الصادق عليه السّلام: «هل الدّين إلاّ الحبّ »(2) ،و من أحبّ الرّسول و أوليائه و خلفائه، أطاعهم و أوفق رضاهم.

ص: 605


1- تفسير روح البيان 21:2.
2- الخصال: 74/21، تفسير الصافي 303:1.

و في (الكافي): عنه عليه السّلام، في حديث: «من سرّه أن يعلم أنّ اللّه يحبّه، فليعمل بطاعة اللّه و ليتّبعنا، أ لم تسمع قول اللّه عزّ و جلّ لنبيّه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ

و اللّه لا يطيع اللّه عبد [أبدا] إلاّ أدخل اللّه عليه في طاعته اتّباعنا، و لا و اللّه لا يتّبعنا عبد أبدا إلاّ أحبّه(1)

اللّه، و لا و اللّه لا يدّع أحد اتّباعنا أبدا إلاّ أبغضن عدوّنا (2) ،و لا و اللّه لا يبغضنا أحد أبدا إلاّ عصى اللّه، و من مات عاصيا للّه أخزاه اللّه، و أكبّه على وجهه في النّار »(3).

ثمّ أشار سبحانه إلى أدنى ثمرات حبّه له، بقوله: وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ و يستر بعفوه سيّئاتكم وَ اللّهُ غَفُورٌ للمعاصي، و ستّار للقبائح رَحِيمٌ لمن تحبّب إليه بطاعته و اتّباع رسله و خلفائه.

قيل: نزلت حين دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كعب بن أشرف و من تابعه إلى الإيمان، فقالوا: نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه.

و قيل: نزلت في وفد نجران، لمّا قالوا: إنّا نعبد المسيح حبّا للّه(4).

و قيل: نزلت في أقوام زعموا على عهده صلّى اللّه عليه و آله أنّهم يحبّون اللّه، فامروا أن يجعلوا قولهم مطابقا لعملهم(5).

و عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وقف على قريش و هم في المسجد الحرام يعبدون الأصنام، و قد علّقوا عليها بيض النّعام، و جعلوا في آذانها الشّنوف (6) ،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا معشر قريش، قد خالفتم ملّة إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام» فقالت قريش: إنّما نعبدها حبّا للّه ليقرّبونا إلى اللّه زلفى، فقال تعالى لنبيّه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ و تعبدون الأصنام لتقرّبكم إلى اللّه فَاتَّبِعُونِي أي اتّبعوا شريعتي و سنّتي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ فأنا رسوله إليكم، و حجّته عليكم(7).

سورة آل عمران (3): آیة 32

اشارة

قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

سورة آل عمران (3): آیة 32 ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت آية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ ، قال

عبد اللّه بن أبي: إنّ محمّدا يجعل

ص: 606


1- في النسخة: لمحبّة.
2- في الكافي و الصافي: لا يدع أحد اتباعنا أبدا إلاّ أبغضنا.
3- الكافي 1/14:8، تفسير الصافي 304:1.
4- تفسير أبي السعود 25:2.
5- تفسير أبي السعود 25:2.
6- الشنوف: جمع شنف، و هو القرط من الدّر أو الذهب و الفضّة و كل ما يعلّق في شحمة الاذن أو فوقها من الزينة.
7- تفسير أبي السعود 25:2.

طاعته كطاعة اللّه، و يأمرنا أن نحبّه كما أحبّت النّصارى عيسى، فنزلت (1)قُلْ يا محمّد، ردّا لشبهة المنافقين: أَطِيعُوا اللّهَ لكونه بالذّات مستحقا للطّاعة، وَ أطيعوا اَلرَّسُولَ لكونه رسولا و مبلّغا عن اللّه، لا لأهليّة نفسه، كما تقول النّصارى في عيسى فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن طاعة اللّه في أحكامه التي جاء بها رسوله، فقد كفروا بنعمه، و استوجبوا سخطه فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ

به و بنعمه، بل يبغضهم و يعذّبهم بأشدّ العذاب.

ففيه دلالة على أنّ وجوب طاعة النبيّ ، لكونها من شئون وجوب طاعة اللّه، فمن ادّعى محبّة اللّه، و خالف أوامر نبيّه و نواهيه، فهو كاذب في دعواه.

سورة آل عمران (3): الآیات 33 الی 34

اشارة

إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

سورة آل عمران (3): آیة 33

ثمّ أنّه لمّا بيّن سبحانه أنّ محبّته لا تنفكّ عن طاعة الرّسل، بيّن علوّ درجاتهم، و شرف مناصبهم، تحريصا عليها؛ بقوله: إِنَّ اللّهَ اصْطَفى و اختار من جميع خلقه آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ

و أشراف ولده، و هم إسماعيل و إسحاق و الأنبياء من ذرّيّتهما، و لا شبهة أنّ أشرفهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيّته الطّيّبة.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه تلا هذه الآية، فقال: «نحن منهم، و نحن بقيّة تلك العترة »(2).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال محمّد بن أشعث بن قيس الكندي عليه اللّعنة للحسين عليه السّلام: يا حسين بن فاطمة أيّة حرمة لك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليست لغيرك ؟ فتلا الحسين عليه السّلام هذه الآية، ثمّ قال: و اللّه إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لمن آل إبراهيم، و إنّ العترة الهادية لمن آل محمّد عليهم السّلام »(3).

و في (العيون)، في حديث: فقال المأمون: هل فضّل اللّه العترة على سائر النّاس، فقال أبو الحسن عليه السّلام: «إن اللّه تعالى أبان فضل العترة على سائر النّاس في محكم كتابه».

فقال المأمون: أين ذلك من كتاب اللّه ؟ فقال له الرّضا عليه السّلام: «في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ

ص: 607


1- تفسير الرازي 19:8.
2- تفسير العياشي 669/299:1، تفسير الصافي 305:1.
3- أمالي الصدوق: 239/221.

وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ الآية »(1).و قد فسر آل إبراهيم بآل محمد صلى الله عليه و آله.

وَ آلَ عِمْرانَ قيل: هم موسى، و هارون؛ ابنا عمران بن يصهر بن فاهث(2) بن لاوي بن يعقوب، و أولادهما النبيّون.

و قيل: عيسى و أمه مريم بنت عمران بن ماثان، و إنّ ماثان كان من نسل سليمان بن داود، و كان ينتهي بسبعة و عشرين أبا إلى يهودا بن يعقوب. و بين العمرانين ألف و ثمانمائة سنة(3).

و في رواية: هو آل إبراهيم و آل محمّد على العالمين، فوضعوا اسما مكان اسم(4).

و عن (المجمع): و آل محمّد على العالمين(5).

و عن القمّي رحمه اللّه، قال: قال العالم عليه السّلام: «نزل آل إبراهيم (6) ،و آل عمران، و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله على العالمين »(7).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «آل محمّد كانت فمحوها »(8).

و في تخصيص آل عمران أو آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالذّكر مع دخولهم في آل إبراهيم، إظهار لكمال الاعتناء بشأنهم و شرفهم.

فهؤلاء الّذين أنعم اللّه عليهم بالنّفس القدسيّة، و الملكات الجميلة الرّوحانيّة، و الفضائل الجسمانيّة، فضّلهم اللّه بمنصب الرّسالة عَلَى الْعالَمِينَ و جميع الخلق أجمعين من أوّل الدّنيا إلى يوم الدّين من الملائكة و الجنّ و الانس و سائر موجودات عالم الملك و الملكوت، حال كون جميع المصطفين ذُرِّيَّةً واحدة مسلسلة منشعبة بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ .

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الّذين اصطفاهم اللّه؛ بعضهم من نسل بعض »(9).

و عن (العياشي): عنه عليه السّلام، قيل: ما الحجّة في كتاب اللّه أنّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله هم أهل بيته ؟ قال: «قول اللّه عزّ و جلّ : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ و آل محمّد على العالمين) هكذا

ص: 608


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/230:1، تفسير الصافي 305:1.
2- في تفسير البيضاوي: قاهث.
3- تفسير البيضاوي 156:1.
4- تفسير العياشي 670/299:1، تفسير الصافي 305:1.
5- مجمع البيان 735:2، تفسير الصافي 305:1.
6- (آل إبراهيم) ليس في المصدر.
7- تفسير القمي 100:1، تفسير الصافي 305:1.
8- تفسير العياشي 674/301:1، تفسير الصافي 305:1.
9- مجمع البيان 735:2، تفسير الصافي 306:1.

نزلت (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) و لا تكون الذّرّيّة من القوم إلاّ نسلهم من أصلابهم »(1).

و الظاهر أنّ السائل احتمل أن يكون المراد بالآل جميع المؤمنين، كما عليه بعض المفسرين من العامّة، مستشهدين له بقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (2).

وَ اللّهُ سَمِيعٌ لأقوال النّاس عَلِيمٌ بضمائرهم و أخلاقهم، و ملكاتهم و أعمالهم، فيختار منهم من هو أحسن قولا، و أصلح عملا، و أزكى قلبا، و أخلص نيّة، و أقوى بصيرة، كما قال تعالى: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (3).

في أن الأنبياء مخالفون لغيرهم في القوى الروحانية و الجسمانية

نقل الفخر الرّازي في تفسيره عن الحليمي كلاما يعجبني أن أذكره بطوله، لاشتماله على ذكر معجزات عديدة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و فضيلة فائقة لأمير المؤمنين عليه السّلام.

قال الحليمي: إنّ الأنبياء عليهم السّلام لا بدّ أنّ يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانيّة، و القوى الرّوحانيّة. أمّا القوى الجسمانيّة، فهي إمّا مدركة و إمّا محرّكة. أمّا المدركة فهي إمّا الحواسّ الظاهريّة، و إمّا الحواسّ الباطنيّة. أمّا الحواسّ الظاهريّة؛ فهي خمسة:

أحدها: القوّة الباصرة، و لقد كان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مخصوصا بكمال هذه الصّفة، و يدلّ عليه وجهان؛ الأوّل: قوله صلّى اللّه عليه و آله: «زويت(4) لي الأرض فاريت مشارقها و مغاربها»، و الثّاني: قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أقيموا صفوفكم و تراصّوا، فإنّي أراكم من وراء ظهري». و نظير هذه [القوة] ما حصل لإبراهيم، و هو قوله تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (5) ذكروا في تفسيره: أنّه تعالى قوّى بصره حتّى شاهد جميع الملكوت من الأعلى و الأسفل.

قال الحليمي: إنّ (6) البصراء يتفاوتون، فروي أنّ زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيّام، فلا يبعد أن يكون بصر النبيّ أقوى من بصرها.

و ثانيها: القوّة السامعة، و كان صلّى اللّه عليه و آله أقوى النّاس في هذه القوّة، و يدل عليه وجهان؛ أحدهما:

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أطّت(7) السّماء و حقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلاّ و فيه ملك ساجد للّه تعالى» فسمع أطيط السّماء و الثاني: أنّه سمع دويّا، و ذكر أنّه هوي صخرة قذفت في جهنّم، فلم تبلغ قعرها إلى

ص: 609


1- تفسير العياشي 675/301:1، تفسير الصافي 306:1.
2- تفسير الرازي 22:8، و الآية من سورة المؤمن: 46/40.
3- الأنعام: 124/6.
4- زوى الشيء: قبضه و جمعه.
5- الأنعام: 75/6.
6- في المصدر: و هذا غير مستبعد لأنّ .
7- أطّ الشيء: صوّت.

الآن.

قال الحليمي: و لا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فانّهم زعموا أن فيثاغورس راض نفسه حتّى سمع حفيف الملك (1).و نظير هذه القوّة لسليمان عليه السّلام في قصّة النّمل: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ (2) فاللّه تعالى أسمع سليمان كلام النّملة و واقفه على معناه. و هذا داخل أيضا في باب تقوية الفهم، و كان حاصلا لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حين تكلّم مع الذّئب و مع البعير.

و ثالثها: تقوية قوّة الشّمّ ، كما في حقّ يعقوب عليه السّلام، فإنّ يوسف لمّا أمر بحمل قميصه إليه و إلقائه على وجهه، فلمّا فصلت العير قال يعقوب: إنّي أجد ريح يوسف، لو لا أن تفنّدون. فأحسّ بها من مسيرة أيّام.

و رابعها: تقوية قوّة الذّوق، كما في حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قال: «إنّ هذا الذراع يخبرني أنّه مسموم».

و خامسها: تقوية القوة اللاّمسة، كما في حقّ الخليل، حيث جعل اللّه تعالى النّار بردا و سلاما عليه، و كيف يستبعد هذا، و يشاهد مثله في السّمندل(3) و النّعامة ؟!.

و أما الحواسّ الباطنة، فمنها قوّة الحفظ ، قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (4) و منها: قوّة الذّكاء، قال عليّ عليه السّلام: «علّمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألف باب من العلم، و استنبطت من كلّ باب ألف باب». فإذا كان هذا حال الوليّ ، فكيف حال النبيّ ؟

و أمّا القوى المحركة، فمثل: عروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المعراج، و عروج عيسى حيّا إلى السّماء، و رفع ادريس و إلياس، على ما وردت به الأخبار، و قال تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ (5).

و أمّا القوى الرّوحانيّة العقليّة فلا بدّ أن تكون في غاية الكمال، و نهاية الصّفاء.

اعلم أنّ تمام الكلام في هذا الباب أنّ النّفس القدسيّة النّبويّة مخالفة بماهيّتها لسائر النّفوس، و من لوازم تلك النّفس الكمال في الذّكاء و الفطنة و الحرية، و الاستعلاء و التّرفّع عن الجسمانيّات

ص: 610


1- في المصدر: خفيف الفلك.
2- النمل: 18/27.
3- السّمندل: طائر بالهند لا يحترق بالنار فيما زعموا، و نسيج من ريش بعض الطيور لا يحترق.
4- الأعلى: 6/87.
5- النمل: 40/27.

و الشهوات، فإذا كانت الرّوح في غاية الصّفاء و الشّرف، و كان البدن في غاية النّقاء و الطّهارة، كانت هذه القوى المحرّكة و المدركة في غاية الكمال؛ لأنّها جارية مجرى الأنوار الفائضة من جوهر الرّوح، الواصلة إلى البدن، و متى كان الفاعل و القابل في غاية الكمال، كانت الآثار في غاية القوّة و الشّرف و الصّفاء.

ثمّ أنّ اللّه تعالى بعد ما اصطفى آدم بالقوّة الكاملة، وضع كمال القوّة الرّوحانيّة في شعبة معيّنة من أولاد آدم عليه السّلام هم شيث و أولاده إلى إدريس، ثمّ إلى نوح، ثمّ إلى إبراهيم، ثمّ حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل و إسحاق، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الرّوح القدسيّة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و جعل إسحاق مبدأ لشعبتين: يعقوب و عيص (1) ،فوضع النّبوّة في نسل يعقوب، و وضع الملك في نسل عيص(2) ، و استمرّ ذلك إلى زمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا ظهر محمّد صلّى اللّه عليه و آله نقل نور النّبوّة و نور الملك إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بقيا - أعني الدّين و الملك - لأتباعه إلى يوم القيامة، و من تأمّل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة، انتهى(1).

و فيه مواضع للنّظر و التّخطئة، و العجب أنّه التزم بانتقال نور النّبوّة و الملك في نسل المصطفين إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لم يلتزم به في ذرّيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بل جعله لأتباعه.

سورة آل عمران (3): الآیات 35 الی 37

اشارة

إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

سورة آل عمران (3): آیة 35 ثمّ ذكر سبحانه و

تعالى قضيّة ولادة مريم و عيسى - استشهادا بها على اصطفائه آل عمران، و ردّا على النّصارى القائلين بالوهيّة عيسى، أو أنّه ثالث ثلاثة، أو أنّه ابن اللّه - بقوله: إِذْ قالَتِ قيل:

الظّرف متعلّق ب (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) و المعنى: و اللّه سميع للدّعاء، عليم بالضّراعة، حين دعت و تضرّعت

ص: 611


1- تفسير الرازي 21:8.

حنّة بنت فاقوذ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ ابن ماثان، امّ مريم.

في قضية ولادة مريم و عيسى

عن عكرمة: أنّها كانت عاقرا لا تلد، و كانت تغبط النّساء بالأولاد(1).

و عن محمّد بن إسحاق: أنّها ما كان يحصل لها ولد حتّى شاخت، و كانت يوما في ظلّ شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا له، فتحرّكت نفسها للولد، فدعت ربّها أن يهب لها ولدا، فحملت بمريم، و هلك عمران، فلمّا عرفت حملها جعلته للّه بقولها: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي من الولد مُحَرَّراً و عاهدتك أن أجعله خادما للمسجد، أو لمن يدرس الكتاب، أو مخلصا للعبادة، أو عتيقا من أمر الدّنيا لطاعة اللّه.

قيل: كان الأمر في دين بني إسرائيل أنّ الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه، كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا بالنّذر يتركون ذلك النّوع من الانتفاع، و يجعلونه محرّرا لخدمة المسجد، و طاعة اللّه.(2)

و قيل: كان المحرّر يجعل في الكنيسة، يقوم بخدمتها حتّى يبلغ الحلم، ثمّ يخيّر بين الذّهاب و المقام، فإن أبى المقام و أراد أن يذهب ذهب، و إن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار. و لم يكن نبيّ إلاّ و من نسله محرّر في بيت المقدس، و لم يكن التّحرير جائزا إلاّ في الغلمان.(3)

قيل: إنّ تحرير حنّة كان بإلهام اللّه(4) ثمّ أنّها لإظهار أنّ هذا النّذر كان لطلب مرضاة اللّه و تقرّبا إليه، قالت: فَتَقَبَّلْ هذا التّحرير، و تلقّه مِنِّي بالرّضا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائي اَلْعَلِيمُ

بخلوص نيّتي و حقيقة ضراعتي، و في تخصيص الوصفين به تعالى إظهار لقوّة يقينها، و إشعار باختصاص دعائها به تعالى، و انقطاع رجائها من غيره.

سورة آل عمران (3): آیة 36

ثمّ أنّه كان في ظنّها أنّ النّسمة التي في بطنها غلام فَلَمّا وَضَعَتْها و رأت أنّها انثى، و لم تكن الجارية صالحة للتّحرير؛ لخدمة المسجد، و ملازمته، لما يصيبها من الحيض و الأذى قالَتْ تحزّنا و تحسّرا على خيبة رجائها رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها حال كونها أُنْثى .

ثمّ لمّا كانت جاهلة بقدرها و شأنها، قال سبحانه تعظيما لها و إظهارا لجلالتها: وَ اللّهُ أَعْلَمُ من غيره بِما وَضَعَتْ حنّة، و بما علق بها من عظائم الامور.

و قرئ (وضعت) على الخطاب، و المعنى أنّك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة، و ما لها من علوّ الشأن

ص: 612


1- تفسير الرازي 25:8.
2- تفسير الرازي 25:8.
3- تفسير الرازي 25:8.
4- تفسير الرازي 25:8.

و سموّ المقام. و في قراءة (وضعت) على المتكلّم، على أنّه من كلامها، تسلية لنفسها، و هو مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1).

ثمّ أنّه تعالى زاد في تبيين عظمة موضعها و رفعه منزلتها و مقامها بقوله: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ الذي كانت تطلبه، و تتمنّى أنّه يكون كواحد من سدنة المسجد كَالْأُنْثى التي وهبتها لها، في الفضيلة و الشّرف و الكرامة عندي.

عن (الكافي) و (القمي): عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكرا سويّا مباركا يبرئ الأكمه و الأبرص، و يحيي الموتى بإذني، و جاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك - و هي امّ مريم - فلمّا حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما، فلمّا وضعتها قالت:

[ربّ ] إنّي وضعتها انثى و ليس الذّكر كالانثى، [أي] لا تكون البنت رسولا، يقول اللّه تعالى: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فلمّا وهب لمريم عيسى، كان هو الذي بشّر به عمران و وعده إيّاه »(2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ المحرّر يكون في الكنيسة لا يخرج منها، فلمّا وضعتها [انثى] قالت: ربّ إنّي وضعتها انثى(3) و ليس الذّكر كالانثى، إنّ الانثى تحيض، فتخرج من المسجد »(4).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «و ليس الذّكر كالانثى في الخدمة »(5).

و مقتضى هذه الرّوايات أنّ الجملة المعترضة في الآية قوله: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فقط ، و أنّ قوله: لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى من كلام حنّة، و هو المعطوف عليه لقوله: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ .

قيل: إنّ مريم بالعبرانيّة بمعنى: العابدة أو خادمة الرّبّ ، و إنّ إظهار تسليتها بهذا الاسم لإظهار بقائها على نيّة وقفها لعبادة ربّها؛ غير راجعة عنها، فكأنّها قالت: إنّ هذه الانثى، و إن لم تكن خليقة لوقفها لخدمة المسجد و سدانة بيت المقدس، فلتكن من العابدات فيه.

و في تصدّيها للتّسمية إشعار بموت عمران قبل ولادة مريم؛ لأنّ مقتضى العادة أنّ الأب يتولّى تسمية الولد إذا كان حيّا(6).

ثمّ لمّا كانت حنّة عالمة بأنّ الشّيطان يطمع في إغواء كلّ مولود خصوصا النّساء، قالت: وَ إِنِّي

ص: 613


1- جوامع الجامع: 57.
2- تفسير القمي 101:1، الكافي 1/449:1، تفسير الصافي 307:1.
3- زاد في العياشي: و اللّه أعلم بما وضعت.
4- تفسير العياشي 677/302:1، تفسير الصافي 307:1.
5- تفسير العياشي 678/302:1، تفسير الصافي 307:1.
6- تفسير روح البيان 27:2.

أُعِيذُها بِكَ و اجيرها بلطفك و الجئها بحفظك، وَ كذا ذُرِّيَّتَها و نسلها مِنَ كيد اَلشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود من كل خير.

عن النبي صلى الله عليه و آله: «ما من مولود يولد إلا و الشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخا (1) ،إلا مريم و ابنها »(2).

قيل: لما قالت حنة هذه الكلمات، و تضرعت إلى الله في قبول مريم لعبادته، و حفظها من إغواء الشيطان، لفتها في خرقة، و حملتها إلى المسجد، و وضعتها عند الأحبار، أبناء هارون، و هم في بيت المقدس كالحجبة في مسجد الحرام، و قالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم، و كان بنو ماثان رءوس بني إسرائيل و أحبارهم و ملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها، فقالوا: لا حتى نقرع عليها، فانطلقوا - و كانوا سبعا و عشرين - إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم ثلاث مرات في النهر. و قيل: نهر الأردن. ففي كل مرة ارتفع قلم زكريا فوق الماء و رسبت أقلامهم، فسلموها إلى زكريا.

سورة آل عمران (3): آیة 37

قيل: هو معنى قوله: فَتَقَبَّلَها رَبُّها و مليكها، و مكمّل نفسها بكمالات لائقة بها بِقَبُولٍ حَسَنٍ

فكأنّه أخذها ربّها من امّها و سلّمها لزكريّا.(3)

قيل: إنّ الحكم في تلك الشّريعة أنّه لم يكن التّحرير جائزا، إلاّ في غلام عاقل قادر على خدمة المسجد، و من حسن القبول أنّ اللّه بعد تضرّع حنّة، قبل تحرير بنتها حال صغرها، و عدم قدرتها على خدمة المسجد(4) و في لفظ التّقبّل إشعار بشدّة الاعتناء بقبولها.

وَ أَنْبَتَها ربّها نَباتاً حَسَناً و ربّاها تربية صالحة كاملة، و هيّأ لها جميع ما يصلحها.

قيل: إنّها تكلّمت في صباها كما تكلّم المسيح، و لم تلتقم ثديا قطّ ، و كانت تنمو في اليوم مثل ما ينمو المولود في عام وَ كَفَّلَها اللّه زَكَرِيّا و جعله ضامنا لمصالحها، و قائما بتدبير امورها.

و في عدّة روايات من طرق أصحابنا أنّه عليه السّلام كان زوج اختها، لا زوج خالتها.

و روي أنّها لمّا صارت شابّة، بنى زكريّا لها غرفة، و في رواية: محرابا في المسجد، و الظّاهر أنّ المحراب و الغرفة واحد، و لا يصعد إليها إلاّ بسلّم، و لا يدخل عليها غيره، و إذا خرج أغلق عليها سبعة

ص: 614


1- زاد في تفسير الرازي: من مسّ الشّيطان.
2- تفسير الرازي 28:8.
3- تفسير الرازي 28:8.
4- تفسير الرازي 28:8.

أبواب(1).

و مع ذلك كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً روي أنّه كان يأتيها رزقها من الجنّة، و أنّه كان يجد عندها فاكهة الشّتاء في الصّيف، و فاكهة الصّيف في الشّتاء (2) ،فتعجّب زكريّا و قالَ لها: يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا الرّزق، و من أين جاءك، و من أتاك به، و الأبواب مغلقة عليك ؟ قالَتْ مريم في جوابه: هُوَ نازل عليّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فلا تعجب و لا تستبعد إِنَّ اللّهَ بفضله و جوده يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أن يرزقه بِغَيْرِ حِسابٍ و تقدير لكثرته، أو بغير استحقاق، قيل: إنّ الذّيل(3) من كلامه عزّ و جلّ .

في نزول مائدة الجنة لفاطمة عليها السّلام كما نزلت لمريم

ثمّ أنّه روى أبو السّعود و البيضاوي في تفسيرهما أنّ فاطمة الزّهراء عليها السّلام أهدت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رغيفين و بضعة لحم، فرجع بها إليها، فقال: «هلمّي يا بنيّة» فكشفت عن الطّبق، فإذا هو مملوء خبزا و لحما، و قال لها: «أنّى لك هذا؟» قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل»، ثمّ جمع عليّا و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جميع أهل بيته، فأكلوا و شبعوا، و بقي الطّعام كما هو، فأوسعت على جيرانها(4).

و عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّ فاطمة عليها السّلام ضمنت لعليّ عليه السّلام عمل البيت و العجن و الخبز و قمّ البيت (5) ،و ضمن لها عليّ عليه السّلام ما كان خلف الباب [من] نقل الحطب، و أن يجيء بالطّعام. فقال لها يوما: يا فاطمة، هل عندك شيء؟ قالت: لا، و الذي عظّم حقّك، ما كان عندنا منذ ثلاثة أيّام شيء نقريك(6) به، قال: أ فلا أخبرتني ؟ قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهاني أن أسألك شيئا، فقال: لا تسألي ابن عمّك شيئا، إن جاءك بشيء عفوا و إلاّ فلا تسأليه.

قال: فخرج عليّ عليه السّلام فلقي رجلا فاستقرض منه دينارا، ثمّ أقبل به و قد أمسى، فلقي المقداد بن الأسود فقال للمقداد: ما أخرجك في هذه السّاعة ؟ قال: الجوع، و الذي عظّم حقّك يا أمير المؤمنين، قال [عليه السّلام]: فهو أخرجني، و قد استقرضت دينارا، و ساوثرك به؛ فدفعه إليه، فأقبل فوجد رسول

ص: 615


1- تفسير الرازي 30:8، تفسير روح البيان 29:2.
2- تفسير روح البيان 29:2.
3- الذيل هو قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .
4- تفسير أبي السعود 30:2، تفسير البيضاوي 158:1.
5- أي كنسه.
6- من القرى، و هو ما يقدّم إلى الضيف من طعام و شراب.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا و فاطمة عليها السّلام تصلّي، و بينهما شيء مغطّى، فلمّا فرغت اجترّت(1) ذلك [الشيء]، فإذا جفنة من خبز و لحم، قال: يا فاطمة، أنّى لك هذا؟ قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ لا احدّثك بمثلك و مثلها؟ قال: بلى، قال: مثل زكريّا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ . فأكلوا منها شهرا، و هي الجفنة التي يأكل منها القائم، و هي عندنا »(2).

سورة آل عمران (3): الآیات 38 الی 39

اشارة

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ (39)

سورة آل عمران (3): آیة 38

ثمّ لمّا رأى زكريّا كرامة مريم عند اللّه، و منزلتها لديه، تمنّى أن يكون له من أيشاع زوجته ولد مثل ولد حنّة في الجلالة و الكرامة، و هو عند مريم هُنالِكَ و في مكانه ذلك دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ و كان دعاؤه أن قالَ رَبِّ هَبْ لِي و أعطني مِنْ لَدُنْكَ و من محض قدرتك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً و ولدا صالحا مباركا تقيّا مرضيّا، تستطاب أخلاقه و أفعاله، كما وهبت لحنّة إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ و مجيبه

سورة آل عمران (3): آیة 39

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي لربّه فِي الْمِحْرابِ الذي كان مكان مريم في المسجد: أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ يا زكريّا بولد ذكر يكون مسمّى بِيَحْيى .

قيل: إنّه سمّي به؛ لأنّه يحيا به رحم امّه، حيث كانت عجوزا عاقرا، أو تحيا [به] القلوب و يحيا به أهل الجنّة و النّار في الآخرة؛ لأنّه هو الذي يذبح الموت حين يجاء به بصورة الكبش الأملح في المحشر.

في أن يحيى أول من صدّق بنبوة عيسى عليه السّلام

و من كمالات ذلك الولد أنّه يكون مُصَدِّقاً برسالة عيسى الملقّب بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ .

روي أنّه كان أوّل تصديق يحيى بعيسى أنّه كان لا يصعد إلى مريم في صومعتها غير زكريّا، و هو يصعد إليها بسلّم، فإذا نزل أقفل عليها، ثمّ فتح لها من فوق الباب كوّة صغيرة يدخل عليها منها الرّيح، فلمّا وجد مريم و قد حبلت، ساءه ذلك و قال في نفسه: ما كان يصعد إلى هذه أحد غيري

ص: 616


1- في تفسير الصافي: اختبرت، و اجترّته: أي جذبته نحوها.
2- تفسير العياشي 681/303:1، تفسير الصافي 308:1.

و قد حبلت! و الآن افتضح في بني إسرائيل لا يشكّون أنّي أحبلتها، فجاء إلى امرأته و قال لها ذلك، فقالت: يا زكريّا، لا تخف، فإنّ اللّه لا يصنع بك إلاّ خيرا، فآتني مريم حتّى انظر إليها و أسألها عن حالها.

فجاء بها زكريّا إلى امرأته، فكفى اللّه مريم مئونة الجواب عن السؤال. و لمّا دخلت إلى اختها، و هي الكبرى و مريم الصّغرى، لم تقم إليها امرأة زكريّا فأذن اللّه تعالى ليحيى، و هو في بطن امّه، فنخس(1)

بيده في بطنها و أزعجها، و ناداها: يا أمّت، تدخل إليك سيّدة نساء العالمين، مشتملة على سيّد رجال العالمين فلا تقومي [إليها]! فانزعجت و قامت إليها، و سجد يحيى و هو في بطن امّه لعيسى بن مريم، فذلك كان أوّل تصديقه له، فلذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحسن و الحسين: «إنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة، إلاّ ما كان من ابني الخالة عيسى و يحيى »(2).

وَ سَيِّداً فائقا على قومه، و على سائر النّاس في أنّه لم يهمّ بمعصية.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من نبيّ إلاّ و قد عصى أو همّ بمعصية، غير يحيى فإنّه لم يعص، و لم يهمّ »(3).

و المراد بالمعصية، على تقدير صحّة الرّواية، هو ترك الأولى.

و عن تفسير الإمام [العسكري عليه السّلام]: في تفسير (السيّد) قال: «رئيسا في طاعة اللّه على أهل طاعته »(4).

و عن ابن عبّاس: السيّد: الحليم. و قيل: الفقيه: العالم، و قيل: المتقدّم المرجوع إليه(5).

وَ حَصُوراً مبالغا في حبس نفسه عن مشتهياتها مع القدرة عليها.

روي أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللّعب، فقال: ما للّعب خلقت(6).

و عن الصادق عليه السّلام في تفسير (الحصور): «هو الذي لا يأتي النّساء »(7).

وَ نَبِيًّا صالحا معدودا مِنَ الأنبياء اَلصّالِحِينَ أو ناشئا منهم؛ لأنّه كان من أصلاب الأنبياء و الصّلحاء.

ص: 617


1- نخس الدابة: طعن مؤخرها بعود أو نحوه.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 660.
3- تفسير الرازي 37:8.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 374/660.
5- تفسير الرازي 36:8.
6- تفسير أبي السعود 32:2، تفسير الصافي 310:1.
7- مجمع البيان 742:2، تفسير الصافي 310:1.

قيل: إنّ توصيفه بكونه من الصّالحين، مع أنّ جميع الأنبياء صلحاء، مشعر بأنّ صلاحه كان أتمّ من صلاح سائر الأنبياء، فيكون المعنى: أنّه من الصّالحين من بين سائر الأنبياء. و في الصّلاح ينتظم الخير كلّه.

و عن تفسير الإمام عليه السّلام: «ما ألحق اللّه صبيانا برجال كاملي العقول إلاّ هؤلاء الأربعة: عيسى بن مريم، و يحيى بن زكريّا، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام »(1).

سورة آل عمران (3): الآیات 40 الی 41

اشارة

قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (41)

سورة آل عمران (3): آیة 40

ثمّ لمّا كان قول جبرئيل عن اللّه، و حكاية لقوله، خاطب زكريّا ربّه و قالَ استبعادا عاديّا، أو تعجّبا، أو استفهاما و سرورا بالولد: رَبِّ أَنّى يَكُونُ و كيف يحصل لِي بحسب العادة غُلامٌ

و ولد ذكر وَ الحال أنّه قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ في السّنّ ، و أدركني الهرم ؟

قيل: كان له ستّون سنة. و قيل: خمس و ستّون. و قيل: سبعون. و قيل: خمس و سبعون. و قيل: خمس و ثمانون. و قيل: اثنتان و تسعون. و قيل: تسع و تسعون. و قيل: مائة و عشرون.

و فيه إشعار بأنّ كبر السّنّ ، من حيث إنّه طلائع الموت، طالب للإنسان.

ثمّ بعد ذكر قصور نفسه، ذكر قصور زوجته بقوله: وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ لم تلد أبدا، و الكبر و العقم منافيان للولادة غاية المنافاة.

قيل: كان لزوجته مع عقمها، ثمان و تسعون سنة(2).

قالَ اللّه تعالى، أو الملك: كَذلِكَ الفعل العجيب من خلق الولد من شيخ فان و عجوز عاقر اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقة للعادة.

سورة آل عمران (3): آیة 41

ثمّ نقل أنّه جاء الشّيطان زكريّا عند سماعة البشارة، فقال: إنّ هذا الصّوت من الشّيطان، و قد سخر منك، فلذا اشتبه الأمر على زكريا(3) و قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة دالّة على أنّ تلك البشارة من

ص: 618


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 374/659، تفسير الصافي 310:1.
2- تفسير الرازي 39:8.
3- تفسير الرازي 39:8.

الوحي و كلام الملائكة، لا من إلقاء الشّيطان.

و قيل: إنّ المراد: اجعل لي علامة تدلّ على تحقّق مسئولي، و وقوع الحبل و العلوق؛ لأنّه أمر خفيّ ، حتّى أتلقّى تلك النّعمة الجليلة بالشّكر من حين حصولها(1).

و قيل: إنّ سؤال الآية كان بعد البشارة بثلاثة أشهر. و قيل: بثلاث سنين. و هذا الاختلاف مبنيّ على الاختلاف في التّفاوت بين سنّ يحيى و عيسى أنّه ستّة أشهر أو ثلاث سنين.

ثمّ عقيب سؤال الآية بلا فصل قالَ اللّه تعالى، أو الملك: آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ و لا تقدر على النّطق بغير الذّكر و التّسبيح و الشّكر ثَلاثَةَ أَيّامٍ متواليات بلياليها إِلاّ رَمْزاً و إشارة بيد، أو رأس، أو غيرهما.

قيل: إنّما جعل عجزه عن الكلام الدّنيوي آية ليخلص أوقاته بالذّكر و الشّكر قضاء لحقّ هذه النّعمة العظيمة(2).

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «أنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ولدا(3) و نادته الملائكة بما نادته به، أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصّوت من اللّه، فأوحى إليه أنّ آية ذلك أنّ يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيّام، فلمّا أمسك لسانه و لم يتكلّم، علم أنّه لا يقدر على ذلك إلاّ اللّه »(4).

عن العيّاشي: عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّه كان يؤمئ برأسه »(5).

و قيل: إنّ المراد من التّكلّم: كلّ ما أدّى المراد و لو كان غير اللّفظ ، و على هذا يكون الاستثناء متّصلا.

و قيل: إنّه عليه السّلام عوقب بذلك من حيث سؤال الآية بعد بشارة الملائكة، فأخذ اللّه لسانه، و صيّره بحيث لا يقدر على الكلام(6).

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ في حبس لسانك ذكرا كَثِيراً أداء لشكر النّعمة وَ سَبِّحْ ربّك بِالْعَشِيِّ

و هو من الزّوال إلى الغروب وَ الْإِبْكارِ و هو من طلوع الفجر إلى الضّحى. و قيل: إنّ المراد بالتّسبيح هو الصّلاة(7).

ص: 619


1- تفسير روح البيان 31:2.
2- تفسير روح البيان 31:2.
3- في المصدر: ذكرا.
4- تفسير العياشي 683/305:1، تفسير الصافي 311:1.
5- تفسير العياشي 684/305:1، تفسير الصافي 311:1.
6- تفسير الرازي 41:8.
7- تفسير الرازي 42:8، تفسير أبي السعود 34:2.

سورة آل عمران (3): آیة 42

اشارة

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)

سورة آل عمران (3): آیة 42

ثمّ عاد سبحانه إلى قصّة اصطفاء مريم، عطفا على قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ (1) بقوله: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ و في العدول عن (نادت) إلى (قالت) إشعار بأنّ مريم رأت جبرئيل، فخاطبها و شافهها بقوله: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ أوّلا بأن تقبّلك من امّك لخدمة المسجد بقبول حسن، و أنبتك نباتا حسنا، و ربّاك في حجر زكريّا، و رزقك من فواكه الجنّة، و أكرمك بكرامات سنيّة.

عن الباقر عليه السّلام: «معنى الآية: اصطفاك من ذرّيّة الأنبياء »(2).

وَ طَهَّرَكِ من رجس الكفر، و دنس المعاصي، و رذائل الأخلاق الرّوحانيّة، و ذمائم الصّفات النّفسانيّة، و الشّهوات الحيوانيّة، و مسيس الرّجال، و الأنجاس الجسمانيّة من الحيض و النّفاس و غيرهما من الأذى.

و عن الباقر عليه السّلام: «طهّرك من السّفاح »(3).

وَ اصْطَفاكِ آخرا و فضّلك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير أب - كما عن الباقر عليه السّلام ما يقرب منه (4)- و شرّفك بصحبته و خدمته إيّاك، و جعلك و ابنك آية للعالمين.

في نقل كلام الفخر الرازي و ردّه

قال الفخر الرّازي: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم، و آسية امرأة فرعون، و خديجة، و فاطمة عليهنّ السّلام».

ثمّ قال: فقيل: هذا الحديث دلّ على أنّ هؤلاء الأربع أفضل من سائر النساء، و هذه الآية دلّت على أنّ مريم عليها السّلام أفضل من الكلّ ، و قول من قال: المراد أنّها مصطفاة على عالمي زمانها، فهذا ترك للظّاهر(5).

أقول: بل هو عمل بنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في الرّواية التي تكون من المسلّمات بين الفريقين، من قوله:

«الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيّدة [نساء] بني إسرائيل»(6) فإنّه صريح في أنّ سيادتها مختصّة بنساء بني إسرائيل. و قد دلّت الرّوايات الكثيرة من طرق أصحابنا على أنّ فاطمة عليها السّلام أفضل من الكلّ .

ص: 620


1- آل عمران: 35/3.
2- مجمع البيان 746:2، تفسير الصافي 311:1.
3- مجمع البيان 746:2، تفسير الصافي 311:1.
4- نفس المصدر.
5- تفسير الرازي 43:8.
6- البداية و النهاية 115:6، الدر المنثور 186:2.

في أنّ فاطمة كانت أفضل من مريم

في (العلل) عن الصادق عليه السّلام: «سمّيت فاطمة محدّثة؛ لأنّ الملائكة كانت تهبط من السّماء تناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إنّ اللّه اصطفاك و طهّرك و اصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك و اسجدي و اركعي مع الرّاكعين، فتحدّثهم و يحدّثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أ ليست المفضّلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا: إنّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها، و إنّ اللّه عزّ و جلّ جعلك سيّدة نساء عالمك و عالمها، و سيّدة نساء الأوّلين و الآخرين »(1).

مضافا إلى أنّ فضائلها الخاصّة بها - من كون والدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خاتم النّبيّين، و أنّها روحه التي بين جنبيه، و أحبّ الخلق إليه، و أنّ والدتها خديجة سيّدة نساء العالمين، و تربيتها في حجرهما، و أن زوجها علي بن أبي طالب، و هو بنصّ الكتاب نفس الرّسول، و بنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سيّد العرب، و ولداها الحسن عليه السّلام و الحسين عليه السّلام سيّدا شباب أهل الجنّة، و معارفها و علمها معارف أبيها مقتبسة و مأخوذة منه، و شريعتها أكمل الشّرائع، و ذرّيّتها أفضل الذّراري، و كونها أعبد أهل زمانها، و كانت مشيتها مشية أبيها، و كونها مطهّرة بنصّ آية التّطهير - تدلّ على أنّها أفضل، حيث إنّه لا تقاس هذه الفضائل بفضائل مريم التي هي بنت عمران و حنّة، و المربّاة في حجر زكريّا، الوالدة لعيسى المنقطع نسلها به، العاملة بشريعة ولدها و شريعة من قبلها.

مع أنّ فضيلة هذه الامّة على سائر الامم مقتضية لأن يكون نبيّها أفضل من سائر الأنبياء، و وصيّ نبيّها أفضل من سائر الأوصياء، و شرعها أكمل من سائر الشّرائع، و معارفها أتمّ من معارف سائر الامم، و سيّدة نسائها أفضل من سيدات نساء سائر الامم.

سورة آل عمران (3): آیة 43

اشارة

يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ (43)

سورة آل عمران (3): آیة 43

ثمّ ناداها جبرئيل بعد تذكيرها بالنّعم، ترغيبا لها في الطّاعة: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي و قومي إلى العبادة، أو أطيلي القيام فيها شكرا لِرَبِّكِ الذي أنعم عليك بالنّعم العظام وَ اسْجُدِي و عفّري خدّك خضوعا له. و إنّما قدّم الأمر بالسّجود على الأمر بالرّكوع بقوله: وَ ارْكَعِي لكون السّجود غاية الخضوع، حال كونك مَعَ الرّاكِعِينَ و في جماعتهم، و قيل: إنّ المعنى: اركعي كركوعهم(2).و فيه

ص: 621


1- علل الشرائع: 1/146 ب 146، تفسير الصافي 311:1. (2و2) تفسير الرازي 44:8.
2- تفسير الرازي 44:8.

إشعار بكمالها، حيث عدّها في عداد الرّجال، حيث قال: (مَعَ الرّاكِعِينَ ) و لم يقل: (مع الرّاكعات).

و قيل: إنّ المراد بالقنوت: إدامة العبادة، و بالسّجود: خصوص الصّلاة، و التّكنّي عنها به، لكونه أفضل أركانها، و بالرّكوع: الخشوع و الإخبات (1).

روي أنّها لمّا امرت بذلك قامت في الصّلاة حتّى تورّمت قدماها (1) ،و كذلك روي في حقّ فاطمة عليها السّلام(2) كما روي في حقّها كلّ فضيلة كانت لمريم من نزول مائدة الجنّة لها (3) ،و محادثة الملائكة (4) ،و الاجتهاد في العبادة، و الزّهد في الدّنيا، و غير ذلك.

سورة آل عمران (3): آیة 44

اشارة

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

سورة آل عمران (3): آیة 44

ذلِكَ المذكور من قصّة حنّة و زكريّا، و مريم و عيسى، يكون مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ لا طريق لأحد إلى العلم به إلاّ الوحي، و نحن نُوحِيهِ إِلَيْكَ و ننزله بوساطة جبرئيل ببيان فيه الإعجاز.

ثمّ أنّه تعالى - بعد وضوح انحصار طريق العلم بالقضايا الماضية في قراءة الكتب و السّماع من العالم، أو المشاهدة، أو الوحي، و بداهة كونه صلّى اللّه عليه و آله امّيّا لم يقرأ كتابا، و لم يصحب عالما - قرّر كون علمه صلّى اللّه عليه و آله بهذه القضايا بالوحي بنفي مشاهدته بقوله: وَ ما كُنْتَ حاضرا لَدَيْهِمْ حتّى تطّلع على قضاياهم بالمشاهدة، و ما كنت شاهدا إِذْ يُلْقُونَ و حين ينبذون في الماء أَقْلامَهُمْ التي كانوا يكتبون بها التّوراة، ليقرعوا بها، و ليعلموا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ و يتشرّف بحضانتها و خدمتها، قيل: اختاروا تلك الأقلام للقرعة تبرّكا بها وَ ما كُنْتَ حاضرا لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ و حين يتنازعون في شأنها تنافسا في كفالتها، و التّعهّد للقيام بتدبير امورها، و حفظ مصالحها.

و يحتمل أن يكون هذا الكلام مسوقا لبيان إظهار نهاية غرابته، و نهاية اعجوبته.

سورة آل عمران (3): آیة 45

اشارة

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ

ص: 622


1- تفسير أبي السعود 35:2، تفسير روح البيان 33:2.
2- المناقب/لابن شهرآشوب 341:3، مقتل الحسين/للخوارزمي 80:1، ربيع الأبرار/للزمخشري 104:2.
3- الدر المنثور 186:2، البداية و النهاية 115:6، أمالي الطوسي: 614-1271/615 و 1272.
4- علل الشرائع 21/182:1، دلائل الامامة: 20/80.

مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

سورة آل عمران (3): آیة 45

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر اصطفاء مريم بالكمالات النّفسانيّة و الكرامات الفائقة، شرع في بيان قصّة ولادة عيسى بقوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ و قد مرّ أنّ المراد خصوص جبرئيل - على ما قيل -: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ و يسرّ قلبك بالإخبار بِكَلِمَةٍ تامة كائنة مِنْهُ و يفرحك بولد يهبه لك، بإرادته التّكوينيّة التي يعبّر عنها بكلمة (كن) من غير مبادئ عاديّة اِسْمُهُ عند اللّه اَلْمَسِيحُ قيل:

هو معرّب مشيخا بالعبريّة، و معناه: المبارك(1).

و المراد من لفظ الاسم هنا، ما يحكى عن ذات معيّنة، و لو كان لقبا و أمّا علمه فهو عِيسَى قيل:

هو معرّب إيشوع (2) ،و كنيته اِبْنُ مَرْيَمَ و هو يكون وَجِيهاً و شريفا فِي الدُّنْيا بمنصب النّبوّة، و مطاعية النّاس، وَ في اَلْآخِرَةِ بالشّفاعة، و علوّ الدّرجة في الجنّة، و معدودا مِنَ الْمُقَرَّبِينَ

عند اللّه، قيل: فيه إشارة إلى رفعه إلى السّماء(3).

سورة آل عمران (3): آیة 46

اشارة

وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِينَ (46)

سورة آل عمران (3): آیة 46

ثمّ بشّرها بكمال علمه بقوله: وَ يُكَلِّمُ النّاسَ بكلمات الأنبياء الجامعة للحكمة و الموعظة، حال كونه طفلا كائنا فِي الْمَهْدِ وَ كونه كَهْلاً بالغا إلى كمال البشريّة، من غير تفاوت بين الحالين، و هذا من أعظم معجزاته.

بل نقل أنّه قالت مريم: إذا خلوت أنا و عيسى، حدّثني و حدّثته، فإذا شغلني عنه إنسان كان يسبّح في بطني و أنا أسمع(4).

و في ذكر أحواله المختلفة إشارة إلى أنّه بمعزل من الالوهيّة.

في نقل إنكار النصارى تكلّم عيسى في المهد و ردّه

قيل: إنّ النّصارى أنكرت تكلّمه في المهد (5) ،و لو كانت هذه المعجزة لتواترت بينهم، و كانوا أحقّ بمعرفتها من غيرهم، و لا يمكن منهم إخفاؤها مع إفراطهم في محبّته، حتّى ذهبوا إلى الوهيّته.

ص: 623


1- تفسير روح البيان 35:2.
2- تفسير روح البيان 35:2.
3- تفسير أبي السعود 37:2.
4- تفسير روح البيان 35:2.
5- .تفسير الرازي 52:8.

و فيه: أنّ القدر الثّابت من تكلّمه في المهد، ما كان منه لبراءة امّه من الفحشاء (1) بعد اعتراض اليهود عليها و إشارتها إليه، من قوله: إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (1) إلى آخر الآيات. و على هذا يمكن كون الحاضرين عنده قليلا من اليهود المعاندين، فأخفوا هذه المعجزة عنادا، أو خوفا من تكذيب سائر اليهود.

و لم يؤمن به أحد إلاّ بعد بلوغه في العمر ثلاثين سنة أو أكثر، و هؤلاء المؤمنون لم يطّلعوا على كراماته السّابقة، و بقي الأمر مكتوما إلى أن أخبر به محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالوحي من اللّه تعالى، مع أنّه نقل عن جعفر بن أبي طالب أنّه لمّا قرأ على النّجاشي سورة مريم، قال النّجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى و بين المذكور في هذا الكلام بذرّة(2).

و أمّا تكلّمه في الكهولة، فقد قال جمع: إنّه يكون بعد نزوله من السّماء في آخر الزّمان؛ حيث إنّ سنّ الكهولة أربعون سنة، و هو عليه السّلام [قد] رفع قبل بلوغه ذلك السّنّ (3).

روي أنّه لمّا بلغ عمره ثلاثين سنة أرسله اللّه إلى بني إسرائيل، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا، و في قول: ثلاث سنين و ستّة أشهر، ثمّ رفع إلى السّماء (4).و لذا قيل: إنّ الآية نصّ في نزوله من السّماء(5).

و قال جمع: إنّ الكهل في اللّغة: ما اجتمع قوّته و كمل شبابه (6) ،و هذا الحال في الإنسان ببلوغ ثلاثين سنة، ثمّ يكون على حال الوقف لا يزيد و لا ينقص إلى أربعين، فمبدأ الكهولة ثلاثون، و منتهاها أربعون. و على هذا، كان بعثه في الكهولة، و هذا القول هو الأظهر و الاوفق بالآية.

ثمّ مدحه سبحانه بقوله: وَ هو مِنَ الصّالِحِينَ قيل: في ذكر هذه الصّفة بعد الحالات الثّلاث دلالة على أنّها أعلى المراتب و أعظمها؛ حيث إنّ المرء لا يكون صالحا على الإطلاق، إلاّ بكونه في جميع أفعاله و تروكه مواظبا على النّهج الأصلح الأكمل (7).و من الواضح أنّ ذلك يتناول جميع المقامات العالية الدّينيّة و الدّنيويّة، و كمال أفعال القلوب و الجوارح.

سورة آل عمران (3): آیة 47

اشارة

قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

ص: 624


1- مريم: 30/19.
2- تفسير الرازي 52:8.
3- تفسير روح البيان 35:2.
4- تفسير روح البيان 35:2.
5- تفسير الرازي 52:8.
6- تفسير الرازي 51:8.
7- تفسير روح البيان 35:2.
سورة آل عمران (3): آیة 47 ثمّ كأنّه قيل: فما قالت مريم بعد تلك البشارة ؟ فقال سبحانه: قٰالَتْ مريم - استبعادا لوقوع هذا الأمر الخارق للعادة، و استعظاما لقدرة اللّه، أو استفسارا من أنّه قد

يكون الولد بسبب التّزوّج، أو بغيره -: رَبِّ أَنّى يَكُونُ و من أين يوجد لِي وَلَدٌ؟ إذ هو متوقّف على مباشرة الفحل وَ أنا إلى الآن لَمْ يَمْسَسْنِي و لم يقربني بَشَرٌ و هذه حالة منافية للولادة على حسب العادة قالَ

اللّه تعالى أو جبرئيل عليه السّلام: كَذلِكِ الخلق العجيب الخارق للعادة اَللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أن يخلقه.

و لمّا كان لفظ الخلق مشعرا بالاختراع - و لذا كان ذكره أنسب بولادة العذراء من غير أب، من ولادة عجوز عاقر من شيخ فان هرم - عقّبه ببيان كيفيّة الاختراع بقوله: و إِذا قَضى اللّه و حتم أَمْراً من الامور بالإرادة التّكوينيّة، و تمّ صلاح وجود شيء من الأشياء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ و هو كناية عن تعلّق الإرادة التّكوينيّة بوجوده فَيَكُونُ و يوجد من غير توقّف على مادّة و مدّة، و من غير حاجة إلى مئونة و عدّة.

في كيفية احتبال مريم و مكالمة يوسف معها

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: أنّ مريم كانت في غرفة، قد ضربت دونها سترا، إذا هي برجل عليه ثياب بيض، و هو جبرئيل عليه السّلام تمثّل لها بشرا سويّا، أي تامّ الخلق، فلمّا رأته قالت: أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (1) ثمّ نفخ في جيب درعها، حتّى وصلت النّفخة إلى الرّحم فاحتبلت(2).

و عن وهب: أنّه كان معها ذو قرابة يقال له يوسف النّجار، و كان يوسف هذا يستعظم ذلك، فإذا أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها، و إذا أراد أن يبرّئها رأى ما ظهر عليها، فكان أوّل ما كلّمها أن قال لها: قد دخل في صدري شيء أردت كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت الكلام أشفى لصدري. قالت: قل. قال: فحدّثيني هل ينبت الزّرع من غير بذر؟ قالت: نعم. قال: فهل ينبت شجر من غير أصل ؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، أ لم تعلم أنّ اللّه أنبت الزّرع يوم خلقه من غير بذر، و البذر يومئذ إنّما صار من الزّرع الذي أنبت اللّه من غير بذر، أ لم تعلم أنّ اللّه خلق آدم و حوّاء من غير انثى و لا ذكر.

فلمّا قالت له ذلك، وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء أكرمها اللّه به(3).

سورة آل عمران (3): الآیات 48 الی 49

اشارة

وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ

ص: 625


1- مريم: 18/19.
2- تفسير روح البيان 36:2، و فيه: الرّحم فاشتملت.
3- تفسير روح البيان 36:2.

فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

سورة آل عمران (3): آیة 48

ثمّ أنّ جبرئيل بعد أن بشّرها بولادة عيسى بقوله: يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ (1) عطف عليه تبشيرها بكماله العلمي، و مرتبة رسالته، بقوله: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ السّماوي الذي نزل على آدم و من بعده، و قيل: المراد: الكتابة و الخطّ (2) ،وَ يعلّمه اَلْحِكْمَةَ و العلوم العقليّة و الشّرعيّة، و تهذيب الأخلاق وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ و إفرادهما بالذّكر بعد ذكر جنس الكتاب الشّامل لهما، لزيادة فضلهما، و إنافتهما على غيرهما.

روي أنّ عيسى عليه السّلام حفظ التّوراة و هو في بطن امّه، و كانت مريم تسمع عيسى و هو يدرس في بطنها(3).

في بيان زهد عيسى عليه السّلام

ثمّ لمّا شرّف عالم الشّهود أعطاه [اللّه] الزّهادة في الدّنيا؛ فإنّه كان يلبس الشّعر، [و] يتوسّد الحجر، و يستنير القمر، و قد كان له قدح يشرب فيه الماء، [و يتوضّأ] فيه فرأى رجلا يشرب بيده. فقال لنفسه: يا عيسى، هذا أزهد منك، فرمى القدح و كسره.

و استظلّ يوما في ظلّ خيمة عجوز؛ و كان قد لحقه حرّ شديد، فخرجت العجوز فطردته، فقام و هو يضحك فقال: يا أمة اللّه، ما أنت أقمتني، و إنّما أقامني الذي لم يجعل لي نعيما في الدّنيا و لمّا رفع إلى السّماء، وجد عنده إبرة كان يرقع [بها] ثوبه، فاقتضت الحكمة الإلهيّة نزوله في السّماء الرّابعة(4).

سورة آل عمران (3): آیة 49

وَ يبعثه رَسُولاً في حال الصّبا، أو بعد البلوغ، أو بعد ثلاثين سنة إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ حال كونه قائلا: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ يا بني إسرائيل بِآيَةٍ عظيمة، و معجزة باهرة، دالّة على صدق نبوّتي، كائنة مِنْ رَبِّكُمْ و مكمّل نفوسكم، و مصلح امور دنياكم و آخرتكم.

قيل: إنّ أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف، و آخرهم عيسى(5).

روي في (الإكمال): عن الباقر عليه السّلام: «أنّه ارسل إلى بني إسرائيل خاصّة، و كانت نبوّته ببيت

ص: 626


1- آل عمران: 45/3.
2- تفسير الرازي 54:8، تفسير روح البيان 37:2.
3- تفسير روح البيان 36:2.
4- تفسير روح البيان 36:2.
5- تفسير أبي السعود 38:2، تفسير روح البيان 37:2.

المقدس »(1).

ثمّ بيّن الآية و فصّلها بقوله: أَنِّي أَخْلُقُ و اصوّر و اسوّي لَكُمْ شيئا مِنَ الطِّينِ بهيئة و صورة كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ و مثل صورته فَأَنْفُخُ فِيهِ فتلج فيه الرّوح فَيَكُونُ طَيْراً حيّا طيّارا كسائر الطّيور بِإِذْنِ اللّهِ و أمره و قدرته، لا بقدرة منّي.

روي أنّه عليه السّلام لمّا ادّعى النّبوّة، و أظهر المعجزات، طالبوه بخلق الخفّاش، فأخذ طينا و صوّرة و نفخ فيه، فإذا هو يطير بين السّماء و الأرض، قال وهب: كان يطير ما دام النّاس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا، ليتميّز من خلق اللّه تعالى(2).

قيل: إنّما طلبوا خلق الخفّاش؛ لأنّه أكمل الطّير خلقا، و أبلغ دلالة على القدرة؛ لأنّ له ثديا و أسنانا، و هي تحيض و تطهر و تلد كسائر الحيوانات، و تضحك كما يضحك الإنسان، و تطير بغير ريش، و لا يبصر في ضوء النّهار و لا في ظلمة اللّيل، و إنّما يرى في ساعتين ساعة بعد الغروب، و ساعة بعد طلوع الفجر(3).

قيل: لم يخلق عيسى غير الخفّاش. و قيل: خلق أنواعا من الطّير(4).

وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ و من ولد أعمى، أو أعوج العين وَ الْأَبْرَصَ و هو المبتلى بمرض البرص، و هو لون مختلط حمرة و بياضا أو غيرهما، و لا يحصل إلاّ من فساد المزاج و خلل في الطّبيعة، و لم تنفر العرب من شيء نفرتها منه و تخصيص هذين الدّاءين؛ لأنّهما ممّا أعيا الأطبّاء، مع كونهم في غاية الحذاقة [في] زمنه عليه السّلام.

قيل: كان يجتمع عليه عليه السّلام الوف من المرضى، من أطاق منهم أتاه، و من لم يطق أتاه عيسى عليه السّلام، و ما يداويهم إلاّ بدعاء(5).

وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ و تكرير (بِإِذْنِ اللّهِ ) للاهتمام بدفع توهّم الالوهية.

في أن عيسى أحيا أربعة من الأموات

قيل: سألوا جالينوس عنه عليه السّلام، فقال: الميّت لا يحيا بالعلاج، فإن كان هو يحيي الموتى، فهو نبيّ و ليس بطبيب. فطلبوا أن يحيي الموتى، فأحيا أربعة أنفس: [احيا]

ص: 627


1- كمال الدين: 2/220، تفسير الصافي 312:1.
2- تفسير الرازي 56:8، تفسير روح البيان 37:2، و في تفسير روح البيان: ليتميز فعل الخلق من فعل اللّه.
3- تفسير روح البيان 37:2.
4- تفسير الرازي 56:8.
5- تفسير روح البيان 38:2.

العازر، و كان صديقا له، فأرسل اخته إلى عيسى عليه السّلام أنّ اخاك العازر يموت فأته، فكان بينه و بينه مسيرة ثلاثة أيّام، فأتاه هو و أصحابه، فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لاخته: انطلقي بنا إلى قبره [فانطلقت معهم إلى قبره] و هو [في] صخرة مطبقة، فقال عيسى عليه السّلام: اللّهمّ ربّ السّماوات [السبع] و الأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك، و اخبرهم أنّي احيي الموتى، فأحيي العازر، فقام العازر و ودكه(1) يقطر، فخرج من قبره، و بقي و ولد له.

و أحيا ابن عجوز مرّ به ميّتا على عيسى عليه السّلام، على سرير يحمل، فدعا اللّه عيسى عليه السّلام، فجلس على سريره، و نزل عن أعناق الرّجال و لبس ثيابه، و حمل السّرير على عنقه، و رجع إلى أهله، فبقي و ولد له.

و أحيا ابنة العاشر الذي يأخذ العشور، قيل له: أحيها، و قد ماتت أمس، فدعا اللّه تعالى، فعاشت، و بقيت و ولد لها.

فقالوا: يحيي من كان قريب العهد من الموت، فلعلّهم لم يموتوا، بل أصابتهم سكتة، فأحيي لنا سام بن نوح، فقال عيسى: دلّوني على قبره، فخرج و القوم معه حتّى انتهى إلى قبره، فدعا اللّه تعالى بالاسم الأعظم، فخرج من قبره و قد شاب رأسه، فقال عيسى: كيف شاب رأسك، و لم يكن في زمانك شيب ؟ قال: يا روح اللّه، لمّا دعوتني سمعت صوتا يقول: أجب روح اللّه، فظننت أنّ القيامة قد قامت، فمن هول ذلك قد شاب رأسي. فسأله عن النّزع، فقال: يا روح اللّه، إنّ مرارته لم تذهب من حنجرتي و قد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدّقوه فإنّه نبيّ ، فآمن به بعضهم و كذّبه آخرون، ثمّ قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذني اللّه سكرات الموت، فدعا اللّه ففعل(2).

و عن (الكافي) و العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل هل كان عيسى بن مريم [قد] أحيا أحدا بعد موته، حتّى كان له أكل و رزق و مدّة و ولد؟ فقال: «نعم، إنّه كان له صديق مؤاخ له في اللّه تعالى، و كان يمرّ به و ينزل عليه، ثمّ إنّ عيسى غاب عنه حينا، ثمّ مرّ به ليسلّم عليه، فخرجت إليه امّه فسألها عنه، فقالت: مات يا رسول اللّه، فقال: أ فتحبّين أن تريه ؟ قالت: نعم، فقال لها: فإذا كان غدا فآتيك حتّى احييه لك بإذن اللّه تعالى، فلمّا كان من الغد أتاها، فقال لها: انطلقي معي إلى قبره، فانطلقا حتّى إذا أتيا قبره، فوقف [عليه] عيسى عليه السّلام ثمّ دعا اللّه، فانفرج القبر و خرج ابنها حيّا، فلمّا رأته امّه و رآها بكيا فرحمهما عيسى عليه السّلام فقال: أ تحبّ أن تبقى مع امّك في الدّنيا؟ فقال: يا نبيّ اللّه، بأكل و رزق و مدّة، أم

ص: 628


1- ودك الميت: ما يسيل منه.
2- تفسير روح البيان 38:2.

بغير أكل و لا رزق و لا مدّة ؟ فقال له عيسى: بأكل و رزق و مدّة، و تعمّر عشرين سنة، و تزوّج و يولد لك.

قال: نعم [إذا] قال: فدفعه عيسى إلى امّه، فعاش عشرين سنة، [و تزوّج] و ولد له »(1).

نقل أنّه كان يحيي الموتى ب (يا حيّ و يا قيّوم )(2).

في إحياء خاتم النبيين جمعا من الأموات

ثمّ اعلم أنّه كان لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله هذه المعجزة، روي في (الاحتجاج): عن الحسين بن علي عليهما السّلام (3) ،و في (التوحيد): عن الرضا عليه السّلام، في حديث: «لقد اجتمعت قريش إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجّه معهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال له: أذهب إلى الجبّانة (4) ،فناد بأسماء هؤلاء الرّهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان، [و يا فلان و] يا فلان، يقول لكم محمّد [رسول اللّه] صلّى اللّه عليه و آله: قوموا بإذن اللّه، فقاموا ينفضون التّراب عن رءوسهم، و أقبلت قريش تسألهم عن امورهم، ثمّ أخبروهم أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد بعث نبيّا، و قالوا:

وددنا أنّا كنّا أدركناه، فنؤمن به» الخبر.

و من المعلوم أنّ هذا الإحياء أعجب من إحياء عيسى عليه السّلام بمراتب.

و روي عنهم عليهم السّلام أنّه صلّى اللّه عليه و آله أبرأ الأكمه و الأبرص و المجانين، و كلّمه البهائم و الطير [و الجنّ ] و الشياطين(5).

ثمّ أخبر اللّه بأعظم معجزاته الباهرة، و هو إخباره بالمغيّبات، بقوله: وَ أُنَبِّئُكُمْ و اخبركم بِما تَأْكُلُونَ من أنواع المأكولات وَ ما تَدَّخِرُونَ من شيء، و تخفونه من متاع فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الخوارق للعادات لَآيَةً عظيمة و دليلا واضحا لَكُمْ على صدق دعواي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بآية من الآيات.

عن القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «أنّ عيسى عليه السّلام كان يقول لبني إسرائيل: إنّي رسول اللّه إليكم، و إنّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ

و الأكمه: هو الأعمى، قالوا: ما نرى الذي تصنع إلاّ سحرا، فأرنا آية نعلم أنّك صادق، قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا، و ما

ص: 629


1- الكافي 532/337:8، تفسير العياشي 690/308:1، تفسير الصافي 313:1.
2- تفسير روح البيان 400:1.
3- كذا في تفسير الصافي 314:1 أيضا، و الحديث الآتي مرويّ في الاحتجاج عن الامام الرضا عليه السّلام.
4- الجبّانة: المقبرة.
5- التوحيد: 1/423، الاحتجاج: 419، تفسير الصافي 314:1.

ادّخرتم باللّيل، تعلمون أنّي صادق ؟ قالوا: نعم، و كان يقول: أنت أكلت كذا و كذا، و شربت كذا و كذا، و رفعت كذا و كذا، فمنهم من يقبل منه فيؤمن، و منهم من [ينكر] فيكفر »(1).

قيل: و يخبر الصّبيان و هو في المكتب، بما يصنع أهلهم، و بما يأكلون و يخبّئون لهم، و كان الصّبي ينطلق إلى أهله و يبكي عليهم حتّى يعطوه ما خبّئوا له، ثمّ قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا السّاحر. الخبر(2).

وهم و دفع

ثمّ اعلم أنّ صدور هذه المعجزة من نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أكثر من أن يحصى.

فإن قيل: إنّ طرق الإخبار بالغيب لا تنحصر بالوحي و الإعجاز، بل يمكن بطريق علم النّجوم و الجفر.

قلنا: هذه الطرق محتاجة إلى التّعلّم و الاستعانة بالآيات، و تقدّم السؤال، و التّفكّر في الحساب، و كلّ ذلك كان منتفيا في إخبار الأنبياء، فلا بدّ أن يكون بالوحي و الإلهام.

سورة آل عمران (3): الآیات 50 الی 51

اشارة

وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

سورة آل عمران (3): آیة 50

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد ما أخبر بمعجزاته و أتى بها، بيّن ما ارسل به بقوله: وَ إنّي جئتكم لأكون مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ و ما تقدّمني مِنَ التَّوْراةِ و تقرير غالب أحكامها، و بيان أسرارها، و حلّ مشكلاتها و غوامضها، و إزالة شبهات منكريها، و دفع التّحريف منها وَ لِأُحِلَّ و ارخّص لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أكله في شريعة موسى من لحوم السّمك، و لحوم الإبل، و الشّحوم.

قيل: كان الأحبار قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة، و نسبوها إلى موسى عليه السّلام، فجاء عيسى عليه السّلام و رفعها و أبطلها، و أعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السّلام(3).

ثمّ أنّ اللّه قد حرّم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، ثمّ جاء عيسى عليه السّلام و رفع بعض التّشديدات عنهم.

ص: 630


1- تفسير القمي 102:1، تفسير الصافي 313:1.
2- تفسير روح البيان 38:2، تفسير الرازي 57:8. (3و3) تفسير الرازي 59:8.

و قيل: إنّ عيسى عليه السّلام رفع كثيرا من أحكام التّوراة، و لم يكن قادحا في كونه مصدّقا بالتّوراة(1).

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «كان بين داود و عيسى بن مريم أربعمائة سنة، و كانت شريعة عيسى عليه السّلام أنّه بعث بالتّوحيد و الإخلاص، و بما أوصى به نوح و إبراهيم و موسى عليهم السّلام، و انزل عليه الإنجيل، و اخذ عليه الميثاق الذي اخذ على النّبيّين، و شرّع له في الكتاب إقام الصّلاة مع الدّين، و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و تحريم الحرام و تحليل الحلال، و انزل عليه في الإنجيل مواعظ و أمثال و حدود، ليس فيها قصاص و لا أحكام حدود، و لا فرض مواريث، و انزل [عليه] تخفيف ما كان [نزل] على موسى في التّوراة، و هو قول اللّه عزّ و جلّ في الذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ و أمر عيسى من معه ممّن يتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التّوراة و الإنجيل» (2).

ثمّ أعاد قوله: وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ عظيمة، شاهدة على رسالتي، كائنة مِنْ رَبِّكُمْ للإنجاع في القلوب، و ازدياد التّأثير في الطّباع المألوفة بالعادات.

ثمّ خوّفهم بقوله: فَاتَّقُوا اللّهَ و خافوه في تكذيبي و مخالفة أحكامي وَ أَطِيعُونِ في أوامري و نواهي.

سورة آل عمران (3): آیة 51

و يحتمل أن يراد من الآية التي جاء بها قوله: إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ و فيه دعوة إلى التّوحيد الخالص، و إشعار بأنّ أوّل الكمال و أعلى الفضائل هو الحكمة النّظريّة التي غايتها معرفة اللّه بالوحدانيّة ذاتا و صفاتا و أفعالا، و في قوله: فَاعْبُدُوهُ دعوة إلى الكمال الثاني، و هو الحكمة العمليّة، و هي القيام بالطّاعة، و وظائف العبودية.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: هذا الذي هديتكم إليه من التّوحيد و العبادة صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ و طريق سويّ يوصلكم إلى محلّ القرب، و أوج الكرامة، و مستقرّ الرّحمة، و نعم الجنّة.

و وجه كونه آية صدقه أنّ ما دعا إليه ممّا يشهد به العقل المتين و الحقّ الذي اتّفق عليه جميع الأنبياء و المرسلين.

سورة آل عمران (3): الآیات 52 الی 54

اشارة

فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ

ص: 631


1- تفسير العياشي 691/309:1، تفسير الصافي 314:1.

أَنْصارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ (53) وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)

سورة آل عمران (3): آیة 52

ثمّ أنّه - بعد البشارة بولادته، و علوّ مقامه، و بهور معجزاته، و حسن دعوته - بيّن أنّ النّاس مع جميع ذلك، عارضوه بالكفر و الجحود، بقوله: فَلَمّا أَحَسَّ و شاهد عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ بأن سمع منهم صريح الإنكار، أو تيقّن به بحيث صار كالمحسوس له، و عرف عزمهم على قتله.

في بدو ظهور أمر عيسى عليه السّلام

قيل: إنّ اليهود كانوا عارفين بأنّه هو المسيح المبشّر به في التّوراة، و أنّه ينسخ دينهم، فأخذوا في الطّعن عليه، و صمّموا على قتله، فلمّا أظهر الدّعوة اشتدّ غضبهم، و أصرّوا في إيذائه و إيحاشه، و طلب قتله(1).

و قيل: إنّه تعالى لمّا بعثه رسولا إلى بني إسرائيل، جاءهم و دعاهم إلى دين اللّه، فتمرّدوا و عصوا، فخافهم و اختفى عنهم، و كان أمر عيسى عليه السّلام في قومه كأمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكّة، فكان مستضعفا، و كان يختفي من بني إسرائيل، كما اختفى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الغار و في منازل من آمن به لمّا أرادوا قتله.

ثمّ أنّه عليه السّلام خرج مع امّه يسيحان في الأرض، فاتّفق أنّه نزل [في] قرية على رجل فأحسن الرجل ضيافته، و كان في المدينة ملك جبّار، فجاء ذلك الرّجل يوما حزينا، فسأله عيسى عليه السّلام عن السّبب، فقال: ملك هذه المدينة رجل جبّار، و من عادته أنّه جعل على كلّ رجل منّا يوما يطعمه و يسقيه هو و جنوده، و هذا اليوم نوبتي، و الأمر متعذّر عليّ .

فلمّا سمعت مريم ذلك قالت: يا بني ادع اللّه ليكفي ذلك، فقال: يا امّاه، إن فعلت ذلك كان فيه الشّرّ، فقالت: قد أحسن و أكرم، و لا بدّ من إكرامه. فقال عيسى عليه السّلام: إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك و خوابيك ماء ثمّ أعلمني، فلمّا فعل ذلك دعا اللّه تعالى، فتحوّل ما في القدور طبيخا، و ما في الخوابي خمرا، فلمّا جا الملك أكل و شرب، و سأله: من أين هذا الخمر؟ فتعلّل الرّجل في الجواب، فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتّى أخبره بالواقعة.

فقال: إنّ من دعا اللّه حتّى جعل الماء خمرا، إذا دعا أن يحيي اللّه ولدي لا بدّ و أن يجاب. و كان ابنه قد مات قبل ذلك بأيّام، فدعا عيسى عليه السّلام و طلب منه ذلك، فقال عيسى عليه السّلام: لا تفعل، فإنّه إن عاش

ص: 632


1- تفسير الرازي 61:8.

كان شرّا، فقال: ما ابالي ما كان إذا رأيته، و إن أحييته تركتك على ما تفعل، فدعا اللّه عيسى، فعاش الغلام، فلمّا رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسّلاح و اقتتلوا، و صار أمر عيسى مشهورا في الخلق، و قصده اليهود (1) ،و أظهروا الطّعن فيه، و الكفر به(2).

فإذن قالَ عيسى عليه السّلام لمن آمن به و صدّقه: مَنْ أَنْصارِي و أعواني منكم؛ حال كونه سالكا و متوجّها إِلَى اللّهِ بطاعته و نصرة دينه ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ و هم صفوة أصحابه و خلّص المؤمنين به.

في وجه تسمية اثني عشر من أصحاب عيسى بالحواريين

عن (العيون): عن الرّضا عليه السّلام أنّه سئل لم سمّي الحواريّون حواريّين ؟

قال: «أمّا عند النّاس، فإنّهم سمّوا حواريّين؛ لأنّهم كانوا قصّارين يخلّصون الثّياب من الوسخ بالغسل، و هو اسم مشتقّ من الخبز الحوّار (3) ،و أمّا عندنا فسمّي الحواريّون حواريّين؛ لأنّهم كانوا مخلصين في أنفسهم، و مخلّصين غيرهم من أوساخ الذّنوب بالوعظ و التّذكير »(4).

و عن (التوحيد): عنه عليه السّلام: «أنّهم كانوا اثني عشر رجلا، و كان أفضلهم و أعلمهم لوقا »(5).

و قيل: كان بعضهم من الملوك، و بعضهم من صيّادي السّمك، و بعضهم من القصّارين (6) ،و بعضهم من الصبّاغين(7).

نقل أنّ عيسى عليه السّلام لمّا دعا بني إسرائيل إلى الدّين و تمرّدوا عليه، فرّ منهم و أخذ يسيح في الأرض، فمرّ بجماعة من صيّادي السّمك، و كان فيهم شمعون و يعقوب و يوحنّا أبناء زبدي؛ و هم من جملة الحواريّين الاثني عشر، فقال عيسى عليه السّلام: الآن تصيد السّمك، فإن اتّبعتني صرت بحيث تصيد النّاس لحياة الأبد، فطلبوا منه المعجزة، و كان شمعون قد رمى شبكته تلك اللّيلة في الماء، فما اصطاد شيئا، فأمره عيسى عليه السّلام بإلقاء شبكته في الماء مرّة أخرى، فاجتمع في تلك الشّبكة من السّمك ما كادت تتمزّق منه، فاستعان بأهل سفينة اخرى، و ملئوا السّفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السّلام(8).

و قيل: إنّ واحدا من الملوك صنع طعاما و جمع النّاس عليه، و كان عيسى عليه السّلام على قصعة لا يزال

ص: 633


1- في تفسير الرازي: و قصد اليهود قتله.
2- تفسير الرازي 60:8.
3- كذا، و الحوّارى، هو الدقيق الأبيض، و هو لباب الدقيق. و خبز الحوّارى: الخبز المعمول من هذا الدقيق.
4- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 10/79:2، تفسير الصافي 315:1.
5- التوحيد: 1/421، تفسير الصافي 315:1، و في التوحيد: الوقا، بدل: لوقا.
6- القصّار: المبيّض للثياب.
7- تفسير أبي السعود 42:2.
8- تفسير الرازي 61:8.

يأكل منها و لا تنقص، فذكروا ذلك للملك، فاستدعاه عليه السّلام [و] قال له: من أنت ؟ قال: أنا عيسى بن مريم، فترك ملكه و تبعه مع أقاربه، فاولئك هم الحواريّون(1).

و قيل: إنّه سلّمته امّه إلى صبّاغ، فأراد الصّبّاغ يوما أن يشتغل ببعض مهمّاته، فقال له عليه السّلام: هاهنا ثياب مختلفة قد جعلت لكلّ واحد منها علامة معيّنة، فاصبغها بتلك الألوان فغاب، فجعل عليه السّلام كلّها في جبّ واحد، فقال: كوني بإذن اللّه كما اريد، فرجع الصّبّاغ فسأله، فأخبره بما صنع، فقال: أفسدت عليّ الثّياب! قال: قم فانظر، فجعل يخرج ثوبا أحمر، و ثوبا أخضر، و ثوبا أصفر، إلى أن أخرج الجميع على أحسن ما يكون حسب ما كان يريد، فتعجّب منه الحاضرون و آمنوا به عليه السّلام، و هم الحواريّون(2).

قيل: إنّهم كانوا إذا جاعوا قالوا: جعنا يا روح اللّه، فيضرب بيده الأرض، فيخرج منها لكلّ واحد رغيفان، و إذا عطشوا قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون، فقالوا يوما: من أفضل منّا؟ قال عليه السّلام: أفضل منكم من يعمل بيده، و يأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثّياب بالاجرة(3).

و قيل: إنّه عليه السّلام قال للحواريّين الاثني عشر: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ ؟ و هذا لمّا طلبته اليهود للقتل، و كان هو في الهرب منهم، فأراد: أيّكم يحبّ أن يكون رفيقي في الجنّة على أن يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني؛ فأجابه إلى ذلك بعض، و ذلك قوله تعالى: نَحْنُ أَنْصارُ اللّهِ و حماة دينه، و أعوان أنبيائه في إعلاء كلمته، و دفاع أعدائه، حيث إنّا آمَنّا بِاللّهِ و الإيمان به مقتضي لمحبّته المقتضية لبذل النّفس و المال في سبيله وَ اشْهَدْ أنت يا نبيّ اللّه يوم القيامة، حين يشهد الرّسل على اممهم عند اللّه بِأَنّا مُسْلِمُونَ لك منقادون لأمرك، مخلصون في محبّتك و طاعتك.

سورة آل عمران (3): آیة 53

ثمّ توجّهوا إلى اللّه متضرّعين إليه بقولهم: رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ من الإنجيل وَ اتَّبَعْنَا بقلوبنا و جوارحنا اَلرَّسُولَ الذي أرسلته إلينا بالحقّ ، في جميع ما يأتي و ما يذر.

ثمّ أنّهم - بعد عرض الإيمان بالرّسول و بما جاء به، و إظهار الانقياد و الطّاعة له - سألوا رفعة المقام عند اللّه، و الدّخول في زمرة أوليائه الكرام بقوله: فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ لك بالتّوحيد، و لأنبيائك بالتّصديق، أو مع اولي العلم الذين قرنتهم بنفسك في آية شَهِدَ اللّهُ (4) ،أو مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و امّته الذين هم شهداء على جميع الامم، و هو مرويّ عن ابن عبّاس (5) ،أو مع الأنبياء الذين هم شهداء على

ص: 634


1- تفسير الرازي 64:8، تفسير أبي السعود 41:2.
2- تفسير أبي السعود 42:2.
3- تفسير أبي السعود 41:2.
4- آل عمران: 18/3.
5- مجمع البيان 757:2.

اممهم.

قيل: إنّه تعالى قد أجاب دعوتهم، و جعلهم أنبياء و رسلا، فأحيوا الموتى و صنعوا ما صنع عيسى عليه السّلام(1).

في اجتماع اليهود على قتل عيسى و رفعه إلى السماء

سورة آل عمران (3): آیة 54

ثمّ إنّ كفّار بني إسرائيل أصرّوا على عداوة عيسى عليه السّلام وَ مَكَرُوا به و سعوا خفية في قتله، بأن وكّلوا به من يقتله غيلة وَ مَكَرَ اللّهُ بأن دبّر ما يدفع القتل عنه، من رفعه إلى السّماء، و إلقاء شبهه على أحد محبّيه و حواريه، أو على الذي دلّ أعداءه عليه منهم.

قيل: إنّ يهودا ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السّلام، و كان جبرئيل لا يفارقه ساعة، فأمره أن يدخل بيتا فيه روزنة (2) ،فلمّا دخلوا البيت أخرجه جبرئيل من تلك الرّوزنة، و كان قد ألقى شبهه على غيره، فأخذوه و صلبوه(3).

وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ و أقواهم كيدا و تدبيرا، و أقدرهم على الإضرار بمن يريد الضّرر بأوليائه.

سورة آل عمران (3): آیة 55

اشارة

إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

سورة آل عمران (3): آیة 55

ثمّ بيّن اللّه أنّ ذلك المكر كان إِذْ قالَ اللّهُ و حين أوحى إليه بلا واسطة جبرئيل: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ و قابضك كاملا من الأرض، أو متوفّي أجلك المسمّى، عاصما إيّاك من قتلهم وَ رافِعُكَ إِلَيَّ و إلى محلّ كرامتي و مقرّ ملائكتي، بروحك و جسدك وَ مُطَهِّرُكَ و مخلّصك مِنَ أيدي اَلَّذِينَ كَفَرُوا و من سوء جوارهم، و خبث مرافقتهم.

قيل: إنّ اليهود لمّا عزموا على قتله، اجتمع الحواريّون في غرفة، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة، فأخبر بهم إبليس جميع اليهود، فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة، فقال المسيح للحواريّين: أيّكم يخرج و يقتل و يكون معي في الجنّة، فقال واحد منهم: أنا يا نبيّ اللّه، فألقى عليه مدرعة من صوف و عمامة من صوف، و ناوله عكّازة، و القي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود

ص: 635


1- تفسير الرازي 64:8.
2- الرّوزنة: هي الكوّة في الحائط ، غير نافذة يوضع فيها المصباح، و تسمى بالمشكاة.
3- تفسير الرازي 65:8.

فقتلوه و صلبوه(1).

و في رواية عن ابن عبّاس: فقال الملك لرجل خبيث منهم: ادخل عليه فاقتله، فدخل البيت، فألقى اللّه عزّ و جلّ شبهه عليه، فخرج يخبرهم أنّه ليس في البيت، فقتلوه و صلبوه(2).

و قيل: إنّه عليه السّلام جمع الحواريّين ليلة و أوصاهم، ثمّ قال: ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الدّيك و يبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا و تفرّقوا، و كانت اليهود تطلبه، فنافق أحدهم فقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح، فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها و دلّهم عليه، فالقي عليه شبه عيسى عليه السّلام، فرفعه إلى السماء، فأخذوا المنافق و هو يقول: أنا دليلكم، فلم يلتفتوا إلى قوله و صلبوه، ثمّ قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى و بدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، و إن كان صاحبنا فأين عيسى ؟! فوقع بينهم قتال عظيم(3).

قيل: حملت مريم عليها السّلام بعيسى عليه السّلام و هي بنت ثلاث عشرة سنة، و وضعته ببيت لحم من أرض أورشليم، لمضي خمس و ستّين سنة من غلبة الاسكندر على أرض بابل، و أوحي إليه على رأس ثلاثين سنة، و رفعه اللّه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان، و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة، و عاشت امّه بعد رفعه ستّ سنين(4).

و قيل: لمّا صلب المصلوب جاءت مريم عليها السّلام و معها امرأة أبرأها اللّه من الجنون بدعاء عيسى عليه السّلام، و جعلتا تبكيان على المصلوب، فأنزل اللّه عيسى عليه السّلام فجاءهما فقال: علام تبكيان ؟ [فقالتا: عليك].

فقال: إنّ اللّه تعالى رفعني، و لم يصبني إلاّ خير، و إنّ هذا شيء شبّه لهم(5).

قيل: إنّ اللّه تعالى كساه الرّيش و النّور، و ألبسه النّور، و قطع عنه شهوة المطعم و المشرب، فطار مع الملائكة(6).

في افتراق أصحاب عيسى عليه السّلام بعد رفعه على ثلاث فرق

ثمّ أنّ أصحابه حين رأوا ذلك تفرّقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان اللّه فينا ثمّ صعد إلى السّماء، و هم اليعقوبيّة، و قالت فرقة اخرى: كان فينا ابن اللّه ما شاء اللّه ثمّ رفعه

ص: 636


1- تفسير أبي السعود 43:2.
2- تفسير روح البيان 40:2، و الرواية ليست عن ابن عبّاس.
3- تفسير أبي السعود 42:2.
4- تفسير أبي السعود 43:2.
5- تفسير أبي السعود 43:2، تفسير روح البيان 40:2.
6- تفسير أبي السعود 44:2، تفسير روح البيان 40:2.

إليه، و هم النّطوريّة (1) ،و قالت فرقة اخرى منهم: كان فينا عبد اللّه و رسوله ما شاء اللّه، فرفعه اللّه إليه، و هؤلاء المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم، فلم يزل الإسلام منطمسا إلى أن بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ اعلم أنّه لمّا كان النّصارى معتقدين بأنّ اليهود أخذوا المسيح و صلبوه في مشهد جمّ غفير من النّاس، و كانوا يستهزءون به و يسخرون منه و هو مصلوب، حتّى شهق على الخشبة شهقة و مات، و كان قتل النبيّ خصوصا بهذه الذّلّة و المهانة من أعظم المصائب على امّته و من يعتقد بنبوّته، كان إخبار اللّه تعالى في كتابه المنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إخبار الرّسول بكذب القائلين بوقوع هذه الامور، و تخطئة النّصارى في هذا الاعتقاد، و قوله صلّى اللّه عليه و آله بأنّه ما قتل و ما صلب و ما أصابه وهن و ضرّ، بل رفعه اللّه حيّا في غاية الكرامة إلى السّماء، و كان المقتول و المصلوب عدوّه، أو المنافق الدّالّ عليه أو غيرهما، تسلية عظيمة للنّصارى و محبّي عيسى عليه السّلام، فينطبق على نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله جميع ما أخبر عيسى عليه السّلام حواريّيه بمجيء مسلّ بعده، و أمره إيّاهم بطاعته و استماع قوله، حيث لم يجئ أحد بعده بهذه الصّفة إلاّ خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله.

في إخبار عيسى ببعثة خاتم النبيين

و في إنجيل يوحنّا المترجم بالفارسية: (اين سخنان را بشما گفتم وقتى كه با شما بودم، لكن تسلّى دهنده؛ يعنى روح القدس، كه پدر او را باسم من مى فرستند او همه چيز را بشما تعليم خواهد داد و آنچه بشما گفتم به ياد شما خواهد آوريد).

إلى أن قال: (و الآن قبل از وقوع، بشما گفتم تا وقتى كه واقع گردد ايمان آوريد، بعد از اين بسيار با شما نخواهم گفت، زيراكه رئيس اين جهان ميايد و در من چيزى ندارد).

إلى أن قال: (لكن چون تسلّى دهنده كه او را از جانب پدر نزد شما مى فرستم آيد، يعنى روح راستى كه از پدر صادر مى گردد او بر من شهادت خواهد داد.

إلى أن قال: (و من بشما راست مى گويم كه رفتن من براى شما مفيد است، زيرا اگر نروم تسلّى دهنده نزد شما نخواهد آمد، امّا اگر بروم او را نزد شما مى فرستم، و چون او آيد جهان را بر [عدم] گناه و عدالت و داورى ملزم خواهد نمود )(2).

ص: 637


1- كذا، و الظاهر أنها النّسطوريّة.
2- جاء في النسخة العربية من انجيل يوحنا - الاصحاح (14-16): و أمّا المعزّي الرّوح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلّمكم كلّ شيء و يذكّركم بكلّ ما قتله لكم - إلى أن قال: - و قلت لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون. لا أتكلّم أيضا معكم كثيرا لأنّ رئيس هذا العالم يأتي و ليس له فيّ شيء - إلى أن قال: - و متى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي - إلى أن قال: - لكني أقول لكم إنّه خير لكم أن أنطلق. لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. و لكن إن ذهبت أرسله إليكم. و متى جاء ذاك يبكّت العالم على خطيّة و على بر و على دينونة.

إن قيل: إن جوّزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان لزم السّفسطة بحيث يحتمل أنّ كلّ من نراه يكون غيره تصوّر بصورته، و يلزم بطلان الشّرائع، إذ الشّرائع لا تثبت إلاّ بالأخبار المتواترة عن المحسوسات، فإذا احتمل الخطأ في الحسّ و وقوع الغلط فيه، لا نقطع بقولهم: إنّ النبيّ قال كذا، أو فعل كذا، و أنّهم رأوا النبيّ ، بل يحتمل أنّهم رأوا غير النبيّ بصورته.

و فيه: أنّ وقوع هذا الأمر بالمعجزة في مورد لا يوجب الشّكّ في سائر الموارد، كما أنّ مسخ الإنسان قردا أو خنزيرا لا يوجب احتمال أنّ كلّ خنزير تراه كان إنسانا متصوّرا بصورة الخنزير، مع أنّ المسخ مسلّم الوقوع في بعض الامم، أو إذا رأينا أنّ موسى ألقى عصاه فصارت ثعبانا، لا يحتمل أن ينقلب كلّ خشب ثعبانا.

و الحاصل: أنّ الإعجاز سبب انقلاب صورة بصورة، فإذا لم يحتمل وجود السّبب، لا يحتمل وجود المسبّب.

إن قيل: إنّ جبرئيل كان ملازما لعيسى، و كان قادرا على إهلاك اليهود، و كذا عيسى كان قادرا على إحياء الموتى و إماتة الأحياء، فكانا قادرين على إهلاك جميع اليهود.

قلنا: كان صلاح النّظام في رفعه إلى السّماء، و حفظه عن اليهود بهذا النّحو، و كان من صلاحه أن يكون حجّة على من ينكر طول عمر الحجّة بن الحسن عليه السّلام، لشبهة امتناع بقاء الإنسان في هذا المقدار من الزّمان الطّويل بلا شيب و هرم.

إن قيل: إنّ النّصارى على كثرتهم في مشارق الأرض و مغاربها، و شدّة محبّتهم للمسيح، أخبروا أنّهم شاهدوه مقتولا مصلوبا، فلوا أنكرنا ذلك كان طعنا فيما ثبت بالتّواتر، و هذا يوجب الطّعن في نبوّة خاتم النّبيّين.

قلنا: إنّما ثبت بالتّواتر أنّهم رأوا من كان بصورة عيسى مقتولا، و لو لا إخبار اللّه بخطئهم في الحسّ ، لقطعنا بقتل عيسى عليه السّلام. و أمّا الإشكال في جواز الخطأ في الحسّ فهو الإشكال الأوّل، و جوابه جوابه.

ص: 638

إن قيل: إنّه ثبت بالتّواتر أنّ المصلوب بقي حيّا زمانا طويلا، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع و لقال: إنّي لست بعيسى، بل إنّما أنا غيره، و لبالغ في تعريف ذلك، و لو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق، فلمّا لم يكن من ذلك أثر، و لم يوجد في دفتر، علمنا أنّه ليس الأمر كما ذكر.

قلنا: أمّا على تقدير كون المصلوب مؤمنا قد قبل هذا الأمر لنفسه، فهو لم يكن يظهر الأمر البتّة، و أمّا على تقدير كونه عدوّا، أو مؤمنا منافقا، فقد نقل أنّه أظهر ذلك، و قال: إنّي لست بعيسى، فلم يقبلوا منه، و كان عاجزا عن إثبات دعواه.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بشّره بالبشارتين الرّاجعتين إلى نفسه المقدّسة، بشّره بكرامة أتباعه المؤمنين به حقّ الإيمان بقوله: وَ إنّي جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ في العقائد و الأعمال، و آمنوا بك حقّ الإيمان، و لم يغلوا فيك كمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و أتباعه المؤمنين به فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك من اليهود المكذّبين، و النّصارى الغالين فيك، بالغلبة عليهم بالسّيف، و العزّة و الحجّة، من الآن إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و جاعل الذين خالفوك تحت سلطان المؤمنين، أذلاّء مقهورين ثُمَّ إِلَيَّ في يوم القيامة مَرْجِعُكُمْ

و مرجع مخالفيكم بالبعث و النّشور فَأَحْكُمُ إثر رجوعكم إليّ في ذلك اليوم بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ

في الدّنيا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ و تتنازعون من الكفر و الإيمان، و العقائد و الأعمال.

سورة آل عمران (3): آیة 56

اشارة

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)

سورة آل عمران (3): آیة 56

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة حكومته بينهم مفصّلا بقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه، و جحدوا رسالتك و دينك فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل، و السّبي، و الذّلّة، و المسكنة، و أخذ الجزية، و الأمراض و المصائب التي هي العقوبات الزائدة في حقّ الكفّار على عقوبات الآخرة، و من ألطافه تعالى في حقّ المؤمنين، لكونه ابتلاء لهم، و رفع درجة. و في اَلْآخِرَةِ بالنّار، و السّلاسل و الأغلال، و سائر ما اعدّ للكفّار وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ و حامين ينجونهم من أحد العذابين فضلا عن كليهما.

ص: 639

ص: 640

فهرس المحتوى

مقدمة المؤسسة 5

مقدمة التحقيق 7

ترجمة المؤلف 11

هذا الكتاب 15

الطرفة الأولى 23

الطرفة الثانية 27

الطرفة الثالثة 29

الطرفة الرابعة 36

الطرفة الخامسة 40

الطرفة السادسة 51

الطرفة السابعة 54

الطرفة الثامنة 56

الطّرفة التّاسعة 59

الطّرفة العاشرة 61

الطّرفة الحادية عشرة 69

الطّرفة الثانية عشرة 71

الطّرفة الثالثة عشرة 71

ص: 641

الطّرفة الرابعة عشرة 74

الطّرفة الخامسة عشرة 75

الطّرفة السادسة عشرة 78

الطّرفة السابعة عشرة 83

الطّرفة الثامنة عشرة 85

الطرفة التاسعة عشرة 93

الطرفة العشرون 98

الطرفة الحادية و العشرون 109

الطرفة الثانية و العشرون 110

الطرفة الثالثة و العشرون 115

الطرفة الرّابعة و العشرون 120

الطرفة الخامسة و العشرون 122

الطرفة السادسة و العشرون 123

الطرفة السّابعة و العشرون 128

الطرفة الثامنة و العشرون 132

الطرفة التاسعة و العشرون 134

الطرفة الثلاثون 135

الطرفة الحادية و الثلاثون 137

الطرفة الثانية و الثلاثون 142

الطرفة الثّالثة و الثلاثون 145

الطرفة الرابعة و الثلاثون 147

الطرفة الخامسة و الثلاثون 149

الطرفة السّادسة و الثّلاثون 151

الطرفة السّابعة و الثّلاثون 153

ص: 642

الطرفة الثّامنة و الثّلاثون 155

الطرفة التّاسعة و الثّلاثون 156

الطرفة الأربعون 166

خاتمة 173

في تفسير الاستعاذة أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم 175

في تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم) 179

في تفسير فاتحة الكتاب 185

[1-7] بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم 185

في تفسير سورة البقرة 193

[1-3] بسم الله الرحمن الرحيم ا لم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين 193

[4 و 5] و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون 195

[6 و 7] إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون 197

[8 و 9] و من الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر و ما هم بمؤمنين 207

[10-12] فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا و لهم عذاب أليم 208

[13-16] و إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أ نؤمن كما آمن السفهاء 211

[17-20] مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله 215

[21 و 22] يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم 219

[23 و 24] و إن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله 222

[25] و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى 226

[26-29] إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين 235

[30-32] و إذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أ تجعل 240

[33] قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال أ لم أقل 244

[34] و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر 244

[35 و 36] و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما 246

ص: 643

[37] فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم 252

[38] قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي 254

[39] و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 255

[40] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم و أوفوا بعهدى 255

[41 و 42] و آمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم و لا تكونوا أول كافر به 256

[43] و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اركعوا مع الراكعين 257

[44] أ تامرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب أ فلا تعقلون 257

[45 و 46] و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين 259

[47 و 48] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم و أنى 260

[49] و إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون 262

[50-52] و إذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم و أغرقنا آل فرعون و أنتم 263

[53] و إذ آتينا موسى الكتاب و الفرقان لعلكم تهتدون 264

[54] و إذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل 264

[55 و 56] و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم 265

[57] و ظللنا عليكم الغمام و أنزلنا عليكم المن و السلوى كلوا من طيبات 266

[58 و 59] و إذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا 267

[60] و إذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت 268

[61] و إذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج 269

[62] إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله 270

[63 و 64] و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة 271

[65 و 66] و لقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة 273

[67-73] و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أ تتخذنا 274

[74] ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة و إن 277

[75] أ فتطمعون أن يؤمنوا لكم و قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله 279

ص: 644

[76-78] و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلا بعضهم إلى بعض 280

[79] فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله 282

[80 و 81] و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله 283

[82] و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم 284

[83] و إذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل لا تعبدون إلا الله و بالوالدين إحسانا 285

[84 و 85] و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم و لا تخرجون أنفسكم 289

[86] أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب 291

[87-89] و لقد آتينا موسى الكتاب و قفينا من بعده بالرسل و آتينا عيسى 291

[90] بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله 293

[91] و إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا 294

[92 و 93] و لقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده و أنتم 295

[94 و 95] قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس 296

[96] و لتجدنهم أحرص الناس على حياة و من الذين أشركوا يود أحدهم 298

[97 و 98] قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا 299

[99 و 100] و لقد أنزلنا إليك آيات بينات و ما يكفر بها إلا الفاسقون * أو كلما 300

[101] و لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من 301

[102 و 103] و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان و ما كفر 302

[104 و 105] يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا و قولوا انظرنا و اسمعوا 305

[106] ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ا لم تعلم 307

[107] ا لم تعلم أن الله له ملك السماوات و الأرض و ما لكم من دون الله 308

[108] أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل و من 308

[109] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا 309

[110] و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه 310

[111 و 112] و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك 311

ص: 645

[113 و 114] و قالت اليهود ليست النصارى على شىء و قالت النصارى 313

[115] و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم 315

[116] و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما فى السماوات و الأرض 317

[117] بديع السماوات و الأرض و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون 317

[118] و قال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال 318

[119] إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا و لا تسأل عن أصحاب الجحيم 319

[120] و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى 320

[121] الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به و من يكفر 321

[122 و 123] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم و أنى 322

[124] و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما 322

[125] و إذ جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا و اتخذوا من مقام إبراهيم 327

[126] و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا و ارزق أهله من الثمرات 329

[127-129] و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك 329

[130] و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه و لقد اصطفيناه فى الدنيا 335

[131 و 132] إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * و وصى بها 336

[133] أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون 337

[134] تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و لا تسألون عما 338

[135] و قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا و ما 338

[136] قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق 339

[137] فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما هم فى شقاق 340

[138] صبغة الله و من أحسن من الله صبغة و نحن له عابدون 341

[139] قل أ تحاجوننا فى الله و هو ربنا و ربكم و لنا أعمالنا و لكم أعمالكم و نحن 342

[140 و 141] أم تقولون إن إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط 343

[142] سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله 344

ص: 646

[143] و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول 348

[144] قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول 351

[145] و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك و ما أنت بتابع 353

[146] الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم 354

[147] الحق من ربك فلا تكونن من الممترين 355

[148] و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله 356

[149 و 150] و من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام و إنه 357

[151 و 152] كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا و يزكيكم 359

[153 و 154] يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلاة إن الله مع الصابرين 362

[155] و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس 364

[156] الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون 367

[157] أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون 368

[158] إن الصفا و المروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح 369

[159 و 160] إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه 371

[161 و 162] إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله 373

[163] و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم 374

[164] إن فى خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك 375

[165-167] و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله 381

[168 و 169] يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا و لا تتبعوا 384

[170] و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا 385

[171] و مثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء صم 386

[172 و 173] يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم و اشكروا لله 387

[174-176] إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب و يشترون به ثمنا قليلا 390

[177] ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر 392

ص: 647

[178 و 179] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر 395

[180-182] كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا 397

[183-185] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين 399

[186] و إذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع 404

[187] أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم و أنتم لباس 406

[188] و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا 409

[189] يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس و الحج و ليس البر بأن تأتوا 411

[190-193] و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله 414

[194 و 195] الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى 416

[196] و أتموا الحج و العمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى 419

[197] الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث و لا فسوق 422

[198] ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات 423

[199-202] ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و استغفروا الله إن الله 425

[203] تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى و اتقوا الله و اعلموا أنكم إليه تحشرون 430

[204-206] و من الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا و يشهد الله على 431

[207] و من الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤف بالعباد 433

[208 و 209] يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة و لا تتبعوا خطوات 434

[210] هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ضلال من الغمام و الملائكة 436

[211] سل بنى إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة و من يبدل نعمة الله 438

[212] زين للذين كفروا الحياة الدنيا و يسخرون من الذين آمنوا و الذين 438

[213] كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل 439

[214] أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا 443

[215] يسألونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين 444

[216] كتب عليكم القتال و هو كره لكم و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير 445

ص: 648

[217 و 218] يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير و صد 447

[219 و 220] يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس 450

[221] و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن و لأمة مؤمنة خير من مشركة 456

[222] و يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض 458

[223] نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم و قدموا لأنفسكم و اتقوا الله 461

[224] و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا و تتقوا و تصلحوا بين 463

[225-227] لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت 464

[228] و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء و لا يحل لهن أن يكتمن 466

[229 و 230] الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان و لا يحل لكم 469

[231] و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو 473

[232] و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن 474

[233] و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة 476

[234] و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر 479

[235-237] و لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم فى 480

[238 و 239] حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين 484

[240-242] و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى 487

[243 و 244] أ لم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت 489

[245] من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة و الله 492

[246 و 247] أ لم تر إلى الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبى 493

[248] و قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من 497

[249] فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه 500

[250 و 251] و لما برزوا لجالوت و جنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا و ثبت 501

[252] تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق و إنك لمن المرسلين 504

[253] تلك الرسل فصلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم 505

ص: 649

[254] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه 507

[255] الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم له ما فى السماوات 508

[256] لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن 512

[257] الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا 514

[258 و 259] أ لم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال 516

[260] و إذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أ و لم تؤمن قال بلى 523

[261] مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل 526

[262] الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى 527

[263] قول معروف و مغفرة خير من صدقة يتبعها أذى و الله غنى حليم 528

[264] يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى كالذى ينفق ماله 529

[265] و مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله و تثبيتا من أنفسهم 531

[266] أ يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل و أعناب تجرى من تحتها الأنهار 532

[267] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم و مما أخرجنا لكم 533

[268] الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا 535

[269] يؤتى الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا و ما 536

[270] و ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه و ما للظالمين 537

[271] إن تبدوا الصدقات فنعما هى و إن تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو خير لكم 538

[272] ليس عليك هداهم و لكن الله يهدى من يشاء و ما تنفقوا من خير 539

[273] للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الأرض 541

[274-276] الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية فلهم أجرهم 542

[277] إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة لهم 547

[278-280] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين 548

[281] و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم 550

[282 و 283] يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه 551

ص: 650

[284] لله ما فى السماوات و ما فى الأرض و إن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه 561

[285] آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته 563

[286] لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ربنا 566

في تفسير سورة آل عمران 571

[1 و 2] بسم الله الرحمن الرحيم ا لم * الله لا إله إلا هو الحى القيوم 571

[3 و 4] نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه و أنزل التوراة و الإنجيل 573

[5 و 6] إن الله لا يخفى عليه شىء في الأرض و لا في السماء * هو الذى 575

[7] هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر 578

[8 و 9] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت 582

[10] إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا و أولئك 583

[11 و 12] كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله 584

[13] قد كان لكم آية فى فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل الله و أخرى كافرة 586

[14] زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من 588

[15] قل أ أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها 591

[16 و 17] الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا و قنا عذاب النار 592

[18] شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط لا إله 593

[19] إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما 594

[20] فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله و من اتبعن و قل للذين أوتوا الكتاب 595

[21 و 22] إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون 596

[23] أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم 597

[24] ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات و غرهم فى دينهم 598

[25] فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه و وفيت كل نفس ما كسبت و هم 599

[26 و 27] قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء و تنزع الملك 600

[28] لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين و من يفعل ذلك 602

ص: 651

[29] قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله و يعلم ما فى السماوات 603

[30 و 31] يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود 604

[32] قل أطيعوا الله و الرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين 606

[33 و 34] إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين 607

[35-37] إذ قالت امرأت عمران رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررا فتقبل 611

[38 و 39] هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك 616

[40 و 41] قال رب أنى يكون لى غلام و قد بلغنى الكبر و امرأتى عاقر قال 618

[42] و إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء 620

[43] يا مريم اقنتى لربك و اسجدى و اركعى مع الراكعين 621

[44] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم 622

[45] إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح 622

[46] و يكلم الناس فى المهد و كهلا و من الصالحين 623

[47] قالت رب أنى يكون لى ولد و لم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق 624

[48 و 49] و يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل * و رسولا إلى 625

[50 و 51] و مصدقا لما بين يدى من التوراة و لأحل لكم بعض الذى حرم 630

[52-54] فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال 631

[55] إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك و رافعك إلى و مطهرك من الذين كفروا 635

[56] فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا فى الدنيا و الآخرة و ما لهم من 639

ص: 652

المجلد 2

هویة الکتاب

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 1

اشارة

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الثاني

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 2

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

الجزء الثانى

تتمة تفسير سورة آل عمران

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 57

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (57)

ثمّ أردف سبحانه التّهديد و الوعيد بالوعد و التّرغيب، بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته، و عبوديّتك و رسالتك وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ التي يكون الالتزام بها من وظائف الإيمان، و داوموا على العبادات و الطّاعات فَيُوَفِّيهِمْ اللّه، و يكمل لهم أُجُورَهُمْ و ثواب إيمانهم و أعمالهم، من غير نقص وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ بل يبغضهم أشدّ البغض. و فيه بيان علّة تعذيبه الكافرين، و توفيته ثواب المؤمنين.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 58

ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآياتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ (58)

ثمّ استدلّ سبحانه على نبوّة خاتم النّبيّين بأنّ جميع هذه القضايا ممّا لا يمكن اطّلاع محمّد صلّى اللّه عليه و آله عليها إلاّ بالوحي من اللّه، لا بالتّعلّم من عالم، و لا بالقراءة في كتاب، حيث قال: ذلِكَ المذكور من نبأ عيسى بدوا و ختما نَتْلُوهُ و نقرأه عَلَيْكَ بالوحي، و بتوسّط جبرئيل، حال كون المتلوّ مِنَ اَلْآياتِ و الأدلّة الدّالّة على صحّة نبوّتك، من حيث إعجاز البيان، و كونه من الأخبار المغيّبات، وَ من اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ و القرآن المحكم المصون من تطرّق الخلل إليه، أو المشتمل على الحكم البالغة في نظمه و تأليفه و كثرة علومه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 59 الی 61

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ (61)

ثمّ أنّه نقل المفسّرون أنّ وفد نجران لمّا قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا سلّمت أنّه لا أب لعيسى من البشر، وجب أن يكون أبوه هو اللّه، فنزل دفعا لهذه الشّبهة (1)إِنَّ مَثَلَ عِيسى و شأنه البديع المنتظم لغرابته في سلك الأمثال عِنْدَ اَللّهِ و في

تقديره و حكمه كَمَثَلِ آدَمَ و نحو خلقته العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب، و لا ينازع فيها منازع.

ص: 5


1- . تفسير الرازي 8:74.

ثمّ بيّن سبحانه وجه المماثلة بقوله: خَلَقَهُ اللّه بقدرته الكاملة مِنْ تُرابٍ و سوّى جسده من طين لازب ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ بشرا و حيّا سويّا، و أراد أن يوجد إنسانا كاملا فَيَكُونُ و يوجد كما أراد من غير ريث، فإن كنتم عجبتم من خلق عيسى بلا آب، و لذلك قلتم: إنّه ابن اللّه، فلا بدّ أن يكون تعجّبكم من خلق آدم أكثر، و قولكم بأنّه ابن اللّه أولى.

فذلك البناء من كيفيّة خلق عيسى هو اَلْحَقُّ الثابت مِنْ رَبِّكَ لا قول النّصارى فَلا تَكُنْ بعد وحي اللّه إليك مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ في كيفيّة خلق عيسى، و الشّاكّين فيها، مع أنّه لا يمكن في حقّك الامتراء و الشّكّ.

فَمَنْ حَاجَّكَ في شأن عيسى و أمّه [و]

جادلك فِيهِ لجاجا و جهلا بالأقاويل الباطلة و الآراء الزّائغة مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ بالحقّ و ظهور الصّواب من الآيات البيّنات، و أقمت الحجج عليهم، فلم يرتدعوا عمّا هم عليه من الغيّ و الضّلال فَقُلْ لهم تَعالَوْا و هلمّوا بالرأي و العزيمة نَدْعُ نحن و أنتم أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ و تخصيص الأبناء بالذّكر؛ لأنّهم أعزّ من البنات وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ و ذكرهنّ لكونهنّ من بعد الأبناء أعزّة الأهل، و يجعل الإنسان نفسه وقاية لهنّ في المهالك، وَ ندع وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ إلى المباهلة، و احضروا حتّى نحمل نفوسنا، و من هو بمنزلة الرّوح منّا و ألصق بقلوبنا، على التّوطين للهلاك ثُمَّ نَبْتَهِلْ و نتلاعن فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ و عذابه عَلَى اَلْكاذِبِينَ منّا و منكم.

في (العلل) : عن الجواد عليه السّلام قال: «و لو قال: (تعالوا نبتهل فنجعل لعنت اللّه عليكم) لم يجيبوا للمباهلة، و قد عرف أن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله مؤدّ عنه [رسالته]و ما هو من الكاذبين، و كذلك عرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه صادق فيما يقول، و لكن أحبّ أن ينصف من نفسه» (1).

في شرح قضية المباهلة :

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أورد الدّلائل على النّصارى، ثمّ أنّهم أصرّوا على جهلهم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه أمرني إن لم تقبلوا الحجّة أن أباهلكم، فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثمّ نأتيك. فلمّا رجعوا قالوا للعاقب (2)، و كان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: و اللّه، لقد عرفتم يا معشر النّصارى أنّ محمّدا نبيّ مرسل، و لقد جاءكم بالكلام [الحقّ]في أمر صاحبكم، و اللّه ما باهل قوم نبيّا قطّ، فعاش كبيرهم، و لا نبت صغيرهم، و لئن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم [إلاّ]الإصرار على دينكم، و الإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرّجل و انصرفوا إلى بلادكم.

ص: 6


1- . علل الشرائع:129/1، عن الإمام الهادي عليه السّلام.
2- . العاقب: هو من يخلف سيّد القوم في الرتبة، و هو صاحب الرأي.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [قد]خرج و عليه مرط من شعر أسود-و المرط كساء من صوف-و كان صلّى اللّه عليه و آله قد احتضن الحسين عليه السّلام و أخذ بيد الحسن، و فاطمة تمشي خلفه، و عليّ عليه السّلام خلفها، و هو يقول: إذا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النّصارى، إنّي لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله [بها]، فلا تباهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

ثمّ قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك، و أن نقرّك على دينك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، و عليكم ما على المسلمين» فأبوا، فقال: «فإنّي أناجزكم القتال» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، و لكن نصالحك على أن لا تغزونا و لا تردّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك في كلّ عام ألفي حلّة؛ ألفا في صفر و ألفا في رجب، و ثلاثين درعا عاديّة من حديد، فصالحهم على ذلك، و قال: «و الذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستأصل اللّه نجران و أهله حتّى الطّير في رؤوس الشّجر، و لما حال الحول على النّصارى حتّى يهلكوا» .

أقول: هذا عين ما رواه الفخر الرازي في تفسيره (1)، و قريب ممّا رواه غيره من المفسّرين (2).

و قال البيضاوي بعد نقله: هذا دليل على نبوّته، و فضل من أتى بهم من أهل بيته (3).

و أقول: هذا دليل على أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه (4)، و أفضل من سائر البريّة، و أنّه خليفته.

ثمّ قال الفخر: و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خرج في المرط الأسود فجاء الحسن عليه السّلام فأدخله، ثمّ جاء الحسين عليه السّلام فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليّ عليهما السّلام، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (5). ثمّ قال: و اعلم أنّ هذه الرّواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التّفسير و الحديث (6).

في (العلل) : عن الكاظم عليه السّلام: «لم يدّع أحد أنّه أدخله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحت الكساء عند مباهلة النّصارى إلاّ عليّ بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين عليهما السّلام، فكان تأويل قوله عزّ و جلّ: أَبْناءَنا الحسن و الحسين عليهما السّلام، و نِساءَنا فاطمة عليها السّلام و أَنْفُسَنا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (7).

و عن القمي في رواية عن الصادق عليه السّلام، بعد ذكر آية فَمَنْ حَاجَّكَ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللّعنة عليكم، و إن كنت كاذبا أنزلت عليّ» فقالوا: أنصفت. فتواعدوا

ص: 7


1- . تفسير الرازي 8:80.
2- . تفسير البيضاوي 1:163، تفسير أبي السعود 2:46، تفسير الصافي 1:318.
3- . تفسير البيضاوي 1:163.
4- . أي نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
5- . الأحزاب:33/33.
6- . تفسير الرازي 8:80.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:85/9، تفسير الصافي 1:318 عن عيون أخبار الرضا عليه السّلام، و لم نجده في العلل.

للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم، السيّد و العاقب و الأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنّه ليس نبيا، و إن باهلنا بأهل بيته خاصّة فلا نباهله، فإنّه لا يقدم على أهل بيته إلاّ و هو صادق.

فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن، و الحسين عليهم السّلام، فقال النّصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: إنّ هذا ابن عمّه و وصيّه و ختنه عليّ بن أبي طالب، و هذه ابنته فاطمة، و هذان ابناه الحسن و الحسين عليهم السّلام، ففرقوا و قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعطيك الرّضا فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الجزية و انصرفوا (1).

في أن ابن البنت

ابن حقيقة

قال الفخر: هذه الآية دالّة على أنّ الحسن و الحسين ابنا رسول اللّه، حيث وعد أن يدعو أبناءه فدعا الحسن و الحسين عليهما السّلام فوجب أن يكونا ابنيه، و ممّا يؤكّد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إلى قوله: وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى (2)و معلوم أنّ عيسى انتسب إلى إبراهيم بالأمّ لا بالأب، فثبت أنّ ابن البنت قد يسمّى ابنا (3).

أقول: عصبيته منعته من أن يقول: فثبت أنّ ابن البنت ابن حقيقة، و قال: قد يسمّى ابنا.

في أنّ علي بن أبي

طالب عليه السّلام أفضل

من سائر الأنبياء

ثمّ قال: إنّه كان بالرّي رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، و كان معلّم الاثني عشريّة، و كان يزعم أنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال: و الذي يدلّ عليه قوله تعالى: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ، و ليس المراد بقوله: أَنْفُسَنا نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، و أجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و لا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النّفس هي عين تلك النّفس، فالمراد أنّ هذه النّفس هي مثل تلك النّفس، و ذلك يقتضي الإستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حقّ النّبوّة و في حقّ الفضل، لقيام الدّلائل على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان نبيّا، و ما كان عليّ كذلك، و لانعقاد الإجماع على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان أفضل من عليّ عليه السّلام، فيبقى فيما وراءه معمولا به، ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان أفضل من سائر الأنبياء، فيلزم أن يكون عليّ عليه السّلام أفضل من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية (4).

ثمّ قال الفخر [نقلا عن محمود الحمصي المتقدم]: و يؤيّد الاستدلال بهذه الآية، الحديث المقبول

ص: 8


1- . تفسير القمي 1:104، تفسير الصافي 1:318.
2- . الأنعام:6/84 و 85.
3- . تفسير الرازي 8:81.
4- . و للشيخ المفيد تفصيل في المقام ذكره في كتابه (تفضيل أمير المؤمنين عليه السّلام) المنشور في ج 7 من مصنفات الشيخ المفيد، فراجع.

عند الموافق و المخالف، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من أراد أن يرى آدم فى علمه، و نوحا في طاعته، و إبراهيم في خلّته، و موسى في هيبته، و عيسى في صفوته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب» . فالحديث دلّ على أنّه اجتمع فيه ما كان متفرّقا فيهم، و ذلك يدلّ على أنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا سائر الشّيعة فقد كانوا قديما و حديثا يستدلّون بهذه الآية على أن عليّا أفضل من سائر الصّحابة؛ و ذلك لأنّ الآية لمّا دلّت على أنّ نفس عليّ عليه السّلام (1)مثل نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلاّ فيما خصّه الدّليل، و كان نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل من الصّحابة، فوجب أن يكون عليّ أفضل أيضا من سائر الصّحابة. هذا تقرير كلام الشّيعة.

في نقل كلام الفخر

ورده

ثمّ قال الفخر: و الجواب: أنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله أفضل من عليّ عليه السّلام، انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبيّ، و أجمعوا على أن عليّا عليه السّلام لم يكن نبيّا، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الأنبياء. أنتهى كلام الفخر (2).

و فيه: أنّ دعوى الإجماع على أنّ كلّ نبيّ أفضل من غير النبي، في غاية البطلان، بل الإجماع على خلافه، لوضوح أنّ مريم كانت أفضل من أنبياء بني إسرائيل، و لم يكن في كمالاتها النّفسانيّة قصور عن أهليّتها لمنصب النّبوّة، غير أنّ صفة الأنوثية منعتها عن نيله، و الشّاهد على ذلك أنّها كانت تحدّث الملائكة مشافهة، و زكريّا مع كونه نبيّا، لم يعلم أنّه رأى ملكا، و إنّما كان يسمع النّداء.

و كذلك لم يكن في كمالات عليّ عليه السّلام قصور عن قابليّة رتبة النّبوّة، و لو لا ختم النّبوّة بوجود خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله لكان عليّ عليه السّلام نبيّا.

في إثبات أفضلية

الصديقة الطاهرة

على غير أبيها

من الأنبياء

بل اعتقاد الإماميّة أنّ فاطمة عليها السّلام؛ التي كانت دون عليّ عليه السّلام في الفضل، كانت أفضل من سائر الأنبياء، حيث قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فاطمة روحي التي بين جنبي» (3). و قال صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «لولا عليّ لما كان لفاطمة كفؤ، آدم و من دونه» (4).

و هذا الحديث و الحديث السّابق المتّفق عليه صريحان في أفضليّة علي عليه السّلام من سائر الأنبياء، نعم الإجماع منعقد على أنّ كلّ نبيّ أفضل من أمّته و ممّن هو تحت تبعيّته و حكمه، لا أنّه لا بدّ أن يكون

ص: 9


1- . (أفضل من سائر. . . عليّ عليه السّلام) ليس في المصدر.
2- . تفسير الرازي 8:81.
3- . أمالي الصدوق:175/2.
4- . الكافي 1:383/10، من لا يحضره الفقيه 3:249/1183، التهذيب 7:470/1882، الفردوس 3:373/5130، مقتل الحسين عليه السّلام للخوارزمي 1:66.

أفضل من كلّ من لا يكون نبيّا، و لو من سائر الأمم حتّى أوصياء خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله.

و الحاصل: أنّ القائل بأفضليّة عليّ عليه السّلام لم يكن منحصرا بذلك الفاضل الحمصي، بل هو قول جميع علماء الإماميّة، بل يمكن دعوى كونه من ضروريّات مذهبهم.

ثمّ أنّ في واقعة المباهلة دلالة واضحة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة نبوّته، لوضوح أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أعقل النّاس، و أنّه أقدم على المباهلة و خوّف النّصارى بنزول العذاب عليهم بدعائه، فلو لم يكن قاطعا بنبوّته، لكان ذلك منه سعيا في ظهور كذبه، و نقض غرضه، و إهلاك نفسه، حيث إنّ النّصارى إن كانوا أقدموا على المباهلة و رأوا أنّه لم ينزل عليهم العذاب، كان يتّضح عندهم كذبه صلّى اللّه عليه و آله و فضاحته بين النّاس، مع أنّه لا شبهة أنّ القوم تركوا مباهلته، فلو لم يظهر لهم نبوّته، لم يمكن عادة امتناعهم عن مباهلته، مع شدّة إصرارهم على تكذيبه، و إبطال دعواه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أكّد اللّه سبحانه الحجج التي أقامها على النّصارى بقوله: إِنَّ هذا المذكور من نبأ عيسى و أمّه، و كونهما مخلوقين للّه و عبديه، و من الأدلّة المفصّلة عليها لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ و البيانات المقرونة بالصّدق و الصّواب التي نتيجتها قوله: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ وحده لا شريك له، و لا ولد وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب على كلّ شيء، القادر على جميع ما يريد اَلْحَكِيمُ العالم بجميع الأمور و عواقبها، و بحكم كافّة الأشياء و مصالحها، لا يشابهه غيره في القدرة و الحكمة حتّى يشاركة في الألوهيّة.

إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن قبول الإسلام، و استنكفوا عن الاعتراف بتوحيد اللّه و رسالتك، فاعلم أنّه ليس ذلك التّولّي إلاّ عن العناد و إرادة الفساد، فإذن لا تبال بهم، و لا تحزن عليهم، و أعرض عنهم، و اقطع الكلام معهم، و فوّض أمرهم إلى اللّه فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ مطّلع على خبث ذاتهم و سوء نيّاتهم، خبير بأهوائهم الزّائغة و أغراضهم الفاسدة، قادر على مجازاتهم بأسوأ الجزاء. و في ذكر اسم الجلالة، تربية الرّوعة و المهابة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 64

ص: 10

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه بمباهلة أهل الكتاب، و إعراضه عن مجادلتهم-مع كونه صلّى اللّه عليه و آله حريصا في إيمانهم، و مصرّا على هدايتهم-أمره بأن يعدل في دعوتهم عن طريق المجادلة و المحاجّة إلى نهج يشهد كلّ عقل سليم أنّه عدل و إنصاف، ليس فيه شائبة التّعصّب، بقوله: قُلْ يا محمّد للنّصارى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا و هلمّوا بالتّصميم و توطين النّفس إِلى كَلِمَةٍ ذات سَواءٍ و قول فيه عدل و إنصاف بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ لا يتصوّر فيها لأحد جور و ميل على صاحبه؛ و هي تواطئنا على أَلاّ نَعْبُدَ أحدا من الخلق، و شيئا من الموجودات إِلاَّ اَللّهَ المستحقّ بالذّات للالوهيّة و العبادة وَ لا نُشْرِكَ بِهِ في عبادتنا شَيْئاً من مخلوقاته مسيحا كان، أو صنما، أو غيرهما وَ لا يَتَّخِذَ و لا يختار بَعْضُنا بَعْضاً آخر من الأحبار و الرّهبان أَرْباباً و مطاعين في تحليل الأشياء و تحريمها مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ (64)

في بيان المراد

من الأقانيم

فإنّ جميع هذه الأمور الثّلاثة (1)ممّا تسالمت عليها العقول السّليمة و الطّباع المستقيمة، و اتّفقت عليها الرّسل و الكتب المنزلة، و مع ذلك خالفت النّصارى كلّها، إذ كان بعضهم يقولون بالوهيّة عيسى عليه السّلام وحده و يعبدونه، و بعضهم يشركون باللّه غيره، و يقولون بالأقانيم الثّلاثة: أب، و ابن، و روح القدس، حيث قالوا: إنّ اقنوم الكلمة تدرّعت بناسوت المسيح، و اقنوم روح القدس بناسوت مريم، و لولا [كون]هذين الاقنومين ذاتين مستقلّتين، لما جازت عليها مفارقة ذات الأب و التّدرّع بناسوت عيسى و مريم عليهما السّلام، فلذا أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلّة، و كذا اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا، حيث كانوا يطيعونهم في التّحليل و التّحريم، و يسجدون لهم.

روي أنّه لمّا نزلت اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ (2)قال عديّ بن حاتم: ما كنّا نعبدهم يا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ ليس كانوا يحلّون لكم و يحرّمون، فتأخذون بقولهم؟» قال: نعم، قال: «هو ذلك» (3).

قيل: إنّ من مذهبهم أنّ من صار كاملا في الرّياضة و المجاهدة يظهر منه (4)أثر حلول اللاّهوت، فيقدر على إحياء الأموات، و إبراء الأكمه و الأبرص. فإنّهم و إن لم يطلقوا عليه اسم الرّبّ، إلاّ أنّهم أثبتوا فيه (5)معنى الرّبوبيّة (6).

و روي أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما تريد إلاّ أن نتّخذك ربّا كما اتّخذت النّصارى عيسى، و قالت

ص: 11


1- . أي الواردة في الآية.
2- . التوبة:9/31.
3- . تفسير أبي السعود 2:47.
4- . في تفسير الرازي: فيه.
5- . في تفسير الرازي: في حقه.
6- . تفسير الرازي 8:86.

النّصارى: يا محمّد، ما تريد إلاّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، فأنزل اللّه هذه الآية (1). و عليها يكون الخطاب لأهل الكتابين.

ثمّ قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا عن سلوك طريق الإنصاف و اتّباع العقل، و استنكفوا عن قبول ما دعوتهم إليه من التّوحيد و ترك الإشراك فَقُولُوا أيّها الموحّدون لأهل الكتابين: اِشْهَدُوا و اعترفوا بعدما لزمتكم الحجّة بِأَنّا خاصّة مُسْلِمُونَ للّه منقادون لما دعانا إليه من التّوحيد، و عدم الإشراك في العبادة؛ ببيان العقل، و لسان الرّسل. و فيه دلالة ظاهرة على أنّ أصل جميع الدّيانات هو التّوحيد، و الإخلاص في العبادة.

في توقيع سيد

الرسل إلى قيصر

الروم

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتب إلى قيصر الرّوم: «من محمّد رسول اللّه، إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد: فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، و أسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين، و إن تولّيت فإنّ عليك إثم الأوليين (2)، و يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً إلى قوله: فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» (3).

روي أنّ هرقل سأل عن حال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عرفها ممّن جاء بكتابه، فقال هرقل: لو كنت عنده لقبّلت قدميه؛ لمعرفته صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعلاماته المعلومة له من الكتب القديمة، لكن خاف من ذهاب الرّئاسة.

ثمّ أنّه كتب جواب كتابه صلّى اللّه عليه و آله: إنا نشهد أنّك نبيّ، و لكنّا لا نستطيع أن نترك الدّين القديم الذي اصطفاه اللّه لعيسى. فعجب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «لقد ثبت ملكهم إلى يوم القيامة أبدا» .

و كتب إلى كسرى ملك فارس فمزّق كتابه، و رجع الرّسول بعدما أراد قتله، فدعا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: «خرّق اللّه ملكهم، فلا ملك لهم أبدا» ، فكان كذلك (4).

فى مبالغة

النبي صلّى اللّه عليه و آله في دعوة

النصارى و حسن

التدّرج في

الحجاج

قال بعض: انظر ما روي في هذه القضيّة من المبالغة في الإرشاد، و حسن التّدرّج في الحجاج بيّن أوّلا أحوال عيسى، و ما تعاور (5)عليه من الأطوار المنافية للإلاهيّة، ثمّ ذكر كيفيّة دعوته للنّاس إلى التّوحيد و الإسلام، ثمّ ذكر ما يحلّ عقدتهم، و يزيح شبهتهم، فلمّا ظهر عنادهم و لجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثمّ لمّا

ص: 12


1- . تفسير الرازي 8:85.
2- . في تفسير روح البيان: الاريسيّين، و هم الخدم و الخول، أو هم عبدة النار، أو الملوك و العشارون. انظر: مكاتيب الرسول:105-107.
3- . تفسير روح البيان 2:46.
4- . تفسير روح البيان 2:46.
5- . تعاور: أي تداول عليه.

أعرضوا و انقادوا بعض الانقياد، عاد عليهم بالإرشاد، و سلك طريقا أسهل و ألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى و الإنجيل و سائر الأنبياء و الكتب، ثمّ لمّا ظهر عدم إجدائه، و علم أنّ الآيات و النّذر لا تغن عنهم، أعرض عن ذلك بقوله: اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ .

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 65

ثمّ أنّه-لمّا كان كلّ من اليهود و النّصارى يدّعون أنّ إبراهيم كان على دينهم، و يستدلّون بذلك على صحّة ملّتهم، لتسالم جميع الفرق على علوّ مقام إبراهيم عليه السّلام، و استقامة طريقته، و حسن سيرته، و صحّة عقيدته-ردّ اللّه عليهم بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ من اليهود و النّصارى لِمَ تُحَاجُّونَ و تنازعون فِي دين إِبْراهِيمَ أنّه يهوديّ أو نصرانيّ وَ الحال أنّه ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ اللذين بهما حدث الدّينان إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ بقرون كثيرة، و لم يكونا في زمانه أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنّ هذه الدّعوى واضحة البطلان؟ و كيف لا تفهمون أنّ هذا القول من الفساد بمكان.

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65)قيل: إنّ بين إبراهيم و موسى عليهما السّلام و نزول التّوراة ألف سنة، و بين موسى و عيسى عليهما السّلام و نزول الإنجيل ألفا سنة (1).

وهم و دفع

إن قيل: إنّ المسلمين أيضا يدّعون أنّ إبراهيم كان مسلما، و هذه الدّعوى كدعوى أهل الكتابين من المحالات، حيث إنّه ما أنزل القرآن و الإسلام إلاّ من بعده، فكلّ ما يقول المسلمون في توجيه دعواهم، تقول الطّائفتان أيضا.

قلنا: المراد من الإسلام: هو التّوحيد الخالص، و تنزيهه تعالى عن التّجسّم و الولد و الحاجة. و هذ الدّين كان من أوّل الدّنيا، و يكون إلى يوم القيامة. و المراد باليهوديّة: هو القول بالشّرك، و التّجسّم، و إثبات الولد له تعالى. و كذا النّصرانيّة.

و هذه العقائد الفاسدة كانت عندهم منسوبة إلى الكتابين، أو حدثت في اعتقادهم بعد الكتابين؛ لأنّ اليهود ذهبوا إلى القول بأنّ العزير ابن اللّه لتلاوته التّوراة بعد ذهابها من بين النّاس عن ظهر القلب، و النّصارى قالوا: إنّ المسيح الجائي بالإنجيل كان هو اللّه أو شريكه أو ولده؛ لأنّه كان بلا أب، أو كان عيسى عليه السّلام يعبّر في الإنجيل عن اللّه بالأب.

و أمّا العقائد الإسلاميّة فلم يكن حدوثها بنزول القرآن، بل أخبر القرآن بأنّها كانت من لدن آدم

ص: 13


1- . تفسير أبي السعود 2:48، تفسير روح البيان 2:48.

و قبله.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ إنّه سبحانه وبّخ أهل الكتاب على دعواهم الفاسدة بقوله: ها تنبّهوا يا أهل الكتاب أَنْتُمْ هؤُلاءِ الحمقاء، البعيدون عن العقل، الممتازون بغاية السّفاهة، حيث إنّكم حاجَجْتُمْ و جادلتم في كثير من الدّعاوى الباطلة، متمسّكين بالتّوراة و الإنجيل المحّرفين، كدعوى كون كثير من أحكامهما مخالفا لدين الإسلام، و تدّعون أنّ جدالكم فيه جدال فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لوجود هذه المخالفة في الكتاب الذي تسمّونه بالتّوراة و الإنجيل فَلِمَ تُحَاجُّونَ و تجادلون فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من دين إبراهيم عليه السّلام أنّه كان يهوديّا، أو نصرانيّا، أو مسلما، لعدم تعيينه في الكتابين المحرّفين وَ اَللّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور، منها دين إبراهيم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئا إلاّ ما علّمكم اللّه.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (67)

فإن أردتم أن تعلموا دين إبراهيم فاعلموا أنّه ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا فإنّ مقامه أرفع من التّديّن بالدّينين الباطلين وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً و مائلا عن جميع العقائد الباطلة و مُسْلِماً منقادا للّه وحده وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ و فيه تعريض بأنّهم مشركون، و ردّ على مشركي العرب؛ حيث كانوا يدّعون أنّهم على دين إبراهيم عليه السّلام.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 68

ثمّ أنّه تعالى عرّف الذين هم على دين إبراهيم عليه السّلام بقوله: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ و أحقّهم بالاتّصال بِإِبْراهِيمَ برابط الدّين، فريقان: الأوّل: لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ في زمانه و الأعصار بعده، في التّوحيد الخالص، و الانقياد للّه، وَ الثاني: هذَا اَلنَّبِيُّ المعظّم وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا من المسلمين وَ اَللّهُ وَلِيُّ اولئك اَلْمُؤْمِنِينَ فينصرهم على مخالفيهم، و يؤيّدهم بالحجّة، و يوفّقهم لكلّ خير في الدّنيا، و يجازيهم بأحسن الجزاء في الآخرة.

إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ (68)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 69

ص: 14

ثمّ أنّه تعالى-لمّا بيّن أنّ المؤمنين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله هم الذين يكونون على ملّة إبراهيم، دون اليهود و النّصارى-بيّن أنّهم لا يقتصرون على ضلالة أنفسهم عن نهج الحقّ، بل يريدون إضلال المؤمنين، بقوله: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ و تمنّوا لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أيّها المؤمنون عن دينكم الحقّ مع غاية ثباتكم عليه، و الحال أنّهم وَ ما يُضِلُّونَ عن سبيل الهداية و طريق الجنّة إِلاّ أَنْفُسَهُمْ لرسوخ الإيمان في قلوبكم، و عدم تخطّيهم الضّلال وَ ما يَشْعُرُونَ باختصاصهم به، و رجوع وبال ذلك الضّلال إليهم.

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69)قيل: نزلت هذه الآية في معاذ و عمّار بن ياسر و حذيفة [لمّا]دعاهم اليهود إلى دينهم (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 70

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب التّوبيخي إليهم بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ الناطقة بصحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ على أنّها آيات اللّه في خلواتكم، و قيل: المراد: لم تنكرون القرآن و أنتم تشهدون بقلوبكم و عقولكم كونه معجزا (2).

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 71

ثمّ وبّخهم ثانيا بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ و تخلطون اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ و تجتهدون في إلقاء الشّبهات، حتّى لا يتميّز الرّشد من الغيّ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ و تخفون دلائله الواضحة وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بها و بدلالتها، و قبح الكتمان و التّلبيس و بعقابهما الاخرويّ.

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 72 الی 73

ثمّ بيّن اللّه أحد أنواع تلبيساتهم بقوله: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ رؤساء أَهْلِ اَلْكِتابِ لأتباعهم- قيل: إنّها كانت كعب بن أشرف و مالك بن الصيف من رؤساء اليهود، لأتباعهما و أصحابهما، لمّا

وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)

ص: 15


1- . جوامع الجامع:61.
2- . تفسير الرازي 8:92.

تحوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة-: آمِنُوا في الظّاهر بألسنتكم بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد، من تحويل القبلة، و قولوا بأفواهكم: إنّه الحقّ، و صلّوا إليها وَجْهَ اَلنَّهارِ و في أوّله.

و عن العيّاشي: و هو صلاة الصّبح (1)، حتّى يعتقد المؤمنون أنّكم اعتقدتم عن صميم القلب وَ اُكْفُرُوا به و تجاهروا بإنكاره و صلّوا إلى الصّخرة آخِرَهُ

عبّاس (2)-كي يكون ذلك سببا لوقوع الشّبهة في قلوبهم بأن يقولوا في أنفسهم: إنّ اليهود أعلم منّا، فآمنوا بالتّحويل من غير تأمّل و غرض، ثمّ بعد التّامّل و التّفكّر ظهر لهم بطلانه فرجعوا لَعَلَّهُمْ بهذه الشّبهة يَرْجِعُونَ عن الإيمان بمحمّد، و بتحويل القبلة.

و قيل: كانت الطّائفة اثني عشر رجلا من أحبار خيبر، حيث تقاولوا بأن يدخلوا في الإسلام أوّل النّهار، و يقولوا آخره: نظرنا في كتابنا، و شاورنا علماءنا، فلم نجد محمّدا بالنّعت الذي ورد في التّوراة، لعلّ أصحابه يشكّون فيه (3).

وَ قالوا لأتباعهم، و وصّوا إليهم بأن لا تُؤْمِنُوا إيمانا واقعيّا، و لا تصدّقوا عن صميم القلب لأحد إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ من اليهود، لا لمن تبع دين محمّد من المسلمين.

قيل: إنّ المراد: لا تظهروا الإيمان وجه النّهار إلاّ للمسلمين الّذين كانوا على دينكم من قبل، فإنّ رجوعهم أرجى و أهمّ (4).

و في الإخبار بهذه الأسرار الخفيّة معجزة ظاهرة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و حفظ قلوب المؤمنين عن الشّكّ، و ردع المنافقين عن السّعي في إلقاء الشّبهات.

ثمّ لما سمّوا طريقتهم الباطلة بالدّين و الهداية ردّهم اللّه بقوله: قُلْ إِنَّ اَلْهُدى و الدّين هُدَى اَللّهِ و دينه، لا مذهب اليهوديّة. أو المراد: قل لهم إنّ الهداية و التّوفيق هداية اللّه و توفيقه، يهدي بها من يشاء إلى الإيمان، و يثيبه عليه، و لا يضرّه كيدكم و حيلكم.

ثمّ إنّ الأظهر أنّه تعالى-بعد الجملة الاعتراضيّة التي جاء بها، لشدّة الاهتمام بالتّنبيه بها-عاد إلى حكاية بقيّة كلام الرؤساء لاتباعهم، و كأنّهم قالوا لهم: و لا تؤمنوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ من العرب أو غيرهم مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من المعجزات، و الكتاب، و الأحكام، و العلوم، فإنّ ذلك من المحالات غير

ص: 16


1- . تفسير الرازي 8:94 عن ابن عبّاس، و لم نعثر عليه في تفسير العياشي.
2- . تفسير الرازي 8:94.
3- . تفسير البيضاوي 1:165، تفسير أبي السعود 2:49.
4- . تفسير البيضاوي 1:165، تفسير أبي السعود 2:49.

القابلة للتّصديق أَوْ أنّ المسلمين يُحاجُّوكُمْ و يغلبوا عليكم عِنْدَ رَبِّكُمْ يوم القيامة، فاثبتوا بغاية الثّبات على دينكم، فإنّه غير منسوخ. و في الآية احتمالات اخر يكون التكلّف فيها أكثر.

ثمّ رد اللّه عليهم بقوله: قُلْ لهم إِنَّ اَلْفَضْلَ من النّبوّة، و العلم، و الكتاب، و الهداية، و التّوفيق أمره بِيَدِ اَللّهِ و إرادته و مشيئته و قدرته يُؤْتِيهِ و يصيب به مَنْ يَشاءُ من عباده على حسب قابليّته و كمال وجوده، و لا يختصّ بطائفة خاصّة و أشخاص مخصوصة وَ اَللّهُ واسِعٌ قدرة و رحمة و فضلا عَلِيمٌ باستحقاقات الخلائق و قابليّاتهم، و مطّلع على جميع مصالح الأمور و مفاسدها.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 74

ثمّ أكّد سبحانه سعة قدرته و فضله بقوله: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من نعمه و كرامته مَنْ يَشاءُ إنعامه و إكرامه، قيل: إنّ الرّحمة أعلى من الفضل وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ بحيث لا نفاد لفضله، و لا نهاية لكرمه.

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (74)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 75

ثمّ لمّا كان أهل الكتاب مدّعين أولويّتهم بمنصب النّبوة من غيرهم من العرب، نفى اللّه أهليتهم له، بكون غير المسلمين منهم خائنين في أموال النّاس، بقوله: وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ كعبد اللّه بن سلام، و أضرابه من المؤمنين منهم مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ قيل: هو كناية عن المال الكثير يُؤَدِّهِ و يردّه إِلَيْكَ و لا يخونه (1)شيئا.

وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)عن ابن عبّاس: أودع رجل عبد اللّه بن سلام ألفا و مائتي أوقيّة ذهبا، فأدّاه إليه (2).

وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ قيل: هو كناية عن المال القليل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ و يخونك فيه، في أي وقت من الأوقات، و أي حال من الأحوال إِلاّ ما دُمْتَ من حين التّأمين عَلَيْهِ قائِماً و له ملازما، لا تفارقه في وقت أو حال. قيل: هو كناية عن المبالغة في المطالبة و التّشديد فيها.

عن ابن عبّاس: أنّ فنخاص بن عازورا استودعه رجل قرشيّ دينارا فجحده (3).

ص: 17


1- . خان المال: نقصه.
2- . تفسير الرازي 8:100.
3- . تفسير الرازي 8:100، تفسير البيضاوي 1:166، تفسير أبي السعود 2:50.

و قيل: إنّ المراد من المأمونين: النّصارى، و من الخائنين: اليهود، لكون الغالب فيهم الخيانة (1).

ثمّ ذكر سبحانه علّة خيانتهم بقوله: ذلِكَ العمل القبيح من الخيانة، و ترك أداء الأمانة و شيوعه فيهم، معلّل بِأَنَّهُمْ قالُوا تعصّبا و عنادا و غرورا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي شأن اَلْأُمِّيِّينَ و العرب الذين ليسوا من أهل العلم و الكتاب سَبِيلٌ و مؤاخذة و عتاب من اللّه. روي أنّ اليهود بايعوا رجالا في الجاهليّة، فلمّا أسلموا طالبوهم بالأموال، فقالوا: ليس لكم علينا حقّ؛ لأنّكم تركتم دينكم (2).

وَ هم لخبث ذاتهم يَقُولُونَ و يفترون عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ حيث إنّهم كانوا ينسبون هذا القول الباطل إلى التوراة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ هذا القول و النّسبة كذب و فرية.

في وجوب ردّ

الأمانة و لو إلى

الكافر

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كذب أعداء اللّه، ما من شيء كان في الجاهليّة إلاّ و هو تحت قدمي، إلاّ الأمانة فإنّها مؤدّاة إلى البرّ و الفاجر» (3).

أقول: فيه دلالة على وجوب ردّ الأمانة، و لو إلى الكافر الحربي غير المحترم المال. و يعاضده روايات أخر، و قد عمل بها الأصحاب، و ادّعي عليه الشّهرة، و نسب قول أبي الصّلاح- القائل بعدم الوجوب-إلى الشّذود (4).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 76

ثمّ لمّا كان هذا الافتراء مبنيّا على ادّعائهم أنّهم أبناء اللّه و أحبّاؤه، ردّ اللّه عليهم بقوله: بَلى عليكم في الأمّيين سبيل، و لستم أحبّاء اللّه، إنّما أحبّاؤه كلّ مَنْ أَوْفى و عمل بِعَهْدِهِ و تكاليفه و أحكامه وَ اِتَّقى الشّرك و الخيانة في الأمانة فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ و يثيب المتحرّزين عن الخيانة و نقض العهود.

بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ (76)عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، و من كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق، حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، و إذا حدّث كذب، و إذا عاهد غدر، [و إذا خاصم فجر]» (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 77

إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ ÙΙęЙʙř̠(77)

ص: 18


1- . تفسير أبي السعود 2:50.
2- . تفسير الرازي 8:102.
3- . تفسير الرازي 8:102.
4- . راجع مفتاح الكرامة 6:40، جواهر الكلام 27:124.
5- . تفسير روح البيان 2:52.

ثمّ لمّا كانت الخيانة نقض عهد اللّه، و إنكار أخذ الأمانة مستلزما للأيمان الكاذبة غالبا، هدد اللّه عليهما بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ و يستبدلون بِعَهْدِ اَللّهِ و ميثاقه، [سواء]

كان على الإيمان بالرّسول أو الوفاء بالأمانات أو غيرهما وَ أَيْمانِهِمْ الكاذبة، سواء كانت على إنكار أخذ الأمانة، أو على أنّهم يؤمنون بالرّسول و ينصرونه. و يأخذون بعوض الوفاء بالعهد، و أداء الأمانة، و برّ اليمين ثَمَناً و بدلا قَلِيلاً من متاع الدّنيا، و الرّئاسات الباطلة.

أُولئِكَ المتخلّقون بتلك الأخلاق الذّميمة، المتّصفون بتلك الصّفات القبيحة لا خَلاقَ و لا نصيب لَهُمْ من النّعم و الرّحمة فِي اَلْآخِرَةِ و الدار الباقية وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ بما يسرّهم، أو بكلام أصلا، و إنّما يقع ما يقع من السّؤال و التقريع و التّوبيخ في أثناء الحساب، من الملائكة.

و قيل: إنّ المراد أنّهم لا ينتفعون بكلمات اللّه و ألطافه، و قيل: إنّ الجملة كناية عن شدّة الغضب و السّخط (1).

وَ لا يَنْظُرُ اللّه إِلَيْهِمْ بنظر الرّحمة و الرّأفة يَوْمَ اَلْقِيامَةِ لغاية سقوطهم و هوانهم وَ لا يُزَكِّيهِمْ و لا يطهّرهم من أوساخ الأوزار، و دنس الذّنوب، كما يطهّر المذنبين من المؤمنين وَ لَهُمْ بحسب الاستحقاق عَذابٌ بالنّار أَلِيمٌ و موجع في الغاية.

روي أنّها نزلت في أبي رافع، و لبابة بن الحقيق، و حيي بن أخطب، حرّفوا التّوراة، و بدّلوا نعت الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و أخذوا الرّشوة على ذلك (2).

و قيل: نزلت في الأشعث بن قيس، حيث كان بينه و بين رجل نزاع في بئر، فاختصما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له: «شاهداك، أو يمينه» فقال الأشعث: إذن يحلف و لا يبالي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من حلف على يمين يستحق بها مالا، هو فيها فاجر، لقي اللّه و هو عليه غضبان» (3).

و قيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السّوق، فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به (4).

و الجمع بين الرّوايات أنّ جميع الوقائع لاقترانها كان شأن النّزول.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 78

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)

ص: 19


1- . تفسير الرازي 8:105. (2 و 3 و 4) . تفسير أبي السعود 2:51.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّهم نقضوا عهد اللّه بخيانتهم في أموال النّاس، ذكر أنّهم نقضوا عهده بخيانتهم في التّوراة التي هي أعظم ودائع اللّه في خلقه، و تحريفهم إيّاها، بقوله: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً و طائفة ككعب بن أشرف و حيي بن أخطب و أضرابهما يَلْوُونَ و يفتلون أَلْسِنَتَهُمْ عند التّلفّظ بِالْكِتابِ المنزل عليهم، و حين قراءة آياته الدّالّة على نعوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتغيير الحركات و الإعراب، و كيفيّة تأدية الحروف بحيث يوجب تحريف كلام اللّه، و تغيير مدلوله المنزل إلى المحرّف لِتَحْسَبُوهُ و تتوهّموه أنّه بالنّحو الذي يقرأونه مِنَ جملة اَلْكِتابِ المنزل، وَ الحال أنّه ما هُوَ مِنَ جملة ذلك اَلْكِتابِ في نفس الأمر، و في اعتقادهم، وَ مع ذلك يَقُولُونَ بالصّراحة، لا بالكناية و التّعريض لمحرّفهم: هُوَ الكتاب المنزل مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ حتّى في اعتقادهم وَ يَقُولُونَ بهذه النّسبة عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ و الافتراء تجرّيا و غرورا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم كاذبون مفترون، و فيه تسجيل عليهم بالتعمّد في الكذب.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ النّفر الّذين لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة، و لا ينظر إليهم، كتبوا كتابا شوّشوا فيه نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و خلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قالوا: هذا من عند اللّه (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 79 الی 80

ثمّ لمّا كان كذب أهل الكتاب غير مختصّ باللّه و تحريفهم بنعوت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، بل كانوا يكذبون و يفترون على أنبيائهم و يحرّفون كلماتهم، كافتراء النّصارى على عيسى بأنّه كان يدّعي الالوهيّة، و يأمر النّاس بعبادة نفسه، نزّه اللّه تعالى أنبياءه عن هذه الأباطيل، ردّا على المفترين، بقوله: ما كانَ صالحا لِبَشَرٍ بلغ في كمال القوّة النظريّة و العمليّة إلى أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ و يهبه اَلْكِتابَ الناطق بالحقّ، الآمر بالتّوحيد، النّاهي عن الشّرك وَ أن يؤتيه اَلْحُكْمَ قيل: هو كناية عن الفهم و العلم و السّنن، وَ أن يهبه اَلنُّبُوَّةَ الّتي هي منصب إلهي للنفوس الكاملة الطّيّبة الزّكيّة كي يقوموا بهداية الخلق و تعليمهم و تربيتهم ثُمَّ يَقُولَ ذلك البشر، مع كونه في مرتبة البشريّة المنافية للالوهيّة، و بعد ما شرّفه اللّه بما ذكر من التّشريفات، و عرّفه الحقّ، و أطلعه على شؤونه العالية لِلنّاسِ كُونُوا

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

ص: 20


1- . تفسير الرازي 8:107.

عِباداً خاضعين منقادين لِي و أطيعوني مِنْ دُونِ اَللّهِ قيل: إنّ المراد: متجاوزين اللّه في العبادة.

روي أنّ أبا رافع القرظيّ، و السيّد النجراني قالا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتريد أن نعبدك و نتّخذك ربّا؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه، و أن نأمر بعباده غيره» (1)فنزلت [الآية].

و نقل أنّه قال رجل من المسلمين: يا رسول اللّه، نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيّكم، و اعرفوا الحقّ لأهله» (2).

أقول: يمكن كون مرجع ضمير (أهله) هو النبيّ، لا (الحقّ) فيكون أمرا بمعرفة آله بالولاية، و وجوب الطّاعة.

وَ لكِنْ البشر العالم المعلّم للخلق، يقول لهم: كُونُوا رَبّانِيِّينَ و العلماء الكاملين في معرفة اللّه، المتمسّكين بدينه، القائمين بطاعته، المقبلين على عبادته، و ذلك الاهتمام في العلم و العمل بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ النّاس اَلْكِتابَ السّماوي المشحون بالمعارف و الحكم و الأحكام وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ كتاب اللّه و تقرأونه، فإنّ دراسة كتاب اللّه و تلاوته-التي هي ذريعة المعرفة و العمل، و التّصدي لتربية الخلق و تكميلهم-سبب لاهتمام المربّي بتربية نفسه. و إنّما قدّم التّعليم على الدّراسة لشرفه عليها.

وَ لا يصلح أنّه يَأْمُرَكُمْ و يبعثكم ذلك البشر المبعوث لهداية النّاس إلى أَنْ تَتَّخِذُوا و تختاروا لأنفسكم اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً و آلهة معبودين من دون اللّه كمشركي العرب و الصّابئين حيث قالوا بأنّ الملائكة بنات اللّه، و كاليهود حيث قالوا بأنّ العزير ابن اللّه، و كالنّصارى حيث قالوا بأنّ المسيح ثالث ثلاثة، أو ابن اللّه.

ثمّ لإظهار غاية شناعة نسبة هذه الأمور إلى النبيّ العارف باللّه حقّ معرفته، بل امتناع وقوعها منه، أنكر سبحانه على القائلين بها بقوله: أَ يَأْمُرُكُمْ النبيّ الدّاعي إلى الإسلام و التّوحيد بِالْكُفْرِ و الشّرك، لا سيّما بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ موحّدون.

قيل: فيه دلالة على أنّ المخاطبين كانوا مسلمين، [و هم]الذين استأذنوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله [في]أن يسجدوا له (3).

ص: 21


1- . تفسير الرازي 8:109، تفسير أبي السعود 2:52.
2- . تفسير أبي السعود 2:52.
3- . تفسير الرازي 8:113.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 81 الی 82

ثمّ لمّا ظهر من الآية أنّ منصب النّبوّة ملازم للتّوحيد و الدّعوة إلى اللّه و عبادته، أشار [سبحانه]

إلى أنّ كلّ نبيّ و أمّته لا بد أن يكونوا مصدّقين لجميع الأنبياء، و أنّ اللّه أخذ منهم العهد على ذلك بقوله: وَ إِذْ قيل: إنّ المراد اذكر يا محمّد حين أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ .

وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (82)قيل: إنّ اللّه تعالى أخذ الميثاق من النّبيّين خاصّة أن يصدّق بعضهم بعضا، و أخذ العهد على كلّ نبيّ أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء، و ينصره إن أدركه، و أن يأمر قومه بالإيمان به و بنصرته إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، و منهما أن يؤمنا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: المأخوذ منهم الميثاق أممهم.

عن (المجمع) : عن الصادق عليه السّلام قال: «معناه: و إذ أخذ اللّه ميثاق أمم النّبيّين، كلّ امّة بتصديق نبيّها و العمل بما جاءهم به، [و أنّهم خالفوهم فيما بعد]فما وفوا به، و تركوا كثيرا من شرائعهم، و حرّفوا كثيرا منها» (1).

و عن الباقر صلّى اللّه عليه و آله، في رواية قال: «هكذا أنزلها اللّه» يعني طرح منها (امم) (2).

و كان ذلك الميثاق و العهد أنّه لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ و شرّفتكم بالعلم بالأحكام و السّنن و المعارف ثُمَّ جاءَكُمْ و بعث إليكم في زمانكم رَسُولٌ من عندي، و هو مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ و معترف بصحّة ما آتاكم اللّه من الكتاب و الحكمة، و اللّه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ و لتصدّقنّه وَ لَتَنْصُرُنَّهُ و لتعيننّه على أعدائه.

في (المجمع) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «إنّ اللّه تعالى أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا أن يخبروا أممهم بمبعثه و نعته، و يبشّروهم [به]و يأمروهم بتصديقه» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه قال: «ما بعث اللّه نبيّا، آدم و من بعده، إلاّ أخذ عليه العهد لئن بعث اللّه محمّدا و هو حيّ، ليومنن به و لينصرنّه، و أمره أن يأخذ العهد بذلك على قومه» (4).

و عن العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «ما بعث اللّه نبيّا، من لدن آدم فهلمّ جرّا، إلاّ و يرجع إلى الدّنيا

ص: 22


1- . مجمع البيان 2:784، تفسير الصافي 1:325.
2- . تفسير الصافي 1:325.
3- . مجمع البيان 2:784، تفسير الصافي 1:325.
4- . مجمع البيان 2:786، تفسير الصافي 1:325.

و ينصر أمير المؤمنين عليه السّلام، و هو قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ لَتَنْصُرُنَّهُ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام» (1).

أقول: توضيحه أنّه بعد ما ثبت بآية المباهلة أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام نفس الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، ثبت أنّ نصرته نصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، مضافا إلى أنّه لا معنى لنصرته إلاّ نصرة دينه، و لا شبهة أن نصرة عليّ عليه السّلام نصرة دين الرّسول.

عن الباقر عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: إنّ اللّه أحد واحد تفرّد في وحدانيّته، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نورا، ثمّ خلق من ذلك النّور محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و خلقني و ذرّيّتي، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت روحا فأسكنه اللّه في ذلك النّور، و أسكنه في أبداننا، فنحن روح اللّه و كلماته، فبنا احتجب عن خلقه، فما زلنا في ظلّة (2)خضراء، حيث لا شمس و لا قمر و لا ليل و لا نهار و لا عين تطرف، نعبده و نقدّسه و نسبّحه، و ذلك قبل أن يخلق خلقه.

و أخذ ميثاق الأنبياء بالإيمان و النّصرة لنا، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ يعني لتؤمننّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و لتنصرنّ وصيّه، و سينصرونه جميعا، و إنّ اللّه أخذ ميثاقي مع ميثاق محمّد صلّى اللّه عليه و آله بنصرة بعضنا [لبعض].

و قد نصرت محمّدا، و جاهدت بين يديه، و قتلت عدوّه، و وفيت للّه بما أخذ عليّ من الميثاق و العهد و النّصرة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لم ينصرني أحد من أنبياء اللّه و رسله، و ذلك لمّا قبضهم اللّه إليه، و سوف ينصرونني و يكون لي ما بين مشرقها و مغربها، و ليبعثهم اللّه أحياء، من آدم إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله كلّ نبيّ مرسل، يضربون بين يدي بالسّيف هام الأموات و الأحياء و الثّقلين جميعا.

فيا عجباه! و كيف لا أعجب من أموات يبعثهم اللّه أحياء، يلبّون زمرة زمرة بالتّلبية: لبّيك لبّيك يا وليّ (3)اللّه، قد أظلّوا بسكك الكوفة، قد شهروا سيوفهم على عواتقهم، يضربون بها هام الكفرة و جبابرتهم و أتباعهم من جبابرة الأوّلين و الآخرين، حتّى ينجز اللّه ما وعدهم في قوله تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (4)أي يعبدونني آمنين لا يخافون أحدا في عبادتي، ليس عندهم تقيّة، و أنّ لي الكرّة و الرّجعة (5)،

ص: 23


1- . تفسير القمي 1:106، تفسير الصافي 1:325.
2- . في النسخة: ظلمة.
3- . في تفسير الصافي: داعي.
4- . النور:24/55.
5- . في تفسير الصافي: الكرة بعد الكرة و الرجعة بعد الرجعة.

و أنا صاحب الرّجعات و الكرّات، و صاحب الصّولات و النّقمات و الدّولات العجيبات، و أنا قرن من حديد» الحديث (1).

في توضيح

الرواية الباقرية

أقول: يحتمل أن يكون المراد من التّكلّم بالكلمة: هو إشراق فيض الوجود، و من صيرورتها نورا: وجود العقل الكلّي، و من خلق محمّد و عليّ و ذرّيّته عليهم السّلام من ذلك النّور: جعل قوام حقيقتهم به، و من إسكان أرواحهم الطيّبة في النّور: إحاطة العقل بأرواحهم و اتّصالها و تكميلها به، و من إسكان أرواحهم في أبدانهم: تعلّقها بقوالبهم المثاليّة في عالم الأشباح و الصّور، و من قوله: «فنحن روح اللّه و كلماته» : كون أرواحهم أشرف الأرواح و أكمل بدائعه تعالى، و من احتجابه تعالى بهم عن خلقه: جعلهم وسائط فيوضاته بينه و بين جميع الموجودات، فكأنّهم قائمون بينه و بينهم، و هم الأوّلون و سائر الخلق من ورائهم، و من ثباتهم في ظلّة (2)خضراء: بقاؤهم في عالم الأشباح حيث لا وجود لعالم الأجسام، و كان أخذ الميثاق عن الأنبياء في عالم الذّرّ أو عالم الأرواح، و تكون نصرتهم له و وفاؤهم بالعهد في زمان الرّجعة.

ثمّ قالَ اللّه للأنبياء وحيا، و لأممهم بلسانهم تقريرا و تأكيدا للعهد عليهم: أَ أَقْرَرْتُمْ بذلك الميثاق و الإيمان و النّصرة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و لسائر الأنبياء وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ الميثاق إِصْرِي و عقدي الذي عقدته عليكم و التزمتم بالعمل به قالُوا إنّ الجواب: ربّنا أَقْرَرْنا بذلك العهد و التزمنا بالوفاء به.

ثمّ قالَ سبحانه: فَاشْهَدُوا أيّها الأنبياء و الأمم بعضكم على بعض. ثمّ قال تأكيدا و تحذيرا عن الرّجوع: وَ أَنَا أيضا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ على إقراركم و مصاحب لكم

فَمَنْ تَوَلّى منكم عن العهد، و أعرض عن الوفاء به بَعْدَ ذلِكَ الميثاق المؤكّد بالإقرار به و الإشهاد عليه فَأُولئِكَ المعرضون هُمُ اَلْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه و انقياده، المتجاوزون عن حدود العقل، المنحرفون عن طريق الخير.

أقول: بعد ثبوت عصمة الأنبياء، و عدم إمكان نقضهم عهد اللّه و إعراضهم عن الميثاق، لا بدّ من الالتزام بكون التّهديد راجعا إلى الأمم خاصّة، و كان أجرأهم عليه بنو إسرائيل، حيث إنّهم بعدما أخذ اللّه عليهم الميثاق بالإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و نصرته، خالفوه و عارضوه و نصروا أعداءه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 83

أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

ص: 24


1- . تفسير الصافي 1:325.
2- . في النسخة: ظلمة.

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن أنّ دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نصرته دين اللّه الذي لو كان موسى بن عمران و عيسى بن مريم في زمانه كان عليهما متابعته، كما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، أما و اللّه لو كان موسى بن عمران حيّا لما وسعه إلاّ اتّباعي» (1).

و ظهر أنّ اللّه أخذ على الامم الميثاق باتّباعه، و كان ذلك الميثاق مذكورا في التّوراة و سائر الكتب السّماوية، و كانوا عارفين به، و كانوا عالمين بصدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى النّبوّة، بشهادة الكتب السّماوية، و دلالة المعجزات، فلم يكن سبب لكفرهم و جحودهم إلاّ كونهم طالبين دينا غير دين اللّه.

و هذا في غاية الشّناعة و العجب من العاقل، و لذا وبّخهم سبحانه عليه بقوله: أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّهِ من الوثنيّة و اليهوديّة و النّصرانيّة يَبْغُونَ و يطلبون، مع أنّ حقيقة دين الإسلام هو التّوحيد الخالص، و التّسليم و الانقياد للّه، وَ الحال أنّ لَهُ وحده أَسْلَمَ و أخلص و انقاد مَنْ هو كائن فِي اَلسَّماواتِ من الكرّوبيّين و الملائكة المقرّبين وَ من في اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس طَوْعاً و رغبة بالمشاهدة و البراهين وَ كَرْهاً بما فيهم من آثار الصّنع، فإنّ اقتضاء الحدوث و الإمكان و المعلوليّة نفوذ قدرته فيهم، بتصريفهم كيف يشاء إلى صحّة و مرض، و غنى و فقر، و سرور و حزن، بحيث لا يمكنهم دفع قضائه و قدره.

وَ إِلَيْهِ و إلى حكمه بالموت و البعث في الآخرة يُرْجَعُونَ فلا يملكون لأنفسهم في محكمة عدله و قضائه نفعا و لا ضرّا، فيعذّب من أعرض عن دينه و طلب غيره بالعذاب الشّديد الدّائم.

روي أنّ فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السّلام، فقالوا: ما نرضى بقضائك، و لا نأخذ بدينك، فنزلت هذه الآية (2).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 84

ثمّ لمّا كان ميثاقه تعالى على الأنبياء، أو على أممهم أن يؤمنوا برسول مصدّق لما معهم، أمر سبحانه نبيّه بأن يعلن بأنّ دينه دين اللّه، و بتصديقه جميع الأنبياء و ما أنزل عليهم، بقوله: قُلْ يا محمّد من قبل نفسك، و عن جميع المؤمنين بك: نحن آمَنّا بِاللّهِ وحده، و اعترفنا بأنّه المستحقّ بالذّات

قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

ص: 25


1- . تفسير الرازي 8:115.
2- . تفسير الرازي 8:122.

للعبادة، لا إله و لا معبود سواه-و إنّما قدّمه لأنّه الأصل في الدّيانات وَ آمنّا بجميع ما أُنْزِلَ من عند اللّه عَلَيْنا من القرآن و المعارف و العلوم و الأحكام.

و قيل: إنّ المراد من الضّميرين نفسه المقدّسة، و إنّما امر أن يعبّر عن نفسه بضمير الجمع لإظهار جلالة قدره، و رفعة محلّه، كما هو الدّأب في تكلّم الملوك (1).

و إنّما قدّم الإيمان بما انزل إليه على الاعتراف بصدق ما انزل على غيره من قبل؛ لأنّه المعروف له، و المبتلى به فعلا.

ثمّ شهد بصدق ما انزل على غيره من الأنبياء بقوله: وَ آمنّا بكلّ ما أُنْزِلَ من اللّه عَلى أنبيائه إِبْراهِيمَ وَ ابنيه إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ ولده يَعْقُوبَ من الصّحف و الأحكام و السّنن وَ على اَلْأَسْباطِ الاثني عشر؛ حفدة يعقوب، و فيهم كثير من الأنبياء.

وَ آمنّا بكلّ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى من التّوراة و الإنجيل، و المعجزات التي ظهرت بأيديهما -و تخصيصهما بالذّكر، مع كونهما من الأسباط، لعلوّ شأنهما، و كون الكلام مع اليهود و النّصارى - وَ بما أوتي اَلنَّبِيُّونَ غير المذكورين مِنْ مواهب رَبِّهِمْ و مليكهم اللّطيف بهم.

و لمّا لم يكن فرق بينهم في دلائل صدق النّبوّة، و شواهد الرّسالة، فنحن أيضا لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان و التّصديق، كما فرّق اليهود و النّصارى بينهم، بأن آمنوا ببعض و كفروا ببعض؛ و ذلك لأنّا للّه منقادون وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ بخلاف أهل الكتابين فإنّهم لهوى أنفسهم متّبعون، و باللّه مشركون.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا منافاة بين الإيمان بنبوّة الأنبياء السّابقة و صحة دينهم، و بين الاعتقاد بانقضاء مدّة نبوّتهم و نسخ دينهم، لوضوح أنّ المراد من الإيمان الاعتراف بصحّة نبوّتهم المؤقتة، و وجوب الالتزام بدينهم على جميع أممهم.

و في الاقتصار على تصديق الأنبياء السّابقين إشعار بختم النّبوّة و الدّين به صلّى اللّه عليه و آله و بدينه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 85

ثمّ قرّر سبحانه كون الإسلام دين اللّه دون غيره، بتشديد التّهديد على مخالفته و التّديّن بغيره، بقوله: وَ مَنْ يَبْتَغِ و يختار لنفسه غَيْرَ دين اَلْإِسْلامِ الذي قد سبق أنّ حقيقته التّوحيد الخالص، و التّسليم لأحكام اللّه و طلب مرضاته دِيناً ينتحل إليه، كالوثنيّة و اليهوديّة و النّصرانيّة و غيرها فَلَنْ

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (85)

ص: 26


1- . تفسير روح البيان 2:58.

يُقْبَلَ ذلك الدّين الباطل مِنْهُ أبدا، و لا يؤجر عليه شيئا وَ هُوَ مع ذلك فِي اَلْآخِرَةِ محسوب مِنَ اَلْخاسِرِينَ المغبونين، حيث إنّه ضيّع فطرته السّليمة التي فطر النّاس عليها، و حرّم على نفسه الثّواب الجزيل الدائم، و النّعم العظيمة الباقية، ثمّ اشترى العذاب الشّديد الأبد، فيدخله من التأسّف و التّحسّر على ما فاته في الدّنيا من الأعمال الصّالحة و حلاوة العبادة، و على ما تحمّله من التّعب و المشقّة في تحصيل الحطام الدّنيوي و تقرير ذلك الدّين الباطل ما لا يتصوّر و لا يعلمه إلا اللّه.

في أن ولاية آل

الرسول داخلة في

الاسلام الحقيقي

المرادف للايمان

ثمّ اعلم أنّ لفظ الإسلام كان مرادفا للإيمان، و حقيقته حقيقته، و هو الإقرار بالشّهادتين، و التّصديق بجميع ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، عن صميم القلب، فيدخل فيه ولاية آل الرّسول صلوات اللّه عليهم و خلافة علي و المعصومين من ذرّيّته.

فمن أنكر ولايتهم و وجوب طاعتهم، فقد اختار لنفسه دينار غير الإسلام، حيث إنّ من أنكر واحدا ممّا جاء به الرّسول يكون كمن أنكر جميعه.

نعم، يكون لمن أقرّ بالشّهادتين، و لو كان منافقا على الأظهر، أحكام خاصّة من طهارة الجسد، و احترام المال، و جواز المناكحة، و وجوب غسل ميّته و تكفينه و دفنه، دون غيرها من الأحكام كحرمة غيبته، و جواز الاقتداء به، و إعطائه الزّكاة الواجبة و الكفّارات، و قبول الرّواية و الشّهادة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 86

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان عظمة دين الإسلام، و أنّه دينه الذي ارتضاه لملائكته و سائر خلقه، و المبالغة في تهديد المعرضين عنه، و عدّهم من الخاسرين-بالغ في التوعيد و التّهديد على من خرج عنه بعد دخوله فيه، و جحده بعد ما أقرّ به، بقوله استعجابا و إنكارا: كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ إلى طريق الحقّ، و يوّفق للرّشاد بالعنايات الخاصّة قَوْماً و رهطا كَفَرُوا بالرّسول، و ارتدّوا عن دين الإسلام بَعْدَ إِيمانِهِمْ بهما.

كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (86)قيل: هم عشرة رهط ارتدوا بعدما آمنوا و لحقوا بمكّة (1)، و قيل: هم يهود قريظة و النّضير و من دان بدينهم، و أنّهم كفروا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه، و كانوا يشهدون له بالنّبوّة، فلمّا بعث صلّى اللّه عليه و آله و جاءهم بالبيّنات و المعجزات كفروا به بغيا و حسدا (2). و كلاهما مرويّ عن ابن عبّاس.

ص: 27


1- . تفسير الرازي 8:126.
2- . تفسير الرازي 8:126.

ثمّ بيّن سبحانه ما يوجب استبعاد كفرهم بقوله: وَ شَهِدُوا قيل: إنّ المراد و بعد أن شهدوا و أعترفوا في مجامع النّاس و مشاهدهم، أو و الحال أنّهم اعترفوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ و دعواه صدق وَ جاءَهُمُ من القرآن و سائر المعجزات و خوارق العادات اَلْبَيِّناتُ و الشّواهد الواضحات على صدقه، بحيث لم يتوهّم في حقّهم الشّبهة فيه، و في صحّة دينه، فكان ارتدادهم من أقبح القبائح؛ لأنّ زلّة العالم أقبح من زلّة الجاهل، و كفرهم و رجوعهم عن الإسلام غاية الظّلم على النّفس وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى الحقّ، و لا يوفّق للخير اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ المتمرّنين على الظّلم، المصرّين على الفساد، المنهمكين في الشّهوات، لغاية خبث ذاتهم، و رذالة صفاتهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 87 الی 88

ثمّ بالغ سبحانه في التّهديد و الوعيد بقوله: أُولئِكَ المرتدّون جَزاؤُهُمْ المقرّر على مقتضى استحقاقهم أَنَّ عَلَيْهِمْ استقرّت لَعْنَةَ اَللّهِ و البعد عن رحمته، الموجب للحرمان عن النّعم الأخرويّة، و للعذاب بالنّار وَ عليهم لعنة اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ .

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)قيل: إنّ المراد خصوص المؤمنين منهم، و قيل: إنّ المراد هو العموم، حيث إنّ الكفّار أيضا يلعنون في الدّنيا كلّ مبطل كافر، غير أنّهم يدّعون أنهم أنفسهم مؤمنون محقّون.

كما أنّ ظالمي آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله يلعنون ظالميهم و يدّعون أنّهم غيرهم، حال كونهم خالِدِينَ فِيها قيل: أي مقيمين في اللّعنة، و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: خالدين في جهنّم (1)أبدا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ في جهنّم اَلْعَذابُ الشّديد وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و يمهلون ساعة، و لا يؤخّرون لحظة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 89

ثمّ دفع اللّه سبحانه توهّم أنّ اللّعنة الدّائمة و العذاب الخالد لكلّ من تلبّس بالكفر و الارتداد، و إن تاب و أسلم بقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا و رجعوا إلى الإسلام الحقيقي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر و الارتداد، و آمنوا عن صميم القلب وَ أَصْلَحُوا قلوبهم و أعمالهم الفاسدة، فإنّهم تقبل توبتهم، و يتفضّل عليهم فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بعباده الصّالحين.

إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)عن الصادق عليه السّلام: «نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له الحارث بن سويد بن الصّامت، و كان

ص: 28


1- . تفسير الرازي 8:129.

قتل المجذّر بن زياد (1)البلويّ غدرا، و هرب و ارتدّ عن الإسلام و لحق بمكّة، ثمّ ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هل لي من توبة؟ فنزلت فحملها رجل من قومه إليه، فقال: إنّي لأعلم أنّك لصدوق، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصدق منك، و أن اللّه تعالى أصدق الثّلاثة. و رجع إلى المدينة، و تاب و حسن إسلامه» (2).

و الظّاهر أنّ الآيات في المرتدّ الذي تاب عن ارتداده حقيقة، و رجع إلى الإسلام واقعا و خالصا.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 90

ثمّ أنّه سبحانه بعد بيان هذا القسم من المرتدّين، ذكر القسم الثّاني منهم؛ و هم الّذين استمرّوا على ارتدادهم باطنا، و لكن تابوا نفاقا، أو حين الاحتضار، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله بَعْدَ إِيمانِهِمْ به، و ارتدّوا عن دين الإسلام بعد اعترافهم به، و دخولهم فيه ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً استمرّوا عليه.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلضّالُّونَ (90)و قيل: إنّ المراد: الّذين كفروا بعيسى و الإنجيل بعد إيمانهم بموسى و التّوراة، ثمّ ازدادوا كفرا بجحودهم نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه.

و قيل: الّذين كفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بعد بعثته، بعد إيمانهم به قبلها، ثمّ ازدادوا كفرا بالإصرار عليه، و الطّعن فيه، و الصّدّ عن الإيمان به، و نقض الميثاق.

و روي أنّ الآية نزلت في الّذين ارتدّوا و ذهبوا إلى مكّة، و ازديادهم الكفر أنّهم قالوا: نقيم بمكّة نتربّص بمحمّد ريب المنون (3)، أو قالوا: نرجع إليه فننافقه.

فهؤلاء لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عن ذنب ارتدادهم أبدا، لعدم إخلاصهم فيها، أو عدم صدورها عنهم إلاّ عند الاحتضار و معاينة عالم الآخرة.

و قال جمع من العامّة: إنّه تعالى لمّا قدّم ذكر من كفر بعد الإيمان، و أنّه تقبل توبته، ذكر في هذا الآية أنّه لو كفر مرّة اخرى بعد [تلك]التّوبة، فإنّ التّوبة الاولى تصير غير مقبوله، و تصير كأنّها لم تكن (4). و فيه نظر ظاهر.

ثمّ بعد تهديد هم بعدم قبول توبتهم، ذمّهم بقوله: وَ أُولئِكَ المرتدّون لتناهيهم في الضّلال،

ص: 29


1- . كذا في اسد الغابة 1:332، و في جمهرة أنساب العرب 1-2:337: المجذّر بن ذياد، و في النسخة: المحذّر بن زياد.
2- . مجمع البيان 2:789، تفسير الصافي 1:327.
3- . تفسير الرازي 8:130.
4- . تفسير الرازي 8:130.

و فرط ثباتهم فيه كأنّه هُمُ اَلضّالُّونَ عن طريق الحقّ و الصّواب، لا ضالّ غيرهم. و فيه غاية المبالغة في ضلالهم لكمالهم فيه، و عدم توقّع اهتدائهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 91

ثمّ ذكر القسم الثالث من المرتدّين؛ و هم الّذين لا يتوبون، لا ظاهرا و لا واقعا حتّى يموتوا، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله و ارتدّوا عن دين الإسلام وَ بعد ارتدادهم ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ غير تائبين عن كفرهم و ارتدادهم إلى الموت فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ لدفع العذاب عنهم في الآخرة مِلْءُ اَلْأَرْضِ شرقها و غربها على الفرض المحال ذَهَباً خالصا، و هو كناية عن أعزّ الأموال وَ لَوِ اِفْتَدى الكافر بِهِ لخلاص نفسه.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ اِفْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)قيل: إنّما آثر التّعبير بالافتداء على الإهداء لأنّ الفداء آثر في العفو من الهدية، حيث إنّ المولى قد لا يقبل الهديّة من عبده، و لكن يقبل الفداء منه.

و حاصل المراد: أنّ الكافر لو فرض قدرته يوم القيامة على أعزّ الأموال، و كان بالغا إلى غاية الكثرة، فبذله-و لو بعنوان الفدية، ليتوسّل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب اللّه-لا يفيده في نيل مقصوده. أُولئِكَ المتّصفون بأشنع الصّفات؛ و هو الكفر، البعيدون عن رحمة اللّه لَهُمْ بالاستحقاق عَذابٌ أَلِيمٌ و عقوبة موجعة وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون عنهم العذاب، فهم آيسون من تخليص أنفسهم؛ لانقطاع جميع الوسائل العاديّة للخلاص من الشّدائد عنهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 92

ثمّ لمّا ظهر من الآية أنّ بذل المال في الآخرة غير نافع في الخلاص من العذاب، بيّن سبحانه أنّ وسيلة الخلاص منه، و موجب نيل كلّ خير، هو الإنفاق من أحبّ الأموال في الدّنيا، بقوله: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ و لا تصلون إلى الخير و الثّواب في الدّنيا و الآخرة أبدا، بوجه من الوجوه حَتّى تُنْفِقُوا و تبذلوا في سبيل اللّه و طلب مرضاته شيئا مِمّا تُحِبُّونَ و بعضا ممّا يعجبكم من كرائم الأموال، أو منها و من غيرها مهجة كان، أو عملا، أو علما، أو جاها، أو غيرها.

لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)و من الواضح أنّ الإنفاق بالمحبوب لا يكون إلاّ إذا أيقن المنفق بأنّ إنفاقه وسيلة النيل بالأحبّ و الأشرف من المبذول، فالإنسان لا ينفق محبوبه في الدّنيا لوجه اللّه إلاّ إذا أيقن بالمبدأ و المعاد

ص: 30

و بالجزاء الجزيل على إنفاقه، و على هذا يلزمه القيام بطاعة اللّه و التجنّب عن معاصيه، أو التّخلّق بالأخلاق الجميلة.

في بيان فضيلة

الإنفاق

ثمّ رغّب سبحانه في الإنفاق، و بالغ فيه بقوله: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ تحبّونه، أو خبيث تكرهونه، أو كثير في العلانية، أو قليل في الخفية فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ حيث إنّه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السّماء، فيجازيكم بحسبه جيّدا كان المال أو رديئا، قليلا كان أو كثيرا، خفية كان الإنفاق أو علانية.

قيل: فيه غاية التّحذير من بذل الرّديء، و التّرغيب في بذل الطّيّب، فإنّ الآخرة هي عالم النّور و البقاء، فلا وقع فيه للامور الظلمانيّة. فالوصول إلى المحبوب لا يكون إلاّ ببذل المحبوب بنحو محبوب، من خلوص النيّة، و استجماع الخصال المرضيّة.

روي أنّه لمّا نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول اللّه، إنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حاء؛ و هو ضيعة له في المدينة مستقبل مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1).

و في رواية: قال: لي حائط بالمدينة، هو أحبّ أموالي، أنا أتصدّق به.

و في رواية: قال: فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بخ بخ، ذاك مال رابح (2)أو رائج، و إنّي أرى أن تجعلها في الأقربين» فقسّمها في أقاربه (3).

و في رواية: أنّه جعلها بين حسّان بن ثابت و أبيّ بن كعب (4).

و روي أنّ زيد بن ثابت جاء عند نزول الآية بفرس له كان تحته، فجعلها (5)في سبيل اللّه، فحمل عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسامة، فوجد [زيد]في نفسه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه قد قبلها» (6).

و عن (المجمع) : اشترى عليّ عليه السّلام ثوبا فأعجبه، فتصدّق به و قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من آثر على نفسه آثره اللّه يوم القيامة بالجنّة، و من أحبّ شيئا فجعله للّه، قال اللّه يوم القيامة: قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف، و أنا اكافيك اليوم بالجنّة» (7).

و عن الحسين بن عليّ، و عن الصادق عليهم السّلام أنّهما كانا يتصدّقان بالسّكر، و يقولان: «إنّه أحبّ الأشياء إلينا، و قد قال اللّه تعالى: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» (8).

ص: 31


1- . تفسير الرازي 8:134، تفسير روح البيان 2:63.
2- . في النسخة: رائح.
3- . مجمع البيان 2:792، تفسير الرازي 8:134، تفسير روح البيان 2:63.
4- . تفسير الرازي 8:134.
5- . في تفسير الرازي: كان يحبه و جعله.
6- . تفسير الرازي 8:134.
7- . مجمع البيان 3:792.
8- . تفسير الصافي 1:328.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 93

ثمّ عطف اللّه سبحانه كلامه المجيد إلى ما كان من محاجّة اليهود و النّصارى. و كان من شبهاتهم و اعتراضاتهم على دين الإسلام [أولا]

: وقوع النّسخ فيه، مع كونه محالا على اللّه في أحكامه؛ لرجوعه إلى البداء المستلزم لجهله تعالى بمصالح الأشياء و مفاسدها.

كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)و ثانيا: أنّ محمّدا يدّعي أنّ دينه دين إبراهيم، و الحال أنّه مغاير له، حيث إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أحلّ في دين الإسلام لحوم الإبل و ألبانها، مع حرمتهما في دين إبراهيم، فمن تحليلها يلزم النّسخ و المغايرة.

فردّ اللّه عليهم بقوله: كُلُّ اَلطَّعامِ و كافة المطعومات من المأكولات و المشروبات كانَ في دين إبراهيم حِلاًّ و مباحا لجميع النّاس، و لِبَنِي إِسْرائِيلَ إلى مدّة بعد بعثة موسى بن عمران عليه السّلام.

نقل أنّه لمّا نزّل قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (1)الآية، و قوله: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إلى قوله ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ (2)أنكر اليهود، و غاظهم ذلك و برأوا ساحتهم من الظّلم، و جحدوا بما نطق به القرآن، و قالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه تلك المطعومات، و ما هو إلاّ تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح و إبراهيم و من بعده، و هلّم جرّا حتّى انتهى التّحريم إلينا.

و غرضهم تكذيب شهادة اللّه عليهم بالبغي و الظّلم، و الصّدّ عن سبيل اللّه، و أكل الرّبا، و ما عدّد من مساوئهم التي كلّما ارتكبوا منها كبيرة، حرّم عليهم نوعا من الطّيّبات عقوبة لهم (3).

فكذّبهم اللّه و ردّهم بأنّ جميع ما يطعمه الإنسان كان حلالا في الأديان السّابقة على دين موسى إِلاّ ما حَرَّمَ يعقوب، و لقبه إِسْرائِيلَ من لحم الإبل و لبنها، بسبب النّذر عَلى نَفْسِهِ .

روي من طريق العامّة أنّ يعقوب عليه السّلام نذر إن وهب اللّه له اثني عشر ولدا، و أتى بيت المقدس صحيحا، أن يذبح آخرهم، فتلقّاه ملك من الملائكة، فقال له: يا يعقوب، إنّك رجل قويّ، فهل لك في الصّراع؟ فعالجه فلم يصرع واحدا منهما صاحبه، فغمزه الملك، فعرض له عرق النساء من ذلك، ثمّ قال الملك: أما إنّي لو شيئت أن أصرعك لفعلت، و لكن غمزتك هذه الغمزة؛ لأنّك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، فجعل اللّه لك بهذه الغمزة مخرجا من ذلك الذّبح.

ثمّ أنّ يعقوب عليه السّلام لمّا قدم بيت المقدس، أراد ذبح ولده و نسي قول الملك، فأتاه الملك فقال: إنّما

ص: 32


1- . النساء:4/160.
2- . الأنعام:6/146.
3- . تفسير روح البيان 2:64.

غمزتك للمخرج، و قد و فى نذرك، فلا سبيل لك إلى ذبح ولدك.

ثمّ أنّه حين ابتلي بذلك المرض لقي من ذلك بلاء شديدا، و كان لا ينام اللّيل من الوجع، فحلف لئن شفاه اللّه، لا يأكل أحبّ الطّعام إليه، فحرّم لحوم الإبل و ألبانها، إمّا حمية للدّين، أو حمية للنّفس (1).

و روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ يعقوب مرض مرضا شديدا، فنذر لئن عافاه اللّه ليحرّ من أحبّ الطّعام و الشّراب عليه، و كان أحبّ الطّعام إليه لحمان الإبل، و أحبّ الشّراب إليه ألبانها» (2).

و نقل أنّ في التّوراة: أنّ يعقوب لمّا خرج من حرّان إلى كنعان، بعث بريدا إلى عيص أخيه، إلى أرض ساعير، فانصرف الرّسول إليه و قال: إنّ عيص هو ذا يتلقّاك و معه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب و حزن جدّا، فصلّى و دعا، و قدّم هدايا لأخيه، [و ذكر القصّة]إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرّجل و وضع إصبعه على موضع عرق النسا، فخدرت تلك العصبة و جفّت. فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق (3).

و قيل: إنّ في بعض الرّوايات: أنّ الذي حرّم يعقوب على نفسه زوائد الكبد و الشّحم إلاّ ما على الظّهر (4).

و عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّ إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيّج عليه وجع الخاصرة، فحرّم على نفسه لحم الإبل. و هذا قبل أن تنزّل التّوراة» (5).

و عن القمّي رحمه اللّه: أن يعقوب كان يصيبه عرق النّسا، فحرّم على نفسه لحم الجمل (6)الخبر.

و من الواضح أنّ هذا التّحريم كان مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ على بني إسرائيل اَلتَّوْراةُ و قبل بعثة موسى و تشريع دينه.

و كانت تلك الأشياء حلالا على غير يعقوب ما دام بقاء دين إبراهيم و في برهة بعد بعث موسى، ثمّ حرّم اللّه عليهم طيّبات أحلّت لهم، منها: لحم الإبل، و شحم البقر و الغنم إلاّ ما حملت ظهورهما.

فإن ادّعت اليهود حرمة هذه الأشياء في دين نوح و إبراهيم و موسى، فقد ادّعوا خلاف ما في التّوراة، التي هم معترفون بصحّتها و صدق ما فيها، و إن استندوا [في]دعواهم إلى التّوراة قُلْ لهم فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ و أحضروها على رؤوس الأشهاد فَاتْلُوها و اقرأوها بمحضر منّا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم قدمة هذه الأشياء، فإنّها ناطقة بأنّ حرمتها حدثت في دين موسى عقوبة على

ص: 33


1- . تفسير روح البيان 2:64.
2- . تفسير الرازي 8:138.
3- . تفسير الرازي 8:139.
4- . تفسير الرازي 8:139.
5- . الكافي 5:306/9، تفسير الصافي 1:329.
6- . تفسير القمي 1:107، تفسير الصافي 1:329.

ظلم بني إسرائيل.

روي أنّهم لم يجسروا على إحضار التّوراة، فبهتوا و انقلبوا صاغرين (1).

فثبت جواز النّسخ، و موافقة دين الإسلام لدين إبراهيم، و اتّضح كذب اليهود، و أنّهم نسبوا إلى التّوراة ما ليس فيها، و ظهر صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دعوى النّبوّة؛ لأنّ هذا الإخبار منه صلّى اللّه عليه و آله، مع كونه امّيّا، كان إخبارا بالغيب.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 94

ثمّ أنّه تعالى بعد إلزامهم و تبكيتهم، هدّدهم بقوله: فَمَنِ اِفْتَرى و اختلق عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ بقوله حرمة هذه الأشياء في دين إبراهيم، و من قبله، و من بعده، و نسبته إلى إخبار اللّه به في التّوراة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التّبكيت و الإلزام فَأُولئِكَ المجترئون على اللّه، المفترون عليه، هُمُ بالخصوص اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بالضّلال، و تعريضها للهلاك و العذاب، و تفضيحها للدّنيا و الآخرة، و على غيرهم بالإضلال، و تقريبهم إلى النّار، و تبعيدهم عن رحمة اللّه.

فَمَنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (94)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 95

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات موافقة دين الإسلام لدين إبراهيم، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتصديق اللّه في إخباره، بموافقة دين الإسلام لدين إبراهيم، بقوله: قُلْ يا محمّد صَدَقَ اَللّهُ في إخباره بحلّية لحوم الإبل و ألبانها، في دين إبراهيم، و موافقته لدين الإسلام، و كذبتم أيّها اليهود في دعوى حرمتها فيه، و مخالفة دين الإسلام له، إذن فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ باتّباع دين الإسلام، الموافق لها اصولا مطلقا، و فروعا كذلك أو بحسب الغالب، و انصرفوا عن اليهودية المخالفة لملّة إبراهيم؛ لأنّ في دين اليهوديّة كثيرا من الأباطيل، و كان إبراهيم حَنِيفاً و مائلا عن كلّ باطل، و معرضا عن كلّ زائغ؛ و لأنّ في دين اليهوديّة و النّصرانيّة الإشراك باللّه وَ ما كانَ إبراهيم محسوبا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ بل كان من أفضل الموحّدين. فثبت أنّه عليه السّلام ما كان يهوديّا و لا نصرانيا.

قُلْ صَدَقَ اَللّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (95)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 96 الی 97

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ (97)

ص: 34


1- . تفسير أبي السعود 2:59، تفسير روح البيان 2:65.

ثمّ استشهد سبحانه على مغايرة دين اليهود لملّة إبراهيم بإعراض اليهود عن تعظيم الكعبة، الذي هو من أعظم شعائر ملّته عليه السّلام، بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ في العالم وُضِعَ من جانب اللّه، و جعل معبدا لِلنّاسِ و قبلة لكافّة الخلق، و اللّه (1)لَلَّذِي هو كائن بِبَكَّةَ و البلد الحرام، و اسمه المعروف مكّة.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّما سمّيت مكّة بكّة، لأنّه يبك (2)بها الرّجال و النّساء، و المرأة تصلّي بين يديك و عن يمينك و [عن]شمالك (3)و معك، و لا بأس بذلك، إنّما يكره في سائر البلدان» (4).

و قيل: لأنّها تبكّ أعناق الجبابرة، يعني تدقّها (5).

و قيل: إنّ بكّة هي عين الكعبة (6).

و عن الصادق عليه السّلام، في رواية، «البيت بكّة، و القرية مكّة» (7).

و في (العلل) : عنه عليه السّلام: «إنّما سمّيت مكّة بكّة؛ لأنّ النّاس يبكّون (8)فيها» (9)يعني يزدحمون.

و في رواية أخرى: «لبكاء النّاس حولها» (10).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لمّا أراد اللّه أن يخلق الأرض أمر الرّياح فضربت متن (11)الماء حتّى صار موجا، ثمّ أزبد فصار زبدا واحدا، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلا من زبد، ثمّ دحا الأرض من تحته، و هو قول اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» (12).

و زاد في (الفقيه) : «فأوّل بقعة خلقت من الأرض الكعبة، ثمّ مدّت الأرض منها» (13).

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام قال: «كان موضع الكعبة ربوة من الأرض بيضاء، تضيء كضوء الشّمس و القمر، حتّى قتل ابنا آدم أحدهما صاحبه فاسودّت، فلمّا نزل آدم عليه السّلام رفع اللّه له الأرض كلّها حتّى رآها، ثمّ قال: هذه كلّها لك، قال: يا ربّ، ما هذه الأرض البيضاء المنيرة قال: هي حرمي (14)في أرضي، و قد جعلت عليك أن تطوف بها في كلّ يوم سبعمائة طواف» (15).

ص: 35


1- . لقسم على أن البيت كائن في مكّة، لكن في روح البيان 2:66(لذي ببكة) خبر لأنّ.
2- . أي يزدحم الرجال و النساء فيها لكثرتهم.
3- . زاد في النسخة: و عن يسارك.
4- . علل الشرائع:397/4، تفسير الصافي 2:330.
5- . تفسير أبي السعود 2:60.
6- . جوامع الجامع:64.
7- . علل الشرائع:397/3، تفسير الصافي 2:330.
8- . في المصدر: يتباكّون.
9- . علل الشرائع:397/1، تفسير الصافي 1:330.
10- . علل الشرائع:397/2، تفسير الصافي 1:330.
11- . في الكافي: فضربن وجه.
12- . الكافي 4:189/7، تفسير الصافي 1:330.
13- . من لا يحضره الفقيه 2:156/670.
14- . (حرمي) ليس في المصدر.
15- . الكافي 4:189/4.

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه أنزله (1)لآدم من الجنة، و كانت (2)درّة بيضاء فرفعه اللّه إلى السّماء و بقي اسّه، و هو بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا، فأمر اللّه عزّ و جلّ إبراهيم و إسماعيل ببنيان البيت على القواعد» (3).

في بدو بناء الكعبة

في أن ولاية آل

الرسول داخلة في

الاسلام الحقيقي

المرادف للايمان

و روي أنّ اللّه وضع تحت العرش بيتا؛ و هو البيت المعمور، و أمر الملائكة أن يطوفوا به، ثمّ أمر الملائكة الّذين هم سكّان الأرض أن يبنوا على الأرض بيتا على مثاله فبنوا، و أمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السّماوات بالبيت المعمور (4).

و روي أنّ الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، فلمّا اهبط آدم إلى الأرض قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت، فلقد طفنا حوله قبلك بألفي عام، فطاف به آدم و من بعده إلى زمن نوح عليه السّلام، فلمّا أراد اللّه الطّوفان حمل إلى السّماء الرّابعة، و هو البيت المعمور بحيال الكعبة يطوف به ملائكة السّماوات (5).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه أوّل بيت بناه آدم في الأرض. و على هذا فنسبة بناء الكعبة إلى إبراهيم؛ لرفعه قواعدها، و إحياء ما درس منها، حيث إنّ موضع الكعبة اندرس بعد الطّوفان، و بقي مختفيا إلى أن بعث اللّه جبرئيل إلى إبراهيم، و دلّه على مكان البيت، و أمره بعمارته (6).

قيل: لمّا كان الآمر بالبناء هو اللّه، و المبلّغ و المهندس هو جبرئيل، و الباني هو الخليل، و التّلميذ المعين له إسماعيل عليهما السّلام، فليس في العالم بناء أشرف منه (7).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن أوّل بيت وضع للنّاس، فقال: «المسجد الحرام، ثمّ بيت المقدس» و سئل كم بينهما؟ فقال: «أربعون سنة» (8).

و روي أنّه لمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة، طعن اليهود في نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: إنّ بيت المقدس أفضل من الكعبة، و أحقّ بالاستقبال؛ لأنّه وضع قبل الكعبة، و هو أرض المحشر، و مهاجر الأنبياء و قبلتهم، و الأرض المقدّسة التي بارك اللّه فيها للعالمين، و فيها الجبل الذي كلّم اللّه موسى عليه، فتحويل القبلة منه إلى الكعبة باطل. فنزلت ردّا عليهم إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ الآية (9).

ثمّ وصف اللّه البيت بكونه مُبارَكاً كثير الخير و النّفع لمن حجّه و اعتمره و اعتكف فيه و طاف

ص: 36


1- . في المصدر: أنزل الحجر.
2- . في المصدر: و كان البيت.
3- . الكافي 4:188/2.
4- . تفسير روح البيان 2:67.
5- . تفسير روح البيان 2:67.
6- . نفس المصدر.
7- . تفسير روح البيان 2:67.
8- . و أيضا.
9- . تفسير روح البيان 2:66.

حوله، لتحصيلهم بهذه الأعمال تكفير الذّنوب، و الثّواب العظيم، و نفي الفقر، و سعة الرّزق وَ كونه هُدىً و رشادا إلى رضوان اللّه و معرفته؛ لِلْعالَمِينَ لأنّه قبلتهم و معبدهم.

و فيه آيات عجيبة دالّة على عظيم قدرته، و سعة حكمته، كما نبّه عليه بقوله: فِيهِ آياتٌ كثيرة بَيِّناتٌ و شواهد واضحات على عظمة قدرته، كانحراف الطّيور عن موازاته مدى الأعصار، و مخالطة ضواري السّباع الطيور (1)في الحرم من غير تعرّض لها لحرمته، و قهر اللّه لكلّ جبّار قصده بسوء، كاصحاب الفيل.

و قيل: إنّ المراد من الآيات العديدة هو مَقامُ إِبْراهِيمَ لكونه بمنزلة الآيات الكثيرة، لظهور شأنه و قوّة دلالته على قدرة اللّه و نبوّة إبراهيم، و عظمة شأنه و شأن البيت.

ثمّ ذكر سبحانه من فضائله و فضائل البيت كونه آمنا، بقوله: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من التّعرّض له بحرمته في نفسه، و لدعاء إبراهيم عليه السّلام بقوله: رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً (2)قيل: إنّ من سكن مكّة أمن من النّهب و الغارة.

و قد مرّ في سورة البقرة ذكر روايات دالّة على أنّ المراد كونه آمنا من عذاب الآخرة (3).

و في الحديث: «من مات في أحد الحرمين، بعث يوم القيامة آمنا» (4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الحجون (5)و البقيع يؤخذ بأطرافهما و ينشران في الجنّة» (6).

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ثنيّة (7)الحجون، و ليس بها يومئذ مقبرة فقال: «يبعث اللّه تعالى من هذه البقعة و من هذا الحرم سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنّة بغير حساب، يشفع كلّ واحد منهم في سبعين ألفا» (8)الخبر.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من صبر على حرّ مكّة ساعة من نهار، تباعدت عنه جهنّم مسيرة مائتي عام» (9).

و لا يذهب عليك أنّ الأمان من العذاب مختصّ بالعصاة من أهل الإيمان، لدلالة الأدلّة القطعيّة، و قيام الضّرورة على أنّ الكفّار، و من في حكمهم من منكري الولاية و ظالمي آل محمّد عليهم السّلام، خالدين فيه، و لو كانوا مدفونين في مكّة أو مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و في (العلل) : عن الصادق عليه السّلام أنّه قال لأبي حنيفة: «أخبرني عن قول اللّه: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أين ذلك من الأرض؟» قال: الكعبة قال: «أفتعلم أنّ الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على

ص: 37


1- . في النسخة: الصيود، و ما أثبتناه من روح البيان 2:67.
2- . البقرة:2/126.
3- . راجع تفسير الآية.
4- . تفسير روح البيان 2:68.
5- . الحجون: جبل بمكّة.
6- . تفسير روح البيان 2:68.
7- . الثّنيّة: الطريق في الجبل.
8- . تفسير روح البيان 2:68.
9- . تفسير الرازي 8:151.

ابن الزّبير في الكعبة فقتله، كان آمنا فيها؟» فسكت.

فسئل عليه السّلام عن الجواب، فقال: «من بايع قائمنا، و دخل معه فيه، و مسح على يده، و دخل في عقدة (1)أصحابه كان آمنا» (2).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من الرّواية بيان البطن و التّأويل.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فضائل البيت، أمر النّاس بحجّه، بقوله: وَ لِلّهِ ثابت عَلَى عهده كافّة المكلّفين من اَلنّاسِ رجالهم و نسائهم و مؤمنيهم و كفّارهم حِجُّ ذلك اَلْبَيْتِ و قصد زيارته، للنّسك المخصوصة.

قيل: حجّ، بالكسر: لغة أهل نجد (3).

روي عن الصادق عليه السّلام: «يعني به الحجّ و العمرة؛ لأنّهما مفروضان» (4).

ثمّ خصّ سبحانه تكليف عموم العباد بالحجّ بخصوص مَنِ اِسْتَطاعَ منهم استطاعة عرفيّة إِلَيْهِ سَبِيلاً و أطاق إلى البيت ذهابا. و لا شبهة أنّها بوجدان الزّاد، و الرّاحلة، و صحّة البدن، و تخلية السّرب (5). و أمّا الاقتصار في رواية أنس بن مالك، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله-على ذكر الزّاد و الرّاحلة (6)؛ فلوضوح اعتبار القوّة البدنيّة، و عدم الخوف على النّفس و المال، من حكم العقل، و أدلّة نفي الحرج.

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «الصّحّة في بدنه، و القدرة في ماله» (7).

و عنه عليه السّلام، في رواية أخرى: «من كان صحيحا في بدنه، مخلّى سربه، له زاد و راحلة، فهو ممّن يستطيع الحجّ» (8).

و في رواية ثالثة، بعد السّؤال عن الآية، فقال: «ما يقول النّاس؟» فقيل: الزّاد و الرّاحلة. فقال: «قد سئل أبو جعفر عليه السّلام عن هذا فقال: هلك النّاس إذا، لئن كان من كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله، و يستغني به عن النّاس، ينطلق إليهم

فيسألهم إيّاه [و يحجّ]لقد هلكوا [إذا]» .

فقيل له: فما السّبيل؟ قال: فقال: «السّعة في المال، إذا كان يحجّ ببعض، و يبقي بعضا يقوت به عياله، أ ليس قد فرض اللّه الزّكاة فلم يجعلها إلاّ على من يملك مائتي درهم» (9).

ص: 38


1- . في المصدر: عقد.
2- . علل الشرائع:90 و 91/5.
3- . تفسير الرازي 8:152.
4- . الكافي 4:264/1.
5- . السّرب: الطريق، يقال: خلّ له سربه، أي طريقه، و فلان مخلّى السّرب: أي موسّع عليه غير مضيّق عليه.
6- . تفسير أبي السعود 2:62.
7- . تفسير العيّاشي 1:332/756.
8- . تفسير العياشي 1:331/111.
9- . تفسير العياشي 1:331/752.

أقول: بل الأظهر اعتبار عوده إلى الكفاية، فمن كان له ما يكفيه للذّهاب و الإياب، و لمونة عياله في سفره، و لكن إذا رجع لا يمكنه الإعاشة إلاّ بالعسر و الذّلّة، لا يجب عليه الحجّ، لعدم صدق (المستطيع) عليه عرفا، و لنفي العسر و الحرح شرعا، و لمنافاته لسماحة الدّين و سهولته.

و ما عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل ما السّبيل؟ قال: «أن يكون له ما يحجّ» قال: قلت: من عرض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك، أهو ممّن يستطيع إليه سبيلا؟ قال: «نعم، ما شأنه يستحي! و لو يحجّ على حمار أجدع أبتر، فإن كان يطيق أن يمشي بعضا و يركب بعضا فليحجّ» (1).

و في رواية: «يخرج و يمشي إن لم يكن عنده» . قيل: لا يقدر على المشي؟ قال: «يمشي و يركب» . قيل: لا يقدر على ذلك؟ قال: «يخدم القوم، و يخرج معهم» (2)فمحمول على الاستحباب على الأظهر.

في ذكر وجوه دلالة

الآية على تأكّد

وجوب الحجّ

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد الوجوب بالتّهديد الشّديد على تركه، بقوله: وَ مَنْ كَفَرَ و ترك ذلك الواجب المهمّ، مع القدرة عليه فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عنه و عَنِ اَلْعالَمِينَ و عن جميع ما في السّماوات و الأرضين، فلا يحتاج إلى حجّكم و عباداتكم.

و في التّعبير عن ترك الحجّ ب(من كفر) تنبيه على أنّهما-في خبث الذّات، و شناعة العمل، و شدّة العقوبة-واحد. و في ذكر الغناء عنه إشعار بغاية الإعراض عنه، و نهاية السّخط عليه.

و عن الصادق عليه السّلام، وَ مَنْ كَفَرَ قال: «يعني: من ترك» (3)، و في رواية، قال: «هو كفر النّعم (4)» .

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: قال: وَ مَنْ كَفَرَ أي جحد فرض الحجّ، أنّه ليس بواجب.

و عن سعيد بن المسيّب: نزلت في اليهود، قالوا: الحجّ ليس بواجب (5).

و في (الفقيه) : في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا عليّ، تارك الحجّ و هو مستطيع كافر، قال اللّه تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ يا عليّ، من سوّف الحجّ حتّى يموت بعثه اللّه (6)يهوديّا أو نصرانيّا» (7).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من لم تحبسه حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، و لم يحجّ، فليمت (8)يهوديّا أو نصرانيّا» (9).

و عن (الكافي) و (التهذيب) : عن الصادق عليه السّلام: «من مات و لم يحجّ حجّة الإسلام، و لم يمنعه من

ص: 39


1- . الكافي 4:266/1 عن الباقر، تفسير الصافي 1:334.
2- . تفسير الصافي 1:334.
3- . التهذيب 5:18/52، تفسير الصافي 1:335.
4- . تفسير العياشي 1:332/754، تفسير الصافي 1:335.
5- . تفسير أبي السعود 2:62.
6- . زاد في المصدر: يوم القيامة.
7- . من لا يحضره الفقيه 4:266/824، تفسير الصافي 1:334.
8- . زاد في تفسير روح البيان: إن شاء.
9- . تفسير روح البيان 2:68.

ذلك حاجة تجحف، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديّا أو نصرانيّا» (1).

روي أنّه لمّا نزل صدر الآية، جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرباب الملل (2)، فخطبهم فقال: «إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ فحجّوا» فآمنت به ملّة واحدة، و هم المسلمون، و كفرت به خمس ملل، فنزلت [الآية] (3).

قيل: لقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحجّ، و التّشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، حيث أوثرت صيغة الخبر الدالّة على التحقّق، و ابرزت في صورة الجملة الاسميّة الدالّة على الثّبات و الاستمرار، على وجه يفيد أنّه حقّ واجب للّه تعالى في ذم النّاس، لا انفكاك لهم عن أدائه و الخروج عن عهدته.

و سلك بهم أوّلا مسلك التعميم، ثم التّخصيص و الإبهام ثانيا، ثمّ التّبيين و الإجمال ثالثا، ثمّ التّفصيل، لما في ذلك من مزيد تحقيق و تقرير، و عبّر عن تركه بالكفر، و جعل جزاءه استغناءه تعالى المؤذن بشدّة المقت و عظيم السّخط، لا من تاركه فقط-فإنّه قد ضرب عنه صفحا، إسقاطا له عن درجة الاعتبار، و استهجانا بذكره-بل من جميع العالمين ممّن فعل و ترك، ليدلّ على نهاية شدّة الغضب (4).

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «حجّوا قبل أن لا تحجّوا، فإنّه قد هدم البيت مرّتين، و يرفع إلى السّماء في الثالثة» . و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «حجّوا قبل أن يمنع البرّ جانبه» (5).

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: حجّوا هذا البيت قبل أن ينبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابّة إلاّ نفقت (6). و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لو ترك النّاس الحجّ عاما واحدا ما نوظروا» (7).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 98

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أزال الشّبهات، و نبّه على ما في البيت من الآيات البيّنات، و جحد أهل الكتاب جميعها، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يلومهم على ذلك بلسان ليّن، بقوله: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ و حفّاظ التّوراة و الإنجيل لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ و حججه التي أقامها على صدق نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و شرافة بيته؟ و لأيّ سبب وداع تجحدونها بعد عرفانكم بها، و علمكم بصحّتها، و وضوح صدق محمّد، و شرف الكعبة

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98)

ص: 40


1- . الكافي 4:268/1، التهذيب 5:17/49، تفسير الصافي 1:334.
2- . في تفسير أبي السعود: أهل الأديان كلهم.
3- . تفسير أبي السعود 2:62.
4- . تفسير أبي السعود 2:62.
5- . تفسير أبي السعود 2:62.
6- . تفسير أبي السعود 2:62.
7- . جوامع الجامع:64.

بدلالتها؟ وَ اَللّهُ العظيم الغالب الشّديد العقاب شَهِيدٌ و مطّلع عَلى ما تَعْمَلُونَ من القبائح، و ما يصدر منكم من جحود آياته، و معارضة رسوله، فيجازيكم أسوأ الجزاء، و يعذّبكم في الآخرة أشدّ العذاب. فاطّلاعه على أعمالكم، و الخوف من عقوبته على عصيانكم من أقوى الزّواجر و أتمّ الرّوادع عمّا تأتونه و ترتكبونه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 99

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه بتوبيخهم على كفرهم و ضلالهم، أمره بتوبيخهم على إضلالهم عباده المؤمنين، و صدّهم عن سبيله، بقوله: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ و يا تلاة الصّحف و الزّبر المنزلة و غيرها، جزنا عن اللّوم على ضلالتكم لِمَ تَصُدُّونَ و تصرفون عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و دينه الحقّ الموصل إلى السّعادة الأبديّة؟ و تضلّون عنه بإلقاء الشّبهات و الحيل و التسويلات مَنْ آمَنَ بالرّسول و دين الإسلام، و لم تطلبون لتلك السّبيل و تَبْغُونَها مع كمال استقامتها، و كونها أقوم السّبل عِوَجاً و انحرافا عن القصد و الاستقامة، و توهمون أن في تلك السّبيل ميلا عن الحقّ، و تسعون في صرف النّاس عنها؟ بسبب تغيير صفات النبيّ و علائمه المذكورة في الكتب السّماويّة، و إلقاء شبهة امتناع نسخ دين موسى أو عيسى في قلوب العوامّ، و تقريب أفضليّة بيت المقدس من الكعبة في الأذهان.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (99)وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ قيل: إنّ المراد: و الحال أنّ النّاس يستشهدونكم في القضايا و الأمور العظام، فشأنكم الصّدق و تأدية الحقّ، لا تضييعه.

و قيل: إنّ المعنى: أنّكم شاهدون بأنّ دين الإسلام سبيل الحقّ لا تحوم حولها شانئة الإعوجاج، و أنّ الصّدّ عنها إضلال عن نهج الحقّ و الطريق المستقيم.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أي أنتم شهداء على أنّ في التّوراة: أنّ دين اللّه الذي لا يقبل غيره هو الإسلام (1). فمن كان كذلك، لا يليق به الإصرار على الكفر، و السّعي في إضلال النّاس.

ثمّ أخذ سبحانه في تهديدهم بقوله: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ من إضلال النّاس، و إلقاء الشّبهات في قلوب المؤمنين، و صدّهم عن سبيل الحقّ، و كتمان الشّهادة بصفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: لمّا كان كفرهم بآيات اللّه بطريق العلانية، ختمت الآية السّابقة بشهادته تعالى على ما يعملون، و لمّا كان صدّهم عن سبيل اللّه بطريق الخفية، ختمت هذه الآية بما يقطع وسائل حيلهم، عن علمه

ص: 41


1- . تفسير الرازي 8:158.

و اطّلاعه بجميع أعمالهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 100 الی 101

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ أهل الكتاب يصدّون المؤمنين عن سبيل اللّه، و يحتالون في صرفهم عن الحقّ، و ردّهم إلى الأعقاب صرف الخطاب إلى المؤمنين تكريما لهم، و نهاهم عن اتّباعهم لطفا بهم، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا بالرّسول و بدين الإسلام إِنْ تُطِيعُوا و تتّبعوا فَرِيقاً و طائفة كافرة مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ دون فريق المؤمنين بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله كعبد اللّه بن سلام و أضرابه يَرُدُّوكُمْ بحيلهم و تلبيساتهم بَعْدَ إِيمانِكُمْ بمحمّد و دينه و مع ثباتكم عليه، إلى أعقابكم، و أخلاق جاهليتكم، حال كونهم كافِرِينَ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله مرتدّين عن دين الإسلام.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

ثمّ أنكر سبحانه عليهم الكفر، و استبعد منهم الارتداد تثبيتا لهم على الدّين، بقوله: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ و أي سبب يبعثكم في الارتداد، و أي داع يدعوكم إليه وَ أَنْتُمْ في حال و شأن مقتض للثّبات على الإيمان، و هو أنّه تُتْلى و تقرأ عَلَيْكُمْ حينا بعد حين، و ساعة بعد ساعة آياتُ اَللّهِ القرآنيّة المشتملة على إعجاز البيان و الحكم و العلوم، و المواعظ البالغة من ربّكم، و هي نور لقلوبكم، و شفاء لما في صدوركم، و ضياء لأبصاركم، و هدى و رحمة لكم، وَ مع ذلك يكون فِيكُمْ و معكم رَسُولُهُ الذي يقرّر لكم كلّ حجّة، و يزيل عنكم كلّ شبهة بعبارة وافية، و يزجركم عن كلّ سوء بمواعظ شافية.

و من الواضح أنّ هاتين النّعمتين من أعظم موجبات الثّبات، و أقوى على الإيمان، و أقوى الزّواجر عن الكفر و الارتداد.

ثمّ حثّهم إلى الإلتجاء إلى رسوله عند توارد الشّبهات، بقوله: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ بالالتجاء إلى رسوله في موارط الفتن، و الاستمساك بذيله عند تلاطم أمواج البلايا و الشّبهات، و في مزال الأقدام عند منازلة أعداء الدّين و جهاد النّفس و الشّياطين فَقَدْ هُدِيَ بتوفيق اللّه، و ارشد بدلالته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق قويم موصل إلى كلّ خير مؤدّ إلى رضوان اللّه و النّعم الدّائمة.

في وقوع التنازع بين

الأوس و الخزرج في

زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و بيان قوة

تأثير القرآن

في النفوس

روي أنّ نفرا من الأوس و الخزرج كانوا جلوسا يتحدّثون، فمرّ بهم شاس بن قيس

ص: 42

اليهودي و كان شديد الحسد للمسلمين، فغاضه ما رأى منهم من تآلف القلوب، و اتّحاد الكلمة، و اجتماع الرّأي، بعد ما كان فيهم (1)من العداوة و الشنآن، فأمر شابّا يهوديا كان معه بأن يجلس إليهم و يذّكرهم يوم بعاث (2)-و كان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيّان، و [كان]الظّفر فيه للأوس-و ينشدهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل، فتفاخر القوم و تغاضبوا حتّى تواثبوا و قالوا: السّلاح السّلاح، فاجتمع من القبيلتين خلق كثير.

فعند ذلك جاءهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه فقال: «أتدعون الجاهليّة و أنا بين أظهركم، بعد أن أكرمكم اللّه تعالى بالإسلام، و قطع به عنكم أمر الجاهليّة، و ألّف بينكم؟ !» ، فعلموا أنّها نزغة من الشّيطان، و كيد من عدوّهم، فألقوا السّلاح و استغفروا، و عانق بعضهم بعضا، و انصرفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (3).

و قال الواحدي: اصطفّوا للقتال، فنزلت الآيات إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (4)فجاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى وقف بين الصّفّين فقرأهنّ و رفع صوته، فلمّا سمعوا صوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنصتوا له، و جعلوا يستمعون له، فلمّا فرغ ألقوا السّلاح، و عانق بعضهم بعضا، و جعلوا يبكون (5). فما كان أقبح أوّلا، و أحسن آخرا من ذلك اليوم!

أقول: انظروا إلى قوّة تأثير القرآن في النّفوس، كيف انقلبوا باستماعه من أسوأ الأحوال إلى أحسنها! و حاصل معنى الآيتين: أنّه إن لان المؤمنون لليهود و قبلوا قولهم، أدّى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفّارا، و الكفر موجب للهلاك في الدّنيا و الآخرة.

أمّا في الدّنيا فبوقوع العداوة و البغضاء، و هيجان الفتن، و ثوران المحاربة المؤدّي إلى سفك الدّماء، و تلف النّفوس. و أمّا في الآخرة فبعذاب الأبد، و مع أنّه يكفي وجود هذه المفاسد العظيمة فيه، الموجبة لعدم توجّه العاقل إليه، تكون الصّوارف و الزّواجر الخارجية عنه موجودة لكم، فعند ذلك لا يتوقّع صدوره منكم، بل لا يعقل اختياره من العاقل المختار إلاّ للجهل، و اتّباع هوى النّفس، و تأثير وساوس الشّيطان، و لا عاصم منه إلاّ الاعتصام باللّه و برسوله، فمن اعتصم بهما حصل له الاهتداء إلى كلّ خير، و الفوز بجميع النّعم، و انسدّ عليه باب الضّلال، و الوقوع في المهالك.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 103

وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

ص: 43


1- . في تفسير أبي السعود: كان بينهم ما كان.
2- . بعاث: موضع قرب يثرب، و فيه اقتتل الأوس و الخزرج في الجاهلية.
3- . تفسير أبي السعود 2:64.
4- . آل عمران 3:103.
5- . تفسير أبي السعود 2:64.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بالتّقوى و الثّبات على الدّين، بيّن طريق الاعتصام باللّه و برسوله الذي جعله وسيلة للهداية، بقوله: وَ اِعْتَصِمُوا و تمسّكوا بِحَبْلِ اَللّهِ و دينه، أو كتابه المجيد، حال كونكم جَمِيعاً و متّفقين في الاعتصام بحيث لا يشذّ منكم أحد.

فشبّه سبحانه دين الإسلام أو القرآن بالحبل الوثيق المأمون من الانقطاع و الانفصام، فكما أنّ المتمسّك بذلك الحبل مأمون من التّردّي من المكان المرتفع، كذلك المتمسّك بدين الإسلام أو القرآن العزيز مأمون من الوقوع في الكفر و الضّلال في الدّنيا، و من التّردّي في نار جهنّم في الآخرة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أما أنّها ستكون فتنة» قيل: فما المخرج منها؟ قال: «كتاب اللّه؛ فيه نبأ من قبلكم، و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، و هو حبل اللّه المتين» (1).

و يحتمل أن يكون مراده صلّى اللّه عليه و آله من الفتنة فتنة السقيفة، و غصب الخلافة، و من قوله: «فيه نبأ من قبلكم» : قضيّة السّامريّ و العجل.

و عن ابن مسعود: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «هذا القرآن حبل اللّه تعالى» (2).

و روى الفخر الرّازي في تفسيره: عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّي تارك فيكم الثّقلين: كتاب اللّه تعالى حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي» (3).

عن القمّي رحمه اللّه: الحبل: التّوحيد و الولاية (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله حبل اللّه المتين الذي أمر بالاعتصام به» (5).

و عن الكاظم عليه السّلام: «عليّ بن أبي طالب عليه السّلام حبل اللّه المتين» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «نحن الحبل» (7).

و عن السجّاد عليه السّلام قال: «الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوما، و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، و لذلك لا يكون إلاّ منصوصا» فقيل له: يا بن رسول اللّه، فما معنى المعصوم؟ فقال: «المعتصم بحبل اللّه، و حبل اللّه هو القرآن (8)، و القرآن يهدي إلى الإمام، و ذلك قول اللّه تعالى: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ

ص: 44


1- . تفسير الرازي 8:162.
2- . تفسير الرازي 8:162.
3- . تفسير الرازي 8:162.
4- . تفسير القمي 1:108، تفسير الصافي 1:337.
5- . تفسير العياشي 1:334/762، تفسير الصافي 1:337.
6- . تفسير العياشي 333/761، تفسير الصافي 338.
7- . أما لي الطوسي:272/510.
8- . زاد في معاني الأخبار: لا يفترقان إلى يوم القيامة، و الإمام يهدي إلى القرآن.

يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (1) .

أقول: مآل جميع الرّوايات واحد.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بالاجتماع على الحقّ، نهى عن التفرّق عنه، بقوله: وَ لا تَفَرَّقُوا عن الحقّ كتفرّق أهل الكتاب، و لا تختلفوا أنتم كما اختلفوا على مذاهب كثيرة.

روى الفخر الرازي في تفسيره: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ستفترق (2)أمّتي على نيّف و سبعين فرقة، النّاجي منهم واحد، و الباقي في النّار» ، فقيل: و من هم يا رسول اللّه؟ قال: «الجماعة» . و في رواية: «السّواد الأعظم» . و في أخرى: «ما أنا عليه و أصحابي» (3).

أقول: لا ريب أنّ ذيل الرّواية من المجعولات، لوضوح مخالفة عليّ و المعصومين من ذرّيّته مع الجماعة، و قد اتفّق الفريقان على رواية قوله صلّى اللّه عليه و آله: «عليّ مع الحقّ، و الحقّ مع عليّ» (4). و قوله: «إنّي تارك فيكم الثّقلين؛ كتاب اللّه، و عترتي. . .» (5)الخبر، و قوله: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق» (6).

و قيل: إنّ المراد لا تفرّقوا كتفرّق أهل الجاهليّة، يحارب بعضكم بعضا.

و قيل: أي لا تحدثوا ما يوجب الافتراق، و يزيل الالفة التي أنتم عليها (7).

أقول: كنصب أبي بكر للخلافة، حيث إنّه أحدث بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلافا و افتراقا عظيما بين الصّحابة، و من بعدهم إلى يوم القيامة، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوصى باتّباع علي عليه السّلام و أهل بيته، و جعلهم أحد الثّقلين، و حبلا من حبلي اللّه الممدودين. و من المسلّم بين الأمّة أنّ عليّا عليه السّلام أفضل عترته، و أشرف أهل بيته.

ثمّ لمّا كان الاعتصام بحبل اللّه من مشاقّ الأعمال، لتوقّفه على ترك الرّئاسات، و مخالفة الأهوية (8)و الشّهوات، بالغ سبحانه في التّرغيب إليه بتذكيرهم نعمه، بقوله: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ ثم لمّا كانت نعمة الأمن و الاتّحاد و الائتلاف من أعظم النّعم، خصّها بالتذكير بقوله: إِذْ كُنْتُمْ في زمان الجاهليّة و الأعصار المتمادية أَعْداءً متباغضين، يقتل بعضكم بعضا، و يغير

ص: 45


1- . معاني الأخبار:132/1، تفسير الصافي 1:338، و الآية من سورة الإسراء:17/9.
2- . في النسخة: ستفرق.
3- . تفسير الرازي 8:163.
4- . تاريخ بغداد 14:321، ترجمة علي عليه السلام من تاريخ دمشق 3:153/1172.
5- . صحيح مسلم 4:1873، سنن الترمذي 5:662، مسند أحمد 3:14 و 17 و 4:367 و 371.
6- . مستدرك الحاكم 2:343 و 3:151، الخصائص الكبرى 2:466، الجامع الصغير 2:533.
7- . تفسير أبي السعود 2:66.
8- . كذا، و الظاهر الأهواء؛ لأن الأهوية جمع هواء، و الأهواء جمع هوى، و مراد المصنف الأخير.

بعضكم على بعض فَأَلَّفَ اللّه سبحانه بفضله بَيْنَ قُلُوبِكُمْ المختلفة، حيث وفّقكم للإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هداكم إلى دين الإسلام فَأَصْبَحْتُمْ و صرتم بعد التباغض بِنِعْمَتِهِ العظيمة، من بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ديانة الإسلام، و ألفة القلوب، و اتّحاد الكلمة إِخْواناً في الدّين، متحابّين في اللّه، متّفقين على الحقّ، متزاحمين متناصحين متذلّلين بعضكم لبعض.

قيل: إنّ الأوس و الخزرج كانا أخوين لأب و أمّ واحد، فوقعت بينهم العداوة، و تطاولت الحروب مائة و عشرين سنة، إلى أن أطفأ اللّه ذلك بالإسلام (1).

و عن (المجمع) : عن مقاتل: افتخر رجلان من الأوس و الخزرج فقال الأوسيّ: منا خزيمة، و منا حنظلة، و منّا عاصم، و منّا سعد بن معاذ الذي اهتزّ عرش الرّحمن له، و رضي اللّه بحكمه في بني قريظة، و قال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن: أبيّ بن كعب، و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت، و أبو زيد، و منّا سعد بن عبادة. فجرى الحديث بينهما، فغضبا و تفاخرا و ناديا، فجاء الأوس إلى الأوسي، و الخزرج إلى الخزرجي، و معهم السّلاح، فبلغ [ذلك]النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فركب حمارا فأتاهم، فأنزل اللّه [هذه]الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا (2).

ثمّ بعد تذكيرهم النّعمة العظيمة الدّنيويّة، ذكّرهم اللّه تعالى أعظم نعمه الأخروية، بقوله: وَ كُنْتُمْ في زمان كفركم مقيمين عَلى شَفا و طرف حُفْرَةٍ مملوءة مِنَ اَلنّارِ و في شفير جهنّم، حال كونكم مشرفين على الوقوع فيها بالموت فَأَنْقَذَكُمْ اللّه و نجّاكم مِنْها بسبب تأخير موتكم، و توفيقكم لقبول الإسلام.

عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، قال: «فأنقذكم منها بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، هكذا و اللّه نزل بها جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (3).

أقول: الظّاهر أنّه بيان المراد من الآية، لا أنّ كلمة (محمّد) كانت جزءا منها، و المراد من قوله: (نزل بها جبرئيل) أنّه أنزلها بهذا التّفسير، لبطلان القول بالتّحريف.

كَذلِكَ البيان و التّوضيح الوافي يُبَيِّنُ اَللّهُ و يوضّح لَكُمْ آياتِهِ المنزلة الدالّة على المعارف و الأحكام لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى ما فيه خيركم و صلاحكم، أو المراد لكي تثبتوا على ما أنتم عليه من الإسلام، و الازدياد في كمال الإيمان و قوّة اليقين.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 104 الی 105

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)

ص: 46


1- . تفسير الرازي 8:164.
2- . مجمع البيان 2:804.
3- . الكافي 8:183/208.

ثمّ أنّه تعالى-لمّا ذمّ أهل الكتاب، بكونهم ضالّين في أنفسهم مضلّين لغيرهم-أمر المؤمنين بالسّعي في إرشاد غيرهم، و الاهتمام بهداية أبناء نوعهم، بعد أمرهم بالثّبات على الإيمان، و السّعي في تكميل أنفسهم، و القيام بطاعة ربّهم، على خلاف أهل الكتاب، بقوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ و جماعة كاملة النّفس، عالمة بالمعارف الإلهيّة و الأحكام الشّرعيّة يَدْعُونَ النّاس إِلَى اَلْخَيْرِ و ما فيه صلاح الدّين و الدّنيا، من التّديّن بالإسلام، و التزام الطّاعات، و التّخلّق بالأخلاق الكريمة، و التنزّه من الصّفات الذّميمة وَ يَأْمُرُونَ العباد بِالْمَعْرُوفِ و ما استحسنه الشّرع و العقل وَ يَنْهَوْنَ الجهّال عَنِ ارتكاب اَلْمُنْكَرِ و ما استقبحه الشّرع و العقل. و في تخصيصهما بالذّكر إيذان بغاية فضلهما.

ثمّ وعدهم بأفضل الثّواب بقوله: وَ أُولئِكَ الجماعة القائمة بالدّعوة إلى اللّه بأصنافها هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ و الفائزون إلى كلّ (1)مطلوب.

في وجوب الأمر

بالمعروف و النهي

عن المنكر

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أمر بالمعروف، و نهى عن المنكر [كان]خليفة اللّه في أرضه، و خليفة رسوله، و خليفة كتابه» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر» .

و عنه عليه السّلام: «من لم يعرف بقلبه معروفا، و لم ينكر منكرا، نكّس و جعل أعلاه أسفله» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه تعالى، فمن نصرهما أعزّه اللّه، و من خذلهما خذله اللّه» (4).

أقول: يحتمل أن يكون المراد من قوله: (خلقان من خلق اللّه) أنّهما حكمان من أحكام اللّه، أو أنّهما موجودان من الموجودات الجوهريّة في عالم الصّور، يظهران في القيامة بصورتهما المثاليّة، كما تظهر الصّلاة و الصّوم بصورة، و القرآن بصورة.

و عن (التهذيب) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يزال النّاس بخير ما أمروا بالمعروف، و نهوا عن المنكر، و تعاونوا على البرّ [و التقوى]، فإن لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، و سلّط بعضهم على

ص: 47


1- . كذا، و الظاهر: و الفائزون بكلّ.
2- . تفسير الرازي 8:168.
3- . تفسير الرازي 8:168.
4- . الكافي 5:59/11، تفسير الصافي 1:339.

بعض، و لم يكن لهم ناصر في الأرض و لا في السّماء» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في رواية: «أنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر سبيل الأنبياء، و منهاج الصّادقين، و فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، و تأمن المذاهب، و تحلّ المكاسب، و تردّ المظالم، و تعمّر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، و الفظوا بألسنتكم، و صكّوا بها جباههم، و لا تخافوا في اللّه لومة لائم، فإن اتّعظوا، و إلى الحقّ رجعوا، فلا سبيل عليهم إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2)هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، و ابغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطانا، و لا باغين مالا، و لا مريدين بالظّلم ظفرا، حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه و يمضوا على طاعته» .

قال أبو جعفر عليه السّلام: «و أوحى اللّه إلى شعيب النبيّ: إنّي معذّب من قومك مائة ألف، أربعين ألفا من شرارهم، و ستّين ألفا من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه: إنّهم داهنوا أهل المعاصي، و لم يغضبوا لغضبي» (3).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، أواجب على الأمّة جميعا؟ فقال: «لا» ، فقيل: و لم؟ قال: «إنّما هو على القويّ، المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضّعفة الّذين لا يهتدون سبيلا إلى أيّ من أيّ-يعني إلى الحقّ من الباطل-و الدّليل على ذلك كتاب اللّه: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ -إلى أن قال-: فهذا خاصّ غير عامّ» (4)الخبر.

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الحديث الذي جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر» ما معناه؟ قال: «هذا على أن يأمره بعد معرفته، و هو مع ذلك يقبل منه» (5).

و عنه عليه السّلام: «إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر [مؤمن]فيتّعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سيف و سوط فلا» (6).

و في (نهج البلاغة) قال عليه السّلام: «و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه، فإنّما امرتم بالنّهي بعد التّناهي» (7).

و قال: «لعن اللّه الآمرين بالمعروف و التّاركين [له، النّاهين]عن المنكر العاملين به» (8).

ص: 48


1- . التهذيب 6:181/373، تفسير الصافي 1:339.
2- . الشورى:42/42.
3- . الكافي 5:55/1، التهذيب 6:181/372، تفسير الصافي 1:340.
4- . الكافي 5:59/16، التهذيب 6:177/9، تفسير الصافي 1:338.
5- . الكافي 5:60/16، التهذيب 6:178/360، تفسير الصافي 1:339.
6- . الكافي 5:60/2، التهذيب 6:178/362، تفسير الصافي 1:339.
7- . نهج البلاغة:152/105، تفسير الصافي 1:339.
8- . نهج البلاغة:188/129، تفسير الصافي 1:339.

و عن القمّي: عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «فهذه لآل محمّد صلّى اللّه عليهم و من تابعهم يدعون إلى الخير، و يأمرون بالمعروف، و ينهون عن المنكر» (1).

وَ لا تَكُونُوا أيّها المؤمنون في خبث النّفس، و حبّ الدّنيا، و اتّباع الشّهوات كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا بالقلوب، و تباينوا بالأخلاق، و تشتّتوا بالأهواء وَ اِخْتَلَفُوا في العقائد كاليهود و النّصارى؛ حيث صاروا فرقا كثيرة مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ من قبل اللّه الآيات اَلْبَيِّناتُ و الدّلائل الواضحات على الحقّ، من التّوحيد و التّنزيه و أحوال المعاد، مع أنّ كثرة الدّلائل على شيء و وضوحها موجبة للاتّفاق عليه وَ أُولئِكَ المتفرّقون بالقلوب، المختلفون في العقائد الفاسدة معدّ لَهُمْ عند اللّه عَذابٌ عَظِيمٌ عقوبة على تفرّقهم و اختلافهم.

في نقل كلام بعض

العامة في عدم تحقق الاتفاق إلاّ

بالإمام

و قال بعض العامّة: لمّا أمر اللّه هذه الأمّة بالأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر-و ذلك لا يتمّ إلاّ إذا كان الآمر بالمعروف و النّاهي عن المنكر-قادرا على تنفيذ هذا التّكليف على الظّلمة و المتغلّبين، و لا تحصل هذه القدرة إلاّ إذا حصلت الألفة و المحبّة بين أهل الحقّ و الدّين-فلا جرم حذّرهم اللّه عن التّفرّق و الاختلاف، لكيلا يصير [ذلك]سببا لعجزهم عن القيام بهذا التّكليف.

فعلى المؤمنين أن يتركوا مقتضى طباعهم من اتّباع الهوى، و يتّفقوا على كلمة واحدة باتّباع إمام داع إلى اللّه على بصيرة، كالرّسول و أصحابة، يجمعهم على طريقة واحدة، فإن لم يكن مقتدى و إمام تتّحد عقائدهم و سيرهم و آراؤهم بمتابعته، و تتّفق كلمتهم و عاداتهم و آهواؤهم لمحبّته و طاعته، كانوا متفرّقين، فرائس للشّيطان، كشريدة الغنم تكون للذّئب.

و لهذا قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا بدّ للنّاس من إمام بارّ أو فاجر، و لم يرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلين فصاعدا لشأن إلاّ و أمرّ أحدهما على الآخر، و أمر الآخر بمتابعته و طاعته، ليتّحد الأمر و ينتظم، و إلاّ وقع الهرج و المرج، و اضطرب أمر الدّين و الدّنيا، و اختلّ [نظام]المعاش و المعاد» (2).

قال صلّى اللّه عليه و آله: «من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة (3)الجنّة» .

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «يد اللّه مع الجماعة» ، فإنّ الشيطان مع الفذّ (4)، و هو من الاثنين أبعد، ألا ترى أنّ الجمعيّة الإنسانيّة إذا لم تنضبط برئاسة القلب و طاعة العقل كيف اختلّ نظامها، و آلت إلى الفساد و التّفرّق

ص: 49


1- . تفسير القمي 1:109، تفسير الصافي 1:339.
2- . تفسير روح البيان 2:75.
3- . بحبوحة الشيء: وسطه و خياره.
4- . الفذّ: الفرد المتفرّد.

الموجب لخسارة الدّنيا و الآخرة (1).

أقول: إذا كان وجود الإمام مرتبطا بالنّظام الأتمّ-كما أنّ وجود القلب و العقل مرتبط بنظام الجمعيّة الإنسانيّة-كان واجبا على اللّه نصبه، و الدّلالة عليه، و إيجاب طاعته، و إلاّ لزم خلاف الحكمة و اللّطف، و لا يمكن تفويض تعيينه و نصبه إلى الخلق؛ لأنّه موجب للاختلاف و الفرقة، و نقض الغرض، كما وقع ذلك في السّقيفة و في الصّحابة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا نهيه صلّى اللّه عليه و آله عن مفارقة الجماعة فلا شبهة في أنّ مقصوده الجماعة التي تكون على الحقّ، لا كلّ جماعة، لوضوح أنّ إبراهيم فارق جماعة أهل العالم، و لم يكن ملوما مذموما، و بعد دلالة الأدلّة القاطعة على نصب اللّه عليّا عليه السّلام للخلافة تعيّن أنّ الجماعة الذين أمرنا باتّباعهم، و بالدّخول فيهم، هم: سلمان، و أبو ذرّ، و مقداد، و عمّار، و أضرابهم لا الجماعة الذين بايعوا أبا بكر، و نقضوا البيعة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 106 الی 107

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد على الاجتماع، و الوعيد على التفرّق و الاختلاف، بقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ كثيرة بنور الإيمان و ضياء الملكات الجميلة وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ كثيرة بظلمة الكفر، و كدرة الأخلاق السّيّئة.

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)و نصب (يوم) إمّا لكونه ظرفا لمتعلّق الجار، أو لكونه مفعولا ل(اذكروا) المقدّر.

قيل: يوسم أهل الحقّ ببياض الوجه، و الصّحيفة، و سعي النّور بين أيديهم و بأيمانهم. و أهل الباطل بأضداد ذلك.

و قيل: إنّ بياض الوجه كناية عن الفرح و السّرور بالفوز بالمطلوب، و سواده كناية عن الخيبة منه و وصول المكروه؛ كما قال تعالى: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا (2)

ثمّ بعد بيان سيماء الفريقين من الحسن و القباحة بيّن سبحانه معاملته معهما بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يقال لهم توبيخا و تقريعا: أَ كَفَرْتُمْ بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله و بدين الإسلام بَعْدَ إِيمانِكُمْ و تصديقكم عن صميم القلب، و اعترافكم لسانا و جنانا بهما؟ !

عن أبيّ بن كعب: أي في عالم الذّرّ (3).

ص: 50


1- . تفسير روح البيان 2:76.
2- . النحل:16/58.
3- . مجمع البيان 2:808.

و قيل: يعني قبل بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أو بعد إيمان أسلافكم به (1).

و على الوجهين الأخيرين يكون العتاب خاصّا بأهل الكتابين.

و قيل: اريد خصوص بني قريظة و النّضير.

و قيل: عموم أهل البدع من هذه الأمّة (2)، أو المرتدّين في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعده.

عن الثّعلبي في تفسيره: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و الذي نفسي بيده، ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام، حتّى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولنّ: أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم (3)ارتدّوا على أعقابهم» (4).

و في روايات كثيرة: ارتدّ النّاس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ خمسة (5).

و على أي تقدير يقال لهم: إذن فَذُوقُوا و اطعموا اَلْعَذابَ في هذا اليوم بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ .

قيل: إنّ الفصحاء متّفقون على أنّ من المحسّنات البديعيّة أن يكون مطلع الكلام و مقطعه ما تسر به القلوب (6)؛ و لذا بدأ في الآية ببيض الوجوه و ختمها بذكر حالهم، بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ بنور الإيمان و الطّاعة فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ من جنّته و نعمه مستقرّون، و هُمْ خاصّة فِيها خالِدُونَ دائمون، لا يخرجون منها، و لا يموتون.

قيل: في الآية إشعارات بغلبة جانب الرّحمة؛ حيث ابتدأ فيها بذكر أهل الرّحمة و ختمها بهم، و عبّر عن تعذيب الكفّار بالذّوق، و عن إثابة المؤمنين بالاستقرار في الرّحمة، و علّل العذاب بالكفر المستند إلى أنفسهم، و الثّواب بالرّحمة المضافة إلى ذاته المقدّسة، و لم يصرّح بخلود الكفّار في العذاب، مع كونهم خالدين فيه، و صرّح بخلود أهل الرّحمة فيها.

عن القمّي رحمه اللّه، عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه، قال: لمّا نزلت هذه الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ترد عليّ أمّتي يوم القيامة على خمس رايات؛ فراية مع عجل هذه الأمّة، فأسألهم: ما فعلتم بالثّقلين [من]بعدي؟ فيقولون: أما الأكبر فحرّفناه (7)و نبذناه وراء ظهورنا، و أمّا الأصغر فعاديناه

ص: 51


1- . مجمع البيان 2:808.
2- . مجمع البيان 2:809، تفسير الرازي 8:173.
3- . في المصدر: بعد إيمانهم.
4- . مجمع البيان 2:809.
5- . راجع: رجال الكشي:8/17 و 11/24 و فيه: ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة.
6- . تفسير الرازي 8:172.
7- . الظاهر أنه ليس المراد بالتحريف هنا الزيادة و النقصان، للاجماع على سلامة القرآن الكريم من التحريف بهذا المعنى، بل لعلّ المراد بالتحريف هنا التأويل الباطل الذي يخرج بالنص القرآني عن معناه الصحيح الموافق لمراده تعالى، و يؤيد ذلك حديث الإمام الباقر عليه السّلام في مراسلته لسعد الخير و التي جاء فيها: «و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه و حرّفوا حدوده، فهم يروونه و لا يرعونه-إلى أن قال عليه السّلام-: و كان من نبذهم الكتاب أن ولوه الذين لا يعلمون فأوردوهم الهوى، و أصدروهم إلى الردى، و غيروا عرى الدين» الحديث. الكافي 8:53/16.

و أبغضناه و ظلمناه، فأقول: ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية مع فرعون هذه الامّة، فأقول لهم: ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفناه و مزّقناه و خالفناه، و أمّا الأصغر فعاديناه و قاتلناه، فأقول: ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية مع سامري هذه الأمّة، فأقول [لهم]: ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فعصيناه و تركناه، و أمّا الأصغر فخذلناه و ضيّعناه، فأقول: ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية ذي الثدية مع أوّل الخوارج و آخرهم، فأقول: ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فمزّقناه و برئنا منه، و أمّا الأصغر فقاتلناه و قتلناه، فأقول: ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية إمام المتّقين، و سيّد الوصيّين، و قائد الغرّ المحجّلين، و وصيّ رسول ربّ العالمين، فأقول لهم: ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فاتّبعناه و أطعناه، و أمّا الأصغر فأحببناه و واليناه و نصرناه، حتّى اهريقت فيه دماؤنا، فأقول: ردوا الجنّة رواء مرويّين، مبيضّة وجوهكم» ، ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ إلى قوله خالِدُونَ (1).

و في هذه الرّواية شهادة على أنّ المراد بالآية أهل البدع و الأهواء الزّائغة من هذه الأمّة، و قد روي ذلك عن أمير المؤمنين عليه السّلام. أو المراد عموم المرتدّين و أهل البدع منهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 108 الی 109

ثمّ أشار سبحانه إلى دلالة هذه الآيات على صدق النّبوّة، بقوله: تِلْكَ الآيات المبشّرة للمؤمنين بياض الوجه في الآخرة و النّعم الأبدية و المنذرة للكافرين بسواد الوجه و العذاب الدّائم، العالي شأنها من أن يطّلع عليها أحد إلاّ بالوحي آياتُ اَللّهِ و دلائله القاطعة، التي أنزلها لإثبات كونك بشيرا و نذيرا من جانب اللّه، حيث إنّها-لعلوّ معانيها و إعجاز عباراتها-تنادي بأنّها ليست من البشر، بل نَتْلُوها و نقرؤها عَلَيْكَ يا محمّد بوساطة جبرئيل، حال كونها ملتبسة بِالْحَقِّ و العدل،

تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (109)

ص: 52


1- . تفسير القمي 1:109.

ليس فيها شائبة الجور من انتقاص الثّواب عن حدّ الاستحقاق، و زيادة العقاب عليه وَ مَا اَللّهُ الحكيم الغنيّ المنزّه من كلّ نقص و عيب يُرِيدُ ظُلْماً بوجه من الوجوه و لو مثقال ذرّة لِلْعالَمِينَ من الأوّلين و الآخرين، فإذا لم يمكن تحقّق إرادته منه تعالى لكونه من أقبح القبائح، فكيف يمكن صدوره منه تعالى؟ لوضوح أنّ العاقل لا يرتكب القبيح إلاّ للجهل، أو شدّة الضرورة و الحاجة.

وَ لِلّهِ وحده بالملكية الحقيقيّة الإشراقيّة ما وجد فِي اَلسَّماواتِ السّبع كلّها وَ ما يكون فِي اَلْأَرْضِ كافّة من الموجودات الخارجة من الحصر وَ إِلَى اَللّهِ و إلى حكمه و قضائه خاصّة تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ من الإيجاد و الإعدام، و الإحياء و الإماتة، و التّصرّف و التّربية، و الإثابة و العقوبة، لا يشركه فيها ندّ، و لا يزاحمه فيها ضدّ، فإذن كان علمه بلا نهاية، و قدرته بلا غاية، و غناؤه غير محدود، و عطاؤه غير مجذوذ.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 110

ثمّ أنّه تعالى-بعد أمر المؤمنين بالاتّفاق على الحقّ، و الدّعوة إلى طاعته، و نهيهم عن الفرقة و الاختلاف، و وعد المطيعين، و وعيد العاصين-مدح المتّفقين السّاعين في الإرشاد منهم، بقوله: كُنْتُمْ في علمي، و في اللّوح المحفوظ عندي خَيْرَ أُمَّةٍ من الامم، و أفضلهم في العالم.

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ (110)عن الصادق عليه السّلام قال: «يعني الأئمّة (1)التي وجبت لها دعوة إبراهيم عليه السّلام، فهم الأمّة التي بعث اللّه فيها و منها و إليها، و هم الامّة الوسطى، و هم خير أمّة اخرجت للنّاس» (2).

و عن العياشي: عنه عليه السّلام قال: «في قراءة عليّ: (كنتم خير أئمّة اخرجت للنّاس) ، قال: هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «إنّما نزلت هذه الآية على محمّد فيه و في الأوصياء خاصّة، فقال: (أنتم (4)خير أئمّة اخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر) هكذا نزل بها جبرئيل، و ما عنى بها إلاّ محمّدا و أوصياءه» (5).

ص: 53


1- . في تفسير العياشي: الامّة.
2- . تفسير العياشي 1:335/769، تفسير الصافي 1:343.
3- . تفسير العياشي 1:335/767، تفسير الصافي 1:342.
4- . في تفسير العياشي: كنتم.
5- . تفسير العياشي 1:335/768، تفسير الصافي 1:342.

أقول: قد مرّ أنّ المراد من إنزال جبرئيل تفسيره حين إنزالها (خير أمّة) بالأئمّة، لا وقوع التّحريف فيها، و عليه تحمل سائر الرّوايات.

و عن القمّي رحمه اللّه عنه عليه السّلام أنّه قرئ عليه كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ فقال [أبو عبد اللّه عليه السّلام: «خير أمّة]يقتلون أمير المؤمنين، و الحسن و الحسين عليهم السّلام؟ !» فقال القارئ: جعلت فداك، كيف نزلت؟ فقال: «نزلت (كُنْتُمْ خَيْرَ أئمّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ) ألا ترى مدح اللّه لهم: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ؟» (1).

و عن (المناقب) : عن الباقر عليه السّلام أنّه: «خير أمّة (2)بالألف، نزل بها جبرئيل، و ما عنى بها إلاّ محمّدا و عليّا و الأوصياء من ولده» (3).

قال بعض العامّة: لو شاء اللّه تعالى لقال: (أنتم خير أمّة) حتّى يشمل جميع الامّة إلى يوم القيامة، و لكن قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ليختصّ بالمخصوصين، و قوم معيّنين من أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله؛ و هم السّابقون الأوّلون.

و روي من طريق عامّيّ عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ الّذين هاجروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة (4).

و عن الضّحّاك: أنّهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة (5).

أقول: لا ريب أنّ المراد من (الأمّة) في الآية ليس جميعهم إلى يوم القيامة، و لا جميع الحاضرين في زمان الخطاب من الصّحابة، للقطع بفسق كثير منهم؛ كأبي سفيان و معاوية. و لا دليل على تعيين خصوص المهاجرين، بعد القطع بعدم إرادة المعنى الحقيقي و هو العموم، فلا بدّ من حملها على المتيقّن و هو أمير المؤمنين و من يحذو حذوه.

في بيان عدم حجية

الاجماع إلاّ بموافقة

رأي المعصوم

و قال الفخر الرازي في تفسيره: احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ إجماع الامّة حجّة (6). و فيه مضافا إلى منع الدّلالة: أنّ المراد إن كان اتّفاق جميع الامّة-كما هو ظاهر اللّفظ -فنحن نقول به، لكن لا من حيث الاتّفاق، بل لوجود الإمام المعصوم الذي هو أفضل الأمّة فيهم. و إن كان المراد اتّفاق بعضهم، فمع أنّه ليس بإجماع حقيقة [فانّ]إرادة خصوص أهل البيت-الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّهم حبل اللّه» (7)،

ص: 54


1- . تفسير القمي 1:110، تفسير الصافي 1:342.
2- . في المصدر: أنتم خير أمّة اخرجت للنّاس.
3- . مناقب ابن شهر آشوب 4:2، تفسير الصافي 2:343.
4- . تفسير أبي السعود 2:71.
5- . تفسير أبي السعود 2:71.
6- . تفسير الرازي 8:178.
7- . كتاب سليم بن قيس:134.

و أوجب حبّهم و ولايتهم-أولى من إرادة غيرهم، مع أن قوله تعالى: أُخْرِجَتْ و أبرزت من كتم العدم، نفعا لِلنّاسِ قرينة ظاهرة على إرادة خصوص جماعة يكون وجودهم نافعا لعامّة الخلق، و لطفا تامّا من اللّه تعالى بكافّة الأنام إلى يوم القيامة، و ليست إلاّ الأئمّة الاثني عشر الّذين نعتقد بأنّهم أوصياء الرّسول، و حجج اللّه على العباد.

و ما رواه التّرمذي عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه أنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ : «أنتم (1)تتمّون سبعين أمّة، أنتم خيرها و أكرمها على اللّه» (2)فمحمول- على تقدير صحّتها-على كون هذه الامّة أكرم من حيث كرامة نبيّها، و كمال دينها، و أفضليّة أئمتّها. فلا ينافي كون كثير منهم أشقى الأمم.

و من شواهد كون (خير أمّة) خصوص الهداة المهديّين: تعليله تعالى خيريّتهم بقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ فإنّه يخصّ الوصف بالّذين يكون همّهم في تربية الخلق و تكميل نفوسهم.

ثمّ بقوله: وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ إيمانا خالصا عن شوب الشّرك الجليّ و الخفيّ و الأخفى، و من المعلوم أنّه كما لا يكون إلاّ للأوحدي من هذه الأمّة.

قيل: إنّ تأخير الإيمان باللّه في الذّكر على الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر مع تقدّمه عليهما في الوجود، لكون دلالتهما على خيرهم و نفعهم للنّاس أظهر من دلالته عليه، و لأن يقترن به قوله: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ من اليهود و النّصارى بوحدانيّة اللّه، و رسالة رسوله، و بدين الإسلام، عن صميم القلب، كإيمانكم لَكانَ ذلك خَيْراً لَهُمْ و أنفع في الدّنيا و الآخرة من الكفر و الرّئاسات الباطلة و الزّخارف الدّنيويّة؛ حيث إنّ بالإيمان يجمع لهم حظوظ الدّارين.

ثمّ لمّا كان لفظ (أهل الكتاب) في القضيّة الشّرطية ظاهرا في عمومهم، نصّ اللّه سبحانه بإيمان بعضهم بقوله: مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ كعبد اللّه بن سلام و أضرابه وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ المتمرّدون عن طاعة اللّه، المصرّون على مخالفته، الخارجون عن حدود دينه، في اعتقادهم و عند أهل ملّتهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 111

ثمّ لمّا كان توصيف الكافرين بالكثرة موهما لقوّتهم و غلبتهم، بشّر اللّه المؤمنين اطمئنانا لقلوبهم بأنّهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ أبدا بوجه من الوجوه، مع كثرتهم إِلاّ أَذىً قليلا، و ألما يسيرا، لا عبرة به

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)

ص: 55


1- . في المصدر: قال: إنكم.
2- . سنن الترمذي 5:226/3001.

و لا التفات إليه، كالطّعن باللّسان، و الإساءة بالقول، و السّعي في الإضلال.

وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يتظاهروا على حربكم، لا يقاوموكم، بل يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبارَ و يلجئهم الخوف من بأسكم إلى الفرار، من غير أن يصيبوكم بقتل، أو جرج، أو أسر ثُمَّ بعد انهزامهم لا يُنْصَرُونَ من جهة أحد، و لا يتقوّون بمدد، و لا يتوقّع لهم شوكة، و لا ينتظر لهم قوّة.

و فيه تثبيت لمن آمن منهم و بشارة بأنّهم لا يفارقون الخذلان، و لا ينهضون بجناح، و لا ترجع إليهم سلطة و نجاح، كما كان من حال بني قريظة، و النضير، و قينقاع، و يهود خيبر.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 112

ثمّ أكّد خذلانهم بقوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ و أحاطت بهم اَلذِّلَّةُ و المهانة، كإحاطة الفسطاط المضروب بأهله أَيْنَ ما ثُقِفُوا و في أي مكان كانوا، و إلى أي حال تحوّلوا إِلاّ إذا تمسّكوا بِحَبْلٍ وثيق كائن مِنَ اَللّهِ و اعتصموا بدينه القويم، و كتابه الحكيم وَ حَبْلٍ متين مِنَ اَلنّاسِ و هو ولاية أهل بيت النبيّ صلوات اللّه عليهم و متابعتهم، لنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خبر الثّقلين، المتّفق على روايته بأنّ كتاب اللّه و العترة حبلان ممدودان، من تمسّك بهما لن يضلّ أبدا (1).

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اَللّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ اَلنّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112)و عن العياشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «الحبل من اللّه: كتاب اللّه، و الحبل من النّاس: عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (2).

و العجب من مفسّري العامّة أنّهم فسّروا الحبل من النّاس بذمّة المسلمين (3)، و لم يحتملوا إرادة العترة الطّاهرة منه، مع أنّ دأبهم في التّفسير التّمسّك بأضعف الشّواهد.

ثمّ اعلم أنّ في هذه الآيات دلالة ظاهرة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دعوى النّبوّة، لأنّها أخبار صادقة بالمغيّبات، لوقوع جميع ما أخبر به كما أخبر، حيث إنّ اليهود لم يقاتلوا المسلمين إلاّ انهزموا، و ما أقدموا على محاربة، و لا طلبوا رئاسة إلاّ خذلوا.

إن قيل: أهل الكتاب شامل للنّصارى، مع أنّهم لم يزالوا في شوكة و سلطنة قاهرة إلى عصرنا هذا، فكيف طابق الخبر المخبر؟

ص: 56


1- . مجمع البيان 2:805.
2- . تفسير العياشي 1:336/770، تفسير الصافي 1:343.
3- . تفسير أبي السعود 2:72، تفسير روح البيان 2:79.

قلنا: اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من الآيات خصوص اليهود، و يشهد لذلك ما روي في شأن نزولها: من أنّ مالك بن الصّيف و وهب بن يهوذا اليهوديّين، مرّا بنفر من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و فيهم ابن مسعود، و أبيّ بن كعب، و معاذ بن جبل، و سالم مولى حذيفة، فقالا لهم: نحن أفضل منكم و ديننا خير ممّا تدعوننا إليه. فنزلت [الآية] (1).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه سوء حالهم في الآخرة بقوله: وَ باؤُ و رجعوا في الآخرة، أو المراد تمكّنوا و استقرّوا بِغَضَبٍ و عذاب عظيم كائن مِنَ اَللّهِ العظيم. و فيه أشّد التّهديد.

ثمّ لمّا كان همّ اليهود في الرّئاسات الباطلة و الحطام الدنيوي، زاد سبحانه في تهديدهم بالأخبار بحرمانهم منها في الدّنيا بقوله: وَ ضُرِبَتْ و اشتملت عَلَيْهِمُ اشتمال القبّة على من فيها اَلْمَسْكَنَةُ و الفقر و المقهورية، في أيدي المسلمين و سائر الملل، فلا يكون لهم ملك و سلطان و رئاسة و ثروة ظاهرة، حيث إنّهم و إن كثرت ثروتهم يظهرون الفقر بين النّاس.

و قيل: إنّ المراد بالمسكنة هي الجزية (2).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة هذه العقوبات بقوله: ذلِكَ المذكور من الشّدائد الدّنيويّة و الاخرويّة معلّل بِأَنَّهُمْ كانُوا من زمان بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الاستمرار يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ النّاطقة بنبوّته، و ينكرون علائمه المذكورة في التّوراة، و يحرّفون عباراتها المبشّرة ببعثه، الدّالّة على أوصافه و علائمه، و يجحدون إعجاز القرآن و سائر معجزاته وَ بأنّهم كانوا يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِياءَ من بني إسرائيل، كزكريّا، و يحيى و غيرهما، مع علمهم بأنّ قتلهم بِغَيْرِ حَقٍّ يوجبه أو يجوّزه.

قيل: إنّ إسناد القتل إلى الّذين كانوا في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لرضاهم بفعل أسلافهم، و تصويبهم له (3).

عن (الكافي) و العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «و اللّه ما قتلوهم بأيديهم، و لا ضربوهم بأسيافهم، و لكنّهم سمعوا أحاديثهم فأضاعوها، فاخذوا عليها فقتّلوا» (4).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من الرّواية بيان وجه نسبة قتلهم إلى مؤمني بني إسرائيل، مع وضوح عدم مباشرتهم له، و إنّما كان المباشر منهم.

ثمّ بيّن اللّه علّة بلوغهم إلى هذه الدّرجة من الشّقاوة بقوله: ذلِكَ المذكور من الكفر و الطّغيان معلّل بِما عَصَوْا اللّه و خالفوا أوامره و نواهيه، و مسبّب عن الإصرار على صغائر الذّنوب و كبائرها،

ص: 57


1- . تفسير أبي السعود 2:71.
2- . تفسير الرازي 8:185.
3- . تفسير روح البيان 2:79.
4- . الكافي 2:275/6، تفسير العياشي 1:336/770، تفسير الصافي 1:343.

وَ بما كانُوا يَعْتَدُونَ [على]حدود اللّه، و يداومون على التّجاوز عنها، من غير مبالاة، و لا ارعواء.

فإنّ الإصرار على الصّغائر مفض إلى مباشرة الكبائر، و الاستمرار على الكبائر موجب لزيغ القلب و طبعه الملازم للكفر و الطّغيان، و إليه أشار سبحانه بقوله: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (1)و قوله: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (2).

قال بعض العرفاء: من ابتلي بترك الأدب وقع في ترك السّنن، و من ابتلي بترك السّنن وقع في ترك الفريضة، و من ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشّريعة، و من ابتلي بذلك وقع في الكفر (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس» (4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله في رواية: «و من ارتكب الشّبهات وقع في المحرمات؛ كالرّاعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه» (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 113 الی 114

ثمّ أنّه تعالى-بعد ذمّ أكثر أهل الكتاب بسوء اعتقادهم و أخلاقهم و أعمالهم، و تهديدهم على كفرهم و طغيانهم-ذكر التّباين بينهم و بين المؤمنين منهم بقوله: لَيْسُوا سَواءً في الاتّصاف بالكفر و القبائح، و لا يكونون مشاركين و لا مشابهين فيها.

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ (114)ثمّ شرع في مدح من آمن منهم بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و بيان عدم المساواة بينهم بقوله: مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ كعبد اللّه بن سلام و أضرابه.

روي أنّه لمّا أسلم هو و أصحابه قال لهم بعض كبار اليهود: لقد كفرتم و خسرتم، فأنزل اللّه لبيان فضلهم هذه الآية (6).

و قيل: إنّها نزلت في أربعين من نصارى نجران، و اثنين و ثلاثين من الحبشة، و ثلاثة من الرّوم كانوا

ص: 58


1- . المطففين:83/14.
2- . الروم:30/10.
3- . تفسير روح البيان 2:80.
4- . سنن الترمذي 4:634/2451، تفسير روح البيان 2:80.
5- . تفسير روح البيان 2:80.
6- . تفسير الرازي 8:187.

على دين عيسى، و صدّقوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، و كان جمع من الأنصار-قبل قدوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-منهم: أسعد بن زرارة، و البراء بن معرور، و محمّد بن مسلمة، و أبو قيس صرمة بن أنس، كانوا موحّدين يغتسلون من الجنابة، و يقومون بما يعرفون من شرائع الحنيفيّة، حتّى بعث اللّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فصدّقوه و نصروه (1).

و على أي تقدير، ذكر اللّه سبحانه وجه عدم المساواة بين المؤمنين منهم و الكافرين، و هو أنّ المؤمنين منهم أُمَّةٌ و جماعة قائِمَةٌ بالعدل، مستقيمة في العقائد و الأعمال، لا يتحرّفون إلى الباطل، و لا يميلون إلى الفساد، و هم يَتْلُونَ و يقرأون بخلوص النّيّة آياتِ اَللّهِ القرآنية آناءَ اَللَّيْلِ و ساعاته وَ هُمْ في حال تلاوتهم يَسْجُدُونَ .

قيل: إنّ السّجود كناية عن الصّلاة لعدم الفضيلة لتلاوة القرآن في السّجود، بل ثبوت كراهيّتها لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ألا إنّي نهيت أن أقرأ راكعا و ساجدا» (2).

و وجه التّعبير عن الصّلاة بالسّجود كونه أعظم أجزائها، و أشرف أركانها، و أدلّ على كمال الخضوع. و إنّما صرّح بتلاوتهم القرآن في الصّلاة، مع اشتمال كلّ صلاة عليها، لزيادة تحقيق المخالفة بين هؤلاء و غيرهم من منكري القرآن، لتوضيح عدم المساواة بينهم و بين الّذين وصفهم اللّه-آنفا-بالكفر بالنبيّ و كتابه.

و لعلّ هذا هو الوجه في تقديم هذا الوصف في الذّكر على توصيفهم بالإيمان بقوله: يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ إيمانا حقيقيّا، مطابقا لما نطق به الشّرع، و رضي به اللّه.

فيدخل في الإيمان الحقيقي باللّه الإيمان بملائكته و كتبه و رسله و بخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن المجيد. و في الإيمان بالآخرة تصديق خلافة أمير المؤمنين و وجوب طاعته و طاعة المعصومين من ذرّيّته، و البراءة من أعدائهم، و القيام بأداء الفرائض، و التّحرّز عن المحرّمات.

و حاصل الآيتين من قوله: أُمَّةٌ قائِمَةٌ إلى هنا، مدحهم بكمال القوة النظريّة و العمليّة.

ثمّ بعد مدحهم بكمالهم في أنفسهم، مدحهم بأنّهم غير مقتصرين على ذلك، بل يكون همّهم معدّ إلى إرشاد النّاس و تكميلهم، بقوله: وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ .

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بتوحيد اللّه، و بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ أي ينهون عن الشّرك باللّه، و عن إنكار نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله (3).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من المعروف و المنكر هو الأعمّ من العقائد و الأعمال.

ص: 59


1- . تفسير أبي السعود 2:73.
2- . تفسير أبي السعود 2:73، تفسير روح البيان 2:81.
3- . تفسير الرازي 8:190.

ثمّ مدحهم بصفة جامعة لفنون المحاسن، بقوله: وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ بأصنافها؛ لخوف الفوت بالموت، و لفرط الرّغبة، و يبادرون إليها لغاية الشّوق.

و في ذكر الأوصاف تعريض على الفسّاق من أهل الكتاب، فإنّهم أمّة قائمة بالجور و الفساد، منحرفة العقائد، مائلة إلى الفساد، ساعية في إضلال النّاس، متباطئة في الخيرات، مسارعة في الشّرور، كافرة باللّه و اليوم الآخر.

ثمّ مدحهم اللّه تعالى بأكرم الصّفات، بقوله: وَ أُولئِكَ النّفوس المقدّسة، الكريمة الصّفات معدودون مِنَ زمرة اَلصّالِحِينَ و من جملة من حسنت أحوالهم عند اللّه، و استحقّوا رضاه و ثناءه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 115

ثمّ بشّرهم بالثّواب العظيم بقوله: وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ و عمل صالح؛ كائنا ما كان، من قليل أو كثير فَلَنْ يُكْفَرُوهُ و لن يعدموا ثوابه، و لم ينقصوا من أجره شيئا.

وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)و في التّعبير عن ترك الإثابة بالكفران الذي هو محال على اللّه، دلالة واضحة على أنّ الثّواب بالاستحقاق كدلالة إطلاق الشّكر على الإثابة.

ثمّ قرّر اللّه سبحانه وعده بقوله: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مطّلع على أحوالهم و ضمائرهم، فيوفّيهم أجورهم في الدّنيا و الآخرة.

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ المؤمن مكفّر، و ذلك أنّ معروفه يصعد إلى اللّه فلا ينتشر في النّاس، و الكافر مشهور، و ذلك أنّ معروفه للنّاس ينتشر في النّاس و لا يصعد إلى السّماء» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 116

ثمّ-لمّا ذكر اللّه سبحانه حسن حال المؤمنين في الآخرة، و عظّم ثوابهم-ذكر سوء حال الكفّار فيها، و شدّة عقابهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله لَنْ تُغْنِيَ و لن تجزي عَنْهُمْ في الآخرة أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ تعالى شَيْئاً يسيرا، فلا وسيلة لهم إلى النّجاة منه.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)و تخصيص المال و الأولاد بالذّكر لكونهما أنفع الأمور، و أوثق الوسائل في دفع المكاره

ص: 60


1- . علل الشرائع:560/1، تفسير الصافي 1:344.

وَ أُولئِكَ المتباعدون عن رحمة اللّه، الخارجون عن وظائف الإنسانيّة أَصْحابُ اَلنّارِ و ملازموها و هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا، لا مناصّ لهم و لا خلاص.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: يريد بني قريظة و النضير؛ لأنّ مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرّسول ما كان إلاّ المال و الولد (1).

و قيل: إنّما نزلت في أبي سفيان، فإنّه أنفق مالا كثيرا على المشركين يوم بدر و أحد في عداوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: إنّما نزلت في مشركي قريش، فإنّ أبا جهل كان كثير الافتخار بماله (3).

و قيل: إنّها عامّة لجميع الكفّار، فإنّ جميعهم كانوا يتعزّزون بكثرة الأموال و الأولاد، و كانوا يعيّرون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه بالفقر، و يقولون: لو كان محمّد على الحقّ لما تركه ربّه في هذا الفقر و الشدّة (4).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 117

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى أنّ أموال الكفّار لا تفيدهم شيئا-و هم كثيرا ما كانوا ينفقون أموالهم في الخيرات؛ كالصّدقة على الفقراء، و إعانة الضّعفاء-فكان مجال توهّم أنّهم ينتفعون بأموالهم في الآخرة، فأزال اللّه ذلك التّوهّم بقوله: مَثَلُ كفرهم في إبطال ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا قربة، أو مفاخرة، أو سمعة و طلبا لحسن الذّكر بين النّاس، أو رياء و خوفا كإنفاق المنافقين كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ و برد شديد مهلك.

مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)و قيل: إنّ المعنى: فيها نار محرقة، للهبها صرّ و صوت. و كلاهما مرويّ عن ابن عبّاس (5).

أَصابَتْ تلك الرّيح المهلكة حَرْثَ قَوْمٍ و زرع طائفة ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و المعاصي فَأَهْلَكَتْهُ و استأصلته، بحيث لم يبق لهم ثمر و لا نفع بوجه من الوجوه، و لم يحصل لهم إلاّ الخيبة و الحسرة.

و قيل: إنّ المراد تشبيه ما أنفق الكفّار-في وجوه الخيرات و القربات، أو في معارضة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و قتال المسلمين، كإنفاق أبي سفيان في بدر و احد، و سائر أعمالهم الحسنة التي يرجى منها النّفع و لو كان دنيويّا-في الهلاك و الضّياع و البطلان، بما يحرثه الكفّار، فضربته صرّ فأبادته بحيث لم يكن لهم

ص: 61


1- . تفسير الرازي 8:192.
2- . تفسير الرازي 8:193.
3- . تفسير الرازي 8:192.
4- . تفسير الرازي 8:193.
5- . تفسير الرازي 8:195.

فيه منفعة. فهو من التّشبيه المركّب.

و إنّما وصف القوم بكونهم كفّارا، لأنّ الإهلاك عن السّخط أقطع و أفظع وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ بإهلاك ما أنفقوا من الأموال، و بإحباط ما عملوا من الخيرات وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث إنّهم أنفقوها مع الكفر، أو عصيان اللّه و طغيانا عليه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 118

ثمّ-لمّا بيّن اللّه المباينة بين المؤمنين و الكفّار، و تضادّ قلوبهم و أخلاقهم-حذّر المؤمنين من مخالطتهم و موالاتهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا و لا تختاروا لأنفسكم بِطانَةً و خليطا كائنا مِنْ دُونِكُمْ و لا تودعوا أسراركم عند الأجانب من دينكم، فإنّهم لا يَأْلُونَكُمْ و لا يقصّرون لكم خَبالاً و فسادا بمكرهم و خديعتهم، و لا يتركون جهدهم في الإضرار بكم، في ما يورثكم الشّرّ وَدُّوا ما عَنِتُّمْ و تمنّوا مشقّتكم، و شدّة ضرركم في دينكم و دنياكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ اَلْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)قيل: إنّ معنى الجملتين: أنّهم لا يقصّرون ضررا في أمر دينكم و دنياكم، فإن عجزوا فحبّ ذلك ثابت في قلوبهم (1).

حتّى أنّهم قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ و ظهرت شدّة عداوتهم في كلامهم، حيث إنّهم لا يتمالكون-مع مبالغتهم في حفظ أنفسهم-أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين. و فيه غاية المبالغة؛ حيث فرض كلامهم-من ظهور العداوة و البغض فيه-عين البغضاء، لا دالاّ عليها، فخروج الكلام من أفواههم، لامتلاء قلوبهم بالبغض، نفس خروج البغض، وَ الحال أنّ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ و ما تستّر في قلوبهم من البغض و الحسد أَكْبَرُ و أكثر ممّا بدأ و ظهر.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كان رجال من المؤمنين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة و الصّداقة و الحلف، فأنزل اللّه هذه الآية (2).

و عن مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين، فنهوا عن ذلك (3).

و قيل: إنّ المسلمين كانوا يشاورون اليهود في أمورهم و يؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع

ص: 62


1- . تفسير روح البيان 2:85.
2- . تفسير أبي السعود 2:76.
3- . تفسير أبي السعود 2:76.

و الحلف (1).

و الظّاهر أنّ المراد النّهي عن موالاة عموم الكفّار، و إن كان مورد النّزول خاصّا.

ثمّ لمّا كان الإخبار بالضمائر و الأسرار إخبارا بالمغيّبات، الخارج عن طوق البشر، و متوقّفا على الوحي، نبّه اللّه سبحانه على كون هذا الإخبار من علائم صدق النّبوّة، بقوله: قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ أيّها المؤمنون اَلْآياتِ الدّالّة على صدق محمّد في دعواه إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ و تعدّون من زمرة أهل الفهم و الإدراك.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 119

ثمّ أنّه تعالى بعد تنبيه المؤمنين على خطئهم في اعتقاد النّصح في اليهود، بالغ في الرّدع عن موالاتهم بقوله: ها أيّها المؤمنون و تنبّهوا أَنْتُمْ أُولاءِ المشتبهون فيهم، حيث إنّكم تُحِبُّونَهُمْ بتخيّل أنّهم يحبّونكم، وَ الحال أنّهم لا يُحِبُّونَكُمْ و لا يريدون خيركم و صلاح حالكم، وَ أنتم تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ المنزل من اللّه كُلِّهِ [سواء]

كان هو التّوراة و الإنجيل، أو القرآن، و تعتقدون أنّ جميعها حقّ، و هم لتصلّبهم في دينهم لا يؤمنون بكتابكم.

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنامِلَ مِنَ اَلْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (119)قيل: فيه توبيخ شديد بأنّهم أصلب في باطلهم منكم في حقّكم.

ثمّ ذكّر اللّه تعالى من جملة الرّوادع عن مخالطتهم شدّة نفاقهم بقوله: وَ إِذا لَقُوكُمْ و واجهوكم قالُوا بألسنتهم نفاقا: نحن آمَنّا بنبيّكم و كتابكم كإيمانكم وَ إِذا خَلَوْا و تفرّدوا منكم أظهروا شدّة العداوة و الغيظ عليكم، حتّى تبلغ الشدّة إلى أن عَضُّوا عَلَيْكُمُ و استمسكوا شديدا بالأسنان اَلْأَنامِلَ و رؤوس الأصابع مِنَ أجل اَلْغَيْظِ و شدّة الغضب تأسّفا و تحسّرا، حيث لم يجدوا إلى التّشفّي سبيلا، كما هو فعل من اشتدّ غضبه، و عظم تحسّره على حرمانه من مطلوبه.

قيل: إنّما حصل لهم هذا الغيظ الشّديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين، و اجتماع كلمتهم، و صلاح ذات بينهم (2).

ثمّ أمر اللّه نبيّه بتقريعهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء الحاسدين الغائظين: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ و اهلكوا بسبب شدّة عداوتكم و حسدكم.

ص: 63


1- . تفسير الرازي 8:197.
2- . تفسير الرازي 8:201، تفسير روح البيان 2:85.

قيل: إنّه كناية عن أنّه لا وسيلة للخلاص من هذا الغيظ إلاّ الموت، فمن رام التّخلّص منه فليتمنّى الموت و قيل: إنّه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنّونه (1).

ثمّ أمره عليه السّلام بتهديدهم، بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و مطّلع على جميع ما تخفونه و تكتمونه في قلوبكم من نيّات السّوء، و الحقد و الحسد على المؤمنين، و يجازيكم بأشدّ العذاب. و قيل: إنّه جملة مستأنفة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 120

ثمّ بيّن اللّه تعالى شدّة حسدهم، و تناهي عداوتهم للمؤمنين، بقوله: إِنْ تَمْسَسْكُمْ و تصل إليكم حَسَنَةٌ و خير من ربّكم من قوّة دينكم، و ضعف أعدائكم، و ظهوركم عليهم، و الغنيمة منهم، و الألفة و المحابة بينكم، و خصب معيشتكم، و سعة رزقكم تَسُؤْهُمْ و تحزنهم وَ إِنْ تُصِبْكُمْ و ترد عليكم سَيِّئَةٌ و بليّة من مرض أو فقر أو جرح أو قتل يَفْرَحُوا و يسرّوا بِها و يشتموكم منها.

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)ثمّ لمّا كانت هذه المرتبة من العداوة و الحسد موجبا للخوف منهم، أمّن اللّه سبحانه المؤمنين بقوله: وَ إِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم، و امتثال أحكام دينكم وَ تَتَّقُوا ربّكم في مخالفة تكاليفه لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ و مكرهم و حيلتهم-التي يحتالونها لأجلكم- شَيْئاً من الضّرر، فإنّكم في حفظ اللّه الموعود للصابرين و المتّقين.

قال بعض العلماء: إنّ اللّه تعالى إنّما خلق الخلق للعبوديّة كما قال: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (2)فمن وفى بعهد العبوديّة، فاللّه سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الرّبوبيّة، في حفظه عن الآفات و المخافات، و إليه الإشارة بقوله: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (3)و قوله: وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (4)إشارة إلى أنّه يوصل إليه كلّ ما يسرّه.

و قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك، فاجتهد في اكتساب الفضائل (5).

ثمّ سلّى سبحانه قلوب المؤمنين بقوله: إِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ في عداوتكم من الكيد و الإيذاء مُحِيطٌ علما، و مدرك له كاملا، فيعاقبهم عليه أشدّ العقاب.

ص: 64


1- . تفسير الرازي 8:201.
2- . الذاريات:51/56.
3- . الطلاق:65/2.
4- . الطلاق:65/3.
5- . تفسير الرازي 8:203.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 121 الی 123

ثمّ أنّه تعالى لمّا وعد الحفظ و النّصرة مطلقا، على الصّبر و التّقوى، المستلزم لانتفائهما عند انتفائهما، أتبعه بقضيّة احد الشّاهدة عليه، بقوله: وَ ذكّر المؤمنين إِذْ غَدَوْتَ يا محمّد، و حين خرجت أوّل النّهار مِنْ عند أَهْلِكَ و زوجتك قاصدا للذّهاب إلى أحد، كي تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ و تنزلهم، أو تهيّىء لهم مَقاعِدَ و أماكن ينتظرون فيها للعدوّ، و يقفون فيها لِلْقِتالِ و إنّما سمّيت تلك الأماكن بالمقاعد؛ لأنّهم كانوا يقعدون فيها منتظرين للعدوّ، فإذا جاءهم قاموا للمحاربة وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لمقال أصحابك في مشاورتك إيّاهم عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من النّيّات الحسنة و السّيّئة.

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اَللّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (122) وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)

في سبب وقعة

احد

عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام قال: «سبب غزوة احد أنّ قريشا لمّا رجعت من بدر إلى مكّة-و قد أصابهم ما أصابهم من القتل و الأسر؛ لأنّه قتل منهم سبعون، و اسر منهم سبعون-قال أبو سفيان: يا معشر قريش، لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم، فإنّ الدّمعة إذا خرجت أذهبت الحزن (1)و العداوة لمحمّد (2)، فلمّا غزوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [يوم احد]أذنوا لنسائهم بالبكاء و النّوح، و خرجوا من مكّة في ثلاثة آلاف فارس، و ألفي راجل، و أخرجوا معهم النّساء، فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع أصحابه و حثّهم على الجهاد. . .» (3).

و روي أنّ المشركين نزلوا باحد يوم الأربعاء، فاستشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه، و دعا عبد اللّه بن ابيّ بن سلول، و لم يدعه قطّ قبلها باستشارة (4)، فقال عبد اللّه و أكثر الأنصار: يا رسول اللّه، أقم بالمدينة و لا تخرج إليهم و اللّه، ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلاّ أصاب منّا، و لا دخل عدوّ علينا إلاّ أصبنا منه، و كيف و أنت فينا، فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشرّ موضع، و إن دخلوا قاتلهم الرّجال في وجوههم، و رماهم النّساء و الصّبيان بالحجارة، و إن رجعوا رجعوا خائبين (5).

و قال سعد بن معاذ و غيره من الأوس: يا رسول اللّه، ما طمع فينا أحد من العرب و نحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يظفرون بنا و أنت فينا؟ ! لا حتّى لا نخرج إليهم و نقاتلهم، فمن قتل منّا فهو شهيد،

ص: 65


1- . زاد في المصدر: و الحرقة.
2- . زاد في المصدر: و يشمت بنا محمّد و أصحابه.
3- . تفسير القمي 1:110، تفسير الصافي 1:345.
4- . في تفسير الرازي: فاستشاره.
5- . تفسير الرازي 8:205.

و من يحيا منّا كان مجاهدا في سبيل اللّه (1)، اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب (2)لئلاّ يظنّوا أنّا خفناهم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي قد رأيت في منامي بقرة (3)تذبح حولي، فأوّلتها خيرا، و رأيت في ذباب (4)سيفي ثلما، فأوّلته هزيمة، و رأيت كأنّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة، فإن رأيتم [أن] تقيموا بالمدينة و تدعوهم» .

فقال قوم من المسلمين؛ من الّذين فاتتهم بدر، و أكرمهم اللّه بالشّهادة يوم احد: اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا به حتّى دخل بيته و لبس لامته، فلمّا لبس ندم القوم و قالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الوحي يأتيه، فقالوا له: اصنع يا رسول اللّه ما رأيت، فقال: «لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتّى يقاتل» (5).

و في رواية القمّي رحمه اللّه: و خرج صلّى اللّه عليه و آله مع نفر من أصحابه يتبوّأون (6)موضع القتال (7).

في نقل كلام الفخر

في طهارة عائشة

و ردّه

قال الفخر الرازي في تفسيره: يروى أنّه صلّى اللّه عليه و آله غدا من منزل عائشة، فمشى على رجليه إلى احد. و هذا قول مجاهد و الواقدي، فدلّ هذا النصّ على أن عائشة كانت أهلا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال تعالى: اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ (8)، فدلّ هذا النصّ على أنّها كانت مطهّرة مبرّأة من كلّ قبيح. ألا ترى أنّ ولد نوح لمّا كان كافرا قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (9)و كذا امرأة لوط؟ (10).

أقول: في كلامه خلل لا يكاد يخفى على عاقل، فضلا عن فاضل، فإنّ إطلاق (الأهل) على عائشة- على تقدير إرادتها منه-غير مشعر أصلا بكمال و شرف لها زائدا على شرف الانتساب إليه صلّى اللّه عليه و آله؛ كما كان هذا الشّرف لزوجة نوح و لوط، بل الإشعار فيه بإسلامها، لوضوح أنّ الزّوجة-في اللّغة و العرف- أحد المصاديق الحقيقية للأهل.

و من الواضح أنّ اللّه تعالى أطلق اسم الأهل على زوجة لوط، حيث قال: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ فلو لم تكن زوجته داخلة في (الأهل) لم يصحّ الاستثناء بقوله: إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ (11)فصحّة الاستثناء دليل على شمول لفظ (الأهل) لها حقيقة، و إخراجها منه حكما. و كذا أطلق نوح اسم الأهل على ابنه بقوله: رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي (12)مع علمه بكفره.

ص: 66


1- . تفسير القمّي 1:111.
2- . الأكلب: جمع كلب.
3- . في تفسير الرازي: بقرا.
4- . ذباب السيف: حدّ طرفيه.
5- . تفسير الرازي 8:205.
6- . في تفسير القمي: يبتغون.
7- . تفسير القمي 1:111.
8- . النور:24/26.
9- . هود:11/46.
10- . تفسير الرازي 8:206.
11- . هود:11/81.
12- . هود:11/45.

و أمّا قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (1)فلا شبهة أنّه مجاز في السّلب بعلاقة انتفاء الآثار، كما يقال: يا رجال و لا رجال.

و أمّا قوله تعالى: اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ فقد قيل في تفسيره: إنّ المراد: الطّيّبات من القول و الكلم، أو المبرّأة من الزّنا، فيكون مثل قوله: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (2).

و يؤيّد ذلك أنّ الآية (3)بعد آية رمي المحصنات من قوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْغافِلاتِ اَلْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ (4)و لا شبهة أنّ أزواج الأنبياء بريئات من الزّنا، و إن كنّ كافرات، لوضوح أنّ هذا الفحش منهنّ شين عليهم، مع أنّ البراءة من كلّ قبيح يساوق العصمة، مع أنّه لم يقل أحد في سائر أزواجه صلّى اللّه عليه و آله ذلك.

مع أنّه لا شبهة أنّ الخطاب في قوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اَللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ (5)لحفصة و عائشة، و فيه دلالة واضحة على عصيانهما، و عدم تنزّههما من القبيح، مع تواتر أنّها (6)تبرّجت بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تبرّج الجاهليّة، و خرجت على إمام زمانها. و قد ذكر ابن أبي الحديد أنّ منشأ عداوة أبي بكر و عمر لفاطمة و عليّ عليهما السّلام شدّة حسد عائشة و حفصة عليهما، و سعايتهما عليهما عند أبويهما (7).

و الحاصل: أنّه لا ينبغي لذي مسكة أن يتخيّل أنّ عائشة كانت مبرّأة من كلّ قبيح (8).

في ذكر وقعة

احد

ثمّ إنّ الآية و الرّوايات و إن دلّتا على خروجه من بيت أهله أوّل النّهار، إلاّ أنّ في بعض

ص: 67


1- . هود:11/46.
2- . النور:24/3.
3- . أي آية وَ اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ .
4- . النور 24/23.
5- . التحريم:66/4.
6- . أي عائشة.
7- . راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9:192-199.
8- . و اعلم أن التطهير من الرجس يشمل أهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير من سورة الأحزاب:33 و هم أهل البيت: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و ليس غيرهم، و قد روى ذلك مسلم في صحيحه 4: 1883/2424، و الحاكم في المستدرك 3:146، و قال الفخر الرازي في تفسيره 8:85 إن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير. و اعلم أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخرج أمّ سلمة مع جلالتها من أهل البيت فقال لها: إنك على خير و لم يقل إنك منهم، أخرجه الترمذي في السنن 5:351/3205، و الحاكم في المستدرك 2:415. كما أن السيرة العملية لبعض نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تخرجهن عن دائرة العصمة و الطهارة من الذنوب فقد قال تعالى في بعضهن: إِنْ تَتُوبا إِلَى اَللّهِ [التحريم:66/4] و الآية تدلّ على وقوع المعصية، لأنّ التوبة مترتبة على المعصية، و قال تعالى في نفس الآية: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي مالت عن الحق، و قال تعالى في نفس الآية: وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ و المراد حفصة و عائشة، كما في البخاري 6: 277/407، و الكشاف 4:571. و ذلك يخرج صاحبه عن حد الطهارة و العصمة من الآثام، و عليه فان التطهير لا يشمل نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل مخصوص بالخمسة أهل الكساء من أهل البيت عليهم السّلام دون غيرهم.

الرّوايات أنّه صلّى اللّه عليه و آله خرج من المدينة يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة، و أصبح بالشّعب من احد يوم السّبت للنّصف من شوّال لسنة ثلاث من الهجرة، فمشى على رجليه، و جعل يصفّ أصحابه للقتال كأنّما يقوّم بهم (1)القدح، إن رأى صدرا خارجا قال: تأخّر. و كان نزوله في جانب الوادي، و جعل ظهره عسكره إلى احد، و أمّر عبد اللّه بن جبير على الرّماة و قال: «ادفعوا عنّا بالنّبل، حتّى لا يأتونا من ورائنا» ، و قال صلّى اللّه عليه و آله: «اثبتوا في هذا المقام، فلن نزال غالبين ما ثبتم في مكانكم» .

ثمّ إنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لمّا خالف [رأي]عبد اللّه بن أبيّ، شقّ عليه ذلك و قال: «أطاع الولدان و عصاني» ثمّ قال لأصحابه: إنّ محمّدا إنّما يظفر بعدوّه بكم، و قد وعد أصحابه أنّ أعداءه إن عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا، فيتبعونكم فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمّد.

فلمّا التقى الفريقان انهزم عبد اللّه بالمنافقين، و كان جملة عسكر المسلمين ألفا، أو تسعمائة و خمسين، فانهزم عبد اللّه بن أبيّ مع ثلاثمائة، فبقيت سبعمائة أو ستمائة و خمسين، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري فقال: أنشدكم اللّه في نبيّكم و أنفسكم، فقال عبد اللّه: لو نعلم قتالا لاتّبعناكم.

و كان حيّان من الأنصار؛ بنو سلمة من الخزرج، و بنو حارثة من الأوس، جناحين من عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهمّ الحيّان باتّباع عبد اللّه، فتفضّل اللّه عليهما و على المؤمنين بأن ثبّتهما و قوّى قلوبهما (2)، فذكّر المؤمنين هذه النّعمة بقوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أيّها المؤمنون أَنْ تَفْشَلا و تضعفا عن القتال جبنا و ترجعا إلى المدينة. عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أضمروا أن يرجعوا، فعزم اللّه لهم على الرّشد (3). وَ اَللّهُ بفضله عليهما و على المؤمنين وَلِيُّهُما و عاصمهما من اتّباع تلك الخطرة (4)وَ عَلَى اَللّهِ وحده دون من عداه استقلالا و اشتراكا فَلْيَتَوَكَّلِ و ليعتمد اَلْمُؤْمِنُونَ في جميع امورهم، فإنّه حسبهم و نعم الوكيل.

فإنّ من آمن و تيقّن بقدرة اللّه و لطفه بعباده المؤمنين، و عونه و نصرته لهم، لا يعرضه الفشل في الأمور، و لا يطروه الخوف من غيره تعالى، سيّما في الجهاد في سبيله و نصرة دينه.

ثمّ استشهد سبحانه على نصرته المؤمنين عند الصّبر و التّقوى، بنصرته لهم في وقعة بدر، حيث قال تعالى تذكيرا لهم: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ على أعدائكم بِبَدْرٍ قيل: هو اسم ماء بين مكّة و المدينة، كان لرجل اسمه بدر بن كلدة (5)، فسمّي باسمه، و قيل: سمّي به لصفائه [كالبدر]

و استدارته، (6)

ص: 68


1- . في النسخة: به.
2- . تفسير الرازي 8:205، تفسير أبي السعود 2:78، تفسير روح البيان 2:88.
3- . تفسير أبي السعود 2:79.
4- . الخطرة: ما يخطر على القلب.
5- . الذي في معجم البلدان 1:425: ينسب إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، أو بدر بن قريش بن الحارث بن يخلد.
6- . تفسير أبي السعود 2:79.

و قيل: هو اسم الموضع أو الوادي (1).

و كانت الوقعة في السّابع عشر من شهر رمضان، سنة اثنتين من الهجرة، و كانت الوقعة آية عظيمة، و لذا بيّن اللّه عظمتها بقوله: وَ أَنْتُمْ أيّها المؤمنون في تلك الوقعة أَذِلَّةٌ ضعفاء من حيث قلّة العدد و المال و السّلاح و المركوب، و مع ذلك قهرتم خصومكم، و ظفرتم على أعدائكم، مع كثرة عددهم و سلاحهم و شوكتهم، و فزتم بمطلوبكم بفضل اللّه و نصره.

و لمّا شاهدتم النّصر الخارق للعادة في تلك الوقعة عند صبركم في نصرة الرّسول و طاعتكم للّه فَاتَّقُوا اَللّهَ في الثّبات في هذه الوقعة أيضا، و اصبروا لَعَلَّكُمْ بنصرته لكم فيها، و بنعمته عليكم تَشْكُرُونَ كما شكرتم ما أنعم عليكم من النّصر في تلك الوقعة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 124 الی 125

ثمّ وجّه اللّه سبحانه الخطاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تشريفا له، و إيذانا بأنّ النّصر كان ببشارته صلّى اللّه عليه و آله، و عيّن وقت وقوعه بقوله: إِذْ تَقُولُ يا محمّد تبشيرا لِلْمُؤْمِنِينَ يوم بدر، حين أظهروا الضّعف و العجز عن المقاتلة. و ذلك منسوب إلى أكثر المفسّرين.

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)و عن ابن عبّاس، و الواقدي، و جماعة: أنّه صلّى اللّه عليه و آله حين غدا من منزل أهله للخروج إلى احد (2)، قال للمؤمنين تقوية لقلوبهم: أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ و يغنيكم للنّصر و الغلبة على أعدائكم أَنْ يُمِدَّكُمْ و يعينكم رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ حال كونهم مُنْزَلِينَ من السّماء بأمره تعالى لنصركم.

في ذكر الاختلاف

في أن التبشير

بامداد الملائكة كان

في بدر أو احد

قيل: إنّ اللّه أنزل الملائكة يوم احد لنصرة المؤمنين، و لمّا كان النصر مشروطا بالصّبر و التّقوى، و هم في ذلك اليوم لم يصبروا، و لم يتّقوا، فلم يمدّوهم.

و عن مجاهد و الواقدي، قالا: حضرت الملائكة يوم احد، و لكنّهم لم يقاتلوا.

و يؤيّده ما روي من أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أعطى اللّواء مصعب بن عمير فقتل مصعب، فأخذه ملك في صورة مصعب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا مصعب» فقال الملك: لست بمصعب، فعرف الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أنّه ملك امدّ به (3).

ص: 69


1- . تفسير أبي السعود 2:79.
2- . تفسير الرازي 8:209.
3- . تفسير الرازي 8:210.

و عن سعد بن أبي وقّاص قال: كنت أرمي السّهم يومئذ، فيردّه إليّ رجل أبيض حسن الوجه، و ما كنت أعرفه فظننت أنّه الملك (1).

و أمّا القائلون بأنّ هذه البشارة كانت في بدر، [فقد]جمعوا بينها و بين قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (2)بأنّ اللّه تعالى أمدّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه أولا بألف، ثمّ زاد فيهم ألفين [فصاروا ثلاثة آلاف]، ثمّ زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسة آلاف، فكأنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لهم: «أ لن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بألف من الملائكة؟» فقالوا: بلى، ثمّ قال: أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ. . . (3).

ثمّ بلغ أصحاب بدر أنّ بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير، و نقل أنّه بلغهم أنّ كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين، فشقّ ذلك على المسلمين (4)، فبشّرهم اللّه تعالى لطمأنة قلوبهم بقوله: بَلى يكفيكم ذلك.

ثمّ وعدهم الزّيادة بشرط الصّبر و التّقوى حثّا لهم عليهما، و تقوية لقلوبهم بقوله: إِنْ تَصْبِرُوا أيّها المؤمنون على منازلة الأعداء و مناهضتهم وَ تَتَّقُوا معصية اللّه، و مخالفة الرّسول، وَ المشركون يَأْتُوكُمْ بخيلهم و رجلهم مِنْ فَوْرِهِمْ هذا و ساعتهم هذه، بلا ريث و تأخير يُمْدِدْكُمْ و يقوّيكم رَبُّكُمْ الذي هو بلطفه ناصركم و حافظكم حين إتيانهم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ حال كونهم مُسَوِّمِينَ معلمين (5)أنفسهم أو خيولهم.

روي أنّهم كانوا بعمائم بيض إلاّ جبرئيل فإنّه كان بعمامة صفراء (6).

و في رواية: أنّهم كانوا قد أعلموا (7)في نواصي الخيل. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: «تسوّموا فإنّ الملائكة [قد]تسوّمت» (8).

قالوا: إنّ العرب كانوا يجعلون في الحروب لأنفسهم علامة يعرفون بها.

و نقل أنّ حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريش نعامة، و أنّ عليّا كان يعلم بصوفة بيضاء، و أنّ الزّبير كان يتعصّب بعصابة صفراء، و أنّ أبا دجانة (9)كان يعلم بعصابة حمراء (10).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 126

وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (126)

ص: 70


1- . تفسير الرازي 8:211.
2- . الأنفال:8/9.
3- . تفسير الرازي 8:211.
4- . تفسير الرازي 8:212.
5- . أي جاعلين لها علامة مميّزة.
6- . تفسير أبي السعود 2:80.
7- . زاد في تفسير أبي السعود: بالعهن.
8- . تفسير أبي السعود 2:81.
9- . أبو دجانة، هو سماك بن خرشة الخزرجي الأنصاري، صحابي، من الشجعان، شهد بدرا، و ثبت يوم احد، و اصيب بجراحات كثيرة، و استشهد باليمامة سنة 11 ه. الأعلام/الزركلي 3:138.
10- . تفسير الرازي 8:215.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إمداد المؤمنين و نصرتهم بالملائكة، مع كونه تعالى قادرا عليها بلا واسطة؛ بقوله: وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ بإنزال الملائكة، لعلّة من العلل إِلاّ لكونه بُشْرى و سرورا لَكُمْ بالنّصر وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ و تسكن إليه أفئدتكم من الخوف، كما كانت السّكينة لبني إسرائيل، حيث إنّ نظر العامّة إلى الأسباب وَ مَا اَلنَّصْرُ و الغلبة لأحد على عدوّه إِلاّ و هو كائن مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وحده، لا من العدّة و العدد؛ لأنّه اَلْعَزِيزِ الغالب في حكمه و قضائه، لا يغالب اَلْحَكِيمِ العالم بحقائق الأمور، لا يفعل ما يفعل إلاّ بالنّظر إلى الحكمة البالغة، و الصّلاح الأتمّ.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 127

ثمّ أنّه تعالى بعدما بيّن علّة نصر الرّسول و المؤمنين بواسطة إنزال الملائكة-الذي هو من قبيل الأسباب، مع عدم حاجته تعالى في فعله إليها بوجه من الوجوه؛ لأنّه المسبّب للأسباب-بيّن سبحانه و تعالى علّة أصل نصرة المؤمنين على الكفّار، بقوله: لِيَقْطَعَ و ينقص طَرَفاً و طائفة مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر، فإنّه قتل من رؤسائهم و صناديدهم سبعون و أسر سبعون أَوْ يَكْبِتَهُمْ و يغيضهم بخزيهم و قهرهم فَيَنْقَلِبُوا إلى أماكنهم، و يرجعوا إلى منازلهم خائِبِينَ محرومين من الظّفر، منهزمين عن القتال. و كلمة (أو) هنا للتّنويع، لا التّرديد.

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 128

ثمّ إنّه تعالى-لإظهار شدّة الغضب على قريش، أو خصوص الحاضرين منهم في بدر أو احد، و لإعذار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند أرحامه و عشيرته-سدّ باب شفاعته لهم، بقوله: لَيْسَ لَكَ مع كونك أقرب الخلق إليّ، و أحبّهم لديّ مِنَ اَلْأَمْرِ الراجع إلى هؤلاء الكفّار شَيْءٌ من الدّخالة و الشّفاعة فضلا عن غيرك، بل الأمر كلّه للّه المالك القاهر.

لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)فإذن يتعامل معهم بأحد هذين الأمرين أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن يتوبوا و يسلموا، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بالقتل و الأسر و الذّل و الفقر و المرض في الدّنيا، و بالنّار و الزّقّوم و الضّريع في الآخرة، إن أقاموا على الكفر، و أصرّوا على الضّلال. و ليس لأحد الاعتراض على اللّه في تعذيبهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ على رسوله و على المؤمنين، و الظلم لكونه أشدّ القبائح، موجب لاستحقاق أشدّ العذاب.

ص: 71

في ذكر ما أصاب

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في

أحد

روي أنّ عتبة بن أبي وقّاص شجّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في احد، و كسر رباعيته (1)، فجعل يمسح الدّم عن وجهه، و سالم مولى حذيفة يغسل الدّم عن وجهه، و هو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدّم، و هو يدعوهم إلى ربّهم» ثمّ أراد أن يدعو عليهم فنزلت (2).

و روي أنّه دعا على عتبة بأن لا يحول عليه الحول حتّى يموت كافرا، فمات كافرا قبل أن يحول الحول (3).

و قيل: إنّه أراد أن يدعو عليهم، فنهاه اللّه تعالى لعلمه بأنّ منهم من يؤمن (4).

و في رواية: أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يمسح الدّم عن وجهه و يقول: «اللّهمّ اهد قومي، فإنّهم لا يعلمون» (5).

و عن عبد اللّه بن عمر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعن أقواما، فقال: «اللّهمّ العن أبا سفيان، اللّهمّ العن حارث بن هشام، اللّهمّ العن صفوان بن أميّة» فنزلت هذه الآية: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب اللّه على هؤلاء و حسن إسلامهم (6).

أقول: يعلم حال ابن عمر من تحسينه إسلام أبي سفيان المعروف بين الفريقين بالفسق و النّفاق، و لعلّ مقصوده أنّ إسلامه كان أحسن من إسلام نفسه.

و قيل: إنّها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، و ذلك لأنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا رآه و رأى ما فعلوا به من المثلة قال: «لأمثلنّ منهم بثلاثين» فنزلت. و قيل: إنّها نزلت بسبب أنّه صلّى اللّه عليه و آله أراد أن يلعن المسلمين الّذين خالفوا أمره، و الّذين انهزموا، فمنعه اللّه من ذلك، و هو مرويّ عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (7).

و لعلّ حكمة المنع مع كونهم مستحقّين له، تأليف قلوبهم، و ازدياد شوكة الإسلام بظاهر إسلامهم.

و قيل: إنّ (أو) في قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بمعنى إلاّ أنّ، و المراد: أنّه ليس لك من الأمر شيء إلاّ أن يتوب عليهم (8).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه قرئ عنده لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ، قال: «بلى و اللّه، إنّ له من الأمر شيئا و شيئا، و ليس حيث ذهبت، و لكن اخبرك: أنّ اللّه تعالى لمّا أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يظهر ولاية عليّ، ففكّر في عداوة قومه له؛ في ما فضّله اللّه به عليهم في جميع خصاله، و حسدهم له عليها، ضاق عن ذلك، فأخبر اللّه أنّه ليس له من هذا الأمر شيء، إنّما الأمر فيه إلى اللّه أن يصيّر عليّا وصيّه و وليّ الأمر بعده.

ص: 72


1- . الرباعية: السّن بين الثنيّة و الناب، و هنّ أربع، رباعيتان في الفك الأعلى، و رباعيتان في الفك الأسفل.
2- . تفسير الرازي 8:217، تفسير أبي السعود 2:83، تفسير الصافي 1:350.
3- . مجمع البيان 2:831.
4- . تفسير أبي السعود 2:83.
5- . مجمع البيان 2:831.
6- . تفسير الرازي 8:217.
7- . تفسير الرازي 8:217.
8- . تفسير الرازي 8:219.

فهذا عنى اللّه، و كيف لا يكون له من الأمر شيء و قد فوّض اللّه إليه أن جعل ما أحلّ فهو حلال، و ما حرّم فهو حرام؟ !» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 129

ثمّ أنّه [تعالى]

-لمّا ذكّر أنّ أمر المغفرة و التّعذيب إليه، و لا دخل لغيره فيه-ذكر أنّ جميع امور الموجودات راجعة إليه، بقوله: وَ لِلّهِ بالملكية التّامة؛ بلا مشارك و لا مضادّ ما وجد فِي اَلسَّماواتِ وَ ما خلق فِي اَلْأَرْضِ فامور جميع الموجودات-إيجادا و إعداما، و إحياء و إماتة، و تصرّفا و ترتيبا-راجعة إليه، لا مدخل لغيره فيها، فهو سبحانه يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له، بحسب الحكمة و التّفضّل وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذّبه، بحسب العدل و الاستحقاق.

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)و إنّما قدّم المغفرة على التّعذيب، للدّلالة على غلبة جانب الرّحمة على الغضب، و للإشعار بأنّ المغفرة أصل في الغرض من الخلقة، و التّعذيب مقصود بالعرض.

و لذا ختم الآية بتوصيف ذاته المقدّسة-بعد ذكر التّعذيب-بالمغفرة و الرّحمة، بقوله: وَ اَللّهُ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بالعباد. و تقديم المغفرة على الرّحمة، لتقدّم الأمن من العذاب على الوعد بالرّحمة و الثّواب.

قيل: إنّ الآية صريحة في نفي وجوب التّعذيب (2)، لتعليقه على مشيئته [تعالى].

و فيه: إنّ مشيئته [تعالى]لا تكون إلاّ عن حكمة بالغة، و معنى الوجوب: عدم إمكان تخلّفه عن مقتضاها، لا الوجوب التّكليفي، كما هو واضح على ذي مسكة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 130 الی 132

في حرمة الربا

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أناط السّلامة من كيد العدوّ و ضرّه بالصّبر و التّقوى، و هدّد الكفّار بأنّه يعذّبهم في الآخرة إن لم يتوبوا و يسلموا، نبّه على إناطة السّلامة من عذاب النّار في الآخرة باجتناب أكل الرّبا و التّقوى، و أنّ للمؤمنين معصية تشارك الكفر في العقوبة، بقوله: يا أَيُّهَا

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

ص: 73


1- . تفسير العياشي 1:337/778، تفسير الصافي 1:350.
2- . تفسير البيضاوي 1:179.

اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا و لا تأخذوا اَلرِّبَوا حال كونه أَضْعافاً مُضاعَفَةً و رباءات كثيرة متكرّرة.

قيل: كان الرّجل في الجاهليّة إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، و لم يكن المديون واجدا لذلك المال، قال: زدني في المال حتّى أزيدك في الأجل، فربّما جعله مائتين، ثمّ إذا حلّ الأجل الثاني فعل مثل ذلك، ثمّ إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها (1).

و تقييد الرّبا بهذه الحال ليست لتقييد النّهي بها، حتّى تنتفي الحرمة بانتفائها، بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة، مع زيادة التّشنيع.

وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في جميع ما نهيتم عنه، و منه الرّبا لَعَلَّكُمْ بالتّقوى، و ترك أكل الرّبا تُفْلِحُونَ و تفوزون بأهمّ المقاصد و تنالون خير الدّارين

وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ و هيّئت في الآخرة لِلْكافِرِينَ و لا تشاركوهم بأكل الرّبا في التّعذيب بنارهم.

ثمّ أكّد الأمر بالتّقوى بالأمر بالطّاعة بقوله: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ في ما أمراكم به من الجهاد و سائر العبادات، و ما نهياكم عنه من أخذ الرّبا الذي يماثل الكفر، و غيره من المحرّمات لَعَلَّكُمْ بالطّاعة تُرْحَمُونَ فإنّها موجبة لرجاء الرّحمة.

في دلالة الآية على

غاية التغليظ

في حرمة الربا

قيل: إنّ في الآيات من المبالغة في التّهديد على الرّبا ما لا يخفى على الفطن حيث أتى سبحانه ب(لعلّ) في فلاح من أتّقاه و اجتنبه؛ لأنّ تعليق إمكان الفلاح و رجائه بالاجتناب منه، يستلزم امتناع الفلاح لهم إذا لم يجتنبوه و يتّقوه مع إيمانهم، ثمّ أوعد عليه بالنّار التي أعدّت للكافرين، مع كونهم مؤمنين. فما أعظمها من معصية توجب عقاب الكفّار للمؤمنين، و ما أشدّه من تغليظ عليه! ثمّ أيّد التّغليظ بالأمر بإطاعة اللّه و رسوله؛ تعريضا بأنّ آكل الرّبا منهمك في المعصية و لا طاعة له.

ثمّ علّق رجاء المؤمنين رحمة اللّه بالطّاعة؛ إشعارا بأنّه لا رجاء للرّحمة مع هذا النّوع من العصيان، فهو يوجب اليأس من رحمته للمؤمنين لانتفائها لهم معه. فانظر كيف درّج التّغليظ في التّهديد، حتّى ألحقه بالكفّار في الجزاء و العقاب، انتهى (2).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه آكل الرّبا، و موكله، و شاهده، و كاتبه، و المحلّل» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 133

وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

ص: 74


1- . تفسير الرازي 9:2، تفسير روح البيان 2:92.
2- . تفسير روح البيان 2:93.
3- . تفسير روح البيان 2:93.

ثمّ بعد أمره سبحانه بالاجتناب عن الرّبا و التّحرّز عن النّار، أمر بالمسارعة إلى العبادات الموجبة للمغفرة و الدّخول في الجنّة، بقوله: وَ سارِعُوا و بادروا إِلى تحصيل مَغْفِرَةٍ كائنة مِنْ رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، بالمبادرة إلى موجباتها من الإسلام و التّوبة و الإخلاص، و أداء الواجبات و ترك المحرّمات. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إلى أداء الفرائض» (1).

وَ إلى جَنَّةٍ وسيعة عَرْضُهَا و وسعتها اَلسَّماواتُ السّبع وَ اَلْأَرْضُ قيل: ذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسّعة على طريق التّمثيل، فإنّ العرض في العادة يكون أدنى و أقصر من الطّول (2).

أقول: هذا الوجه مبنيّ على إرادة العرض المقابل للطّول، لا إرادة مطلق السّعة منه.

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا وضعوهما (3)» ، و بسط يديه إحداهما مع الأخرى (4).

و عن ابن عبّاس: كسبع سماوات، و سبع أرضين لو وصل بعضها ببعض (5).

روي أنّ رسول هرقل (6)سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّك تدعو إلى جنّة عرضها السّماوات و الأرض اعدت للمتّقين، فأين النّار؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «سبحان اللّه! فأين اللّيل إذا جاء النّهار؟» (7).

قال الفخر الرازي في تفسيره: و المعنى، و اللّه أعلم: أنّه إذا دار الفلك حصل النّهار في جانب [من العالم]، و اللّيل في ضد ذلك الجانب (8).

و قال الطبرسي رحمه اللّه: هذه معارضة فيها إسقاط المسألة؛ لأنّ القادر على أن يذهب اللّيل حيث يشاء، قادر على أن يخلق النّار حيث يشاء (7).

و قال الفيض رحمه اللّه: و السّرّ فيه أنّ إحدى الدّارين لكلّ إنسان، إنّما تكون مكان الاخرى بدلا عنها، كما في اللّيل و النّهار (8).

و لعلّ المراد أنّه ليس بين العالمين في الآخرة تزاحم كتزاحم الأجسام الكثيفة، فكلّ مشغول بعالمه، و لا يكون له عالم آخر، و في الآية دلالة على وجود الجنّة فعلا.

ثمّ وصف سبحانه تلك الجنّة الوسيعة بأنّها أُعِدَّتْ و خلقت مهيّأة لِلْمُتَّقِينَ للتّنبيه بأنّه لا حظّ للعصاة فيها، فمن رجاها بغير التّقوى فهو مغرور.

ص: 75


1- . مجمع البيان 2:836، تفسير الصافي 1:351.
2- . تفسير روح البيان 2:94.
3- . في المصدر: وضعوها كذا.
4- . تفسير العياشي 1:339/781، تفسير الصافي 1:351.
5- . تفسير أبي السعود 2:85.
6- . اسم ملك الروم. (7 و 8) . تفسير الرازي 9:6.
7- . مجمع البيان 2:837، تفسير الصافي 1:351.
8- . تفسير الصافي 1:351.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «فإنّكم لن تنالوها إلاّ بالتّقوى» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 134

ثمّ وصف المتّقين بصفات جميلة هي أعظم وسائل نيل المغفرة و الجنّة، بقوله: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ ما يقدرون على إنفاقه فِي حالتي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ و في وقت سرورهم بالإنفاق؛ كوقت الغنى و السّعة، و في وقت كراهتهم له، كوقت الفقر و الضّيق. و المراد أنّهم ينفقون في جميع الأحوال؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن إحدى الحالتين.

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134)وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ الكاتمين له على امتلائهم منه، الممسكين عليه، الكافّين عن إمضائه، مع القدرة عليه. قيل: الغيظ توقّد حرارة القلب من الغضب (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من كظم غيظا، و هو قادر على إنفاذه، ملأ اللّه قلبه أمنا و إيمانا» (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من كظم غيظا، و لو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ اللّه قلبه (4)رضاه» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من كظم غيظا، و هو يستطيع أن ينفذه، زوّجه اللّه من الحور العين حيث يشاء» (6).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما من جرعتين أحبّ إلى اللّه من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بحسن صبر و عزاء، و من جرعة غيظ كظمها» (7).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ليس الشّديد بالصّرعة، لكنّه الذي يملك نفسه عند الغضب» (6).

وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ التّاركين عقوبة من استحقّها منهم و يحتمل كون ذكر الوصفين بسبب غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على من فرّ من الزّحف يوم احد، فندب إلى كظم الغيظ و العفو عنهم، أو بسبب غضبه صلّى اللّه عليه و آله حين مثّلوا بحمزة رضى اللّه عنه و قال: «لأمثلنّ بهم» و كان عفوه تركه للمثلة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ هؤلاء في امّتي قليل إلاّ من عصمه اللّه، و قد كانوا كثيرا في الامم التي مضت» (7).

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليكم بالعفو، [فإنّ العفو]لا يزيد العبد إلاّ عزّا، فتعافوا يعزّكم اللّه» (8).

ص: 76


1- . الخصال:633/10، تفسير الصافي 1:351.
2- . تفسير روح البيان 2:94.
3- . تفسير الرازي 9:7.
4- . زاد في الكافي: يوم القيامة.
5- . الكافي 2:90/6، تفسير الصافي 1:351. (6 و 7) . تفسير الرازي 9:7.
6- . تفسير الرازي 9:8.
7- . تفسير روح البيان 2:95.
8- . الكافي 2:88/5، تفسير الصافي 1:351.

و روي أنّه ينادي مناد يوم القيامة: أين الّذين كانت اجورهم على اللّه؟ فلا يقوم إلاّ من عفا (1).

و إنّما ذكر سبحانه الإنفاق بصيغة المضارع لكونه ممّا يتجدّد و يحدث، و الكظم و العفو بصيغة الفاعل لكونهما من الملكات المستمّرة.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة تخصيصه الجنّة بالمتّقين و تهيئتها نزولا لهم، بقوله: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ الّذين تمّت فضائلهم، و عمّت فواضلهم، فاستحقّوا بحبّه إيّاهم هذا التّشريف و التّكريم، و بإحسانهم إلى الغير، بالإنفاق و كظم الغيظ و العفو و الإحسان الجسيم من اللّه.

و قيل: إنّ الصّفات الثّلاث لمّا كانت مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير، خصّ المتّصفين بها بثواب أعظم من الجنّة و نعيمها، و هو حبّ اللّه لهم.

و قيل: إنّ الآية جامعة لجميع جهات الإحسان إلى الغير، فإنّه إمّا يكون بإيصال النّفع إليه، أو بدفع الضّرر عنه أمّا إيصال النّفع إليه، فهو المراد بقوله: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ فإنّه يدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين، و هداية الضّالّين، و إنفاق القوى بالسّعي في قضاء الحوائج، و إنفاق المال في وجوه الخيرات و أمّا دفع الضّرر عن الغير، فهو إمّا في الدّنيا، و هو أن لا يشتغل بإساءة في مقابل إساءة، و إمّا في الآخرة، فهو أن يبرئ ذمّته من التّبعات و المطالبات.

روى بعض العامّة أنّ خادما كان قائما على رأس الحسن بن عليّ عليهما السّلام، و هو مع أضيافه في المائدة، فأنحرفت قصعة كانت في يد الخادم، فسقط منها شيء على الحسن فقال: وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ قال عليه السّلام: «قد عفوت عنك» فقال: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ . قال عليه السّلام: «أنت حرّ لوجه اللّه، و قد زوّجتك فلانة فتاتي، و عليّ ما يصلحكما» (2).

و عن السّجاد عليه السّلام من طرق أصحابنا: أنّ جارية له صبت على يديه الماء، فسقط الإبريق من يدها فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت الجارية: وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ قال عليه السّلام لها: «كظمت غيظي» . فقالت: وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ فقال عليه السّلام: «عفا اللّه عنك» . فقالت: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ . قال عليه السّلام: «ارجعي، أنت حرّة لوجه اللّه» (3).

أقول: يستفاد من الرّوايتين أنّ التّذييل لبيان صفة رابعة؛ و هي الإحسان إلى المسيء ببذل المال، و إيصال النّفع إليه، أو دفع الضّرر عنه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 135

وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135)

ص: 77


1- . تفسير روح البيان 2:95.
2- . تفسير روح البيان 2:95.
3- . مجمع البيان 2:838، تفسير الصافي 1:351.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اهتمامهم بالطّاعة، وصفهم بالمسارعة إلى التّوبة عند الزّلّة و التّقصير في الطاعة، بقوله: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا و ارتكبوا فعلة فاحِشَةً و معصية شديدة القباحة، كالزّنا، و قتل النّفس أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب الصّغائر من الذّنوب، كالنّظر إلى الأجنبية و أمثاله، أو بالتّقصير في الطّاعة.

و قيل: إنّ المراد بالفاحشة: الظّلم على الغير (1)؛ كالغيبة و البهتان، و من الظّلم على النّفس: الذّنوب التي لا تضرّ بالغير، كشرب الخمر و أضرابه.

ذَكَرُوا اَللّهَ و التفتوا إلى عظمته و عظيم حقّه الموجبين للحياء منه، أو إلى وعيده و سخطه المورثين للخشية.

و قيل: إنّ المراد: ذكر اللّه بالثّناء و التّعظيم، فإنّ من موجبات كمال الدّعاء و قربه إلى الإجابة، الثّناء على اللّه قبله.

فَاسْتَغْفَرُوا و طلبوا السّتر لِذُنُوبِهِمْ بلا تأخير و تسويف، و تابوا توبة خالصة، ناشئة عن حقيقة النّدم الملازم للعزم على التّرك في المستقبل.

ثمّ حثّ سبحانه على الاستغفار و الإنابة إليه بقوله: وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ و يتجاوز عنها إِلاَّ اَللّهُ فإنّه يستحيل غفرانها من غيره، فلا مفزع للمذنبين إلاّ فضله و كرمه. و فيه بشارة لهم بوصف ذاته بسعة الرّحمة، و قبول التّوبة، و قرب المغفرة.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ هذه الآية نزلت في رجلين أنصاري و ثقفي، و الرّسول صلّى اللّه عليه و آله [كان قد]آخى بينهما، و كانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثّقفي مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالقرعة في السّفر، و خلّف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم، فكان يفعل ذلك، ثمّ قام إلى امرأته ليقبّلها، فوضعت كفّها على وجهها فندم الرّجل، فلمّا وافى الثّقفي مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لم ير الأنصاري، و كان قد هام في الجبال للتّوبة، فلمّا عرف الرّسول صلّى اللّه عليه و آله سكت حتّى نزلت (2).

و قيل: إنّ نبهان (3)التّمار أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا، فقال لها: هذا التّمر ليس بجيّد، و في البيت تمر أجود منه، فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه و قبّلها، فقالت له: اتّق اللّه، فتركها و ندم على ذلك. و أتى [الرسول]صلّى اللّه عليه و آله و ذكر له ذلك، فنزلت (4).

ص: 78


1- . تفسير أبي السعود 2:86.
2- . تفسير الرازي 9:9.
3- . في النسخة: تيهان، راجع: اسد الغابة 5:13.
4- . تفسير أبي السعود 2:86.

في ذكر توبة

الشاب النبّاش

و روي أنّ معاذ بن جبل دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باكيا فسلّم، فردّ عليه السّلام و قال: «ما يبكيك يا معاذ؟» فقال: يا رسول اللّه، إنّ بالباب شابّا طريّ الجسد، نقيّ اللّون، حسن الصّورة، يبكي على شبابه بكاء الثّكلى على ولدها، يريد الدّخول عليك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أدخل عليّ الشّابّ يا معاذ» فأدخله عليه فسلّم، فردّ عليه ثمّ قال: «ما يبكيك يا شابّ؟» . قال: كيف لا أبكي، و قد ركبت ذنوبا إن أخذني اللّه عزّ و جلّ ببعضها أدخلني نار جهنّم! و لا أراني إلاّ سيأخذني بها، و لا يغفر لي أبدا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «هل أشركت باللّه شيئا؟» ، قال: أعوذ باللّه أن اشرك بربّي شيئا، قال: «أقتلت النّفس التي حرّم اللّه؟» . قال: لا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يغفر اللّه لك ذنوبك و إن كانت مثل الجبال الرّواسي» . قال الشّاب: فإنّها أعظم من الجبال الرّواسي.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يغفر اللّه [لك]ذنوبك و إن كانت مثل الأرضين السّبع، و بحارها، و رمالها، و أشجارها، و ما فيها من الخلق» . قال الشّاب: فإنّها أعظم من الأرضين السّبع و بحارها و رمالها و أشجارها و ما فيها من الخلق.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يغفر اللّه لك ذنوبك و إن كانت مثل السّماوات و نجومها، و مثل العرش و الكرسيّ» . قال: فإنّها أعظم من ذلك.

قال: فنظر إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كهيئة الغضبان، ثمّ قال: «ويحك يا شابّ، ذنوبك أعظم أم ربّك؟» ، فخرّ الشّابّ لوجهه و هو يقول: سبحان ربّي، ما من شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم-يا نبيّ اللّه-من كلّ عظيم [فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فهل يغفر الذّنب العظيم إلاّ الربّ العظيم» قال الشابّ: لا و اللّه يا رسول اللّه. ثمّ سكت الشّابّ].

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ويحك يا شابّ، ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟» . قال: بلى اخبرك: إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، اخرج الأموات و أنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلمّا حملت إلى قبرها و دفنت، و انصرف عنها أهلها، و جنّ عليها اللّيل، أتيت قبرها فنبشتها، ثمّ استخرجتها و نزعت ما كان عليها من أكفانها، و تركتها مجرّدة على شفير قبرها، و مضيت منصرفا، فأتى (1)الشّيطان فأقبل يزيّنها لي و يقول: أما ترى بطنها و بياضها؟ أما ترى و ركيها (2)، فلم يزل يقول لي هذا حتّى رجعت [إليها]و لم أملك نفسي حتّى جامعتها و تركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي

ص: 79


1- . في أمالي الصدوق: فأتاني.
2- . الورك: ما فوق الفخذ.

يقول: يا شابّ، ويل لك من ديّان يوم الدّين يوم يقضيني و إيّاك (1)، تركتني عريانة في عساكر الموتى، و نزعتني من حفرتي، و سلبتني إهابي (2)، و تركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النّار. فما أظنّ أنّي أشمّ ريح الجنّة أبدا، فما ترى يا رسول اللّه؟

فقال النبيّ: «تنحّ عنّي يا فاسق، إنّي أخاف أن احترق بنارك، فما أقربك من النّار!» ، ثمّ لم يزل صلّى اللّه عليه و آله يقول و يشير إليه حتّى أمعن من بين يديه فذهب.

فأتى المدينة فتزوّد منها، ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها و لبس مسحا (3)، و غلّ يديه جميعا إلى عنقه و نادى: يا ربّ، هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول، يا ربّ أنت الذي تعرفني و زلّ منّي ما تعلم سيّدي، يا ربّ إنّي أصبحت من النّادمين، و أتيت نبيّك تائبا فطردني و زادني خوفا، فأسألك باسمك و جلالك و عظم سلطانك أن لا تخيّب رجائي سيّدي، و لا تبطل دعائي، و لا تقنّطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما و ليلة، تبكي له السّباع و الوحوش.

فلمّا تمّت له أربعون يوما و ليلة، رفع يديه إلى السّماء و قال: اللّهمّ ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي، و غفرت خطيئتي، فأوح إلى نبيّك، و إن لم تستجب دعائي و لم تغفر لي خطيئتي و أردت عقوبتي، فعجّل بنار تحرقني، أو عقوبة في الدّنيا تهلكني، و خلّصني من فضيحة يوم القيامة.

فأنزل اللّه تعالى على نبيّه وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني الزّنا أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا، و هو نبش القبور، و أخذ الأكفان ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يقول: خافوا اللّه فعجّلوا التّوبة وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ يقول اللّه: أتاك عبدي يا محمّد تائبا فطردته، فأين يذهب، و إلى من يقصد، و من يسأل أن يغفر له ذنبه غيري؟ ثمّ قال تعالى: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا يقول: لم يقيموا على الزّنا، و نبش القبور، و أخذ الأكفان.

إلى أن قال: و لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، خرج و هو يتلوها و يتبسّم، فقال لأصحابه: «من يدلّني على ذلك الشّبابّ التّائب؟» . فقال معاذ: يا رسول اللّه، بلغنا أنّه في موضع كذا و كذا، فمضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه، حتّى انتهى إلى ذلك الجبل، فصعدوا إليه يطلبون الشّابّ، فإذا هم بالشّابّ قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه، قد اسودّ وجهه، و تساقطت أشفار عينيه من البكاء، و هو يقول: سيّدي قد أحسنت خلقي، و أحسنت صورتي، و ليت شعري ما ذا تريد بي، أفي النّار تحرقني، أم في جوارك تسكنني؟ اللّهمّ إنّك قد أكثرت الإحسان إليّ و أنعمت عليّ، فليت شعري

ص: 80


1- . في أمالي الصدوق: يقفني و إياك كما.
2- . في أمالي الصدوق: أكفاني.
3- . المسح: هو كساء من شعر يلبسه الراهب.

ماذا يكون آخر أمري، إلى الجنّة تزفّني، أم إلى النّار تسوقني، اللّهمّ إنّ خطيئتي أعظم من السّماوات و الأرض، و من كرسيّك الواسع، و عرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي، أم تفضحني بها يوم القيامة.

فلم يزل يقول نحو هذا [و هو يبكي]و يحثو التّراب على رأسه، و قد أحاطت به السّباع، و صفّت فوقه الطّير، و هم يبكون لبكائه، فدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأطلق يديه من عنقه، و نفض التّراب عن رأسه، و قال: «يا بهلول، أبشر فانك عتيق اللّه من النّار» . ثمّ قال لأصحابه: «هكذا تداركوا الذّنوب كما تداركها بهلول» ، ثمّ تلا عليه ما أنزل اللّه عزّ و جلّ فيه، و بشّره بالجنّة (1).

عن البرقي عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية صعد إبليس جبلا (2)، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيّدنا لماذا دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشّياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا، فقال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، فقال: بماذا؟ قال: أعدهم و أمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة، فإذا وقعوا في الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّل بها إلى يوم القيامة» (3).

و عن ابن مسعود: قال المؤمنون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كانت بنو إسرائيل أكرم على اللّه منّا، فكان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفّارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل اللّه هذه الآية و بيّن أنّهم أكرم على اللّه منهم؛ حيث جعل كفّارة ذنبهم الاستغفار (4).

ثمّ أكّد اللّه سرعة المؤمنين إلى الاستغفار، و عزمهم على عدم العود في المعصية، بقوله: وَ لَمْ يُصِرُّوا و لم يديموا عَلى ما فَعَلُوا من الذّنب غير مستغفرين.

عن (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام قال: «الإصرار: أن يذنب الذّنب فلا يستغفر اللّه، و لا يحدّث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما أصرّ من استغفر، و إن عاد في اليوم سبعين مرّة» (6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «و اللّه، ما خرج عبد من ذنب بإصرار، و ما خرج عبد من ذنب إلاّ بإقرار» (7).

و عنه عليه السّلام: «لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار» (8).

ثمّ قيّد سبحانه قبح الإصرار بقوله: وَ هُمْ يَعْلَمُونَ موضوع المعصية و قبحه و حرمته؛ لأنّ الجهل-

ص: 81


1- . أمالي الصدوق:97/76، تفسير الصافي 1:352. و راجع: اسد الغابة 1:210 ترجمة بهلول بن ذؤيب.
2- . زاد في الأمالي: بمكّة يقال له ثور.
3- . أمالي الصدوق:551/736، تفسير الصافي 1:352.
4- . تفسير الرازي 9:9.
5- . الكافي 2:219/1، تفسير الصافي 1:352.
6- . تفسير أبي السعود 2:87.
7- . الكافي 2:312/4، تفسير الصافي 1:352.
8- . الكافي 2:219/1، تفسير الصافي 1:352.

بالموضوع مطلقا، و بالحكم إذا كان عن قصور-عذر، و مرفوع في الشّريعة، بخلاف ما إذا كان الجهل بالحكم عن التّقصير في التّعلّم، فإنّ الجاهل المقصّر بمنزلة العامة إجماعا.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 136

ثمّ أكّد سبحانه تخصيص الجنّة بالمتّقين الواجدين للصّفات الحميدة، المستلزم لتخصيص المغفرة لهم، بقوله: أُولئِكَ المتّقون المتّصفون بتلك الصّفات جَزاؤُهُمْ و ثوابهم على التّقوى و الاتّصاف بها، أوّلا: مَغْفِرَةٌ كائنة مِنْ رَبِّهِمْ الرّؤوف بهم، وَ ثانيا: جَنّاتٌ عديدة كثيرة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ حال كونهم خالِدِينَ مقيمين فِيها أبدا، لا تنقضي ساعاتها، و لا تمضي لذّاتها. و إنّما قدّم المغفرة، لأنّها دفع الضّرر المقدّم على جلب النفع.

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ (136)ثمّ مدح سبحانه ما أعدّ لهم من الجزاء لزيادة التّرغيب إليه، بقوله: وَ نِعْمَ الأجر أَجْرُ اَلْعامِلِينَ بمرضاة اللّه، المبالغين في طاعته. و في التّعبير عن تفضّله بالأجر، دلالة على أنّه بالاستحقاق و اللّياقة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 137 الی 138

ثمّ حثّ اللّه عباده على طاعته و طاعة رسوله، و رغّبهم في تربية نفوسهم و جهاد أعدائهم، بتذكيرهم أحوال العصاة من الامم الماضية بقوله: قَدْ خَلَتْ و مضت في الامم الّذين كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ في القرون الخالية سُنَنٌ و معاملات من اللّه، و وقائع عظيمة، من الخسف، و الغرق، و الإهلاك بالصّيحة، و الصّاعقة، و الرّجفة، لمخالفتهم الأنبياء و الرّسل حرصا على الدّنيا، و اتّباعا للهوى، و طلبا للذّات، و انغمارا في الشّهوات، و حفظا للرئاسات.

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)و قيل: إنّ المراد من السّنن السيرة المستقيمة الجارية فيهم، من إهلاك عصاتهم و طغاتهم بعذاب الاستئصال.

ثمّ لم يبق منهم أثر، و بقي عليهم اللّعن و العذاب الدّائم المستقرّ، فإن أردتم الاطّلاع على سوء حالهم و وخامة مآلهم فَسِيرُوا و سيحوا فِي وجه اَلْأَرْضِ لتعرفوا أحوالهم بمشاهدة آثارهم، فإنّ أثر المشاهدة أقوى في القلب من أثر السّماع.

و قيل: إنّه ليس المراد المسافرة و المشي بالأقدام، بل المراد تتبّع ما يوجب العلم بوقائعهم،

ص: 82

و تحصيل اليقين بفجائعهم، و لو بسير الكتب.

فَانْظُروا فيها حتّى تعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُكَذِّبِينَ للرّسل، المعارضين للحقّ و أوليائه. عن الصادق عليه السّلام: «انظروا في القرآن» (1).

و لعلّه تعالى أشار إلى هذا المعنى بقوله: هذا القرآن بَيانٌ و إيضاح لسوء عاقبة الامم الماضية، و حجّة قاطعة للعذر لِلنّاسِ كافّة وَ هُدىً و رشدا إلى الصّواب، و دلالة إلى الحقّ وَ مَوْعِظَةٌ زاجرة عن الضّلال لِلْمُتَّقِينَ خاصّة، حيث إنّهم المنتفعون به، المستضيئون بنوره.

ثمّ إنّه قيل: إنّ الآيتين مقدّمة للرّجوع إلى قضية احد، حيث إنّه تعالى بعد تمهيد مبادئ الرّشد و الصّلاح، و ترتيب مقدّمات الفوز و الفلاح، ذكّر المؤمنين أحوال القرون الماضية، و نبههم بأنّ أهل الباطل و إن كانت لهم الصّولة في اليد، و لكن صار مآل أمرهم إلى الضّعف و الخزي و الهلاك، و أهل الحقّ بعد الضّعف صارت دولتهم غالبة، و كلمتهم عالية.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 139 الی 140

ثمّ نهاهم عن الضّعف و الجبن في قتال أهل الباطل بقوله: وَ لا تَهِنُوا و لا تضعفوا في جهاد المشركين، لما ترون من صولتهم وَ لا تَحْزَنُوا لما أصابكم من القتل و الجرح في قتالهم وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ المستولون عليهم بالمآل، و هم مقهورون لكم في العاقبة حسب ما شاهدتم في أحوال أسلافهم، و هذه البشارة من اللّه كافية لقوّة قلوبكم، و سرور خاطركم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بما يعدكم و يبشّركم من النّصر و الغلبة عليهم، حيث إنّ من لوازم الإيمان الثّقة باللّه، و تصديق وعده، و التّوكّل عليه، و عدم المبالاة بأعدائه.

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (140)

ثمّ سلّى سبحانه قلوبهم بقوله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ و يصبكم منهم قَرْحٌ و جرح فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ المشركين و أصابهم منكم قَرْحٌ و جرح مِثْلُهُ ببدر، و لم يضعف ذلك قلوبهم، و لم يثبّطهم عن معاودتكم بالقتال، بل زاد ذلك في جدّهم فيه.

قيل: قتل المسلمون من المشركين ببدر سبعين، و أسروا سبعين، و قتل المشركون من المسلمين باحد سبعين، و أسروا سبعين (2).

ص: 83


1- . الكافي 8:249/349، تفسير الصافي 1:355.
2- . تفسير روح البيان 2:99.

و حاصل المعنى: إن نالوا منكم يوم احد، فقد نلتم منهم قبله يوم بدر مثل ما نالوا، ثمّ لم تضعف قلوبهم، مع أنّكم أولى بأن لا تضعفوا؛ لأنّكم ترجون من اللّه ما لا يرجون.

و قيل: إنّ المراد: إن نال المشركون في احد منكم آخر النّهار، فقد نلتم منهم أوّل النّهار، فقتل من المشركين في احد أوّلا نيف و عشرون رجلا، و قتل صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، و عقرت عامّة خيولهم بالنّبل، و كانت الهزيمة عليهم أوّل النّهار.

وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ و الوقائع الجارية في الامم الماضية و الأقوام الآتية من الصّولة و الجولة و القاهريّة و المقهوريّة امور نُداوِلُها و نصرّفها بَيْنَ اَلنّاسِ من الأوّلين و الآخرين، و نجعل الغلبة تارة لطائفة، و اخرى لأخرى.

فإنّه لو كانت المحنة و الشدّة على الكفّار في جميع الأوقات، و الغلبة و الفتح و السّلامة للمؤمنين في جميع الأوقات، لحصل العلم الضّروري و الاضطراري لجميع النّاس بأنّ الإيمان حقّ، و ما سواه باطل، و لو كان كذلك لبطل التّكليف و الثّواب و العقاب.

فلهذا يسلّط اللّه المحنة على أهل الإيمان تارة، و على أهل الكفر اخرى، لتكون الشّبهات باقية، و المكلّف-بالنّظر في الدّلائل، بالاجتهاد الصّائب-يدفعها حتّى يعظم ثوابه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ غلبة الكفّار على المؤمنين-لهذا الوجه و لغيره-من الحكم الخفيّة، و المصالح المكنونة وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا و اخلصوا إيمانهم، و ثبتوا عليه، و يميّزهم بين النّاس من غيرهم وَ لأن يَتَّخِذَ اللّه و يختار طائفة مِنْكُمْ شُهَداءَ في سبيل اللّه، مقتولين في ترويج دينه، و إعلاء كلمته، و هم الّذين أكرمهم اللّه في احد بالشّهادة، و نالوا بهذه الكرامة درجة يغبطهم بها الأوّلون و الآخرون غير البدريّين و الطّفيّين.

ثم أنّه تعالى-لتقرير أنّ غلبة المشركين لم تكن من التّفضّل عليهم و اللّطف بهم، بل كانت لابتلاء المؤمنين عامّة، و لتكريم طائفة منهم خاصّة-أعلن بالغضب على المشركين بقوله: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ بل يبغضهم.

و إنّما عدل سبحانه عن التّعبير ب(المشركين) إلى التّعبير ب(الظالمين) ، للإشارة إلى علّة الغضب و هو الظّلم على أنفسهم، و على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لأن يشمل العنوان جميع من عصى اللّه، [سواء]كان العصيان بالشّرك، أو الفرار من الزّحف.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 141

ص: 84

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان علّتين لغلبة المشركين: من امتحان من يظهر الإيمان، و تمييز الثّابتين عليه من غيرهم، و إكرام جماعة من المؤمنين بالشّهادة-ذكر العلّة الثالثة بقوله: وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا و يطهّرهم من دنس الذّنوب، بسبب ما أصابهم من المحن و الجراحات، فإنّ الشّدائد الدّنيويّة أدب لهم، و كفّارة لزلاّتهم.

وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ (141)ثمّ أشار سبحانه إلى العلّة الرابعة بقوله: وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ الّذين حاربوا رسوله صلّى اللّه عليه و آله و يهلكم قليلا قليلا، بسبب شدّة استحقاقهم لعذابه إن لم يسلموا، و لم يتوبوا من ظلمهم على النبيّ و المؤمنين، و أصرّوا على كفرهم و شقاقهم.

قيل: إنّ اللّه محقهم جميعا، فظهر من الآية: أنّ الدّولة إذا كانت على المؤمنين، كان هلاكهم تطهيرا لذنوبهم، و رفعا لدرجاتهم عند اللّه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 142

ثمّ لمّا كان الامتحان هو الغاية القصوى من المداولة، أكّده سبحانه و قرّره بقوله، مخاطبا للمنهزمين من المؤمنين يوم احد: أَمْ حَسِبْتُمْ قيل: إنّ التّقدير: أعلمتم أنّكم لا تنالون خيرا إلاّ بثباتكم في الإيمان، و صبركم على جهاد أعداء اللّه؟ أم توهّمتم أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ و تنالوا أعلى درجات الخيرات، وَ الحال أنّه لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ و لم يميّز اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ -في سبيل اللّه، بخلوص النّيّة، و الإيمان الرّاسخ-من غيرهم الّذين انهزموا لحبّ الدّنيا و ضعف الإيمان، وَ أن يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ في طاعة اللّه، و مشاقّ التّكاليف، و يميّزهم ممّن يتّبع هواه، و يستريح إلى لذّاته و شهواته.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ (142)و حاصل المراد، و اللّه العالم: أتتوقّعون أيّها المؤمنين أن تدخلوا الجنّة، و تفوزوا بنعيمها، و تصلوا إلى كرامة اللّه و قربة، و الحال أنّه لم يتحقّق منكم الجهاد في سبيل اللّه، و الصّبر على الشّدائد في مرضاته.

فإنّه لا يكون ذلك في حكمة اللّه أبدا، لاستحالة اجتماع خبث الذّات، و ظلمة القلب-المستتبعين لحبّ الدّنيا و لذّاتها-مع السّعادة الاخرويّة، و الكرامات الأبديّة، و النّعم الدّائمة، لغاية التّباين و التّضادّ بينهما.

ص: 85

عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية قال: «إنّ اللّه هو أعلم بما هو يكوّنه قبل أن يكونه، و علم و هم ذرّ (1)من يجاهد و من لا يجاهد» (2)الخبر.

و الظّاهر أنّ المراد من الرّواية أنّ نفي العلم ليس على معناه الحقيقي، بل هو كناية عن عدم المعلوم، فنزّل نفي العلم منزلة نفي الجهاد للتأكيد و المبالغة؛ لأنّ وقوع الشيء مستلزم لكونه معلوما للّه تعالى، فانتفاء اللاّزم برهان على انتقاء الملزوم.

ثمّ أنّه كان جماعة من أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لم يشهدوا بدرا، و كانوا يتمنّون أن يشهدوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مشهدا ينالوا فيه ما نال شهداء بدر من الشّهادة و الكرامة، و لذا ألحّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند المشاورة، في الخروج إلى احد، فخرج صلّى اللّه عليه و آله من المدينة و نزل احد.

و قال ابن عبّاس رضى اللّه عنه: إنّه صلّى اللّه عليه و آله أمر الرّماة أن يلزموا أصل الجبل، و لا ينتقلوا عن ذلك، سواء كان الأمر لهم أو عليهم، فلمّا وقفوا و حملوا على الكفّار هزموهم (3).

في قتل أمير

المؤمنين عليه السّلام

أصحاب لواء

قريش في احد،

و قتل خالد

أصحاب الشعب

و انهزام المسلمين

و في رواية: كان أمير المؤمنين عليه السّلام صاحب راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قاتل قتالا عظيما، حتّى التوى سيفه (4)، و قتل عليه السّلام طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين، و حمل الزّبير و المقداد و شدّا على المشركين، ثمّ حمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه، فهزموا أبا سفيان لعنه اللّه، و حمل أبو دجانة في نفر من المسلمين على المشركين فقاتل قتالا شديدا، فقتلوا جماعة من المشركين.

و في رواية: و وقع أصحاب الرّسول في سواد المشركين، و كان خالد بن الوليد على ميمنة الكفّار فانحطّ في مائتي فارس على عبد اللّه بن جبير من قبل الشّعب، فاستقبلوهم بالسّهام فرجع، و نظر أصحاب عبد اللّه بن جبير إلى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينتهبون سواد القوم، فقالوا لعبد اللّه بن جبير: غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة، فقال لهم عبد اللّه: اتّقوا اللّه، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد تقدّم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، و أقبلوا ينسلّ رجل فرجل؛ حتّى أخلوا مراكزهم، و بقي عبد اللّه في اثني عشر رجلا.

و كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري (5)فقتله عليّ عليه السّلام، فأخذ الرّاية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه السّلام، فسقطت الرّاية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه السّلام، حتّى قتل تسعة

ص: 86


1- . في تفسير العياشي: بما هو مكوّنه قبل أن يكونه و هم ذرّ، و علم.
2- . تفسير العياشي 1:340/786، تفسير الصافي 1:356.
3- . تفسير الرازي 9:20.
4- . تفسير أبي السعود 2:93.
5- . العبدري: نسبة إلى بني عبد الدار.

من بني عبد الدار، فصار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له صواب، فانتهى إليه عليّ عليه السّلام فقطع يده، فأخذ الرّاية بيده اليسرى، فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها بالجذماوين (1)إلى صدره، ثمّ التفت إلى أبي سفيان فقال: هل أعذرت في بني عبد الدار؟ فضربه عليّ عليه السّلام [على رأسه]فقتله، فسقط اللّواء فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانية فرفعته.

و انحطّ خالد بن الوليد على عبد اللّه بن جبير و قد فرّ أصحابه و بقي [في]نفر قليل، فقتلهم على باب الشّعب، ثمّ أتى المسلمين من أدبارهم.

و نظرت قريش في هزيمتها إلى الرّاية قد رفعت فلاذوا بها، و انهزم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هزيمة عظيمة، و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كلّ وجه، فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه، و قال: «إنّي (2)أنا رسول اللّه، أين تفرّون عن اللّه و عن رسوله؟» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 143

فظهر عند ذلك كذب جماعة، كانوا يتمنّون الشهادة و يلحّون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الخروج عن المدينة لجهاد المشركين، فوبّخهم اللّه تعالى بقوله: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ قبل الوقعة تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ بالشّهادة، و تظهرون اشتياقكم إليه مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ و تشاهدوه بمشاهدة مباديه، و تعرفوا هوله و شدّته، فإن كنتم صادقين في إظهار التّمنّي فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ برؤية أسبابه وَ أَنْتُمْ لفرط قربه إليكم كأنّكم تَنْظُرُونَ إليه و تعاينونه حين قتل بين أيديكم من قتل [من]

إخوانكم و أقاربكم، و شارفتم على أن تقتلوا، فلم هزمتم و فعلتم ما فعلتم و تركتم الرّسول بين أعدائه؟ و فيه غاية التّوبيخ و التّقريع.

وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

في وقعة احد،

و شهادة حمزة عليه السّلام

و روي أنّه كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان في وسط العسكر، و كلمّا انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا و مكحلة و قالت: إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا، و كان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا، و لم يثبت له أحد، و كانت هند [قد] أعطت وحشيّا عهدا: لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة لاعطينّك كذا و كذا-و كان وحشيّ عبدا لجبير بن مطعم، حبشيّا-فقال وحشيّ: أمّا محمّد فلا أقدر [عليه]، و أمّا عليّ فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه، و أمّا حمزة فلعلّي أقتله.

ص: 87


1- . الجذماوين: مثنى الجذمة، و هي الأصل الباقي من اليد المقطوعة.
2- . في مجمع البيان: إليّ.
3- . مجمع البيان 2:825، تفسير الصافي 1:346.

فكمن لحمزة، قال: فرأيته يهذّ (1)النّاس هذّا، فمرّ بي فوطئ على طرف (2)نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها، و رميته فوقعت في خاصرته و خرجت من ثنّته (3)فسقط، فأتيته و شققت بطنه، فأخذت كبده و جئت به إلى هند فقلت: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها، فجعلها اللّه مثل الدّاغصة؛ و هي عظم رأس الرّكبة، فلفظتها و رمت بها.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فبعث اللّه ملكا فردّها إلى موضعها» . قال وحشيّ: فجاءت هند إليه فقطعت مذاكيره [و قطعت اذنيه]و قطعت يده و رجله.

و لم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ عليّ عليه السّلام، و أبو دجانة سماك بن خرشة، فكلّما حملت طائفة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استقبلهم عليّ عليه السّلام فدفعهم حتّى انقطع سيفه، فدفع [إليه]رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفه ذا الفقار. و انحاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ناحية فوقف، و كان القتال من وجه واحد، فلم يزل عليّ عليه السّلام يقاتلهم حتّى أصابه في وجهه و رأسه و يديه (4)و رجليه سبعون جراحة.

قال: فقال جبرئيل عليه السّلام: إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد، فقال له: «إنّه منّي و أنا منه» .

و قال الصادق عليه السّلام: «نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى جبرئيل عليه السّلام بين السّماء و الأرض على كرسيّ من ذهب، و هو يقول: لا سيف إلاّ ذو الفقار، و لا فتى إلاّ عليّ» (5).

و في رواية: بقي معه صلّى اللّه عليه و آله عليّ عليه السّلام و سماك بن خرشة أبو دجانة رضى اللّه عنه، فدعاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «يا أبا دجانة، انصرف، أنتّ في حلّ من بيعتك و بيعتي، و أمّا عليّ فهو أنا و أنا هو» ، فتحوّل و جلس بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بكى و قال: لا و اللّه، و رفع رأسه إلى السّماء و قال: لا و اللّه، لا جعلت نفسي في حلّ من بيعتي، إنّي بايعتك فإلى من انصرف يا رسول اللّه، إلى زوجة تموت، أو إلى ولد يموت، أو دار تخرّب، أو مال يفنى، و أجل قد اقترب؟ فرقّ له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يزل يقاتل حتّى أثخنته الجراح، و هو في وجه، و عليّ عليه السّلام في وجه، فلمّا سقط احتمله عليّ عليه السّلام فجاء به إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فوضعه عنده، فقال: يا رسول اللّه، أ وفيت ببيعتي، قال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم» . و قال له النبيّ خيرا (6).

و قال ابن عبّاس: إنّه كثر القتل في المسلمين (7).

و في رواية: و كان النّاس يحملون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الميمنة، فيكشفهم عليّ عليه السّلام، فإذا كشفهم أقبلت الميسرة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فلم يزل كذلك حتّى قطع سيفه بثلاث قطع، فجاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فطرحه بين

ص: 88


1- . هذّ: قطع بسرعة.
2- . في مجمع البيان: جرف.
3- . في النسخة: ثنيته، و ثنته، أي أسفل بطنه.
4- . زاد في مجمع البيان: و بطنه.
5- . مجمع البيان 2:825، تفسير الصافي 1:347.
6- . الكافي 8:318/502، تفسير الصافي 1:357.
7- . تفسير الرازي 9:20.

يديه و قال: «هذا سيفي قد تقطّع» ، فيومئذ أعطاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذا الفقار، و رأى اختلاج ساقيه من كثرة القتال، فرفع رأسه الى السّماء و هو يبكي و قال: «يا ربّ، وعدتني أن تظهر دينك، و إن شئت لم يعيك» (1).

في ارتداد جمع من

الصحابة في

احد

و قال ابن عبّاس: و رمى عبد اللّه بن قميئة الحارثي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحجر فكسر رباعيّته، و شجّ وجهه، و أقبل يريد قتله، فذبّ عنه مصعب بن عمير، و هو صاحب الرّاية يوم بدر و يوم احد، حتّى قتله ابن قميئة، و ظن أنّه قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: قد قتلت محمّدا، و صرخ صارخ: ألاّ إنّ محمّدا قد قتل، و كان الصارخ الشيطان لعنه اللّه، ففشا في النّاس خبر قتله صلّى اللّه عليه و آله.

فهنالك قال بعض المسلمين: ليت عبد اللّه بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، و قال قوم من المنافقين: لو كان نبيّا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم و إلى دينكم، و قال أنس بن النّضر رضى اللّه عنه-عمّ أنس بن مالك-: يا قوم، إن كان قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ ربّ محمّد حي لا يموت، و ما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قاتلوا على ما قاتل عليه، و موتوا على ما مات عليه، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي اعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء، ثمّ سلّ سيفه فقاتل حتّى قتل رضى اللّه عنه (2).

و في رواية بعض المفسّرين من العامّة: أنّ أنس بن النضر أقبل إلى عمر بن الخطاب، و طلحة بن عبد اللّه، في رجال من المهاجرين و الأنصار، فقال لهم: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقال رضى اللّه عنه: ما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا كراما على ما مات عليه نبيّكم. ثمّ أقبل نحو العدوّ فقاتل حتّى قتل رضوان اللّه عليه (3).

و روي أنّه مرّ بعض المهاجرين بأنصاريّ يتشحّط في دمه فقالوا: يا فلان، أشعرت أنّ محمّدا قد قتل؟ فقال: إن كان قد قتل فقد بلّغ، قاتلوا على دينكم (4).

قال كعب بن مالك: أنا أوّل من عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المسلمين، رأيت عينيه من تحت المغفرة (5)تزهران، ينادي بأعلى صوته: «إليّ عباد اللّه» (6). فاجتمعوا إليه، فلامهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على هزيمتهم، فقالوا: يا رسول اللّه، فديناك بآبائنا و أمّهاتنا، أتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين (7).

ص: 89


1- . الكافي 8:320/502، تفسير الصافي 1:357، و لم يعيك، بمعنى لم يعجزك و لم يتعبك.
2- . تفسير الرازي 9:20.
3- . تفسير روح البيان 2:103.
4- . تفسير الرازي 9:20.
5- . المغفرة أو المغفر: درع منسوج من حلق على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.
6- . زاد في تفسير روح البيان: إليّ عباد اللّه.
7- . تفسير روح البيان 2:104.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 144

و روي أنّه ارتدّ في أحد جمع من المهاجرين و الأنصار، معتذرين بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد قتل (1). و لم يتفحّصوا عن صدق الخبر، مع أنّه لم يكن بين مقامهم و مقامه صلّى اللّه عليه و آله مسافة بعيدة، فوبّخهم اللّه سبحانه على ارتدادهم بعد توبيخهم على فرارهم، بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ كسائر الرّسل يأكل و يمشي و يموت و يقتل، و ليس أمتيازه من سائر البشر إلاّ بكمال النّفس و منصب الرّسالة.

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ (144)و من الواضح أنّه ليس من لوازم هذا المقام الخلود في الدّنيا، ألا ترون أنّه قَدْ خَلَتْ و مضت من الدّنيا بالموت و القتل مِنْ قَبْلِهِ و في الأزمنة السّابقة على بعثته اَلرُّسُلُ المبعوثون على الامم، ثمّ لم يرجع المؤمنون بهم عن دينهم، و لم ينقطع تمسّكهم عن شريعتهم، بل كانوا مستمرّين عليها، فإنّ الغرض من بعث الرّسول الهداية، و تبليغ الدّين، و تبيين الحقّ، و إلزام الحجّة، لا وجوده بين أمّته أبدا.

فالارتداد عن دين الرّسول، و رفع اليد عن شريعته بعد موته أو قتله من البدائع المستنكرة، و لذا أنكر سبحانه على المرتدّين في احد ذلك بقوله: أَ فَإِنْ ماتَ محمّد أَوْ قُتِلَ على حسب الفرض اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ و رجعتم إلى ما كنتم عليه من الكفر و الشّرك.

ثمّ اعلم أنّه قد اتّفقت العامّة و الخاصّة على أنّ عمر كان من الفارّين من الزّحف، المولّين الدّبر.

و قال ابن أبي الحديد:

فإن أنس لم أنس اللذين تقدّما *** و فرّهما و الفرّ قد علما حوب (2)

و مراده من اللذين تقدّما: أبو بكر و عمر.

و من العجب مع ذلك أنّه روى الفخر الرازي في تفسيره: أن أبا سفيان صعد الجبل يوم احد، ثمّ قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ و أين ابن الخطّاب؟ فقال عمر: هذا رسول اللّه، و هذا أبو بكر، و أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم، و الأيام دول، و الحرب سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنّة، و قتلاكم في النّار، فقال أبو سفيان: إن كان كما تزعمون، فقد خبنا إذن و خسرنا (3).

و ليت شعري؛ متى حصل لعمر اعتقاد أنّ قتلى المسلمين في الجنّة، أقبل الفرار أم بعد حصول الأمن؟ فإن كان قبل الفرار، فكيف لم يردعه هذا الاعتقاد، و كيف يمكن معه أن يحتبس عن القتال

ص: 90


1- . جوامع الجامع:70.
2- . القصائد العلويات:91، و فيه: و ما أنس لا أنس.
3- . تفسير الرازي 9:15.

حتّى يقول أنس بن النضر: ما يحبسكم عن القتال؟ فيقول: قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله (1)، و إن كان بعد حصول الأمن، و رجوع الفارّين من الزّحف إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و خيبة المشركين، و توبيخ النبيّ إيّاهم، و اعتذارهم بأنّه أتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا (2)، فهذا إيمان بعد الارتداد، و الظّاهر أنّه كان بعد رجوع أبي سفيان و حزبه إلى مكّة.

ثمّ اعلم أنّ المهاجرين و الأنصار الّذين كان إيمانهم في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه المثابة، لا يبعد منهم الارتداد بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله للأحقاد الجاهليّة و طمع الرّئاسة.

ثمّ أنّه قال الفخر الرازي: إنّ اللّه تعالى بيّن في آيات كثيرة أنّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقتل، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (3)، و قال: وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ (4)، و قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ (5).

في ذكر اعتذار بعض

العامّة لتجويز عمر

قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و بيان فساده

ثمّ اعتذار أبو السّعود في تفسيره لتجويز عمر و جمع من المهاجرين و الأنصار قتله صلّى اللّه عليه و آله، و قال: تجويزهم لقتله؛ مع قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ لما أنّ كلّ آية لا يسمعها كلّ أحد، و لا كلّ من يسمعها يستحضرها في كلّ مقام، لا سيّما في مثل ذلك المقام الهائل (6).

أقول: في إصلاح الاعتذارين فساد ما صدر من عمر ما لا يخفى، أمّا الاعتذار بأنّ عمر لم يسمع الآيات، فممّا لا يمكن قبوله-سيّما من المعتذر و أصحابه من أهل السّنّة-لاعتقادهم في عمر أنّه كان من بطانة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و مع ذلك، كيف يمكن القول بعدم اطّلاعه على هذه الآيات، و عدم سماعه لها، مضافا إلى أنّه لا يمكن أن يعتقد المؤمن برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله قتله في احد، مع إخباره صلّى اللّه عليه و آله قبل خروجه إلى احد برجوعه حيّا إلى المدينة، حيث قال عند ذكره رؤياه: «ثمّ إنّي رأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة، أوّلتها أنّي أرجع إلى المدينة» (7).

و أمّا الاعتذار بعدم استحضار الآيات، و نسيانها و الغفلة عنها، ففي غاية البعد، مع كون تلاوة القرآن و التدبّر في آياته من أعظم عبادات المؤمنين، و أهمّ مشاغلهم، بحيث كان مدلول ظواهرها نصب أعينهم راسخا في قلوبهم.

في زلة عمر بعد وفاة

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

ورد الاعتذار له

و من الغرائب: استشهاد أبي السّعود على غفلة الصّحابة عن تلك الآيات، بغفلة عمر عن هذه الآية بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (8)، و تبعه صاحب تفسير (روح البيان) حيث قال:

ص: 91


1- . تفسير روح البيان 2:103.
2- . تفسير روح البيان 2:104.
3- . الزمر:39/30.
4- . المائدة:5/67.
5- . تفسير الرازي 9:21، و الآية من سورة الصف:61/9.
6- . تفسير أبي السعود 2:93.
7- . تفسير أبي السعود 2:78، تفسير روح البيان 2:87.
8- . تفسير أبي السعود 2:93.

لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش، و منهم من اقعد و لم يطق القيام، و منهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، و منهم من أنكر موته بالكلّيّة، حتّى غفل عمر عن هذه الآية الكريمة عند وفاته صلّى اللّه عليه و آله، و قام في النّاس فقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّه عليه السّلام توفّي، إنّ رسول اللّه ما مات، و لكنّه ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع، و اللّه ليرجعنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لاقطّعنّ أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنّ رسول اللّه مات.

و لم يزل يكرّر ذلك إلى أن قام أبو بكر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: أيّها النّاس، من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، و من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لا يموت، ثمّ تلا: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ .

قال الرّاوي: و اللّه، لكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى تلاها أبو بكر، فاستيقن النّاس كلّهم بموته (1).

و في رواية أبي السعود: قال عمر: و اللّه ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر يتلو فعقرت حتّى لا تحملني رجلاي، و عرفت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد مات (2)، انتهى.

[و ذلك] (3)لوضوح أنّ ضعف إيمان كثير من الصّحابة و نفاق كثير منهم و حبّهم للحياة، صار سببا لفرارهم في احد قبل سماع خبر قتله صلوات اللّه عليه، لا غفلتهم عن آية وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ؛ فإنّ الآية لم تنزل بعد، و إنّما نزلت في حجّة الوداع.

و أمّا إنكار عمر موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن لغفلته عن آية وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ بل لتغافله عنها، و تدبيره في إلقاء الشّبهة في قلوب النّاس و تفرّقهم عن باب بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، ليتمكّن في برهة من الزّمان إلى أغراضه الفاسدة لوضوح أنّ الاعتقاد بموت النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يكن متوقّفا على إخبار اللّه بأنّه يموت، و على الالتفات للآية الكريمة.

بل كان موت الأنبياء من ضروريّات جميع أهل الملل و الأديان، مع إخبار اللّه بموتهم في مواضع من الكتاب الكريم، مضافا إلى كفاية عموم قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ (4)مع عدم ظهور مخصّص له و إخباره صلّى اللّه عليه و آله بموته مكرّرا، حتّى سأل أبو بكر و عمر منه صلّى اللّه عليه و آله و قالا له: يا رسول اللّه، إذا حدث حدث فإلى من نرجع؟

و قوله صلّى اللّه عليه و آله، في الحديث المتفق بين الفريقين: «إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فاجيب،

ص: 92


1- . تفسير روح البيان 2:104.
2- . تفسير أبي السعود 2:93.
3- . في النسخة: بياض، و ما أثبتناه يقتضيه السياق.
4- . آل عمران:83/185.

و إنّي تارك فيكم الثّقلين: أوّلهما: كتاب اللّه، فيه الهدى و النّور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به، و أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي خيرا» (1). مضافا إلى تراكم القرائن القطعيّة على موته، من صراخ أهله، و اشتغال عليّ عليه السّلام بتجهيزه، إلى غير ذلك.

و ليت شعري، كيف لم يجوّز هنا موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنكره حتّى اختلق من قبل نفسه أنّه صلّى اللّه عليه و آله ذهب ليناجي ربّه. . . إلى آخر ما نقله شيعته عنه.

و جوّز موته صلّى اللّه عليه و آله في يوم أو يومين قبله، حين دعا صلوات اللّه عليه و آله بدواة و كتف كي يكتب كتابا لا يختلفون فيه و لا يضلّون بعده، حيث قال: حسبنا كتاب اللّه (2)-يعني: بعد موته-

بل قطع بقتله في احد، بمجرد سماع قول القائل: قد قتل محمّد، من غير فحص و تحقيق، مع قرب مكانه من مقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال لأنس بن النضر معتذرا عن فراره من الزّحف: قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله (3).

و قال بعد توبيخ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أصحابه الفارّين من الزّحف: إنّه أتانا خبر قتلك، فاستولى الرّعب على قلوبنا، فولّينا مدبرين (4).

ثمّ أنّه لا يمكن الاعتذار عن إنكاره موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنسيانه آية وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ، حيث إنّها نزلت في شأنه و شأن أصحابه، بعد فرارهم من الزّحف في واقعة احد؛ لأنّ نسيان تلك الآية كان مشروطا بنسيان تلك الوقعة، و هو من المحالات العاديّة في حقّه. و لا بغفلته عنها لاضطراب خاطره، لدلالة ما اختلقه على جمعيّة حواسّه، و سكون خاطره، و قوّة فكره، و كمال تدبيره.

فتحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ الوجه في صدور هذا القول الشّنيع منه منحصر في كونه حيلة احتالها، لتفريق النّاس عن باب بيت النّبوّة، و صرف القلوب عن التّوجّه إلى عليّ عليه السّلام، و جمع النّاس في السّقيفة. فلمّا التفت أبو بكر إلى أنّ هذا القول فساده أظهر من أن يخفى على ذي مسكة، بادر إلى إظهار خلافه، و صرف عمر عنه، لئلاّ تزداد فضيحتهما.

عن الصادق عليه السّلام: «أتدرون، مات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو قتل؟ إنّ اللّه يقول: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ -ثمّ قال عليه السّلام-: [فسمّ قبل الموت]إنّهما سقتاه قبل الموت» يعني الامرأتين لعنهما اللّه (5).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه المؤمنين على ارتدادهم بقوله: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ و يرجع إلى كفره الأصليّ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ بارتداده و رجوعه إلى الكفر شَيْئاً من الأشياء؛ لأنّه تعالى منزّه عن النّفع

ص: 93


1- . صحيح مسلم 4:1873/2408، سنن الترمذي 5:662/3786 و 3788، مستدرك الحاكم 3:148.
2- . صحيح مسلم 3:1259/22، صحيح البخاري 7:219/30، مسند أحمد 1:324.
3- . تفسير روح البيان 2:103.
4- . تفسير الرازي 9:21، تفسير روح البيان 2:104.
5- . تفسير العياشي 1:342/152، تفسير الصافي 1:359.

و الضّرر، بل يضرّ نفسه أشدّ الضّرر، من خسران الدّنيا، و عذاب الآخرة.

عن (الجمع بين الصّحيحين) ، في مسند سهل (1)، من المتّفق عليه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب، و من شرب لم يظمأ [أبدا]، و ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم و يعرفونني، ثمّ يحال بيني و بينهم» (2).

أقول: قوله: «أعرفهم و يعرفونني» قرينة على إرادة الصّحابة.

فيقول صلّى اللّه عليه و آله: «إنّهم من أمّتي! فيقال: إنّك ما تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» .

و عنه أيضا-من المتّفق عليه-عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ألا إنّه سيجاء برجال من امّتي، فيوخذ بهم ذات الشّمال، فأقول: يا ربّ، أصحابي! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصّالح: كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ (3)قال: فيقال لي: إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم» (4).

في ارتداد النّاس

بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله

إلاّ ثلاثة

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان النّاس أهل ردّة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إلاّ ثلاثة» قيل: و من الثّلاثة؟ قال عليه السّلام: «المقداد، و أبو ذرّ، و سلمان الفارسي رحمه اللّه، ثمّ عرف اناس بعد يسير» و قال: «هؤلاء الّذين دارت عليهم الرّحا، و أبوا أن يبايعوا حتّى جاءوا بأمير المؤمنين عليه السّلام مكرها فبايع، و ذلك قول اللّه تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ الآية» (5).

و في خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «حتّى إذا دعا اللّه نبيّه و رفعه إليه لم يك ذلك بعده إلاّ كلمحة من خفقة، أو وميض (6)من برقة، إلى أن رجعوا إلى الأعقاب، و انتكصوا على الأدبار، و طلبوا بالأوتار، و أظهروا الكتائب و ردموا الباب، و فلّوا الدماء (7)، و غيّروا سنن (8)رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رغبوا عن أحكامه، و بعدوا عن أنواره، و استبدلوا بمستخلفه بديلا اتّخذوه و كانوا ظالمين، و زعموا أنّ من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّن اختاره الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لمقامه، و أنّ مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الأنصاري الرّبّاني؛ ناموس هاشم بن عبد مناف. . .» إلى

ص: 94


1- . هو سهل بن سعد.
2- . الطرائف:376، بحار الأنوار 28:26.
3- . المائدة:5/117 و 118.
4- . الطرائف:376، صحيح البخاري 9:83/2 و 3، مسند أحمد 5:333، صحيح مسلم 4:1796/2297، مستدرك الحاكم 4:74-75.
5- . تفسير العياشي 1:341/787، الكافي 8:245/341، تفسير الصافي 1:359.
6- . الخفقة: النّعاس، و الوميض: اللّمع الخفيّ.
7- . في الكافي: الدّيار.
8- . في الكافي: آثار.

آخره (1).

فعلم من الرّوايات الخاصيّة و العاميّة أنّ كثيرا من الصّحابة الّذين كان يعرفهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم يعرفونه، ارتدّوا بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله، و غيرّوا أحكامه، و أحدثوا في دينه. و من الضّروري المتفّق عليه أنّهم غير أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و أتباعه كسلمان، و أبي ذرّ، و المقداد، و عمّار، و أضرابهم ممّن يحذوا حذوه، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «علي مع الحقّ، و الحقّ مع عليّ» (2).

و في (الجمع بين الصّحاح) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «رحم اللّه عليّا، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار» (3).

و روى الجمهور: قال صلوات اللّه عليه لعمّار: «سيكون في أمّتي بعدي هنات (4)و اختلاف، حتّى يختلف السّيف بينهم حتّى يقتل بعضهم بعضا، و يتبرّأ بعضهم من بعض. يا عمّار، تقتلك الفئة الباغية، و أنت إذ ذاك مع الحقّ، و الحقّ معك، إنّ عليّا لن يدليك في ردى، و لن يخرجك من هدى.

إلى أن قال: و إن سلك النّاس كلّهم واديا فاسلك واديا سلكه عليّ، و خلّ النّاس طرّا. يا عمّار، إنّ عليّا لا يزال على هدى. يا عمّار، إنّ طاعة عليّ من طاعتي، و طاعتي من طاعة اللّه» (5).

و عن الجمهور بعدّة طرق، عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «الحقّ مع عليّ، و عليّ مع الحقّ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (6). فإذن لا بدّ من كون المرتدّين المفترين المحدثين مخالفيه.

و قال فضل بن روزبهان: إنّهم أهل الرّدّة الّذين قاتلهم أبو بكر، و كان بعضهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه: أنّ الّذين قاتلهم أبو بكر لم يكونوا مرتدّين مستحلّين للزّكاة، بل كانوا ممتنعين عن تأديتها لأبي بكر، لإنكارهم خلافته، مع أن الظّاهر أنّ المراد من قول القائل: «لا تدري ما أحدثوا بعدك» هم الّذين أحدثوا بدعا باقية مستمرة في الأمّة، كغصب الخلافة، و تحريم المتعة، و صلوات التّراويح، و المسح على الخفّ، و التكتّف في الصّلاة، و غير ذلك من البدع، لا منع الزّكاة، و الّذي لم يتجاوز عن مالك بن نويرة و أصحابه، و لم يصر فعلهم سنّة باقية.

ثمّ بشّر اللّه الثّابتين على الإيمان بقوله: وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ لنعمه من تعريفهم الحجّة

ص: 95


1- . الكافي 8:29/4، تفسير الصافي 1:359.
2- . تاريخ بغداد 14:321، ترجمة الإمام علي عليه السّلام لابن عساكر 3:153/1172.
3- . مناقب الخوارزمي:56، الطرائف:102.
4- . أي شرور و فساد.
5- . تاريخ بغداد 13:186، بحار الأنوار 38:37/13 و:38/14.
6- . تاريخ بغداد 14:321، ترجمة الإمام علي عليه السّلام 3:153/1172، سنن الترمذي 5:633/3714، مستدرك الحاكم 3:124.

و الهداية لدين اللّه، و التّوفيق لقبوله بالثّبات على الحقّ، و القيام بوظائف العبودية، و العمل بأحكام الإسلام. و فيه إشعار بأنّ الارتداد و الخروج عن الإسلام كفران لنعم اللّه.

عن (الاحتجاج) ، في خطبة الغدير: «معاشر النّاس، أنذركم أنّي رسول اللّه إليكم، قد خلت من قبلي الرّسل، أفإن متّ أو قتلت انقلبتم على أعقابكم وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ، ألا و إنّ عليّا هو الموصوف بالصّبر و الشّكر، ثمّ من بعده ولدي من صلبه» (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ المراد الطائعون للّه تعالى من المهاجرين و الأنصار (2).

و روى الفخر الرازي في تفسيره: عن الطّبري، عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «المراد بقوله: وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ أبو بكر و أصحابه» (3).

و روي عنه صلوات اللّه عليه أيضا أنّه قال: «أبو بكر من الشّاكرين، و هو من أحبّاء اللّه» (4). و في الرّوايتين من الضّعف و الوهن ما لا يخفى.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 145

ثمّ لمّا أرجف المنافقون بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد قتل، و لو كان نبيّا ما قتل، و قالوا: إنّ الّذين قتلوا من أصحاب النبيّ لو كانوا عندنا، و لم يخرجوا من المدينة إلى احد ما ماتوا و ما قتلوا، ردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ من النّفوس، و حيّ من الأحياء أَنْ تَمُوتَ بسبب من الأسباب، أو بإرادة مريد إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ و إرادته، و بسبب أمره ملك الموت بقبض روحه، فلا يؤثّر تراكم الأسباب العاديّة للموت-من الخروج عن الحصن، و تهاجم الأعداء، و تخاذل الأنصار، و غير ذلك-في موت أحد ما لم تكن إرادة اللّه و مشيئته، فإنّه كتب الموت كِتاباً و قدّره تقديرا مُؤَجَّلاً مؤقّتا، لا يؤخّره التّحصّن في البلد و الفرار من الزّحف، و لا يقدّمه الثّبات في الجهاد و الخروج إلى العدوّ، فالمجاهد لا يموت بغير أجله، و القاعد لا يسلم مع حضور أجله.

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي اَلشّاكِرِينَ (145)و فيه تعريض على أكثر (3)أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و تحريض للمؤمنين على القتال، و تشجيع لهم، و وعد للرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالحفظ و تأخير الأجل.

ص: 96


1- . الاحتجاج:62، تفسير الصافي 1:358.
2- . تفسير أبي السعود 2:94. (3 و 4) . تفسير الرازي 9:22.
3- . كذا، و الظاهر: تعريض بأكثر، أو لأكثر.

ثمّ أنّه تعالى-بعد تحقيق أنّ الحياة و الموت دائران مدار إرادة اللّه و مشيئته، و ليس لغيره فيهما مدخل و صنع-بيّن أنّ ثواب الجهاد و سائر الأعمال دائر مدار نيّة العبد و إرادته، بقوله: وَ مَنْ يُرِدْ بجهاده و سائر عباداته ثَوابَ اَلدُّنْيا من الغنيمة و حسن الذّكر نُؤْتِهِ و نوفّه نصيبه مِنْها على حسب ما تقتضيه الحكمة و المصلحة.

عن أبي هريرة: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل اللّه: في ما ذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتّى قتلت، فيقول تعالى: كذبت، بل أردت أن يقال: فلان محارب (1)، ثمّ أنّ اللّه تعالى يأمر به إلى النّار» و فيه تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم احد عن الجهاد.

وَ مَنْ يُرِدْ و يطلب بجهاده، أو بجميع أعماله الحسنة ثَوابَ اَلْآخِرَةِ من الجنّة، و الرّحمة المتّصلة، و النّعم الدّائمة نُؤْتِهِ و نوفّه حظّا وافرا مِنْها على حسب أهليّته و استحقاقه، و قابليّته للتّفضّل، و مرتبة خلوصه في النيّة.

و فيه دلالة على أنّ الأعمال الخيريّة لا تخلو عن الأجر و الثّواب إمّا الدّنيوي و إمّا الاخروي.

ثمّ أكدّ اللّه الوعد بقوله: وَ سَنَجْزِي عن قريب جزاء جزيلا لا يسعه البيان، و لا يحويه الكلام اَلشّاكِرِينَ لنعمه، من القوى و الصّحّة، و توفيق الهداية إلى الإسلام، و العلم بالمعارف و الأحكام و غيرها، بصرف ما آتاهم اللّه في مرضاته و طاعته، لا يصرفهم عن ذلك صارف أبدا، فيدخل فيهم المجاهدون و الشّهداء.

في ذكر معجزة

للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله

عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّه أصاب عليّا صلّى اللّه عليه و آله يوم احد ستّون جراحة، و أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر أمّ سليم و امّ عطية أن تداوياه فقالتا: إنّا لا نعالج منه مكانا إلاّ انفتق منه مكان، و قد خفنا عليه، و دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون يعودونه و هو قرحة واحدة، فجعل يمسحه بيده و يقول: إنّ رجلا لقي هذا في اللّه، فقد أبلى و أعذر، فكان القرح الذي يمسحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلتئم، فقال عليّ عليه السّلام: الحمد للّه، إذ لم أفرّ، و لم أولّي الدّبر، فشكر اللّه له ذلك في موضعين من القرآن، و هو [قوله: وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ (2)من الرزق في الدّنيا] وَ سَنَجْزِي اَلشّاكِرِينَ» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 146

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكانُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ (146)

ص: 97


1- . تفسير الرازي 9:25، تفسير روح البيان 2:106.
2- . آل عمران:3/144.
3- . مجمع البيان 2:852، تفسير الصافي 1:359.

ثمّ ذكّر اللّه شدّه اهتمام المؤمنين من الأمم السّابقة في جهاد الكفّار، و نصرة أنبيائهم و دينهم، و تحمّلهم الشّدائد في ذلك، تقريعا للمنهزمين في احد على تقصيرهم في الجهاد و نصرة الإسلام، و سوء صنيعهم مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ كَأَيِّنْ قال جمع من المفسرين: إنّ هذه الكلمة مستعملة في الكثير (1)، فيكون المعنى: و كم مِنْ نَبِيٍّ من الأنبياء في القرون السّابقة قاتل أعداء الدّين، لترويج دينه، و إعلاء كلمة الحق، و قاتَلَ مَعَهُ و جاهد الكفّار، مصاحبا له رِبِّيُّونَ و علماء اتقياء كَثِيرٌ!

و قيل: إنّ المراد من (الرّبّيّون) الجموع الكثيرة (2).

و عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «الرّبّيّون: عشرة آلاف (3)» .

و عن الصادق عليه السّلام قال: «الوف و الوف» (2).

فَما وَهَنُوا في منازلة الأعداء، و ما فتروا في مقاتلة الكفّار لِما أَصابَهُمْ من البلايا و الشّدائد، و لكثرة ما نالهم من القتل و الجرح فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لإعلاء كلمته، و إعزاز دينه، و طلب مرضاته وَ ما ضَعُفُوا في دينهم و عقائدهم، و ما تقاعدوا عن مقاتلة أعدائهم وَ مَا اِسْتَكانُوا و ما خضعوا عندهم لطلب الصّلح و المداهنة.

فإذا كانت سيرة المؤمنين بسائر الأنبياء، و دأب أتباعهم ذلك، فلا ينبغي لكم الوهن في الجهاد، و الضّعف في الإيمان، و الفرار من الزّحف، بل الارتداد عن الإسلام و أنتم أتباع خاتم النّبيّين.

و فيه تعريض عليهم بقولهم: لو كان محمّد نبيّا لما ورد عليه ما ورد. و باستكانتهم لعدوّهم حيث قالوا: ليت ابن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.

و عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «بيّن اللّه سبحانه أنّه لو كان قتل كما أرجف بذلك يوم احد لما أوجب ذلك أن يضعفوا أو يهنوا، كما لم يهن من كان مع الأنبياء بقتلهم» (3).

أقول: هذا التّفسير مبنيّ على قراءة (قتل معه) (4)كما هي مرويّة عن الصادق عليه السّلام (5).

ثمّ بشّر سبحانه أهل الثّبات في الجهاد، بل مطلق الصّابرين على الطّاعات بقوله: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ على ما أصابهم من البأساء و الضّرّاء، في سبيله و مرضاته، و المحتبسين أنفسهم على طاعته. فعليه تعالى أن يكرمهم إكرام الأحبّاء، و يجزيهم في الدّنيا و الآخرة أحسن الجزاء.

ص: 98


1- . تفسير الرازي 9:26، تفسير أبي السعود 2:95، تفسير روح البيان 2:106. (2 و 3) . مجمع البيان 2:854، تفسير الصافي 1:360.
2- . تفسير العياشي 1:342/793، تفسير الصافي 1:360.
3- . مجمع البيان 2:854، تفسير الصافي 1:360.
4- . في المصحف الشريف قاتَلَ مَعَهُ .
5- . تفسير العياشي 1:342/793، تفسير الصافي 1:360.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 147 الی 148

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان كمال استقامتهم على الدّين، و شدّة ثباتهم في الجهاد و نصرة النّبيّين، و قوّة صبرهم على الشدائد و الأهوال-بيّن أنّهم مع ذلك لا همّ لهم و لا مطلوب بعد المغفرة عندهم، إلاّ ازدياد الثّبات و الصّبر، و الغلبة على أعداء الحقّ بقوله: وَ ما كانَ في حال من الأحوال أو عند لقاء العدوّ، و اقتحام مضائق الحرب، و الخوض في غمرات الموت قَوْلَهُمْ و مسؤولهم شيئا من الأشياء إِلاّ أَنْ قالُوا متضرّعين إلى مليكهم اللّطيف بهم رَبَّنَا و يا من إليه تربية نفوسنا، و إصلاح جميع أحوالنا و امورنا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا صغائرها و كبائرها ثمّ بعد التّعميم خصّوا الكبائر بالذّكر لعظمها بقولهم: وَ إِسْرافَنا و تجاوزنا عن حدودك فِي أَمْرِنا و عملنا.

وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (148)و إنّما أضافوا إلى أنفسهم الإسراف مع كونهم ربّانيّين برآء من التّفريط، استحقارا لها، و إسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم، و إنّما قدّموا الدّعاء بالمغفرة لكون النّجاة من سخط اللّه و عذابه أهمّ المقاصد في نظرهم.

ثمّ الأهمّ ما سألوه بقولهم: وَ ثَبِّتْ بتأييدك لنا، و تقوية قلوبنا و يقيننا أَقْدامَنا على دينك القويم و صراطك المستقيم، و في مجاهدة النّفس، و مدافعة الشّيطان الرّجيم، و نصرة الأنبياء، و منازلة الأعداء وَ اُنْصُرْنا بالحجّة و السّيف عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ حتّى تعلو كلمتك، و تتمّ حجّتك.

ففيه دلالة على أنّ المقصد الأعلى عند المؤمنين مغفرة الذّنوب، و الثّبات على الدّين، و نصرة الحقّ. و فيه تعريض بالمنهزمين و المرتدّين في احد.

فَآتاهُمُ اَللّهُ و أعطاهم بسبب حسن حالهم، و كمال ضراعتهم ثَوابَ اَلدُّنْيا من انشراح الصّدر، و قوّة اليقين، و النّصرة على أعداء الدّين و الغنيمة، و حسن الذّكر بين المؤمنين وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ من الجنّة العالية، و النّعم الباقية، و اللّذّات الدّائمة، و الحور و القصور، و الكرامة و السّرور.

و إنّما خصّ اللّه سبحانه ثواب الآخرة بالحسن، للإيذان بفضله و مزيّته على الدّنيا و ما فيها وَ اَللّهُ تعالى لكونه حسن الصّفات و الفعال يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ و يرضى عنهم، و يزيد لهم خير الدّارين.

ففيه دلالة على أنّهم بلغوا-بثباتهم في الدّين، و خضوعهم لربّ العالمين و عدّ أنفسهم في المذنبين و المسرفين-إلى درجة المقرّبين، و العباد المرضيّين.

ص: 99

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 149 الی 150

ثمّ لمّا دعا الكفّار و المنافقون-بعد انتشار خبر قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-بعض ضعفاء المؤمنين إلى الكف و الرّجوع إلى ما كانوا عليه من الشّرك، و ألقوا بعض الشّبهات فيهم، نهى اللّه المؤمنين عن اتّباعهم، و الاعتناء بشبهاتهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تطيعوا المنافقين-في قولهم: ارجعوا إلى دينكم و إخوانكم، و لو كان محمّد نبيّا لما غلب و قتل-فإنّكم إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا كأبي سفيان و غيره من المشركين و اليهود و المنافقين، و تتّبعوا قولهم في أمر الدّين، و تصغوا إلى الشّبهات التي يلقونها في قلوبكم، خصوصا بعد وقعة احد يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ و يخرجوكم عن دينكم، و يصيّروكم كفّارا فَتَنْقَلِبُوا و ترجعوا إلى الشّرك، بعد اهتدائكم إلى التّوحيد و دين الإسلام، حال كونكم خاسِرِينَ في الدّنيا و الآخرة، محرومين من كرامتهما و سعادتهما، لابتلائكم بذلّ الانقياد للعدوّ بدلا من عزّ الإسلام، و بعذاب الخلد بدلا من الثّواب المؤبّد، فلا تتّبعوا بطاعتهم موالاتهم و نصرهم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اَللّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّاصِرِينَ (150)

بَلِ اَللّهُ وحده مَوْلاكُمْ في الدّنيا و الآخرة، ناظر في صلاحكم، معط لما فيه خيركم و نفعكم وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّاصِرِينَ و الأعوان لكم، فإنّه الجواد الذي لا يبخل، و العالم الذي لا يجهل، و القادر الذي لا يعجز، و هو الكافي من كلّ شيء، و لا يكفي منه شيء، فلا ينبغي للمؤمن أن يرجو غيره، و لا ينظر إلى ما سواه، و عليه أن يخصّه بالطّاعة و الاستعانة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 151

في أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

كان منصورا

بالرعب

ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى نصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «نصرت بالرّعب مسيرة شهر» (1)و لذا هزموا على ضعفهم و قلّة عددهم عسكر المشركين على كثرتهم و شوكتهم في بدر و في احد، ما داموا في طاعة اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا عصوا اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله في احد سلب اللّه الرّعب عن قلوب المشركين، حتّى رجعوا و فعلوا ما فعلوا، فلمّا عادوا إلى طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بشّرهم اللّه بالنّصر بالرّعب في احد و غيرها من المواطن بقوله: سَنُلْقِي و نقذف عن قريب فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ أو يستولي عليهم الخوف منكم بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ و لأجل كفرهم بوحدانيّته و إشراكهم في الوهيته و عبادته ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ و لم

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ (151)

ص: 100


1- . مجمع البيان 2:857، تفسير الصافي 1:361.

يقم على الوهيّته، و استحقاق عبادته سُلْطاناً و حجّة و برهانا.

روي أنّ الكفّار لمّا استولوا على المسلمين و هزموهم، أوقع اللّه الرّعب في قلوبهم، فتركوهم و فرّوا منهم من غير سبب، حتّى أن أبا سفيان صعد الجبل و قال: أين ابن أبي كبشة، و أين ابن أبي قحافة، و أين ابن الخطّاب؟ فأجابه عمر، و دارت بينهما كلمات، و ما تجاسر أبو سفيان أن ينزل من الجبل و الذّهاب إليهم (1).

و نقل أنّ الكفّار لمّا ذهبوا إلى مكّة، قالوا حين كانوا في بعض الطّريق: ما صنعنا شيئا، قتلنا الأكثرين منهم و تركناهم و نحن ظاهرون، ارجعوا حتّى نستأصلهم بالكلّيّة، فلمّا عزموا على ذلك ألقى اللّه الرّعب في قلوبهم (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «ثمّ انهزم النّاس، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: يا عليّ، امض بسيفك حتّى تعارضهم، فإن رأيتهم ركبوا القلاص (1)و جنّبوا الخيل فإنّهم يريدون مكّة، و إن رأيتهم قد ركبوا الخيل و هم يجتنبون القلاص فإنّهم يريدون المدينة، فأتاهم عليّ عليه السّلام فكانوا على القلاص، فقال أبو سفيان لعليّ عليه السّلام: ما تريد؟ هو ذا نحن ذاهبون إلى مكّة، فانصرف إلى صاحبك، فاتّبعهم جبرئيل عليه السّلام، فلمّا سمعوا وقع حافر فرسه جدّوا في السّير و كان يتلوهم، فإذا ارتحلوا قالوا: هو ذا عسكر محمّد قد أقبل، فدخل أبو سفيان مكّة فأخبرهم الخبر، و جاء الرّعاء و الحطّابون فدخلوا مكّة فقالوا: رأينا عسكر محمّد كلّما رحل أبو سفيان نزلوا يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم، فأقبل أهل مكّة على أبي سفيان يوبّخونه (2).

أقول: و عليه، فلا بدّ من كون نزول الآية في أثناء الحرب، أو عند انقضائها.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المشركين في الدّنيا، بيّن سوء حالهم في الآخرة بقوله: وَ مَأْواهُمُ و مسكنهم في الآخرة اَلنّارُ لا غيرها وَ بِئْسَ المثوى و المقرّ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ و مقرّهم و ساء المكان الذي خصّهم اللّه به في القيامة، بسبب ظلمهم على أنفسهم بالشّرك، و على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بالمقاتلة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 152

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (152)

ص: 101


1- . قلاص و قلائص: جمع قلوص: و هي الإبل الفتيّة.
2- . الكافي 8:321/502، تفسير الصافي 1:358.

ثمّ قيل: إنّه لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه إلى المدينة، و قد أصابهم ما أصابهم من الجراح و المصيبة قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، و قد وعدنا اللّه النّصر؟ فأنزل اللّه تعالى: وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ و أنجز لكم وَعْدَهُ إيّاكم بالنّصر و الغلبة على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن كان ذلك الوعد مشروطا بالتّقوى و الصّبر، و أنتم ما دمتم على طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله نصرتم و غلّبتم على المشركين إِذْ تَحُسُّونَهُمْ و تقتلونهم قتلا ذريعا بتيسير اللّه و بِإِذْنِهِ و تأييده.

روي أنّ المشركين لمّا أقبلوا جعل الرّماة من المسلمين يرشقونهم بالنّبل، و الباقون يضربونهم بالسيف، و قتل عليّ عليه السّلام طلحة بن أبي طلحة كبش قريش، و تسعة من أصحاب لوائهم فانهزم المشركون، و المسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا.

فكأنّه قال سبحانه: كنتم على هذه الحالة من النّصر و الغلبة حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ و ضعفتم رأيا في طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله؛ لغلبة الحرص على الغنيمة، و ملتم إليها وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ من الثّبات و الإقامة في المركز، و الذّهاب لأخذ الغنيمة.

روي أنّ بعض الرّماة-حين انهزم المشركون و ولّوا هاربين، و المسلمون على أعقابهم ضربا و قتلا -قالوا: فما موقفنا هنا بعد هذا؟ و قال أميرهم عبد اللّه بن جبير: لا تخالفوا أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه قال: «لا تبرحوا مكانكم، فإنّا لا نزل غالبين ما دمتم في هذا المكان» فثبت عبد اللّه في نفر دون العشرة في مكانه، و نفر الباقون للنّهب.

و إليه أشار سبحانه بقوله: وَ عَصَيْتُمْ اللّه و رسوله مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ اللّه تعالى ما تُحِبُّونَ من الظّفر و الغنيمة، و انهزام العدوّ. و قد مرّ أنّه لمّا رأى المشركون قلّة الرّماة في الشّعب حملوا عليهم، و قتلوا أمير الرّماة و من معه.

ثمّ حملوا على المسلمين من ورائهم، فظهرت سرائر القوم كما بيّنها سبحانه بقوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا و هم الّذين خالفوا أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و تركوا المركز طمعا في الغنيمة، و أقبلوا على النّهب.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال: ما علمت أنّ أحدا منّا يريد الدّنيا حتّى نزلت هذه الآية (1).

وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ بجهاده، و هم الّذين ثبتوا على طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و لم يخلوا مراكزهم

ص: 102


1- . تفسير روح البيان 2:110.

حتّى نالوا شرف الشّهادة، و حازوا على درجة السّعادة.

ثُمَّ بعد عصيان الرّماة صَرَفَكُمْ اللّه، و كفّ أيديكم عَنْهُمْ و هزمكم منهم بأن أوجد فيكم مقتضى الهزيمة من زوال الرّعب عن قلوب المشركين، و إلقائه في قلوبكم لِيَبْتَلِيَكُمْ و يمتحنكم في الثّبات على الإيمان، و الصّبر في الجهاد، حتّى يمتاز المخلصون الكاملون، و الصّابرون المحتسبون من غيرهم وَ لَقَدْ عَفا اللّه عَنْكُمْ تفضّلا عليكم، أو لما علم من ندمكم على عصيانكم بالفرار من الزّحف، و الهزيمة من الجهاد.

ثمّ لمّا كان امتياز الثّابتين في الإيمان من غيرهم، و العفو عن العصاة، تفضّلا من اللّه تعالى، وصف ذاته المقدّسة بقوله: وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كافّة بتكميل نفوس المطيعين منهم، و تعلية درجاتهم، و توفيق العاصين منهم للتّوبة، و تكفير ذنوبهم.

و قيل: إنّ المراد ذو فضل عليهم في جميع أحوالهم [سواء]كانت الدّولة لهم أو عليهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 153

ثمّ بيّن اللّه تعالى وقت صرفهم عنهم بقوله: إِذْ تُصْعِدُونَ و حين تذهبون في السّهل و الجبل منهزمين من بأس المشركين وَ لا تَلْوُونَ من شدّة الخوف عَلى أَحَدٍ من النّاس، و لا تلتفتون إلى من في يمينكم و شمالكم و ورائكم.

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)و قيل: إنّ المراد: لا يقف بعضكم لبعض، و لا ينظر نفس إلى نفس أنّه والد أو ولد، قريب أو بعيد، صديق أو عدوّ.

وَ اَلرَّسُولُ في هذا الحال، بأعلى صوته يَدْعُوكُمْ و يناديكم-حال كونه واقفا فِي أُخْراكُمْ و ساقتكم (1)، أو في جماعة اخرى منكم، أو في آخركم-بقوله: «إليّ عباد اللّه، أنا رسول اللّه، أين تفرّون عن اللّه، و عن رسوله؟» .

و في رواية: يقول: «من كرّ فله الجنّة» (2)أمرا بالمعروف و هو الكرّ، و نهيا عن المنكر و هو الانهزام، لا استعانة بهم.

فَأَثابَكُمْ اللّه، و جازاكم عن عصيانكم و انهزامكم غَمًّا متّصلا بِغَمٍّ آخر.

ص: 103


1- . السّاقة: مؤخّرة الجيش.
2- . تفسير روح البيان 2:110، تفسير الصافي 1:362.

قيل: إنّ الغموم كانت في احد كثيرة من غلبة العدوّ، و قتل الاحبّة، و ما نزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و غير ذلك.

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «فأمّا الغمّ الأوّل: فالهزيمة و القتل، و الغمّ الآخر: فإشراف خالد بن الوليد عليهم» (1).

و قيل: إنّ المراد: غمّا شديدا، بسبب شجّة وجه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و كسر رباعيته، و قتل عمّه حمزة، بعوض غمّ الرّسول بسبب عصيانكم أمره.

في أن أبا بكر و عمر

و عثمان كانوا من

المنهزمين في

احد

ثمّ أن الفخر الرازي قال في تفسيره الكبير: و من المنهزمين عمر، إلاّ أنّه لم يكن من أوائل المنهزمين، و لم يبعد بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2).

أقول: ليت شعري، من أين علم أنّه لم يكن من أوائل المنهزمين؟ ! ثمّ أنه بعدما ثبت أنّه كان من المنهزمين، كيف يصلح فساد عمله عدم كونه من أوائلهم؟

ثمّ قال: و منهم أيضا عثمان، انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد و عقبة، انهزموا حتّى بلغوا موضعا بعيدا، ثمّ رجعوا بعد ثلاثة أيام-إلى أن قال-: و أمّا الّذين ثبّتوا مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فكانوا أربعة عشر رجلا؛ سبعة من المهاجرين و سبعة من الأنصار، فمن المهاجرين أبو بكر و عليّ عليه السّلام (3).

أقول: قال بعض: إنّ أبا بكر أيضا كان من المنهزمين (4).

و قال ابن أبي الحديد:

فإن أنس لم أنس اللذين تقدّما *** و فرّهما و الفرّ قد علما حوب (5)

و الظاهر أن مراده أبو بكر و عمر، و يؤيّد ذلك الاعتبار و شهرته بين الشّيعة (6).

ثم قال فخر الدّين: و ذكر أنّ ثمانية من هؤلاء-أي من الأربعة عشر-بايعوه يومئذ على الموت؛ ثلاثة من المهاجرين عليّ عليه السّلام، و طلحة، و الزّبير. . . (7).

أقول: فعلم أنّ أبا بكر-على تقدير كونه من الثّابتين-لم يكن من الّذين بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الموت، ثمّ أنّ عدّ طلحة منهم مناف لما روي من اعتراض أنس بن النضر عليه و على عمر، بقوله: ما يحبسكم عن القتال؟ فقالوا: قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ أنّ اللّه تعالى بيّن علّة تراكم الغموم عليهم بقوله: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من المنافع

ص: 104


1- . تفسير القمي 1:120، تفسير الصافي 1:362.
2- . تفسير الرازي 9:50.
3- . تفسير الرازي 9:50.
4- . راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13:293.
5- . القصائد العلوية:91، و فيه: و ما أنس لا أنس. . .
6- . راجع: إرشاد المفيد 1:83، مناقب ابن شهر آشوب 3:123، كشف الغمة 1:193، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15:21.
7- . تفسير الرازي 9:51.

و الخيرات الدّنيوية وَ لا على ما أَصابَكُمْ من البلايا و المصائب، فإنّ التّمرّن على عدم الاعتداد بالمنافع و المضارّ، و الاعتياد عليه، يهون فوت المنافع و الابتلاء بالمضارّ الدّنيوية.

و قيل: إنّ المراد: لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، و لا ما أصابكم من قتل إخوانكم، أو على ما فاتكم من النّصر، و لا على ما أصابكم من الجراح.

و قيل: إنّ التّعليل للعفو، فإنّ السّرور بالعفو يزيل غمّ فوت الغنيمة و إصابة الجراح، و غمّ الابتلاء بالمعصية.

ثمّ زجرهم اللّه تعالى عن جميع المعاصي بقوله: وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ خفيّه و جليّه، فيجازيكم به، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 154

ثمّ-لمّا كان أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في احد طائفتين؛ إحداهما المؤمنون الصّادقون المخلصون، و الاخرى المنافقون الكاذبون في دعواهم الإيمان-بيّن اللّه تعالى حسن حال المؤمنين منهم، و تفضّله عليهم، أوّلا لشرفهم، بقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه عَلَيْكُمْ و أعطاكم مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ الذي اعتراكم بسبب الخوف و الهزيمة أَمَنَةً و سكينة في قلوبكم، و اطمئنانا لنفوسكم من بأس العدوّ و ضرّه، بأن ألقى عليكم لغاية سكون خاطركم في ذلك الوقت نُعاساً و وسنا، و لكن لا على جميعكم، بل كان يَغْشى و يعرض طائِفَةً خاصّة مِنْكُمْ و هم المؤمنون المخلصون.

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (154)و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: المراد من الطائفة: المهاجرون، و عامّة الأنصار (1).

و في إدخال كلمة (عامّة) على الأنصار دون المهاجرين، إشعار بعدم كون جميعهم خلّصين (2)في الإيمان، بل كان بعضهم من المنافقين، أو كان بعضهم في قوّة الإيمان بحيث لم يطرأه خوف (3)، و لم

ص: 105


1- . تفسير أبي السعود 2:101.
2- . كذا و الظاهر: مخلصين.
3- . كذا و الظاهر: لم يطرأ عليه خوف.

يألف عينيه نوم اهتماما بطاعة اللّه و حفظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأمير المؤمنين عليه السّلام.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه، قال: النّعاس في القتال أمنة، و في الصّلاة من الشّيطان (1). و ذلك لأنّه في القتال لا يكون إلاّ من غاية الوثوق باللّه و الفراغ من الدّنيا، و لا يكون في الصّلاة إلاّ من غاية البعد عن اللّه.

في غشيان النعاس

طائفة من الصحابة

و عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه أنّه قال: آمنهم بنعاس يغشاهم بعد خوف، و إنّما ينعس من آمن، و الخائف لا ينام (2).

و عن عبد الرحمن بن عوف، قال: ألقى النّوم علينا يوم احد (3).

نقل أنّ المشركين لمّا انصرفوا كانوا يتوعّدون المسلمين بالرّجوع، فلم يأمنوا كرّتهم، و كانوا تحت الحجف (4)متأهّبين للقتال، فأنزل اللّه عليهم الأمنة فأخذهم النّعاس.

و روي أنّه غشيهم النّعاس في المصاف، حتّى كان السّيف يسقط من يد أحدهم فيأخذه، ثمّ يسقط فيأخذه.

و روي أنّه قال طلحة (5): رفعت رأسي يوم احد، فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلاّ هو يمتدّ تحت حجفته من النّعاس، قال: و كنت ممّن القي عليه النّعاس يومئذ، فكان السّيف يسقط من يدي فآخذه، ثمّ يسقط السّوط من يدي فآخذه (6).

و عن الزّبير، أنّه قال: كنت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حين اشتدّ الخوف، فأنزل اللّه علينا النّوم، و اللّه إنّي لأسمع قول معتّب بن قشير و النّعاس يغشاني، ما أسمعه إلاّ كالحلم، يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا (7).

ثمّ بيّن اللّه تعالى سوء حال المنافقين منهم بقوله: وَ طائِفَةٌ اخرى منهم و هم المنافقون كعبد اللّه بن ابيّ و معتّب بن قشير و أصحابهما كانوا قَدْ أَهَمَّتْهُمْ و أوقعتهم أَنْفُسُهُمْ في تدبير النّجاة، لا همّ لهم غيره، و ذلك لكونهم في حال يَظُنُّونَ بِاللّهِ من غاية جهلهم و حمقهم ظنّا غَيْرَ الظّنّ اَلْحَقِّ و الصّواب، بل يكون ظنّهم ظَنَّ أهل اَلْجاهِلِيَّةِ .

قيل: وجه الشّبه كونه من أقبح أنواع الظّنون.

و قيل: إنّ المراد أنّهم يظنّون ظنّا ناشئا عن غاية الجاهليّة و السّفاهة؛ لأنّهم اعتقدوا أنّ أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يضمحلّ قريبا، و لن ينصره اللّه أبدا.

ص: 106


1- . تفسير الرازي 9:45.
2- . تفسير أبي السعود 2:101.
3- . تفسير الرازي 9:45.
4- . الحجف: جمع حجفة: و هي التّرس من الجلد. و في النسخة: الجفف.
5- . في تفسير أبي السعود و روح البيان: أبو طلحة.
6- . تفسير أبي السعود 2:101، تفسير روح البيان 2:112.
7- . تفسير أبي السعود 2:101.

و كانوا يَقُولُونَ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، على صورة الاسترشاد، و إنّ كان مقصودهم في الواقع الإنكار: هَلْ لَنا يا رسول اللّه مِنَ اَلْأَمْرِ الذي وعدتنا، و هو النّصر و الغلبة، و قيل: إنّ المراد: هل لنا من التّدبير في الإصلاح مِنْ شَيْءٍ قليل، و حظّ يسير قطّ؟

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه أن قُلْ لهم جوابا: إِنَّ اَلْأَمْرَ من النّصر و الظّفر و التّدبير كُلَّهُ لِلّهِ و هو بالآخرة ينصر أولياءه، و يخذل أعداءه؛ كما قال: فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ظاهر حالهم و مقالهم، كشف عن سرّهم، و ما في قلوبهم بقوله: يُخْفُونَ و يضمرون فِي أَنْفُسِهِمْ و في قلوبهم من الإنكار و التّكذيب، و قيل: إنّ المراد يقول بعضهم لبعض خفية و سرّا ما لا يُبْدُونَ و ضميرا أو كلاما لا يظهرون لَكَ خوفا و نفاقا.

ثمّ لمّا كان مقام السّؤال عمّا يخفون، فأجاب سبحانه قبل المسألة بقوله: يَقُولُونَ بطريق حديث النّفس، أو بألسنتهم فيما بينهم سرّا: لَوْ كانَ لَنا في هذه الحرب مِنَ اَلْأَمْرِ الموعود، و هو النّصر و الغلبة، أو من التّدبير و الرّأي شَيْءٍ من الحظّ و النّصيب ما قُتِلْنا بسيف الأعداء، و ما غلبنا هاهُنا .

قيل: إنّ نظرهم إلى ما رأى عبد اللّه بن أبيّ عند مشاورة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الإقامة بالمدينة و عدم الخروج منها إلى العدوّ، فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قُلْ ردّا عليهم: لَوْ كُنْتُمْ مقيمين مستترين فِي بُيُوتِكُمْ و في خبايا منازلكم في المدينة، و حتمتم على أنفسكم أن لا تخرجوا لَبَرَزَ و خرج الأشخاص اَلَّذِينَ كُتِبَ في اللّوح المحفوظ، و حتم في تقدير اللّه و قضائه عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ بسبب من الأسباب، وداع من دواعي الخروج إِلى مَضاجِعِهِمْ و مصارعهم التي قدّر اللّه قتلهم فيها، و قتلوا هنالك ألبتّة، و لم ينفعهم التصميم و العزيمة على الإقامة، فإنّ قضاء اللّه لا يردّ، و حكمه لا يعقّب، و الأجل المحتوم لا يؤخّر.

روي أنّ ملك الموت حضر مجلس سليمان عليه السّلام، فنظر إلى رجل من أهل المجلس نظرة هائلة، فلمّا قام قال الرّجل: من هذا؟ فقال سليمان: ملك الموت، قال: أرسلني مع الرّيح إلى عالم آخر، فإنّي رأيت [منه]مرأى هائلا، فأمرها عليه السّلام، فألقته في قطر سحيق من أقطار العالم، فما لبث أن عاد ملك الموت إلى سليمان فقال: كنت امرت بقبض روح ذلك الرّجل في هذه السّاعة في أرض كذا، فلمّا وجدته في مجلسك قلت: متى يصل هذا إليها، و قد أرسلته بالرّيح إلى ذلك المكان، فوجدته هناك، فقضي أمر اللّه في مكانه و زمانه (2).

ص: 107


1- . المائدة:5/56.
2- . تفسير أبي السعود 2:102.

ثمّ-لمّا كان في زعم المنافقين أنّ الخروج من المدينة، و قتل من قتل، مفسدة محضة، لم يكن فيها جهة خير و صلاح-بيّن اللّه تعالى حكمه و مصالحه، و التّقدير: أنّ الأمر بالخروج، و وقوع ما وقع، لتبلغوا إلى مصالح كثيرة وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ و يمتحن بما هو كائن ما فِي صُدُورِكُمْ من الإخلاص و النّفاق، و النّيّات السّيّئة و الحسنة وَ لِيُمَحِّصَ و ليخلّص ما هو كائن ما فِي قُلُوبِكُمْ من العقائد الحقّة عن الشّكوك و الشّبهات و الوساوس وَ اَللّهُ بذاته عَلِيمٌ أزلا بِذاتِ اَلصُّدُورِ و ما في الضّمائر من الأسرار و الخفيّات، فلا يحتاج إلى الاختيار و الامتحان، و إنّما يبرز صورة الابتلاء، لتمرين المؤمنين، و إظهار حال المنافقين.

نقل أنّ ثلث عسكر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كانوا مجروحين، و ثلثهم منهزمين، و ثلثهم ثابتين مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (1).

و روي أنّ سعد بن عثمان ورد المدينة و أخبر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قتل، ثمّ ورد بعده رجال و دخلوا على نسائهم فجعل النّساء يقلن عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تفرّون! و كنّ يحثين التّراب في وجوههم و يقلن: هاك المغزل و اغزل به (2).

و روي أنّه اصيب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نحو من ثلاثين، كلّهم يجيء و يجثو بين يديه و يقول: وجهي لوجهك الفداء، و نفسي لنفسك الفداء، و عليك السّلام غير مودّع (3).

و روي أنّ ثمانية بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الموت، ثلاثة من المهاجرين: عليّ عليه السّلام، و طلحة، و الزّبير، و خمسة من الأنصار: أبو دجانة، و الحارث بن الصمّة، و خبّاب بن المنذر، و عاصم بن ثابت، و سهل بن حنيف، ثمّ لم يقتل منهم أحد (4).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 155

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان علل إيراد البليّات و المصائب على المؤمنين و استيلاء المشركين عليهم- بيّن علّة انهزام المنهزمين، و عدم ثباتهم في الجهاد بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ عن القتال، و انهزموا عند النّزال يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ و تصادف الفريقان من المسلمين و الكفّار، لم يكن تولّيهم و انهزامهم بعلّة خروجهم من المدينة كما توهّم المنافقون، و لا لقوّة المشركين و كثرة شوكتهم، بل إِنَّمَا كان بسبب أنّه اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ و دعاهم إلى الوقوع في الخطيئة، و ارتكاب المعصية

إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

ص: 108


1- . تفسير الرازي 9:50.
2- . تفسير الرازي 9:50.
3- . تفسير الرازي 9:51.
4- . تفسير الرازي 9:51.

الكثيرة، فأجابوه و أسلموا له، و إنّما كان تسليمهم له معلّلا بِبَعْضِ ما كَسَبُوا و ارتكبوا من الذّنوب و المعاصي التي كانت دون ذلك، من مخالفة أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في حفظ الشّعب، و الحرص على الغنيمة، فصارت تلك الذّنوب موجبة لكثرة استيلاء الشّيطان عليهم، حتّى أوقعهم في أعظم المعاصي من الفرار من الزّحف و تسليم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى الأعداء حفظا لأنفسهم.

ثمّ بعد التّوبيخ بشّرهم سبحانه بالعفو بقوله: وَ لَقَدْ عَفَا اَللّهُ بعد تلك الزّلاّت و المعاصي عَنْهُمْ بفضله و سعة رحمته إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ للذّنوب حَلِيمٌ عن العاصيين، لا يعاجل بعقوبتهم، كي يتوب من في قلبه نور الإيمان، و يجري قضاؤه بمن لا نصيب له منه، و يقع ما في مكنون علمه من الفتن التي منها غصب

خلافة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و تقدّم المنهزمين في الرئاسة الإلهيّة على من بايعه على الموت.

روي أنّ عثمان عوتب في هزيمته يوم احد، فقال: إنّ ذلك و إن كان خطأ، لكنّ اللّه عفا عنه (1).

ففي توصيف ذاته المقدّسة بالمغفرة و الحلم إشعار باختلاف المنهزمين، فبعضهم غفر لهم ذنوبهم، و بعضهم حلم عنهم و أخّر عقوبتهم إلى ما بعد الموت.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 156

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان سوء عقائد المنافقين و شناعة أقوالهم-نهى المؤمنين عن موافقتهم و مماثلتهم، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا في فساد العقائد، و شناعة القول كَالَّذِينَ كَفَرُوا بقلوبهم و آمنوا بألسنتهم نفاقا، كعبد اللّه بن ابيّ، و معتّب بن قشير، و أضرابهما، وَ كالّذين قالُوا - في أنفسهم، أو تذاكروا فيما بينهم تلهّفا لِإِخْوانِهِمْ النّسبيّة و الاعتقاديّة و المذهبيّة إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ و سافروا في البراري و الجبال للتّجارة و غيرها من الأغراض، فماتوا في سفرهم أَوْ كانُوا غُزًّى و خرجوا من بلدهم مقاتلين فقتلوا في المعركة-: إنّهم لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا في المدينة ما ماتُوا في السّفر وَ ما قُتِلُوا في الغزو. فإنّهم إنّما قالوا ذلك، و اعتقدوا تلك العقيدة الفاسدة لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ القول و الاعتقاد حَسْرَةً و ندامة شديدة مستقرّة فِي قُلُوبِهِمْ في الدّنيا و الآخرة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

ص: 109


1- . تفسير الرازي 9:51.

و في جعل القول الذي هو سبب للحسرة عين الحسرة مبالغة في سببيّته لها و عدم انفكاكه عنها، و في ذكر هذه الغاية للقول دلالة على عدم ترتّب فائدة و أثر عليه غيرها.

قيل: إنّ وجه كون هذا الكلام حسرة لهم في الدّنيا، زعمهم أنّ من مات أو قتل منهم إنّما مات أو قتل بسبب تقصيرهم في حفظ القتلى، و منعهم من السّفر و القتال، و من اعتقد ذلك لا شكّ أنّه تزداد حسرته و تلهّفه.

و قيل: إنّ المراد: لا تكونو مثلهم في هذا القول الصادر عن الاعتقاد الفاسد السّيّء، ليكون ذلك القول و الاعتقاد حسرة لهم خاصّة دونكم. أو المراد: لا تكونوا مثلهم، ليكون عدم مماثلتكم حسرة لهم، أمّا في الدّنيا فلأنّهم يرونكم منصورين، مستولين على الأعداء، فائزين بالأماني، حائزين للغنائم الكثيرة، و في الآخرة يرونكم مخصوصين بكرامة اللّه و نعمه، و هم بسبب تثبّطهم عن الجهاد لهذا الاعتقاد، حرموا عن جميع ذلك.

ثمّ ردّ اللّه سبحانه قولهم بقوله: وَ اَللّهُ يُحْيِي كلّ نفس، لا الإقامة في البلد و القعود عن القتال، وَ هو يُمِيتُ كلّ حيّ، لا السّفر و القتال. فإذا أراد اللّه حياة مسافر أو مقاتل يرجعان سالمين و إن تورّطا في المهالك، و إذا أراد اللّه موت مقيم أو قاعد يموتان و إن راعيا جميع أسباب السّلامة.

ثمّ بالغ سبحانه في زجر المؤمنين عن مماثلة الكفّار، و بعد نهيهم عنها بتهديدهم عليها بقوله: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من جعل أنفسكم مماثلة لهم، و موافقتكم إيّاهم في العقائد و الأقوال و الأعمال بَصِيرٌ و مطّلع، لا يخفى عليه سرّكم و علانيتكم، فيعاقبكم على سيّئاتكم بأشدّ العقوبة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 157

ثمّ رغّب سبحانه في الجهاد بوعد الثّواب بعد الزّجر عن التّقاعد، و التّهديد عليه بقوله: وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ أيّها المؤمنون في الجهاد فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نصرة دينه أَوْ مُتُّمْ في المسافرة في طلب مرضاته، من الهجرة إلى الرّسول، و تحصيل العلم، و غير ذلك، يكون ذلك القتل و الموت مستلزمين للمغفرة عن الذّنوب، و الرّحمة الدّائمة من الجنّة و النّعم و لَمَغْفِرَةٌ كائنة مِنَ اَللّهِ لذنوبكم و نجاتكم من عذابه وَ رَحْمَةٌ عظيمة منه تعالى خَيْرٌ لكم، و أنفع مِمّا يَجْمَعُونَ هؤلاء الكفرة، من الزّخارف الدّنيويّة التي يحسبونها من الخيرات، في مدّة أعمارهم.

وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (157)

ص: 110

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: خير من طلاع الأرض (1)ذهبة حمراء (2).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 158

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد بقوله: وَ لَئِنْ مُتُّمْ في السّفر لوجه اللّه أَوْ قُتِلْتُمْ في سبيله لَإِلَى اَللّهِ العظيم الشّأن، الواسع الرّحمة، الجزيل الإحسان تُحْشَرُونَ و توفدون، و من الواضح أن الحشر إلى اللّه و الوفود عليه و نيل رضوانه، أعلى و أنبل من الحشر إلى مغفرته و رحمته.

وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ (158)قيل: في الآية إشارة إلى مراتب العبودية، ففي قوله لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ إشارة إلى من يعبده خوفا من العقاب، و في قوله: وَ رَحْمَةٌ إشارة إلى من يعبده طمعا في الثّواب، و في قوله: إلى اَللّهِ تُحْشَرُونَ إشارة [إلى]من يعيده لحبّ ذاته، و لكونه مستحقّا للعبادة.

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عمّن قتل أو مات، قال: «لا، الموت موت، و القتل قتل» قيل: ما أحد يقتل إلاّ و قد مات، فقال: «قول اللّه أصدق من قولك، ففرّق بينهما في القرآن قال: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ (3)و قال: وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ، و ليس كما قلت، الموت موت، و القتل قتل» .

قيل: فإن اللّه يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ (4)؟ قال: «من قتل لم يذق الموت-ثمّ قال-: لا بدّ من أن يرجع حتّى يذوق الموت» (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 159

ثمّ أنّه قيل: لمّا عاد المنهزمون لم يخاطبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالتّغليظ و التّشديد، و إنّما خاطبهم بكلام ليّن (6)، فمدحه اللّه تعالى بقوله: فَبِما رَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَ اَللّهِ العظيم، شاملة لك، و ربطه على قلبك، و تخصيصك بمكارم الأخلاق لِنْتَ لَهُمْ و عاملت بالرّفق معهم، و تلطّفت بهم، بعد ما كان منهم من مخالفة أمرك، و تسليمك إلى أعدائك.

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ (159)قيل: إنّ كلمة (ما) في قوله: فَبِما زائدة جيء بها للتّأكيد، و قيل: استفهاميّة في مقام التّعجّب (7)،

ص: 111


1- . طلاع الأرض: ملؤها.
2- . تفسير أبي السعود 2:104.
3- . آل عمران:3/144.
4- . آل عمران:3/185.
5- . تفسير العياشي 1:344/799 عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 1:357.
6- . تفسير الرازي 9:60.
7- . تفسير الرازي 9:61.

و المعنى: فبأيّ رحمة عظيمة من اللّه عليك ظهر منك هذا الخلق الحسن! و في إسناده إلى رحمة اللّه دلالة على أن جميع الأخلاق الحسنة بإفاضة اللّه؛ لأنّها من قبل كمال الوجود المفاض منه تعالى.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله اغتمّ لهم بعد أن خالفوه.

و روى الفخر الرازي في تفسيره: أنّ أمرأة عثمان دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو و عليّ عليه السّلام كانا يغيلان السّلاح، فقالت: ما فعل ابن عفّان؟ أما و اللّه، تجدونه (1)أمام القوم، فقال لها عليّ عليه السّلام: «ألا إنّ عثمان فضح الزّمان» . فقال صلّى اللّه عليه و آله: «مه» (2).

و في رواية: قال صلّى اللّه عليه و آله حينئذ: «أعياني أزواج الأخوات أن يتحابّوا» . ثمّ لمّا دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: «لقد ذهبتم فيها عريضة» (3).

ثمّ أشار سبحانه إلى مصلحة اللّين، و مفسدة خلافه بقوله: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا في القول و الفعل، جافيا في العشرة، كريه الخلق مع أصحابك غَلِيظَ اَلْقَلْبِ و قاسيه، غير رفيق بهم و لا رحيم لاَنْفَضُّوا و تفرّقوا مِنْ حَوْلِكَ و جوانبك، و لم يسكنوا إليك، حتّى تتمّ فائدة الرّسالة، فإنّ حكمة البعثة هي هداية الخلق، و تبليغ الشّريعة.

و من الواضح أنّه لا يتمّ إلاّ إذا مالت القلوب إلى الرّسول، و سكنت النّفوس إليه، و ذلك متوقّف على كون الرّسول عطوفا، رحيما، مداريا، رفيقا، يتجاوز عن سيّئاتهم، و يخصّهم بالبرّ و الشّفقة و المكرمة، و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله: «لا حلم أحبّ إلى اللّه من حلم إمام و رفقه، و لا جهل أبغض إلى اللّه من جهل إمام و خرقه» (2).

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل، و سوء الخلق» (5).

و قيل: لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما الشّؤم؟ قال: «سوء الخلق» (6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «ألا أنبّئكم بشرّ النّاس؟» قالوا: بلى، يا رسول اللّه، قال: «من نزل وحده، و منع رفده، و ضرب عبده» . ثمّ قال: «ألا أنبّئكم بشرّ من ذلك؟» قالوا: بلى. قال: «من لم يقل عثرة، و لم يقبل معذرة» (3).

ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى خصّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بخلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حيث كان له من لين الجانب و الرّفق بالنّاس ما لم يكن لغيره، و اختصّ عمر بخلافه، فإنّه كان له من الغلظة و الفظاظة

ص: 112


1- . في المصدر: لا تجدونه. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:61.
2- . تفسير الرازي 9:61. (5 و 6) . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:337.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:338.

و سوء الخلق ما لم يكن لأحد.

في نقل كلام لابن

أبي الحديد في

فظاظة عمر

روى ابن أبي الحديد: عن الزّبير بن بكّار، أنّ عمر كان إذا غضب على بعض أهله، لم يسكن غضبه حتّى يعضّ يده عضّا شديدا (1)، قال: و لقوّة هذا الخلق فيه أضمر عبد اللّه بن عبّاس في خلافته إبطال القول بالعول (2)، و أظهره بعده، فقيل له: هلا قلت هذا في أيام عمر؟ فقال: هبته.

و قد ارتدّ جبلة بن الأيهم عن الإسلام لتهديد عمر له، و وعيده إيّاه أن يضربه بالدّرّة (3).

و كفى في شراسة خلق عمر و فظاظتة، ما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة؛ توجيها لقدح عمر في عليّ عليه السّلام، بقوله: لكنّه امرؤ فيه دعابة (4).

من قوله: و اعلم أنّ الرّجل ذا الخلق المخصوص، لا يرى الفضيلة إلاّ في ذلك الخلق، ألا ترى أنّ الرّجل يبخل فيعتقد أنّ الفضيلة في الإمساك. و البخيل يعيب أهل السّماح و الجود، و ينسبهم إلى التّبذير، و إضاعة الحزم، و كذلك الرّجل الجواد يعيب البخلاء، و ينسبهم إلى ضيق النّفس، و سوء الظّنّ، و حبّ المال. و الجبان يعتقد أنّ الفضيلة في الجبن، و يعيب الشّجاعة، و يعتقد كونها خرقا و تغريرا بالنّفس، و الشّجاع يعيب الجبان، و ينسبه إلى الضّعف، و يعتقد أنّ الجبن ذلّ و مهانة. و هكذا القول في جميع الأخلاق و السّجايا المقسّمة بين نوع الإنسان.

و لمّا كان عمر شديد الغلظة، و عر الجانب، خشن الملمس، دائم العبوس، كان يعتقد أنّ ذاك هو الفضيلة، و أنّ خلافه نقص، و لو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشة و سماحة الخلق، لكان يعتقد أن ذاك هو الفضيلة و خلافه نقص، حتّى لو قدّرنا أنّ خلقه حاصل لعليّ عليه السّلام، و خلق عليّ عليه السّلام حاصل له، لقال في عليّ عليه السّلام: لو لا شراسة فيه.

فهو غير مطعون (5)عندي في ما قاله، و لا منسوب إلى أنّه أراد التّنقيص (6)من علي عليه السّلام و القدح فيه، و لكنّه أخبر عن خلقه ظانّا أنّ الخلافة لا تصلح إلاّ لشديد الشّكيمة، العظيم الوعورة، و بمقتضى ما كان يظنّه من هذا المعنى تمّم خلافة أبي بكر بمشاركته إيّاه في جميع تدبيراته و سياسته و سائر أحواله، لرفق و سهولة كانت في أخلاق أبي بكر.

و بمقتضى هذا الخلق المتمكّن عنده، كان يشير على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مقامات كثيرة و خطوب

ص: 113


1- . زاد في المصدر:342: حتى يدميها.
2- . العول: أن تزيد السهام في الأرث على المال الموجود.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:343، و الدّرّة: السّوط يضرب به.
4- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:326، و الدّعابة: اللّعب و الممازحة.
5- . في المصدر: غير ملوم.
6- . في المصدر: الغضّ.

متعدّدة، بقتل قوم كان يرى قتلهم، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يرى استبقاءهم و استصلاحهم، فلم يقبل عليه السّلام مشورته على هذا الخلق، كما أشار (1)عليه يوم بدر بقتل الأسرى، حيث أشار أبو بكر بالفداء، فكان الصّواب مع عمر، و نزل القرآن بموافقته، فلمّا كان في اليوم الثاني، و هو يوم الحديبية، أشار بالحرب و كره الصّلح، فنزل القرآن بضدّ ذلك، فليس كلّ وقت يصلح تجريد السّيف، و لا كلّ وقت يصلح إغماده، و السّياسة لا تجري على منهاج واحد، و لا تلزم نظاما واحدا (2).

إلى أن قال: و نحن نذكر كلاما كلّيّا في سبب الغلظة و الفظاظة، و هو الخلق المنافي للخلق الذي عليه أمير المؤمنين عليه السّلام، فنقول: إنّه قد يكون لأمر عائد إلى المزاح الجسماني، و قد يكون لأمر عائد إلى المزاح الجسماني، و قد يكون لإمر راجع إلى النّفس، فأمّا الأوّل فإنّما يكون لغلبة الأخلاط السّوداوية و ترمّدها (3)، و عدم صفاء الدّم و كثرة كدورته و عكره، فإذا غلظ الدّم و ثخن، غلظ الرّوح النّفساني و ثخن أيضا؛ لأنّه متولّد من الدّم فيحدث منه نوع ممّا يحدث لأصحاب الفطرة من الاستيحاش، و النّبوة (4)عن النّاس، و عدم الاستئناس و البشاشة، و صار صاحبه ذا جفاء، و أخلاق غليظة، و يشبّه أن يكون هذا سببا ماديّا. فإنّ الذي يقوى [في نفسي أنّ النّفوس]إن صحّت و ثبتت، مختلفة بالذّات.

و أمّا الرّاجع إلى النّفس فأن يجتمع عندها أقساط و أنصباء من قوى مختلفة مذمومة، نحو أن تكون القوّة الغضبيّة عندها متوفّرة، [و ينضاف إليها تصوّر الكمال في ذاتها و توهمّ النقصان في غيرها، فيعتقد أنّ حركات غيره واقعة على غير الصّواب و أن الصواب ما توهمه]و ينضاف إلى ذلك لجاج و ضيق [في]النفس، و حدّة و استنشاط (5)و قلّة صبر عليه، فيتولّد من مجموع هذه الأمور خلق دنيّ، و هو الغلظة، و الفظاظة، و الوعورة، و البادرة المكروهة، و حبّهم محنة (6)النّاس، و لقاؤهم بالأذى، و قلّة المراقبة لهم، و استعمال القهر في جميع الأمور، و تناول الأمر من السّماء و هو قادر على أن يتناوله من الأرض.

و هذا الخلق خارج عن الاعتدال، و داخل في حيّز الجور، و لا ينبغي أن يسمّى بأسماء المدح، و أعني بذلك أنّ قوما يسمّون هذا النّوع من العنف و الخلق الوعر رجوليّة و شدّة و شكيمة، و يذهبون به مذهب قوّة النّفس و شجاعتها، [الذي]هو بالحقيقة مدح. و شتّان ما بين الخلقين، فإنّ صاحب هذا

ص: 114


1- . في المصدر: و أما إشارته.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:327.
3- . أي صيرورتها بلون الرّماد.
4- . النّبوة: الجفوة و الابتعاد.
5- . في المصدر: استشاطة.
6- . في المصدر: المكروهة، و عدم حبّه.

الخلق الذي ذممناه، تصدر عنه أفعال كثيرة يجور بها على نفسه، ثمّ على إخوانه، ثم الأقرب فالأقرب (1)، حتّى ينتهي إلى عبيده و حرمه، فيكون عليهم سوط عذاب، لا يقيلهم عثرة، و لا يرحم لهم عبرة، و إن كانوا برآء من الذّنوب، غير مجرمين، و لا مكتسبي سوء، بل يتجرّم عليهم و يهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم حتّى يبسط يده و لسانه، و هم لا يمتنعون منه، و لا يتجاسرون على ردّه عن أنفسهم، بل يذعنون له، و يقرّون بذنوب لم يقترفوها، استكفافا لعاديته، و تسكينا لغضبه، و هو في ذلك يستمرّ على طريقته، لا يكفّ يدا و لا لسانا.

و أصل هذا الخلق الذي ذكرناه أنّه مركّب من قوى مختلفة شدّة: القوّة الغضبيّة، فهي الحاملة لصاحب هذا الخلق على ما يصدر عنه من البادرة المكروهة، و الجبه و القحة (2)، و لهذا رأينا و شاهدنا من تشتدّ القوّة الغضبيّة فيه فيتجاوز الغضب عن نوع الإنسان إلى البهائم التي لا تعقل، و إلى الأواني التي لا تحسّ، فربما قام إلى الحمار و البرذون فضربهما و لكزهما، و ربّما كسر الآنية لشدّة غضبه، و ربّما عضّ القفل إذا تعسّر عليه، و ربّما كسر القلم إذا تعلّقت به شعرة من الدّواة و اجتهد في إزالتها فلم تزل.

ثمّ حكى عن الزّبير بن بكّار بعض سيّئات عمر عند غضبه و الشّنان (3)الذي كان بينه و بين طلحة، حتّى همّ أن يوقع به، و حتّى همّ طلحة أن يجاهره، و طلحة هو الذي قال لأبي بكر عند موته: ماذا تقول لربّك و قد ولّيت فينا فظّا غليظا؟ و هو القائل له: يا خليفة رسول اللّه، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته و أنت حيّ تأخذ على يديه، فكيف يكون حالنا معه و أنت ميّت و هو الخليفة؟

ثمّ قال ابن أبي الحديد: و اعلم أنّا لا نريد بهذا القول ذمّه رضى اللّه عنه، و كيف نذمّه و هو أولى النّاس بالمدح و التّعظيم، ليمن نقيبته، و بركة خلافته، و كثرة الفتوح في أيّامه، و انتظام امور الإسلام على يده، و لكنّا أردنا أن نشرح حال العنف و الرّفق، و حال سعة الخلق و ضيقه، و حال البشاشة و العبوس، و حال الطّلاقة و الوعورة (4).

في نقل كلام ابن أبي

الحديد في حسن

خلق أمير

المؤمنين عليه السّلام

و حلمه

إلى أن قال: في حلم أمير المؤمنين عليه السّلام و صفحه ولينه، حلمه و صفحه عن مروان بن الحكم بعد وقعة الجمل، و ظفره عليه؛ مع أنّه من أشدّ النّاس عداوة له، و صفحه عن عائشة و إرجاعها إلى المدينة محترمة مكرّمة، و معاملته مع أهل البصرة معاملة رسول

ص: 115


1- . في المصدر: على الأقرب فالأقرب من معامليه.
2- . الجبه: المقابلة بما يكره الآخر، و القحة: هي قلّة الحياء و الاجتراء على فعل المساوئ.
3- . في المصدر: الشأن.
4- . شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6:340-344.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أهل مكّة بعد الفتح، مع أنّهم حاربوه و ضربوا وجهه و وجه أولاده بالسّيف، و واجهوه بالشّتم و اللّعن (1).

و قال أيضا في مقدّمة شرحه: إنّه عليه السّلام كان أحلم النّاس. ثمّ استشهد بحلمه عن هؤلاء و غيرهم من أعدائه، مع قدرته على الانتقام. إلى أن قال: و أمّا سجاحة الأخلاق (2)، و بشر الوجه، فإنّه عليه السّلام المضروب به المثل، حتّى عابه بذلك أعداؤه. . . (3)إلى آخره.

و إنّما بسطنا الكلام و خرجنا عمّا هو المقصود من وضع الكتاب في المقام؛ لأن يشهد الورق عند اللّه على ولايتي لأوليائه، و براءتي من أعدائه يوم القيامة.

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح نبيّه باللّين و الرّفق، رتّب عليه الأمر بلوازمه اهتماما به، بقوله: فَاعْفُ و تجاوز عَنْهُمْ في ما يتعلّق بحقوقك، كما عفا اللّه عنهم في ما تعلّق بحقوقه من الذّنب وَ اِسْتَغْفِرْ اللّه لَهُمْ في جميع معاصيهم، إتماما للشّفقة عليهم، و إكمالا للبرّ بهم وَ شاوِرْهُمْ و استطلع آراءهم فِي اَلْأَمْرِ المهمّ عندك، حربا كان أو غيره، لتطييب قلوبهم، و الإحاطة بمراتب عقولهم و خلوصهم و حبّهم، و تعليمهم المشورة في الأمور، و إجراء تلك السّنّة في الامّة.

روى الفخر الرازي: عن الواحدي، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: الذي أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمشاورته في هذه الآية أبو بكر و عمر (4).

ثمّ قال: و عندي فيه إشكال؛ لأنّ الّذين أمر اللّه نبيّه بمشاورتهم في هذه الآية هم الّذين أمره بأن يعفو عنهم و يستغفر لهم، و هم المنهزمون. فهب أنّ عمر كان منهم فدخل تحت الآية، إلاّ أنّ أبا بكر ما كان منهم، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟ (5).

في استفادة قدح

الشيخين من رواية

ابن عبّاس

أقول: و بعد أنّه نفسه روى أنّ عمر كان من المنهزمين (4)، و اتّفاق أكثر أصحابه عليه، لم يكن مجال لقوله: (هب أنّه كان منهم) لدلالة هذا الكلام على عدم التّسليم. ثمّ بعد تسليمه دلالة رواية ابن عبّاس بالالتزام على أن أبا بكر كان من المنهزمين، لا وجه لإنكاره، و جعله وجها للأشكال في الرّواية، مع أنّ ابن عبّاس كان أتقن من غيره، و تأيّدها بالاعتبار، لوضوح عدم كون أبي بكر أقوى إيمانا و أربط جأشا من عمر، و لدلالة الإخاء الذي جعله الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بينهما على أنّهما فرسا رهان.

ص: 116


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1:22-23.
2- . سجاحة الأخلاق: ليونتها و سهولتها.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1:25. (4 و 5) . تفسير الرازي 9:67.
4- . تفسير الرازي 9:50.

ثمّ أنّ الرّواية دالّة على قدح عظيم فيهما، حيث إنّها-لدلالتها على تخصيص المشورة بهما، مع وضوح أنّ مشورة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانت لتطييب القلوب-دالّة على أنّ حفظ الإسلام كان موقوفا على تطييب قلوبهما، و حفظ خاطرهما أزيد من تطييب قلوب المنهزمين؛ لأنّه لا يؤمن مع ملالة خاطرهما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من إخلالهما في أمره، و إفسادهما في دينه، فافهم.

و عن العيّاشي رحمه اللّه: كتب الجواد عليه السّلام إلى عليّ بن مهزيار «أن سل فلانا أن يشير عليّ و يتخيّر لنفسه، فهو يعلم ما يجوز في بلده، و كيف يعامل السّلاطين، فإنّ المشورة مباركة، قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله في محكم كتابه-و تلا هذه الآية و قال-: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ يعني: الاستخارة» (1).

في (نهج البلاغة) : «من استبدّ برأيه هلك، و من شاور الرّجال شاركها في عقولها» (2).

و فيه: «الاستشارة عين الهداية، و قد خاطر من استغنى برأيه» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «و شاور في أمرك الّذين يخشون اللّه» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على وجوب التّوكّل على اللّه في إنجاح المقصود بعد المشاورة؛ بقوله: فَإِذا عَزَمْتَ و أحكمت الرّأي بعد المشاورة على عمل، و اطمأنّت به نفسك، فلا تعتمد عليه، بل إذا أردت إنفاذه فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ و اعتمد عليه فيه، حتّى يرشدك إلى ما هو أصلح و أرشد لك، حيث إنّه لا يعلم ما هو الأصلح من جميع الجهات في الواقع إلاّ اللّه، لا أنت و لا من تشاوره.

في معنى التوكل

ثمّ بيّن سبحانه فضيلة التّوكّل ترغيبا إليه بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ في امورهم عليه، حيث إنّ التّوكّل على اللّه، و تفويض الأمور إليه، لا يكون إلاّ بعد معرفته، و معرفته ملازمة لمحبّته، و من أحبّ اللّه أحبّه اللّه، و من أحبّه اللّه نصره و هداه إلى كلّ خير و صلاح.

قيل: إنّ الآية دالّة على أنّ التّوكّل ليس معناه أن يهمل الإنسان نفسه، و لا يراعي الأسباب الظّاهرة، كما توهّمه كثير من الجهّال، و إلاّ لكان أمره تعالى بالمشاورة منافيا لأمره بالتّوكّل، بل معناه أن يراعي الإنسان جميع الأسباب و المعدّات الظاهريّة، و لكن لا يعوّل بقلبه عليها، بل يعوّل على لطف اللّه و عصمته.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 160

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (160)

ص: 117


1- . تفسير العياشي 1:348/804، تفسير الصافي 1:364.
2- . نهج البلاغة:500/161، تفسير الصافي 1:364.
3- . نهج البلاغة:506/211، تفسير الصافي 1:364.
4- . الخصال:169/222، تفسير الصافي 1:364.

ثمّ بالغ سبحانه في حثّ المؤمنين على التّوكّل، بتوجيه الخطاب إليهم تشريفا لهم و تحبيبا، بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ أيّها المؤمنون على أعدائكم، كما نصركم يوم بدر فَلا غالِبَ لَكُمْ من الموجودات، و لا قاهر عليكم من الممكنات، بل أنتم الغالبون القاهرون وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ اللّه، و يترك نصركم، و يخلّي بينكم و بين الأعداء، كما خذلكم يوم احد فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ على الأعداء، و يقدر على عونكم في الأمور مِنْ بَعْدِهِ و عند خذلانه.

ثمّ بعد التّنبيه على أنّ جميع الأمور من النّصر، و الخذلان، و غيرهما، بإرادة اللّه و قضائه، أكّد وجوب التوكل على عباده، بقوله: وَ عَلَى اَللّهِ وحده دون غيره

استقلالا و تشريكا فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ كلّهم في كلّ الأمور، و ليعتمد على لطفه العارفون، لاستلزام العرفان و الإيمان به، سلب القدرة عن النّفس، و تفويض الأمور إليه، و الاعتماد بلطفه و فضله.

في فضيلة التوكل

عن عمران بن حصين، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يدخل سبعون ألفا من أمّتي الجنّة بغير حساب» . قيل: يا رسول اللّه، من هم؟ قال: «هم الّذين لا يكيدون، و لا يسترقون، و لا يتطيّرون، و على ربّهم يتوكّلون» .

فقال عكاشة بن محصن: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني منهم. قال صلّى اللّه عليه و آله: «أنت منهم» ، ثمّ قام آخر، فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال: «سبقك بها عكاشة» .

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «لو أنّكم تتوكّلون على اللّه حقّ توكّله، يرزقكم كما يرزق الطّير، تغدو خماصا، و تروح بطانا» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 161

ثمّ أنّه روي أنّ الرّماة الّذين تركوا المركز يوم احد، و أفاضوا في طلب الغنيمة، قالوا: نخشى أن يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أخذ شيئا فهو له، و لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّمها يوم بدر، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتّى يأتيكم أمري؟» . فقالوا: تركنا بقيّة إخواننا وقوفا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل ظننتم أنّا نغلّ (2)و لا نقسّم بينكم» (3).

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)فنزّه اللّه تعالى نبيّه عن الغلول و الخيانة بقوله: وَ ما كانَ يصحّ و ينبغي لِنَبِيٍّ و لا يستقيم له، مع

ص: 118


1- . تفسير روح البيان 2:117.
2- . الغلّ: الخيانة.
3- . تفسير روح البيان 2:118.

كونه أمين اللّه في أرضه أَنْ يَغُلَّ المسلمين، و يخونهم في الغنيمة، لغاية التّنافي بين ذلك المنصب، الذي هو أعلى درجة كمال الإنسانيّة، و بين الخيانة التي هي سبب للعار في الدّنيا، و النّار في الآخرة.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث طلائع، فغنم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعدهم، فقسّمها بين الحاضرين، و لم يترك للطلائع شيئا، فنزلت (1).

و المعنى: ما كان لنبيّ أن يعطي قوما من العسكر الغنيمة، و يمنعها من الآخرين، بل عليه أن يقسّمها بين الكلّ بالسّويّة. و إنّما عبّر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول للتّغليظ في النّهي.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ أشراف النّاس طمعوا أن يخصّهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الغنائم بشيء زائد، فنزلت (2).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله غنم في بعض الغزوات و جمع الغنائم، و تأخّرت القسمة لبعض الموانع، فجاء قوم فقالوا: ألا تقسّم غنائمنا؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لو كان لكم مثل احد ذهبا ما حبست عنكم درهما، أتحسبون أنّي أغللكم مغنمكم!» فأنزل اللّه هذه الآية (3).

و عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في حرب بدر، و كان سبب نزولها أنّه كان في الغنيمة التي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء ففقدت، فقال رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما لنا لا نرى القطيفة؟ ما أظنّ إلاّ رسول اللّه أخذها! فأنزل اللّه في ذلك هذه الآية، فجاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ فلانا غلّ قطيفة، فاحفرها (2)هنالك، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحفر ذلك الموضع، فأخرج القطيفة (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رضا النّاس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط، . . . ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنّه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتّى أظهر اللّه القطيفة، و برّأ نبيّه من الخيانة، و أنزل في كتابه: وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ الآية (4). و عن عكرمة ما يقرب منه (5).

و روي أنّها نزلت في أداء الوحي، [حيث]كان صلّى اللّه عليه و آله يقرأ القرآن، و فيه عيب دينهم، و سبّ آلهتهم، فسألوه أن يترك ذلك، فنزلت (6).

ثمّ أنّه تعالى بعد تنزيه الأنبياء عن الغلول بيّن شدّة قبحه و حرمته تأكيدا لنزاهتهم عنه، بقوله: وَ مَنْ يَغْلُلْ و يخون في مال في الدّنيا يَأْتِ بِما غَلَّ و خان فيه بعينه، حاملا [له]على ظهره يَوْمَ

ص: 119


1- . تفسير روح البيان 2:118. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:70.
2- . في المصدر: فاخبأها.
3- . تفسير القمي 1:126، تفسير الصافي 1:365.
4- . أما لي الصدوق:164/163، تفسير الصافي 1:365.
5- . تفسير الرازي 9:70.
6- . تفسير الرازي 9:70.

اَلْقِيامَةِ .

في حرمة الخيانة

و شدة عذابها

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، أنّه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنّم، ثمّ يقال له: أنزل إليه فخذه، فينزل إليه، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره، فلا يقبل منه (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ألا لأعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء، و ببقرة لها خوار، و بشاة لها ثغاء، فينادي: يا محمّد، يا محمّد! فأقول: لا أملك لك من اللّه شيئا، فقد بلّغتك» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من بعثناه على عمل فغلّ شيئا، جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» (3).

قيل لأبي هريرة: كيف يأتي بما غلّ و هو كثير كبير، بأن غلّ أموالا جمّة؟ فقال: أ رأيت من كان ضرسه مثل احد، و فخذه مثل جبل (4)، و ساقه مثل ودقان (5)، و مجلسه ما بين المدينة و ريدان (6)، يحمل مثل هذا؟ و قيل: إنّ المراد: يأت بما احتمل من إثمه (7).

ثُمَّ تُوَفّى و تعطى كاملا كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس ما كَسَبَتْ و حصلت في مدّة عمرها من جزاء عملها، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا، لا بزيادة العذاب، و لا بتنقيص الثّواب.

قيل: كان المناسب أن يقال: ثمّ يوفّى الغالّ ما كسب (8)، و إنّما عدل عنه إلى حكم عموم النّاس ليكون كالبرهان على المقصود، و المبالغة فيه، فإنّه إذا كان كلّ كاسب مجزيّا بعمله، فالغالّ مع عظم جرمه أولى بذلك (9).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعل سلمان رضوان اللّه عليه على الغنيمة، فجاءه رجل و قال: يا سلمان، كان في ثوبي خرق، فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به، فهل عليّ جناح؟ فقال سلمان: كلّ شيء بقدره، فسلّ الرّجل الخيط من ثوبه، ثمّ ألقاه في المتاع (10).

و روي أنّ رجلا جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بشراك (11)أو شراكين من الغنم، فقال: أصبت هذا يوم خيبر، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «شراك أو شراكان من نار» (12).

و روي أنّ رجلا رمي بسهم في خيبر، فقال القوم لمّا مات: هنيئا له الشّهادة، فقال [النبيّ صلّى اللّه عليه و آله]: «كلاّ.

ص: 120


1- . تفسير الرازي 9:73.
2- . تفسير الرازي 9:73، تفسير روح البيان 2:118.
3- . تفسير الرازي 9:69، تفسير روح البيان 2:118.
4- . جبل: منطقة يراد بها العراق.
5- . ودقان: اسم موضع.
6- . ريدان: حصن باليمن.
7- . تفسير روح البيان 2:118.
8- . في النسخة: توفّى الغال ما كسبت.
9- . تفسير روح البيان 2:118.
10- . تفسير الرازي 9:70.
11- . الشّراك: سير النّعل على ظهر القدم.
12- . تفسير الرازي 9:70.

و الذي نفس محمّد بيده، إنّ الشّملة (1)التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلهب (2)عليه نارا» (3).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «هدايا الولاة غلول» (4).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 162

ثمّ أكدّ سبحانه تنزّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الخيانة ببيان التّنافي بين مرتبة النّبوة المستلزمة للتّمحّض في طاعة اللّه و طلب مرضاته، و بين ارتكاب الظّلم الذي هو أشدّ القبائح و أكبر المعاصي، بقوله: أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ و سعى في العمل بطاعته، من الإيمان به و باليوم الآخر، و امتثال أحكامه التي منها حرمة الغلول.

أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (162)و قيل: إنّ المعنى: أمن اتّقى فاتّبع رضوان اللّه يمكن أن يكون كَمَنْ باءَ و رجع إلى محضر عدله ملتبسا بِسَخَطٍ عظيم، و غضب شديد، و مستحقا للعذاب الأليم الكائن مِنَ اَللّهِ العظيم بسوء أعماله، و عظم معاصيه؟

عن الصادق عليه السّلام: «الذين اتّبعوا رضوان اللّه هم الأئمّة عليهم السّلام» (5).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «و الّذين باءوا بسخط من اللّه هم الّذين جحدوا حقّ عليّ عليه السّلام، و حقّ الأئمّة منّا أهل البيت، فباءوا لذلك بسخط اللّه» (6).

وَ كان مَأْواهُ و مستقرّه في الآخرة جَهَنَّمُ و الدّرك (5)من النّار، وَ هي بِئْسَ اَلْمَصِيرُ قيل: الفرق بين المصير و المرجع: أنّ المصير يجب أن يخالف المقرّ الأوّل، و ليس كذلك المرجع.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 163

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان المباينة بين المطيع و العاصي-نبّه على أنّ النّفوس الإنسانية مختلفة بالماهيّة و الحقيقة، كما عليه جمع من الحكماء، و دلّت عليه روايات الطّينة (6)، و حديث: «النّاس كمعادن الذّهب و الفضّة» (7)بعضها نورانية، و بعضها ظلمانيّة، و بعضها زكيّة، و بعضها بليدة.

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)و لمّا كان اختلافها في درجات القرب و البعد دائرا مدار هذا الاختلاف، عبّر عنه بنفس الدّرجات

ص: 121


1- . الشّملة: ثوب أو كساء من صوف أو شعر، يتغطّى به أو يتلفّف به.
2- . في تفسير الرازي: لتلتهب.
3- . تفسير الرازي 9:70.
4- . تفسير الرازي 9:69. (5 و 6) . تفسير العياشي 1:349/806، تفسير الصافي 1:366.
5- . الدّرك: أسفل كل شيء.
6- . انظر الكافي 2:2 باب 1.
7- . بحار الأنوار 61:65/51.

بقوله: هُمْ بسبب اختلاف أحوالهم و تباين أخلاقهم دَرَجاتٌ و طبقات متفاوتة عِنْدَ اَللّهِ و في علمه و حكمه، فكما أنّ أهل الجنّة مختلفون في الدّرجات، كذلك أهل النّار مختلفون في الدّركات.

عن الرضا عليه السّلام: «الدّرجة ما بين السّماء و الأرض» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأئمّة و اللّه، درجات للمؤمنين، و بموالاتهم و معرفتهم إيّانا يضاعف اللّه لهم أعمالهم، و يرفع لهم الدّرجات العلى» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «[أن]أهون أهل النّار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرّهما دماغه، ينادي: يا ربّ، و هل أحد يعذّب عذابي؟» (3).

قيل: في الآية حذف، و التّقدير: لهم درجات، أو: هم ذوو درجات.

ثمّ لمّا كان توفية جزاء الأعمال، و عطاء الدّرجات بها، متوقّفة على العلم بها، بيّن سعة علمه بقوله: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ و محيط علما بِما يَعْمَلُونَ من الحسنات و السّيّئات، بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 164

ثمّ بالغ سبحانه في الزّجر عن نسبة الغلول و كلّ ما لا يليق بساحة نبيّه إليّه، و وجوب حفظ حرمته، و الالتزام بطاعته، و معرفة قدره، ببيان كونه صلّى اللّه عليه و آله من أعظم نعم اللّه على أهل العالم، بقوله: لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ و تفضّل بنعمة عظيمة عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ من غير توقّع عوض. و تخصيصهم بالامتنان لزيادة انتفاعهم بها، و إن كانت نعمة على المؤمن و الكافر، بل نعمة على العالمين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ و أرسل إليهم رَسُولاً عظيم الشّأن.

لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

في فوائد كون

الرّسول صلّى اللّه عليه و آله من

العرب

و من كمال تلك النّعمة أنّ ذلك الرّسول كان مِنْ أَنْفُسِهِمْ و من جنسهم ليأنسوا به، و من أهل لسانهم ليفهموا لسانه، و من قبيلتهم ليكونوا واقفين على أخلاقه و كمالاته، و يفتخروا على العالم بالانتساب إليه، أو كونهم قومه، حيث إنّه حصل للعرب بكونه صلّى اللّه عليه و آله عربيّا شرف عظيم بعد كونهم قبل بعثته من أذلّ النّاس و أبعدهم من شؤون الإنسانيّة.

ص: 122


1- . تفسير العياشي 1:350/807، تفسير الصافي 1:366.
2- . تفسير العياشي 1:349/806، تفسير الصافي 1:366.
3- . تفسير الرازي 9:76.

قيل: إنّ من فوائد كونه صلّى اللّه عليه و آله من أنفسهم وجوه:

الأوّل: أنّه صلّى اللّه عليه و آله ولد فيهم و في بلدهم، و نشأ فيما بينهم، و هم كانوا عارفين بأحواله، مطّلعين على جميع أقواله و أفعاله، فما شاهدوا منه من أوّل عمره إلى آخره إلاّ الصّدق و العفاف، و عدم الالتفات إلى الدّنيا، و البعد عن الأخلاق الرّذيلة و الكذب. ثمّ ادّعى النّبوّة و الرّسالة، التي يكون الكذب في مثل هذه الدّعوى من أقبح أنواع الكذب، فمن عرفه بهذه الكمالات يغلب على ظنّه، بل يتيقّن أنّه صادق في هذه الدّعوى.

الثاني: أنّهم كانوا عالمين بأنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يتلمذ لأحد، و لم يقرأ كتابا، و لم يمارس درسا و لا تكرارا، و أنّه إلى تمام الأربعين لم ينطق قطّ بحديث النّبوّة و الرّسالة. ثمّ أنّه بعد الأربعين ادّعى الرّسالة، و ظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على لسان أحد من العالمين، و ذكر قصص المتقدّمين و أحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم، فكلّ من له عقل سليم علم أنّ هذا لا يتأتّى إلا بالوحي السّماوي، و الإلهام الإلهي.

الثالث: أنّه بعد ادّعاء النّبوّة، عرضوا عليه الأموال الكثيرة و الأزواج ليترك هذه الدّعوى، فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر و صبر على المشقّة، و لمّا علا أمره، و عظم شأنه، و أخذ البلاد، و عظمت الغنائم، لم يغيّر طريقه في البعد عن الدّنيا، و الدّعوة إلى اللّه. و الكاذب إنّما يقدم على الكذب ليجد الدّنيا، فإذا وجدها تمتّع بها، و توسّع فيها، فلمّا لم يفعل شيئا من ذلك علم أنّه كان صادقا.

الرابع: أنّ الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلاّ تقرير التّوحيد، و التّنزيه، و العدل، و النّبوّة، و إثبات المعاد، و شرح العبادات، و تقرير الطّاعات. و معلوم أنّ كمال الإنسان في أن يعرف الحقّ لذاته، و الخير لأجل أن يعمل به، و لمّا كان كتابه ليس إلاّ في تقرير هذين الأمرين، علم كلّ عاقل أنّه صادق في ما يقوله.

الخامس: أنّ قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان، و هو عبادة الاوثان، و أخلاقهم أرذل الأخلاق، و هي الغارة، و النّهب، و القتل، و أكل الأطعمة الرّديئة. ثمّ لمّا بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله نقلهم اللّه ببركة مقدمه (1)، من تلك الدّرجة التي هي أخسّ الدّرجات، إلى أن صاروا أفضل الامم في العلم و الزّهد و العبادة، و عدم الالتفات إلى الدّنيا و طيّباتها. و لا شكّ أنّ فيه أعظم النّعمة و المنّة.

إذا عرفت هذه الوجوه، فنقول: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله ولد فيهم، و نشأ فيما بينهم، و كانوا مشاهدين لهذه

ص: 123


1- . في النسخة: بلغهم اللّه بتركه مقدمة.

الأحوال، مطّلعين على هذه الدّلائل، فكان إيمانهم مع مشاهدة الأحوال أسهل ممّا إذا لم يشاهدوها، و لم يطّلعوا عليها (1).

و روي عن أبي طالب رضوان اللّه عليه أنّه قال في خطبته، عند تزويج خديجة: ثمّ إنّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه، من لا يوزن به فتى من قريش إلاّ رجح به، و هو و اللّه له نبأ (2)عظيم (3).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أعظم فوائد بعثته من تكميل قوّتي العلميّة و العمليّة فيهم، بقوله: يَتْلُوا و يقرأ عَلَيْهِمْ أوّلا، لإثبات صدق دعوته، و كونه مبعوثا من جانب اللّه آياتِهِ القرآنيّة المشتملة على علوم كثيرة، مع إعجاز البيان الدّالّ على كونها ممّا أوحي إليه بعدما كانوا جهّالا لم يسمعوا الوحي، وَ بعد ذلك يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم من أدناس العقائد الفاسدة، و الأهواء الزّائغة، و الأرجاس الجاهليّة، و أنجاس الأخلاق الرّذيلة، و الأعمال السّيّئة وَ يُعَلِّمُهُمُ بعد التّلاوة ذلك اَلْكِتابَ المنزل، و يبيّن لهم حقائقه و تأويلاته، و يوضّح متشابهاته، وَ يدرّسهم اَلْحِكْمَةَ و السّنن الإلهيّة.

ثمّ بالغ سبحانه في إيضاح كمال النّعمة بقوله: وَ إِنْ كانُوا كلّهم مِنْ قَبْلُ بعثته، و في الأزمنة المتطاولة السّابقة على طلوع شمس نبوّته، و إشراق نور هدايته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و تيه الجهالة متحيّرين، يرعون كالبهائم في مرعى الشّهوات، و يتردّدون عمي العيون في الظّلمات.

في نقل رؤيا

عبد المطلب

روى العامّة من طرقهم: أنّ عبد المطّلب جدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بينا هو نائم في الحجر انتبه مذعورا، قال العبّاس: فتبعته، و أنا يومئذ غلام أعقل ما يقال، فأتى كهنة (4)قريش فقال: رأيت كأنّ سلسلة من فضّة خرجت من ظهري، و لها أربعة أطراف: طرف قد بلغ مشارق الأرض، و طرف قد بلغ مغاربها، و طرف قد بلغ عنان السّماء، و طرف قد جاوز الثّرى، فبينا أنا أنظر عادت شجرة خضراء لها نور، فبينا أنا كذلك إذ قام عليّ شيخان فقلت لأحدهما: من أنت؟ قال: أنا نوح نبيّ ربّ العالمين، و قلت للآخر: من أنت؟ قال: إبراهيم خليل ربّ العالمين، ثمّ انتبهت.

قالوا: إن صدقت رؤياك، ليخرجنّ من ظهرك من (5)يؤمن به أهل السّماوات و أهل الأرض، و دلّت السّلسلة على كثرة أتباعه و أنصاره و قوّتهم، لتداخل حلق السّلسلة، و رجوعها شجرة تدلّ على ثبات أمره و علوّ ذكره، و سيهلك من لم يؤمن به كما هلك قوم نوح، و ستظهر به ملّة إبراهيم عليه السّلام (6).

أقول: هذه الرّواية و الرّواية السّابقة دالّتان على إيمان عبد المطّلب، و أبي طالب عليهما السّلام به صلّى اللّه عليه و آله قبل

ص: 124


1- . تفسير الرازي 9:79 و 80.
2- . في النسخة: بناء، و في روح البيان: و اللّه له بعد هذا نبأ.
3- . تفسير روح البيان 2:120.
4- . الكهنة: جمع كاهن، و هو المنجّم عند العرب.
5- . في تفسير روح البيان: نبيّ.
6- . تفسير روح البيان 2:121.

بعثته.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 165

ثمّ أنّه تعالى-بعد ما نزّه نبيّه عن الغلول، و بيّن امتناع صدور ذلك الفعل الشّنيع ممّن له منصب النّبوّة-أشار سبحانه إلى الشّبهة التي ألقاها المنافقون بين الضّعفاء من المؤمنين، و وبّخهم عليها أوّلا بقوله: أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ، قالوا: الاستفهام للتّوبيخ، و المعنى: أحين أصابتكم من المشركين في احد مُصِيبَةٌ و بليّة؛ من القتل و الجرح، مع أنّكم قَدْ أَصَبْتُمْ في يوم بدر منهم مِثْلَيْها و أوردتم عليهم من القتل و الجرح و الأسر ضعف ما ورد عليكم، جزعتم؟ و قُلْتُمْ إنكارا للنّبوّة، أو أستبعادا لما وقع أَنّى هذا البلاء؟ و من أين هذه الغلبة للمشركين؟ و لأيّ وجه صاروا منصورين؛ مع شركهم و كفرهم؟ و نحن ننصر رسول اللّه. و قال المنافقون: لو كان محمّد نبيّا لما اصيب المؤمنون، و لما انهزم عسكره من الكفّار.

أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة و أربعين رجلا؛ قتلوا سبعين رجلا، و أسروا سبعين، فلمّا كان يوم احد أصيب من المسلمين سبعون رجلا، فاغتمّوا لذلك» (1).

ثمّ أمر اللّه نبيّه بأن يبيّن لهم سبب الإصابة، ردّا على المنافقين، و تنبيها للمؤمنين، بقوله: قُلْ لهم: لا تشكّوا في نبوّتي لأجل ما أصابكم، إذ هُوَ كائن مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ و نازل عليكم بسوء فعالكم و عصيانكم.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «هو باختياركم الفداء يوم بدر» (2).

عن القمّي رحمه اللّه: كان الحكم في الأسارى يوم بدر القتل، فقامت الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه، هبهم لنا و لا تقتلهم حتّى نفاديهم، فنزل جبرئيل عليه السّلام فقال: إنّ اللّه قد أباح لهم الفداء بأن يأخذوا من هؤلاء القوم و يطلقوهم، على أن يستشهد منهم في عام قابل بعدد من يأخذون منهم الفداء، فأخبرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا الشّرط، فقالوا: قد رضينا به، نأخذ العام الفداء من هؤلاء و نتقوّى به، و يقتل منّا في عام قابل بعدد من نأخذ منه الفداء، و ندخل الجنّة.

فأخذوا منهم الفداء و أطلقوهم، فلمّا كان يوم احد قتل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعون، فقالوا:

ص: 125


1- . تفسير العياشي 1:350/808، تفسير الصافي 1:366.
2- . مجمع البيان 2:877، تفسير الصافي 1:367.

يا رسول اللّه، ما هذا الذي أصابنا، و قد كنت تعدنا النّصر؟ فأنزل اللّه: أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ إلى قوله: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي بما شرطتم يوم بدر (1).

و روى الفخر الرازي في تفسيره، عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما يقرب منه (2).

ثمّ أنّه تعالى لزيادة الرّوعة في قلوب المؤمنين، و ارتداعهم عن المعصية، نبّههم بقدرته الكاملة، بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من العقوبة بالقتل و المصائب، و النّصر و الخذلان قَدِيرٌ لا يمنعه شيء عن إنفاذ إرادته، و لا يحتاج إلى شيء في إجراء مشيئته.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 166 الی 167

ثمّ أشار سبحانه إلى عدم انحصار سبب المصيبة في ما ذكر بقوله: وَ ما أَصابَكُمْ من المصائب يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ و حين تلاقى العسكران؛ عسكر المسلمين، و عسكر المشركين عند جبل احد فَبِإِذْنِ اَللّهِ و تقديره و إرادته التي هي عين العلم بحكم كثيرة وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ و يظهر إيمانهم

وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نافَقُوا مع الرّسول أصحابه، و يظهر كفرهم، و هم عبد اللّه بن ابيّ، و معتّب بن قشير و أصحابهما، حيث خذلوا المسلمين، و انصرفوا يوم احد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ عند ذلك قِيلَ لَهُمْ و القائل عبد اللّه بن حزام، أبو جابر، قال: يا قوم، اذكروا اللّه أن تخذلوا نبيّكم و قومكم تَعالَوْا و ارجعوا إلى الجهاد و قاتِلُوا المشركين فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نصرة دينه إن كنتم تحبّون اللّه و رسوله أَوِ اِدْفَعُوا عنّا الأعداء بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا، فإنّ كثرة السّواد ممّا يروّع العدوّ، و يزيد في الهيبة و العظمة في نظرهم.

وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اَللّهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوِ اِدْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاَتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)و قيل: إنّ المراد: ادفعوا العدوّ عن بلدكم و أهلكم و حريمكم، و قاتلوا دونهم إن لم تقاتلوا في سبيل اللّه. و على أي تقدير، فلمّا رأوا إلحاح عبد اللّه بن حزام و إصراره في منعهم عن الانصراف قالُوا في جوابه دغلا و استهزاء بالرّسول و المؤمنين: لَوْ نَعْلَمُ ما يصحّ أن يسمّى قِتالاً لاَتَّبَعْناكُمْ و ساعدناكم عليه، إلاّ أنّه ليس بقتال، لعدم كونه عن تدبير و رأي متين، بل هو إلقاء النّفس في التّهلكة. و إنّما قالوا ذلك لأنّ عبد اللّه بن ابيّ كان يرى الإقامة في المدينة، و لم يستصوب الخروج إلى احد.

ص: 126


1- . تفسير القمي 1:126، تفسير الصافي 1:367.
2- . تفسير الرازي 9:82.

ثمّ كشف اللّه سريرتهم بقوله: هُمْ لِلْكُفْرِ لكونه راسخا في قلوبهم، يَوْمَئِذٍ و حين انصرافهم، و قولهم ما قالوا أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لكونه لعقة على ألسنتهم و قيل: المراد أنّ هؤلاء المنافقين لأهل الكفر أقرب نصرة يوم احد منهم لأهل الإيمان؛ لأنّهم بالانعزال عن عسكر المسلمين أعانوا المشركين عليهم.

و فيه نصّ من اللّه تعالى على كفرهم في الباطن، و إن كانوا بالإقرار بالشّهادتين في الظّاهر بحكم المسلمين.

ثمّ بالغ سبحانه في تثبيت نفاقهم بقوله: يَقُولُونَ هؤلاء المنافقون، و يتكلّمون نفاقا بِأَفْواهِهِمْ و ألسنتهم ما لَيْسَ معناه و حقيقته، من الإيمان باللّه و الرّسول، أو اتّباعكم في القتال، داخلا و ثابتا فِي قُلُوبِهِمْ بل ما يظهرونه من الإيمان و الموافقة مباين لما يضمرونه من الكفر و المخالفة وَ اَللّهُ أَعْلَمُ منكم، بل من أنفسهم بِما يَكْتُمُونَ عنكم، و ما يسترون في ضمائرهم، من الكفر باللّه و الرّسول، و من بغضكم و مخالفتكم.

عن الصادق عليه السّلام في حديث يذكر فيه حال ضعفاء الإيمان: «و من ضعف يقينه أنّه يتعلّق بالأسباب، و يرخص نفسه بذلك، و يتّبع العادات و أقاويل النّاس بغير حقيقة، و يسعى في امور الدّنيا و جمعها و إمساكها، يقرّ باللّسان أنّه لا مانع و لا معطي إلاّ اللّه، و أنّ العبد لا يصيب إلاّ ما رزق و قسم له، و الجهد لا يزيد في الرّزق، و ينكر ذلك بفعله و قلبه، قال اللّه تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» (1).

أقول: فيه دلالة على أنّ إظهار كلّ مرتبة من الإيمان يكون خلاف ما في مكنون القلب، نفاق، و مشمول للآية الكريمة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 168

ثمّ بالغ سبحانه في تفضيح المنافقين، بإفشاء ما كانوا أسرّوه من قول سيء آخر، بقوله: اَلَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ و الموافقين معهم في النّفاق، و عداوة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ هم بأنفسهم قَعَدُوا عن الجهاد، و تخلّفوا عنه: إنّ الجماعة الّذين قاتلوا في احد و قتلوا لَوْ أَطاعُونا و اتّبعوا رأينا في الإقامة في المدينة، و قعدوا عن القتال، كما قعدنا ما قُتِلُوا كما لم نقتل.

اَلَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

ص: 127


1- . مصباح الشريعة:178، تفسير الصافي 1:367.

ثمّ أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم، بقوله: قُلْ يا محمّد؛ تبكيتا لهم، و إثباتا لفساد ظنّهم، و إظهارا لكذبهم: فَادْرَؤُا و ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ بالحيل و التّدابير اَلْمَوْتَ الذي تكرهونه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ما ينبئ عنه قولكم، من أنّ الحذر يدفع القتل عمّن كتب عليه، و يطيل الأجل المحتوم، فإذا التزمتم بأنّ الموت ممّا لا يمكن دفعه بالحذر و التّدبير، لكونه بقضاء اللّه و إرادته، فكذلك القتل و خصوصيّاته، من زمانه و مكانه، يكون بقضاء اللّه، لا ينفع الحذر منه في دفعه، و لا يفيد الفرار في تأخيره. فكلّ من قتل كان قتله بسبب كونه مكتوبا عليه، لا بسبب عدم حذره، و كلّ من لم يقتل لم يكن القتل مكتوبا عليه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 169

ثمّ لمّا كان تحرّز المنافقين عن الشّهادة مبنيّا على حسبان أنّ القتل موت، و انقطاع حياة، و حرمان من النّعم و اللّذائذ، ردّهم اللّه سبحانه بقوله: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نالوا الشّهادة في طريق مرضاته و طاعته، من الجهاد و غيره، كشهداء احد، و لا تظنّهم أَمْواتاً منقطعين عن الحياة، محرومين عن النّعم بَلْ هم أَحْياءٌ بالحياة الأبديّة، مقرّبون عِنْدَ رَبِّهِمْ مستغرقون في رحمة مليكهم يُرْزَقُونَ من ثمار الجنّة، و يتنعّمون بالنّعم الدّائمة، و يتلذّذون بما.

وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين.

فلو فرض أنّ التّدبير يكون مفيدا في دفع القتل، إلاّ أنّ القتل في سبيل اللّه ممّا يجب على العاقل السّعي في تحصيله، و المسارعة إليه، لكثرة فوائده.

و إنّما وجه الخطاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ مع أنّ المقصود أمّته، و نهاه عن الحسبان مع أنّه منزّه عنه، لشرافته و للإشعار بأنّ التّبشير من وظائفه.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في شهداء (1)احد» (2).

و روي أنّهم كانوا سبعين، أربعة من المهاجرين: حمزه بن عبد المطّلب، و مصعب بن عمير، و عبد اللّه بن جحش، و عثمان بن شهاب، و البقيّة من الأنصار رضوان اللّه عليهم (3).

و عنه عليه السّلام قال: «أتى رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّي راغب نشيط في الجهاد، قال: فجاهد في سبيل

ص: 128


1- . زاد في تفسير الصافي: بدر و.
2- . مجمع البيان 2:881، تفسير الصافي 1:368.
3- . تفسير أبي السعود 2:111، تفسير روح البيان 2:123.

اللّه، فإنّك إن تقتل كنت حيّا عند اللّه ترزق، و إن تموت فقد وقع أجرك على اللّه، و لئن رجعت خرجت من الذّنوب إلى اللّه. هذا تفسير وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا الآية» (1).

في حال أرواح

المؤمنين في البرزخ

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أرواحهم في أجواف طيور خضر، و أنّهم يرزقون، يأكلون و يتنعّمون» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لمّا اصيب إخوانكم باحد، جعل اللّه أرواحهم في أجواف طيور خضر، تدور في أنهار الجنة» (3).

و في رواية: «ترد أنهار الجنّة، و تأكل من ثمارها، و تسرح من الجنّة حيث شاءت، و تأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش» (2).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش، فقال: «لا، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حواصل طير، و لكن في أبدان كأبدانهم» (3).

أقول: يمكن أن يكون وجه اختلاف الرّوايات، اختلاف المؤمنين في مراتب الكمال.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 170

ثمّ بالغ سبحانه في بيان حسن حال الشّهداء، بأنّهم-مع عدم دخول الحزن في قلوبهم على ما فاتهم من حياة الدّنيا و نعيمها-يكونون فَرِحِينَ مسرورين غاية السّرور بِما آتاهُمُ اَللّهُ و حباهم من الكرامات الكائنة مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه الخاصّ بهم من شرف الشّهادة الموجبة لحسن الذّكر في الدّنيا، و المحبّة الشّديدة في قلوب المؤمنين، و الزّلفى من اللّه تعالى، و نيل النّعم الدّائمة غير المتناهية في الآخرة.

فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ألا أبشّرك أنّ أباك حيث اصيب باحد أحياه اللّه، ثمّ قال: ما تريد يا عبد اللّه بن عمرو أن أفعل بك؟ فقال: يا ربّ اريد أن تردّني إلى الدّنيا فاقتل فيك مرّة اخرى» (4).

في بيان بقاء

الأرواح بعد الموت

ثمّ اعلم أنّه قد ثبت بالأدلّة العقليّة و النقليّة، بل بالضّرورة من جميع الأديان، أنّ الأرواح باقية بعد موت الأجساد و انحلالها، و دلّت الرّوايات الكثيرة على أنّ لها

ص: 129


1- . تفسير العياشي 1:350/809، تفسير الصافي 1:368. (2 و 3) . تفسير أبي السعود 2:112.
2- . تفسير أبي السعود 2:112.
3- . الكافي 3:244/1، تفسير الصافي 1:369.
4- . تفسير الرازي 9:90.

تعلّقا بالأجساد المثاليّة التي هي جواهر تلك الأجساد، سارية فيها سريان النّار في الفحم، و الدّهن في السّمسم، و الماء في الورد.

فالرّوح بهذا التّعلّق تلتذّ باللّذائذ الجسمانيّة من الأكل و الشّرب و غيرهما، و تعذّب بالنّار و العقارب و السّلاسل و غيرها، فإذا لم يدلّ دليل قاطع على امتناع ذلك التّعلّق و الحياة، و التّنعّم و التّعذيب، وجب المصير إليه و الالتزام به، و لا يصغى إلى الشّبهات التي اوردت على ثواب القبر و النّعم البرزخيّة بل الظّاهر أنّ أرواح الشّهداء و الكاملين من المؤمنين لها تعلّق خاصّ بأبدانهم العنصريّة، به تحفّظ من البلاء.

عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما: أنّه لمّا أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشّهداء، أمر بأن ينادى: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع. قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان، فإن أصابت المسحاة إصبع رجل منهم قطرت دما (1). و في ذلك روايات و حكايات كثيرة لا تحصى.

ثمّ أخبر اللّه سبحانه بلذّتهم الرحانيّة، بقوله: وَ يَسْتَبْشِرُونَ و يسرّون بالبشارة بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ و بحسن حال إخوانهم و أقربائهم الّذين لم يقتلوا معهم في الجهاد، و بقوا في الدّنيا مِنْ خَلْفِهِمْ و من بعد شهادتهم، و تقرّ عينهم بالإخبار بأنّ من حسن حالهم أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من نيل مكروه إنّ قتلوا وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات مطلوب إن لم يقتلوا؛ حيث إنّهم أيضا يفوزون بالحياة الأبديّة و النّعم الدّائمة إن ماتوا.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، في رواية: فلمّا رأوا طيب مسكنهم و مطعمهم و مشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النّعم، و ما صنع اللّه بنا، كي يرغبوا في الجهاد، فقال اللّه تعالى: أنا مخبر عنكم، و مبلّغ إخوانكم، ففرحوا بذلك و استبشروا، فأنزل اللّه هذه الآية (2).

و عن (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام، قال: «هم و اللّه شيعتنا، حين صارت أرواحهم في الجنّة، و أستقبلوا الكرامة من اللّه عزّ و جلّ، علموا و استيقنوا أنّهم كانوا على الحقّ، و على دين اللّه عزّ و جلّ، فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 171

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (171)

ص: 130


1- . تفسير الرازي 9:93.
2- . تفسير الرازي 9:90.
3- . الكافي 8:156/146، تفسير الصافي 1:369.

ثمّ أخبر سبحانه بأنّ استبشارهم بحسن حال إخوانهم ليس بصرف فراغ قلوبهم من الخوف و الحزن، بل يَسْتَبْشِرُونَ مع ذلك في حقّ إخوانهم بِنِعْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَ اَللّهِ لا يقادر قدرها وَ فَضْلٍ عظيم أو زيادة كثيرة على ما يتوقّع لهم من ثواب الأعمال، لا يعلمها إلاّ اللّه.

و قيل: إنّ البشارة الأولى فقط متعلّقة بإخوانهم، و أمّا الثانية فإنّها متعلّقة بأنفسهم، و بيان ما أجمل في قوله: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ .

ثمّ أكّد تلك البشارة بقوله: وَ أَنَّ اَللّهَ تعالى بكرمه، و لتعالي ذاته عن ارتكاب القبيح لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ و لا يبطل ثواب من تنوّر قلبه بنور اليقين، [سواء]قتل في سبيل اللّه أو بقي حيّا في طاعة اللّه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 172 الی 174

ثمّ أنّه روي أنّ أبا سفيان و أصحابه لمّا انصرفوا من احد و بلغوا الرّوحاء (1)ندموا، و قالوا: إنّا قتلنا أكثرهم و لم يبق منهم إلا قليل فلم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع و نستأصلهم، فهمّوا بالرّجوع، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأراد أن يرهب الكفّار و يريهم من نفسه و من أصحابه قوّة، فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان، و قال: «لا اريد أن يخرج الآن معي إلاّ من كان معي في القتال، فخرج الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مع قوم من أصحابه-قيل: كانوا سبعين رجلا-حتّى بلغوا حمراء الأسد، و هو [موضع] من المدينة على ثلاثة أميال، فألقى [اللّه]

الرّعب في قلوب المشركين فانهزموا (2).

اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اِتَّبَعُوا رِضْوانَ اَللّهِ وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)فمدح اللّه المؤمنين الّذين خرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ و أطاعوا أمرهما بالخروج في طلب قريش مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ و أثخنتهم الجراح في وقعة احد.

عن القمّي رحمه اللّه: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا دخل المدينة، من وقعة احد، نزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمّد، إنّ اللّه يأمرك أن تخرج في أثر القوم، و لا يخرج معك إلاّ من به جراحة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مناديا ينادي: يا معشر المهاجرين و الأنصار، من كان به جراحة فليخرج، و من لم يكن به جراحة

ص: 131


1- . الرّوحاء: موضع على ستة و ثلاثين ميلا من المدينة.
2- . تفسير الرازي 9:97.

فليقم، فأقبلوا يضمّدون جراحاتهم و يداوونها، فخرجوا على ما بهم من الألم و الجراحات.

فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حمراء الأسد، و قريش قد نزلت الرّوحاء قال عكرمة بن أبي جهل، و الحارث بن هشام، و عمرو بن العاص، و خالد بن الوليد: نرجع و نغير على المدينة، قد قتلنا سراتهم، و كبشهم-يعنون: حمزة-فوافاهم رجل من المدينة فسألوه الخبر فقال: تركت محمّدا و أصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جدّ الطّلب، فقال أبو سفيان: هذا النّكد و البغي، فقد ظفرنا بالقوم و بغينا، و اللّه ما أفلح قوم قطّ بغوا.

فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي، فقال أبو سفيان: أين تريد؟ قال: المدينة، لأمتار لأهلي طعاما، قال: هل لك أن تمرّ بحمراء الأسد، و تلقى أصحاب محمّد، و تعلمهم أنّ حلفاءنا و موالينا قد وافونا من الأحابيش، حتّى يرجعوا عنّا، و لك عندي عشرة قلائص أملأها تمرا و زبيبا؟ قال: نعم.

فوافى من غد ذلك اليوم حمراء الأسد، فقال لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما تريدون؟ قالوا: قريشا، قال: ارجعوا، إنّ قريشا قد اجتمعت إليهم حلفاؤهم، و من كان تخلّف عنهم، و ما أظنّ إلاّ أنّ أوائل خيلهم يطلعون عليكم السّاعة، فقالوا: حسبنا اللّه و نعم الوكيل، ما نبالي، فنزل جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ارجع يا محمّد فإنّ اللّه قد أرعب قريشا، و مرّوا لا يلوون على شيء، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و أنزل اللّه اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ الآية (1).

و روي أنّه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة، ثمّ كان المحمول يحمل حامله ساعة اخرى، و كان فيهم من يتوكّأ على صاحبه ساعة، و يتوكّأ عليه صاحبه ساعة، كلّ ذلك لإثخان الجراحات فيهم (2).

و قيل: إنّ الآية نزلت في يوم احد لمّا رجع النّاس إليه صلّى اللّه عليه و آله بعد الهزيمة، فشدّ بهم حتّى كشف المشركين، و كانوا قد همّوا بالمثلة، فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة عليه السّلام فقذف اللّه في قلوبهم الرّعب فانهزموا، و صلّى عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دفنهم بدمائهم (3).

و روي أنّ صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للزّبير: «ردّها لئلاّ تجزع من مثلة أخيها» فقالت: قد بلغني ما فعل به، و ذلك يسير في جنب طاعه اللّه تعالى فقال صلّى اللّه عليه و آله للزّبير: «فدعها تنظر إليه» . فقالت خيرا و استغفرت له (2).

و قيل: جاءت امرأة قد قتل زوجها و أبوها و أخوها و ابنها، فلمّا رأت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو حيّ قالت: إنّ

ص: 132


1- . تفسير القمي 1:124، تفسير الصافي 1:369. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:97.
2- . تفسير الرازي 9:98.

كلّ مصيبة بعدك هدر (1).

في قضية بدر

الصغرى

ثمّ أنّه تعالى بعد الثّناء عليهم وعدهم بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بطاعة أوامر اللّه وَ اِتَّقَوْا اللّه في مخالفة نواهية أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يسع البيان وصفه.

ثمّ أنّه روي عن الباقر عليه السّلام: «أنّ أبا سفيان قال يوم احد، حين أراد أن ينصرف: يا محمّد، الموعد بيننا و بينك موسم بدر الصّغرى، القابل (2)إنّ شئت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ذلك بيننا و بينك» ، فلمّا كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكّة حتّى نزل مجنّة من ناحية مرّ الظّهران (3)، ثمّ ألقى اللّه عليه الرّعب، فبدا له في الرّجوع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي (4)-و في رواية اخرى: فمرّ به ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة-فقال له أبو سفيان: إنّي واعدت محمّدا و أصحابه أن نلتقي موسم بدر الصّغرى، و إنّ هذا عام جدب، و لا يصلحنا إلاّ عام نرعى فيه الشجر، و نشرب فيه اللّبن، و قد بدا لي أن لا نخرج إليها، و أكره أن يخرج محمّد و لا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة، فالحق بالمدينة و ثبّطهم، و لك عشرة من الإبل أضعها على يد سهيل بن عمرو.

فأتى نعيم بن مسعود المدينة فوجد النّاس يتجهّزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: بئس الرّأي رأيكم، أتوكم في قراركم فلم يفلت منكم إلاّ شريد، فتريدون أن تخرجوا و قد جمعوا لكم عند الموسم، فو اللّه لا يفلت منكم أحد، فكره أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخروج، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «و الذي نفسي بيده، لأخرجنّ و لو وحدي، و أمّا الجبان فإنّه رجع. و أمّا الشّجاع فإنّه تأهّب للقتال. و قال: حسبنا اللّه و نعم الوكيل» (5).

فمدحهم اللّه تعالى بقوله: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ الّذين استقبلوا من بني عبد قيس، أو المراد نعيم بن مسعود، و إطلاق (النّاس) عليه لكونه من جنسهم و كلامه كلامهم، أو لأنّه انضمّ إليه ناس من منافقي المدينة و أذاعوا كلامه: إِنَّ اَلنّاسَ و هم أبو سفيان و أصحابه قَدْ جَمَعُوا حلفاءهم و مواليهم لَكُمْ و تظاهروا إلى حربكم فَاخْشَوْهُمْ أيّها المسلمون، و لا تخرجوا إليهم فتهلكوا، فلم يلتفت المؤمنون المخلصون إلى قولهم فَزادَهُمْ التّرهيب إِيماناً و يقينا و ثباتا على نصرة الإسلام، و خلوصا في النّيّة، و تأهّبوا للقتال وَ قالُوا عند التّخويف حَسْبُنَا اَللّهُ و كفانا مؤنة الأعداء وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ ربّنا.

ص: 133


1- . تفسير الرازي 9:98.
2- . في النسخة: نقاتل.
3- . مجنّة: اسم سوق للعرب في الجاهلية، قرب جبل يقال له: الأصغر بأسفل مكّة، و مرّ الظّهران: موضع على مرحلة من مكّة.
4- . مجمع البيان 2:888، تفسير الصافي 1:370.
5- . مجمع البيان 2:888، تفسير الصافي 1:371، و صدر الرواية في تفسير روح البيان 2:127.

روي أنّه هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السّلام حين ألقي في النّار (1).

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أصحابه و وافى بدر الصّغرى، و هو ماء لبني كنانة، و كان موضع سوق للعرب في الجاهليّة يجتمعون إليه في كلّ عام ثمانية أيّام، فأقام صلّى اللّه عليه و آله ببدر ينتظر أبا سفيان، و قد أنصرف أبو سفيان من مجنّة إلى مكّة فسمّاهم أهل مكّة جيش السّويق (2)؛ و يقولون: إنّما خرجتم تشربون السّويق.

و لم يلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه أحدا من المشركين ببدر، و وافق السّوق، و كانت لهم تجارات، فباعوا و أصابوا بالدّرهم درهمين فَانْقَلَبُوا و رجعوا من بدر الصّغرى إلى المدينة مصاحبين بِنِعْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَ اَللّهِ من العافية و السّلامة و الزّيادة في الإيمان و اليقين وَ فَضْلٍ و زيادة كثيرة في المال، بسبب الرّبح في التّجارة، مضافا إلى أنّه لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ و لم يصبهم مكروه أصلا و لو أقلّ قليل وَ اِتَّبَعُوا في سفرهم ذلك، و طاعتهم الرّسول في الأفعال و الأقوال رِضْوانَ اَللّهِ الذي هو مناط الفوز بخير الدّنيا و الآخرة وَ اَللّهُ بحبّه للمؤمنين ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ عليهم من توفيقهم للثّبات على الإيمان، و التّوطين على لقاء الأعداء، و الجهاد في سبيل اللّه، و التّصلّب في الدّين، و حفظهم من كلّ سوء في الدّنيا، و ذو عطاء جسيم عليهم بالجنّة و النّعمة الدّائمة، و حفظهم من كلّ مكروه في الآخرة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 175

ثمّ ذمّ اللّه سبحانه الّذين خوّفوا المسلمين، و قرّع المثبّطين (3)الذين تخلّفوا و عصوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله جبنا، بقوله: إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ المضلّ المغوي بوسوسته و شيطنته، و إلقاءاته على لسان الرّكب، أو نعيم بن مسعود يُخَوِّفُ من سطوة المشركين أَوْلِياءَهُ و مطيعيه من المنافقين و ضعفاء المؤمنين.

إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)و قيل: إنّ المراد: الشّيطان يخوّفكم أيّها المؤمنون من أوليائه المشركين، كأبي سفيان و أصحابه، لتقعدوا عن قتالهم.

فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ في مخالفة أوامري، و أوامر رسولي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بي و برسالة

ص: 134


1- . مجمع البيان 2:889، تفسير أبي السعود 2:114.
2- . طعام يتّخذ من مدقوق الحنطة و الشعير، سمّي بذلك لانسياقه في الحلق.
3- . في النسخة: المتثبّطين

رسولي؛ لأنّ عذابي في الآخرة شديد.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 176

ثمّ لمّا كان سعي الكفّار-في تخويف المؤمنين، و تضعيف أمر الإسلام، و ارتداد قوم من المسلمين الضّعفاء خوفا من قريش-موجبا لحزن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كسر قلبه الشّريف، أخذ اللّه في تسليته بقوله: وَ لا يَحْزُنْكَ المنافقون و ضعفة المسلمين اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ لشدّة حرصهم على الدّنيا، و حبّهم الحياة، في الدّخول فِي اَلْكُفْرِ بالارتداد، أو بمظاهرة الكفّار، و السّعي في إبطال أمر رسالتك.

وَ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اَللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)قيل: إنّ المنافقين كانوا بعد وقعة احد يخوّفون المؤمنين من المشركين، و يؤيسونهم من النّصر و الغلبة، و يقولون: إنّ محمّدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، و تارة عليه، و لو كان رسولا ما غلب و هذه الأقوال كانت تنفّر المسلمين عن الإسلام.

و قيل: إنّها نزلت في كفّار قريش، و اللّه جعل رسوله آمنا من شرّهم، و المعنى وَ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ بأن يقصدوا جمع العساكر إِنَّهُمْ بهذا الصّنع لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ و أولياءه شَيْئاً بل إنّما يضرّون أنفسهم به أشدّ الضّرر، و يهلكونها أسوء هلاك.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة تركه إيّاهم على ما هم عليه من الانهماك في الكفر، و السّعي في إطفاء نوره الحقّ، و الجدّ في مشاقّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و معارضته بقوله: يُرِيدُ اَللّهُ أن يظهر ما في ذواتهم من الخباثة، و يصل استعدادهم الذّاتي بأعمالهم السّيّئة إلى مقام الفعليّة حتّى لا تبقى فيهم قابلية التفضّل، و أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ بسبب عدم الأهليّة حَظًّا و إن كان قليلا، و نصيبا و إن كان يسيرا فِي اَلْآخِرَةِ و الدّار الباقية من الرّحمة و الثّواب وَ لَهُمْ مضافا إلى الحرمان الكلّي من الثّواب، بدلا منه عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم عظمته إلاّ اللّه العظيم، فإنّ عظمة عذابهم لعظمة شأن المسارعة في الكفر عندهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 177

ثمّ أكدّ الوعيد بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا و استبدلوا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ بأن اختاروا لأنفسهم الكفر، و تركوا الإيمان الذي كان لوضوح دلائله و سهولة مآخذه كأنّه في ملكهم و قبضتهم لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ و رسوله و المؤمنين أبدا شَيْئاً يسيروا من الضّرر، بل يضرّون أنفسهم ضررا كثيرا،

ص: 135

و يخسرون بصفقتهم خسرانا مبينا وَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ .

إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)قيل: لمّا كانت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه، و سروره بتحصيله عند كون الصّفقة رابحة، و بتألّمه عند كونها خاسرة، وصف اللّه عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 178

ثمّ لمّا كان تخلّف من تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتوهّم أن البقاء في الدّنيا خير من القتل في سبيل اللّه، و أنّ حياتهم و طول تعيّشهم أنفع من شهادة شهداء احد، أبطل اللّه ذلك التّوهّم بقوله: وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و تخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبّا للحياة، و لم يطيعوه في الخروج إلى الجهاد أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ و نطيل في أعمارهم في الدّنيا، و تعيّشهم فيها.

وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)قيل: إنّ (ما) موصولة، و قيل: مصدرية. و عليه يكون المعنى لا يتوهّمون أنّ إمهالهم في الدّنيا و إبقاءهم فيها خَيْرٌ و أصلح لِأَنْفُسِهِمْ و لا تسرّ قلوبهم بطول عيشهم فيها، لأنّ إمهالنا إيّاهم ليس بداعي الإحسان إليهم، بل أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ و نطيل أعمارهم لِيَزْدادُوا بازدياد خبثهم في كلّ آن من الآنات إِثْماً على آثامهم من الاستمرار على الكفر و الطّغيان، و اشتداد بغضهم للحقّ، و جدّهم في محق الدّين و محو آثاره وَ لَهُمْ خاصّة بتلك الآثام في الآخرة عَذابٌ مُهِينٌ لهم زائدا على ما في عذاب غيرهم من المهانة و الذّل.

قيل: إنّما وصف سبحانه عذابهم بالوصف لأنّه كان غرضهم من البقاء في الدّنيا التّعزّز و التّكبّر فيها، و التّمتّع بطيّباتها و زينتها.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «خير النّاس من طال عمره و حسن عمله، و شرّ النّاس من طال عمره و ساء عمله» (1). و عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن الكافر، الموت خير له أم الحياة؟ فقال: «الموت خير للمؤمن و الكافر؛ لأنّ اللّه يقول: وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (2)، و يقول: وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ» (3).

روي أنّه قال اللّه تعالى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج: «إنّ من نعمي على أمتك أنّي قصّرت أعمارهم كي لا تكثر ذنوبهم، و أقللت أموالهم كي لا يشتدّ في القيامة حسابهم» (4).

ص: 136


1- . تفسير روح البيان 2:130.
2- . آل عمران 3:198.
3- . تفسير العيّاشي 1:351/812، تفسير الصافي 1:372.
4- . تفسير روح البيان 2:130.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 179

ثمّ أكّد اللّه سبحانه علّيّة امتحان المؤمنين في التّكليف بالمشاق، من أمرهم بتعقيب المشركين مع ما بهم من ألم الجراحات، و بالخروج في العام القابل إلى بدر الصّغرى بقوله: ما كانَ اَللّهُ بحكمته البالغة يريد لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ المخلصين منكم أيّها المسلمون و يتركهم عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الاختلاط و استتار الحال، بل عليه تعالى أن يقدّر الأمور، و يسبّب الأسباب من جعل التّكاليف الشّاقة، و تسليط الكفّار، و إيراد المحن و البليّات، و البعث إلى الغزوات و غيرها حَتّى يَمِيزَ المنافق اَلْخَبِيثَ الذّات، السيء السّريرة مِنَ المؤمن المخلص اَلطَّيِّبِ النّفس، المنوّر الفكر و يظهر حال كلّ منهما بظهور ما في قلوبهم من الكفر و الإيمان، و الغدر و الصدق، و ما في ضمائرهم من النّيّات الحسنة و السّيّئة.

ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)وَ ما كانَ اَللّهُ لما في علمة من النّظام الأتمّ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ و أن يعلمكم بما في القلوب و الضّمائر بغير الأسباب الظّاهريّة و العادية، و ليس من حكمته أن يوحي إلى كلّ أحد: أنّ هذا مؤمن خالص، و هذا كافر منافق وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي و يصطفي مِنَ بين جماعة رُسُلِهِ و أنبيائه العظام مَنْ يَشاءُ إعلامه بالمغيّبات فيخصّه بعلمها، و يوحي إليه: أن هذا مؤمن مخلص، و ذاك منافق غادر.

و قيل: إنّ المراد: و لكنّ اللّه يمتحن الفريقين بأن يجتبي من يشاء من خلقه للرّسالة، و يخصّه بالشّريعة، و أحكام شاقّة بإطاعته و عصيانه يمتاز الفريقان.

ثمّ بعد ذكره سبحانه مصلحة الابتلاء بالمكاره و التّكاليف الشّاقّة، و أنّ النّفاق لا ينتج إلاّ الفضيحة في الدّارين، أمر النّاس بالإيمان الخالص عن شوب النّفاق بقوله: فَآمِنُوا أيّها النّاس إيمانا خالصا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ لظهور دلائل التّوحيد و النّبوّة، بحيث لم يبق لأحد عذر في التّشكيك و الامتناع.

قيل: في ذكر جميع الرّسل هنا إشعار بأنّ ملاك الإيمان بجميع الرّسل واحد، و هو ظهور المعجزة، فمن آمن برسول كان عليه الإيمان بالجميع.

ثمّ أردف سبحانه أمره بالإيمان بالوعد بالثّواب تأكيدا و إشعارا بعظم فائدته، بقوله: وَ إِنْ تُؤْمِنُوا باللّه و رسله عن صميم القلب وَ تَتَّقُوا النّفاق، و عصيان اللّه، و مخالفة أوامر الرّسل فَلَكُمْ بمقابل الإيمان و التّقوى في الدّنيا و الآخرة أَجْرٌ عَظِيمٌ من اللّه لعظم شأن الإيمان و التّقوى عنده تعالى

ص: 137

شأنه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 180

ثمّ-لمّا كان من دأب اللّه تعالى في كتابه العزيز أنّه كلّما أمر بالجهاد أردفه بالحثّ على إنفاق المال، لكمال الارتباط بينهما، و توقّف الحرب على المال، و قد بالغ سبحانه في الآيات السّابقة في التّحريض على بذل النّفس في الجهاد، و في دفع توهّم أنّ الحياة خير منه-شرع في الحثّ على بذل المال، و الرّدع من توهّم أنّ البخل و منع حقوق اللّه خير منه، بقوله: وَ لا يَحْسَبَنَّ المؤثرون اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ و وهب لهم من الثّروة و المال مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه من غير أن يكون لهم مدخل فيه و استحقاق، البخل بما وجدوه من المال هُوَ خَيْراً و أنفع لَهُمْ من صرفه في سبيل اللّه، فإنّه حسبان باطل؛ لأنّه ليس في البخل و جمع المال و منع حقوق اللّه خير أصلا بَلْ هُوَ شَرٌّ محض لَهُمْ لأنّه موجب لابتلائهم بأشدّ العقوبات، حيث إنّهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ و سيجعل ذلك المال-الذي امتنعوا من إنفاقه في سبيل اللّه حبّا له و شحّا عليه-طوقا في عنقهم يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لِلّهِ مِيراثُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)عن (الكافي) : عن الباقر و الصادق عليهما السّلام، قالا: «ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئا إلاّ جعل اللّه ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوّقا في عنقه، ينهش من لحمه، حتّى يفرغ من الحساب، و هو قول اللّه: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يعني ما بخلوا به من الزّكاة» (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: تجعل تلك الزّكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطّوق، شجاعا (2)ذا زبيبتين (3)يلدغ بهما خدّيه، و يقول: أنّا الزّكاة [التي]بخلت في الدّنيا بي (4).

أقول: ظاهر الرّوايتين أنّ عين مال الزّكاة بصورتها الواقعيّة البرزخيّة يصير طوقا في عنق البخيل. و قيل: المراد: سيطوّقون و بال ما بخلوا به. و يؤيّده ما روي عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما من ذي زكاة مال، نخل أو زرع أو كرم [يمنع زكاة ماله]، إلاّ قلّده اللّه تربة أرضه يطوّق بها من سبع أرضين إلى يوم القيامة» (5).

ص: 138


1- . الكافي 3:502/1 و:504/10، تفسير الصافي 1:373.
2- . الشّجاع: الحيّة.
3- . الزّبيبتان: نقطتان سوداوان فوق عيني الحيّة و الكلب.
4- . تفسير الرازي 9:114.
5- . الكافي 3:503/4، تفسير الصافي 1:373.

و قيل: إنّ المعنى: سيكلّفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة.

و قيل: إنّ المعنى سيلزمون إثم ما بخلوا به في الآخرة. و هذا على طريق التّمثيل.

ثمّ لمّا كان للجاهل مجال توهّم أنّ مبالغته تعالى في الحثّ على إنفاق المال لمكان حاجته، دفع ذلك التّوهّم بالتّنبيه على غنائه المطلق، بقوله: وَ لِلّهِ وحده من غير شريك مِيراثُ أهل اَلسَّماواتِ وَ أهل اَلْأَرْضِ و ما يخلّفونه عند موتهم، فلا يبقى لأحد ملك إلاّ له، و كلّ ملك باطل إلاّ ملكه سبحانه.

و يحتمل أن يكون ذكر هذه القضيّة للإشعار بأنّه إذا كانت الأملاك زائلة غير باقية لأحد، يكون منع الحقوق و البخل به خلاف العقل. و فيه تأكيد في الحثّ على الإنفاق.

ثمّ بالغ سبحانه في الوعيد على ترك الإنفاق، بقوله: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الحرص على جمع الأموال و التّعزّز بها، و منع الحقوق الواجبة فيها خَبِيرٌ و مطّلع لا يخفى عليه خافية.

و حاصل المضمون: أنّه ما لهم يبخلون بالزّكاة و الحقوق الماليّة الواجبة، مع كونه في غاية الضّرر عليهم، و عدم بقاء الأموال لهم، و غنائه تعالى عنهم، و شدّة حاجتهم إلى الأداء، و إحاطته تعالى بخفيّات أعمالهم، و اشتداد غضبه تعالى على سيّئاتهم.

و قيل: إنّ قراءة (تعملون) بالتّاء-على الالتفات إلى الخطاب-أبلغ في الوعيد.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 181

ثمّ أنّه تعالى-بعد الحثّ على الإنفاق، و ذمّ البخل، و دفع توهّم الحاجة إلى الخلق عن ساحته المقدّسة-تعرّض لقول من نسب إليه الحاجة، بقوله: لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ و علم، كعلمكم بالمسموعات قَوْلَ اليهود اَلَّذِينَ قالُوا استهزاء بالقرآن، أو إلزاما للمسلمين: إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ عديم المال، محتاج إلى أموالنا، حيث سأل منّا الصّدقات وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ لاستقراضه منّا.

لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ (181)قيل: في التّعبير عن العلم بهذا القول الشّنيع بالسّماع إيذان بأنّه من الشّناعة و القباحة بمكان لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع (1).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كتب مع أبي بكر إلى يهود [بني]قينقاع يدعوهم إلى الإسلام، و إلى إقامة الصّلاة، و إيتاء الزّكاة، و أن يقرضوا اللّه قرضا حسنا، فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدراسهم (2)، فوجد

ص: 139


1- . تفسير روح البيان 2:135.
2- . المدراس: بيت تدرس فيه التوراة.

ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص بن عازوراء، و كان من علمائهم، و معه حبر آخر يقال له: أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: اتّق اللّه و أسلم، فو اللّه إنّك لتعلم أنّ محمّدا لرسول اللّه، قد جاءكم بالحقّ من عند اللّه، تجدونه مكتوبا عندكم في التّوراة، فآمن و صدّق و أقرض اللّه قرضا حسنا، يدخلك الجنّة، و يضاعف لك الثّواب. فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أنّ ربّنا يستقرض أموالنا! و ما يستقرض إلاّ الفقير من الغنيّ، فإن كان ما تقول حقّا فإنّ اللّه فقير و نحن أغنياء، و أنّه ينهاكم عن الرّبا و يعطينا، و لو كان غنيّا ما أعطانا الرّبا. فغضب أبو بكر و ضرب وجه فنحاص ضربة شديدة. و قال: و الّذي نفسي بيده، لو لا العهد الذي بيننا و بينكم لضربت عنقك يا عدوّ اللّه، فذهب فنحاص إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فشكاه و جحد ما قاله، فنزلت الآية ردّا عليهم (1).

و قيل: القائل حيي بن أخطب (2).

و عن القمّي رحمه اللّه، قال: و اللّه، ما رأوا اللّه فيعلموا أنّه فقير، و لكنّهم رأوا أولياء اللّه فقراء فقالوا: لو كان غنيّا لأغنى أولياءه؛ ففخروا على اللّه بالغنى (3).

و عن (المناقب) : هم الّذين زعموا أن الإمام يحتاج (4)إلى ما يحملونه إليه (5).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه القائلين على قولهم الشّنيع بقوله: سَنَكْتُبُ في صحيفة الكتبة أو المراد: سنثبت في القرآن، أو نحفظ في علمنا، للاهتمام بالحفظ ما قالُوا من هذا القول السّيء، لتعذيبهم عليه، أو لإبقاء شينه عليهم إلى آخر الدّهر. و قيل: إن المراد: سنثبت عليهم إثم هذا القول و عقوبته. و (السين) دالّ على التّأكيد.

ثمّ أردف سبحانه أقوالهم الشّنيعة بأعمالهم التي في الشّناعة كأقوالهم، بقوله: وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِياءَ المقرّبين، مع كونهم عالمين أنّه بِغَيْرِ حَقٍّ و جرم.

و فيه تنبيه على أنّ من كان في الجهالة و الشّقاوة بدرجة يكون قاتلا للأنبياء، أو راضيا بفعل من قتلهم، أو من نسلهم، لا يبعد منه هذا القول الشّنيع الذي في العظمة مثل ذلك الفعل.

ثمّ بالغ في التّهديد بقوله: وَ نَقُولُ لهم عند الموت، أو في المحشر، أو بعد قراءتهم الكتاب: ادخلوا النّار، و ذُوقُوا و اطعموا عَذابَ اَلْحَرِيقِ و أنظروا كيف طعمه، كما أذقتم المرسلين و المسلمين مرارة الكروب و الغصص.

ص: 140


1- . تفسير روح البيان 2:134.
2- . مجمع البيان 2:898.
3- . تفسير القمي 1:127، تفسير الصافي 1:373.
4- . زاد في المصدر: منهم.
5- . مناقب ابن شهر آشوب 4:48.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 182

ثمّ نبّههم بأنّه حقّ عليكم ذلِكَ العذاب الشّديد الدّائم، و صرتم مستحقّين له جزاء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ و بما عملت جوارحكم في الدّنيا من قتل الأنبياء، و هتك الحرمات، و إخافة الأولياء، و التّفوّه بمثل هذا القول الشّنيع، و التّجرّي على اللّه باقتراف المعاصي.

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)وَ اعلموا أَنَّ اَللّهَ حكيم، عدل لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ و ليس بمعذّب بغير ذنب، لتنافي الحكمة و العدل مع الظّلم و الإيلام بغير الاستحقاق، حيث إنّ مقتضى الحكمة وضع الشّيء في ما وضع له، و مقتضى العدل إعطاء كلّ شيء ما يستحقّه، و هما مع الظّلم-الذي هو التّعذيب من غير أهليّة و استحقاق-متضادّان.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 183

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد اليهود على قولهم الذي فيه هتك حرمته و حرمة كتابه، هدّدهم على قولهم الآخر الذي فيه إبطال رسالة رسوله، بقوله: اَلَّذِينَ قالُوا، قيل: التّقدير: لقد سمع اللّه أيضا قول اليهود الّذين قالوا إبطالا لدعوى الرّسول، و اعتذارا من عدم الإيمان به، مع مشاهدتهم المعجزات الباهرات، و استماعهم الآيات النّيّرات: إِنَّ اَللّهَ بتوسّط أنبيائه عَهِدَ إِلَيْنا و أخذ الميثاق الأكيد منّا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ من الرّسل، و لا نصدّق دعوى أحد منهم حَتّى يَأْتِيَنا مدّعي الرّسالة بِقُرْبانٍ و تفدية للّه، و صدقة مال يجعله له و يتقرّب إليه، فيتقبّله اللّه منه، و تَأْكُلُهُ و تحرقه اَلنّارُ و كان ذلك علامة القبول، و دليل صدقه، كما كان عليه أمر أنبياء بني إسرائيل.

اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)عن عطاء، أنّه قال: كان بنو إسرائيل يذبحون للّه، فيأخذون الثّروب و أطايب اللّحم فيضعونها في وسط بيت و السّقف مكشوف، فيقوم النبيّ في البيت و يناجي ربّه، و بنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت، فتنزل نار بيضاء لها دويّ خفيف و لا دخان لها، فتأكل ذلك القربان (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، و كعب بن أسد، و مالك بن الصيف، و وهب بن يهوذا، و زيد بن التابوب (2)، و فنحاص بن عازوراء، و غيرهم، أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد، تزعم أنّك رسول اللّه، و أنّه تعالى أنزل عليك كتابا، و قد عهد اللّه إلينا في التّوراة أن لا

ص: 141


1- . تفسير الرازي 9:121.
2- . في النسخة: التاوبوت.

نؤمن لرسول حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار، و يكون لها دويّ خفيف، تنزل من السّماء، فإن جئتنا بهذا صدّقناك. فنزلت هذه الآية (1).

ثمّ لمّا كان ذلك السّؤال من باب التّعنّت بهذه المعجزة، و أنّ أنبياءهم أتوهم و مع ذلك قتلوهم، كزكريّا، و يحيى، و عيسى، باعتقادهم، مع أنّ العهد الذي ادّعوه كان من مفترياتهم و أباطيلهم؛ لوضوح أنّه لا ينحصر دليل صدق النبيّ في هذه المعجزة، بل كلّ معجزة كافية في إثبات النّبوّة لاشتراك الجميع في كونه خارجا عن طوق البشر، و تصديقا من اللّه لدعوى من أتى بها.

و من الواضح أنّ السّؤال التّعنّتي لا يحسن إجابته، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قُلْ يا محمّد، تبكيتا لهم، و إظهارا لكذبهم في أنّ عدم إيمانهم بك لعدم إتيانك بقربان تأكله النّار: قَدْ جاءَكُمْ و أتى أسلافكم الّذين تتخلقون أنتم بأخلاقهم، و تتّبعون آثرهم رُسُلٌ كثيرة العدد، عظيمة الشّأن مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ و سألتم بعينه من القربان الذي تأكله النّار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ بعدما أتوكم بما أقترحتموه عليهم، مضافا إلى غيره من المعجزات الدّالّة على صدقهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ما دلّ عليه قولكم من أنّكم ملتزمون بالإيمان بنبيّ يأتيكم بقربان.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 184

ثمّ لمّا كانت مقالات المفشركين و اليهود سببا لكدورة قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تحزّنه، أخذ في تسلية حبيبه بقوله: فَإِنْ عارضك اليهود و المشركون و كَذَّبُوكَ في دعوى نبوّتك، و صحّة شريعتك، و في ما تخبرهم به من سوء صنع أسلافهم، فإنّ هذا التّكذيب و المعارضة ليس أمرا يخصّك فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ كثيرة العدد، كبيرة المقدار، كانوا مِنْ قَبْلِكَ كنوح، و إبراهيم و موسى و أضرابهم، و هم صبروا على التّكذيب، و ما نالهم من المكذبين، مع أنّهم جاؤُ و أتوهم بِالْبَيِّناتِ المعجزات الظّاهرات التي لم يبق لأحد معها مجال للتّكذيب وَ اَلزُّبُرِ و الصّحف السّماوية المشتملة على الأحكام و المواعظ و الزّواجر وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ الموضّح للحقائق من التّوراة، و الإنجيل.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ (184)و تخصيص الكتاب بالذّكر مع كونه داخلا في عموم الزّبر، للإشعار بكونه أشرف منها. و عطف جميعها على البيّنات، للدّلالة على عدم كون واحد منها معجزا للأنبياء، و أنّ كون نفس الكتاب معجزا، من خصائص خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله، و كتابه المجيد. و وجه كون الآية تسلية وضوح أنّ البليّة إذا

ص: 142


1- . تفسير الرازي 9:121.

عمت طابت.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 185

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية قلبه الشّريف بتذكيره الموت الذي ذكره يهوّن الخطوب، و يسهّل جميع المصائب، و يزيل الكروب، بقوله: كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس البشريّة و الحيوانيّة بالآخرة ذائِقَةُ طعم اَلْمَوْتِ و زهوق الرّوح، بل كلّ موجود من الجسمانيّات، و كلّ مركّب من المركّبات ايل أمره إلى الانحلال و الانعدام، فلا يبقى إلاّ وجهه الكريم.

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ (185)عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «يموت أهل الأرض حتّى لا يبقى أحد، ثمّ يموت أهل السّماء حتّى لا يبقى أحد إلاّ ملك الموت، و حملة العرش، و جبرئيل، و ميكائيل» قال: «فيجيء ملك الموت حتّى يقوم بين يدي اللّه عز و جل فيقول له: من بقي؟ -و هو أعلم-فيقول: يا ربّ، لم يبق إلاّ ملك الموت، و حملة العرش، و جبرئيل، و ميكائيل. فيقال له: قل لجبرئيل و ميكائيل فليموتا. فتقول الملائكة عند ذلك: يا ربّ، رسولاك و اميناك. فيقول: إنّي قضيت على كلّ نفس فيها الرّوح الموت.

ثمّ يجيء ملك الموت حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ فيقال له: من بقي؟ -و هو أعلم-فيقول: يا ربّ، لم يبق إلاّ ملك الموت، و حملة العرش. فيقول: [قل]لحملة العرش فليموتوا ثمّ يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقول: من بقي؟ -و هو أعلم-فيقول: يا ربّ، لم يبق إلاّ ملك الموت. فيقول له: مت يا ملك الموت، فيموت.

ثمّ يأخذ الأرض بيمينه و السّماوات بيمينه، فيقول: أين الّذين كانوا يدعون معي شريكا؟ أين (1)الّذين كانوا يجعلون معي إلها آخر؟» (2)انتهى. فإذا كان ذلك، فلا ينبغي للعاقل أن يغتمّ في المصائب.

ثمّ أنّه سبحانه بعدما كنّى عن الدّار الاخرى بذوق الموت، بيّن توفية ثواب المصدّق، و عقاب المكذّب، بقوله: وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ و تعطون على نحو الكمال جزاء أعمالكم يَوْمَ اَلْقِيامَةِ . قيل: إنّ في لفظ التّوفية إشعارا بأنّ بعض اجورهم يصل إليهم قبل القيامة، كما ينبى عنه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيّران» (3).

فَمَنْ زُحْزِحَ و أبعد عَنِ اَلنّارِ و نحّي منها يومئذ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ بفضل اللّه و رحمته فَقَدْ

ص: 143


1- . في النسخة: من، بدل أين.
2- . الكافي 3:256/25، تفسير الصافي 1:375.
3- . تفسير أبي السعود 2:123، تفسير روح البيان 2:138.

فازَ بالمقصد الأعلى، و ظفر بالبغية العليا.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «موضع سوط في الجنّة خير من الدّنيا و ما فيها، و قرأ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من أحبّ أن يزحزح عن النّار و يدخل الجنّة، فلتدركه منيّته و هو يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و ليوت إلى النّاس ما يحبّ أن يؤتى إليه» (2).

و عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «خياركم سمحاؤكم، و شراركم بخلاؤكم، و من خالص الإيمان البرّ بالإخوان، و السعي في حوائجهم، و إنّ البارّ بالإخوان ليحبّه الرّحمن، و في ذلك مرجمة (1)الشيطان، و تزحزح عن النّيران، و دخول في الجنان» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في حديث: «قال اللّه تعالى: فبعزّتي حلفت، و بجلالي أقسمت أن لا يتولّى عليّا عبد من عبادي إلاّ زحزحته عن النّار، و أدخلته الجنّة، و لا يبغضه عبد من عبادي إلاّ أبغضته، و أدخلته النّار و بئس المصير» (3).

ثمّ أنّه تعالى-بعد ما بيّن أنّ أعلى المقاصد النّجاة من النّار، و الدّخول في الجنّة-بيّن أن أردأ المطالب و أدنى المقاصد هو الدّنيا، بقوله: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و عيشها و لذّاتها و زخارفها بشيء إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ و سلعة مدلّسة. فشبّه سبحانه الدّنيا بالمتاع الذي يدلّس على المستام (4)و يغرّ حتّى يشتريه.

عن سعيد بن جبير: أنّ هذا في حقّ من آثر الدّنيا على الآخرة، و أما من طلب الآخرة بها، فإنّها نعم المتاع (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 186

ثمّ أنّه تعالى-بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن تكذيب الكفّار و أقوالهم السّيّئة المقرحة للقلب-شرع في تسلية المؤمنين عمّا يلقونه من الكفّار فيما بعد؛ ليوطّنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه، و يستعدّوا للقائه و يقابلوه بحسن الصّبر و الثّبات، فإنّ هجوم الآجال يزلزل أقدام الرّجال، و الاستعداد للرّكوب

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (186)

ص: 144


1- . في المصدر: مرغمة.
2- . الكافي 4:41/15، تفسير الصافي 1:375.
3- . أمالي الصدوق:292/326، تفسير الصافي 1:375.
4- . المستام: المشتري.
5- . تفسير الرازي 9:126.

ممّا يهوّن الخطوب ن فقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ البتّة من جانب اللّه أيّها المؤمنون، و لتعاملنّ معاملة المختبر؛ ليظهر ما عندكم من الثّبات على الإيمان و لوازمه بما يقع فِي أَمْوالِكُمْ من ضروب الآفات و المضارّ، وَ بما يقع في أَنْفُسِكُمْ من القتال، و الجرح، و الأسر، و سائر المتاعب و الشّدائد و المصائب.

عن الرّضا عليه السّلام: «فِي أَمْوالِكُمْ : بإخراج الزّكاة، وَ في أَنْفُسِكُمْ : بالتّوطين على الصّبر» (1).

وَ باللّه لَتَسْمَعُنَّ أقوالا سيّئة مِنَ اليهود و النّصارى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ السّماوي من التّوراة و الإنجيل مِنْ قَبْلِكُمْ و في زمان سابق على نزول القرآن عليكم وَ أقوالا مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه و عبدوا الأصنام، كأبي جهل و أبي سفيان و أضرابهما، فيها أَذىً كَثِيراً لكم، و ايلام شديد في قلوبكم، كالطّعن في دين الإسلام، و القدح في أحكامه، و إلقاء الشّبهات، و تخطئة المؤمنين و هجائهم، و تحريض المشركين على مضادّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ إِنْ تَصْبِرُوا على ما يصيبكم من المكاره، و تقابلوه بحسن العزاء و التّحمّل وَ تَتَّقُوا اللّه في مخالفة مرضاته من الإقدام على ما يليق بالمؤمن، و من المداهنة معهم فَإِنَّ ذلِكَ المذكور من الصّبر و التّقوى يكون مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ و صواب التّدبير، و ممّا ينبغي أن يعزم العازمون و يتنافس فيه المتنافسون، لما فيه من كمال المزيّة عند اللّه، و إنفاذ المقصود من الإرشاد و الهداية؛ لأنّه أقرب إلى دخول المخالف في الدّين.

و لذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مداريا للنّاس صبورا على الأذى أكثر من أن يحصى، بل كان مداراته و صبره من كراماته و معجزاته.

روي أنّه بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر إلى فنحاص اليهودي يستمدّه، فقال فنحاص: قد احتاج ربّك إلى أن نمدّه، فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسّيف و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له حين بعثه: «لا تغلبنّ على شيء حتّى تؤدّي إليّ» فتذكّر أبو بكر ذلك و كفّ عن الضّرب، فنزلت (2).

قيل: أمر اللّه سبحانه بالصّبر تقليلا لمضارّ الدّنيا، و أمر بالتّقوى تقليلا لمضارّ الآخرة، فكانت الآية جامعة لآداب الدّنيا و الآخرة (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 187

وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)

ص: 145


1- . علل الشرائع:369/3، تفسير الصافي 1:376.
2- . تفسير الرازي 9:128.
3- . تفسير الرازي 9:129.

ثمّ-لمّا كان كتمان اليهود و النّصارى ما في التّوراة و الإنجيل من دلائل نبوّة خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و علائمه، من أشدّ أنواع إيذائهم للرسول و المؤمنين، و أظهر مصاديقه-تعرّض سبحانه لذلك بقوله: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ، قيل: إنّ المراد: و تذكّر يا محمّد وقتا أخذ اللّه مِيثاقَ اليهود و النّصارى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ و العهد المحكم المبرم عليهم على لسان الأنبياء و الرّسل، حيث قالوا لأممهم-بعد ما بيّنوا لهم ما في الكتاب من صفات نبيّ آخر الزّمان و علائمه-: يا عباد اللّه، باللّه عليكم لَتُبَيِّنُنَّهُ و لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام و الأخبار التي منها أمر نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لِلنّاسِ الّذين لا يطّلعون بما فيه كما أوضحناه و بيّناه لكم وَ لا تَكْتُمُونَهُ عن العوامّ بوسيلة تحريف عباراته، أو إبدائه التّأويلات، أو إلقاء الشّبهات.

هذا حاصل العهد الأكيد بفنون التأكيدات، و مع ذلك فَنَبَذُوهُ و طرحوه لحبّهم الدّنيا و ألقوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ و لم يراعوه، و لم يلتفتوا إليه مع قبوله و الالتزام بالعمل به وَ اِشْتَرَوْا بِهِ و أخذوا بدل الميثاق و الوفاء ثَمَناً و عوضا قَلِيلاً من الزّخارف الدّنيويّة و الحطام الفانية، و أخفوا الحقّ، و استهانوا بالعهد الأكيد الإلهي طمعا في أموال سفلتهم، و حفظا للرّئاسة على جهلتهم فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ و ساء ما يستبدلون به.

و فيه دلالة على نهاية قباحة كتمان الحقّ، و شدّة حرمته على العالم به، للأغراض الدّنيويّة و الأهواء الفاسدة، و لو كان الكاتم من المسلمين.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 188

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الكاتمين لعلائم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدلّسين للحقّ، بقوله: و لا تَحْسَبَنَّ يا محمّد، و لا تتوهّمنّ الكاتمين اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ و يسرّون بِما أَتَوْا من الأموال و الرّئاسات، أو بما فعلوا من نقض العهد، و كتمان آيات نبوّتك وَ يُحِبُّونَ بقلوبهم و يتمنّون أَنْ يُحْمَدُوا بين النّاس بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الوفاء بالعهد، و الصّدق في الإخبار، و التّقوى في الدّين.

لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)ثمّ أكّد سبحانه النّهي عن الحسبان بقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ متمكّنين بِمَفازَةٍ و منجاة مِنَ

ص: 146


1- . مجمع البيان 2:905، تفسير الرازي 9:131، تفسير الصافي 1:376.

اَلْعَذابِ في القيامة.

و عن القمّي، عن الباقر عليه السّلام: «أي ببعيد من العذاب» (1).

وَ لَهُمْ بالاستحقاق عَذابٌ بالنّار أَلِيمٌ غايته، بسبب كفرهم، و كتمانهم، و تدليسهم.

عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه: هم اليهود، حرّفوا التّوراة، و فرحوا بذلك، و أحبّوا أن يوصفوا بالدّيانة و الفضل (2).

و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سأل اليهود عن شيء ممّا في التّوراة فكتموا الحقّ، و أخبروه بخلافه، و أروه أنّهم قد صدّقوه، و استحمدوا إليه، و فرحوا بما فعلوا (3).

و عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلّفون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغزو، و يفرحون بقعودهم، فإذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم، فطمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني على المسلمين المجاهدين (2).

أقول: يحتمل أنّه قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه الآية في أولئك المنافقين، فتوهّم (3)أنّها نزلت فيهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 189

ثمّ أعلن سبحانه بعظم سلطانه، وسعة قدرته ازديادا للرّهبة في القلوب، بقوله: وَ لِلّهِ وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السّلطنة الاستقلاليّة التّامّة فيهما، بحيث لا يخرج من سلطانه شيء من الأشياء، و ذرّة من الذّرّات وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من القهر و الغلبة و التّعذيب قَدِيرٌ لا يدفعه شيء عن إنفاذ إرادته، و مع ذلك كيف يجترى العاقل على عصيانه؟

وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 190

ثمّ أكّد سبحانه تخصيصه بالسّلطنة التّامّة، و القدرة الكاملة، بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ السّبع أو التّسع، و إنشائها على ما هي عليه من ذواتها، و صفاتها، و كواكبها، و حركاتها، و سائر أمورها التي تحار فيها العقول.

إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (190)عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال في صفة السّماوات: «جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا، و علياهنّ سقفا

ص: 147


1- . تفسير القمي 1:129، تفسير الصافي 1:377. (2 و 3) . تفسير أبي السعود 2:125.
2- . تفسير الرازي 9:132.
3- . أي أبو سعيد الخدري.

محفوظا و سمكا مرفوعا، بغير عمد يدعمها، و لا دسار (1)يتظمها (2)، ثمّ زيّنها بزينة الكواكب، و ضياء الثواقب، و أجرى فيها سراجا مستطيرا، و قمرا منيرا في فلك دائر، و سقف سائر، و رقيم مائر» (3).

وَ في خلق اَلْأَرْضِ على ما هي عليه في ذاتها، و صفاتها، و أجزائها، و ما خلق فيها من البحار و الجبال و المعادن و الأشجار، وَ في اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ و تعاقبهما، و قيل: اختلاف لونهما و تفاوتهما بازدياد كلّ منهما و نقص الآخر، بحسب اختلاف حال الشّمس بالنّسبة إلينا قربا و بعدا لَآياتٍ عظيمة، و دلائل واضحة على وحدة خالقها، و كمال قدرته، وسعة علمه، و بلوغ حكمته، و عظم سلطانه، و علوّ شأنه، و لكن لا لجميع الخلق لعمى قلوب أكثرهم، و عدم تفكّرهم فيهان بل لِأُولِي اَلْأَلْبابِ منهم، و ذوي العقول السّليمة، و الأفهام المستقيمة الخالصة عن شوائب الأوهام و الشّهوات الحيوانية، و الأهواء الزّائغة النّفسانيّة خاصّة، لتنوّر قلوبهم، و نفوذ بصيرتهم.

قيل: لمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدعو أهل مكّة إلى عبادة اللّه وحده سألوه أن يأتيهم بآية تصحّح دعواه، فنزلت.

قيل: إنّه تعالى ذكر في سورة البقرة في نظير الآية، الآيات الثّمانية، و اكتفى هنا بذكر الثلاثة منها؛ لأنّ السّالك إلى اللّه في أوّل الأمر لا بدّ له من تكثير الدّلائل، فإذا استنار قلبه بنور المعرفة صار اشتغاله بالدّلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في المعرفة، فيصير طالبا لتقليلها.

ففي الآية الاولى إشارة إلى مبدأ السّلوك، و لذا قال هناك: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)و هنا: لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ، فإنّ لبّ العقل خالصه و مصفاه و كماله.

عن ابن عمر، قال: قلت لعائشة: ما أعجب ما رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله! فبكت فأطالت، ثمّ قالت: كلّ أمره عجيب، أتاني في ليلة فدخل لحافي حتّى ألصق جلده بجلدي، ثم قال لي: «يا عائشة، هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي؟» ، فقلت: يا رسول اللّه، إنّي لاحبّ قربك و احبّ مرادك، قد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ، و لم يكثر من صبّ الماء، ثمّ قام يصلّي فقرأ من القرآن فجعل يبكي، ثمّ رفع يديه و جعل يبكي، حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال له: يا رسول اللّه أتبكي، و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر! فقال: «يا بلال، أ فلا أكون عبدا شكورا؟» ثمّ قال: «ما لي لا أبكي و قد أنزل اللّه في هذه اللّيلة: إِنَّ فِي خَلْقِ

ص: 148


1- . الدّسار: المسمار.
2- . في نهج البلاغة: ينظمها.
3- . نهج البلاغة:41 الخطبة 1.
4- . البقرة 2:164.

اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ. . . ؟» ثمّ قال: «ويل لمن قرأها، و لم يتفكّر فيها» (1).

و روي أنّه قال: «ويل لمن لاكها بين فكّيه، و لم يتأمّل فيها» (2).

و عن عليّ عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قام من اللّيل يتسوّك، ثمّ ينظر إلى السّماء و يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 191

ثمّ وصف اللّه سبحانه اولي الألباب بقوله: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ بألسنتهم و قلوبهم حال كونهم قِياماً وَ قُعُوداً وَ مضطجعين عَلى جُنُوبِهِمْ و في سائر أحوالهم.

اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ اَلنّارِ (191)قيل: إنّه ثبت في الطّبّ: أنّ كون الإنسان مستلقيا على قفاه، يمتنع عن استكمال الفكر و التّدبّر، بخلاف الاضطجاع على الجنب، و أنّ الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق (4).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أراد أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر اللّه» (5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من أكثر ذكر اللّه أحبّه [اللّه]» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «[لا يزال]المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللّه قائما و جالسا و مضطجعا، إنّ اللّه يقول: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ، الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالسا» (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعمران بن حصين: «صلّ قائما، فإن لم تستطع [فقاعدا، فإن لم تستطع]فعلى جنب تومئ إيماء» (4).

ثمّ لمّا كان كمال الذّكر بكونه مع التّفكّر، وصفهم بقوله: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ و إنشائها وَ اَلْأَرْضِ و إيجادها، و يعتبرون بهما.

و قيل: إنّ المراد: يتفكّرون في ما خلق اللّه في السّماوات من الشّمس و القمر و النّجوم، و في ما خلق اللّه في الأرض من الجبال و البحار و الأشجار و الوحوش و الطّيور.

ص: 149


1- . تفسير الرازي 9:133، تفسير روح البيان 2:145. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:134. (4 و 5) . تفسير الرازي 9:136.
2- . الكافي 2:362/3، تفسير الصافي 1:377.
3- . العياشي 1:357/829 و 831، و تفسير الصافي 1:377 عن الباقر عليه السّلام.
4- . تفسير أبي السعود 2:129.

و إنّما خصّ التّفكّر بالخلق؛ لأنّ معرفة حقيقة ذاته تعالى غير ممكنة للبشر، فلا فائدة لهم في التّفكّر في ذاته المقدّسة، و لذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تفكّروا في الخلق، و لا تتفكّروا في الخالق» (1).

قيل: لمّا كان الإنسان مركّبا من النّفس و البدن، كانت العبوديّة بحسب النّفس و البدن، فأشار إلى عبوديّة البدن بقوله: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ. . . ، فإنّ ذلك لا يتمّ إلاّ باستعمال الجوارح و الأعضاء و أشار إلى عبودية القلب و الرّوح بقوله: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ. . . .

في فضيلة التفكر

و فوائده

ثمّ-لمّا كان نتيجة التّفكّر في المخلوقات تنوّر القلب، و زيادة المعرفة بسعة قدرة اللّه و كمال حكمته-وصفهم بعد التّفكّر في عجائب صنع السّماوات و الأرض بإظهار المعرفة بقولهم: رَبَّنا اعترفنا بأنّك ما خَلَقْتَ هذا الخلق العظيم، و المصنوع العجيب باطِلاً و عبثا، بل فيه حكم بالغة و أسرار عظيمة لا تحيط بأقلّ قليل منها عقول الكائنات، و لا يمكن ان يبلغ إلى عشر من أعشارها إدراك الممكنات.

ثمّ لمّا كان من لوازم التّفكّر في الخلق، تنزيه خالقه عن التّشبيه به، يبادرون بعد التّفكّر إلى تنزيهه تعالى من الصّفات الإمكانيّة بقولهم: سُبْحانَكَ أن يكون لك خصائص الممكنات، و نقدّسك عن نقائض المخلوقات، و ننزّهك عمّا لا يليق بك من العبث، و فعل ما لا حكمة فيه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نبّه بالتّفكّر قلبك، و جاف عن اللّيل جنبك، و اتّق اللّه ربّك» (3).

و عن الرّضا عليه السّلام: «ليس العبادة كثرة الصّلاة و الصّوم، و إنّما العبادة التّفكّر في أمر اللّه» (4).

و روي أنّه كان أكثر عبادة أبي ذرّ التّفكّر [و الاعتبار] (5).

و يشهد على كون التفكّر أفضل العبادات، وضوح أنّ الغرض من الخلق المعرفة، و هي موقوفة على التّفكّر في صنائع اللّه عزّ و جلّ، فإنّ من تفكّر فيها-على ما هي عليه من النّمط البديع-قضى باتّصاف صانعها بالوجوب الذّاتي، لامتناع انتهاء وجود الممكن إلاّ إلى الواجب. و من اتّساقها على النّظام الأتمّ، علم بوحدانيّته الذّاتيّة، و قدرته الكاملة، و علمه الواسع، و حكمته البالغة.

و من لوازم حكمته جعل التّكاليف، و لازمه جعل الثّواب و العقاب، و لازمه إيجاد عالم آخر، و بعث المكلّفين فيه، ليتعامل معهم على حسب استحقاقهم، و أنّ من قدر على إنشائهم بلا مثال كان على

ص: 150


1- . تفسير الرازي 9:137.
2- . تفسير روح البيان 2:145.
3- . الكافي 2:45/1، تفسير الصافي 1:377.
4- . الكافي 2:45/4، تفسير الصافي 1:377.
5- . الخصال:42/33، بحار الأنوار 22:431/39.

إعادتهم أقدر. فظهر أنّ معرفة المبدأ و المعاد، و وظائف العبوديّة، و وجوب القيام بها نتيجة التّفكّر في الآفاق و الأنفس.

ثمّ لمّا كان على المؤمن بعد معرفة اللّه، و ظهور عظمته في قلبه، غاية التّخضّع، و إظهار ذلّة العبوديّة -و من الواضح أنّ أحبّ أنواعه عند اللّه الضّراعة و سؤال الحاجة، و أنّ أهمّ الحوائج للعباد، المؤمنين بالمعاد، النّجاة من العذاب، و السّلامة من العقاب-حكى اللّه بعد مدحهم بالتّفكّر و المعرفة و التّسبيح، ضراعتهم و مسألتهم النّجاة من النّار بقوله: فَقِنا عَذابَ اَلنّارِ الذي أعددته للكافرين بك، و الجاحدين لربوبيّتك، و احفظنا منه بالتّوفيق للاجتناب عن الزّلاّت و المعاصي، حيث إنّه لا تسلم نفس من اقتراف الذّنوب مع خذلانك، و لا يرجى النّجاة من المهالك إلاّ بحفظك، فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء، و الشّيطان عدوّ مبين.

قيل: في ذكر (الفاء) إشعار بترتّب هذا السّؤال على الذّكر و الفكر، و حصول المعرفة الكاملة، كأنّهم قالوا: و إذ عرفنا سرّك، و أطعنا أمرك، و نزّهناك عمّا لا يليق بك، فاحفظنا من عذاب النّار الذي هو جزاء من لا يعرفك.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 192

ثمّ لمّا كان الالتفات بعظم الحاجة موجبا لقوّة الدّاعي في الطلب و الإلحاح، حكى عنهم ذكر عظمة مطلوبهم بقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ غاية الخزي، و أبعدته من مقام قربك، و حرمته من ساحة رحمتك، و أهنته بين خلقك، و فضحته على رؤوس الأشهاد، و أهلكته أبد الآباد. و في التّصدير بالنّداء مبالغة في التّضرّع، و إلحاح في الدّعاء، و في توصيفه بالرّبوبيّة و إضافتها إلى ضمير المتكلّم استرحام و استعطاف. و في التّأكيد ب(إنّ) إظهار لكمال اليقين بمضمون الجملة، و إيذان بشدّة الخوف. و في ذكر النّار موضع الإضمار إشعار بتهويل أمرها. و في ذكر (تدخل) بدل (تعذب) تعيين كيفيّة التّعذيب، و تبيين غاية فظاعته. و في ترتيب الخزي على التّعذيب بالنّار دلالة على أنّ العذاب الرّوحاني أشدّ من الجسماني، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «هبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟» (1).

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)ثمّ بالغوا في إظهار نهاية فظاعة حالهم تأكيدا لاستدعائهم، بقوله: وَ ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم بعصيانك، حين دخولهم في النّار مِنْ أَنْصارٍ و أعوان كي يدفعوا عنهم العذاب.

ص: 151


1- . مصباح المتهجد:847.

و فيه إشعار بخلود عذابهم، بفقدان من يقوم بنصرتهم و تخليصهم. و في ذكر الظّالمين موضع الضّمير الرّاجع إلى المدخلين دلالة على ذمّهم، و علّة استحقاقهم لأشدّ العذاب.

ثمّ لمّا كان المراد بالنّاصر هو المدافع بالقهر، فلا دلالة في نفيه على نفي الشّفاعة التي هي ضراعة الشّفيع في التّخليص.

عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «ما لهم من أئمّة يسمّونهم بأسمائهم» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 193

ثمّ-لمّا كان الانقياد و حسن الخدمة و الطاعة دخيلا في تعطّف المسؤول، و إقدامه في قضاء حاجه السّائل، و إجابة دعائه-حكى اللّه عن المؤمنين إظهار إيمانهم و طاعتهم له و لرسوله بقوله: رَبَّنا و مليكنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً و داعيا عظيم الشّأن، كثير الاهتمام بالدّعوة، بحيث يرفع صوته بها، و هو يُنادِي و يدعو عامّة النّاس بصوت عال لِلْإِيمانِ بك و بوحدانيّتك، و كمال صفاتك، و صحّة شريعتك، و يدعوهم إلى سبيل مرضاتك، و الالتزام بطاعتك بكلمة جامعة لجميع هذه الأمور، هي أَنْ آمِنُوا أيّها النّاس بِرَبِّكُمْ و خالقكم اللّطيف بكم، و الرّؤوف المتولّي لجميع اموركم، الحافظ لمصالحكم، لوضوح أنّ معرفته تعالى بصفة الرّبوبيّة و الإيمان به ملازم للإيمان برسوله و كتابه و شريعته.

رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ اَلْأَبْرارِ (193)و يحتمل أن يكون وجه تخصيص الأمر بالإيمان بالرّبّ، تفخيم شأنه.

فَآمَنّا به بلا مماطلة امتثالا لأمره، و بادرنا إلى الإقرار به إجابة لدعوته رَبَّنا إذن فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا و تجاوز عن كبائر معاصينا، جزاء لإيماننا بك وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا و امح صغائر زلاّتنا. و قيل: إنّ الجملة تأكيد للاولى.

ثمّ بعد سؤال المغفرة و التماس الأمن من العقوبة، يتوجّهون الى النّعم و اللّذائذ، و يسألون أتمّها و أعلاها بقولهم: وَ تَوَفَّنا و اقبض أرواحنا، و أخرجنا من الدّنيا حال كوننا مصاحبين مَعَ اَلْأَبْرارِ محظوظين بجوارهم، ملتذّين بمرافقتهم و صحبتهم، فإنّ صحبة الأحبّة أتمّ اللّذائذ و أعلا الحظوظ.

و قيل: إنّ المراد: حال كوننا معدودين في زمرة المطيعين، أو التّابعين لهم في أعمالهم، حتّى نكون في درجاتهم.

ص: 152


1- . تفسير العيّاشي 1:357/832، تفسير الصافي 1:378.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 194

ثمّ بعد طلب الأمن من العقوبة، و سؤال أهم النّعم، يعمّون السّؤال، و يستدعون جميع المثوبات الموعودة للمؤمنين، بقولهم: رَبَّنا وَ آتِنا برحمتك، و أعطنا بجودك و كرمك ما وَعَدْتَنا من الثّواب و الأجر الدّنيوي و الاخروي عَلى تصديق رُسُلِكَ . و قيل: إنّ المراد: ما وعدتنا بالوعد الكائن على ألسنة رسلك، و وسائط تبليغ وحيك.

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ (194)و في تكرير النّداء بقولهم: رَبَّنا إظهار المبالغة في الضّراعة.

عن الصادق عليه السّلام: «من حزبه (1)أمر فقال: ربّنا؛ خمس مرّات، أنجاه اللّه ممّا يخاف، و أعطاه ما أراد» (2). و في ذكر جميع الرّسل-مع كون المراد من المنادي للإيمان خصوص خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله-إشعار باتّفاقهم في الوعد، و تأكّده بكثرة الشّهود، و إظهار كمال الثّقة بإنجازه.

ثمّ أنّه تعالى-بعدما حكى عن المؤمنين تقديم سؤال المغفرة و الأمن من العقوبة على سؤال الجنّة و سائر النّعم و المثوبات، إظهارا لأهميّته و كونه أصلا، و غيره فرعا و تبعا-حكى عنهم ختم دعواتهم به تثبيتا لذلك، بقوله: وَ لا تُخْزِنا و لا تهنّا بين النّاس يَوْمَ اَلْقِيامَةِ بالعذاب الدّائم.

و قيل: إنّ السّؤال الأوّل-و هو الوقاية من النّار-طلب الأمن من العذاب الجسماني، و السّؤال الآخر من قولهم: وَ لا تُخْزِنا، طلب السّلامة من الخزي و الهوان؛ و هو العذاب الرّوحاني، حيث يظهر يوم القيامة لبعض العباد أنّ اعتقاده كان ضلالا، و عمله كان ذنبا؛ كما قال تعالى: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا (3)، فعند ذلك يحصل لهم خجلة عظيمة، و حسرة كاملة، و أسف شديد، و ذلك هو العذاب الرّوحاني، و هو أشدّ من العذاب الجسماني.

و قيل: إنّ المراد: لا تهنّا حين إعطاء الثّواب، بل عظّمنا و أكرمنا. فإنّه يمكن أن يكون إعطاء الثّواب مقرونا بالتّوهين.

ثمّ حكى اللّه سبحانه عن المؤمنين إظهار اليقين بامتناع صدور خلف الوعد منه تعالى، بقوله: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ لإظهار أنّ سؤال الوفاء بالوعد ليس لخوف صدور خلف الوعد منه تعالى، بل لإظهار الاستكانة، أو احتمال التّقصير من قبلهم، و الخوف من أنّهم لا يكونون من جملة الموعودين، لسوء العاقبة، أو القصور في الامتثال، فمرجعها إلى الدّعاء بالتّثبّت على الإيمان و الطّاعة.

ص: 153


1- . حزبه الأمر: اشتدّ عليه.
2- . تفسير الرازي 9:151، تفسير أبي السعود 2:133.
3- . الزمر:39/48.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه البعث بعد الموت (1). يعني: المراد من الميعاد: البعث الموعود.

في ذكر آداب

الدعاء و كيفيته

ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى علّم عباده-في هذه الآيات من قوله: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ (2)إلى قوله: لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ -آداب الدّعاء و كيفيّاته، حيث ظهر منها أنّه لا بدّ للدّاعي قبل الدّعاء [من]التّفكّر في آيات اللّه، و تحصيل المعرفة به، ثمّ ثنائه بالتّسبيح و التّهليل، ثمّ مخاطبته بخطاب فيه كمال الضرّاعة، و إظهار العبوديّة و الاستكانة، ثمّ ندائه بما فيه جلب العطوفة؛ كقول: يا ربّ، يا رحيم، يا رؤوف، و أمثال ذلك، ثمّ تذكّر ما فيه اشتداد شوقه إلى الدّعاء، و ما يؤثّر في تقوية داعي المدعوّ إلى الإجابة، ثمّ يخصّ دعاءه بالمهمّات، و يكون نظره إلى الحوائج الاخرويّة، و لا يعتني إلى الدّنيا و ما فيها، و لا يطلب في دعائه شيئا منها، و يقدّم أوّلا طلب المغفرة؛ لأنّها-مع كونها من أهمّ الحوائج-لها أثر تامّ في إجابة الدّعاء به.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من لزم الاستغفار جعل اللّه له من كلّ همّ فرجا، و من كلّ ضيق مخرجا، و رزقه من حيث لا يحتسب» الخبر (3).

و يسأل النّجاة من النّار و الهوان في الآخرة، ثمّ يطلب النّعم و الدّرجات الرّفيعة في الجنان-لتقدّم التّخلية على التّحلية-و أن يكون على يقين بكرم اللّه، و أنّه يجيب دعوة الدّاعي إذا دعاه حسب ما وعد، و أنّه لا يخلف الوعد، و لا يسوء ظنّه به تعالى.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 195

ثمّ رتّب اللّه على دعواتهم الجامعة لآدابها الإجابة السّريعة بقوله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ و تحقّق إنجاح مسؤولهم من مليكهم اللّطيف بهم، المكمّل لنفوسهم.

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوابِ (195)و قيل: إنّ (استجاب) أخصّ من (أجاب) ، فإنّ (أجاب) معناه: أعطاه الجواب، و هو أعمّ من إعطاء المطلوب، و إنّما يقال: (استجاب) إذا حصل المطلوب.

ص: 154


1- . تفسير البيضاوي 1:196، تفسير أبي السعود 2:133.
2- . آل عمران:3/191.
3- . تفسير روح البيان 2:149.

و استجابته كانت بإنجاز وعده بالثّواب على الإيمان و أعمالهم الصّالحة المسلتزمة للمغفرة و الوقاية من النّار، موجّها الخطاب إليهم تشريفا لهم، و تطييبا لقلوبهم، بقوله: أَنِّي لا أُضِيعُ و لا ابطل عَمَلَ عامِلٍ أيّ عامل كان مِنْكُمْ من الكاملين في الإيمان، أو الضّعفاء مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى و من خسيس النّسب أو شريفه؛ لأنّه بَعْضُكُمْ منشعب مِنْ بَعْضٍ آخر، و كلّكم من أصل واحد، فلا مزيّة لأحد على أحد عند اللّه إلاّ بالتّقوى و العمل الصّالح، فمع تساوي النّسبة إلى اللّه، و كون التّفاوت و المزيّة بالإيمان و القيام بوظائف العبودية، لا يمكن إثابة بعض دون بعض.

و قيل: إنّ المراد من قوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أنّكم متوافقون في الدّين و الأعمال؛ كما قال في حقّ المنافقين: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (1).

و قيل: إنّ (من) بمعنى: (الكاف) و المعنى: بعضكم كبعض (2)، و المقصود: بيان شركة النّساء مع الرّجال في ما وعد للأعمال.

روي أنّ امّ سلمة قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أسمع اللّه يذكر الرّجال في الهجرة، و لا يذكر النّساء، فنزلت الآية (3).

ثمّ ذكر اللّه تفصيل أعظم الأعمال التي يستحقّ بها غاية الثّواب، بقوله: فَالَّذِينَ هاجَرُوا من أوطانهم حفظا لدينهم، و اختيارا لخدمة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و شوقا إلى صحبته-عن القمّي رحمه اللّه يعني: أمير المؤمنين، و سلمان (2)-أو لم يهاجروا اختيارا وَ لكن أُخْرِجُوا قهرا و جبرا مِنْ دِيارِهِمْ التي ولدوا فيها و توطّنوها، و اضطرّوا إلى ترك الإقامة بها بسبب إيذاء المشركين، و الخوف على أنفسهم و أعراضهم، وَ الّذين أُوذُوا من الكفّار، بأيّ نوع من أنواع الإيذاء فِي سَبِيلِي لأجل تحصيل مرضاتي من الإقرار بالتّوحيد، و الدّخول في الملّة الحنيفيّة وَ الّذين قاتَلُوا أعداء الدّين، و جاهدوا معهم نصرة للإسلام وَ قُتِلُوا في ترويج الشّريعة، تاللّه لَأُكَفِّرَنَّ و أمحونّ عَنْهُمْ و من صحيفة أعمالهم سَيِّئاتِهِمْ و خطاياهم وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ في القيامة برحمتي و فضلي جَنّاتٍ عديدة، تكون من محسّناتها و صفاتها أنّه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، و لاثيبنّهم وفاء بالوعد ثَواباً عظيما على هذه الأعمال و غيرها، حال كون ذلك الثّواب تشريفا لهم مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و من قبل فضله وجوده.

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد الوعد، و تشريف الثواب بقوله: وَ اَللّهُ مذخور عِنْدَهُ و في خزائن

ص: 155


1- . التوبة:9/67. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:150.
2- . تفسير القمي 1:129، تفسير الصافي 1:379.

جوده حُسْنُ اَلثَّوابِ و أكمل الجزاء على طاعته، لا يعادله ثواب، و لا يشابهه جزاء.

قيل: في تصدير الوعد الكريم بعدم الإضاعة، ثمّ تعقيبه بهذا الإحسان الجسيم الذي لا يقادر قدره من لطف المسلك المنبئ من عظم شأن المحسن ما لا يخفى.

ثمّ أنّ ظاهر الآية و إن كان ثبوت هذا الأجر العظيم للّذين اجتمعت لهم جميع هذه الأمور من الهجرة، و الإخراج من الاوطان، و الإيذاء، و المقاتلة و القتل، و لكن يحتمل أن يكون لمن له أحدها، و يؤيّده سعة رحمة اللّه و فضله.

عن (الأمالي) : أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا هاجر من مكّة إلى المدينة ليلحق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ و قد قارع الفرسان من قريش، و معه فاطمة بنت أسد و فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و فاطمة بنت الزّبير، فسار ظاهرا قاهرا حتّى نزل ضجنان (1)فتلوّم بها يوما و ليلة، و لحق به نفر من ضعفاء المؤمنين، و فيهم امّ أيمن مولاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يصلّي ليلته تلك هو و الفواطم و يذكرون اللّه قياما و قعودا و على جنوبهم، فلن يزالوا كذلك حتّى طلع الفجر، فصلّى بهم صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه.

فجعل هو و هنّ يصنعون ذلك منزلا بعد منزل، يعبدون اللّه عزّ و جلّ و يرغبون إليه كذلك حتّى قدموا المدينة، و قد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً (2)الآيات، إلى قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى الذّكر: علىّ عليه السّلام، و الانثى: الفواطم بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني: عليّ من فاطمة، أو قال: من الفواطم، و هنّ من عليّ (3).

و عن القمّي رحمه اللّه: فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: أبا ذرّ حين اخرج و عمّار اللذين اوذوا في سبيل اللّه (4).

أقول: الظّاهر أنّ الرّواية بيان لأظهر مصاديق الآية و أكملها، لا أنّها تفسير لها، بل هي عامّة لكلّ من اتّصف بتلك الصّفات.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 196 الی 197

ثمّ لمّا وعد اللّه سبحانه الثّواب العظيم على الإيمان و الهجرة، و كان المهاجرون في شدّة الفقر و الفاقة، صاروا معرضا للطّعن بأنّه لو كان لهم منزلة عند اللّه لأعطاهم من الدّنيا ما يعيشون به في

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ (197)

ص: 156


1- . ضجنان: جبل على بريد من مكة.
2- . آل عمران 3/191.
3- . أمالي الصدوق:471/1031، تفسير الصافي 1:379.
4- . تفسير القمي 1:129، تفسير الصافي 1:379.

الرّاحة، فدفع اللّه ذلك الطّعن، و سلّى قلوب المؤمنين مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله تشريفا له، و إيذانا بكونه المسلّي عن اللّه و المبلّغ، بقوله: لا يَغُرَّنَّكَ و لا يلقينّك في اعتقاد خلاف الواقع-و قيل: إنّ الخطاب لكلّ أحد- تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ و تصرّفهم في المكاسب و المتاجر، و تبسّطهم في المعيشة، و المؤمنون في شدّة الفاقة-أو المراد: سيرهم في الأرض آمنين، و المؤمنون في خوف-أنّ للكفّار منزلة عند اللّه دون المؤمنين،

فإنّ الغنى أو الأمن الذي يكون للكفّار مَتاعٌ قَلِيلٌ في الدّنيا، و انتفاع يسير فيها، يزول بسرعة و لو كانت مدّته طويلة، لوضوح أنّ أمد الدّنيا-بالنّسبة إلى طول مدّة الآخرة-أقلّ من دقيقة بالإضافة إلى أضعاف عمر الدّنيا، و أنّه لا قدر لنعمها في جنب أقلّ قليل من نعم الآخرة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «ما الدّنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر ما (1)يرجع!» (2).

ثُمَّ بعد انقضاء أجلهم يكون مَأْواهُمْ و منزلهم إلى الأبد جَهَنَّمُ يصلونها وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ تلك جهنم، و ساء ما مهّدوا و هيئوا لأنفسهم من النّار بسبب كفرهم باللّه، و حبّهم للدّنيا.

قيل: إنّ مشركي مكّة كانوا يتّجرون و يتنعّمون، و إنّ بعض المسلمين كانوا يرونهم في رخاء ولين عيش فيقولون: [إنّ]أعداء اللّه في ما نرى من الخير، و قد هلكنا من الجوع و الجهد، فنزلت (3).

و قيل: إنّ اليهود كانت تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فنزلت (4)، فبيّن اللّه تعالى أنّ الدّنيا مع قلّتها و خساستها مورثة للعذاب الدّائم. و من الواضح أنّ النّعمة القليلة لا تعدّ نعمة إذا كانت مستتبعة للمضرّة الشّديدة، بل يجب على العاقل أن يتحرّز منها، و يفرّ عنها.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 198

ثمّ أتبع اللّه سبحانه وعيد الكفّار المنهمكين في حبّ الدّنيا بوعد المؤمنين المهتمّين بامور الآخرة، بالثّواب العظيم، و بيّن حسن حالهم فيها، غبّ (3)بيان كرّر ذكره إثر ما قرّر، مع زيادة بيان خلودهم في الجنّات العالية و النّعم الباقية، ليتمّ بذلك سرورهم، و يتزايد به إيضاح سوء حال مخالفيهم، بقوله: لكِنِ المؤمنون اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ و خافوا من عصيان مليكهم، و احترزوا عن الإشراك به

لكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

ص: 157


1- . في تفسير أبي السعود: بم.
2- . تفسير أبي السعود 2:135. (3 و 4) . تفسير الرازي 9:152.
3- . الغبّ: بمعنى بعد.

و الكفران لنعمه، يكون لَهُمْ خاصّة بالاستحقاق جَنّاتٌ عديدة، و بساتين عالية ذوات أشجار وفيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا، آمنين من الخروج منها، و تكون تلك النّعم العظيمة نُزُلاً و تهيئة تشريفيّة مِنْ عِنْدِ اَللّهِ للنّازلين عليه، و الوافدين لديه.

و قيل: إنّ المراد أنّها تكون رزقا و عطاء لهم من فضله.

وَ ما هو مذخور عِنْدِ اَللّهِ و في خزائن رحمته من النّعم خَيْرٌ و أنفع؛ لكثرتها و دوامها، و خلوصها من شوب المكاره لِلْأَبْرارِ و المطيعين للّه، ممّا يتقلّب فيه الكفّار، و يكتسبون من الأموال، و يتمتّع به الفجّار، و ينتفعون من متاع الدّنيا؛ لقلّته، و سرعة زواله، و شوبه بأنواع المكاره و الآلام، مع و خامة تبعاته و وباله.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: ما من نفس برّة و لا فاجرة إلاّ و الموت خير لها، أمّا البرّة فإنّ اللّه تعالى يقول: وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ و أمّا الفاجرة فإنّه يقول: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً (1).

و عن ابن الخطاب، قال: جئت فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مشربة (2)، و إنّه لعلى حصير ما بينه و بينه شيء، و تحت رأسه و سادة من أدم حشوها ليف، و عند رجليه قرظا مصبورا (3)، و عند رأسه اهب (4)معلّقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما يبكيك؟» فقلت: يا رسول اللّه، إنّ كسرى و قيصر فيما هما فيه، و أنت رسول اللّه! فقال: «أما ترضى أن تكون لهما الدّنيا و لنا الآخرة» (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 199

ثمّ أنّه تعالى بعدما بين سوء حال الكفار، الذين منهم أهل الكتابين، بشّر بحسن حالم من آمن منهم بدين الإسلام، بقوله: وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ الّذين دخلوا في دين الإسلام عن صميم القلب، كعبد اللّه بن سلام و أضرابه لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ و يصّدق بوحدانيّته وَ يعترف بأنّ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من الدّين و القرآن حقّ، و أنّهما من اللّه.

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (199)

ص: 158


1- . تفسير روح البيان 2:154، و الآية من سورة آل عمران:3/178.
2- . المشربة: الغرفة.
3- . القرظ: ورق السّلم يدبغ به، و مصبور، أي مجموع مكوّم.
4- . الأهب: جمع إهاب، و هو الجلد قبل الدّبغ.
5- . تفسير روح البيان 2:154.

و تقديمه (1)على قوله: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتابين، في الذّكر-مع أنّ الأمر في الوجود بالعكس- للإشعار بأشرفيّة الإيمان بالأول من الثّاني، و أنّ الإيمان بالكتابين متوقّف على ثبوتهما بالقرآن، لانقطاع التّواتر عنهما، و ثبوت التّحريف فيهما، حسب ما حقّق في محلّه، فلو لم يكن إخبار القرآن بكونهما من عند اللّه لم يكن طريق إلى الإيمان بهما.

ثمّ وصفهم اللّه بكونهم خاشِعِينَ متواضعين لِلّهِ خوفا من عقابه و طمعا في ثوابه، أو تعظيما له، و بكونهم لا يَشْتَرُونَ و لا يستدلون بِآياتِ اَللّهِ المنزلة في الكتابين ثَمَناً قَلِيلاً و عوضا يسيرا، و لا يحرّفونهما، و لا يكتمون ما فيهما من شواهد نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله استجلابا لحطام الدّنيا، و حفظا لرئاستهم، كما هو دأب من لم يسلم من أحبارهم و قسّيسيهم أُولئِكَ المتّصفون بهذه الصّفات الكريمة الفائقة لَهُمْ أَجْرُهُمْ العظيم الموعود، و ثوابهم المذخور عِنْدَ رَبِّهِمْ اللّطيف بهم، يصل إليهم في الآخرة بلا تأخير و لا تسويف، بسبب طول الحساب إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ لسعة علمه بجميع الأشياء، فلا حاجة له في تعيين جزاء العاملين إلى فكر و وعي صدر، و مدّة و تحقيق و كتب، فيكون أجر كلّ أحد سريع الوصول إليه.

عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في النّجاشي، فإنّه لمّا مات نعاه جبرئيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: «اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» ، فخرج إلى البقيع، و نظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النّجاشي، و صلّى عليه و استغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا، يصلّي على علج (2)نصراني لم يره قطّ، و ليس على دينه، فنزلت (3).

و قيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران، و آثنين و ثلاثين رجلا من الحبشة، و ثمانية من الرّوم، كانوا على دين عيسى عليه السّلام فأسلموا (4).

و قال بعض: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلّهم (5) .

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 200

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر في السّورة المباركة كثيرا من الاصول كالتوحيد و العدل و النّبوّة و المعاد، و كثيرا من الفروع كالحجّ و الجهاد و غيرهما، ختمها ببيان ما يوجب المحافظة عليها، و القيام بالعمل بها،

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

ص: 159


1- . أي تقديم قوله تعالى: ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ على قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ .
2- . العلج: الكافر من العجم. (3 و 4) . مجمع البيان 2:916.

بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا على مشاقّ التّكاليف، و ما يصيبكم من الشّدائد كالقحط، و الفقر، و البلايا، و الأمراض، و سائر المصائب، أو على أداء الواجبات وَ صابِرُوا في قتال أعداء اللّه في مواطن الحروب، و في أداء حقوق النّاس و تحمّل المكاره منهم، أو على ترك المحرّمات. و تخصيص المصابرة بالأمر بعد الأمر بمطلق الصّبر، لاختصاصها بمزيد التّعب و المشقّة.

عن القمّي: عن الصادق عليه السّلام: «اصبروا على المصائب، و صابروا على الفرائض» (1).

و عن العيّاشي: عنه عليه السّلام: «اصبروا على المعاصي، و صابروا على الفرائض» (2).

و في رواية: «اصبروا على دينكم، و صابروا عدوّكم ممّن يخالفكم» (3).

و عن (المعاني) : عنه عليه السّلام: «اصبروا على المصائب، و صابروهم على الفتنة» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «و صابروهم على التقيّة» (5).

وَ رابِطُوا على الأئمّة، كما عن الصادق عليه السّلام (6). و في رواية اخرى: «و رابطوا إمامكم» (7). و في اخرى: «رابطوا على ما تقتدون به» (8).

أو المراد: رابطوا الصّلوات، أي انتظروها واحدة بعد واحدة، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام، معلّلا بأنّ المرابطة لم تكن حينئذ (9).

و عن أبي سلمة، أنّه قال: لم يكن في زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله غزو يرابط فيه، و إنّما نزلت هذه الآية في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة (10).

و نقل أنّه ذكر انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فقال أبو هريرة: فذلكم الرّباط، ثلاث مرّات (11).

و يحتمل إرادة القدر المشترك بين المعاني المذكورة، و يؤيّده ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من الرّباط انتظار الصّلاة بعد الصّلاة» (10).

و يحتمل أنّ يكون المعنى: أقيموا في الثّغور رابطين خيلكم فيها، مترصّدين للغزو و الجهاد، كما هو ظاهر اللّفظ عند العرف.

عن القمّي رحمه اللّه: عن السجاد عليه السّلام: «نزلت في العبّاس و فينا، و لم يكن الرّباط الذي امرنا به، و سيكون

ص: 160


1- . تفسير القمي 1:129، تفسير الصافي 1:380.
2- . تفسير العياشي 1:358/836، تفسير الصافي 1:380.
3- . تفسير العياشي 1:359/838، تفسير الصافي 1:380.
4- . معاني الأخبار:369/1، و فيه: على التقية، تفسير الصافي 1:380.
5- . معاني الأخبار:369/1، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 1:380.
6- . الكافي 2:66/3، تفسير الصافي 1:380.
7- . تفسير العياشي 1:359/838، تفسير الصافي 1:380.
8- . معاني الأخبار:369/1، تفسير الصافي 1:380.
9- . مجمع البيان:918، تفسير الصافي 1:381. (10 و 11) . تفسير الرازي 9:156.
10- . مجمع البيان 2:918، تفسير الصافي 1:381.

من نسلنا المرابط، و من نسله المرابط» (1). انتهى.

و الظّاهر أنّ المراد: المرابطة في زمان القائم المنتظر صلوات اللّه عليه.

ثمّ-لمّا كان الإقدام على تلك المشقّات، و التّحمّل لهذه المرارات شديدا على النّفس، محتاجا إلى قوّة الدّاعي-ذكر اللّه تعالى أقوى الدّواعي، و هو التّقوى و الخوف من اللّه، بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و خافوه في مخالفة أوامره و أحكامه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و كي تفوزوا بأعلى المقاصد من النّجاة من النّار، و التّنعّم و الرّاحة في دار القرار.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ألا أدلّكم على ما يمحو اللّه به الخطايا، و يرفع به الدّرجات؟» . قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، و كثرة الخطى إلى المساجد، و انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فذلكم الرّباط» (2).

و نقل عن أصحاب التذكير أنّهم قالوا: إنّ المراد من الآية المباركة: اصبروا عند قيام اليقين على احتمال الكرب، و صابروا على مقاساة العناء و التّعب، و رابطوا في ديار أعدائي بلا هرب، و اتّقوا اللّه في الالتفات إلى السّبب، لعلّكم تفلحون غدا بلقائي على نشاط و طرب.

و قال السرقسطي: اصبروا على الدّنيا رجاء السّلامة، و صابروا عند لقاء أعدائي بالثّبات و الاستقامة، و رابطوا هوى النّفس اللّوامة، و اتّقوا ما يعقب النّدامة، لعلّكم تفلحون غدا على بساط الكرامة.

و قيل: اصبروا على النّعماء، و صابروا على البأساء و الضّرّاء، و رابطوا في دار الأعداء، و اتّقوا إله الأرض و السّماء، لعلّكم تفلحون في دار البقاء.

و قيل: اصبروا على مضض الطّاعات، و صابروا على رفض العادات، و رابطوا السّرّ على جناب واهب العطيّات، و اتّقوا اللّه بالتبرّي ممّا سواه من الكائنات، لعلّكم تفلحون في الدّنيا بأعلى المقامات، و في الآخرة بأرفع الدّرجات.

أقول: اعلم أنّ القلب الإنساني إذا زكا بالرّياضة-من الصّبر على الطّاعة، و ترك اتّباع الهوى، و قطع علاقة الدّنيا، و المصابرة على البأساء و الضّرّاء، و الثّبات في مكايدة الأعداء، و تحمّل الشّدائد في سبيل اللّه و في تحصيل رضاه-و نقي عن النّفاق و خبائث الأخلاق، و طهر عن دنس الشّهوات بالتّقوى، يفاض عليه أوّلا خواطر الخير، و نور الهداية إلى حقائق الأمور من خزائن الملكوت و عالم الجبروت، فيصرف عقله إلى التّفكّر في ما فيه خيره و صلاحه، و ما به كمال نفسه، و القرب إلى رحمة ربّه، و النّظر في مقدّماته و محصّلاته، فعند ذلك يطّلع على أسرار الطّاعات، و ينكشف له بنور البصيرة حقائق

ص: 161


1- . تفسير القمي 2:23، تفسير الصافي 1:380.
2- . تفسير روح البيان 2:157.

الخيرات و الحسنات، فيلزمه عقله بفعلها، و يزجره عن أضدادها من الشّرور و القبائح، فيتقرّب إلى كلّ خير و يلتزم به، و يتباعد عن كلّ سوء و يجتنب عنه.

فإذا نظر الملك المرشد و المعلّم للحقائق إلى هذا القلب-المعبّر عنه بالنّفس النّاطقة-و وجده طيّبا بجوهره، طاهرا بتقواه، نقيّا من خواطر السّوء، مستنيرا بضياء العقل، أفاض عليه أنوار المعرفة و الحكمة و الهدى، و أيّده بجنود لا ترى، و أرشده إلى خيرات اخرى، و سدّده بإلهامات تترى فيشرق في تلك اللّطيفة (1)الرّبانيّة حينا بعد حين نور على نور، من مشكاة نور الأنوار، حتّى لا يبقى فيه من ظلمة الشّرك شيء، و لو كان أخفى من دبيب النّملة السّوداء، في اللّيلة الظّلماء، على الصّخرة الصّماء، فلا يؤثّر فيه شيء من مكائد الشّيطان و دسائسه، و لا يلتفت إلى حيله و مكائده، بل يتوجّه بشراشره (2)إلى ربّه، و يستغرق بكلّه في ذكره.

و هذا هو معنى الفلاح الحقيقي في الدّنيا المستعقب للفلاح الأبدي في الآخرة من الرّحمة و الرّضوان، و النّعم الدّائمة الباقية في الجنان، و مرافقة الأنبياء و الشّهداء، و مصاحبة الأولياء و الصّلحاء، كما قال سبحانه و تعالى: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي (3).

و إنّما قال سبحانه: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، و لم يقل: كي تكونوا مفلحين، إشعارا بأنّ الإنسان ما دام فيه الرّوح، و يكون في عالم الطّبيعة، من قبل النّفس الأمّارة، و شياطين الإنس و الجنّ، في خطر عظيم و إن كان من المخلصين، فإذا فارق الدّنيا مقالا من الزّلاّت، سليما من الهفوات (4)بتأييد اللّه و توفيقه، حتم له الفلاح و أتقن (5)به، كما قال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ (6).

فعلى العبد المؤمن أن يكون خائفا من مكائد الشّياطين المغوية و غلبة الهوى المردية، في جميع حالاته و آنات عمره، و يستعيذ باللّه السّميع العليم من شرّ أعدى عدوّه، و يلتجئ إلى ربّه، و يتضرّع إليه أن يحفظه من الضّلال و سيّئات الأعمال بلطفه و عنايته، و أن لا يخذله بإيكاله إلى نفسه.

قال سبحانه: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ اَلسَّعِيرِ (7)، و قال: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً (8)، و قال: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اَللّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ (9).

ص: 162


1- . أي القلب.
2- . شراشر القلب: أطرافه، أو كلّ القلب بجملته.
3- . الفجر:89/27-30.
4- . في النسخة: الهوات.
5- . كذا، و الظاهر: و أيقن.
6- . المؤمنون:23/1.
7- . فاطر:35/6.
8- . النساء:4/83.
9- . النور:24/21.

فليحذر العبد أن يعجب بنفسه، و يغترّ بعمله، و يأمن من زلله، إلى زمان حلول أجله. لقد كان في قصص كثير من العباد عبرة لاولي الألباب.

قال اللّه تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ اَلْغاوِينَ * وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ اَلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (1)، إلى أن قال: مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (2).

و لذا ورد الأمر بالإكثار من قول: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا (3)إلى آخر الآية.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة آل عمران اعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم» (4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ السّورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلّى اللّه عليه و ملائكته حتّى تحتجب الشّمس» (5).

وفّقنا اللّه و جميع المؤمنين لأداء حقّه.

ص: 163


1- . الأعراف:7/175 و 176.
2- . الأعراف:7/178.
3- . آل عمران:3/8. (4 و 5) . تفسير البيضاوي 1:198.

ص: 164

في تفسير سورة النساء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 4 (النساء): آیه شماره 1

في وجه نظم

سورة النساء

ثمّ اردفت السّورتان-المتضمّنتان لإثبات التّوحيد، و الرّسالة، و محاجّة اليهود و النّصارى، و بيان مهمّات حقوق اللّه، كوجوب الصّلاة، و الصّوم، و الزّكاة، و الحجّ، و الجهاد، و أمثال ذلك-بسورة النّساء المشتملة لبيان مهمّات حقوق النّاس، كاليتامى و الأزواج و السّفهاء و الورّاث و غير ذلك، فافتتحها بالبسملة ليتعلّم العباد التبرّك بها عند الشّروع في كلّ أمر ذي بال.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)ثمّ لمّا ختم سورة آل عمران بآية فيها الأمر بالتّقوى معلّلا برجاء الفلاح في المعاد-و لذا خاطب المؤمنين بالمبدأ و المعاد لتوقّف هذا الرّجاء على الإيمان بهما-أكّد ذلك الأمر بالتّقوى ثانيا معلّلا بمعرفة المبدأ، و الخوف من سعة قدرة اللّه، و نفوذ إرادته، و لذا خاطب جميع النّاس بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ الظّاهر في إرادة جميع الموجودين منهم في زمان الخطاب، و إن قال ابن عبّاس: إنّه خطاب لأهل مكّة (1). و عليه يشترك معهم غيرهم، و إن كانوا معدومين في الحكم الذي ذكره تعالى بقوله: اِتَّقُوا و خافوا رَبَّكُمُ و مكمّل وجودكم، في مخالفة أحكامه التي سيبيّنها لكم و غيرها.

و في توصيف ذاته المقدّسة بالرّبوبيّة تنبيه على كمال رأفته و قدرته، اللّتين هما علّتان تامّتان للقيام إلى طاعته و الاجتناب عن معصيته.

في مبدأ خلق

حوّاء

ثمّ بالغ في تعريف رأفته و قدرته بتوصيف ذاته المقدّسة بقوله: اَلَّذِي بجوده و حكمته خَلَقَكُمْ و قدّر وجودكم الذي هو أصل النّعم و أعاليها، الموجب لغاية

ص: 165


1- . تفسير الرازي 9:157.

الشّكر، و التمحّض للطّاعة، و القيام بوظائف العبوديّة.

ثمّ لمّا كان التّرهيب أدخل من التّرغيب في البعث على امتثال التّكاليف، و تحمّل المشاقّ، أوضح كمال قدرته بقوله: مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و شخص فارد، كان إيجاد جميع الخلائق التي لا تحصى كثرة [منه]و هو آدم.

عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه: سمّي به لأنّه خلق من أديم الأرض كلّها، أحمرها و أسودها، طيّبها و خبيثها، فلذلك كان في ولده الأحمر و الأسود، و الطّيّب و الخبيث (1).

أقول: يمكن كون المراد من الأحمر و الأبيض؛ لأنّه (2)من الأضداد.

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ اللّه خلق آدم من الماء و الطّين، فهمّة ابن آدم في الماء و الطين» (3).

ثمّ قرّر سبحانه انتهاء الخلق إلى أصل واحد، و نفس واحدة، بقوله: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء، فزوّجها من فرعها، فلا يتوهّم أنّ الخلق كان من أصلين، و من نفسين.

عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «أنّ اللّه خلق حوّاء من آدم، فهمّة النّساء في الرّجال» (4).

عن القمّي: «برأها من أسفل أضلاعه» (3).

عن العيّاشي: عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «خلقت حوّاء من قصيرى جنب آدم-و القصيرى: هو الضّلع الأصغر-فأبدل اللّه مكانه لحما» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، و إن تركتها و فيها عوج استمتعت بها» (7).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، في رواية: و إنّما سمّيت المرأة بحوّاء؛ لأنّها خلقت من ضلع من أضلاع آدم، فكانت مخلوقة من شيء حيّ، فلا جرم سمّيت بحوّاء (8).

و رواها في (معاني الأخبار) أيضا (5).

في بيان حكمة خلق

حوّاء من الضّلع

الأيسر

و لعلّ حكمة جعل مبدأ خلق حوّاء الضّلع الأيسر، تأثيره في تعطّف الزّوج بالزّوجة (6)، و حصول الالفة بينهما، و تعلّق قلب الزّوج بها، و يسر دخولها تحت يد الزوج و سلطانه، و تمكينها من مضاجعة الزّوج: حيث إنّ الضّلع الأيسر جزء منعطف

ص: 166


1- . تفسير الرازي 9:161.
2- . كذا، و الظاهر: أنّه. (3 و 4) . تفسير العياشي 1:361/846، تفسير الصافي 1:382.
3- . تفسير القمي 1:130، تفسير الصافي 1:382.
4- . تفسير العياشي 1:361/844، تفسير الصافي 1:382. (7 و 8) . تفسير الرازي 9:161.
5- . معاني الأخبار 48/1.
6- . كذا، و الظاهر: على الزوجة.

واقع في الجنب، قريب من القلب، تحت اليد اليسرى التي بها تبطش بالامور السّهلة، و ينام عليه غالبا، هذا هو المشهور بين العامّة، و عليه جلّ مفسّريهم.

و في عدّة روايات-من طرق الخاصّة عن الصادقين عليهما السّلام-تكذيبه، و تأويل الضّلع الأيسر بالطّينة التي فضلت من ضلعه الأيسر. (1)و ردّ علمه إلى الرّاسخين في العلم أولى-بعد عدم حجّيّة أمثال هذه الرّوايات التي لا ربط لها بالحكم الشّرعي-من تكلّف الجمع بينهما بما في حاشية (أسرار التنزيل) (2)، و تبعه الفيض في (الصّافي) (3).

في تزويج حوّاء

من آدم

ثمّ أنّه روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا خلق آدم من طين، و أمر الملائكة فسجدوا له، ألقى عليه السّبات، ثمّ أبدع له حوّاء، فجعلها في مواضع النّقرة التي بين وركيه، لكي تكون المرأة تبعا للرّجل، فأقبلت تتحرّك فانتبه، فلمّا انتبه نوديت أن تنحّي عنه، فلمّا نظر إليها نظر إلى خلق حسن يشبه صورته غير أنّها انثى، فكلّمها فكلّمته بلغته، فقال لها: من أنت؟ فقالت: خلق خلقني اللّه كما ترى، فقال آدم عند ذلك: يا ربّ، من هذا الخلق الذي آنسني قربه و النّظر إليه؟ فقال اللّه: يا آدم، هذه أمّتي حوّاء، أفتحبّ أن تكون معك فتؤنسك و تحدّثك و تأتمر لأمرك؟ فقال: نعم يا ربّ، و لك عليّ بذلك الشّكر و الحمد ما بقيت. فقال اللّه تبارك و تعالى: فاخطبها إليّ فإنّها أمتي و قد تصلح لك أيضا زوجة للشّهوة.

و ألقى اللّه عليه الشّهوة، و قد علّمه قبل ذلك المعرفة بكلّ شيء، فقال: يا ربّ فإنّي أخطبها إليك، فما رضاك لذلك؟ فقال: رضاي أن تعلّمها معالم ديني. فقال: ذلك لك يا ربّ عليّ، إنّ شئت ذلك فيّ (4)، فقال: قد شئت ذلك، و قد زوّجتكما، فضمّها إليك، فقال لها آدم: إليّ فاقبلي. فقالت: لا، بل أنت فاقبل إليّ، فأمر اللّه تعالى آدم أن يقوم إليها فقام، و لو لا ذلك لكان النّساء يذهبن حتّى يخطبن على أنفسهنّ» (5).

و في (الاحتجاج) : عن السّجاد عليه السّلام يحدّث رجلا من قريش، قال: «لمّا تاب اللّه على آدم واقع حوّاء، و لم يكن غشيها منذ خلق و خلقت إلاّ في الأرض، و ذلك بعدما تاب اللّه عليه، و كان آدم يعظّم البيت و ما حوله من حرمة البيت، فكان إذا أراد أن يغشى حوّاء خرج من الحرم و أخرجها معه، فإذا

ص: 167


1- . تفسير العياشي 1:363/849، من لا يحضره الفقيه 3:240/1135، تفسير الصافي 1:383.
2- . يريد أنوار التنزيل و أسرار التأويل للبيضاوي، و الحاشية للشيخ البهائي، ذكرها المؤلف ضمن مصادر هذا التفسير.
3- . تفسير الصافي 1:383.
4- . في من لا يحضره الفقيه: لي.
5- . علل الشرائع:17/1، من لا يحضره الفقيه 3:239/1133، تفسير الصافي 1:382.

جاز الحرم غشيها في الحلّ، ثمّ يغتسلان إعظاما منه للحرم» . الخبر (1).

فتناسلا وَ بَثَّ اللّه و نشّر في الأرض مِنْهُما بالولادة رِجالاً كَثِيراً بنينا وَ نِساءً كثيرة بناتا، و إنّما لم يصفهنّ بالكثرة لوضوح أنّ الحكمة مقتضية لكونهن كثيرات (2)، بل أكثر.

و لمّا كان التّفرّع و التّشعّب من أرومة (3)واحدة موجبا لرعاية حقوق النّاس سيّما الأقارب، داعيا لحفظها، نبّه عليه توطئة للنّهي عن تضييعها، و إشعارا بكمال الاهتمام [بها]، كما يدلّ جعله قرينا للنّهي عن تضييع حقوق نفسه، المستفاد من إعادة الأمر بالتّقوى تأكيدا، بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في ترك أداء حقوقه. و ذكر اسم الجلالة هنا لتربية المهابة.

في وجوب صلة

الأرحام

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بقوله: اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فيما بينكم، و تقولون عند طلب الحاجة من الغير: أسألك باللّه، للأشعار بأنّه كما تعظّمونه بالسنتكم و أقوالكم عظّموه بطاعتكم و أعمالكم.

ثمّ عطف عليه الأمر بحفظ حقوق الأرحام بقوله: وَ اَلْأَرْحامَ و المنتسبين إليكم بالولادة اتّقوهم من أن تقطعونهم-كما عن الباقر (4)عليه السّلام-و تتركوا رعاية حقوقهم.

عن الصادق عليه السّلام: «هي أرحام النّاس، إنّ اللّه أمر بصلتها و عظّمها، ألا ترى أنّه جعلها معه» (5).

و عن (الكافي) : عنه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «صلوا أرحامكم و لو بالتّسليم» ، ثمّ تلا هذه الآية (6).

و عن (العيون) : عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه أمر بثلاثة مقرون [بها]ثلاثة-إلى أن قال-: و أمر باتّقاء اللّه و صلة الرّحم، فمن لم يصل رحمه لم يتّق اللّه» (7).

و عن الرّضا، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليهم السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا اسري بي إلى السّماء رأيت رحما معلّقة بالعرش تشكو رحما إلى ربّها، فقلت: كم بينك و بينها من أب؟ فقالت: نلتقي في أربعين أبا» (8).

و عن القمّي، قال: تساءلون يوم القيامة عن التّقوى هل اتّقيتم، و عن الأرحام هل وصلتموها؟ (9).

ص: 168


1- . الاحتجاج:314، تفسير الصافي 1:386.
2- . في النسخة: كثيرة.
3- . الأرومة: أصل الشجرة، و المراد أصل نسب الإنسان.
4- . مجمع البيان 3:6، تفسير الصافي 1:387.
5- . الكافي 2:120/1، تفسير الصافي 1:387.
6- . الكافي 2:124/22، تفسير الصافي 1:387.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:258/13، تفسير الصافي 1:388.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:254/5، تفسير الصافي 1:388.
9- . تفسير القمي 1:130، تفسير الصافي 1:387.

أقول: يمكن القول بشمول الآية لرحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لو بالفحوى و الأولويّة، و يدلّ عليه ما روي عن الرضا عليه السّلام: «أنّ رحم آل محمّد: الأئمّة عليهم السّلام معلّقة بالعرش تقول: اللّهمّ صل من وصلني، و أقطع من قطعني، ثمّ هي جارية بعدها في أرحام المؤمنين» ، ثمّ تلا هذه الآية (1).

ثمّ وعد [تعالى]الثّواب على رعاية الحقوق، و أوعد على تضييعها، بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً و حفيظا، مراقب لأعمالكم و أقوالكم، و مطّلع على ضمائركم و سرائركم، فيجازيكم بها، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من شيء أطيع اللّه به أعجل ثوابا من صلة الرّحم» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الصّدقة و صلة الرّحم يزيد اللّه بهما في العمر، و يدفع بهما ميتة السّوء، و يدفع اللّه بهما المحذور و المكروه» (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 2

ثمّ لمّا كان المقصود الأهمّ في السّورة المباركة-كما ذكرنا في وجه النّظم-بيان أحكام حقوق النّاس من الأرحام و الضّعفاء و المؤمنين، و لذا بدأ سبحانه فيها بذكر بدء خلقة البشر، و كون جميعهم من أصل واحد براعة للاستهلال، و حثّا على الامتثال، بدأ عند ذكر الأحكام بإيجاب رعاية حقوق أضعف النّاس و أحوجهم إلى الرّعاية؛ و هم الصّغار الّذين مات آباؤهم، لإظهار كمال العناية بأمرهم و ملابستهم بالأرحام، بقوله: وَ آتُوا اَلْيَتامى أيّها الكافلون لهم القيّمون بامورهم، بعد بلوغهم و رشدهم أَمْوالَهُمْ و أملاكهم التي تكون عندكم، بلا نقص و بخس.

وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)و قيل: إنّ المراد: اقطعوا الطّمع عن أموالهم، و كفّوا عن التّعدّي و التّفريط فيها.

وَ لا تَتَبَدَّلُوا مالهم اَلْخَبِيثَ و المحرّم عليكم بِالطَّيِّبِ و الحلال من أموالكم، بل أعطوهم أعيان أموالهم.

و قيل: هو النّهي عن أخذ الرّفيع من أموالهم، و جعل الخسيس مكانه.

و قيل: إنّ المراد: لا ترتزقوا بأموالهم المحرّمة، فينقطع عنكم الرّزق الحلال الذي قدّر لكم.

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ و لا تتصرّفوا فيها منضمّة إِلى أَمْوالِكُمْ بأن تخلطوهما، فإنّ حرمة الحرام لا تزول بخلطه بالحلال.

ص: 169


1- . الكافي 2:125/26، تفسير الصافي 1:387. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:166.

ثمّ أنّه تعالى علّل ردعه عن صرف أموال اليتامى و الانتفاع بها بجميع الوجوه، بقوله: إِنَّهُ كانَ عند اللّه حُوباً كَبِيراً و إثما عظيما، فيعاقب عليه عقابا شديدا.

روي أنّها نزلت في رجل من غطفان، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمّا بلغ طلب المال فمنعه عمّه، فتراجعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت هذه الآية، فلمّا سمعها العمّ قال: أطعنا اللّه و أطعنا الرّسول، نعوذ باللّه من الحوب الكبير، و دفع إليه ماله، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «و من يوق شّحّ نفسه، و يطع ربّه هكذا، فإنّه يحلّ داره، أي جنّته» فلمّا قبض الصّبيّ ماله أنفقه في سبيل اللّه، فقال عليه السّلام: «ثبت أجر الغلام (1)، و بقي الوزر على والده» (2).

أقول: في نهيه تعالى عن أكل مال اليتيم مختلطا بمال نفسه، بعد النّهي عن مطلق التّصرّف و التّبديل فيه، اشعار بأنّ أكل مال اليتيم لدى اليسار أقبح و أشنع، و أمّا النّهي عن التّبديل-بناء على التّفسير الأوّل-فهو مخصوص بما لم يكن فيه الغبطة لليتيم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 3

ثمّ لمّا كان تولّي أمر اليتيم و حفظ ماله في الأغلب لازما لكفالته و عشرته، و من المعلوم أنّ للصغير غالبا اقتراحات على من هو في حجره و تربيتة، و كثيرا ما لا يجوز أو لا يمكن موافقته في مراداته و مسؤولاته، و لا يهتدي الرّجال إلى الحيل في صرفه عنها و ترضية خاطره، سيّما إذا كان لجوجا، سيّء الخلق، فحينئذ قد لا يحلم الوليّ أو القيّم فيبتلي بضربه و شتمه و التّعدّي عليه، مع أن من حقوق الأيتام المداراة معهم، فعلم اللّه كافليهم بطريق الأمن من إيذائهم و ظلمهم؛ بقوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ بسبب قلّة الحلم، و ضيق الصّدر أَلاّ تُقْسِطُوا و لا تعدلوا فِي شأن اَلْيَتامى الّذين تلون امورهم، و تتكفّلون تربيتهم فَانْكِحُوا و تزّوجوا ما طابَ لَكُمْ و من يوافق ميل قلوبكم مِنَ اَلنِّساءِ فإنّ شأنهنّ حضانة الأطفال، و الرّفق بهم، و المداواة معهم (3)، و التّدبير في رضايتهم، و إعمال الحيل في صرفهم عن أقتراحاتهم، و إسكاتهم عن البكاء بأفعال مضحكة، و أصوات هائلة، و نغمات ملهية، و كلمات لاغية.

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا (3)

ص: 170


1- . في تفسير الرازي: «ثبت الأجر و بقي الوزر» فقالوا: يا رسول اللّه، لقد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر و هو ينفق في سبيل اللّه؟ فقال: ثبت أجر الغلام. . .
2- . تفسير الرازي 9:169.
3- . كذا، و الظاهر: مداراتهم.

و من الواضح أنّ التّصبيّ و ارتكاب أمثال ذلك، في غاية الصّعوبة على الرّجال لأكمليّة عقولهم، و في كمال السّهولة على النّساء لضعف عقولهنّ، و لذا عبّر سبحانه عنهنّ في الآية بكلمة (ما) التي تستعمل في غير ذوي العقول، تنزيلا لهنّ منزلته (1).

ثمّ لمّا أمر بالنّكاح بيّن العدد الذي يجوز تزوّجه من الحرائر بالعقد الدّائم، و لا يجوز التّجاوز عنه، بقوله: مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فأذن سبحانه للنّاس في الجمع بين النّساء في التزوّج اثنين اثنين، و ثلاث و ثلاث، و أربع أربع.

فيكون الحاصل جواز اختيار أيّ عدد شاءوا من الأعداد، متّفقين أو مختلفين، بأن اختار واحد اثنين، و واحد ثلاث، و واحد أربع. و لو كان (أو) بدل (الواو) لم يجز الاختلاف.

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّه كما يجب العدل في حقّ الأيتام، يجب العدل في حقّ الأزواج، بقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ في صورة اختيار المتعدّد أَلاّ تَعْدِلُوا بينهنّ، و لا تقوموا بحقوقهنّ-و عن الصادق عليه السّلام: «يعني: في النّفقة» (2)- فَواحِدَةً من النّساء اختاروا للتّزويج، و أكتفوا بها، و اتركوا الجمع أَوْ اختاروا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الإماء، و إن تعدّدن و بلغن أربعين و أزيد، لعدم كون حقوقهنّ على مواليهنّ كحقوق الحرائر على الأزواج، من التّسوية و القسم (3)و غيرهما، فلا تبتلون بترك العدل.

ذلِكَ المذكور من الاكتفاء بالمهيرة (4)الواحدة أو بالمملوكة، و إن كنّ متعدّدات أَدْنى و أقرب طريق إلى أَلاّ تَعُولُوا و لا تميلوا إلى الجور و الظّلم، أو لا تموتوا؛ لأنّ وجوب القسم و المجامعة و غيرهما مختصّ بالنّكاح الدّائم دون الملك و التّمتّع.

عن القمّي: أي لا يتزوّج ما لا يقدر أن يعول (5).

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرته من وجه النّظم، هو الذي سنح بخاطري و قوي في نظري. و من طريق العامّة روايات في شأن نزولها، و وجه نظمها:

احداها: عن عائشة، قال عروة: قلت لها: ما معنى قول اللّه: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى

ص: 171


1- . أي منزلة غير العاقل، و قد ذكر في (ما) هنا وجوه، أحدها: أنه أراد بها الجنس، كما تقول: ما عندك؟ فيقال: رجل أو امرأة، و ثانيها: أن (ما) و ما بعدها في تقدير المصدر، أي فانكحوا الطيب من النساء، و ثالثها: أن (ما) و (من) ربما يتعاقبان، قال تعالى: وَ اَلسَّماءِ وَ ما بَناها و قال: وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ و قال: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ . راجع: تفسير الرازي 9:172.
2- . الكافي 5:363/1، تفسير الصافي 1:389.
3- . القسم: نصيب الزوجة من المبيت.
4- . المهيرة: الحرّة الغالية المهر.
5- . تفسير القمي 1:130، تفسير الصافي 1:389.

فقالت: يابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها و جمالها، إلاّ أنّه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثمّ إذا تزوّج بها عاملها معاملة رديئة، لعلمه بأنّه ليس لها من يذبّ عنها و يدفع شرّ ذلك الزّوج عنها، فقال تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أن تظلموا اليتامى عند نكاحهنّ فَانْكِحُوا من غيرهنّ ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ (1).

و اخرى: عن عكرمة، أنّه قال: كان الرّجل عنده النّسوة و يكون عنده الأيتام، فإذا أنفق مال نفسه على النّسوة و لم يبق له مال و صار محتاجا، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهنّ، فقال تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي أموال اَلْيَتامى عند كثرة الزّوجات، فقد حظرت عليكم أن تنكحوا أكثر من أربع، كي يزول هذا الخوف فَإِنْ خِفْتُمْ في الأربع أيضا فَواحِدَةً، فذكر الطّرف الزّائد و هو الأربع، و النّاقص و هو الواحدة، و نبّه بذلك على ما بينهما، فكأنّه تعالى قال: فإن خفتم من الأربع فثلاث، فإن خفتم فاثنتان، فإن خفتم فواحدة (2).

و ثالثة: أنّه لمّا نزلت الآية المتقدّمة في اليتامى، و ما في أكل أموالهنّ من الحوب الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى، فتحرّجوا من ولايتهم، و كان الرّجل منهم ربّما كان تحته العشر من الأزواج و أكثر، فلا يقوم بحقوقهنّ و لا يعدل بينهنّ، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل بين النّساء فقلّلوا عدد المنكوحات، لأنّ من تحرّج من ذنب و تاب عنه و هو مرتكب لمثله، فكأنّه غير متحرّج (3).

و قيل: إنّهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم في حقّ اليتامى، فكونوا خائفين من الزّنا، فانكحوا ما حلّ لكم من النّساء، و لا تحوموا حول المحرّمات (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 4

ثمّ بيّن اللّه سبحانه وجوب إعطاء مهور النّساء بقوله: وَ آتُوا أيّها الأزواج اَلنِّساءَ اللاتي تزوّجتموهنّ صَدُقاتِهِنَّ و مهورهنّ التي استحللتم بها فروجهنّ، لكونها نِحْلَةً و فريضة فرضها اللّه في دينه، أو عطيّة من اللّه لهنّ، حيث إنّ اللّه أمر بإعطاء الزّوج المهر، مع أنّه و المرأة مشتركان في منافع النّكاح، من قضاء الشّهوة و التّوالد.

وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)

ص: 172


1- . تفسير الرازي 9:171.
2- . تفسير الرازي 9:171. (3 و 4) . تفسير الرازي 9:171.

و قيل: إنّها عطيّة من الأزواج لهنّ مجانا بلا عوض؛ لأنّهم لا يملكون البضع، و إنّما يباح لهم الانتفاع.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أحقّ الشّرط أن يوفى به (1)، ما استحللتم به الفروج» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من تزوّج أمرأة و لم ينو أن يوفيها صداقها، فهو عند اللّه زان» (3).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الخطاب فيه للأولياء؛ لأنّ الرّجل منهم كان إذا زوّج أيّمة (4)أخذ صداقها دونها فنهاهم اللّه عن ذلك» (5). و عليه جمع من مفسّري العامّة.

و قيل: إنّ العرب كانت في الجاهليّة لا تعطي النّساء شيئا، و لذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النّافجة. و معناه: إنّك تأخذ مهرها إبلا فتضمّها إلى إبلك، فتنفج مالك، أي تعظّمه (5).

ثمّ رخّص سبحانه في أخذه منهنّ بشرط الرّضا و الطّيب، بقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ أيّها الأزواج، أو الأولياء عَنْ شَيْءٍ قليل أو كثير مِنْهُ نَفْساً و رضين بأكلكم منه، و تصرّفكم فيه، و تملّككم له؛ قلبا من غير أن يكون عطاؤهنّ فداء عن أنفسهنّ، لسوء أخلاقكم و رداءة صحبتكم فَكُلُوهُ أكلا هَنِيئاً سائغا لذيذا مَرِيئاً بلا غصّة و لا داء، و تصرّفوا فيه كتصرّفكم في أموالكم، بلا تبعة عليكم في الدّنيا و لا في الآخرة. و فيه غاية المبالغة في التحليل و عدم التّبعة.

روي أنّ ناسا كانوا يتأثّمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا ممّا ساقه إليها، فنزلت (6).

فالآية دالّة على تملّك المرأة مهرها بالعقد و جواز مطالبتها، و عدم جواز تصرّف غيرها فيه، إلاّ بطيب نفسها، و لها التّصرّف فيه بالتّمليك و أنواع الانتفاعات قبل الدّخول و بعده.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 5

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان وجوب رعاية حقوق الضّعيفين؛ اليتيم و الزّوجة التي هي كالأسيرة-بيّن وجوب رعاية حقّ ثالث الضّعفاء و هو السّفيه، بقوله: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ و الأشخاص الّذين لا رشد لهم في إصلاح مالهم، و لا يميّزون لضعف عقولهم بين الخير و الشّرّ، و النّفع و الضّرر، أموالهم

وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (7)

ص: 173


1- . في من لا يحضره الفقيه: إنّ أحقّ الشروط أن يوفى بها. . .
2- . من لا يحضره الفقيه 3:252/1201، تفسير الصافي 1:389.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:252/1200، تفسير الصافي 1:389.
4- . الأيّمة: المرأة غير المتزوجة بكرا أو ثيبا، جمعها أيامى.
5- . الكشاف 1:470، تفسير الرازي 9:179، تفسير أبي السعود 2:143، تفسير روح البيان 2:163.
6- . تفسير الصافي 1:390.
7- . مجمع البيان 3:12، تفسير الصافي 1:390.

التي يجب أن تعدّوها أَمْوالَكُمُ في كمال الرّعاية، و شدّة العناية و الاهتمام بالحفظ؛ لأنّها اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ إيّاها لَكُمْ بحكمته قِياماً تقومون بها، و قواما تتقوّمون بمنافعها، و معاشا تتعيّشون بالارتزاق منها، فلا تفسدوها بتسليطهم عليها، بل اقطعوا أيديهم عنها، و اتّجروا بها و استربحوا منها وَ اُرْزُقُوهُمْ من الرّبح الذي يكون فِيها بالاتّجار وَ اُكْسُوهُمْ به.

و الحاصل أنّ على الأولياء أن يجعلوا أموال السّفهاء محلّ ارتزاقهم، و أرباحها مدار نفقاتهم؛ حتّى يعيشوا في ظلّ ولايتهم و رأفتهم برحب و سعة، مع بقاء أصل مالهم مدى أعمارهم.

و قيل في وجه النّظم: إنّه لمّا أمر اللّه سبحانه بردّ أموال اليتامى و مهور الزّوجات، ذكر في الآية أنّ وجوب الرّدّ و الإيتاء يكون حال كونهم رشيدين، و أمّا إذا كانوا سفهاء فلا تؤتوهم.

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «هم اليتامى، لا تعطوهم حتّى تعرفوا منهم الرّشد» ، قيل: فكيف تكون أموالهم أموالنا؟ فقال: «إذا كنت أنت الوارث لهم» (1).

و عن (الفقيه) : عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «لا تؤتوها شراب الخمر، و لا النّساء» ثمّ قال: «و أيّ سفيه أسفه من شارب الخمر» (2).

و في رواية: «كلّ من يشرب الخمر فهو سفيه» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «السّفهاء: النّساء و الولد، إذا علم الرّجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة، و ولده سفيه مفسد، لا ينبغي له أن يسلّط أحدا منهما على ماله الذي جعل اللّه [له]قياما، يقول: معاشا» (4).

و قيل: إنّ في الآية نهيا لكلّ أحد أن يعمد إلى ما خوّله اللّه من المال فيعطي امرأته و أولاده، ثمّ ينظر إلى أيديهم، و إنّما سمّاهم اللّه سفهاء استخفافا بعقلهم، و استهجانا لجعلهم قوّاما على أنفسهم.

أقول: لا يبعد حمل الآية على النّهي من تسليط السّفهاء على الأموال مطلقا، سواء كانت لهم أو لغيرهم من الأولياء، و به يجمع بين الرّوايات، و اللّه العالم.

ثمّ أمر سبحانه بالتّلطّف بهم و ترضيتهم و تطييب قلوبهم بقوله: وَ قُولُوا لَهُمْ إذا اقترحوا عليكم أمرا، و سألوا منكم ما لا يجوز أو لا يمكن إجابتهم فيه قَوْلاً و جوابا مَعْرُوفاً و مستحسنا عند الشّرع و العقل من عدة جميلة، و كلام ليّن طيّب لا يكون فيه كذب و لا إيذاء، بل تطيب به نفوسهم.

ص: 174


1- . تفسير العياشي 1:368/865، تفسير الصافي 1:390.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:168/586، تفسير الصافي 1:390.
3- . تفسير العياشي 1:368/864، تفسير الصافي 1:390.
4- . تفسير القمي 1:131، تفسير الصافي 1:390.

عن الباقر عليه السّلام: «المعروف العدة» (1).

و عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه، قال: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما أنت أهله، و إن غنمت في غزاتي أعطيتك (2).

قيل: إنّ اللّه أمر بذلك؛ لأنّ القول الجميل يؤثّر في القلب، فيزيل السّفه، و أما خلاف القول المعروف فإنّه يزيد السّفيه سفها و نقصا (3).

و قيل: إنّ المراد: علّموهم-مع إطعامكم و كسوتكم-أمر دينهم ممّا يتعلّق بالعلم و العمل (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 6

ثمّ-لمّا أمر اللّه سبحانه بإعطاء أموال اليتامى، و نهى عنه إذا كانوا سفهاء-أمر الأولياء باختبار عقلهم و رشدهم قبل البلوغ، بقوله: وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى أيّها الأولياء، و اختبروا رشدهم إذا لم يكن بيّنا لكم قبل بلوغهم بتتبّع أحوالهم في امور الدّين و المعاملات، و الاهتداء إلى حفظ المال عن الضّرر، و حسن التّصرّف فيه، و التّحرّز عن الإسراف و التّبذير، و أديموا تجربتكم حَتّى إِذا بَلَغُوا و استأهلوا اَلنِّكاحَ و صلحوا للازدواج بالاحتلام أو استكمال خمس عشرة سنة إن كانوا ذكرانا، و رؤية الحيض أو استكمال تسع سنين إن كنّ إناثا فَإِنْ آنَسْتُمْ و أحرزتم بالاختبار و التّجارب مِنْهُمْ رُشْداً و صلاحا بتسليطهم على المال، و اهتداء إلى وجوه التّصرّفات العقلائيّة فيه، و احترازا عن السّرف و التّبذير فَادْفَعُوا و سلّموا إِلَيْهِمْ بلا تأخير و مطل أَمْوالَهُمْ التي تكون بأيديكم كلّها.

وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً (3)

في بيان المراد

من الرّشد

عن الصادق عليه السّلام: «إيناس الرّشد: حفظ المال» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «الرّشد: العقل، و إصلاح المال» (6).

عن القمّي رحمه اللّه: عنه عليه السّلام في هذه الآية قال: «من كان في يده مال بعض اليتامى، فلا يجوز أن يعطيه حتّى يبلغ النّكاح و يحتلم، فإذا احتلم وجب عليه الحدود و إقامة الفرائض، و لا يكون

ص: 175


1- . تفسير القمي 1:131، تفسير الصافي 1:391. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:186.
2- . تفسير الرازي 9:186.
3- . مجمع البيان 3:16، تفسير الصافي 1:391.
4- . من لا يحضره الفقيه 4:164/575، تفسير الصافي 1:391.

مضيّعا، و لا شارب خمر، و لا زانيا» .

إلى أن قال: «و إن كانوا لا يعلمون أنّه قد بلغ فإنّه يمتحن بريح إبطه، أو نبت عانته، فإذا كان ذلك فقد بلغ، فيدفع إليه ماله إذا كان رشيدا، و لا يجوز له أن يحبس عنه ماله، و يعتلّ عليه أنّه لم يكبر بعد» (1).

ثمّ أكّد سبحانه النّهي عن أكل أموالهم بقوله: وَ لا تَأْكُلُوها حال كون أكلكم منها إِسْرافاً و زيادة على استحقاقكم منها وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا و استباقا بلوغهم.

أو المراد: لا تأكلوها لإسراف و مبادرة كبرهم بأن تفرطوا في أموالهم و تقولوا: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى و ينتزعوها من أيدينا، كذا قيل (2).

في بيان جواز أكل

الولي من مال

اليتيم

و فيه إشعار بجواز الأكل-إذا لم يكن إسرافا و بدارا، بل كان بمقدار الحاجة، مع رعاية الغبطة-و إجمال لما فصّله بعد، بقوله: وَ مَنْ كانَ من الأولياء و الأوصياء غَنِيًّا ذا ثروة كافية لمعاشه فَلْيَسْتَعْفِفْ و ليتنزه عن الأكل من مال اليتيم، و ليقنع بما آتاه اللّه إشفاقا عليه، و إبقاء لما له وَ مَنْ كانَ منهم فَقِيراً و محتاجا في معاشه إلى الأكل من مال اليتيم، لاشتغاله بإصلاح ماله، و عدم فراغه له لكسب معيشة نفسه و عياله و تحصيل مؤنتهم فَلْيَأْكُلْ ذلك الفقير من مال اليتيم، و ليصرف منه في حوائجه بِالْمَعْرُوفِ و بقدر حاجته و كفايته من غير إسراف، أو بمقدار اجرة عمله و سعيه.

عن (الكافي و العيّاشي) : عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «من كان يلي شيئا لليتامى، و هو محتاج ليس له ما يقيمه، و هو يتقاضى أموالهم و يقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر و لا يسرف، فإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرزأنّ من أموالهم شيئا» (3).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من (قدر) : قدر الحاجة و الضّرورة العرفية، و من قوله (لا يرزأنّ) لا ينقصنّ. و عنه عليه السّلام، في هذه الآية: «هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية، و يشغل فيها نفسه، فليأكل بالمعروف، و ليس له ذلك في الدّنانير و الدّراهم التي عنده موضوعة» (4).

و عنه عليه السّلام: «ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا» (5).

ص: 176


1- . تفسير القمي 1:131، تفسير الصافي 1:391.
2- . تفسير أبي السعود 2:146.
3- . تفسير العياشي 1:370/872، الكافي 5:129/1، تفسير الصافي 1:391.
4- . تفسير العياشي 1:370/873، تفسير الصافي 1:391.
5- . تفسير العياشي 1:369/871، الكافي 5:130/5، تفسير الصافي 1:392.

أقول: الظّاهر أنّ المنع من المال القليل في الرّواية، و من الدّنانير و الدّراهم في السابقة، لعدم الزّحمة في حفظها، و عدم مزاحمته لاشتغاله بكسبه، و عليه لو أتّجر بالنّقدين، أو بالمال القليل، و كان الاتّجار بهم شاغلا له عن التّكسّب لنفسه، فلا بأس بالأكل منها.

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «المعروف هو القوت، و إنّما عنى الوصيّ و القيّم في أموالهم و ما يصلحهم» (1).

عن الباقر عليه السّلام: «من كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة و الكفاية، على جهة القرض، ثمّ يردّ عليه ما أخذ إذا وجد» (2).

أقول: على تقدير كون المراد هو الوليّ أو القيّم الفقير دون غيرهما، لا بدّ من حمله على النّدب، كما أنّه يمكن حمل النّهي عن أكل الوليّ الغنيّ على الكراهة، لإشعار مادّة الاستعفاف، و معنى التّنزّه بها، و أدلة احترام عمل المسلم، و نفي الضّرر. و عليه يجوز للغنيّ الأكل بمقدار اجرة عملة، و الأحوط التّجنّب.

ثمّ أمر اللّه تعالى الأولياء-لطفا بهم، و حفظا لهم عن التّهمة، و سدّا لباب الخصومة-بالإشهاد على دفع أموال اليتامى إليهم، بقوله: فَإِذا دَفَعْتُمْ و سلّمتم إِلَيْهِمْ بعد البلوغ و الرّشد أَمْوالَهُمْ جميعا بلا نقص و تفريط فَأَشْهِدُوا شاهدين عدلين عَلَيْهِمْ بأنّكم سلّمتم إليهم جميع ما كان لهم عندكم، و أنّهم تسلّموه و برئت ذممكم عنه، حتّى لا ترموا بالخيانة، و لا تبتلوا بالخصومة.

أقول: الظّاهر أنّ الأمر بالإشهاد للإرشاد، لا الإيجاب المولوي. قيل: بدلالته على عدم قبول دعوى الرّدّ من الوليّ و القيّم إلاّ بالبيّنة، و فيه تأمّل.

ثمّ نبّه سبحانه على أن الإشهاد طريق التّخلّص من خصومة الخلق لا الخالق، بقوله: وَ كَفى لليتيم بِاللّهِ حَسِيباً فيحاسبكم في محضر عدله، و يخاصمكم على ما صدر منكم من الخيانة، و يؤاخذكم بالنّقير و القطمير، و يعاقبكم على ما دقّ و خفي من التّفريط و الخيانة في أموال النّاس و حقوقهم، فلا تقصّروا في حفظ أموال الأيتام و غيرهم، و لا تخونوا في أمانة اللّه، و لا تجاوزوا ما حدّ لكم في دينه و شريعته.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 7

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)

ص: 177


1- . الكافي 5:130/3، تفسير الصافي 1:391.
2- . مجمع البيان 3:17، تفسير الصافي 1:392.

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه حقوق اليتامى و الزّوجات و السّفهاء، شرع في بيان حقوق الأولاد و الأقارب، قيل: إنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يورّثون النّساء و الأطفال، و كانوا يقولون: لا يرث إلاّ من طاعن بالرّمح، و ذاد عن الحوزة، و حاز الغنيمة (1)، فأبطل اللّه تعالى هذا الحكم، و شرّك النّساء مع الرّجال في الإرث بقوله: لِلرِّجالِ من الأولاد و الأقارب نَصِيبٌ و حظ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ المتوارثون من الأموال و الحقوق الماليّة وَ لِلنِّساءِ منهم أيضا نَصِيبٌ و حظّ معلوم مِمّا تَرَكَ و خلّف اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ .

و في ذكر حكم إرث النّساء استقلالا بعد ذكر حكم الرّجال، إيذان بكمال العناية بشأنهنّ، و مبالغة في إبطال حكم الجاهليّة.

ثمّ أكّد سبحانه تعميم نصيبهنّ في جميع التّركة بقوله: مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ و دقّ أو جلّ.

قيل: فيه إبطال لحكم بعض العرب من عدم توريث النّساء من آلات الكسب و الحرب، و تخصيصهما بالرّجال.

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد ثبوت النّصيب لكلّ من الفريقين بقوله: نَصِيباً و قسما مَفْرُوضاً، و ثانيا واجبا من اللّه لهم، لا يسقط بإسقاطهم، و لا بوصيّة الميّت بعدم إعطائهم.

في بيان شأن

نزول الآية

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، في شأن نزول الآية: أنّ أوس بن ثابت الأنصاري توفّي عن ثلاث بنات و زوجة يقال لها امّ كحّة، فجاء رجلان من بني عمّة، و هما وصيّان له، يقال لهما سويد و عرفجة-و في رواية: اسمهما قتادة و عرفطة-و أخذا ماله، فجاءت ام كحّة زوجة أوس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكرت القصّة، و ذكرت أنّ الوصيّين ما دفعا (2)إلى بناته شيئا من المال، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ارجعي إلى بيتك حتّى انظر ما يحدث اللّه في أمرك» .

فنزلت الآية، و دلّت على أنّ للرّجال نصيبا، و للنّساء نصيب، و لكنّه تعالى لم يبيّن المقدار في هذه الآية، فأرسل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى الوصيّين و قال: «لا تقربا من مال أوس شيئا. ثمّ نزل بعد يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (3)و فرض الزّوج، و فرض المرأة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الوصيّين أن يدفعا إلى المرأة الثّمن و يمسكا نصيب البنات، و بعد ذلك أرسل إليهما «أن ادفعا نصيب بناتها إليها» فدفعاه إليها (4).

قيل: لمّا كانت عادة العرب عدم توريث النّساء، و كان نقلهم عن تلك العادة دفعة إلى التّوريث بالسّهام المفروضة ثقيلا على طباعهم، عظيما في قلوبهم، ذكر سبحانه أوّلا في هذه الآية نصيبهنّ

ص: 178


1- . تفسير الرازي 9:194، تفسير أبي السعود 2:146.
2- . زاد في تفسير الرازي: إليّ شيئا، و ما دفعا.
3- . النساء:4/11.
4- . تفسير الرازي 9:194، تفسير البيضاوي 1:202، تفسير أبي السعود 2:147.

بنحو الإجمال، و في الآية الآتية بنحو التّفصيل، ليسهل عليهم القبول بهذا التّدريج (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 8

ثمّ أنّه تعالى بعد حكمه بحرمان بني الأعمام من مال الميّت إرثا، مع وجود البنت الوارث، بتطييب قلوب غير الوارث من الأقارب بالإحسان إليهم، و حسن العشرة معهم، بقوله: وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ للتّركة، و شهد إفراز الأنصباء أُولُوا اَلْقُرْبى و ذوو الأرحام الذين لا يرثون من الميت وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ من الأجانب و الأبعدين فَارْزُقُوهُمْ ممّا رزقكم من المال المقسوم، و أعطوهم شيئا مِنْهُ تطيب به قلوبهم، للأرحام صلة و لغيرهم صدقة وَ قُولُوا لَهُمْ مع الإعطاء و بعده قَوْلاً مَعْرُوفاً و كلاما حسنا من الاعتذار إليهم من قلّة العطاء ببيان لطيف، و الدّعاء لهم، و إظهار الامتنان من قبولهم القليل، و نحو ذلك.

وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)و قد مرّ في الطّرفة العشرين قول بأنّها منسوخة بآية الإرث بالنّسب، و روايات دالّة عليه، و ذكرنا أنّها لو صحّت، محمولة على نسخ الوجوب دون الاستحباب، فيستحبّ للورثة-حين قسمتهم للتّركة- الرّضخ (2)لمن لا سهم له من الأقارب و الأيتام و المساكين.

و قيل: إنّ ذلك مختصّ بالعين، و أمّا الأرضون و الرّقيق فلا يستحبّ الإعطاء، بل عليهم الاعتذار، و القول بالمعروف (3).

و قيل: إنّ القول بالمعروف و الاعتذار إليهم فيما لو كان في الورثة صغير، فلا يجوز إعطاؤهم من سهمه، بل يعتذر إليهم وليّه بأن يقول لهم: لو كان لي لأعطيتكم (4).

قيل: إنّ الخطاب في الآية للمريض-إذا حضرته أمارات الموت، و أراد قسمة أمواله، و الإيصاء بها- أن يفعل ذلك (5) . و الأوّل أشهر بين المفسّرين.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 9

ثمّ لمّا كان ضعف الأيتام إلى الغاية، أظهر اللّه بهم كمال العناية بعد الأمر بإرزاقهم عند القسمة،

وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)

ص: 179


1- . تفسير الرازي 9:194.
2- . في النسخة: الوضح، و الرّضخ: الشيء اليسير. (3 و 4) . كنز العرفان 2:337.

و الإحسان إليهم بالتأكيد في إيجاب حفظ أموالهم، و الاهتمام في رعاية صلاحهم، و المبالغة في حسن العشرة معهم، و التّهديد على تضييع مالهم و الإساءة إليهم بالعقوبة بالمثل في الدّنيا، بقوله: وَ لْيَخْشَ كافلوا اليتامى اَلَّذِينَ يكون حالهم أنّه لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ أو خلّفوا من بعد موتهم ذُرِّيَّةً و أولادا صغارا ضِعافاً لا يقومون إلاّ بكافل شفيق خافُوا عند وفاتهم عَلَيْهِمْ الضّياع و الفقر بعدهم، و عدم الكافل لهم، أو إساءة الكافل العشرة معهم، إن ظلموا الأيتام الّذين في حجورهم و في كفالتهم و ضيّعوهم، و أتلفوا أموالهم، و أساءوا العشرة معهم، من أن يفعل بذرّيتهم بعدهم مثل ما فعلوا بهم.

فإذا تبيّن لهم أنّ أثر الإساءة بأيتام الغير، و تضييع مالهم، الإساءة بأيتام أنفسهم، و تضييع حقوقهم فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ في تضييع يتامى غيرهم، و ترك الشفقة و الرّحمة بذراري إخوانهم المؤمنين.

و حاصل المراد أنّه تعالى حثّ كافلي اليتامى على حفظ مالهم، و تنزيلهم أنفسهم في حفظ أموالهم و الإحسان إليهم، منزلة كافل يتيم أنفسهم لو فاتوا (1)و خلّفوا لهم مالا. و لا يخفى أنّه من أقوى الدّواعي في الشّفقة بالأيتام.

ثمّ بالغ سبحانه في الوصيّة إلى الأولياء برعاية الأيتام و حسن صحبتهم، بقوله: وَ لْيَقُولُوا في مكالمتهم اليتامى و مخاطبتهم قَوْلاً سَدِيداً و كلاما صوابا. قيل: هو بأن يكلّموهم باللّطف و التّرحيب، و يخاطبوهم كما يخاطبون أولادهم من قول: يا بني، و يا قرّة عيني (2).

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «من يظلم يتيما سلّط اللّه عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على عقب عقبه» (3).

و قيل: إنّ المقصود بالخطاب في الآية الّذين يجلسون عند المريض فيقولون: إنّ ذرّيّتك لا يغنون عنك من اللّه شيئا فاوص بمالك لفلان و لفلان، فلا يزالون يأمرونه بالوصيّة للأجانب حتّى لا يبقى من ماله للورثة شيئا، فقال اللّه تعالى لهم: كما تكرهون ابتلاء أولادكم بعدكم بالجوع و الضّعف و الفقر، فاخشوا اللّه، و لا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضّعفاء من ماله (4).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يؤمن العبد حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» (5).

و قيل: إنّ المقصود هو من قرب موته، فنهاه اللّه عن الإكثار في الوصيّة بماله لئلاّ يبقى ورثته

ص: 180


1- . فاتوا: مضوا، و يريد هنا ماتوا.
2- . الكشاف 1:478، تفسير الرازي 9:199، و فيهما: يا بني، و يا ولدي.
3- . تفسير العياشي 1:371/879، الكافي 2:250/13، تفسير الصافي 1:393. (4 و 5) . تفسير الرازي 9:198.

ضائعين (1).

و يؤيّده ما رواه الكليني رحمه اللّه مرسلا: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لرجل من الأنصار أعتق مماليكه لم يكن له غيرهم: «ترك صبية صغارا يتكفّفون النّاس» (2).

و الأظهر هو التّفسير الأوّل، و إن أمكن القول بعموم الملاك لمن له رعاية الأيتام من الأولياء و الأوصياء و الأجانب و الموصين.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 10

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد وجوب حفظ أموال الأيتام بتهديد آكلي أموالهم ظلما بالعقوبة بالنّار في الآخرة، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ و يصرفون أَمْوالَ اَلْيَتامى في محاويجهم على وجه يكون أكلهم و صرفهم ظُلْماً على اليتامى، و تعدّيا عن الحقّ، مثل كون الأكل زائدا على اجرة المثل، فهم إِنَّما يَأْكُلُونَ و يدخلون فِي بُطُونِهِمْ و يملأون أجوافهم ناراً لا توصف شدّة حرّها.

إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)و قال كثير من المفسّرين: إنّ المراد بالنّار ما يؤدّي إليها مجازا بعلاقة السّببيّة (3).

و فيه: أنّه لا وجه له مع إمكان إرادة الحقيقة، لما ثبت من أنّ لكلّ شيء صورة برزخيّة، فكما أنّ للصّلاة صورة و للصّوم صورة، و للقرآن صورة، يمكن أن تكون لمال اليتيم المحرّم صورة النّاريّة، فأهل البصيرة يرون أنّ من يأكله يأكل النّار (4).

عن أبي بردة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يبعث اللّه تعالى قوما من قبورهم تتأجّج أفوههم نارا، فقيل: من هم؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لم تر أنّ اللّه يقول: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً» (5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ آكل مال اليتيم يبعث يوم القيامة و الدّخان يخرج من قبره و من فيه و أنفه و اذنيه و عينيه، فيعرف النّاس أنّه آكل مال اليتيم» (6).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا اسري بي إلى السّماء رأيت قوما تقذف في أجوافهم النّار و تخرج من أدبارهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء [الّذين]

ص: 181


1- . تفسير الرازي 9:199.
2- . الكافي 7:9/10.
3- . راجع: تفسير الرازي 9:200، تفسير روح البيان 2:170.
4- . جوامع الجامع:80، تفسير الرازي 9:200.
5- . تفسير البيضاوي 1:203، تفسير أبي السعود 2:148.
6- . تفسير أبي السعود 2:148.

يأكلون أموال اليتامى ظلما» (1).

و في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّ آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة و النّار تلهب في بطنه حتّى يخرج لهب النّار من فيه، يعرفه أهل الجمع أنّه آكل مال اليتيم» (2).

وَ سَيَصْلَوْنَ و عن قريب يدخلون مع ذلك في الآخرة سَعِيراً ذات لهب لا يعرف شدّتها غير اللّه.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية ثقل ذلك على النّاس، فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلّيّة، فصعب الأمر على اليتامى، فنزل قوله تعالى: وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ (3).

ثمّ لمّا كان منشأ انتزاع الحقوق الواجبة الرّعاية، النّسبة الحاصلة بين الأشخاص، و من المعلوم أنّ أقواها هي النّسبة الحاصلة بالولادة، و أضعفها الحقوق الحاصلة بالولاية و الوصاية و المصاهرة. و قدّم الولاية و الوصاية لإظهار الاهتمام بشأنها.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 11

ثمّ شرّع سبحانه في بيان حقوق الولادة، فابتدأ بذكر ما هو أولى بالرّعاية منها من حقوق الأبوين و الأولاد، بقوله: يُوصِيكُمُ اَللّهُ أيّها النّاس و يعهد إليكم فِي شأن أَوْلادِكُمْ و أمر حقوقهم.

يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)و إنّما قدّمهم على الآباء و الامّهات و الكلالة و سائر الأرحام، لكونهم أقرب و ألصق، و لأنّه تعالى ذكر حقّهم في آية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ (4)إجمالا، فبدأ في الآية بذكر تفصيله بقوله: لِلذَّكَرِ منهم حظّ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ و ما يساوي نصيب البنتين من جميع أموالكم و حقوقكم. و إنّما خصّ الذّكر بالتّنصيص على حظّه للإشعار بفضيلته، و بأنّ تضعيف حظّه لها.

ص: 182


1- . تفسير القمي 1:132، تفسير الصافي 1:393.
2- . الكافي 2:26/1، تفسير الصافي 1:393.
3- . تفسير الرازي 9:202، تفسير أبي السعود 2:148، و الآية من سورة البقرة 2:220.
4- . النساء:4/7.

في بيان وجوه

استفادة نصيب

البنتين من الآية

ثمّ أنّ هذا في صورة اجتماع الصّنفين، و أمّا نصيب الذّكور في صورة الانفراد عن الإناث فجميع التّركة، لدلالة تعيين نصيب الإناث في حال انفرادها عن الذّكور، بقوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً و بناتا فإن كان عددهنّ اثنتين، أو عددا فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ و زائدا عليه، بلغن ما بلغن فَلَهُنَّ بالفرض ثُلُثا ما تَرَكَ و خلّف المتوفّى من المال، و الثّلث الباقي لهنّ ردّا، إن لم يكن وارث غيرهن.

و هذا ممّا لا إشكال و لا شبهة فيه عندنا نصّا و فتوى، إنّما الإشكال في استفادة حكم إرث البنتين من الآية المباركة، و قد ذكّروا لها وجوها ثلاثة:

الأوّل: أنّه لمّا بيّن اللّه تعالى أنّ حظّ الذّكر الواحد-إذا كانت معه انثى واحدة-مثل حظّ الانثيين، و هو الثّلثان، علم أنّ فرض الاثنين الثّلثان في صورة الانفراد.

الثاني: أنّه لمّا علم من قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ أنّ حظّ الانثيين أزيد من حظّ الانثى الواحدة، علم أنّ حظّ الانثيين الثّلثان، لعدم القول بالفرق.

الثالث: أنّه لمّا علم أنّ نصيب البنت الواحدة-إذا كانت مع الذّكر الواحد-الثّلث، علم أنّه إذا لم يكن معها الذّكر، و كانت معها الانثى الاخرى، كان نصيبها الثّلث لأقوائيّة الذّكر. و أحسن الوجوه الوجه الأوّل.

وَ إِنْ كانَتْ البنت واحِدَةً ليس معها غيرها من الأولاد، ذكورا و إناثا فَلَهَا اَلنِّصْفُ ممّا ترك الميّت بالفرض، و النّصف الآخر بالرّدّ، إذا لم يكن معها من الوالدين و الزّوجين أحد.

ثمّ بيّن اللّه تعالى حكم إرث والدي المتوفّى حال اجتماعهما مع أولاده، بقوله: وَ لِأَبَوَيْهِ لكن لا مجموعا، بل لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أبا كان أو امّا اَلسُّدُسُ فرضا، و لكليهما السّدسان مِمّا تَرَكَ المتوفّى، قليلا كان أو كثيرا إِنْ كانَ لَهُ حين وفاته وَلَدٌ و إن نزل، ذكرا كان أم انثى، واحدا كان أو متعدّدا.

نعم، في صورة انحصار الولد في بنت واحدة، و في صورة تعدّدها و وجود أحد الأبوين، يردّ ما زاد على الفروض إلى جميعهم على حسب سهامهم.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ أصلا، لا ذكرا و لا انثى، بلا واسطة أو معها وَ وَرِثَهُ من الأقارب النّسبي أَبَواهُ فقط، و إن كان معهما الزّوج و الزّوجة فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ ممّا ترك و لأبيه الثّلثان، إن لم يكن الزّوج أو الزّوجة، فإن كان أحدهما فله النّصيب الأعلى، و للامّ فرضها، و ما بقي من فرض الامّ و أحد الزّوجين فللأب.

ص: 183

و لكن كون نصيب الامّ الثّلث مشروط بعدم وجود الإخوة للميّت فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ للأب أو للأبوين، كانوا اثنين أو أكثر فَلِأُمِّهِ إذا كان أبوه حيّا اَلسُّدُسُ و لأبيه بقيّة التّركة، لكونه ذا عيلة (1)بوجودهم، فاقتضت الحكمة التّوفير عليه لمكان نفقتهم. و الأختان للأب تقومان مقام أخ واحد له.

في (الكافي) و (التهذيب) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّه لا يحجب الامّ عن الثّلث إلاّ أخوان، أو أخ و اختان (2)، أو أربع أخوات لأب و ام، أو لأب» (3).

و عن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في الإخوة من الامّ: «لا يحجبون [الأمّ]عن الثّلث» (4). ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ الإرث و الفروض لا محلّ لها إلاّ مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ يُوصِي الميّت بِها من التّركة-قيل: فائدة توصيف الوصيّة بقوله: يُوصِي بِها التّرغيب بها، و النّدب إليها- أَوْ بعد إخراج دَيْنٍ ثابت على الميّت و إن لم يوص به، كان ثبوته بإقراره به حال صحّته، أو بالبيّنة، أو بغيرهما.

و في إيثار كلمة (أو) على (الواو) دلالة على تساويهما (5)في وجوب الإخراج، إذا وسعتهما التّركة، و لم يكن الدّين مستوعبا لها.

و في تقديم ذكر الوصيّة على الدّين مع تأخّرها عنه في الرّتبة، إشعار بكمال العناية و الاهتمام بتنفيذها.

روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «إنّكم لتقرأون الوصيّة قبل الدّين، و إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قضى بالدّين قبل الوصيّة» (6).

ثمّ لمّا جعل اللّه سبحانه هذا التّفاوت بيّن نصيب الآباء و الأولاد في الإرث، و قد لا تساعده العقول الضّعيفة و الاعتبارات السّخيفة، نبّه اللّه تعالى على قصور العقول عن إدراك حكمة هذا التّفاوت، و وجوب العمل بوصيّته تعالى في نصيبهم، بقوله: آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ الّذين يرثونكم لا تَدْرُونَ و لا تدرك عقولكم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً في الدّنيا، و أكثر فائدة لكم، من جهة التّربية و الإنفاق و النّصرة و غيرها، فقد تتخيّلون أنّ أحدهما أنفع لكم من الآخر، و ربّما يخطر ببالكم أنّ القسمة بغير هذا الوجه أصلح، و هو خلاف الواقع، فسلّموا لحكم اللّه-العالم بالمغيّبات و حقائق الأمور-بأقربيّة بعض من بعض، و بتوفير القسمة على بعض دون بعض، و أطيعوا أمر اللّه في التّقديرات التي قدّرها

ص: 184


1- . العيلة: الفقر و الحاجة.
2- . (أو أخ و أختان) ليس في الكافي و التهذيب.
3- . الكافي 7:92/5، التهذيب 9:281/1017، تفسير الصافي 1:394.
4- . الكافي 7:93/6، تفسير الصافي 1:394.
5- . أي تساوي الوصيّة و الدّين.
6- . تفسير الرازي 9:216.

في أموالكم، و أتركوا موافقة هوى أنفسكم في قسمة المواريث.

و قيل: إنّ المراد: أقرب لكم نفعا في الآخرة (1).

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: إنّ اللّه ليشفّع بعض المؤمنين في بعض، فأطوعكم للّه عزّ و جلّ من الأبناء و الآباء أرفعكم درجة في الجنّة، و إن كان الوالد أرفع درجة في الجنّة من ولده رفع اللّه إليه ولده بمسألته ليقرّ بذلك عينيه، و إن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع اللّه إليه والديه، فقال: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأنّ أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنّة بهذا أكثر أم بذلك (2).

أقول: يمكن القول بإرادة النّفع الأعمّ من الدّنيوي و الاخروي.

و قيل: إنّ الخطاب للورثة، و المراد أنّه لا تدرون أيّها الورثة، أيّ مورثكم من الاصول و الفروع أقرب لكم نفعا، أمن وصّى ببعض ماله فيعرّضكم لثواب الآخرة بتنفيذ وصيّته، أم من لم يوص بشيء فوفّر عليكم حظّكم من تركته، فإنّكم تحكمون بأنّ الثاني أنفع، و الواقع خلافه، بل الأوّل أنفع لأنّه لا يعدل ثواب الآخرة جميع الدّنيا و ما فيها.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الالتزام بما فرضه في المواريث بقوله: فَرِيضَةً كائنة مِنَ اَللّهِ التزموها، و قسمة قسّمها اللّه فلا تعدلوا عنها إلى ما تميل إليه طباعكم إِنَّ اَللّهَ كانَ في الأزل عَلِيماً بمصالح عباده حَكِيماً في كلّ ما فرض و قدّر، فإذا كان كذلك كانت قسمته أصلح و أحكم. و في ذكر اسم الجلالة و تكراره مبالغة في تربية مهابته في القلوب.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 12

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حكم إرث أقرب القرابات النّسبيّة و أقواها؛ و هي القرابة بالولادة التي تكون بين الوالدين و الأولاد، أردفه ببيان إرث أقرب القرابات السّببيّة، و هي النّسبة بالمزاوجة التي تكون شريكا للنّسبيّة في جميع الطّبقات في الإرث.

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

ص: 185


1- . تفسير الرازي 9:218.
2- . تفسير الرازي 9:218.

قيل: إنّ العرب كانوا في الجاهليّة لا يورّثون الزّوجة من تركة زوجها، فنسخه اللّه سبحانه بحكمه بالتّوارث.

و لمّا كان الحكم بإرث الزّوجة ثقيلا على الطّباع، قدّم بيان حكم إرث الأزواج، تطييبا لقلوبهم، و إظهارا لفضلهم بقوله: وَ لَكُمْ أيّها الأزواج بجهة الإرث نِصْفُ جميع ما تَرَكَ و خلّف أَزْواجُكُمْ و نساؤكم المنكوحات بالنّكاح الدّائم، دون المنقطع على الأصحّ، من الأموال كانت عقارا أو غيرها، منقولة أو غيرها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ حين موتهن وَلَدٌ وارث أصلا منكم، أو من غيركم، ذكور أو إناث، بلا واسطة أو معها فَإِنْ كانَ لَهُنَّ حين موتهنّ منكم أو من غيركم وَلَدٌ وارث، و إن كان انثى واحدة سافلة (1)فَلَكُمُ إرثا و فرضا اَلرُّبُعُ من جميع ما تَرَكْنَ و خلّفن من الأموال، إذا لم يكن لهنّ وصيّة بمال، أو عليهنّ دين، و إن كانا فالإرث مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ كنّ يُوصِينَ بِها في حياتهنّ أَوْ قضاء دَيْنٍ ثابت في ذمّتهنّ.

ثمّ بيّن سبحانه نصيب الزّوجات الدّائمات من تركة أزواجهنّ، بقوله: وَ لَهُنَّ إن متّم و بقين بعدكم اَلرُّبُعُ من جميع ما تَرَكْتُمْ و خلّفتم من الأموال المنقولة عينا، و من الأبنية و الأشجار قيمة لا عينا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ بعد موتكم منهنّ أو من غيرهنّ وَلَدٌ وارث أصلا، و إن كان انثى نازلة. و الباقي لغيرهنّ من ورّاثكم، فإن لم يكن لكم وارث غيرهنّ فللإمام عليه السّلام فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ و لو من الأمة، أو المنقطعة، أو في الحمل بشرط الانفصال حيّا، و إن نزل فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ من المال، سوى الأراضي و أعيان الأبنية و الأشجار، دون قيمتها-كما مرّ-على الأصحّ، و لكن مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ كنتم تُوصُونَ بِها في حياتكم أَوْ أداء دَيْنٍ كان عليكم.

قيل: لمّا فضّل اللّه تعالى الرّجال على النّساء في النّصيب، نبّه على فضيلتهم عليهنّ بذكرهم في الآية على سبيل المخاطبة سبع مرات، و ذكرهنّ على سبيل المغايبة أقلّ من ذلك (2).

في بيان علل تفضيل

الرجال على النساء

في النصيب

و قد علّل ائمّتنا صلوات اللّه عليهم تفضيل الرّجال على النّساء في النّصيب بوجوه، على ما في روايات أصحابنا رضوان اللّه عليهم أجمعين:

منها: ما روي عن الرضا عليه السّلام، في جواب من سأله عن ذلك من: «أنّ المرأة إذا تزّوجت أخذت، و الرّجل يعطي، و لذلك وفّر على الرجل، و لأنّ الانثى في عيال الذّكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرّجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر

ص: 186


1- . سافلة: أي نازلة، مثل بنت البنت أو بنت الولد.
2- . تفسير الرازي 9:220.

على الرّجل لذلك، و ذلك قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ. . . الآية» (1).

و منها: ما روي عن الصادق عليه السّلام، في جواب عبد اللّه بن سنان حين سأله عن علّة التّوفير، حيث قال عليه السّلام: «لما جعل لها من الصّداق» (2).

و منها: ما روي عن العسكري سلام اللّه عليه، في جواب الفهفكي، لمّا قال له عليه السّلام: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما و يأخذ الرجل القوي سهمين؟ فقال عليه السّلام: «لأنّ المرأة ليس عليها جهاد و لا نفقة و لا معقلة (3)، إنّما ذلك على الرّجال» .

فقلت في نفسي: قد كان قيل لي: إنّ ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه السّلام عن ذلك، فأجابه مثل هذا الجواب، فأقبل عليه السّلام عليّ فقال: «نعم، هذه مسألة ابن أبي العوجاء، و الجواب منّا واحد» (4).

ثمّ أنّه تعالى بعدما بيّن حكم إرث أقوى الانتسابات النّسبيّة، و هو القرابة بالولادة كقرابة الأبوين و الأولاد، و أقوى الانتسابات السّببيّة، و هو المزاوجة كالزّوجين، و لذا يرثان مع جميع طبقات الوارث، شرع سبحانه في بيان حكم إرث أضعف القرابات النّسبيّة، و هي القرابة من قبل الامّ إلى الميّت، بقوله: وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ ميّت يُورَثُ منه، لكونه أو حال كونه كَلالَةً و ذا قريب، ليس بينه و بين ذلك القريب نسبة ابوّة و بنوّة، كما عن الصادق عليه السّلام فإنّه فسّرها بمن ليس بولد و لا والد (5)، أَوْ كانت اِمْرَأَةٌ متوفّاه كذلك.

قيل: إنّ الكلالة في اللّغة بمعنى الإحاطة، و سمّي من عدا الوالد و الولد من القرابات بالكلالة لإحاطتهم بالشّخص.

ثمّ كنّى سبحانه عن الرّجل دون المرأة إظهارا لشرفه و فضله، بقوله: وَ لَهُ، و قيل: إنّ المراد من (الضمير) الميّت، الصّادق على الرّجل و المرأة أَخٌ واحد أَوْ أُخْتٌ واحدة، من قبل الامّ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا في تلك الصّورة اَلسُّدُسُ ممّا ترك الميّت من المال فَإِنْ كانُوا هؤلاء الأقرباء الأمّيون أَكْثَرَ و أزيد مِنْ ذلِكَ العدد الوحداني بواحد أو بأكثر، [سواء أ]كانوا متّفقين في الذّكورة و الانوثة، أو مختلفين فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ من المال يتساوون فيه لا فضيلة للذّكور منهم على الإناث في النّصيب. و تعليله بكون الانتساب بمحض الانوثة-كما عن بعض العامة (6)- عليل.

ص: 187


1- . علل الشرائع:570/1، و الآية من سورة النساء:4/34.
2- . علل الشرائع:570/2.
3- . المعقلة: دية القتيل تدفع من الإرث.
4- . الكافي 7:85/2، التهذيب 9:274/992.
5- . الكافي 7:99/2 و 3.
6- . تفسير روح البيان 2:175.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ هذين الفرضين أيضا كسائر الفروض، يكونان في التّركة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ حال كون الموصي غَيْرَ مُضَارٍّ لورثته بوصيّة زائدة على الثّلث، أو بالإقرار بالدّين كذبا لإيصال النّفع إلى المقرّ له و تنقيص حقّ الورثة.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب توريث الأزواج و الكلالة على النّحو المذكور، بقوله: وَصِيَّةٍ كائنة مِنَ اَللّهِ قيل: إنّ التّقدير: يوصيكم اللّه بتوريث هؤلاء الأقارب وصيّة لا يجوز تغييرها.

و يمكن أن يكون المراد: تلقّوا أيّها النّاس هذه الأحكام بعنوان كونها وصيّة أكيدة من اللّه إليكم، فمن بدّلها فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه.

قيل: إنّه تعالى ختم آية إرث الوالدين و الأولاد بقوله: فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ (1)، و هذه الآية بقوله: وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ للدلالة على أنّ رعاية الوالدين و الأولاد أهمّ و أولى من رعاية غيرهم، لأنّ لفظ الفرض أقوى و آكد من لفظ الوصيّة (2).

و يمكن أن تكون النّكتة أنّ توريث الأبوين و الأولاد لمّا كان موافقا لطباعهم شدّد عليهم في الحكم، بخلاف توريث الزّوجات و الأباعد فإنّه كان مخالفا لطباعهم فأكّده بما فيه تطييب لقلوبهم و استمالة لخاطرهم أوّلا ثمّ أردفه بالتّهديد على المخالفة، بقوله: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأعمالكم حَلِيمٌ على من خالفه و عصاه، لا يعاجله بالعقوبة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 13

ثمّ بالغ سبحانه في التّأكيد في العمل بجميع الأحكام السّابقة، بقوله: تِلْكَ الأحكام المذكورة المفصّلة حُدُودُ اَللّهِ التي حدّها، فلا يرضى بالتّجاوز عنها، و القوانين التي قنّنها، فلا يجوز مخالفتها.

تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (13)ثمّ رغّب في إطاعة جميع أحكامه بالوعد بالثّواب الجزيل عليها، بقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و امتثل أوامرهما و نواهيهما التي منها ما فصّله في السّورة المباركة يُدْخِلْهُ اللّه في الآخرة برحمته و فضله جَنّاتٍ و بساتين ذوات أشجار ملتفّة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، حال كونهم خالِدِينَ مقيمين فِيها أبدا وَ ذلِكَ الثّواب هو اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و الظّفر الأتمّ بأعلى المقاصد، و النّجاح الكامل بأسنى المطالب.

ص: 188


1- . النساء:4/11.
2- . تفسير الرازي 9:226.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 14

ثمّ أردف الوعد بأشدّ الوعيد، ترهيبا من المعصية، و تتميما للّطف، بقوله: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و يخالف أحكامه وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ و يتجاوز حماه يُدْخِلْهُ اللّه ناراً لا توصف شدّة حرّها، حال كونه خالِداً فِيها في الآخرة وَ لَهُ مع ذلك عَذابٌ لا يعرف كنهه أحد إلاّ اللّه مُهِينٌ له، لاستهانته بأحكام اللّه و حدوده.

وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 15

ثمّ أنّه تعالى بعدما بيّن وجوب رعاية النّساء، و العدل بينهنّ، و إيتائهنّ مهورهنّ، و توريثهنّ من أزواجهنّ و أرحامهنّ، شدّد عليهنّ في ما يأتينه من الفاحشة، بقوله: وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ و يرتكبن اَلْفاحِشَةَ و العمل الذي هو في غاية القباحة، و هو الزّنا، و هنّ الكائنات مِنْ نِسائِكُمْ و زوجاتكم، أو الحرائر و المؤمنات فَاسْتَشْهِدُوا و اطلبوا للشّهادة عَلَيْهِنَّ من قاذفهنّ أَرْبَعَةً من الرّجال الّذين يكونون مِنْكُمْ و على دينكم فَإِنْ شَهِدُوا عليهنّ بارتكاب الفاحشة، و كانوا عدولا فَأَمْسِكُوهُنَّ و احبسوهنّ أيّها المؤمنون فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ و يقطع من الدّنيا علاقتهنّ اَلْمَوْتُ و قيل: إنّ المراد: ملك الموت بحذف المضاف أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً للخلاص من الحبس.

وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ. . . ، قال: «هذه منسوخة» ، قيل: كيف كانت؟ قال: «كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود، ادخلت بيتا و لم تحدّث و لم تكلّم و لم تجالس، و اوتيت بطعامها و شرابها حتّى تموت» ، أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، قال: «جعل السّبيل: الجلد و الرّجم» (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «خذوا عنّي، قد جعل اللّه لهنّ سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام، و الثّيّب بالثّيّب جلد مائة و الرجّم» (2).

ص: 189


1- . تفسير العياشي 1:377/903، تفسير الصافي 1:398.
2- . مجمع البيان 3:34، تفسير الصافي 1:398.

قد مرّ في بعض الطّرائف أنّ المراد بالنّسخ هنا غير معناه المصطلح (1).

قيل: إنّ المراد بالسّبيل هو النّكاح المغني عن السّفاح (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 16

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان العقوبة المختصّة بالمرأة الزّانية، بيّن العقوبة المشتركة بين الرّجل و المرأة إذا زنيا بقوله: وَ اَلَّذانِ يرتكبان الفاحشة و يَأْتِيانِها مِنْكُمْ سواء كانا بكرين أو ثيّبين فَآذُوهُما بالتّوبيخ و التّعيير.

وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً (16)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: [هو التعيير باللسان و]الضرب بالنعال (3).

فَإِنْ تابا و ندما عن فعلهما القبيح وَ أَصْلَحا و التزما بحسن العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما و اتركوا إيذاءهما؛ فإنّه يرتفع بالتّوبة استحقاق العقوبة إِنَّ اَللّهَ كانَ بكرمه تَوّاباً مبالغا في قبول التّوبة، عائدا على التّائبين بالفضل و المغفرة رَحِيماً بهم.

قيل: إنّ المراد من الآية الاولى الثّيّبات، و من الثانية الأبكار من الرّجال و النّساء (4)؛ لأنّ العذاب في الثّانية أخفّ من الاولى.

و قيل: إنّ الاولى في السّحّاقات، و الثانية في أهل اللّواط (5).

و القولان مخالفان لروايات الخاصّة و العامّة، و على أيّ تقدير لا شبهة في أنّ الآية الثّانية منسوخة بآيات الحدّ.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 17

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكّر أنّ التّوبة ماحية للذّنوب رافعة للعقوبة، حثّ العصاة عليها ببيان إيجابه قبول التّوبة على نفسه؛ بقوله: إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ واجبة القبول عَلَى اَللّهِ لكمال حسنه عقلا، و اقتضاء كرمه، وسعة رحمته، قبولها و امتناع ردّها-و هذا أشدّ مراتب الوجوب- لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ و العصيان صغيرا كان أو كبيرا، و لكن إذا كان ارتكابهم له بِجَهالَةٍ و سفاهة، و غلبة الهوى، و إعانة النّفس،

إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)

ص: 190


1- . راجع الطرفة (20) .
2- . تفسير البيضاوي 1:205.
3- . مجمع البيان 3:35.
4- . تفسير الرازي 9:235.
5- . تفسير البيضاوي 1:206.

و الغفلة عن سوء العاقبة، لا بسبب الكفر و الطّغيان، و عدم الاعتقاد بالمبدأ و المعاد؛ فإنّ الكافر لا تقبل توبته من الأعمال السّيّئة مع بقائه على الكفر.

فتحصّل من تقييد قبول التّوبة عن المعصية بكونها مسبّبة عن جهالة أنّ تحتّم القبول على اللّه مشروط بكون العمل السيّء صادرا عن السفاهة، و عدم التّدبّر في سوء عاقبته، لا عن الجهل المركّب بالمبدأ و المعاد، أو البسيط.

عن الصادق عليه السّلام: «كلّ ذنب عمله العبد و إن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اللّه سبحانه قول يوسف لإخوته: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» (1).

ثمّ بيّن سبحانه الشّرط الثّاني بقوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ و يرجعون إلى النّدم و التّوجّه إلى اللّه في جزء مِنْ زمان قَرِيبٍ من المعصية، و لا يؤخّرونها إلى زمان حضور الموت، و مشاهدة عالم البرزخ، و معاينة أهواله.

و تسمية هذا الزّمان قريبا، لأنّه آت، و كلّ آت قريب، و لوجوب انتظار الإنسان موته في كلّ آن، و يحسبه قريبا، و يبادر إلى التّوبة.

روي أنّ إبليس لمّا هبط قال: و عزتك [و جلالتك]و عظمتك، لا افارق ابن آدم حتّى تفارق روحه جسده، فقال اللّه عزّ و جلّ: و عزّتي و عظمتي [و جلالي]لا أحجب التّوبة عن عبدي حتّى يغرغر (2)بها (3).

و في (الفقيه) : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «و إنّ السّنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «و إنّ الشّهر لكثير [من تاب قبل موته بجمعة تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «إنّ الجمعة لكثير]من تاب قبل موته بيوم تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «و إن اليوم بكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «و إنّ السّاعة لكثير، من تاب [قبل موته]و قد بلغت نفسه هذه» و أهوى بيده إلى حلقه «تاب اللّه عليه» (4).

قيل: إن كلمة (من) هنا، ليس للتّبعيض، بل هي لابتداء الغاية، و المعنى: يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية؛ لئلا يقع في زمرة المصرّين (5).

ص: 191


1- . مجمع البيان 3:36، تفسير الصافي 1:398، و الآية من سورة يوسف:12/89.
2- . في النسخة: يرغرغ، و معنى الغرغرة هنا تردد الروح في الحلق.
3- . مجمع البيان 3:37.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:79/354، تفسير الصافي 1:399.
5- . تفسير الرازي 10:5.

و قيل: إنّ المراد من قوله تعالى: (من) زمان قريب قبل أن يشرب في قلوبهم حبّه، فيطبع عليها، فيتعذّر (1)عليهم الرّجوع (2).

ثمّ أكّد سبحانه وعده بقبول التّوبة، بقوله: فَأُولئِكَ الواجدون لشرطي قبول التّوبة يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ عملا بما كتب على نفسه وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بضمائر التّائبين من الإخلاص، و حقيقة النّدم، و العزم على عدم العود حَكِيماً في فعاله، لا يمكن صدور عقوبة التّائبين منه؛ لمنافاتها حكمته و كرمه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 18

ثمّ بيّن اللّه سبحانه زمان عدم قبوله التّوبة فيه، و المعصية التي لا تقبل التّوبة منها، بقوله: وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ المقبولة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ و يشتغلون بالذّنوب و يديمون عليها، لاهين عن ذكر اللّه و عن التّوبة حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ و شاهد علاماته، و عاين أهواله، و صار معرفته باللّه و علمه بدار الجزاء ضروريا، قالَ عند رؤية بأس اللّه: إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ من ذنوبي وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ حين موتهم و معاينتهم الآخرة كُفّارٌ و غير مستأهلين لقبول توبتهم و إن آمنوا بعده، لقوله: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا (3)أُولئِكَ الفريقان أَعْتَدْنا و هيّأنا لَهُمْ في الآخرة عَذاباً دائما أَلِيماً موجعا في الغاية.

وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)فسوّى سبحانه بين المؤمن الفاسق المسوّف للتّوبة إلى وقوعه في سكرة الموت، و بين الكافرين الّذين لا يؤمنون و لا يتوبون إلى رؤية ملك الموت، في عدم قبول التّوبة و استحقاق العذاب الأليم.

قيل: إنّ المراد من الّذين يعملون السّيّئات المنافقون، لدلالة قوله تعالى: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً (4)، و قوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (5)، و لدلالة روايات كثيرة على شمول الرّحمة و الشّفاعة لعصاة المؤمنين.

أقول: يمكن أن يكون المراد منه خصوص من أخرجته سيّئات أعماله من الإيمان إلى الكفر عند

ص: 192


1- . في النسخة: فيعتذر.
2- . تفسير البيضاوي 1:206.
3- . المؤمن:40/85.
4- . الزمر:39/53.
5- . النساء:4/48.

موته، كما قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (1)فإنّ فيه دلالة على أنّ التّمادي في العصيان و الأعمال السّيّئة موجب لطبع القلب و قساوته، و مخرج المعاصي من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر و التّكذيب بآيات اللّه، بل في بعض الرّوايات أنّ أثر بعض المعاصي-كترك الصّلاة، و منع الزّكاة-ذلك، مثل ما روي من أنّه يقال لمانع الزّكاة عند موته: مت يهوديّا أو نصرانيّا (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 19

ثمّ أنّه تعالى بعد التّشديد على النّساء في إرتكاب الفاحشة، و الوعد بقبول التّوبة، و بيان شروط قبولها، عاد إلى بيان وجوب رعاية النّساء و النّهي عن التّعدي عليهم بإجبارهنّ على التّزويج، و منعهنّ من اختيارهنّ الأزواج، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و اليوم الآخر لا يَحِلُّ لَكُمْ في شرع الإسلام أَنْ تَرِثُوا من أقاربكم اَلنِّساءَ و الزّوجات، و تتملّكوا أزواجهم للاستمتاع، كما تتملّكون أموالهم بعنوان الميراث كَرْهاً منهم، و بغير رضاهنّ بالنّكاح.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)قيل: كان الرّجل في الجاهليّة إذا مات و كانت له زوجة، جاء ابنه من غيرها، أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة و قال: ورثت زوجته كما ورثت ماله. فصار

أحقّ بها من سائر النّاس و من نفسها، فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلاّ الصّداق الذي أصدقها الميّت، و إن شاء زوّجها من إنسان آخر، و أخذ صداقها و لم يعطها منه شيئا، فنهى اللّه عن إرث عين النّساء (3).

و قيل: إنّه كان لوارث الميّت أن يحبس زوجته حتّى تموت و يرث مالها، أو يضيّق عليها حتّى تفتدي بما ورثت من زوجها (4)، فنهى اللّه عنه بقوله: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ و تحبسوهنّ و تضيّقوا عليهنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ و أعطيتموهنّ من الصّداق و الميراث، و تأخذوه منهنّ فداء من أنفسهن.

و قيل: إنّه كان الرّجل إذا كره زوجته أساء عشرتها، و ضيّق عليها حتّى تفتدي منه بمهرها، فنهى اللّه

ص: 193


1- . الروم:30/10.
2- . المحاسن:87/28، عقاب الأعمال:236.
3- . تفسير الرازي 10:10.
4- . تفسير روح البيان 2:181.

عن التّزوّج بهن بالإكراه، و التّضييق عليهنّ، و إساءة العشرة معهنّ بعد التّزويج ليفتدين بصداقهنّ أو ببعضه (1).

فإنّ أخذ صداقهنّ و مالهنّ لا يجوز بسبب من الأسباب إِلاّ بسبب واحد و هو أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ و فعلة قبيحة في الغاية مُبَيِّنَةٍ ظاهرة، كعدم التّعفّف، أو النّشوز و شكاسة الخلق و إساءة العشرة مع الزّوج و أهله.

عن الباقر عليه السّلام، في تفسير الفاحشة، قال: «كلّ معصية» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا قالت لزوجها: لا أغتسل لك من جنابة، و لا أبرّ لك قسما، و لاوطئنّ فراشك من تكرهه، حلّ له أن يخلعها، و حلّ له ما أخذ منها» (3).

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الرّفق بالزّوجات، و حسن عشرتهن بقوله: وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و بما هو مستحسن عند الشّرع و العقل، من الإنصاف في المبيت و النّفقة، و الإجمال في القول فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ طبعا، و سئمتم من صحبتهنّ من غير جهة عصيانهنّ و نشوزهنّ، فلا تبادروا في التّفريق بمجرّد كراهة النّفس، بل امسكوهنّ بالمعروف، و اصبروا على معاشرتهنّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً و تتنفّروا من أمر وَ الحال أنّه يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً في الدّنيا كولادة ولد صالح من هذه المرأة، و في الآخرة كالثواب العظيم على مخالفة النّفس في الصّبر على المكروه، و نحو ذلك.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 20

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن مضارّة النّساء، و أخذ شيء من مهورهنّ بأيّ سبب، أكّد النّهي عنه في صورة إرادة الاستبدال، بقوله: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ و اختيار زوجة مَكانَ زَوْجٍ و امرأة كانت لكم وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ سواء كانت المرأة الاولى أو الثانية قِنْطاراً و مالا كثيرا غايته، عن الصادقين عليهما السّلام: «القنطار ملء مسك (4)ثور ذهبا» (5)فَلا تَأْخُذُوا و لا تنقصوا مِنْهُ شَيْئاً و لو كان في غاية القلّة.

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20)روي أنّ الرّجل منهم كان إذا مال إلى التّزوّج بامرأة اخرى، رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها، ليصرفه إلى تزوّج المرأة التي يريدها (6).

ص: 194


1- . تفسير الرازي 9:11.
2- . مجمع البيان 3:40، تفسير الصافي 1:401.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:338/1630، تفسير الصافي 1:401.
4- . المسك: الجلد.
5- . مجمع البيان 2:712، تفسير الصافي 1:401.
6- . تفسير الرازي 10:13.

فنهى سبحانه عن ظلم المرأه بالأخذ من مهرها، و إن كان في غاية الكثرة، و أنكر على الأزواج أخذهم من مهورهنّ بسبب رميهنّ بالفاحشة، بقوله: أَ تَأْخُذُونَهُ بسبب أن تتّهموهنّ بُهْتاناً وَ ترتكبون بالبهتان، و رميهنّ بالفاحشة، و بظلمهنّ بأخذ صداقهنّ إِثْماً مُبِيناً و ذنبا ظاهرا عظيما، فإنّ البهتان و الظّلم من أكبر الكبائر.

في دلالة الآية على

جواز المقالات

في المهر

قالوا: الآية تدلّ على جواز المغالاة في المهر (1).

و روى الفخر الرازي: أنّ عمر قال على المنبر: ألا لا تغلوا (2)في مهور نسائكم، فقامت امرأة فقالت: يا بن الخطّاب، اللّه يعطينا و أنت تمنعنا! و تلت هذه الآية، فقال عمر: كلّ النّاس أفقه من عمر، و رجع عن كراهة المغالاة (3).

أقول: تقريب دلالة الآية على الجواز أنّ النّهي عن الأخذ منه دالّ على صحّة جعل القنطار مهرا و تملّكهنّ له بالعقد، و لا معنى للجواز و عدمه في المقام إلاّ الصّحّة و عدمها، و الحرمة للأمر الخارج و الجهة العرضيّة، كحرمة البيع وقت النّداء و إن كان ممكنا، إلاّ أنّها محتاجة إلى الدّليل المعتبر (4)، بل في الآية إشعار بعدمها، و يشهد لما ذكر فهم المرأة و جميع الحاضرين في المسجد ذلك، و رجوع عمر عن قوله.

و لا معنى للدّلالة إلاّ فهم العرب من الكلام، و العجب مع ذلك من الفخر أنّه بعد نقل الرّواية قال: و عندي أنّ الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة (5). . . إلى آخره.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 21

ثمّ بالغ سبحانه في إنكار الأخذ من المهر بجعله لشدّة الشّناعة محلاّ للتّعجّب، بقوله: وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ منهنّ، و لأيّ سبب تستردّون شيئا ممّا استحللتم به فروجهنّ بطيب أنفسكم؟ ! و الحال أنّه وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ و استمتع كلّ منكما-بالجماع و غيره من وجوه الاستمتاع-من الآخر، و حصلت بينكما الالفة التّامّة و القرابة الكاملة، حيث إنّ العرب يقولون: صحبة عشرين يوما قرابة (6). فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتّحاد و الامتزاج؟

وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ على الصّداق مع ذلك الإفضاء و الاتّصال مِيثاقاً غَلِيظاً و عهدا وكيدا. عن ابن

ص: 195


1- . تفسير الرازي 10:13.
2- . في المصدر: تغالوا.
3- . تفسير الرازي 10:13.
4- . زاد في النسخة: و ليس، و لا يصح.
5- . تفسير الرازي 10:13.
6- . تفسير الرازي 10:17.

عبّاس رضى اللّه عنه: الميثاق الغليظ: كلمة النّكاح المعقودة على الصّداق، و تلك الكلمة كلمة يستحلّ بها فروج النّساء (1).

قال صلّى اللّه عليه و آله: «اتّقوا اللّه في النّساء، فانّكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه» (2).

و عن عكرمة: هو قولهم: زوّجتك هذه المرأة على ما أخذ اللّه للنّساء على الرّجال، من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، فإذا ألجأها إلى أن بذلت المهر، فما سرّحها بإحسان، بل سرّحها بالإساءة (3).

و عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «الميثاق هي الكلمة التي عقد بها النّكاح، و الغليظ هو ماء الرّجل يفضيه إليها» (1). و لعلّ بعض مفسّري العامّة تبعوا هذه الرّواية، حيث قالوا: أخذن منكم-بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض-ميثاقا غليظا، فوصفه بالغلظة لقوّته و عظمته (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 22

ثمّ أنّه تعالى بعدما منع من إرث أعيان النّساء، و كان الرّجل في الجاهليّة يرث زوجة أبيه كما يرث ماله و ينكحها، نهى اللّه سبحانه عن نكاح زوجة الأب، بقوله: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ و إن علوا مِنَ اَلنِّساءِ و لا تتزوّجوا بزوجاتهم إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ من هذا النّكاح منكم.

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22)قيل: إنّ التّقدير: إنّ هذا النّكاح قبيح حرام يعاقبكم اللّه عليه، إلاّ النّكاح الذي سلف منكم في الجاهلية، فإنّه لجهلكم كنتم معذورين فيه.

عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان في الجاهليّة في أوّل ما أسلموا في قبائل العرب إذا مات حميم الرّجل و له امرأة، ألقى الرّجل ثوبه عليها، فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها كما يرث ماله، فلمّا مات أبو قيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه؛ و هي كبيشة بنت معمر بن معبد، فورث نكاحها، فتركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، مات أبو قيس بن الأسلت فورث ابنه محصن نكاحي، فلا يدخل عليّ، و لا ينفق عليّ، و لا يخلّي سبيلي فألحق بأهلي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ارجعي إلى بيتك، فإن يحدث اللّه في شأنك

ص: 196


1- . تفسير العياشي 1:380/910، الكافي 5:560/19، تفسير الصافي 1:402، و لم نجده في المجمع، و الظاهر أن المصنف أخذه من تفسير الصافي.
2- . تفسير الرازي 10:17.

شيئا أعلمتك» فنزلت الآية (1).

ثمّ بالغ سبحانه في الرّدع عنه ببيان علل التحريم بقوله: إِنَّهُ كانَ في جميع الملل فاحِشَةً شديدة القباحة لكونه تهجّما على فراش الآباء الّذين حقوقهم أعظم من حقّ كلّ أحد، و كان مَقْتاً و موجبا لغضب اللّه، و غضب ذوي المروءات-قيل: إنّ العرب كانوا يسمّون من تولّد منه بالمقتيّ (2)- وَ إنّه ساءَ سَبِيلاً و بئس طريقا، حيث إنّها تنتهي إلى النّار.

قيل: أشار بالفاحشة إلى القبح العقلي، و بالمقت إلى القبح الشّرعي، و بقوله: ساءَ سَبِيلاً إلى القبح العادي (3)، فبيّن سبحانه أن فيه جميع جهات القبح و مراتبه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 23

ثمّ أنّه تعالى بعدما ذكر حرمة منكوحة الأب على ابنه، شرع في بيان حرمة نكاح أصناف اخر من النّساء، بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ في شرع الإسلام أُمَّهاتُكُمْ نكاحا و استمتاعا، و إن غلون كالجدات، و جدّات الجدّات وَ بَناتُكُمْ و إن سفلن وَ أَخَواتُكُمْ من الأب، أو من الامّ، أو منهما وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ من قبل الأب، أو من قبل الامّ، و إن علون وَ بَناتُ اَلْأَخِ للأب، أو الامّ، أولهما، و إن نزلن، وَ كذا بَناتُ اَلْأُخْتِ بالتّفصيل المذكور.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)ثمّ بعد ذكر المحرّمات السّبع السّببيّة، ذكر المحرّمات بالرّضاع بقوله: وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ و تدخل فيها الجدّات وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ فنزّل سبحانه الرّضاع منزلة النّسب، حيث سمّى المرضعة امّا، و المراضعة اختا، فنبّه بذلك على حرمة العناوين السّبعة الحاصلة بالرّضاع.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الرّضاع لحمة كلحمة النّسب» (4)و قال: «يحرم من الرّضاع ما يحرم

ص: 197


1- . تفسير القمي 1:134.
2- . تفسير البيضاوي 1:207، مجمع البيان 3:43.
3- . تفسير الرازي 10:24، تفسير أبي السعود 2:160.
4- . تفسير الصافي 1:403.

من النّسب» (1).

ثمّ شرّع في المحرّمات بالمصاهرة، بقوله: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ و زوجاتكم الدّائمات، أو المنقطعات المدخول بهنّ أولا، و إن علت الأمّهات و كنّ رضاعيّات وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي يكنّ فِي حُجُورِكُمْ و إن سفلن، إذا كنّ مِنْ نِسائِكُمُ و أزواجكم اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ و باشرتموهنّ.

سمّيت بنت الزّوجة إذا كانت من الزّوج الآخر ربيبة؛ لأنّ الغالب أنّ الإنسان يربّيها كما يربّي ولده. و استعير الحجر للتّربية؛ لأنّه يجلس الطّفل الذي يربّيه في حجره. و في تقييد الرّبائب باللاّتي في الحجور، مع كونه تخصيصا، إشعار بانّهنّ بمنزلة البنات.

فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ و لم تجامعوهنّ فَلا جُناحَ و لا بأس عَلَيْكُمْ في تزوّج بناتهنّ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ سواء كانت حليلة الابن زوجة دائمة له، أو منقطعة، أو ملك يمين، و سواء كان الابن نسبيّا، أو رضاعيّا، بلا واسطة أو معها، و التّقييد بكونه من الصّلب لإخراج الأدعياء.

قيل: إنّ الرّبيب المتبنّى كان في الجاهليّة بمنزلة الابن الصّلبي، لا ينكح المتبنّي زوجة المتبنّى و لذا عيّر المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين تزوّج زينب بنت جحش بعدما فارقت زوجها زيد بن حارثة، و كان صلّى اللّه عليه و آله تبنّاه و دعاه ابنا، فنزل و ما مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ (2)و قال: وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ (3)إلى آخره.

وَ أَنْ تَجْمَعُوا في النّكاح، أو في ملك اليمين مع الوطء بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ، ثمّ استثنى من لازم الحكم بقوله: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ و سبق منكم من الجمع في زمان الجاهليّة. و المعنى: أنّكم تعاقبون على الجمع بين الأختين إلاّ على الجمع في زمان الجاهليّة، فإنّه لجهلكم معفوّ و مغفور إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً للمذنبين رَحِيماً بالمؤمنين.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 24

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

ص: 198


1- . تفسير الرازي 10:29، تفسير البيضاوي 1:208، تفسير الصافي 1:403.
2- . الأحزاب:33/40.
3- . الأحزاب:33/4.

وَ اَلْمُحْصَناتُ و المزوّجات مِنَ اَلنِّساءِ اللاّتي أحصنّ فروجهنّ بالتّزويج إِلاّ ما كانت من المزوّجات اللاّتي مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إيّاهنّ و استرققتموهنّ بالشّراء أو الاستيهاب أو الأسر، فإنّه يجوز للمالك فسخ عقد نكاحهنّ إذا كنّ مزوّجات الغير، و وطأهنّ بعد العدّة أو الاستبراء، بل روي أنّ بيعهنّ طلاقهنّ (1).

و عن أبي سعيد الخدري: أنّ المسلمين أصابوا في غزاة أوطاس نساء، و لهنّ أزواج في دار الحرب، فنادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، و لا [غير]الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة (2).

ثمّ أكّد سبحانه تحريم المحرّمات المذكورة، بقوله: كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ قيل: إنّ التّقدير: الزموا كتاب اللّه الذي كتبه عليكم، و فريضته التي فرضها عليكم.

ثمّ صرّح بعموم حلّ التّزويج بغير الأصناف المذكورة، بقوله: وَ أُحِلَّ لَكُمْ في دين اللّه ما وَراءَ ذلِكُمْ و ما سوى هؤلاء النّسوة لإرادة أَنْ تَبْتَغُوا و تطلبوا نكاحهنّ بِأَمْوالِكُمْ و بصرفها في مهورهنّ أو أثمانهنّ، حال كونكم بتزويجهنّ أو تملّكهنّ مُحْصِنِينَ و محرزين فروجكم من الزّنا.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الإحصان و التّعفّف عن الزّنا بقوله: غَيْرَ مُسافِحِينَ و غير زانين فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ به من النّساء، و من انتفعتم بِهِ مِنْهُنَّ بجماع أو عقد فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ و مهورهنّ، لكون المهور فَرِيضَةً من اللّه التي فرضها عليكم.

قيل: إنّ (فريضة) مصدر مؤكّد، و التّقدير: فرضها اللّه فريضة (3).

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «إنّما نزلت: (فما أستمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى)» (4).

أقول: الظّاهر أنّ المراد: إنّما نزلت بهذا التفسير، لا أنّها نزلت بهذا التّعبير، لبطلان القول بالتّحريف، و لا شبهة أن المراد بها المتعة، و هي النّكاح المؤقّت. و نقله الفخر الرازي عن جماعة من العامّة (5).

ثمّ بيّن سبحانه جواز تجديد المتعة بعد انقضاء المدّة، بقوله: وَ لا جُناحَ و لا حرج عَلَيْكُمْ إذا أردتم تجديد العقد على المتمتّع بها فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من الأجل و المهر مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ الأولى، و هي الأجل و المهر المقرّران في العقد الأول.

ص: 199


1- . تفسير الرازي 10:41.
2- . مجمع البيان 3:51.
3- . الكشاف 1:498، تفسير الرازي 10:54.
4- . الكافي 5:449/3، تفسير الصافي 1:406.
5- . تفسير الرازي 10:51.

عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «لا بأس بأن تزيدها و تزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، تقول: استحللتك بأجل آخر، برضى منها» الخبر (1).

إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد حَكِيماً في ما شرع من الأحكام.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 25

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جواز نكاح الحرائر دواما و متعة، أذن في نكاح الإماء، بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ و لم يقدر مِنْكُمْ طَوْلاً و غنى-كما عن الباقر عليه السّلام (2)- أَنْ يَنْكِحَ النّساء اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ و الحرائر العفيفات، لغلاء صداقهنّ، و كثرة نفقاتهنّ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ و إمائكم اَلْمُؤْمِناتِ تزّوجوا و اقنعوا منهن بظاهر الحال في الإيمان وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ القلبي الحقيقي، مطّلع على سرائركم، ففوّضوا الإيمان الباطن إلى علمه تعالى.

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)ثمّ ردع سبحانه عن التّأنّف من تزويجهنّ لدناءة نسبهنّ، بقوله: بَعْضُكُمْ منشعب مِنْ بَعْضٍ و كلّكم من أرومة واحدة، لا فضل لبعضكم على بعض من جهة الأصل و النّسب، و إنّما الفضل بالإيمان.

و قيل: إنّ المراد: كلّكم مشتركون في الإيمان، و هو أعظم الفضائل، و غيره لا يلتفت إليه (3). ففيه ردع عن الافتخار بالأنساب.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ثلاث من أمر الجاهليّة: الطّعن في الأنساب، و الفخر بالأحساب، و الاستسقاء بالأنواء، و لا يدعها النّاس في الإسلام» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على شرط صحّة هذا النّكاح، بعد الإشعار بإشراطها بالإيمان، بقوله: فَانْكِحُوهُنَّ

ص: 200


1- . تفسير العياشي 1:385/928، تفسير الصافي 1:406.
2- . مجمع البيان 3:54، تفسير الصافي 1:407.
3- . تفسير الرازي 10:60.
4- . تفسير الرازي 10:61.

بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ و مواليهنّ، فإنّهنّ مملوكات لهم عينا و منفعة، فلا يجوز التّصرّف فيهنّ إلاّ برضاهم السّابق على التّصرّف، و إن قلنا بصحّة العقد بالإجازة اللاّحقة، كما هو الحقّ.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: هل يتزوّج الرّجل بالأمة بغير علم أهلها؟ قال: «هو زنا، إنّ اللّه تعالى يقول: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ» (1). و لا فرق بين كون المولى رجلا أو امرأة، و لا بين النّكاح الدّائم و المنقطع.

فما في (الكافي) ، عن الصادق عليه السّلام: «لا بأس بأن يتمتّع الرّجل بأمة المرأة، و أمّا أمة الرّجل فلا يتمتع بها إلاّ بأمره» (2)فلعلّه لا عمل به.

وَ آتُوهُنَّ بأذن مواليهن أُجُورَهُنَّ و مهورهنّ، و تسمية المهر أجرا لكونه عوض البضع، و هو المنفعة. و إنّما قيّدنا الإيتاء بأذن مواليهنّ لكونها ملكا لهم، و ليكن الإيتاء ملابسا بِالْمَعْرُوفِ و هو عدم المطل و الضّرار و النّقص. و قيل: في إطلاق إيجاب إعطاء المهر دلالة على وجوبه و إن لم يسمّ لها مهرا، فيجب في الصّورة مهر المثل بالدّخول. و المراد من قوله: بِالْمَعْرُوفِ ما هو المتعارف في مثل هذه المرأة من المهر.

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّ وجوب إيتاء المهر فيما إذا كنّ مُحْصَناتٍ عفيفات.

و قيل: إنّ جواز نكاح الأمة أو استحبابه مقيّد به، و عليه يكون المعنى: فانكحوهنّ حال كونهنّ عفائف غير زانيات.

ثمّ أنّه قيل: إنّ العرب كانو يفرّقون بين المتجاهرات بالزّنا و المستترات، و لذا نصّ اللّه سبحانه على عدم الفرق بقوله: غَيْرَ مُسافِحاتٍ و متجاهرات بالزّنا وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ و مصاحبات للأصدقاء في السّرّ، يزنون بهنّ.

ثمّ ذكر سبحانه حكم حدّهنّ في الزّنا بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ بالتّزويج فَإِنْ أَتَيْنَ بعد النّكاح و الإحصان بِفاحِشَةٍ و ارتكبن الزّنا سرّا أو علانية فَعَلَيْهِنَّ ثابت شرعا نِصْفُ ما ثبت عَلَى اَلْمُحْصَناتِ و النّساء الحرائر مِنَ اَلْعَذابِ و الحدّ، و هو الجلد دون الرّجم، للإجماع و لعدم تبعّض الرّجم. فلا يزداد حدّها على خمسين جلدة إذا كانت محصنة فضلا عمّا إذا كانت بكرا.

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ هذا النّكاح المحرّم في الأصل على قول، أو المكروه على آخر، جائز لا حرازة فيه ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ على نفسه اَلْعَنَتَ و المشقّة مِنْكُمْ لغلبة الشّهوة و عدم الصّبر عليها،

ص: 201


1- . تفسير العياشي 1:387/933، تفسير الصافي 1:408.
2- . الكافي 5:464/4، تفسير الصافي 1:408.

حتّى خاف من نفسه الوقوع في الزّنا، وَ مع ذلك أَنْ تَصْبِرُوا على المشقّة، و تكفّوا عن الزّنا، و نكاح الإماء فهو خَيْرٌ لَكُمْ دينا و دنيا من الإقدام على نكاحهنّ لكثرة مفاسده وَ اَللّهُ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بالعباد.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 26

ثمّ أنّه تعالى-بعد ذكر هذه الآيات المقرونة بأعلى درجة الفصاحة، و بيان هذه الأحكام المشتملة على المصالح الكثيرة-أظهر المنّة و غاية اللّطف بالعباد ترغيبا لهم في الطاعة بقوله: يُرِيدُ اَللّهُ بإنزال هذه الآيات و بيان تلك الأحكام لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما فيه صلاح آخرتكم و دنياكم وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الأنبياء و المؤمنين اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ في الأزمة السّالفة.

يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)قيل: فيه دلالة على أنّ هذه الأحكام كانت في جميع الشّرائع (1).

وَ أن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لوضوح أنّه لو لم تكن الأحكام لم يتحقّق العصيان، و لولاه لم تتحقّق التّوبة، و لولاها لم تظهر صفة توّابيّته، و عفويّته، و غفوريّته، و لطفه في توفيقه للتّوبة وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ في وضع أحكامه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 27

ثمّ أعاد ذكر الحكمة الثّالثة اهتماما بإظهار سعة رحمته بقوله: وَ اَللّهُ يُرِيدُ و يحبّ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ و يعفو عنكم إثر ندمكم على عصيانكم وَ يُرِيدُ أعداء اللّه اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ و ينهمكون فيها أَنْ تَمِيلُوا إلى الباطل بعد إعراضكم عنه و قبولكم الحقّ مَيْلاً عَظِيماً و تضلّوا بعد الهداية ضلالا بعيدا.

وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 28

ثمّ تحبّب إلى عباده بإعلامهم بغاية رأفته بهم، و إحسانه إليهم بقوله: يُرِيدُ اَللّهُ بتشريعة الحنيفيّة السّمحة السّهلة التي منها تحليل نكاح الإماء أَنْ يُخَفِّفَ و يضع عَنْكُمْ التّكاليف الشّاقّة،

يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)

ص: 202


1- . تفسير الرازي 10:66.

و الآصار و الأغلال التي كانت على الامم الماضية.

ثمّ أشار إلى علّة هذا التّخفيف بقوله: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً في نفسه و عقله و قواه، عاجزا عن احتمال المشاقّ، جزوعا عند الشّدائد، لا يصبر عن الشّهوات، و لا يحتمل مشقّة الطّاعات.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: ثمان آيات في سورة النّساء هي خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. . . (1)، وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. . . (2)، يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ. . . ، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . . (3)، إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. . . (4)، إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. . . (5)، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. . . (6)، ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ. . . (7).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 29

ثمّ لمّا أجاز سبحانه في التّصرّف في النّفوس بالنّكاح، و أمر بابتغائه بالأموال، و إيفاء المهور و النّفقات، نهى عن التّصرّف في الأموال بغير الوجه العقلائي و النّحو المحلّل في الشّرع أوّلا بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ، و لا تتصرّفوا فيها بِالْباطِلِ بالأسباب غير المبيحة للمال، كالقمار و الرّشوة و الغصب و السّرقة و نحوها. و على هذا التّفسير تكون الآية مجملة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)عن الباقر عليه السّلام: «الرّبا و القمار و البخس و الظّلم» (8).

و عن الصادق عليه السّلام: «عنى بها (9)القمار، و كانت قريش تقامر [الرجل]بأهله و ماله فنهاهم [اللّه]عن ذلك» (10).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: إنّ الباطل [هو]كلّ ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض (11).

إِلاّ أَنْ تَكُونَ التّجارة تِجارَةً كائنة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ بها. و عليه لا يكون الاستثناء منقطعا لعدم كون التّجارة من جنس الباطل، و يكون المعنى: و لكن يحلّ أكلها بالتّجارة عن التراضي و يمكن توجيه الآية بنحو يكون الاستثناء متّصلا.

ثمّ بعد النّهي عن التّصرّف في الأموال بغير الوجه المحلّل، نهى عن التّصّرف في النّفوس بالقتل- ثانيا-بقوله: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ .

ص: 203


1- . النساء:4/26.
2- . النساء:4/27.
3- . النساء:4/31.
4- . النساء:4/48.
5- . النساء:4/40.
6- . النساء:4/110.
7- . تفسير الرازي 10:68، و الآية من سورة النساء:4/147.
8- . مجمع البيان 3:59، تفسير الصافي 1:409.
9- . في تفسير العياشي: نهى عن.
10- . تفسير العياشي 1:390/945، تفسير الصافي 1:409.
11- . تفسير الرازي 10:69.

قيل: إنّ المراد لا يقتل بعضكم بعضا (1).

و قيل: إنّ المراد النّهي عن قتل الشّخص نفسه (2).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ معناه: لا تخاطروا نفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه» (3).

و عنه عليه السّلام: «كان المسلمون يدخلون على عدوّهم في المغارات، فيتمكّن منهم عدوّهم فيقتلهم كيف يشاء، فنهاهم اللّه أن يدخلوا عليهم في المغارات» (4).

و عن القميّ قال: كان الرّجل إذا خرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغزو يحمل على العدوّ وحده من غير أن يأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنهى اللّه أن يقتل نفسه من غير أمره (5).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، قال: «سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الجبائر تكون على الكسير، كيف يتوضّأ صاحبها، و كيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يجزيه المسح (6)بالماء عليها في الجنابة و الوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» (7).

أقول: يمكن باستعمال لفظ (القتل) و (النفس) في عموم المجاز إرادة تعريض نفسه و نفس غيره للهلاك الدّنيوي و الاخروي.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ النّهي عن إتلاف المال و النّفس لمحض رحمته بالعباد، حثّا على الطّاعة بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً لا يرضى بتلف أموالكم و نفوسكم، و بوقوعكم في الضّرر و المشقة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 30

ثمّ أخذ سبحانه بالتّهديد على المخالفة بقولة: وَ مَنْ يَفْعَلْ و يرتكب ذلك المذكور من إتلاف الأموال و الأنفس، حال كون ارتكابه عُدْواناً على الغير، و تجاوزا عن الحدود الإلهيّة وَ ظُلْماً على العباد فَسَوْفَ نُصْلِيهِ و ندخله ناراً لا توصف شدّة حرّها وَ كانَ ذلِكَ التّعذيب و التّصلية عَلَى اَللّهِ القادر على كلّ شيء يَسِيراً و سهلا.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (30)

ص: 204


1- . تفسير الرازي 10:72، مجمع البيان 3:59.
2- . مجمع البيان 3:59.
3- . مجمع البيان 3:60، تفسير الصافي 1:410.
4- . تفسير العياشي 1:390/945، تفسير الصافي 1:410.
5- . تفسير القمي 1:136، تفسير الصافي 1:410.
6- . في تفسير العياشي: المسّ.
7- . تفسير العياشي 1:389/944، تفسير الصافي 1:410.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 31

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار رحمته و رأفته بالمؤمنين، و ترغيبه في الطّاعة بقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا و تحترزوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ من القبائح نُكَفِّرْ عَنْكُمْ و نغفر لكم سَيِّئاتِكُمْ الصّغيرة، و ذنوبكم الحقيرة وَ نُدْخِلْكُمْ في الآخرة مُدْخَلاً و منزلا كَرِيماً و حسنا مرضيّا.

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)قيل: إنّ المراد: إدخالا مع كرامة (1).

في بيان الكبائر

و عددها

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن الكبائر، فقال: «كلّ ما أوعد اللّه عليه النّار» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «الكبائر التي أوجب اللّه عليها النّار» (3).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية: «من أجتنب ما أوعد اللّه عليه النّار، إذا كان مؤمنا، كفّر اللّه عنه سيّئاته و يدخله مدخلا كريما، و الكبائر السّبع الموجبات: قتل النّفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الرّبا، و التّعرّب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزّحف» (4).

أقول: لا شبهة في وجود المعصية الصّغيرة، و بطلان ادّعاء أنّ جميع المعاصي كبائر، لظهور الكتاب، و صراحة كثير من الأخبار في وجود القسمين للمعاصي.

و ما عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: -من أنّ كلّ ما عصي اللّه فيه فهو كبيرة، فمن عمل منها شيئا فليستغفر اللّه (5)-فمحمول على إرادة وجوب احتراز العبد عن جميع المعاصي، و الاستغفار منه إذا ارتكب شيئا منها، و لا يجوز له التّهاون بها.

ثمّ لا ريب أنّ جميع الكبائر ليست على حدّ واحد، بل بعضها أكبر من بعض، لوضوح أنّ قتل النّفس أكبر من أكل مال اليتيم، و لعلّ أكل مال اليتيم أكبر من أكل الرّبا، و الفرار من الزّحف أكبر من قذف المحصنة، إلى غير ذلك.

فالميزان الثّابت بالأخبار للكبائر هو ما أوعد اللّه عليه النّار، و إن كان الوعيد بالدّلالة الالتزاميّة، و ما ذكر في الأخبار من عدد الكبائر من السّبع، فمحمول على بيان أكبر الكبائر.

و هذا القول منقول عن ابن عبّاس أيضا، و اعتراض الفخر الرازي عليه-بأنّ كلّ ذنب متعلّق للذّمّ في العاجل و العقاب في الآجل (6)، فلا تبقى صغيرة-شطط من الكلام، لوضوح عدم ذكر كثير من

ص: 205


1- . تفسير الصافي 1:411.
2- . تفسير العياشي 1:393/957، تفسير الصافي 1:411.
3- . الكافي 2:211/1، تفسير الصافي 1:411.
4- . ثواب الأعمال 130، تفسير الصافي 1:411.
5- . تفسير الرازي 10:73.
6- . تفسير الرازي 10:74.

المحرّمات كالاستمناء و القبلة و أمثالهما في القرآن.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 32

ثمّ-لمّا كان عدم الرّضا بما قسمه اللّه لخلقه موجبا للحسد، و أخذ الأموال بالباطل، و قتل النّفوس المحترمة بغير الحقّ-نهى اللّه سبحانه عن الطّمع في ما في أيدي النّاس و تمنّيه، بقوله: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الأموال و الأولاد و الجاه ممّا يجري التّنافس فيه، فإنّ ذلك قسمة من اللّه صادرة عن تدبير لائق بأحوال العباد، مترتّبة على الإحاطة بجلائل شؤونهم و دقائقها.

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)فكلّ ما كنتم فاقدين له من الأمور الدّنيويّة و كان غيركم واجدا له، فلعلّ عدمه خير لكم، فعلى كلّ أحد من المفضّل و المفضّل عليه أن يرضى بما قسم له، و لا يتمنّى المفضّل عليه حظّ المفضّل، و لا يحسده عليه؛ لأنّه معارضة لحكمة المقدّر، فإنّ الأنصباء كالأشكال و الصّور، و كما أنّ الأشكال و الصّور و اختلافهما بمقتضى الحكمة الإلهيّة لا يطّلع على سرّها أحد، فكذلك الاقسام و الأنصباء.

عن الصادق عليه السّلام، في تفسير الآية: «أي لا يقل أحدكم: ليت ما اعطي فلان من المال و النّعمة و المرأة الحسناء كان لي، فإنّ ذلك يكون حسدا، و لكن يجوز أن يقول: اللّهمّ أعطني مثله» (1).

أقول: و ممّا ينبغي أن يقول: اللّهمّ أعطني ما فيه صلاح دنياي و آخرتي، بل أحسن الأدعية ما علّمه اللّه عباده في كتابه المجيد من قوله: رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً (2).

و قيل: إنّ وجه النّظم أنّه تعالى بعدما أمر بتطهير الجوارح من أقبح القبائح، و هو أخذ المال بالباطل، و قتل النّفس المحترمة، أمر بتطهير القلب من أرذل الصّفات، و هو الحسد على ما أعطاه اللّه غيره، ليصير الباطن موافقا للظّاهر في الطّهارة من الذّمائم (3).

ثمّ علّل سبحانه النّهي عن التّمنّي بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ و حظّ معين لا يتخطّاه مِمَّا اِكْتَسَبُوا بأعمالهم و صلاح حالهم، من النّعم الدّنيوية و الاخرويّة وَ لِلنِّساءِ أيضا نَصِيبٌ و حظّ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ فاطلبوا ما تريدون بالأعمال، لا بالتّمنّي و الحسد وَ سْئَلُوا اَللّهَ بعضا مِنْ فَضْلِهِ و التمسوا من جميع ما تحبّونه و تحتاجون إليه من خزائن جوده و رحمته التي لا تنفد، فإن أعطاكم و أجاب سؤلكم فاشكروه، و إن منعكم فارضوا بما قسمه لكم، فإنّه ليس إلاّ لعلمه بصلاحكم إِنَّ اَللّهَ

ص: 206


1- . مجمع البيان 3:64، تفسير الصافي 1:413.
2- . البقرة:2/201.
3- . تفسير الرازي 10:80.

كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ من المصالح و المفاسد عَلِيماً خبيرا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تعالى أحبّ شيئا لنفسه و أبغضه لخلقه، أبغض عزّ و جلّ لخلقه المسألة، و أحبّ لنفسه أن يسأل، و ليس شيء أحبّ إليه من أن يسأل، فلا يستحي أحدكم أن يسأل اللّه عزّ و جلّ من فضله و لو شسع نعله» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «ليس من نفس إلاّ و قد فرض اللّه لها رزقا حلالا يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئا بالحرام قاصّها به من الحلال الذي فرض اللّه لها، و عند اللّه سواهما فضل كثير» (2)و هو قوله: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ .

ثمّ قال: «و ذكر اللّه بعد طلوع الفجر أبلغ في طلب الرّزق من الضّرب في الأرض» (3).

قيل: إنّ سبب نزول الآية أنّه قالت أمّ سلمة رضي اللّه عنها: يا رسول اللّه، يغزو الرّجال و لا نغزو، و لهم من الميراث ضعف ما لنا، فليتنا كنّا رجالا، فنزلت (4).

و قيل: لمّا جعل اللّه الميراث للذّكر مثل حظّ الانثيين، قالت النّساء: نحن أحوج لأنّا ضعفاء، و هم أقدر على طلب المعاش (5).

في بيان طبقة

الورّاث

و قيل: أتت واحدة من النّساء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: ربّ الرّجال و النّساء واحد، و أنت الرّسول إلينا و إليهم، و أبونا آدم و امّنا حوّاء، فما السّبب في أنّ اللّه يذكر الرّجال و لا يذكرنا؟ فنزلت الآية، فقالت: و قد سبقنا الرّجال بالجهاد، فما لنا؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ للحامل منكنّ أجر الصّائم القائم، فإذا ضربها الطّلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإذا أرضعت كان لها بكلّ مصّة أجر إحياء النّفس» (6).

و قيل: لمّا نزلت آية المواريث قال الرّجال: نرجو أن نفضّل على النّساء في الآخرة كما فضّلنا في الميراث، و قالت النّساء: نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرّجال كما في الميراث، فنزلت (7).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 33

ثمّ أنّه تعالى، بعد ذكر ميراث الأقارب و الأزواج، و المنع عن إرث نساء الميّت، خصوصا زوجة الأب و حرمة نكاحها، و حرمة غيرها من النّساء المحرّمات، و ذكر أحكام اخر بالمناسبة، عاد إلى بيان

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)

ص: 207


1- . الكافي 4:20/4، تفسير الصافي 1:413.
2- . تفسير العياشي 1:394/961، تفسير الصافي 1:413.
3- . تفسير العياشي 1:394/962، تفسير الصافي 1:413. (4 و 5) . تفسير الرازي 10:82. (6 و 7) . تفسير الرازي 10:82.

حكم الإرث و ذكر طبقات الورّاث بقوله: وَ لِكُلٍّ من أفراد نوع الإنسان، ذكرا كان أو انثى جَعَلْنا و قرّرنا مَوالِيَ و ورّاثا يرثونه مِمّا تَرَكَ بعد موته.

و هم أوّلا: اَلْوالِدانِ و في طبقتهما الأولاد و الأزواج، و لعلّه لم يذكروا هنا لمعلوميّة ذلك من الآيات السّابقة، و لتعظيم شأنهما في الطّبقة الاولى. ثمّ ذكر الطّبقة الثّانية بقوله: وَ اَلْأَقْرَبُونَ .

عن الصادق عليه السّلام: «إنّما عنى بذلك اولي الأرحام في المواريث، و لم يعن أولياء النّعمة، فأولاهم بالميّت أقربهم إليه من الرّحم التي تجرّه إليها» (1).

ثمّ الطّبقة الثّالثة؛ بقوله: وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ .

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «إذا والى الرّجل الرّجل فله ميراثه، و عليه معقلته» (2)، يعني: دية جناية خطئه.

و عن الرضا عليه السّلام: «عنى بذلك الائمّة عليهم السّلام بهم عقد اللّه عزّ و جلّ أيمانكم» (3).

في نقل كلام

الفاضل المقداد رحمه اللّه

و قال الفاضل المقداد في (آيات الأحكام) : الأيمان هنا جمع: يمين اليد؛ لأنهم كانوا عند العهد يمسحون اليمين باليمين، فيقول العاقد: دمك دمي، و ثأرك ثأري، و حربك حربي، و سلمك سلمي، ترثني و أرثك، و تطلب بي و أطلب بك و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحالف السّدس من ميراث حليفه. و هذا من إسناد الفعل إلى آلته. و قيل: الأيمان جمع يمين الحلف، فيكون من إسناد الفعل إلى سببه (4).

إذا عرفت ذلك فهنا فوائد: الاولى: كانوا في الجاهليّة يتوارثون بهذا العقد دون الأقارب، فأقرّهم اللّه عليه في مبدأ الإسلام ثمّ نسخ ذلك، فكانوا يتوارثون بالإسلام و الهجرة.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله آخى بين المهاجرين و الأنصار لمّا قدم المدينة، فكان المهاجر يرث الأنصاري و بالعكس، و لم يرث القريب ممّن لم يهاجر، و نزل في ذلك: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (5)، ثمّ نسخ ذلك بالقرابة و الرّحم و الأنساب و الأسباب بقوله: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (6).

ص: 208


1- . التهذيب 9:268/975، تفسير الصافي 1:413.
2- . الكافي 7:171/3، تفسير الصافي 1:414.
3- . تفسير العياشي 1:395/963، تفسير الصافي 1:414.
4- . كنز العرفان 2:324.
5- . الأنفال:8/72.
6- . كنز العرفان 2:324، و الآية من سورة الأنفال:8/75.

الثانية: هذا الحكم-أعني: الميراث بالمعاهدة و المعاقدة، و هو المسمّى بضمان الجريرة-منسوخ عند الشّافعي مطلقا، و قال: لا إرث به، و عند أصحابنا ليس كذلك، بل هو ثابت عند عدم الوارث النّسبي و السّببي لما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أنّه خطب يوم الفتح فقال: «ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به، فإنّه لم يزده الإسلام إلاّ شدّة، و لا تحدثوا حلفا في الإسلام» .

إلى أن قال الفاضل: على ما قلناه من بقاء حكم الإرث بالتّعاهد، فتكون الآية غير منسوخة جملة، بل تكون محكمة، لكن الإرث فيها مجمل مفتقر إلى شرائط و مخصّصات تعلم من موضع آخر من الكتاب، أو من السّنّة الشّريفة.

و قال بعضهم: المعاقدة هنا هي المصاهرة، فيكون إشارة إلى إرث الزّوجين، و اختاره المعاصر (1)، و فيه بعد؛ لأنّه عدول عن الظّاهر، و عن قول الأكثر، انتهى (2).

و قد سبق في طرفة من الطّرائف بعض التّحقيق في ذلك (3).

و قيل: إنّ المراد من قوله تعالى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النّصرة و النّصيحة، و المصافاة في العشرة، و المخالصة في المخالطة، لا التّوارث.

ثمّ وعد سبحانه المطيعين بالثّواب و العاصين بالعقاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الجزئيّات و الكلّيات و جميع أعمال العباد شَهِيداً و خبيرا يجازيهم على حسب أعمالهم إنّ خيرا فخيرا، و إن شرّا فشرّا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 34

في بيان فضل

الرجال على النساء

ثمّ لمّا كان شأن نزول آية: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ (4)-على ما ورد في بعض الرّوايات-في ردع النّساء عن التّكلّم في تفضيل الرّجال على النّساء في الميراث، و تمنّيهنّ المساواة لهم في النّصيب، أشار سبحانه إلى وجه

اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

ص: 209


1- . مراد الفاضل المقداد من (المعاصر) هو ابن المتّوج، و هو فخر الدين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتّوج البحراني صاحب كتاب (النهاية في تفسير الخمسمائة آية) . الذريعة 24:402/2137.
2- . كنز العرفان 2:324.
3- . راجع: الطرفة (20) .
4- . النساء:4/32.

التّفضيل بقوله: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ مهيمنون عليهنّ، مهتمّون بتنظيم امورهنّ، مبالغون في حفظهنّ، ناظرون في صلاحهنّ.

ثمّ علّل سبحانه هذه القيمومة بأمرين: الأوّل: بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ الغالب عَلى بَعْضٍ الأغلب من النّساء، من العقل و الحزم، و القوّة و الفتوّة، و الشّجاعة و السّماحة، و العلم، [و غيرها]من الفضائل الدّاخلية و الكمالات النّفسانيّة.

و الثاني: وَ بِما أَنْفَقُوا عليهنّ مِنْ أَمْوالِهِمْ في نكاحهنّ، كالمهر و النّفقة و الإحسان و غيرها من الفضائل العمليّة. و فيه دلالة على وجوب نفقتهنّ على الأزواج.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: ما فضل الرّجال على النّساء؟ فقال: «كفضل الماء على الأرض، فبالماء تحيا الأرض، و بالرّجال تحيا النّساء، و لو لا الرّجال ما خلقت النّساء» ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال: «ألا ترى إلى النّساء كيف يحضنّ و لا يمكنهنّ العبادة؛ من القذارة، و الرّجال لا يصيبهم شيء من الطّمث» (1).

روي أنّ سعد بن الرّبيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شكا، فقال صلوات اللّه عليه: «لنقتصّنّ منه» . فنزلت الآية، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا، و الذي أراد اللّه خير، و رفع القصاص» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعدما أشار إلى وظيفة الرّجال، بيّن وظيفة النّساء بقوله: فَالصّالِحاتُ الخيّرات منهنّ قانِتاتٌ للّه، مطيعات له و لأزواجهنّ، قائمات بأداء حقوقهم حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ من الأزواج بحفظ أنفسهنّ من الأجانب، و أموال أزواجهنّ من التّلف و التّبذير في غيابهم.

عن الصادق عليه السّلام عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما أستفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، و تطيعه إذا أمرها، و تحفّظه إذا غاب عنها، في نفسها و ماله» (3).

و قيل: إنّ المراد: حافظات لما يكون بينهنّ و بين أزواجهنّ في الخلوات من الأسرار (4).

بِما حَفِظَ اَللّهُ لهنّ، و بعوض الحقوق التي جعلها اللّه لهنّ رعاية لهنّ على أزواجهنّ، من العدل و الإحسان إليهنّ، و إيجاب إمساكهنّ بالمعروف، و إعطائهنّ المهور و النفقات و غيرها.

و حاصل المعنى: أنّ حفظهنّ لحقوق الأزواج يكون في مقابل حفظ اللّه حقوقهنّ على الأزواج.

و قيل: إنّ المعنى: كونهنّ حافظات للغيب يكون بسبب حفظ اللّه لهنّ من الزّلل، و توفيق اللّه إيّاهنّ للقيام بحقوق الأزواج (5).

ص: 210


1- . علل الشرائع:512/1، تفسير الصافي 1:414.
2- . تفسير روح البيان 2:202.
3- . الكافي 5:327/1، تفسير الصافي 1:414.
4- . كنز العرفان 2:212.
5- . تفسير الرازي 10:89.

حكم نشوز الزوجة

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وظيفة الزّوجة من التمكين و الطّاعة للزّوج، بيّن حكم خروجها عن الطّاعة بقوله: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ و ترفّعهنّ عن الطّاعة بظهور أماراته في أقوالهنّ و أفعالهن فَعِظُوهُنَّ و خوّفوهنّ بسوء عاقبة النّشوز، و عقاب اللّه عليه، و انصحوهنّ بالتّرغيب إلى حسن العشرة و القيام بالطّاعة وَ اُهْجُرُوهُنَّ و تباعدوا منهنّ فِي اَلْمَضاجِعِ و المراقد، إن لم يفد الوعظ و النّصح. قيل: هو أن لا يبيت معها في فراشها، بل في فراش آخر (1).

و قيل: هو أن يولّيها ظهره في الفراش (2).

و قيل: هو أن لا يجامعها (3). و لا يبعد أن يكون من الوجوه امتناعه عن التّكلّم معها.

وَ اِضْرِبُوهُنَّ إن لم يفد الهجران، ضربا غير جارح لحما، أو كاسر عظما.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه الضّرب بالمسواك» (1). و لا يبعد أنّه بيان أقلّه و وجوب رعاية ما يوجب ردعها في الهجر و الضّرب، و عدم جواز التعدّي عنه.

فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ و قمن بحقوقكم بالضّرب، و رجعن عن النّشوز إلى الطّاعة فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً و لا تطلبوا إلى إيذائهنّ طريقا بالتّوبيخ و الضّرب و غيرهما.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعضها بلسانه، فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتّعظ بالضّرب بعث الحكمين» (2).

ثمّ رغّب سبحانه الأزواج بعد انتهائهنّ بالرّفق بهنّ، و استمالة قلوبهنّ، و قبول توبتهنّ، بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا شأنا كَبِيراً قدرة.

ففيه إشارة إلى أنّه تعالى مع علوّ شأنه، و كمال قدرته، يعاملكم مع عصيانكم بالرّفق، و يخاطبكم بالشّفقة و يستميل قلوبكم، و يقبل توبتكم، فعاملوا أزواجكم بعد ندمهم على النّشوز معاملة ربّكم العليّ معكم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 35

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان حكم النّشوز من طرف الزّوجة-بيّن حكم النّشوز، و عدم القيام بالحقوق، إذا كان من الزّوجين، مخاطبا للحكّام بقوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ أيّها الحكّام شِقاقَ بَيْنِهِما و النّشوز،

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)

ص: 211


1- . مجمع البيان 3:69، تفسير الصافي 1:415.
2- . تفسير الرازي 10:91.

و تجاوز الحدود الشّرعيّة منهما فَابْعَثُوا حَكَماً عادلا منصفا، صالحا للحكومة من طرف الزّوج كائنا مِنْ أَهْلِهِ و أقاربه إلى الزّوجة وَ حَكَماً آخر، على صفة حكم الزّوج من طرف الزّوجة، كائنا مِنْ أَهْلِها و عشيرتها إلى الزّوج لإصلاح ذات البين.

قيل: تعيين أهل الزّوجين للحكميّة لكونه أعرف بحالهما (1).

و قيل: هو على سبيل النّدب، و يجوز البعث لغير الأهل لحصول الغرض (2).

و على أيّ حال و تقدير فالحكمان المعيّنان إِنْ يُرِيدا و قصدا إِصْلاحاً و توفيقا بين الزّوجين بالشّروط و الالتزمات نظرا إلى صلاحهما يُوَفِّقِ اَللّهُ و يؤلّف بقدرته بَيْنِهِما قيل: إنّ ضمير التّثنية الاولى أيضا راجع إلى الزّوجين (3)، و قيل: الثّانية أيضا راجعة إلى الحكمين (4)إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً بالكلّيّات خَبِيراً بالجزئيّات، أو عليما بالبواطن خبيرا بالظّواهر من الأقوال و الأفعال.

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «الحكمان يشترطان إن شاءا فرّقا و إن شاءا جمعا، فإن جمعا فجائز، و إن فرّقا فجائز» (5).

[و]قال: «ليس لهما أن يفرّقا حتّى يستأمراهما» (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 36

ثمّ أنّه تعالى لمّا أرشد الزّوجين إلى طريق الإصلاح بينهما، أرشد النّاس إلى طريق الإصلاح بينهم و بين اللّه بقوله: وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ و أطيعوه أيّها النّاس جوانحا و جوارحا وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من الإشراك جليّا و خفيّا، وَ أحسنوا بِالْوالِدَيْنِ و إن علوا إِحْساناً لائقا بعظيم حقوقهما.

وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)و في إقران ذكر وجوب برّهما بوجوب عبادة ذاته المقدّسة تنبيه على كمال العناية بهما، و علوّ قدرهما، و التّأكيد في وجوب طاعتهما، و القيام بخدمتهما، و السّعي في حوائجهما، و الإنفاق عليهما بقدر الاستطاعة، و الخضوع لهما، و تليين الكلام معهما.

روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من اليمن فاستأذنه في الجهاد، فقال صلوات اللّه عليه: «هل لك أحد باليمن؟» فقال: أبواي، فقال: «أبواك أذنا لك؟» فقل: لا، فقال: «فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا

ص: 212


1- . تفسير الرازي 10:93.
2- . تفسير أبي السعود 2:175.
3- . تفسير أبي السعود 2:175.
4- . تفسير أبي السعود 2:175.
5- . الكافي 6:146/3، تفسير الصافي 1:415.
6- . الكافي 6:147/5، تفسير الصافي 1:415.

لك فجاهد، و إلاّ فبرّهما» (1).

و عن العيّاشي: عنهما عليهما السّلام، في هذه الآية: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحد الوالدين، و عليّا عليه السّلام الآخر» (2).

ثمّ بعد الأمر بالإحسان إلى الوالدين، أمر بالإحسان إلى الأرحام بقوله: وَ بِذِي اَلْقُرْبى و الأرحام القريب منكم و البعيد، فإنّهم أحقّ بالإحسان من غيرهم. وَ بعدهم اَلْيَتامى لضعفهم، و صغرهم، و عدم الكافل لهم، وَ بعدهم اَلْمَساكِينِ و الفقراء، وَ بعدهم اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى و من له قرب الدّار، وَ بعدهم اَلْجارِ اَلْجُنُبِ و من يكون له بعد الدّار.

بيان حدّ الجار

و حقوقه

في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام: «حدّ الجوار أربعون دارا من كلّ جانب، من بين يديه، و من خلفه، و عن يمينه، و عن شماله» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ أربعين دارا جيران من بين يديه، و من خلفه، و عن يمينه، و عن شماله» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق. حقّ الجار و حقّ القرابة و حقّ الإسلام، و جار له حقّان: حقّ الجار، و حقّ الإسلام، و جار له حقّ واحد: حقّ الجار (5)، و هو المشرك من أهل الكتاب» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «حسن الجوار يزيد في العمر» (7).

و قال: «حسن الجوار يعمّر الدّيار، و يزيد في الأعمار» (8).

و عن الكاظم عليه السّلام: «ليس حسن الجوار كفّ الأذى، و لكن حسن الجوار صبرك على الأذى» (9).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «و الذي نفس محمّد بيده، لا يؤدّي حقّ الجار إلاّ من رحم اللّه، و قليل ما هم، أتدرون ما حقّ الجار؟ إن افتقر أغنيته، و إن استقرض أقرضته، و إن أصابه خير هنأته، و إن أصابه شرّ عزّيته، و إن مرض عدته، و إن مات شيّعت جنازته» (10).

و قيل: عنى بالجار ذي القربى: القريب النّسيب، و بالجار الجنب: الجار الأجنبي (11).

ثمّ ذكر الصّنف السّابع بقوله: وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ قيل: هو الذي صحبك و حصل في جنبك،

ص: 213


1- . تفسير الرازي 10:95.
2- . تفسير العياشي 1:397/971 و 972، تفسير الصافي 1:415.
3- . الكافي 2:491/2، تفسير الصافي 1:415.
4- . الكافي 2:491/1، تفسير الصافي 1:415.
5- . في مجمع البيان: الجوار.
6- . مجمع البيان 3:72، تفسير الصافي 1:416.
7- . الكافي 2:489/3، و فيه: يزيد في الرزق، تفسير الصافي 1:416.
8- . الكافي 2:489/8، تفسير الصافي 1:416.
9- . الكافي 2:489/9، تفسير الصافي 1:416.
10- . تفسير الرازي 10:96.
11- . تفسير الرازي 10:96.

إمّا بكونه رفيقا في سفر، أو جارا ملاصقا، أو شريكا في تعلّم أو حرفة، أو قاعدا بجنبك في مجلس أو مسجد، أو غير ذلك ممّن له أدنى صحبة التأمت بينك و بينه، فعليك أن [ترعى ذلك الحقّ و لا تنساه و]تجعله ذريعة إلى الإحسان إليّه (1).

و قيل: إنّه المرأة فإنّها تكون معك و تضجع إلى جنبك (2).

وَ بعدهم اِبْنِ اَلسَّبِيلِ و هو المسافر المنقطع عن بلده و ماله، و الإحسان إليه بأن تؤويه و تزوّده، و قيل: هو الضّيف (3). وَ بعده ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد و الإماء.

عن القمي رحمه اللّه قال: الصّاحب بالجنب يعني صاحبك في السّفر، و ابن السبيل يعني أبناء الطّريق الّذين يستعينون بك في طريقهم، و ما ملكت أيمانكم يعني الأهل و الخادم (4).

و قيل: هو كلّ حيوان تملكه (5). و على كلّ تقدير، فإنّ الإحسان إلى الكلّ طاعة عظيمة.

قيل: كانوا في الجاهليّة يسيئون إلى المملوك، فيكلّفون الإماء بالبغي (6)و التّكسّب بفروجهنّ (7).

ثمّ لمّا كان عمدة الموانع عن الإحسان و التّوجّه إلى الفقراء و الضّعفاء و المماليك التّكبّر و التّطاول، هدّد اللّه التّاركين للإحسان إليهم بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً و متكبرا فَخُوراً و متطاولا على النّاس.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 37

ثمّ قسّمهم سبحانه قسمين، و عرّف القسم الأوّل بقوله: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأموالهم و لا ينفقونها في سبيل اللّه و وجوه البرّ من الجهاد، و إعانة الفقراء، و صلة الأرحام، و أمثال ذلك.

اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)ثمّ بالغ سبحانه في [بيان]حبّهم البخل بقوله: وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ و يرغّبونهم فيه، و لا يرضون بإنفاق أحد إلى أحد وَ يَكْتُمُونَ و يسترون من النّاس ما آتاهُمُ اَللّهُ و أعطاهم مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده، بأن يظهروا الفقر و الإعسار مع كونهم أغنياء موسرين لئلا يتوقّع منهم البذل أحد.

ثمّ لمّا كان هذا الخلق الرّذيل ملازما للكفر-و لو بسبب إنكار حقوق اللّه من الزّكاة، و صلة الرّحم،

ص: 214


1- . تفسير الرازي 10:96.
2- . تفسير الرازي 10:97.
3- . تفسير الرازي 10:97.
4- . تفسير القمّي 1:138، تفسير الصافي 1:416.
5- . تفسير الرازي 10:97، تفسير روح البيان 2:206.
6- . كذا، و في تفسير الرازي: البغاء.
7- . تفسير الرازي 10:97.

و الإحسان إلى الفقراء-و إظهار الشّكاية من اللّه وصفهم اللّه بالكفر، و هددهم بقوله: وَ أَعْتَدْنا و هيّئنا في الآخرة لِلْكافِرِينَ باللّه و نعمه و الدّار الآخرة عَذاباً مُهِيناً لهم لاستهانتهم بأحكام اللّه و عباده.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «خصلتان لا تجتمعان في مسلم: البخل، و سوء الخلق» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما كان في شيعتنا فلا يكون فيهم ثلاثة: لا يكون فيهم من يسأل بكفّه، و لا يكون فيه بخيل. . .» (2)

عن ابن عبّاس: أنّهم اليهود، بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفته في التّوراة، و أمروا قومهم أيضا بالكتمان، وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ من العلم بما في كتابهم من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ أَعْتَدْنا في الآخرة لليهود عَذاباً مُهِيناً (3).

و قيل: إنّ اليهود كانوا يقولون للأنصار بطريق النّصيحة: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 38

ثمّ عرّف اللّه القسم الثاني بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ و يصرفون أَمْوالَهُمْ في وجوه البرّ، و لكن لا لغرض طاعة اللّه، و القرب إليه، و طلب الآخرة، بل يكون غرضهم من البذل و الإنفاق رِئاءَ اَلنّاسِ و لتحصيل الجاه بينهم، و المدح في ألسنتهم.

وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)ثمّ أشار سبحانه إلى علّة ريائهم بالإنفاق بقوله: وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ عن صميم القلب حتّى يقصدوا بإنفاقهم التّقرّب إلى اللّه و طاعته، و النّجاة في الآخرة.

و من البيّن أنّ هؤلاء المرائين قرناء الشّيطان يضلّهم عن الصّراط المستقيم، و يهديهم إلى الجحيم وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً و مصاحبا في الدّنيا، لا يرجى منه خير، و لا يكون له فلاح فَساءَ إذن الشّيطان قَرِيناً و بئس مصاحبا، حيث إنّه يحرم قرينه من النّعم الدّائمة، و يدخله بتسويلاته الجحيم الحاطمة.

قيل: نزلت في المنافقين لذكر الرّياء في إنفاقهم، و هو النّفاق (5).

و قيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (6).

ص: 215


1- . الخصال:75/117، تفسير الصافي 1:417.
2- . الخصال:131/137، تفسير الصافي 1:416.
3- . تفسير الرازي 10:98.
4- . تفسير أبي السعود 2:176.
5- . تفسير الرازي 10:99.
6- . تفسير الرازي 10:99.

و على أيّ تقدير، تدلّ الآية على أنّ المنفق رياء و البخلاء الّذين لا ينفقون بشيء متشاركون في الذّم و العقاب لاشتراكهم في ترك الإنفاق في ما ينبغي و كما ينبغي.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 39

ثمّ لام اللّه سبحانه كلا الفريقين على ترك الإيمان و الإنفاق لوجه اللّه و في سبيله الذي فيه نفع عظيم، و في تركه ضرر كثير، بقوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ من الضّرر المتصوّر لَوْ أنّهم آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ مع وضوح دلائل التّوحيد و المعاد وَ أَنْفَقُوا في سبيل اللّه شيئا مِمّا رَزَقَهُمُ اَللّهُ من المال مع كثرة منافعه، و عدم تصوّر الضّرر فيه. و فيه غاية الحثّ و التّحريض إليهما.

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اَللّهُ وَ كانَ اَللّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)ثمّ هدّد سبحانه على تركهما بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بِهِمْ و بأخلاقهم و أعمالهم الظّاهرة و الخفيّة عَلِيماً و من الواضح أنّ الاعتقاد بأنّ اللّه القادر، المنتقم، الشّديد العقاب، مطلّع على ظاهره و باطنه من أقوى الرّوادع عن الكفر و العصيان و النّفاق و الرّياء.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 40

ثمّ بالغ سبحانه في ترغيب النّاس إلى الإيمان و الإنفاق في سبيله بقوله: إِنَّ اَللّهَ تعالى لا يَظْلِمُ أحدا عمل عملا بزيادة عقاب، أو بنقص ثواب مِثْقالَ ذَرَّةٍ و بقدر نملة صغيرة لاستحالة صدور الظّلم منه، مع كمال حكمته، و عدم حاجته. و فيه مبالغة في تنزيه ساحته عن الظّلم.

إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)ثمّ أعلن عن سعة رحمته و عظمة فضله بقوله: وَ إِنْ تَكُ زنة الذّرّة حَسَنَةً و فعلة خير يُضاعِفْها اللّه بإضعاف ثوابها وَ يُؤْتِ صاحبها مِنْ لَدُنْهُ و من خزائن رحمته، زائدا على ما يستحقّه في مقابل عمله أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جسيما لا يعرف أحد عظمة هذا الفضل و جسامته.

و في توصيفه بالعظمة دلالة على أنّه أضعاف الدّنيا و ما فيها، حيث إنّه وصف الدّنيا و ما فيها في كتابه بالمتاع القليل.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 41

ثمّ أنّه تعالى-بعد تهديد الكفّار و المنافقين و البخلاء و المنفقين رياء بعلمه بسرائرهم و بواطن امورهم، و تعذيبهم من غير ظلم-هدّدهم بأنّه يقطع عذرهم، و يتمّ عليهم الحجّة، مضافا إلى علمه

ص: 216

بإقامة الشّهود عليهم من الأنبياء و الرّسل؛ بحيث لا يمكن لأحد منهم الإنكار و دعوى العذر، بقوله: فَكَيْفَ ترون حال الكفرة و العصاة في القيامة، من شدّة الهول و الفزع إِذا جِئْنا في ذلك اليوم مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الامم بِشَهِيدٍ عليهم من أنفسهم، و هو رسولهم، يشهد بفساد عقائدهم، و عنادهم للّه و رسله، و ارتكابهم السّيّئات طغيانا و كفرا وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد، بعد شهادة الرّسل عَلى صدق هؤُلاءِ الرّسل شَهِيداً تشهد بصدقهم في ما شهدوا به.

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)و قيل: إنّ كلمة (هؤلاء) إشارة إلى المكذّبين، و المعنى: أنّك تشهد بكفرهم، كما شهدت الأنبياء عليهم السّلام.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لابن مسعود: «اقرأ القرآن عليّ» قال: فقلت: يا رسول اللّه، أنت الذي علّمتنيه. فقال: «احبّ أن أسمعه من غيري» قال ابن مسعود: فأفتتحت سورة النّساء، فلمّا انتهيت إلى هذه الآية، بكى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، قال ابن مسعود: فأمسكت عن القراءة (1).

و في حديث، قال: «فيقام الرّسل فيسألون عن تأدية الرّسالات التي حملوها إلى اممهم، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى اممهم و تسأل الامم فيجحدون، كما قال اللّه: فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ (2)، فيقولون: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ، فتشهد الرّسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيشهد بصدق الرّسل، و يكذّب من جحدها من الامم، فيقول لكلّ امّة منهم: بلى قد جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (3)، أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم، بتبليغ الرّسل إليكم رسالاتهم.

و لذلك قال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فلا يستطيعون ردّ شهادته خوفا من أن يختم اللّه على أفواههم، و تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون. و يشهد على منافقي (4)أمّته و كفارهم بإلحادهم، و عنادهم، و نقضهم عهدهم (5)، و تغييرهم سنّته» (6)الخبر.

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله خاصّة، في كلّ قرن منهم إمام [منّا] شاهد عليهم، و محمّد شاهد علينا» (7).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 42

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً (42)

ص: 217


1- . تفسير الرازي 10:105.
2- . الأعراف:7/6.
3- . المائدة:5/19.
4- . زاد في الاحتجاج: قومه و.
5- . في الإحتجاج: عهده.
6- . الإحتجاج:242، تفسير الصافي 1:418.
7- . الكافي 1:146/1، تفسير الصافي 1:418.

ثمّ كأنّه قيل: ما شدّة حالهم التي أشرت إليها بقولك: فَكَيْفَ إلى آخره، فقال سبحانه: يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت يَوَدُّ و يتمنّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ و خالفوا أحكامه، و عارضوه بالتّكذيب لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ و تنطبق عليهم بعد انشقاقها، و سقوطهم في بطنها، بحيث لا يبقى منهم أثر فوقها.

و قيل: إنّ المراد: يودّون أنّهم لم يبعثوا، و أنّهم كانوا و الأرض سواء (1).

و قيل: يودّون أنّهم صاروا كالبهائم ترابا، كما حكى اللّه أنّ الكافر يقول يومئذ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (2).

و عن القمّي رحمه اللّه، قال: يتمنّى الّذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا [فيه]على غصبه (3).

وَ إذن لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً لعدم قدرتهم على الكتمان بعد ظهور أعمالهم و عقائدهم عند اللّه، و ثبوت كفرهم و عصيانهم بشهادة الرّسل.

عن الصادق عليه السّلام، عن جدّه أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في خطبة يصف فيها هول يوم القيامة: «ختم على أفواههم، و تكلّمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و نطقت الجلود بما عملوا، فلا يكتمون اللّه حديثا» (4).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: يودّون لو تنطبق عليهم الأرض، و لم يكونوا كتموا أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لا كفروا به و لا نافقوا (5).

و عن القمّي: [يتمنّى الّذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على غصبه، و]أن لم يكتموا ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في علي عليه السّلام (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 43

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)

ص: 218


1- . تفسير الرازي 10:106.
2- . تفسير الرازي 10:106، و الآية من سورة النبأ:78/40.
3- . تفسير القمي 1:139، تفسير الصافي 1:418.
4- . تفسير العياشي 1:398/976، تفسير الصافي 1:418.
5- . تفسير الرازي 10:106.
6- . تفسير القمي 1:139، تفسير الصافي 1:418.

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه النّاس بعبادته، و الإحسان إلى الأقارب و الضّعفاء، و رغّب في ما أمر، و رهّب عن المخالفة، بيّن شرائط أهم عباداته، و هي الصّلاة، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ و لا تشتغلوا بها، و قيل: إنّ المراد: لا تدخلوا مواضع الصّلاة، و هي المساجد وَ أَنْتُمْ سُكارى من الخمر، أو من النّوم (1)حَتّى تَعْلَمُوا و تفهموا ما تَقُولُونَ في حال الصّلاة.

روي أنّ جماعة من الصّحابة صنع لهم عبد الرّحمن بن عوف طعاما و شرابا، حين كانت الخمرة مباحة، فأكلوا و شربوا، فلما ثملوا جاء وقت صلاة المغرب، فقدّموا أحدهم ليصلّي بهم، فقرأ: (أعبد ما تعبدون و أنتم عابدون ما أعبد) ، فنزلت. فكانوا لا يشربون [في]أوقات الصّلاة، فإذا صلّوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلاّ و قد ذهب عنهم السّكر، و علموا ما يقولون (2).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: نزلت في جماعة من أكابر الصّحابة قبل تحريم الخمر و كانوا يشربونها، ثمّ يأتون المسجد للصّلاة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنهاهم اللّه عنه (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ المراد سكر الشّراب، ثمّ نسخها تحريم الخمر» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا نعس أحدكم، و هو في الصّلاة، فليرقد حتّى يذهب عنه النّوم، فإنّه إذا صلّى و هو ينعس لعلّه يذهب يستغفر فيسبّ نفسه» (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «لا تقم إلى الصّلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّها من خلال النّفاق، و قد نهى اللّه أن تقوموا إلى الصّلاة و أنتم سكارى» قال: «سكر النّوم» (6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «سكر النّوم» (7).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، قال: «يعني سكر النّوم، يقول: بكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم و سجودكم و تكبيركم، و ليس كما يصف كثير من النّاس يزعمون أنّ المؤمنين يسكرون من الشّراب، و المؤمن لا يشرب مسكرا و لا يسكر» (8).

تحقيق في جميع

الأخبار

و قد تصدّى شيخنا البهائي لجمع الأخبار في حاشية (أسرار التّنزيل) ، و نقله الفيض رحمه اللّه في (صافيه) بعين عباراته، فراجع (9).

ص: 219


1- . مجمع البيان 3:81.
2- . تفسير الرازي 10:107.
3- . تفسير الرازي 10:108.
4- . مجمع البيان 3:80، تفسير الصافي 1:419.
5- . تفسير الرازي 10:110.
6- . تفسير العياشي 1:398/977، علل الشرائع:358/1، تفسير الصافي 1:419.
7- . الكافي 3:371/15، تفسير الصافي 1:419.
8- . تفسير العياشي 1:399/980، تفسير الصافي 1:419.
9- . تفسير الصافي 1:419.

و التّحقيق و الأولى في الجمع أنّ العامة خصّوا الآية بالسّكر من الخمر، و أنكروا شمولها لسكر النّوم لكونه مجازا. فتلك الأخبار الواردة عن المعصومين ناظرة إلى المنع عن تخصيص الآية بالسّكر من الخمر، و تعميمها بالدّلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة و الفحوى لجميع أحوال عدم إلتفات الإنسان لما يقول، و لو كان من جهة غلبة النّوم.

و معنى قوله عليه السّلام: «نسخها تحريم الخمر» . منع تحريم الخمر عن وجود سكر الخمر للمؤمن، و انحصار السّكر في السّكر من النّوم. و لعلّ ما ذكرنا كان مراد الشّيخ.

ثمّ ذكر سبحانه الشّرط الآخر لصحّة الصّلاة، أو للقرب إلى مكانها، بقوله: وَ لا جُنُباً في حال من الأحوال إِلاّ حال كونكم عابِرِي سَبِيلٍ و مجتازين من المسجد حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة.

عن الباقر عليه السّلام، و القمّي عن الصادق عليه السّلام: «الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين، فإنّ اللّه يقول: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا» (1).

و قد صحّح إرادة الأركان المخصوصة من لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ بقرينة قوله: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ، و إرادة موضع الصّلاة، و هو المسجد، بقرينة قوله: إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ و هذا الوجه و إن كان خلاف الظّاهر إلاّ أنّه لا بدّ منه بعد ثبوت إرادة الحكمين من القضيّتين بدلالة الرّوايات المعتبرة.

ثمّ ذكر حكم تعذّر الطّهارة المائيّة بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ في حال الجناية مَرْضى يضرّكم استعمال الماء و الاغتسال أَوْ كنتم عَلى سَفَرٍ و متلبّسين به، في طريق لا يوجد فيه الماء أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ و المكان المنخفض من الأرض، كنّي به عن الحدث، لغلبة وقوعه فيه أَوْ لامَسْتُمُ و باشرتم اَلنِّساءَ بالجماع قبلا أو دبرا، كما في المستفيض من الأخبار فَلَمْ تَجِدُوا بعد الحدث الأصغر أو الأكبر ماءً كافيا للوضوء أو الغسل، أو لم تتمكّنوا من استعماله للضّرر أو الحرج فَتَيَمَّمُوا و تعمّدوا صَعِيداً طَيِّباً و أرضا طاهرة.

في بيان معنى

الصّعيد

عن الصادق عليه السّلام: «الصّعيد: الموضع المرتفع، و الطّيّب: الذي ينحدر منه الماء» (2).

أقول: قال الفاضل المقداد، في (آيات الأحكام) ، في تفسير الآية: و اقصدوا شيئا من وجه الأرض-إلى أن قال-: و لذلك قال أصحابنا: لو ضرب المتيمّم يده على حجر صلب و مسح أجزأه، و به قال أبو حنيفة. . . إلى آخره (3).

و عن الزّجّاج أنّه قال: الصّعيد: وجه الأرض؛ ترابا [كان]أو غيره (4)، و لا أعلم خلافا بين أهل اللّغة(5).

ص: 220


1- . تفسير القمي 1:139، تفسير العياشي 1:399/981، علل الشرائع:288/1، تفسير الصافي 1:419.
2- . معاني الأخبار:283/1، تفسير الصافي 1:420.
3- . كنز العرفان 1:26/9.
4- . مجمع البيان 3:80.
5- مجمع البيان 3:82.

و قال الفخر الرازي: الصّعيد الطّيّب: هو الأرض التي لا سبخة فيها (1).

و قال البيضاوي، في تفسير الآية: فتعمّدوا شيئا من وجه الأرض [طاهرا] (2).

و الحاصل: أنّه لا شبهة في أنّ لفظ الصّعيد في اللّغة: مطلق وجه الأرض، و عليه جلّ اللّغويّين و أكثر المفسّرين، و أنّه قد يستعمل في خصوص التّراب إما مجازا و إمّا من باب إطلاق الكلّي على الفرد.

و عليه يحمل كلام بعض اللّغويّين ممّن قال إنّه التّراب، لوضوح أن مقصود اللّغوي بيان مورد الاستعمال، لا خصوص المعنى الموضوع له اللّفظ، و لذا نقل ذلك البعض استعماله في مطلق وجه الأرض أيضا، كما لا ريب أنّه المراد من قوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (3)و من قوله تعالى: وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (4). و عليه جميع المفسّرين، و إنّما فسّره بعضهم بالتّراب في الآية بتوهّم كون كلمة (منه) في آية المائدة (5)قرينة على إرادة التّراب منه في الآية (6). و هو ممنوع للإجماع على جواز التّيمّم بالرّمل و الحجر و المدر و سائر أجزاء الأرض عند فقد التّراب. و كلمة (منه) -على فرض إرادة التّبعيض منها-تدلّ على اعتبار العلوق (7)، و لا يلزم منه إرادة التّراب (8)، لإمكان كون العلوق من غيره.

و ليس في أغلب أخبار بيان التّيمّم إلاّ لفظ الأرض، و ما في قليل منها من لفظ التّراب لا مفهوم له يوجب تقييد مطلقات لفظ الأرض.

و أما الأخبار الامتنانية، فما هو الثّابت من طريق أصحابنا فهو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» (9)و أمّا ما روي من قوله: «جعلت لي الأرض مسجدا، و ترابها طهورا» (10)فلم تثبت صحّته، مع وضوح بطلان مضمونه، لما ذكرنا من اتّفاق النّصوص و الفتاوى على جواز التّيمّم بغير التّراب عند فقده، فالأرض جميعها طهور، لا خصوص ترابها، إنّما الكلام في الترتيب بينه و بين غيره من أجزاء الأرض و عدمه، نعم لو كان قوله: «و ترابها طهورا» صحيحا من حيث السّند، أو مقبولا عند الأصحاب، حملناه على صورة وجدانه، و الأخبار المطلقة على صورة فقده.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة التّيمّم بقوله: فَامْسَحُوا بباطن كفّيكم، بعد ضربهما على الأرض مرّة بِوُجُوهِكُمْ من قصاص الشّعر إلى طرف الأنف وَ أَيْدِيكُمْ من الزّند إلى رؤوس الأصابع إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً .

ص: 221


1- . تفسير الرازي 10:114.
2- . تفسير البيضاوي 1:217.
3- . الكهف:18/40.
4- . الكهف:18/8.
5- . المائدة:5/6.
6- . تفسير الرازي 10:114.
7- . العلوق: ما يعلّق باليد من التراب و غيره، بعد الضرب عند التيمّم.
8- . زاد في النسخة: منه.
9- . أمالي الطوسي:57/81.
10- . تفسير الرازي 10:114.

قيل: هذا التّذييل إشارة إلى أنّه تعالى إذا كان مسهّلا على العصاة بالعفو و الغفران، كان بالتّسهيل على المطيعين في أحكامه و أوامره أولى (1).

عن الصادق عليه السّلام في كيفيّة التّيمّم: فضرب بيديه على الأرض، ثمّ رفعهما فنفضهما، ثمّ مسح على جبينه و كفّيه مرّة واحدة (2).

و في رواية اخرى: ثمّ مسح كفّيه إحداهما على ظهر الاخرى (3).

و في رواية ثالثة: و لم يمسح الذّراعين بشيء (4).

أقول: لا شبهة في كفاية المسح على الجبين و ظهر الكفّين مع تقديم مسح ظهر الكفّ اليمنى بباطن اليسرى، و عدم وجوب مسح تمام الوجه و الذراعين كما يفعله بعض العامّة (5)، بل لا ريب في حرمته بقصد المشروعيّة، إنّما الإشكال في كفاية الضّرب الواحد للوجه و اليدين مطلقا، أو وجوب الضّربتين، إحداهما للوجه و الاخرى لليدين مطلقا، أو الضّرب الواحد في ما هو بدل عن الوضوء، و الضّربتان في ما هو بدل عن الغسل. و منشأ الإشكال اختلاف الأخبار.

و الأظهر في الجمع هو الاجتزاء بالضّرب الواحد مطلقا، و استحباب الزّيادة، و الأفضل مرّتان للوجه و مرّتان لليدين مطلقا، و دونه في الفضل مرّتان للوجه و مرّة لليدين، و دونه مرّة للوجه و مرّة لليدين، و تأكّد في ما هو بدل عن الغسل، فنزّل الزّيادة في الضّرب منزلة الإسباغ في الوضوء.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 44

ثمّ-لمّا ذكر سبحانه من أوّل السّورة إلى هنا كثيرا من حقوق النّاس من الأرحام و الأيتام و الأزواج و السّفهاء و الأبوين و الكلالة، و سائر النّاس من المساكين و الجار و الصّاحب و المماليك و غيرهم، و التّرغيب في الطّاعة و التّرهيب في المخالفة ببيان فيه غاية الإعجاز، و مع ذلك كان أهل الكتاب الّذين هم أهل العلم مصرّين على الكفر و الضّلال-أظهر سبحانه و تعالى التّعجّب من ضلالهم بعد وضوح آيات صدق النبيّ، و صحّة دين الإسلام، بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد إِلَى اليهود اَلَّذِينَ أُوتُوا

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ (44)

ص: 222


1- . تفسير الرازي 10:114.
2- . الكافي 3:61/1، و التهذيب 1:207/601، عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 1:421.
3- . الكافي 3:62/3، التهذيب 1:207/600، تفسير الصافي 1:421.
4- . التهذيب 1:208/603، تفسير الصافي 1:421.
5- . راجع: تفسير الرازي 10:114، تفسير أبي السعود 2:181.

نَصِيباً و حظا قليلا مِنَ علم اَلْكِتابِ الذي انزل إليهم، و هم مع ذلك يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ لأنفسهم بعوض الهدآية التي جاءتهم من الله و بواسطتك، بل الأعجب من ذلك أنهم لا يقنعون بضلالة أنفسهم وَ يُرِيدُونَ أيها المؤمنون بكتمان نعوت محمد صلى الله عليه و آله و إلقاء الشبهات و الحيل و التسويلات أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ المستقيم، و ترجعوا عن الحق، و تكفروا بدين الإسلام.

روي عن ابن عباس رضى الله عنه: أنها نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رؤس المنافقين عبد الله بن ابي و رهطه يثبطانهم (1)عن الإسلام (2).

و قيل: إن المراد من الذين يشترون الضلالة: عوام اليهود، فإنهم كانوا يعطون علماءهم بعض أموالهم، و يطلبون منهم أن ينصروا اليهودية و يتعصبوا لها، فهم بمنزلة من يشتري الضلالة بماله (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 45

ثم نبه الله المؤمنين بعداوتهم، بقوله: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ جميعا منكم، بل أنتم لا تعلمون بهم، فتوالون اليهود الذين هم أعدى عدوكم، و تتوقعون منهم أن ينصروكم وَ كَفى بِاللّهِ لكم وَلِيًّا و كافلا لكافة اموركم، و محبا وَ كَفى بِاللّهِ لكم نَصِيراً و معينا في دفع أعدائكم، فلا تحتاجون إلى ولي و ناصر غيره، فتوكلوا عليه و لا تبالوا بعداوة غيره.

وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللّهِ نَصِيراً (45)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 46

ثم بين الله سبحانه كيفية إضلالهم، و شدة عداوتهم للرسول صلى الله عليه و آله و دينه، بقوله: مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا قوم يُحَرِّفُونَ و يميلون اَلْكَلِمَ الذي و ضعه الله في التوراة عَنْ مَواضِعِهِ التي و ضعه فيها إلى غير تلك المواضع.

مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً (46)قيل: إن تحريفهم كان بإزالة الكلم عن مواضعه، و إثبات غيره مكانه (4).

و قيل: إنه كان بتأويلها إلى المعاني الفاسدة (5).

ص: 223


1- . في النسخة: ليبطؤهم.
2- . تفسير الرازي 10:115، تفسير أبي السعود 2:181، تفسير روح البيان 2:214.
3- . تفسير الرازي 10:115.
4- . تفسير الرازي 10:117، تفسير الصافي 1:422.
5- . تفسير الرازي 10:118.

وَ يَقُولُونَ إذا أمرهم الرسول بأمر سَمِعْنا أمره وَ عَصَيْنا ه استحقارا به، و إظهارا لمخالفتاه، وَ يقولون: اِسْمَعْ كلامنا يا محمد، حال كونك غَيْرَ مُسْمَعٍ كلاما ترضاه.

و قيل: إن معناه: غير مجاب إلى ما تدعو إليه (1).

و قيل: إنه دعاء عليه بالصمم، أو الموت (2).

و يقولون: راعِنا حين مخاطبتهم النبي صلى الله عليه و آله لَيًّا و فتلا بِأَلْسِنَتِهِمْ قيل: إنهم كانوا يفتلون أشداقهم و ألسنتهم عند ذكر هذا الكلام استهزاء و سخرية (3)وَ طَعْناً منهم فِي اَلدِّينِ و قدحا منهم في الرسول.

قيل: كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم (راعنا) (راعينا) و كانوا يريدون: إنك ترعى أغنامنا (4). كانوا يقولون لأصحابهم: إنا نشتمه و لا يعرف، و لو كان نبيا لعرف ذلك، فأظهره الله تعالى لنبيه و عرفه، فصار ما فعلوه طعنا في نبوته دليلا قاطعا عليها؛ لأن الإخبار بالغيب معجزة عظيمة.

ثم و بخهم الله على ما قالوا بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا عند استماع أوامر الله و رسوله، بدل قولهم: سمعنا و عصينا: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا أمر الرسول تعظيما له و إظهارا لطاعته، وَ يقولون: اِسْمَعْ و لا يلحقون به كلمة (غير مسمع) ، وَ يقولون: اُنْظُرْنا حتى نفهم كلامك، بدل قولهم (راعنا) ، و لم يدسوا تحت كلامهم شرا و سوءا، و الله لَكانَ ذلك خَيْراً لَهُمْ و أنفع في الدنيا و الآخرة مما قالوا، وَ كان أَقْوَمَ و أعدل عند العقل وَ لكِنْ لأجل أنه لَعَنَهُمُ اَللّهُ و خذلهم بِكُفْرِهِمْ عمت قلوبهم، و بعدوا عن الهدى، و تمرنوا في الضلال و جحود الحق فَلا يُؤْمِنُونَ بالله و آياته و رسوله إِلاّ إيمانا قَلِيلاً لا يعبأ به، و هو إيمانهم ببعض الآيات و الرسل، أو إيمانهم باللسان دون القلب، أو إلا فريقا قليلا، كعبد الله بن سلام و أضرابه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 47

ثم لما ذكر سبحانه شدة عناد اليهود و سوء فعالهم و أقوالهم، باشر بذاته المقدسة دعوتهم إلى الإيمان بمحمد و بكتابه، و خاطبهم بما فيه استمالة قلوبهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا من قبل الله

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ اَلسَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً (47)

ص: 224


1- . تفسير الرازي 10:118.
2- . تفسير أبي السعود 2:183. (3 و 4) . تفسير الرازي 10:119.

اَلْكِتابَ المسمى بالتوراة، و علموا ما فيه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه و آله و كتابه آمِنُوا بالقلب و اللسان بِما نَزَّلْنا من القرآن الذي يشهد بصدقه كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة و غيرها من الكتاب السماواة التي فيها نعت هذا الكتاب، و لو لم يكن القرآن لم تكن أخبار سائر الكتاب به صدقا، و كونه موافقا لها في القصص، و الدعوة إلى التوحيد، و الوعد و الوعيد، و سارعوا إلى الإيمان به مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ و نغير وُجُوهاً كائنة للمصرين على الكفر من الصورة الإنسانية إلى صورة الحيوانات في الآخرة و قيل: إن المراد من تغييرها: محو آثار الصورة من العين و الأنف و الحاجب، و جعلها كخف البعير و حافر الدابة، كما عن ابن عباس رضى الله عنه (1)فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها و أقفيتها. و قيل: إن المراد: نجعلها مطموسة على هيئتها (2).

و عن الباقر عليه السلام: «أن المعنى نطمسها عن الهدى فنردها في (3)أدبارها، أي في ضلالتها. . .» (4).

أَوْ من قبل أن نَلْعَنَهُمْ و نخزيهم بالمسخ في الدنيا كَما لَعَنّا و مسخنا أَصْحابَ اَلسَّبْتِ في زمان داود بصورة القردة و الخنازير.

ثم أكد سبحانه التهديد بالإخبار بتحتم العذاب الموعود، بقوله: وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ و عقابه الموعود على ترك الإيمان برسوله و كتابه مَفْعُولاً لا محالة، و و اقعا ألبتة لا يدافعه شيء.

قيل: لما نزلت الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه و آله قبل أن يأتي أهله، فأسلم و قال: يا رسول الله، كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي (5).

قيل: إن المراد بالطمس ورد الوجوه في الدنيا، و إنما لم يقع لأنه كان مشروطا بعدم إيمان أحد منهم، و قد آمن عبد الله بن سلام و كثير من الأحبار (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 48

ثم أشار سبحانه إلى أن أهل الكتاب من اليهود و النصارى ملتهم الشرك، و يتحتم العذاب على المشركين، بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أبدا إذا لم يتب المشرك من شركه و مات عليه، لعدم قابليته للغفران و اقتضاء الحكمة سد باب الشرك و الكفر، و احتمال العفو عنه موجب لفتحه.

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)

ص: 225


1- . تفسير أبي السعود 2:185.
2- . تفسير أبي السعود 2:185.
3- . في مجمع البيان: على.
4- . مجمع البيان 3:86، تفسير الصافي 1:423.
5- . تفسير الرازي 10:122، تفسير أبي السعود 2:186.
6- . تفسير أبي السعود 2:186.

ثم بشر بسعة رحمته بقوله: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ في القبح من المعاصي بفضله و إن كانت كبيرة، و لكن لا لكل أحد، بل لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له.

في (الفقيه) : أنه عليه السلام سئل: هل تدخل الكبائر في مشيئة الله؟ قال: «نعم، ذلك إليه عز و جل إن شاء عذب عليها، و إن شاء عفا عنها» (1).

عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و آله -في حديث-قال: «من قال: لا إله إلا الله بإخلاص، فهو بريء من الشرك، و من خرج من الدنيا لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة -ثم تلا هذه الآية -: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ من شيعتك و محبيك يا علي» قال أمير المؤمنين عليه السلام: «فقلت: يا رسول الله، هذا لشيعتي؟ قال: إي و ربي، إنه لشيعتك» (2).

و عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن أدنى ما يكون الإنسان مشركا، قال: «من ابتدع رأيا فأحب عليه أو أبغض» (3).

و عن الباقر عليه السلام: «إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ يعني لا يغفر لمن يكفر بولاية علي وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن و الى عليا» (4).

ثم أشار سبحانه إلى علة عدم مغفرة الشرك بقوله: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ شيئا من صنم أو غيره فَقَدِ اِفْتَرى و اقترف إِثْماً عَظِيماً يستحقر دونه الآثام.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 49

ثم لما كانت اليهود مع سوأ أخلاقكم و أعمالهم مبالغين في تزكية أنفسهم بادعائهم أنهم أبناء الأنبياء و أحباء الله، و أن الله لا يعذبهم بذنوبهم، أظهر سبحانه التعجب مما كان يصدر منهم من القول الباطل، مخاطبا لنبيه صلى الله عليه و آله بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد إِلَى هؤلاء اليهود اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ و يمدحون أَنْفُسَهُمْ بالطهارة من الذنوب، و قربهم إلى الله، و أولويتهم بالنبوة و الرسالة، و الحال أنهم مشركون ملعونون عند الله، مع أنه ليس لأحد تزكية نفسه بَلِ اَللّهُ المطلع على ضمائر العباد يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ تزكيته، فإنه عالم بتقوى النفوس و كمالها، كما قال: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)

ص: 226


1- . من لا يحضره الفقيه 3:376/1780، تفسير الصافي 1:423.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:295/892، تفسير الصافي 1:423.
3- . تفسير العياشي 1:403/993، تفسير الصافي 1:424.
4- . تفسير العياشي 1:403/992، تفسير الصافي 1:424.

بِمَنِ اِتَّقى (1) فيجزيهم ما يستحقونه من الجزاء وَ لا يُظْلَمُونَ بالعقاب أو بتنقيص الثواب فَتِيلاً و قدرا قليلا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 50

ثم أشار سبحانه إلى وجه التعجب بقوله: اُنْظُرْ إلى هؤلاء المزكين لأنفسهم كَيْفَ يجترئون و يَفْتَرُونَ بدعاويهم الباطلة، من قولهم: نحن ابناء الله و أحباؤه، و إنا لا نعذب في الآخرة عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ و يجاهارون بهذا الافتراء وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً و ذنبا ظاهرا.

اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 51

ثم بالغ سبحانه في ذمهم بما هو أقبح من الافتراء بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً و حظا مِنَ علم اَلْكِتابِ و آيات التوراة، حتى تتعجب من خبث ذاتهم، و قبح فعالهم، أنهم يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ و يعبدون الأصنام عنادا لدين الإسلام، و تعصبا لدين اليهودية.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)روي أن حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه و آله، فقالوا: أنتم أهل الكتاب، و أنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا، ففعلوا ذلك، فهذا إيمانهم بالجبت و الطاغوت؛ لأنهم سجدوا للأصنام (2).

عن الباقر عليه السلام: «الجبت و الطاغوت: فلان و فلان» (3).

وَ مع ذلك يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا و أشركوا و لتطييب قلوبهم: هؤُلاءِ المشركون أَهْدى و أرشد مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمد سَبِيلاً و أحسن دينا.

روي أن أبا سفيان قال لكعب بن الأشرف: أ نحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال كعب: ما يقول محمد؟ قال: يأمر بعبادة الله وحده، و ينهى عن عبادة الأصنام و ترك دين آبائه، و أوقع الفرقة؛ قال: و ما دينكم؟ قال: نحن و لا ة البيت، نسقي الحاج، و نقري الضيف، و نفك العاني (4)، و ذكر أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا (5).

ص: 227


1- . النجم:53/32.
2- . تفسير الرازي 10:128.
3- . تفسير العياشي 1:403/993، تفسير الصافي 1:424.
4- . العاني: هو الأسير.
5- . تفسير الرازي 10:128.

عن القمي، قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركو العرب: أديننا أفضل أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم أفضل (1).

عن الباقر عليه السلام: «يقولون لأئمة الضلال و الدعاة إلى النار: هؤلاء أهدى من آل محمد» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 52

ثم هددهم الله تعالى بقوله: أُولئِكَ المؤمنون بالجبت و الطاغوت، القائلون بهذا القول السيء، هم اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ و طردهم عن رحمته، و خذلهم في الدنيا وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ و يخذله و يخزيه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً و محاميا يدافع عنه العذاب في الدنيا و الآخرة، فلا ينالون مطلوبهم من نصرة قريش و غيرهم.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 53

ثم لما كانوا مدعين أن الملك و السلطنة لا بد من أن تكون فيهم، و تعود إليهم، أبطل الله هذه الدعوى، و أنكر عليهم هذا الزعم بقوله: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ و حظ مِنَ اَلْمُلْكِ و السلطنة أو النبوة، فإن ذلك لا يكون أبدا؛ لأنهم أبخل الناس، فإن ملكوا فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً و مقدار النقطة التي تكون في و سط النواة، و من المعلوم أن البخل و السلطنة لا يجتمعان، لأن بالبر يستعبد الحر.

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً (53)عن الباقر عليه السلام: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ يعني الإمامة و الخلافة. -قال -: و نحن الناس الذين عنى الله» (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 54

ثم لما لم تكن عداوتهم للنبي و دينه، و سعيهم في إبطال أمره، لاعتقادهم بصحة دينهم و بطلان دين الإسلام، بل كان لغاية حسدهم، ذمهم الله بالحسد بعد ذمهم بالجهل و العصبية و البخل، و أنكر عليهم ذلك الخلق الرذيل، بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ من النبوة و الكتاب، و وجوب الطاعة، و العز و النصرة على الأعداء، و غير ذلك من الكرامات التي كلها مِنْ فَضْلِهِ تعالى عليهم، لكمال وجودهم، و حسن فطرتهم، و نورانيّة طينتهم.

أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)

ص: 228


1- . تفسير القمي 1:140، تفسير الصافي 1:424.
2- . الكافي 1:159/1، تفسير الصافي 1:425.
3- . الكافي 1:159/1، تفسير الصافي 1:425.

و ليس هذه التّفضّلات من اللّه على عباده المخلصين بدعا بلا نظير حتّى تستبعدوها فَقَدْ آتَيْنا قبل محمّد صلّى اللّه عليه و آله آلَ إِبْراهِيمَ و أولاده المعصومين الّذين هم أسلاف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بنو أعمامه اَلْكِتابَ السّماوي وَ اَلْحِكْمَةَ التي تلازم النّبوّة وَ آتَيْناهُمْ مضافا إلى ذلك مُلْكاً عَظِيماً لا يقادر قدره، فاستكملوا بكمال العلم و القدرة، فإذا لم يكن اجتماع تلك التّفضّلات في آل إبراهيم مستبعدا، لم يكن في محمّد صلّى اللّه عليه و آله مستبعدا.

عن الصادق عليه السّلام: «الكتاب: النّبوّة، و الحكمة: الفهم و القضاء، و الملك العظيم: الطّاعة المفروضة» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «الملك العظيم: أن جعل فيهم أئمّة، من أطاعهم أطاع اللّه، و من عصاهم عصى اللّه، فهو الملك العظيم» (2).

و عنه عليه السّلام: «يعني جعل منهم الرّسل و الأنبياء و الأئمّة، فكيف يقرّونه في آل إبراهيم، و ينكرونه في آل محمد؟ !» (3).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف و داود و سليمان عليهم السّلام (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 55

ثمّ لمّا ذمّ اليهود بالحسد و عدم الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، نبّه على براءة بعضهم من هذه الرّذيلة، و دخول بعضهم في الإيمان، و عدم شمول الذّمّ لجميعهم، بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ كعبد اللّه بن سلام، و بعض من الأحبار وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ و أعرض عن دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لم يؤمن به.

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)و قيل: إنّ المراد أنّ بعض أولاد إبراهيم آمن به، و بعضهم كفر به (5)، و لم يكن في كفرهم به توهين أمره، فكذا لا يوهن أمرك كفر هؤلاء.

ثمّ بيّن وخامة عاقبة أمر المعرضين بقوله: وَ كَفى في عقوبتهم بِجَهَنَّمَ حال كونها سَعِيراً و وقودا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 56

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)

ص: 229


1- . تفسير القمي 1:140، الكافي 1:160/3، تفسير الصافي 1:425.
2- . تفسير العياشي 1:405/1001، الكافي 1:160/5، تفسير الصافي 1:426.
3- . تفسير العياشي 1:404/996، الكافي 1:160/1، تفسير الصافي 1:425.
4- . تفسير أبي السعود 2:190.
5- . تفسير أبي السعود 2:191.

ثمّ بالغ سبحانه في الوعيد و عمّمه لجميع الكفّار؛ بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و لم يؤمنوا بِآياتِنا و براهيننا الدّالّة على التّوحيد، و رسالة رسلنا، و اليوم الآخر سَوْفَ نُصْلِيهِمْ و ندخلهم ناراً، ثمّ كأنّه قيل: كيف يبقون فيها؟ فقال: كُلَّما نَضِجَتْ و احترقت جُلُودُهُمْ بالنّار بَدَّلْناهُمْ و ألبسناهم بالقدرة الكاملة جُلُوداً جديدة حاسّة، تكون عين الجلود المنضوجة مادّة، و غَيْرَها صورة لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ الشّديد، و يدركوا ألمه.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم عدم إمكان بقاء جسد الإنسان في النّار أبد الآباد، و عدم لياقة العذاب الشّديد الدّائم بسعة رحمة الرّحيم، سدّ اللّه تعالى باب المتّوهّمين بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً و قادرا حَكِيماً لا يصدر منه إلاّ الصّواب، و لا يضع شيئا إلاّ في موضعه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 57

ثمّ أنّه تعالى؛ على حسب دأبه في الكتاب العزيز، أرفد الوعد بالوعيد بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار و قصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا موت لهم و لا زوال نعمة لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الأدناس، منزّهة من الأخلاق الذّميمة وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ دائما ظَلِيلاً لا حرّ فيه. قيل: هو كناية عن النّعمة التّامّة الدّائمة (1)، و قيل: كناية عن الرّاحة الأبديّة (2).

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 58

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان حقوق النّاس التي من أهمّها ردّ الأمانات، بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أيّها المؤمنون، و يوجب عليكم أَنْ تُؤَدُّوا و توصلوا اَلْأَماناتِ و الودائع الكائنة عندكم إِلى أَهْلِها و أصحابها.

إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا دخل مكّة يوم الفتح، أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدّار-و كان سادن الكعبة-باب الكعبة و صعد السّطح، و أبى أن يدفع المفتاح إليه و قال: لو علمت أنّه رسول اللّه لم أمنعه، فلوى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يده و أخذه منه و فتح، و دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى ركعتين،

ص: 230


1- . تفسير البيضاوي 1:220.
2- . تفسير الرازي 10:137.

فلمّا خرج سأله العبّاس أن يعطيه المفتاح و يجمع له السّقاية و السّدانة، فنزلت هذه الآية.

فأمر عليّا عليه السّلام أن يردّه إلى عثمان و يعتذر إليه، فقال عثمان لعليّ عليه السّلام: أكرهت و آذيت، ثم جئت ترفق، فقال: «لقد أنزل اللّه في شأنك قرآنا» ، و قرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، فهبط جبرئيل عليه السّلام و أخبر الرّسول أنّ السّدانة في أولاد عثمان (1).

و في روايات عديدة: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرّجل و سجوده، فإنّ ذلك شيء اعتاده، فلو تركة استوحش لذلك، و لكن انظروا إلى صدق حديثه و أداء أمانته» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ ضارب عليّ بالسّيف و قاتله، لو ائتمنني و استنصحني و استشارني، ثمّ قبلت ذلك منه، لأدّيت إليه الأمانة» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «إيّانا عنى، أن يؤدّي الإمام الأوّل إلى الذي بعده العلم و الكتب و السّلاح» (4).

و في رواية: «ثمّ هي جارية في سائر الأمانات» (5).

ثمّ أنّه تعالى بعدما أمر كلّ أحد بردّ ما عنده من حقوق النّاس و أموالهم، أمر المؤمنين بأن يحكموا على الغير بردّ أموال النّاس و حقوقهم، بقوله: وَ إِذا حَكَمْتُمْ و قضيتم أيّها المؤمنون بَيْنَ اَلنّاسِ عند تنازعهم في الأموال و الحقوق أَنْ تَحْكُمُوا بينهم بِالْعَدْلِ و الإنصاف، و تأدية حقّ المستحقّ إليه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا تزال هذه الامّة بخير ما إذا قالت صدقت، و إذا حكمت عدلت، و إذا استرحمت رحمت» (6).

ثمّ أنّه تعالى لوضوح موافقة هذين الحكمين للعقول مدحهما بقوله: إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ و ما أحسن ما رغّبكم فيه من ردّ الأمانات و الحكم بالعدل! فاعملوا بما أمركم اللّه، و اتّعظوا بما وعظكم به إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً لأقوالكم بَصِيراً بأعمالكم، يسمع حكمكم بالعدل و الجور، و يبصر ردّكم للأمانات و خيانتكم فيها، فيجازيكم بما تستحقّون.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 59

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

ص: 231


1- . تفسير الرازي 10:138.
2- . الكافي 2:51/12، تفسير الصافي 1:427.
3- . الكافي 5:133/5، تفسير الصافي 1:427.
4- . الكافي 1:217/1، تفسير الصافي 1:427.
5- . معاني الأخبار:108/1، تفسير الصافي 1:426.
6- . تفسير الرازي 10:141.

ثمّ أكّد الأمر بأداء الأمانات، و أوجب الرّجوع في المنازعات إلى حكم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و خلفائه المعصومين عليهم السّلام، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ في أوامره و نواهيه وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ في جميع ما يبلّغكم عنه وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ و الأئمّة الّذين فرض اللّه طاعتهم عليكم في جميع أحكامهم.

عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: لمّا نزلت الآية قلت: يا رسول اللّه، عرفنا اللّه و رسوله، فمن اولي الأمر الّذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هم خلفائي يا جابر، و أئمّة المسلمين من بعدي؛ أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي، المعروف في التوراة بالباقر، و ستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السّلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سميّي محمّد و كنيّي؛ حجّة اللّه في أرضه، و بقيّته على عباده، ابن الحسن بن عليّ، ذاك الذي يفتح اللّه على يديه مشارق الأرض و مغاربها، و ذاك الذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت [فيها]على القول بإمامته إلاّ من امتحن اللّه قلبه للإيمان» .

قال جابر: فقلت: يا رسول اللّه، فهل لشيعته الانتفاع به في غيبته؟

فقال: «إي و الذي بعثني بالنّبوّة، إنّهم يستضيئون بنوره و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع النّاس بالشّمس و إن تجلاّها سحاب. يا جابر، هذا من مكنون سرّ اللّه، و مخزون علم اللّه، فاكتمه إلاّ عن أهله» (1).

في دلالة الآية على

عصمة أولي

الأمر عليهم السّلام

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «نزلت في عليّ بن أبي طالب، و الحسن، و الحسين» .

فقيل: إنّ النّاس يقولون: فما له لم يسمّ عليّا و أهل بيته في كتابه؟

فقال: «فقولوا لهم نزلت الصّلاة، و لم يسمّ [اللّه]لهم ثلاثا و لا أربعا، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [هو الذي]فسّر ذلك لهم. و نزلت عليه الزّكاة، و لم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهما درهم، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [هو الذي]فسّر ذلك لهم، و نزل الحجّ، فلم يقل لهم: طوفوا اسبوعا، حتّى كان رسول اللّه هو الذي فسّر ذلك لهم.

و نزلت أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ، و نزلت في عليّ و الحسن و الحسين،

ص: 232


1- . إكمال الدين:253/3، تفسير الصافي 1:429.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [في عليّ]: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و قال: اوصيكم بكتاب اللّه و أهل بيتي، فإنّي سألت اللّه أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض، فأعطاني ذلك، و قال: لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم، و قال: إنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، و لن يدخلوكم في باب ضلالة.

فلو سكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّن من أهل بيته، لادّعاها آل فلان، و آل فلان، و لكنّ [اللّه]أنزل في كتابه تصديقا لنبيّه إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1)فكان عليّ و الحسن و الحسين و فاطمة عليهم السّلام، فأدخلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحت الكساء، في بيت امّ سلمة، فقال: اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهلا و ثقلا، و هؤلاء أهل بيتي و ثقلي، فقالت امّ سلمة: أ لست من أهلك؟ فقال: إنّك إلى خير، و لكنّ هؤلاء أهلي و ثقلي» (2)الحديث.

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عمّا بنيت عليه دعائم الإسلام؛ إذا اخذ بها زكا العمل، و لم يضرّ جهل من جهل بعده؟ فقال: «شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، و الإقرار بما جاء به من عند اللّه، و حقّ في الإموال الزّكاة، و الولاية التي أمر اللّه بها ولاية آل محمّد، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من مات و لا يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية، قال اللّه تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فكان عليّ، ثمّ صار من بعده الحسن، ثمّ من بعده الحسين، ثمّ من بعده عليّ بن الحسين، ثمّ من بعده محمّد بن عليّ، ثمّ هكذا يكون الأمر، إنّ الأرض لا تصلح إلاّ بإمام» (3)الحديث.

في استدلال الفخر

على دلالة الآية على

حجيّة الاجماع

قال الفخر الرّازي في التّفسير الكبير: اعلم أنّ قوله تعالى: وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ يدلّ على أنّ إجماع الامّة حجّة، و الدّليل على ذلك أنّ اللّه أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، و من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم و القطع لا بدّ و أن يكون معصوما عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، و الخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر و النّهي في الفعل الواحد باعتبار واحد و إنّه محال، فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم، و ثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أنّ اولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوما.

ثمّ نقول: ذلك المعصوم إمّا مجموع الأمّة أو بعض الأمّة، لا جائز أن يكون بعض الامّة، لأنّا بينّا أنّ اللّه أوجب طاعة اولي الأمر في هذه الآية قطعا، و إيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم،

ص: 233


1- . الأحزاب:33/33.
2- . تفسير العياشي 1:408/1012، الكافي 1:226/1، تفسير الصافي 1:428.
3- . الكافي 2:18/9، تفسير الصافي 1:428.

قادرين على الوصول إليهم، و الاستفادة منهم، و نحن نعلم بالضّرورة أنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدّين و العلم منهم، فإذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر اللّه المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الامّة، و لا طائفة من طوائفهم، و لمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: أُولِي اَلْأَمْرِ أهل الحلّ و العقد من الامّة، و ذلك يوجب القطع بأن إجماع الامّة حجّة (1).

أقول: لم يثبت عصمة مجموع الامّة عن الخطأ لعدم الدّليل على ذلك، و الدّليل المذكور كما لا يثبت عصمة بعض الامّة، لا يثبت عصمة مجموع الامّة. نعم، لو علمنا و أثبتنا إرادة بعض من لا نعرفه، كان اتّفاق مجموع الامّة حجّة، لوجود ذلك البعض المجهول فيهم، كما هو الوجه في حجّية الإجماع على قول بعض أصحابنا.

و الحاصل: أنّ لفظ (اولي الأمر) ليس موضوعا لأهل الحلّ و العقد، و لا ظاهرا فيه، فيكون من المجمل، و لا بدّ لتعيين المراد منه من دليل، و قرينة لزوم اجتماع الأمر و النّهي على تقدير كونهم غير معصومين، يدلّ على لزوم كونهم معصومين، فإذا دلّ دليل على إرادة بعض معيّن أو مجموع الامّة، نقول-بهذه القرينة-بعصمتهم.

فكما أنّ إرادة بعض معيّن محتاج إلى الدّليل، [فانّ]إرادة مجموع أهل الحلّ و العقد أيضا محتاج إلى الدّليل، فكما لا يعلم بعصمة بعض معيّن، لا نعلم بعصمة الكلّ، مع إمكان اتّفاقهم على الباطل، كما وقع الاتّفاق من بني إسرائيل على عبادة العجل.

نعم، يمكن القول بأنّه المتيقّن حيث إنّ المجموع إمّا هم المعصومون، أو المعصوم يكون فيهم، فلا بدّ من اتّباع قولهم، و لكنّ ليس هذا تعيين معنى اللّفظ و المراد منه.

في نقل كلام الفخر

الرازي و تزييفه

ثمّ اعترض على نفسه بأنّ المفسّرين ذكروا في (اولي الأمر) وجوها اخر سوى ما ذكر:

أحدها: أنّ المراد من (اولي الأمر) الخلفاء الرّاشدون.

و الثاني: المراد: امراء السّرايا.

قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن حذافة السّهمي، إذ بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أميرا على سريّة.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّها نزلت في خالد بن الوليد، بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أميرا على سريّة فيها عمّار بن

ص: 234


1- . تفسير الرازي 10:144.

ياسر، فجرى بينهما اختلاف في شيء، فنزلت هذه الآية، و امر بطاعة اولي الأمر.

و ثالثها: المراد: العلماء الّذين يفتون في الأحكام الشّرعيّة، و يعلّمون النّاس دينهم. و هذه رواية الثّعلبي عن ابن عبّاس، و قول الحسن و مجاهد و الضّحاك.

و رابعها: نقل عن الرّوافض أنّ المراد به الأئمّة المعصومون.

و لمّا كانت أقوال الامّة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه، و كان القول الذي نصرتموه خارجا عنها، كان ذلك بإجماع الامّة باطلا (1).

ثمّ أجاب عن الاعتراض بإبطال الاقوال، إلى أن قال: و أمّا حمل الآية على الأئمّة المعصومين، على ما تقوله الرّوافض، ففي غاية البعد لوجوه: أحدها: ما ذكرنا من أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم و قدرة الوصول إليهم، فلو اوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليفا بما لا يطاق، و لو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم و بمذاهبهم، صار هذا الإيجاب مشروطا، و ظاهر قوله: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ يقتضي الإطلاق.

و أيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، و ذلك لأنّه تعالى أمر بطاعة الرّسول و طاعة اولي الأمر في لفظة واحدة [و هو قوله: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ، و اللّفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة و مشروطة]معا، فلمّا كانت هذه اللّفظة مطلقة في حقّ الرّسول، وجب أن تكون مطلقة في حقّ اولي الأمر.

الثاني: أنّه تعالى أمر بطاعة اولي الأمر، و اولوا الأمر جمع، و عندهم لا يكون في الزّمان الواحد إلاّ إمام واحد، و حمل الجمع على المفرد خلاف الظّاهر.

الثالث: أنّه قال: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ، و لو كان المراد باولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام) فثبت أنّ الحقّ تفسير الآية بما ذكرنا (2). انتهى كلامه بطوله المملّ الذي لا يمكن التّطويل في العبارة أزيد منه.

ثمّ أقول: حاصل ما ذكرنا سابقا في ردّه: أنّ وجوب كون اولي الأمر معصومين من الخطأ حقّ لا محيص عنه، كما روي: «أنّه لا طاعة لمن عصى اللّه، و إنّما الطاعة للّه و لرسوله و لولاة الأمر، إنّما أمر اللّه بطاعة الرّسول لأنّه معصوم مطهّر، لا يأمر بمعصيته، و إنّما أمر بطاعة اولي الأمر لأنّهم معصومون

ص: 235


1- . تفسير الرازي 10:144.
2- . تفسير الرازي 10:146.

مطهّرون، لا يأمرون بمعصيته» (1).

و أمّا حمل الآية على إرادة الإجماع، فهو فرع ثبوت كون مجموع المجمعين-من حيث المجموع -معصومين، و إن كان كلّ واحد واحد غير معصوم؛ و هو محتاج إلى الدّليل القاطع على عصمتهم، كما احتاج عصمة كلّ واحد إليه، مع أنّ المراد من إجماع الأمّة-إن كان-إجماع جميعهم، فهو ممّا لا يمكن الاطّلاع عليه؛ لأنّ النّساء و أهل البوادي و الجبال و الّذين هم في بلاد الكفر من المسلمين كلّهم من الامّة.

و إن أراد طائفة خاصّة منهم، و هي أهل الحلّ و العقد، كما هو صريح قوله: (من أهل الحلّ و العقد) ، فمع أنّه مناف لقوله: (و لا جائز أن يكون المراد بعض الامّة) ، فإنّه مجمل، لا يعلم المراد منه هل هو المهاجرون، أو جميع الصّحابة، أو جميع العلماء؟

و على أيّ تقدير، علمنا برأي جميعهم، بحيث نقطع بقول كلّ فرد فرد منهم أيضا ممتنع عادة ألبتّة؛ لأنّه لم ينقل عن غالبهم رأي في الأحكام الشّرعيّة، و المصنّفين أو المشهورين في العلم و الفتوى منهم في غاية القلّة، [و]أنّ الظّاهر من (اولى الأمر) هو العموم الأفرادي لا المجموعي.

و لا يطلق (ذو أمر) على أحد إلاّ إذا كان أمره واجب الإطاعة عقلا أو شرعا-مع قطع النّظر عن الآية المباركة-في جميع الأمور؛ من العبادات، و المعاملات، و السّياسات، و الكلّيّات، و الجزئيّات، و يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ كالرّسول الذي قال اللّه تعالى في شأنه: ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2)، و هو ليس إلاّ المعصوم الذي يجب عقلا و شرعا طاعته، و اتّباع أمره.

و أمّا قوله: إنّا عاجزون عن معرفته، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدّين و العلم منه.

ففيه: أنّ العجز المدّعى-مع وجود الأدلّة القاطعة على تعيينه و تعريفه-ليس إلاّ كعجز أبي جهل و أضرابه عن معرفة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الحاصل بسبب طبع القلب، و غشاوة العصبيّة على السّمع و البصر، و كعجز غير المعاندين من الكفّار الحاصل بسبب عدم النّظر في الأدلّة و الآيات. و من البديهيّ أن هذا العجز لا يكون عذرا عند العقل و الشّرع.

في ردّ ما قاله

الفخر

و الحاصل: أنّ الأدلّة الدّالّة على إمامة عليّ عليه السّلام، و أحد عشر من ذرّيّته ليست أقلّ عددا، و أخفى دلالة من الأدلّة الدالّة على رسالة خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله، و حال منكريها ليس إلاّ كحال منكري التّوحيد و الرّسالة، و هم أكثر النّاس، كما أنّ منكري الولاية أكثر

ص: 236


1- . الخصال:139/158، علل الشرائع:123/1، تفسير الصافي 1:429.
2- . الحشر:59/7.

المسلمين.

و أمّا الوجه الإوّل الذي ذكره-ردّا على قول أصحابنا-من أنّ وجوب طاعة المعصوم مشروط بمعرفته، و الوجوب في الآية مطلق.

ففيه: أنّ المعرفة شرط عقليّ لتنجّز التّكليف، لا شرط شرعيّ موجب لتقييد التّكليف بإطاعة اولي الأمر؛ كتقييد وجوب الحجّ بالاستطاعة. و ليس إشراط هذا التّكليف إلاّ كإشراط التّكليف بالإيمان بالرّسول بمعرفته، و التّكليف بالصّلاة و الصّوم و الحجّ و غيرها من العبادات بمعرفتها. و من المعلوم أنّ هذا الشّرط يجب تحصيله كما يجب تحصيل الطّهارة المائيّة للعمل المشروط بها، و كمعرفة الإجماع على مذهبه السّخيف.

و بهذا يظهر الجواب عن الوجه الثاني (1)من قوله: (إنّ الأمر بطاعة الرّسول و طاعة اولي الأمر في لفظة. . .) إلى آخره.

فإنّ معرفة اولي الأمر إن كان شرطا في وجوب طاعة اولي الأمر، كان معرفة اللّه و معرفة رسوله شرطا في وجوب طاعتهما أيضا، و إن لم يكن شرطا في وجوب طاعتهما، لم يكن شرطا في وجوب طاعتهم.

فإنّ قيل: إنّ الخطاب في الآية للمؤمنين، فهم كانوا عارفين باللّه و رسوله، فإيجاب طاعتهما بالنّسبة إليهم مطلق، بخلاف وجوب طاعة اولي الأمر الّذين لم يكونوا عارفين بهم.

قلنا: وجود الشّرط لا يوجب انقلاب الواجب المشروط إلى المطلق، بل الواجب المشروط مشروط أبدا [سواء أ]كان الشّرط حاصلا أو غير حاصل، و الواجب المطلق مطلق أبدا.

و أمّا الوجه الثّالث من أنّه لو كان المراد من أولي الأمر المعصوم، لقال: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام) ، و لم يقل: فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ . ففاسد جدّا؛ لأنّه فرق واضح بين أوامر الإمام و أحكامه في المشاجرات؛ فإنّ أوامره قد تكون بملاك المصالح التي يراها في تنظيم المملكة الإسلاميّة و تجهيز الجيش و التّدبير في الغلبة على الأعداء، و لا يكون في تلك الأوامر واسطة في التّبليغ، بل الأمر أمره، و لذا أمر اللّه بطاعته كما أمر بطاعة الرّسول، بخلاف أحكامه فإنّها لا تكون إلاّ أحكام اللّه و رسوله، ففي الحقيقة يكون مبلّغا عن الرّسول، كما أنّ الرّسول مبلّغ عن اللّه، فإطاعته إطاعة الرّسول، و الردّ إليه ردّ إلى الرّسول، و لذا اقتصر اللّه سبحانه في الآية-في صورة التّنازع في

ص: 237


1- . لا يزال المصنف في معرض الردّ على الوجه الأول، و العبارة التي ذكرها هنا هي من الوجه الأول لا من الثاني الذي ذكره أولا و أغفله هنا.

شيء-بالأمر بالرّدّ إلى الرّسول، و لم يعطف عليه الرّدّ إلى القضاة و الولاة الّذين كانوا منصوبين من قبل الرّسول في البلاد، كما أنّ الفقهاء في زمان غيبة الإمام منصوبون من قبله عليه السّلام للحكومة بين الأنام، و يكون الرّدّ إليهم ردا إليه، و حكمهم حكمه، و قد بيّن اللّه شركة أولي الأمر مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في وجوب الرّدّ إليهم في الآية التي بعدها بقوله: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (1).

في الاعتراض على

الفخر الرازي

و العجب من هذا الرّجل المتعصّب، كيف رضي بالقول بأنّ اللّه أمر بطاعة اولي الأمر، و لم يبيّن المراد من اولي الأمر لرسوله، و لم يفسّره الرّسول للنّاس، حتّى التجأ هذا القاصر إلى الاجتهاد في تعيين المراد، و لم يكتف في تعيينهم بقوله تعالى: كُونُوا مَعَ اَلصّادِقِينَ (2)، و قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ. . . (3)، و قوله: وَ أَنْفُسَنا (4)، و قوله: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (5)و قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ (6)و غيرها من الآيات الكثيرة المفسّرة-في روايات بعض العامّة و جميع الخاصّة-بعليّ.

و الرّواية المتواترة من قوله: «من كنت مولاه فعليّ مولاة» (7)، و قوله: «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى» (8). و غير ذلك.

و عن سليم بن قيس الهلالي: عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه سأله عن أدنى ما يكون الرّجل به ضالا؟ فقال: «أن لا يعرف من أمر اللّه بطاعته، و فرض ولايته، و جعله حجّة في أرضه، و شاهدا على خلقه» . قال: فمن هم يا أمير المؤمنين؟ قال: «الّذين قرنهم اللّه بنفسه و نبيّه فقال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» ، قال: فقبّلت رأسه و قلت: أوضحت لي، و فرّجت عنّي، و أذهبت كلّ شكّ كان في قلبي (9).

ثمّ أمر اللّه تعالى بالرّجوع في ما اختلفوا فيه إلى المعصومين بقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ و اختلفتم فِي شَيْءٍ من الأحكام و الحقوق فَرُدُّوهُ و ارفعوه إِلَى اَللّهِ بالرّجوع إلى كتابه وَ اَلرَّسُولِ بالرّجوع إلى سنّته، و إلى الأئمّة المعصومين الّذين هم خلفاؤه المنصوبون من قبله بنصّه الجليّ،

ص: 238


1- . النساء:4/83.
2- . التوبة:9/119.
3- . المائدة:5/55.
4- . آل عمران:3/61.
5- . المائدة:5/67.
6- . هود:11/17.
7- . الكافي 1:227/1، معاني الأخبار:65-66/1-5، علل الشرائع:144/9، سنن الترمذي 5:633/3713، مسند أحمد 1:84 و 88 و 119 و 152 و 321، مستدرك الحاكم 3:110 و 134.
8- . علل الشرائع:222، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:10/23، مسند أحمد 3:32 و 6:438، صحيح مسلم 4:1870/30 -32.
9- . كتاب سليم:59، معاني الأخبار:394/45، تفسير الصافي 1:429.

المبلّغون عنه إِنْ كُنْتُمْ أيّها المؤمنون باللّسان تُؤْمِنُونَ عن صميم القلب إيمانا خالصا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ، فإنّ الإيمان الحقيقي ملازم التّسليم لحكمهم.

ذلِكَ الرّدّ إليهم، و الانقياد لهم خَيْرٌ لكم من التّنازع وَ أَحْسَنُ و أصلح لكم تَأْوِيلاً و عاقبة من العمل بآرائكم من غير الرّدّ.

في (نهج البلاغة) في معنى الخوارج، لمّا أنكروا تحكيم الرّجال، قال عليه السّلام: «و لمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن، لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب اللّه تعالى، و [قد]قال اللّه سبحانه: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ فردّه إلى اللّه أن نحكم بكتابه، و ردّه إلى الرّسول أن نأخذ بسنّته، فإذا حكم بالصّدق [في كتاب اللّه]فنحن أحقّ النّاس به، و إن حكم بسنّة رسول اللّه، فنحن أولاهم [بها]» (1).

و قال عليه السّلام، في عهده للأشتر: «و اردد إلى اللّه و رسوله ما يضلعك من الخطوب، و يشتبه عليك من الأمور، فقد قال اللّه سبحانه لقوم أحبّ إرشادهم: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ فالرّدّ إلى اللّه الأخذ بكتابه (2)، و الرّدّ إلى الرّسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة» (3).

و في (الاحتجاج) : عن الحسين بن عليّ عليهما السّلام، في خطبته: «و أطيعونا، فإنّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة اللّه و طاعة رسول مقرونة، قال اللّه: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ، و قال: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً» (4).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه تلا هذه الآية هكذا: «فإن خفتم تنازعا في أمر فردّوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى أولي الأمر منكم، -قال-كذا نزلت» .

أقول: يعني: تفسيرها.

ثمّ قال: «كيف يأمر اللّه بطاعة ولاة الأمر و يرخّص في منازعتهم؟ ! إنّما قيل ذلك للمأمورين الّذين قيل لهم: أَطِيعُوا اَللّهَ. . .» (5).

أقول: هذا ردّ على من فسّر التّنازع بالتّنازع مع ولاة الأمر.

ص: 239


1- . نهج البلاغة:182/الخطبة 125، تفسير الصافي 1:430.
2- . في المصدر: بمحكم كتابه.
3- . نهج البلاغة:434/الرسالة 53، تفسير الصافي 1:430.
4- . الاحتجاج:299، تفسير الصافي 1:430.
5- . الكافي 1:217/1، تفسير الصافي 1:430.

في استدلال الفخر

بالآية على حجية

القياس و ردّه

ثمّ استدلّ الفخر الرازي بقوله: فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ على حجيّة القياس؛ بتقريب أنّ المراد من التّنازع و الرّدّ في صورة ليس الحكم منصوصا في الكتاب و السّنّة، و إلاّ كان داخلا تحت قوله: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ، فيكون الأمر بالرّدّ تكرارا له، فيكون معنى الرّدّ في تلك الصّورة ردّ حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، و هو القياس (1).

أقول: هذا ملخّص ما أطنبه من الكلام في المقام، و هو في غاية الفساد، لوضوح عدم صدق الرّدّ إلى الكتاب و السّنّة على القياس، بل هو ردّ إلى الحكم العقليّ الظّنّي. و من المعلوم أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول الضّعيفة الكاسدة، و الأهواء الزّائغة الفاسدة، بل في الأمر بالرّجوع إلى القياس في مورد الاختلاف إدامة النّزاع لا رفعه.

و أمّا قوله بأنّ الأمر بالرّدّ، على تقدير كون الحكم منصوصا في الكتاب و السّنّة، يكون تكرارا لقوله: أَطِيعُوا اَللّهَ . ففيه: -مع أنّ التّأكيد هنا في غاية الحسن، لكون التّنازع موجبا لهيجان النّفوس إلى الأغراض الفاسدة، و شدّة اهتمام المتنازعين في اتّباع الأهواء الفاسدة، و نبذ الكتاب و السّنّة وراء الأظهر، و لدفع توهّم اختصاص أحكام الكتاب و السّنّة بغير مورد التّنازّع، و احتمال تغيير المصالح- أنّ الأمر في المقام أمر بالدّقّة في تطبيق الواقعة الجزئيّة على الأحكام الكلّيّة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 60

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه المنافقين الّذين لم يصغوا إلى الرّسول و لم يرضوا بحكمه بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ و يقولون كذبا أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن و الأحكام وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من سائر الكتب السّماويّة، و هم مع ذلك الزّعم و الادّعاء يُرِيدُونَ في ما وقع بينهم من التّنازع أَنْ يَتَحاكَمُوا و يترافعوا إِلَى اَلطّاغُوتِ و الأصنام و الكفّار الآخذين للرّشوة وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ المغوي أَنْ يُضِلَّهُمْ عن صراط الحقّ ضَلالاً بَعِيداً عنه، بحيث لا يرجى منهم الهداية أبدا.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)قيل: كان المشركون يتحاكمون إلى الأوثان، و كانت طريقتهم أنّهم يضربون بالقداح عند الوثن، فما

ص: 240


1- . تفسير الرازي 10:151.

خرج على القداح عملوا به، و كان بعض المنافقين أراد التّحاكم إلى الوثن، و لم يرض بالتّحاكم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّه أسلم ناس من اليهود و نافق بعضهم، و كانت قريظة و النّضير في الجاهليّة إذا قتل قرظيّ نضيريّا قتل به، و اخذ دمه (1)مائة وسق من تمر، و إذا قتل نضيريّ قرظيّا لم يقتل به، لكن اعطي دمه (2)ستّين وسقا من تمر.

و كان بنو النّضير أشرف، و هم حلفاء الأوس، و قريظة حلفاء الخزرج، فلمّا هاجر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة قتل نضيريّ قرظيّا، فاختصما فيه، فقالت بنو النّضير: لا قصاص علينا، إنّما علينا ستّون وسقا من تمر، على ما اصطلحنا عليه من قبل. و قالت الخزرج: هذا حكم الجاهليّة، و نحن و أنتم اليوم إخوة، و ديننا واحد، و لا فضل بيننا، فأبى بنو النّضير ذلك.

فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي، و قال المسلمون: بل إلى رسول اللّه، فأبى المنافقون و انطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم، فأنزل اللّه هذه الآية، و دعا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الكاهن إلى الإسلام فأسلم (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 61

ثمّ بيّن اللّه تعالى سوء فعلهم بعد بيان سوء إرادتهم بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ نصحا: تَعالَوْا و جيئوا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ في كتابه من الحكم وَ إِلَى حكم اَلرَّسُولِ و أمره رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ و يمنعون من التّحاكم إليك صُدُوداً و منعا أكيدا، أو يعرضون عنك إعراضا شديدا، لشدّة عداوتهم لدينك، و لعلمهم بأنّك لا تحكم إلاّ بمرّ الحقّ، و لا تقبل الرّشوة.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 62

ثمّ أوعدهم بالعقاب على نفرتهم عن الحضور عند الرّسول، و امتناعهم من التّحاكم إليه، بقوله: فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ و نالتهم مُصِيبَةٌ و عقوبة عظيمة، و بليّة شديدة بِما

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62)

ص: 241


1- . في تفسير الرازي: و أخذ منه دية.
2- . في تفسير الرازي: ديته.
3- . تفسير الرازي 10:154.

قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الامتناع من التّسليم للحكم بالحقّ، و الرّضا بحكومة الطّغاة.

ثمّ بيّن نفاقهم بقوله: ثُمَّ بعد الامتناع جاؤُكَ معتذرين إليك من عدم حضورهم عندك، و التّحاكّم إلى غيرك، و هم يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لك إِنْ أَرَدْنا من التّحاكم إلى غيرك، و ما طلبنا به إِلاّ إِحْساناً إليك برفع الكلفة و التّصديع عنك، أو إلى الخصوم حيث إنّك تحكم بمرّ الحقّ، و غيرك يأمر كلاّ منهم بالإحسان إلى الآخرة، وَ إلاّ تَوْفِيقاً و إصلاحا بينهم.

و قيل: إنّ الآية تبشير للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى: كيف حالك من الفرح إذا أصابتهم مصيبة تلجئهم إلى الحضور عندك لرفعها؟ ثمّ يحلفون باللّه لك أنّهم ما أرادوا من عدم الحضور في تلك الوقعة مخالفتك، بل أرادوا الإحسان و التّوفيق.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 63

ثمّ بيّن سبحانه أنّ النّفاق لا ينفعهم، و هو يعاقبهم عليه بقوله: أُولئِكَ المنافقون هم اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الكفر و عداوة الحقّ، فيفضحهم في الدّنيا، و يعاقبهم عليه في الآخرة، و لا يغني عنهم الكتمان و الحلف عن العقاب، فإذا كان كذلك فَأَعْرِضْ أنت عَنْهُمْ و لا تؤاخذهم بسوء فعالهم، و لا تهتك سترهم بين النّاس، بل وَ عِظْهُمْ موعظة حسنة، و خوّفهم بالعقاب على الكفر و العصيان، و الكذب و العناد مع الحقّ وَ قُلْ لَهُمْ فِي شأن أَنْفُسِهِمْ الخبيثة قَوْلاً بَلِيغاً مؤثّرا في قلوبهم، وافيا بمقصودك من الهداية.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)و قيل: إنّ معنى قوله فِي أَنْفُسِهِمْ خاليا (1)بهم غير فاش؛ لظهور كون النّصح في الخلوة و السّرّ لمحض النفع (2).

و قيل: إن معنى (البليغ) : الكلام الطّويل، الحسن الألفاظ و المعاني، فإنّه أعظم وقعا في القلب (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 64

ثمّ أكّد سبحانه وجوب طاعة الرّسول و التّسليم لحكمه بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا إلى النّاس من بدو الخلقة مِنْ رَسُولٍ لغرض من الأغراض إِلاّ لِيُطاعَ في أوامره و نواهيه و أحكامه بِإِذْنِ اَللّهِ

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً (64)

ص: 242


1- . من الخلوة: أي مختليا بهم في السّرّ. (2 و 3) . تفسير الرازي 10:159.

و إرادته و توفيقه.

و فيه دلالة على عصمة الأنبياء، كما استدلّ الفخر الرازي بالتّقريب الذي ذكره في آية أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ (1).

ثمّ حثّ اللّه سبحانه المنافقين إلى التّوبة عن نفاقهم و سوء أفعالهم بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالنّفاق و التّحاكم إلى الطّاغوت جاؤُكَ نادمين على معاصيهم فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ منها مخلصين وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ بعد اعتذارهم إليه لَوَجَدُوا اَللّهَ و لقوه تَوّاباً على العاصين رَحِيماً بالمذنبين.

و إنّما قال: وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ و لم يقل: (و استغفرت) إظهارا لعظمته (2)، و إشعارا بأنّ من كان سفيرا بين اللّه و خلقه لا تردّ شفاعته.

قيل: إنّ قوما من المنافقين اصطلحوا على كيد في حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ دخلو عليه لأجل ذلك الغرض، فأتاه جبرئيل فأخبره به، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه، فليقوموا و ليستغفروا اللّه حتّى أستغفر لهم» فلم يقوموا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ألا تقومون؟» ، فلم يفعلوا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «قم يا فلان، قم يا فلان» -حتّى عد اثني عشر رجلا منهم-فقاموا و قالوا: كنّا عزمنا على ما قلت، و نحن نتوب إلى اللّه من ظلمنا أنفسنا، فاستغفر لنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «[الآن]اخرجوا، أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار، و كان اللّه أقرب إلى الإجابة، اخرجوا عنّي» (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 65

ثمّ بيّن اللّه سبحانه ملازمة الإيمان بالرّسول للرّضا بحكمه، و التّسليم لقضائه، مؤكّدا له بالحلف عليه، و زيادة (لا) للتّأكيد، بقوله: فَلا وَ رَبِّكَ إنّ النّاس لا يُؤْمِنُونَ بك إيمانا صادقا حَتّى يُحَكِّمُوكَ و يترافعوا إليك فِيما شَجَرَ و اختلف فيه بَيْنَهُمْ من الأمور، فتقضي فيه بمرّ الحقّ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ و قلوبهم حَرَجاً و ضيقا مِمّا قَضَيْتَ به و حكمت فيه وَ يُسَلِّمُوا لقضائك تَسْلِيماً قلبيّا، و ينقادوا لحكمك انقيادا باطنيّا.

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)روي أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزّبير في ماء يسقى به النّخل، فقال صلّى اللّه عليه و آله للزّبير: «اسق أرضك، ثمّ

ص: 243


1- . المائدة:5/92.
2- . أي عظمة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.
3- . تفسير الرازي 10:162.

أرسل الماء إلى أرض صاحبك» (1)، فقال الأنصاري: لأجل أنّه ابن عمّتك. فتلوّن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قال للزّبير: «اسق ثمّ احبس الماء حتّى يبلغ الجدر» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 66 الی 68

ثمّ بيّن اللّه سبحانه ضعف إيمان المسلمين، و وهنهم في طاعة اللّه و رسوله، و قلّة المؤمنين الخلّص (3)؛ بقوله: وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا و فرضنا عَلَيْهِمْ و قلنا لهم: أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ كم كتبنا على بني إسرائيل في التّوبة عن عبادة العجل أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ و اتركوا أوطانكم ما فَعَلُوهُ عصيانا، لصعوبته عليهم إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ و هم الكاملون في الإيمان، الخلّص (4)فيه.

وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)روي أنّ ثابت بن قيس بن شمّاس ناظر يهوديا، فقال اليهودي: إنّ موسى عليه السّلام أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك، و إنّ محمّدا يأمركم بالقتال فتكرهونه، فقال: ما أنت (5)، لو أنّ محمّدا أمرني بقتل نفسي لفعلت، فنزلت هذه الآية (6).

و روي أنّ ابن مسعود قال [مثل]ذلك، فنزلت (7).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و الذي نفسي بيده، إنّ من امّتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرّواسي» (8).

و قيل: إنّ المراد من الآية بيان حال المنافقين (9). و المعنى: ما فعلوه، فيظهر كفرهم و نفاقهم إلاّ قليل منهم، فإنّهم يفعلونه رياء و سمعة.

ثمّ حثّ اللّه المؤمنين إلى الإيمان الكامل، و المنافقين إلى الإيمان الخالص، بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ عن خلوص الإيمان، و صدق النّيّة فَعَلُوا و امتثلوا ما يُوعَظُونَ و يؤمرون بِهِ من متابعة الرّسول، و إطاعة أحكامه لَكانَ ذلك خَيْراً لَهُمْ و أنفع في العاجل و الآجل وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً لإيمانهم.

عن الصادق عليه السّلام: «لو أنّ أهل الخلاف فعلوا. . .» (6).

ص: 244


1- . في تفسير الرازي: جارك.
2- . تفسير الرازي 10:163، و الجدر، جمع جدار: الحائط.
3- . في النسخة: الخلّصين.
4- . في النسخة: الخلّصون.
5- . في تفسير الرازي: يا أنت. (6 و 7 و 8 و 9) . تفسير الرازي 10:167.
6- . تفسير العياشي 1:417/1032، تفسير الصافي 1:432.

و عن الباقر عليه السّلام: «ما يُوعَظُونَ بِهِ في عليّ» قال: «هكذا نزلت» (1).

ثمّ كأنّه قيل: فماذا يكون لهم بعد التّثبّت؟ فقال: وَ إِذاً لو ثبتوا باللّه لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا و من خزائن رحمتنا أَجْراً و ثوابا عَظِيماً في الآخرة، لا ينقطع أبدا

وَ لَهَدَيْناهُمْ في الدّنيا بالتّوفيق صِراطاً مُسْتَقِيماً يوصلهم إلى جواهر العلوم و مقام الرّضوان.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من عمل بما علم ورثة اللّه علم ما لم يعلم» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 69 الی 70

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد على طاعته و طاعة رسوله، بقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ خالصا لوجهه فَأُولئِكَ المطيعون يحشرون في الآخرة مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ بعلوّ المقام، و عظم القدر عنده مِنَ اَلنَّبِيِّينَ الفائزين بكمال العلم و العمل وَ اَلصِّدِّيقِينَ العارجين بأعلى مدارج الإيمان و العرفان وَ اَلشُّهَداءِ الباذلين مهجهم في إظهار الحقّ، و إعلاء كلمته وَ اَلصّالِحِينَ الصّارفين أعمارهم في طاعة اللّه، و طلب مرضاته.

وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ عَلِيماً (70)ثمّ بالغ في إظهار حسن هذه المرافقة مع هؤلاء، بإظهار التّعجّب من حسنها بقوله: وَ حَسُنَ أُولئِكَ المذكورون رَفِيقاً للمؤمن و مصاحبا في الجنّة.

في بيان محبة ثوبان

للرّسول صلّى اللّه عليه و آله

روي أنّ ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان شديد الحبّ له، قليل الصّبر عنه، فأتاه يوما و قد تغيّر وجهه، و نحل جسمه، و عرف الحزن في وجهه، فسأله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن حاله، فقال: يا رسول اللّه، ما بي وجع غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك، و استوحشت وحشة شديدة، حتّى تذكّرت (3)الآخرة و خفت أن لا أراك هناك؛ لأنّي إن دخلت الجنّة فأنت تكون في درجات النّبيّين، و أنا في درجات العبيد، فلا أراك، و إن أنا لم أدخل الجنّة، فحينئذ لا أراك أبدا. فنزلت هذه الآية (4).

في أنّ المؤمنين

صنفان

قيل: إنّ المراد من المرافقة في الجنّة: هو رفع الحجاب بين الفاضل و المفضول، بحيث يرى كلّ منهما الآخر، لعدم إمكان تساويهما في الدّرجة (5).

ص: 245


1- . الكافي 1:351/60، تفسير الصافي 1:432.
2- . تفسير روح البيان 2:232.
3- . في تفسير الرازي: حتى ألقاك فذكرت.
4- . تفسير الرازي 10:170.
5- . تفسير الرازي 10:171.

عن الصادق عليه السّلام: «المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى للّه بشروطه التي اشترطها عليه، فذلك مع النّبيّين و الصّدّيقين و الشّهداء و الصّالحين و حسن أولئك رفيقا، و ذلك ممّن يشفع و لا يشفع له، و لا تصيبه أهوال الدّنيا، و لا أهوال الآخرة، و مؤمن زلّت به قدم، فذلك كخامة (1)الزّرع، كيفما كفئت (2)الريح انكفأ، و ذلك ممّن يصيبه أهوال الدّنيا و أهوال الآخرة، و يشفع له، و هو على خير» (3).

عن (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام، قال: «أعينونا بالورع، فمن لقي اللّه تعالى (4)بالورع كان له عند اللّه فرجا، إنّ اللّه يقول: مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ. . . -و تلا هذه الآية، ثمّ قال-: فمنّا النبيّ، و منّا الصّدّيق، و منّا الشّهداء، و منّا الصّالحون» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «لقد ذكركم اللّه في كتابه فقال: أولئك مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ. . . -الآية، فرسول اللّه في الآية النّبيّون، و نحن في هذا الموضع الصّدّيقون و الشّهداء، و أنتم الصّالحون، فتسمّوا بالصّلاح كما سمّاكم اللّه» (6).

ذلِكَ اَلْفَضْلُ و زيادة الثّواب كائن مِنَ اَللّهِ المفضّل وَ كَفى بِاللّهِ عَلِيماً بجزاء المطيعين، و مقدار استحقاقهم الفضل.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 71

ثمّ لمّا كان الجهاد من أهمّ الطّاعات حثّ اللّه إليه بعد المبالغة في الحثّ إلى طاعته و طاعة رسوله بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ و احترزوا كيد أعدائكم، أو خذوا أسلحتكم-كما عن الباقر عليه السّلام (7)-و أستعدوا للجهاد فَانْفِرُوا و اخرجوا إلى الجهاد ثُباتٍ و جماعات متفرّقات، سريّة بعد سريّة أَوِ اِنْفِرُوا إلى غزوة واحدة كلّكم جَمِيعاً و كوكبة واحدة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً (71)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 72 الی 73

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)

ص: 246


1- . الخامة: أول كلّ شيء، و هنا بمعنى أول ما ينبت من الزرع الغضّ.
2- . في الكافي: كفأته.
3- . الكافي 2:193/2، تفسير الصافي 1:433.
4- . زاد في المصدر: منكم.
5- . الكافي 2:63/12، تفسير الصافي 1:433.
6- . تفسير العياشي 1:417/1034، الكافي 8:35/6، تفسير الصافي 1:433.
7- . مجمع البيان 3:112، تفسير الصافي 1:434.

ثمّ لمّا كان في موقع الجهاد مجال نفاق المنافقين، عاد سبحانه إلى ذكر حالهم و تقاعدهم عن الخروج إليه، بقوله: وَ إِنَّ مِنْكُمْ أيّها المسلمون للّه لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ و ليتثاقلنّ من الخروج إلى الجهاد، و يتخلّف عنكم.

و قيل: إنّ المعنى: أنّه ليثبّطنّ سائر المسلمين و يصرفهم عن الخروج، كعبد اللّه بن ابيّ.

فَإِنْ أَصابَتْكُمْ بعد الخروج إلى الجهاد مُصِيبَةٌ و بليّة من الأعداء، كالقتل، و الجرح، و الهزيمة قالَ ذلك المنافق المبطئ؛ فرحا بتقاعده، و حامدا لربّه: قَدْ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيَّ بالسّلامة و الحياة إِذْ لَمْ أَكُنْ في المعركة مَعَهُمْ شَهِيداً و حاضرا،

فيصيبني ما أصابهم وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ و نالكم فَضْلٌ من فتح و غنيمة مِنَ جانب اَللّهِ و بإعانته لَيَقُولَنَّ ذلك المنافق تحسّرا و حزنا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ و صداقة، حتّى يفرح لفرحكم: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزوة فَأَفُوزَ و أنال فَوْزاً و حظّا عَظِيماً وافرا من الغنيمة.

و في ذكر الجملة الاعتراضية بين فعل القول و مفعوله، دلالة على أن تمنّيهم الحضور في الوقعة كان للحرص على المال، لا للاشتياق إلى نصرة المسلمين بمقتضى المودّة و الخلطة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 74

ثمّ عاد سبحانه إلى الحثّ في الجهاد بقوله: فَلْيُقاتِلْ ألبتّة فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لطلب مرضاته المؤمنون الخلّص (1)اَلَّذِينَ يَشْرُونَ و يبيعون اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا و متاعها بِالْآخِرَةِ و يختارون الفوز برضوان اللّه، و النّعم الخالصة الدّائمة على العيش المكدّر الزّائل.

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)ثمّ بالغ في التّرغيب فيه بقوله: وَ مَنْ يُقاتِلْ أعداء الدّين فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لإعلاء كلمة التّوحيد و الحقّ فَيُقْتَلْ بأيديهم أَوْ يَغْلِبْ عليهم فيقتلهم فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جسيما لا يقادر قدره.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 75

وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)

ص: 247


1- . في النسخة: الخلصون.

ثمّ لام المتقاعدين عن القتال و أنكره عليهم بقوله: وَ ما العذر لَكُمْ أيّها المؤمنون لا تُقاتِلُونَ الكفّار فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لتخليص اَلْمُسْتَضْعَفِينَ و المستذلّين بين المشركين مِنَ اَلرِّجالِ المؤمنين وَ اَلنِّساءِ المؤمنات وَ اَلْوِلْدانِ -الصّغار اَلَّذِينَ لا يؤخذون بجرم الكبار -من أسر الكفّار، و هم من كثرة أذيّة المشركين يَقُولُونَ متضرّعين إلى اللّه: رَبَّنا أَخْرِجْنا و خلّصنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ التي نحن فيها اَلظّالِمِ علينا أَهْلُها و ساكنوها وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ و من رحمتك وَلِيًّا من المؤمنين يقوم بمصالحنا، و حفظ ديننا وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على أعدائنا، و يدفع عنّا أذاهم.

قيل: هم المسلمون الّذين حبسوا في مكّة و صدّهم المشركون عن الهجرة، أو عجزوا عنها فبقوا في الذّلّة، و تلقّوا الأذى (1)، فيسرّ اللّه لبعضهم الهجرة إلى المدينة، و جعل لبعضهم-الّذين بقوا فيها إلى الفتح-خير وليّ و أعزّ ناصر، و هو نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

عن العيّاشي: عنهما عليهما السّلام، في هذه الآية قالا: «نحن أولئك» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 76

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ الجهاد لغرض نصرة الدّين من خصائص المؤمنين حثّا لهم، بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا هم الّذين يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لنصرة دينه، فاللّه ناصرهم وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ و لاتّباع الشّيطان، و ترويج الباطل، فالشّيطان وليّهم، و اللّه خاذلهم فَقاتِلُوا يا أولياء اللّه أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ و أتباعه و حزبه، و لا تخافوا كيدهم إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ لأهل الإيمان، و سعيه في إطفاء نور الحقّ منذ كان كانَ ضَعِيفاً و بلا نتيجة، بالإضافة إلى كيد اللّه بالكافرين.

اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 77

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنّاسَ كَخَشْيَةِ اَللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)

ص: 248


1- . تفسير أبي السعود 2:202.
2- . تفسير العياشي 1:418/1037 و 1038، تفسير الصافي 1:436.

ثمّ قيل: إنّ فريقا من المؤمنين يظهرون الرّغبة في الجهاد قبل وجوبه، فلمّا وجب الجهاد تثاقلوا عنه، و أظهروا الكراهة منه، فلامهم اللّه و وبّخهم (1)بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد إِلَى المؤمنين اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ حين إظهارهم الرّغبة في الجهاد، و استئذانهم فيه كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عنه، و لا تتعرّضوا للكفّار وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ و اشتغلوا بسائر ما امرتم به.

روي أنّ ناسا من المؤمنين أتوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يهاجر إلى المدينة، و شكوا إليه ما يلقونه من أذى المشركين، و قالوا: كنّا في عزّ في حالة الجاهليّة، و الآن صرنا أذلّة، فلو أذنت لنا قتلناهم على فرشهم. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كفّوا أيديكم-إي أمسكوا عن القتال-و أقيموا الصّلاة، و آتوا الزّكاة، و اشتغلوا بما امرتم به، فإنّي لم أؤمر بقتالهم» . و كانوا في مدّة إقامتهم بمكّة مستمرّين على تلك الحالة، فلمّا هاجروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و امروا بالقتال في وقت بدر، كرهه بعضهم و شقّ ذلك عليه، و ذلك قوله تعالى: فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ (2)و فرض إِذا فَرِيقٌ و جمع مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنّاسَ المشركين أن يقتلوهم، خشية كَخَشْيَةِ اَللّهِ الكائنة في قلوبهم أن ينزل عليهم بأسه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً من خشيتهم من اللّه، أو من أهل خشية اللّه. و في التّرديد إيهام على المخاطب، أو إشعار باختلاف الفريق في شدّة الخوف.

وَ قالُوا بألسنتهم، أو في قلوبهم تمنّيا لطول البقاء، لا اعتراضا على اللّه: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ و فرضت عَلَيْنَا اَلْقِتالَ مع الكفّار لَوْ لا أَخَّرْتَنا و أمهلتنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أجّلته لنا، و الموت الذي قدّرته علينا.

قيل: إنّ الآية نزلت في المنافقين؛ و هم المراد بالفريق منهم (3).

ثمّ أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بوعظهم بقوله: قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا و الانتفاع بها قَلِيلٌ المدّة، سريع التّقضّي، قليل اللّذّة، لشوبه بالمكاره و الغموم، قليل القدر وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ من الدّنيا و نعمها؛ لأنّها دائمة خالصة من الكدورات، عظيمة القدر، و لكن تكون لِمَنِ اِتَّقى و أطاعه وَ لا تُظْلَمُونَ بنقص ثواب أعمالكم فَتِيلاً و شيئا يسيرا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 78

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

ص: 249


1- . تفسير الرازي 10:184.
2- . تفسير روح البيان 2:239.
3- . تفسير الرازي 10:185.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الموت لا مناص منه، تقصيرا للآمال، بقوله: أَيْنَما تَكُونُوا أيّها النّاس، و في أيّ مكان تتمكّنوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ و يصيبكم الفناء وَ لَوْ كُنْتُمْ متحصّنين فِي بُرُوجٍ و قصور حصينة مُشَيَّدَةٍ محكمة، أو مجصّصة، فإذا كان الموت لا بدّ منه، فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسّعادة الأبديّة كان أولى.

ثمّ أنّه تعالى بعدما ذكر تثاقل ضعفاء المؤمنين أو المنافقين عن الجهاد، أردفه بذكر سوء مقالهم، من بقوله: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ من سعة و نعمة و راحة يَقُولُوا هذِهِ الحسنة مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و من فضله وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من جدب و غلاء و شدّة يَقُولُوا لك من غاية الجهل و الحمق، أو العناد: هذِهِ السّيّئة مِنْ عِنْدِكَ و من شؤمك.

قيل: كانت المدينة مملوءة من النّعم وقت مقدم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا ظهر عناد اليهود و نفاق المنافقين أمسك اللّه عنهم بعض الإمساك، كما جرت عادته في جميع الامم، كما قال اللّه تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (1)فعند ذلك قالت اليهود و المنافقون: و ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرّجل، نقصت ثمارنا، و غلت أسعارنا منذ قدم، فقوله تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني: الخصب، و رخص السّعر، و تتابع الأمطار، قالوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من الجدب و غلاء السّعر، قالوا: هذا من شؤم محمّد. و هذا كقوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ (2)، و عن قوم صالح قالوا: اِطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ (3).

ثمّ أمر اللّه بردّهم بقوله: قُلْ لهم كُلٌّ من الحسنات و السّيّئات مِنْ عِنْدِ اَللّهِ يقبض و يبسط على حسب الحكمة و الإرادة.

ثمّ بيّن اللّه شدّة حماقتهم بإظهار التّعجّب من قلّة فهمهم؛ بقوله: فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ و يفهمون حَدِيثاً من الأحاديث و قولا من الأقوال، إن هم إلاّ كالأنعام.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 79

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (79)

ص: 250


1- . الأعراف:7/94.
2- . الأعراف:7/131.
3- . تفسير الرازي 10:188، و الآية من سورة النمل:27/47.

ثمّ أنّه تعالى بعد التّنبيه على أنّ إيجاد الحسنات و السّيّئات كلّها بيده و عن إرادته، نبّه على اختلاف أسبابها بقوله: ما أَصابَكَ أيّها الإنسان مِنْ حَسَنَةٍ من الحسنات، و من خير من الخيرات فَمِنَ اَللّهِ و بتفضّله و إحسانه، أو بحكمة الامتحان وَ ما أَصابَكَ و ورد عليك مِنْ سَيِّئَةٍ و بليّة فَمِنْ نَفْسِكَ و بسبب سيئاتك و معاصيك، و إن كان إيجادها أيضا من اللّه.

عن الرضا عليه السّلام: «قال اللّه: [يا]ابن آدم [بمشيئتي]كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء [و]بقوّتي أدّيت فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويّا، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، و ما أصابك من سيّئة فمن نفسك، و ذلك أنّي أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيّئاتك منّي، و ذلك أنّي لا اسأل عمّا أفعل و هم يسألون» (1).

و عن عائشة: ما من مسلم يصيبه و صب و لا نصب، حتّى الشّوكة يشاكها، و حتّى انقطاع شسع نعله، إلاّ بذنب، و ما يغفر اللّه أكثر (2).

أقول: حاصل المستفاد من [الآية]الكريمة أنّ جميع ما يصيب الإنسان سواء أكان من الحسنات أو من السّيّئات، فبإيجاد اللّه تعالى، لا يشركه أحد في إيجاده. و أمّا سببها فما كان من الحسنات فبسبب التّفضّل، و قابليّة الفيض، و امتحان العبد، و ما كان من السّيّئات فبسبب استحقاق العقوبة على المعاصي الحاصلة بالشّهوات النّفسانيّة.

ثمّ لمّا كان بيان هذا المطلب العالي بعبارة وافية من أدلّة الرّسالة، أعلن سبحانه برسالته، بقوله: وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ جميعا العرب و العجم، و الأبيض و الأسود رَسُولاً و مبلّغا عن اللّه، و المعجزات التي أتيتها شهادة اللّه على رسالتك و صدقك وَ كَفى بِاللّهِ للنّاس شَهِيداً و مصدّقا؛ فلا ينبغي لأحد التّشكيك في صدقك و الخروج عن طاعتك.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 80

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على رسالته، أكّد وجوب طاعته بقوله: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ في أوامره و نواهيه فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ في الحقيقة، لكونه مبلّغا عنه، و اللّه أمر بطاعته.

مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ وَ مَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)قيل: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقول: «من أحبّني فقد أحبّ اللّه، و من أطاعني فقد أطاع اللّه» ، فقال المنافقون: لقد قارب (3)هذا الرّجل الشّرك، إنّه ينهى أن يعبد غير اللّه، و يريد أن نتّخذه ربّا كما اتّخذت

ص: 251


1- . الكافي 1:122/12، تفسير الصافي 1:437 عن الصادق عليه السّلام.
2- . تفسير أبي السعود 2:206، تفسير روح البيان 2:242.
3- . في تفسير أبي السعود و الصافي: قارف.

النّصارى عيسى، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه المعرضين عن طاعته، بقوله: وَ مَنْ تَوَلّى و أعرض عن طاعتك فَما أَرْسَلْناكَ كي تكون عَلَيْهِمْ حَفِيظاً و مراقبا لأعمالهم، و محاسبا لهم، بل إنّما عليك البلاغ و علينا الحساب، و وظيفتك الإرشاد بالبيان و إلينا الهداية بالتّوفيق، فلا تحرص على زجرهم عن العصيان، و لا تغتمّ بسبب إعراضهم عن الطّاعة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 81

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه المنافقين بإظهار الطّاعة، و إبطال المخالفة، بقوله: وَ يَقُولُونَ حين تأمرهم بشيء: شأننا طاعَةٌ خالصة دائمة فَإِذا بَرَزُوا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ و خلوا إلى أنفسهم بَيَّتَ و دبّر طائِفَةٌ مِنْهُمْ و هم السّاعون في مخالفتك أمرا غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ لهم و تأمرهم به وَ اَللّهُ يَكْتُبُ في صحائف أعمالهم ما يُبَيِّتُونَ و يدبّرون من مخالفتك و عصيانك، فيجازيهم به، و يعاقبهم عليه أشدّ العقاب فَأَعْرِضْ أنت عَنْهُمْ و لا تتعرّض لعقوبتهم، و هتك سترهم، و تفضيحهم بذكر أسمائهم، حتّى يستقيم أمرك و أمر دينك وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ في شأنهم، فإن اللّه يكفيك شرّهم وَ كَفى لك بِاللّهِ وَكِيلاً و كافيا لحفظك و جميع امورك.

وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ وَ اَللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 82

ثمّ لمّا كان نفاق المنافقين لعدم اعتقادهم بصدق الرّسول مع ظهور معجزاته خصوصا القرآن المجيد الذي هو أعظمها، و كان لعدم التّدبّر فيه، حثّهم عليه بقوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ و هلاّ يتأمّلون في إعجاز بيانه و علوّ مطالبه، حتّى يظهر لهم بهذه المعجزة العظيمة صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى الرّسالة.

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً (82)

في أحد وجوه

إعجاز القرآن

ثمّ أرشدهم إلى أحد وجوه إعجازه بقوله: وَ لَوْ كانَ هذا القرآن مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ و كلاما صادرا من البشر، كما زعمه الكفّار لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً و تفاوتا فاحشا في عباراته من جهة الفصاحة و الأسلوب، و في مطالبه من جهة

ص: 252


1- . تفسير أبي السعود 2:206، تفسير الصافي 1:437.

الصحّة و الفساد فكون جميع عباراته بطولها في أعلى درجة الفصاحة، و مطالبه مع كثرتها في غاية الصّحّة و المتانة، دليل قاطع على أنّه كلام اللّه، لا كلام البشر، لقضاء العادة بأن كلام البشر لا يخلو من الاختلاف في الفصاحة إذا كان طويلا، و الأخبار الغيبيّة الحدسيّة لا تخلو من عدم مطابقة بعضها للواقع، و مطالبه العلميّة الكثيرة لا تخلو عن بطلان بعضها.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 83

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمّن نبيّه من شرّ المنافقين، و أحكم أساس نبوّته بالإشارة إلى وجه إعجاز كتابه، أخبره بإفساد المنافقين في المسلمين بقوله: وَ إِذا جاءَهُمْ و بلغهم من سرايا المسلمين، أو من طرف المشركين أَمْرٌ و شيء مِنَ اَلْأَمْنِ للمسلمين كالظّفر على الأعداء، أو تقاعد المشركين عن حربهم أَوِ من اَلْخَوْفِ كنكبة المسلمين وضعفهم، أو هزيمتهم عن العدوّ، أو تجمّع الكفّار لحربهم، فهم بمحض سماع الخبر أَذاعُوا بِهِ و أفشوه بين المسلمين، من غير تحقيق عن صدقه، و من غير ملاحظة للصّلاح في إفشائه، فقد يكون في إفشائه تغرير المسلمين، أو تخويفهم من العدوّ، و ضعفهم في المعارضة أو في الإيمان وَ لَوْ رَدُّوهُ و فوّضوه إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ و أهل البصيرة و العلم مِنْهُمْ و إلى نظرهم في تحقيق الصّدق، و تشخيص الصّلاح في الإفشاء، و التّدبير في كيفيّة الذّكر، و طلبوا معرفة الحال من جهتهم لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ و يستخرجون واقع الأمر مِنْهُمْ بأنظارهم الصّائبة، و معرفتهم الكاملة بحقائق الأمور.

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً (83)قيل: كان قوم من ضعفه المسلمين إذا بلغهم خبر من سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو أخبرهم الرّسول بما اوحي إليه من وعد بالظّفر، أو تخويف من الكفرة، أذاعوا به لعدم حزمهم، و كانت إذاعتهم مفسدة (1). و قيل: كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فيعود وبالا على المسلمين، و لو ردّوه إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و إلى اولي الأمر منهم حتّى يسمعوا منهم، و يعرفوا هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الّذين يستنبطونه من الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و اولي الأمر (2).

عن الباقر عليه السّلام: «هم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام» (3).

ص: 253


1- . تفسير أبي السعود 2:208.
2- . تفسير أبي السعود 2:209.
3- . جوامع الجامع:92، تفسير الصافي 1:439.

و عن الرضا عليه السّلام: «يعني: آل محمّد عليهم السّلام، و هم الّذين يستنبطون من القرآن، و يعرفون الحلال و الحرام، و هم حجّة اللّه على خلقه» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «من وضع ولاية اللّه، و أهل استنباط علم اللّه في غير أهل الصّفوة من بيوتات الأنبياء، فقد خالف أمر اللّه عزّ و جلّ، و جعل الجهّال ولاة أمر اللّه، و المتكلّفين بغير هدى، و زعموا أنّهم أهل استنباط علم اللّه، فكذّبوا على اللّه، و زاغوا عن وصيّة اللّه و طاعته، و لم يضعوا فضل اللّه حيث وضعه اللّه تبارك و تعالى، فضلّوا و أضلّوا أتباعهم، فلا تكون لهم يوم القيامة حجّة» (2).

ثمّ لمّا أمر اللّه بطاعة رسوله، و الجهاد في سبيله، و ردّ الأمور إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و إلى اولي اللّه، أظهر منّته على العباد بفضله عليهم، و هدايتهم إلى الحقّ، حثّا على طاعة أحكامه، بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ بإرسال الرّسول، و إنزال القرآن وَ رَحْمَتُهُ عليكم بهدايتكم إلى دين الإسلام.

و عن الباقر عليه السّلام: «فضل اللّه: رسول اللّه، و رحمته: [ولاية]الأئمّة عليهم السّلام» (3).

و عنهم عليهم السّلام: «فضل اللّه و رحمته: النبيّ، و عليّ عليهما السّلام» (4).

و اللّه (5)لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ في الكفر و الطّغيان إِلاّ قَلِيلاً منكم، و هم اولوا الألباب.

قيل: إنّ قسّ بن ساعدة، و ورقة بن نوفل، و زيد بن عمرو بن نفيل كانوا مؤمنين باللّه قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 84

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه في الآية السّابقة بالجهاد، و بيّن نفرة جمع من ضعفة المسلمين و جميع المنافقين عنه، حثّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أمره بالجدّ فيه بنفسه، و تحريض المؤمنين عليه بقوله: فَقاتِلْ يا محمّد وحدك فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نصرة دينه، و إن خذلك جميع النّاس، و لم ينصرك أحد.

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اَللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)قيل: إنّ التقدير: إن أردت الفوز فقاتل الكفّار (7).

و قيل: إنّه تعالى بعد ذكر سيّئات أخلاق المنافقين، و مضادّتهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و سعيهم في الإفساد بين

ص: 254


1- . تفسير العياشي 1:422/1050، تفسير الصافي 1:439.
2- . إكمال الدين:218/2، تفسير الصافي 1:439.
3- . تفسير العياشي 1:422/1051، تفسير الصافي 1:439.
4- . جوامع الجامع:92، تفسير الصافي 1:439.
5- . لا محلّ للقسم هنا، و اللام في قوله تعالى: لاَتَّبَعْتُمُ واقعة في جواب (لو لا) فهي حرف جواب و ربط، و ليست لام القسم.
6- . تفسير الرازي 10:202.
7- . تفسير الرازي 10:203.

المسلمين، كأنّه قال: فلا تعتدّ بهم، و لا تلتفت إلى أفعالهم، بل قاتل في سبيل اللّه (1).

و لا تُكَلَّفُ و لا تحمل عليه إِلاّ نَفْسَكَ فإنّ اللّه ناصرك. ففيه دلالة على أنّ الجهاد كان واجبا عليه، و إن لم يساعده غيره.

قيل: نزلت في بدر الصّغرى، فإنّه واعده أبو سفيان اللّقاء فيها، فكره بعض النّاس الخروج معه، فخرج و ما معه إلاّ سبعون، و لم يلتفت إلى أحد، و لو لم يخرج معه أحد لخرج وحده (2).

ثمّ أمره بتحريض المؤمنين بقوله: وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ على القتال، و رغّبهم فيه بالنّصح، و وعد النّصر و الغنيمة، و ثواب الآخرة، و لا تعنف بهم-على ما قيل (3)- عَسَى اَللّهُ و أرجه أَنْ يَكُفَّ و يمنع عنك، و عن المسلمين بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من قريش، و مكروههم وَ اَللّهُ أَشَدُّ منهم بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً و عذابا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 85

ثمّ قيل: إنّه لمّا حرّض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في القتال، شفع بعض المنافقين إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يأذن لبعضهم في التّخلّف عنه (4)، فنهى اللّه تعالى عن تلك الشّفاعة بقوله: مَنْ يَشْفَعْ إلى أحد شَفاعَةً حَسَنَةً مرضيّة عند اللّه؛ كأن [يشفع]

في

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)الإحسان إلى مؤمن، أو دفع شرّ عنه، طلبا لمرضاة اللّه.

و عن ابن عبّاس: الشّفاعة الحسنة أن يشفع إيمانه باللّه بقتال الكفّار (5).

يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ و حظّ مِنْها بالانتفاع من أجرها و ثوابها.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اشفعوا تؤجروا» (6).

وَ مَنْ يَشْفَعْ عند أحد شَفاعَةً سَيِّئَةً غير مرضيّة، كأن يشفع في معصية أو تضييع حقّ و عن ابن عبّاس: أن يشفع كفره بالمحبّة للكفّار، و ترك إيذائهم (7).

يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ و حظّ مِنْها بالابتلاء بعقوبتها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأجر و العقوبة مُقِيتاً و قادرا، أو على كلّ شيء من الشّفاعة الحسنة و السّيّئة مطّلعا و حافظا.

ص: 255


1- . تفسير الرازي 10:203.
2- . تفسير الرازي 10:204.
3- . تفسير روح البيان 2:248.
4- . تفسير الرازي 10:206.
5- . تفسير الرازي 10:206.
6- . تفسير الرازي 10:207.
7- . تفسير الرازي 10:206.

عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، أو دلّ على خير، أو أشار به، فهو شريك» (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 86

في وجوب ردّ

السّلام و التحية

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بجهاد الكفّار و الشّدّة عليهم، أمر بمسالمتهم إذا سلّموا، أو بردّ تحيّتهم، بقوله: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ و اكرمتم بنوع من الأكرام-[عن]القمّي: السّلام و غيره من البرّ (2)-[سواء]كان المحيّي مسلما أو كافرا فَحَيُّوا المحيّي و قابلوا تحيّته بِأَحْسَنَ مِنْها كأن تقولوا في جواب من قال: سلام عليكم؛ عليكم السّلام، أو مع زيادة: و رحمة اللّه و بركاته، لوضوح أنّ تحيّة الإسلام السّلام أَوْ رُدُّوها بأن تقولوا في جوابه: سلام عليكم.

وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)

في بيان كيفية

الردّ بالأحسن

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا عطس أحدكم [فسمّتوه]قولوا: يرحمكم (3)اللّه، و يقول هو: يغفر اللّه لكم و يرحمكم، قال اللّه تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ الآية» (4).

في (المناقب) : جاءت جارية للحسن بطاقة ريحان، فقال لها: «أنت حرّة لوجه اللّه» فقيل له في ذلك، فقال: «أدّبنا اللّه تعالى فقال: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ الآية، و كان أحسن منها إعتاقها» (5).

عن الباقر عليه السّلام: «مرّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه بقوم، فسلّم عليهم فقالوا: عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال أمير المؤمنين: لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم عليه السّلام؛ إنّما قالوا: رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ» (6).

و روي أنّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السّلام عليك، فقال: «و عليك السّلام و رحمة اللّه» ، و قال آخر: السّلام عليك و رحمة اللّه، فقال: «و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته» ، و قال آخر: السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته، فقال: «و عليك» ، فقال الرّجل نقصتني، فأين ما قال اللّه-و تلا هذه الآية-فقال: «إنّك لم تترك لي فضلا، فرددت عليك مثله» (7).

عن الصادق عليه السّلام: «من قال السّلام عليكم، فهي عشر حسنات، و من قال: السّلام عليكم و رحمة

ص: 256


1- . الخصال:138/156.
2- . تفسير القمي 1:145.
3- . في الخصال: يرحمك.
4- . الخصال:633.
5- . مناقب ابن شهر آشوب 4:18.
6- . الكافي 2:472/13، و الآية من سورة هود:11/73.
7- . مجمع البيان 3:131، تفسير البيضاوي 1:228، تفسير أبي السعود 2:211.

اللّه، فهي عشرون حسنة، و من قال: السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته؛ فهي ثلاثون حسنة» (1).

و عنه عليه السّلام: «من تمام التّحيّة للمقيم المصافحة، و تمام التّسليم على المسافر المعانقة» (2).

و عنه عليه السّلام، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «لا تبدأوا أهل الكتاب بالتّسليم، و إذا سلّموا عليكم فقولوا: و عليكم» (3).

في كراهة التسليم

على ثلاثة عشر

طائفة

و عنه، عن أبيه عليهما السّلام: «لا تسلّموا على اليهود، و لا على النّصارى، و لا على المجوس، و لا على عبدة الأصنام (4)، و لا على موائد شرب الخمر، و لا على صاحب الشّطرنج و النّرد، و لا على المخنّث، و لا على الشّاعر الذي يقذف المحصنات، و لا على المصلّي؛ و ذلك أن المصلّي لا يستطيع أن يردّ السّلام، لأنّ التّسليم من المسلّم تطوّع، و الرّدّ عليه فريضة، و لا على آكل الرّبا، و لا على رجل جالس على غائط، و لا على الذي في الحمام، و لا على الفاسق المعلن بفسقه» (5).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه على مخالفة الأمر بردّ التّحيّة، أو الإساءة بالمحيّي، بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من النّقير و القطمير من أعمالكم حَسِيباً فيحاسبكم على جميع ما يصدر منكم، و يجازيكم عليها، فكونوا من مخالفته على حذر.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 87

ثمّ أظهر سبحانه عظمته و وحدانيّته في الالوهيّة و القدرة، و ذكر يوم القيامة و اجتماعهم للحساب فيه، إرعابا للقلوب و تخويفا من العصيان، بقوله: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فاخضعوا لعظمته و قدرته، و خصّوه بالعبوديّة و الطّاعة، و اعلموا أنّه باللّه لَيَجْمَعَنَّكُمْ و يسوقنّكم من القبور إِلى حساب يَوْمِ اَلْقِيامَةِ و هو يوم يقوم النّاس لربّ العالمين لا رَيْبَ لعاقل فِيهِ .

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ حَدِيثاً (87)ثمّ أكّد صدق هذا الحديث، بعد الحلف و نفي الرّيب عنه، بقوله: وَ مَنْ هو أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ حَدِيثاً و خبرا، فإنّ الكذب ممكن في خبر غيره، و لا يمكن في خبره؛ لمنافاته لحكمته و غناه.

في الحديث القدسيّ: «كذّبني ابن آدم، و لم يكن له ذلك» (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 88

فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)

ص: 257


1- . الكافي 2:471/9.
2- . الكافي 2:472/14.
3- . الكافي 2:474/2.
4- . في الخصال: الأوثان.
5- . الخصال:484/57.
6- . تفسير روح البيان 2:255.

ثمّ أنّه تعالى بعد إرعاب النّاس بعظمته و قدرته، و بعثهم إلى يوم الجزاء، و نفي الرّيب فيه، ردع المؤمنين عن موادّة المنافقين، و عن الرّيب في كفرهم، بقوله: فَما لَكُمْ اختلفتم فِي كفر اَلْمُنافِقِينَ بعد ظهوره، و تفرّقتم فيه فِئَتَيْنِ و فرقتين.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكّة، و كانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في كفرهم و إسلامهم و تشاجروا فيه (1).

و عن عكرمة: أنّها نزلت في قوم ضلّوا، و أخذوا أموال المسلمين و انطلقوا بها إلى اليمامة، فاختلف المسلمون فيهم (2).

و قيل: إنّها نزلت في قوم قدموا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسلمين، فأقاموا بالمدينة ما شاء اللّه، ثمّ قالوا: يا رسول اللّه، نريد أن نخرج إلى الصّحراء، فأذن لنا فيه، فأذن لهم، فلمّا خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتّى لحقوا بالمشركين، فتكلّم المؤمنون فيهم فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا و صبروا كما صبرنا، و قال قوم: هم مسلمون، و ليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر حتّى يظهر لنا أمرهم (3). فبيّن اللّه تعالى نفاقهم بقوله: وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ و ردّهم إلى أحكام الكفر، من الذّل و الصّغار، و القتل و السّبي بِما كَسَبُوا من إظهار الارتداد.

ثمّ لمّا كان المؤمنون يتمنّون إيمان المنافقين و يحتالون فيه، قطع اللّه طمعهم في إيمانهم، بقوله: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا إلى الحقّ و طريق الجنّة مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ و خذله وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ عن الهدى، و خذله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً إلى الإيمان، و طريقا إلى الجنان.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 89

ثمّ بالغ سبحانه في صرف قلوب المؤمنين عن موالاتهم بقوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ و تمنّوا أن ترتدّوا إلى الكفر كَما كَفَرُوا و ارتدّوا عن الإسلام فَتَكُونُونَ أنتم و هم سَواءً في الكفر، فلمّا علمتم أنّهم طالبون هلاككم الأبدي فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ لأنفسكم أَوْلِياءَ و لا ترضوا بهم لكم

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89)

ص: 258


1- . تفسير الرازي 10:218.
2- . تفسير الرازي 10:219.
3- . تفسير الرازي 10:218.

أصدقاء حَتّى يؤمنوا، و تحقّقوا إيمانهم بأن يُهاجِرُوا عن بلاد الشّرك إلى دار الإسلام فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لنصرة دينه، و خدمة الرّسول، لا للأغراض الدّنيويّة فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن موافقتكم في الإيمان، و الهجرة عن الأوطان بخلوص النّيّة فَخُذُوهُمْ إذا قدرتم عليهم وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من الحلّ و الحرم وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ لأنفسكم وَلِيًّا و لا صديقا وَ لا نَصِيراً و لا معينا بوجه أبدا، ما داموا على حالة الكفر و الشّقاق.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 90

ثمّ استثنى من الكفّار الّذين أمر بقتلهم طائفتين، أمّا الطّائفة الاولى: فبقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ و ينتهون إِلى قَوْمٍ كافرين يكون بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ و عهد أكيد، أن لا تتحاربوا.

إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)قيل: هم الأسلميّون، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وادع (1)وقت خروجه إلى مكّة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه و لا يعين عليه، و على أنّ من وصل إلى هلال و لجأ إليه، فله من الجوار مثل الذي لهلال (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هم بنو بكر بن زيد مناة (3).

و عن قتادة: هم خزاعة و خزيمة بن عبد مناة (4).

و أمّا الطّائفة الثانية: فبقوله: أَوْ جاؤُكُمْ حال كونهم حَصِرَتْ و ضاقت صُدُورُهُمْ عن أَنْ يُقاتِلُوكُمْ مع قومهم، لكونكم مسلمين معاهدين معهم أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ معكم، لكونهم على دينهم، فهم لا لكم و لا عليكم.

في معاهدة

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع

بني مدلج

قيل: هم بنو مدلج، عاهدوا المسلمين أن لا يقاتلوهم، و عاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم، فضاقت صدورهم عن قتال المسلمين للعهد الذي بينهم و للرّعب الذي قذف اللّه في قلوبهم، و ضاقت صدورهم عن قتال قومهم لأنّهم كانوا على دينهم (5).

ثمّ منّ اللّه على المسلمين بكفّ أذى المعاهدين عنهم بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ تسليط الكفّار عليكم

ص: 259


1- . أي صالح و هادن و سالم.
2- . تفسير روح البيان 2:257.
3- . تفسير الرازي 10:222.
4- . تفسير الرازي 10:223، عن مقاتل.
5- . تفسير روح البيان 2:257.

لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ برفع أثر العهد، و تقوية قلوبهم، و إزالة الرّعب عنهم، إذن فَلَقاتَلُوكُمْ ألبتّة و قتلوكم، و لكن لم يشأ ذلك، لكرامتكم عليه باتّباع الرّسول و دين الإسلام، فإذا علمتم ذلك فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ و اجتنبوا عن التّعرّض لكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ بمشيئة اللّه وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ و تلقّوكم بالانقياد و التّسليم فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً بالقتل و الأسر.

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في بني مدلج، جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّا [قد] حصرت صدورنا أن نشهد أنّك لرسول اللّه، فلسنا معك و لا مع قومنا عليك، فوادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثمّ يدعوهم فإن أجابوا و إلاّ قاتلهم» (1).

ذكر معاهدة

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع

بني الأشجع

عن القمّي، في قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ إلى آخر الآية: أنّها نزلت في أشجع، و بني ضمرة، و كان خبرهم أنّه لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بدر لموعده مرّ قريبا من بلادهم، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هادن بني ضمرة و وادعهم قبل ذلك، فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذه بنو ضمرة قريبا منّا، و نخاف أن يخالفونا إلى المدينة، أو يعينوا علينا قريشا، فلو بدأنا بهم؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلاّ إنّهم أبرّ العرب بالوالدين، و أوصلهم للرّحم، و أوفاهم بالعهد» .

و كان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة، [و هم بطن من كنانة، و كانت أشجع بينهم و بين بني ضمرة حلف في المراعاة و الأمان، فأجدبت بلاد أشجع و أخصبت بلاد بني ضمرة، فصارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة]فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسيرهم إلى بني ضمرة، تهيّأ للمصير إلى أشجع فيغزوهم للموادعة التي كانت بينه و بين ضمرة، فأنزل اللّه: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا. . . ، ثمّ استثنى أشجع فقال: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ الآية.

و كانت أشجع محالّها البيضاء و الجبل و المستباخ، و قد كانوا قربوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهابوا لقربهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث إليهم من يغزوهم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا، فهمّ بالمسير إليهم، فبينا هو على ذلك إذ جاءت أشجع و رئيسها مسعود بن رخيلة (2)و هم سبعمائة، فنزلوا شعب سلع (3)، و ذلك في شهر ربيع سنة ست، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسيد بن حصين

ص: 260


1- . الكافي 8:327/504.
2- . مسعود بن رخيلة؛ بالخاء، انظر: اسد الغابة 4:357 و الإصابة في تمييز الصحابة 3:410/7943، و في النسخة و الصافي (رحيلة) بالحاء و في القمي: (رجيلة) بالجيم.
3- . الشّعب: هو الطريق في الجبل، و سلع: هو جبل بسوق المدينة، أو هو نفسه الشق في الجبل، انظر معجم البلدان 3:267.

فقال [له]: «اذهب في نفر من أصحابك حتّى تنظر ما أقدم أشجع» ، فخرج أسيد و معه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رخيلة؛ و هو رئيس أشجع، فسلّم على أسيد و على أصحابه و قالوا: جئنا لنوادع محمّدا، فرجع أسيد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «خاف القوم أن أغزوهم، فأرادوا الصّلح بيني و بينهم» .

ثمّ بعث إليهم بعشرة أحمال (1)تمر فقدّمها أمامه، ثمّ قال: «نعم الشيء الهديّة أمام الحاجة» ، ثمّ أتاهم فقال: «يا معشر أشجع، ما أقدمكم؟ قالوا: قريب دارنا منك، و ليس في قومنا أقلّ عددا منّا، فضقنا بحربك لقرب دارنا، و ضقنا بحرب قومنا (2)لقلّتنا فيهم، فجئنا لنوادعك، فقبل النبي صلّى اللّه عليه و آله ذلك منهم و وادعهم، فأقاموا يومهم ثمّ رجعوا إلى بلادهم، و فيهم نزلت هذه الآية: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إلى آخر الآية (3).

و القمّي عن الصادق عليه السّلام: «كانت السّيرة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله، و لا يحارب إلاّ من حاربه و أراده، و قد كان نزل في ذلك من اللّه تعالى: فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه و اعتزله، حتّى نزلت عليه سورة براءة، و امر بقتل المشركين من اعتزله و من لم يعتزله، إلاّ الّذين قد عاهدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة إلى مدّة، منهم صفوان بن اميّة و سهيل بن عمرو (4)، و سيجيء تمام الحديث في سورة براءة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 91

ثمّ أذن سبحانه في قتال المعاهدين الّذين أرادوا بعهدهم الغدر بالمسلمين، و نقضوه بقوله: سَتَجِدُونَ قوما آخَرِينَ من الكفّار الّذين يُرِيدُونَ بعهدهم أَنْ يَأْمَنُوكُمْ و يستريحوا من بأسكم بالعهد، أو بإظهار كلمة التّوحيد وَ يَأْمَنُوا أيضا قَوْمَهُمْ بإظهار الكفر عندهم.

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)قيل: هم قوم من بني أسد و غطفان، إذا أتوا المدينة أسلموا و عاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا و نكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم (5).

ص: 261


1- . في المصدر: أجمال.
2- . في المصدر: قومك.
3- . تفسير القمي 1:145، تفسير الصافي 1:444.
4- . تفسير القمي 1:281، تفسير الصافي 1:445، و في النسخة: سهل بن عمر.
5- . تفسير أبي السعود 2:214، تفسير روح البيان 2:258.

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في عيينة بن حصين (1)الفزاري، أجدبت بلادهم، فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له، و كان منافقا ملعونا، و هو الذي سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأحمق المطاع» (2).

كُلَّما رُدُّوا و دعوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ من الكفر و الفساد في الإسلام، و قتال المسلمين، نقضوا العهد، و أُرْكِسُوا و انقلبوا فِيها أقبح انقلاب، و دخلوا فيها أشنع دخول. و هو استعارة لشدّة كفرهم و عداوتهم للمسلمين؛ لأنّ من وقع في شيء منكوسا يتعذّر عليه الخروج.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عذرهم و نفاقهم، أذن في قتالهم بعد نقضهم العهد، بقوله: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ و لم يتنحّوا عن قتالكم، و لم يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ و لم يطلبوا منكم الصّلح، وَ لم يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم، فَخُذُوهُمْ كلّما قدرتم عليهم وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ و في أيّ مكان تمكّنتم منهم في حلّ أو حرم وَ أُولئِكُمْ الكافرون الغادرون جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ في قتلهم و أسرهم سُلْطاناً مُبِيناً و حجّة ظاهرة، من ظهور كفرهم، و عداوتهم، و غدرهم، و نقضهم العهد، و إضرارهم بالإسلام.

و قيل: إنّ المراد من السّلطان المبين: إذنه تعالى في قتلهم (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 92

ثمّ لمّا أذن اللّه في القتال، و كان معرضا لقتل مؤمن فيه خطا أو اشتباها، بيّن حكمه بقوله تعالى: وَ ما كانَ في زمان من أزمنة التّكليف جائزا لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً بغير حقّ، و ليس من شأنه ذلك في حال من الأحوال إِلاّ حال كونه خَطَأً و بغير القصد إليه.

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)و قيل: إنّ الاستثناء من لازم الحكم، و هو أنّه يعاقب عليه إلاّ إذا كان خطأ (4).

ص: 262


1- . في النسخة: عينية بن الحصين، تصحيف، انظر: اسد الغابة 4:166.
2- . تفسير القمي 1:147، مجمع البيان 3:136، تفسير الصافي 1:446.
3- . تفسير الرازي 10:226.
4- . تفسير الرازي 10:228.

و عن القمّي: يعني [لا عمدا]و لا خطأ (1).

عن الباقر عليه السّلام: «نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل لامّه، كان أسلم و قتل بعد إسلامه رجلا مسلما و هو لا يعلم بإسلامه، و كان المقتول الحارث بن يزيد بن أنسة (2)العامري، قتله بالحرّة بعد الهجرة، و كان أحد من ردّه عن الهجرة، و كان يعذّب عيّاشا مع أبي جهل» (3).

و روي عن عروة بن الزّبير أنّ حذيفة بن اليمان كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في احد، فأخطأ المسلمون و ظنّوا أن أباه اليمان واحد من الكفّار، فأخذوه و ضربوه بأسيافهم و حذيفة يقول: إنّه أبي، فلم يفهموا قوله إلاّ بعد أن قتلوه، فقال حذيفة: يغفر اللّه لكم، و هو أرحم الرّاحمين، فلمّا سمع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ذلك ازداد وقع حذيفة عنده. فنزلت الآية (4).

و قيل: إنّ الآية نزلت في أبي الدّرداء، ذلك أنّه كان في سريّة، فعدل إلى شعب لحاجة له، فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسّيف، فقال الرّجل: لا إله إلاّ اللّه، فقتله و ساق غنمه، ثمّ وجد في نفسه شيئا، فذكر الواقعة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هلاّ شققت عن قلبه» ، و ندم أبو الدّرداء. فنزلت الآية (5).

في كفّارة قتل

المؤمن خطأ

ثمّ بيّن اللّه حال الكفّارة و الدّية بقوله: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً صغيرا أو كبيرا خَطَأً و بغير قصد فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و عتق نسمة مُؤْمِنَةٍ واجب عليه، كفّارة للقتل.

عن الصادق عليه السّلام: «كلّ العتق يجوز فيه المولود، إلاّ كفّارة القتل، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ يعني بذلك: المقرّة و [قد]بلغت الحنث» (6).

عن الكاظم عليه السّلام، كيف تعرف المؤمنة؟ قال: «على الفطرة» (7).

وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ و مؤداة إِلى أَهْلِهِ واجبة عليه إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا عليه، و يعفوا عنها.

قيل: سمّي العفو عن الدّية صدقة حثّا عليه، و تنبيها على فضله. و في الحديث: «كلّ معروف صدقة» (8).

سئل الصادق عليه السّلام عن الخطأ الذي فيه الدّية و الكفّارة، هو الرّجل يضرب الرّجل و لا يتعمّد قتله؟

ص: 263


1- . تفسير القمي 1:147.
2- . في النسخة: الحارث بن يزيد أبو هنبشة، تصحيف، و هو الحارث بن يزيد بن أنسة، و قيل: أنيسة، راجع: اسد الغابة 1:353.
3- . مجمع البيان 3:138.
4- . تفسير الرازي 10:227.
5- . تفسير الرازي 10:227.
6- . تفسير العياشي 1:426/1063، الكافي 7:462/15، و المراد من بلوغها الحنث: أي بلوغها مبلغ الرجال و مبلغ التكليف الشرعي و المعصية و الطاعة. النهاية 1:449.
7- . تفسير العياشي 1:426/1064، تفسير الصافي 1:447.
8- . تفسير أبي السعود 2:215.

قال: «نعم» ، قيل: فإذا رمى شيئا فأصاب رجلا؟ قال: «ذلك الخطأ الذي لا شكّ فيه، و عليه الكفّارة و الدّية» (1).

فَإِنْ كانَ المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ كافرين عَدُوٍّ و محارب لَكُمْ لا عهد بينكم و بينهم وَ هُوَ مُؤْمِنٌ لم يعلم القاتل إيمانه، لكونه بين الكفّار، و في دار الحرب، و لم يهاجر إلى دار الإسلام فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .

عن الصادق عليه السّلام، في رجل مسلم [كان]في أرض الشّرك، فقتله المسلمون، ثمّ علم به الإمام بعد؟ فقال: «يعتق مكانه رقبة مؤمنة، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ الآية» (2).

و في رواية: «و ليس عليه الدّية» (3).

وَ إِنْ كانَ المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ كفرة، و لكن كان بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ و عهد أكيد فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ و مؤدّاة إِلى أَهْلِهِ و وارثه، واجبة على القاتل وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لازم عليه كفّارة لقتله؛ كما عن الصادق عليه السّلام (4).

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ و لم يملك الرّقبة، و لم يتمكّن من شرائها بما زاد عن نفقته و نفقة عياله فَصِيامُ شَهْرَيْنِ هلاليّين مُتَتابِعَيْنِ و متواليين بدلا عن العتق المأمور به، و إنّما شرّعت هذه الكفّارة لكونها تَوْبَةً مقبولة مِنَ اَللّهِ من التّقصير في المبالغة في الاحتياط وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بما في قلوبكم من العمد و عدمه حَكِيماً في ما أمركم به في موضوع قتل الخطأ.

عن الصادق عليه السّلام: «إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشّهر الأول، فإنّ عليه أن يعيد الصّيام، و إن صام الشّهر الأوّل و صام من الشّهر الثّاني شيئا، ثمّ عرض له ما له فيه العذر، فعليه أن يقضي» (5). يعني ما بقي عليه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 93

ثمّ بالغ سبحانه في التّهديد على قتل المؤمن متعمّدا، بقوله: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً حال كون القاتل مُتَعَمِّداً في قتله قاصدا له فَجَزاؤُهُ الذي يستحقّه بهذا القتل عند اللّه جَهَنَّمُ فيدخلها يوم القيامة حال كونه خالِداً و دائما فِيها حكم اللّه بذلك وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ أشدّ الغضب

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

ص: 264


1- . تفسير العياشي 1:428/1073، تفسير الصافي 1:447.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:110/373.
3- . تفسير العياشي 1:425/1061، تفسير الصافي 1:447.
4- . مجمع البيان 3:140.
5- . الكافي 4:139/7، تفسير الصافي 1:447.

وَ لَعَنَهُ و أبعده من رحمته وَ أَعَدَّ و هيّأ لَهُ في جهنّم عَذاباً عَظِيماً لا يقادر قدره.

في ذكر قصّة ارتداد

مقيس و لحوقه

بالمشركين

روي أنّ مقيس بن صبابة (1)الكناني، كان قد أسلم هو و أخوه هشام (2)، فوجد أخاه قتيلا في بني النجّار، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكر القصة، فأرسل صلّى اللّه عليه و آله معه الزبير بن العيا (3)الفهري؛ و كان من أصحاب بدر، إلى بني النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتصّ منه إن علموه، و بأداء الدّية إن لم يعلموا، فقالوا: سمعا و طاعة للّه و رسوله، لا نعلم له قاتلا، و لكنّا نؤدّي ديته، فأتوه بمائة من الإبل، فانصرفا راجعين إلى المدينة، حتّى إذا كانا ببعض الطريق أتى الشّيطان مقيسا فوسوس إليه فقال: أتقبل دية أخيك فيكون مسبّة (4)عليك، اقتل هذا الفهري الذي معك فتكون نفس مكان نفس، و تبقى الدّية فضيلة، فرماه بصخر فشدخ رأسه فقتله، ثمّ ركب بعيرا من الإبل و ساق بقيّتها إلى مكّة كافرا، و هو يقول:

قتلت به فهرا و حمّلت عقله *** سراة بني النّجّار أصحاب قارع (5)

و أدركت ثأري و اضطجعت موسّدا *** و كنت إلى الأوثان أول راجع

فنزلت الآية. و هو الذي استثناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة ممّن آمنه، فقتل و هو متعلّق بأستار الكعبة (6).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمّدا، أله التوبة؟ قال: «إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، و إن كان قتله لغضب أو لشيء من أشياء الدّنيا، فإنّ توبته أن يقاد منه، و إن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقرّ عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدّية، و اعتق نسمة، و صام شهرين متتابعين، و أطعم ستّين مسكينا توبة إلى اللّه عزّ و جلّ» (7).

و عنه عليه السّلام: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما [حراما]» .

و قال: «لا يوفّق قاتل المؤمن متعمّدا للتّوبة» (8).

ص: 265


1- . في تفسير أبي السعود: ضبابة.
2- . في النسخة: و ولده هشام، تصحيف صوابه من تفسير أبي السعود، و راجع: تاريخ الطبري 2:609، الكامل في التاريخ 2:250.
3- . كذا في النسخة، و في تفسير أبي السعود و روح البيان: الزبير بن عياض، و لم نجده في أصحاب بدر، و في مجمع البيان 3:141: قيس بن هلال، و راجع: بحار الأنوار 22:21.
4- . أي يكون عارا عليك و سببا للسّباب.
5- . في تاريخ الطبري 2:609(أصحاب فارع) و فارع: حصن لبني النجار.
6- . تفسير أبي السعود 2:216، تفسير القرطبي 5:333 مع أختلاف في كلمات الشعر.
7- . الكافي 7:276/2، تفسير الصافي 1:448.
8- . الكافي 7:272/7، تفسير الصافي 1:448.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 94

ثمّ أمر اللّه سبحانه المجاهدين بالتّثبّت في القتل، و الاكتفاء بظاهر الإسلام في الكفّ عنه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ و سافرتم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لجهاد الكفّار فَتَبَيَّنُوا و تثبّتوا و استكشفوا حال من تريدون قتله، و ميّزوا بين الكافر و المؤمن، حتّى لا تقتلوا مؤمنا بغير حقّ، و عليكم الاكتفاء بظاهر الحال في الإيمان وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ الذي هو تحيّة المسلمين و أمارة الإسلام، أو لمن ألقى إليكم الانقياد و التّسليم لَسْتَ مُؤْمِناً و إنّما أظهرت الإسلام طلبا للسّلامة و تحفّظا على نفسك، بل عاملوه بظاهر الحال، و لا تتّهموه بالكفر فتقتلوه حال كونكم بقتله تَبْتَغُونَ و تطلبون اغتنام أمواله التي تكون عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و متاع الدّار الفانية، و الحطام السّريع الزّوال، فإن أردتم الغنيمة فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ من أموال المشركين تغنيكم عن أموال المقتولين المظهرين للإسلام بتهمة الكفر و عدم كون إسلامهم عن صميم القلب، فإنّكم كَذلِكَ [كهؤلاء]

المظهرين للإسلام كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ و في بدو إسلامكم، لم تكن فيكم علامة قطعيّة على صدق إيمانكم، و تحقّق اليقين بالعقائد الحقّة في قلوبكم فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ بقبول إسلامكم الظّاهري، فحقن به دماءكم، و صان به أموالكم من غير توقيف على العلم بموافقة ما سمع من أفواهكم لما في قلوبكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالتّبيين (1)و التّثبّت في شأن من يريدون قتله، بقوله: فَتَبَيَّنُوا و لا تعجلوا في قتل أحد حتّى تحرزوا كفره، ثمّ بالغ في ذلك بوعد العقاب على ترك التّبيين، بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من التّبيين و عدمه و الطّاعة و العصيان، خَبِيراً و مطّلعا حقّ الاطّلاع، فيجازيكم عليه حقّ الجزاء.

في ذكر قتل اسامة

رجلا بطن

الكفر

روي أنّ مرداس بن نهيك-رجل من أهل فدك-أسلم و لم يسلم من قومه غيره، فذهبت سريّة الرّسول إلى قومه و أميرهم غالب بن فضالة، فهرب القوم و بقي مرداس لثقته بإسلامه، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول (2)من الجبل، فلمّا تلاحقوا و كبّروا كبّر و نزل و قال: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه السّلام عليكم، فقتله اسامة بن زيد

ص: 266


1- . كذا، و الظاهر أنّ الصواب التّبيّن، في المواضع الثلاثة.
2- . العاقول هنا: الأرض الوعرة، الكثيرة المعاطف.

و ساق غنمه، فأخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجد وجدا شديدا، و قال: «قتلتموه إرادة ما معه» ، ثمّ قرأ الآية على اسامة، فقال اسامة: يا رسول اللّه، استغفر لي، فقال: «و كيف و قد تلا: لا إله إلاّ اللّه؟ !» ، قال اسامة: فما زلت اعيدها حتّى وددت أنّى لم أكن أسلمت إلاّ يومئذ، ثمّ استغفر لي و قال: «أعتق رقبة» (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: نزلت لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة خيبر، و بعث اسامة بن زيد في خيل إلى بعض [قرى]اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، و كان رجل من اليهود يدعى مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلمّا أحسّ بخيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع أهله و ماله و صار في ناحية جبل، و أقبل يقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أن محمّدا رسول اللّه، فمرّ به اسامة بن زيد فطعنه و قتله، فلما رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبره بذلك، فقال [له]رسول اللّه: [قتلت رجلا شهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أني رسول اللّه؟ ! فقال: يا رسول اللّه، إنّما قال تعوّذا من القتل. فقال رسول اللّه]: فلا شققت الغطاء عن قلبه [و]لا ما قال بلسانه قبلت، و لا ما كان في نفسه علمت» ، فحلف اسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحدا قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، فتخلّف عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حروبه (2)، و أنزل اللّه في ذلك: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ (3).

و قيل: إنّ القاتل محلّم بن جثّامة، لقيه عامر بن الأضبط فحيّاه بتحيّة الإسلام، و كانت بين محلّم و بينه إحنة (4)في الجاهليّة، فرماه بسهم فقتله، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «لا غفر اللّه لك» ، فما مضت به سبعة أيام حتّى مات، فدفنوه، فلفظته الأرض ثلاث مرّات، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ الأرض تقبل من هو شرّ منه، و لكنّ اللّه أراد أن يريكم عظم الذّنب عنده» ، ثمّ أمر أن تلقى عليه الحجارة (5).

و قيل: إنّ المقداد بن الأسود [قد]وقعت له مثل واقعة اسامة، قال: فقلت: يا رسول اللّه، أ رأيت إن لقيت رجلا من الكفّار فقاتلني، فضرب إحدى يديّ بالسّيف، ثمّ لاذ بشجرة فقال: أسلمت للّه تعالى، أفأقتله يا رسول اللّه بعد ذلك؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تقتله» ، فقلت: يا رسول اللّه، إنّه قطع يدي؟

ص: 267


1- . تفسير الرازي 11:3.
2- . و تلك حجة داحضة، لأن أمير المؤمنين عليه السّلام يدور مع الحقّ حيثما دار بنصّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فضلا عن أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله قد أخبره بقتال الفئات الباغية من الناكثين و هم أصحاب الجمل، و القاسطين و هم أهل الشام، و المارقين و هم الخوارج، و قد نصّ الكتاب الكريم على قتال أهل البغي بقوله: فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي . [الحجرات: 49/9]و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد قال لعمار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية» فقتله أصحاب معاوية في صفين. و كان أمير المؤمنين عليه السّلام راية الهدى التي ميزت رجالات الامّة، فبعضهم نصر الحق فكانوا شهداء و صديقين، و بعضهم نصر الباطل و قاتل الإمام عليه السّلام و ناصبه العداء فكانوا ناكثين و قاسطين و مارقين، و بعضهم وقف على التلّ فكانوا مذبذبين، لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء.
3- . تفسير القمي 1:148، تفسير الصافي 1:449.
4- . الإحنة: الحقد و الضّغن.
5- . تفسير الرازي 11:3.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك بعد أن تقتله، و أنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» (1).

أقول: لا منافاة بين الرّوايات، لجواز نزولها عند وقوع جميعها، فكان كلّ منهم زعم أنّها نزلت في واقعته.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 95 الی 96

ثمّ أنّه تعالى-بعد ما بين حكم قتل المؤمن في الجهاد خطأ، و حكم وجوب التّبيين (2)، و وجوب الاكتفاء في إحراز الإيمان بالظّاهر-بيّن أنّ الجهاد من الواجبات الكفائيّة، فيجوز القعود عنه مع قيام من به الكفاية، و لكن غاية الفضل و الثّواب للقائمين به بقوله: لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ و المتخلّفون عن الجهاد، حال كونهم مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و كونهم غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ من مرض، أو عمى، أو عرج، أو غيرها من الأعذار وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ في القرب عند اللّه، و الأجر في الآخرة و فيه إشعار بجواز القعود عن الجهاد، إذا كان القائمون به كافين له، و التّرغيب في القيام به. روي أنّها نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة، و مرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، و هلال بن اميّة من بني واقف، تخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم تبوك (3).

لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)و روي عن زيد بن ثابت أنّه قال: كنت إلى جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فغشيته السّكينة، فوقعت فخذه على فخذي حتّى خشيت أن ترضّها، ثمّ سرّي عنه، و ازيل عنه ما عرض له من شدّة الوحي، فقال: «اكتب» فكتبت لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و المجاهدون» ، فقال ابن [امّ]مكتوم (4)و كان

ص: 268


1- . تفسير الرازي 11:3.
2- . كذا، و الظاهر أن الصحيح: التبيّن.
3- . مجمع البيان 3:147، تفسير الصافي 1:449.
4- . و هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصمّ القرشي العامري، و ام مكتوم امّه، و اسمها عاتكة بنت عبد اللّه، و هو خال امّ المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السّلام، فإن امّها فاطمة بنت زائدة بن الأصم، و قد اختلف في اسمه فقيل: عبد اللّه، و الأكثر عمرو، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يستخلفه على المدينة ليصلي بالنّاس، و كان ضرير البصر، شهد القادسية و هو أعمى، و قتل فيها سنة 23 ه. اسد الغابة 4:127، الأعلام للزركلي 5:83.

أعمى: يا رسول اللّه، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فغشيته السّكينة كذلك، ثمّ سرّي عنه فقال: «اكتب» : لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ. . . ، قال زيد: أنزلها اللّه وحدها فألحقتها (1).

أقول: فيه دلالة على أنّ اولي الضّرر مساو للمجاهدين.

ثمّ لم يكتف سبحانه في ترغيب المجاهدين بذكر عدم مساواتهم للقاعدين، بل صرّح بتفضيلهم على القاعدين بقوله: فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ الأصحّاء دَرَجَةً عظيمة من الأجر.

ثمّ أكّد جواز القعود عند قيام من به الكفاية بقوله: وَ كُلاًّ من القاعدين و المجاهدين وَعَدَ اَللّهُ بفضله العاقبة أو المثوبة اَلْحُسْنى لحسن عقيدتهم، و خلوص نيّتهم، و حضورهم لطاعة ربّهم، و إنّما التّفاوت بزيادة العمل الموجبة لزيادة الثّواب.

ثمّ أكّد فضيلة المجاهدين بقوله: وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ الأصحّاء أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا.

ثمّ فضّل اللّه الأجر العظيم و الدّرجة المبهمة بقوله: دَرَجاتٍ رفيعة في الجنّة كائنة مِنْهُ تعالى قيل: عددها سبعون، ما بين كلّ درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا، و قيل: سبعمائة.

و روي أنّ في الجنّة مائة درجة أعدّها اللّه للمجاهدين في سبيله، ما بين الدّرجتين كما بين السّماء و الأرض (2).

أقول: يمكن أن يكون الاختلاف لاختلاف المجاهدين في الإيمان، و خلوص النّيّة.

وَ مَغْفِرَةً لما يصدر منهم من الزّلاّت و الخطايا في مدّة أعمارهم وَ رَحْمَةً عظيمة من اللّه لا توصف ببيان.

ثمّ قرّر المغفرة و الرّحمة بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً للعاصين رَحِيماً بالمؤمنين، و أفضلهم المجاهدون.

في إثبات أفضلية

أمير المؤمنين عليه السّلام

و ردّ الفخر القائل

بأفضلية أبي بكر

منه

ثمّ اعلم أنّ في الآية دلالة واضحة على أنّ المجاهد من حيث المجاهدة أفضل من القاعد عنها، و إن كان القاعد من جهة الكمالات الاخر المعنويّة قد يكون أفضل، و على هذا يجب الحكم بأفضليّة المجاهد على القاعد، حتّى يثبت للقاعد جهة فضيلة مكافئة لفضيلة المجاهدة، أو راجحة عليها، و قد ثبتت الجهة الرّاجحة لرسول

ص: 269


1- . تفسير روح البيان 2:265.
2- . تفسير روح البيان 2:266.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوضوح أنّ الكمال الذي أوجب استحقاق منصب الرّسالة كمال لا يكافئه شيء. و لذا لا يمكن أن يقال بأفضليّة المجاهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إن كان من القاعدين، و وجب القول بأفضليّة المجاهد على غيره صلّى اللّه عليه و آله.

إذا تمهّد ذلك فنقول: لا شبهة أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان أفضل المجاهدين، فيجب أن يحكم بأنّه أفضل من أبي بكر و أضرابه من القاعدين، كما استدلّ أصحابنا رضوان اللّه عليهم بهذه الآية عليها. و اعتراض الفخر الرازي عليه بلزوم أفضليّة أمير المؤمنين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الخرفات التي لا ينبغي صدورها من ذي مسكة لما ذكرنا.

و أمّا قوله: إنّ أبي بكر كان مجاهدا في سبيل اللّه، فغير ثابت، إن لم يثبت كونه من الفارّين من الجهاد في احد (1).

و أمّا كونه مجاهدا بدعوة النّاس إلى الإسلام، و لذا أسلم بدعوته جمع من الصّحابة، كما قال المعترض، فغير معلوم أيضا، لعدم دلالة دليل قاطع عليه، و على تقدير ثبوته لم تكن دعوته أكثر من دعوة عليّ عليه السّلام، و قد ثبت بالرّوايات المسلّمة بين الخاصّة و العامّة أنّه المراد من قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ (2). و ليت شعري من أين علم هذا الرّجل المتعصّب مبالغة أبي بكر في إسلام سائر النّاس!

و قوله بأنّه أسلم بدعوته عدّة قليلة من الصّحابة، على تقدير تسليمه، لا يدلّ على مبالغته في الدّعوة، و ادّعائه أنّه صرف ماله و نفسه في الذّبّ عن النبيّ، فدعوى بلا برهان، مع ثبوت بخله بصدقة

ص: 270


1- . لقد اتفقت كتب السيرة و التاريخ أنه لم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد عند هزيمة الناس إلاّ أمير المؤمنين عليه السّلام و أبو دجانة، و سهل بن حنيف، و قيل: عبد اللّه بن مسعود، و كان لأمير المؤمنين عليه السّلام الفضل في ردّ الكتائب و قتل أصحاب الألوية من المشركين، و من ثم في ثبات من ثبت من المسلمين، فنادت الملائكة بفضله: (لا سيف إلاّ ذو الفقار، و لا فتى إلاّ علي) و تباهوا بعظيم منزلته في مواساة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (راجع: تاريخ الطبري 2:514، و مجمع الزوائد 6:114، و شرح بن أبي الحديد 13:261 و 14:250) . قال ابن عباس: لعلي عليه السّلام أربع خصال ليست لأحد. . . و عدّ منها صبره مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فرّ النّاس عنه في احد (راجع مستدرك الحاكم 3:111، الاستيعاب 3:27، شرح ابن أبي الحديد 4:116) . و في حنين لم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غير تسعة نفر من بني هاشم، و كان على رأسهم أمير المؤمنين عليه السّلام، و عاشرهم أيمن بن أم أيمن الذي استشهد فيها. و في خيبر بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر بالراية إلى خيبر فانهزم و لم يكن فتح، و بعث بعده عمر فرجع يجبّن أصحابه و يجبّنونه (تاريخ الطبري 3:12، مستدرك الحاكم 3:37) فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، كرارا غير فرار» فأعطاها أمير المؤمنين عليه السّلام و كان الفتح على يديه (راجع: البداية و النهاية 7:349، و أسد الغابة 4:21، و حلية الأولياء 1:62) . و أخرج البخاري حديث الراية في الصحيح ج 5 ص 87، كتاب المناقب-باب مناقب علي عليه السّلام حديث 197 و ص 279 من نفس الجزء-كتاب المغازي-باب غزوة خيبر. و أخرجه مسلم في الصحيح 4:1871، كتاب فضائل الصحابة-باب فضائل علي عليه السّلام.
2- . هود:11/17.

درهم قدّام نجوى الرّسول (1)، و غاية خوفه على نفسه في الغار، و أمير المؤمنين عليه السّلام نائم في فراش الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و كيف أنّه كان يقيم الدّلائل و البيّنات على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يزيل الشّبهات و الضّلالات عن القلوب، مع جهله بعد مدّة مديدة من إسلامه بمعنى (الإبّ) في قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2)! و لو لا الإطناب المخلّ في عبارة هذا الرّجل لنقلتها حتّى يعلم أنّ العصبيّة كيف أعمته حتّى قال بأفضليّة أبي بكر من أمير المؤمنين عليه السّلام، مع كون بطلانها أظهر من الشّمس في رائعة (3)النّهار.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 97

ثمّ أنّه تعالى بعد إيجاب الهجرة بقوله: حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ، و حكمه بقتل من لم يهاجر بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ (4)و بيان أحكام القتال، شرع في تهديد غير المهاجرين بعذاب الآخرة بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ و تقبض أرواحهم اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون على قبض الأرواح، حال كونهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك الهجرة، و تعلّم أحكام الإسلام و العمل بها، و القيام بالجهاد، و بالرّضا بمجاورة المشركين.

إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (97)قالُوا سألت الملائكة المتوفّين (5)تقريرا لهم: إنكم فِيمَ و في أيّ حال كُنْتُمْ من امور دينكم؟ و لم تركتم الجهاد و العمل بأحكام الإسلام؟ قالُوا لهم اعتذارا عن تقصيرهم في القيام بالوظائف الدّينيّة: إنّا كُنّا بعد إسلامنا مُسْتَضْعَفِينَ مستذلّين عند المشركين، مقهورين لهم، عاجزين عن العمل بشرع محمد صلّى اللّه عليه و آله فِي هذه اَلْأَرْضِ التي تكون دار الشّرك و الكفر.

فردّ عليهم الملائكة و قالُوا في جوابهم تقريرا أيضا: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً و مملكته عريضة فَتُهاجِرُوا فِيها و تنتقلوا إلى قطر آخر من أقطارها يسكنه المسلمون، حتّى تتمكّنوا من إقامة دينكم، و العمل بوظائفكم، و لا يمنعكم المشركون عنها، كما فعله من هاجر إلى المدينة أو

ص: 271


1- . لما نزلت آية النجوى (المجادلة:58/12) لم يعمل بها أحد من الصحابة إلاّ أمير المؤمنين علي عليه السّلام، راجع: تفسير الطبري 28:14، سنن الترمذي 5:406/3300، الخصائص للنسائي: ح 146، مستدرك الحاكم 2:481.
2- . الدر المنثور 8:421، و الآية من سورة عبس:80/31.
3- . في الأصل: رابعة، تصحيف.
4- . النساء:4/89.
5- . في النسخة: المتوفون عنهم.

الحبشة، فأنتم بهوى أنفسكم مع قدرتكم على الهجرة، بقيتم في دار الشّرك و أرض الكفر.

فبعد إتمام الحجّة عليهم أو عدّهم بقوله: فَأُولئِكَ الّذين تعمّدوا في ترك الهجرة، و قصّروا في تعلّم الدّين و العمل بالأحكام مَأْواهُمْ و منزلتهم جَهَنَّمُ في الآخرة، كما كان مأواهم دار الشّرك في الدّنيا، و مصيرهم و منقلبهم النّار وَ ساءَتْ مَصِيراً و منقلبا لهم.

قيل: إنّ جمعا من المسلمين لم يهاجروا من مكّة إلى المدينة، ثمّ خرجوا مع المشركين إلى بدر فقتلوا فيها، فضربت الملائكة وجوههم و أدبارهم، و قالوا لهم ما قالوا (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هم قيس بن الفاكة بن المغيرة، و الحارث بن زمعة بن الأسود، و قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو العاص بن المنبّه بن الحجاج، و عليّ بن امية بن خلف» (2).

و عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في من اعتزل أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقاتلوا معه، فقالت الملائكة لهم عند الموت: فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض، أي لم نعلم مع من الحقّ، فقال اللّه: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أي دين اللّه و كتابه واسع، فتنظروا فيه (3).

أقول: هذه الرّواية تأويل، و السّابقة تنزيل.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، و إن كان شبرا من الأرض، وجبت له الجنّة» (4).

و في (نهج البلاغة) ، قال: «لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها اذنه، و وعاها قلبه» (5).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن الضّعفاء؟ فكتب: «المستضعف من لم ترفع [إليه]حجّة، و لم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف» (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 98

ثمّ استثنى اللّه تعالى من الوعيد غير القادرين على الهجرة بقوله: إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ و المقهورين في أيدي الكفّار مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ الّذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً و لا يتمكّنون تدبيرا للخروج من بلد الكفر، و لا يملكون نفقة للسّفر، أو لا يقدرون على حركة للمرض وَ لا

إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)

ص: 272


1- . تفسير أبي السعود 2:223، تفسير روح البيان 2:269.
2- . مجمع البيان 3:150، تفسير الصافي 1:453.
3- . تفسير القمي 1:149، تفسير الصافي 1:453.
4- . تفسير أبي السعود 2:223، تفسير الصافي 1:454.
5- . نهج البلاغة:280/189، تفسير الصافي 1:453.
6- . الكافي 2:299/11، تفسير الصافي 1:454.

يَهْتَدُونَ سَبِيلاً و لا يعرفون طريقا.

في معنى المستضعف

روي أنّه بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه الآية إلى مسلمي مكّة، فقال جندب بن ضمرة (1)لبنيه: احملوني فإنّي لست من المستضعفين، و لا إنّي لا أهتدي الطّريق، و اللّه لا أبيت اللّيلة بمكّة، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، و كان شيخا كبيرا، فمات في الطريق (2).

قيل: إن الاستثناء منقطع، لعدم دخول المستضعفين في ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ (3).

و قيل: إنّ ضمّ الولدان إلى الرّجال و النّساء، مع عدم كونهم مكلّفين، للمبالغة في إيجاب الهجرة، أو للإشعار بأنّه يجب على أوليائهم أن يهاجروا بهم (4).

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن المستضعفين؟ فقال: «البلهاء في خدرها، و الخادمة تقول لها: صلّي فتصلّي، لا تدري إلاّ ما قلت لها، و الجليب الذي لا يدري إلاّ ما قلت له، و الكبير الفاني (5)، و الصغير» (6). قيل: الجليب: الذي يجلب من بلد إلى آخر (7).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل من هم؟ قال: «قال نساؤكم و أولاكم» ثمّ قال: «أ رأيت امّ أيمن؟ فإني أشهد أنّها من أهل الجنّة، و ما كانت تعرف ما أنتم عليه» (8).

و عنه عليه السّلام: «هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر، و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن و لا يكفر» قال: «الصّبيان، و من كان من الرّجال و النّساء على مثل عقول الصّبيان» (9).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 99

فَأُولئِكَ المستضعفون عَسَى اَللّهُ و يرجى منه أَنْ يَعْفُوَ و يصفح عَنْهُمْ و في التّعبير عن عدم استحقاقهم العقوبة بالعفو عنهم، إشارة إلى مبغوضيّة عدم الهجرة في نفسه، و إن كانوا معذورين فيه.

فَأُولئِكَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اَللّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)ثمّ قرّر سبحانه و تعالى العفو عنهم بقوله: وَ كانَ اَللّهُ عَفُوًّا و صفوحا عن المعاصي غَفُوراً و ستّارا للذّنوب.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 100

وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

ص: 273


1- . في النسخة: جندب بن مغيرة، تصحيف، انظر: اسد الغابة 1:303.
2- . تفسير الرازي 11:13.
3- . النساء:4/97.
4- . تفسير أبي السعود 2:223.
5- . زاد في تفسير العياشي: و الصبي.
6- . تفسير العياشي 1:435/1095، تفسير الصافي 1:454.
7- . تفسير الصافي 1:455.
8- . الكافي 2:298/6، تفسير الصافي 1:454.
9- . الكافي 2:297/3، تفسير الصافي 1:454.

ثمّ بالغ في التّرغيب إلى الهجرة بقوله: وَ مَنْ يُهاجِرْ من دار الشّرك إلى دار الإسلام فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لطلب مرضاته، و حفظ دينه يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً و منازل كثيرة النّعمة و الرّاحة، بحيث يوجب رغم أنف الأعداء، و يكون كَثِيراً يظفر بها بسهولة وَ يجد سَعَةً في الرّزق و إظهار الدّين.

و لمّا كان مجال توهّم أنّ فائدة الهجرة فيما إذا بلغ المقصد، دون ما إذا مات في الطريق، كجندب بن ضمرة (1)، دفعه اللّه بقوله: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ حال كونه مُهاجِراً و مفارقا وطنه و عشيرته، متوجّها إِلَى طاعة اَللّهِ وحده، وَ خدمة رَسُولِهِ أو بلد يتمكّن فيه من القيام بوظائف دينه ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ في الطّريق فَقَدْ وَقَعَ و ثبت أَجْرُهُ و ثوابه عَلَى اَللّهِ .

ثمّ قرّر الوعد بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً لما سبق من التّهاون في الهجرة إلى أن خروجه رَحِيماً بإكمال ثواب هجرته.

في هجرة جندب

بن ضمرة من مكة

روي أنّ جندب بن ضمرة لمّا أشرف على الموت في التّنعيم (2)، أخذ يصفق بيمينه على شماله، ثمّ قال: اللّهمّ هذه لك، و هذه لرسولك، ابايعك على ما بايعك عليه رسولك. فمات حميدا، فلمّا بلغ خبره أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالوا: لو توفّي في المدينة لكان أتمّ أجرا. و قال المشركون و هم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب، فأنزل اللّه هذه الآية (3). عن محمّد بن أبي عمير، قال: وجّه زرارة بن أعين ابنه عبيدا (4)إلى المدينة يستخبر خبر أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام، و عبد اللّه (5)، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد، قال ابن أبي عمير: حدّثني محمّد بن حكيم، قال: ذكرت لأبي الحسن عليه السّلام توجّه عبيد إلى المدينة فقال: «إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن

ص: 274


1- . تقدّم ذكره في تفسير الآية (98) من هذه السورة.
2- . التّنعيم: موضع على فرسخين من مكة و قيل: على أربعة.
3- . تفسير روح البيان 2:271.
4- . في النسخة: عبيد اللّه، في جميع المواضع، تصحيف، انظر: رجال الكشي:155/255.
5- . هو عبد اللّه بن جعفر، المعروف بالأفطح، و قد ادّعى الامامة بعد أبيه الصادق عليه السّلام، فهجرته الشيعة بعد أن امتحنوه فلم يروا فيه مواصفات الامامة كالعصمة و العلم و الدلائل و غيرها، و بعد أن تحققوا من النصّ على الامام موسى الكاظم عليه السّلام بعد أبيه الصادق عليه السّلام.

قال اللّه: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ الآية» (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 101

ثمّ لمّا كانت الهجرة مستلزمة للسّفر أو الخوف، بيّن اللّه حكم الصّلاة فيهما بقوله: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ و سافرتم فِي اَلْأَرْضِ للهجرة أو لغيرها من الأغراض المحلّلة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و حرج في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ بتنصيف رباعيّاتها، و ترك نوافل ما قصر منها، و كذا إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و يلقوكم بالمكروه، فلا جناح عليكم في التّقصير في الصّلاة.

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)و إنّما عبّر سبحانه عن وجوب التّقصير بنفي الجناح، لدفع توهّم النّاس فيه، حيث إنّ الأذهان كانت مألوفة بالإتمام، كما عبّر عن وجوب السّعي (2)به لذلك.

و إنّما ذكرنا (و كذا إن خفتم) (3)لثبوت كون كلّ من السّفر و الخوف علّة مستقلّة لوجوب التّقصير، و عدم اشتراط علّيّة كلّ [منهما]بوجود الآخر.

و قيل: إنّ اشتراط القصر في السّفر بالخوف مبنيّ على الغالب من أسفار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، حيث لم يكن في الغالب خاليا عن الخوف، فلا مفهوم للشّرط هنا.

و الحقّ أنّ ظاهر الآية تعليق القصر على وجود الخوف الدّالّ على انتفائه عند انتفائه، إلاّ أنّه ثبت بالنّصّ و الفتوى عدم إرادة التّعليق، و كون كلّ من السّفر و الخوف سببا مستقلاّ له (4).

في صلاة السفر

عن زرارة، و محمّد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول في الصّلاة في السّفر، كيف هي، و كم هي؟ فقال: «إنّ اللّه يقول: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ فصار التّقصير (5)واجبا كوجوب التّمام في الحضر» .

قالا: قلنا له: قال اللّه تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ، و لم يقل (افعلوا) ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التّمام في الحضر؟ فقال عليه السّلام: «أو ليس [قد]قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (6)، ألا ترون أنّ الطّواف بهما واجب

ص: 275


1- . تفسير العياشي 1:435/1097، تفسير الصافي 1:455.
2- . كذا، و الصواب: وجوب الطواف، و ذلك في الآية (158) من سورة البقرة، راجع: تفسير أبي السعود 2:225، و تفسير روح البيان 2:273، و الحديث الآتي لاحقا عن أبي جعفر عليه السّلام.
3- . هذه إشارة إلى عبارة المصنف المتقدمة آنفا في تفسير الآية.
4- . راجع كنز العرفان 1:185/2.
5- . زاد في تفسير العياشي: في السفر.
6- . البقرة:2/158.

مفروض، لأنّ اللّه عزّ و جلّ ذكره في كتابه، و صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كذلك التّقصير في السّفر شيء صنعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذكره اللّه في كتابه» .

قالا: قلنا له: فمن صلّى في السّفر أربعا، أ يعيد أم لا؟ قال: «إن كان [قد]قرئت عليه آية التّقصير و فسّرت له و صلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه، و لم يعلمها فلا إعادة عليه، و الصّلاة كلّها في السّفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة، إلاّ المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير، و تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السّفر و الحضر ثلاث ركعات» (1).

و زاد في (الفقيه) : «و قد سافر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ذي خشب، و هي مسيرة يوم من المدينة، يكون إليها بريدان، أربعة و عشرون ميلا، فقصّر و أفطر، فصار سنّة، و قد سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوما صاموا حين أفطر العصاة، قال: فهم العصاة إلى يوم القيامة، و إنّا لنعرف أبناءهم و أبناء أبنائهم إلى يوم القيامة» (2).

و عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، [قال: قلت له:]صلاة الخوف و صلاة السّفر تقصران جميعا؟ قال: «نعم، و صلاة الخوف أحقّ أن تقصر من صلاة السّفر؛ لأنّ فيها خوفا» (3).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في صلاة الخوف، فقال: «هذا تقصير ثان، و هو أن يردّ الرّجل الرّكعتين إلى الرّكعة» (4).

و في رواية: قال في الرّكعتين: «تنقص منهما واحدة» (5).

و قال بعض: إنّ ردّ الرّكعتين إلى ركعة يراد به ردّ الأربع إلى ركعتين (6).

و عن الرضا عليه السّلام، في رواية: «التّقصير في ثمانية فراسخ و ما زاد، و إذا قصّرت أفطرت» (7).

و عن زرارة: قد سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التّقصير، فقال: «بريد ذاهب و بريد جائي-إلى أن قال: - إنّما فعل ذلك لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين، ثمانية فراسخ» (8).

في صلاة الخوف

ثمّ بيّن سبحانه الموقعيّة للخوف من الكفّار، بقوله: إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ من سابق الزّمان و قديم الأيام عَدُوًّا مُبِيناً و خصما ظاهرا، و الآن زادت عداوتهم فينتهزون الفرصة عليكم، فلذا أمركم اللّه بتخفيف الصّلاة، لتكونوا منهم على حذر.

ص: 276


1- . تفسير العياشي 1:436/1098، تفسير الصافي 1:455.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:278/1266، و فيه: إلى يومنا هذا.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:294/1342.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:295/1343.
5- . الكافي 3:458/4، تفسير الصافي 1:456.
6- . وسائل الشيعة 8:434/ذيل الحديث 4.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:123/1.
8- . من لا يحضره الفقيه 1:287/1304، عن الباقر عليه السّلام.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 102

ثمّ بيّن اللّه سبحانه كيفيّة صلاة الخوف بقوله: وَ إِذا كُنْتَ مع المؤمنين و مقيما فِيهِمْ فأرادوا أن تصلّي بهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ جماعة، و كان العدوّ في مقابلكم، فاجعل أصحابك طائفتين، فإذا شرعت في الصّلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ خلفك يصلّون مَعَكَ و الطّائفة الاخرى يحرسونكم من العدوّ وَ المصلّون لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ و يستصحبوا آلات دفاعهم فَإِذا سَجَدُوا معك قاموا و انفردوا، و صلّوا ركعة اخرى و سلّموا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ و وقفوا تجاه العدوّ لحراستكم وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى الّذين كانوا بإزاء العدوّ و لَمْ يُصَلُّوا بعد فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ جماعة، وَ لكن لْيَأْخُذُوا ألبتّة حِذْرَهُمْ و ليراعوا غاية تيقّظهم من العدوّ، وَ كذا أَسْلِحَتَهُمْ و آلات حربهم.

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)ثمّ علّل إيجاب أخذ الحذر و السّلاح بقوله: وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و تمنّوا أنّكم لَوْ تَغْفُلُونَ و تبعدون عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ أن ينالوا منكم غرّة في صلاتكم فَيَمِيلُونَ حينئذ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً و يحملون عليكم حملة شديدة.

و إنّما اقتصر سبحانه في الطّائفة الاولى بإيجاب أخذ الأسلحة، و ضمّ في الطّائفة الثّانية إليه أخذ الحذر؛ لأنّ الكفّار لا يلتفتون غالبا في أوّل الصّلاة إلى أن المسلمين مشغولون بها، فلا يحتاجون إلى شدّة الاحتراز عنهم، بخلاف الرّكعة الثّانية فإنّهم بعد الرّكوع و السّجود يعلمون بكونهم في الصّلاة، فلا بدّ من شدّة التّحذّر و التّيقّظ.

ثمّ رخّص سبحانه في وضع الأسلحة إذا كان في أخذها حرج، بقوله: وَ لا جُناحَ و لا بأس عَلَيْكُمْ أيّها المصلّون الخائفون من العدوّ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً و كلفة في أخذ الأسلحة لثقلها الحاصل مِنْ بلل مَطَرٍ شديد أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى و ضعفتم عن حملها في أَنْ تَضَعُوا عنكم أَسْلِحَتِكُمْ في حال الصّلاة-و يلحق بالحالتين كلّ حالة يكون في حملها مشقّة- وَ لكن خُذُوا في تلك الحالة حِذْرَكُمْ و الزموا تيقّظكم لمكرهم، أشدّ التيقّظ كيلا يهجم

ص: 277

عليكم العدوّ و أنتم في الصّلاة.

ثمّ لمّا كان في إيجاب الحذر مجال توهّم القوّة و الشّوكة للكفّار، دفعه اللّه تعالى بقوله: إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ و هيّأ لِلْكافِرِينَ عَذاباً من القتل و الأسر و الخزي في الدنيا، و من النّار في الآخرة، و يكون ذلك العذاب مُهِيناً و مذلاّ لهم لتكبّرهم عن الانقياد للّه و طاعة الرّسول. و فيه بشارة للمؤمنين بنصرتهم، و خذلان الكفّار على أيّ حال.

في كيفية صلاة

الخوف و أنواعها

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الحديبية يريد مكّة، فلمّا وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس يستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكان يعارض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1)على الجبال، فكان في بعض الطّريق و حضرت صلاة الظّهر فأذّن بلال و صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالنّاس، فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم و هم في الصّلاة أصبناهم، فإنّهم لا يقطعون الصّلاة، و لكن يجيء لهم الآن صلاة اخرى هي أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم، فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية، ففرق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فرقتين؛ فوقف بعضهم تجاه العدوّ و قد أخذوا سلاحهم، و فرقة صلّوا مع رسول اللّه قياما (2)، و مرّوا فوقفوا مواقف أصحابهم، و جاء اولئك الّذين لم يصلّوا فصلّى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الرّكعة الثانية و لهم الاولى، و قعد رسول اللّه، و قام أصحابه فصلّوا هم الرّكعة الثانية، و سلّم عليهم (3).

و عن الصادق عليه السّلام (4): «أنّها نزلت في غزوة ذات الرّقاع صلاة الخوف، ففرّق أصحابه فرقتين؛ أقام فرقة بإزاء العدوّ، و فرقة خلفه، فكبّر و كبّروا، و قرأ و أنصتوا، و ركع و ركعوا، و سجد و سجدوا، ثمّ استمرّ (5)رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائما، و صلّوا لأنفسهم ركعة، ثمّ سلّم بعضهم على بعض، ثمّ خرجوا إلى أصحابهم و قاموا بإزاء العدوّ، و جاء أصحابهم فقاموا خلف رسول اللّه، فصلّى بهم ركعة، ثمّ تشهّد و سلّم عليهم، فقاموا و صلّوا لأنفسهم ركعة، ثمّ سلّم بعضهم على بعض» (6).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن صلاة الخوف، قال: «يقوم الإمام و تجيء طائفة من أصحابه فيقومون خلفه، و تقوم طائفة بإزاء العدوّ، فيصلّي بهم الإمام ركعة ثمّ يقوم و يقومون [معه]فيمثل قائما، و يصلّون هم الرّكعة الثّانية، ثمّ يسلّم بعضهم على بعض، ثمّ ينصرفون فيقومون في مقام أصحابهم، و يجيء الآخرون فيقومون خلف الإمام، فيصلّي بهم الرّكعة الثّانية، ثمّ يجلس الإمام، فيقومون هم فيصلّون

ص: 278


1- . (فكان. . . رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) ليس في المصدر.
2- . في النسخة: قائما.
3- . تفسير القمي 1:150، تفسير الصافي 1:457.
4- . في النسخة: ابن عباس رضى اللّه عنه.
5- . في الكافي: استتم.
6- . الكافي 3:456/2، تفسير الصافي 1:457.

ركعة اخرى، ثمّ يسلّم عليهم و يتفرّقون بتسليمه» .

قال: «و في المغرب مثل ذلك، يقوم الإمام و تجيء طائفة فيقومون خلفه، ثمّ يصلّي بهم ركعة، ثمّ يقوم و يقومون، فيمثل الإمام قائما، فيصلّون ركعتين فيتشهّدون، و يسلّم بعضهم على بعض، ثمّ ينصرفون فيقومون في موقف أصحابهم، و يجيء الآخرون و يقومون موقف أصحابهم (1)خلف الإمام، فيصلّي بهم ركعة يقرأ فيها، ثمّ يجلس فيتشهّد، ثمّ يقوم و يقومون معه و يصلّي بهم ركعة اخرى ثمّ يجلس، و يقومون هم فيتمّون ركعة اخرى، ثمّ يسلّم عليهم» (2).

أقول: حال الخوف إن كان بحيث لا يمكن معه الاستقرار و إيقاع الأفعال، كحال المسايفة (3)و المعانقة صلّى النّاس فرادى بحسب إمكانهم، فإنّ الصّلاة لا تترك بحال، فيقصّر في الصّلاة حينئذ كميّة و كيفيّة.

ثمّ اعلم أنّه قد ذكر بعض الأصحاب في كيفية صلاة الخوف ثلاثة أنواع: الأوّل: صلاة بطن النّخل (4).

و هي أن يكون العدوّ في جهة القبلة، فيفرّق الإمام أصحابه فرقتين؛ يصلّي بأحدهما ركعتين و يسلّم بهم، و الثانيّة تحرسهم، ثمّ يصلّي بالثّانية ركعتين نافلة و معادة له و فريضة لأصحابه، و هذه تصحّ مع الأمن أيضا.

و الثّاني: صلاة ذات الرّقاع (5).

و شرطها كون العدوّ في خلاف جهة القبلة، أو في جهتها، و لكن بينهم و بين المسلمين حائل يمنعهم من الرّؤية لو هجموا، و قوّة العدوّ بحيث يخاف هجومهم، و كثرة (6)المسلمين بحيث يمكن افتراقهم فرقتين يقاوم كلّ فرقة العدوّ، و عدم الاحتياج إلى زيادة التّفريق، فينحاز الإمام بطائفة إلى حيث لا يبلغهم سهام العدوّ، فيصلّي بهم ركعة، فإذا قام إلى الثّانية انفردوا واجبا و أتمّوا، و الطّائفة الاخرى تحرسهم، ثمّ تقوم الاولى مقام الثّانية، و تنحاز الثّانية إلى الإمام و هو ينتظرهم فيقتدون به في الثّانية، فإذا جلس الإمام للتّشهّد قاموا و أتمّوا و لحقوا به و سلّم بهم، و يطوّل الإمام القراءة في انتظار الثّانية، و التّشهّد (7)في انتظار فراغها.

ص: 279


1- . (موقف أصحابهم) ليس في الكافي.
2- . الكافي 1:455/1، تفسير الصافي 1:457.
3- . المسايفة: التضارب بالسيوف.
4- . بطن نخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة، و في النسخة: بطن النجل.
5- . ذات الرّقاع: اسم شجرة في موضع الغزوة سمّيت بها، و قيل: لأن أقدامهم نقبت من المشي فلفّوا عليها الخرق.
6- . في النسخة: كثر.
7- . أي و يطوّل الإمام التشهد في انتظار فراغ الفرقة الثانية.

و في المغرب يصلّي بالاولى ركعتين، و بالثّانية ركعة، أو بالعكس. و هذا النّوع هو مدلول الرّوايات السّابقة.

و الثالث: صلاة عسفان (1).

و هي أن يكون العدوّ في جهة القبلة، فيرتّبهم صفّين، و يحرم الإمام بهما جميعا و بركع بهم، و يسجد بالأوّل خاصّة، و يقف الثّاني للحراسة، فإذا قام الإمام بالأوّل سجد الثاني، ثمّ ينتقل كلّ من الصّفّين إلى مكان الآخر، فيركع الإمام بهما، ثمّ يسجد بالذي يليه (2)و يقوم الثّاني الذي كان أوّلا لحراستهم، فإذا جلس بهم سجدوا و سلّم بهم جميعا (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 103

ثمّ أمر اللّه النّاس بالتّوجّه إلى ذاته المقدّسة في قبال الكفّار، بقوله: فَإِذا قَضَيْتُمُ و أدّيتم اَلصَّلاةَ المفروضة كما أمركم اللّه فَاذْكُرُوا اَللّهَ و التجئوا إليه و اسألوه النصر في جميع الأحوال [سواء أ]

كنتم قِياماً في مقابل العدوّ وَ قُعُوداً للرّمي، أو غيره وَ نائمين عَلى جُنُوبِكُمْ من الجراح فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ و استقررتم في منازلكم و أوطانكم، أو في محلّ قصدتم المقام فيه عشرة أيّام، أو اطمأنّت قلوبكم من خوف العدوّ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ تماما كما كنتم تتمّونها قبل السّفر و الخوف.

فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)ثمّ لمّا ذكر صلاة السّفر و الخوف، أكّد وجوب الصّلاة في جميع الأحوال بقوله: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ في جميع الشّرائع و الملل و الأعصار عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ من اللّه تعالى كِتاباً مَوْقُوتاً و فرضا مؤقّتا، أو مقدّرا.

عن الباقر عليه السّلام: «يعني مفروضا، و ليس يعني وقت فوتها (4)، إذا جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها لم تكن صلاته مؤدّاة، و لو كان ذلك [كذلك]لهلك سليمان بن داود حين صلاّها لغير (5)وقتها، و لكن متى ما ذكرها صلاّها» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «مَوْقُوتاً أي ثابتا، و ليس إن عجلت قليلا أو أخّرت قليلا بالذي يضرّك ما لم

ص: 280


1- . عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة و مكة، و قيل: عسفان بين المسجدين، و هي من مكة على مرحلتين.
2- . في النسخة: بالذي بينه.
3- . كنز العرفان 1:189.
4- . في تفسير العياشي: وقتا وقّتها.
5- . في تفسير العياشي: بغير.
6- . تفسير العياشي 1:439/1103، تفسير الصافي 1:458.

تضيّع تلك الإضاعة، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» (1).

أقول: الظّاهر أنّ الرّوايتين ناظرتان إلى نفي التّوقيت بوقت الفضيلة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 104

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وجوب قتال الكفّار، و شدّة عداوتهم، و كيفيّة الصّلاة فيهم، أمر بالجدّ في قتالهم، و نهى عن التّهاون فيه بقوله: وَ لا تَهِنُوا و لا تضعفوا أيّها المؤمنون فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ الكافرين الّذين دونكم، و جدّوا في طلبهم، و اجتهدوا في قتالهم، و لا تخافوا من الآلام التي تصيبكم، فإنّكم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ من الجراحات التي تصيبكم في حربهم فَإِنَّهُمْ أيضا يَأْلَمُونَ من الجراحات التي تصيبهم منكم كَما تَأْلَمُونَ من الجراحات التي تصيبكم منهم، و هم مع ذلك لا يفترون عن قتالكم، و لا يتهاونون فيه، مع أنّكم و هم سواء في ما يوجب الخوف وَ أنتم تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ بجهادكم، و ما يصيبكم من الآلام و المشاقّ ما لا يَرْجُونَ من الثّواب و الأجر؛ لأنّكم تعتقدون بدين الإسلام و دار الجزاء، و تعلمون أنّ لكم بالجهاد درجات عظيمة عند اللّه في الآخرة، و المشركون لا يعتقدون بشيء من ذلك، فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر و دار الجزاء صابرين على قتالكم مجدّين فيه، فأنتم أولى بالجدّ و الصبر عليه منهم وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بصلاح دينكم و دنياكم حَكِيماً في ما يأمركم و ينهاكم، و في تدبير اموركم.

وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)عن القمّي رحمه اللّه: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع من وقعة احد و دخل المدينة، نزل [عليه]جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّ اللّه يأمرك أنّ تخرج في إثر القوم، و لا يخرج معك إلاّ من به جراحة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مناديا ينادي: يا معشر المهاجرين و الأنصار، من كانت به جراحة فليخرج، و من لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمّدون جراحاتهم و يداوونها، فأنزل اللّه على نبيّه وَ لا تَهِنُوا الآية (2).

و قيل: إنّها نزلت في بدر الصّغرى (3). و قد مضت كلتا القضيتين في سورة آل عمران.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 105 الی 106

إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

ص: 281


1- . الكافي 3:270/13، تفسير الصافي 1:458، و الآية من سورة مريم:19/59.
2- . تفسير القمي 1:124، تفسير الصافي 1:459.
3- . تفسير أبي السعود 2:228، تفسير روح البيان 2:277.

ثمّ أنّه تعالى بيّن-بعد الأمر بجهاد الكفّار-أنّهم و إن وجب قتالهم و قتلهم، و لكن لا يجوز خيانتهم، و لا الحكم عليهم بغير الحقّ لمن خانهم، بقوله: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ الذي هو دليل صدقك، لكونه مقرونا بِالْحَقِّ و شواهد الصّدق، و أنّه من اللّه لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ و في منازعاتهم بِما أَراكَ اَللّهُ من أحكامه، و بما عرّفك من الوحي، فاحكم به بينهم وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ و لأجلهم خَصِيماً و معارضا للبريئين و المحقّين

وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّهَ ممّا وقع في قلبك من الحكم للخائنين و مساعدتهم إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً لمن استغفره رَحِيماً بمن تاب إليه.

في قصة سرقة

بني ابيرق

روي أن أبا طعمة بن ابيرق سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النّعمان، و خبّأها عند رجل من اليهود، فأخذ الدّرع من منزل اليهودي، فقال: دفعها إليّ أبو طعمة، فجاء بنو ابيرق إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كلّموه أن يجادل عن صاحبهم و قالوا: إن لم تفعل ذلك (1)افتضح أبو طعمة، و برئ اليهودي، فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يفعل و أن يعاقب اليهودي، فنزلت (2). و عن القمّي رحمه اللّه: أن سبب نزولها أنّ قوما من الأنصار من بني ابيرق، و هم إخوة ثلاثة: طعمة (3)و مبشر و بشير كانوا منافقين، فنقبوا على عمّ قتادة بن النّعمان، و كان بدريّا، و أخرجوا طعاما كان أعدّه لعياله و سيفا و درعا، فشكا قتادة ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه، إنّ قوما نقبوا على عمّي، و أخذوا طعاما كان أعدّه لعياله، و درعا و سيفا، و هم أهل بيت سوء، و كان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له لبيد بن سهل.

فقال بنو ابيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيدا، فأخذ سيفه و خرج عليهم، فقال: يا بني ابيرق، أترمونني بالسّرق و أنتم أولى به منّي، و أنتم المنافقون، تهجون رسول اللّه و تنسبونه إلى قريش، لتبيّنن ذلك أو لأملئنّ سيفي منكم، فداروه و قالوا له: ارجع رحمك اللّه، فإنّك بريء من ذلك. فمشى بنو ابيرق إلى رجل من رهطهم، يقال له اسيد بن عروة، و كان منطيقا بليغا، فمشى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ قتادة بن النّعمان عمد إلى أهل بيت منّا أهل شرف و حسب و نسب، فرماهم بالسّرق، و أتاهم بما ليس فيهم. فاغتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك، و جاء قتادة إليه، فأقبل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: «عمدت إلى أهل بيت شرف و حسب و نسب فرميتهم بالسّرقة» ، فعاتبه عتابا شديدا.

فاغتمّ قتادة من ذلك، و رجع إلى عمّه و قال: ليتني متّ و لم اكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد كلّمني بما

ص: 282


1- . في جوامع الجامع: هلك و.
2- . جوامع الجامع:96.
3- . في المصدر و تفسير الصافي: بشر.

كرهته. فقال عمّه: اللّه المستعان، فأنزل اللّه في ذلك على نبيّه إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ الآيات (1).

أقول: لا بدّ لنا-على ما ثبت عندنا من عصمة الأنبياء عن الخطأ و الزّلل-من حمل هذه الرّوايات على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأى مصلحة دينه في إظهار موافقة المنافقين و مساعدتهم إلى أن تنزل الآيات، و يكون معذورا عندهم عن الموافقة بإعذار اللّه تعالى له، كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يصدّق كلّ ما كانوا يقولون، حتّى قالوا: إنّه اذن.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 107

ثمّ نهى اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن أن يحامي عن بني ابيرق و يجادل عنهم اليهودي أو قتادة (2)، بقوله: وَ لا تُجادِلْ و لا تخاصم اليهودي أو قتادة عَنِ المنافقين اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ بنفاقهم و خيانتهم في أموال المؤمنين إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوّاناً للنّاس في أموالهم، و من كان أَثِيماً و عصيّا، فلا تحبّهم.

وَ لا تُجادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوّاناً أَثِيماً (107)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 108

ثمّ وبّخ هؤلاء المنافقين السّارقين بقوله: يَسْتَخْفُونَ و يسترون مِنَ اَلنّاسِ كفرهم و سرقتهم، و يستحيون أن تظهر أعمالهم القبيحة وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ أن يسرقوا الأموال بعينه وَ هُوَ مَعَهُمْ في جميع الأحوال، و إِذْ يُبَيِّتُونَ و يرتّبون ما لا يَرْضى به اللّه مِنَ اَلْقَوْلِ من رمي اليهودي أو لبيد ابن سهل (3)، و الحلف على براءة أنفسهم، و أمثال ذلك.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ وَ كانَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)[عن]القمي: يعني: الفعل، فوقع القول على الفعل (4).

عن الباقر عليه السّلام، في قوله: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ، قال: «الأوّل و الثاني (5)، و أبو عبيدة بن الجرّاح» (6).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث: «و قد بيّن اللّه قصص المغيّرين بقوله: إِذْ يُبَيِّتُونَ

ص: 283


1- . تفسير القمي 1:150، تفسير الصافي 1:459.
2- . راجع تفسير الآيتين المتقدمتين.
3- . راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.
4- . تفسير القمي 1:151، تفسير الصافي 1:460.
5- . في تفسير العياشي: فلان و فلان و فلان.
6- . تفسير العياشي 1:441/1111.

ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ بعد فقد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ما يقيمون به أود باطلهم، حسب ما فعلته اليهود و النّصارى بعد فقد موسى و عيسى عليهما السّلام من تغيير التّوراة و الإنجيل، و تحريف الكلم عن مواضعه» (1).

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ من النّفاق و السّرقة و البهتان مُحِيطاً و مطّلعا، فيجازيهم أسوأ الجزاء.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 109

ثمّ عاتب اللّه المؤمنين الّذين كانوا يذبّون عن هؤلاء المنافقين بظنّ أنّهم من المسلمين، بقوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ المخطئون، هبوا أنّكم جادَلْتُمْ عَنْهُمْ و خاصمتم اليهودي أو قتادة، و حفظتم عرض بني ابيرق (2)فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و الدّار الفانية فَمَنْ يُجادِلُ اَللّهَ و يحامي عَنْهُمْ إذا حكم عليهم بالعذاب يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و في محضر عدله أَمْ مَنْ يَكُونُ في ذلك اليوم و تلك الحالة عَلَيْهِمْ وَكِيلاً و حافظا من بأس اللّه و عقوبته.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اَللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 110

ثمّ أنّه تعالى بعد التّهديد و الوعيد بالعذاب، دعاهم إلى التّوبة بقوله: وَ مَنْ يَعْمَلْ عملا سُوءاً من السّرقة و رمي الغير بها أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بارتكاب معصية اللّه، كالحلف به كذبا ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ و يتوب إليه يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً لمعاصيه رَحِيماً و متفضّلا عليه.

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 111

ثمّ رغّب سبحانه في التّوبة بقوله: وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً من الآثام، و يحصّل بكدّ يمينه و بسوء سريرته ذنبا من الذّنوب فَإِنَّما يَكْسِبُهُ و يطلبه بجدّه ضررا عَلى نَفْسِهِ لا يتعدّى ذلك الضّرر إلى غيره وَ كانَ اَللّهُ بما يكسبه من الإثم و ما يرتكبه من الذّنب عَلِيماً و في ما يفعله من المجازاة حَكِيماً لا يجاوز عن حدّ استحقاقه.

وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 112

وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112)

ص: 284


1- . الاحتجاج:249، تفسير الصافي 1:462.
2- . راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.

ثمّ بالغ سبحانه في التّرغيب إلى التّوبة بالمبالغة في عظمة خصوص المعصية التي ارتكبوها من السّرقة، و بهتان البريء، بقوله: وَ مَنْ يَكْسِبْ و يرتكب خَطِيئَةً قيل: هي الصّغيرة، أو ما يكون بغير عمد (1)، أَوْ يقترف إِثْماً كالسّرقة، أو غيرها من الكبائر ثُمَّ يَرْمِ بما يكسب و يقذف بِهِ من يكون بَرِيئاً منه فَقَدِ اِحْتَمَلَ على ظهره، بتبرئة نفسه منه، و تحميله على غيره البريء منه بُهْتاناً قبيحا، و تهمة عند موته عند العقلاء وَ إِثْماً مُبِيناً و ذنبا ظاهرا يلحقه أشدّ العقاب في الآخرة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 113

ثمّ منّ اللّه سبحانه على حبيبه بحفظه عن الخطأ في الحكم، و عصمته من زلل مساعدة الخائن، بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ و إنعامه الجزيل عَلَيْكَ بإعلامك، بتوسّط الوحي، بسوء ضمائر المنافقين، و سيّئات أعمالهم المخفيّة وَ رَحْمَتُهُ عليك بعصمتك من الزّلل، و حفظك من مكائد أهل الضّلال لَهَمَّتْ طائِفَةٌ و فرقة مِنْهُمْ قيل: هم بنو ظفر الذّابّون عن طعمة (2)أَنْ يُضِلُّوكَ عن الحكم بالحقّ بتلبيسهم الأمر عليك، وَ الحال أنّهم ما يُضِلُّونَ بسبب تعاونهم على الإثم و العدوان، و شهادتهم بالزّور و البهتان إِلاّ أَنْفُسَهُمْ عن الحقّ و طريق الجنّة، و إنّما يضرّون أنفسهم بالابتلاء بفضيحة الدّنيا، و عذاب الآخرة وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ قليل أو كثير؛ لأنّك معصوم بعصمة اللّه أبدا.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَ أَنْزَلَ اَللّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)وَ لذا أَنْزَلَ اَللّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ السّماويّ الذي هو أفضل الكتب وَ اَلْحِكْمَةَ التي هي أفضل المواهب، و الرّسالة التي هي أعلى المناصب، فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الحكم بغير الحقّ؟ وَ عَلَّمَكَ مع ذلك ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ بالأسباب العاديّة من العلوم الوفيرة، بحقائق الأشياء و خفيّات الأمور، فكيف لا يعلّمك حيل المنافقين و مكائدهم، و ما تقدر به على الاحتراز منها وَ كانَ من بدو خلقتك في عالم الأنوار و الأشباح و الأجسام فَضْلُ اَللّهِ و إنعامه عَلَيْكَ عَظِيماً لا يقادر قدره.

ص: 285


1- . تفسير أبي السعود 2:230.
2- . تفسير أبي السعود 2:231، و راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّ اناسا من رهط بشر (1)الأدنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نكلّمه في صاحبنا و نعذره، فإنّ صاحبنا بريء، فلمّا أنزل اللّه يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إلى قوله: وَكِيلاً (2)، أقبلت رهط بشر فقالت: يا بشر، استغفر اللّه و تب من الذّنب، فقال: و الذي أحلف به، ما سرقها إلاّ لبيد، فنزلت: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (3)، ثمّ إنّ بشرا كفر و لحق بمكّة، و أنزل اللّه في الّذين أعذروا بشرا و أتوا النبيّ ليعذره وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ الآية» (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 114

ثمّ لمّا كان المحامون عن بشر أو طعمة يتناجون في الدّفاع عنه، كما قال: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ (5)، ردع اللّه النّاس عن نجوى السّوء بقوله: لا خَيْرَ للنّاس في الآخرة، و لا فائدة فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ و إسرار بعضهم إلى بعض إِلاّ في نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ و إنفاق للمحتاجين، لوجه اللّه أَوْ فعل مَعْرُوفٍ و مستحسن عند الشّرع و العقل، كفعل الواجبات، و ترك المحرّمات أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ عند تشاجرهم و معاداتهم.

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)

في فضيلة إصلاح

ذات البين

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل أهل الجنّة دخولا أهل المعروف، و صنائع المعروف تقي مصارع السّوء» (6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ألا اخبركم بأفضل درجة من الصّلاة و الصّدقة؟» ، قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «إصلاح ذات البين» (7).

و عن أبي أيّوب الأنصاري: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له: «ألا أدلّك على صدقة خير لك من حمر النّعم؟» قال: بلى يا رسول اللّه. قال: «تصلح بين النّاس إذا تفاسدوا، و تقرّب بينهم إذا تباعدوا» (8).

و عن الصادق عليه السّلام: «الكلام ثلاثة: صدق، و كذب، و إصلاح بين النّاس-و فسّر الإصلاح-بأن تسمع من الرّجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه، فتلقاه فتقول: سمعت من فلان [قال]فيك من الخير: كذا و كذا،

ص: 286


1- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: بشير، و كذا ما بعدها، و راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.
2- . النساء:4/108 و 109.
3- . النساء:4/112.
4- . تفسير القمي 1:152، تفسير الصافي 1:461.
5- . النساء:4/108.
6- . تفسير روح البيان 2:284. (7 و 8) . تفسير روح البيان 2:284.

خلاف ما سمعت منه» (1).

و عنه، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاث يحسن فيهنّ الكذب: المكيدة في الحرب، و عدتك زوجتك، و الإصلاح بين النّاس» (2).

قيل: إنّ عمل الخير إمّا بإيصال النفع، أو بدفع الضّرر. و النّفع إمّا جسماني؛ و هو إعطاء المال، و هو الصّدقة، و إمّا روحاني؛ و هو تكميل الغير بالقوّة النّظريّة و العملية، و هو الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر. و دفع الضّرر؛ و هو الإصلاح بين النّاس. فالآية دالّة على مجامع الخير (3).

ثمّ رغّب سبحانه فيها بقوله: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور من الأمور اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ و طلبا لثوابه، لا رياء و لا سمعة فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ في الدّنيا و الآخرة أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا لا يوصف ببيان.

ثمّ أنّه روى بعض العامّة أنّ طعمة هرب إلى مكّة و ارتدّ، و ثقب حائطا هناك لأجل السّرقة، فسقط الحائط عليه فمات (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 115

و في رواية القمّي رحمه اللّه: ثمّ إنّ بشرا كفر و لحق [بمكة]

، و نزل فيه و هو بمكّة قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ (5)و يخالفه في اتّباع دينه، و أوامره و نواهيه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ و اتّضح بالمعجزات الباهرات و الآيات البيّنات اَلْهُدى و دين الحقّ وَ يَتَّبِعْ و يسلك سبيلا غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ و طريقا غير الطّريقة التي يستمرّون عليها من الاعتقاد بالتّوحيد، و رسالة نبيّه، و العمل بأحكامه نُوَلِّهِ و نجعله يلي و يقرب ما تَوَلّى و اعتمده من دون اللّه، و اختار لنفسه من الشّرك و الضّلال، و نوكله إلى ما توكّل عليه وَ نُصْلِهِ و ندخله جَهَنَّمَ و النّار الموقدة وَ ساءَتْ جهنّم من حيث كونها مَصِيراً و منقلبا للكافرين.

وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (115)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 116

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)

ص: 287


1- . الكافي 2:255/16، تفسير الصافي 1:462.
2- . الخصال:87/20، تفسير الصافي 1:462.
3- . تفسير الرازي 11:41.
4- . تفسير أبي السعود 2:229.
5- . تفسير القمي 1:152، تفسير الصافي 1:463، و فيهما: بشير، بدل بشر.

ثمّ أنّه تعالى أكّد الإعلان بعدم شمول مغفرته للمشركين تنبيها على سوء حال طعمة (1)، و تزهيدا للنّاس من الشّرك، بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ .

قيل: جاء شيخ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّي شيخ منهمك في الذّنوب، إلاّ أنّي لم اشرك باللّه شيئا منذ عرفته، و آمنت به و لم أتّخذ من دونه وليّا، و لم أواقع المعاصي جرأة عليه، و ما توهّمت طرفة عين أنّي اعجز اللّه هربا، و إنّي لنادم تائب (2)، فما ترى حالتي عند اللّه؟ فنزلت هذه الآية (3).

ثمّ علّل عدم قابليّة الشّرك للمغفرة بقوله: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ عن الحقّ، و الصّراط المستقيم ضَلالاً بَعِيداً حيث إنّ الشّرك أعظم أنواع الضّلال، و أبعدها من الصّواب.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 117 الی 118

ثمّ بيّن أنّ الشّرك غاية الضّلال؛ بقوله توبيخا للمشركين: إِنْ يَدْعُونَ و ما يعبدون مِنْ دُونِهِ و ممّا سوى اللّه إِلاّ إِناثاً .

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اَللّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)قيل: إنّما سمّى الأصنام إناثا؛ لأنّ العرب كانو يصوّرونها بصورة الإناث، و يلبسونها أنواع الحلل التي يتزيّن بها النّساء، و يسمّونها بأسماء المؤنّثات، نحو: اللاّت التي هي تأنيث اللّه، و العزّى التي هي تأنيث العزيز، و مناة (4).

و قيل: لم يكن حيّ من العرب إلاّ و لهم صنم يعبدونه، و يسمّونه انثى فلان (5).

و قيل: إنّ المراد من الإناث: الملائكة، حيث إنّهم كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه (6).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ عبادة الأوثان عين عبادة الشّيطان، بقوله: وَ إِنْ يَدْعُونَ و ما يعبدون إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً مبالغا في التّمرّد عن طاعة اللّه،

و لذا لَعَنَهُ اَللّهُ و أبعده من ساحة رحمته، و طرده عن سماواته.

ثمّ ذمّه بمعارضته له بقوله: وَ قالَ الشيطان بعد امتناعه عن السّجدة لآدم معارضة للّه، و عداوة لبني آدم: لَأَتَّخِذَنَّ يا ربّ مِنْ عِبادِكَ و إمائك نَصِيباً و حظّا وافرا مَفْرُوضاً و مقطوعا، أو مقدّرا لعبادتي و اتّباع خطواتي.

ص: 288


1- . راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.
2- . زاد في تفسير أبي السعود: مستغفر.
3- . تفسير أبي السعود 2:233.
4- . تفسير روح البيان 2:286. (5 و 6) . تفسير أبي السعود 2:233.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من كلّ ألف واحد للّه، و سائره لإبليس» (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 119

ثمّ بيّن سبحانه معنى اتّخاذه النّصيب بقوله: وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ عن صراط توحيدك و عبادتك.

وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ اَلْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)ثمّ لمّا ادّعى إضلاله النّاس ذكر حيلته فيه، بقوله: وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ و القين في قلوبهم الآمال الباطلة، من توهّم طول العمر و تزيين جمع الأموال الكثيرة، و الالتذاذ بها سنين متطاولة، و أمثال ذلك وَ لَآمُرَنَّهُمْ ببتك آذان الأنعام و قطعها فَلَيُبَتِّكُنَّ و ليقطّعنّ امتثالا لأمري آذانَ اَلْأَنْعامِ من الإبل و البقر و الغنم، نسكا في عبادة الأوثان، بظنّ أنّ ذلك نحو عبادة لها.

و قيل: إنّ المراد: قطع اذن البحيرة، فإنّ العرب إذا ولدت ناقة لهم خمسة أبطن، و كان الخامس ذكرا، يشقّون اذنها، و يحرّمون على أنفسهم الانتفاع بها (2).

عن الصادق عليه السّلام: «ليقطّعنّ الاذن (3)من أصلها» (4).

وَ لَآمُرَنَّهُمْ بالتّغيير فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ و فطرته التي فطر النّاس عليها، كذا قيل (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «يريد دين اللّه و أمره و نهيه» (6).

و عن عكرمة: هو هنا الإخصاء، و قطع الآذان، وفقء العيون (7).

قيل: كانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوّروا عين فحلها (8).

ثمّ ردع اللّه سبحانه عن عبادة الشّيطان و اتّباعه، بقوله: وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطانَ و يختاره لنفسه وَلِيًّا و محبّا، أو متبوعا في أفعاله مِنْ دُونِ اَللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً و تضرّر ضررا عظيما فاحشا، فإنّه يحرمه من النّعم الدّائمة، و يغرّه باللّذائذ الوهميّة الفانية، و يبدّل مكانه من الجنّة و القصور العالية الباقية بمستقرّ من الجحيم الحاطمة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 120

يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (120)

ص: 289


1- . مجمع البيان 3:173، تفسير الرازي 11:47، و في مجمع البيان: و سائرهم للنّار و لابليس، و في تفسير الرازي: و سائره للناس و لابليس.
2- . تفسير الرازي 11:48.
3- . في مجمع البيان: الآذان.
4- . مجمع البيان 3:173، تفسير الصافي 1:463.
5- . تفسير الرازي 11:48.
6- . مجمع البيان 3:173، تفسير الصافي 1:463، و كلمة (نهيه) ليست في مجمع البيان و تفسير الصافي. (7 و 8) . تفسير الرازي 11:49.

ثمّ نبّه سبحانه النّاس ببطلان امنياته، و كذب عداته، بقوله: يَعِدُهُمْ الشّيطان بوسوسته وَ يُمَنِّيهِمْ بالأماني الباطلة وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ وعدا إِلاّ كان غُرُوراً و كذبا مورثا لمن اعتراه الحسرة الأبديّة.

قيل: إنّ الغرور: إظهار النّفع في ما فيه الضّرر (1).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (2)صعد إبليس جبلا بمكّة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا، لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشّياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم و امنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة، [فإذا واقعوا الخطيئة]أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها. فوكّله بها إلى يوم القيامة» (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 121

ثمّ أوعد اللّه سبحانه أولياء الشّيطان بالعذاب الدّائم بقوله: أُولئِكَ الضّالّون المغرّرون مَأْواهُمْ و منزلهم في الآخرة جَهَنَّمُ حال كونهم خالدين فيها وَ لا يَجِدُونَ لأنفسهم مهربا عَنْها و لا مَحِيصاً و ملجأ.

أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 122

ثمّ أردف سبحانه الوعيد بوعد المؤمنين بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه، و رسالة رسوله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لوجه اللّه سَنُدْخِلُهُمْ في الآخرة جزاء على إيمانهم و عملهم الصّالح جَنّاتٍ ذات أشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً دائما.

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اَللّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ قِيلاً (122)ثمّ لمّا كذّب مواعيد الشّيطان أكّد سبحانه صدق مواعيد ذاته المقدّسة بقوله: وَعْدَ اَللّهِ، قيل: إنّ المعنى وعد اللّه وعدا، و حقّ ذلك حَقًّا ثمّ بالغ في التأكيد بقوله: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ قِيلاً و خبرا.

ص: 290


1- . تفسير أبي السعود 2:234.
2- . آل عمران:3/135.
3- . أمالي الصدوق:551/736، تفسير الصافي 1:464.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 123

ثمّ لمّا كان من تسويلات الشيطان تغرير الإنسان بكرم اللّه، و أنّ اللّه يعفو عن السّيّئات، و يدخل الجنّة بلا عمل، نبّه اللّه النّاس بأنّ الثّواب إنّما يكون بالإيمان و العمل، لا بالامنية، بقوله: لَيْسَ النّجاة من النّار، و الدّخول في الجنّة بِأَمانِيِّكُمْ و غروركم بأنّ اللّه لا يعذّبكم، بل يدخلكم الجنّة بفضله وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ حيث إنّهم يقولون: لا يعذّبنا اللّه إلاّ أيّاما معدودة، بل الثّواب و العقاب دائران مدار العمل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً و يرتكب ذنبا يُجْزَ بِهِ إمّا في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123)و قيل: إنّ المعنى: ليس الإيمان بالتّمنّي، و لكن ما وقر في القلب و صدّقه العمل (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: ليس ما تتمنّون أنتم و لا أهل الكتاب أن لا تعذّبون بأفعالكم (2).

في (العيون) : أنّ إسماعيل قال للصّادق عليه السّلام: [يا أبتاه]ما تقول في المذّنب منّا و من غيرنا؟ فقال عليه السّلام: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (3).

وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا و شفيعا وَ لا نَصِيراً و مدافعا يدفع عنه العذاب.

عن أبي هريرة: لمّا نزلت الآية بكينا و حزنّا و قلنا: يا رسول اللّه، ما أبقت هذه الآية من شيء، فقال: «أما و الذي نفسي بيده إنّها لكما نزلت، و لكن ابشروا و قاربوا و سدّدوا، إنّه لا يصيب أحدا منكم مصيبة إلاّ كفّر اللّه بها خطيئته، حتّى الشّوكة يشاكها أحدكم في قدمه» (4).

أقول: معنى قاربوا و سدّدوا: اقصدوا في اموركم، و اطلبوا بأعمالكم السّداد و الاستقامة، من غير غلوّ و لا تقصير.

عن الباقر عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال بعض: يا رسول اللّه، ما أشدّها من آية! فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أما تبتلون في أنفسكم و أموالكم و ذراريكم؟» . قالوا: بلى، قال: «هذا ممّا يكتب اللّه لكم [به]الحسنات، و يمحو به السّيّئات» (5).

و في (الكافي) : عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى إذا كان من أمره أن يكرم عبدا و له ذنب ابتلاه بالسّقم، فإن لم يفعل ذلك به ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل ذلك به شدّد عليه الموت، ليكافئه بذلك الذّنب» (6).

ص: 291


1- . تفسير روح البيان 2:290.
2- . تفسير القمي 1:153، تفسير الصافي 1:464.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:234/5، تفسير الصافي 1:464.
4- . مجمع البيان 3:176، تفسير الصافي 1:465.
5- . تفسير العياشي 1:445/1123، تفسير الصافي 1:465.
6- . الكافي 2:322/1، تفسير الصافي 1:465.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 124 الی 125

وَ مَنْ يَعْمَلْ بعضا مَنْ الأعمال اَلصّالِحاتِ فإنّ أحدا لا يقدر على كلّها، سواء كان العامل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه، و رسوله، و اليوم الآخر، فإنّه لا اعتداد بالعمل من دون الإيمان فَأُولئِكَ المؤمنون العاملون يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ في الآخرة بفضل اللّه و رحمته وَ لا يُظْلَمُونَ و لا ينقصون من ثواب أعمالهم نَقِيراً و قدرا قليلا.

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)قيل: النّقير: حفرة في ظهر النّواة، منها ينبت النّخل، ثمّ صار كناية عن غاية القلّة و الحقارة.

قيل: لمّا نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال أهل الكتاب للمسلمين: نحن و أنتم سواء، فنزلت هذه الآية إلى قوله: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً .

ثمّ لمّا شرط اللّه الإيمان و العمل في الثّواب، شرح الشّرطين بقوله: وَ مَنْ يكون من أهل الأديان أَحْسَنُ دِيناً و أقوم طريقة مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ و أخلص قلبه، و جعل جميع ماله لِلّهِ و صيّر كلّه فانيا فيه وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ في العمل مِلَّةَ إِبْراهِيمَ و شريعته الموافقة لشريعة الإسلام، حال كون ذلك التّابع حَنِيفاً و مائلا عن الأديان الباطلة و الأهواء الزّائفة.

في وجه تسمية

إبراهيم عليه السّلام

بالخليل

ثمّ بيّن أصلحيّة إبراهيم عليه السّلام بالتّبعيّة من سائر الأنبياء بقوله: وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ و اصطفاه من جميع خلقه لنفسه خَلِيلاً شديد المحبّة و الطّاعة له.

قيل: لمّا اطّلع إبراهيم عليه السّلام على الملكوت الأعلى و الأسفل، و دعا قومه مرّة بعد اخرى إلى التّوحيد، و منعهم عن عبادة الشّمس و القمر و النّجم و عبادة الأوثان، ثمّ سلّم نفسه للنّيران، و ولده للقربان، و ماله للضّيفان، جعله اللّه إماما للخلق و رسولا إليهم، و بشّره بأنّ الملك و النّبوّة في ذرّيّته. فلهذه الاختصاصات سمّاه خليلا؛ لأنّ محبّة اللّه لخلقه عبارة عن إيصال الخيرات و المنافع إليه.

عن الصادق عليه السّلام: «اتّخذ اللّه إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا، و أنّ اللّه اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا، و أنّ اللّه اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا، و أنّ اللّه اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما» (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في حديث: «قولنا: إنّ إبراهيم خليل اللّه، فإنّما هو مشتقّ من الخلّة، و الخلّة إنّما معناه: الفقر و الفاقة، فقد كان خليلا إلى ربّه فقيرا، و إليه منقطعا، و عن غيره متعفّفا معرضا مستغنيا،

ص: 292


1- . الكافي 1:133/2، تفسير الصافي 1:466.

و ذلك أنّه لمّا اريد قذفه في النّار فرمي به في المنجنيق، بعث اللّه إليه جبرئيل فقال له: ادرك عبدي، فجاءه فلقيه في الهواء، فقال: كلّفني ما بدا لك، فقد بعثني اللّه لنصرتك، فقال: بل حسبي اللّه و نعم الوكيل، إنّي لا أسأل غيره، و لا حاجة لي إلاّ إليه، فسمّاه خليله، أي فقيره و محتاجه و المنقطع إليه عمّا سواه» .

قال: «و إذا جعل معنى ذلك من الخلّة؛ و هو أنّه قد تخلّل معانيه، و وقف على أسرار لم يقف عليها غيره، كان (1)معناه العالم به و باموره، و لا يوجب تشبيه اللّه بخلقه، ألا ترون أنّه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله؟» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا لأنّه لم يرد أحدا، و لم يسأل أحدا قطّ إلاّ اللّه» (3).

و عنه عليه السّلام: «لكثرة سجوده على الأرض» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لإطعامه الطّعام، و صلاته باللّيل و النّاس نيام» (5).

و عن الهادي عليه السّلام: «لكثرة صلاته على محمّد و أهل بيته» (6).

أقول: الجامع بين الأخبار هو كمال معرفته باللّه، و طاعته له.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 126

ثمّ لمّا كان تسمية إبراهيم بالخليل موهمة لخروجه عن العبودية، و الاحتياج في ذات اللّه، دفع اللّه سبحانه التّوهّمين ببيان مالكيّته لجميع الموجودات، و كمال قدرته، بقوله: وَ لِلّهِ بالملكيّة الإشراقيّة ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ فلا يخرج أحد عن عبوديته، و لا يحتاج إلى شيء في الوهيّته.

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)قيل: لمّا لم يكن فيه دلالة على علمه و قدرته بما هو خارج عن السّماوات و الأرض، أثبت علمه و قدرته غير المتناهيين بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الموجودات مُحِيطاً علما و قدرة، فيختار منها ما يشاء، و يتفضّل بجوده على من يشاء.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 127

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)

ص: 293


1- . زاد في الاحتجاج: الخليل.
2- . الاحتجاج:24، تفسير الصافي 1:466.
3- . علل الشرائع:34/2، تفسير الصافي 1:467.
4- . علل الشرائع:34/1، تفسير الصافي 1:467.
5- . علل الشرائع:34/4، تفسير الصافي 1:467.
6- . علل الشرائع:34/3، تفسير الصافي 1:467.

ثمّ لمّا وصف دين الإسلام الموافق في غالب أحكامه لملّة إبراهيم، و كان من جهات حسن الإسلام حفظ حقوق الضّعفاء، و كانت النّساء و الأيتام أضعف النّاس و أولاهم بالرّعاية، عاد إلى التّوصية بحفظ حقوقهم بقوله: وَ يَسْتَفْتُونَكَ و يسألونك عن حكم اللّه فِي شأن اَلنِّساءِ و ما لهنّ من الميراث.

عن الباقر عليه السّلام: «سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن النّساء، و ما لهنّ من الميراث، فأنزل اللّه الرّبع و الثّمن» (1).

روي أنّ عيينة بن حصين أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: اخبرنا بأنّك تعطي الابنة النّصف و الاخت النّصف، و إنّما كنا نورث من يشهد القتال، و يحوز الغنيمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كذلك امرت» (2).

فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله: قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ و يبيّن لكم ما ابهم عليكم من الحكم فِيهِنَّ و في أمر إرثهنّ أن تؤتوهنّ إرثهنّ، وَ كذا ما يُتْلى و يقرأ عَلَيْكُمْ من الآيات فِي هذا اَلْكِتابِ الكريم، يوضّح لكم فِي حقّ يَتامَى اَلنِّساءِ و في شأن البنات اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ و فرض لَهُنَّ من الميراث في آية يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ (3)، وَ تَرْغَبُونَ في أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لجمالهنّ و مالهنّ.

قيل: كانت اليتيمة عند الرّجل، فإن كانت ذات جمال و مال تزوّج بها و أكل مالها، و إن كان ذميمة فيرغب الرّجل عن أن يتزوّجها، و لا يعطيها مالها، و يمنعها عن النّكاح حتّى تموت، و يرث مالها، فنهى اللّه عن ذلك.

وَ كذا في اَلْمُسْتَضْعَفِينَ و الصّغار مِنَ اَلْوِلْدانِ هو يفتيكم أنّ تعطوا إرثهم.

قيل: إنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يورّثون الولدان، و كانوا يقولون: لا نورّث إلاّ من قاتل و دفع عن الحريم؛ فأنزل اللّه الآيات التي في أوّل السّورة و هو معنى قوله: لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ (4).

وَ في أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى في أموالهم و حقوقهم بِالْقِسْطِ و العدل، و ما يتلى عليكم من الكتاب في حقّهم قوله تعالى: وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ (5).

ثمّ رغّب اللّه في حفظ تلك الحقوق بقوله: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ و عمل صالح من أداة الحقوق المذكورة، و غيره من الصّالحات فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم عليه أحسن الجزاء.

ص: 294


1- . تفسير القمي 1:154، تفسير الصافي 1:468.
2- . تفسير أبي السعود 2:238.
3- . النساء:4/11.
4- . مجمع البيان 3:180، تفسير الصافي 1:468.
5- . النساء:4/2.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 128

ثمّ بيّن فتوى و حكما آخر في شأن النّساء بقوله: وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها بسبب ظهور الأمارات نُشُوزاً و تجافيا عنها، و ترفّعا عن أداء حقوقها لكراهته لها أَوْ خافت إِعْراضاً له منها و طلاقها، و عدم الاعتناء بها، و الالتفات إليها مع حفظ حقوقها فَلا جُناحَ و لا حرج عَلَيْهِما إذن في أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً .

وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)قيل: نزلت في سودة بنت زمعة، كانت كبيرة مسنّة، أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طلاقها، فالتمست أن يمسكها و يجعل نوبتها لعائشة، فأجاز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك و لم يطّلقها (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: نزلت في ابن أبي السّائب، كانت له زوجة و له منها أولاد، و كانت شيخة، فهمّ بطلاقها فقالت: لا تطلّقني، و دعني أشتغل بمصالح أولادي، و اقسم في كلّ شهر ليالي قليلة، فقال الزّوج: إن كان الأمر كذلك فهو أصلح (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هي المرأة تكون عند الرّجل فيكرهها، فيقول لها: إنّي اريد أن اطلّقك، فتقول له: لا تفعل، إنّي أكره أن يشمت بي، و لكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، و ما كان سوى ذلك من شيء فهو لك، و دعني على حالتي. و هو قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً هذا هو الصّلح» (3).

ثمّ ندب اللّه تعالى إلى الصّلح بقوله: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة و سوء العشرة.

ثمّ أشار إلى بعد وقوع الصّلح بذكر علّته بقوله: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ و طبع فيها اَلشُّحَّ و البخل، فلا المرأة تسمح بحقوقها من الرّجل، و لا الرّجل يجود بحسن العشرة مع الزّوجة الذّميمة المسنّة، و لذا حثّ اللّه تعالى كلاّ منهما إلى الإحسان إلى الآخر بقوله: وَ إِنْ تُحْسِنُوا أيّها الأزواج، كلّ إلى الآخر ببذل الحقوق، و الإمساك بالمعروف، و حسن العشرة وَ تَتَّقُوا اللّه و لا تعصوه بالظّلم، و إساءة الكلام، و اللّجاج في الخصومة فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان و التّقوى خَبِيراً فيجازيكم عليه أحسن الجزاء.

قيل: إنّ الخطاب إلى غير الزّوجين، و المراد: إن تحسنوا في المصالحة بينهما، و تتّقوا الميل إلى

ص: 295


1- . تفسير الرازي 11:65.
2- . تفسير الرازي 11:65.
3- . الكافي 6:145/2، تفسير العياشي 1:447/1129، تفسير الصافي 1:469.

واحد منهما (1).

عن الزّمخشري: أنّ عمران بن حطّان الخارجي، كان من أذمّ (2)بني آدم، و امرأته من أجملهم، فنظرت إليه يوما فقالت: الحمد للّه. فقال عمران: ما لك؟ فقالت: حمدت اللّه على أنّي و إيّاك من أهل الجنّة؛ لأنّك رزقت مثلي فشكرت، و رزقت مثلك فصبرت، و قد وعد اللّه بالجنّة عبادة الشّاكرين و الصّابرين (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 129

ثمّ أمر اللّه عزّ و جلّ بالعدل و التّسوية بين الزّوجات في حسن العشرة، دون الميل القلبي، بقوله: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أيّها الأزواج أَنْ تَعْدِلُوا و تسوّوا بَيْنَ اَلنِّساءِ في المحبّة، و الميل القلبي كما روي (4)، أو في جميع الأمور و جميع الوجوه على رواية اخرى (5)وَ لَوْ حَرَصْتُمْ على ذلك و بالغتم فيه، و لذا لم يكلّفكم اللّه به، إذن فَلا تَمِيلُوا و لا تعرضوا عن إحداهما إلى الاخرى كُلَّ اَلْمَيْلِ و من جميع الجهات فَتَذَرُوها و تبقوها أو تتركوها كَالْمُعَلَّقَةِ لا أيّما (4)حتّى تختار زوجا، و لا ذات بعل حتّى تنتفع ببعلها.

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)و عن ابن مسعود: فتذروها كالمسجونة (5).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يقسم بين زوجاته و يقول: «اللّهمّ هذا قسمي في ما أملك، و أنت أعلم بما لا أملك» (6).

عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهنّ (9) .

و روي أنّ عليّا عليه السّلام كان له امرأتان، إذا كان يوم واحدة لا يتوضّا في بيت الأخرى (7).

وَ إِنْ تُصْلِحُوا بالعدل في القسم، أو ما مضى من ميلكم، و تتداركوه بالتّوبة وَ تَتَّقُوا عن الجور، أو عن الميل في المستقبل فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً لميل قلوبكم في ما مضى رَحِيماً بكم بعدم التّشديد عليكم في التّكاليف.

ص: 296


1- . تفسير الرازي 11:67.
2- . في تفسير الرازي و الكشاف: أدمّ، و الأذمّ: هو من يعلو وجهه بثر اسود فيصبح قبيح الوجه، و الأدمّ: الشديد الأدمة، أي السّمرة.
3- . تفسير الرازي 11:67، الكشاف 1:571. (4 و 5) . مجمع البيان 3:185، تفسير الصافي 1:469.
4- . الأيّم: المرأة بلا زوج بكرا أو ثيّبا.
5- . تفسير الرازي 11:68، تفسير أبي السعود 2:240.
6- . مجمع البيان 3:185، تفسير الصافي 1:470.
7- . مجمع البيان 3:185، تفسير الصافي 1:470.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 130

ثمّ أشار سبحانه إلى رجحان التّفريق عند عدم الصّلح و توافقهما عليه، بقوله: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا و أبيا من الصّلح، و اجتمعا على الطّلاق يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ من الزّوجين، و يكفي مهمّاته مِنْ سَعَتِهِ و رحمته و غناه و قدرته وَ كانَ اَللّهُ واسِعاً في القدرة و الرّحمة و الرّزق حَكِيماً و متقنا في أحكامه و أفعاله.

وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اَللّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، أنّه شكا رجل إليه الحاجة، فأمره بالتّزويج فاشتدّت به الحاجة، فأمره بالمفارقة فأثرى و حسن حاله، فقال: «أمرتك بأمرين أمر اللّه بهما، قال: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ -إلى قوله- إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1)، و قال: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 131

ثمّ قرّر اللّه سبحانه سعة قدرته و رحمته بقوله: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ من الموجودات، فإذا كان كذلك فهو واسع حكمة و قدرة و رحمة، فيغنيكم عن زوجكم و عن غيره.

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131)ثمّ لمّا حثّ سبحانه على (3)التّقوى في الآيتين السّابقتين، بيّن اللّه أنّه شريعة عامّة، بقوله: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ السّماوي مِنْ قَبْلِكُمْ كاليهود و النّصارى و غيرهم من الملل، و أمرناهم في كتبهم وَ إِيّاكُمْ يا امّة خاتم النّبيّين في كتابكم أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ في أوامره و نواهية، وَ قلنا: إِنْ تَكْفُرُوا باللّه فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ و منه وجود الممكنات، فلا يحتاج إلى إيمانكم، و لا يتضرّر بكفرهم وَ كانَ اَللّهُ غَنِيًّا عن جميع الموجودات، و عن إيمانكم حَمِيداً في ذاته حمدتموه أو لا تحمدوه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 132 الی 133

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اَللّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)

ص: 297


1- . النور:24/32.
2- . الكافي 5:331/6، تفسير الصافي 1:470.
3- . في النسخة: إلى.

ثمّ بالغ في تقرير قدرته و غناه بقوله: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ لا يخرج عن سلطانه شيء، و هو مدبّر امور الكائنات وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً و مدبّرا للامور.

قيل: إنّ اللّه تعالى بتكرار قوله: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ إلى آخره ثلاث مرّات، قرّر ثلاثة امور: فبالمرّة الاولى قرّر سعة جوده و كرمه و حكمته في أفعاله و أحكامه. و بالمرّة الثانية قرّر غناه عن إيمان الخلق و طاعتهم و تقواهم، و عدم تضرّره بكفر الكافرين و عصيان العاصين. و بالمرّة الثالثة قرّر كمال قدرته مقدّمة للتّهديد (1)بقوله:

إِنْ يَشَأْ اللّه يُذْهِبْكُمْ و يفنيكم عن وجه الأرض أَيُّهَا اَلنّاسُ بالمرّة بحيث لا يبقى منكم أثر وَ يَأْتِ مكانكم بِآخَرِينَ من جنسكم وَ كانَ اَللّهُ عَلى ذلِكَ الإعدام و الإيجاد قَدِيراً مقتدرا، لا يمنعه عن إنفاذ إرادته شيء.

روي أنّه لمّا نزلت الآية ضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يده على ظهر سلمان رضى اللّه عنه و قال: «هم قوم هذا» يعني عجم الفرس (2).

و روي أنّه لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه، إنّه يشرك به و يجعل له الولد ثمّ هو يعافيهم و يرزقهم (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 134

ثمّ أنّه تعالى بعد التّهديد و التّرهيب على الكفر و ترك التّقوى، رغّب النّاس في الإيمان و الطّاعة بقوله: مَنْ كانَ بعمله يُرِيدُ ثَوابَ اَلدُّنْيا و أمتعتها الفانية فليقم إلى طاعة اللّه فَعِنْدَ اَللّهِ ثَوابُ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ فإنّ العاقل لا يقنع بالقليل الفاني، مع تمكّنه من الكثير الباقي وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً لأقوالكم بَصِيراً بأعمالكم و ضمائركم، فليثيبنّكم على قدر طاعتكم و خلوص نيّتكم.

مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ ثَوابُ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام، قال: «كانت الحكماء و الفقهاء إذا كاتب بعضهم بعضا كتبوا بثلاث ليس معهنّ رابعة: من كانت الآخرة همّته كفاه اللّه همّه في الدّنيا، و من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، و من أصلح ما بينه و بين اللّه أصلح اللّه ما بينه و بين النّاس» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «الدّنيا طالبة و مطلوبة، فمن طلب الدّنيا طلبه الموت حتّى يخرجه منها، و من طلب الآخرة طلبته الدّنيا حتّى توفيه رزقه» (5).

ص: 298


1- . تفسير الرازي 11:70.
2- . مجمع البيان 3:187، تفسير الصافي 1:471.
3- . تفسير روح البيان 2:299.
4- . الخصال:129/133، تفسير الصافي 1:471.
5- . من لا يحضره الفقيه 4:293/883، تفسير الصافي 1:471.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 135

ثمّ لمّا بيّن اللّه وجوب العدل بين الزّوجات، و الالتزام بالتّقوى، و التّرهيب من تركه، و الوعد بالثّواب عليه، بيّن وجوب العدل في العمل، و إقامته بين النّاس، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ مقيمين على العدل، مواظبين عليه، مجدّين فيه، و أقيموا العدل بين النّاس بكونكم شُهَداءَ بالحقّ لِلّهِ و طلبا لمرضاته و ثوابه وَ لَوْ كانت الشّهادة عَلى أَنْفُسِكُمْ بأن تقرّوا عليها أَوِ على اَلْوالِدَيْنِ الذين هم أعزّ النّاس عندكم وَ أحقّهم عليكم، أو على الأرحام اَلْأَقْرَبِينَ .

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)و في تقديم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشّهادة بالحق إشعار بأنّ حمل الإنسان نفسه على العدل مقدّم على حمل الغير عليه، و أنّ دفع الضّرر عن النّفس أولى من دفع الضّرر عن الغير.

ثمّ نهى اللّه سبحانه عن الشّهادة بغير الحقّ، أو كتمانها طلبا لرضا الغنيّ أو ترحّما على الفقير بقوله: إِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا ذا ثروة أَوْ فَقِيراً فليس لكم أن ترعوا مصلحتهما في الشّهادة فَاللّهُ الخالق لهما، المدبّر لامورهما أَوْلى بِهِما و أحقّ برعاية مصلحتهما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى و أتركوا موافقة شهوة النّفس لأجل أَنْ تَعْدِلُوا في القول، و تنطقوا بالحقّ وَ إِنْ تَلْوُوا و تحرفوا ألسنتكم عن الشّهادة بالحقّ، بأن تشهدوا بغيره أَوْ تُعْرِضُوا عن أداء الشهادة رأسا و تكتموها فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من تغيير الشّهادة أو كتمانها، و تضييع حقوق المؤمنين خَبِيراً و مطّلعا فيعاقبكم عليه أشدّ العقاب.

عن الباقر عليه السّلام: «إِنْ تَلْوُوا» أي تبدّلوا الشّهادة، أَوْ تُعْرِضُوا أي تكتموها» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «إِنْ تَلْوُوا الأمر أَوْ تُعْرِضُوا عمّا امرتم [به]» (2).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ المراد بالآية: القاضي يتقدّم إليه الخصمان، فيعرض عن أحدهما، و يدافع في إمضاء الحقّ، أو لا يسوّي بينهما في المجلس و النّظر و الإشارة (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 136

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

ص: 299


1- . مجمع البيان 3:190، تفسير الصافي 1:472.
2- . الكافي 1:349/45، تفسير الصافي 1:472.
3- . تفسير روح البيان 2:301.

ثمّ لمّا كان القيام بالقسط، و الشّهادة بالحقّ و لو على النّفس، و ترك اتّباع الهوى منوطا بحقيقة الإيمان و رسوخه في القلب، أمر اللّه سبحانه بتحصيل حقيقة الإيمان بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر و باللّسان آمَنُوا في الواقع، و عن صميم القلب بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ بالتّوحيد و الرّسالة وَ اَلْكِتابِ المجيد اَلَّذِي نَزَّلَ اللّه بنحو ما عَلى رَسُولِهِ محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ دفعة مِنْ قَبْلُ أعظمه التّوراة و الإنجيل، و ازدادوا في جميع هذه العقائد طمأنينة و يقينا.

روي أنّ جماعة من أحبار اليهود جاءوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: يا رسول اللّه، إنّا نؤمن بك و بكتابك، و بموسى و التّوراة، و بعزير، و نكفر بما سواه من الكتب و الرّسل، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل آمنوا باللّه و برسله، و بمحمّد و بكتابه القرآن، و بكلّ كتاب كان قبله» ، فقالوا: لا نفعل. فنزلت هذه الآية (1).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه الكافرين بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ من النّاس بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ من آدم إلى خاتم [الأنبياء] وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و دار الجزاء جميعا، أو بأحد من المذكورات فَقَدْ ضَلَّ عن صراط الحقّ ضَلالاً بَعِيداً عنه بحيث لا يكاد يصل إليه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 137 الی 138

ثمّ بيّن أنّ الإيمان المطلوب المفيد هو الإيمان المستقرّ الثّابت، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله ثُمَّ كَفَرُوا به و ارتدّوا كالمنافقين ثُمَّ آمَنُوا مرّة ثانية ثُمَّ كَفَرُوا و ارتدّوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً و أصرّوا على الجحود و إنكار الحقّ حتّى ماتوا عليه.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)قيل: إنّ المراد: اليهود، آمنوا بموسى و التّوراة، ثمّ كفروا بعزير، ثمّ آمنوا بداود، ثمّ كفروا بعيسى، ثمّ ازدادوا كفرا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله (2).

أقول: هذا التّفسير في غاية البعد و على أيّ تقدير لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أبدا وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً إلى الحقّ و الجنّة.

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في الّذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إقرارا لا تصديقا، ثمّ كفروا لمّا كتبوا الكتاب فيما بينهم أن لا يردّوا الأمر في أهل بيته أبدا، فلمّا نزلت الولاية و أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق لأمير

ص: 300


1- . تفسير الرازي 11:75.
2- . تفسير الرازي 11:78.

المؤمنين عليه السّلام آمنوا إقرارا لا تصديقا، فلمّا مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفروا و ازدادوا كفرا (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في فلان و فلان و فلان، آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أوّل الأمر، ثمّ كفروا حين عرضت عليهم الولاية؛ حيث قال [النبي صلّى اللّه عليه و آله]: من كنت مولاه فعليّ مولاه. ثمّ آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السّلام، حيث قالوا: بأمر اللّه و أمر رسوله. و بايعوه، ثمّ كفروا حيث مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يقرّوا بالبيعة، ثمّ ازدادوا كفرا بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء» (2).

و في رواية عنهما عليهما السّلام: «نزلت في عبد اللّه بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر [قال]: ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً حتى لم يبق فيه من الإيمان شيء» (3).

و في رواية: «من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها، و من زعم أن الزّنا حرام ثمّ زنى، و من زعم أنّ الزّكاة حقّ و لم يؤدّها» (4).

أقول: بعض الرّوايات [في]بيان التّنزيل، و بعضها [في]بيان التّأويل فلا منافاة.

ثمّ أنّه تعالى بعدما يأس المنافقين (5)من المغفرة و الهداية إلى الحقّ أو الجنّة، أوعدهم بلفظ البشارة تهكّما بدخول النّار، بقوله: بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ يا محمّد بِأَنَّ لَهُمْ في الآخرة عَذاباً بالنّار أَلِيماً موجعا يخلص ألمه في قلوبهم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 139

ثمّ لمّا ذكر اللّه سوء حال المنافقين، عرّفهم بقوله: اَلَّذِينَ هم يَتَّخِذُونَ و يختارون لأنفسهم اَلْكافِرِينَ من اليهود و المشركين أَوْلِياءَ و أصدقاء و يركنون إليهم في العون و النّصرة مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ المخلصين، و بدلا منهم.

اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139)ثمّ أنكر عليهم الدّاعي لموالاتهم بقوله: أَ يَبْتَغُونَ و يطلبون لأنفسهم بموالاة الكفّار و عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ و القوّة، مع أنّهم أذلاّء عند اللّه، فقد أخطأوا في ما توهّموه فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ و القوة و الغلبة لِلّهِ وحده جَمِيعاً و بتمام مراتبها، ليس لأحد غيره و غير من جعلها له، و هم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنون،

ص: 301


1- . تفسير القمي 1:156، تفسير الصافي 1:473.
2- . الكافي 1:348/42، تفسير العياشي 1:451/1134، تفسير الصافي 1:473.
3- . تفسير العياشي 1:450/1132، تفسير الصافي 1:473.
4- . تفسير العياشي 1:451/1133، تفسير الصافي 1:473.
5- . يقال: يأسه من كذا، بمعنى أيأسه أو جعله ييأس.

كما قال: وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ (1).

عن القمّي: نزلت في بني اميّة، حيث خالفوا [نبيّهم على]أن لا يردّوا الأمر في بني هاشم (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 140

ثمّ قرع المنافقين الموافقين للكفّار مخاطبا بقوله: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ أيّها المنافقون آية فِي هذا اَلْكِتابِ الكريم، يكون مفادها أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ من الكفّار آياتِ اَللّهِ حال كون تلك الآيات المقروءة يُكْفَرُ بِها و ينكرون كونها من اللّه وَ يُسْتَهْزَأُ بِها عند قراءتها فَلا تَقْعُدُوا في مجلس الكفرة المستهزئين، و لا تجالسوا مَعَهُمْ اختيارا حَتّى يَخُوضُوا و يشرعوا فِي حَدِيثٍ و كلام غَيْرِهِ فإن قعدتم مع الكفّار في مجلس يكفرون بالآيات و يستهزئون بها إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ عند اللّه في الكفر و العقاب، أو في الإثم، لقدرتكم على الإنكار و ترك المجالسة.

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)نقل الفخر الرازي عن المفسّرين: أنّ المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن و يستهزئون به، فأنزل اللّه: وَ إِذا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (3)، و هذه الآية نزلت بمكّة.

ثمّ أنّ أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين، و القاعدون معهم و الموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون، فقال تعالى مخاطبا للمنافقين: إنّه وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ الآية (4)، فدلّت الآية على أنّ الرّاضي بالفسق، و الحاضر في مجلسه مع قدرته على الإنكار، في حكم المباشر و إن لم يرتكب.

عن الرضا عليه السّلام، في تفسير الآية: «إذا سمعت الرّجل يجحد الحقّ، و يكذّب به، و يقع في أهله، فقم من عنده و لا تقاعده» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «و فرض اللّه [على السمع]أن يتنزّه عن الاستماع [إلى]ما حرّم اللّه، و أن يعرض عمّا (6)نهى اللّه عنه، و الإصغاء إلى ما أسخط اللّه، فقال في ذلك: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

ص: 302


1- . المنافقون:63/8.
2- . تفسير القمي 1:156، تفسير الصافي 1:473.
3- . الأنعام:6/68.
4- . تفسير الرازي 11:81.
5- . تفسير العياشي 1:451/1135، مجمع البيان 3:195، تفسير الصافي 1:474.
6- . زاد في تفسير العياشي و الكافي: لا يحل له مما.

اَلْكِتابِ الآية، ثمّ استثنى موضع النّسيان فقال: وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ» (1).

القمّي رحمه اللّه: آيات اللّه: هم الأئمّة عليهم السّلام (2).

ثمّ حقّق سبحانه كون المنافقين الموافقين للكفّار مثلهم في العقاب، بقوله: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ القاعدين مع المستهزئين بالقرآن وَ اَلْكافِرِينَ المقعود معهم يوم القيامة فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً .

سوره 4 (النساء): آیه شماره 141

ثمّ عرّف المنافقين بتعريف آخر بقوله: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ و ينتظرون بِكُمْ و بما يحدث لكم في جهاد الكفّار فَإِنْ كانَ و حصل لَكُمْ في جهاد فَتْحٌ و ظفر مِنَ جانب اَللّهِ و بعونه و تأييده قالُوا طلبا لقسمة من الغنيمة أَ لَمْ نَكُنْ موافقين مَعَكُمْ في الدّين و الدّعوة إلى الإسلام، مظاهرين لكم في القتال فأشركونا في الغنائم وَ إِنْ كانَ بحسب الاتّفاق لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ و حظّ من الغلبة على المسلمين قالُوا للكافرين تحبّبا لهم أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ و لم نستول عَلَيْكُمْ و لم نكن متمكّنين من قتلكم و أسركم بمظاهرة المسلمين فكففنا عنكم، وَ ألم نَمْنَعْكُمْ و نحفظكم مِنَ بأس اَلْمُؤْمِنِينَ بأن خيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم، و توانينا من مظاهرتهم عليكم؟

اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)قيل: إنّ الكفّار و اليهود أرادوا الدّخول في الإسلام، فحذّرهم المنافقون عن ذلك، و بالغوا في تنفيرهم عنه، و قالوا لهم: إنّه سيضعف أمر محمّد و يقوى أمركم. فإذا اتّفقت لهم الصّولة قالوا: ألسنا غلبنا على رأيكم في الدّخول في الإسلام، و منعناكم منه، فلذا فادفعوا إلينا نصيبا ممّا أصبتم.

و إنّما سمّى اللّه غلبة المؤمنين فتحا، و غلبة الكفّار نصيبا، تعظيما لشأن غلبة المسلمين، و تحقيرا لغلبة الكافرين (3).

ثمّ لمّا أجرى اللّه على المنافقين حكم الإسلام في الدّنيا لمصلحة رغبة العموم في الإسلام

ص: 303


1- . تفسير العياشي 1:452/1137، الكافي 2:29/1، تفسير الصافي 1:474، و الآية من سورة الأنعام:6/68.
2- . تفسير القمي 1:156، تفسير الصافي 1:474.
3- . تفسير الرازي 11:82.

الظّاهري و غيرها، وعد التّفريق بين المؤمنين الخلّص، و بيّن المنافقين في الآخرة مخاطبا لجميعهم بقوله: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيّها الفريقان بالفرق و الامتياز في الظّاهر يَوْمَ اَلْقِيامَةِ بإكرام المؤمنين الخلّص (1)و إعطائهم الثّواب الجزيل، و إذلال المنافقين و إدخالهم النّار.

ثمّ لمّا أثبت اللّه للكفّار الغلبة الاتّفاقيّة بالسّيف، نفى عنهم الغلبة على المؤمنين بالحجّة بقوله: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ و لم يفتح لهم عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً بالحجّة أبدا، و إن اتّفق لهم عليهم أحيانا و بحسب الحكمة سبيلا في القوّة.

في معنى عدم جعل

السبيل للكفار

على المؤمنين

عن الرضا عليه السّلام-في رواية-أنّه قيل له: قوم يزعمون أنّ الحسين بن علي عليهما السّلام لم يقتل، و أنّه ألقي شبهة على حنظلة بن أسعد الشّامي (2)، و أنّه رفع إلى السّماء كما رفع عيسى بن مريم، و يحتجّون بهذه الآية: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً؟

فقال عليه السّلام: «كذبوا، عليهم غضب اللّه و لعنته، و كفروا بتكذيبهم النبي صلّى اللّه عليه و آله في إخباره بأنّ الحسين عليه السّلام سيقتل، و اللّه لقد قتل الحسين عليه السّلام، و قتل من كان خيرا من الحسين؛ أمير المؤمنين، و الحسن بن عليّ، و ما منّا إلاّ مقتول، و إنّي لو اللّه مقتول باغتيال من يغتالني، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين.

فأمّا قوله عزّ و جلّ: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً فإنّه يقول: لن يجعل اللّه لكافر على مؤمن حجّة، و لقد أخبر اللّه عن كفّار قتلوا النّبيّين بغير الحقّ، و مع قتلهم إيّاهم لن يجعل اللّه لهم على أنبيائهم سبيلا من طريق الحجّة» (3).

و قيل: إنّ المراد من عدم جعل السّبيل في القيامة و قيل: إنّه عامّ في الكلّ إلاّ ما خصّه الدّليل (4).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من جعل اللّه في المقام: الجعل التّشريعي لا التّكويني، و لا الأعمّ منهما حتّى يشمل الغلبة في الحرب و المصارعة و أمثالهما، و يمكن أن يكون أعمّ من جعل الآيات الدّالّة على الحقّ و الأحكام الوضعيّة أو التّكليفيّة، الموجبة لاستيلاء الكفار على المؤمنين، و لذا استدلّ الفقهاء بهذه الآية في مسائل:

منها: عدم جواز إبقاء العبد المسلم في ملك الكافر، بل يقهر الكافر على بيعه من مسلم، فإن امتنع

ص: 304


1- . في النسخة: الخلّصين.
2- . كذا، و روي الشبامي، و شبام بطن من همدان، انظر: كتاب أنصار الحسين عليه السّلام:70/18.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:203/5، تفسير الصافي 1:474.
4- . تفسير الرازي 11:83.

باعه الحاكم عليه، و يسلّم ثمنه إليه.

منها: أنّه لا يصحّ بيع العبد المسلم من الكافر.

منها: أنّه لا يصحّ إيجاز العبد المسلم للكافر.

منها: أنّه لا يجوز إيجار الحرّ المسلم نفسه من الكافر للخدمة، و أمّا لغيرها فلا يجوز إذا كان أجيرا خاصّا.

منها: رهن العبد المسلم عند الكافر مع قبضه له.

منها: عدم صحّة جعله وصيّا على صبيّ مسلم.

منها: عدم صحّة إعارة العبد المسلم للكافر. إلى غير ذلك، و إن كان في كثير من الفروع نظر.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 142 الی 143

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه خدع المنافقين بالمؤمنين و الكافرين، بيّن إفراطهم في الخدعة بقوله: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ و يمكرونه. و قد مرّ تفسير خدعهم باللّه (1)في سورة البقرة (2).

إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)و قيل: إنّ المراد بخدعهم باللّه: خدعهم برسوله و المؤمنين، تنزيلا لخدعهم بهم بإظهار الإيمان و إبطان الكفر منزلة خدعهم له تعالى (3).

وَ هُوَ خادِعُهُمْ و مجازيهم بالعقاب على خدعهم.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه تعالى يخادعهم في الآخرة، و ذلك أنّه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين، فإذا وصلوا إلى الصّراط انطفأ نورهم و بقوا في الظّلمة (4).

ثمّ شرح اللّه بعض أنواع خداعهم بقوله: وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ مع المؤمنين و في جماعتهم قامُوا حال كونهم كُسالى متثاقلين متباطئين لضعف داعيهم إلى الصّلاة حيث إنّهم لكفرهم لا يرجون بها ثوابا، و لا يخافون من تركها عقابا، بل بفعلها يُراؤُنَ اَلنّاسَ ليحسبوهم مؤمنين لا داعي لهم إلى الصّلاة غيره وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ في صلواتهم مع المؤمنين و في جماعتهم إِلاّ ذكرا قَلِيلاً من أذكار الصّلاة، و هو الذي يظهر للمؤمنين كالتّكبيرات، و أمّا الذي الذي مثل القراءة

ص: 305


1- . عدّى الفعل (خدع) بالباء في جميع المواضع المتقدمة و الآتية، و الصواب أنّه متعد بنفسه كما في الآية.
2- . تقدم في تفسير الآية (9) من سورة البقرة.
3- . تفسير الرازي 11:83.
4- . تفسير الرازي 11:83.

و التّسبيحات و أمثالها، فلا يذكرونها.

هذا [في]

كيفيّة عملهم، و أمّا حالهم من حيث الإيمان و الكفر فانّهم (1)يكونون مُذَبْذَبِينَ و متحيّرين في الإيمان و الكفر، و متردّدين بَيْنَ ذلِكَ المذكور لاختلاف الدّواعي في نظرهم، فقد يرون نفعهم في موافقة المؤمنين فيكونون معهم، و قد يرون نفعهم في موافقة الكفّار فيكونون معهم، فلذلك لا إِلى هؤُلاءِ المؤمنين ينسبون وَ لا إِلى هؤُلاءِ الكفّار يضافون، فهم دائمون في الحيرة و الضّلال في امور دينهم و دنياهم وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يخذله لخبث ذاته، و عدم قابليّته للهداية فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أبدا سَبِيلاً إلى الحقّ، و طريقا إلى الجنّة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 144

ثمّ لمّا ذمّ اللّه سبحانه المنافقين بموالاة الكفّار، نهى المؤمنين عنها بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب لا تَتَّخِذُوا و لا تختاروا لأنفسكم اَلْكافِرِينَ الّذين هم أعداؤكم و أعداء دينكم أَوْلِياءَ و أصدقاء مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ الخلّص و بدلا منهم، و لا تتوقّعوا منهم النّصرة، فإنّ موالاتهم من شعار المنافقين أَ تُرِيدُونَ بهذا الصّنيع أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ على نفاقكم و فساد عقائدكم سُلْطاناً مُبِيناً و حجّة ظاهرة لا يمكنكم دفعها.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)قيل: إنّ الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع و حلف و مودّة، فقالوا: يا رسول اللّه، من نتولّى؟ فقال: «المهاجرين» فنزلت (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 145 الی 146

ثمّ ذكر سبحانه سوء حال المنافقين في الآخرة تنفيرا لقلوب المؤمنين عن موادّتهم، بقوله: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ في الآخرة مستقرّون فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ و القعر الأنزل مِنَ اَلنّارِ، قيل: هي الهاوية، و عذاب من فيها أشدّ ممّن (3)في الطّبقات السّت الاخر (4).

إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

ص: 306


1- . في النسخة: كأنّهم.
2- . تفسير الرازي 11:86.
3- . في النسخة: من.
4- . تفسير روح البيان 2:309.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه، [و قد سئل]عن الدّرك الأسفل، فقال: هو توابيت من حديد مبهمة عليهم، لا أبواب لها (1).

ثمّ بيّن انقطاع طمعهم عن الخلاص بقوله: وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً و مخلّصا من النّار

إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا و رجعوا عن كفرهم و نفاقهم وَ أَصْلَحُوا أيضا أعمالهم و أخلاقهم وَ اِعْتَصَمُوا و واثقوا بِاللّهِ بالتّمسّك بحبل شريعته وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ عن الشّوب بالأهوية (2)الفاسدة لِلّهِ لا يبتغون بطاعته و إيمانهم به إلاّ رضاه فَأُولئِكَ الموصوفون بتلك الصّفات الحميدة يكونون في الدّرجات العالية الاخرويّة مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ الّذين كانوا من بدو إيمانهم مؤمنين وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ في الآخرة و الدّنيا اَلْمُؤْمِنِينَ الخلّص عموما أَجْراً عَظِيماً لا يمكن بيان عظمته و قدره.

و في جعل التّائبين عن النّفاق تبعا للمؤمنين الخلّص في الأجر، إشعار بتشريف المؤمنين الخلّص عليهم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 147

ثمّ أنّه تعالى بعد وعيد المنافقين بأشدّ العذاب، و وعدهم على الإيمان و التّوبة و العمل الصّالح بأعلى الثّواب منه. جعل العذاب على الكفر و العصيان لتحميل النّاس على الإيمان و الطّاعة، لطفا بهم، لا للتّشفّي، أو جلب النّفع إلى نفسه، أو دفع الضّرر عنها، بقوله: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ و أيّ داع له إلى عقابكم إِنْ شَكَرْتُمْ نعمه و امتثلتم أحكامه وَ آمَنْتُمْ به و برسوله و اليوم الآخر، بل إنّما أمركم بما أمر و نهاكم عمّا نهى حفظا لمصالحكم، و تكميلا لنفوسكم وَ كانَ اَللّهُ مع ذلك لطاعتكم شاكِراً بإعطاء الأجر، و بذل الثّواب عَلِيماً بها و بمقدار ما تستحقّون من الأجر عليها.

ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 148

ثمّ لمّا كان المنافقون التّائبون-بعد توبتهم و تخليص إيمانهم-في معرض الذّمّ و التّعيير لما سبق منهم من فساد العقيدة و سوء الأعمال، نهى اللّه تعالى عن القول السّيّء بقوله: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ و التّظاهر بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ في حقّ أحد، سواء كان القول السّيّء سبّا أو غيبة أو بهتانا أو تعييرا، لا

لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)

ص: 307


1- . تفسير روح البيان 2:309.
2- . كذا، و الظاهر: بالأهواء؛ لأنّ الأهوية جمع هواء، و الأهواء جمع هوى و هو المراد.

بل يبغضه من كلّ أحد إِلاّ مَنْ ظُلِمَ به و اسيء إليه، بأن يدعو على المسيء، أو يذكر إساءته، أو يشتكي منه بأن يقول: ضربني ظلما، أو شتمني، أو غصب أو سرق مالي، أو يردّ بالشّتيمة على شاتمه.

عن الباقر عليه السّلام: «لا يحبّ اللّه الشّتم في الانتصار إلاّ من ظلم، فلا بأس أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدّين» (1)الخبر.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه الضّيف ينزل بالرّجل، فلا يحسن ضيافته، [فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما فعله» (2).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية: «ممن أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم]فلا جناح في ما قالوا فيه» (3).

و في رواية: «إن جاءك رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و الثّناء و العمل الصّالح، فلا تقبله منه و كذّبه، فقد ظلمك» (4).

ثمّ هدّد المجاهر بالسّوء بقوله: وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً لاقوالكم السّيّئة عَلِيماً باستحقاقكم و مقدار جزائكم.

قيل: نزلت في أبي بكر، فإنّ رجلا شتمه مرارا فسكت، ثمّ ردّ عليه، فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال أبو بكر: شتمني و أنت جالس، فلمّا رددت عليه قمت؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله «إنّ ملكا كان يجيب عنك، فلمّا رددت عليه، ذهب ذلك الملك و جاء الشّيطان، فلم أجلس عند مجيء الشّيطان» . فنزلت هذه الآية (5).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 149

ثمّ لمّا أذن اللّه سبحانه في الوقوع في الظّالم، و إساءة القول له، رغّب في العمل بالخير و الإحسان إلى الخلق، و العفو عن إساءتهم بقوله: إِنْ تُبْدُوا و تظهروا خَيْراً و برّا و إحسانا أَوْ تُخْفُوهُ و تسرّوه أَوْ تَعْفُوا عَنْ كلّ سُوءٍ و لا تنتقموا من الظّالم مع قدرتكم على الانتقام، و لا تقابلوه بالقول السّيّء، و تتخلّفوا بأخلاق اللّه فَإِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا عن العصاة و عن المسيء و المساء إليه مع كونه قَدِيراً على عقوبتهم و الانتقام منهم فأنتم أولى بالعفو.

إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 150 الی 151

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)

ص: 308


1- . مجمع البيان 3:201، تفسير الصافي 1:476.
2- . مجمع البيان 3:202، تفسير الصافي 1:476.
3- . تفسير العياشي 1:453/1141، تفسير الصافي 1:476.
4- . تفسير القمي 1:157، تفسير الصافي 1:476.
5- . تفسير الرازي 11:91.

ثمّ لمّا كان أغلب المنافقين من اليهود، شرع في ذمّ اليهود بعد الفراغ من ذمّ المنافقين بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ و لكن لا بالصّراحة، بل بالالتزام لما نسبه إليهم بقوله: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا في الإيمان بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ بأن يؤمنوا به تعالى و يكفروا بهم، و لكن لا بالتّصريح بهذا التّفريق، بل هو المدلول الالتزامي لما حكاه عنهم بقوله: وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرّسل كموسى و عزير وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ آخر كعيسى و محمّد، مع أنّ الكفر بأحد الرّسل كفر بجميعهم، و الكفر بجميعهم كفر باللّه عزّ و جلّ.

وَ يُرِيدُونَ بقولهم بالتّفريق في الإيمان بينهم أَنْ يَتَّخِذُوا و يختاروا بَيْنَ ذلِكَ الإيمان و الكفر المطلق سَبِيلاً و مذهبا وسطا، مع أنّه لا واسطة بينهما، فإنّ الإيمان باللّه لا يتمّ إلاّ بالإيمان برسله، و تصديقهم في ما بلّغوا عنه، و تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب جميعهم؛

فلذلك أُولئِكَ المفرّقون بين الرّسل المبغّضون في الإيمان هُمُ اَلْكافِرُونَ المنتهون في الكفر إلى الغاية، و حقّ ذلك القول حَقًّا لا يشوبه شك و لا ريب.

ثمّ أوعدهم بعقاب الكفّار بقوله: وَ أَعْتَدْنا في الآخرة لِلْكافِرِينَ الّذين هؤلاء المفرّقون من أظهر مصاديقهم عَذاباً مُهِيناً و عقوبة مقرونة بغاية الذّل، لاستكبارهم عن الإيمان بالرّسل.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 152

ثمّ أتبع ذمّ الكفّار و وعيدهم بمدح المؤمنين و وعدهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ كلّهم وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان و التّصديق؛ مع كون جميعهم ذوي المعاجز الباهرة و الآيات الظّاهرة أُولئِكَ الكاملون في الإيمان سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ اللّه تعالى من فضله في الآخرة أُجُورَهُمْ التي وعدهم على لسان رسله وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً لما فرط منهم؛ رَحِيماً بهم بتضعيف حسناتهم، و استغراقهم بأنواع النّعم الدّائمة.

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 153

ص: 309

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه اليهود باقتراحهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما اقتراح أسلافهم على موسى، بقوله: يَسْئَلُكَ اليهود الّذين هم أَهْلُ اَلْكِتابِ و المؤمنون بالتّوراة أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ .

يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)قيل: إنّهم قالوا: إن كنت رسولا من عند اللّه فأتنا بكتاب من السّماء جملة، كما جاء موسى بالألواح. و قيل: طلبوا أن ينزّل كتابا من السّماء إلى فلان، و كتابا إلى فلان بأنّك رسول اللّه (1). و قيل: كتابا نعاينه حين نزوله (2).

و لمّا كان سؤالهم عن التّعنّت و اللّجاج لظهور معجزات النبيّ أكثر ممّا يحتاج إليه في ظهور صدقه، و لم يحسن إجابة مسؤولهم، أجابهم بأنّ طباعكم مجبولة على التّعنّت و الاقتراح، فإنّكم أولاد الّذين اقترحوا و تعنّتوا على نبيّهم العظيم الشأن فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ و أعظم مِنْ ذلِكَ السّؤال، و لم يكتفوا بنزول التّوراة دفعة و جملة، و بظهور الآيات و المعجزات في تصديقه بأنّ اللّه يكلّمه، حتّى اختار سبعين رجلا من كبرائهم و صلحائهم، فذهب بهم إلى جبل طور ليسمعوا كلام اللّه، فلمّا سمعوا أنّ اللّه كلّمه سألوه أن يريهم اللّه حتّى ينظروا إليه بأبصارهم فَقالُوا لموسى عليه السّلام: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً و عيانا حتّى نصدّقك فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ و شعلة النّار من السّماء فأحرقتهم بِظُلْمِهِمْ على أنفسهم و تعنّتهم على نبيّهم.

ثُمَّ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم اَلْعِجْلَ الذي صنعه السّامري من حليّهم إلها و معبودا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ المعجزات اَلْبَيِّناتُ من العصا، و اليد البيضاء، و فلق البحر، و غير ذلك فَعَفَوْنا و تجاوزنا عَنْ ذلِكَ الذّنب العظيم بعد توبتهم، و لم نستأصلهم بالعذاب مع استحقاقهم له وَ آتَيْنا مُوسى مع شدّة لجاج قومه على خلاف العادة سُلْطاناً مُبِيناً و غلبة ظاهرة على أعدائه حتّى ظهر دينه و قوي أمره. و في ذلك بشارة للرّسول بنصرته و ظهور دينه، كما صرّح بتلك البشارة بقوله: إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 154

وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)

ص: 310


1- . غافر:40/51.

ثمّ بالغ سبحانه فى بيان شدّة لجاجهم و طغيانهم بقوله: وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً -و قد مرّ تفسير القضيّتين في سورة البقرة (1)- وَ قُلْنا لَهُمُ بلسان نبيّهم لا تَعْدُوا و لا تتجاوزوا حدود اللّه فِي يوم اَلسَّبْتِ باصطياد الحيتان وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ على العمل بأحكام التّوراة عموما، أو ترك الصّيد في السّبت مِيثاقاً و عهدا غَلِيظاً وكيدا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 155

ثمّ نقضوا الميثاق، و خالفوا التّوراة، و اصطادوا في السّبت فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ و بسبب خلفهم عهدهم وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ و حججه الظّاهرة من القرآن، أو جميع المعجزات، أو خصوص آيات التّوراة الدّالّة على صفات النبيّ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ كزكريّا و يحيى بِغَيْرِ حَقٍّ مع ظهور نبوتهم لهم وَ قَوْلِهِمْ في مقام اللّجاج جوابا لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: قُلُوبُنا غُلْفٌ و مغشّاة، أو أوعية العلم، و مع ذلك لا خير فيها من نبوّتك.

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً (155)ثمّ ردّهم اللّه بقوله: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ و ختم عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ و جحودهم، فحجبت عن العلم خذلانا من اللّه، و قست بحيث لا تؤثّر فيها الدّعوة و الموعظة، و لذا فَلا يُؤْمِنُونَ بالأنبياء إِلاّ قَلِيلاً منهم كموسى و عزيرا، أو إيمانا قليلا لا يعبأ به.

قيل: إنّ التّقدير: أنه بسبب هذه المعاصي لعنّاهم و جعلنا قلوبهم قاسية.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 156

وَ كذا بِكُفْرِهِمْ و إنكارهم قدرة اللّه على خلق الولد بغير أب وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بنت عمران بُهْتاناً عَظِيماً و فرية في غاية القباحة من نسبة احتبالها إلى الزّنا، مع أنّ اللّه تقبّلها بقبول حسن لخدمة البيت المقدّس، و كفّلها زكريّا، و شهد بطهارتها، و تكلّم عيسى في المهد، إلى غير ذلك من الأدلّة القاطعة عند اليهود على أنّ هذا القول في حقّها بهت صرف.

وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)

في نقل بهتان الفخر

الرازي على

الشيعة و تكذيبه

قال الفخر الرازي، بعد ذكر براءة مريم من كلّ ريبة: فلا جرم وصف اللّه تعالى طعن اليهود فيها بأنّه بهتان عظيم، و كذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنّه بهتان عظيم، حيث قال: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (2)و ذلك يدلّ على أنّ الرّوافض

ص: 311


1- . تقدم في تفسير الآيتين (63 و 93) من سورة البقرة.
2- . النور:24/16.

الّذين يطعنون في عائشة بالزّنا (1)بمنزلة اليهود الّذين قالوا في مريم (2).

أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم على الشّيعة، انظروا إلى الرّجل كيف افترى على الشّيعة بما هم براء منه، فإنّ أحدا من الشّيعة لم يطعن في عائشة بذلك لقطعهم ببراءتها من الفحش، لكرامة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لا لكمال ذاتها و طهارتها من المعصية، لصدور ما هو أكبر من الزّنا منها كخروجها على خليفة الرّسول، و إيذائها لفاطمة البضعة. بل نقول بعصمة جميع زوجات النبيّ عن الفاحشة تنزيها له صلّى اللّه عليه و آله من الشّين.

فإصرار النّاصب بطهارتها من المعصية ردّ للكتاب النّاطق بعصيانها، حيث قال سبحانه: إِنْ تَتُوبا إِلَى اَللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ (3)الآية.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 157

ثمّ حكى سبحانه و تعالى افتخار اليهود بقتل الأنبياء بقوله: وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ مفتخرين به مع كونه رَسُولَ اَللّهِ .

وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)ثمّ كذّبهم اللّه في هذه الدّعوى بقوله: وَ ما قَتَلُوهُ بل وَ ما صَلَبُوهُ أصلا وَ لكِنْ شُبِّهَ المقتول و المصلوب لَهُمْ، قيل: يعني: وقع الشّبة لهم (4).

في رفع عيسى عليه السّلام

إلى السماء

روي أنّ رهطا من اليهود سبّوه و قالوا: هو السّاحر بن السّاحرة، و الفاعل بن الفاعلة. فقذفوه و امّه فلمّا سمع عليه السّلام ذلك دعا عليهم، فقال: [اللّهم]أنت ربّي و أنا من روحك خرجت، و بكلمتك خلقتني، و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللّهمّ فالعن من سبّني و سبّ امّي. فاستجاب اللّه دعاءه و مسخ الّذين سبّوه و سبّوا امّه قردة و خنازير، فلمّا رأى ذلك يهودا رأس القوم و أميرهم فزع لذلك، و خاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه السّلام، فبعث اللّه جبرئيل فأخبره بأنّه يرفعه إلى السّماء، فقال لأصحابه: أيّكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي، فيقتل و يصلب فيدخل الجنّة، فقال رجل منهم: أنا، فالقي شبهه عليه فقتل و صلب (5).

و قيل: إنّ الشّبه القي على وجهه دون بدنه، فلمّا قتلوه نظروا إلى بدنه فقالوا: الوجه وجه عيسى،

ص: 312


1- . (بالزنا) لم ترد في المصدر.
2- . تفسير الرازي 11:99.
3- . التحريم:66/4.
4- . تفسير روح البيان 2:317.
5- . تفسير روح البيان 2:317.

و البدن بدن غيره (1).

و قيل: إنّ اليهود حبسوا عيسى عليه السّلام مع عشرة من الحواريّين في بيت، فدخل [عليه]رجل [من اليهود]ليخرجه و يقتله، فألقى اللّه شبه عيسى عليه، [و رفع إلى السماء]فأخذوا ذلك الرّجل و قتلوه على أنّه عيسى، ثمّ قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ و إن كان صاحبنا فأين عيسى؟ (2)

فأشار سبحانه إلى اختلاف اليهود في قتله بقوله: وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ من اليهود و النّصارى- كما قيل إنّهم أيضا مختلفون في قتله (1)-أو [من]الفريقين الّذين خالفوا و أعتقدوا قتله لَفِي شَكٍّ مِنْهُ و تردّد فيه ما لَهُمْ بِهِ شيء مِنْ عِلْمٍ و اعتقاد جازم، و ليس لهم في ادّعاء قتل عيسى، أو في جميع الأمور الدّينيّة عمل و دأب إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ و لا يغني الظّنّ من الحقّ شيئا.

ثمّ أكّد سبحانه تكذيبهم في دعوى قتله بقوله: وَ ما قَتَلُوهُ قتلا يَقِيناً أو المراد: أنّ نفي القتل يكون يقينا و حقّا، لا ينبغي أن يشكّ فيه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 158

ثمّ أضرب و أعرض عن الدّعوى الكاذبة بقوله: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ و إلى سمائه و محلّ كرامته و قربه.

بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)قيل: إنّ الحكمة في رفعه إلى السّماء تبرّك الملائكة بصحبته؛ لأنّه كلمة اللّه و روحه (4).

و قيل: إنّه لمّا لم يكن دخوله في الدّنيا من باب الشّهوة، لم يكن خروجه منها من باب المنيّة، بل دخل من باب القدرة، و خرج من باب العزّة (5).

أقول: فيه نظر، إذ لا بدّ من خروجه بعد عوده إلى الأرض من باب المنيّة؛ لقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ (2). و يمكن أن يكون الحكمة في رفعه إلى السّماء تقريب صحّة دعوى الرّسول العروج إلى السّماء، و الاستدلال به على إمكانه.

ثمّ دفع اللّه سبحانه استبعاد رفعه إلى السّماء بهذا البدن العنصري، بقوله: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً غالبا على أمره، قادرا على ما يريد حَكِيماً في أفعاله.

عن السّجاد عليه السّلام: «أنّ للّه بقاعا في سماواته، فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه، ألا تسمع اللّه يقول في قصّة عيسى بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ؟» (3).

ص: 313


1- . تفسير روح البيان 2:318. (4 و 5) . تفسير روح البيان 2:319.
2- . آل عمران:3/185.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:127/603، تفسير الصافي 1:479.

و عن القمّي رحمه اللّه: رفع و عليه مدرعة من صوف (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم، و من نسج مريم، و من خياطة مريم، فلمّا انتهى إلى السّماء نودي: يا عيسى، ألق عنك زينة الدّنيا» (2).

و في (الإكمال) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أن عيسى بن مريم أتى بيت المقدس، فمكث يدعوهم و يرغّبهم في ما عند اللّه ثلاثا و ثلاثين سنة، حتّى طلبته اليهود و ادّعت أنّها عذّبته و دفنته في الأرض حيّا، و ادّعى بعضهم أنّهم قتلوه و صلبوه، و ما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه، و إنّما شبّه لهم، و ما قدروا على عذابه و دفنه، و لا على قتله و صلبه؛ لأنّهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 159

ثمّ حرّض اللّه اليهود بالإيمان (4)بنبوّة عيسى عليه السّلام، و النّصارى بالإيمان بأنّه عبد اللّه و رسوله حين ينفعهم الإيمان به، بقوله: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ من اليهود و النّصارى أحد إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ و زهوق روحه، و حين معاينة عالم الآخرة و لكن لا ينفعه إيمانه.

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)قيل: إنّه إذا حضرت اليهودي الوفاة و عاين الآخرة، ضربت الملائكة وجهه و دبره و قالت: أتاك عيسى نبيّا فكذّبت به، فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و تقول للنّصراني: أتاك عيسى عبد اللّه، فزعمت أنّه هو اللّه و ابن اللّه، فيؤمن بأنّه عبد اللّه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع التّكليف (5).

روي عن شهر بن حوشب، قال: قال الحجّاج: إنّي ما قرأتها إلاّ و في نفسي منها شيء-يعني هذه الآية-فإنّي أضرب عنق اليهودي و لا أسمع منه ذلك، فقلت: إنّ اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه و دبره و قالوا: يا عدوّ اللّه، أتاك عيسى نبيّا فكذّبت به، فيقول: آمنت به، و تقول للنّصراني: أتاك عيسى نبيّا فزعمت أنّه هو اللّه و ابن اللّه، فيقول: آمنت أنّه عبد اللّه، فأهل الكتاب يؤمنون به و لكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان، فاستوى الحجّاج جالسا و قال: عمّن نقلت هذا؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ [ابن]الحنفيّة، فأخذ ينكث بقضيبه الأرض ثمّ قال: أخذتها من عين صافية (6).

ص: 314


1- . تفسير القمي 1:224، تفسير الصافي 1:479.
2- . تفسير العياشي 1:310/692، تفسير الصافي 1:479.
3- . كمال الدين:225/20، تفسير الصافي 1:480.
4- . كذا، و الظاهر: على الايمان.
5- . تفسير روح البيان 2:320.
6- . تفسير الرازي 11:103.

و عن القمّي، عن شهر ما يقرب منه، إلى أن قال: فقلت: أصلح اللّه الأمير، ليس على ما تأوّلت، قال: كيف هو؟ قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدّنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ و لا غيره إلاّ آمن به قبل موته، و يصلّي خلف المهدي عليه السّلام، قال: ويحك، أنّى لك هذا، و من أين جئت به؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، فقال: جئت بها [و اللّه]من عين صافية (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في تفسيرها: «ليس من أحد من جميع أهل الأديان يموت إلاّ رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا من الأوّلين و الآخرين» (2).

و في (الجوامع) : عنهما عليهما السّلام: «حرام على روح [امرئ]أن تفارق جسدها حتّى ترى محمّدا و عليّا صلوات اللّه عليهما» (3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هذه نزلت فينا خاصّة، أنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدّنيا حتّى يقرّ للإمام بإمامته، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللّهُ عَلَيْنا» (4).

و في (المجمع) : في أحد معانيه: «ليؤمننّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل موت الكتابيّ» (5).

وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عيسى عليه السّلام أو محمّد صلّى اللّه عليه و آله يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فيشهد على اليهود بالتّكذيب، و على النّصارى بأنّهم دعوا عيسى ابن اللّه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 160 الی 161

ثمّ بعد ذكره سبحانه فضائح اليهود، ذكر تشديده عليهم في الدّنيا بقوله: فَبِظُلْمٍ عظيم صادر مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا لا بغيره من الأسباب حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ و لذائذ مخصوصة من الأطعمة التي أُحِلَّتْ لَهُمْ و لمن قبلهم، كلحوم الإبل و ألبانها، و الشّحوم وَ بِصَدِّهِمْ و منعهم عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ من الإيمان بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الدّخول في دين الإسلام صدّا و منعا كَثِيراً بإلقاء الشّبهات

فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)

ص: 315


1- . تفسير القمي 1:158، تفسير الصافي 1:480.
2- . تفسير العياشي 1:455/1148، تفسير الصافي 1:480.
3- . جوامع الجامع:101، تفسير الصافي 1:480.
4- . تفسير العياشي 1:454/1145، تفسير الصافي 1:481، و الآية من سورة يوسف:12/91.
5- . مجمع البيان 3:212، تفسير الصافي 1:480.

و المكائد و التّسويلات

وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا من النّاس، وَ الحال أنّهم قَدْ نُهُوا عَنْهُ في التّوراة و غيرها من الكتب وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ و بغير الوجه المحلّل، كالرّشوة و غيرها.

ثمّ ذكر تشديده عليهم في الآخرة بقوله: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ دون المؤمنين بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، ككثير من الأحبار عَذاباً أَلِيماً في الآخرة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 162

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار و ذكر قبائح أعمالهم و سوء عاقبتهم، ذكر محامد المؤمنين و حسن عاقبتهم على حسب دأبه في الكتاب العزيز بقوله: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ و المستغرقون فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ بحيث لا يضطربون بإلقاء الشّبهات، و لا يميلون إلى الخرافات بالتّسويلات وَ اَلْمُؤْمِنُونَ الخلّص يُؤْمِنُونَ عن صميم القلب و صدق النّيّة بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَ ما أُنْزِلَ إلى سائر الأنبياء مِنْ قَبْلِكَ من الكتب السّماويّة، وَ أخصّ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ بالمدح.

لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)و قيل: إنّه معطوف على ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (1)، و المعنى: يؤمنون بالمقيمين الصّلاة، و المراد بهم الأنبياء و الملائكة. وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ من أموالهم وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ و بوحدانيّته وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و إنّما قدّم سبحانه الإيمان بالكتب و الأعمال الصّالحة على الإيمان باللّه و بالمعاد لكونه المقصود الأهمّ في المقام.

أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصّفات الحميدة سَنُؤْتِيهِمْ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا لا يقادر قدره.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 163

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان شدّة إنكار اليهود و تعنّتهم على الرّسول، بيّن أنّ الرّسالة ليست من البدائع و الأمور الجديدة غير المأنوسة، بل كانت في جميع الأزمان تقريبا للأذهان، و دفعا للتّحاشي عن

إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)

ص: 316


1- . تفسير أبي السعود 2:254.

الطّباع، بقوله: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ و شرّفناك بمنصب الرّسالة كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ الّذين كانوا مِنْ بَعْدِهِ يروّجون شريعته إلى زمان إبراهيم عليه السّلام، وَ كما أَوْحَيْنا بعدهم إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ بن إسحاق، وَ أنبياء اَلْأَسْباطِ الاثني عشر، و هم أولاد يعقوب، وَ إلى عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ .

و في ذكر هؤلاء بأسمائهم، مع كونهم من الأسباط و كون الأنبياء أكثرهم منهم، دلالة على أفضليّتهم من الغير المذكورين. و إنّما قدّم ذكر نوح لكونه آدم الثّاني، و أوّل من شرع اللّه على لسانه الأحكام، و أوّل اولي العزم من الرّسل.

ثمّ أجمل في ذكر سائر الأنبياء الّذين كانوا بعده، ثمّ ذكر الأفاضل منهم تفصيلا، و بدأ بذكر إبراهيم عليه السّلام لكونه أفضل المذكورين و أقدمهم، و ثاني اولي العزم، ثمّ ذكر أنبياء الأسباط بنحو الإجمال، ثمّ ذكر أسماء أفاضلهم، و بدأ في هذا التّفصيل بذكر اسم عيسى، لكونه أفضل المذكورين في الآية و ثالث اولي العزم و لتبكيت اليهود، حيث إنّهم شدّدوا في إنكار نبوّته و صحّة نسبه.

في بيان الزبور

و تلاوة داود عليه السّلام

إيّاه

ثمّ خصّ داود عليه السّلام من بينهم بفضيلة إيتائه الكتاب بقوله: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً لشهرة كتابه بين اليهود و نزوله نجوما كالقرآن، فأشار بذكره إلى أنّه لو كان نزول كتاب نجوما قادحا فيه، لكان على اليهود القدح في الزّبور، مع أنّهم يعظّمونه غاية التعظيم.

قيل: كان فيه مائة و خمسون سورة ليس فيها حكم، و إنّما هي حكم و مواعظ و تحميد و تمجيد و ثناء على اللّه عزّ و جلّ، و كان داود يبرز إلى البريّة و يقرأ الزّبور، فيقوم علماء بني إسرائيل خلفه، و يقوم النّاس خلف العلماء، و يقوم الجنّ خلف النّاس، و تجيء الدّواب التي في الجبال إذا سمعت صوت داود، فيقمن بين يديه تعجّبا لما يسمعن من صوته، و تجيء الطّير حتّى يظلّلن على داود في خلائق لا يحصيهنّ إلاّ اللّه، يرفرفن على رأسه، و تجيء السّباع حتّى تحيط بالدّواب و الوحش لما يسمعن، فلمّا قارف الذّنب (1)-و هو تزوّج امرأة اوريا من غير انتظار الوحي بجبرئيل عليه السّلام-لم يروا ذلك (2).

في ذكر عدد

الأنبياء و الرسل

ثمّ أنّه تعالى ذكر أسماء الأنبياء المشهورين، و لم يذكر موسى عليه السّلام معهم، لأنّ اليهود كانو يحتجّون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ كتابك لو كان من السّماء لكان ينزل دفعة كما

ص: 317


1- . اقتراف الذنوب ممّا لا يجوز على الأنبياء عليهم السّلام لأنهم معصومون، و لا يبعد أن تكون حكاية زواج داود عليه السّلام من امرأة اوريا هي من الروايات الاسرائيلية التي تسربت إلى ساحة التفسير، و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «لا اؤتى برجل يزعم أن داود عليه السّلام تزوج بامرأة اوريا إلا جلدته حدّين: حدّ النبوة، و حدّ الاسلام» راجع تنزيه الأنبياء/للسيد المرتضى:90-92.
2- . تفسير روح البيان 2:323.

انزلت التوراة على موسى دفعة، فأجاب اللّه عن تلك الشّبهة بأن هؤلاء المذكورين كانوا كلّهم أنبياء مع أنّ واحدا منهم ما اتي بكتاب مثل التّوراة دفعة، فلا يقدح نزول الكتاب نجوما في كونه من عند اللّه، كذا قيل (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 164

ثمّ أكمل البيان و أتمّ الحجّة بقوله: وَ رُسُلاً آخرين أرسلناهم إلى النّاس جماعة منهم قَدْ قَصَصْناهُمْ و تلونا أحوالهم عَلَيْكَ و سمّيناهم لك مِنْ قَبْلُ في السّور الاخر من القرآن، كهود و صالح و إدريس عليهم السّلام وَ رُسُلاً أخر لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ في كتابك، و لم نسمّهم لك، و لم نذكر أحوالهم.

وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه قال: قلت: يا رسول اللّه، كم كانت الأنبياء؟ و كم كان المرسلون؟ قال: «كانت الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و كان المرسلون ثلاثمائة و ثلاثة عشر» (2).

ثمّ بيّن مزيّة موسى عليه السّلام من بينهم بقوله: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى من بينهم في الطّور تَكْلِيماً بطريق المشافهة.

قيل: فيه إشارة إلى أنّ تخصيص موسى عليه السّلام بهذه المزيّة، كما لا يقدح في نبوّة غيره من الأنبياء، لا يقدح نزول كتابه دفعة في نبوّة نبيّ نزل كتابه نجوما كالقرآن (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 165

ثمّ بيّن سبحانه حكمة إرساله الرّسل بقوله: رُسُلاً كثيرة أرسلناهم إلى النّاس من بدو الخلقة حال كونهم مُبَشِّرِينَ لهم بالثّواب على الإيمان بتوحيد اللّه و القيام بعبوديّته وَ مُنْذِرِينَ لهم بالعقاب على الشّرك و العصيان لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ و معذرة، أو اعتراض ملزم بَعْدَ إرسال اَلرُّسُلِ بأن يقولوا: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (4).

رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)

ص: 318


1- . تفسير الرازي 11:109.
2- . تفسير روح البيان 2:323.
3- . تفسير الرازي 11:109.
4- . القصص:28/47.

وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً و قادرا على إرسال الرّسل، و إنزال الكتب، و تكميل النّفوس، و إعطاء الثّواب، و تعذيب العصاة، و قطع الأعذار حَكِيماً في جميع أفعاله.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 166

ثمّ قيل: إنّه لمّا نزل قوله تعالى: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (1)الآية، قال قوم: [نحن]

لا نشهد لك بذلك. فردّ اللّه عليهم، و سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ (2)لك بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من السّماء و هو القرآن أنّه حقّ و صدق، و شهادته تعالى باشتماله على إعجاز البيان، و الأخبار الصّادقة بالمغيّبات، و العلوم الكثيرة مع كون الجائي به امّيّا.

لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (166)ثمّ وصف ما أنزله بقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ غير المتناهي، و حكمته البالغة، فلمّا كان علمه غير المتناهي سببا لنزوله، صار في غاية الحسن و نهاية الكمال بحيث عجز الأوّلون و الآخرون عن معارضته و الإتيان بمثله.

و قيل: إنّ المراد: أنزله بعلمه بأنّك مستأهل له (3).

وَ اَلْمَلائِكَةُ كلّهم أيضا يَشْهَدُونَ بأنّ القرآن نازل من عند اللّه وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بذلك لا يحتاج إلى شهادة غيره.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 167

ثمّ أنّه تعالى بعد شهادته بصدق القرآن و صحّة دين الإسلام، وبّخ المنكرين له الصّادّين عنه، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالقرآن وَ صَدُّوا و منعوا النّاس بإلقاء الشّبهات عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و الدّخول في دين الإسلام قَدْ ضَلُّوا عن الهدى و طريق الجنّة ضَلالاً بَعِيداً لا يرجى منهم الهداية.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 168 الی 169

ثمّ هدّدهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، و النّاس بصدّهم عن

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (169)

ص: 319


1- . النساء:4/163.
2- . تفسير الرازي 11:111.
3- . تفسير الصافي 1:483.

الحقّ، و محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بتكذيبه و إخفاء نعوته و كتمانها.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: إنّ الّذين كفروا و ظلموا آل محمّد حقّهم. . .» (1). لَمْ يَكُنِ اَللّهُ مريدا لِيَغْفِرَ لَهُمْ عن ذنوبهم، لعدم قابليّتهم للمغفرة وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً من الطّرق إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ فلا مناص لهم في الآخرة عن دخولها، حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً دائما وَ كانَ ذلِكَ الإدخال في النّار و الإخلاد فيها مع بقاء الأجساد أبد الآباد عَلَى اَللّهِ و في جنب قدرته الكاملة غير المتناهية يَسِيراً سهلا، و إن كان في نظر المنكرين لقدرة اللّه متعذّرا مستحيلا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 170

ثمّ أنّه تعالى بعد دفع شبهات اليهود في رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه، و توبيخهم بالضّلال و الإضلال، و توعيدهم بالنّار، باشر بذاته المقدّسة دعوتهم و دعوة سائر النّاس إلى الإيمان برسالته بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ محمّد صلّى اللّه عليه و آله اَلرَّسُولُ الصّادق بِالْحَقِّ و القرآن المصدّق بالإعجاز، أو الدّين الموافق للعقل السّليم مِنْ عند رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، الحافظ لصلاحكم فَآمِنُوا به و بكتابه، يكن الإيمان به في العاجل و الآجل خَيْراً لَكُمْ و أحمد ممّا أنتم عليه من الكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و إنكار رسالته و كتابه وَ إِنْ تَكْفُرُوا باللّه و رسوله فلا يضرّ اللّه شيئا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فلا يحتاج إليكم و إلى إيمكانكم، و لا يعجز عن تعذيبكم وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بأحوال عباده و بإيمانهم و كفرهم و علانيتهم و سرّهم حَكِيماً في ما يصدر عنه من تعذيب الكافر، و إثابة المؤمنين.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 171

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (171)

ص: 320


1- . تفسير العياشي 1:456/1152، الكافي 1:351/59، تفسير الصافي 1:484.

ثمّ أنّه تعالى بعد دفع شبهات اليهود في نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، و إنذارهم و دعوتهم إلى الإيمان، صرف الخطاب إلى النّصارى بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا و لا تتجاوزوا عن حدود العقل فِي دِينِكُمْ بالإفراط في شأن عيسى عليه السّلام، و ادّعاء الوهيّته، أو بنوّته للّه وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ قولا إِلاَّ اَلْحَقَّ و الصّواب، من تنزيهه عن الشّرك و الصّاحبة و الولد، و لا تصفوه بالحلول في المسيح أو الاتّحاد معه المستحيلين على الواجب، و لا باتّخاذه المسيح ولدا لعدم الحاجة له، و عدم السّنخيّة بينه تعالى و بين الحادث مع لزوم السّنخيّة بين الوالد و الولد.

ثمّ بعد نهيهم عن الغلوّ، أرشدهم إلى القول الوسط و الحقّ بقوله: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ الذي اسمه عِيسَى و نسبه أنّه اِبْنُ مَرْيَمَ بنت عمران هو رَسُولُ اَللّهِ إليكم لتكميل نفوسكم، و تبليغ شرائعكم وَ كَلِمَتُهُ التّامّة و آيته العظمى التي أَلْقاها من عالم القدس و الأمر، و أوصلها إِلى رحم مَرْيَمَ الصّدّيقة. و لمّا كان مبدأ وجوده نفخة الرّوح الأمين، وصفه بالرّوحانيّة، و نسبه إلى نفسه تشريفا له بقوله: وَ رُوحٌ مِنْهُ .

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها، فقال: «هي روح مخلوقة خلقها اللّه في آدم و عيسى» (1)

و عن الباقر عليه السّلام: «روحان مخلوقان اختارهما و اصطفاهما: روح آدم، و روح عيسى» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عبودية عيسى و رسالته و تعظيمه بأنّه كلمته و روحه، أمر النّصارى بالإيمان بتوحيد اللّه و رسالة المسيح كسائر الرّسل بقوله: فَآمِنُوا بِاللّهِ وحده لا شريك له وَ رُسُلِهِ الّذين هم مبلّغون عنه، و منهم عيسى عليه السّلام وَ لا تَقُولُوا إنّ اللّه واحد بالجوهر ثَلاثَةٌ بالأقانيم، على ما قيل (3).

اِنْتَهُوا أيّها النّصارى و ارتدعوا عن هذا القول الباطل، فإنّ الانتهاء عن التّثليث يكون خَيْراً لَكُمْ من القول بالتّثليث لأنّه كفر إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ بالذّات و الصّفات، منزّه عن التّعدّد و الكثرة.

ثمّ نزّهه عن اتّخاذ الولد بقوله: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كما ادّعاه النّصارى؛ لأنّ الولد لا يمكن أن يكون ملكا لوالده، و الحال أنّ اللّه لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ خلقا و ملكا و تصرّفا، لا يخرج من ملكوته عيسى عليه السّلام و غيره من الموجودات، و لا يحتاج إلى ولد و معين، إذ بذاته و قدرته يدبّر كلّ شيء وَ كَفى بِاللّهِ وحده وَكِيلاً و مدبّرا لامور الكائنات، فمن يكون له الغنى و القدرة غير المتناهيين، يمتنع أن يتّخذ لنفسه صاحبة و ولدا.

ص: 321


1- . الكافي 1:103/2، تفسير الصافي 1:484.
2- . التوحيد:172/4، تفسير الصافي 1:484.
3- . تفسير الرازي 11:116، تفسير روح البيان 2:330.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 172

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عبوديّة عيسى عليه السّلام له بالحجّة القاطعة، نبّه العالمين بأنّ عيسى عليه السّلام غير مستنكف عن عبوديّته، و غير راض بما يقول النّصارى في حقّه من كونه ثالث ثلاثة، أو ولدا للّه، بقوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ و لا يأبى أبدا عن أَنْ يَكُونَ عَبْداً خاضعا لِلّهِ و إن استنكف النّصارى عنه، بل وَ لاَ يستنكف اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ و الكروبيّون الّذين هم حول العرش، كجبرئيل و أضرابه، عن أن يكونوا عبيدا للّه، مع كونهم أشدّ قوّة من عيسى، و أعظم خلقة، و أقلّ حاجة منه، و إن كان عيسى عليه السّلام أقرب منزلة و أعلى قدرا منهم عند اللّه. فظهر من التّفسير الذي ذكرنا أنّ الاستدلال بالآية على أفضليّة الملائكة من الأنبياء-كما نسب إلى المعتزلة-فاسد جدا.

لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)روي أنّ وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لم تعيب صاحبنا؟ قال: «و من صاحبكم؟» . قالوا: عيسى، قال: «و أيّ شيء قلت؟» . قالوا: تقول إنّه عبد اللّه و رسوله، قال: «[إنّه]ليس بعار أن يكون عبدا للّه» . فنزلت الآية (1).

ثمّ هدّد اللّه تعالى المستنكفين عن عبادته بقوله: وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ و يتأنّف عَنْ عِبادَتِهِ و طاعته وَ يَسْتَكْبِرْ و يترفّع عنها فَسَيَحْشُرُهُمْ من القبور و يسوقهم إِلَيْهِ يوم القيامة حال كونهم جَمِيعاً لا يشذّ منهم [أحد].

سوره 4 (النساء): آیه شماره 173

ثمّ بشّر المقرّين بتوحيده و عبوديّته بالثّواب و زيادة التّفضّل بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بربوبيّة اللّه و عبوديّة أنفسهم وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ و يعطيهم أُجُورَهُمْ و ثواب أعمالهم من غير نقص وَ يَزِيدُهُمْ أضعافها مِنْ فَضْلِهِ وسعة رحمته.

فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173)ثمّ هدّد سبحانه المستنكفين بالعذاب الشّديد بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا و تأنّفوا عن عبادة اللّه وَ اِسْتَكْبَرُوا و ترفّعوا عن طاعته فَيُعَذِّبُهُمْ في الآخرة بسبب استنكافهم و استكبارهم عَذاباً أَلِيماً في الغاية لا يمكن وصفه وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ فيها أحدا مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه

ص: 322


1- . تفسير الرازي 11:117.

وَلِيًّا ينجيهم من العذاب وَ لا نَصِيراً و معينا مدافعا عنهم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 174

ثمّ أنّه تعالى بعدما أبطل دعاوى النّصارى بالحجّة القاطعة، و الوعد على الإيمان و الطّاعة، و الوعيد على الاستنكاف عن العبوديّة، أعاد الدّعوة إلى الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ و حجّة قاطعة على الحقّ مِنْ رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، و هو الرّسول المبيّن للحقائق، القاطع للأعذار.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)و قيل: هو المعجزات الباهرات (1).

وَ أَنْزَلْنا من السّماء إِلَيْكُمْ لهدايتكم نُوراً مُبِيناً و قرآنا موضّحا للعلوم، كاشفا لطريق الهداية، و مزيلا لظلمات الجهل و الغواية، فما بقي لكم في الانحراف عن الحقّ و ترك الدّخول في الإسلام عذر.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 175

ثمّ رغّب النّاس في قبول دين الحقّ و الالتزام به، بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ و أقرّوا بوحدانيّته و كمال صفاته وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ في أن يحفظهم من الزّلاّت و اتّباع الشّهوات بتوفيقه فَسَيُدْخِلُهُمْ بعد الموت فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ .

فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أي في الجنّة (2).

وَ فَضْلٍ هو ما لا عين رأت، و لا اذن سمعت وَ يَهْدِيهِمْ في الدّنيا إِلَيْهِ و إلى مقام قربه صِراطاً و طريقا مُسْتَقِيماً موصلا.

عن القمّي رحمه اللّه: النّور: إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، و الاعتصام: التّمسّك بولايته و ولاية الأئمّة صلوات اللّه عليهم بعده (3).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام: «الصّراط المستقيم: عليّ عليه السّلام» (4)، و قد مرّ تفسير (الصّراط) في الفاتحة.

ص: 323


1- . تفسير أبي السعود 2:262، تفسير روح البيان 2:333.
2- . تفسير الرازي 11:120، تفسير أبي السعود 2:263.
3- . تفسير القمي 1:159، تفسير الصافي 1:486.
4- . تفسير العياشي 1:457/1153، تفسير الصافي 1:486.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 176

في بيان إرث

الأخوة و الأخوات

من قبل الأب أو

الأبوين

ثمّ لمّا بدأ اللّه تعالى في السورة المباركة بحقوق الناس من الأيتام و الازواج و الأرحام، ختم السّورة بما بدأ به من حقوق النّاس التي منها إرث الإخوان و الأخوات من الأب، بقوله: يَسْتَفْتُونَكَ يا رسول [اللّه]عن حكم إرث الإخوة و الأخوات قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ و يبيّن لكم الحكم فِي اَلْكَلالَةِ و القرابة التي لا تكون بوالد و لا ولد.

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)روي أنّ جابر بن عبد اللّه كان مريضا، فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: إنّي كلالة-أي لا يخلفني والد و لا ولد-فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت (1).

إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ و رجل مات، و كان ممّن لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ و إن نزل وَ لَهُ من الوارث القريب أُخْتٌ واحدة من قبل الأب، سواء كانت من قبل الأمّ أيضا أم لا، لذكره تعالى حكم كلالة الامّ في أول السّورة فَلَها بالفرض نِصْفُ ما تَرَكَ الميّت من الأموال و الحقوق، و النّصف الآخر بالرّدّ إن لم يكن له زوجة.

ثمّ بيّن حكم إرث الأخ من الاخت بقوله: وَ هُوَ يَرِثُها جميع مالها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و إن نزل، و لا زوج و لا غيره من الإخوة و الأخوات، و إلاّ فللزوج نصيبه الأعلى، و للإخوة من الامّ نصيبهم، و الباقي للأخ من الأب و الامّ، و إن لم يكن فللأخ من الأب وحده.

ثمّ بيّن حكم إرث الاختين فصاعدا من الأب بقوله: فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ أو كنّ أكثر فَلَهُمَا أولهنّ جميعا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ الميّت أخا كان أو اختا، يقسّمن بينهنّ بالسّويّة، و الباقي لهنّ بالرّدّ، إن لم يكن معهنّ زوج أو زوجة أو كلالة الام.

ثمّ بيّن حكم اجتماع الأخ و الاخت في الإرث بقوله: وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً مختلفين (2)رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ منهم من أموال الميّت حظّ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

عن الباقر عليه السّلام: «إذا مات الرّجل و له اخت، تأخذ نصف الميراث (3)بالآية، كما تأخذ البنت لو كانت، و النّصف الباقي يردّ عليها بالرّحم، إذا لم يكن للميّت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاخت أخ،

ص: 324


1- . تفسير روح البيان 2:334.
2- . في النسخة: مختلفة.
3- . في تفسير القمي: تأخذ نصف ما ترك من الميراث، لها نصف الميراث.

أخذ الميراث كلّه بالآية، لقول اللّه: وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و إن كانتا اختين، أخذتا الثّلثين بالآية، و الثلث الباقي بالرّحم، و إن كانوا إخوة رجالا و نساء، فللذّكر مثل حظّ الانثيين، و ذلك كلّه إذا لم يكن [للميت]ولد، أو أبوان، أو زوجة» (1).

ثمّ منّ سبحانه و تعالى على النّاس بقوله: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ المعارف و الأحكام بالبيان الواضح، كراهة أَنْ تَضِلُّوا عن الحقّ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و مصالح الأحكام عَلِيمٌ خبير.

قيل: هذه الآية آخر آية نزلت في الأحكام (2)، و سمّيت بآية الصّيف، لأنّها نزلت بالصّيف، و آية الكلالة في أول السّورة نزلت بالشّتاء (3).

[وجه نظم المائدة

بعد النساء]

و من لطائف هذه السّورة المباركة أنّ اللّه بدأ فيها ببيان كمال قدرته بقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ (4)، و ختمها ببيان كمال علمه بقوله: وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (5).

و هذان الوصفان مرجع جميع صفاته تعالى، و مثبت الوهيّته و ربوبيّته الموجبتين لكمال طاعته و الانقياد له على العبد، و لذا ردفها بسورة المائدة، المبدأة فيها بالأمر بطاعة جميع أحكامه التي هي عقود اللّه و عهوده إلى عباده، مضافا إلى تصدّر السّورتين بالخطاب الشّفاهي مع تقدّم عامّه و هو قوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ على خاصّة و هو قوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا (6)و اشتمال سورتي البقرة و آل عمران على عمد أحكام العبادات، و سورة النّساء على مهمّات حقوق النّاس، و سورة المائدة على كثير من أحكام الأطعمة و الأشربة، و اشتمال السّور الثّلاثة السّابقة على محاجّة أهل الكتاب، و هذه السّورة على نتيجة المحاجة من إيمان بعضهم كالنّجاشي.

و في السّور السّابقة بيان الدّين، و في هذه السّورة البشارة بتكميله، و في النّساء بيان حكم الوصيّة، و في هذه السّورة بيان كيفيّة إثباتها، إلى غير ذلك من الوجوه التي اقتضى حسن النّظم ذكر المائدة بعد النّساء، فابتدأ فيها تيّمنا و تعليما للعباد بذكر: بسم اللّه الرحمن الرحيم.

ص: 325


1- . تفسير القمي 1:159، تفسير الصافي 1:486، و في النسخة: ولد و أبوان و زوجة.
2- . تفسير البيضاوي 1:251.
3- . مجمع البيان 3:229. و فيه: أن اللّه تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، و هي التي في أول هذه السورة، و اخرى في الصيف، و هي هذه الآية.
4- . النساء:4/1.
5- . الأنعام:6/101.
6- . المائدة:5/1.

ص: 326

في تفسير سورة المائدة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 1

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ و قد سبق تفسيره في سورة الفاتحة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)

في دلالة آية:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

على لزوم كل عقد

ثمّ لمّا كان الانقياد لأحكام اللّه و الوفاء بعهوده من لوازم الإيمان، و شاقا على الطّباع، خاطب أهل الإيمان على وجه المشافهة بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صميما و حقيقة بتوحيد اللّه و كمال صفاته، و رسالة رسوله و أحكام دينه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و التزموا بالعمل بالعهود الموثّقة التي بينكم و بين ربّكم من أحكامه و واجباته و محرّماته، أو بين غيركم من العباد كعقود المعاملات، أو بين أنفسكم كالإيقاعات من الطّلاق و التّحرير و الإبرار و النّذر و العهد و اليمين.

و قيل: إنّ المراد خصوص ما يعقد النّاس في معاملاتهم، و من الوفاء القيام بمقتضاه من اللّزوم و الجواز، فإنّ كان لازم العمل عمل بلّزومه، و إن كان جائز العمل عمل بجوازه.

أمّا القول الأوّل من تخصيصه بخصوص المعاملات، فخلاف الظّاهر. و أمّا الثاني، ففاسد جدّا؛ لأنّ الوفاء بالعهد هو العمل بمضمونه، و لزوم العهد و جوازه ليسا من مدلوله، بل هما حكمان شرعيّان في موضوع العهد.

فعلى ما ذكرنا لا إجمال في الآية، كما ادّعاه الفاضل المقداد (1)، و تبعه بعض من تأخّر عنه، بل عمومها مثبت بلزوم كلّ عقد حتّى يثبت بالدليل جوازه و الخيار فيه.

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الجواد عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عقد عليهم لعلي عليه السّلام [بالخلافة]في عشرة مواطن، ثمّ أنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين صلوات

ص: 327


1- . كنز العرفان 2:71.

اللّه عليه» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بإطاعة أحكامه على وجه الإجمال، شرع في تفصيله، فبدأ بذكر ما يحلّ و ما يحرم من المطعومات بقوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ من جانب اللّه بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ من الإبل و البقر و الغنم، أهليّها و وحشيّها.

و عن الباقر عليه السّلام: «هي الأجنّة التي في بطون الأنعام، و قد كان أمير المؤمنين عليه السّلام يأمر ببيع الأجنّة» (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام، في تفسيرها: «الجنين في بطن امّه إذا أشعر و أوبر، فذكاته ذكاة امّه» (2).

و زاد في (الكافي) و (القمّي) : «فذلك الذي عنى اللّه عزّ و جلّ» (3).

و في رواية: «و إن لم يكن تامّا فلا تأكله» (4).

و قيل: إضافة البهيمة إلى الأنعام بيانيّة، و المراد: عموم الأزواج الثّمانية (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ عليّا عليه السّلام سئل عن أكل لحم الفيل و الدّبّ و القرد، فقال: ليس هذا من بهيمة الأنعام التي تؤكل» (6).

ثمّ استثنى عن عموم الحلّ بقوله: إِلاّ ما يُتْلى و يقرأ عَلَيْكُمْ فيما بعد من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ (7)، ثمّ خصّ الحلّ من الوحشيّ بكونكم غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ و مقتضيه وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ متلبّسون بإحرام الحجّ أو العمرة، فإنّه لا يحلّ لكم الصّيد في تلك الحالة.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم عدم الفرق بين حال الإحرام و الإحلال، و بين الصّيد و غيره، دفعه اللّه بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من التّحليل و التّحريم على ما تقتضيه حكمته البالغة التي لا تبلغها العقول، فعليكم التّسليم و الانقياد.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 2

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (8)

ص: 328


1- . تفسير القمي 2:160، تفسير الصافي 2:5.
2- . تفسير العياشي 2:5/1170، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 2:5.
3- . تفسير القمي 1:160، الكافي 6:234/1، تفسير الصافي 2:6.
4- . الكافي 6:234/2، تفسير الصافي 2:6.
5- . تفسير البيضاوي 1:253، تفسير روح البيان 2:337.
6- . تفسير العياشي 2:5/1171، تفسير الصافي 2:6.
7- . المائدة:5/3.
8- . تفسير العياشي 2:5/1169، تفسير الصافي 2:6.

ثمّ لمّا حرّم اللّه الصّيد في حال الإحرام، أكّد ذلك بالنّهي عن التّهاون بأحكامه و محرّماته بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ و لا تخلّوا بشيء من أحكامه التي يكون الالتزام بها علامة الإيمان و أهله و شعارا للمسلم. أو المراد: لا تتهاونوا بشيء ممّا حرّم اللّه عليكم حال الإحرام أو بشيء من مناسك الحجّ.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ المشركين كانوا يحجّون البيت، و يهدون الهدايا، و يعظّمون المشاعر، و ينحرون، فأراد المسلمون أن يغيّروا عليهم، فأنزل اللّه: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ (1).

قيل: كانت العرب لا يرون الصّفا و المروة من شعائر الحجّ، و لا يطوفون بهما، فأنزل اللّه: لا تستحلّوا ترك شيء من مناسك الحجّ (2).

وَ لاَ تستحلّوا اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ بالقتل و الغارة فيه.

عن الباقر عليه السّلام: «نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم» (1).

في قضية شريح

البكري و غدره

و قيل: اسمه شريح بن ضبيعة البكري، أتى المدينة من اليمامة و خلّف خيله خارج المدينة، و دخل وحده على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال له: إلام تدعو النّاس؟ فقال: «إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و إقام الصّلاة، و إيتاء الزّكاة» ، فقال: حسن، إلاّ أنّ لي امراء لا أقطع أمرا دونهم لعلّي اسلم و آتي بهم، و قد كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: «يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلّم بلسان الشّيطان» (2).

ثمّ خرج شريح من عنده فقال عليه السّلام: «لقد دخل بوجه كافر، و خرج بقفا غادر، و ما الرّجل بمسلم» ، فمرّ بسرح (3)المدينة فاستاقه فانطلق، فتبعوه فلم يدركوه، فلمّا كان العام المقبل خرج حاجا في حجّاج بني بكر بن وائل من اليمامة و معه تجارة عظيمة و قد قلّدوا الهدي، فقال المسلمون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، هذا الحطيم (4)قد خرج حاجّا، فخلّ بيننا و بينه، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه قد قلّد الهدي» ، فقالوا: يا رسول اللّه، هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية، فأبى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية (5).

وَ لاَ تستحلّوا اَلْهَدْيَ الذي يهدى إلى الكعبة بغصبه، أو بمنعه من بلوغ محلّه وَ لاَ اَلْقَلائِدَ التي يقلّد بها الهدي. و فيه مبالغة في النّهي عن التّعرّض لذوات القلائد من الهدي، و تخصيصها

ص: 329


1- . مجمع البيان 3:236، تفسير الصافي 2:6، و فيهما: الحطم، بدل الحطيم.
2- . تفسير روح البيان 2:338.
3- . السّرح: الماشية تسرح في الأرض.
4- . في تفسير روح البيان: الخطيم.
5- . تفسير روح البيان 2:338.

بالذّكر مع كونها داخلة في الهدي لكونها أشرف الهدي.

وَ لاَ تستحلّوا آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ و قاصدي زيارته، حال كونهم لا يقصدون بزيارتهم الكعبة قتالكم و غدركم، بل يَبْتَغُونَ و يطلبون بسفر الزّيارة فَضْلاً و ثوابا، أو ربح تجارة مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً منه باعتقادهم، و إن كانوا بسبب كفرهم لا ينالون ذلك، و لكن يكون لهم ببركة هذا القصد و هذا السّفر نوع من الحرمة.

عن ابن عبّاس: أنّه منسوخ بقوله: فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ (1).

و روي أنّه لم ينسخ من المائدة حكم (2). و عليه، فلا بدّ من القول بأنّ المراد من الآمّين خصوص المسلمين، أو يقال: لا تنافي بين منعهم من قرب المسجد، و عدم حلّيّة التّعرّض لهم بالقتل و الغارة.

ثمّ لمّا نهى اللّه عن تحليل الصّيد حال الإحرام، صرّح بجوازه بعد التّحليل بقوله: وَ إِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام و خرجتم منه فَاصْطادُوا بعد لزوال المانع.

ثمّ بعد النّهي عن التّعدّي على الكفّار في الأشهر الحرم بالقتل و الغارة، و عن استحلال قاصدي زيارة البيت، صرّح بأنّ تعدّي الكفّار على المسلمين في غير الأشهر الحرم لا يوجب جواز التّعدّي عليهم فيها، بقوله: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أيّها المسلمون و لا يحملنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ من الكفّار، و شدّة عداوتكم لهم لأجل أَنْ صَدُّوكُمْ و منعوكم عَنِ دخول اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و زيارته و طوافه للعمرة عام الحديبية على أَنْ تَعْتَدُوا و تجوروا عليهم انتقاما منهم و تشفّيا.

ثمّ بعد النّهي عن التّعدّي، أمر بالمعاونة على العفو و الإحسان، و نهى عن معاونة المتعدّي أيضا بقوله: وَ تَعاوَنُوا عَلَى عمل اَلْبِرِّ و الخير؛ و هو العفو وَ فعل اَلتَّقْوى و هو إطاعة أمر اللّه و نهيه وَ لا تَعاوَنُوا و لا تعاضدوا عَلَى اَلْإِثْمِ و عصيان اللّه، وَ لا اَلْعُدْوانِ و الظّلم على الغير للتّشفّي و الانتقام.

ثمّ أكّد الأمر بالتّعاون على التّقوى بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و لا تستحلّوا شيئا من محارمه. ثمّ هدّد على مخالفة أحكامه بقوله: إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ بحيث لا يطيق أحد الصّبر عليه فخافوا-في مخالفة أحكامه و ترك التّقوى-عقابه الشّديد في الآخرة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 3

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

ص: 330


1- . مجمع البيان 3:239، و الآية من سورة التوبة:9/28.
2- . مجمع البيان 3:239، تفسير الصافي 2:7.

جملة من

المأكولات المحرمة

ثمّ تلا سبحانه ما استثناه-من تحليل عموم أجزاء بهيمة الأنعام بقوله في الآية الاولى: إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ -بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أيّها المؤمنون من قبل اللّه أشياء: أحدها: اَلْمَيْتَةُ و ما زهق روحه من كلّ حيوان بحتف أنفه، أو بغير التّذكية الشّرعيّة؛ لأنّ في أكله مضارّ عظيمة، لتعفّن الدّم المحتبس في عروقه.

وَ الثانية: اَلدَّمُ غير المتخلّف في الذّبيحة، سمّي بالمسفوح.

وَ الثالثة: لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ لأنّ الخنزير مطبوع على الحرص و الشّهوة، و الإنسان يتخلّق بأخلاق الحيوان الذي تصير أجزاؤه جزءا من بدنه.

قيل: إنّما خصّه بالذّكر من بين سائر الحيوانات المحرّمة؛ لأنّ العرب كانوا يعتادون أكله (1).

وَ الرابع: ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ و هو المذبوح الذي رفع الصّوت عند ذبحه باسم الأصنام.

و عن الباقر عليه السّلام: «يعني ما ذبح للأصنام» (2).

وَ الخامسة: اَلْمُنْخَنِقَةُ و هي الحيوان الذي يعصر حلقه حتّى يموت.

وَ السادسة: اَلْمَوْقُوذَةُ و هي الحيوان الذي يضرب حتّى يموت.

وَ السابعة: اَلْمُتَرَدِّيَةُ و هي الحيوان الذي يموت بالسّقوط من شاهق.

وَ الثامنة: اَلنَّطِيحَةُ و هي الحيوان الذي يموت بالمناطحة.

وَ التاسعة: ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ منه إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ إيّاه و طهّرتموه بما جعله اللّه له تطهيرا من النّحر أو الذّبح.

عن الرضا عليه السّلام: «المتردية، و النّطيحة، و ما أكل السّبع، إذا أدركت ذكاته فكله» (3).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّ أدنى ما يدرك به الذّكاة أن تدركه و هو يحرّك اذنه و ذنبه، أو تطرف عينيه» (4).

ص: 331


1- . تفسير الصافي 2:7.
2- . الخصال:451/57، تفسير الصافي 2:7.
3- . تفسير العياشي 2:8/1176، تفسير الصافي 2:9.
4- . مجمع البيان 3:244، تفسير الصافي 2:9.

و عن الصادق عليه السّلام: «في كتاب عليّ: إذا طرفت العين أو ركضت الرّجل، أو تحرّك الذّنب، فكل منه، فقد أدركت ذكاته» (1).

في معنى الاستقسام

بالازلام

وَ العاشر: ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ و فوق الأحجار التي [هي]منصوبة حول البيت، و كان المشركون يذبحون القرابين عليها وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا و تطلبوا معرفة النّصيب بِالْأَزْلامِ و الأقداح.

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا المنخنقة، فإنّ المجوس كانوا لا يأكلون الذّبائح و يأكلون الميتة، و كانوا يخنقون البقر و الغنم فإذا انخنقت و ماتت أكلوها. و الموقوذة كانوا يشدّون أرجلها و يضربونها حتّى تموت، فإذا ماتت أكلوها. و النّطيحة كانوا يناطحون بالكباش (2)، فإذا مات أحدهما أكلوه، وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ فكانوا يأكلون ما يأكله (3)الذّئب و الأسد، فحرّم اللّه ذلك، وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ كانوا يذبحون لبيوت النّيران، و قريش كانوا يعبدون الشّجر و الصّخر فيذبحون لها» (4).

و عن الجواد عليه السّلام، في رواية قال: «كانوا في الجاهليّة يشترون بعيرا فيما بين عشرة. . . فمن خرج باسمه سهم [من التي]لا أنصباء لها الزم ثلث ثمن البعير، فلا يزالون كذلك حتّى تقع السّهام الثّلاثة التي لا أنصباء لها إلى ثلاثة منهم فيلزمونهم ثمن البعير، ثمّ ينحرونه، و يأكله السّبعة الّذين لم ينقدوا في ثمنه شيئا، و لا يطعمون منه الثّلاثة الّذين وفّروا ثمنه شيئا، فلمّا جاء الإسلام حرّم اللّه تعالى ذكره ذلك فيما حرّم، فقال عزّ و جلّ: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ، ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني حرام» (5).

قيل: إنّما سمّى اللّه الاستقسام بالأزلام فسقا؛ لأنّه طلب معرفة الغيب، مع أنّه مختصّ باللّه تعالى (6).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من تكهّن أو استقسم أو تطيّر طيرة تردّه عن سفره، لم ينظر إلى الدّرجات العلى من الجنّة يوم القيامة» (7).

و قيل: إنّ العرب كانوا يجيلون تلك الأزلام عند الأصنام، و يعتقدون أنّ ما يخرج من الأمر و النّهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام و إعانتهم (8).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غالب أحكام دينه، و أمره بنصب أمير المؤمنين عليه السّلام علما و خليفة في المسلمين، و ظهور قوّة الإسلام، بشّر المسلمين بخذلان الكفّار بقوله: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و الآن انقطع طمعهم مِنْ توهين دِينِكُمْ و غلبتهم عليكم، و من إضلالكم و انصرافكم عن

ص: 332


1- . الكافي 6:232/3، تفسير الصافي 2:9.
2- . في النسخة: بالكبائش.
3- . في الخصال: ما يقتله.
4- . الخصال:451/57، تفسير الصافي 2:7.
5- . التهذيب 9:83/354، تفسير الصافي 2:8.
6- . تفسير الرازي 11:136. (7 و 8) . تفسير الرازي 11:136.

التّوحيد و رجوعكم إلى الشّرك فَلا تَخْشَوْهُمْ من أن يغلبوكم، و يمنعوكم من العمل بأحكام دينكم بعد اليوم وَ اِخْشَوْنِ فقط في ترك طاعتي و مخالفة شريعتي أن تحلّ بكم عقوبتي.

ثمّ بشّرهم سبحانه بعد تعليمهم مناسك الحجّ، و تعريفهم الحجّة البالغة عليهم بعد نبيّهم صلّى اللّه عليه و آله بقوله: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنّصّ على جميع المعارف، و عمد الأحكام، و الدّلالة على باب العلم وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ بإتمام الدّين نِعْمَتِي و فضلي و رحمتي وَ رَضِيتُ و اخترت لَكُمُ اَلْإِسْلامَ الذي هو دين اللّه و دين ملائكته دِيناً .

عن (المجمع) : عنهما عليهما السّلام: «إنّما نزل بعد أن نصب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام علما للأنام يوم غدير خمّ، عند منصرفه عن حجّة الوداع» قالا: «و هي آخر فريضة أنزلها اللّه، ثمّ لم تنزل فريضة بعدها» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «الفريضة تنزل بعد الفريضة الاخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، قال [اللّه عزّ و جلّ]: لا انزل بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض» (2).

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما يبكيك يا عمر؟» ، قال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا، فإذا كمل فإنّه لم يكمل شيء إلاّ نقص، قال: «صدقت» ، فكانت هذه الآية تنعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و عاش بعدها أحدا و ثمانين يوما، و مات يوم الاثنين (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة جملة من الأطعمة-و الفصل بالجملة الاعتراضية للتّأكيد و التّبشير-عاد إلى بيان حكم الاضطرار إلى تناولها، بقوله: فَمَنِ اُضْطُرَّ إلى تناول شيء من المحرّمات المذكورة فِي حال مَخْمَصَةٍ و مجاعة يخاف على نفسه منها الهلاك أو الضّرر، فليتناول ممّا حرّم عليه، و لكن لا بدّ أن يكون في أكله غَيْرَ مُتَجانِفٍ و متعمّد لِإِثْمٍ بأن يتجاوز عن حدّ الاضطرار فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ غير مؤاخذ رَحِيمٌ به بترخيصه في الأكل من المحرّمات.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 4

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة جملة من المطعومات، حكى سؤال النّاس عن محلّلاتها بقوله:

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (4)

ص: 333


1- . مجمع البيان 3:246، تفسير الصافي 2:10.
2- . الكافي 1:229/4، تفسير الصافي 2:10.
3- . تفسير روح البيان 2:343.

يَسْئَلُونَكَ يا محمّد، عن أنّه ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ من المطاعم؟ و ما الذي رخّص لهم في أكله؟ ثمّ أمر بجوابهم بقوله: قُلْ للسّائلين: أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ و كلّ ما لا تستخبثه الطّباع السّليمة، أو [كلّ ما]يستلذّ منه ذوو المروءات، كما قيل (1).

و قيل: إنّ العرب في الجاهليّة كانوا يحرّمون أشياء من الطّيّبات كالبحيرة و السّائبة و الوصيلة و الحام، مع حكمهم بكونها طيّبة (2)، فردّ اللّه عليهم بترخيصه في أكلها.

و يمكن أن يكون المراد ما لا ضرر في أكله في نظر الشّارع. و عليه تكون مجملة محتاجة إلى البيان.

ثمّ نصّ سبحانه على حلّيّة قسم خاص منها، للاهتمام بالتّنبيه عليه بقوله: وَ ما عَلَّمْتُمْ قيل: إنّ التّقدير: صيد ما علمتم (3)مِنَ اَلْجَوارِحِ و الكواسب من السّباع و الطّير، حال كونهنّ مُكَلِّبِينَ و مؤدّبين الاصطياد (4).

قيل: سمّي تأديب الجوارح تكليبا، لكثرة كون التّأديب في الكلاب (5).

ثمّ أكّد سبحانه اشتراط حلّ صيدهنّ بالتّأديب، بقوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ و ألهمكم به من طرق التّأديب.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «في كتاب عليّ عليه السّلام، في قول اللّه تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قال: هي الكلاب» (6).

و قيل: إنّ ما عَلَّمْتُمْ مبتدأ، خبره: فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ (7).

فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ من الحيوانات عَلَيْكُمْ لا على أنفسهنّ.

قيل: أدبهنّ: اتّباعهنّ الصّيد بإرسال صاحبهنّ، و انزجارهنّ بزجره، و انصرافهنّ بدعائه، و إمساكهنّ عليه الصّيد: بأن لا يأكلن منه و إن قتلنه (8).

وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ حين إرسالهنّ.

عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن صيد البزاة و الصّقور و الفهود و الكلاب، قال: «لا، [تأكل]إلاّ ما ذكّيت، إلاّ الكلاب» . قيل: فإنّه قتله؟ قال: «كل، فإنّ اللّه يقول: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ

ص: 334


1- . تفسير روح البيان 2:345.
2- . تفسير الرازي 11:141.
3- . تفسير الرازي 11:142.
4- . كذا، و الظاهر من التفاسير: حال كونكم مكلبين و مؤدبين للاصطياد.
5- . تفسير الرازي 11:143.
6- . الكافي 6:202/1، التهذيب 9:22/88، تفسير الصافي 2:11.
7- . تفسير الرازي 11:143، تفسير أبي السعود 3:8.
8- . تفسير أبي السعود 3:8.

مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» (1) .

ثم قال عليه السّلام: «كلّ شيء من السّباع تمسك الصّيد على نفسها إلاّ الكلاب المعلّمة، فإنّها تمسك على صاحبها، فإذا ارسلتم (2)فاذكروا اسم اللّه عليه فهو ذكاته» (3).

و عنه عليه السّلام، و قد سئل عن إرسال الكلب و الصّقر، فقال: «أمّا الصّقر فلا تأكل من صيده حتّى تدرك ذكاته، و أمّا الكلب فكل منه إذا ذكرت اسم اللّه عليه، أكل الكلب منه أو لم يأكل» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «ما قتلت من الجوارح مكلّبين و ذكرتم اسم اللّه عليه فكلوا من صيدهنّ، و ما قتلت الكلاب التي لم تعلّموها من قبل، ان تدركوه فلا تطعموه» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال لعديّ بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم و ذكرت اسم اللّه، فكل» (5).

و في رواية: «و إن أكل فلا تأكل، إنّما أمسكه على نفسه» (6).

ثمّ لمّا كانت المطاعم مزلّة للشّيطان، أكّد اللّه سبحانه التّكاليف التّحريميّة و التّحليليّة المذكورة بأمره بالتّقوى بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و احذروا مخالفة أحكامه. ثمّ هدّد على المخالفة بقوله: إِنَّ اَللّهَ في الآخرة سَرِيعُ اَلْحِسابِ لأعمالكم، فيؤاخذكم على معاصيكم بأسرع وقت.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 5

ثمّ منّ اللّه سبحانه على العباد بتسهيل أحكامه في المأكولات بقوله: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ و الآن رخّص لكم في أكل المستلذّات جميعها-و قد مرّت الوجوه في تفسيرها (7)- وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ من اليهود و النّصارى حِلٌّ لَكُمْ .

اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (8)[عن]القمّي رحمه اللّه: عنى بطعامهم هنا: الحبوب و الفواكه، غير الذبائح التي يذبحونها، فإنّهم لا يذكرون

ص: 335


1- . تفسير القمي 1:162، تفسير الصافي 2:11.
2- . في المصدر: قال: إذا أرسلت الكلب المعلّم.
3- . تفسير القمي 2:162، تفسير الصافي 2:11.
4- . الكافي 6:207/3، تفسير الصافي 2:11.
5- . تفسير الرازي 11:144.
6- . تفسير أبي السعود 3:8.
7- . في تفسير الآية المتقدمة.
8- . الكافي 6:203/5، تفسير الصافي 2:11.

اسم اللّه خالصا على ذبائحهم، ثمّ قال: و اللّه، لا يستحلّون ذبائحكم، فكيف تستحلّون ذبائحهم؟ (1).

إن قيل: بعد كون ما سوى ذبائح أهل الكتاب داخلا في عموم الطّيّبات، فما وجه تخصيصه بالذّكر؟

قلت: لعلّه دفع توهّم حرمته لدخوله في تصرّف المشركين كحرمة ذبائحهم، كما دفع سبحانه حرمة طعام المسلمين عليهم بقوله: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ .

و الحاصل: أنّه لا شبهة في عدم جواز التّمسّك بعموم طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لإثبات حلّ ذبائحهم، لثبوت تخصيصه بغير ذبائحهم بالرّوايات المعتبرة المعمول بها بين الأصحاب، و تعيّن حمل ما يعارضها على التّقيّة.

ثمّ من أيضا بتوسعته على المسلمين في المناكح بقوله: وَ اَلْمُحْصَناتُ و العفائف أو الحرائر مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ -عن الصادق عليه السّلام: «هنّ المسلمات» (2)-حلّ لكم العقد عليهم مطلقا وَ اَلْمُحْصَناتُ و العفائف مِنَ نساء اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود و النّصارى، أيضا حلّ لكم إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ و مهورهنّ-و إنّما سمّي المهر أجرا لأنّه عوض البضع و الانتفاع، و لا يتقدّر بقدر، و في الاشتراط مع صحّة النّكاح بدون إعطاء المهر دلالة على تأكّد وجوب أدائه-حال كونكم مُحْصِنِينَ فروجكم، و حافظين لها من الزّنا بنكاحهنّ غَيْرَ مُسافِحِينَ و مجاهرين بالزّنا معهنّ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ و متستّرين به.

عن الشّعبي: الزّنا ضربان: سفاح، و هو الزّنا على سبيل الإعلان. و اتّخاذ خدن: و هو الزّنا في السّرّ (3).

و في تخصيص المحصنات بالحلّ، مع جواز نكاح غيرهنّ، إشعار بأولويّتهنّ.

و قد مرّ بعض الكلام في كونها ناسخة لقوله: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ (4)، أو منسوخة به، أو بقوله: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (5)في طرفة بيان النّاسخ و المنسوخ (6).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تكميل الدّين، و تسهيل الأحكام في المطعم و المنكح، هدّد الكافرين بهذه الملّة السّمحة السّهلة بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ و يمتنع من الالتزام بتلك الأحكام فَقَدْ حَبِطَ و بطل عَمَلُهُ الصّالح الذي عمله في السّابق، أو قبل موته؛ فلا يثاب عليه أبدا وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ يكون مِنَ اَلْخاسِرِينَ و المغبونين؛ حيث باع الجنّة و النّعيم الآبد بالجحيم و العذاب الدّائم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 6

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

ص: 336


1- . تفسير القمي 1:163، تفسير الصافي 2:12.
2- . تفسير العياشي 2:13/1197، تفسير الصافي 2:12.
3- . تفسير الرازي 11:148.
4- . الممتحنة:60/10.
5- . البقرة:2/221.
6- . راجع الطرفة (20) من المقدمة.

في بيان كيفية

الوضوء

ثمّ أنّه تعالى بعد المنّة على العباد بتسهيل أحكامه في أهمّ امور معاشهم من المطاعم و المناكح، بيّن تسهيله عليهم في ما هو العمدة في أمر معادهم و هو الصّلاة بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ من النّوم-كما عنهما عليهما السّلام (1)-قاصدين إِلَى اَلصَّلاةِ متهيّئين لها، أو المراد: إذا أردتم القيام إليها فَاغْسِلُوا بالماء المطلق وُجُوهَكُمْ من قصاص الشّعر إلى الذّقن طولا، و ما دارت عليه الإبهام و الوسطى عرضا-كما عن الباقر عليه السّلام (2)- وَ أَيْدِيَكُمْ لكن لا كلّها، بل ما بين رؤوس الأصابع إِلَى اَلْمَرافِقِ و مفاصل السّواعد و الأعضاد، بحيث تدخلون المرافق في الغسل.

وَ اِمْسَحُوا بعد الغسلتين أكفّكم المبتلّة ببلل الوضوء بِرُؤُسِكُمْ، و قد فسّر في صحيح زرارة ببعض الرأس، لمكان الباء (3)، و لا يلتفت إلى إنكار سيبويه مجيء الباء للتّبعيض. و يجب أن يكون في الرّبع المقدّم منه، و يجزي مسمّاه، و يستحبّ أن يكون قدر ثلاث أصابع عرضا.

ثمّ عطف سبحانه الأرجل على الرؤوس بقوله: وَ أَرْجُلَكُمْ فعلم أنّ المسح يجزي ببعض الأرجل، بحيث يصدق مسمّاه عرضا، و يستحبّ بالكفّ، و أمّا طولا فيجب أن يمسح القدم من رؤوس الأصابع إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ و قبّتي القدمين.

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدعا بطست أو تور (4)فيه ماء، فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه، ثمّ غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة، فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردّها إلى المرفق، ثمّ غمس كفّه اليمنى، فأفرغ على ذراعه اليسرى من المرفق و صنع بها مثل ما صنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه و قدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماء جديدا، ثمّ قال: «و لا يدخل أصابعه تحت الشّراك» .

ص: 337


1- . تفسير العياشي 2:16/1208 و 1209، تفسير الصافي 2:14.
2- . تفسير العياشي 2:18/1212، من لا يحضره الفقيه 1:28/88، تفسير الصافي 2:15.
3- . تفسير العياشي 2:19/1212، تفسير الصافي 2:18.
4- . التّور: إناء يشرب فيه.

ثمّ قال: «إنّ اللّه يقول: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ، فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلاّ غسله، و أمر بغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلاّ غسله؛ لأنّ اللّه يقول: اغسلوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ، ثمّ قال: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزء» .

فقيل: أين الكعبان؟ قال: «ها هنا» ، يعني: المفصل، دون عظم السّاق.

قيل: هذا ما هو؟ فقال: «هذا من عظم السّاق، و الكعب أسفل من ذلك» .

قيل: أصلحك اللّه، فالغرفة الواحدة تجزي للوجه، و غرفة للذّراع؟ قال: «نعم، إذا بالغت فيها، و الثّنتان تأتيان على ذلك كلّه» (1).

و في صحيح محمّد بن مسلم: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «مسح الرّأس على مقدّمه» (2).

فلا بدّ من حمل ما دلّ على الاجتزاء بالمسح على المؤخّر على التّقيّة.

و عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام قلت: إنّ أناسا يقولون إنّ بطن الاذنين من الوجه، و ظهرهما من الرأس، فقال: «ليس عليهما غسل و لا مسح» (3).

و عن حمّاد في الصّحيح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا بأس بمسح الوضوء (4)مقبلا و مدبرا» (5).

و عن أحدهما عليهما السّلام، في الرّجل يتوّضأ و عليه العمامة، قال: «يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه فيمسح على مقدّم رأسه» (6).

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدّمه مقدار ثلاث أصابع، و لا تلقي عنها خمارها» (7).

و عنه عليه السّلام، قال: «يجزي من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع، و كذلك الرّجل» (8).

و عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع، فمسحها إلى الكعبين-إلى ظاهر القدم-فقلت: جعلت فداك، لو أنّ رجلا قال بإصبعين من أصابعه؛ هكذا؟ فقال: «لا إلاّ بكفّه» (9).

ص: 338


1- . تفسير العياشي 2:17/1211، تفسير الصافي 2:17.
2- . التهذيب 1:62/171.
3- . الكافي 3:29/10، التهذيب 1:94/249.
4- . في التهذيب: بمسح القدمين.
5- . التهذيب 1:83/217.
6- . التهذيب 1:90/238.
7- . الكافي 3:30/5، التهذيب 1:77/195.
8- . الكافي 3:29/1، الاستبصار 1:60/177.
9- . الكافي 3:30/6، الاستبصار 1:62/184.

أقول: لا ريب أنّ هذه الرّواية و الرّواية السّابقة الدّالّة على الاجتزاء بثلاث أصابع محمولتان على الاستحباب، لقوّة إطلاق ما سواهما من الرّوايات، خصوصا قوله عليه السّلام: «فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأ» (1)المعتضد بعمل الأصحاب و فتوى المشهور.

في علل تشريع

الوضوء

و عن الرضا عليه السّلام قال: «امر بالوضوء و بدئ به، لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبّار [و]عند مناجاته إيّاه، مطيعا [له]في ما أمره، نقيّا من الأدناس و النّجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل، و طرد النّعاس، و تزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار» (2).

قال: «و إنّما جوّزنا الصّلاة على الميّت بغير وضوء؛ لأنّه ليس فيها ركوع و لا سجود. . . ، و إنّما يجب الوضوء في الصّلاة التي فيها ركوع و سجود» (3).

و في حديث (المعاني) عن الرضا عليه السّلام: «إنّما وجب الوضوء على الوجه و اليدين و مسح الرأس و الرّجلين؛ لأنّ العبد إذا قام بين يدي الجبّار فإنّما يكشف عن جوارحه و يظهر ما وجب فيه الوضوء، و ذلك أنّه بوجهه يستقبل و يسجد و يخضع و بيده يسأل و يرغب و يرهب و يتبتّل، و برأسه يستقبل في ركوعه و سجوده، و برجليه يقوم و يقعد، و إنّما وجب الغسل على الوجه و اليدين، و [جعل]المسح على الرأس و الرّجلين، و لم يجعل غسلا كلّه، و لا مسحا كلّه، لعلل شتّى، منها: أنّ العبادة العظمى إنّما هي الرّكوع و السّجود، و إنّما يكون الرّكوع و السّجود بالوجه و اليدين لا بالرّأس و الرّجلين. و منها: أنّ الخلق لا يطيقون في كلّ وقت غسل الرّأس و الرّجلين، و يشتدّ ذلك عليهم في البرد و السّفر و المرض و [أوقات من]اللّيل و النّهار، و غسل الوجه و اليدين أخفّ من غسل الرّأس و الرّجلين، و إنّما وضعت الفرائض على قدر أقلّ النّاس طاقة من أهل الصّحّة، ثمّ عمّ [فيها]القويّ و الضّعيف. و منها: أنّ الرأس و الرّجلين ليس هما في كلّ وقت باديان و ظاهران كالوجه و اليدين، لموضع العمامة و الخفّين و غير ذلك» (4).

في حكمة غسل

الوجه و اليدين

و مسح الرأس

و الرجلين

و عنه عليه السّلام، في رواية: «ثمّ الوضوء كما أمر اللّه في كتابه: غسل الوجه و اليدين إلى المرفقين (5)و مسح الرأس و الرّجلين، فلقيامه بين يدي اللّه عزّ و جلّ و استقباله إيّاه بجوارحه الظّاهرة، و ملاقاته بها الكرام الكاتبين، فغسل الوجه للسّجود و الخضوع،

ص: 339


1- . التهذيب 1:76/191.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام:2:104/1.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:115/1.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:104/1.
5- . في علل الشرائع: أن علة الوضوء التي من أجلها صار غسل الوجه و الذراعين.

و غسل اليدين ليقلّبهما و يرغب بهما و يرهب [و يتبتّل]، و مسح الرّأس و الرّجلين لأنّهما ظاهران مكشوفان يستقبل بهما في كلّ حالاته، و ليس فيهما من الخضوع و التّبتّل ما في الوجه و الذّراعين» (1)الخبر.

أقول: الظّاهر أنّه وقع التّصحيف في قوله: «لأنّهما ظاهران مكشوفان» و كانت العبارة: ليسا ظاهرين مكشوين يستقبل بهما في كلّ حالاته.

و في (العلل) : جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عن مسائل، و كان فيما سألوه: أخبرنا يا محمّد، لأيّ علّة توضّأ هذه الجوارح الأربع و هي أنظف المواضع في الجسد؟

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا أن وسوس الشّيطان إلى آدم، دنا من الشّجرة، فنظر إليها، فذهب ماء وجهه، ثمّ قام و مشى إليها، و هي أوّل قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ممّا عليها و أكل فتطاير الحليّ و الحلل عن جسده، فوضع آدم يده على امّ رأسه و بكى، فلمّا تاب اللّه عليه فرض اللّه عليه و على ذرّيّته تطهير (2)هذه الجوارح الأربع، فأمره اللّه بغسل الوجه لما نظر إلى الشّجرة، و أمره بغسل اليدين إلى المرافق لمّا تناول بهما، و أمره بمسح الرّأس لما وضع يده على امّ رأسه، و أمره بمسح القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة» (3).

و زاد في رواية قال: «ثمّ سنّ على امّتي المضمضة لينقى القلب عن الحرام، و الاستنشاق لتحرم عليهم رائحة النّار و نتنها» .

قال [اليهودي: صدقت]يا محمّد، فما جزاء عاملها؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل ما يمسّ الماء يتباعد عنه الشّيطان، فإذا تمضمض نور اللّه قلبه و لسانه بالحكمة، و إذا استنشق آمنه اللّه من النّار و رزقه رائحة الجنّة، و إذا غسل وجهه بيّض اللّه وجهه يوم تبيضّ وجوه و تسودّ وجوه، و إذا غسل ساعديه حرّم اللّه عليه أغلال النّار، و إذا مسح رأسه مسح اللّه عنه سيّئاته، و إذا مسح قدميه أجازه اللّه على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام» (4).

و عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: يصلّي الرّجل لوضوء [واحد صلاة]الليل و النّهار كلّها؟ قال: «نعم، ما لم يحدث» (5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الطّهر على الطّهر عشر حسنات» (6).

في بيان غسل

الجنابة و أحكامه

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى حكم المحدث بالحدث الأصغر، كالنّوم و البول و الغائط و الرّيح،

ص: 340


1- . علل الشرائع:280/2.
2- . في المصدر: غسل.
3- . علل الشرائع:280/1.
4- . أمالي الصدوق:258/279.
5- . الكافي 3:63/4.
6- . الكافي 3:72/10.

بيّن حكم المحدث بالحدث الأكبر، كالجنابة، بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً بخروج المنيّ، أو التقاء الختانين، و إن لم ينزل المنيّ فَاطَّهَّرُوا بالماء و اغتسلوا.

عن زرارة، قلت: كيف يغتسل الجنب؟ فقال: «إن لم يكن أصاب كفّه شيء غمسها في الماء، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف، ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين، و على منكبه الأيسر مرّتين، فما جرى عليه الماء فقد أجزأ» (1).

و عنه رضى اللّه عنه، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الجنابة، فقال: «تبدأ فتغسل كفّيك، ثمّ تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك و مرافقك، ثمّ تمضمض و استنشق، ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك، ليس قبله و لا بعده وضوء، و كلّ شيء أمسسته الماء فقد أنقيته، و لو أنّ رجلا جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة، أجزأ ذلك و إن لم يدلك جسده» (2).

و عنه عليه السّلام، في رجل أصابته جنابة، فقام في المطر حتّى سال على جسده، أيجزيه ذلك من الغسل؟ قال: «نعم» (3).

و عنه عليه السّلام، قال: «يجزيك من الغسل و الاستنجاء ما بلّت يمينك» (4).

و عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «إنّ الجنب ما جرى عليه الماء (5)قليله و كثيره، فقد أجزأه» (6).

و عنه عليه السّلام، في حديث: «و من انفرد بالغسل وحده فلا بدّ له من صاع» (7).

أقول: محمول على الاستحباب لدلالة الرّوايات الكثيرة على إجزاء مسمّى الغسل، و لو كالتّدهين.

عن الثّعلبي: قال عليّ عليه السّلام: «أقبل عشرة من أحبار اليهود فقالوا: يا محمّد، لماذا أمر اللّه بالغسل من الجنابة، و لم يأمر من البول و الغائط و هما أقذر من النّطفة؟ فقال عليه السّلام: إنّ آدم لمّا أكل من الشّجرة تحوّل في عروقه و شعره، فإذا جامع الإنسان نزل من أصل كلّ شعرة، فافترضه اللّه عليّ و على امّتي تطهيرا و تكفيرا و شكرا لما أنعم اللّه عليهم من اللّذّة التي يصيبونها» (8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في حديث: «من ترك شعرة من الجنابة متعمّدا فهو في النّار» (9).

و عنه عليه السّلام، قال: «من اغتسل من جنابته، فلم يغسل رأسه [ثمّ بدا له أن يغسل رأسه]، لم يجد بدّا من إعادة الغسل» (10).

ص: 341


1- . الكافي 3:43/3، التهذيب 1:133/368.
2- . التهذيب 1:148/422.
3- . الكافي 3:44/7.
4- . الكافي 3:22/6، التهذيب 1:138/386.
5- . زاد في الكافي و التهذيب: من جسده.
6- . الكافي 3:21/4، التهذيب 1:137/380.
7- . من لا يحضره الفقيه 1:24/72.
8- . تفسير روح البيان 2:355.
9- . التهذيب 1:135/373.
10- . الكافي 3:44/9، التهذيب 1:133/369.

و عنه عليه السّلام، قال: «إنّ عليّا عليه السّلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة، و يغسل سائر جسده عند الصّلاة» (1).

و عنه عليه السّلام، قال: «لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يدك و فرجك و رأسك، و تؤخّر غسل جسدك إلى وقت الصّلاة، ثمّ تغسل جسدك إذا أردت ذلك، فإن أحدثت حدثا من البول أو الغائط أو الرّيح أو المنيّ بعدما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك، فأعد الغسل من أوّله» (2).

و عنه عليه السّلام، عن آبائه، قال: «كنّ نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطّيب على أجسادهنّ، و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمرهنّ أن يصببن الماء صبّا على أجسادهنّ» (3).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه حكم من لم يتمكّن من استعمال الماء، بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بحيث يضرّكم استعمال الماء أَوْ راكبين عَلى سَفَرٍ قريب أو بعيد يشقّ عليكم استعماله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً للوضوء أو الغسل فَتَيَمَّمُوا و تعمّدوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ، قد مرّ تفسيره و بعض الكلام فيه في سورة النّساء (4).

ثمّ صرّح سبحانه بالمنّة على العباد بتخفيف أحكامه بقوله: ما يُرِيدُ اَللّهُ بأمركم بالوضوء أو الغسل للصّلاة لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ شيئا مِنْ حَرَجٍ و ضيق و مشقّة، و لذا لم يأمركم بتحمّل الضّرر، و تحصيل الماء بمشقّة شديدة وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ و ينظّفكم، و لذا أمركم عند فقد الماء، أو عدم التّمكّن من استعماله بالتّيمّم بالتّراب، لكونه أحد الطّهورين.

أو يريد ليبرئكم من الذّنوب، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الوضوء: «أيّما رجل قام إلى وضوئه يريد الصّلاة ثمّ غسل كفّيه، نزلت خطيئة كفّيه مع أوّل قطرة، فإذا تمضمض نزلت خطيئة لسانه و شفتيه مع أوّل قطرة، و إذا غسل وجهه و يديه، سلم من كلّ ذنب هو عليه، و كان كيوم ولدته امّه» (5).

ثمّ منّ بالمنّة الاخرى بقوله: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بتشريعه الحنيفيّة السّمحة السّهلة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته، و تعملون بشريعته.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 7

وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (7)

ص: 342


1- . الكافي 3:44/8، التهذيب 1:134/372.
2- . مدارك الأحكام 1:308.
3- . علل الشرائع:293/1.
4- . تقدّم في تفسير الآية (43) من سورة النساء.
5- . تفسير روح البيان 2:356.

ثمّ لمّا ذكر أنّ تشريع التّيمّم، و تخفيف أحكامه تتميم لنعمه، نبّههم بأصل نعمه ترغيبا إلى الشّكر، و حثّا على الانقياد، بقوله: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ من هدايتكم إلى دين الإسلام، و إخراجكم من ظلمات الشّرك و الجهل إلى نور التّوحيد و المعارف الإلهيّة التي لم تكن في سائر الامم، وَ اذكروا مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ و عهده الأكيد الذي عاهدكم عليه، بتوسّط رسوله حين بايع المؤمنين على السّمع و الطّاعة لجميع أوامره و أحكامه، في حال اليسر و العسر و النّشاط و الكره، و أنتم-أيّها المؤمنون-قبلتم العهد و التزمتم به إِذْ قُلْتُمْ في جواب الرّسول: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا أوامرك و أحكامك.

عن الباقر عليه السّلام: «المراد بالميثاق: ما بيّن لهم في حجّة الوداع من تحريم المحرّمات، و كيفيّة الطّهارة، و فرض الولاية، و غير ذلك» (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: لمّا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم بالولاية، قالوا: سمعنا و أطعنا (2).

ثمّ رهّب المؤمنين عن كفران النّعمة، و نقض الميثاق بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و احذروه في كفران نعمه و نسيانها، و نقض ميثاقه، و مخالفة أحكامه.

ثمّ بالغ في التّهديد بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و مطّلع على مكنونها، فيجازيكم عليها، فكيف بجليّات الأعمال!

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 8

ثمّ أكّد سبحانه وجوب العمل بالميثاق، و الوفاء بالعهد على امتثال أحكامه التي مرجعها إلى وجوب القيام بوظائف العبوديّة، و أداء حقوق النّاس، و العدل فيهم، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالعبوديّة لِلّهِ ثابتين على طاعته، مبالغين في أمتثال أوامره و نواهيه، مجدّين في العمل بأحكامه، و كونوا شُهَداءَ بين النّاس بِالْقِسْطِ و العدل، و قولوا الحقّ و إن كان مضرّا على أوليائكم، نافعا لأعدائكم وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ و لا يحملنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ و شدّة عداوة طائفة عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا فيهم، و تجوروا عليهم بارتكاب ما لا يحلّ لكم من المثلة، و قتل النّساء و الصّبية، و قذف المحصنة، و شهادة الزّور، و ارتكاب الخيانة، إلى غير ذلك، بل اِعْدِلُوا فيهم و إن ظلموكم،

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)

ص: 343


1- . مجمع البيان 3:260، تفسير الصافي 2:20.
2- . تفسير القمي 1:163، تفسير الصافي 2:20.

و أنصفوا بينهم و إن جاروا عليكم، و اعلموا أنّ العدل في القول و الفعل هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى الذي امرتم به.

قيل: نزلت الآية في مشركي قريش لمّا صدّوا المسلمين عن المسجد الحرام (1).

إن قيل: فكيف يجوز قتل الكفّار، و سبي نسائهم و ذراريهم، و نهب أموالهم، مع أنّه جور عليهم؟

قلت: الجور هو التّجاوز عن حدود الشّرع، و المعاملات المذكورة مع الكفّار هي الحدود المقرّرة فيه، و هو عين العدل.

ثمّ بالغ اللّه سبحانه في تأكيد الأمر بالتّقوى بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ يا عباد اللّه في مخالفة أحكامه، ثمّ وعد الملتزمين بالتّقوى بالثّواب، و أوعد التّاركين له بالعقاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الطّاعة و العصيان، بحيث لا يخفى عليه شيء من أحوالكم و أعمالكم خفيّها و جليّها، فيجازيكم بما تستحقّون من الثّواب و العقاب.

و في تكرار النّهي عن حمل الشّنآن على التّعدّي و ترك العدل دلالة على مزيد الاهتمام بالعدل، و المبالغة في إيجاب إطفاء نائرة الغيظ، و ترك متابعة الهوى.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ وعد اللّه سبحانه المؤمنين الملتزمين بالتّقوى و العدل و القسط تطييبا لقلوبهم، و تشفّيا لهم من غيظ الكفّار بالثّواب العظيم أوّلا بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و منها العدل و التّقوى، ثمّ كأنّه قيل: ما وعدهم؟ فقال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ و ستر للسّيّئات بتبديلها بالحسنات وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ من الجنّة و النّعم الدّائمة.

وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ (10)

ثمّ وعدهم بتعذيب أعدائهم ثانيا بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي منها الآيات الدّالّة على وجوب العدل و التّقوى أُولئِكَ الكافرون المكذّبون أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ و ملازموها إلى الأبد.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 11

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (11)

ص: 344


1- . تفسير الرازي 11:180.

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على ملازمة التّقوى و العدل لكونهما شديدي المخالفة للطّباع، بتذكير المؤمنين نعمه عليهم، المقتضية للطّاعة و الشّكر، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ و هي حفظ نفوسكم إِذْ هَمَّ و عزم قَوْمٌ من الكفّار على أَنْ يَبْسُطُوا و يمدّوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الأسر و الغارة فَكَفَّ اللّه أَيْدِيَهُمْ بلطفه و رحمته عَنْكُمْ و منعها من الوصول إليكم، إذن فاشكروا تلك النّعمة العظيمة وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و احذروا مخالفة أوامره و نواهيه، و لا تخافوا في طاعته أحدا وَ عَلَى اَللّهِ القادر فَلْيَتَوَكَّلِ و ليعتمد في دفع الأعداء و كيدهم اَلْمُؤْمِنُونَ به العارفون بولايته لأوليائه.

في بيان حفظ اللّه

نبيه صلّى اللّه عليه و آله من القتل

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سريّة إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلاّ ثلاثة نفر أحدهم عمر بن اميّة الضّمري، و انصرف هو و آخر معه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليخبراه خبر القوم، فلقيا رجلين من بني سليم، معهما أمان من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقتلاهما و لم يعلما أنّ معهما أمانا.

فجاء قومهما إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يطلبون الدّية، فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و معه عليّ عليه السّلام و أبو بكر و عمر و عثمان حتّى دخلوا على بني النّضير، و قد كانوا عاهدوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على ترك القتال، و أن يعينوه في الدّيات، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان منّي، فلزمني ديتهما، فاريد أن تعينوني» .

فقالوا: اجلس حتّى نطعمك و نعطيك ما تريد، ثمّ همّوا بالفتك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بأصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحال مع أصحابه و خرجوا، فقال اليهود: إنّ قدورنا تغلي، فأعلمهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أنّه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه. قال (1): و قد تآمروا على أن يطرحوا عليه رحا أو حجرا. و قيل: بل ألقوا، فأخذه جبرئيل.

و قيل: إنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله نزل منزلا و تفرّق النّاس عنه، و علّق سيفه بشجرة، فجاء أعرابي و سلّ سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: من يمنعك منّي؟ فقال: «اللّه» -قالها ثلاثا-فأسقطه جبرئيل من يده، فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: «من يمنعك منّي؟» فقال: لا أحد، ثمّ صاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه فأخبرهم، و أبى أن يعاقبه (2).

أقول: على هاتين الرّوايتين يكون المراد من تذكيرهم نعمة اللّه هو دفع الشّرّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث إنّ قتله أعظم المحن على المؤمنين.

ص: 345


1- . زاد في تفسير الرازي: عطاء.
2- . تفسير الرازي 11:183.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 12

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه أخذه الميثاق من المؤمنين و نعمته عليهم، ذكر أخذ الميثاق من بني إسرائيل و نعمته عليهم عبرة للمؤمنين، بقوله: وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ و عهدهم الوثيق على العمل بأحكام التّوراة وَ بَعَثْنا و اخترنا مِنْهُمُ بلسان موسى و تعيينه اِثْنَيْ عَشَرَ بعدد أسباطهم نَقِيباً و حاكما سائسا بينهم، أو قيّما و كافلا لامورهم، أو مفتّشا منقّبا لأحوالهم، كما جعل النبي صلّى اللّه عليه و آله للأنصار اثني عشر نقيبا وَ قالَ اَللّهُ بلسان موسى لبني إسرائيل أو لنقبائهم لترغيبهم إلى الطّاعة، و ترهيبهم عن المعصية إِنِّي مَعَكُمْ بالعلم و القدرة و النّصرة أسمع مقالكم، و أرى أعمالكم، و أطّلع على ضمائركم و أسراركم، فاجازيكم على ما يصدر منكم.

وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اَللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ (12)ثمّ وعدهم بالثّواب مؤكّدا له بالقسم بقوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ المفروضة وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ الواجبة وَ آمَنْتُمْ عن صميم القلب بِرُسُلِي كلّهم من غير تفريق في الإيمان بين موسى و عزير و غيرهما، فإن الإيمان بالرّسل شرط قبول الأعمال وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ و منعتموهم من الأعداء بالنّصرة وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ أموالكم بصرفها في سبيل الخير قَرْضاً حَسَناً برغبة و خلوص نيّة، بلا شوب بالرّياء و السّمعة، إذن باللّه لَأُكَفِّرَنَّ و أمحونّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ و ذنوبكم، صغائرها و كبائرها وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ في الآخرة جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

ثمّ نبّه اللّه تعالى على أنّ الكفر بعد وضوح الحقّ و ظهور النّعم من أقبح أنواع الضّلال، بقوله: فَمَنْ كَفَرَ باللّه و نعمه بَعْدَ ذلِكَ العهد الوثيق، و النّعمة العظيمة، و الوعد الأكيد بالثّواب مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ و أخطأ سَواءَ اَلسَّبِيلِ و وسط الطريق الموصل إلى كلّ خير، و مقام القرب و الدّرجات الرّفيعة من الجنّة، ضلالا بيّنا و خطأ واضحا لا عذر معه أصلا، بخلاف من كفر قبل ذلك، فإنّه ربّما يكون عن الشّبهة و توهّم المعذرة.

في أخذ

موسى عليه السّلام النقباء

و ملاقاتهم عوجا

روي أنّ بني إسرائيل لمّا استقرّوا بمصر بعد مهلك فرعون، أمرهم اللّه تعالى بالمسير إلى أريحا من أرض الشّام و هي الأرض المقدّسة، و كانت لها ألف قرية، في كلّ قرية ألف بستان، و كان يسكنها الجبابرة الكنعانيّون، و قال لهم: إنّي كتبتها لكم دار قرار، فاخرجوا إليها و جاهدوا من فيها؛ و إنّي ناصركم، و أمر موسى أن يأخذ من كلّ سبط نقيبا أمينا يكون

ص: 346

كفيلا على قومه بالوفاء بما امروا به، توثقة عليهم، فاختار النّقباء، و أخذ الميثاق على بني إسرائيل، و تكفّل لهم النّقباء، و سار بهم، فلمّا دنا من أرض كنعان، بعث النّقباء يتجسّسون الأخبار و يعلمون علمها، فرأوا أجراما عظيمة و قوّة و شوكة، فهابوا و رجعوا و حدّثوا قومهم بما رأوا، و قد نهاهم موسى عن ذلك، فنكثوا الميثاق إلاّ كالب بن يوقنا نقيب سبط يهودا، و يوشع بن نون نقيب سبط افرائيم بن يوسف الصّديق.

قيل: لمّا توجّه النّقباء إلى أرضهم للتّجسّس لقيهم عوج بن عنق و كان طوله ثلاثة آلاف و ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثين ذراعا و ثلث ذراع، و عاش ثلاثة آلاف سنة، و كان يحتجز بالسّحاب و يشرب منه، و يتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشّمس يرفعها إليها ثمّ يأكله، فلمّا لقي عوج النّقباء و على رأسه حزمة حطب أخذهم و جعلهم في الحزمة-و في رواية: في كمّه-فانطلق بهم إلى امرأته و قال: انظري إلى هؤلاء الّذين يزعمون قتالنا.

و في رواية: أتى بهم الملك فنشرهم بين يديه فقال: ارجعوا إلى قومكم فأخبروهم بما رأيتم، فلمّا رجعوا قال بعضهم: إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدّوا عن نبيّ اللّه، و لكن اكتموه إلاّ عن موسى و هارون، فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك، ثمّ انصرفوا إلى موسى، فنكثوا عهدهم، و جعل كلّ منهم ينهى سبطه عن قتالهم، و يخبرهم بما رأوا، إلاّ كالب و يوشع (1)، الخبر.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 13

فَبِما نَقْضِهِمْ و نكثهم مِيثاقَهُمْ و عهدهم، و بسبب خلفهم بما التزموا به لَعَنّاهُمْ و طردناهم عن ساحة الرّحمة و قيل: يعني: مسخناهم خنازير و قردة (2)و عن ابن عبّاس: ضربنا عليهم الجزية (3).

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (13)وَ جَعَلْنا و صيّرنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً صلبة، لا تتأثّر بالآيات و النّذر، و قيل: فاسدة رديئة، أو نائية عن قبول الحقّ، منصرفة عن الانقياد للدّلائل (4).

ص: 347


1- . تفسير أبي السعود 3:14، تفسير روح البيان 2:363.
2- . تفسير الرازي 11:186، تفسير روح البيان 2:365.
3- . تفسير الرازي 11:186.
4- . تفسير الرازي 11:187.

ثم شرح سبحانه سيئات أعمالهم التي كانت نتيجة اللعن و القساوة، بقوله: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ التي كانت في التوراة عَنْ مَواضِعِهِ و محاله فيها، و يغيرون ألفاظ آياتها.

و قيل: كانوا يؤلون آياتها بالتأويل الباطل لعدم إمكان تغيير الألفاظ في الكتاب للتواتر (1).

وَ نَسُوا و تركوا حَظًّا وافرا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ عن ابن عباس: تركوا نصيبا مما امروا به في كتابهم، و هو الإيمان بمحمد صلى الله عليه و آله (2).

ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه و آله بقوله: وَ لا تَزالُ يا محمد تَطَّلِعُ عَلى فرقة، أو أنفس خائِنَةٍ في التوراة مِنْهُمْ أو على خيانة صادرة منهم إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ كعبد الله بن سلام و أضرابه، أو كالكافرين الذين لم يخونوا، و على أي تقدير فَاعْفُ عَنْهُمْ و لا تتعرض لعقوبتهم وَ اِصْفَحْ عنهم و أعرض عما صدر عنهم، و لا تعيرهم و لا تعيب عليهم بعد إيمانهم، أو بعد تعاهدهم و التزامهم بالجزية. كذا قيل (1).

ثم علل الأمر بالعفو و الصفح بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ إلى الناس و إن كانوا كافرين.

عن القمي رحمه الله: منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ (2). و قيل: بقوله: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 14

ثم نبه الله سبحانه على أن النصارى أيضا كاليهود في نقض الميثاق و ترك العمل بكتاب الله بقوله: وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا و ادعوا إِنّا نَصارى و نحن أنصار الله، أو أنصار عيسى إلى الله، و ليسوا بذلك أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ على العمل بأحكام الإنجيل و الالتزام بما فيه، و فيه أمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه و آله فَنَسُوا و تركوا حَظًّا وافرا و نصيبا و افيا مِمّا ذُكِّرُوا و امروا بِهِ فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه و آله فَأَغْرَيْنا و ألقينا بنحو اللزوم و اللصوق فيما بَيْنَهُمُ و بين اليهود، أو بين فرقهم المختلفة اَلْعَداوَةَ و المباينة بالأفعال وَ اَلْبَغْضاءَ و المنافرة بالقلوب و العقائد بحيث يلعن بعضهم بعضا إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ و دار الجزاء وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّهُ و يخبرهم بشدة عقوبتهم بِما

وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

ص: 348


1- . تفسير روح البيان 2:365.
2- . تفسير القمي 1:164، تفسير الصافي 2:21، و الآية من سورة التوبة:9/5.
3- . مجمع البيان 3:268، و الآية من سورة التوبة:9/29.

كانُوا في الدّنيا يَصْنَعُونَ من السّيّئات.

و فيه أشدّ الوعيد، و إنّما عبّر عن العمل بالصّنع، للإيذان برسوخهم في ذلك.

قضية بولس

و افساده دين

النصارى

قيل: الذي ألقى العداوة بين النّصارى [رجل]يقال له بولس، فإنّه كان بينه و بين النّصارى قتال، قتل منهم خلقا كثيرا، فأراد أن يحتال حيلة يلقي بينهم القتال، فجاء إلى النّصارى و جعل نفسه أعور و قال لهم: ألا تعرفونني؟ فقالوا: أنت الذي قتلت ما قتلت منّا، و فعلت ما فعلت، فقال: فعلت ذلك كلّه، و الآن تبت لأنّي رأيت عيسى في المنام نزل من السّماء فلطم وجهي لطمة فقأ عيني، فقال: أيّ شيء تريد من قومي؟ فتبت على يديه، ثمّ جئتكم لأكون بين ظهرانيكم، و اعلّمكم شرائع دينكم كما علّمني عيسى في المنام، فاتّخذوا له غرفة، فصعد تلك الغرفة، و فتح كوّه إلى النّاس في الحائط، و كان يتعبّد في الغرفة، و ربّما كانوا يجتمعون إليه و يسألونه و يجيبهم من تلك الكوّة، و ربّما يأمرهم بأن يجتمعوا و يناديهم من تلك الكوّة و يقول لهم بقول كان منكرا في الظّاهر، و ينكرون عليه، فكان يفسّر ذلك القول تفسيرا يعجبهم ذلك، فانقادوا كلّهم له، و كانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به.

فقال يوما من الأيام: اجتمعوا عندي فقد حضرني علم، فاجتمعوا فقال: أ ليس خلق اللّه الأشياء في الدّنيا كلّها لمنفعة ابن آدم؟ قالوا: نعم، فقال: لم تحرّمون على أنفسكم هذه الأشياء-يعني: الخمر و الخنزير-و قد خلق لكم ما في الأرض جميعا، فأخذوا قوله فاستحلّوا الخمر و الخنزير.

فلمّا مضى على ذلك أيّام دعاهم و قال: حضرني علم فاجتمعوا، فقال: من أيّ ناحية تطلع الشّمس؟ فقالوا: من قبل المشرق. فقال: من أيّ ناحية يطلع القمر و النّجوم؟ فقالوا: من قبل المشرق، فقال: و من يرسلهم من قبل المشرق؟ قالوا: اللّه تعالى، فقال: فاعلموا أنّه تعالى في قبل المشرق، فإن صلّيتم له فصلّوا إليه. فحوّل صلاتهم إلى المشرق، فلمّا مضى على ذلك أيّام دعا بطائفة منهم و أمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة، و قال لهم: إنّي اريد أن أجعل نفسي قربانا اللّيلة لعيسى، و قد حضرني علم فاريد أن اخبركم في السّرّ، لتحفظوا عنّي و تدعوا النّاس إلى ذلك بعدي.

و يقال أيضا: إنّه أصبح يوما و فتح عينه الاخرى ثمّ دعاهم و قال: جاءني عيسى اللّيلة و قال: قد رضيت عنك، فمسح يده على عيني فبرئت، و الآن اريد أن أجعل نفسي قربانا له.

ثمّ قال: هل يستطيع أحدكم أن يحيي الموتى و يبرىء الأكمه و الأبرص إلاّ اللّه تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: إنّ عيسى قد فعل هذه الأشياء، فاعلموا أنّه هو اللّه تعالى، فخرجوا من عنده، ثمّ دعا بطائفة اخرى فأخبرهم بذلك أيضا و قال: إنّه كان ابن اللّه، ثمّ دعا بطائفة اخرى و أخبرهم بذلك أيضا و قال:

ص: 349

إنّه ثالث ثلاثة، و أخبرهم أنّه يريد أن يجعل نفسه اللّيلة قربانا، فلمّا كان بعض اللّيل خرج من بين ظهرانيهم، فأصبحوا و جعل كلّ فريق يقول: قد علّمني كذا و كذا، و قال الفريق الآخر: أنت كاذب، بل علّمني كذا، فوقع بينهم القتال فاقتتلوا و قتلوا خلقا كثيرا، و نصب العداوة بينهم إلى يوم القيامة. و هم ثلاث فرق: النّسطورية، فقالوا: المسيح ابن اللّه، و الثانية: الملكانية، قالوا: إنّ اللّه ثالث ثلاثة، المسيح و امّه و اللّه، و الثالثة: اليعقوبية، قالوا: إنّ اللّه هو المسيح (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 15

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى نقض اليهود و النّصارى ميثاقهم الذي اخذ منهم على الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و خيانتهم بالتّوراة و الإنجيل، و إخبار النبيّ بما أخفوه عن النّاس من تحريفاتهم و تغييراتهم في الكتابين، و كان ذلك من معاجزه الدّالّة على صدقه في دعوى الرّسالة، باشر بذاته المقدّسة دعوتهم إلى الإيمان بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ من اليهود و النّصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله مع البراهين القاطعة على صدقه؛ منها: أنّه مع امّيّته و عدم قراءته الكتب، و عدم تعلّمه عند أحد يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ السّماوي، كنعوته في الكتابين، و اسمه المذكور فيهما، و آية (2)الرّجم-كما عن ابن عبّاس (3)-و ذلك منه إخبار بالمغيّبات كإخبار عيسى عليه السّلام بما يأكلون و ما يدّخرون وَ يَعْفُوا و يغمض عَنْ كَثِيرٍ ممّا تخفونه و تكتمونه، فلا يخبر به.

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15)عن القمّي رحمه اللّه، قال: يبيّن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كثيرا ممّا أخفيتموه ممّا في التّوراة من أخباره، و يدع كثيرا لا يبيّنه (4).

قضية تحكيم ابن

صوريا اليهودي

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم، زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة، فانطلق قوم منهم كعب بن اسيد، و مالك بن صيف، و كنانة بن أبي الحقيق، و غيرهم، فقالوا: يا محمّد، أخبرنا عن الزّاني و الزّانية إذا احصنا، ما حدّهما؟ فقال: هل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا: نعم. فنزل جبرئيل بالرّجم، فأخبرهم بذلك، فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرئيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا، و وصفه له، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 350


1- . تفسير روح البيان 2:367.
2- . في تفسير الرازي: و أمر.
3- . تفسير الرازي 11:189.
4- . تفسير القمي 1:164، تفسير الصافي 2:22.

هل تعرفون شابّا أمرد أبيض أعور يسكن فدك، يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم، قال: أيّ رجل هو فيكم؟ قالوا: هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه على موسى. قال: فأرسلوا إليه. ففعلوا، فأتاهم عبد اللّه بن صوريا.

فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنشدك اللّه الذي لا إله إلاّ هو، الذي أنزل التّوراة على موسى، و فلق لكم البحر فأنجاكم و أغرق آل فرعون، و ظلّل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المنّ و السّلوى، هل تجدون في كتابكم الرّجم على من أحصن؟ قال ابن صوريا: نعم، و الذي ذكّرتني به، لو لا خشية أن يحرقني ربّ التّوراة إن كذبت أو غيّرت، ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة، وجب عليه الرّجم. فقال ابن صوريا: هكذا أنزل اللّه في التّوراة على موسى عليه السّلام.

فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: فماذا كان أول ما ترخّصتم به أمر اللّه؟ قال: كنّا إذا زنى الشّريف تركناه، و إذا زنى الضّعيف أقمنا عليه الحدّ، فكثر الزّنا في أشرافنا حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا، فلم نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال قومه: لا، حتّى ترجم فلانا-يعنون ابن عمه-فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرّجم يكون على الشّريف و الوضيع، فوضعنا الجلد و التفحيم (1)-و هو أن يجلدا أربعين جلدة، ثمّ تسوّد وجوههما، ثمّ يحملا على حمارين، و تجعل وجوههما من قبل دبر الحمار، و يطاف بهما-فجعلوا هذا مكان الرّجم.

فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به! و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنّك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك، فقال: إنّه نشدني بالتّوراة، و لو لا ذلك لما أخبرته به.

فأمر بهما النبي صلّى اللّه عليه و آله فرجما عند باب مسجده، و قال: أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه. فأنزل اللّه سبحانه فيه: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ .

فقام ابن صوريا فوضع يده على ركبتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: هذا مقام العائذ باللّه و بك، أن تذكر [لنا]الكثير الذي امرت أن تعفو عنه، فأعرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك (2).

و من البراهين على رسالته بقوله (3): قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ بوساطة محمّد صلّى اللّه عليه و آله دين الإسلام الذي هو نُورٌ في الحقيقة، حيث تتقوّى به بصيرتكم على إدراك المعقولات كما يتقوّى بالنّور الحسّي

ص: 351


1- . في مجمع البيان: و التحميم.
2- . مجمع البيان 3:299، تفسير الصافي 2:22.
3- . كذا، و توجد كلمة بعد (من) غير واضحة. راجع النسخة ج 1 ص 388.

بصركم على إدراك المحسوسات.

ثمّ أشار سبحانه إلى البرهان الثالث بقوله: وَ كِتابٌ مُبِينٌ للحقّ، و كاشف عن حقائق الأمور. و قيل: النّور هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1). و قيل: النّور و الكتاب واحد (2).

و عن القميّ رحمه اللّه: يعني بالنّور: أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 16

ثمّ بيّن عظيم فائدة الكتاب تعظيما له، بقوله: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ و طلب باتّباعه و إطاعة أحكامه رِضْوانَهُ و قربه سُبُلَ دار اَلسَّلامِ و طرق الجنّة، أو سبل السّلامة من العذاب وَ يُخْرِجُهُمْ بوسيلة هذا الكتاب مِنَ اَلظُّلُماتِ و أنواع كدورات الكفر و الضّلال، و الجهل و هوى النّفس إِلَى اَلنُّورِ من الإيمان و العلم و الحكمة و كمال النّفس بِإِذْنِهِ و مشيئته و توفيقه وَ يَهْدِيهِمْ و يرشدهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الدّين الحقّ القويم، الموصل إلى جميع الخيرات و أكمل السّعادات.

يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 17

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ القرآن الكريم هاد إلى الحقّ، و منج من الضّلال، بيّن غاية ضلالة النّصارى بقوله: لَقَدْ كَفَرَ النّصارى اَلَّذِينَ قالُوا و اعتقدوا إِنَّ اَللّهَ و الخلاّق المعبود هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ كما نسبت إلى اليعقوبيّة منهم، بل هو لازم قول الملكانيّة القائلين بالأقانيم الثّلاثة، حيث إنّهم قائلون بأنّ الكلمة اتّحدت بعيسى، لأنّه إن أرادوا به ذاته تعالى يلزم منه القول بحلوله تعالى في عيسى، فيكون عيسى هو اللّه، و إن أرادوا من الكلمة علمه تعالى فحلول علمه مستلزم لحلول ذاته، لأنّ علمه عين ذاته.

لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)ثمّ بيّن اللّه تعالى بطلان هذا القول و فضاحته بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: إن كان الأمر كما تزعمون

ص: 352


1- . مجمع البيان 3:270، تفسير الصافي 2:23.
2- . تفسير الرازي 11:189، و فيه: و الكتاب هو القرآن.
3- . تفسير القمي 1:164، تفسير الصافي 2:23.

فَمَنْ يَمْلِكُ و يقدر على أن يمنع مِنَ نفوذ قدرة اَللّهَ و إرادته شَيْئاً يسيرا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ و يفني اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ بل وَ مَنْ كان فِي اَلْأَرْضِ المسيح و غيره جَمِيعاً فإذا كان المسيح مقهورا تحت قدرة الغير و إرادته، بحيث لا يمكنه دفع الهلاك عن نفسه و امّه و غيرهما، لا يعقل أن يكون إلها.

ثمّ استدلّ على الوهيّة ذاته المقدّسة بعظمة سلطانه بقوله: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما لا يخرج شيء من الموجودات عن ملكه و سلطانه، و لا شريك له فيهما.

ثمّ استدلّ بسعة قدرته بقوله: يَخْلُقُ و يوجد ما يَشاءُ خلقه و إيجاده كيف يشاء بلا أصل كعالم العقول، أو من أصل كعالم الأجسام، من غير جنسه كآدم و سائر الحشرات، أو من جنسه كأولاد آدم، من ذكر واحد كحوّاء، و من انثى واحدة كعيسى، أو منهما كسائر النّاس.

ثمّ بالغ في تقرير قدرته الكاملة بقوله: وَ اَللّهُ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الممكنات قَدِيرٌ و عيسى لا يقدر على شيء إلاّ بإقداره تعالى له.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 18

ثمّ أنّه تعالى بعد حكمه بكفر النّصارى لغلوّهم في شأن عيسى و ادّعائهم الوهيّته، و إبطال دعواهم، حكى عنهم و عن اليهود غلوّهم في حقّ أنفسهم مع كونهم في أشدّ مراتب الكفر و منتهى درجة الضّلال، بقوله: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى ترفيعا لأنفسهم على سائر النّاس، و غرورا بشرف آبائهم الأنبياء: نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ فإنّه يحبّنا كحبّ الوالد لولده.

وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ (18)قيل: إنّ مراد اليهود من قولهم هذا: أنّا أشياع عزير ابن اللّه، و مراد النّصارى: نحن أشياع عيسى ابن اللّه، كما يقول أقارب الملوك عند المفاخرة: نحن الملوك (1).

ثمّ أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإبطال قولهم بقوله: قُلْ يا محمّد، إلزاما لهم: إن كان ما تزعمون حقّا فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ اللّه في الدّنيا بِذُنُوبِكُمْ و معاصيكم بالمسخ و القتل و الأسر و الذّلّة، و في الآخرة أيّاما معدودة باعترافكم؟ فهذه الدّعوى في غاية الفساد بَلْ أَنْتُمْ كغيركم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ اللّه، بلا فضيلة لكم على أحد عند اللّه، و هو يَغْفِرُ الذّنوب لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له، و لا يشاء إلاّ لأهل

ص: 353


1- . تفسير روح البيان 2:372.

الإيمان و الأعمال الصّالحة وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه، و هم أهل الكفر و العصيان.

ثمّ أعاد تقرير كمال قدرته و عظمة سلطانه تربية للمهابة في القلوب بقوله: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يتساوى نسبة جميع الموجودات إليه، لا فضيلة لأحد على أحد إلاّ بالإيمان و الطّاعة و العبوديّة وَ إِلَيْهِ و إلى حكمه اَلْمَصِيرُ و المرجع في الآخرة، لا إلى غيره، فيجازيكم بكفركم و سيّئات أعمالكم و أقوالكم أسوأ الجزاء.

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّها نزلت في جماعة من اليهود و النّصارى، دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الإيمان، و خوّفهم بعقاب اللّه تعالى، فقالوا: كيف تخوّفنا بعقاب اللّه و نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه (1)!

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 19

ثمّ أنّه تعالى بعدما أبطل تلك الدّعاوى من اليهود و النّصارى بالحجج القاطعة، و كان ذلك من معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع كونه امّيّا، أعاد دعوتهم إلى الإيمان به بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله لهدايتكم إلى الحقّ، حال كونه مع امّيّته يُبَيِّنُ لَكُمْ شرائع اللّه و سننه، و يشرح لكم معضلات الأمور عَلى حين فَتْرَةٍ كائنة مِنَ اَلرُّسُلِ و في زمان انقطاع الوحي و ظلمة الجهالة.

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)و كان احتياج الخلق إلى مبيّن الأحكام الإلهيّة و الشّرائع الدّينيّة، لتقادم عهدها، و طول زمانها، و تصرّف التّغيير و التّحريف إليها، و اختلاط الحقّ بالباطل و الصّدق و الكذب، بحيث صار ذلك عذرا ظاهرا لأهل الضّلال في إعراضهم عن الحقّ و العبادة.

فكان إرسال الرّسول لأجل كراهة أَنْ تَقُولُوا اعتذارا: ربّنا ما جاءَنا في الدّنيا مِنْ بَشِيرٍ بثوابك وَ لا نَذِيرٍ من عقابك، فنتّبع آياتك، و نكون من المؤمنين.

فأجابهم اللّه بقوله: فَقَدْ جاءَكُمْ الآن من قبل اللّه بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ فتمّت عليكم الحجّة، و انقطع العذر وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من إرسال الرّسول، و قطع الأعذار قَدِيرٌ لا يعجزه شيء.

قيل: كان بين موسى و عيسى عليهما السّلام ما يقرب من ألف و سبعمائة سنة، و ألفا نبيّ، و بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله ستّمائة سنة و أربعة من الأنبياء؛ ثلاثة من بني إسرائيل، و واحد من العرب يقال له خالد

ص: 354


1- . تفسير الرازي 11:192، تفسير أبي السعود 3:21.

بن سنان العبسي (1).

عن الصّدوق في (الإكمال) : معنى الفترة أن لا يكون نبيّ و لا وصيّ ظاهرا مشهورا، و إن كان بين نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و بين عيسى عليه السّلام أنبياء و أئمّة مستورون خائفون، منهم خالد بن سنان العبسي، لا يدفعه دافع و لا ينكره منكر، و كان بين مبعثه و مبعث نبيّنا خمسمائة سنة (2).

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة، إمّا ظاهر مشهور، و إمّا خائف مغمور» (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 20

ثمّ لمّا دعا اللّه تعالى أهل الكتاب إلى الإيمان بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله، بيّن أنّ عادة اليهود اللّجاج و عدم الانقياد للأنبياء، مستشهدا بمعاملة سلفهم-مع كونهم أبناء الأنبياء-مع موسى، بقوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل، استعطافا و استمالة لقلوبهم: يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ و مننه العظام عَلَيْكُمْ الموجبة لغاية شكركم و طاعتكم له إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ و من أقاربكم أَنْبِياءَ كثيرة، ترشدون بإرشادهم، و تفتخرون بانتسابهم.

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ (20)قيل: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى موسى عليه السّلام: إنّي لا أبعث نبيّا إلاّ من ولد إسماعيل و يعقوب (4).

وَ إذ جَعَلَكُمْ و بعث فيكم مُلُوكاً و حكّاما كثيرة، قيل: إنّ المعنى: جعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط في مملكة فرعون بمنزلة العبيد و أهل الجزية (5).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: يعني أصحاب خدم و حشم، و كانوا أوّل من ملك الخدم (6).

وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ من فلق البحر، و إهلاك فرعون و جنده، و تظليل الغمام، و إنزال المنّ و السّلوى، و غير ذلك.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 21

يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)

ص: 355


1- . جوامع الجامع:107، تفسير الرازي 11:194.
2- . إكمال الدين:659/2، تفسير الصافي 2:24.
3- . نهج البلاغة:497 الحكمة 147، تفسير الصافي 2:24.
4- . تفسير الرازي 11:196.
5- . تفسير الرازي 11:196، تفسير روح البيان 2:375.
6- . تفسير روح البيان 2:375.

ثمّ بعد تذكيرهم النّعم التي أنعم اللّه عليهم، أمرهم بمجاهدة أعداء اللّه بعد إعادة مخاطبتهم مزيدا للاستعطاف بقوله: يا قَوْمِ جاهدوا أعداء اللّه و أعداءكم، و اُدْخُلُوا بعد الغلبة عليهم اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ و البلاد الطّيّبة الكثيرة النّعم اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ و قدّر في اللّوح المحفوظ إسكانها لَكُمْ .

روي أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا صعد جبل لبنان قال اللّه تعالى له: انظر، فما أدركه بصرك فهو مقدّس و ميراث لذرّيّتك (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «يعني: الشّام» (2).

وَ لا تَرْتَدُّوا و لا ترجعوا عَلى أَدْبارِكُمْ و أعقابكم خوفا من الجبابرة، و لا تهزموا من بأسهم.

و قيل: إنّ المراد: لا ترجعوا عن الدّين الحقّ إلى الشّكّ (3)، أو لا ترجعوا عن الأرض التي امرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم منها-و هي أرض مصر (4)- فَتَنْقَلِبُوا و تنصرفوا حال كونكم خاسِرِينَ مغبونين في الدّنيا و الآخرة، لفوتكم المنافع العظيمة و الثّواب و ابتلائكم بالمحن و العذاب.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ حكى اللّه تعالى امتناع بني إسرائيل عن امتثال أمر موسى بعد تلك التّرغيبات و المواعظ بقوله: قالُوا بعد اطّلاعهم على قوّة الجبابرة و شوكتهم، و الخوف من قتالهم: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ أقوياء قاهرين، أو طوالا عظام الأجساد، قيل: كانت أيدي قوم موسى لا تصل إليهم (5) وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أبدا خوفا منهم حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها بميل أنفسهم، و يخلّوا بلادهم لنا من غير صنع منّا؛ لعدم قدرتنا على إخراجهم منها بالقهر.

قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ اَلَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ اَلْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اَللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)فَإِنْ يَخْرُجُوا بسبب من الأسباب مِنْها من غير دخل منّا في خروجهم فَإِنّا حينئذ داخِلُونَ فيها، فلمّا أبوا عن الدّخول في الأرض المقدّسة-و هي بيت المقدس، أو بلدة أريحا-

قالَ لهم رَجُلانِ كاملان في صفات الرّجوليّة من الشّجاعة و الفتوّة اسمهما كالب و يوشع،

ص: 356


1- . تفسير الرازي 11:196.
2- . تفسير العياشي 2:27/1235، تفسير الصافي 2:25. (3 و 4) . تفسير الرازي 11:198.

و هما كانا مِنَ اَلَّذِينَ يَخافُونَ اللّه و يتّقون، و قد أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا بنعمة اليقين الصّادق بوعد اللّه و باليوم الآخر، و الثّقة بعونه و نصرته، تشجيعا لهم و تقوية لقلوبهم: يا قوم اُدْخُلُوا بجماعتكم دفعة و بغتة عَلَيْهِمُ اَلْبابَ الذي لبلد الجبّارين، و ضاغطوهم في المضيق حتّى لا يمكنهم الخروج إلى الصّحراء، و لا يجدوا للحرب مجالا.

ثمّ أنّهما بعد تعليمهم كيفيّة الحملة عليهم، وعداهم النّصر و الغلبة؛ بقوله: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ و ضيّقتم عليهم العرصة فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ عليهم لا محالة، و هم منهزمون منكم ألبتة؛ لضعف قلوبهم، و تعسّر الكرّ عليهم وَ عَلَى اَللّهِ خاصّة فَتَوَكَّلُوا في الغلبة عليهم، و في غيرها من الأمور، و لا تعتمدوا على الأسباب بعد تهيئتها و ترتيبها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه، مصدّقين بوعده، عارفين بقدرته.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 24

فلمّا لم يفد بني إسرائيل نصح الرّجلين، و لم يؤثّر فيهم التّشجيع، و لم يفيضوا بتعليم كيفيّة الحرب و طريق الغلبة و تنبيههم على التّوكّل على اللّه، بالغوا في الامتناع عن الدّخول في الأرض المقدّسة خوفا على أنفسهم، و قالُوا تمرّدا عن طاعة اللّه و رسوله، و استهانة بهما: يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً خوفا من الجبابرة، و لا نرد أرضهم ما دامُوا فِيها مقيمين، فإن كان لك الغلبة عليهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ معا إلى أرضهم فَقاتِلا هم إِنّا جميعا هاهُنا و في مكاننا هذا قاعِدُونَ منتظرون نصركما و غلبكما عليهم، و إخراجكما إيّاهم من أرضهم.

قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 25

فلمّا يئس موسى عليه السّلام من طاعة قومه بعد أن سمع منهم الامتناع و الاستهزاء قالَ بثّا و حزنا و تشكّيا من تمرّدهم إلى اللّه: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ طاعة أحد إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي الذي هو بمنزلة نفسي، و في حكم جوارحي التي لا تتخلّف عن إرادتي.

قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ (25)و إنّما لم يذكر الرّجلين اللّذين يخافان، مع كونهما في غاية الطّاعة و الانقياد له، إعظاما لشأن هارون من أن يكون له قرين في الانقياد و التّسليم.

ثمّ دعا لنفسه و لأخيه، و على قومه المتمرّدين بقوله: فَافْرُقْ يا ربّ و افصل بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعتك، المصرّين على عصيانك، بأن تحكم علينا (1)بما نستحقّه، و عليهم بما يستحقّون. كذا قيل (2).

ص: 357

ثمّ دعا لنفسه و لأخيه، و على قومه المتمرّدين بقوله: فَافْرُقْ يا ربّ و افصل بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعتك، المصرّين على عصيانك، بأن تحكم علينا (1)بما نستحقّه، و عليهم بما يستحقّون. كذا قيل (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 26

قالَ اللّه تعالى بعد امتناع بني إسرائيل [عن]

الدّخول في الأرض المقدّسة، و شكاية موسى عليه السّلام منهم: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ و ممنوعة عَلَيْهِمْ دخولا، يعني أنّ طائفة بني إسرائيل لا يدخلونها أَرْبَعِينَ سَنَةً و يكون حالهم في المدّة إلى آخرها أنّهم يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ و يسيرون فيها متحيّرين.

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ (26)

في ابتلاء بني

إسرائيل بالتيه

قيل: إنّ موسى عليه السّلام لمّا دعا عليهم، أخبره اللّه بأحوال التّيه، فأخبر موسى قومه بذلك فقالوا له: لم دعوت علينا؟ فندم موسى عليه السّلام على ما عمل، فعزّاه اللّه بقوله: فَلا تَأْسَ (3)و لا تحزن عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ فإنّهم بفسقهم مستحقّون لذلك.

قيل: لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ، و هم ستّمائة ألف مقاتل (4). و قيل: [ستة]في اثني عشر فرسخا (5). و قيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا (6). و كانوا يسيرون كلّ يوم جادّين، فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا منه (5).

قيل: إنّ موسى و هارون بشؤم معاملة بني إسرائيل بقيا في التّيه أربعين سنة، و بنو إسرائيل ببركة كرامتهما ظلّل عليهم الغمام، و انزل عليهم المنّ و السّلوى، ليعلم أثر بركة صحبة الصّالحين، و شؤم صحبة الفاسقين (6).

عن الباقر عليه السّلام، قال: «نعم الأرض الشّام و بئس القوم أهلها، و بئس البلاد مصر، أما إنّها سجن من سخط اللّه عليه، و لم يكن دخول بني إسرائيل إلاّ معصية منهم للّه، لأنّ اللّه قال: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ (7)يعني الشّام، فأبوا أن يدخلوها، فتاهوا في الأرض أربعين سنة في فيافيها، ثمّ دخلوها بعد أربعين سنة قال: و ما خروجهم من مصر و دخولهم في الشّام إلاّ بعد توبتهم و رضا اللّه عنهم» (8).

ص: 358


1- . في تفسير روح البيان و تفسير أبي السعود: تحكم لنا.
2- . تفسير روح البيان 2:377، تفسير أبي السعود 3:25.
3- . تفسير الرازي 11:201.
4- . تفسير روح البيان 2:377. (5 و 6) . تفسير الرازي 11:202.
5- . تفسير روح البيان 2:377.
6- . تفسير روح البيان 2:377.
7- . المائدة:5/21.
8- . تفسير العياشي 2:27/1235، تفسير الصافي 2:26.

و عن الصادق عليه السّلام، في رواية ذكر [أهل مصر، و ذكر قوم]موسى و قولهم: اذهب أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (1)، قال: «فحرّمها [اللّه]عليهم أربعين سنة و تيّههم، فكان إذا كان العشاء أخذوا في الرّحيل و نادوا: الرّحيل الرّحيل، الوحاء (2)الوحاء، فلم يزالوا كذلك حتّى تغيب الشّمس، حتّى إذا ارتحلوا و استوت بهم الأرض قال اللّه للأرض ديري بهم، فلم يزالوا كذلك حتّى [إذا] أسحروا و قارب الصّبح قالوا: إنّ هذا الماء قد أتيتموه فانزلوا، فإذا أصبحوا إذا أبنيتهم (3)و منازلهم التي كانوا فيها بالأمس، فيقول بعضهم لبعض: يا قوم، لقد ضللتم و أخطأتم الطريق، فلم يزالوا كذلك حتّى أذن اللّه لهم فدخلوها، و قد كان كتبها لهم» (4).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي نفسي بيده، لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النّعل بالنّعل، و القذّة بالقذّة، حتّى لا تخطئون طريقهم، و لا تخطئكم سنّة بني إسرائيل» .

ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: «قال موسى لقومه: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ فردّوا عليه و كانوا ستّمائة ألف و قالوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ الآيات، قال: فعصى أربعون ألفا، و سلم هارون و ابناه، و يوشع بن نون، و كالب بن يوفنا (5)، فسمّاهم اللّه فاسقين فقال: لا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ فتاهوا أربعين سنة لأنّهم عصوا، فكان حذو النّعل بالنّعل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قبض، لم يكن على أمر اللّه إلاّ عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و سلمان، و أبو ذرّ، و المقداد، فمكثوا أربعين (6)سنة حتّى قام عليّ عليه السّلام فقاتل من خالفه» (7). الخبر.

ثمّ أنّه اختلف في أنّ موسى و هارون [هل]كانا في التّيه أم لا؟ فقال قوم: لا، لأنّه دعا اللّه أن يفرّق بينه و بين قومه و دعوات الأنبياء مجابة (8).

أقول فيه: إنّه مبنيّ على كون المراد بالتّفريق: المفارقة في الصّحبة، لا في الحكومة.

و قال آخرون: إنّهما كانا في التّيه، و لم يكن عذابا بالنّسبة إليهما.

في وفاة موسى

و هارون

ثمّ اختلف هؤلاء في أنّهما [هل]ماتا في التّيه أو خرجا منه؟ فقال بعضهم: إنّهما خرجا منه، و حاربا الجبّارين و قهراهم و ملكا الأرض المقدّسة (9)، و قال آخرون: إنّ هارون مات في التّيه، ثمّ مات موسى بعده بسنة، و بقي يوشع بن نون، و كان ابن اخت

ص: 359


1- . المائدة:5/24.
2- . الوحاء: كلمة تقال للاستعجال.
3- . في النسخة: تيههم.
4- . تفسير العياشي 2:27/1234، تفسير الصافي 2:26.
5- . في تفسير العياشي: يافنا.
6- . قال العلامة المجلسي: لعلّه عليه السّلام حسب الأربعين من زمان إظهار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام. راجع: بحار الأنوار 13:180/10.
7- . تفسير العياشي 2:24/1228، تفسير الصافي 2:26.
8- . تفسير الرازي 11:201.
9- . تفسير الرازي 11:201.

موسى و وصيّه بعد موته، و هو الذي فتح الأرض المقدّسة (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ موسى كليم اللّه مات في التّيه، فصاح صائح من السّماء: مات موسى، و أيّ نفس لا تموت» (2).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «مات هارون قبل موسى، و ماتا جميعا في التّيه» (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 27 الی 29

ثمّ أنّه تعالى-بعد ذكر لجاج بني إسرائيل، و عدم طاعتهم لموسى عليه السّلام، و ابتلائهم بعذاب التّيه مع كونهم أبناء الأنبياء، و أقرب من الموجودين في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام- بيّن أن قابيل مع كونه ابن نبيّ لصلبه، عصى ربّه، فذهب فضله و شرفه، بقوله: وَ اُتْلُ يا محمّد، في مجمع أهل الكتاب عَلَيْهِمْ، أو المراد: على النّاس نَبَأَ قابيل و هابيل اِبْنَيْ آدَمَ أبي البشر- و عن بعض المفسّرين: أنّهما رجلان من بني إسرائيل (4)-تلاوة ملتبسة بِالْحَقِّ و الصّدق إِذْ قَرَّبا إلى اللّه، بأن جعل كلّ واحد منهما له تعالى قُرْباناً و هديّة فَتُقُبِّلَ من جانب اللّه أحد القربانين مِنْ أَحَدِهِما لكونه مقرونا بالخلوص و صدق النّيّة.

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلظّالِمِينَ (29)عن سعيد بن جبير: نزلت نار من السّماء فاحتملت قربان هابيل، و رفع بها إلى الجنّة (5).

وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ و هو قابيل، و لم تتعرّض النّار له، لعدم خلوص نيّته، و اختياره أخسّ أمواله للقربان.

قيل: ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه المال الذي يتقرّب به إلى اللّه تعالى، فكانت النّار تنزل من السّماء فتأكله.

في قصة قابيل

و هابيل

عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّ حوّاء امرأة آدم كانت تلد في كلّ بطن غلاما

ص: 360


1- . تفسير الرازي 11:201.
2- . الكافي 3:112/4، تفسير الصافي 2:26.
3- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 2:27.
4- . تفسير الرازي 11:204، تفسير أبي السعود 3:26.
5- . تفسير روح البيان 2:379.

و جارية، فولدت في أوّل بطن قابيل-و قيل: قابين-و توأمته اقليما، و البطن الثاني هابيل و توأمته ليوذا (1)، فلمّا أدركوا جميعا، أمر اللّه تعالى أن ينكح [آدم]قابيل اخت هابيل و هابيل اخت قابيل فرضي هابيل و أبى قابيل؛ لأنّ اخته كانت أحسنهما، و قال: ما أمر اللّه بهذا، و لكنّ هذا من رأيك، فأمرهما [آدم]أن يقرّبا قربانا فرضيا بذلك، فعمد هابيل و كان صاحب ماشية فأخذ من خير غنمه زبدا و لبنا، و كان قابيل صاحب زرع فأخذ من شرّ زرعه، ثمّ صعدا فوضعا القربانين على الجبل فأتت النّار فأكلت قربان هابيل، و تجنّبت قربان قابيل، و كان آدم غائبا بمكّة، خرج إليها ليزور البيت بأمر ربّه. . .» (2).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام، قيل له: إنّهم يزعمون أنّ قابيل إنّما قتل هابيل لأنّهما تغايرا على اختهما؟ فقال: «تقول هذا، أما تستحي أن تروي هذا على نبيّ اللّه آدم؟» فقيل: فبم قتل قابيل هابيل؟ قال: «في الوصيّة» . ثمّ قال: «إنّ اللّه تعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصيّة و اسم اللّه الأعظم إلى هابيل، و كان قابيل أكبر [منه]، فبلغ ذلك قابيل فغضب، فقال: أنا أولى بالكرامة و الوصيّة، فأمرهما أن يقرّبا قربانا بوحي من اللّه إليه، ففعلا فتقبّل اللّه قربان هابيل، فحسده قابيل» (3).

في قصة قتل

هابيل

و قالَ له: باللّه لَأَقْتُلَنَّكَ . قيل: إنّ هابيل قال: لم؟ قال قابيل: لأنّ اللّه قبل قربانك و ردّ قرباني، و تنكح اختي الحسناء، و أنكح اختك الدميمة، فتحدّث النّاس أنّك خير منّي، و يفتخر ولدك على ولدي (4).

قالَ هابيل: أمّا تقبّل قرباني فليس من ذنبي إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ القربان مِنَ اَلْمُتَّقِينَ و أنا اتّقيت دونك، فعدم قبول قربانك كان من قبل نفسك،

و اللّه لَئِنْ بَسَطْتَ و مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي حسبما أوعدتني ما أَنَا بِباسِطٍ و مادّ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ بل أستسلم لقضاء اللّه، و لا ينقدح في قلبي قصد الإساءة إليك، لأجل إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ و فيه إظهار غاية تقواه.

قيل: كان هابيل أقوى من قابيل، و لكن لمّا كان القتل للدّفاع حراما في ذلك الزّمان تحرّج عن قتله (5).

ثمّ ذكر علّة اخرى للتّحرّج عن قتله بقوله: إِنِّي أُرِيدُ من إمساكي عن قتلك أَنْ تَبُوءَ و ترجع إلى اللّه ملابسا بِإِثْمِي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: معناه: تحمل إثم قتلي وَ إِثْمِكَ الذي ارتكبته قبل قتلي (6).

ص: 361


1- . في المصدر: لبوذا.
2- . مجمع البيان 3:283، تفسير الصافي 2:28.
3- . تفسير العياشي 2:36/1242، تفسير الصافي 2:28.
4- . تفسير روح البيان 2:379.
5- . تفسير روح البيان 2:380.
6- . تفسير الرازي 11:207.

عن الباقر عليه السّلام: «من قتل مؤمنا [متعمّدا]أثبت اللّه على قاتله جميع ذنوبه، و برئ المقتول منها، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ» (1).

فَتَكُونَ بسبب قتلي مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ و ملازميها أبدا وَ ذلِكَ الخلود في النّار جَزاءُ اَلظّالِمِينَ على العباد بالقتل.

قيل: إنّ هذا الكلام دار بينهما على وجه الوعظ و النّصيحة (2). و التّنبيه على أنّ إثم المقتول يحمل على قاتله، و يكون جزاء القاتل ظلما الخلود في النّار.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 30

و مقصوده حبّ عدم ملابسته بالإثم لا ملابسة أخيه به فَطَوَّعَتْ و هوّنت لَهُ نَفْسُهُ بتسويلاتها قَتْلَ أَخِيهِ هابيل، و لم يؤثّر فيه النّصح.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (30)روي أنّ عدوّ اللّه إبليس قال لقابيل: قد تقبّل قربان هابيل، و لم يتقبّل قربانك، فإن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك (3).

و قيل: إنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل، فتمثّل له إبليس، فأخذ طائرا أو حيّة، و وضع رأسه على حجر ثمّ شدخه بحجر آخر، و قابيل ينظر فتعلّم منه، فوضع رأس هابيل بين حجرين و هو مستسلم لا يستعصي عليه (4).

و في رواية: أنّه صبر حتّى نام هابيل و غنمه ترعى (5)، فضرب رأسه بحجر فَقَتَلَهُ قيل: قتل عند جبل ثور، و قيل: عند عقبة حراء، و قيل: في المسجد الأعظم بالبصرة، و كان لهابيل يوم قتل عشرون سنة (4)فَأَصْبَحَ قابيل بقتله أخيه مِنَ اَلْخاسِرِينَ في دينه و دنياه.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه خسر دنياه و آخرته؛ أمّا الدّنيا فأسخط والديه، و بقي مذموما إلى يوم القيامة، و أمّا الآخرة فهو العقاب العظيم (7).

في اطلاع آدم على

قتل هابيل

و حزنه عليه

روي أنّه لمّا قتله اسودّ جسده و كان أبيض، فسأله آدم عليه السّلام عن أخيه، قال: ما كنت عليه وكيلا، فقال: بل قتلته، و لذلك اسودّ جسدك (8).

و في رواية: فانطلق آدم عليه السّلام فوجد هابيل مقتولا، فقال: لعنت من أرض كما قبلت دم

ص: 362


1- . عقاب الأعمال:278، تفسير الصافي 2:27.
2- . تفسير الرازي 11:206.
3- . إكمال الدين:213/2، تفسير الصافي 2:28. (4 و 5) . تفسير روح البيان 2:380.
4- . تفسير روح البيان 2:380. (7 و 8) . تفسير الرازي 11:208، تفسير روح البيان 2:381.

هابيل، فبكى آدم على هابيل أربعين سنة (1).

و في رواية اخرى: فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل، و أمر أن يلعن قابيل، و نودي قابيل من السّماء: لعنت كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدّم، فبكى آدم على هابيل أربعين يوما و ليلة (2).

و في رواية: و مكث آدم عليه السّلام بعده مائة سنة لم يضحك قط (3)، فلمّا جزع عليه شكا ذلك إلى اللّه، فأوحى اللّه إليه: يا آدم، إنّي واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل، فولدت حوّاء غلاما زكيّا مباركا، فلمّا كان اليوم السابع، أوحى اللّه إليه: يا آدم، إن هذا الغلام هبة منّي لك، فسمّه هبة اللّه، فسمّاه هبة اللّه (4).

و قيل: لمّا هبط آدم إلى الأرض تفكّر في ما أكل فاستقاء (5)، فنبتت شجرة السّمّ من قيئه، فأكلت الحيّة ذلك السّمّ، و لذا صارت مؤذية مهلكة، و كان [قد]بقي شيء ممّا أكل، فلمّا غشي حوّاء حصل قابيل، و لذا كان قاتلا باعثا للفساد في وجه الأرض (6).

روي أنّه قال طاوس اليماني لأبي جعفر عليه السّلام: هل تعلم أيّ يوم مات ثلث النّاس؟ فقال: «يا عبد اللّه (7)، لم يمت ثلث النّاس قطّ، إنّما أردت ربع النّاس» ، قال: و كيف ذلك؟ قال: «كان آدم و حوّاء و قابيل و هابيل، [فقتل قابيل هابيل]فذلك ربع [الناس]» ، قال: صدقت (8).

أقول: هذا مناف لما دلّ على أنّ لكلّ منهما توأمه، و مؤيّد لما دلّ على أنّ نزاعهما كان في الوصيّة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 31

ثمّ قيل: إنّه لمّا قتل قابيل هابيل تركه بالعراء، و لم يدر ما يصنع به؛ لأنّه كان أوّل ميّت على وجه الأرض من بني آدم، فخاف عليه السّباع فحمله في جراب على ظهره أربعين يوما-أو سنة-حتى أروح (9)، و عكفت عليه الطّيور و السّباع تنظر متى يرمي به فتأكله (10).

فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ (31)

ص: 363


1- . إكمال الدين:214/2، تفسير الصافي 2:28، و فيهما: أربعين ليلة.
2- . تفسير القمي 1:166، تفسير الصافي 2:29.
3- . تفسير الرازي 11:208، تفسير أبي السعود 3:29.
4- . تفسير القمي 1:166، تفسير الصافي 2:29.
5- . استقاء: تقيّأ.
6- . تفسير روح البيان 2:380.
7- . في الاحتجاج: يا أبا عبد الرحمن.
8- . الاحتجاج:326، تفسير الصافي 2:30.
9- . أروح، بمعنى أنتن و ظهرت ريحه.
10- . تفسير روح البيان 2:381.

فَبَعَثَ اَللّهُ و أرسل غُراباً و هو يَبْحَثُ و يحفر فِي اَلْأَرْضِ حفرة لِيُرِيَهُ اللّه، أو الغراب كَيْفَ يُوارِي و يستر من السّباع سَوْأَةَ أَخِيهِ و جيفته أو عورته؛ لأنّه كان قد سلب ثيابه. قيل: إنّ اللّه بعث غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر [له]بمنقاره و رجليه حفرة فألقاه فيها و واراه، و قابيل ينظر إليه (1).

فلمّا تعلّم الدّفن قالَ تلهّفا و تحسّرا: يا وَيْلَتى احضري فهذا أوانك أَ عَجَزْتُ مع عقلي و فطانتي أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ البهم، و لا أهتدي إلى ما اهتدى إليه من مواراة قتيله فَأُوارِيَ و استر بالتّراب سَوْأَةَ أَخِي و جيفته فَأَصْبَحَ قابيل إذن مِنَ اَلنّادِمِينَ على قتل هابيل، حيث صار سببا لكلفته، لتحمّله على رقبته مدّة طويلة، و تحيّره في أمره، أو لما رأى أنّ اللّه أكرمه بعد موته ببعث الغراب.

قيل: إنّ الغراب حثا التّراب على هابيل، و من عادة الغراب دفن الأشياء (2).

روي أنّه لمّا قتل أخاه رجفت الأرض سبعة أيام بما عليها، ثمّ شربت الأرض دم هابيل كشرب الماء، فحرّم اللّه تعالى على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا (3).

قيل: إنّ السّباع و الوحوش كانت تستأنس قبل ذلك، فلمّا قتل قابيل هابيل نفروا، فلحقت الطّيور بالهواء و الوحوش بالبريّة و السّباع بالغياض، و اشتاك الشّجر، و تغيّرت الأطعمة و حمضت الفواكه، و أمرّ الماء، و أغبرّت الأرض (4).

في حزن آدم على

هابيل و رثائه له

ورثى آدم عليه السّلام هابيل و أنشأ يقول: تغيّرت البلاد و من عليها *** فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغيّر كلّ ذي لون و طعم *** و قلّ بشاشة الوجه الصّبيح (5)

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: من قال إنّ آدم قال شعرا فقد كذب، إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و الأنبياء كلّهم في النّهي عن الشّعر سواء، و لكن لمّا قتل قابيل هابيل رثاه آدم، و هو سرياني، فلمّا قال آدم مرثيّة قال لشيث: يا بني إنّك وصيّي، احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرقّ النّاس عليه، فلم يزل ينقل حتّى وصل إلى يعرب بن قحطان و كان يتكلّم بالعربيّة و السّريانية، و هو أول من خطّ بالعربيّة، و كان يقول الشّعر، فنظر في المرثيّة فردّ المقدّم إلى المؤخّر و المؤخّر إلى المقدّم، فوزنه شعرا، و زيد فيه أبيات (6).

ص: 364


1- . تفسير الرازي 11:209، تفسير روح البيان 2:381.
2- . تفسير الرازي 11:209.
3- . تفسير روح البيان 2:381.
4- . تفسير روح البيان 2:381.
5- . تفسير روح البيان 2:381، خزانة الأدب 11:377.
6- . تفسير روح البيان 2:381.

و روي عن أنس أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن يوم الثلاثاء، فقال: «يوم الدّم، فيه حاضت حوّاء، و فيه قتل ابن آدم» (1).

و قيل: إنّ قابيل ذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا يأمن من يراه، فأخذ بيد اخته إقليما و هرب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له: إنّما اكلت النّار قربان هابيل لأنّه كان يعبد النّار، فالتهب (2)أنت أيضا نارا تكون لك و لعقبك، فبنى بيت النّار، و هو أوّل من عبد النّار، و كان لا يمرّ بأحد إلاّ رماه، فأقبل ابن له أعمى و معه ابن له، فقال للأعمى ابنه: هذا أبوك قابيل، فرمى الأعمى أباه بحجارة فقتله، فقال ابن الأعمى: قتلت أباك، فرفع يده فلطم ابنه فمات، فقال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي، و [قتلت]ابني بلطمتي.

قال مجاهد: فعقلت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها و ساقها، و علّقت من يومئذ إلى يوم القيامة، وجهه إلى الشّمس حيثما دارت عليه، في الصيف حظيرة من نار [و في الشتاء حظيرة من ثلج] (3).

و روي أنّه لا تقتل نفس ظلما إلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها؛ لأنّه أوّل من سنّ القتل (4)، و هو أبو (5)يأجوج و مأجوج شرّ أولاد توالدوا من شرّ والد (6).

قيل: اتّخذ أولاد قابيل آلات اللّهو، و انهمكوا فيه و في شرب الخمر، و عبادة النّار و الزّنا و الفواحش، حتّى غرّقهم اللّه بالطّوفان أيّام نوح، و بقي نسل شيث (7).

و قيل: لمّا ذهب قابيل إلى اليمن كثروا و طفقوا يتحاربون مع سائر أولاد آدم إلى زمن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث، ففرّقهم مهلائيل إلى أقطار الأرض، و سكن هو في أرض بابل، و كان كيومرث أخاه الصّغير، و هو أوّل السّلاطين في العالم، فأخذوا يبنون المدن و الحصون، و استمرّت الحرب بينهم إلى آخر الزّمان (8).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 32

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

ص: 365


1- . تفسير روح البيان 2:382.
2- . في تفسير روح البيان: فانصب.
3- . تفسير روح البيان 2:382.
4- . تفسير الرازي 11:208، تفسير روح البيان 2:382.
5- . في النسخة و المصدر: أب.
6- . تفسير روح البيان 2:382. (7 و 8) . تفسير روح البيان 2:382.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه غاية فضاحة أمر القتل، و كونه موجبا لخسران الدّنيا و الآخرة، ذكر أنّ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ الخسران المبين في قتل النّفس و بعلّة هذه الفضاعة الشّديدة فيه شددنا أمره في شرع موسى، و كَتَبْنا في اللّوح المحفوظ، و في التّوراة، و قضينا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و سائر امّة موسى أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة بِغَيْرِ علّة قصاص نَفْسٍ أَوْ بغير فَسادٍ ظاهر من المقتول فِي اَلْأَرْضِ الموجب لاستحقاقه القتل و إهدار دمه، كالشّرك و الارتداد، أو قطع الطّريق و غير ذلك من أسبابه فَكَأَنَّما قَتَلَ عمدا و عدوانا اَلنّاسَ جَمِيعاً في استجلاب غضب اللّه و العذاب العظيم، لا في مقدارهما، على ما قيل (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد المبالغة في تعظيم قتل النّفس و إتلافها بغير حقّ، بالغ في تأكّد وجوب حفظها عن التّلف بقوله: وَ مَنْ أَحْياها بحفظها عن الهلاك و التّلف بالعفو عن القصاص، أو منعها عن أن تقتل بغير الحقّ، أو استنقاذها من المهالك فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً .

عن الصادق عليه السّلام: «واد في جهنّم لو قتل النّاس جميعا كان فيه، و لو قتل نفسا واحدة كان فيه» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «يوضع في موضع من جهنّم إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها، لو قتل النّاس جميعا إنّما كان يدخل ذلك المكان» ، قيل: فإن قتل آخر؟ قال: «يضاعف [عليه]» (3).

و في رواية: «له في النّار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يزدد على (4)ذلك المقعد» (5).

القمّي: قال: من أنقذها من حرق أو غرق أو هدم أو سبع، أو كفله حتّى يستغني، أو أخرجه من فقر إلى غنى، و أفضل من ذلك من أخرجها من ضلال إلى هدى (6).

و عنهما عليهما السّلام: «من أخرجها من ضلال [إلى هدى]فكأنّما أحياها، و من أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها» (7).

و في رواية: «فمن أخرجها من ضلال إلى هدى، قال: ذلك تأويلها [الأعظم] (8)» .

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له» (9).

ثمّ أخذ في توبيخ بني إسرائيل على سفكهم الدّماء بعد هذه التّشديدات بقوله: وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ

ص: 366


1- . تفسير البيضاوي 1:264، تفسير روح البيان 2:384.
2- . تفسير العياشي 2:37/1246.
3- . الكافي 7:271/1.
4- . في الكافي: لم يرد إلاّ إلى.
5- . الكافي 7:272/6، تفسير الصافي 2:30.
6- . تفسير القمي 1:167، تفسير الصافي 2:30.
7- . تفسير العياشي 2:37/1245، تفسير الصافي 2:31، عن الصادق عليه السّلام.
8- . الكافي 2:168/2، تفسير الصافي 2:31.
9- . الكافي 2:168/3، تفسير الصافي 2:31.

لتقرير ما كتبنا عليهم رُسُلُنا حسب ما أرسلناهم بِالْبَيِّناتِ و الآيات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ التأكيد و التّشديد في أمر القتل و مجيء الرّسل بتقريره فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ في القتل غير مبالين بعظمته حتّى قتلوا الأنبياء.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 33

ثمّ أنّه تعالى بعد الإشارة إلى جواز قتل المفسدين، صرّح بإباحته، بل وجوبه بقوله: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ بمحاربة أوليائهما من المسلمين.

إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)عن الباقر عليه السّلام: «من حمل السّلاح باللّيل فهو محارب إلاّ أن يكون رجلا ليس من أهل الرّيبة» (1)وَ يَسْعَوْنَ و يمشون فِي اَلْأَرْضِ لأجل أن يعملوا فَساداً في أموال المسلمين، أو أنفسهم كالنّهب و الغارة و القتل أَنْ يُقَتَّلُوا بأن تضرب أعناقهم بالسّيف؛ إن قتلوا أَوْ يُصَلَّبُوا و يقتلوا بالصّلب، أو يقتلوا ثمّ يصلبوا؛ إن قتلوا نفسا و أخذوا مالا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ من مفصل الأصابع الأربع، و يترك الرّاحة و الإبهام وَ أَرْجُلُهُمْ و لكن بنحو يبقى العقب، إن اقتصروا على أخذ المال، و لكن لا بدّ أن يكون القطع مِنْ خِلافٍ بأن تقطع اليد اليمنى أوّلا، ثمّ تقطع الرّجل اليسرى ثانيا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ التي يسكنها إلى مصر آخر؛ إن أخافوا السّبيل.

ثمّ نبّه اللّه سبحانه على عدم انحصار عقوبتهم بتلك العقوبات الدّنيويّة بقوله: ذلِكَ الحدّ المقرّر في الشّرع لَهُمْ خِزْيٌ و فضيحة فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ مضافا إلى ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ و عقاب شديد لا يقادر قدره.

في غدر قوم من بني

ضبة بالرسول صلّى اللّه عليه و آله

عن الصادق عليه السّلام: «قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سريّة. فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصّدقة يشربون من أبوالها و يأكلون من ألبانها، فلمّا برئوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كانوا في الإبل و ساقوا الإبل، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخبر، فبعث إليهم عليّا عليه السّلام و هم في واد قد تحيّروا، ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن، فأسرهم و جاء بهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت هذه الآية، فاختار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القطع، فقطع أيديهم و أرجلهم من

ص: 367


1- . الكافي 7:246/6، تفسير الصافي 2:32.

خلاف» (1).

و في رواية: «أنّها نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، و كان وادعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن لا يعينه و لا يعين عليه، و من أتاه من المسلمين فهو آمن لا يهاج، و من مرّ بهلال إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [فهو آمن]لا يهاج، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من قوم هلال، و لم يكن هلال يومئذ حاضرا، فقطعوا عليهم و قتلوهم و أخذوا أموالهم» (2).

في الصّحيح عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «من شهر السّلاح في مصر من الأمصار فعقر؛ اقتصّ منه و نفي من تلك البلد، و من شهر السّلاح في غير مصر من الأمصار و ضرب و عقر و أخذ المال و لم يقتل فهو محارب، فجزاؤه جزاء المحارب و أمره إلى الإمام إن شاء قتله، و [إن شاء]صلبه، و إن شاء قطع يده و رجله. قال: و إن ضرب و قتل و أخذ المال، فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى بالسّرقة، ثمّ يدفعه إلى أولياء المقتول فيتّبعونه بالمال ثمّ يقتلونه» .

قال: فقال له أبو عبيدة: أ رأيت إن عفا عنه أولياء المقتول؟

قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام: «إن عفوا عنه كان على الإمام أن يقتله؛ لأنّه قد حارب و قتل و سرق» .

قال: فقال أبو عبيدة: أ رأيت إن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدّية و يدعونه، ألهم ذلك؟ قال (3): «عليه القتل» (4).

و عن جميل بن درّاج في الصّحيح، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ إلى آخر الآية، [فقلت:]أيّ شيء عليهم من هذه الحدود التي سمّى اللّه عزّ و جل؟ قال: «ذلك إلى الإمام إن شاء قطع، و إن شاء نفى، و إن شاء صلب، و إن شاء قتل» .

قلت: النّفي إلى أين؟ قال: «من مصر إلى مصر آخر» -و قال: - «إنّ عليّا نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة» (5).

و عن عبيد اللّه المدائني، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، قال: سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ الآية، فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال: «إذا حارب اللّه و رسوله و سعى في الأرض [فسادا]فقتل قتل به، و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب، و إن

ص: 368


1- . تفسير العياشي 2:39/1250، الكافي 7:245/1، تفسير الصافي 2:31.
2- . تفسير أبي السعود 3:31، تفسير روح البيان 2:385.
3- . زاد في الكافي: فقال: لا.
4- . الكافي 7:248/12.
5- . الكافي 7:245/3.

أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف، و إن شهر السّيف و حارب اللّه و رسوله و سعى في الأرض فسادا و لم يقتل و لم يأخذ المال نفي من الأرض» (1).

و عن أحمد بن الفضل الخاقاني من آل رزين، قال: قطع الطريق بجلولاء على السابلة من الحاجّ و غيرهم، و افلت القطّاع-إلى أن قال: -و طلبهم العامل حتى ظفر بهم، ثمّ كتب بذلك إلى المعتصم، فجمع الفقهاء و ابن أبي دؤاد، ثمّ سأل الآخرين عن الحكم فيهم، و أبو جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام حاضر، فقالوا: قد سبق حكم اللّه فيهم في قوله: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ و لأمير المؤمنين أن يحكم بأيّ ذلك شاء فيهم.

قال: فالتفت إلى أبي جعفر و قال: [ما تقول فيما أجابوا فيه؟ فقال: «قد تكلّم هؤلاء الفقهاء و القاضي بما سمع أمير المؤمنين» قال: و]أخبرني بما عندك؟ قال: «إنّهم قد أضلّوا في ما أفتوا به، و الذي يجب في ذلك أن ينظر أمير المؤمنين في هؤلاء الّذين قطعوا الطّريق، فإن كانوا أخافوا السّبيل فقط و لم يقتلوا أحدا و لم يأخذوا مالا، أمر بإيداعهم الحبس، فإنّ ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السّبيل، و إن كانوا أخافوا السّبيل و قتلوا النّفس أمر بقتلهم، و إن كانوا أخافوا السّبيل و قتلوا النّفس و أخذوا المال، أمر بقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و صلبهم بعد ذلك» . فكتب إلى العامل بأن يمتثل ذلك فيهم (2).

أقول: الظّاهر أنّ هذا التّفصيل هو المراد من خبر بريد بن معاوية، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ؟ قال: «ذلك إلى الإمام يفعل ما يشاء» . قلت: فمفوّض ذلك إليه؟ قال: «لا، و لكن نحو الجناية» (3). و في رواية: «و لكن بحق الجناية» (4).

و في اخرى: «و لكنّه يصنع [بهم]على قدر جناياتهم» (5).

ثمّ أنّه اختلف الأصحاب و غيرهم لاختلاف الأخبار، فمنهم من قال بالتّخيير لصحة أخباره، و موافقتها لظاهر الكتاب الكريم، و ضعف أخبار التّرتيب، و منهم من قال بالتّرتيب لاستفاضة رواياته، و انجبارها بالشّهرة و الإجماع المنقولين، و موافقتها الاعتبار، و مخالفتها لأكثر العامّة، كما تومئ إليه بعض النّصوص.

ص: 369


1- . تفسير العياشي 2:42/1258، الكافي 7:246/8، تفسير الصافي 2:3.
2- . تفسير العياشي 2:39/1251.
3- . تفسير العياشي 2:41/1252، الكافي 7:246/5.
4- . تفسير العياشي 2:41/1252.
5- . الكافي 7:247/11، تفسير الصافي 2:32.

في الجمع بين

أخبار حدّ

المحارب

و يمكن الجمع بين الأخبار بحمل أخبار التّرتيب على رجحان رعاية قدر الجناية، و صلاح الوقت، و خصوصيّات حال الجاني، و غير ذلك من المرجّحات، كما دلّ عليه الخبر الوارد في شأن النّزول من قوله عليه السّلام: «فاختار الرّسول القطع» (1).

و اختلاف الأخبار في كيفيّة التّرتيب، و إن اتّفقت على تعيّن النّفي للإخافة المجرّدة عن القتل و أخذ المال، و إن اختلفت في المراد من النّفي، ففي بعضها فسّر بالإيداع في الحبس، و في آخر بالغرق في البحر، و لكنّ المشهور فتوى و نصّا هو النّفي من مصر إلى مصر، و يمكن حمل الأوّل على من لا يؤمن فساده بتبعيده إلى أرض أخرى.

ثمّ لا فرق في الحكم بين الذّكر و الانثى إذا تحقّقت الإخافة، و تجريد السّلاح بقصدها، بل قال بعض بعدم اعتبار تحقّق الإخافة، كما إذا كان من جرّد السّلاح ضعيفا في الأنظار، تمسّكا بإطلاق الأدلّة، كإطلاقها لما إذا كان في برّ أو بحر، أو مصر، أو ليل أو نهار.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 34

ثمّ استثنى سبحانه من عموم الحكم بالجزاء التّائبين بقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا إلى اللّه من محاربته و إخافته المؤمنين و إفساده في الأرض مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا و تستولوا عَلَيْهِمْ فإنّه يسقط عنه الحدّ الذي هو حقّ اللّه دون حقوق النّاس من الضّمان و القصاص للإشعار به بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، و عدم ثبوت مخصّص لأدلّة القصاص و الضّمان.

إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 35

ثمّ لمّا كان الدّاعي إلى محاربة المؤمنين و السّعي في الفساد حبّ المال و المنافع الدّنيويّة، أرشد النّاس بعد زجرهم عنه إلى عمل فيه جميع الخيرات الدّنيويّة و الاخرويّة بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إن كنتم تطلبون خير الدّنيا و نفعها، فلا تطلبوه بالإفساد في الأرض و قطع الطّرق، بل اِتَّقُوا اَللّهَ و احترزوا عن مخالفة أحكامه وَ اِبْتَغُوا لأنفسكم إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ و اطلبوا القربة منه بالأعمال الصّالحة و الانقياد و الطّاعة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)

ص: 370


1- . الكافي 7:245/1، تفسير العياشي 2:39/1250، تفسير الصافي 2:31.

القمّي: «تقرّبوا إليه بالإمام» (1).

ثمّ خصّ الجهاد بالذّكر بقوله: وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لغاية الاهتمام به لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بخير الدّنيا و الآخرة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 36

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّ المال لا ينفع صاحبه في الآخرة مع الكفر و العصيان، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ من أموالها و خزائنها و زخارفها جَمِيعاً و كلاّ وَ مِثْلَهُ و ضعفه مَعَهُ فرضا، ثمّ جاءوا بذلك لِيَفْتَدُوا بِهِ أنفسهم و يخلّصوها مِنْ عَذابِ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ و عقوبات عقائدهم الفاسدة و أعمالهم السّيّئة ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ تلك الفدية وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يخلص ألمه إلى قلوبهم.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)قيل: إنّ الجملة تمثيل [للزوم العذاب لهم و]استحالة نجاتهم من العذاب بوجه من الوجوه المحقّقة و المفروضة (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أ رأيت لو كان [لك]ملء الأرض ذهبا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: إنّك كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك» (3).

عن العيّاشي عنهما عليهما السّلام: «أنّهم أعداء عليّ عليه السّلام» (4).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 37

ثمّ أكّد سبحانه امتناع خلاصهم بقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ و يتمنّون الخلاص منها، قيل: إذا رفعهم لهب النّار إلى فوق فهناك يتمنّون الخروج وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ و ناجين مِنْها و من شدائدها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ثابت عليهم لا يزول أبدا. و في تخصيص الخلود في النّار بالكفّار دلالة على عدم الخلود للعصاة من أهل الإيمان.

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 38

وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

ص: 371


1- . تفسير القمي 1:168، تفسير الصافي 2:33.
2- . تفسير روح البيان 2:389.
3- . تفسير الرازي 11:221، تفسير روح البيان 2:389.
4- . تفسير العياشي 2:43/1260 و 1261، تفسير الصافي 2:33.

في بيان حدّ

السارق

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حدّ من أخذ أموال النّاس بالمحاربة و قطع الطّريق، بيّن حدّ أخذ أموالهم خفية بقوله: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ حدّهما الثّابت في الكتاب أنّه إذا قدرتم عليهما فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما .

سئل الصادق عليه السّلام، في كم يقطع السّارق؟ قال: «في ربع دينار، بلغ الدّينار ما بلغ» ،

قيل: أ رأيت من سرق أقلّ من ربع دينار، هل يقع عليه حين سرق اسم السّارق، و هل هو عند اللّه سارق في تلك الحال؟ فقال: «كلّ من سرق من مسلم شيئا قد حواه و أحرزه، فهو يقع عليه اسم السّارق، و [هو]عند اللّه سارق، و لكن لا يقطع إلاّ في ربع دينار أو أكثر، و لو قطعت أيدي السّرّاق في ما هو أقلّ من ربع دينار لألفيت عامّة النّاس مقطعين» (1).

و عنه عليه السّلام: «القطع من وسط الكفّ، و لا يقطع الإبهام» (2).

و في رواية: «يقطع أربع أصابع و يترك الإبهام، يعتمد عليها في الصلاة و يغسل بها وجهه [للصلاة]» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه كان إذا قطع السّارق ترك له الإبهام و الرّاحة، فقيل له: يا أمير المؤمنين، تركت عامّة يده؟ فقال: «فإن تاب فبأيّ شيء يتوضّأ، يقول اللّه فَمَنْ تابَ. . .» (4)الخبر.

ثمّ علّل الحكم بقطع اليد بقوله: جَزاءً من اللّه لهما بِما كَسَبا من الخيانة و مكافأة لهما على ما فعلا من السّرقة، و نَكالاً و عقوبة مِنَ اَللّهِ رادعة لهما عن العود، و لغيرهما من الجرأة على مثل عملهما وَ اَللّهُ عَزِيزٌ و غالب على أمره، يمضيه كيف يشاء حَكِيمٌ في شرائعه يحكم بما يقتضيه الصّلاح.

في الاستدلال على

وجوب نصب

الامام

ثمّ اعلم أنّ المتكلّمين استدلّوا بالآية على وجوب نصب الإمام، بتقريب أنّها دالّة على وجوب إقامة الحدّ، و قد أجمعت الامّة على أنّها للإمام خاصّة دون الرّعيّة، فوجب وجود الإمام، و إلاّ يلزم وجود التّكليف و الخطاب بدون المكلّف و المخاطب؛ و هو محال إنّما الاختلاف بيننا و بين العامّة في أنّ نصب الإمام هل هو واجب على الرّعيّة، أو على اللّه؟ و العامّة قائلون بالأوّل، و الخاصّة بالثّاني، لاشتراطها عندهم بشرائط لا يطّلع عليها

ص: 372


1- . الكافي 7:221/6، تفسير الصافي 2:33.
2- . الكافي 7:222/2، تفسير الصافي 2:34.
3- . الكافي 7:225/17، تفسير الصافي 2:34.
4- . تفسير العياشي 2:44/1263، تفسير الصافي 2:34.

إلاّ اللّه، و لأنّها عهد اللّه كما قال سبحانه: لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ (1). و من المعلوم أنّه لا يمكن أن يكون بيد غيره تعالى حتّى النبيّ.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 39

ثمّ أنّه بعد إظهار الغضب على السّارق بحكمه بقطع يده، أعلن بسعة رحمته بقوله: فَمَنْ تابَ من السّرّاق إلى اللّه و ندم من فعله الشّنيع مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ على نفسه بالمعصية، و على غيره بسرقة ماله وَ أَصْلَحَ نيّته في التّوبة، و عمله بردّ المال فَإِنَّ اَللّهَ بسعة رحمته يَتُوبُ عَلَيْهِ و يعفو عنه، فلا يعذّبه بالقطع في الدّنيا و بالنّار في الآخرة إذا كانت توبته قبل الظّفر، و بالنّار فقط إن كانت بعده إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالتّائبين من المؤمنين.

فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)في (الكافي) : عن أحدهما عليهما السّلام، في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى، فلم يعلم ذلك منه، و لم يؤخذ حتّى تاب و صلح، [فقال: «إذا صلح]و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من أخذ سارقا فعفا عنه فذاك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق منه: أنا أهب له؛ لم يدعه الإمام حتّى يقطعه إذا رفعه إليه، و إنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام، و ذلك قول اللّه: وَ اَلْحافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّهِ (3)، فإذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه» (4).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن الرّجل يأخذ اللّصّ يرفعه أو يتركه؟ فقال: «إنّ صفوان بن اميّة كان مضطجعا في المسجد الحرام، فوضع رداءه و خرج يهريق الماء، فوجد رداءه قد سرق حين رجع إليه، فقال: من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه، فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال [النبيّ]: اقطعوا يده، فقال صفوان: تقطع يده من أجل ردائي يا رسول اللّه؟ قال: نعم، قال: فإنّي أهبه له، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فهلاّ كان هذا قبل أن ترفعه إليّ» قيل: فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه؟ قال: «نعم» (5).

أقول: لأجل تلك الرّوايات ذهب أصحابنا إلى اشتراط القطع بمطالبة المسروق منه، و رفعه السّارق إلى الإمام، فإن عفا عنه قبل الرّفع سقط الحدّ. و قد ادّعى بعض الأصحاب عدم الخلاف فيه.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 40

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

ص: 373


1- . البقرة:2/124.
2- . الكافي 7:250/1، تفسير الصافي 2:35.
3- . التوبة:9/112.
4- . الكافي 7:251/1، تفسير الصافي 2:35.
5- . الكافي 7:251/2، تفسير الصافي 2:35.

ثمّ لمّا أوجب اللّه تعالى قطع يد السّارق للمال و إن كان قليلا، و وعده بالمغفرة إذا تاب، عرّف ذاته المقدّسة بالسّلطنة التّامّة المطلقة، بقوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ يا محمّد أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السّلطنة التّامّة على جميع الموجودات، إذن يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه بحكمته وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ غفرانه برحمته [سواء أ]

كان الذّنب صغيرا أو كبيرا، لا يسئل عمّا يفعل.

ثمّ قرّر قدرته غير المتناهية بقوله: إن وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من التّعذيب و المغفرة و غيرها قَدِيرٌ لا يمنعه مانع عن إنفاذ إرادته، و لا يدفعه دافع عن إمضاء مشيئته.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 41

ثمّ أنّه تعالى-بعد إثبات نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالأخبار الغيبيّة من قصّة مخالفة بني إسرائيل أمر موسى عليه السّلام بالجهاد مع العمالقة و ابتلائهم بالتّيه، و قصّة قابيل و هابيل ابني آدم، الموافقتين لما في الكتب السّماويّة، مع كونه صلّى اللّه عليه و آله اميّا، و بالأحكام المحكمة الموافقة للعقول السّليمة، و كان الكلّ أدلّة على صدق نبوّته، و مع ذلك كان المنافقون و اليهود مبالغين في إنكار رسالته و الإخلال في أمره-سلّى قلب حبيبه بعد خطابه بالتّشريف و التّعظيم بقوله: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ صنيع اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ و يبادرون إلى إنكار رسالتك بعد تماميّة الحجّة و وضوح صدقك مِنَ المنافقين اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بك، و لكن بِأَفْواهِهِمْ و ألسنتهم، وَ الحال أنّه لَمْ تُؤْمِنْ بك قُلُوبُهُمْ و أفئدتهم وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا و اتّبعوا دين اليهودية، هم سَمّاعُونَ و مبالغون في القبول لِلْكَذِبِ و الفرية من علمائهم و أحبارهم.

يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)و قيل: إنّ المراد أنّهم مبالغون في سماع أخبارك و أحاديثك ليكذّبوا عليك بالزّيادة و النّقص و التّغيير (1).

قيل: إنّهم كانوا يسمعون من الرّسول، ثمّ يخرجون و يقولون: سمعنا منه كذا و كذا؛ مع أنّهم لم

ص: 374


1- . تفسير روح البيان 2:393.

يسمعوا ذلك منه (1).

و مع ذلك هم سَمّاعُونَ و مبالغون في القبول لِقَوْمٍ آخَرِينَ من اليهود الّذين لَمْ يَأْتُوكَ و لم يحضروا عندك تكبّرا و إفراطا في البغضاء.

قيل: (سمّاعون) بنو قريظة، و (قوم آخرين) يهود خيبر (2).

و هم يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ الذي في التّوراة، و يزيلونه عن مواضعه مِنْ بَعْدِ أنّ اللّه وضعه في مَواضِعِهِ، ثمّ القوم الآخرون المحرّفون يَقُولُونَ لعوامهم و أتباعهم السمّاعين لهم عند إلقائهم الأقاويل الباطلة و الكلمات المحرّفة إليهم: إِنْ أُوتِيتُمْ من قبل محمّد هذا القول الذي قلنا لكم فَخُذُوهُ و اقبلوا منه، و اعملوا بمقتضاه لأنّه الحقّ، مع كونه باطلا محرّفا وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بل اوتيتم غيره فَاحْذَرُوا و امتنعوا عن قبوله.

قيل: سبب نزول الآية ما مرّ من حكم النبيّ بالرّجم، و حكومة ابن صوريا فيه (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: كان سبب نزولها أنّه كان في المدينة بطنان من اليهود من بني هارون؛ و هم النّضير و قريظة، و كانت قريظة سبعمائة، و النّضير ألفا، و كانت النّضير أكثر مالا و أحسن حالا من قريظة، و كانوا حلفاء لعبد اللّه بن ابيّ، فكان إذا وقع بين قريظة و النّضير قتل، و كان القتيل (2)من بني النّضير قالوا لبني قريظة: لا نرضى أن يكون قتيل منّا بقتيل منكم؛ فجرى بينهم في ذلك مخاطبات كثيرة، حتّى كادوا أن يقتتلوا، حتّى رضيت قريظة و كتبوا بينهم كتابا على أنّه أيّ رجل من النّضير قتل رجلا من بني قريظة أن يجنّب و يحمّم (3)، و التّجنبة أن يقعد على جمل، و يولى وجهه إلى ذنب الجمل، و يلطّخ وجهه بالحمأة (4)، و يدفع نصف الدّية، و أيّما رجل من قريظة قتل رجلا من النّضير أن يدفع إليه الدّية كاملة، و يقتل به.

فلمّا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [إلى المدينة]، و دخل الأوس و الخزرج في الإسلام، ضعف أمر اليهود، فقتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النّضير، فبعث إليهم بنو النّضير أن ابعثوا إلينا دية المقتول و بالقاتل حتّى نقتله، فقالت قريظة: ليس هذا حكم التّوراة، و إنّما هو شيء غلبتمونا عليه، فأمّا الدّية و أمّا القتل، و إلاّ فهذا محمّد بيننا و بينكم، فهلمّوا و تحاكموا إليه.

فمشت بنو النّضير إلى عبد اللّه بن ابيّ فقالوا: سل محمّدا أن لا ينقض شرطنا في هذا الحكم الذي

ص: 375


1- . مجمع البيان 3:299، تفسير روح البيان 2:394، تفسير الصافي 2:22.
2- . في المصدر: و كان القاتل.
3- . يجنّب: يبعد، و يحمّم: يسوّد وجهه بالفحم.
4- . الحمأة: الطين الأسود.

بيننا و بين بني قريظة في القتل، فقال عبد اللّه بن ابيّ: ابعثوا [معي]رجلا يسمع كلامي و كلامه، فإن حكم لكم بما تريدون و إلاّ فلا ترضوا به، فبعثوا معه رجلا، فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ هؤلاء القوم، قريظة و النّضير، قد كتبوا كتابا بينهم و عهدا وثيقا تراضوا به، و الآن في قدومك يريدون نقضه، و قد رضوا بحكمك فيهم، فلا تنقض كتابهم و شرطهم، فإنّ [بني]النّضير لهم القوّة و السّلاح و الكراع (1)، و نحن نخاف (2)الدّوائر، فاغتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك و لم يجبه بشيء، فنزل عليه جبرئيل بهذه الآيات . . . يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يعني: عبد اللّه بن ابيّ، و بني النّضير، وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا، يعني: عبد اللّه [بن ابيّ]، قال لبني النّضير: إن لم يحكم [لكم]بما تريدونه فلا تقبلوا (3).

ثمّ لمّا بيّن اللّه عزّ و جلّ فضائح اليهود و المنافقين كعبد اللّه بن ابيّ، نبّه على عدم إمكان علاج مرض كفرهم، بقوله: وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ بالإرادة التّكوينيّة فِتْنَتَهُ، و ابتلاءه بالكفر و الضّلال، أو فضيحته بالكفر، أو تعذيبه فَلَنْ تَمْلِكَ و لن تستطيع لَهُ مِنَ اَللّهِ في دفعها شَيْئاً يسيرا، إذن فاعلم أن أُولئِكَ اليهود و المنافقين هم اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الزّيغ و الرّين و الطّبع و الضّيق، و لذا ثبت لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ و ذلّة، بضرب الجزية على اليهود منهم، و إجلاء بني النّضير، و إظهار كذبهم و كتمانهم للحقّ، و تفضيح المنافقين بإظهار كفرهم، و خذلانهم بين المؤمنين وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ و دار الجزاء عَذابٌ بالنّار عَظِيمٌ بالخلود فيها.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 42

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم و تقريعهم بقوله: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ و المال الحرام. و إنّما ذمّهم بالوصفين لتوغّلهم فيهما.

سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ (42)قيل: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة، سمع كلامه و لا يلتفت إلى خصمه، و كان يسمع الكذب و يأكل السّحت (4).

و قيل: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهوديّة، فالفقراء كانوا

ص: 376


1- . الكراع: اسم يجمع الخيل و السّلاح.
2- . زاد في المصدر: الغوائل و.
3- . تفسير القمي 1:168، تفسير الصافي 2:36.
4- . تفسير الرازي 11:235.

يسمعون أكاذيب الأغنياء، و يأكلون السّحت الذي يأخذونه منهم (1).

و قيل: كانوا سمّاعون للكذب الذي ينسبونه إلى التوراة، أكّالون للرّبا (2).

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، في قوله تعالى: أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ قال: «هو الرّجل يقضي لأخيه الحاجة [ثمّ]يقبل هديّته» (1).

و في رواية عن الباقر عليه السّلام: «السّحت أنواع كثيرة؛ منها: اجور الفواجر (2)، و ثمن الخمر و النّبيذ المسكر، و الرّبا بعد البيّنة، و أمّا الرّشا في الحكم فإنّه كفر باللّه العظيم و برسوله» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «السّحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغيّ، و أجر الكاهن، و الرّشوة» (4).

ثمّ لمّا كان سبب نزول الآية السّابقة محاكمة اليهود عند الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في أمر القتل، أو حدّ زنا المحصن، خيّره اللّه تعالى في الحكم بينهم، بقوله: فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك في ما شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بما هو الحقّ عند اللّه أَوْ أَعْرِضْ و تولّ عَنْهُمْ و لا تلتفت إليهم.

ثمّ أمّنه اللّه سبحانه-إثر التّخيير-من الضّرر على الحالين بقوله: وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تقبل الحكومة بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً يسيرا من الضّرر بسبب إعراضك عنهم و عدم اعتنائك بهم، و إن زادت معاداتهم فاللّه عاصمك وَ إِنْ حَكَمْتَ و قبلت الفصل بينهم فَاحْكُمْ و اقض بَيْنَهُمْ بحكم و قضاء ملابس بِالْقِسْطِ و العدل الذي امرت به إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ في الحكم، العادلين في القضاء؛ فيحفظهم من كلّ سوء و مكروه، و يكرمهم بالقرب إليه. في الحديث: «المقسطون عند اللّه على منابر من نور» (5).

عن الباقر عليه السّلام: «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التّوراة و [أهل]الإنجيل يتحاكمون إليه، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم» (6).

في أن الحاكم مخيّر

في الحكم بين أهل

الكتاب إذا كان

المخاصمان أهل

ملّة واحدة

أقول: حكي اتّفاق أصحابنا على تخيير الحاكم في الصّورة إذا كان الخصمان أهل ملّة واحدة، و أمّا إذا كان أحدهما مسلما؛ فلا يجوز ردّ الحكم فيه إلى أهل الذّمّة. و إنّما الخلاف فيما إذا كانا ذمّيّين من أهل ملّتين كاليهودي و النّصراني. و الأقوى تحتّم

ص: 377


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:28/16، تفسير الصافي 2:38.
2- . في النسخة: الفواحش.
3- . الكافي 5:126/1، تفسير الصافي 2:37.
4- . الكافي 5:126/2، تفسير الصافي 2:37.
5- . تفسير روح البيان 2:395.
6- . التهذيب 6:300/839، تفسير الصافي 2:38.

الحكم بينهما بمذهب الإسلام، لعمومات وجوب الحكم و القضاء بالحقّ، و بما أنزل اللّه، و لم يثبت التّخصيص إلاّ فيما [إذا]كانا من أهل ملّة واحدة، و يؤيّده أنّ [في]الرّدّ إلى إحدى الملّتين إثارة الفتنة.

و قيل: إنّ التّخيير منسوخ بقوله: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ (1)؛ و هو مرويّ عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (2)، قال: ما نسخ من المائدة غير هذه الآية، و غير قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ (3)، نسخها قوله: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ (4).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 43

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه اليهود على إعراضهم عن التّوراة التي يعتقدون أنّهم مؤمنون بها، و تحكيمهم من لا يؤمن به، باستفهام فيه تعجيب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ و يرضون هؤلاء اليهود بقضائك بينهم، وَ الحال أنّ عِنْدَهُمُ و في منظرهم اَلتَّوْراةُ التي تغنيهم عن حكمك، إذ فِيها حُكْمُ اَللّهِ صريحا في موضوع تشاجرهم في أمر القصاص و الدّية ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ و يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التحكيم و الرّضا بقضائك وَ ما أُولئِكَ المتحاكمون إليك بِالْمُؤْمِنِينَ بشيء من التّوراة و لا بحكمك لإعراضهم عنها و عنه، بل غرضهم اتّباع الهوى، و تحصيل مصالح الدّنيا.

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اَللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 44

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم و تقريعهم على إعراضهم عن التّوراة ببيان عظم شأنها بقوله: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ إلى بني إسرائيل، و الحال أنّ ما فِيها هُدىً من الضّلال، و رشاد إلى الحقّ، و بيان لكلّ حكم، وَ فيها نُورٌ ترتفع به ظلمة الجهل، و تزول به كدورة الشكّ، و قد كانت من أوّل نزولها يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا و انقادوا للّه و لأحكامه لِلَّذِينَ هادُوا و اتّبعوا شريعة موسى

إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ (44)

ص: 378


1- . المائدة:5/49.
2- . تفسير الرازي 11:235، تفسير أبي السعود 3:39.
3- . المائدة:5/2.
4- . تفسير أبي السعود 3:39، و الآية من سورة التوبة:9/5.

من بني إسرائيل و غيرهم وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ أيضا كانوا يحكمون به، و كان اهتمامهم ببعث النّاس إلى العمل بها بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ و بسبب كونهم موكّلين على وقايته من التّحريف و التّغيير و الضّياع و الإهمال، حسب ما وصّاهم اللّه به وَ كانُوا جميعا لشدّة اهتمامهم بحفظه كلّ زمان عَلَيْهِ شُهَداءَ بين النّاس يشهدون بصدقه و نزوله من اللّه. أو المراد: أنّهم عليه رقباء يراقبون على أن لا يغيّر و لا يضيّع.

عن الصادق عليه السّلام: «الربّانيّون: هم الأئمّة دون الأنبياء الّذين يربّون النّاس بعلمهم، و الأحبار: هم العلماء الربّانيّون-قال: -ثمّ أخبر عنهم فقال: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ، و لم يقل: بما حملوا منه» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «فينا نزلت» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قيام النّبيّين و الربّانيّين و الأحبار بحفظ التّوراة و الاهتمام بإمضاء أحكامها من غير مبالاة، خاطب اليهود الّذين كانوا في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حرّضهم و حرّض رؤساءهم و أحبارهم بالاقتداء بمن قبلهم من الأنبياء، و اتّباعهم في عدم المبالاة من أحد في حفظ التّوراة و إمضاء أحكامها؛ بقوله: فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ [سواء أ]كانوا ملوكا أو غير ملوك، على أنفسكم و أعراضكم و أموالكم، في أن تحكموا بحكم التّوراة في الرّجم و القتل و غيرهما، و إيّاكم أن تحرّفوا كتاب اللّه بإسقاط الحدّ الواجب و التّساوي في الدية و القصاص وَ اِخْشَوْنِ و خافوا من عقابي على تغيير كتابي و الحكم بغير الحقّ.

ثمّ بعد الرّدع عن داعي الرّهبة الذي هو أقوى الدّواعي، ردع عن داعي الرّغبة بقوله: وَ لا تَشْتَرُوا و لا تستبدلوا بِآياتِي و أحكام كتابي ثَمَناً و عوضا قَلِيلاً من الرّشوة و الجاه و سائر الحظوظ الدّنيويّة.

ثمّ هدّد المغيّرين لكتابه، الحاكمين بغير أحكامه بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ من الأحكام، مستهينا بها، رادّا لها فَأُولئِكَ المنكرون له بقلوبهم، التّاركون له بأعمالهم هُمُ اَلْكافِرُونَ باللّه و بكتابه حقّا، الخالدون في النّار أبدا.

عن (الكافي) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من حكم في درهمين بحكم جور؛ ثمّ جبر عليه، كان من أهل هذه

ص: 379


1- . تفسير العياشي 2:51/1279، تفسير الصافي 2:38.
2- . تفسير العياشي 2:50/1278، تفسير الصافي 2:39.

الآية» (1).

و عنهما عليهما السّلام: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه، ممّن له سوط أو عصا؛ فهو كافر بما أنزل اللّه على محمّد» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 45

ثمّ أخبر اللّه بما في التّوراة من حكم القصاص و المساواة فيه بين الوضيع و الشريف بقوله: وَ كَتَبْنا و أثبتنا عَلَيْهِمْ فِيها بالصّراحة أَنَّ اَلنَّفْسَ القاتلة تقاد بِالنَّفْسِ المقتولة بغير حقّ مطلقا، من غير فرق بين الوضيع و الشّريف، و القويّ و الضّعيف، و الصّغير و الكبير، وَ اَلْعَيْنَ تفقأ بِالْعَيْنِ إذا فقئت بغير حقّ وَ اَلْأَنْفَ يجذم بِالْأَنْفِ إذا جذم بغير حقّ، وَ اَلْأُذُنَ تقطع بِالْأُذُنِ المقطوعة بغير حقّ، وَ اَلسِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ المقلوعة بغير حقّ، وَ كذا اَلْجُرُوحَ كلّها إذا عرف حدّ فيها قِصاصٌ معيّن، و مجازاة بالمثل إذا أمكنت المساواة، و أمّا إذا لم يمكن المساواة و القصاص بالمثل غالبا؛ كالجائفة و نحوها، ففيها الدية أو الحكومة.

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (45)ثمّ حثّ سبحانه المجنيّ عليه بالعفو عن القصاص بقوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ على الجاني، و عفا عنه القصاص فَهُوَ كَفّارَةٌ و ماحية للذّنوب لَهُ .

في الحديث: «من اصيب بشيء من جسده فتركه للّه، كان كفّارة له» (3).

و روي أنّه «ثلاث من جاء بهنّ يوم القيامة مع الإيمان دخل الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شاء، و تزوّج من الحور العين حيث شاء: من عفا عن قاتله، و من قرأ دبر كلّ صلاة مكتوبة: قُلْ هُوَ اَللّهُ أَحَدٌ أحد عشر مرّات (4)، و [من]أدّى دينا خفيا» (5).

و قيل: إنّ ضمير (له) راجع إلى الجاني، و المراد: أنّه إذا عفا المجنيّ عليه عن الجاني فعفوه كفّارة لذنب الجاني، فلا يؤخذ به في الآخرة، كما أنّ القصاص كفّارة، و أمّا أجر العافي فعلى اللّه (6).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم القصاص و استحباب العفو، هدّد على مخالفة أحكامه بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ من حكم القصاص و غيره فَأُولئِكَ المخالفون هُمُ اَلظّالِمُونَ على

ص: 380


1- . الكافي 7:408/3، تفسير الصافي 2:39.
2- . الكافي 7:407/1، تفسير الصافي 2:39.
3- . تفسير روح البيان 2:398.
4- . كذا في النسخة و تفسير روح البيان. (5 و 6) . تفسير روح البيان 2:398.

أنفسهم بابتلائها بالعقاب الدّائم، أو الظّالمون على المجنيّ عليه.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 46

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه أنّ النّبيّين و الربّانيّين و الأحبار كانوا يحكمون بحكم التّوراة، ذكر أنّ عيسى عليه السّلام مع كونه صاحب شرع و كتاب، مصدّق للتّوراة أيضا، بقوله: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ و أتبعناهم في الإسلام و الانقياد لحكم اللّه بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ و جئنا به بعدهم رسولا، حال كونه مُصَدِّقاً لِما نزل بَيْنَ يَدَيْهِ و قبل بعثته مِنَ كتاب اَلتَّوْراةِ و شاهدا على أنّها من اللّه، و معترفا بصدقها وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ الذي يكون فِيهِ هُدىً للحقّ، و إرشادا إلى تنزيه اللّه من الصّاحبة و الولد و المثل، و إلى جميع المعارف الحقّة الإلهيّة، وَ فيه نُورٌ ينكشف به سبيل السّلوك إلى اللّه من الأحكام و الآداب و الأخلاق، وَ يكون مُصَدِّقاً و موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ في العلوم و المعارف، وَ يكون هُدىً و رشادا إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله-كما قيل- وَ مَوْعِظَةً و نصحا و زجرا لِلْمُتَّقِينَ لأنّهم المنتفعون به.

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 47

في بيان أن القرآن

حافظ الكتب

السماوية

ثمّ أنّه تعالى بعد إخباره بأنّ في الإنجيل هدى إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أمر النّصارى بالالتزام بجميع ما فيه بقوله: وَ لْيَحْكُمْ البتة أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ و المؤمنون به بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فِيهِ من الأحكام، و البشارة ببعثة رسول اسمه أحمد، و لازم ذلك هو الالتزام بنسخ ما أخبر النبيّ بنسخه.

وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (47)ثمّ هدّد على ترك الالتزام به بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ و لم يلتزم بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فيه، و لم يحمل النّاس عليه فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه و حدود العقل.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 48

ص: 381

ثمّ بعد بيان فضائل الكتابين، شرع سبحانه في ذكر فضائل القرآن بقوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمّد اَلْكِتابَ السّماوي؛ و هو القرآن العظيم، حال كونه ملابسا بِالْحَقِّ و مقرونا بشواهد الصّدق و مُصَدِّقاً و موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ و ما أنزل قبله مِنَ جنس اَلْكِتابَ السّماوي وَ مُهَيْمِناً و شاهدا عَلَيْهِ دالا على صدقه، أو حافظا له، لكون القرآن معجزة باقية دون سائر الكتب، و مصونا من التّغيير و التّحريف أبد الدّهر، و ليس على صدق سائر الكتب، دليل لعدم اشتمال واحد منها على الإعجاز، و انقطاع تواترها، و لو لا القرآن و صراحته بصدقها، لا طريق لأحد إلى تصديقها، فما دام بقاء القرآن تبقى الحجّة على صدق سائر الكتب.

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)ثمّ لمّا ذكر فضائل القرآن، أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعمل به، و إجراء ما فيه من الأحكام بقوله: فَاحْكُمْ يا محمّد بَيْنَهُمْ و عند مشاجراتهم بِما أَنْزَلَ اَللّهُ إليك فيه من الأحكام وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ و لا تراع مشتهيات أنفسهم، و لا تعدل؛ خوفا من ضررهم و طمعا في إيمانهم عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ و ما تبيّن لك من الحكم، إلى غيره.

ففيه سدّ باب احتمال تغيير حكم اللّه على النبيّ و سائر النّاس لمصلحة دفع الضّرر عن النّفس أو عن الإسلام، أو ملاحظة أنّ تغيير الحكم أدخل في الهداية إلى الحقّ. فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجوز التمسّك بهذه الآية في الطّعن بعصمة الأنبياء بعد دلالة الأدلّة القاطعة على عصمتهم.

و قيل: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المقصود به غيره (1)، من باب إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

روي أنّ جماعة من اليهود قالوا: تعالوا نذهب إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه، ثمّ دخلوا عليه و قالوا: يا محمّد، قد عرفت أنّا أحبار اليهود و أشرافهم، و أنّا إن اتّبعناك اتبعك كلّ اليهود، و أنّ بيننا و بين خصومنا حكومة؛ فنحاكمهم إليك، فاقض لنا و نحن نؤمن بك، فأنزل اللّه هذه الآية (2).

ثمّ لمّا ذكر اللّه كتب الفرق الثّلاث و أحكامهم، نبّه على أنّ كلّ دين كان حقّا قبل نسخه؛ بقوله: و لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيّتها (3)الفرق شِرْعَةً و دينا كان العمل به سببا لحياتكم؛ كشريعة الماء وَ مِنْهاجاً و طريقا واضحا إلى الحقّ.

ثمّ بيّن حكمة اختلاف الأديان في القرون [الماضية]بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ و اقتضت حكمته

ص: 382


1- . تفسير الرازي 12:12.
2- . تفسير الرازي 12:11، تفسير أبي السعود 3:47.
3- . في النسخة: أيها.

البالغة لَجَعَلَكُمْ من أوّل الدّنيا إلى فنائها أُمَّةً واحِدَةً و أهل ملّة فاردة وَ لكِنْ لم يشأ ذلك، بل جعل أديانكم مختلفة بعضها ناسخ لبعض لِيَبْلُوَكُمْ و يمتحنكم فِي ما آتاكُمْ من الدّين و الأحكام، هل تعملون بها منقادين للّه، خاضعين لأحكامه، مصدّقين بالحكمة في اختلافها، أو تقصّرون من العمل، و تتّبعون الشّبهات و الشّهوات؟

فإن آمنتم بأنّ دين الإسلام حقّ، و ما في القرآن-سواء كان موافقا للكتابين أو مخالفا لهما-أحكام اللّه و شرائعه فَاسْتَبِقُوا أيّتها (1)الفرق اَلْخَيْراتِ التي هداكم اللّه إليها من العقائد الحقّة، و الأعمال الصّالحة، و بادروا إليها انتهازا للفرصة كي لا تموتوا مع فساد العقائد، و سوء الأعمال، فإنّه يكون إِلَى اَللّهِ بعد الموت مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أيّها المؤمنون بالقرآن، و المنكرون له فَيُنَبِّئُكُمْ اللّه، و يخبركم إذن بِما كُنْتُمْ في الدّنيا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من كون القرآن كتاب اللّه و أحكامه، و إخباره تعالى بإثابة المؤمن به، و عقاب الجاحد له؛ فلا يبقى شكّ للمبطل و المحقّ.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 49

ثمّ أكّد اللّه وجوب الحكم بما أنزل اهتماما به بقوله: وَ أَنِ اُحْكُمْ -قيل: إنّ التّقدير: و أنزلنا إليك أن أحكم (2)، أو أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ و بأن احكم، فيكون عطفا على الحقّ، أو أمرناك أن احكم (3)- بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ إليك.

وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ (49)روي عن الباقر عليه السّلام: «إنّما كرّر الأمر بالحكم بينهم؛ لأنّهما حكمان أمر بهما جميعا، لأنّهم احتكموا إليه في زنا المحصن، ثمّ احتكموا إليه في قتل كان بينهم» (4).

أقول: عليه بعض مفسّري العامّة (5).

ثمّ لمّا كان الحاكم في معرض اتّباع هوى المتخاصمين، بالغ سبحانه في النّهي عنه بقوله: وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ و لا تراع ميولهم.

ثمّ نبّه اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بسوء (6)قصد اليهود، و إرادتهم تحريفه عن الحكم بالحقّ بقوله: وَ اِحْذَرْهُمْ من أَنْ يَفْتِنُوكَ و يصرفوك بخديعتهم عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ من الأحكام

ص: 383


1- . في النسخة: أيها.
2- . تفسير الرازي 12:13.
3- . تفسير الرازي 12:14، تفسير البيضاوي 1:269.
4- . مجمع البيان 3:315، تفسير الصافي 2:41.
5- . راجع: تفسير الرازي 12:14.
6- . كذا، و الظاهر: على سوء.

فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن حكمك بما نزل فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ تعالى بخذلانهم و تولّيهم عن حكمك أَنْ يُصِيبَهُمْ و يعاقبهم في الدّنيا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ الكثيرة، و قليل من معاصيهم التي لا تحصى؛ من تسليطك عليهم و تعذيبهم بالقتل و الإجلاء، و الذلّة و المسكنة، و ضرب الجزية، و يعاقبهم على بقيّتها في الآخرة.

ثمّ سلّى سبحانه قلب حبيبه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ و قليل منهم مؤمنون شاكرون، فلا يعظم عليك تولّيهم عن حكمهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 50

ثمّ أنكر سبحانه عليهم التّولّي عن الحقّ، و وبّخهم عليه بقوله: أَ يتولّون فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ و ملّتها التي هي محض الهوى و الجهالة يَبْغُونَ و يطلبون؛ مع أنّهم أهل الكتاب و العلم.

أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)ثمّ أنكر كون حكم أحسن و أصلح من حكمه بقوله: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ و أعدل حُكْماً ثمّ نبّه على أنّ هذا الخطاب و الاستفهام الإنكاري أو التعجبي (1)يكون لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بحكمة اللّه و عدله؛ لأنّهم العارفون بأن لا أحد أعدل من اللّه، و لا حكم أحسن من حكمه، لا اليهود الّذين هم أهل الشّكّ و الرّيب و العناد.

روي أنّه كان بين النّضير و قريظة دم قبل أن يبعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا بعث تحاكموا إليه فقالت قريظة: بنو النّضير إخواننا، أبونا واحد، و ديننا واحد، و كتابنا واحد، فإن قتل بنو النّضير منّا قتيلا أعطونا سبعين وسقا (2)من تمر، و إن قتلنا منهم واحدا أخذوا منّا مائة و أربعين وسقا من تمر، و اروش جناياتنا (3)على النّصف من اروش جناياتهم (4)، فاقض بيننا و بينهم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فإنّي أحكم أن دم القرظيّ وفاء من دم النّضيري، و دم النّضيري وفاء من دم القرظيّ، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم، و لا عقل (5)، و لا جراحة» . فغضب بنو النّضير و قالوا: لا نرضى بحكمك فإنّك عدوّ لنا، فأنزل اللّه هذه الآية أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ يعني: حكمهم الأوّل (6).

و قيل: إنّهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إيّاه، و إذا وجب على أقويائهم لم

ص: 384


1- . في النسخة: التعجيبي.
2- . الوسق: مكيال، و هو ستون صاعا، و الصاع خمسة أرطال و ثلث.
3- . في تفسير الرازي: جراحاتنا، و الاروش جمع أرش: دية الجراحة.
4- . في تفسير الرازي: جراحاتهم.
5- . العقل: الدّية.
6- . تفسير الرازي 12:15.

يأخذهم به، فمنعهم اللّه تعالى منه بهذه الآية (1).

عن الصادق عليه السّلام: «الحكم حكمان؛ حكم اللّه، و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهليّة» (2).

[و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الحكم حكمان؛ حكم اللّه، و حكم الجاهلية]و قد قال اللّه عز و جل: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، و أشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهليّة» (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 51

ثمّ لمّا شرح اللّه سبحانه خيانة اليهود و النّصارى في كتاب اللّه، و عداوتهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و استنكافهم عن قبول الحقّ، و تولّيهم عن حكم اللّه و رسوله، نهى المؤمنين عن موالاتهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا و لا تختاروا لأنفسكم اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ و أحبّاء، و لا تعاشروهم معاشرة الأصدقاء، و لا تتوقّعوا منهم النّصرة بعد وضوح كونهم لكم و لدينكم أعداء، كما لا يكون اليهود أولياء النّصارى و لا بالعكس؛ مع اتّفاقهم على الكفر، بل كلّ من الفريقين بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ آخر ممّن وافقهم على الدّين، دون من خالفهم، لوضوح أنّ ائتلاف القلوب لا يمكن مع الاختلاف في الدّين، وَ على هذا مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ في الباطن مِنْهُمْ فلا بدّ أن يحكم عليه بحكمهم، و يحشر في القيامة في زمرتهم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (51)روي أن عبادة بن الصّامت قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لي موالي من اليهود كثيرا عددهم، و إنّي أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولايتهم، و اوالي اللّه و رسوله، فقال عبد اللّه بن ابيّ: إنّي رجل أخاف الدّوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ؛ و هم يهود بني قينقاع (4).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة تولّي الكفّار بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يرشد إلى الحقّ و عمل الخير بالتّوفيق و التّأكيد اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم (5)بترك موالاة المؤمنين، و اختيار موالاة الكافرين، بل يخذلهم و يخلّيهم و شأنهم فيقعون في الكفر و الضّلال بهوى أنفسهم لا محالة.

ص: 385


1- . تفسير الرازي 12:15.
2- . الكافي 7:407/1، تفسير الصافي 2:41.
3- . الكافي 7:407/2، تفسير الصافي 2:41.
4- . تفسير أبي السعود 3:49، تفسير روح البيان 2:402.
5- . كذا، و الظاهر: الظالمين أنفسهم؛ لأنّه متعدّ بلا حرف جر.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 52

ثمّ وبّخ سبحانه المنافقين بقوله: فَتَرَى يا محمّد، المنافقين اَلَّذِينَ استقرّ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الكفر و النّفاق يُسارِعُونَ فِيهِمْ و يبادرون إلى موالاتهم و مرافقتهم، و يَقُولُونَ للمؤمنين اعتذارا من صنيعهم القبيح: إنّا نواليهم لأنّا نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا و تدور علينا دائِرَةٌ من دوائر الدّهر، و دولة من دوله؛ كانقلاب الأمر و كون الغلبة للمشركين و اليهود.

فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)قيل: إنّ هذا كان في قلوبهم، و أمّا في الظاهر كانوا يقولون: إنّا نخاف أن يصيبنا مكروه من مكاره الزّمان كالجدب و القحط، فلا يعطونا الميرة و القرض (1).

فردّ اللّه عليهم بقوله: فَعَسَى اَللّهُ و يرجى من فضله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ هو فتح مكة، أو فتح قلاع خيبر لرسوله صلّى اللّه عليه و آله أَوْ أَمْرٍ آخر فيه استئصال اليهود و غيرهم من الكفّار، و إعزاز المؤمنين، كائن مِنْ عِنْدِهِ و بقدرته على خلاف العادة فَيُصْبِحُوا أولئك المنافقون المعتذرون عَلى ما أَسَرُّوا و أخفوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر و الشّكّ في أمر الرّسول نادِمِينَ .

عن الصادق عليه السّلام، في تأويل الآية: «أذن في هلاك بني اميّة بعد إحراق زيد بسبعة أيّام» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 53

ثمّ بيّن اللّه تعالى سوء عاقبة المنافقين المتعذّرين بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لليهود عند ظهور ندامة المنافقين تعجّبا أو تعريفا أَ هؤُلاءِ المنافقون هم اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا و حلفوا بِاللّهِ لكم، حال كونهم يجهدون جَهْدَ أَيْمانِهِمْ و يبالغون في تغليظها إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ بالنّصرة و المعونة، فلمّا ظهرت شوكة الإسلام و دولته بحيث لا يرجى لغيره دولة، و ذلّت رقابكم للمؤمنين حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و بطلت مساعيهم في حفظ موالاة أعداء اللّه فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ مغبونين بتحمّل المشاقّ و عدم الثّمرة، و استحقاق القتل و الهوان في الدّنيا و العذاب في الآخرة.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)

ص: 386


1- . تفسير أبي السعود 3:49، تفسير روح البيان 2:403.
2- . تفسير العياشي 2:54/1293، تفسير الصافي 2:42.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 54

ثمّ لمّا كان تولّي الكفّار أمارة الارتداد و في حكمه، هدّد اللّه تعالى المرتدّين بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ و يرجع مِنْكُمْ بتولّي الكفار عَنْ دِينِهِ الحقّ؛ و هو الإسلام، إلى الكفر، فلن يضرّ اللّه شيئا، فإنّ دين اللّه لا يخلو من أنصار يحمونه فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ آخرين يُحِبُّهُمْ اللّه و يكرمهم بألطافه وَ يُحِبُّونَهُ و يطيعونه حقّ طاعته أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ خاضعين لهم رحماء بينهم أَعِزَّةٍ و أشدّاء عَلَى اَلْكافِرِينَ و من شدّتهم أنّهم يُجاهِدُونَ و يقاتلون الكفّار فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لطلب مرضاته، و إعلاء كلمته، و تقوية دينه، وَ لا يَخافُونَ لغاية تصلّبهم في الدّين، و حرصهم على نصرة الحقّ لَوْمَةَ أيّ لائِمٍ و طعن أيّ طاعن في ما يأتونه من الجهاد، و طاعة أمر اللّه ذلِكَ الأوصاف الحميدة و الأخلاق الكريمة فَضْلُ اَللّهِ و لطفه و إنعامه تعالى يُؤْتِيهِ و يعطيه مَنْ يَشاءُ إيتاءه و إعطاءه إيّاه من النّفوس الزكيّة و الذّوات المستعدّة، لا أنّهم مستقلّون بكسبه و تحصيله من غير حاجة إلى توفيقه و تأييده وَ اَللّهُ واسِعٌ فضلا و إنعاما على العباد عَلِيمٌ بقابليّتهم و استعداداتهم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)عن السّدّي: أنّها نزلت في الأنصار لأنّهم [هم]الذين نصروا الرّسول، و أعانوه على إظهار الدّين (1). و عن مجاهد: أنّها نزلت في أهل اليمن (2).

و روي من طرق العامّة: أنّها لما نزلت أشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي موسى الأشعري و قال: «هم قوم هذا» (3).

و رووا أيضا: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا سئل عن هذه الآية، ضرب بيده على عاتق سلمان و قال: «هذا و ذووه» ثمّ قال: «لو كان الدّين معلّقا بالثّريّا لناله رجال من أبناء فارس» (4).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «هم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، و أصحابه حين قاتل من قاتله من النّاكثين و القاسطين و المارقين» (1).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، قال يوم البصرة: «و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم» ، و تلا هذه الآية (2).

ص: 387


1- . مجمع البيان 3:321، تفسير الصافي 2:43.
2- . مجمع البيان 3:323، تفسير الصافي 2:43.

عن القمّي: «أنّها نزلت في مهديّ هذه الامّة و أصحابه» (1).

في نقل كلام الفخر

الرازي و رده

قال الفخر الرازي: و قال قوم: إنّها نزلت في عليّ عليه السّلام، و يدلّ عليه وجهان: الأوّل: أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا دفع الرّاية إلى عليّ يوم خيبر قال: «لأدفعنّ الرّاية غدا إلى رجل يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله» ، و هذا هو الصّفة المذكورة في الآية.

الوجه الثاني: أنّه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إلى آخره، و هذه الآية في حقّ عليّ، فكان الأولى نزول ما قبلها أيضا في حقّه.

إلى أن قال: المقام الأوّل: أنّ هذه الآية من أدلّ الدّلائل على فساد مذهب الإمامية من الرّوافض، و تقرير مذهبهم: أنّ الّذين أقرّوا بخلافة أبي بكر و إمامته كلّهم كفروا و صاروا مرتدّين؛ لأنّهم أنكروا النّصّ الجليّ على إمامة علي عليه السّلام.

فنقول: لو كان الأمر كذلك لجاء اللّه بقوم يحاربهم و يقهرهم و يردّهم إلى الدّين الحقّ بدليل قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ إلى آخر الآية، و كلمة (من) شرطية للعموم، فهي تدلّ على أنّ كلّ من صار مرتدّا عن دين الإسلام، فإنّ اللّه يأتي بقوم يقهرهم و يردّهم و يبطل شوكتهم، فلو كان الّذين نصّبوا أبا بكر للخلافة كذلك، لوجب بحكم الآية أن يأتي اللّه بقوم يقهرهم و يبطل مذهبهم، و لمّا لم يكن [الأمر]كذلك، بل الأمر بالضدّ، فإنّ الرّوافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مذاهبهم (2)الباطلة [أبدا]منذ كانوا، علمنا فساد مقالتهم و مذهبهم، و هذا كلام ظاهر لمن أنصف (3).

أقول: ظاهر الآية أنّ الخلق إذا كفروا و ارتدّوا، فلن يضرّوا اللّه شيئا، و أنّ دينه لا يخلوا من أنصار- كما ذكرنا سابقا-و ليس في الآية وعد بإتيان قوم يجاهدون المرتدّين حتّى يقهروهم و يردّوهم عن دينهم الباطل، كما ادّعاه النّاصب، و لو كان معنى الآية كما ذكره، لكان كذبا-نعوذ باللّه-لوضوح أنّه حدث بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مذاهب فاسدة، و ارتدّ القائلون بها قطعا؛ كمذهب التجسّم و النصب و غيرهما، و لم يقاتلوا و لم يقهروا، و لم يردّوا عن مذهبهم، بل لازم ذلك أن لا يبقى مرتدّ على وجه الأرض إلى يوم القيامة لعموم الآية، و هو خلاف الحسّ و الضّرورة.

و قد رووا أنّ جبلة بن الأيهم أسلم على يد عمر، و كان يطوف يوما جارّا رداءه، فوطأ رجل طرف ردائه، فغضب فلطمه، فتظلّم الرّجل إلى عمر، فقضى له بالقصاص عليه إلاّ أن يعفو عنه، فقال جبلة:

ص: 388


1- . تفسير القمي 1:170، تفسير الصافي 2:43.
2- . في المصدر: مقالاتهم.
3- . تفسير الرازي 12:20.

أنا أشتريها بألف، فأبى الرّجل، فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرّجل إلاّ القصاص، فاستنظر عمر فأنظره، فهرب إلى الرّوم و ارتدّ (1). و لم يقتله أحد.

و القول بأنّ حكم الواحد ليس حكم الجماعة شطط من الكلام، نعم لا يبعد دلالتها على أنّه يكون في كلّ زمان جماعة متّصفة بالصّفات الكريمة المذكورة في الآية، و قد كان بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-و حين ارتداد المسلمين بإنكارهم النصّ الجليّ-جماعة متّصفة بالصّفات كأمير المؤمنين، و سلمان، و أبي ذرّ، و المقداد، و عمّار، و لكن لم يكن صلاح الإسلام في جهادهم، و إلاّ كانوا يجاهدون و لا يخافون في اللّه لومة لائم، كما لم يكن صلاح الدّين في إقدام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في جهاد المنافقين مع كثرتهم في زمانه، بل في جهاد المشركين قبل الهجرة.

ثمّ قال النّاصب: هذه الآية مختصّة بمحاربة المرتدّين، و أبو بكر هو الّذي تولّى محاربة المرتدّين (2).

أقول: لم يجاهد أبو بكر أحدا من المرتدّين، و إنّما حاربهم جيش المسلمين بأمر أبي بكر، و لم يكن هو في الجيش، بل لم يكن من حارب جيش أبي بكر من المرتدّين، بل كانوا منكرين لخلافته، و إنّما منعوه من الزّكاة بدعوى عدم أهليّته لأخذها، فاتّهمهم بالارتداد و إنكار وجوبها، حيث نقل أنّهم قالوا: أمّا الصّلاة فنصلّي، و أمّا الزّكاة فلا تغصب أموالنا.

روي عن أنس بن مالك أنّه قال: كرهت الصّحابة قتال مانعي الزّكاة، و قالوا: هم أهل القبلة، فتقلّد أبو بكر سيفه و خرج وحده، فلم يجدوا بدّا من الخروج على أثره (3).

نعم بعث خالد بن الوليد في جيش كثير إلى مسيلمة حتّى أهلكه اللّه على يد وحشي قاتل حمزة سيّد الشّهداء، و كان يقول: قتلت خير النّاس في الجاهليّة، و شرّهم في الإسلام (4).

فكان الأولى أن يقول النّاصب: إنّ الآية نزلت في خالد بن الوليد، و وحشي-و هو ممّا يضحك به الثّكلى، لوضوح أنّ خالدا كان ممّن يبغضه اللّه (3)-لأنّ صدق المجاهد عليهما حقيقة، و على أبي بكر مجاز بعلاقة السّببيّة، كما أنّ صدقه على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و أصحابه-عند محاربتهم الفرق الثّلاث المنكرين للنصّ الجليّ على وجوب موالاة عليّ عليه السّلام و أشياعه-حقيقة، و على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الآمر له بجهادهم مجاز.

ثمّ قال النّاصب: و لا يمكن أن يكون المراد هو الرّسول؛ لأنّه لم يتّفق له محاربة المرتدّين (4).

ص: 389


1- . تفسير الرازي 12:19.
2- . تفسير الرازي 12:20. (3 و 4) . تفسير روح البيان 2:405.
3- . زاد في النسخة: و يبغضه.
4- . تفسير الرازي 12:20.

أقول فيه: إنّه صلّى اللّه عليه و آله قد جاهد الأسود العنسي المرتدّ بالمعنى الذي ذكره و [كما]اتّفق لأبي بكر، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله على ما نقله هو في تفسيره، و غيره من العامّة، قالوا: إنّ بني مدلج ارتدّوا في زمانه، و كان رئيسهم ذو الحمار، و هو الأسود العنسي، و كان كاهنا ادّعى النّبوّة في اليمن، و استولى على بلادها، و أخرج عمّال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكتب صلّى اللّه عليه و آله إلى معاذ بن جبل و سادات اليمن، فأهلكه اللّه على يد فيروز الدّيلمي؛ دخل بيته فقتله، و أخبر رسول اللّه بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون، و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الغد، و أتى خبره في آخر شهر ربيع الأول (1).

ثمّ قال الناصب: و لأنّه تعالى قال: فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ، و هذا للاستقبال لا للحال، فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب، فإن قيل: هذا لازم عليكم لأنّ أبا بكر كان موجودا في ذلك الوقت، قلنا: الجواب من وجهين؛ الأوّل: أنّ القوم الّذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردّة ما كانوا موجودين في الحال (2).

أقول فيه: إنّه لا شبهة أنّ نزول هذه السّورة و الآية كان في أواخر عمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كانت مدّة خلافة أبي بكر سنتين و ستّة أشهر تقريبا، فلا بدّ من أن يكون عامّة جيش أبي بكر موجودين في زمان النّزول. و أمّا جهاد أمير المؤمنين عليه السّلام مع المرتدّين فإنّه كان بعد أزيد من ثلاثين سنة من زمان الخطاب، فيمكن أن يقال أنّ أغلب جيشه عليه السّلام لم يكونوا موجودين في زمان نزول الآية، فظهر ممّا ذكر أنّه لا يمكن أن يقال بصدق الآية على جيش أبي بكر و نزولها في شأنه.

ثمّ قال: و الثاني: أنّ معنى الآية: فسوف يأتي اللّه بقوم قادرين متمكّنين من هذا الحراب، و أبو بكر و إن كان موجودا في ذلك الوقت إلاّ أنّه ما كان مستقلا في ذلك الوقت بالحراب و الأمر و النّهي، فزال السّؤال (3).

أقول: كان الأولى أن يقول: إن المراد من الآية: فسوف يبعث [اللّه]قوما يحبّهم و يحبّونه، لا سوف يوجد قوما، مع أن الآية-على تقدير دلالتها على قيام قوم تكون لهم تلك الصّفات بجهاد خصوص المرتدّين، و على تقدير تسليم كون الأمر بالجهاد، و لو لم يلتبس به مجاهد، حقيقة-لا تدلّ على كون كلّ من جاهدهم واجدا لتلك الصّفات، بحيث لا يكون معهم غيرهم، بل الظّاهر إرادة أن جماعة ممّن لهم هذه الصّفات يجاهدونهم، و إن كان معهم غيرهم ممّن كان متّصفا بضدّ تلك الصّفات.

فلا تدلّ الآية على اتّصاف كلّ فرد من أفراد جيش أبي بكر حتّى خالد بن الوليد الذي نكح زوجة

ص: 390


1- . تفسير الرازي 12:18.
2- . تفسير الرازي 12:20.
3- . تفسير الرازي 12:20.

مالك بن نويرة بعد قتله، أو الأمر بالجهاد لتلك الصّفات، فلا بدّ من تعيين المتّصفين بالصّفات من دليل آخر، و إنّما قلنا أنّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه متّصف بتلك الصّفات لدلالة (رواية الرّاية) المتواترة بين الفريقين و غيرها عليه، و إن قال هذا المتعصّب إنّها من الآحاد (1).

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لم يثبت أنّ أبا بكر بعث جيشا نحو المرتدّين؛ لأنّ المرتدّ هو الذي كفر بعد إيمانه. و لم يثبت أنّ مسيلمة و أصحابه كانوا مسلمين ثمّ كفروا، و أمّا غيرهم من سائر الطّوائف الذين (2)نسبوهم إلى الارتداد، فالظّاهر أنّهم كانوا ممتنعين من دفع زكاتهم إلى أبي بكر لإنكارهم خلافته، لا لإنكارهم وجوب الزّكاة.

و يؤيّده ما رواه العامّة من أنّ أبا بكر قال: و اللّه، لو منعوني عتودا (3)ممّا أدّوا إلى رسول اللّه لقاتلتهم عليه (4)، و لم يقل: لو جحدوا الزّكاة لقاتلتهم. و أمّا الّذين قاتلهم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه فكانوا من أظهر مصاديق المرتدّين؛ لأنّ وجوب حبّ أمير المؤمنين (5)و كونه مع الحقّ و الحقّ معه (6)، كان متواترا ضروريا بين الامّة، و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «حربك حربي، و سلمك سلمي» (7)، و غيره من النّصوص الجليّة.

و لو سلّم ذلك نقول: لم يجاهد أبو بكر أحدا منهم؛ لأنّ الظّاهر من قوله: يُجاهِدُونَ مباشرة الجهاد؛ كما باشر أمير المؤمنين عليه السّلام جهاد الفرق الثّلاث، لا القعود في البيت و الرّاحة، و الأمر به؛ كما فعله أبو بكر.

و على تقدير التّسليم لا دلالة في الآية على اتّصاف جميع المجاهدين بتلك الصّفات حتّى تكون الآية مدحا لجميع أفراد الجيش، بل تدل على أن جماعة ممّن لهم تلك الصفات يجاهدونهم، و إن كان معهم أو كان رئيسهم غير متّصف بها، بل متّصفا بضدّها. فإثبات تلك الصّفات لشخص معيّن محتاج إلى دليل خارج.

ثمّ قال النّاصب المتعصّب: فثبت أنّه لا يمكن أن يكون المراد هو الرّسول، و لا يمكن أن يكون المراد هو عليّ أيضا؛ لأنّه لم يتّفق له قتال مع أهل الردّة، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليه؟ (8).

ص: 391


1- . تفسير الرازي 12:23.
2- . في النسخة: التي.
3- . العتود: ما قوي و أتى عليه حول من أولاد المعزى.
4- . تفسير روح البيان 2:405.
5- . راجع: فضائل الصحابة/أحمد بن حنبل 2:669/1141، مستدرك الحاكم 3:172، الدر المنثور 6:7، الصواعق المحرقة:170، الكشاف 4:219.
6- . راجع: تاريخ بغداد 14:321، ترجمة علي عليه السّلام من تاريخ دمشق 3:153/1172.
7- . شرح نهج البلاغة/لابن أبي الحديد 2:297.
8- . تفسير الرازي 12:21.

أقول: قد ظهر و ثبت ممّا ذكرنا أنّ عليّا عليه السّلام و جماعة من أصحابه كانوا من أظهر المتّصفين بالصّفات المذكورة في الآية، و أنّ الفرق الثّلاث الّذين قاتلهم صلوات اللّه عليه من أظهر مصاديق المرتدّين، و لم يثبت للآية مورد انطباق [على]غيرهم.

ثمّ قال النّاصب: فإن قالوا: بل كان قتاله مع أهل الرّدّة؛ لأنّ كلّ من نازعه في الإمامة كان مرتدّا.

قلنا: هذا باطل من وجهين؛ الأوّل: أنّ اسم المرتدّ إنّما يتناول من كان تاركا للشّرائع الإسلاميّة، و القوم الّذين نازعوا عليّا ما كانوا كذلك في الظّاهر، و ما كان أحد يقول إنّه يحاربهم لأنّهم خرجوا من دين الإسلام، و عليّ لم يسمّهم البتّة بالمرتدّين، فهذا الذي يقوله الرّوافض (لعنهم اللّه) بهت على جميع المسلمين، و على عليّ أيضا (1).

أقول: إن كان المراد من تارك الشّرائع: جميعها، فلم يكن تارك الزّكاة وحدها مرتدّا، مع أنّه و أصحابه سمّوا مانعي الزّكاة مرتدّين. و إن كان المراد: تارك بعضها، فتارك طاعة الإمام، و تارك حبّ عليّ، و مستحلّ قتاله يكون مرتدّا.

و أمّا قوله: إنّ عليّا لم يسمّهم بالمرتدّين (2)، ففيه: أنّ النّاصب مع طول باعه لم يفهم ترادف لفظ المرتدّ و المارق من الدّين؛ لأنّ اللّه طبع على قلبه، أو لعدم اطّلاعه على أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و عليّا و عامّة المسلمين سمّوا الخوارج مارقين؛ لأنّهم مرقوا، أي خرجوا من دين اللّه، و استحلّوا قتال خليفة رسول اللّه. فإنكار النّاصب (لعنه اللّه) ارتدادهم-بل ارتداد الفرق الثّلاث الّذين دانوا ببغض عليّ عليه السّلام- مكابرة و إنكار للضّروري بين المسلمين.

ثمّ قال النّاصب: [الثاني: أنّه]لو كان كلّ من نازعه في الإمامة كان مرتدّا، لزم في أبي بكر و في قومه أن يكونوا مرتدّين، و لو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي اللّه بقوم يقهرونهم و يردّونهم إلى الدّين الصّحيح، و لمّا لم يوجد ذلك البتّة، علمنا أنّ منازعة عليّ في الإمامة لا تكون ردّة، و إذا لم تكن ردّة، لم يمكن حمل الآية على عليّ؛ لأنّها نازلة في من يحارب المرتدّين (1).

أقول: نحن نلتزم باللازم الذي ذكره، بل نقول: إنّه و أخوه لم يؤمنا باللّه طرفة عين، كما أن عليّا عليه السّلام لم يكفر باللّه طرفة عين، و أمّا قوله: لو كان كذلك. . . الى آخره، ففيه: أنّ الآية لا تدلّ على وجوب إتيان قوم يردّونهم إلى الدّين، و إلاّ لما وجد مرتدّ في العالم، و هو خلاف الوجدان-كما ذكرنا سابقا-مع أنّه نسب ابن أبي الحديد إلى المعتزلة أنّهم يقولون: إنّ عليّا عليه السّلام رضي بخلافة الثّلاثة، و لم ينازعهم

ص: 392


1- . تفسير الرازي 12:21.

فيها، و لو نازعوا عليّا فيها لكان دمهم هدرا (1)، و قد تكلّف في توجيه الخطبة الشّقشقيّة بما لا يرضى به صاحبها. و إنّما أطلنا في المقام المقال لتظهر شدّة عصبيّة إمام الضّلال، عليه أشدّ العذاب و النّكال، و ليعلم أنّ الهداية إلى الحقّ لا تحصل بكثرة الفضل و زيادة الاطّلاع على كلمات الرّجال، و إنّما هي موهبة من اللّه المتعال.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 55

ثمّ أنّه تعالى بعد المبالغة في النّهي عن موالاة الكفّار، و تنزيل أوليائهم منزلتهم، و تسميتهم باسم المرتدّين، و إظهار غنائه عنهم في نصرة دينه، حثّ المؤمنين إلى موالاة ذاته المقدّسة، و موالاة أوليائه بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ و الحافظ لصلاحكم، و مدبّر اموركم، و مربّي نفوسكم، و سائق جميع الخيرات إليكم اَللّهُ جلّ جلاله وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا و أخلصوا فيه، فاختصّوهم أيضا أنتم بالموالاة، و لا تخطئوهم إلى غيرهم.

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55)عن الصادق عليه السّلام: «يعني: أولى بكم، أي أحقّ بكم و باموركم من أنفسكم» (2).

ثمّ عرّف المؤمنين المخلصين بقوله: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ للّه من غير رياء و كسل وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ و الصّدقة إلى الفقراء، بلا منّ و لا أذى وَ هُمْ في حال الإيتاء راكِعُونَ في الصّلاة. و قيل: خاضعون للّه متواضعون له (3).

في تصدّق أمير

المؤمنين بخاتمه

على الفقير

عن الصادق عليه السّلام: «يعني عليّا و أولاده الأئمّة إلى يوم القيامة، ثمّ وصفهم اللّه فقال: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ، و كان أمير المؤمنين في صلاة الظّهر، و قد صلّى ركعتين، و هو راكع، و عليه حلّة قيمتها ألف دينار، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطاها إيّاه، و كان النّجاشي أهداها له، فجاء سائل فقال: السّلام عليك يا وليّ اللّه، و أولى بالمؤمنين من أنفسهم، تصدّق على مسكين، فطرح الحلّة إليه [و أومأ بيده إليه]أن احملها، فأنزل اللّه عزّ و جلّ فيه هذه الآية، و صيّر نعمة أولاده بنعمته. . .» إلى أن قال: «و السّائل الذي سأل أمير المؤمنين عليه السّلام من الملائكة» (4).

ص: 393


1- . لم نجده في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة.
2- . الكافي 1:228/3 و فيه: و أنفسكم، تفسير الصافي 2:44.
3- . تفسير أبي السعود 3:52، تفسير روح البيان 2:407.
4- . الكافي 1:228/3، تفسير الصافي 2:44.

و عنه عليه السّلام أنّه سئل: الأوصياء طاعتهم مفروضة؟ قال: «نعم، هم الّذين قال اللّه: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (1)و هم الّذين قال اللّه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا الآية (2).

و عن (الخصال) ، في احتجاج عليّ عليه السّلام على أبي بكر، قال: «فأنشدك باللّه، ألي الولاية من اللّه مع ولاية رسوله في آية زكاة الخاتم أم لك؟» قال: بل لك (3).

و فيه في تعداد مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام، قال عليه السّلام: «و أمّا الخامسة و السّتّون: فإنّي كنت اصلّي في المسجد فجاء سائل و أنا راكع، فناولته خاتمي من إصبعي، فأنزل اللّه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ الآية» (4).

و فيه عنه صلوات اللّه عليه-في حديث-قال: «و ليس بين الامّة خلاف أنّه لم يؤت الزّكاة أحد و هو راكع غير رجل» (5).

في نقل كلمات

الفخر الرازي و ردّه

قال الفخر الرازي في تفسيره: روى عكرمة أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر. و روى عطاء عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب، [و]روي أن عبد اللّه بن سلام قال: لمّا نزلت هذه الآية قلت: يا رسول اللّه، أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه على محتاج و هو راكع، فنحن نتولاه؟

و روي عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه، أنّه قال: صليت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما صلاة الظّهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السّائل يده إلى السّماء و قال: اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد الرّسول فما أعطائي أحد شيئا؛ و عليّ كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى، و كان فيها خاتم، فأقبل السّائل حتّى أخذ الخاتم بمرأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري و أحلل عقدة من لساني-إلى قوله: -و اشركه في أمري، فأنزلت قرآنا ناطقا: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً (6)اللّهمّ و أنا محمّد نبيّك و صفيّك، فاشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي اشدد به ظهري» .

قال أبو ذرّ: فو اللّه، ما أتمّ رسول اللّه هذه الكلمة حتّى نزل جبرئيل فقال: يا محمّد، اقرأ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إلى آخر الآية (7).

ثمّ قال الفخر: قالت الشيعة: إنّ هذه الآية دالّة على أنّ الإمام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو عليّ بن أبي

ص: 394


1- . النساء:4/59.
2- . الكافي 1:146/16، تفسير الصافي 2:45.
3- . الخصال:549/30، تفسير الصافي 2:45.
4- . الخصال:580/1، تفسير الصافي 2:45.
5- . الاحتجاج:255، تفسير الصافي 2:45.
6- . القصص:28/35. (7 و 7) . تفسير الرازي 12:26.

طالب عليه السّلام (1).

بيان المقام الأوّل: أنّ الوليّ في اللّغة جاء بمعنى النّاصر، و المحبّ، كما في قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (2)، و جاء بمعنى المتصرّف، قال عليه السّلام: «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها. . .» ، فنقول: ها هنا وجهان:

الأوّل: أنّ لفظ الوليّ جاء بمعنيين (3)، و لم يعيّن اللّه مراده، و لا منافاة بين المعنيين، فوجب حمله عليهما، فوجب دلالة الآية على أنّ المؤمنين المذكورين في الآية متصرّفون في الامّة.

الثاني: أن نقول: الوليّ في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى النّاصر، فوجب أن يكون بمعنى المتصرّف، و إنّما قلنا أنّه لا يجوز أن يكون بمعنى النّاصر؛ لأنّ الولاية المذكورة في [هذه]الآية غير عامّة في كلّ المؤمنين، بدليل أنّه تعالى ذكر بكلمة (إنّما) ، و كلمة (إنّما) للحصر كقوله تعالى: إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ (4)، و الولاية بمعنى النّصرة عامّة لقوله تعالى: اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، و هذا يوجب القطع بأنّ الولاية المذكورة في هذه [الآية]ليست بمعنى النّصرة، و إذا لم تكن بمعنى النّصرة كانت بمعنى التّصرّف؛ لأنّه ليس للوليّ معنى غير هذين المعنيين، فصار تفسير (5)الآية: إنّما المتصرّف فيكم أيّها المؤمنون هو اللّه و رسوله و المؤمنون الموصوفون بالصّفة الفلانية، و هذا يقتضي أنّ المؤمنين الموصوفين بالصّفات المذكورة في الآية متصرّفون في جميع الامّة، و لا معنى للإمام إلاّ الإنسان الذي يكون متصرّفا في كلّ الامّة، فثبت بما ذكرنا دلالة الآية على أنّ الشّخص المذكور فيها يجب أن يكون إمام الامّة.

أمّا بيان المقام الثّاني: و هو أنّه لمّا ثبت ما ذكرنا، وجب كون ذلك الإنسان هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و بيانه من وجوه:

الاول: أنّ كلّ من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال: [إن]ذلك الشّخص [هو]عليّ بن أبي طالب، و قد ثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على إمامة شخص، فوجب أن يكون ذلك الشّخص هو عليّ، ضرورة أنّه لا قائل بالفرق.

الثاني: أنّه تظافرت الرّوايات على أنّ هذه الآية نزلت في [حق]عليّ، و لا يمكن المصير إلى قول من يقول أنّها نزلت في أبي بكر؛ لأنّها لو نزلت في حقّه لدلّت على إمامته، و أجمعت الامّة على أنّ هذه الآية لا تدل على إمامته، فبطل هذا القول.

ص: 395


1- . تفسير الرازي 12:26.
2- . التوبة:9/71.
3- . في المصدر: جاء بهذين المعنيين.
4- . النساء:4/171.
5- . في المصدر: تقدير.

و الثالث: أنّ قوله: وَ هُمْ راكِعُونَ لا يجوز جعله عطفا على ما تقدّم؛ لأنّ الصّلاة قد تقدّمت، و الصّلاة مشتملة على الرّكوع، و كانت إعادة ذلك الرّكوع تكرارا، فوجب جعله حالا، أي يؤتون الزّكاة حال كونهم راكعين، و أجمعوا على أنّ إيتاء الزّكاة حال الرّكوع لم يكن إلاّ في حقّ عليّ، فكانت الآية مخصوصة به، و دالّة على إمامته من الوجه الذي قرّرناه (1).

ثمّ تجشّم المتعصّب العنود في الجواب-تعصّبا على مذهبه الباطل، و بغضا لعليّ عليه السّلام و شيعته- بأجوبة أوهن من نسج العنكبوت، و لمّا كان مبالغا في إطناب العبارة في الكتاب بحيث يكون نقلها مملاّ، لخّصتها و نقلت حاصل مضمونها غالبا.

قال: و الجواب: أمّا حمل لفظ الوليّ على النّاصر و المتصرّف فغير جائز، لما ثبت في الاصول من عدم جواز استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنى واحد (2).

أقول فيه: أنّه على تقدير التّسليم، ليس من المشترك اللّفظي، بل الأظهر أنّه موضوع للجامع، و هو المتصدّي لما هو صلاح المولّى عليه، من دفع خصومة، و التّصرّف في نفسه و ماله على الوجه الأحسن، و لمّا كان لازم ذلك المحبّة، قد يراد منه المحبّ، على سبيل الكناية، فقوله: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا (3)معناه: اللّه هو المتولّي لجميع امورهم على وفق الصّلاح من نصرتهم على الأعداء، و حفظهم من الهلاك الدّنيوي و الاخروي، و تربيتهم و تكميلهم و تنظيم امورهم، ثمّ رتّب على ولايته لهم، تصدّيه لأهمّ مصالحهم من إخراجهم من الظّلمات إلى النّور، بقوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ (4)الآية، كما رتّب على قوله: أَنْتَ وَلِيُّنا (5)قوله: فَانْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (6)لوضوح أنّ المراد من الولي ليس خصوص النّاصر أو المحبّ أو المتصرّف، لركاكة قولك: أنت ناصرنا فانصرنا، و أنت محبّنا، و أنت المتصرّف في أموالنا فانصرنا، بل المراد: أنت المتولّي لما فيه خيرنا و صلاحنا، و من المصالح المهمّة نصرتنا على الكفّار، فانصرنا عليهم.

ثمّ استدلّ على كون المراد من الوليّ: المحبّ و النّاصر بوجوه: الأوّل: أنّ اللاّئق-بما قبل الآية من قوله: لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ (7)، و بما بعد الآية من قوله: لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً (8)إلى آخره-أن يكون الوليّ بمعنى المحبّ و النّاصر، لكون لفظ الأولياء فيما قبل و فيما بعد بمعنى الأحبّاء و الأنصار، لا أئمّة متصرّفين في

ص: 396


1- . تفسير الرازي 12:26.
2- . تفسير الرازي 12:27.
3- . البقرة:2/257.
4- . البقرة:2/257.
5- . الأعراف:7/155.
6- . البقرة:2/286.
7- . المائدة:5/51.
8- . المائدة:5/57.

أرواحكم و أموالكم، لضرورة بطلانه، فإذا كان معنى لفظ الأولياء في الآيتين ذلك، كان لفظ الوليّ الواقع بينهما ذلك، لا الإمام، و إلاّ لزم وقوع الكلام الأجنبي فيما بين كلامين سيقا لغرض واحد (1).

أقول فيه: أنّه قد ذكرنا أنّ المحبّة و النّصرة من لوازم الولاية المطلقة المناسبة للّه و لرسوله، المقتضية لتخصيص المحبّة و الاعتماد بهما، و صرف التّوجّه من غيرهما حتّى من المؤمنين إليهما، إلاّ المؤمنين الّذين هم بمنزلة الرّسول و القائمين مقامه.

ثمّ قال: إنّ ظاهر الآية اتّصاف المؤمنين حال نزول الآية بالولاية، و أمير المؤمنين لم يكن حال نزولها إماما متصرّفا، فلا بدّ من حملها على المحبّة و النّصرة الحاصلتين في الوقت (2).

أقول فيه: إنّا نمنع عدم اتّصاف أمير المؤمنين عليه السّلام في الوقت بالولاية بمعنى أولويّة التّصرّف، بل نقول: إنّه كان إماما مفترض الطّاعة نافذ التّصرّف، و لكن في طول الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لا في عرضه، كما كان هارون كذلك في زمان موسى، و إليه أشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في الرّواية المسلّمة بين الفريقين من قوله: «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى» (3).

ثمّ قال النّاصب: إنّ لفظ المؤمنين جمع، و إطلاقه على الواحد مجاز، فيجب حمله على العموم لأصالة الحقيقة (4).

أقول: إنّ لفظ الجمع مستعمل في المفهوم العامّ المتّصف بالصّفات المذكورة في الآية، و لا يلزم من وحدة المصداق الخارجي استعمال اللّفظ فيه، كما تقول: العلماء العدول قولهم حجّة، و كان العالم في عصرك منحصرا في شخص واحد، فلا يلزم مجاز.

ثمّ قال الناصب: إنّا بينّا بالبرهان البيّن أنّ الآية المتقدّمة و هي قوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (5)من أقوى الدّلائل على صحّة إمامة أبي بكر، فلو دلّت [هذه]الآية على إمامة عليّ بعد الرّسول، لزم التّناقض بين الآيتين، فوجب القطع بأنّ هذه الآية لا دلالة فيها على إمامة عليّ بعد الرّسول (6).

أقول فيه: إنّه بعد ما ثبت دلالة هذه الآية على إمامة عليّ عليه السّلام وجب القطع بأنّ الآية السّابقة لا دلالة فيها على إمامة أبي بكر، مع أنّه قد بيّنا أنّه لا ربط للآية السابقة بأبي بكر أصلا و لو لم تكن هذه المعارضة، و ليس هو ممّن يحبّه اللّه و رسوله و يحبّهما، و يشهد على ما ذكرنا أنّه لم يتمسّك عامّة

ص: 397


1- . تفسير الرازي 12:27.
2- . تفسير الرازي 12:28.
3- . صحيح البخاري 5:89/202، صحيح مسلم 4:1870/2404، سنن الترمذي 5:3730، مستدرك الحاكم 2:337.
4- . تفسير الرازي 12:28.
5- . المائدة:5/54.
6- . تفسير الرازي 12:28.

شيعة أبي بكر على خلافته بالنّصّ، و إنّما كان تمسّكهم بالإجماع، و اتّفاق أهل الحلّ و العقد، و اتّهموا عليّا عليه السّلام بالموافقة. نعم قالوا بتطبيق الآية السّابقة على أبي بكر، و كلّ من حارب المرتدّين إلى يوم القيامة، و يلزمهم دخول خالد بن الوليد، و الحجّاج بن يوسف فيها، و هو في غاية الفضاحة.

ثمّ قال الناصب: الحجة الخامسة: أنّ عليّا كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الرّوافض، فلو كانت [هذه]الآية دالّة على إمامته لاحتجّ بها في محفل من المحافل، و لم يتمسّك بها البتة، و ذلك يوجب القطع بسقوط قول الرّوافض (لعنهم اللّه) (1).

أقول فيه: إنّه قد تظافرت الرّوايات في احتجاجه عليه السّلام بهذه الآية على إمامته في كثير من المحافل (2)، و قد نقلنا بعضها، و من المعلوم أنّ إنكار هذا النّاصب و أضرابه (لعنهم اللّه) ليس بأنكر و أقبح من إنكارهم النّصوص الجليّة التي هي أجلى من الآية في إمامته عليه السّلام.

ثمّ قال الناصب: لو سلّمنا دلالة الآية على إمامة عليّ و نفوذ تصرّفاته، نقول: إنّه لم يكن نافذ التّصرّف في وقت النّزول و زمان الرّسول، فلا بدّ من القول بدلالتها على أنّه سيصير إماما بعد الرّسول، و نحن نقول بموجبه، و نحمله على إمامته بعد الثّلاثة، إذ ليس فيها تعيين الوقت، فإن قالوا: الامّة فيها على قولين؛ و كلّ من قال بدلالتها على إمامته قال بإمامته بعد الرّسول بلا فصل، فالقول بدلالتها على إمامته مع الفصل قول ثالث، قلنا: الظّاهر أنّه كان هذا الاحتمال مقرونا بهذا الاستدلال (3).

أقول: قد ذكرنا أنّه عليه السّلام كان في زمان الرّسول و نزول الآية نافذ التّصرّف كما كان هارون في زمان موسى، فالحجّة داحضة، و السّؤال ساقط، و يظهر جواب حجّته السّابعة و الثّامنة ممّا ذكرنا فلا نطيل بذكرهما.

في نقل اعتراضات

الفخر الرازي

و ردّه

ثمّ قال: و أمّا الوجه الذي عوّلوا عليه من أنّ الولاية بمعنى النّصرة عامّة، بخلاف الولاية في الآية فإنّها مختصّة بالمؤمنين الموصوفين فيها، فجوابه من وجهين:

الأوّل: منع اختصاص الولاية في الآية، و منع دلالة (إنّما) على الحصر، و الدّليل عليه قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ (4)و قوله: إِنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ (5)، و من المعلوم عدم انحصار مثل الدّنيا بالمثل المذكور، و حصول اللّعب و اللّهو في غير الحياة الدّنيا (6).

ص: 398


1- . تفسير الرازي 12:28 و 29.
2- . راجع: أمالي الطوسي:549/1168.
3- . تفسير الرازي 12:29.
4- . يونس:10/24.
5- . محمّد صلّى اللّه عليه و آله:47/36.
6- . تفسير الرازي 12:30.

أقول فيه: إنّ إنكار دلالة (إنّما) على الحصر إنكار للضّرورة، و أمّا آية إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا دالّة على حصر المثل الكامل في المثليّة، و الآية الثانية دالّة على حصر الحياة الدّنيا في اللّعب، لا حصر اللّعب و اللّهو فيها.

ثمّ قال: و الثّاني: أنّا نسلّم الاختصاص، و نقول: إنّ اللّه قسّم المؤمنين قسمين؛ أحدهما: الّذين جعلهم مولى عليهم، و الثاني: الأولياء؛ و هم المؤمنين الموصوفون في الآية، فالمعنى: أنّ اللّه جعل أحد القسمين أنصارا للقسم الآخر، و لا يمكن أن يكونوا أنصارا لجميع المؤمنين حتّى أنفسهم، فثبت أنّ نصرة أحد القسمين من الامّة غير ثابتة لكلّ الامّة، بل مخصوصة بالقسم الثّاني من الامّة، فلم يلزم من كون الولاية في الآية خاصّة أن لا تكون بمعنى النصرة، و هذا جواب حسن دقيق لا بدّ من التّأمّل فيه (1).

أقول: معنى كون النّصرة عامّة أنّ كلّ مؤمن يكون ناصرا لغيره من المؤمنين، و لا يختصّ بخصوص المؤمنين الموصوفين بالوصفين في الآية، فظهر أنّ بطلان جوابه من شدّة الوضوح غير محتاج إلى التّأمّل.

ثمّ قال: و أمّا استدلالهم بأنّ هذه الآية نزلت في [حق]عليّ، فهو ممنوع، فقد بيّنا أنّ أكثر المفسّرين زعموا أنّه في حقّ الامّة، و منهم من يقول أنّها نزلت في حقّ أبي بكر.

أقول: قال البيضاوي في تفسيره: وَ هُمْ راكِعُونَ متخشّعون في صلاتهم و زكاتهم، و قيل: هو حال مخصوصة ب(يؤتون) ، أي يؤتون الزّكاة في حال ركوعهم في الصّلاة حرصا على الإحسان و مسارعة إليها، فإنّها نزلت في عليّ عليه الصّلاة و السّلام حين سأله سائل و هو راكع في صلاته، فطرح له خاتمه (2).

و قال آية اللّه العلامة الحلّي في (نهج الحق) ، بعد ذكر الآية: أجمعوا على نزولها في عليّ عليه السّلام، و هو مذكور في الصحاح الستّة، لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصّحابة (3).

و قرّره فضل بن روزبهان مع شدّة تعصّبه و كمال اهتمامه في الرّدّ عليه على دعوى الإجماع، و لم ينكر عليه، و لم يناقش في سند الرّواية (4).

ثمّ قال الفخر النّاصب: أمّا استدلالهم بأنّ الآية مختصّة بمن أدّى الزّكاة في الرّكوع و هو عليّ بن أبي طالب، فنقول: هذا أيضا ضعيف من وجوه:

ص: 399


1- . تفسير الرازي 12:30.
2- . تفسير البيضاوي 1:272.
3- . نهج الحق:172، جامع الأصول 9:478.
4- . راجع: إحقاق الحق 2:408.

الأوّل: أنّ الزّكاة اسم للواجب لا للمندوب، لقوله تعالى: وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ (1)فلو أنّه أدّى الزّكاة في الرّكوع لكان قد أخّر [أداء]الزّكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب، و ذلك عند أكثر العلماء معصية، و لا يجوز إسناده إلى عليّ، و حمل الزّكاة على الصّدقة النّافلة خلاف الأصل، لما بيّنا أنّ قوله: وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ ظاهر في أنّ كلّ ما كان زكاة فهو واجب (2).

أقول: الزّكاة في اللّغة: النّموّ، و إنّما سمّيت الصّدقة زكاة لكونها سببا لنموّ المال، كما قال اللّه تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ (3)و لم يثبت للفظ الزّكاة حقيقة شرعيّة حال نزول الآية، و ليس في قوله: آتَوُا اَلزَّكاةَ دلالة عليها، و لو فرض ظهوره في خصوص الواجبة كان ظهور الرّكوع في ركوع الصّلاة أقوى، كما أنّ ظهور الرّمي في رمي السّهم أقوى من ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس، فيصير قرينة على صرفه عن المعنى الحقيقي إلى المجازي، فيحمل لفظ الزّكاة على المندوبة بالقرينة المقارنة له.

و الحاصل أنّه لا شكّ أنّ الآية في بيان مدح المؤمنين، و حمل لفظ الزّكاة و الرّكوع على معناهما الحقيقي لا يناسب المدح، فلا بدّ من صرف أحد اللّفظين إلى المعنى المجازي، و صرف لفظ الزّكاة أولى، مضافا إلى دلالة الرّوايات الكثيرة من طرق الخاصّة و العامّة على أنّ الزّكاة في الآية خصوص المندوبة.

ثمّ قال الناصب: الثّاني: أنّ اللاّئق بعليّ أن يكون مستغرق القلب بذكر اللّه حال الصّلاة، و من كان كذلك لا يتفرّغ لاستماع كلام الغير و فهمه، و لهذا قال اللّه تعالى: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً (4)إلى آخر الآية (5).

أقول فيه: إنّ مقام الولاية المطلقة مقام الجامعيّة، لا يشغله شأن عن شأن، فالتوجّه إلى كلام الفقير توجّه إلى اللّه، و يشهد له أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مع كونه أكمل من عليّ عليه السّلام كان ملتفتا لركوب الحسن على ظهره في سجود الصّلاة المفروضة، فأطال سجوده حتّى ينزل الحسن من ظهره لئلا يسقط ولده على الأرض.

ثمّ قال الناصب: الثالث: أنّ دفع الخاتم إلى المسكين في الصّلاة عمل كثير، و اللاّئق بحال عليّ أن لا يفعل ذلك (6).

أقول فيه: إنّه ممنوع، مع أنّ في الرّواية أنّه عليه السّلام أومأ بخنصره، فأخرجه الفقير من خنصره، مع أنّه

ص: 400


1- . البقرة:2/277.
2- . تفسير الرازي 12:30.
3- . البقرة:2/276.
4- . آل عمران:3/191.
5- . تفسير الرازي 12:30.
6- . تفسير الرازي 12:31.

قال النّاصب بعد ذلك بقليل: إنّ العلماء احتجّوا بالآية على أنّ العمل القليل لا يقطع الصلاة (1). و ممّا ذكرنا يعلم فساد سائر ما لفّقه النّاصب.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 56

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على تولّي الرّسول و خلفائه بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا و يتّخذهم أولى بنفسه من نفسه، و يعتقد أنّهم متصرّفون في اموره، فهو من حزب اللّه و جنوده، و غالب على أعدائه فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ و أولياءه هُمُ اَلْغالِبُونَ على حزب أعداء اللّه، و جند الشّيطان، و أعوان الجهل.

وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ (56)عن الباقر عليه السّلام، في قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ الآية، قال: «إنّ رهطا من اليهود أسلموا، منهم عبد اللّه بن سلام، و اسيد (2)، و ثعلبة، و ابن امين (3)، و ابن صوريا، فأتوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا نبيّ اللّه، إنّ موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيّك يا رسول اللّه، و من وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ الآية.

[ثمّ]قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قوموا، فقاموا فأتوا المسجد فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل، أما أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم، هذا الخاتم، قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرّجل الذي يصلّي، قال: على أيّ حال أعطاك؟ قال: كان راكعا، فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كبّر أهل المسجد، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عليّ بن أبي طالب وليّكم [بعدي]، قالوا: رضينا باللّه ربّا و بالإسلام دينا، و بمحمّد نبيّا، و بعليّ بن أبي طالب وليّا، فأنزل اللّه: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ» (4).

و في (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا في هذا الموضع: المؤتمنون على الخلائق من الحجج و الأوصياء في عصر بعد عصر» (5).

و في (التوحيد) : عن الصادق عليه السّلام: «يجيء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم القيامة آخذا بحجزة ربّه، و نحن آخذون بحجزة نبيّنا، و شيعتنا آخذون بحجزتنا، فنحن و شيعتنا حزب اللّه، و حزب اللّه هم الغالبون، و اللّه لا يزعم أنّها حجزة الإزار و لكنّها أعظم من ذلك، يجيء رسول اللّه آخذا بدين اللّه و نجيء [نحن]آخذين بدين نبيّنا، و تجيء شيعتنا آخذين بديننا» (6).

ص: 401


1- . تفسير الرازي 12:31.
2- . في الأمالي: و أسد.
3- . في الأمالي: و ابن يامين.
4- . أمالي الصدوق:186/193، تفسير الصافي 2:46.
5- . الاحتجاج:248، تفسير الصافي 2:47.
6- . التوحيد:166/3، تفسير الصافي 2:47.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 57

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن مولاة أهل الكتاب، بالغ سبحانه في تأكيده، و عمّمه إلى جميع الكفّار بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا و لا تختاروا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً و تعاملوا (1)مع شريعتكم الغرّاء معاملة السّاخر و العائب مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّارَ الّذين لم يؤمنوا بكتاب أَوْلِياءَ لأنفسكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّارَ أَوْلِياءَ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)قيل: كان رفاعة بن زيد، و سويد بن الحارث أظهرا الإيمان ثم نافقا، و كان رجال من المسلمين يوادّونهما (2). فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية.

ثمّ حذّرهم عن مخالفة نهيه بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و خافوا عذابه في موالاتهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عن صميم القلب باللّه و اليوم الآخر، فإنّ حقيقة الإيمان تلازم الاتّقاء عن مخالفة أحكام اللّه و موالاة أعدائه.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 58

ثمّ ذكر اللّه سبحانه استهزاءهم بالصّلاة التي هي أعظم العبادات و ركن دين الإسلام ازديادا لتنفير قلوب المسلمين منهم، بقوله: وَ إِذا نادَيْتُمْ المسلمين و دعوتموهم إِلَى اَلصَّلاةِ بأن أذّن المؤذّنون اِتَّخَذُوها فيما بينهم، أو عند أنفسهم هُزُواً و سخرية وَ لَعِباً و عبثا لاعتقادهم بأنّه لا فائدة فيها، و ذلِكَ الاستهزاء و اللّعب معلّل بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ حسن عبادة اللّه و الخضوع له، و قباحة الهزء بها، و لو كان لهم عقل لما اجترأوا على تلك العظيمة.

وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ اِتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصّلاة، و أنفع السّكنات الصوم (3).

في استهزاء اليهود

بدين الإسلام

قيل: كان المؤذّنون إذا أذّنوا للصّلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم، و تغامزوا سفها و استهزاء بالصّلاة، و تجهيلا لأهلها، و تنفيرا للنّاس عنها (4).

و قيل: كان منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينادي للصّلاة، و قام المسلمون إليها، فقالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلّوا لا صلّوا؛ على طريق الاستهزاء، فنزلت الآية (5).

ص: 402


1- . في النسخة: و عاملوا.
2- . مجمع البيان 3:328، تفسير الصافي 2:47.
3- . تفسير الرازي 12:33.
4- . تفسير روح البيان 2:408.
5- . تفسير الرازي 12:33.

و قيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصّلاة تنفيرا للنّاس عنها (1).

و قيل: قالوا: يا محمّد، لقد أبدعت شيئا لم يسمع فيما مضى، فإن كنت نبيّا فقد خالفت فيما أبدعت جميع الأنبياء، فمن أين لك صياح كصياح العير! فأنزل اللّه تعالى هذه الآية (2).

و قيل: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذّن يقول: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، يقول: احرق الكاذب فدخلت خادمته بنار ذات ليلة، فتطايرت منها شرارة في البيت، فاحترق البيت، و احترق هو و أهله (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 59

ثمّ لمّا حكى اللّه عزّ و جلّ استهزاء أهل الكتاب بالدّين أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوبيخهم بقوله: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ و تكرهون مِنّا و تسخطون علينا بسبب من الأسباب إِلاّ بسبب أَنْ آمَنّا بِاللّهِ و بوحدانيّته و كمال صفاته وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَ ما أُنْزِلَ على سائر الأنبياء مِنْ قَبْلُ نزول القرآن من التّوراة و الإنجيل و غيرهما من الكتب السّماويّة وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ متمرّدون عن قبول الحقّ، كافرون بجميع الكتب، حيث إنّكم إن كنتم مؤمنين بكتبكم النّاطقة بصحة القرآن لآمنتم به.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)و قيل: إنّ المراد: و لأجل أنّكم فاسقون، و لسنا مثلكم (1)، أو لأجل اعتقادنا بأنّكم فاسقون (5).

قيل: إنّما قال: أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ لأن أكثرهم كانوا متمرّدين طلبا للرّئاسة و الجاه و الحطام، لا للشّبهة في الرّسالة و الدّين، أو لئلاّ يظنّ من آمن منهم [أنّه]داخل في ذلك (6).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ نفرا من اليهود أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عمن يؤمن به من الرسل و سألوه عن دينه، فقال: «اومن باللّه، و ما أنزل إلينا، و ما انزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط، و ما اوتي موسى و عيسى و النّبيّون من ربّهم، لا نفرّق بين أحد منهم، و نحن له مسلمون» ، فحين سمعوا ذكر عيسى قالوا: لا نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدّنيا و الآخرة منكم، و لا دينا شرّا من دينكم. فأنزل اللّه هذه الآية (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 60

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللّهِ مَنْ لَعَنَهُ اَللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ اَلسَّبِيلِ (60)

ص: 403


1- . تفسير الرازي 12:34. (5 و 6) . تفسير الرازي 12:35.
2- . مجمع البيان 3:330.

ثمّ أنّهم لمّا زعموا أنّ دين الإسلام شرّ الأديان، و أهله شرّ النّاس، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتبكيتهم و تقريعهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ و اخبركم يا أهل الكتاب بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ الذي زعمتم شرّه، و نقمتم منه مَثُوبَةً و جزاء عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه.

ثمّ كأنّهم قالوا: من هو؟ فأجاب سبحانه بقوله: مَنْ لَعَنَهُ اَللّهُ و قيل: إنّ المراد: دين من لعنه اللّه و أبعده عن رحمته (1)وَ غَضِبَ عَلَيْهِ بكفره، و سوء سريرته، و انهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات وَ جَعَلَ جماعة مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ في زمان داود بدعائه عليهم حين اعتدوا في السّبت، وَ جماعة اَلْخَنازِيرَ في زمان عيسى حين كفروا بعد نزول المائدة و أكلها، وَ بعضا عَبَدَ اَلطّاغُوتَ و أطاع الشّيطان.

و روي أنّ المسخين كانا في أصحاب السّبت، فإن شبّانهم مسخوا قردة، و مشايخهم مسخوا خنازير (2).

قيل: لمّا نزلت هذه الآية قال المسلمون لليهود: يا اخوة القردة و الخنازير، فنكّسوا رؤوسهم و افتضحوا (3).

و قيل: إنّ المراد بالطاغوت: العجل (4)، و قيل: الأحبار الّذين أطاعوهم في معصية اللّه (5).

ثمّ قرّر شرّ مثوبتهم بقوله: أُولئِكَ الملعونون الممسوخون من اليهود شَرٌّ مَكاناً و أسوأ مقرّا من جميع الكفّار في الآخرة، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: مكانهم سقر، و لا مكان أشدّ شرّا منه (6)وَ هم أَضَلُّ النّاس في الدّنيا عَنْ سَواءِ اَلسَّبِيلِ و قصد الطريق و النهج المستقيم الذي لا انحراف فيه عن الحقّ إلى غلوّ اليهود و النّصارى. و من المعلوم أنّ صفتي التّفضيل للزّيادة، لا بالإضافة إلى المؤمنين.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 61

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)

ص: 404


1- . مجمع البيان 3:332، تفسير الصافي 2:48.
2- . مجمع البيان 3:333، تفسير الصافي 2:48.
3- . مجمع البيان 3:333، تفسير الرازي 12:37.
4- . مجمع البيان 3:333، تفسير الرازي 12:37. (5 و 6) . تفسير الرازي 12:37.

ثمّ وبّخ اللّه تعالى اليهود بنفاقهم و قساوة قلوبهم و عدم تأثّرهم بالمواعظ و الآيات بقوله: وَ إِذا جاؤُكُمْ و حضروا عندكم قالُوا لكم نفاقا: آمَنّا بما آمنتم، و اتّبعنا الرّسول، وَ الحال أنّهم قَدْ دَخَلُوا مجلسكم ملابسين بِالْكُفْرِ ملازمين له وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا من ذلك المجلس متلبّسين بِهِ لم يؤثّر فيهم ما سمعوا و شهدوا من المواعظ و الآيات وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ و يسترون منكم من الكفر و الحسد، و الاجتهاد في المكر بالمسلمين، و البغض و العداوة.

قالوا: نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره اللّه بشأنهم، فإنّهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا، لم يتعلّق بقلبهم شيء من الدّلائل و النّصائح و التذكيرات (1).

و قيل: ضمير الخطاب في الجمع راجع إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و الجمع للتّعظيم (2).

و عن القمّي: «نزلت في عبد اللّه بن أبيّ» (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ استشهد اللّه على نفاقهم بسوء أعمالهم بقوله: وَ تَرى يا محمّد و تبصر كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ غير مستحيين منك، و يشرعون بالعجلة شوقا و رغبة فِي اَلْإِثْمِ و قول الكذب وَ اَلْعُدْوانِ و الظّلم على الخلق وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ و أخذ الرّشوة، و اللّه لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من تلك المعاصي العظام.

وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

ثمّ وبّخ سبحانه الزّهاد و العلماء على ترك نهيهم عن المنكرات بقوله: لَوْ لا يَنْهاهُمُ و يردعهم اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ من اليهود عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ و كلامهم الكذب وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ و المال الحرام، مع علمهم بقبحها و حرمتها، و مشاهدتهم مباشرتهم لها، باللّه لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ من المداراة مع العصاة، و ترك نهيهم عن المنكر.

قيل: الربّانيّون علماء أهل الإنجيل، و الأحبار علماء اليهود، و قيل: كلّهم في اليهود (4).

في ذم تارك

النهي عن المنكر

قيل: في الآيتين دلالة على أن تارك النّهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه؛ لأنّه تعالى

ص: 405


1- . تفسير الرازي 12:38.
2- . تفسير أبي السعود 3:56، تفسير روح البيان 2:412.
3- . تفسير القمي 1:170، تفسير الصافي 2:48.
4- . مجمع البيان 3:335، تفسير الرازي 12:39.

ذمّهما بلفظ واحد، بل قيل: إنّ ذمّ تارك النّهي عن المنكر أقوى من ذمّ مرتكبه؛ لأنّ اللّه تعالى قال في ذمّ تارك النّهي عن المنكر: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ و الصّنع أقوى من العمل؛ لأنّ الصّنع هو العمل إذا صار راسخا، فجعل ذنب تارك النّهي ذنبا راسخا (1).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هي أشدّ آية في القرآن. و قال الضحّاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 64

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم و تقريعهم بأعمالهم السيئة، ذمّهم بعقائدهم السّخيفة الفاسدة بقوله: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ مقبوضة ممسكة عن العطاء.

وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ (64)قال بعض المفسّرين من العامّة: إنّ اليهود كانوا أكثر النّاس مالا و أخصبهم ناحية، فلمّا بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و كذّبوه ضيقّ اللّه عليهم المعيشة، فوصفوا اللّه بالبخل (3).

و عن الحسن: أنّهم عبّروا عن عدم تعذيبهم في الآخرة إلاّ أيّاما قليلة بهذه العبارة الدالّة على العجز (4).

و عن القمّي: [قالوا:]قد فرغ اللّه من الأمر، لا يحدث اللّه [غير ما قدّره]في التّقدير الأوّل (5).

و في (التوحيد) : عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «لم يعنوا أنّه هكذا، و لكنّهم قالوا: قد فرغ من الأمر فلا يزيد و لا ينقص» (6).

و عن الرضا عليه السّلام، في كلام له في إثبات البداء مع سليمان المروزي و قد كان ينكره، فقال عليه السّلام: «أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب؟» ، قال: أعوذ باللّه من ذلك، و ما قالت اليهود؟ قال: «[قالت:] يد اللّه مغلولة، يعنون أنّ اللّه قد فرغ من الأمر، فليس يحدث شيئا» . (7)الحديث.

ثمّ دعا سبحانه عليهم بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ في نار جهنّم، أو المراد: ألبسهم اللّه الفقر حتّى عجزوا عن الإنفاق و الإعطاء وَ لُعِنُوا و ابعدوا عن الرّحمة بِما قالُوا من الكلمة الشّنيعة، و بما

ص: 406


1- . تفسير الرازي 12:39.
2- . تفسير الرازي 12:40.
3- . تفسير الرازي 12:41، تفسير روح البيان 2:414.
4- . تفسير الرازي 12:41.
5- . تفسير القمي 1:171، تفسير الصافي 2:49.
6- . التوحيد:167/1، تفسير الصافي 2:49.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:182/1، تفسير الصافي 2:50.

اعتقدوا من العقائد السخيفة.

ثم ردّهم بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ و قدرته و رحمته واسعتان، و خزائنه غير نافذة يُنْفِقُ منها كَيْفَ يَشاءُ و يختار على من يشاء، يوسع تارة و يضيّق اخرى، على حسب ما تقتضيه حكمته. فاليدان كناية عن القدرة، و الجود و إسناد البسط إليهما كناية عن غاية الجود، حيث إنّ من له غاية الجود يعطي بيديه جميعا.

ثمّ ذمّهم بازدياد كفرهم بنزول الآيات، بقوله: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ و هم علماؤهم و رؤساؤهم- على ما قيل (1)- ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن طُغْياناً على طغيانهم وَ كُفْراً على كفرهم السّابقين.

ثمّ ذكر ابتلاءهم بالعقوبات الدّنيويّة بقوله: وَ أَلْقَيْنا و أوقعنا بَيْنَهُمُ و في فرقهم اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ المستمرّتين إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ حيث إنّهم لمّا أنكروا الحقّ و عارضوا الرّسول طلبا للرّاحة، و حفظا للجاه و الرّئاسة، ابتلاهم اللّه بسبب اختلاف العقائد و الأهواء بالمشقّات الكثيرة، و الغموم الوفيرة، فحرموا عن نيل مقاصدهم، وفاتتهم سعادة الدّنيا و الآخرة، و لذلك التّخالف و التّباغض بينهم كُلَّما أَوْقَدُوا و أشعلوا ناراً لِلْحَرْبِ مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و أثاروا فتنة بين المسلمين أَطْفَأَهَا اَللّهُ و أخمدها بإيقاع المنازعة و المعاداة فيهم، فلا يتّفقون على رأي، فيكون ذلك سببا لانصرافهم عن الحرب، و مقهوريّتهم للمسلمين.

قيل: كان اليهود في أشدّ بأس و أمنع دار، حتّى إنّ قريشا كانت تعتضد بهم، و كان الأوس و الخزرج تتكثّر بمظاهرتهم، فذلّوا و قهروا، و قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بني قريظة، و أجلى بني النّضير، و غلب على خيبر و فدك، فاستأصل اللّه شأفتهم حتّى إنّ اليوم تجد اليهود أذلّ النّاس (2).

ثمّ ذكر اللّه سبحانه غاية جهدهم في استخراج أنواع الحيل و المكر في تضعيف الإسلام، مع غاية ذلّهم و ضعفهم، بقوله: وَ يَسْعَوْنَ مع الوصف فِي اَلْأَرْضِ ليوقعوا فَساداً بين المسلمين.

قيل: إنّهم لمّا خالفوا حكم التّوراة سلّط اللّه عليهم بخت نصّر، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرّومي، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المجوس، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين.

وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض و السّاعين فيها لإثارة الفتن، بل هو ممقوت عنده (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 65

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتابِ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ (65)

ص: 407


1- . تفسير روح البيان 2:414.
2- . تفسير الصافي 2:50.
3- . تفسير الرازي 12:45.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أهل الكتاب اعتقادا و عملا، و تهجين طريقتهم، وبّخهم على سفههم و خطأهم في الرأي بقوله: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتابِ نزّهوا أنفسهم عن الرّذائل، و أنصرفوا عن الكفر و العناد، و آمَنُوا بالرّسول، و بما انزل إليه وَ اِتَّقَوْا الكفر و الظّلم و الإفساد و سائر المعاصي، و اللّه لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ و لسترنا عليهم بالعفو خطيئاتهم وَ لَأَدْخَلْناهُمْ يوم القيامة جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ و خلّدناهم في العلّيّين؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله و إن جلّ.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 66

ثمّ ذكر الفوائد الدّنيويّة للإيمان بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ و عملوا بأحكامهما، و حفظوهما من التّحريف و التّغيير، و وفوا بما فيهما من العهد عليهم بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من سائر الكتب السّماويّة، أو القرآن العظيم المصدّق لكتبهم، و اللّه (1)لَأَكَلُوا و ارتزقوا من البركات السّماويّة التي تنزل عليهم مِنْ فَوْقِهِمْ وَ ممّا يخرج مِنْ الأرض التي تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ من الحبوب و الفواكه و النّباتات.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)و فيه تنبيه على أنّ ما أصابهم من الضّنك و الضّيق إنّما هو من شؤم جناياتهم و سيّئات أعمالهم، و لو تركوها لوجدوا سعادة الدّنيا من سعة الرّزق و العزّ و الجاه، و سعادة الآخرة من النّجاة من العذاب و الفوز بالجنّة و النّعم الدّائمة، فلا قصور في فيض الفيّاض.

و مع ذلك كان محلّ الأسف أنّ قليلا مِنْهُمْ أُمَّةٌ و جماعة مُقْتَصِدَةٌ عادلة غير مائلة إلى طرق الإفراط و التّفريط، و غير منحرفة عن نهج الحقّ و الطّريق المستقيم إلى الغلوّ و التّقصير.

عن القمّي رحمه اللّه: قوم من اليهود دخلوا في الإسلام فسمّاهم اللّه مقتصدة (2).

وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ قيل: فيه معنى التّعجّب. و المعنى: ما أسوأ عملهم! و هم الّذين أقاموا على الجحود، و أصرّوا على الكفر (3)و الضّلال، و عارضوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 67

يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ (67)

ص: 408


1- . قوله: (و اللّه) يشير إلى وجود قسم، و ليس ثمّة قسم في الآية.
2- . تفسير القمي 1:171، تفسير الصافي 2:51.
3- . تفسير الصافي 2:51.

ثمّ لمّا وصف اللّه سبحانه المقتصدين منهم بالقلّة، و الجاحدين المتمرّنين منهم على الكفر و العناد بالكثرة، حثّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالتّبليغ و عدم المبالاة بكثرة الأعداء الجاحدين، مع وعده بالعصمة من شرّ الأعداء بقوله: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ إلى النّاس ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في عليّ، على ما تضافر عنهم عليهم السّلام و قالوا: «كذا نزلت» (1).

ثمّ هدّد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على ترك التّبليغ إعذارا له و إظهارا للاهتمام بالأمر بقوله: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرتك من تبليغ هذا الذي أنزل في عليّ صلّى اللّه عليه و آله و كتمته فَما بَلَّغْتَ من قبل اللّه إلى النّاس رِسالَتَهُ و ما امرت من أوّل بعثتك بتبليغه؛ لعدم ترتّب الفائدة على سائر الأحكام التي بلّغتها بدون تبليغ هذا الأمر، فتكون بترك تبليغ ولاية عليه السّلام عليّ بمنزلة تارك التّبليغ رأسا، و يكون عقابك عقابه وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ و يحفظك مِنْ شرّ اَلنّاسِ و ضرّهم، فلا تخف منهم و لا تبال بهم.

ثمّ أكّد سبحانه وعده بعصمته و حفظه بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي إلى نيل المقاصد اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ و لا يمكّنهم من إنفاذ مرامهم.

قيل: بنزولها في قضيّة الرّجم و القصاص (2). و قيل: في قضيّة أخذ الأعرابي سيف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إرادته قتله فسقط من يده (3). و قيل: في أمر زيد و زينب بنت جحش (4). و قيل: في حقوق المسلمين (5). و قيل: في استهزاء اليهود و سكوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنهم (6). و قيل: في سكوت النبيّ عن تعييب الأصنام (7). و قيل: في تبليغ حكم الجهاد (8). و قيل: لرفع مهابة قريش و أهل الكتاب من قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حين عابهم (9).

أقول: لا شبهة في نزولها في حجّة الوداع، فتلك الوجوه التي ذكرها مفسّرو العامّة غير مناسبة لنزولها في الوقت المذكور.

ثمّ أنّ الفخر الرازي بعد نقل الوجوه المذكورة عن العامّة في تفسيره قال: العاشر-أي من الوجوه- : أنّها نزلت في فضل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و لمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده و قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه» ، فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة. و هو قول ابن عبّاس، و البرّاء بن عازب، و محمّد بن علي (10).

أقول: قال آية اللّه العلاّمة الحلّي في (نهج الحقّ) بعد ذكر الآية الشّريفة: نقل الجمهور أنّها نزلت في فضل عليّ عليه السّلام يوم غدير خمّ، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السّلام و قال: «أيّها النّاس، أ لست أولى

ص: 409


1- . تفسير الصافي 2:51.
2- . تفسير الرازي 12:49. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 12:49. (6 و 7 و 8) . تفسير الرازي 12:49. (9 و 10) . تفسير الرازي 12:49.

منكم بأنفسكم؟» . قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و أخذل من خذله، و أدر الحقّ معه كيفما دار» (1).

و قال فضل بن روزبهان ردّا على العلاّمة: أمّا ما ذكره من إجماع المفسرين على أنّ الآية نزلت في عليّ فهو باطل، فإنّ المفسّرين لم يجتمعوا (2)على هذا، و أمّا ما روي [من]أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذكره يوم غدير [خمّ]حين أخذ بيد عليّ قال: «أ لست أولى» ، فقد ثبت هذا في الصّحاح (3).

و قال القاضي نور اللّه التّستري (نوّر اللّه مضجعه) ، في ردّ النّاصب ابن روزبهان، و إثبات رواية العلاّمة (أعلى اللّه في الخلد مقامه) : روي الحديث-يعني ما ذكره العلاّمة-في صحاح القوم كالبخاري، و رواه أحمد بن حنبل إمامهم في مسنده بطرق متعدّدة على الوجه الذي ذكره المصنّف، و كذا رواه الثّعلبي في تفسيره، و ابن المغازلي الشّافعي في كتاب (المناقب) من طرق شتّى، و ابن عقدة في مائة و خمسة طرق، و ذكر الشّيخ ابن كثير الشّامي الشّافعي عند ذكر أحوال محمّد بن جرير الطّبري: أنّي رأيت كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلّدين ضخمين، و نقل عن ابن أبي المعالي الجويني أنّه كان يتعجّب و يقول: شاهدت مجلّدا ببغداد في يد صحّاف فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه: المجلّد الثامن و العشرون من طرق «من كنت مولاه فعليّ مولاه» و يتلوه المجلّد التاسع و العشرون، و أثبت الشّيخ ابن الجوزي الشافعي في رسالته الموسومة ب(أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب) تواتر هذا الحديث.

إلى أن قال القاضي: و بالجملة قد بلغ هذا الخبر في الاشتهار إلى حدّ لا يوازى به خبر من الأخبار، و تلقّته محقّقو الأمّة بالقبول، أنتهى (4).

و في (الجوامع) ، عن ابن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه: أنّ اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينصب عليّا للنّاس و يخبرهم بولايته، فتخوّف أن يقولوا: حامى ابن عمّه، و أنّ يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه. فنزلت هذه الآية، فأخذ بيده يوم غدير خمّ و قال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» و قرأها (5).

و في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام-في حديث-: «ثمّ نزلت الولاية، و إنّما أتاه ذلك يوم الجمعة بعرفة، أنزل اللّه تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (6)، و كان كمال الدّين بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال عند ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: امّتي حديثو عهد بالجاهليّة، و متى أخبرتهم بهذا

ص: 410


1- . نهج الحق:173.
2- . في المصدر: لم يجمعوا.
3- . إحقاق الحق 2:482.
4- . إحقاق الحق 2:485.
5- . جوامع الجامع:114، تفسير الصافي 2:51.
6- . المائدة:5/3.

في ابن عمّي يقول قائل، و يقول قائل، فقلت في نفسي من غير أن ينطق لساني، فأتتني عزيمة من اللّه بتلة (1)، أوعدني إن لم أبلّغ أن يعذّبني، فنزلت: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ الآية، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السّلام فقال: أيّها النّاس، إنّه لم يكن نبيّ من الأنبياء ممّن كان قبلي إلاّ و قد عمّره اللّه ثمّ دعاه فأجابه، فاوشك أن ادعى فاجيب، و أنا مسؤول و أنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون، فقالوا: نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت و أدّيت ما عليك، فجزاك اللّه أفضل جزاء المرسلين، فقال: اللّهمّ اشهد-ثلاث مرّات -ثمّ قال: يا معشر المسلمين، هذا وليّكم من بعدي، فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب» (2).

و قال أبو جعفر عليه السّلام: «كان و اللّه، أمين اللّه على خلقه و غيبه و دينه الذي أرتضاه لنفسه» (3).

و عنه عليه السّلام: «أمر اللّه عزّ و جلّ رسوله بولاية عليّ عليه السّلام و أنزل عليه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ (4)الآية، و فرض ولاية اولي الأمر، فلم يدروا ما هي، فأمر اللّه محمّدا، أن يفسّر لهم الولاية كما فسّر لهم الصّلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ، فلمّا أتاه ذلك من اللّه ضاق بذلك صدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و تخوّف أن يرتدّوا عن دينهم و أن يكذّبوه، فضاق صدره و راجع ربّه عزّ و جلّ، فأوحى اللّه إليه: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ الآية، و صدع بأمر اللّه تعالى ذكره، فقام بولاية عليّ عليه السّلام يوم غدير خمّ، فنادى: الصّلاة جامعة، و أمر النّاس أن يبلّغ الشّاهد الغائب» .

قال عليه السّلام: «و كانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الاخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قال: يقول اللّه عزّ و جلّ: لا انزل عليكم بعدها فريضة، قد أكملت لكم الفرائض» (5). الخبر، إلى غير ذلك من الرّوايات.

و مع ذلك قال الفخر الرازي: و اعلم أنّ الرّوايات و إن كثرت إلاّ أنّ الأولى حمله على أنّه تعالى آمنه من اليهود و النّصارى، و أمره بإظهار التّبليغ من غير مبالاة منه بهم و ذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير و ما بعدها بكثير لمّا كان كلاما مع اليهود و النّصارى، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها و ما بعدها (6).

و فيه: أنّ الظّاهر أن اللّه آمنه من ضرر جميع الكفّار سواء أكانوا يهودا أو نصارى أو غيرهم من المجوس و المشركين، و المرتدّين في زمانه، و المنافقين، كأصحاب الصّحيفة الملعونه و العقبة. و من المعلوم أنّ العامّ ليس أجنبيّا عن الخاصّ، مع أن الظّاهر بل المتيقّن أنّ الآية نزلت بعد تبليغ غالب

ص: 411


1- . أي قاطعة.
2- . الكافي 1:229/6، تفسير الصافي 2:52.
3- . الكافي 1:230/6، تفسير الصافي 2:52.
4- . المائدة:5/55.
5- . الكافي 1:229/4، تفسير الصافي 2:52.
6- . تفسير الرازي 12:50.

الأحكام، بل بعد تكميل الدّين، فلو كان المقصود تأمينه في تبليغ مطلق الأحكام كان الأنسب نزولها في أوائل البعثة، أو في أوائل الهجرة، و الحال أنّه صلّى اللّه عليه و آله كسر الأصنام و وبّخ المشركين مع غاية شوكتهم و حرصهم على عبادتها، و لعن اليهود و النّصارى على رؤوس الأشهاد، و حوّل القبلة من البيت المقدّس إلى الكعبة، و قاتل المشركين و اليهود، و لم ينقل منه صلّى اللّه عليه و آله خوف في مورد من الموارد.

و الحاصل: أنّه لم يكن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله خوف في تبليغ الأحكام و تعليم العقائد سيّما بعد تذليل اليهود، و قتل بني قريظة، و إجلاء بني النّضير، و فتح قلاع خيبر و فدك، مع أنّه ليس من شأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخوف من الأعداء في التّبليغ لعلمه بأنّ اللّه يحفظه حتّى يتمّ الحجّة.

و بعد تكميل الدّين و إتمام الحجّة على العالمين، يكون مجال الخوف من القتل عند تبليغ آخر الأحكام، و هو وجوب طاعة الإمام و الخليفة بعده، فاحتاج إلى التّأمين فيه من العدوّ فامنه بقوله: وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ و يشهد لذلك ما رواه كثير من العامّة في شأن نزول آية سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 68

ثمّ أنّه تعالى بعد تسفيه أهل الكتاب في ترك العمل بما أنزل اللّه، و تخطئتهم في عدم الإيمان بالقرآن، و تأمين الرّسول من ضرر الكفّار، أمره بتغليظ القول عليهم في ترك العمل بالكتب السّماويّة بقوله: قُلْ يا محمّد، لليهود و النّصارى تحقيرا لهم، و تصغيرا لشأنهم: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من الدّين، و لا يكون في قولكم و فعلكم شيء من الحقّ و الصّواب حَتّى تُقِيمُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من سائر الكتب السّماويّة، أو من القرآن العظيم، و تؤمنوا بجميعها، و توفوا بعهد اللّه الذي فيها من وجوب الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بكتابه، و تلتزموا بما فيها.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (68)ثمّ بيّن غاية خبثهم و شدّة عداوتهم بقوله: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من الآيات الدالّة على صدقك في النّبوّة طُغْياناً و عتوّا وَ كُفْراً و جحودا، فإذا كانوا بهذه المرتبة من الخباثة و العناد فَلا تَأْسَ و لا تحزن عَلى زيادة كفر اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ فإنّ ضرر ذلك

ص: 412


1- . المعارج:70/1، راجع: تفسير القرطبي 18:278، و تفسير أبي السعود 9:29، و الدر المنثور 8:277، و الغدير 1: 230.

راجع إليهم، لا إليك و لا إلى المسلمين.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 69

ثمّ أنّه تعالى بعد تغليظ القول على الكافرين من أهل الكتاب، أظهر اللّطف بالمؤمنين منهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و كتبه و رسله وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ الّذين هم أشدّ الفرق كفرا و ضلالا وَ اَلنَّصارى خصوص مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ، قد مرّ تفسيره في البقرة (1).

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ وَ اَلنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)قيل: فيها تنبيه على أن لا فضيلة لأحد إلاّ بالإيمان و العمل الصّالح من غير فرق بين من آمن أوّلا، أو بعد الكفر، فمن اتّصف بالوصفين كان له الأمن في القيامة (2).

أقول: لا شكّ في فضيلة الأوّل على الثّاني.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 70

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتذكّر أنّ خبث ذات طائفة بني إسرائيل و عتوّهم بنقض عهد اللّه، و قتل الأنبياء و اتباع الهوى، ليس مختصّا بزمانه بقوله: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ بالتوحيد و الإيمان، و العمل بأحكام التّوراة وَ أَرْسَلْنا مع ذلك العهد إِلَيْهِمْ بعد موسى رُسُلاً كثيرة ليذكّروهم العهد، و يبيّنوا أحكام دينهم.

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)ثمّ كأنّه قيل: فما عاملوا (3)مع الرسل؟ فأجاب بقوله: كُلَّما جاءَهُمْ من قبل اللّه رَسُولٌ من اولئك الرّسل بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ و لا يوافق شهواتهم من التّكاليف الشّاقّة عليهم، و الأحكام غير المرضيّة لهم، خالفوه و عادوه.

ثمّ كأنّه قيل: كيف خالفوا الرّسل، و ما عاملوا (4)معهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا هم من غير أن يتعرّضوا لهم بالإضرار و القتل وَ فَرِيقاً آخر منهم كانوا يَقْتُلُونَ هم كزكريّا و يحيى.

ص: 413


1- . سورة البقرة:2/62.
2- . تفسير روح المعاني 6:203. (3 و 4) . كذا، و الظاهر: كيف تعاملوا.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 71

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة جرأتهم على الأنبياء بقوله: وَ حَسِبُوا و ظنّوا لغرورهم بكونهم أولاد الأنبياء، و أنّهم بشفاعتهم يدفعون عنهم العذاب أَلاّ تَكُونَ لهم بمعاصيهم فِتْنَةٌ و بلاء من اللّه فَعَمُوا عن رؤية الآيات، و كفّ بصرهم عن إدراك المعجزات وَ صَمُّوا عن استماع الحقّ الذي ألقى إليهم الرّسل.

وَ حَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)قيل: كانت تلك الحالة إلى زمان داود و سليمان عليهما السّلام ثُمَّ تابَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ (1)بسبب إيمانهم بهما، و انقيادهم لهما ثُمَّ عَمُوا عن الدّين و طريق الهداية وَ صَمُّوا عن استماع مواعظ الأنبياء مرّة اخرى، و لكن لا كلّهم بل كَثِيرٌ مِنْهُمْ بعد بعثة عيسى عليه السّلام و خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ قليلا منهم آمنوا بهما.

قيل: إنّهم أفسدوا حتّى سلّط اللّه عليهم بخت نصّر، فقتل من أهل بيت المقدس أربعين ألفا ممّن يقرأ التّوراة، و ذهب بالبقيّة إلى أرضه، فبقوا هنالك على أقصى ما يكون من الذّل و النّكد إلى أن أحدثوا توبة صحيحة، فردّهم اللّه إلى أحسن حال، ثمّ أفسدوا مرّة أخرى فسلّط اللّه عليهم ملك بابل (2).

ثمّ هدّدهم على سيّئاتهم بقوله: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ و خبير بِما يَعْمَلُونَ من تكذيب الرّسل و قتلهم، و سائر معاصيهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 72

ثمّ أنّه تعالى بعد الفراغ من ذمّ اليهود، شرع في ذمّ النّصارى و بيان غاية كفرهم و ضلالهم، فبدأ بذكر الفرقة التي هي أضلّ فرقهم بقوله: لَقَدْ كَفَرَ القوم اَلَّذِينَ قالُوا و أعتقدوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ و هم اليعقوبيّة القائلون بحلول اللّه في عيسى، و اتّحاده معه، وَ الحال أنّه قالَ اَلْمَسِيحُ حين كونه فيهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُعْبُدُوا اَللّهَ و لا تشركوا به شيئا، و خصّوه بالخضوع و الطّاعة لكونه رَبِّي وَ رَبَّكُمْ و خالقي و خالقكم.

لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ اَلْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُعْبُدُوا اَللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ اَلنّارُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)

ص: 414


1- . تفسير الرازي 12:58.
2- . تفسير روح البيان 2:421.

و اعلموا أنّه قد اوحي إليّ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ شيئا في الالوهيّة و العبوديّة فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ فلن يدخلها أبدا لأنّها دار الموحّدين وَ مَأْواهُ و مسكنه في الآخرة هو اَلنّارُ لأنّها معدّة للمشركين وَ ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الشّرك مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم و يدفعون عنهم العذاب بالغلبة أو الشّفاعة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 73

ثمّ ذمّ سبحانه الفرقة الاخرى منهم، و هم الملكانيّة أو النّسطوريّة-على ما قيل (1)-و حكم بكفرهم أيضا بقوله: لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ عيسى و امّه إلهان، و إنّ اَللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ آلهة، وَ الحال أنّه ما مِنْ إِلهٍ و معبود مستحقّ بالذّات للعبوديّة إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ و معبود فارد، هو الواجب الوجود، الكامل الصّفات.

لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)ثمّ هدّد الفريقين بقوله: وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا و لم يرتدعوا عَمّا يَقُولُونَ و يعتقدون من الشّرك باللّه لَيَمَسَّنَّ و ليصيبنّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و ثبتوا على الشّرك مِنْهُمْ في الآخرة عَذابٌ بالنّار أَلِيمٌ في الغاية.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 74

ثمّ أنشأ معنى التّعجّب من اختيارهم هذه الأقاويل الفاسدة، و إصرارهم عليها، و أنكر عليهم ترك التّوبة حثّا عليها بقوله: أَ فَلا يَتُوبُونَ .

أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اَللّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)قيل: إنّ التّقدير: أيصرّون على الكفر، فلا يتوبون (2)؟ ! إِلَى اَللّهِ حتّى يتوب عليهم وَ لا يَسْتَغْفِرُونَهُ حتّى يغفر لهم وَ اَللّهُ غَفُورٌ لمن عصاه بالكفر أو غيره من المعاصي إن آمن و تاب رَحِيمٌ بمن استرحمه.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 75

ثمّ بيّن سبحانه غاية شأن عيسى و امّه بقوله: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ الذي تغلون في شأنه إِلاّ

مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اَلْآياتِ ثُمَّ اُنْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ (75)

ص: 415


1- . تفسير روح البيان 2:422.
2- . تفسير روح البيان 2:423.

رجل مخلوق للّه، و مربوب له، و إنّما امتاز عن غيره بأنّه رَسُولٌ و مبلّغ عن اللّه شرائعه و أحكامه، و له معجزات باهرة قَدْ خَلَتْ و مضت في العالم مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ الكثيرة، خصّهم بالمعاجز العظيمة؛ كاليد البيضاء، و إحياء العصا و جعلها ثعبانا، و فلق البحر، و غير ذلك، و لم يدّع أحد ألوهيّتهم بظهور المعجزات منهم، هذا شأن عيسى عليه السّلام، وَ أمّا أُمُّهُ مريم فإنّها أيضا امرأة مخلوقة، غاية شأنها أنّها صِدِّيقَةٌ موقنة، مصدّقة بكلمات ربّها و كتبه كسائر الصدّيقات، مثل حوّاء و آسية. و أدلّ الدّليل على عدم كونهما إلهين أنّهما كانا في الدّنيا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ و الإله الخالق منزّه عن الحاجة إلى الطّعام و الشّراب.

في (العيون) : عن الرضا عليه السّلام: «معناه: أنّهما كانا يتغوّطان» (1).

و القمّي: «كانا يحدثان، فكنّى عن الحدث، و كلّ من أكل الطّعام يحدث» (2).

أقول: عليه بعض مفسّري العامّة (3).

عن (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، في جواب الزّنديق، قال: «و أمّا هفوات ا لأنبياء و ما بيّن اللّه في كتابه، فإنّ ذلك من أدلّ الدلائل على حكمة اللّه الباهرة» إلى أن قال: «ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى، حيث قال فيه و في امّه: كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ يعني: أنّ من أكل الطّعام كان له ثقل (4)، و من كان له ثقل فهو بعيد ممّا أدّعته النّصارى لابن مريم» (5).

ثمّ باهى سبحانه بإبطال عقيدتهم بأحسن بيان بقوله: اُنْظُرْ يا محمّد كَيْفَ نُبَيِّنُ و نوضّح لَهُمُ اَلْآياتِ و نقيم البراهين المحكمات على بطلان عقائدهم.

ثمّ بالغ سبحانه في الإعلان بغاية ضلالتهم و بعدهم عن الحقّ بقوله: ثُمَّ اُنْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ و كيف يصرفون عن الحقّ و استماع الآيات و التّأمّل فيها.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 76

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتوبيخهم، و إقامة البرهان على فساد عقيدتهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء النصارى: أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه ما لا يَمْلِكُ بنفسه و بذاته ضَرًّا من

قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اَللّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (76)

ص: 416


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:201/1، تفسير الصافي 2:73.
2- . تفسير القمي 1:176، تفسير الصافي 2:73.
3- . راجع: تفسير القرطبي 6:250.
4- . كذا في المصدر و النسخة، و الظاهر: ثفل، كما في تفسير الصافي، و الثفل: ما سفل أو رسب من كل شيء.
5- . الاحتجاج:249، تفسير الصافي 2:73.

الآلام و الأسقام و الفقر وَ لا نَفْعاً من الصحّة و الغنى و العزّ.

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ اَللّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقوالهم اَلْعَلِيمُ بعقائدهم، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 77

ثمّ أنّه تعالى بعد تفضيح أهل الكتاب و ذمّهم و توبيخهم، أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنصحهم بقوله: قُلْ يا محمّد، مخاطبا للفريقين: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا و لا تجاوزوا فِي دِينِكُمْ و عقائدكم عن الحدّ غلوّا و تجاوزا غَيْرَ اَلْحَقِّ كادّعاء الوهيّة عيسى و امّه، و بنوّة عزير للّه وَ لا تَتَّبِعُوا في العقائد و الأعمال أَهْواءَ قَوْمٍ و ميول أنفس جمع جمعوا جميع مراتب الضّلال، و هم أسلافهم و أئمّتهم الّذين قَدْ ضَلُّوا عن الحقّ مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السّابقة على بعثة خاتم الرّسل وَ أَضَلُّوا كَثِيراً ممّن تابعهم على ضلالهم و بدعهم وَ ضَلُّوا بعد ظهور نور الإسلام عَنْ سَواءِ اَلسَّبِيلِ و النّهج الحقّ المستقيم الذي دعوا إليه.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ اَلسَّبِيلِ (77)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 78 الی 79

ثمّ لمّا نهاهم اللّه عن اتّباع الأسلاف لكونهم في غاية الضّلال و الإضلال، و كانوا مفتخرين بأنّهم كانوا من أولاد الأنبياء، بالغ سبحانه في ذمّهم بكون أسلافهم ملعونين في ألسنة الأنبياء بقوله: لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مع كونهم أقرب منكم إلى الأنبياء، و قد كان لعنهم عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ .

لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)

في ذكر مسخ بني

إسرائيل قردة

و خنازير

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا داود فإنّه لعن أهل أيلة (1)لمّا اعتدوا في سبتهم، و كان اعتداؤهم في زمانه، فقال: اللّهمّ ألبسهم اللّعنة مثل الرّداء على المنكبين، و مثل المنطقة (2)على الحقوين (3)، فمسخهم اللّه قردة، و أمّا عيسى عليه السّلام فإنّه لعن الّذين انزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك» (4).

ص: 417


1- . أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، و هي مدينة لليهود الذين حرّم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت فخالفوا، فمسخوا قردة و خنازير.
2- . المنطقة: ما يشدّ في الوسط.
3- . الحقو: الخصر.
4- . مجمع البيان 3:357؛ تفسير الصافي 2:74.

و زاد في (الجوامع) : «فقال عيسى عليه السّلام: اللّهمّ عذّب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لا تعذّبه أحدا من العالمين، و العنهم كما لعنت أصحاب السّبت فصاروا خنازير، و كانوا خمسة آلاف رجل» (1).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام: «الخنازير على لسان داود، و القردة على لسان عيسى بن مريم» (2). و به قال أكثر المفسّرين، على ما قيل (3).

ثمّ كأنّه قيل: بأيّ سبب وقع ذلك؟ (4)فأجاب بقوله: ذلِكَ اللّعن و المسخ وقع بِما عَصَوْا اللّه.

القمّي رحمه اللّه: كانوا يأكلون لحم الخنزير، و يشربون الخمر، و يأتون النّساء أيام حيضهنّ (5)وَ كانُوا يَعْتَدُونَ على النّاس، أو يبالغون في العصيان، و في ارتكاب ما حرّم اللّه عليهم.

ثمّ بيّن كيفيّة مبالغتهم في المعصية بقوله: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ و لا يرتدعون عَنْ مُنكَرٍ و إثم فَعَلُوهُ .

و قيل: إنّ المعنى: لا ينهى بعضهم [بعضا]عن قبيح يعملونه، و تصالحوا على السّكوت و الكفّ عن النهي (6).

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «لمّا وقع التّقصير في بني إسرائيل جعل الرّجل [منهم]يرى أخاه في الذّنب فينهاه فلا ينتهي، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله و جليسه و شريبه، حتى ضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض، و نزل فيهم القرآن يقول جلّ و عزّ: لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا الآية» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «لم يكونوا يدخلون مداخلهم، و لا يجلسون مجالسهم، و لكن إذا لقوهم (8)أنسوا بهم» (9).

ثمّ قال سبحانه تعجيبا من سوء فعلهم مؤكّدا له بأنفسهم بقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ .

القمّي رحمه اللّه، عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل [عن]قوم من الشّيعة يدخلون في أعمال السّلطان، و يعملون لهم، و يجبون لهم و يوالونهم؟ قال: «ليس هم من الشّيعة، و لكنّهم من اولئك، ثمّ قرأ: لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا. . .» (10).

ص: 418


1- . جوامع الجامع:116، تفسير الصافي 2:74.
2- . تفسير القمي 1:176، الكافي 8:200/240، تفسير الصافي 2:74.
3- . راجع: تفسير الرازي 12:63.
4- . تفسير روح البيان 2:425.
5- . تفسير القمي 1:176، تفسير الصافي 2:75.
6- . تفسير روح البيان 2:425.
7- . ثواب الأعمال:262، تفسير الصافي 2:75.
8- . في تفسير العياشي: و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و.
9- . تفسير العياشي 2:67/1322، تفسير الصافي 2:75.
10- . تفسير القمي 1:176، تفسير الصافي 2:75.

أقول: أظنّ أن ذكر الآية سهو من الرّاوي، فإنّ المناسب قوله: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 80

ثمّ لمّا وصف اللّه تعالى أسلافهم بفساد العقائد و الأعمال، ذمّ الحاضرين منهم بموالاة الكفّار بقوله: تَرى يا محمّد كَثِيراً مِنْهُمْ و هم كعب بن اشرف و أصحابه، على ما قيل (2). يَتَوَلَّوْنَ و يتصادقون [مع]

اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالإشراك باللّه، و اللّه لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ و هيّأوا لسفر آخرتهم من الزّاد و هو أَنْ سَخِطَ اَللّهُ و غضب عَلَيْهِمْ بتولّيهم الكفّار، و بغضهم الرّسول و المؤمنين وَ فِي اَلْعَذابِ بالنّار هُمْ في الآخرة خالِدُونَ مقيمون أبدا.

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي اَلْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 81

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم ليسوا على دين موسى عليه السّلام أيضا بقوله: وَ لَوْ كانُوا هؤلاء اليهود الّذين يتولّون المشركين يُؤْمِنُونَ عن صميم القلب بِاللّهِ وَ اَلنَّبِيِّ الذي يدّعون أنّهم على دينه، و يعترفون بنبوّته، و هو موسى عليه السّلام وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التّوراة، ما تصادقوا [مع]

المشركين، و مَا اِتَّخَذُوهُمْ لأنفسهم أَوْلِياءَ و أحبّاء؛ لأنّ حرمة مولاة المشركين متأكّدة في التّوراة و في شرع موسى عليه السّلام وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دين موسى و حكم التّوراة، و إنّما غرضهم من إظهار التديّن بأحكام التّوراة و دين موسى عليه السّلام حفظ الجاه و الرئاسة، كذا قيل (3).

وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلنَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اِتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)و قيل: إنّ المراد أنّ المشركين لو كانوا مؤمنين باللّه و بمحمّد و كتابه ما اتّخذهم هؤالاء اليهود أولياء (4). و ذلك بعيد في الغاية.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 82

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

ص: 419


1- . المائدة:5/80.
2- . تفسير الرازي 12:65. (3 و 4) . تفسير الرازي 12:65.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم بموالاة المشركين، ذمّهم بمعاداة المؤمنين كمعاداة المشركين لهم بقوله: لَتَجِدَنَّ باللّه يا محمّد أَشَدَّ اَلنّاسِ عَداوَةً و أكثرهم بغضا لِلَّذِينَ آمَنُوا بك و اتّبعوك اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا من العرب لشدّة حرص الفريقين على الدّنيا و الجاه.

قيل: إنّ مذهب اليهود وجوب الإضرار بمن خالفهم في الدّين، و أمّا النّصارى فمذهبهم كفّ الأذى عن الغير مطلقا (1)، و لذا قال سبحانه: وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ قالُوا و ادّعوا إِنّا نَصارى .

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: المراد به النّجاشي و قومه الّذين قدموا من الحبشة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و آمنوا به، و لم يرد جميع النّصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين (2).

قيل: إنّ الغرض من بيان التّفاوت تخفيف أمر اليهود على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (3)، و تفريغ خاطره عنهم، و عدم مبالاته بهم.

قيل: كان جعفر يوم وصل المدينة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وصل في سبعين رجلا عليهم ثياب صوف، منهم اثنان و ستّون رجلا من الحبشة، و ثمانية من أهل الشّام منهم بحيرا الرّاهب، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن، فآمنوا و قالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. فأنزل اللّه هذه الآية (1).

ثمّ كأنّه قيل: ما سبب كونهم أقرب مودّة؟ (5)فأجاب بقوله: ذلِكَ الأقربيّة التي قلنا بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ و علماء، وَ منهم رُهْباناً و عبّادا وَ أَنَّهُمْ بسبب علمهم و زهدهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحقّ، و لا يتأنّفون من الإيمان بك كاليهود.

قيل: كان الّذين آمنوا به أصحاب الصّوامع (6).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 83 الی 85

وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ (83) وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ اَلْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلصّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اَللّهُ بِما قالُوا جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلْمُحْسِنِينَ (85)

ص: 420


1- . تفسير روح البيان 2:428. (5 و 6) . تفسير روح البيان 2:428.

ثمّ وصف شدّة تأثّرهم باستماع الحقّ بقوله: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ من آيات القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ عند استماعه تَفِيضُ و تصبّ مِنَ اَلدَّمْعِ لامتلائها منه مِمّا عَرَفُوا ما انزل على الرّسول مِنَ اَلْحَقِّ .

عن ابن عبّاس: يريد النّجاشي و أصحابه، و ذلك أنّ جعفر الطّيّار قرأ عليهم سورة مريم، فأخذ النّجاشي تبنة من الأرض و قال: و اللّه ما زاد على ما قال اللّه في الإنجيل مثل هذا، و ما زالوا يبكون حتّى فرغ جعفر من القراءة (1).

ثمّ كأنّه قيل: ما كانوا يقولون عند استماع القرآن؟ (2)فأجاب بقوله: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا بأنّ ما سمعناه هو الحقّ، و شهدنا به، إذن فَاكْتُبْنا و أثبت أسماءنا مَعَ أسماء اَلشّاهِدِينَ على أنّ ما أنزلته هو الحقّ،

و اجعلنا في زمرتهم وَ ما العذر لَنا و لأيّ علّة لا نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما جاءَنا مع وضوح أنّه مِنَ اَلْحَقِّ الثّابت من عند اللّه، وَ الحال أنّا نَطْمَعُ و نتوقّع أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا في جنّته مَعَ اَلْقَوْمِ اَلصّالِحِينَ و يرزقنا مرافقتهم و صحبتهم

فَأَثابَهُمُ اَللّهُ و جازاهم بِما قالُوا من الاعتراف بالحقّ، و الشّهادة عليه، و إظهار الإيمان عن صميم القلب.

عن ابن عبّاس [قال: قوله: بِما قالُوا يريد بما سألوا]، يعني قولهم: فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ (3).

جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار ملتفّة، و غرف عالية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا وَ ذلِكَ الجزاء الأوفى من اللّه جَزاءُ اَلْمُحْسِنِينَ في عقائدهم و أقوالهم و أعمالهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 86

ثمّ أردف اللّه سبحانه وعد المحسنين بالثّواب بإيعاد الكافرين بالعقاب بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من القرآن بعد ما سمعوها، و جحدوا المعجزات بعدما شاهدوها أُولئِكَ في الآخرة أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ و ملازموها.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ (86)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 87

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ (87)

ص: 421


1- . تفسير الرازي 12:68.
2- . تفسير أبي السعود 3:72.
3- . تفسير الرازي 12:69.

ثمّ لمّا ناظر اللّه سبحانه (1)اليهود و النّصارى، و أبطل عقائدهم الفاسدة بالحجج القاطعة، و مدح النّصارى و قسّيسيهم و رهبانهم بمودّة المؤمنين، و عدم الاستنكاف عن التّسليم للحقّ، و كان مجال توهّم حسن الرّهبانيّة و مشروعيتها في دين الإسلام، بيّن حرمتها في هذا الدّين، و إباحة المأكولات و المشروبات الطّيّبة، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا على أنفسكم طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ و لذائذ ما أباحه ممّا لا ضرر فيه عليكم وَ لا تَعْتَدُوا و لا تجاوزوا عن الحدود المقرّرة في دينكم إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ عن حدوده، المجاوزين عن شرائعه.

في التزام بعض

الصحابة بترك

الطيّبات

عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و بلال و عثمان بن مظعون، فأمّا أمير المؤمنين فحلف أن لا ينام بالليل أبدا، و أمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنّهار أبدا، و أمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا» .

و زاد القمّي: «فدخلت امرأة عثمان على عائشة و كانت امرأة جميلة، فقالت عائشة: مالي أراك متعطلة (2)؟ فقالت: لمن أتزيّن، فو اللّه ما قربني زوجي منذ كذا و كذا، فإنّه قد ترهّب و لبس المسوح (3)و زهد في الدّنيا، فلمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبرته عائشة بذلك، فخرج فنادى: الصّلاة جامعة، فاجتمع النّاس فصعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات؟ ! [ألا]إنّي أنام باللّيل، و أنكح و أفطر بالنّهار، فمن رغب عن سنتي فليس منّي، فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول اللّه، فقد حلفنا على ذلك. فأنزل اللّه لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» (4).

و في (الاحتجاج) : عن الحسن بن علي عليهما السّلام-في حديث-أنّه قال لمعاوية و أصحابه: «أنشدكم اللّه، أتعلمون أنّ عليّا أوّل من حرّم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ» (5).

في نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

عن التّرهب

و عن بعض مفسّري العامّة أنّه ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما النّار، و وصف القيامة، و بالغ في الإنذار، فرقّ له النّاس و بكوا، فاجتمع عشرة من الصّحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، و تشاوروا و اتّفقوا على أن يترهّبوا و يلبسوا المسوح، و يجبّوا مذاكيرهم (6)، و يصوموا الدّهر، و يقوموا اللّيل و لا يناموا على الفراش، و لا يأكلوا اللّحم و الودك (7)، و لا يقربوا النّساء

ص: 422


1- . زاد في النسخة: مع.
2- . أي غير متزينة بالحلي.
3- . المسوح: جمع مسح، و هو كساء من شعر، و لباس الراهب.
4- . مجمع البيان 3:364، تفسير القمي 1:179، تفسير الصافي 2:79، و الآية من سورة المائدة:5/89.
5- . الاحتجاج:273، تفسير الصافي 2:80.
6- . جبّ المذاكر: قطعها.
7- . الودك: الدّسم و الشحم.

و الطّيب، و يسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه، فقال لامرأته أمّ حكيم بنت اميّة، و اسمها خولة، و كانت عطّارة: «أحقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه» ، فكرهت أن تكذّب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كرهت أن تبدي خبر زوجها، فقالت: يا رسول اللّه، إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق.

فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا جاء عثمان أخبرته زوجته بذلك، فمضى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فسأله النبيّ عن ذلك، فقال: نعم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أما إنّي لم آمر بذلك، إنّ لأنفسكم [عليكم]حقّا، فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا، فإنّي أقوم و أنام، و أصوم و افطر، و آكل اللّحم و الدّسم، و آتي النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» .

ثمّ جمع النّاس و خطبهم و قال: «ما بال أقوام حرّموا النّساء و الطّعام و الطّيب و النّوم و شهوات الدّنيا؟ ! أمّا إنّي لا آمركم أن تكونوا قسّيسين و لا رهبانا، فإنّه ليس من ديني ترك اللّحم و النّساء، و لا اتّخاذ الصّوامع، و إنّ سياحة امّتي الصّوم، و رهبانيتهم الاجتهاد، فاعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا، و حجّوا و اعتمروا، و أقيموا الصّلاة و آتوا الزّكاة، و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من هلك قبلكم بالتّشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم، فاولئك بقاياهم في الدّيارات و الصوامع» ، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

و روي أنّ عثمان بن مظعون جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ نفسي تحدّثني بأن أختصي، فأذن لي في الاختصاء. قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ اختصاء امّتي الصّيام» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني بأن أترهّب في رؤوس الجبال؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ ترهّب امّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصّلاة» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني بأن أخرج من مالي كلّه؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإن صدقتكم يوما بيوم، و تعفّ نفسك و عيالك، و ترحم المساكين و اليتيم فتعطيهم، أفضل من ذلك» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني أن اطلّق زوجتي خولة؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ الهجرة في امّتي من هجر ما حرّم اللّه عليه، أو هاجر [إليّ]في حياتي، أو زار قبري بعد وفاتي، أو مات و له امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع» .

قال: يا رسول اللّه، فإن نهيتني أن لا اطلّقها، فإنّ نفسي تحدّثني أن لا أغشاها؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ المسلم إذا غشي امرأته أو ما ملكت يمينه، فلم يكن [له]من وقعته تلك ولد، كان له وصيف في

ص: 423


1- . تفسير روح البيان 2:431.

الجنّة، و إن كان له من وقعته تلك ولد فمات قبله، كان له فرطا و شفيعا يوم القيامة، و إن مات بعده كان له نورا يوم القيامة» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني أن لا آكل اللّحم؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّي احبّ اللّحم و آكله إذا وجدته، و لو سألت ربّي أن يطعمنيه في كلّ يوم لأطعمنيه» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني أن لا أمسّ الطّيب؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ جبرئيل أمرني بالطّيب غبا (1)و قال: يوم الجمعة لا مترك له، يا عثمان لا ترغب عن سنّتي، فمن رغب عن سنّتي ثمّ مات قبل أن يتوب، صرفت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 88

ثمّ صرّح سبحانه بإباحة المأكولات و المشروبات الطيّبة بقوله: وَ كُلُوا أيّها المؤمنون مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حال كونه حَلالاً طَيِّباً و مباحا لذيذا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ في تحريم ما حلّل، و تحليل ما حرّم، فإنّ الإيمان موجب للالتزام بأحكام اللّه و الاجتناب عن مخالفتها و التّجاوز عن حدوده.

وَ كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 89

ثمّ لمّا كان نزول الآية في شأن بعض كبار الصّحابة الّذين حلفوا على ترك الطيّبات و قالوا: يا رسول اللّه، ما نصنع بأيماننا؟ بيّن اللّه حكم اليمين و كفّارته بقوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بالكفّارة في الدّنيا، و بالنّار في الآخرة بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ و حلفكم غير المقصود به الجدّ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ و وثّقتم اَلْأَيْمانَ بألسنتكم و قلوبكم إذا حنثتم، فمن حلف و حنث فَكَفّارَتُهُ و ما يستر به ذنبه إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ و تغذيتهم مشبعا، أو إعطاء كلّ مدّا مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ و أقصد ما ترزقون عيالكم.

لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

ص: 424


1- . الطّيب غبا: أي يوم يتطيب و يوم لا.
2- . تفسير روح البيان 2:431.

في كفارة اليمين

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «الوسط: الخلّ و الزيتون (1)، و أرفعه الخبز و اللّحم، و الصّدقة مدّ (2)من حنطة لكلّ مسكين» (3).

و عنه عليه السّلام: «كما يكون في البيت، فمنهم من يأكل أكثر من المدّ، و منهم من يأكل أقلّ من المدّ فبين ذلك، و إن شئت جعلت [لهم]ادما (4)، و الادم أدناه الملح، و أوسطه الخلّ و الزّيت، و أرفعه اللّحم» (5).

عن الباقر عليه السّلام: «ما تقوتنّ به عيالك من أوسط ذلك. [قيل: و ما أوسط ذلك؟]فقال: الخلّ و الزّيت و التّمر و الخبز تشبعهم به مرّة واحدة» (6).

أَوْ كِسْوَتُهُمْ، عنه عليه السّلام، قال: «ثوب واحد» (7).

و في رواية: «ثوب يواري [به]عورته» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «الكسوة ثوبان» (7).

أقول: هذا محمول على ما إذا لم يواره واحد.

أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و إعتاق نسمة ذكرا كانت أو انثى، صغيرا أو كبيرا، لإطلاق الآية و الرّواية.

و عن الصادق عليه السّلام: «كلّ شيء في القرآن (أو) فصاحبه [فيه]بالخيار، يختار ما يشاء» (8).

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شيئا من الأمور المذكورة، عن الكاظم عليه السّلام، أنّه سئل عن كفّارة اليمين، ما حدّ من لم يجد، و إن الرّجل يسأل في كفّه و هو يجد؟ فقال: «إذا لم يكن عنده فضل من قوت عياله فهو ممّن لا يجد» (9)فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ يكون كفّارتها.

عن الصادق عليه السّلام: «كلّ صوم يفرّق فيه، إلاّ ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين» (10).

و عنه عليه السّلام: «صيام ثلاثة [أيام]في كفّارة اليمين [متتابعات]لا يفصل بينهنّ» (11).

و قرأ ابن مسعود: ثلاثة أيّام متتابعات (12).

ذلِكَ الذي ذكر و أمر به كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ و حنثتم وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ من أن تكثروا و من أن يحنث فيها، أو بالتّكفير بعد حنثها كَذلِكَ البيان الواضح يُبَيِّنُ اَللّهُ و يوضّح لَكُمْ آياتِهِ و حججه الدّالّة على معارفه و سائر أحكامه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة تعليمه و تبيينه

ص: 425


1- . في المصدر: و الزيت.
2- . زاد في المصدر: مدّ.
3- . الكافي 7:452/5، تفسير الصافي 2:80.
4- . الأدم: ما يستمرأ به الخبز.
5- . الكافي 7:453/7، تفسير الصافي 2:81. (6 و 7) . الكافي 7:454/14، تفسير الصافي 2:81.
6- . الكافي 7:452/4، تفسير الصافي 2:81.
7- . الكافي 7:452/3، تفسير الصافي 2:81.
8- . تفسير العياشي 2:71/1336، تفسير الصافي 2:81.
9- . الكافي 7:452/2، تفسير الصافي 2:81.
10- . الكافي 4:140/1، تفسير الصافي 2:81.
11- . الكافي 4:140/2، تفسير الصافي 2:81.
12- . تفسير الرازي 12:77.

جميع ما تحتاجون إليه.

في أقسام اليمين

عن الصادق عليه السّلام: «الأيمان ثلاثة: [يمين]ليس فيها كفّارة، و يمين فيها كفّارة، و يمين غموس توجب النّار، فاليمين التي ليس فيها كفّارة: الرّجل يحلف [باللّه]على باب برّ أن [لا]يفعله [فكفارته أن يفعله]، و اليمين التي تجب فيها الكفارة: الرّجل [يحلف]على باب معصية أن لا يفعله فيفعله، فتجب عليه الكفّارة، و اليمين الغموس التي توجب النّار: الرّجل يحلف على حقّ امرئ مسلم و (1)على حبس ماله» (2).

و عنه عليه السّلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فأتى ذلك، فهو كفّارة يمينه» (3).

و عنه عليه السّلام: «ما حلفت عليه ممّا فيه البرّ فعليك الكفّارة إذا لم تف به، و ما حلفت عليه ممّا فيه المعصية فليس عليك فيه الكفّارة إذا رجعت عنه، و ما كان سوى ذلك ممّا ليس فيه برّ و لا معصية فليس بشيء» (4).

و عنه عليه السّلام: «لا حنث و لا كفّارة على من حلف تقيّة، يدفع بذلك ظلما عن نفسه» (5).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «لا يمين لولد مع والده، و لا للمرأة مع زوجها» (6).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 90 الی 91

ثمّ لمّا نهى اللّه تعالى عن تحريم طيّبات ما أحلّ، بيّن أنّ الخمر و ما أردفها ليس منها، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ الذي يدخل فيه كلّ مسكر وَ اَلْمَيْسِرُ و ما يقامر به وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ -و قد مرّ تفسيرهما (7)-كلّ ذلك رِجْسٌ و قذر تتنفّر منه العقول السّليمة، كائن مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ و تزيينه الدّاعي إليه، و هو كناية عن نهاية قبحه. فإذا كان كذلك فَاجْتَنِبُوهُ و احترزوا عنه لَعَلَّكُمْ باجتنابه تُفْلِحُونَ و تفوزون بسعادة الدّارين.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)عن الباقر عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه ما الميسر؟ فقال: كل ما تقومر عليه حتّى

ص: 426


1- . (و) ليست في الكافي.
2- . الكافي 7:438/1، تفسير الصافي 2:81.
3- . الكافي 7:443/2، تفسير الصافي 2:82.
4- . الكافي 7:446/5، تفسير الصافي 2:82.
5- . الخصال:607/9، تفسير الصافي 2:82.
6- . الخصال:621/10، تفسير الصافي 2:82.
7- . تقدم في تفسير الآية 219 من سورة البقرة.

الكعاب و الجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم، قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها» (1).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية: «أمّا الخمر، فكلّ مسكر من الشّراب إذا خمر فهو خمر، و ما أسكر (2)كثيره فقليله حرام، و ذلك أنّ أبا بكر شرب قبل أن يحرّم الخمر، فسكر فجعل يقول الشّعر و يبكي على قتلى المشركين من أهل بدر، فسمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: اللّهمّ فامسك على لسانه، فلم يتكلّم حتّى ذهب عنه السّكر، فأنزل اللّه تحريمها بعد ذلك، و إنّما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ (3)البسر و التّمر، فلمّا نزل تحريمها خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقعد بالمسجد ثمّ دعا بآنيتهم التي كانو ينبذون فيها فأكفاها كلّها و قال: هذه كلّها خمر، و قد حرّمها اللّه، فكان أكثر شيء كفئ في ذلك اليوم من الأشربة الفضيخ، و لا أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شيء، إلاّ إناء واحد كان فيه زبيب و تمر جميعا. و أما عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شيء، حرّم اللّه الخمر قليلها و كثيرها، و بيعها و شراءها، و الانتفاع بها.

في عقاب شارب

الخمر و حدّه

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الرّابعة فاقتلوه.

و قال: حقّ على اللّه أن يسقي من شرب الخمر ممّا يخرج من فروج المومسات. و المومسات: الزّواني يخرج من فروجهنّ صديد؛ و الصّديد: قيح و دم غليظ مختلط يؤذي أهل النّار حرّه و نتته.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من شرب الخمر لم تقبل صلاته أربعين ليلة، فإن عاد فأربعين ليلة من يوم شربها، فإن مات في تلك الأربعين من غير توبة، سقاه اللّه يوم القيامة من طينة خبال.

و سمّي المسجد الذي قعد فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم أكفئت الأشربة مسجد الفضيخ من يومئذ، لأنّه كان أكثر شيء اكفئ من الأشربة الفضيخ.

و أما الميسر، فالنّرد و الشّطرنج، و كلّ قمار ميسر، و أمّا الأنصاب فالاوثان التي كان يعبدها المشركون، و أمّا الأزلام فالأقداح التي كان يستقسم بها مشركو العرب في الأمور في الجاهليّة، كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشيء منه حرام من اللّه، و هو رجس من عمل الشّيطان، فقرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخمر عشرة: عارسها، و حارسها، و عاصرها، و شاربها،

ص: 427


1- . الكافي 5:122/2، تفسير الصافي 2:82.
2- . في تفسير القمي: فهو حرام و أما المسكر.
3- . الفضيخ: شراب البسر من غير أن تمسّه النار.
4- . تفسير القمي 1:180، تفسير الصافي 2:82.

و ساقيها، و حاملها، و المحمول إليه، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها» (1).

في بيان حكمة

حرمة الخمر

و الميسر

ثمّ أنّه تعالى بعد الجمع بين الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام في النّهي مبالغة في قبح تعاطيهما، أفردهما بذكر مفاسدهما الدّنيويّة و الاخرويّة، فبدأ بذكر مفاسدهما الدّنيويّة بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ بسبب تعاطيهما أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ مع غاية ائتلافكم اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ و التّنازع و التّحاقد فِي شرب اَلْخَمْرِ وَ عمل اَلْمَيْسِرِ و بسببهما، لوضوح أنّ ذهاب العقل و المال موجبان لهيجان الغضب على من خالف هوى السّكران، و ذهب بمال المغلوب في المقامرة، فتقع المنازعة بين المخمورين فيضاربون و يقاتلون، و العداوة الشّديدة بين الغالب و المغلوب في المقامرة.

ثمّ ذكر المفاسد الاخرويّة بقوله: وَ يَصُدَّكُمْ الشّيطان و يمنعكم عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ و التّوجّه إليه بالقلب.

ثمّ خصّ الصّلاة بالذّكر مع أنّها من الذّكر بقوله: وَ عَنِ اَلصَّلاةِ تعظيما لشأنها بين العبادات، و إشعارا بأنّ الصدّ عنها كالصدّ عن الإيمان لأنّها عماده و ركنه.

ثمّ بالغ سبحانه بعد ذكر مفاسدهما في الرّدع عنهما بإنشاء الاستفهام التّقريري عن انتهائهم عنها بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ أيّها المسلمون بعد هذا النّهي الأكيد و الاطّلاع بمفاسدهما مُنْتَهُونَ عنهما، مرتدعون عن ارتكابهما أم لا؟ !

روي أنّ عمر لما سمعها قال: قد انتهينا يا ربّ (2).

في بيان وجوه

التأكيد في حرمة

شرب الخمر

ففي الآيتين وجوه من التّأكيد في تحريم الخمر و الميسر: الأوّل: حصر الرّجس فيهما و في قرينتيهما بكلمة (إنّما) .

و الثاني: تقرينهما بعبادة الأوثان.

و الثالث: الأمر باجتنابهما.

و الرابع: ترتيب الفلاح على تركهما.

و الخامس: شرح مفاسدهما الدّنيويّة و الاخرويّة.

و السّادس: المبالغة في الرّدع عنهما و الحثّ على اجتنابهما بالاستفهام التّقريري عن انتهائهم عنهما، فإنّه أمر بالانتهاء مقرونا بأخذ الإقرار من المكلّفين بامتثاله.

ص: 428


1- . الخصال:444/41، تفسير الصافي 2:83.
2- . تفسير الرازي 12:81.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 92

ثمّ زاد سبحانه في التّأكيد بقوله: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ في نهيه عنهما وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ اِحْذَرُوا عن مخالفتهما.

وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ اِحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (92)ثمّ هدّد على المخالفة بقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم عن الامتثال و الطّاعة فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و الرّسالة بالبيان الواضح حتّى تتمّ الحجّة عليكم، و قد فعل بما لا مزيد عليه، و أتمّ الحجّة بحيث لم يبق لكم مجال العذر، فليس في مخالفتكم إلاّ استحقاق العقاب الشّديد، و هو إلينا لا إليه.

عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «أما و اللّه، ما هلك من كان قبلكم، و ما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا إلاّ في ترك ولايتنا و جحود حقّنا، و ما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الدّنيا حتّى ألزم رقاب هذه الامّة حقّنا، و اللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 93

عن القمّي رحمه اللّه: لمّا نزل تحريم الخمر و الميسر و التّشديد في أمرهما، قال النّاس من المهاجرين و الأنصار: يا رسول اللّه، قتل أصحابنا و هم يشربون الخمر، و قد سمّاه اللّه رجسا و جعله من عمل الشّيطان، و قد قلت ما قلت، أفيضرّ أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا؟

لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (93)فأنزل اللّه سبحانه قوله: لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ (2)من فعل الواجبات و ترك المحرّمات جُناحٌ و بأس فِيما طَعِمُوا و أكلوا و استلذّوا به من المأكولات و المشروبات.

في (المجمع) : في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: «فيما طعموا من الحلال» (3).

إِذا مَا اِتَّقَوْا عن الكفر وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا جميع الكبائر وَ آمَنُوا باللّه و رسوله ثُمَّ اِتَّقَوْا الصّغائر وَ أَحْسَنُوا إلى الخلق.

و قيل: التّكرار للتّأكيد.

ص: 429


1- . الكافي 1:353/74، تفسير الصافي 2:84.
2- . تفسير القمي 1:181، تفسير الصافي 2:84.
3- . مجمع البيان 3:372.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ فائدة الإحسان ليس منحصرة في نفي الجناح، بل له فائدة عظيمة بقوله: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ فإنّ حبّ اللّه عبده أعظم الفوائد في الدّنيا و الآخرة، و أعلى المقامات للمؤمن، و لذا سمّي رسول اللّه من بين الرّسل بحبيب اللّه.

عن القمّي: هذا لمن مات قبل تحريم الخمر، و الجناح هو الإثم، و هو على من شربها بعد التّحريم (1).

و قيل: فِيما طَعِمُوا [أي]ممّا لم يحرّم عليهم إِذا مَا اِتَّقَوْا أي المحرّم وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أي ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصّالحات ثُمَّ اِتَّقَوْا أي ما حرّم عليهم بعد كالخمر وَ آمَنُوا بتحريمه ثُمَّ اِتَّقَوْا أي استمرّوا و ثبتوا على اتّقاء المعاصي وَ أَحْسَنُوا أي و تحرّوا الأعمال الجميلة و اشتغلوا بها (2).

و روى البهائي (أعلى اللّه مقامه) في (حاشية أسرار التنزيل) عن (مصباح الشريعة) : عن الباقر (3)عليه السّلام: «التّقوى على ثلاثة أوجه: تقوى في اللّه (4)؛ و هي ترك الحلال (5)فضلا عن الشّبهة، و هي تقوى خاصّ الخاصّ، و تقوى من اللّه؛ و هي ترك الشّبهات فضلا عن الحرام، و هي تقوى الخاصّ، و تقوى من خوف النّار و العقاب؛ و هي ترك الحرام، و هي تقوى العامّ.

و مثل التّقوى كماء يجري في نهر، و مثل هذه الطّبقات الثّلاث في معنى التّقوى كأشجار مغروسة على حافّة ذلك النّهر [من]كلّ لون و جنس، و كلّ شجر يمتص الماء من ذلك النّهر على قدر جوهره و طبعه و لطافته و كثافته، ثمّ منافع الخلق من تلك الأشجار و الثّمار على قدرها و قيمتها، قال اللّه تعالى صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ (6).

فالتّقوى في الطّاعات (7)كالماء للأشجار، و مثل طبائع الأشجار [و الأثمار]في لونها و طعمها مثل مقادير الإيمان، فمن كان أعلى درجة في الإيمان و أصفى جوهرا بالرّوح كان أتقى، و من كان أتقى كانت عبادته أخصّ و أظهر (8)، و من كان كذلك كان من اللّه أقرب، و كلّ عبادة غير مؤسّسة على التّقوى فهي هباء منثور، قال اللّه تعالى: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ (9). انتهى كلامه صلوات اللّه عليه.

ثمّ قال الشّيخ رحمه اللّه: فنقول في بيان ذلك: إنّ أوائل [درجات]الإيمان تصديقات مشوبة بالشّكوك

ص: 430


1- . تفسير القمي 1:182، تفسير الصافي 2:84.
2- . تفسير الصافي 2:84.
3- . في المصباح: الصادق.
4- . في المصباح: باللّه.
5- . في المصباح: الخلاف.
6- . الرعد:13/4.
7- . في المصباح: للطاعات.
8- . في المصباح: أخلص و أطهر.
9- . مصباح الشريعة:38، تفسير الصافي 2:85، و الآية من سورة التوبة:9/109.

و الشّبهات على اختلاف مراتبها، و يمكن معها الشّرك، كما قال سبحانه: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (1)، و يعبّر عنها بالإسلام، كما قال اللّه عزّ و جلّ: قالَتِ اَلْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ اَلْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (2)، و التقوى المتقدّمة عليها [هي]تقوى العامّ.

و أوسطها تصديقات لا يشوبها شك و لا شبهة، كما قال اللّه عزّ و جلّ: اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا (3)، و أكثر إطلاق الإيمان عليها خاصّة؛ كما قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (4)، و التّقوى المتقدّمة عليها [هي]تقوى الخاصّ.

و آخرها تصديقات كذلك، مع شهود و عيان، و محبّة كاملة للّه عزّ و جلّ، كما قال اللّه عزّ و جل: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ (5)، و يعبّر عنها تارة بالإحسان؛ كما ورد في الحديث النبوي: «الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه» (6)، و اخرى بالإيقان، كما قال اللّه: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (7)، و التّقوى المتقدّمة عليها [هي]تقوى خاصّ الخاصّ.

و إنّما قدّمت [التقوى]على الإيمان لأنّ الإيمان [إنما]يتحصّل و يتقوّى بالتّقوى، لأنّها كلّما ازدادت ازداد الإيمان بحسب ازديادها، و هذا لا ينافي تقدّم أصل الإيمان على التّقوى، بل ازديادها بحسب ازدياده، و أيضا لأنّ الدّرجة المتقدّمة لكلّ منها غير الدّرجة المتأخرة، و مثل ذلك مثل من يمشي بسراج في ظلمة، فكلّما أضاء له من الطّريق قطعة مشى فيها، فيصير ذلك المشي سببا لإضاءة قطعة ا خرى، و هكذا (8).

أقول: مقصود الشيخ من ذكر الرّواية و توضيحها توجيه تكرار الأمر بالتّقوى في الآية بالمراتب الثّلاث المذكورة في الرّواية.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «اتي عمر بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر و قامت عليه البيّنة، فسأل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، فأمره أن يجلد ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين، ليس عليّ حدّ، أنا من أهل هذه الآية لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لست من أهلها، إنّ طعام أهلها لهم حلال، ليس يأكلون و لا يشربون إلاّ ما أحلّه اللّه لهم. ثمّ قال عليّ عليه السّلام: إنّ الشّارب إذا شرب لم يدر ما يأكل و لا ما يشرب، فاجلدوه ثمانين جلدة» (9).

ص: 431


1- . يوسف:12/106.
2- . الحجرات:49/14.
3- . الحجرات:49/15.
4- . الأنفال:8/2.
5- . المائدة:5/54.
6- . مجمع البيان 3:178.
7- . البقرة:2/4.
8- . تفسير الصافي 2:85.
9- . الكافي 7:215/10، تفسير الصافي 2:86.

ثمّ قال الشّيخ بعد نقل الرّواية: أقول: في قوله: (إلاّ ما أحلّه اللّه لهم) تنبيه على أنّهم يحترزون عن الشّبهات، بل [عن]كلّ ما يمنعهم عن الشّهود مع اللّه. و الجناح في الآية نكرة في سياق النّفي يعمّ كلّ مراتبه، كاستحقاق العتاب (1)، و السرّ فيه أنّ شكر نعم اللّه تعالى أن تصرف في طاعة اللّه سبحانه على وجهها، فليتدبّر فيه.

و على ما حقّقناه إن صحّ [أنّ]نزول [هذه]الآية ما ذكره القمّي وفاقا لطائفة من المفسّرين، فمعنى الآية: أنّ الّذين كانوا يشربون الخمر قبل نزول تحريمها، إذا كانوا بهذه المثابة من الإيمان و التّقوى و العمل الصّالح، فلا جناح عليهم في شربها (2).

أقول: حمل الآية على المعنى الذي ذكره غير ممكن، لوضوح عدم إمكان كون الجناح على شاربها قبل نزول تحريمها لقبح العقاب بلا بيان عقلا و إن لم يكونوا واجدين لأوّل مراتب التّقوى. نعم إذا كان المراد من قوله: فِيما طَعِمُوا جميع المأكولات و المشروبات، يصحّ اشتراط نفي الجناح على الإطلاق، و بجميع مراتبه بما إذا اتّقى جميع محرّماتها و مشتبهاتها، و يكون غرضهم من أكلها القيام بالأعمال الصّالحة، و أنّهم لا يشبعون من الطّعام و هم مطّلعون على بطون غرثى و أكباد حرّى، بل يحسنون إليهم بالزّائد ممّا يحفظون به رمقهم و أنفسهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 94

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة الخمر من المشروبات، ذكر حرمة لحم الصّيد من المأكولات على خصوص المحرّم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ و يمتحنكم و يختبرنّ طاعتكم و عصيانكم بِشَيْءٍ قليل، و بلاء يسير بالنّسبة إلى سائر البليّات الشّاقّة العظيمة، كبذل النّفس و المال، ثمّ فسّر ذلك الشيء بقوله: مِنَ اَلصَّيْدِ و هو ابتلاء سهل يسير (3).

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)و قيل: إنّ المراد: بعض الصّيد، و هو صيد البرّ (4).

قيل: إنّ اللّه امتحن امّة محمّد بصيد البرّ، كما امتحن امّة موسى بصيد البحر (5).

أمّا كيفيّة الابتلاء فإنّه قرّبه منكم بحيث تَنالُهُ و تصل إليه أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ فيسهل عليكم أخذه و طعنه.

ص: 432


1- . في الصافي: العقاب.
2- . تفسير الصافي 2:86. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 12:85.

عن القمي: نزلت في غزوة الحديبية، جمع اللّه عليهم الصّيد، فدخل بين رحالهم (1).

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «حشر عليهم الصّيد في كلّ مكان حتّى دنا منهم ليبلوهم اللّه به» (2).

و عنه عليه السّلام: «حشر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عمرة الحديبية الوحوش حتّى نالتها أيديهم و رماحهم» (3).

و في رواية: «ما تناله الأيدي الفراخ أو البيض، و ما تناله الرّماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي» (4).

و في (المجمع) : عنه عليه السّلام: «الذي تناله الأيدي فراخ الطّير و صغار الوحش و البيض، و الذي تناله الرّماح الكبار من الصّيد» (5).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة الابتلاء بقوله: لِيَعْلَمَ اَللّهُ و يميز بين النّاس مَنْ يَخافُهُ و يخاف عقابه، و هو بِالْغَيْبِ عن الأنظار، و مستور عن الأبصار، فيتّقي الصّيد ممّن لا يخافه.

و قيل: في الآية حذف، و التقدير: ليعلم أولياء اللّه من يخافه حال إيمانه بالغيب (6).

ثمّ هدّد من يتّقي الصّيد بعد تحريمه بقوله: فَمَنِ اِعْتَدى على نفسه، و تعرّض للصّيد بَعْدَ ذلِكَ التّحريم و توضيح علّته فَلَهُ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ و في الدّنيا التّعزير الموجع.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذا العذاب هو أن يضرب بطنه و ظهره ضربا وجيعا و ينزع ثيابه (7).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 95

ثمّ أكّد سبحانه حرمة الصّيد في حال الإحرام بالتّصريح بالنّهي عنه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و أحكامه لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ و الحيوان الوحشي [سواء أ]

كان ممّا يؤكل أم لا وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ محرمون بإحرام الحجّ أو العمرة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ (95)عن الصادق عليه السّلام: «فاتّق (8)قتل الدّواب كلّها إلاّ الأفعى و العقرب و الفأرة، [فأمّا الفأرة]فإنّها توهي السّقاء و تضرم على أهل البيت [البيت]، و أمّا العقرب فإنّ نبيّ اللّه مدّ يده إلى الحجر فلسعته عقرب فقال: لعنك اللّه، لا تدعين برّا و لا فاجرا، و الحيّة إذا أرادتك فاقتلها، و إن لم تردك فلا تردها، و الكلب

ص: 433


1- . تفسير القمي 1:182، تفسير الصافي 2:87.
2- . الكافي 4:396/2، تفسير الصافي 2:87.
3- . الكافي 4:396/1، تفسير الصافي 2:87.
4- . الكافي 4:397/4، تفسير الصافي 2:87.
5- . مجمع البيان 3:377، تفسير الصافي 2:87.
6- . تفسير الرازي 12:86.
7- . تفسير الرازي 12:86.
8- . في تفسير الصافي: إذا أحرمت فاتق.

العقور و السّبع إذا أراداك فاقتلهما، فإن لم يريداك فلا تردهما، و الأسود (1)الغدر فاقتله على كلّ حال، و ارم الغراب و الحدأة رميا على ظهر بعيرك» (2).

و عنه عليه السّلام: «المحرم يقتل الزّنبور و النّسر و الأسود الغدر و الذّئب و ما خاف أن يعدو عليه» و قال: «الكلب العقور هو الذّئب» (3).

و عنه عليه السّلام: «كلّ ما خاف المحرم على نفسه من السّباع و الحيّات (4)فيقتله، و إن لم يردك فلا ترده» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بطريق عامّي: «خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهنّ في الحلّ و الحرم: الغراب، و الحدأة، و الحيّة، و العقرب، و الكلب العقور» (6).

و في رواية: «و السّبع الضّاري» (6).

أقول: الظّاهر من مجموع الرّوايات جواز قتل كلّ مؤذ لا يأمن المحرم منه على نفسه.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه كفّارة الصّيد في حال الإحرام بقوله: وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ أيّها المجرمون حال كونه مُتَعَمِّداً في قتله بأيّ نوع من أنواع القتل.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر الآية و إن كان اشتراط العمد في وجوب كفّارة الصّيد، و به قال بعض العامّة، إلاّ أنّه نسب إلى أكثرهم، و عامة أصحابنا عدم الاشتراط، بل قالوا بوجوبها و إن كان القتل خطأ أو نسيانا، و قالوا: وجه التّقييد في الآية أنّ سبب نزولها في من تعمّد (8).

روي أنّه عنّ (7)لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله، فقيل: إنّك قتلت الصّيد و أنت محرم. فنزلت (8).

و قال بعض: نزل الكتاب بالعمد، و وردت السنّة بالخطأ (9).

و على أي تقدير فَجَزاءٌ واجب على قاتل الصّيد، و فدية ثابتة؛ حيوان مِثْلُ ما قَتَلَ و شبيه ما صاد، و لكن لا بدّ أن يكون الحيوان المماثل مَنْ جنس اَلنَّعَمِ الثّلاث: الإبل و البقر و الغنم، و يدخل فيه المعز.

عن الصادق عليه السّلام، في تفسيرها: «في الظّبي شاة، و في حمار الوحش بقرة، و في النّعّامة جزور» (10).

ص: 434


1- . الأسود: العظيم من الحيات.
2- . التهذيب 5:365/1273، تفسير الصافي 2:87.
3- . الكافي 4:363/4، تفسير الصافي 2:88.
4- . زاد في الكافي: و غيرها.
5- . الكافي 4:363/1، تفسير الصافي 2:88. (6 و 8) . تفسير الرازي 2:87.
6- . راجع: تفسير أبي السعود 3:79، كنز العرفان 1:324/4.
7- . عنّ: أي ظهر أمامه و اعترض.
8- . كنز العرفان 1:324/4.
9- . تفسير أبي السعود 2:79.
10- . التهذيب 5:341/1180، تفسير الصافي 2:88.

قيل: الجزور و البدنة واحد، و الفرق أن البدنة ما يحرز للهدي، و الجزور أعمّ (1).

و في صحيح سليمان: في البقرة بقرة، و في الحمار بدنة، و في النّعامة بدنة، و في ما سوى ذلك قيمته (2).

ثمّ وصف سبحانه الجزاء بكونه ممّا يَحْكُمُ بِهِ و بمماثلته للصّيد المقتول رجلان ذَوا عَدْلٍ و لكن لا في دينه، و إن كان من غيركم، بل لا بدّ من أن يكونا مِنْكُمْ و أهل دينكم.

قال بعض العامّة: لو كان أحدهما القاتل، جاز إذا كان القتل خطأ لا عمدا؛ لأنّه فاسق (3).

في (المجمع) : عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «ذو عدل» (4).

و في (الكافي) : عنهما عليهما السّلام: و عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «العدل: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الإمام من بعده» ثمّ قالا: «هذا ممّا أخطأت به الكتّاب» (5).

و العيّاشي: «يعني رجلا واحدا» يعني الإمام (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «العدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الإمام من بعده يحكم به و هو ذو عدل، فإذا علمت ما حكم به رسول اللّه و الإمام فحسبك، و لا تسأل عنه» (7).

أقول: لعلّ المراد من ذَوا عَدْلٍ النبيّ و الإمام، على معنى الاجتزاء بحكم أحدهما، و أنّ المراد من الحكم بيان المثل للمقتول، فيحتاج في تعيين المثل إلى النّص من النبيّ أو الإمام، لا أنّه ينظر العدليين من سائر النّاس، كما عليه العامّة.

و روي أنّ رجلا سأل أبا حنيفة عن كفّارة الصّيد فأجاب، فقال: من يحكم بها؟ قال: ذوا عدل، قال: إن اختلفا؟ قال: يتوقّف عن الحكم حتّى يتّفقا، قال: إنّك لا تحكم وحدك في الصّيد حتّى يتّفق معك آخر، و تحكم في الدّماء و الفروج و الأموال برأيك! (8)

ثمّ وصف سبحانه الجزاء ثانيا بكونه هَدْياً و مرسلا بقصد التّقرّب إلى اللّه، و لا بدّ من كونه بالِغَ اَلْكَعْبَةِ و واصلا إليها.

عن الصادق عليه السّلام: «من وجب عليه هدي في إحرامه، فله أن ينحره حيث شاء إفداء الصّيد، فإنّ اللّه

ص: 435


1- . جواهر الكلام 20:191.
2- . التهذيب 5:341/1182.
3- . تفسير الرازي 12:92.
4- . مجمع البيان 3:375، تفسير الصافي 2:88.
5- . تفسير العياشي 2:78/1360، الكافي 4:396/3 و:397/5، تفسير الصافي 2:88.
6- . تفسير العياشي 2:78/1361، تفسير الصافي 2:88.
7- . التهذيب 6:314/867، تفسير الصافي 2:88.
8- . دعائم الإسلام 1:306.

يقول: هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ» (1).

و عنه عليه السّلام: «من وجب عليه فداء صيد أصابه و هو محرم، فإن كان حاجّا نحر هديه الذي يجب عليه بمنى، و إن كان معتمرا نحر بمكّة قبالة الكعبة» (2).

ثمّ وسّع اللّه تعالى على عباده بجعل البذل للجزاء المذكور بقوله: أَوْ كَفّارَةٌ معيّنة؛ و هي طَعامُ مَساكِينَ و إطعام للفقراء أَوْ عَدْلُ ذلِكَ الطّعام و مساويه، و هو يكون صِياماً .

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن محرم أصاب نعامة أو حمار وحش، قال: «عليه بدنة» . قيل: فإن لم يقدر على بدنة؟ قال: «فليطعم ستّين مسكينا» . قيل: فإن لم يقدر على أن يتصدّق؟ قال: «فليصم ثمانية عشر يوما، و الصّدقة مدّ على كلّ مسكين» .

و سئل عن محرم أصاب بقرة، قال: «عليه بقرة» . قيل: فإن لم يقدر على بقرة؟ قال: «فليطعم ثلاثين مسكينا» . قيل: فإن لم يقدر على أن يتصدّق؟ قال: «فليصم تسعة أيّام» . قيل: فإن أصاب ظبيا؟ قال: «عليه شاة» . قيل: فإن لم يقدر؟ قال: «فإطعام عشرة مساكين، فإن لم يجد ما يتصدّق به فعليه صيام ثلاثة أيّام» (3).

في بيان عن السجّاد عليه السّلام، في حديث الزّهري: «أ و تدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟» ، قال: [قلت:]لا أدري. قال: «يقوّم الصّيد قيمة، ثمّ تفضّ تلك القيمة على البرّ، ثمّ يكال ذلك البرّ أصواعا، فيصوم لكلّ نصف صاع يوما» (4).

و في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا أصاب المحرم الصّيد و لم يجد ما يكفّر في موضعه الذي أصاب فيه الصّيد قوّم جزاؤه من النّعم دراهم، ثمّ قوّمت الدّراهم طعاما لكلّ مسكين نصف صاع، فإن لم يقدر على الطّعام صام لكلّ نصف صاع يوما» (5).

و عنه عليه السّلام، في محرم قتل نعامة، قال: «عليه بدنة، فإن لم يجد فإطعام ستّين مسكينا» [و قال: إن كان قيمة البدنة أكثر من إطعام ستّين مسكينا لم يزد على إطعام ستّين مسكينا، و إن كان قيمة البدنة أقل من إطعام ستّين مسكينا]لم يكن عليه إلاّ قيمة البدنة» (6).

و إنّما فرض اللّه الكفّارة على قاتل الصّيد حال الإحرام لِيَذُوقَ ذلك القاتل وَبالَ أَمْرِهِ و سوء عاقبة فعله من هتكه حرمة الإحرام.

ص: 436


1- . الكافي 4:384/2، تفسير الصافي 2:88.
2- . الكافي 4:384/3، تفسير الصافي 2:88.
3- . الكافي 4:385/1، تفسير الصافي 2:88.
4- . تفسير القمي 1:186، من لا يحضره الفقيه 2:47/208، تفسير الصافي 2:89.
5- . الكافي 4:387/10.
6- . الكافي 4:386/5.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ هذه الكفّارة إنّما هي إذا كان القتل بعد تحريم الصّيد بقوله: عَفَا اَللّهُ و تجاوز عَمّا سَلَفَ منكم من قتل الصّيد قبل تحريمه، أو من الدّفعة الاولى وَ مَنْ عادَ إلى قتله في حال إحرامه بعد التّحريم و علم القاتل به، أو بعد التعمّد في الدّفعة الاولى فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ و يعذّبه في الآخرة بالنّار وَ اَللّهُ عَزِيزٌ و غالب لا يغالب ذُو اِنْتِقامٍ شديد ممّن أصرّ على عصيانه.

عن ابن أبي عمير مرسلا: «إذا أصاب المحرم الصّيد خطأ فعليه أبدا في كلّ ما أصاب الكفّارة (1)، فإن عاد فأصاب ثانيا متعمّدا فليس عليه فيه الكفّارة، و هو ممّن قال اللّه عزّ و جلّ: وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في الصحيح: «المحرم إذا قتل الصّيد، فعليه جزاؤه و يتصدّق بالصيد على مسكين، فإن عاد فقتل صيدا آخر، لم يكن عليه جزاؤه، و ينتقم اللّه منه، و النّقمة في الآخرة» (3).

و عليه أكثر الأصحاب-كما قيل (4)-و الأظهر اعتبار العود في إحرام واحد، و كون الدّفعة الاولى أيضا عن عمد، و إن أمكن دعوى الإطلاق، إلاّ أنّه ممنوع.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 96

ثمّ لمّا حرّم اللّه تعالى الصّيد و كان مظنّة فهم العموم، صرّح بتخصيصه بصيد البرّ، و إباحة صيد البحر بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ من السّمك الذي له فلس، سواء اخذ من الماء بعلاج، أو لفظه البحر و نضب عنه الماء و اخذ من غير حيلة و علاج وَ طَعامُهُ و المملوح منه-كما عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (5)، و قيل: إنّه مذهب أهل البيت (6)، و قيل: إنّه أعمّ من الطّريّ و المملوح-ليكون مَتاعاً و انتفاعا لَكُمْ أيّها المقيمون وَ لِلسَّيّارَةِ و المسافرين بأن يتزوّدوا به.

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «لا بأس بصيد المحرم السّمك و يأكله؛ مالحه و طريّه، و يتزوّد» .

و قال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ قال: «مالحه الذي يأكلون» (7).

وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ اصطيادا و قتلا و إشارة و دلالة و إغلاقا و إغراء للحيوان به، و بيعا و شراء و تملّكا و إمساكا و أكلا ما دُمْتُمْ حُرُماً و عليه يكون نهي الآية أعمّ من النّهي السّابق لا تأكيدا له.

ص: 437


1- . زاد في الكافي: و إذا أصابه متعمدا فإن عليه الكفارة.
2- . الكافي 4:394/3.
3- . التهذيب 5:372/1297.
4- . كنز العرفان 1:327/12.
5- . مجمع البيان 3:380.
6- . مجمع البيان 3:380.
7- . الكافي 4:392/1، تفسير الصافي 2:90.

عن الصادق عليه السّلام: «كلّ طير يكون في الآجام يبيض في البرّ و يفرخ في البرّ فهو من صيد البرّ، و ما كان من صيد البرّ يكون في البرّ و يبيض في البحر فهو من صيد البحر» (1).

و عنه عليه السّلام: «كلّ شيء يكون أصله في البحر و يكون في البرّ و البحر، فلا ينبغي للمحرم أن يقتله، فإن قتله فعليه الجزاء، كما قال [اللّه عزّ و جلّ]» (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «لا يأكل المحرم طير الماء» (3).

ثمّ بالغ سبحانه في التّأكيد و الوعيد بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ في القيامة-لا إلى غيره-في ما نهاكم عنه من المعاصي التي من جملتها الصّيد في حال الإحرام، فيجازيكم على المخالفة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 97

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة الإحرام و الحرم، و كونهما سببا لأمن الحيوانات من ضرر الإنسان، بيّن أنّ الكعبة و الحرم، و الأشهر الحرم، و هدي الكعبة أسباب لأمن الإنسان من جميع المخوفات و الآفات، و لنيلهم بالخيرات و السّعادات، بقوله: جَعَلَ اَللّهُ و صيّر اَلْكَعْبَةَ التي تكون لكمال حرمتها عنده و عند أنبيائه اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ المحترم قِياماً لِلنّاسِ و قواما لهم، و ما به صلاح امورهم.

جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

في بيان وجوه كون

الكعبة قياما للناس

قيل في وجه كونها قواما للنّاس امور: الأوّل: أنّ مكّة بلدة لا ضرع فيها و لا زرع، و لا يوجد فيها غالب ما يحتاج إليه أهلها، فجعل الكعبة معظّمة في القلوب حتّى صار أهل الدّنيا راغبين في زيارتها، فيسافرون إليها من كلّ فجّ عميق، و يأتون بجميع ما يحتاج إليه، فصار سببا لإسباغ النّعم على أهلها.

الثاني: أنّ العرب كانت عادتهم القتل و الغارة، و كان أهل الحرم آمنين على أنفسهم و أموالهم حتّى أنّ الرّجل لو رأى قاتل أبيه أو ابنه التجأ بالحرم ما كان يتعرّض له.

الثالث: أنّ أهل مكّة صاروا بسبب الكعبة أهل اللّه و خاصّته، و سادات الخلق إلى يوم القيامة.

ص: 438


1- . الكافي 4:392/1، تفسير الصافي 2:90.
2- . الكافي 4:393/2، تفسير الصافي 2:90.
3- . الكافي 4:294/9، تفسير الصافي 2:90.

الرابع: أنّ اللّه تعالى جعل الكعبة قياما للنّاس في دينهم بسبب ما جعل اللّه فيها [من]المناسك العظيمة و الطّاعات الشّريفة، و جعل تلك المناسك سببا لحطّ السّيّئات و رفع الدّرجات و كثرة الكرامات (1).

و عن الصادق سلام اللّه عليه: «من أتى هذا البيت يريد شيئا في الدّنيا و الآخرة أصابه» (2).

و عن القمّي رحمه اللّه، قال: ما دامت الكعبة قائمة و يحجّ النّاس إليها لم يهلكوا، فإذا هدمت و تركوا الحجّ هلكوا (3).

وَ جعل اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ الذي يؤدّى فيه الحجّ وَ اَلْهَدْيَ الذي يهدى إلى البيت و يذبح عنده وَ اَلْقَلائِدَ التي يقلّدون الهدي بها قياما للنّاس من العرب و أمثالهم، و سببا لراحتهم و السّعة في معائشهم.

أمّا الشّهر الحرام فلترك العرب فيه القتال و الغارة، فلذا كان الخوف يزول عنهم، و كانوا يسافرون للحجّ و التّجارة، و يشتغلون باكتساب منافع الدّين و الدّنيا، و إصلاح المعاش و المعاد.

و أمّا الهدي فكانوا يذبحونه هناك و يفرّقون لحمه بين الفقراء، فيصلح به معيشتهم، و يقوم به أمر دينهم و دنياهم.

و أمّا القلائد-و هي الناقة و البقرة و كلّ ما يجوز في الهدي-فإنّ العرب كانوا مبالغين في التّحرّز عن التّعرّض لها، حتّى إنّهم كانوا يقلّدون رواحلهم عند رجوعهم من مكّة من لحاء شجرة الحرم فيأمنون بذلك، و كانوا يموتون من الجوع و لا يتعرضون لها: و هي أفضل الهدايا، و لذا خصّها بالذّكر.

ثمّ ذكر سبحانه علّة جعل الأمور المذكورة قياما للنّاس بقوله: ذلِكَ الجعل المذكور، أو التّنبيه بذلك لِتَعْلَمُوا بالنّظر إلى المصالح و المنافع الدّينيّة و الدّنيويّة أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ و حقائق جميع الموجودات، و مصالحها و مفاسدها.

ثمّ أكّد سعة علمه بقوله: وَ أَنَّ اَللّهَ بذاته بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء عَلِيمٌ فعلم أنّ طباع العرب مجبولة على الحرص الشّديد بالمال و القتل و الغارة، و علم أنّه لو دامت بهم هذه الحالة لأدّى ذلك إلى فنائهم و انقطاعهم بالكلّية، فشرع لهم حرمة القتال في الأشهر الحرم و في الحرم، و ألزمهم بحرمة البيت الحرام حتّى يقدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه، و إصلاح معاشهم في الأشهر المعيّنة و المكان المعيّن؛ كذا قيل (4).

ص: 439


1- . تفسير الرازي 12:100.
2- . مجمع البيان 3:382، تفسير الصافي 2:90.
3- . تفسير القمي 1:187، تفسير الصافي 2:90.
4- . تفسير الرازي 12:101.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 98

ثمّ أنّه تعالى بعد الإعلام بغاية لطفه، أعلمهم بشدّة عقابه على من عصاه بقوله: اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ على مخالفة أحكامه و هتك حرماته؛ فلا تغترّوا بسعة لطفه و رحمته، و لا تأمنوا من أخذه.

اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ وَ أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)ثمّ بعد تربيته المهابة و الخوف في القلوب، أعلن بسعة غفرانه و رحمته تربية للرّجاء في قلوب العصاة بقوله: وَ اعلموا أيّها المؤمنون أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بالعباد، فلا تيأسوا بكثرة المعاصي من روح اللّه و رحمته.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه لاعتدلا» (1).

عن الصادق، عن آبائه عليهم السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، عن جبرئيل، قال: «قال اللّه تعالى: من أذنب [ذنبا] صغيرا أو كبيرا، و هو يعلم أنّ لي أن اعذّبه و أن أعفو عنه، عفوت عنه» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 99

ثمّ أنّه سبحانه بعد التّرهيب و التّرغيب حث على طاعة أحكامه، و الزّجر عن العصيان مبالغا في الوعيد عليه بقوله: ما عَلَى اَلرَّسُولِ و ليس في عهدته إِلاَّ اَلْبَلاغُ و قد بلّغ الأحكام و الوعد بالثّواب و الوعيد بالعقاب، و بالغ في بيانها، و خرج عمّا في عهدته من الرّسالة، و بقي عليكم من الطّاعة و الامتثال وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ من الأقوال و الأعمال الحسنة و السّيّئة وَ ما تَكْتُمُونَ و تخفون من الضّمائر و النيّات، و الخلوص و النّفاق، و يجازيكم بحسبها.

ما عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (99)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 100

ثمّ لمّا نهى عن تحريم الطيّبات من الأغذية و الأعمال، و بيّن أنّ الخمر و لحم صيد المحرم من الخبائث، حثّ على الالتزام بالطّيّبات و اجتناب الخبائث بقوله: قُلْ يا محمّد، للنّاس لا يَسْتَوِي عند اللّه و أوليائه، و في حكم العقل السّليم اَلْخَبِيثُ الرّذيل الرّوحاني من الجهل باللّه و عصيانه وَ اَلطَّيِّبُ المستحسن الرّوحاني من المعارف الإلهيّة و طاعته، كما لا يستوي الخبيث و الطّيّب الجسمانيّان في أنظار النّاس و طباعهم، وَ لَوْ أَعْجَبَكَ و سرّك كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ و شيوعه

قُلْ لا يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

ص: 440


1- . تفسير الرازي 12:102.
2- . التوحيد:410/10، تفسير الصافي 2:90.

و تداوله بين النّاس، فإنّ العبرة بالجود و الحسن و الرّداءة و القبح، دون القلّة و الكثرة، و التّعارف بين النّاس و عدمه، فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير.

فإذا كان كذلك فَاتَّقُوا اَللّهَ في مخالفة أوامره و نواهيه يا أُولِي اَلْأَلْبابِ و ذوي العقول السّليمة و الإدراكات الصّافية عن كدورات الشّهوات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بأعلى المقاصد من الخيرات الدّنيوية و النّعم الاخرويّة.

قيل: نزلت في حجّاج اليمامة لمّا هم المسلمون أن يوقعوا بهم، بسبب أنّه كان فيهم الحطيم، و قد أتى المدينة في السّنة السّابقة، و استاق سرح (1)المدينة، فخرج في العام القابل-و هو عام عمرة القضاء -حاجا، فبلغ ذلك أصحاب السّرح، فقالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هذا الحطيم خرج حاجا مع حجّاج اليمامة، فخلّ بيننا و بينه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «[إنّه]قلّد الهدي» . و لم يأذن لهم في ذلك، بسبب استحقاقهم الأمن بتقليد الهدايا. فنزلت الآية تصديقا له صلّى اللّه عليه و آله في نهيه إيّاهم (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 101

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ النبيّ وظيفته التّبليغ و بيان الأحكام، و كان المسلمون يسألونه عمّا لا يعنيهم من المسائل، نهاهم عن إكثار السّؤال عمّا يوجب التّشديد عليهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا الرّسول عَنْ أَشْياءَ و مطالب و أحكام إِنْ تُبْدَ و تظهر لَكُمْ تلك الأمور ببيان الرّسول تَسُؤْكُمْ و تغمّكم لما ترون من مخالفتها لطباعكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اَللّهُ عَنْها وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)روى أنس أنّهم سألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأكثروا المسألة، فقام على المنبر فقال: «سلوني، فو اللّه لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلاّ حدّثتكم به» ، فقام عبد اللّه بن حذافة-و كان يطعن في نسبه- فقال: يا نبيّ اللّه، من أبي؟ فقال: «أبوك حذافة بن قيس» (3).

في ذكر سؤال

عكاشة

و قال سراقة بن مالك-و يروى عكاشة بن محصن-يا رسول اللّه، الحجّ علينا في كلّ عام؟ فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ويحك و ما يؤمنك أن أقول نعم، و اللّه لو قلت نعم لوجبت، و لو وجبت لتركتم، و لو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» .

ص: 441


1- . السّرح: الماشية.
2- . تفسير روح البيان 2:447.
3- . تفسير الرازي 12:106.

و قام آخر فقال: يا رسول اللّه، أين أبي؟ فقال: «في النّار» . و لمّا أشتّد غضب الرّسول قام عمر و قال: رضينا باللّه ربّا، و بالإسلام دينا، و بمحمّد نبيّا، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

وَ لا عن أشياء إِنْ تَسْئَلُوا الرّسول عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ و في زمان إتيان الوحي تُبْدَ لَكُمْ تلك المسألة و تظهر.

و قيل: إنّ المراد: إن تسألوا عن شيء نزل به القرآن لكّنكم ما فهمتم المراد منه، فهذا السّؤال جائز، و يظهر لكم جوابه.

عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «أنّ صفيّة بنت عبد المطّلب مات ابن لها فأقبلت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال لها عمر: غطّي قرطك (2)، فإنّ قرابتك من رسول اللّه لا تنفعك شيئا، فقالت له: هل رأيت لي قرطا يا بن اللّخناء (3)، ثمّ دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته بذلك و بكت، فخرج رسول اللّه فنادى: الصّلاة جامعة، فاجتمع النّاس فقال: ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع! لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في خارجكم (4)، لا يسألني اليوم أحد من أبوه إلاّ اخبرته، فقام إليه رجل فقال: من أبي يا رسول اللّه؟ فقال: أبوك غير الذي تدعى له، أبوك فلان بن فلان، فقام آخر فقال: من أبي يا رسول اللّه؟ قال: أبوك الذي تدعى له. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما بال الذي يزعم أنّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه؟ فقام إليه عمر فقال له: أعوذ باللّه يا رسول اللّه من غضب اللّه و غضب رسول اللّه، اعف عنّي عفا اللّه عنك. فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا الآية» (5).

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «أنّ اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، و حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها» (6).

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّ حكمة النّهي عن السّؤال ليست منحصرة في الصّيانة عن مسألة المؤمنين، بل لكونه إيذاء للنبيّ و معصية للّه، بقوله: عَفَا اَللّهُ عن مسائلكم السّابقة و إيذائكم للرّسول، و تجاوز عَنْها وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، و فيه الحثّ على الانتهاء عن المسألة و عدم العود إلى إكثارها.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 102

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)

ص: 442


1- . تفسير الرازي 12:106.
2- . القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من ذهب أو فضة أو نحوهما.
3- . اللّخناء: المرأة المنتنة.
4- . في المصدر: أحوجكم.
5- . تفسير القمي 1:188، تفسير الصافي 2:91.
6- . نهج البلاغة:487 الحكمة 105، تفسير الصافي 2:92.

ثمّ بالغ سبحانه في الزّجر عنه حيث وعظهم بأنّ أمثال هذه السّؤالات سؤالات قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ من أنبيائهم، فاجيبوا عنها ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ حيث جحدوا بالأجوبة، و لم يعملوا بها.

قيل: إنّ بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء، فإذا امروا تركوها، فهلكوا (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 103

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن السّؤال عمّا يحتمل أن يكون في جوابه فضيحتهم، أو المشقّة عليهم، نهاهم عن التّكليف بما لم يكلّفهم اللّه به بقوله: ما جَعَلَ اَللّهُ و ما شرع شيئا مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ .

ما جَعَلَ اَللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)عن (المعاني) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ولدت النّاقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلّون نحرها و لا أكلها، فإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة و لا يستحلّون ظهرها و لا أكلها، و الحام: فحل الإبل لم يكونوا يستحلّونه، فأنزل اللّه عزّ و جلّ أنّه لم يحرّم شيئا من ذلك» .

و قد روي أنّ البحيرة: النّاقة إذا أنتجت خمسة أبطن، فإذا كان الخامس ذكرا نحروه و أكله الرّجال و النّساء، و إن كان الخامس انثى بحروا اذنها-أي شقّوها-و كانت حراما على النّساء (2)؛ لحمها و لبنها، فإذا ماتت حلّت للنساء.

و السّائبة: البعير يسيّب بنذر يكون على الرّجل إن سلّمه اللّه من مرض، أو بلغ منزله أن يفعل ذلك.

و الوصيلة: من الغنم، كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن، فإذا كان السّابع ذكرا ذبح و أكل منه الرّجال و النّساء، [و إن كانت أنثى تركت في الغنم]و إن كان ذكرا و انثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح، و كان لحومهما (3)حراما على النّساء إلاّ أن يموت منها شيء فيحلّ أكلها للرّجال و النّساء.

و الحام: الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره.

و يروى أن الحام هو من الإبل، إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب و لا يمنع من كلأ و لا ماء (4).

قيل: إنّ عمر بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكّة، و كان أوّل من غيّر دين إسماعيل، فاتّخذ الأصنام،

ص: 443


1- . تفسير روح البيان 2:449.
2- . زاد في المصدر: و الرّجال.
3- . في المصدر: لحومها.
4- . معاني الأخبار:148/1، تفسير الصافي 2:92.

و نصب الأوثان، و شرع البحيرة و السّائبة و الوصيلة و الحام، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و لقد رأيته في النّار يؤذي أهل النّار بريح قصبه (1)» . و يروى يجرّ قصبه في النّار (2).

و قال ابن عباس: قوله: وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ يريد عمر بن لحي و أصحابه، يقولون على اللّه هذه الأكاذيب و الأباطيل في تحريم هذه الأنعام (3).

و قيل: إنّ الرّؤساء يفترون على اللّه الكذب، فأمّا الأتباع و العوام فهم المعنيون بقوله: وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (2)أنّه افتراء على اللّه حتّى يخالفوهم و يهتدوا إلى الحقّ بأنفسهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 104

ثمّ نبّه سبحانه على غاية قصور عقلهم، و انهماكهم في التّقليد بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ على سبيل الارشاد و الهداية تَعالَوْا إِلى قبول ما أَنْزَلَ اَللّهُ من الكتاب المبيّن للحلال و الحرام وَ إِلَى اَلرَّسُولِ المبلّغ عنه، حتّى تقفوا على الحقّ قالُوا عصيانا و عنادا: حَسْبُنا و كفانا دليلا على الحقّ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الاعتقاد و الأعمال.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (104)ثمّ ردّهم اللّه بقوله: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الدّين، وَ لا يَهْتَدُونَ إلى شيء من الحقّ و الصّواب.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 105

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان انهماك كثير من الكفّار في الضّلال، و إصرارهم على الكفر، أمر المؤمنين بالثّبات على الإيمان، و العمل بأحكام الإسلام، و عدم المبالاة بضلالة أهل الضّلال بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ و التزموا بحفظها من الضّلال و العصيان، و اهتمّوا بتكميلها بحسن الأخلاق، و لا تغتمّوا بانحراف النّاس عن الحقّ، فإنّه لا يَضُرُّكُمْ بوجه من الوجوه مَنْ ضَلَّ عن الحقّ بضلالة إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ بتوفيق اللّه إلى دينه و مرضاته.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)عن القمّي قال: أصلحوا أنفسكم، و لا تتّبعوا عورات النّاس و لا تذكروهم، فإنّه لا يضرّكم ضلالتهم

ص: 444


1- . القصب: المعى، و جمعه أقصاب، و قيل: القصب: اسم للأمعاء كلها، و قيل: هو ما كان أسفل البطن منها. (2 و 3) . تفسير الرازي 12:110.
2- . تفسير الرازي 12:110.

إذا كنتم صالحين (1).

عن (المجمع) : أنّ أبا بكر سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن هذه الآية، فقال: «ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة، و شحّا مطاعا، و هوى متّبعا، و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخويصّة (2)نفسك» (3).

ثمّ وعد سبحانه و أوعد الفريقين بقوله: إِلَى اَللّهِ وحده مَرْجِعُكُمْ في القيامة جَمِيعاً ضالّكم و مهتديكم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ من الهداية و الضّلالة؛ فيجازيكم على حسب ما تستحقّون.

عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قبل من أهل الكتاب الجزية و لم يقبل من العرب إلاّ الإسلام أو السّيف، عيّر المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفّار دون بعض فنزلت هذه الآية، أي لا يضرّكم ملامة اللاّئمين، إذا كنتم على الهدى (4).

و قيل: نزلت لمّا أشتدّ على المؤمنين بقاء الكفّار في كفرهم و ضلالهم (5).

و قيل: نزلت لمّا اغتّم المؤمنون لعشائرهم الذين ماتوا على الكفر، فنهوا عن ذلك (6).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 106 الی 107

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه المؤمنين بحفظ أنفسهم من الضّلال و العصيان، أردفه بالأمر بحفظ أموالهم من التّلف و الضّياع، و تعليم طريقه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ و عند تنازعكم إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ و أشرف عليه حِينَ اَلْوَصِيَّةِ هي أن يشهد عليها اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اِسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اِعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ (107)

ص: 445


1- . تفسير القمي 1:188، تفسير الصافي 2:94.
2- . خويصّة الانسان: الذي يختصّ بخدمته، و يعني عليك بما يتصل بك من خدمك و مواليك و دع ما سواهم. و تطلق على حادثة الموت التي تخصّ كلّ إنسان، و يعني عليك بمبادرتها بالأعمال الصالحة و الاهتمام بها قبل وقوعها.
3- . مجمع البيان 3:392، تفسير الصافي 2:94. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 12:112.

و صلاح مِنْكُمْ و من أهل دينكم، [سواء أ]كان الموصي في الحضر أو في السّفر أَوْ رجلان آخَرانِ كائنان مِنْ غَيْرِكُمْ و ممّن خالفكم في الدّين، و إنّما تقبل شهادتهما إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ و سرتم فِي اَلْأَرْضِ و سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ و نالتكم مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ و قاربكم الأجل.

ثمّ كأنّه قيل: كيف يقيمان الشّهادة؟ فأجاب بقوله: تَحْبِسُونَهُما و تصبّرونهما للتّحليف مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ لتغليط اليمين بشرف الوقت، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه وقتئذ حلف من حلف» (1)، و لأنّه وقت اجتماع النّاس فيثقل على النّفوس الأبيّة الكذب في مشهد النّاس، فيستحلف حينئذ الآخران فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ و لكن هذا إِنِ اِرْتَبْتُمْ أيّها الورّاث فيهما بخيانة في التّركة.

ثمّ يقولون بعد الشّهادة و القسم: إنّا لا نَشْتَرِي بالقسم، أو باللّه و لا نطلب بِهِ لأنفسنا ثَمَناً و عوضا من متاع الدّنيا وَ لَوْ كانَ المقسم له و هو الميّت ذا قُرْبى و متّصلا بالرّحم وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ التي أمرنا اللّه بها و بحفظها، و نهانا عن كتمانها و تضييعها، فإن كتمناها أو ضيّعناها إِنّا إِذاً باللّه لَمِنَ اَلْآثِمِينَ و العاصين.

روي من طريق العامّة أنّ تميم بن أوس الدّاري و عدي بن زيد خرجا إلى الشّام للتّجارة، و كانا حينئذ نصرانيّين، و معهما بديل بن أبي مريم (2)مولى عمرو بن العاص و كان مسلما مهاجرا، فلمّا قدما إلى الشّام مرض بديل، فكتب كتابا فيه أسماء جميع ما معه و طرحه في درج الثّياب، و لم يخبرهما بذلك، و أوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله فمات، ففتّشاه فوجدا فيه إناء من فضّة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذّهب، فغيّباه و دفعا المتاع إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فقالوا لهما: هل باع صاحبكما شيئا من متاعه؟ قالا: لا، قالوا: فهل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه؟ قالا: لا، إنّما مرض حين قدم البلد، فلم يلبث أن مات. قالوا: فإنّا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية متاعه، و فيها إناء منقوش مموّه بالذّهب وزنه ثلاثمائة مثقال. قالا: ما ندري، إنّما أوصى إلينا بشيء و أمرنا أن ندفعه إليكم ففعلنا، و ما لنا بالإناء من علم. فرفعوهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا فاستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر باللّه الذي لا إله إلاّ هو، أنّهما لم يخونا شيئا مما دفع، و لا كتما، فحلفا على ذلك، فخلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبيلهما.

ثمّ أنّه وجد الإناء في مكّة، فقال من بيده: اشتريته من تميم و عديّ-و قيل: لمّا طالت المدّة أظهراه-

ص: 446


1- . تفسير روح البيان 2:455.
2- . كذا في النسخة و روح البيان أيضا، لكن في اسد الغابة 1:169 بديل بن مارية.

فبلغ ذلك بني سهم (1)أولياء بديل، فطلبوه منهما، فقالا: كنّا اشتريناه من بديل، فقالوا: ألم نقل لكما: هل باع صاحبنا من متاعه شيئا؟ فقلتما: لا. قالا: ما كان لنا بيّنة، فكرهنا أن نقرّ به، فرفعوهما الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزل قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ الآية (2).

و عن (الكافي) ، مرفوعا: «خرج تميم الدّاري و ابن بيدي و ابن أبي مارية في سفر، و كان تميم الداري مسلما و ابن بيدي و ابن أبي مارية نصرانيّين، و كان مع تميم الدّاري خرج له فيه متاع و آنية منقوشة بالذّهب و قلادة أخرجها إلى أسواق بعض العرب للبيع، فاعتل تميم الداري علّة شديدة، فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بيدي و ابن أبي مارية، و أمرهما أن يوصلاه إلى ورثته، فقدما المدينة، و قد أخذا من المتاع الآنية و القلادة، و أوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية و القلادة، فقال أهل تميم [لهما]: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا، ما مرض إلاّ أيّاما قلائل. قالوا: فهل سرق منه شيء في سفره هذا؟ قالا: لا، قالوا: فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا، قالوا: [فقد]افتقدنا أفضل شيء كان معه؛ آنية منقوشة مكلّلة بالجوهر، و قلادة؟ . فقالا: ما دفع إلينا فقد أدّيناه إليكم، فقدّموهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأوجب عليهما اليمين فحلفا، فخلاّ عنهما» (3).

عن الصادق عليه السّلام، في تفسير الآية: «اللّذان منكم مسلمان، و اللّذان من غيركم [من]أهل الكتاب، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية، و ذلك إذا مات الرّجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين، أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر (4)، فيقسمان باللّه لا نشتري به ثمنا و لو كان ذا قربى، و لا نكتم شهادة اللّه، إنّا إذا لمن الآثمين. قال: و ذلك إن ارتاب وليّ الميّت (5).

فَإِنْ عُثِرَ و اطّلع بعد حلف الوصيّين عَلى أَنَّهُمَا بشهادتهما بالباطل، و حنثهما في اليمين بالكذب في القول أو الخيانة في المال اِسْتَحَقّا إِثْماً و ارتكبا ذنبا، فلا ينقض الحاكم شهادتهما لاحتمال شرائهما المال من الميّت، فإن ادّعياه و أنكر الوارث فَآخَرانِ يجيئان بعد ظلم الشّاهدين الأولين، و يَقُومانِ مَقامَهُما في الحبس إلى بعد الصّلاة و الحلف، و لكن يشترط أن يكون الآخران مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الحلف.

ص: 447


1- . في تفسير روح البيان: بني سهل.
2- . تفسير روح البيان 2:454.
3- . الكافي 7:5/7، تفسير الصافي 2:95.
4- . في الكافي: الصلاة.
5- . الكافي 7:4/6، تفسير الصافي 2:95.

ثمّ كأنّه قيل: من الذين استحق الكتابيّان المدّعيان للشّراء عليهم الحلف؟ قيل: هما اَلْأَوْلَيانِ بالميّت و الأقربان إليه فَيُقْسِمانِ كلا الآخرين بِاللّهِ لَشَهادَتُنا و حلفنا أَحَقُّ بالقبول و أولى مِنَ حلف الكتابيّين و شَهادَتِهِما مع كونها كاذبة وَ مَا اِعْتَدَيْنا و ما تجاوزنا في شهادتنا، و ما ظلمنا على الكتابيّين بإبطال حقّهما إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ على أنفسنا بتعريضها لسخط اللّه بهتك حرمة اسمه المبارك، أو لمن الواضعين للحقّ في غير موضعه.

فتحصّل من الآيتين الشّريفتين أنّ من أشرف على الموت ينبغي أن يوصي و يشهد على وصيّته شاهدين عدلين من أهل الإيمان، فإن لم يوجدا بأن كان في سفر فيشهد رجلين من أهل الكتاب عدلين في دينهما، فإن ارتاب الوارث فيهما يؤمران بأن يحلفا بعد صلاة العصر أنّهما ما كتما الشّهادة و ما خانا في التّركة شيئا، فإن اطّلع على كذبهما في الشّهادة أو خيانتهما في التّركة بأن ظهر بأيديهما شيء منها، و ادّعيا أنّ الميّت ملّكهما إيّاه، و أنكره الورثة، حلف اثنان منهم و عمل بحلفهما.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد نزول: فَإِنْ عُثِرَ إلى آخر الآية أمر أولياء تميم الدّاري أن يحلفوا باللّه على ما أمرهم به فحلفوا، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القلادة و الآنية من ابن بيدي و أبن أبي مارية و ردّهما إلى أولياء تميم الدّاري (1).

و في رواية بعض العامّة: كان تميم الدّاري يقول بعدما أسلم: صدق اللّه و رسوله، أنا أخذت الإناء، فأتوب الى اللّه (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه بقيت تلك الواقعة مخفيّة إلى أن أسلم تميم الدّاري، فلمّا أسلم أخبر بذلك و قال: حلفت كاذبا، و أنا و صاحبي بعنا الإناء بألف و قسّمنا الثّمن، ثمّ دفع خمسمائة درهم من نفسه، و نزع من صاحبه خمسمائة اخرى و دفع الألف إلى موالي الميت (3).

قيل اتّفق العلماء على أنّ هذه الآية أشكل ما في القرآن إعرابا و نظما و حكما (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 108

ثمّ بيّن سبحانه حكمة تشريع هذه الكيفيّة من الشّهادة بقوله: ذلِكَ الحكم الذي ذكرناه، و الطّريق الذي شرعناه أَدْنى و أقرب إلى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ و أن يؤدّيها الشّهود عَلى

ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِسْمَعُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ (108)

ص: 448


1- . الكافي 7:6/7، تفسير الصافي 2:96. (2 و 3) . تفسير الرازي 12:120.
2- . تفسير روح البيان 2:454.

وَجْهِها و نحوه الذي تحمّلوها على الميّت من غير تحريف و خيانة، من جهة أنّ الشّهود إمّا أن يخافوا بسبب الحلف و التّغليظ فيه من عذاب اللّه أَوْ يَخافُوا من أَنْ تُرَدَّ من قبل الحاكم أَيْمانٌ على الورثة، فيحلفوا على خيانة الشّهود بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فيفتضحوا بإبطال أيمانهم على رؤوس الأشهاد و العمل بأيمان الورثة، فأيّ الخوفين حصل، حصل المقصود، و هو الإتيان بالشّهادة على وجهها.

ثمّ حثّ اللّه سبحانه النّاس على العمل بأحكامه، و حفظ الأمانات و ردّها بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ أيّها النّاس في شهاداتكم من أن تحرّفوها، و في أيمانكم من أن تكذّبوا فيها، و في أماناتكم من أن تخونوها، و في أحكام دينكم من أن تخالفوها وَ اِسْمَعُوا مواعظ اللّه سمع طاعة و قبول، و لا تكونوا من الفسّاق وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى طريق الجنّة، و لا يوفّق لعمل الخير اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ و الفريق الخارجين عن حدود الشّرع و العقل.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 109

في بيان بعض

أهوال القيامة

ثمّ لمّا كان دأبه سبحانه في كتابه العزيز بعد ذكر جملة من الأحكام العمليّة إمّا بيان مقدار من المعارف الالهيّة تنشيطا للقلوب، أو شرح قصّة من قصص الأنبياء و اممهم اعتبارا و موعظة للنّاس و بعثا لهم إلى امتثال الأحكام، أو ذكر أحوال القيامة ردعا لهم عن مخالفتها، أردف الأحكام المذكورة بذكر أهوال القيامة بقوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اَللّهُ اَلرُّسُلَ و اممهم فيه، اذكروا أيّها المؤمنون، و هو يوم القيامة فَيَقُولُ لهم توبيخا لاممهم: ما ذا أُجِبْتُمْ من قبل اممكم حين دعوتموهم إلى توحيدي و طاعة أحكامي؟ أكانت إجابتهم إجابة إقرار و تسليم، أم إجابة إنكار و جحود؟ قالُوا تشكّيا من اممهم: ربّنا لا عِلْمَ لَنا بما أنت تعلم من ضمائرهم و بواطن قلوبهم إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ و نحن لا نعلم إلاّ ما أظهروه من الجحود و العصيان.

يَوْمَ يَجْمَعُ اَللّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ (109)قيل: إنّ المراد: إنّ علمك محيط بجميع الأشياء، و علمنا في جنب علمك كالمعدوم، فتعلم ما ابتلينا من قبلهم، و كابدنا من سوء إجابتهم، فنلتجئ إليك في الانتقام منهم (1).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ هذا الجواب إنّما يكون في بعض مواطن القيامة و ذلك عند زفرة جهنّم و جثوّ الامم على ركبهم، لا يبقى ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلاّ قال: نفسي نفسي، فعند ذلك تطير

ص: 449


1- . تفسير روح البيان 2:458.

القلوب من أماكنها، فيقول الرّسل من شدّة هول المسألة و هول الموطن: لا علم لنا إنّك أنت علاّم الغيوب، ثمّ ترجع إليهم عقولهم، فيشهدون على قومهم أنّهم بلّغوا الرّسالة، و أنّ قومهم كيف ردّوا عليهم (1).

و في (المعاني) : عن الصادق عليه السّلام: «يقولون: لا علم لنا بسواك» .

و قال: «القرآن كلّه تقريع، و باطنه تقريب» (2).

و في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّ لهذا تأويلا، يقول: ماذا اجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتموهم على اممكم؟ فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا» (3)الخبر.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 110 الی 113

ثمّ لمّا ذكر في أوائل السّورة سوء اعتقاد النّصارى في حقّ عيسى و امّه، و كانوا أحقّ الامم بالتّوبيخ حيث إنّهم تعدّوا من إساءة الأدب بساحة الأنبياء التي كانت لسائر الامم إلى إساءة الأدب بساحة جلال اللّه و كبريائه بقولهم بحلول اللّه تعالى في عيسى، أو أنّه ابنه، شرع في إثبات عبوديّة عيسى بحضرة الرّسل في القيامة، أولا بإظهار المنّة عليه بنعمته بقوله: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ مريم. و في ذكر والدته تقريع على من تكلّم في نسبه بما تكلّم، و على من ادّعى الوهيّته مع كونه متولّدا من امّ.

إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ تُكَلِّمُ اَلنّاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ اَلسَّماءِ قالَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ اَلشّاهِدِينَ (113)

ص: 450


1- . تفسير روح البيان 2:458.
2- . معاني الأخبار:232/1، تفسير الصافي 2:97.
3- . الكافي 8:338/535، تفسير الصافي 2:97.

ثمّ شرع في تعداد نعمه التي أنعمها عليه بالأصالة و على امّه بالتّبع بقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ و أعنتك بِرُوحِ اَلْقُدُسِ و واسطة إفاضة العلوم، و هو جبرئيل، و لذا كنت تُكَلِّمُ اَلنّاسَ بكلام الأنبياء، حال كونك طفلا كائنا فِي اَلْمَهْدِ و في حجر أمّك وَ كونك كَهْلاً من غير تفاوت في كلامك بين الوقتين و الحالتين وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ اَلْكِتابَ السّماوي كلّه، أو الكتابة و الخط (1)-كما قيل (2)- وَ اَلْحِكْمَةَ من المعارف و الأحكام وَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ الّذين هما أفضل الكتب، و ألهمتك الأسرار المودعة فيهما وَ إِذْ تَخْلُقُ و تسوّي مِنَ اَلطِّينِ هيئته كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ و الخفافيش بِإِذْنِي و إقداري و تعليمي فَتَنْفُخُ فِيها بعد تصويرها فَتَكُونُ تلك الهيئة طَيْراً كسائر الطّيور بِإِذْنِي و إيجادي.

روي أنّ اليهود سألوا منه عليه السّلام على وجه التّعنّت، فقالوا له: اخلق لنا خفّاشا، و اجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالك، فأخذ طينا و جعل منه خفّاشا، ثمّ نفخ فيه فإذا هو يطير بين السّماء و الأرض.

في ذكر عجائب

الخفّاش

قيل: إنّما طلبوا منه خلق الخفّاش لأنّه أعجب من سائر الخلق، و من عجائبه أنّه لحم و دم يطير بغير ريش، و يلد كما يلد الحيوان و لا يبيض كما يبيض سائر الطّيور، و له ضرع يجري منه اللّبن، و لا يبصر في ضوء النّهار و لا في ظلمة اللّيل، و إنّما يرى في ساعتين، بعد غروب الشّمس ساعة، و بعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدّا، و يضحك كما يضحك الإنسان، و يحيض كما تحيض المرأة. فلمّا رأوا ذلك منه ضحكوا و قالوا: هذا سحر (3).

وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ و الأعمى الخلقي وَ اَلْأَبْرَصَ مع عجز جميع الأطبّاء عن إبرائهما و علاجهما بِإِذْنِي و إجابتي لدعائك وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتى من قبورهم بعد إحيائهم فيها بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ و منعت بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ و عن التّعرّض لك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ و أتيتهم بالمعجزات الباهرات، و قصدوك بالسّوء، و عارضوك بالجحود فَقالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ و جحدوا نبوّتك: ما هذا بإعجاز بل إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة.

وَ اذكر إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ و ألقيت في قلوبهم حين دعوتهم إلى الإيمان أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي، قد مرّ ذكر عدد الحواريّين، و وجه تسميتهم بهذا الاسم في سورة آل عمران (4).

فهم بعد إلقاء اللّه في قلوبهم الإيمان قالُوا : يا عيسى آمَنّا باللّه و بوحدانيّته وَ اِشْهَدْ عنده يوم القيامة بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ له، منقادون لأوامره و نواهيه،

و إِذْ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ مخاطبين لك يا

ص: 451


1- . في تفسير الرازي: و هي الخط.
2- . تفسير الرازي 12:125.
3- . تفسير روح البيان 2:460.
4- . تقدم في تفسير الآية (52) من سورة آل عمران.

عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ .

قيل: كان ذلك منهم في بدو أمرهم و حال عدم استحكام معرفتهم باللّه و يقينهم برسالة عيسى، و لذا أساءوا الأدب بخطابه باسمه و نسبته إلى امّه، و كان حقّهم أن يقولوا: يا رسول اللّه، و يا روح اللّه (1).

هَلْ يَسْتَطِيعُ و يقدر رَبُّكَ على أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً و خوانا (2)عليه الطّعام مِنَ اَلسَّماءِ قيل: إنّ المراد: هل جائز في حكمة اللّه إنزال المائدة من السّماء؟ و هل يعطيك ربّك إن تسأله ذلك؟ ! (3).

أقول: هذان التوجيهان منافيان لما حكاه اللّه عن عيسى عليه السّلام في جوابهم بقوله: قالَ عيسى: اِتَّقُوا اَللّهَ من أمثال هذا السّؤال الكاشف عن شكّكم في قدرته إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته و موقنين به

قالُوا لعيسى اعتذارا: إنّه ما دعانا إلى هذا السّؤال الشّكّ في قدرته تعالى، بل إنّا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها للاستشفاء من أمراضنا على قول، أو لسدّ الرّمق على قول آخر، حيث قيل: إنّ السّؤال كان في زمن المجاعة (4).

وَ تَطْمَئِنَّ بمشاهدتها قُلُوبُنا و يتقوّى علمنا الاستدلالي بالعلم الشّهودي وَ نَعْلَمَ بعين اليقين أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في ادّعاء الرّسالة، لكون هذه المعجزة أتمّ الأدلّة عليه وَ نَكُونَ عَلَيْها عند أهل العالم مِنَ اَلشّاهِدِينَ حتّى يزداد المؤمنون برسالتك إيمانا، و يؤمن الكافرون بك باطّلاعهم عليها.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 114 الی 115

في كيفية نزول

المائدة

فلمّا أظهروا أغراضا ظاهرة الصّحّة لسؤالهم قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ متضرّعا إلى اللّه: اَللّهُمَّ رَبَّنا اللّطيف بنا، المكمّل لنفوسنا أَنْزِلْ عَلَيْنا بجودك و تفضّلك مائِدَةً و خوانا من الطّعام مِنَ اَلسَّماءِ كي تَكُونُ لَنا تلك المائدة و يوم نزولها عِيداً و سرورا، و يوم سرور لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا و سابقنا و لاحقنا إلى يوم القيامة وَ تكون

قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ اَللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ اَلسَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ اُرْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ (114) قالَ اَللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ (115)

ص: 452


1- . تفسير روح البيان 2:462.
2- . الخوان: ما يؤكل عليه.
3- . تفسير الرازي 12:129.
4- . تفسير روح البيان 2:462.

آيَةً و دلالة مِنْكَ على كمال قدرتك، و صحّة نبوّتي وَ اُرْزُقْنا المائدة و الشّكر عليها، فإنّك خير المسؤولين وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ تخلق الرّزق و تعطيه بلا منّ و لا عوض.

قالَ اَللّهُ بطريق الوحي لعيسى، إجابة لمسؤوله من إنزال المائدة: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ و مجيب لسؤلكم فَمَنْ يَكْفُرْ بتوحيدي و رسالة رسولي بَعْدُ مِنْكُمْ يا بني إسرائيل مع مشاهدة الآية العظيمة الباهرة فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بسبب إصراره على الكفر، و تمرّنه في الضّلال عَذاباً شديدا لا أُعَذِّبُهُ و لا أبتلي بمثله أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ .

في (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّ عيسى عليه السّلام قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما، ثمّ اسألوا اللّه ما شئتم يعطكموه، فصاموا ثلاثين [يوما]، فلمّا فرغوا قالوا: [يا عيسى]إنّا لو عملنا لأحد من النّاس فقضينا عمله لأطعمنا طعاما، و إنّا صمنا و جعنا، فادع اللّه أن ينزّل علينا مائدة من السّماء، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة، و سبعة أحوات (1)حتّى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم» (2).

و عن عمّار بن ياسر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [قال]: «نزلت المائدة خبزا و لحما، و ذلك أنّهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منه» قال: «فقيل لهم: فإنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا و تخبّأوا و ترفعوا، فإن فعلتم ذلك عذّبتم» قال: «فما مضى يومهم حتى خبّأوا و ترفّعوا و خانوا» (3).

و عن سلمان الفارسي رضى اللّه عنه، قال: و اللّه، ما تبع عيسى شيئا من المساوئ قطّ، و لا انتهر يتيما (2)، و لا قهقه ضحكا، و لا ذبّ ذبابا عن وجهه، و لا أخذ على أنفه من نتن شيء قطّ، و لا عبث قطّ.

و لمّا سأله الحواريّون أن ينزّل عليهم المائدة لبس صوفا و بكى و قال: اَللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ اَلسَّماءِ الآية، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين و هم ينظرون إليها و هي تهوي منقضّة حتّى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السّلام و قال: اللّهمّ اجعلني من الشّاكرين، اللّهمّ اجعلها رحمة و لا تجعلها مثلة و عقوبة. و اليهود ينظرون إليها، ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قطّ، و لم يجدوا ريحا أطيب من ريحه.

فقام عيسى عليه السّلام فتوضّأ و صلّى صلاة طويلة، ثمّ كشف المنديل عنها و قال: بسم اللّه خير الرّازقين. فإذا هو سمكة مشويّة ليس عليها فلوسها، تسيل سيلا من الدّسم، و عند رأسها [ملح]و عند ذنبها خلّ، و حولها أنواع البقول ما عدا الكرّاث، و إذا خمسة أرغفة: على واحد منها زيتون، و على الثّاني عسل،

ص: 453


1- . في النسخة: خوان، تصحيف، صوابه من مجمع البيان، و الأحوات: جمع حوت. (2 و 3) . مجمع البيان 3:410، تفسير الصافي 2:98.
2- . في النسخة: و لا انتهز شيئا.

و على الثّالث سمن، و على الرّابع جبن، و على الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح اللّه أمن طعام الدّنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى: ليس شيء ممّا ترون من طعام الدّنيا، و لا من طعام الآخرة، و لكنّه شيء افتعله اللّه بالقدرة الغالبة، كلوا ما سألتم، يمددكم و يرزقكم (1)من فضله.

فقال الحواريّون: يا روح اللّه، لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية اخرى؟ فقال عيسى عليه السّلام: يا سمكة، احيي بإذن اللّه تعالى، فاضطربت السّمكة و عاد عليها فلوسها و شوكها ففرقوا منها، فقال [عيسى]: ما لكم تسألون أشياء إذا اعطيتموها كرهتموها! ما أخوفني عليكم أن تعذّبوا! يا سمكة، عودي كما كنت بإذن اللّه، فعادت السّمكة مشويّة كما كانت، فقالوا: يا روح اللّه، كن أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن، فقال عيسى: معاذ اللّه أن آكل منها، و لكن يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة و الزّمناء و المرضى و المبتلين فقال: كلوا منها، و لكم الهناء و لغيركم البلاء، فأكل منها ألف و ثلاثمائة رجل و امرأة من فقير و مريض و مبتلى، و كلّهم شبعان يتجشأ (2).

في ذكر مسخ

أصحاب المائدة

ثمّ نظر عيسى إلى السّمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السّماء، ثمّ طارت المائدة صعدا و هم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم، فلم يأكل يومئذ منها زمن (3)إلاّ صحّ، و لا مريض إلاّ برئ، و لا فقير إلاّ استغنى، و لم يزل غنيّا حتّى مات، و ندم الحواريّون و من لم يأكل منها، و كانت إذا نزلت اجتمعت الأغنياء و الفقراء و الصّغار و الكبار يتزاحمون عليها، فلمّا رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى، فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفيئ طارت صعدا و هم ينظرون في ظلّها حتّى توارت عنهم، و كانت تنزل غبّا يوما و يوما.

فأوحى اللّه إلى عيسى عليه السّلام: اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا و شكّكوا النّاس فيها، فأوحى اللّه إلى عيسى عليه السّلام: إنّي شرطت على المكذّبين شرطا أنّ من كفر بعد نزولها اعذّبه عذبا لا اعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسى عليه السّلام: إن تعذّبهم فإنّهم عبادك، و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، فمسخ منهم ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثون رجلا، باتوا ليلتهم على فراشهم مع نسائهم في ديارهم، فأصبحوا خنازير يسعون في الطّرقات و الكناسات، و يأكلون العذرة و الحشوش، فلمّا رأى النّاس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السّلام و بكوا، و بكى على الممسوخين أهلوهم، فعاشوا ثلاثة أيّام ثم هلكوا (4).

و في (المجمع) : و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: «كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها و يأكلون

ص: 454


1- . في المصدر: و يزدكم.
2- . تجشأت المعدة: تنفست من امتلاء.
3- . الزّمن: المبتلى بمرض مزمن طالت مدته.
4- . مجمع البيان 3:410، تفسير الصافي 2:98.

منها ثمّ ترتفع، فقال كبراؤهم و مترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها، فرفع اللّه المائدة ببغيهم، و مسخوا قردة و خنازير» (1).

و عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام [قال]: «المائدة التي نزلت على بني إسرائيل كانت مدلاّة بسلاسل من ذهب، عليها تسعة أخونة (2)و تسعة أرغفة» (3).

و في رواية: «تسعة ألوان أرغفة» (4).

و في (المجمع) : عن الكاظم عليه السّلام: «أنّهم مسخوا خنازير» (5).

و عن الرضا عليه السّلام: «و الجرّيث و الضبّ فرقة من بني إسرائيل، حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم، لم يؤمنوا فتاهوا، فوقعت فرقة في البحر، و فرقة في البرّ» (6).

و عن (الخصال) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في حديث المسوخات: «و أمّا الخنازير فقوم من النصارى سألوا ربّهم إنزال المائدة عليهم، فلمّا نزلت عليهم كانوا أشدّ ما كانوا كفرا و أشدّ تكذيبا» (7).

قيل: نزلت المائدة يوم الأحد، فاتّخذه النّصارى عيدا (8).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 116

ثمّ بالغ سبحانه في تقريع النّصارى على اتّخاذ عيسى و امّه إلهين بحكاية خطابه في القيامة بما فيه تقريع منه بقوله: وَ إِذْ قالَ اَللّهُ في القيامة بمشهد من النّصارى: يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ .

وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ (116)عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «لم يقل، و سيقول؛ لأنّ (9)اللّه إذا علم شيئا هو كائن أخبر عنه خبر ما قد كان» (10).

و عن بعض المفسّرين أنّه تعالى خاطب عيسى حين رفعه إلى السّماء بقوله: أَ أَنْتَ قُلْتَ

ص: 455


1- . مجمع البيان 3:412، تفسير الصافي 2:100.
2- . الأخونة: جمع خوان، و هو ما يوضع عليه الطعام ليؤكل، و في نسخة من المصدر: أحوتة.
3- . تفسير العياشي 2:85/1387، تفسير الصافي 2:100.
4- . تفسير العياشي 2:86/1389، تفسير الصافي 2:100.
5- . مجمع البيان 3:410، تفسير الصافي 2:100.
6- . التهذيب 9:39/166، تفسير الصافي 2:101.
7- . الخصال:494/2، تفسير الصافي 2:101.
8- . تفسير الرازي 12:131.
9- . في المصدر: لم يقله و سيقوله إن.
10- . تفسير العياشي 2:86/1392، تفسير الصافي 2:101.

لِلنّاسِ (1) المؤمنين بك: اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ و معبودين لأنفسكم مِنْ دُونِ اَللّهِ و في قباله، فعمل القائلون بالأقانيم بقولك، و ادّعوا أنّ اللّه ثالث ثلاثة؟ قالَ عيسى خضوعا و تواضعا: سُبْحانَكَ و انزّهك من أن يكون لك شريك في شيء تنزيها ما يَكُونُ و ما ينبغي لِي مع معرفتي و تمحّضي في عبوديّتك و الانقياد لأوامرك أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ و أن أدّعي لنفسي غير العبوديّة.

ثمّ فوّض الصّدق و الكذب إلى علمه المحيط بكلّ شيء حفظا للأدب بقوله: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ و تفوّهت به فَقَدْ عَلِمْتَهُ حيث إنّك بإحاطتك بي تَعْلَمُ ما اخفي فِي نَفْسِي و ضميري من المعلومات وَ لا أَعْلَمُ ما خفي فِي نَفْسِكَ و غيبك من معلوماتك. و إنّما عبّر عن خفيّات علمه تعالى بما في نفسه للمشاكلة و الازدواج.

ثمّ أكّد سعة علمه تعالى بقوله: إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ ممّا كان و ممّا يكون.

في ذكر عدد حروف

الاسم الأعظم

عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام، في تفسيرها: «أنّ الاسم الأكبر ثلاثة و سبعون حرفا، فاحتجب الربّ تعالى بحرف، فمن ثمّ لا يعلم أحد ما في نفسه عزّ و جلّ، أعطى آدم اثنين و سبعين حرفا فتوارثها الأنبياء حتّى صارت إلى عيسى عليه السّلام، فلذلك قال: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، يعني اثنين و سبعين حرفا من الاسم الأكبر، يقول: أنت علّمتنيها، فأنت تعلمها وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ، يقول: لأنّك احتجبت من خلقك بذلك الحرف، فلا يعلم أحد ما في نفسك» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 117

ثم بالغ في تنزيه نفسه من القول الشّنيع بقوله: ما قُلْتُ لَهُمْ من قبلي و لا من قبلك قولا إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ من القول الحق. ثمّ فسّره بقوله: أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ الذي يكون رَبِّي وَ رَبَّكُمْ و خالقي و خالقكم وَ كُنْتُ بحسب وظيفة الرّسالة عَلَيْهِمْ شَهِيداً و رقيبا ما دُمْتُ مقيما فِيهِمْ اراعي أحوالهم و أحملهم على قول الحقّ و العمل الصالح، و أمنعهم عن الضلال و العصيان، أو كنت مشاهدا لأحوالهم من الكفر و الإيمان فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي و قطعت علاقتي من الأرض، و رفعتني إلى

ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)

ص: 456


1- . تفسير الرازي 12:136.
2- . تفسير العياشي 2:87/1394، تفسير الصافي 2:101.

السّماء كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ و الحافظ المقتدر عَلَيْهِمْ الناظر في أحوالهم و أعمالهم.

ثمّ لأجل دفع توهّم الاختصاص بيّن إحاطته بجميع الموجودات بقوله: وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء و كلّ موجود من الموجودات شَهِيدٌ و رقيب، لا يخرج من سلطانك و نفوذ إرادتك شيء.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 118

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد تنزيه نفسه من الدّخل (1)في عقائدهم الفاسدة و أعمالهم السيّئة، تبرّأ من الدّخل في مجازاتهم بالشّفاعة و غيرها بقوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ على كفرهم و عصيانهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ مقهورون تحت قدرتك مملوكون لك لا تعاملهم إلاّ بالعدل وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ و تعفو عن سيّئاتهم فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ الغالب في إرادتك اَلْحَكِيمُ في أفعالك لا تعفو إلاّ عمّن هو أهل له.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (118)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 119

ثمّ بيّن سبحانه نفع قول الحقّ و الصّدق إشعارا بتصديق عيسى عليه السّلام بقوله: قالَ اَللّهُ هذا اليوم يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ في الدّنيا صِدْقُهُمْ في القول و الاعتقاد و النيّة و العمل.

قالَ اَللّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (119)ثمّ شرح النّفع بقوله: لَهُمْ جَنّاتٌ و بساتين ملتفّة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً ليس لهم خوف الخروج عنها.

ثمّ بشّرهم بأعلى المنافع و الحظوظ بقوله: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ بطاعتهم و صدقهم في القول و العمل وَ رَضُوا عَنْهُ بنيلهم أعلى الكرامات، و هو مقام الرّضوان و ذلِكَ المقام هو اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و النّجاح بأعلى المقاصد.

عن القمّي رحمه اللّه: الدّليل على أنّ عيسى لم يقل [لهم]ذلك، قوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (2).

و عنه باسناده عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: [قال]: «إذا كان يوم القيامة و حشر النّاس للحساب، فيمرّون بأهوال يوم القيامة، و لا ينتهون إلى العرصة حتّى يجهدوا جهدا شديدا» .

ص: 457


1- . كذا، و الظاهر: الدخول أو التدخّل.
2- . تفسير القمي 1:191، تفسير الصافي 2:102.

قال: «ثمّ يقفون بفناء العرش (1)، و يشرف الجبّار عليهم و هو على عرشه، فأوّل من يدعى بنداء يسمع الخلائق أجمعون أن يهتّف باسم محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله النبيّ القرشيّ العربيّ» قال: «فيتقدّم حتّى يقف على يمين العرش» .

قال: «ثمّ يدعى بصاحبكم [علي عليه السّلام]يتقدّم حتّى يقف على يسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ يدعى بامّة محمّد فيقفون على يسار عليّ عليه السّلام، ثمّ يدعى بنبيّ نبيّ و أمّته معه، من أوّل النّبيّين إلى آخرهم و امّتهم معهم فيقفون على يسار العرش.

قال: «ثمّ أوّل من يدعى للمسائلة القلم» ، قال: «فيتقدّم فيقف بين يدي اللّه في صورة الآدميّين فيقول [اللّه]: هل سطّرت في اللّوح ما ألهمتك و أمرتك به [من الوحي]؟ فيقول القلم: نعم يا ربّ، قد علمت أنّي سطّرت في اللّوح ما أمرتني و ألهمتني به من وحيك. فيقول اللّه: فمن يشهد لك بذلك؟ فيقول: يا ربّ، هل اطّلع على مكنون سرّك غيرك؟ فيقول له [اللّه]: أفلحت حجّتك.

ثمّ يدعى باللّوح فيتقدّم في صورة الآدميّين حتّى يقف مع القلم، فيقول له: هل سطر فيك القلم ما ألهمته و أمرته به من وحيي؟ فيقول اللّوح: نعم يا ربّ، و بلغته إسرافيل، ثمّ يدعى بإسرافيل، فيتقدّم إسرافيل، مع اللّوح و القلم في صورة الآدميّين فيقول اللّه: هل بلّغك اللّوح ما سطّر فيه القلم من وحيي؟ فيقول: نعم يا ربّ، و بلّغته جبرائيل، فيدعى بجبرائيل [فيتقدم]حتّى يقف مع إسرافيل فيقول اللّه له: هل بلّغك إسرافيل ما بلّغ؟ فيقول: نعم يا ربّ، و بلّغته جميع أنبيائك، و أنفذت إليهم جميع ما انتهى إليّ من أمرك، و أديت رسالاتك إلى نبيّ نبيّ و رسول رسول، و بلّغتهم كلّ وحيك و حكمتك و كتبك، و إنّ آخر من بلّغته رسالتك و وحيك و حكمتك و علمك و كتابك و كلامك محمّد بن عبد اللّه العربيّ القرشيّ الحرميّ حبيبك» .

قال أبو جعفر عليه السّلام: «فأوّل من يدعى للمسائلة من ولد آدم محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فيدنيه اللّه حتّى لا يكون خلق أقرب إلى اللّه يومئذ منه، فيقول اللّه: يا محمّد، هل بلّغك جبرئيل ما أوحيت إليك و أرسلته به إليك من كتابي و حكمتي و علمي، و أوحاه إليك؟ فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم يا ربّ، قد بلّغني جبرئيل جميع ما أوحيته إليه و أرسلته به من كتابك و حكمتك و علمك، و أوحاه إليّ. فيقول اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: هل بلّغت امّتك ما بلّغك جبرئيل من كتابي و حكمتي و علمي؟ فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم يا ربّ، قد بلّغت امّتي جميع ما اوحي إليّ من كتابك و حكمتك و علمك، و جاهدت في سبيلك.

فيقول اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: فمن يشهد لك بذلك؟ فيقول محمّد صلّى اللّه عليه و آله: يا ربّ، أنت الشّاهد لي بتبليغ

ص: 458


1- . في المصدر: العرصة.

الرّسالة، و ملائكتك، و الأبرار من امّتي، و كفى بك شهيدا. فيدعى بالملائكة فيشهدون لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ الرّسالة [ثمّ يدعي بأمه محمّد فيسألون: هل بلّغكم محمد رسالتي و كتابي و حكمتي و علمي و علّمكم ذلك؟ فيشهدون لمحمّد بتبليغ الرسالة]و الحكمة و العلم.

فيقول اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: هل استخلفت في امّتك من بعدك من يقوم فيهم بحكمتي و علمي، و يفسّر لهم كتابي، و يبيّن لهم ما يختلفون فيه من بعدك حجّة لي، و خليفة في الأرض؟ فيقول محمّد: نعم يا ربّ، قد خلّفت فيهم عليّ بن أبي طالب أخي و وزيري و وصيّي و خير امّتي، و نصبته لهم علما في حياتي، و دعوتهم إلى طاعته، و جعلته خليفتي في امّتي [و إماما]تقتدي به الامّة بعدي إلى يوم القيامة، فيدعى بعليّ بن أبي طالب» .

إلى أن قال: «فيدعى بإمام إمام، و بأهل عالمه، فيحتجّون بحجّتهم، فيقبل اللّه عذرهم، و يجيز حجّتهم. قال: ثمّ يقول اللّه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 120

ثمّ بيّن اللّه سعة ملكه، و عظم سلطانه، و كمال قدرته، إبطالا لدعاوى النّصارى، و تقريرا لما وعد الصّادقين بقوله: لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ من الموجودات يتصرّف فيها كيف يشاء وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، و في قوله: وَ ما فِيهِنَّ تنبيه على أنّ جميع الموجودات، لكونها مقهورة تحت قدرته و قضائه، بمنزلة الجمادات التي لا قدرة لها على شيء.

لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)الحمد للّه الذي أيّدني لإتمام سورة المائدة، و أسأله الإنعام عليّ بالتّوفيق لإتمام ما يتلوها من سورة الأنعام.

ص: 459


1- . تفسير القمي 1:191، تفسير الصافي 2:102.

ص: 460

في تفسير سورة الأنعام

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 1

في بيان وجه

نظم سورة الأنعام

ثمّ لمّا تمّت السّور التي كان أهمّ المقاصد فيهنّ محاجّة اليهود و النّصارى الّذين هم أعلم الملل الباطلة، و إبطال شبهاتهم و عقائدهم الفاسدة، و بيان ما ينتظم به امور المعاد و المعاش، من أحكام العبادات و السّياسات، و حقوق النّاس، و المحلّلات و المحرّمات من الأطعمة و الأشربة و المناكح، و المنّة على المسلمين بتكميل الدّين و إتمام النّعمة بنصب الحجّة على العالمين، ثمّ ختم المائدة ببيان كمال قدرته و عظمة سلطنته، انتظمت سورة الأنعام المبتدأ فيها بالحمد على نعمائه، و تأكيد ما في آخر السّورة السّابقة بإعادة بيان كمال قدرته، و شرح ملكيّته بالملكيّة الإشراقية الإيجاديّة المشتملة على محاجّة المشركين الّذين هم أجهل الملل، و إبطال بدعهم، و بيان بعض أحكام الأطعمة، و غير ذلك من الوجوه الموجبة لحسن النّظم.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ اَلظُّلُماتِ وَ اَلنُّورَ ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)فابتدأ فيها بقوله: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، و قد مرّ تفسيره، ثمّ بحمد ذاته المقدّسة بقوله: اَلْحَمْدُ بجميع أنواعه و أفراده، و الثّناء الجميل بأيّ نحو وجد ملك لِلّهِ و مختصّ بالواجب المستجمع لجميع الكمالات لا يشركه فيه غيره حمد أم لم يحمد.

ثمّ عرّف ذاته المقدّسة بكمال القدرة وسعة الإنعام تقريرا لاختصاصه به و حثّا عليه بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ و سوّى بقدرته و حكمته اَلسَّماواتِ و ما فيها من الكواكب و الملائكة وَ اَلْأَرْضَ و ما عليها و فيها من الحيوانات و النّباتات و غيرها.

و تخصيصهما بالذّكر لكونهما أعظم المخلوقات الجسمانيّة في الأنظار. و قد مرّ وجه جمع السّماوات و إفراد الأرض مع كونها مثلهنّ. و إنّما قدّم ذكر السّماوات مع تأخّرهنّ في الوجود من الأرض، لكونهنّ أعظم و أشرف في الأنظار، و لنزول البركات منهنّ، و كونهنّ بمنزلة الآباء للمواليد،

ص: 461

و الأرض بمنزلة الامّ.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّه لمّا قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كان ردّا على الدّهريّة الّذين قالوا: إنّ الأشياء لا بدو لها و هي قائمة» (1).

وَ جَعَلَ و أنشأ اَلظُّلُماتِ إنّما جمعها لكثرة أسبابها وَ اَلنُّورَ أفرده لأنّه بسبب واحد، قيل: هو النّار، و إنّما قدّمت الظّلمات في الذّكر لكونها عدميّة، و مقدّمة على النّور الذي هو وجودي (2).

روي أنّ اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة، ثمّ رشّ عليهم من نوره (2).

و روي أنّها نزلت تكذيبا للمجوس في قولهم: اللّه خالق النّور، و الشّيطان خالق الظّلمات (4).

و قيل: على ذلك خلق الخير و الشرّ (5).

عن ابن عباس رضى اللّه عنه، قال: جَعَلَ اَلظُّلُماتِ وَ اَلنُّورَ أي ظلمة الشّرك و النّفاق و الكفر، و النّور يريد نور الإسلام (3). و عليه يكون إفراد النّور لأنّ الحقّ واحد، و جمع الظّلمات لأنّ الباطل كثير.

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه المشركين و استبعد مع ذلك من عقلهم الشّرك بقوله: ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باعتقاد الشّرك بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ و يشركون مع دلالة جميع الموجودات على وحدانيّته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 2

ثمّ استدلّ بأوضح الأدلّة عند الإنسان على كمال قدرته و أتمّ النّعمة عليه بقوله: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ و أوجدكم مِنْ طِينٍ لأنّ مبدأ وجود البشر آدم، و هو مخلوق من طين، أو لأنّ مبدأ وجودهم النّطفة، و هي متكوّنة من الأغذية النّباتيّة المتولّدة من طين ثُمَّ بعد الخلق قَضى و قدّر لكلّ واحد أَجَلاً خاصّا به، و أمدا معيّنا يؤخّر إليه موته، وَ له أَجَلٌ آخر و وقت مضروب مُسَمًّى و معيّن عِنْدَهُ مثبّت في اللّوح المحفوظ، لا يطّلع عليه غيره.

هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (4)

في أنّ لكلّ إنسان

أجلين محتوم

و مسمى

عن القمّي: عن الصادق عليه السّلام: «الأجل المقضيّ هو المحتوم الذي قضاه اللّه و حتمه، و المسمّى هو الذي فيه البداء، يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء، و المحتوم ليس فيه تقديم و لا تأخير» (5).

حكي عن حكماء الإسلام أنّ لكلّ إنسان أجلين: الأجل الطّبيعي، و الأجل الاخترامي. أمّا الطّبيعي؛

ص: 462


1- . الاحتجاج:28، تفسير الصافي 2:106، و في الاحتجاج: و هي دائمة.
2- . تفسير الرازي 12:151. (4 و 5) . تفسير روح البيان 3:3.
3- . تفسير الرازي 12:151.
4- . تفسير الرازي 12:151.
5- . تفسير القمي 1:194، تفسير الصافي 2:107.

فهو الذي لو بقي ذلك المزاج و لم تعترضه العوارض الخارجيّة، لانتهت مدّة بقائه إلى أنّ تتحلّل رطوبته و تنطفئ حرارته الغريزيّتان. و أمّا الاخترامي: فهو الذي يحصل بالعوارض كالغرق و الحرق و غيرهما من المهلكات (1).

و قيل: إنّ المراد من الأجل المقضيّ: مدّة عمره في الدّنيا، و من الأجل المسمّى: مدّة عمره في الآخرة، فإنّه لا آخر لها، و لا يعلم كيفيّة الحال فيها إلاّ اللّه (2).

و قيل: إنّ الأوّل مدّة حياة الدّنيا، و الثّاني مدّة البرزخ (3).

ثمّ بالغ سبحانه في استبعاد الشّرك منهم مع ذلك، أو في استبعاد إنكارهم البعث بقوله: ثُمَّ أَنْتُمْ أيّها المشركون تَمْتَرُونَ و تشكّون في توحيد اللّه، أو البعث مع كون الإعادة أهون من الابتداء.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد تخصيص خلق العالم بنفسه خصّ استحقاق العبادة بذاته المقدّسة بقوله: وَ هُوَ اَللّهُ و المعبود المطلق فِي اَلسَّماواتِ و الملكوت الأعلى وَ فِي اَلْأَرْضِ و عالم الملك.

وَ هُوَ اَللّهُ فِي اَلسَّماواتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)عن الصادق عليه السّلام: «كذلك هو في كلّ مكان» (4).

ثمّ لمّا كانت معرفته باستحقاق العبادة لا توجب الانبعاث إليها إلاّ بعد معرفته بالعلم الكامل بضمائر العباد و أعمالهم، عرّف ذاته المقدّسة بسعة العلم بقوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ و خفيّاتكم من العقائد و النيّات وَ جَهْرَكُمْ و إعلانكم من الأقوال و الأعمال وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ و تحصّلون لأنفسكم من الخير و الشرّ، و الطّاعة و العصيان، فيجازيكم على جميع ذلك بما تستحقّون.

عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «و لكن هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علما و قدرة و إحاطة و سلطانا، ليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السّماء، لا يبعد منه شيء، و الأشياء عنده سواء علما و قدرة و سلطانا و ملكا و إحاطة» (5).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 4 الی 5

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)

ص: 463


1- . تفسير روح البيان 3:5. (2 و 3) . تفسير الرازي 12:153. (4 و 5) . التوحيد:133/15، تفسير الصافي 2:107.

ثمّ لمّا كان بيان هذه المعارف من النبيّ الاميّ بالعبارات التي فيها الإعجاز من الأدلّة الواضحة على صدق نبوّته، وبّخ سبحانه المشركين على عدم الالتفات إليها، و ترك التّأمّل فيها و الاعتناء بها بقوله: وَ ما تَأْتِيهِمْ و ما ينزل عليهم مِنْ آيَةٍ و حجّة واضحة مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ و حججه الباهرة على صدق نبوّته إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ و بها غير معتنين، بل إلى تكذيبها مسارعين، بل بها مستهزئين

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ و القرآن المقترن بدلائل الصّدق، أو بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله لَمّا جاءَهُمْ و أنزل إليهم، أو بعث فيهم، و استهزؤا به فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ و يبيّن لهم أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و صدق ما أخبروا به من العذاب في الدّنيا بقتلهم بأيدي المسلمين، و في الآخرة بتصليتهم في نار الجحيم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 6

ثمّ أشهد على صدق وعيده بما نزل من العذاب على الامم الماضية و وعظهم به بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا أولئك المكذّبون، و لم يعلموا علما يكون بمنزلة الرّؤية كَمْ أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ و أهل عصر، كقوم عاد و ثمود، و قوم نوح و لوط و أضرابهم.

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا اَلْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)ثمّ كأنّه قيل: كيف كان حالهم؟ فأجاب بقوله: مَكَّنّاهُمْ و أقدرناهم فِي اَلْأَرْضِ و أعطيناهم من البسطة في الجسم و السّعة في المال ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ و مقدارا لم نعطكموه وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّماءَ و أنزلنا عَلَيْهِمْ مطرا مِدْراراً غزيرا متتابعا وَ جَعَلْنَا و صيّرنا اَلْأَنْهارَ الكثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ في مساكنهم و بساتينهم، فهم لم يشكروا تلك النّعم، بل قابلوها بالكفر و التّكذيب للرّسل و الاستهزاء بالآيات فَأَهْلَكْناهُمْ بعذاب الاستئصال بِذُنُوبِهِمْ و سيئات عقائدهم و أعمالهم، و لم يعظم علينا إهلاكهم، لأنّا عمّرنا الأرض بغيرهم وَ أَنْشَأْنا و خلقنا مِنْ بَعْدِهِمْ بدلا منهم قَرْناً آخَرِينَ فاعتبروا أيّها المشركون بهم، و أحذروا أن تكونوا مثلهم، و يعاملكم اللّه معاملتهم بكفركم و طغيانكم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 7

ثمّ قطع اللّه رجاء رسوله عن إيمانهم بعد التّهديد و الوعظ و رؤية الآيات بقوله: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ

ص: 464

من السّماء كِتاباً تماما كالتّوراة، و كان مكتوبا فِي قِرْطاسٍ و ورق كما اقترحوه و شاهدوا نزوله بأعينهم فَلَمَسُوهُ بعد نزوله بِأَيْدِيهِمْ كي لا يبقى لهم شكّ في كونه كتابا نازلا من السّماء، و اللّه لَقالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على الكفر طعنا فيه، و عنادا للحقّ: إِنْ هذا الكتاب، و ما هو إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة لكلّ أحد.

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)روي أنّ بعض المشركين قالوا: يا محمّد، لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند اللّه، معه أربعة من الملائكة يشهدون أنّه من عند اللّه، و أنّك رسوله، فأنزل اللّه: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الآية (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية بعض اقتراحات المشركين، حكى بعض اعتراضاتهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يشهد بصدق نبوّته، فإنّه أقرب إلى قبول قوله؛ لأنّ كلّ من يرى الملك يقبل قوله، و يؤمن به، فرد اللّه ذلك بقوله: وَ لَوْ أَنْزَلْنا من السّماء مَلَكاً بصورته الأصليّة لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ و انقطع صحّة التّكليف، لكون إيمانهم بالإلجاء كما في القيامة، فحقّ إهلاكهم ثُمَّ إذن لا يُنْظَرُونَ و لا يمهلون، فيفاجأهم عذاب الاستئصال؛ لكون رؤية الملك كرؤية الآخرة لا ينفع الإيمان بعدها،

وَ لذا لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً يعاينوه لَجَعَلْناهُ رَجُلاً و صوّرناه بصورة البشر كضيفان إبراهيم و لوط، و كالملكين المتخاصمين عند داود، و كجبرئيل المتصوّر عند النبيّ بصورة دحية الكلبي؛ لأنّ الأبصار لا تقوى لرؤية الملك في هذا العالم الجسماني، وَ إذن لَلَبَسْنا و شبّهنا (2)الأمر عَلَيْهِمْ نحو ما يَلْبِسُونَ و يشبّهون (3)؛ لأنّهم يظنّون أنّه بشر، فيعود اعتراضهم بقولهم: ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً (4)، و لذا استحال أن يجعل الرّسل ملائكة لعدم الفائدة فيه.

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)

في محاجة

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع

المشركين

عن العسكري عليه السّلام، قال: «قلت لأبي عليّ بن محمّد: هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يناظر اليهود و المشركين إذا عاتبوه و يحاجّهم؟ قال: [بلى]مرارا كثيرة، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة، إذ ابتدأ عبد اللّه بن [أبي]اميّة المخزومي فقال: يا محمّد، لقد ادّعيت دعوى عظيمة، و قلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، و لا ينبغي

ص: 465


1- . تفسير روح البيان 3:11.
2- . في النسخة: و اشتبهنا.
3- . في النسخة: يشتبهون.
4- . المؤمنون:23/24.

لربّ العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا، و لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك و نشاهده، بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا نبيّا لكان يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، ما أنت يا محمّد إلاّ [رجلا]مسحورا و لست بنبيّ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ أنت السّامع لكلّ صوت، و العالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل [اللّه]عليه: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ إلى قوله: ما يَلْبِسُونَ .

ثمّ قال رسول اللّه: و أمّا قولك: و لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك و نشاهده، بل لو أراد [اللّه] أن يبعث إلينا نبيّا، لكان إنّما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، فالملك لم تشاهده حواسّك لأنّه من جنس هذا الهواء، لا عيان منه، و لو شاهدتّموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم: ليس هذا ملكا، بل هذا بشر؛ لأنّه إنّما يظهر لكم بصورة البشر الذي ألفتموه، لتفهموا عنه مقاله، و تعرفوا خطابه و مراده، و كيف كنتم تعلمون صدق الملك و أن ما يقوله حقّ، بل إنّما بعث اللّه بشرا، و أظهر على يده المعجزات التي ليست في طباع البشر الّذين قد علمتم ضمائر قلوبهم، فتعلمون بعجزكم عمّا جاء به أنّه معجز، و أنّ ذلك شهادة من اللّه بالصّدق له، و لو ظهر لكم ملك و ظهر على يده ما يعجز عنه البشر، لم يكن في ذلك ما يدلّكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتّى يصير ذلك معجزا، ألا ترون الطّيور التي تطير، ليس ذلك منها بمعجز؛ لأنّ لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها، و لو أنّ آدميّا طار كطيرانها كان ذلك معجزا، فاللّه عزّ و جلّ سهّل عليكم الأمر و جعله مثلكم بحيث تقوم عليكم حجّته، و أنتم تقترحون عمل الصّعب الذي لا حجّة فيه» (1)الحديث.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 10

ثمّ لمّا حكى اللّه تعالى إعراض المشركين عن المعجزات، و استهزاءهم بها، و إصرارهم على الكفّر، و عدم تأثّر قلوبهم بالنّصح، و كانت كلّها سببا لحزن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، سلّى قلب حبيبه بقوله: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثيرة مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السّابقة على بعثتك، و هم صبروا على استهزائهم فَحاقَ و أحاط، أو حلّ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ عقيب استهزائهم و سخريتهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الدّين، أو العذاب الذي كان النبيّ يخبرهم به و هم يستهزءون به. و فيه وعد النبيّ بإهلاك المستهزئين به، فأنجز اللّه وعده يوم بدر.

وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

ص: 466


1- . الاحتجاج:29، تفسير الصافي 2:109.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 11

ثمّ لمّا ذكر اللّه في تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استهزاء قومه به، أمره بتهديدهم و إنذارهم بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين المكذّبين بك: سِيرُوا و سافروا فِي أقطار اَلْأَرْضِ لتعرفوا أحوال الأمم الماضية ثُمَّ اُنْظُرُوا بأبصاركم، و تفكّروا بقلوبكم في أنّه كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ بالرّسل و إلى ما صار مآل إعراضهم عن الآيات الإلهيّة، فاعتبروا ممّا نزل بهم من عذاب الاستئصال، و لا تغترّوا بما أنتم فيه من الصحّة و القوّة و النّشاط و السّعة.

قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ اُنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (11)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 12

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بعد تهديد المشركين و نصحهم بإلزامهم بالتّوحيد بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين و اسألهم عن أنّه: لِمَنْ يكون ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الموجودات خلقا و ملكا و تصرّفا؟

قُلْ لِمَنْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلْ لِلّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)فلمّا كان الجواب من أبده البديهيّات عند العقلاء بحيث لا ينبغي الخلاف فيه، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالمبادرة إليه بقوله: قُلْ كلّها لِلّهِ وحده لا شريك له، إيماء إلى أنّ هذا السّؤال ليس من حقّه الانتظار في الجواب، بل حقّه أن يبادر إلى جوابه بالاعتراف بأنّ الكلّ للّه؛ لظهور آثار الحدوث و الإمكان في الأجسام، و احتياج الحادث إلى الصّانع الواجب من أبده البديهيّات.

ثمّ بشّر برحمته على عباده مع كمال عظمته و قدرته تربية للرّجاء في القلوب بقوله: كَتَبَ و حتم عَلى نَفْسِهِ و ذاته المقدّسة اَلرَّحْمَةَ و العطوفة على العباد، و لذا لا يعجل على من أشرك به و عصاه بالعقوبة، و يقبل منهم التّوبة.

و قيل: إنّ المراد بالرّحمة: الهداية إلى معرفته بنصب الدّلائل على توحيده (1)و كمال صفاته.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لمّا فرغ اللّه من الخلق كتب كتابا: إنّ رحمتي سبقت غضبي» (2).

أقول: الظّاهر من سبق الرّحمة هو الغلبة و الكثرة، لا السّبق الزّماني.

و عن سلمان الفارسي رضى اللّه عنه: أنّه تعالى لمّا خلق السّماء و الأرض خلق مائة رحمة، كلّ رحمة ملء ما بين السّماء و الأرض، فعنده تسع و تسعون رحمة و واحدة بين الخلائق فيها يتعاطفون و يتراحمون، فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتّقين (3).

ص: 467


1- . جوامع الجامع:123.
2- . تفسير الرازي 12:165.
3- . تفسير الرازي 12:165.

ثمّ أردف البشارة بالرّحمة بالتّهديد بالعقوبة تربية للخوف بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللّه و يبعثنّكم من القبور إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ الذي لا رَيْبَ لعاقل فِيهِ .

و قيل: إنّ من شؤون رحمته بالعباد جمع النّاس في يوم القيامة، و جعل دار الجزاء و الوعيد بها، و إلاّ لحصل الهرج و المرج، و لارتفع الضّبط و كثر الخبط (1)، و اختلّ النّظام.

ثمّ نبّه اللّه سبحانه على أنّ ترك الإيمان بالتّوحيد مع سعة رحمته تعالى، و الوعيد بالعقاب على الشّرك غاية الخسران بقوله: اَلَّذِينَ خَسِرُوا و غبنوا أَنْفُسَهُمْ و أضرّوا عليها بتضييع رأس المال من الفطرة الأصليّة و العقل السّليم، باتّباع الهوى و الانهماك في الشّهوات فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بوحدانيّة اللّه، بل يصرّون على الشّرك و العصيان، و لذا يخرجون عن قابليّة شمول الرّحمة الواسعة، و يستحقّون العذاب الدّائم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر كونه مالك المكان و المكانيّات من السّماوات و الأرض و ما فيهما، ذكر أنّه مالك الزّمان و الزّمانيّات بقوله: وَ لَهُ ما سَكَنَ و استقرّ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ و اشتملا عليه من الموجودات، أو ما سكن و تحرّك فيهما.

وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (13) قُلْ أَ غَيْرَ اَللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (14)روي أنّ كفّار مكّة أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد، قد علمنا أنّه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلاّ الفقر و الحاجة، فنحن نجمع لك من القبائل أموالا تكون أغنانا رجلا، و ترجع عمّا أنت عليه من الدّعوة، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد التّنبيه على كونه مالك جميع الموجودات، نبّه على إحاطته بها علما بقوله: وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لكلّ المسموعات اَلْعَلِيمُ بجميع المعلومات، فيسمع نداء المضطرّين، و يعلم حاجات المحتاجين.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سعة ملكه و رحمته، و كمال غناه و إحاطته، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يعلن بتخصيصه بولايته، و إعراضه عن ولاية غيره بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين إنكارا على نفسك: أَ غَيْرَ اَللّهِ من مخلوقاته أَتَّخِذُ و أختار لنفسي وَلِيًّا و كافلا و معبودا؟ ! حاشاي من ذلك، مع أنّه تعالى

ص: 468


1- . تفسير الرازي 12:166.
2- . تفسير روح البيان 3:15.

بكمال قدرته كان فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مبدعهما من غير مثال، وَ هُوَ بجوده و غناه يُطْعِمُ و يرزق جميع الموجودات، و يوصل إليها ما تحتاج إليه وَ لا يُطْعَمُ و لا يرزق، و لا يحتاج إلى شيء، و لا ينتفع بشيء، فهو تعالى جواد بالذّات غنيّ بالذّات، و غيره عاجز فقير محتاج. فالعدول عن ولاية القادر الغنيّ الجواد إلى ولاية العاجز الفقير المحتاج غاية الجهل، و عين السّفه.

ثمّ بعد إقامة البرهان العقلي على عدم جواز العدول عن اللّه إلى غيره في الولاية و العبادة، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإعلام النّاس بوجوب ولايته و التّمحّض بعبوديّته بقوله: قُلْ للنّاس: إِنِّي أُمِرْتُ من قبل ربّي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وجهه و نفسه، و خصّ ولايته و عبادته به، و أمر غيري أن يكون تابعا في ذلك، و نهيت عن التّوجّه إلى غيره حيث خاطبني اللّه بقوله: وَ لا تَكُونَنَّ يا محمّد مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ بي و بعبادتي و ولايتي.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 15

ثمّ لمّا أمر النّاس بتخصيص اللّه بالولاية و العبوديّة، و نهاهم عن الشّرك بأبلغ بيان، و كان من لوازم مخالفة أمر اللّه و نهيه العقوبة، أمر بإظهار الخوف من المخالفة تخويفا للنّاس من العذاب، و ردعا لهم عن العصيان بقوله: قُلْ يا محمّد، لعموم النّاس و خصوص المشركين: إِنِّي مع قربي و رسالتي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي و خالفت نهيه في اختيار الشّرك عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أهواله و عذابه، و هو يوم القيامة.

قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)عن الصادق عليه السّلام: «ما ترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قول: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ حتّى نزلت سورة الفتح، فلم يعد إلى ذلك الكلام» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 16

ثمّ أشار إلى آثار رحمته و ولايته بقوله: مَنْ يُصْرَفْ و يدفع عَنْهُ العذاب يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ اللّه، و تفضّل عليه بأن وفّقه في الدّنيا للتبرّؤ عن الشّرك و السّيّئات، و للقيام بالأعمال الصّالحات وَ ذلِكَ الصّرف أو الرّحم هو اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ و النّجاح بأعلى المقاصد.

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ (16)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «و الذي نفسي بيده ما من النّاس أحد يدخل الجنّة بعمله» . قالوا: و لا أنت يا رسول اللّه، قال: «و لا أنا، إلاّ أن يتغمّدني اللّه برحمته» . و وضع يده فوق رأسه، و طوّل بها صوته (2).

ص: 469


1- . تفسير العياشي 2:175/1947، تفسير الصافي 2:111.
2- . تفسير الرازي 12:171.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 17

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر البرهان العقلي و الأمر الإلهي علّة لوجوب اختصاص ولايته باللّه، ذكر علّة ثالثة له بقوله: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ و يبتليك بِضُرٍّ و بلاء كالمرض و الفقر و نحوهما فَلا كاشِفَ و لا دافع لَهُ بقدرته إِلاّ هُوَ تعالى وحده وَ إِنْ يَمْسَسْكَ و يصبك بِخَيْرٍ و نفع من سرور و صحّة و غنى و أمثالها، فلا قادر على منعه فَهُوَ تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الضرّ و الخير و إبقائهما و رفعهما، و غير ذلك من الأمور قَدِيرٌ لا يمنعه عن إنفاذ إرادته مانع.

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، أنّه [قال]: اهدي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بغلة، أهداها كسرى، فركبها بحبل من شعر، ثمّ أردفني خلفه، ثمّ سار بي مليّا، ثمّ التفت إليّ فقال: «يا غلام» ، فقلت: لبّيك يا رسول اللّه، فقال: «احفظ اللّه يحفظك، احفظ اللّه تجده أمامك، تعرّف إلى اللّه في الرّخاء يعرفك في الشدّة، و إذا سألت فاسأل اللّه، و إذا استعنت فاستعن باللّه، فقد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه اللّه لك لم يقدروا عليه، و لو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب اللّه عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصّبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإنّ في الصّبر على ما تكره خيرا كثيرا» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 18

ثمّ قرّر سبحانه كمال قدرته و علمه و حكمته، الموجب على العاقل تخصيص ولايته به، و عدم العدول عنه إلى غيره، بقوله: وَ هُوَ تعالى اَلْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ و الغالب عليهم بقدرته وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ المتقن في صنعه، الحافظ للمصالح في أفعاله، و اَلْخَبِيرُ و العليم بما صحّ أن يخبر عنه، فإذا كان اللّه مستجمعا لجميع الصّفات الكماليّة التي مرجع جميعها إلى العلم و القدرة، كان حقيقا بأن يعوّل عليه في جميع الأمور، و يرجع إليه في كلّ المطالب، و يعرض عمّا سواه.

وَ هُوَ اَلْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ (18)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 19

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اَللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اَللّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (19)

ص: 470


1- . تفسير روح البيان 3:16.

ثمّ لمّا لم يقنع المشركون بالبراهين القاطعة على توحيد اللّه و صدق دعوى رسالته، و لم يرتدعوا بالوعد و الوعيد عمّا كانوا عليه من الشّرك و الجحود، و طلبوا منه الشّاهد على صدق دعواه مع أنّ معجزاته شهادة اللّه على صدقه، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لمن طلب منك الشّاهد: أَيُّ شَيْءٍ من الأشياء، و أيّ موجود من الموجودات أَكْبَرُ و أعظم شَهادَةً على المدّعى بحيث لا يدانيها شهادة غيره.

و لمّا كان الجواب من البداهة بحيث لا ينبغي التّأمّل و الانتظار فيه، أمره اللّه بالمبادرة إليه بقوله: قُلِ اَللّهُ أكبر شهادة من جميع الموجودات، فإذا كان كذلك و تسالمتم عليه، فهو شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ .

عن القمّي عن الباقر عليه السّلام: «أنّ مشركي أهل مكّة قالوا: يا محمّد، ما وجد اللّه رسولا يرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدّقك بالذي تقول. و ذلك في أوّل ما دعاهم و هو يومئذ بمكّة، قالوا: و قد سألنا عنك اليهود و النّصارى، فزعموا أنّه ليس لك ذكر عندهم، فأتنا بامرئ (1)يشهد أنّك رسول اللّه. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّه شهيد بيني و بينكم» (2).

ثمّ شرح شهادة اللّه بصدقه بقوله: وَ أُوحِيَ من قبل اللّه إِلَيَّ هذَا اَلْقُرْآنُ الذي يكون لفظا و معنى من أعظم المعجزات، و من أوضح الشّواهد على صدقي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ و اخوّفكم من اللّه بما فيه من الوعيد أيّها الموجودون في وقت نزوله وَ انذر مَنْ بَلَغَ و وصل إليه هذا القرآن و سمعه من الإنس و الجن و العرب و العجم إلى يوم القيامة.

قال بعض: من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سمع منه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «و من بلغ أن يكون إماما من آل محمّد، فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (4).

ثمّ وبّخ المشركين و أنكر عليهم القول بتعدّد الآلهة بلا دليل و لا شاهد، بقوله: أَ إِنَّكُمْ أيّها المشركون لَتَشْهَدُونَ و تدّعون أَنَّ مَعَ اَللّهِ آلِهَةً أُخْرى من الأصنام الكثيرة و الكواكب و غيرها قُلْ : أنا لا أَشْهَدُ بما تدّعون من الشّركاء للّه لعدم الشاهد عليه، بل قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ و معبود واحِدٌ لا شريك له، للبراهين القاطعة على وحدانيّته، و امتناع الشّريك له، وَ لذا إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ به من الأصنام و غيرها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 20

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)

ص: 471


1- . في المصدر: فتأتينا من.
2- . تفسير القمي 1:195، تفسير الصافي 2:112.
3- . تفسير روح البيان 3:17.
4- . مجمع البيان 4:437، تفسير الصافي 2:112.

ثمّ لمّا أنكر اليهود و النّصارى ثبوت ذكر لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله في كتبهم، كذّبهم اللّه تعالى بقوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ من اليهود و النّصارى يَعْرِفُونَهُ بحليته و نعوته المذكورة في كتبهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم المعيّنة.

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في اليهود و النّصارى، لأنّ اللّه قد أنزل عليهم في التّوراة و الإنجيل و الزّبور صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفة أصحابه و مهاجره (1)، و هو قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ إلى قوله: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ (2)فلمّا بعثه اللّه عزّ و جلّ عرفه أهل الكتاب، كما قال جلّ جلاله: فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (3).

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قدم المدينة قال عمر لعبد اللّه بن سلام: أنزل اللّه تعالى على نبيّه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، و لأنا أشدّ معرفة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله منّي بابني؛ لأنّي لا أدري ما صنع النّساء، و أشهد أنّه حقّ من اللّه تعالى (4).

ثمّ ذمّهم اللّه بغاية الخسران و عدم الإيمان بقوله: اَلَّذِينَ خَسِرُوا و غبنوا أَنْفُسَهُمْ بإعراضهم عن ما في كتبهم من البيّنات على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله هو النبيّ المنعوت فيها فَهُمْ لأجل الخسران و الطّبع على القلوب لا يُؤْمِنُونَ بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 21

ثمّ نبّه سبحانه بأنّ المفترين على اللّه بنسبة ما ليس في كتابه إليه، أو نسبة الشّريك إليه و المكذّبين للمعجزات، أظلم النّاس بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ على نفسه مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً بأن قال: إنّ صفات النبيّ الموعود في الكتابين غير الصّفات التي تكون لمحمّد، أو قال: إنّ الملائكة بنات اللّه، و إنّ الأصنام شفعاؤنا عند اللّه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ من القرآن و سائر معجزات النبيّ.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ (21)ثمّ هدّدهم بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ و لا يفوزون بمطلوب من النّجاة من النّار، و الدّخول في الجنّة، فكيف يحتمل الفلاح في حقّ من هو أظلم النّاس؟

ص: 472


1- . في المصدر: أصحابه و مبعثه و هجرته.
2- . الفتح:48/29.
3- . تفسير القمي 1:33، تفسير الصافي 2:112، و الآية من سورة البقرة:2/89.
4- . تفسير الرازي 12:179.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد المشركين و تهويلهم بقوله: وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ في عرصة واحدة جَمِيعاً يكون لهم من الأحوال و الأهوال ما لا يحيط به المقال. و قيل: إنّ التّقدير: و اذكروا يوم نحشرهم جميعا (1)ثُمَّ نَقُولُ بلسان الملائكة لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا على رؤوس الأشهاد توبيخا و تقريعا: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ و أندادكم اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّهم آلهتكم أو شفعاؤكم عند اللّه

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ -عن الصادق عليه السّلام: «يعني: معذرتهم» (2). و قيل: يعني: جوابهم (3). و قيل: يعني إشراكهم في الدّنيا من حيث العاقبة (4)-شيئا إِلاّ أَنْ قالُوا في الجواب تبرّؤا منهم: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا في الدّنيا مُشْرِكِينَ بك.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (23)قيل: وجه التّعبير عن الجواب بالفتنة، أنّه يكون كذبا مع علمهم بأنّه لا ينفعهم أصلا، و كان من كثرة الدّهشة و الوحشة (5).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 24

ثمّ أظهر التّعجّب من كذبهم في المقام و حرمانهم من نفع آلهتهم بقوله: اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا هؤلاء المشركون عَلى أَنْفُسِهِمْ بإنكار إشراكهم في الدّنيا، وَ كيف ضَلَّ و غاب عَنْهُمْ و بطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ على اللّه بنسبة قبول شفاعة الأصنام إليه.

اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)عن (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه-في حديث يذكر فيه أهوال القيامة-: «ثمّ يجتمعون في مواطن اخر يستنطقون فيه، فيقولون: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ، و هؤلاء خاصّة هم المقرّون في الدّنيا بالتّوحيد، فلم ينفعهم إيمانهم باللّه مع مخالفتهم رسله، و شكّهم في ما أتوا به عن ربّهم، و نقضهم عهودهم في أوصيائهم، و استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكذّبهم اللّه في ما انتحلوه من الإيمان بقوله: اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» (6).

و القمّي رحمه اللّه قال: إنّها في قدريّة هذه الامة، يحشرهم اللّه يوم القيامة مع الصّابئين و النّصارى و المجوس، فيقولون: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ، يقول اللّه اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ

ص: 473


1- . تفسير الرازي 12:181.
2- . مجمع البيان 4:440، تفسير الصافي 2:113.
3- . مجمع البيان 4:440.
4- . تفسير روح البيان 3:18.
5- . تفسير روح البيان 3:19.
6- . الاحتجاج:242، تفسير الصافي 2:113.

عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ، قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ لكلّ امّة مجوسا، و مجوس هذه الامّة الّذين يقولون: لا قدر، و يزعمون [أنّ]المشيئة و القدرة إليهم و لهم» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 25

ثمّ لمّا بيّن اللّه سوء حال المشركين في الآخرة، ذكر سوء حالهم في الدّنيا، و شدّة قساوة قلوبهم، و عدم تأثّرهم بالآيات [بقوله:]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تقرأ القرآن.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (25)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: حضر عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبو سفيان، و الوليد بن المغيرة، و النّضر بن الحارث، و عقبة و عتبة و شيبة أبناء ربيعة، و اميّة و أبيّ ابنا خلف، و الحارث بن عامر، و أبو جهل، و استمعوا إلى حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا للنّضر: ما يقول محمّد؟ فقال: لا أدري ما يقول، لكنّي أراه يحرّك شفتيه و يتكلّم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدّثكم به عن أخبار القرون الاولى، و قال أبو سفيان: إنّي لأرى بعض ما يقول حقّا. فقال أبو جهل: كلاّ، فأنزل اللّه تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ (2).

وَ جَعَلْنا و أنشأنا عَلى قُلُوبِهِمْ من الكبر و الحسد و حبّ الدّنيا، و سائر الأخلاق الذّميمة أَكِنَّةً و أغطية مانعة من دخول الآيات فيها و تأثّرها بها كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ و يفهموه حقّ الفهم، وَ جعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً و صمما كراهة أن يسمعوها حقّ الاستماع.

و فيه مبالغة في غاية جهلهم بشؤون القرآن، و تأبّيهم عن قبول الحقّ، و بعدهم عن الهداية.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر طبع قلوبهم، و صمم آذانهم، أشار إلى عمى أعينهم بقوله: وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من آيات ربّهم و معجزة من معاجزك لا يُؤْمِنُوا بِها و لا يصدّقوا إعجازها، لفرط عنادهم و عتوّهم عن قبول الحقّ، بل لا يكتفون بعدم الإيمان، و يشاقّون اللّه حَتّى إنّهم إِذا جاؤُكَ و حضروا عندك و سمعوا منك القرآن يُجادِلُونَكَ و يخاصمونك في أنّه كلام اللّه و يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على معاندة الحقّ: إِنْ هذا القرآن، و ما هو إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و التّرّهات التي سطّرت في كتب السّابقين، مع وضوح أنّه أصدق الحديث و أحسنه عندهم.

ص: 474


1- . تفسير القمي 1:199، تفسير الصافي 2:114.
2- . تفسير الرازي 12:185.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 26

ثمّ بعد ذكر طعنهم في القرآن، و تكذيبهم أنّه كلام اللّه، ذكر معاملتهم معه بقوله: وَ هُمْ يَنْهَوْنَ النّاس عَنْهُ و يمنعونهم عن الإيمان به وَ يَنْأَوْنَ و يتباعدون عَنْهُ بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم منه، و تأكيدا لنهيهم عنه و قيل: إنّ الضّميرين راجعان إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (1). وَ الحال إِنْ يُهْلِكُونَ هلاك الأبد إِلاّ أَنْفُسَهُمْ بسعيهم في إطفاء نور الحقّ، و لا يتعدّى ضرره إلى غيرهم، وَ لكن ما يَشْعُرُونَ و لا يدركون هذا الأمر الواضح لغاية غباوتهم.

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 27

ثمّ بيّن كيفيّة هلاكهم بقوله: وَ لَوْ تَرى يا محمّد، أو أيّها الرّائي اولئك الكفّار إِذْ وُقِفُوا و أشرفوا عَلَى اَلنّارِ و الدّخول فيها، لرأيت أمرا هائلا عظيما لا يمكن بيانه. و قيل: إنّ جواب (لو) ما يفهم من قوله: فَقالُوا، قيل: التّقدير: إنّهم ينوحون و يقولون تمنّيا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ و نرجع الى الدّنيا و عالم التّكليف، و نتدارك سيّئاتنا، وَ أن لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا و أدلّة توحيده، و رسالة رسوله وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ به و بنبيّه.

وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى اَلنّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (27)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 28

ثمّ ردّهم اللّه سبحانه بأنّ هذا التّمنّي ليس للرّغبة في الإيمان، و ترك التّكذيب بَلْ لأجل أنّه بَدا و ظهر لَهُمْ بشهادة الجوارح، أو تجسّم العقائد و الأعمال ما كانُوا يُخْفُونَ من الكفر و الجحود، و بغض الرّسول، و سيّئات الأعمال مِنْ قَبْلُ و في دار الدّنيا، أو في موطن قالوا: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فخافوا من الوقوع في النّار [حين]

وقفوا عليها وَ لَوْ رُدُّوا و ارجعوا إلى الدّنيا فرضا، و اطمأنّوا بالخلاص من العذاب، و اللّه لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ و رجعوا إلى الكفر و الطّغيان، و استمرّوا على الطّريقة لغفلتهم عن ما رأوا في القيامة و غلبة حبّ الدّنيا و الشّهوات عليهم وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في التّمنّي المتضمّن للإخبار بإيمانهم، و إصلاح أعمالهم بعد الرّجوع إلى الدّنيا.

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في بني اميّة (2).

ص: 475


1- . تفسير الرازي 12:189.
2- . تفسير القمي 1:196، تفسير الصافي 2:115.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 29 الی 30

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيبهم لآيات اللّه، حكى عنهم إنكار المعاد بقوله: وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا و تعيّشنا فيها، ثمّ نموت بعده وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ من القبور، و مخرجين منها إلى النّشور.

وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

ثمّ بيّن اللّه أنّ إنكارهم سيعود إلى الإقرار، بقوله: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ و حبسوا للسّؤال في محضر عدله كما يحبس العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب، أو المراد: إذا اطّلعوا على جزاء ربّهم لترى لهم حالة فضيعة.

ثمّ قالَ ربّهم مشافهة أو بلسان الملك توبيخا لهم: أَ لَيْسَ هذا البعث ملابسا بِالْحَقِّ و الواقع؟ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ اللّه: إذن فَذُوقُوا و اطعموا اَلْعَذابَ طعما بِما كُنْتُمْ فى دار الدّنيا تَكْفُرُونَ بالبعث و تجحدونه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 31

ثمّ أنّ اللّه تعالى بعد الإعلان بغاية خسران المنكرين للتّوحيد و الرّسالة، أعلن بغاية خسران المنكرين للمعاد بقوله: قَدْ خَسِرَ و غبن في التّجارة اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ و أنكروا الرّجوع إليه في الدّار الآخرة لجزاء الأعمال، حيث ضيّعوا رأس مالهم من العقل السّليم و الفطرة الأصليّة، و اشتروا لأنفسهم العذاب الأليم الدّائم، و فوّتوا عليها الثّواب العظيم، و هم مستمرّون على التّكذيب حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ و ظهرت عليهم اَلسّاعَةُ التي لا يعلم وقتها إلاّ اللّه بَغْتَةً و فجأة.

قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ اَلسّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)قيل: سمّيت القيامة بالسّاعة لسرعة الحساب فيها (1)كأنّ وقته مقدار ساعة، أو لسرعتها إلى الوقوع لكون مسافتها الأنفاس. و إنّما جعلها اللّه غاية لتكذيبهم مع أنّ الموت غايته، ازديادا للتّهويل، و إلحاقا للموت و عالم البرزخ بالقيامة. و قد روي «أنّ من مات فقد قامت قيامته» (2).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّه يحصل لهم حالتان سيّئتان؛ إحداهما: شدّة الحسرة بقوله: قالُوا حين رأوا

ص: 476


1- . تفسير الرازي 12:198.
2- . تفسير الرازي 12:198، تفسير روح البيان 3:22.

السّاعة و شدّة أهوالها، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يرى أهل النّار منازلهم من الجنّة فيقولون: يا حَسْرَتَنا (1)و ندامتنا عَلى ما فَرَّطْنا و قصّرنا فِيها و في مراعاة حقّها، و تهيئة ما يوجب السّلامة فيها من العذاب من الإيمان باللّه و بهذا اليوم، و تحصيل الأعمال الصّالحة.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: على ما فرّطنا في الدّنيا (2).

ثمّ بيّن الحالة الاخرى بقوله: وَ هُمْ يَحْمِلُونَ حين خروجهم من القبور أَوْزارَهُمْ و أثقال ذنوبهم عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا أيّها النّاس تنبّهوا أنّه ساءَ و بئس الشيء ما يَزِرُونَ و يحملون من الثّقل في ذلك اليوم.

قال بعض المفسّرين: روي أنّ المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة و أطيبها ريحا، و يقول: أنا عملك الصّالح، طالما ركبتك في الدّنيا فاركبني أنت اليوم، فذلك قوله: يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمنِ وَفْداً (3)، قالوا: ركبانا. و أنّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة و أخبثها ريحا، فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدّنيا، فأنا أركبك اليوم، فذلك قوله: وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ (4).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 32

ثمّ لمّا كان حبّ الدّنيا و لذّاتها مانعا عن التّفكير في الآيات الدّالّة على البعث و عن الاعتراف به و باعثا على إنكاره، بيّن اللّه غاية خساسة الدّنيا و لذّاتها، و كمال شرف الآخرة بقوله: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و التّعيّش فيها، و التّلذّذ بما فيها إِلاّ لَعِبٌ و إلتذاذ سفهي سريع الانقضاء وَ لَهْوٌ و شاغل عن ذكر اللّه و تكميل النّفس، و هما لا يصلحان إلاّ للصّبيان و الجهّال، وَ باللّه لَلدّارُ اَلْآخِرَةُ و نعمها لشرفها و دوامها و خلوصها عن الكدورات-عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هي الجنّة (5)- خَيْرٌ و أفضل و أصلح في حكم العقل لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ اللّه و يجتنبون الموبقات أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيّها النّاس و تفهمون ذلك؛ حتّى تعلموا ما تنالون به ما هو خير و أبقى.

وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 33

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ اَلظّالِمِينَ بِآياتِ اَللّهِ يَجْحَدُونَ (33)

ص: 477


1- . مجمع البيان 4:453، تفسير الصافي 2:115.
2- . تفسير الرازي 12:198.
3- . مريم:19/85.
4- . تفسير الرازي 12:199.
5- . تفسير الرازي 12:203.

ثمّ لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدعو النّاس إلى توحيد اللّه و الاعتقاد بالمعاد، و الأشقياء منهم يسفّهونه و ينسبون أخباره الغيبيّة إلى الكهانة، و معجزاته إلى السّحر، و دعواه النّبوّة إلى الكذب، و كان ذلك سببا لحزن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تكدّر خاطره الشّريف، سلّى سبحانه قلب حبيبه بقوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ من الخرافات و إساءة الأدب في شأنك؛ فلا تحزن فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الواقع وَ لكِنَّ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر، و عليك بالإساءة و التّكذيب بِآياتِ اَللّهِ و المعجزات التي أجراها على يدك و لسانك يَجْحَدُونَ و يكذّبون، فتكذيبهم راجع إلى اللّه لا إليك. و فيه دلالة على كمال محبوبيّته عند اللّه.

و قيل: إنّ المعنى: أنّهم لا يكذّبونك في الباطن و السّر؛ فإنّهم معتقدون بصدقك، و لكنّهم يكذّبونك في الظّاهر و العلانية (1).

روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا، فقال له: و اللّه، إنّ محمّدا لصادق، و ما كذّب قطّ، و لكن إذا ذهب بنو قصيّ باللّواء و السّقاية و الحجابة و النّبوّة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية (2).

و روي أنّ حارث بن عامر من قريش قال: يا محمّد، و اللّه ما كذبتنا قطّ، و لكنّا إن اتّبعناك نتخطّف من أرضنا، فنحن لا نؤمن بك لهذا السّبب (3).

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقي أبا جهل فصافحه [أبو جهل]، فقيل له في ذلك، فقال: و اللّه، إنّي لأعلم أنّه صادق، و لكنّا متى كنّا تبعا لعبد مناف، فأنزل اللّه الآية (1).

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّه قرأ رجل على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، فقال: بلى و اللّه، لقد كذّبوه أشدّ التّكذيب، و لكنّها مخفّفة لا يُكَذِّبُونَكَ أي لا يأتون بباطل يكذّبون به حقّك» (2).

و في رواية اخرى، قال: «لا يأتون بحقّ يبطلون حقّك» (3).

و عن العيّاشي: عنه عليه السّلام: «أي لا يستطيعون إبطال قولك» (4).

و في (المجمع) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه كان يقرأ: لا يُكَذِّبُونَكَ أي (5)لا يأتون

ص: 478


1- . مجمع البيان 4:455، تفسير الصافي 2:116.
2- . الكافي 8:200/241، تفسير الصافي 2:116.
3- . تفسير القمي 1:196، تفسير الصافي 2:116.
4- . تفسير العياشي 2:97/1416، تفسير الصافي 2:116.
5- . في المصدر: كان يقرأ لا يُكَذِّبُونَكَ و يقول: إن المراد بها أنهم.

بحقّ أحقّ من حقّك (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 34

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ببيان ابتلاء عموم الرّسل بتكذيب أممهم بقوله تعالى: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ كثيرة و ذوو معاجز باهرة، بعثوا إلى النّاس مِنْ قَبْلِكَ و في القرون السّابقة على بعثتك فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا و أنت أولى منهم بالصّبر وَ أُوذُوا بأنواع الأذيّة من الضرب و الشّتم و غير ذلك، و استمرّوا على ذلك مدّة طويلة حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا و الظّفر منّا، و أنت أحقّ بالنّصر و الظّفر على قومك.

وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اَللّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ (34)ثمّ أكّد وعد النّصر بقوله: وَ لا مُبَدِّلَ و لا مغيّر لِكَلِماتِ اَللّهِ وعداته، و لا موجب للخلف فيها، و لذا لم يتّفق ذلك في وعد سائر الرّسل وَ لَقَدْ جاءَكَ فى القرآن، و بلغك بالوحي كثير مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ السّابقين، أنّهم كيف كذّبوا و اوذوا و صبروا أوّلا، ثمّ نصروا على قومهم آخرا، فيكون حالك كحالهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 35

ثمّ نبّه سبحانه على أنّه لا حيلة له إلاّ الصّبر تسكينا لحرصه البالغ على إيمان قومه، بقوله: وَ إِنْ كانَ كَبُرَ و شقّ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الإيمان بك و بكتابك فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ و قدرت على أَنْ تَبْتَغِيَ و تطلب نَفَقاً و منفذا فِي اَلْأَرْضِ تنفذ فيه إلى جوفها أَوْ سُلَّماً و مصعدا فِي اَلسَّماءِ فتصعد إليها فَتَأْتِيَهُمْ من جوف الأرض أو من فوق السّماء بِآيَةٍ يخضعوا لها و يلجأوا إلى الإيمان بها، فافعل، و لا تقدر على ذلك.

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي اَلْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي اَلسَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجاهِلِينَ (35)عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام [قال]: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحب إسلام الحارث [بن عامر]بن نوفل بن عبد مناف، و دعاه و جهد به أن يسلم، فغلب عليه الشّقاء، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه هذه الآية» (2).

ص: 479


1- . مجمع البيان 4:455، تفسير الصافي 2:116.
2- . تفسير القمي 1:198، تفسير الصافي 2:117.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نفر من قريش، فقالوا: يا محمد، آتنا بآية من عند اللّه كما كانت الأنبياء تفعل، فإنّا نصدّق بك، فأبى اللّه أن يأتيهم بها، فأعرضوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فشقّ ذلك عليه فنزلت هذه الآية (1).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة عدم إنزال ما اقترحوه من الآية بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ هدايتهم إلى الحقّ لَجَمَعَهُمْ و ألزمهم عَلَى اَلْهُدى و دين الحقّ، و لكن لم يشأ ذلك لخبث ذاتهم، و غاية فساد أخلاقهم، فمنعهم التّوفيق، و شملهم الخذلان فَلا تَكُونَنَّ ألبتّة مِنَ اَلْجاهِلِينَ بقدرة اللّه و حكمته، و بخبث المشركين و عدم قابليّتهم للهداية.

عن القميّ رحمه اللّه: مخاطبة للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المعنيّ النّاس (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي، إنّ اللّه قد قضى الفرقة و الاختلاف على هذه الامّة، و لو شاء اللّه لجمعهم على الهدى حتّى لا يختلف اثنان من هذه الامّة و لا ينازع في شيء من أمره، و لا يجحد المفضول لذي الفضل فضله» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 36

ثمّ نبّه اللّه سبحانه على علّة عدم هدايتهم، و عدم تأثّرهم بالآيات و المواعظ بقوله: إِنَّما يَسْتَجِيبُ دعوتك إلى التّوحيد و الإيمان بك اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ مواعظك سمع القبول، و يفهمون كلامك فهم تدبّر، لا الّذين لا يسمعون دعوتك، و لا يفهمون كلامك؛ فإنّهم بمنزلة الموتى لا سمع لهم و لا فهم، حتّى يتأثّروا بمواعظك، و يهتدوا بهدايتك وَ هؤلاء اَلْمَوْتى سوف يَبْعَثُهُمُ اَللّهُ و يخرجهم أحياء من قبورهم ثُمَّ إِلَيْهِ و إلى حكمه يُرْجَعُونَ في القيامة؛ فيجازيهم على كفرهم، فحينئذ يسمعون و يستجيبون و لكن لا ينفعهم.

إِنَّما يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ اَلْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اَللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)قيل: إنّما سمّى اللّه الكفّار موتى؛ لأنّ العقل و المعرفة حياة الرّوح، و الرّوح حياة الجسد، فكما أنّ الجسد إذا فارقه الرّوح يكون ميتا، فكذا الرّوح إذا فارقه العقل و المعرفة يكون ميتا، فموتهم يكون روحانيّا.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 37

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)

ص: 480


1- . تفسير الرازي 12:207.
2- . تفسير القمي 1:198، تفسير الصافي 2:118.
3- . كمال الدين:264/10، تفسير الصافي 2:117.

ثمّ حكى اللّه لجاج المشركين مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باقتراحهم، بقوله: وَ قالُوا عنادا و تعنّتا، لا طلبا لوضوح الحقّ: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ و معجزة غير الذي جاء به مِنْ رَبِّهِ كناقة صالح، و عصا موسى قُلْ إِنَّ اَللّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً عظيمة حسبما اقترحتموه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ نزول الآية يكون وبالا عليهم؛ حيث إنّهم إذا لم يؤمنوا بها لهلكوا كما عن القمّي رحمه اللّه (1). أو لا يعلمون أنّ إجابة مسؤولهم منافية للحكمة؟ أو لا يعلمون أنّه لا يحسن إجابة السّؤالات التّعنّتيّة عند العقل.

عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «سيريكم في آخر الزّمان آيات منها دابّة الأرض، و الدّجال، و نزول عيسى بن مريم، و طلوع الشّمس من مغربها» (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 38

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قدرته على إنزال كلّ آية، و أنّ حكمته مانعة عنه، استشهد على كمال قدرته و حكمته بخلق جميع الحيوانات، و تنظيم امورها على وفق الحكمة بقوله: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ و حيوان متحرّك يدبّ و يتحرّك فِي اَلْأَرْضِ و قطر من أقطارها وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ في الجوّ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ و جماعات أَمْثالُكُمْ محفوظة أحوالها، مقدّرة أرزاقها و آجالها، مفطورة على معرفة خالقها. و معلوم أنّ القادر على خلقها و تدبير جميع أمورها قادر على إنزال آية.

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)و إنّما ذكر (جناحيه) لدفع احتمال إرادة السّرعة من الطّيران.

ثمّ نبّه سبحانه بعد بيان هذه المعارف على وفور ما في القرآن من العلوم بقوله: ما فَرَّطْنا و ما تركنا فِي هذا اَلْكِتابِ المنزل إليكم مِنْ شَيْءٍ من العلوم المحتاج إليها.

ثمّ بيّن أنّ سائر الحيوانات مثلكم في الحشر إلى القيامة بقوله: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يوم القيامة يُحْشَرُونَ و يبعثون لإحقاق حقّهم من ظالميهم، و لاستفاء جزائهم على ما صدر منهم من الخيرات.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «يقتصّ للجمّاء من القرناء» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه أبصر ناقة معقولة و عليها جهازها، فقال: «أين صاحبها؟ مروه فليستعد [غدا] للخصومة» (2).

ص: 481


1- . تفسير الرازي 12:214.
2- . من لا يحضره الفقيه 2:191/867، تفسير الصافي 2:119.

و عن الصادق عليه السّلام: «أي بعير حجّ عليه ثلاث سنين، جعل من نعم الجنّة» (1)، و في رواية: «سبع سنين» (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 39

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته، و دفع اعتراض المشركين في النّبوّة، ذمّ المكذّبين، بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من القرآن العظيم و سائر المعجزات صُمٌّ عن استماع دعوة النبي إلى التّوحيد، و دين الحقّ، و المواعظ الإلهيّة وَ بُكْمٌ عن الإقرار بالتّوحيد و النّبوّة، و النّطق بالخير، عميّ لكونهم خائضين فِي أنواع اَلظُّلُماتِ من الجهل و الكفر و حبّ الدّنيا و الشّهوات، بحيث لا يرون المعجزات و الآيات.

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي اَلظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اَللّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الكفر و الضّلال يكون بسبب خذلانه، و الهداية بتوفيقه بقوله: مَنْ يَشَأِ اَللّهُ ضلالته لأجل خبث طينته و رذالة أخلاقه يُضْلِلْهُ عن طريق الحقّ و الصّواب ألبتّة بخذلانه و إيكاله إلى نفسه وَ مَنْ يَشَأْ هدايته و خيره يَجْعَلْهُ و يضعه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يوصله إلى كلّ خير، و يوفّقه للسّلوك في الدّين القويم و العمل به.

عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «نزلت في الّذين كذّبوا الأوصياء، هم صمّ و بكم كما قال اللّه: فِي اَلظُّلُماتِ، [من كان]من ولد إبليس فإنّه لا يصدّق بالأوصياء، و لا يؤمن أبدا، و هم الّذين أضلّهم اللّه، و من كان من ولد آدم آمن بالأوصياء فهم على صراط مستقيم» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاستفهام التّقريري من المشركين و السّؤال التّبكيتي عنهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: أَ رَأَيْتَكُمْ و أخبروا في إِنْ أَتاكُمْ و نزل عليكم عَذابُ اَللّهِ في الدّنيا، كما نزل على الّذين من قبلكم من الامم أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسّاعَةُ و جاءتكم القيامة التي فيها العذاب و الأهوال

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اَللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسّاعَةُ أَ غَيْرَ اَللّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)

ص: 482


1- . من لا يحضره الفقيه 2:191/872، تفسير الصافي 2:119.
2- . من لا يحضره الفقيه 2:191/873، تفسير الصافي 2:119.
3- . تفسير القمي 1:199، تفسير الصافي 2:119.

أَ غَيْرَ اَللّهِ تَدْعُونَ و هل إلى ما سواه من الأصنام تلتجئون لكشف العذاب و التخلص من الأهوال؟ أم إليه تعالى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الوهية أصنامكم،

و من المعلوم أنكم لا تدعون غير الله بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ و إليه خاصة تلتجئون لكشف العذاب عنكم في الدنيا و الآخرة، لمعرفتكم بالفطرت أنه لا قدرة لغيره على كشفه فَيَكْشِفُ إثر دعائكم ما تَدْعُونَ الله إِلَيْهِ من العذاب إِنْ شاءَ كشفه، و اقتضت حكمته الإجابة وَ تَنْسَوْنَ و تتركون ما كنتم تُشْرِكُونَ به من الأصنام.

عن ابن عباس رضى الله عنه: المراد: تتركون الأصنام و لا تدعونهم لعلمكم بأنها لا تضر و لا تنفع (1).

و قيل: إن المراد: لا تذكرونها في ذلك الوقت من شدة الهول و الوحشة (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 42

ثم لما ذكر سبحانه أنهم عند معاينتهم العذاب الشديد يدعونه دون غيره، نبه على أنه قد يبتليهم بالبليات الدنيوية العادية لتأديبهم، و صرف قلوبهم إلى ذاته المقدسة و ارتداعهم عن الكفر و العصيان بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ كانوا مِنْ قَبْلِكَ و قبل عصرك، فكذبوهم و خالفوهم فَأَخَذْناهُمْ و ابتليناهم بِالْبَأْساءِ و الشدائد، كالفقر و القحط وَ اَلضَّرّاءِ كالأمراض و الأوجاع، و نقصان الأموال و الأنفس لَعَلَّهُمْ و لأجل أنهم يَتَضَرَّعُونَ إلينا، و يخشعون لنا، و ينقادون للرسل.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 43 الی 45

ثم لائم المصرين منهم على الكفر، و و بخهم بعدم تأثرهم بتلك البليات بقوله: فَلَوْ لا و هلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا و عذابنا تَضَرَّعُوا إلينا في دفعه و التخلص منه مع انحصار طريقه فيه، وعدم العذر في تركه، ثم ذمهم ببيان مانعهم عنه بقوله: وَ لكِنْ قَسَتْ و صلبت قُلُوبُهُمْ بحيث لم يكن فيها رقة و خوف وَ زَيَّنَ لَهُمُ و حسن في نظرهم اَلشَّيْطانُ بتسويلاته ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادة

فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (45)

ص: 483


1- . تفسير الرازي 12:223.
2- . تفسير الصافي 2:120.

الأصنام، و معارضة الرسل، و توغلهم في المعاصي،

و انهماكهم في الشهوات فَلَمّا نَسُوا لذلك ما ذُكِّرُوا و و عظوا بِهِ من البليات اللاتي كانت، أخذهم بها لاجل أتعاضهم بها و توبتهم من الشرك و المعاصي، استدرجناهم بأن فَتَحْنا عَلَيْهِمْ من جميع الجهات أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من المنافع التي كانت مغلقة عنهم، و كثرنا عليهم النعم من الصحة و القوة و السعة حَتّى إِذا فَرِحُوا و بطروا بِما أُوتُوا من النعم، و اشتغلوا باللذات، و انهمكوا في الشهوات أَخَذْناهُمْ بعذاب الاستئصال بَغْتَةً و فجأة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة، متحسرون على ما فاتاهم من النعم الدنيوية و الآخروية.

قيل: إن عذاب الاستدراج أشد، لكون التحسر فيه أشد (1).

عن الباقر (2)عليه السلام: «إذا رأيت الله يعطي على المعاصي، فإن ذلك استدراج منه» و تلا هذه الآية (3).

و في الحديث: «إذا أراد الله بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة، و يذكره الاستغفار، و إذا أراد الله تعالى بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار، و يتمادى بها» (4).

و عن القمي رحمه الله: عن الباقر عليه السلام: «فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يعني: [فلما]تركوا و لا ية علي بن أبي طالب عليه السلام، و قد امروا بها فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ دونهم (5)في الدنيا، و ما بسط لهم فيها أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً يعني: بذلك قيام القائم، حتى كأنهم لم يكن لهم سلطان قط» (6).

و قيل: إن المقصود أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره و الشدائد عليهم تارة، فلم ينتفعوا به، فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدها و هو فتح أبواب الخيرات عليهم، و تسهيل موجبات المسرات و السعادات لديهم، فلم ينتفعوا [به ]أيضا، و هذا كما يفعله الأب الشفيق بولده، يخاشنه تارة، و يلاطفه اخرى طلبا لصلاحه حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من الخيرات و النعم، لم يزيدوا على الفرح و البطر من غير انتداب لشكر، و لا إقدام على اعتذار و توبة، فلا جرم أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً (7).

فَقُطِعَ و استؤصل دابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم، و فنوا من أولهم إلى آخرهم، ثم لما كان إهلاكهم تطهيرا للأرض، و نعمة على الرسل و المؤمنين، حمد ذاته المقدسة بقوله: وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ على إهلاكهم، و تطهير الأرض منهم، و إراحة أوليائه من شرهم.

ص: 484


1- . تفسير الرازي 12:226.
2- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: عن النبي صلى الله عليه و آله.
3- . مجمع البيان 4:467، تفسير الصافي 2:120.
4- . علل الشرائع:561/1.
5- . في المصدر: يعني دولتهم.
6- . تفسير القمي 1:200، تفسير الصافي 2:121.
7- . تفسير الرازي 12:226.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 46

ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه و آله بإقامة البرهان على توحيده للمشركين، و أخذ الإقرار منهم به بقوله: قُلْ يا محمد أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ أَخَذَ اَللّهُ و سلب عنكم سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ اللذين هما أشرف القوى الظاهرية وَ خَتَمَ و طبع عَلى قُلُوبِكُمْ و أزال عقولكم التي هي أشرف القوى الباطنية.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اَللّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اَللّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)عن ابن عباس رضى الله عنه، معناه: و طبع على قلوبهم فلم يعقلوا الهدى (1).

القمي: عن الباقر عليه السلام «إذا أخذ الله منكم الهدى» (2).

مَنْ إِلهٌ قادر غَيْرُ اَللّهِ العزيز المقتدر يَأْتِيكُمْ و يرد إليكم ما اخذ منكم، و ينعم عليكم بِهِ فبالبديهة لا قادر عليه إلا الله، فهو المستحق للعبادة دون الأصنام و غيرها.

اُنْظُرْ يا محمد و تعجب كَيْفَ نُصَرِّفُ و نقرر اَلْآياتِ و البراهين و الإنذارات و التبشيرات بأساليب متفاوتة و بيانات مختلفة ثُمَّ المشركون هُمْ يَصْدِفُونَ و يعرضون عنها، و لا يؤمنون بها.

و في لفظ (ثم) إشارة لغاية بعد ذلك من العاقل.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 47

ثم أمر سبحانه النبي صلى الله عليه و آله بسؤال فيه تهديدهم بقوله: قُلْ يا محمد لهم: أَ رَأَيْتَكُمْ و أخبروني إِنْ أَتاكُمْ و نزل عليكم عَذابُ اَللّهِ في هذه الدنيا بَغْتَةً و بغير سبق أمارة تدلكم على إتيانه - و قيل: يعني: ليلا (3)- أَوْ جَهْرَةً و مع سبق الأمارة عليه -و قيل: يعني: نهارا (4)-ما ذا يكون حالكم؟

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اَللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظّالِمُونَ (47)ثم بين الحال بقوله: هَلْ يُهْلَكُ به هلاك السخط و الأبد إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بالشرك و المعاصي، و أنتم هم.

عن القمي رحمه الله: نزلت لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و آله إلى المدينة، و أصاب أصحابه الجهد و العلل

ص: 485


1- . تفسير الرازي 12:227.
2- . تفسير القمي 1:201، تفسير الصافي 1:121. (3 و 4) . تفسير الرازي 12:228، تفسير أبي السعود 3:135.

و المرض فشكوا ذلك إليه، يعني لا يصيبكم (1)إلا الجهد و الضر في الدنيا، فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك، فلا يصيب إلا القوم الظالمين (2).

و عن الصادق عليه السلام: «يؤخذ بنو امية بغتة، و بنو العباس جهرة» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 48 الی 49

ثم لما كان المشركون يعارضون النبي صلى الله عليه و آله باقتراحهم، كما حكى الله عنهم قولهم: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، و يقدحون في نبوته بعدم إجابة مسؤلهم، ردهم الله بقوله: وَ ما نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ لأن يقترح عليهم المعجزات، فإنها بيد الله يظهرها على مقتضى حكمته، بل ليس الغرض من إرسالهم إِلاّ أن يكونوا مُبَشِّرِينَ للناس بالجنة و المغفرة على الإيمان و العمل الصالح وَ مُنْذِرِينَ لهم بالعذاب على الكفر و العصيان.

وَ ما نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ اَلْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)هذه و ظيفة الرسول و شأن الرسالة، و أما الناس فَمَنْ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَ أَصْلَحَ عمله و أخلاقه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من الهلاك و العذاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة على ما فاتاهم من الدنيا،

و ما لم ينالوا من أعلى الدرجات في الجنة وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و أنكروا براهين التوحيد و معجزات الأنبياء يَمَسُّهُمُ و يصيبهم اَلْعَذابُ الشديد في الآخرة بِما كانُوا في الدنيا يَفْسُقُونَ من الشرك و التمرد عن طاعة الله و رسوله.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 50

ثم أمر النبي صلى الله عليه و آله بالجواب عن اقتراحاتهم بقوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ و ما أدعي أن عِنْدِي خَزائِنُ اَللّهِ أن لي قدرته الكاملة على إيجاد الممكنات و التصرف فيها كيف أشاء، حتى تقترحوا علي إنزال الكتاب من السماء، أو قلب الجبال ذهبا، أو غيرها وَ لا أَعْلَمُ بنفسي اَلْغَيْبَ الذي خص ذاته المقدسة به حتى تسألوني عن و قت الساعة، أو و قت نزول العذاب، أو نحوهما وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اَللّهِ وَ لا أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)

ص: 486


1- . في المصدر: فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه و آله، فأنزل الله عز و جل قُلْ لهم يا محمد: أَ رَأَيْتَكُمْ . . . اَلظّالِمُونَ أي أنهم لا يصيبهم.
2- . تفسير القمي 1:201، تفسير الصافي 2:121.
3- . تفسير العياشي 2:98/1419، تفسير الصافي 2:121.

مَلَكٌ من الملائكة حتى تكلفوني الرقي إلى السماء، أو تتوقعوا مني أن لا آكل الطعام و لا أمشي بين الناس.

قيل: إن المشركين قالوا: إن كنت رسولا من عند الله فاطلب من الله أن يوسع علينا منافع الدنيا و خيراتها، و يفتح علينا أبواب السعادات (1). و كانوا يقولون: إن كنت رسولا فأخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح و المضار، حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح، ولدفع المضار (2). و كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام (3).

و قيل: إن المقصود من القضية التبري من دعوى الالوهية (1).

ثم أنه صلى الله عليه و آله بعد التبري عن الدعاوى الثلث، أثبت لنفسه النبوة التي هي أعلى الكمالات البشرية، و امتيازه عن سائر الناس بمنصب الرسالة، بقوله: إِنْ أَتَّبِعُ في قولي و عملي إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ من ربي، دون رأيي و اجتهادي، و لا أؤدي إليكم إلا من قبل الله تعالى. و هي من الكمالات الممكنة للبشر، لا مجال لا ستبعاد ثبوتها له، فضلا عن الجزم بعدمها.

عن الرضا عليه السلام، أنه سئل يوما و قد اجتمع عنده قوم من أصحابه، و قد كانوا تنازعوا في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى الله عليه و آله في الشيء الواحد، فقال عليه السلام «إن الله عز و جل حرم حراما و أحل حلالا و فرض فرائض، فما جاء في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، أو رفع فريضة في كتاب الله رسمها [بين ]قائم بلا ناسخ (2)نسخ ذلك، فذلك شيء لا يسع الأخذ به؛ لأن رسول الله صلى الله عليه و آله لم يكن ليحرم ما أحل الله، و لا ليحل ما حرم الله، و لا ليغير فرائض الله و أحكامة، و كان في ذلك كله متبعا مسلما مؤديا عن الله عز و جل، و ذلك قول الله عز و جل: إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ، فكان عليه السلام متبعا لله مؤديا عن الله ما امر به من تبليغ الرسالة» (3).

ثم أكد عدم تساويه لسائر الناس بوجود ملاك الرسالة فيه من البصارة في قلبه، و معرفته الكاملة بالله بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ و الجاهل و العالم بالله و بحقائق الأمور، و الضال و المهتدي إلى الحق و إلى كل خير، لا يستوون عند الله أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ قيل: إن التقدير: ألا تسمعون كلامي الحق فتتفكرون فيه (4)حتى تعرفوا الفرق بين الالوهية، و النبوة، و البشرية، و بين الجاهل بكل شيء و العالم بجميع الأشياء.

ص: 487


1- . تفسير البيضاوي 1:302.
2- . في النسخة: نسخ.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السلام 2:20/45، تفسير الصافي 2:122.
4- . تفسير أبي السعود 3:137، تفسير روح البيان 3:34.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 51

ثم أمره الله سبحانه بإنذار الناس على حسب و ظيفة الرسالة بقوله: وَ أَنْذِرْ بالقرآن أو بما يوحى إليك، و خوف بِهِ من عقاب الله اَلَّذِينَ يعتقدون بالمعاد كالمؤمنين و أهل الكتاب، و الذين يترددون فيه من أهل الشرك يَخافُونَ من أَنْ يحيوا، و يُحْشَرُوا من قبورهم، و يساقوا إِلى رَبِّهِمْ و حكمه لجزاء أعمالهم، في حال لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ و ممن سواه وَلِيٌّ و ناصر يدافع عنهم العذاب بالقوة و القهر وَ لا شَفِيعٌ يشفع لهم في أن يعفى عن عقوبتهم لَعَلَّهُمْ و لأجل أنهم يَتَّقُونَ و يحترزون عن العقائد الفاسدة و الأعمال السيئة، و يتوبون من ذنوبهم الموبقة.

وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)عن ابن عباس رضى الله عنه، قال: معناه: إنذارهم لكي يخافوا في الدنيا، و ينتهوا عن الكفر و المعاصي (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 52

ثم لما بين سبحانه مهانة المشركين عنده و استحقاقهم عذابه، نهى نبيه صلى الله عليه و آله عن إهانة المؤمنين و تبعيدهم عن مجلسه بقوله: وَ لا تَطْرُدِ و لا تبعد عن محضرك المؤمنين اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون رَبَّهُمْ و يصلون بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ صلاة الصبح و العصر، أو يذكرونه في كل حال، و هم يُرِيدُونَ بعبادتهم و دعائهم و ذكرهم وَجْهَهُ و مرضاته، لا الرياء و السمعة و سائر الأعراض الدنيوية.

وَ لا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظّالِمِينَ (52)ثم أكد النهي ببيان عدم العلة لطردهم بقوله: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى تملهم.

قيل: إن المشركين قالوا: يا محمد، إنهم اجتمعوا عندك و قبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا و ملبوسا عندك، و إلا فهم فارغون عن دينك (2).

فقال الله: ليس عليك ضرر عقائدهم الباطنية، و أعمالهم السيئة الخفية حتى تستحقهرهم، و تطعن في إيمانهم فيسوغ لك طردهم، و إنما عليك الاعتبار بظاهر حالهم و هو اتسامهم بسمة المتقين وَ ما مِنْ حِسابِكَ و جزاء أعمالك عَلَيْهِمْ و بيدهم مِنْ شَيْءٍ حتّى تخافهم و تتنفّر منهم.

ص: 488


1- . تفسير الرازي 12:233.
2- . تفسير الرازي 12:236، تفسير روح البيان 3:36.

و قيل: إنّ المعنى: أنّ ضرر أعمالهم لا يرجع إليك، كما أن ضرر أعمالك لا يعود إليهم (1).

و قيل: إنّ رزقهم ليس عليك، كما أنّ رزقك ليس عليهم (2)فَتَطْرُدَهُمْ عنك، لذلك إذن فلا تطردهم فَتَكُونَ بسبب طردهم مِنَ اَلظّالِمِينَ على نفسك بحرمان الأجر، و عليهم بمنعهم ممّا يستحقّون من مزيد التقرّب و الإلطاف.

في بيان حال

أصحاب الصفّة

عن القمّي رحمه اللّه قال: كان سبب نزولها أنّه كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمّون أصحاب الصفّة (3)، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرهم أن يكونوا في صفّة يأوون إليها، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتعاهدهم بنفسه، و ربّما يحمل إليهم ما يأكلون، و كانوا يختلفون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيقرّبهم و يقعد معهم و يؤنسهم، و كان إذا جاء الأغنياء و المترفون من أصحابه ينكرون عليه ذلك و يقولون: اطردهم عنك، فجاء يوما رجل من الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده رجل من أصحاب الصفّة قد لزق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحدّثه، فقعد الأنصاري بالبعد منهما، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تقدّم» ، فلم يفعل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعلّك خفت أن يلزق فقره بك؟ !» . فقال الأنصاري: اطرد هؤلاء عنك. فأنزل اللّه: وَ لا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية (4).

و عن عبد اللّه بن مسعود، أنّه قال: مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده صهيب و خبّاب و بلال و عمّار و غيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد، أرضيت بهؤلاء عن قومك؟ أفنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ فاطردهم عن نفسك، فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فقال عليه السّلام: «ما أَنَا بِطارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ» ، فقالوا: فأقمهم عنّا إذا جئنا، فإذا قمنا فاقعدهم معك إن شئت، فقال: «نعم» طمعا في إيمانهم (5).

و روي أنّ عمر قال له: لو فعلت حتّى ننظر إلى ما ذا يصيرون، ثمّ ألحّوا و قالوا للرّسول صلّى اللّه عليه و آله: اكتب لنا بذلك كتابا، فدعا بالصّحيفة و بعليّ عليه السّلام ليكتب، فنزلت هذه الآية، فرمى الصّحيفة، و أعتذر عمر عن مقالته، فقال سلمان و خبّاب: فينا نزلت، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقعد معنا و ندنو منه حتّى تمسّ ركبتنا ركبته، و كان يقوم عنّا إذا أراد القيام، فنزل قوله: وَ اِصْبِرْ (6)الخبر.

و في رواية: أنّ رؤساء قريش قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين رأوا في مجلسه [الشريف]فقراء المؤمنين مثل [صهيب و]عمّار و خبّاب و بلال و سلمان و غيرهم: لو طردت هؤلاء الأعبد و أرواح

ص: 489


1- . تفسير روح البيان 3:36.
2- . تفسير الرازي 12:237.
3- . الصفّة: و هو مكان مظلّل في مسجد المدينة يأوي إليه فقراء المهاجرين و يرعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
4- . تفسير القمي 1:202، تفسير الصافي 2:123.
5- . تفسير الرازي 12:234.
6- . تفسير الرازي 12:234.

جبابهم-و كان عليهم جباب صوف لا غير-لجالسناك و حادثناك، فقال عليه السّلام: «ما أَنَا بِطارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ» ، فقالوا: فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا حتّى يعرف العرب فضلنا، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء، فإذا قمنا عن مجلسك فأقعدهم معك إن شئت، فهمّ عليه السّلام أن يفعل ذلك طمعا في إيمانهم، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

و قد غلط من استدلّ بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السّلام.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 53

ثمّ بيّن سبحانه أنّ فقر المؤمنين فتنة للأغنياء من المشركين بقوله: وَ كَذلِكَ الفتن و الابتلاء فَتَنّا و ابتلينا بَعْضَهُمْ الأغنياء بِبَعْضٍ الفقراء من المؤمنين، بأن قدّمناهم و فضّلناهم مع فقرهم على أشراف قريش في أمر الدّين لِيَقُولُوا في العاقبة؛ لجهلهم بمناط الفضل عند اللّه، مشيرين إلى فقراء المؤمنين، محقّرين لهم: أَ هؤُلاءِ الفقراء الأذلاّء مَنَّ اَللّهُ و أنعم عَلَيْهِمْ بالهداية و التّوفيق لإصابة الحقّ مِنْ بَيْنِنا و نحن الأشراف و الرّؤساء.

وَ كَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اَللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ (53)قيل: إنّ رؤساء الكفّار و أغنياءهم كانوا يحسدون فقراء الصّحابة على كونهم سابقين في الإسلام، مسارعين إلى قبوله، فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء المساكين، و أن نعترف لهم بالتّبعيّة، فكان ذلك يشقّ عليهم (2). فردّهم اللّه بقوله: أَ لَيْسَ اَللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ لنعمة هدايته، و التّوفيق للإيمان و العمل الصّالح.

ففيه تنبيه على أنّ علّة تقريبهم و الإنعام عليهم شكرهم لنعمة الرّسول و القرآن، و التّسليم لحكمهما، و هؤلاء المشركون بمعزل من ذلك.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 54

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن إهانة المؤمنين أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإكرامهم بقوله: وَ إِذا جاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا و يسلّمون لدلائل توحيدنا و إعجاز كتابنا فَقُلْ تكريما لهم و تعطّفا بهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ

وَ إِذا جاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

ص: 490


1- . تفسير روح البيان 3:36.
2- . تفسير الرازي 12:237.

من كلّ آفة و مكروه جسماني و روحاني.

ثمّ بشّرهم بأنّه كَتَبَ و حتم رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ و التّفضّل عليكم.

ثمّ فسّر أَنَّهُ رحمته بقوله: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ عملا سُوءاً و ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا بِجَهالَةٍ و غفلة عن قبحه و سوء عاقبته ثُمَّ تابَ و ندم على عمله مِنْ بَعْدِهِ و سأل اللّه العفو عن عقوبته وَ أَصْلَحَ ما أفسده قبل أن يغفر اللّه له و يرحمه فَأَنَّهُ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بعباده بإعطائهم الثّواب.

قيل: نزلت في أصحاب الصّفّة الّذين نهى اللّه عن طردهم (1).

عن عكرمة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا رآهم بدأهم بالسّلام و يقول: «الحمد للّه الذي جعل في امتي من أمرني أن أبدأه بالسلام» (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ عمر لمّا اعتذر من مقالته و أستغفر اللّه منها، و قال للرّسول صلّى اللّه عليه و آله: ما أردت بذلك إلاّ الخير، نزلت هذه الآية (3).

و قيل: نزلت في قوم أقدموا على ذنوب، ثمّ جاءوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مظهرين للنّدامة، فنزلت الآية فيهم (4).

عن (المجمع) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّها نزلت في التّائبين» (5).

و قيل: نزلت في حمزة، و جعفر، و عمّار، و مصعب بن عمير، و غيرهم (6).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 55

وَ كَذلِكَ التّفصيل و التّبيين الواضح لدلائل التّوحيد و النّبوّة و الوعد و الوعيد نُفَصِّلُ اَلْآياتِ و نبيّن جميع ما يحتاج إليه النّاس من المعارف و الأحكام ليظهر الحقّ كلّه وَ لِتَسْتَبِينَ و تظهر لك سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ و المشركين، و سبيل المؤمنين الموحّدين، و يمتاز طريقهما.

وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ (55)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 56

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ تفصيل الآيات لاستبانة سبيل المجرمين، نهى النّاس عن سلوك سبيلهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين: إِنِّي بحكم عقلي السّليم، و دلالة الآيات و البراهين على

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ (56)

ص: 491


1- . تفسير الرازي 13:2، تفسير الصافي 2:124. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 13:2. (5 و 6) . مجمع البيان 4:476، تفسير الصافي 2:124.

التّوحيد نُهِيتُ و منعت من قبل ربّي أَنْ أَعْبُدَ الأصنام اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه قُلْ لهم قطعا لأطماعهم: إنّي لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ التي دعتكم إلى عبادة الأحجار و الأخشاب و سائر ما عملته أيديكم، مع وضوح عدم قابليّة شيء منها لعبادة الإنسان الذي هو أشرف منها و من سائر الموجودات، و عدم الدّاعي إليها إلاّ محض الهوى، بل أتّبع عقلي النّاهي عنها و الحاكم بأنّ شيئا ممّا سوى اللّه لا يضرّ و لا ينفع، فإن وافقتكم في عبادة الأصنام فإنّي قَدْ ضَلَلْتُ عن طريق الحقّ و الصّواب إِذاً كما ضللتم بحكم العقل الفطري وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ إلى شيء من خير الدّنيا و الآخرة كما أنتم لا تهتدون إليه. قيل: إنّ كفّار قريش كانوا يدعونه صلّى اللّه عليه و آله إلى دينهم (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 57

ثمّ لمّا تبرّأ عن الشّرك و اتّباع الهوى، أمره سبحانه بدعوة النّاس إلى اتّباع البرهان بقوله: قُلْ يا محمّد إِنِّي في ما أنا عليه من التّوحيد و التّبرّي من الشّرك عَلى بَيِّنَةٍ عظيمة، و حجّة واضحة كائنة مِنْ قبل رَبِّي على توحيده و سائر معارفه و صفاته. و هي كتابه النّاطق بالحقّ، وَ أنتم كَذَّبْتُمْ بِهِ و بما فيه من الآيات، فاستعدّوا للعذاب الذي أوعده اللّه على الشّرك و تكذيب القرآن، و لا تطلبوا منّي التّعجيل في نزوله، فإنّه ما عِنْدِي و ليس بإرادتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب، و لا حكم لي فيه إِنِ اَلْحُكْمُ في تعجيله و تأخيرهما من الأمور لأحد إِلاّ لِلّهِ وحده، و كلّما يقصّ و يخبر بالعذاب أو بغيره يَقُصُّ و يخبر اَلْحَقَّ و الصّدق لا خلف فيه وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفاصِلِينَ و الحاكمين بين عباده.

قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفاصِلِينَ (57)قيل: إنّ رؤساء قريش كانوا يستعجلون العذاب و يقولون: متى هذا الوعد؟ استهزاء و إلزاما، حتّى قام النّضر بن الحارث في الحطيم و قال: اَللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ اَلسَّماءِ أَوِ اِئْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 58

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ (58)

ص: 492


1- . تفسير روح البيان 3:40.
2- . تفسير روح البيان 3:41، و الآية من سورة الأنفال:8/32.

ثمّ أمره اللّه سبحانه بتأكيد عدم اختياره في تعذيبهم بقوله: قُلْ لهم: لَوْ أَنَّ عِنْدِي و في قدرتي و اختياري ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب باللّه لعذّبتكم و أهلكتكم عقيب استعجالكم غضبا لربّي، لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ و انقطع التّنازع و الكلام بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ و لكنّ اللّه لم يكل الأمر إليّ، بل إلى إرادته و حكمته وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ و بأحوالهم، و بصلاح التّعجيل في تعذيبهم، أو إمهالهم بطريق الاستدراج، ليكون عذابهم أشدّ.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 59

ثمّ لمّا أخبر سبحانه بعلمه بأحوال الظّالمين، أخبر بعلمه المحيط بجميع الموجودات بقوله: وَ عِنْدَهُ تعالى خاصّة، و تحت قدرته الكاملة مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ و خزائنه.

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)و قيل: إنّ المراد بالغيب: جميع الممكنات (1)، فإنّها من آثاره و صنائعه، و لازم ذلك إحاطته بها و حضورها عنده.

و قيل: إنّ المراد بالمفاتح: ما يتوصّل به إلى معرفة الموجودات، و هو علل وجودها المنتهية إلى ذاته المقدّسة التي هي علّة عللها، و العلم بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلولات (2)، و لذا لا يَعْلَمُها أحد إِلاّ هُوَ .

و قيل: إنّ المراد بالغيب: خصوص ما غاب من الحواسّ ممّا في عوالم الملكوت و الجبروت (3).

و قيل: إنّ المراد: الخمسة التي خصّ اللّه علمها بذاته المقدّسة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ اللّه: لا يعلم ما في الأرحام إلاّ اللّه، و لا يعلم ما في الغد إلاّ اللّه، و لا يعلم متى يأتي المطر إلاّ اللّه، و لا يعلم بأيّ أرض تموت النّفس إلاّ اللّه، و لا يعلم متى تقوم السّاعة إلاّ اللّه» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد التنبيه على علمه بجميع الموجودات، أو خصوص ما غاب منها عن الحواسّ، قرّر سعة علمه بجميع المحسوسات بقوله: وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ من الحيوانات و النّباتات و الجمادات على اختلاف أجناسها و أنواعها و أفرادها.

ثمّ أشار إلى علمه بأحوال الموجودات بقوله: وَ ما تَسْقُطُ على الأرض مِنْ وَرَقَةٍ من أوراق

ص: 493


1- . تفسير روح البيان 3:42.

الأشجار إِلاّ و هو يَعْلَمُها قيل: إنّ المراد: أنّه تعالى يعلم عدد أوراق الأشجار ثابتها و ساقطها (1)وَ لا حَبَّةٍ صغيرة تكون فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ و بطونها و تخومها إلاّ يعلمها.

ثمّ قرّر إحاطته بجميع ذرّات عالم الأجساد بقوله: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ من الموجودات إِلاّ و هو مكتوب فِي كِتابٍ مُبِينٍ و اللّوح المحفوظ.

في بيان فائدة كتابة

الأشياء في

اللوح المحفوظ

قيل: فائدة كتابة الأشياء في اللّوح المحفوظ، مع أنّ اللّه منزّه عن الجهل و النّسيان، أن الحوادث إذا كانت موافقة للمكتوب ازدادت الملائكة بذلك علما و يقينا بعظيم صفات اللّه و اعترض عليه بأنّ الملائكة ليست من أهل التّرقّي و التّنزّل، فقصر الفائدة على ذلك ممّا لا معنى له (2).

و فيه: أنّ زيادة المعرفة حظّ عظيم للملائكة، و إن لم يحصل لهم بذلك علوّ في المقام، لكون معرفتهم ضرورية.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 60

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح كمال قدرته و سعة علمه بأحوال العباد بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ و يمنع أرواحكم عن التّصرّف الكامل في أبدانكم بِاللَّيْلِ و يجعلكم فيها بالنوم كالميت، كما روي أنّ النّوم أخ الموت (3).

وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «يخرج الرّوح عند النّوم و يبقى شعاعه في الجسد، فبذلك يرى الرّؤيا، فإذا انتبه من النّوم عادت الرّوح إلى الجسد بأسرع من لحظة» (4).

وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ و كسبتم بجواركم من الحسنات و السّيئات بِالنَّهارِ و في تخصيص النّوم بالليل و الاكتساب بالنّهار جري على العادة ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ و يوقظكم فِيهِ من النّوم مع علمه بما يصدر عنكم من السيّئات ليمهلكم و لِيُقْضى و ينقضي أَجَلٌ مُسَمًّى و تستوفوا مدّة حياتكم المقدّرة في الدّنيا.

عن القمي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام، في قوله: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى قال: «هو الموت» (3).

ثُمَّ إِلَيْهِ بالموت مَرْجِعُكُمْ لمجازاة أعمالكم ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ و يخبركم بِما كُنْتُمْ في

ص: 494


1- . تفسير الرازي 12:234.
2- . تفسير روح البيان 3:43. (3 و 4) . تفسير روح البيان 3:44.
3- . تفسير القمي 1:203، تفسير الصافي 2:126.

الدّنيا تَعْمَلُونَ بالثّواب على الطّاعة، و العقاب على المعصية.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 61 الی 62

وَ هُوَ اَلْقاهِرُ و المستولي فَوْقَ عِبادِهِ و المقتدر عليهم، و المتصرّف فيهم كيف يشاء تصحيحا و تسقيما، و إحياء و إماتة، و تعذيبا و إثابة، وَ من قهاريّته أنّه يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ أيّها النّاس ملائكة حَفَظَةً يحفظونكم من الآفات و العاهات و البليّات، و يحفظون أعمالكم.

وَ هُوَ اَلْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللّهِ مَوْلاهُمُ اَلْحَقِّ أَلا لَهُ اَلْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحاسِبِينَ (62)

في كتابة الملائكة

أعمال النّاس و بيان

حكمتها

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، في تفسير (المعقّبات) : «أنّهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتّى ينتهوا [به]إلى المقادير فيخلّون (1)بينه و بين المقادير» (2).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ مع كلّ إنسان ملكين؛ أحدهما عن يمينه، و الآخر عن يساره، فإذا تكلّم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، و إذا تكلّم بسيّئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظره لعلّه يتوب منها، فإن لم يتب كتب عليه (3).

و روي أنّ على كلّ واحد ملكين باللّيل، و ملكين بالنّهار، يكتب أحدهما الحسنات و الآخر السّيئات، و صاحب اليمين أمير على [صاحب]الشّمال، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها، و إذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشّمال أن يكتب قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه ستّ ساعات أو سبع ساعات، فإن هو استغفر اللّه لم يكتب عليه، و إن لم يستغفر كتب سيئة واحدة (4).

قيل: إنّ العبد إذا همّ بحسنة فاح من فيه رائحة المسك، فيعلمون بهذه العلامة فيكتبونها، و إذا همّ بسيّئة فاح من فيه رائحة النّتن (5).

قيل: إنّ الحكمة في كتابة الأعمال أنّ المكلّف إذا علم أنّ أعماله تكتب عليه و تعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي، و إنّ العبد إذا وثق بلطف سيّده و اعتمد على عفوه و ستره، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطّلعين عليه (6).

ثمّ بيّن أنّ حفظ الأعمال يكون مستمرّا حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ و انتهت مدّة حياتكم تَوَفَّتْهُ و قبضت روحه رُسُلُنا المأمورون بقبض الأرواح، و هم عزرائيل و أعوانه وَ هُمْ لا

ص: 495


1- . في مجمع البيان: فيحيلون.
2- . مجمع البيان 6:431.
3- . تفسير الرازي 13:14.
4- . تفسير روح البيان 3:45.
5- . تفسير روح البيان 3:45.
6- . تفسير البيضاوي 1:305.

يُفَرِّطُونَ و لا يقصّرون في ما يؤمرون،

و لا يوخّرونه طرفة عين ثُمَّ إنّهم بعد الموت رُدُّوا و ارجعوا إِلَى اَللّهِ الذي هو مَوْلاهُمُ و مالكهم المتولّي لامورهم، و هو اَلْحَقِّ الثّابت، أو العدل في حكمه و قضائه أَلا تنبّهوا أنّ لَهُ اَلْحُكْمُ بين عباده في ذلك اليوم لا لغيره، يحكم للمطيع بالثواب و للعاصي بالعقاب وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحاسِبِينَ .

في الاعتقادات: أنّ اللّه تعالى يخاطب عباده من الأوّلين و الآخرين يوم القيامة بمجمل (1)حساب عملهم مخاطبة واحدة، يسمع منها كلّ واحد قضيّته دون غيره (2)، و يظنّ أنّه المخاطب دون غيره، لا يشغله عزّ و جلّ مخاطبة عن مخاطبة، و يفرغ من حساب الأوّلين في مقدار نصف ساعة من ساعات الدّنيا (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 63 الی 64

ثمّ لمّا استدلّ سبحانه بسعة علمه بجميع ما في البرّ و البحر من الموجودات و أحوالها على توحيده، استدلّ عليه بكمال قدرته على إنجاء من في البرّ و البحر من مهالكهما، و غاية رأفته بعباده، بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين: مَنْ يُنَجِّيكُمْ و يخلّصكم مِنْ ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ و المهالك و الأهوال التي تتّفق لكم فيهما في أسفاركم؛ بحيث يظلم عليكم طريق الخلاص منها.

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (63) قُلِ اَللّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)و قيل: إنّ المراد من الظّلمات: ظلمة اللّيل، و ظلمة السّحاب، و ظلمة الرّياح الشديدة، و ظلمة الأمواج الهائلة (4).

و ممّن ترجون النجاة بمقتضى العقل السّليم و الفطرة الأصليّة، و من تَدْعُونَهُ بخلوص النيّة، و تسألونه تَضَرُّعاً باللّسان وَ خُفْيَةً و في السرّ، و تلتزمون بالقيام بوظائف عبوديّته، و تقولون: باللّه لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ المهالك و الشدائد لَنَكُونَنَّ البتة بعد النّجاة منهما مِنَ اَلشّاكِرِينَ لنعمته، المطيعين لأوامره، و الثّابتين على عبوديّته، فإن منعهم العناد و العصبيّة من الاعتراف بمنجيهم، مع وضوحه عندهم، فلا تنتظر لجوابهم،

و قُلِ اَللّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها بفضله، بل وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ و غمّ شديد ينزل بكم ثُمَّ أَنْتُمْ بعد مشاهدة النّعمة و اطمئنانكم بالنّجاة تنقضون العهد و لا

ص: 496


1- . في النسخة: بمحلّ.
2- . في المصدر: غيرها.
3- . الاعتقادات للصدوق:75، تفسير الصافي 2:127.
4- . تفسير الرازي 13:21.

تشكرونه، بل تكفرونه بأن تُشْرِكُونَ غيره في الألوهيّة و العبادة، و هذا من أقبح القبائح.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 65

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ لهم: لا تأمنوا بعد النّجاة من عذاب اللّه، فإنّه هُوَ اَلْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ لأجل إشراككم و كفرانكم عَذاباً عظيما نازلا مِنْ فَوْقِكُمْ من المطر، و الطّوفان، و الصّاعقة، و الحجارة، و الرّياح الهائلة و الصّيحة، كما فعل بقوم نوح و قوم لوط و أصحاب الفيل، أَوْ ظاهرا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ و من أسفل منكم كالغرق، و الخسف، و الرّجفة، كما فعل بفرعون و قومه، و قارون، و أصحاب الأيكة أَوْ يَلْبِسَكُمْ و يخلطكم شِيَعاً و فرقا متخالفين بالأهواء و المذاهب، بحيث يشبّ بينكم الحرب وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ و يقتل بعضكم بعضا.

قُلْ هُوَ اَلْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)عن القميّ رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ هو الدّخان و الصّيحة أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ هو الخسف أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هو الاختلاف في الدّين، و طعن بعضكم على بعض وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هو أن يقتل بعضكم بعضا، و كلّ هذا في أهل القبلة» الخبر (1).

و في (المجمع) : عن الصادق عليه السّلام: «مِنْ فَوْقِكُمْ من السّلاطين الظّلمة، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ العبيد السّوء، و من لا خير فيه أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة و العصبيّة وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هو سوء الجوار» (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أي من الأمراء، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أي من العبيد و السّفلة (3).

عن ابن عبّاس: لمّا نزل جبرئيل بهذه الآية شقّ ذلك على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و قال: «ما بقاء امّتي إن عوملوا بذلك!» فقال له جبرئيل: إنّما أنا عبد مثلك، فادع ربّك لامّتك، فسأل ربّه أن لا يفعل بهم ذلك، فقال جبرئيل: إنّ اللّه قد أمّنهم من خصلتين: أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم كما بعثه على قوم نوح و لوط، و لا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون، و لم يجرهم من أن يلبسهم شيعا بالأهواء

ص: 497


1- . تفسير القمي 1:204، تفسير الصافي 2:127.
2- . مجمع البيان 4:487، تفسير الصافي 2:127. (3 و 2) . تفسير الرازي 13:22.

المختلفة، و يذيق بعضهم بأس بعض بالسّيف» (1) .

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «سألت ربّي أن لا يظهر على امّتي أهل دين غيرهم فأعطاني، و سألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني، و سألته أن لا يجمعهم على ضلال فأعطاني، و سألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني» (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ محلّ التّعجّب عدم تأثّر المشركين بالآيات، بقوله: اُنْظُرْ يا محمّد، و تعجّب أنّا كَيْفَ نُصَرِّفُ و نبيّن اَلْآياتِ و الدّلائل على التّوحيد و الوعيد ببيانات مختلفة لَعَلَّهُمْ و لأجل أنّهم يَفْقَهُونَ الآيات و يفهمونها فيرجعوا عمّا هم عليه من الكفر و العناد، و هم لا يتأثّرون بها، و لا يرتدعون من عقائدهم الباطلة و أهوائهم الزّائغة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ ذمّ اللّه المشركين بتكذيبهم ما وعدهم من العذاب أو القرآن بقوله: وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ المشركون المصرّون على الشّقاق، وَ الحال أنّ العذاب هُوَ اَلْحَقُّ الواقع، أو القرآن هو الصّدق الثّابت قُلْ لهم: إنّي لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ و حفيظ من الكفر و الضّلال بالقهر، حتّى أمنعكم من التّكذيب، و أجبركم على التّصديق، و إنّما عليّ تبليغ وعد اللّه المشركين بالعذاب، و قد بلّغت،

و لِكُلِّ نَبَإٍ و خبر من أخبار اللّه مُسْتَقَرٌّ و وقت وقوع يقع فيه من غير خلف و تأخير وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ صدق خبره و وعيده عند وقوعه في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ اَلْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 68 الی 69

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عن مجلس المكذّبين إذا أضافوا إلى تكذيبهم الاستهزاء بالآيات، بقوله: وَ إِذا رَأَيْتَ المكذّبين اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ و يشرعون في الطّعن فِي آياتِنا و يستهزئون بها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و اخرج من مجلسهم، و استمرّ على مفارقتهم حَتّى ينصرفوا

وَ إِذا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (68) وَ ما عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

ص: 498


1- . مجمع البيان 4:487، تفسير الصافي 2:128.

عن الاستهزاء بالآيات، و يَخُوضُوا و يشرعوا فِي حَدِيثٍ و كلام غَيْرِهِ .

قيل: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المراد غيره (1)، و قيل: الخطاب لغيره، و المراد: إذا رأيت أيّها السّامع (2).

نقل أنّ المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في القرآن فشتموا و استهزءوا، فأمرهم اللّه أن لا يقعدوا معهم حتّى يشتغلوا بحديث غيره (3).

ثمّ عذّرهم في حال النّسيان بقوله: وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ أمرنا بترك مجالستهم و قعدت معهم، فلا بأس عليك إذن فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى و الالتفات إلى أمرنا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ حيث وضعوا التّكذيب و الاستهزاء موضع التّصديق و الاستعظام، أو على أنفسهم بذلك.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال المسلمون: لئن كنّا كلّما استهزأ المشركون بالقرآن و خاضوا فيه قمنا عنهم، لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام، و أن نطوف بالبيت (2)؛ لأنّهم يخوضون أبدا.

فرخّص اللّه المؤمنين في مجالستهم عند ذلك مع الوعظ و التّذكير بقوله: وَ ما عَلَى المؤمنين اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ و يجتنبون قبائح أعمال الخائضين و أقوالهم مِنْ حِسابِهِمْ و جرمهم مِنْ شَيْءٍ يسير وَ لكِنْ عليهم ذِكْرى هم و وعظهم و التّنبيه على قبائح أعمالهم و أقوالهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الخوض حياء، أو كراهة لمساءتهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 70

ثمّ أكّد اللّه سبحانه أمره بالإعراض عن المستهزئين بقوله: وَ ذَرِ المشركين اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً و سخرية و هزوا بآيات اللّه، أو جعلوا دينهم اتّباع الهوى و الشّهوات بعبادتهم الأصنام، أو جعلوا عيدهم-الذي هو يوم العبادة-يوم لعبهم و لهوهم، كما عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (3).

وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و ألهتهم شهواتها عن التّفكّر في عاقبة أمرهم، و أعرض عن مجالستهم و ملاطفتهم، و لا تشغل قلبك بهمّهم، و لا تبال بتكذيبهم، بل أنذرهم بالقرآن وَ ذَكِّرْ هم بِهِ مخافة أَنْ تُبْسَلَ و تسلم نَفْسٌ إلى الهلاك و العذاب بِما كَسَبَتْ و عملت من القبائح

ص: 499


1- . تفسير الرازي 13:24. (2 و 3) . تفسير الرازي 13:25.
2- . تفسير الرازي 13:26.
3- . تفسير الرازي 13:27.

و السّيئات.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أي ترتهن في جهنّم بما كسبت في الدّنيا (1).

و الحال أنّ النّفس لَيْسَ لَها عند ابتلائها بالعذاب مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ يدفعه عنها وَ إِنْ تَعْدِلْ تلك النّفس و تفد ممّا في الأرض كُلَّ عَدْلٍ و فداء، لا يقبل و لا يُؤْخَذْ مِنْها ذلك الفداء، فجميع طرق الخلاص منسدة عليها.

ثمّ أثبت الإبسال و التّسليم للعذاب على المستهزئين بقوله: أُولئِكَ اللاعبون اللاهون المغرورون بالدّنيا هم اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا و سلّموا إلى ملائكة العذاب بِما كَسَبُوا و حصّلوا لأنفسهم من العقائد و الأعمال.

ثمّ كأنّه قيل: ما يكون له إذا سلّموا إلى العذاب أو إلى ملائكته؟ فأجاب بقوله: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ ماء حَمِيمٍ مغليّ يتجرجر في بطونهم، و تتقطّع به أمعاؤهم وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بنار تشتعل بها أبدانهم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ باللّه و بآياته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 71 الی 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إصرار المشركين على شركهم، و تكذيبهم بالقرآن النّاطق بالتّوحيد، و استهزائهم بآياته، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوضيح بطلان دينهم، و أنّه ممّا ينكره العقل بقوله: قُلْ لهم إنكارا على نفسك، و على كلّ عاقل: أَ نَدْعُوا و نعبد مِنْ دُونِ اَللّهِ القادر على كلّ نفع و ضرّ ما لا يَنْفَعُنا شيئا إن عبدناه وَ لا يَضُرُّنا إن تركناه وَ هل نُرَدُّ و نرجع من مقام العلم و كمال العقل، و ملّة التّوحيد و دين الإسلام عَلى أَعْقابِنا و جهلنا الذّاتي و ضلالنا الجبلّي الباعثين الى الإشراك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اَللّهُ و أرشدنا بوساطة العقل السّليم، و دلالة الآيات، و مساعدة توفيقه إلى التّوحيد و دين الإسلام، إذن نكون كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ و ذهبت به اَلشَّياطِينُ و مردة الجنّ و الغيلان، و أضلّته فِي مفاوز اَلْأَرْضِ .

قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اَللّهُ كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّياطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى اِئْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (71) وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّقُوهُ وَ هُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)قيل: إنّه مبنيّ على ما زعمته العرب من أنّ الغيلان تستهوي الانسان (2)، و قيل: إنّ المعنى: كالذي

ص: 500


1- . تفسير الرازي 13:28.
2- . تفسير الصافي 2:130.

ألقته الشّياطين في وهدة عميقة في الأرض (1)، حال كونه حَيْرانَ لا يدري ما يصنع، و لا يهتدي إلى طريق السّلامة و النّجاة، و في تلك الحالة يكون لَهُ أَصْحابٌ و رفقاء يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى و يهدونه إلى الطّريق المستقيم قائلين له: اِئْتِنا و تعال إلينا حتّى نوصلك إلى المأمن و المقصود، و هو لا يجيبهم و لا يترك متابعة الغيلان فيهلك قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ و الدّين الحقّ الذي أرشدنا إليه و أمرنا باتّباعه هُوَ وحده اَلْهُدَى المحض، و ما سواه هو الضّلال البحت.

ثمّ شرح الدّين الذي هو هدى اللّه بقوله: وَ أُمِرْنا و الزمنا بحكم عقولنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ و ننقاد لإرادته و حكمه، و هذا رأس الأعمال القلبيّة،

وَ أمرنا أيضا أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ التي هي رأس الطّاعات الجوارحيّة، و أفضل الواجبات البدنيّة وَ اِتَّقُوهُ تعالى في مخالفته، و عصيان نواهيه.

ثمّ أشار سبحانه إلى وقت ظهور عمد منافع تلك الأعمال حثّا عليها بقوله: وَ هُوَ تعالى اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ من قبوركم، و في القيامة تجمعون للحساب و الجزاء؛ فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 73

ثمّ لمّا استدلّ على عدم قابليّة (2)الأصنام للعبادة بعجزهم عن النّفع و الضّر، بيّن كمال قدرته حثّا على تخصيصه بالعبادة، و إثباتا للمعاد بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ و ما فيها من العلويّات وَ اَلْأَرْضَ و ما فيها من السّفليّات، قائما بِالْحَقِّ و الحكمة الكاملة و النّظام الأتمّ، لا بالباطل و العبث وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ و حين يريد إيجاد شيء فيوجد بلا ريث.

وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ وَ لَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ (73)قَوْلُهُ و إرادته اَلْحَقُّ الثّابت النّافذ، و قيل: إنّ المراد: و خلق يوم يقول، أو و أتقّوا يوم يقول (3)، و على التّقديرين هو يوم القيامة، وَ لَهُ تعالى خاصّة اَلْمُلْكُ و السّلطنة التّامّة الظّاهرية و الواقعيّة يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ لا ملك فيه لغيره، كما كان في الدّنيا بحسب الظّاهر.

عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول اللّه، ما الصّور؟ قال: القرن، قلت: كيف هو؟ قال: عظيم، و الذي نفسي بيده، إنّ أعظم دائرة فيه كعرض السّماء و الأرض (4). قيل: إنّ فيه من الثّقب على عدد أرواح

ص: 501


1- . تفسير الرازي 13:29.
2- . يريد عدم استحقاق.
3- . مجمع البيان 4:495.
4- . تفسير روح البيان 3:53.

الخلائق (1).

ثمّ لمّا لم يكن كمال قدرته باعثا على القيام بعبوديّته، و مثبتا للمعاد لكلّ أحد، إلاّ بعد معرفة كمال علمه بمن أطاعه و عصاه و من أماته و أحياه، عرّف ذاته المقدّسة بكمال العلم بقوله: عالِمُ اَلْغَيْبِ و ما لا تدركه الحواسّ وَ اَلشَّهادَةِ و ما يدركه وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ في أفعاله اَلْخَبِيرُ بجميع الأمور.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 74

ثمّ لمّا كان إبراهيم عليه السّلام معروفا بين جميع الملل بكمال العقل و العلم، و استقامة الرّأي، و إصابة النّظر، و حسن العقائد و الأعمال، و عظم الشّأن، و كان أهل الكتاب و مشركو العرب مفتخرين بأنهم ذرّيّته، معترفين بعلوّ مقامه، احتجّ اللّه سبحانه عليهم بإقراره بالتّوحيد، و إعراضه عن الشّرك، و توبيخه و إنكاره على النّاس عبادة الأصنام، بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ موبّخا له، و إنكارا عليه: أَ تَتَّخِذُ و تختار لنفسك أَصْناماً آلِهَةً و معبودين من دون اللّه، و في تنكير الأصنام إشعار بتحقيرها إِنِّي بعين عقلي، و بصيرة قلبي أَراكَ وَ قَوْمَكَ الّذين وافقوك في عبادتها راسخين فِي ضَلالٍ عن الحقّ، و بعد عن الصّواب مُبِينٍ و واضح عند العقل و العقلاء.

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)

في أنّ آزر كان

جدّ إبراهيم لأمّه

ثمّ اعلم أنّه ادّعي الإجماع على أنّ اسم أبي إبراهيم تارخ، و إنّما الخلاف في أنّ آزر كان لقبه، أو كان له اسمان، أو كان آزر عمّه، و إنّما اطلق عليه الأب؛ لأنّ العمّ صنو الأب؟ أو كان جدّه لامّه و هو الحق؛ لأنّ إطلاق الأب عليه حقيقة و على العم مجاز، و اتّفاق أصحابنا ظاهرا على أنّ آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلّهم كانوا موحّدين لقوله تعالى: وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّاجِدِينَ (2).

عن القمّي عن الباقر عليه السّلام، قال: «في أصلاب النّبيّين» (3).

و في (المجمع) : عنهما عليهما السّلام، قالا: «في أصلاب النّبيّين؛ نبيّ بعد نبيّ، أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح، من لدن آدم» (4).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لم يزل ينقلني اللّه تعالى من أصلاب الطّاهرين إلى أرحام

ص: 502


1- . تفسير روح البيان 3:53.
2- . الشعراء:26/219.
3- . تفسير القمي 2:125، تفسير الصافي 4:54.
4- . مجمع البيان 7:324، تفسير الصافي 4:54.

المطهّرات، حتّى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنّسني بدنس الجاهلية» (1).

و عنه عليه السّلام: «لمّا خلق اللّه تعالى آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض، و جعلني في صلب نوح في السّفينة، و قذفني في صلب إبراهيم، ثمّ [لم يزل]تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة و الأرحام حتّى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قطّ» (2). و لو كان في آبائه كافر لم يصف أصلابهم بالطّهارة و الكرامة.

و روي أنّ حوّاء لمّا وضعت شيئا انتقل النّور المحمّدي من جبهتها إلى جبهته، فلمّا كبر و بلغ مبلغ الرّجال أخذ آدم عليه العهود و المواثيق أن لا يودع هذا السرّ إلاّ في المطهّرات المحصنات من النّساء، ليصل إلى المطهّرين (3).

و حمل الفخر الرازي و بعض آخر من العامّة الرّوايات النبويّة على أنّه لم يكن في آبائه ولد زنا، و استشهدوا عليه بقوله عليه السّلام: «ولدت من نكاح، لا من سفاح» (4).

و فيه: أنّه لا شهادة فيه لظهور كونه فخرا آخرا، مع بعد حمل الأصلاب الطّاهرين على ذلك، و يؤيّده فحوى قوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ الآية، كما ذكرناه في البقرة (5)، و أنّه كان صلّى اللّه عليه و آله جامعا لجميع المفاخر، و من المعلوم أن كون بعض آبائه مشركا لا يخلو من شين عليه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 75

ثمّ بيّن اللّه تعالى كمال عرفان إبراهيم عليه السّلام بقوله: وَ كَذلِكَ الذي أريناه من قبح عبادة الأصنام، و بصّرناه بفساد الإشراك بتقوية بصيرته، كنّا نُرِي و نبصّر إِبْراهِيمَ بتقوية نور بصره مَلَكُوتَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ليشاهد عجائب مخلوقاتنا، و يطّلع على سعة ملكنا و عظمة سلطاننا وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ بوحدانيّتنا و قدرتنا و حكمتنا.

وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ (75)عن الباقر عليه السّلام: «كشط له عن الأرضين حتّى رآهنّ و ما تحتهنّ، و عن السّماوات حتّى رآهنّ و ما فيهنّ من الملائكة و حملة العرش» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «كشط له عن الأرض و من عليها، و عن السّماء و من فيها، و الملك الذي يحملها، و العرش و من عليه» (7).

ص: 503


1- . مجمع البيان 4:497، تفسير الصافي 2:131.
2- . تفسير روح البيان 3:54.
3- . تفسير روح البيان 3:54.
4- . تفسير روح البيان 3:54.
5- . في تفسير الآية (125) من سورة البقرة.
6- . مجمع البيان 4:498، تفسير الصافي 2:131.
7- . تفسير القمي 1:205، تفسير الصافي 2:131.

و عن الباقر عليه السّلام قال: «اعطي بصره من القوّة ما نفذ السّماوات، فرأى ما فيها، و رأى العرش و ما فوقه، و رأى ما في الأرض و ما تحتها» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا رأى إبراهيم ملكوت السّماوات و الأرض، رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات، ثمّ رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا، فأوحى اللّه إليه: يا إبراهيم، إنّ دعوتك مستجابة، فلا تدع على عبادي، فإنّي لو شئت أن اميتهم [لدعائك]ما خلقتهم، فإنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فاثيبه، و صنف يعبد غيري فليس يفوتني، و صنف يعبد غيري فاخرج من صلبه من يعبدني» (2).

قيل: إنّ ملكوت كلّ شيء باطنه و روحانيّته، و هو من الأوّليّات التي خلقها اللّه تعالى من لا شيء بأمر (كن) ، فالملك قائم بالملكوت، و الملكوت قائم بقدرة اللّه، فأرى سبحانه إبراهيم ملكوت الأشياء، و الآيات المودعة فيها الدّالّة على توحيده و كمال صفاته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 76 الی 78

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إنكار إبراهيم عليه السّلام على آزر و قومه عبادة الأصنام، و حكمه بضلالتهم، احتجّ على مشركي العرب بما احتجّ به إبراهيم عليه السّلام على بطلان عبادة الأصنام بقوله: فَلَمّا جَنَّ و أظلم عَلَيْهِ اَللَّيْلُ و ستره بظلامه، و ظهرت الكواكب رَأى بينها كَوْكَباً من الكواكب السّبعة، قيل: كان الزّهرة (3)، و قيل: كان المشتري (4)قالَ استهزاء بقومه، أو إنكارا عليهم، أو حكاية لمقالهم لينكر (3)عليهم بإبطاله، أو إظهارا لمماشاته معهم كي يكون أدعى إلى استماع حجّته: هذا الكوكب رَبِّي .

فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ (76) فَلَمّا رَأَى اَلْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّالِّينَ (77) فَلَمّا رَأَى اَلشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (78)قيل: لمّا كان مرجع عبادة الأصنام إلى عبادة الكواكب؛ حيث إنّ النّاس رأوا أنّ الفصول الأربعة تكون بقرب الشّمس و بعدها، و بهما تحدث الأحوال المختلفة في العالم، و تكون السّعادات

ص: 504


1- . تفسير العياشي 2:102/1431، تفسير الصافي 2:132.
2- . تفسير العياشي 2:102/1432، تفسير القمي 1:206، الكافي 8:305/473، مجمع البيان 4:498، تفسير الصافي 2:132. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 3:153، تفسير روح البيان 3:56.
3- . كذا الظاهر، و في النسخة: ليكن.

و النّحوسات بوقوع الكواكب في طوالعهم على أحوال مختلفة، غلب على ظنّ أغلبهم أنّ مبدأ الحوادث هو الكواكب، فبالغوا في تعظيمها حتّى اشتغلوا بعبادتها.

ثمّ لمّا رأوا أنّها تغيب في كثير من الأوقات، اتّخذوا لكلّ كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه، فصنم الشّمس من الذّهب المزيّن بأحجار منسوبة إليها كالياقوت و الألماس، و صنم القمر من الفضة (1). . . و هكذا.

و لذا استدلّ إبراهيم عليه السّلام على بطلان عبادة الأصنام ببطلان ربوبيّة الكواكب بقوله: فَلَمّا أَفَلَ الكواكب و غرب قالَ لا أُحِبُّ الأرباب اَلْآفِلِينَ الغائبين عن مربوبهم، للقطع بعدم صلوح الزّائل المتغيّر للرّبوبيّة.

ثمّ طلع القمر فَلَمّا رَأَى اَلْقَمَرَ بازِغاً و طالعا قالَ هذا الجرم المضيء رَبِّي و خالقي فَلَمّا أَفَلَ و غاب قالَ تنبيها لقومه على عدم صلوحه أيضا للرّبوبيّة بعلّة افوله و تغيّره الملازم للحدوث، و تذكيرا لهم بعجزهم عن معرفة ربّهم إلاّ بهدايته و توفيقه: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى معرفته بتوفيقه، و لم ينوّر قلبي لإدراك الحقّ لَأَكُونَنَّ البتّة مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّالِّينَ عن طريق الحقّ، المنحرفين عن نهج الصّواب. و فيه تعريض بضلال قومه في عبادتهم المتغيّر المقهور بإرادة غيره.

عنهما عليهما السّلام: «لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّالِّينَ أي ناسيا للميثاق» (2).

أقول: أي الميثاق على التّوحيد في عالم الذرّ.

ثمّ ذهب اللّيل و طلعت الشّمس فَلَمّا رَأَى اَلشَّمْسَ بازِغَةً و طالعة قالَ هذا الجرم المشهود رَبِّي .

ثمّ أشار إلى رجحان القول بالوهيّة الشّمس على القول بالوهيّة الكوكب و القمر بقوله: هذا الطّالع أَكْبَرُ من الكوكب و القمر جرما، و أقوى منهما ضياء، فهو أولى بالرّبوبيّة، قيل: في تذكير اسم الإشارة رعاية للأدب و تنزيه للربّ عن الانوثيّة (3)فَلَمّا أَفَلَتْ الشّمس كسائر الكواكب، و ثبّت امتناع ربوبيّتها أيضا لأجل الافول و التّغيّر و ألزم الفرق بالحجّة القاطعة قالَ مخاطبا لجميعهم، صادعا بالحقّ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ باللّه تعالى من الكواكب و الأصنام و غيرها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 79

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (79)

ص: 505


1- . تفسير الرازي 13:36.
2- . تفسير العياشي 2:103/1434 عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 2:133.
3- . تفسير الرازي 13:56.

ثمّ بعد التّبرّؤ ممّا سوى اللّه أعلن بخلوصه لعبادة موجد الكواكب و غيرها بقوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ و صرّفت قلبي، و أخلصت عبادتي لِلَّذِي بقدرته الكاملة و حكمته البالغة فَطَرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و ما فيهما من الكواكب و غيرها، و أخرج الكلّ من كتم العدم إلى الوجود، و فوّضت جميع أموري إليه، حال كوني حَنِيفاً و مائلا عن كلّ معبود غيره، و معرضا عن كلّ دين غير دينه وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ به شيئا في جهة من الجهات، و أمر من الأمور.

في (العيون) : عن الرضا عليه السّلام أنّه سأله المأمون فقال له: يابن رسول اللّه، أ ليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: «بلى» ، قال: فأخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي (1).

فقال الرّضا عليه السّلام: «إن إبراهيم عليه السّلام وقع على ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزّهرة، و صنف يعبد القمر، و صنف يعبد الشّمس، و ذلك حين خرج من السّرب (2)الذي اخفي فيه، فلمّا جنّ عليه اللّيل رأى الزّهرة، قال: هذا ربّي؛ على الإنكار و الاستخبار، فلمّا أفل الكوكب قال: لا احبّ الآفلين؛ لأنّ الافول من صفات المحدّث لا من صفات القديم، فلمّا رأى القمر بازغا قال: هذا ربّي، على الإنكار و الاستخبار، فلمّا أفل قال: لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضّالين، فلمّا أصبح و رأى الشّمس بازغة قال: هذا ربّي، هذا أكبر من الزّهرة و القمر، على الإنكار و الاستخبار، لا على الإخبار و الإقرار، فلمّا أفلت قال للأصناف الثّلاثة من عبدة الزّهرة و القمر و الشّمس: يا قوم إنّي بريء ممّا تشركون، إنّي وجّهت وجهي للذي فطر السّماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين. و إنّما أراد إبراهيم عليه السّلام بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم، و يثبت عندهم أنّ العبادة لخالقها و خالق السّماوات و الأرض» الخبر (3).

أقول: عليه جمع من مفسّري العامّة، و حكي عن أكثرهم أنّه قال ذلك طلبا لمعرفة الربّ، و رووا أنّ نمرود رأى رؤيا فعبّرها الحكماء و الكهنة بأنّه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر بذبح كلّ غلام يولد، فحبلت أمّ إبراهيم به و ما أظهرت حبلها، فلمّا جاءها الطّلق ذهبت إلى كهف في جبل و وضعت إبراهيم و سدّت الباب بحجر، فجاء جبرئيل عليه السّلام و وضع إصبعه في فمه فمصّه فخرج منه رزقه، و كان جبرئيل يتعهّده، و كانت امّه تأتيه أحيانا و ترضعه، فبقي على هذه الحالة حتّى كبر و عقل و عرف أن له ربّا، فسأل امّه و قال: من ربّي؟ فقالت: أنا. فقال: و من ربّك؟ قالت: أبوك. فقال: من ربّه؟ فقالت: ملك

ص: 506


1- . الأنعام:6/76.
2- . السّرب: حفير تحت الأرض لا منفذ له.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:197/1، تفسير الصافي 2:133.

البلد. فقال: من ربّه؟ فقالت: لا تسأل عن هذا، فإنّ عليك فيه خطرا عظيما، فنظر من باب الغار، فرأى النّجم الذي هو أضوأ النّجوم، فقال: هذا ربّي. . . إلى آخر القصّة (1).

و عن القمّي: عن الصادق عليه السّلام: «أنّ آزر أبا إبراهيم كان منجّما لنمرود بن كنعان فقال له: إنّي أرى في حساب النّجوم أنّ هذا الزّمان يحدث رجلا، فينسخ هذا الدّين و يدعو إلى دين آخر. فقال له نمرود: في أيّ بلاد يكون؟ قال: في هذه البلاد. و كان منزل نمرود كوثى ربّا (2)، فقال له نمرود: قد خرج إلى الدّنيا؟ قال آزر: لا. قال: فينبغي أن يفرّق بين الرّجال و النّساء، ففرّق بين الرّجال و النّساء، و حملت امّ إبراهيم عليه السّلام و لم يتبيّن حملها.

فلمّا حانت ولادتها قالت: يا آزر، إنّي قد اعتللت و اريد أن اعتزل عنك. و كان في ذلك الزّمان [أن] المرأة إذا اعتلّت اعتزلت عن زوجها، فخرجت و اعتزلت في غار و وضعت إبراهيم و هيّئته و قمّطته و رجعت إلى منزلها و سدّت باب الغار بالحجارة، فأجرى اللّه لإبراهيم عليه السّلام لبنا من إبهامه، و كانت امّه تأتيه، و وكّل نمرود بكلّ امرأة حامل، و كان يذبح كلّ ولد ذكر، فهربت امّ إبراهيم بإبراهيم من الذبح، و كان يشبّ إبراهيم في الغار يوما كما يشبّ غيره في الشّهر، حتّى أتى [له]في الغار ثلاث عشرة سنة. فلمّا كان بعد ذلك زارته امّه، فلمّا أرادت أن تفارقه تشبّث بها فقل: يا أمّي، لو أخرجتني؟ فقالت له: يا بني، إن علم أنّك ولدت في هذا الزّمان قتلك. فلمّا خرجت امّه و خرج من الغار و قد غابت الشّمس، نظر الى الزّهرة في السّماء فقال: هذا ربّي. فلمّا غابت الزّهرة قال: لو كان [هذا]ربّي ما تحرّك و ما برح، ثمّ قال: لا احب الآفلين-و الآفل: الغائب-فلمّا رأى القمر بازغا قال: هذا ربّي هذا أكبر و أحسن، فلمّا تحرّك و زال قال: لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضّالين، فلمّا أصبح و طلعت الشّمس و رأى ضوءها و قد أضاءت الدّنيا لطلوعها قال: هذا ربّي هذا أكبر و أحسن، فلمّا تحرّكت و زالت كشط اللّه له عن السّماوات حتّى رأى العرش و من عليه، و أراه اللّه ملكوت السّماوات و الأرض، فعند ذلك قال: يا قوم إنّي بريء ممّا تشركون، إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين، فجاء إلى امّه و أدخلته إلى دارها و جعلته بين أولادها» (3).

قال: و سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول إبراهيم عليه السّلام: هذا ربّي، أشرك في قوله: هذا ربي؟ قال: «من قال هذا اليوم فهو مشرك، و لم يكن من إبراهيم بشرك، و إنّما كان في طلب ربّه، و هو من غيره شرك» (4).

ص: 507


1- . تفسير الرازي 13:47، تفسير القرطبي 7:24، الدر المنثور 3:304.
2- . كوثى ربّا: من أرض بابل بالعراق، فيها مولد إبراهيم عليه السّلام و فيها مشهده.
3- . تفسير القمي 1:206، تفسير الصافي 2:134.
4- . تفسير القمي 1:207، تفسير الصافي 2:135.

أقول: يمكن الجمع بين الرّوايتين بأنّ الاستدلال بالافول وقع منه عليه السّلام مرّتين؛ المرّة الاولى طلبا لمعرفة نفسه، و الثّانية احتجاجا على قومه، مع أنّ الرّواية الأخيرة متضمّنة لما لا يقول به الشّيعة من كون أبي إبراهيم آزر، مضافا إلى بعد أنّه من كان يرتضع من إصبعه أو من إصبع جبرئيل، أن يحتمل كون الكوكب المحدود المتحرّك ربّا له.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 80

ثمّ حكى سبحانه محاجّة قوم إبراهيم معه بقوله: وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ و أقاموا له براهين واهية على صحّة ما زعموه من ربوبيّة الكوكب و عبادة الأصنام كوجوب تقليد الآباء و غيره بعد احتجاج إبراهيم عليه السّلام على فساده بامتناع كون الحادث المتغيّر خالقا و ربّا، إذن قالَ لهم إبراهيم إنكارا عليهم و استعجابا منهم: يا قوم أَ تُحاجُّونِّي و تجادلونني فِي شأن اَللّهِ و توحيده وَ الحال أنّه تعالى قَدْ هَدانِ و أرشدني إلى الحقّ بتقوية عقلي، و إنارة قلبي، و نصب الآيات عليه.

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اَللّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)ثمّ قيل: إنّ القوم خوّفوه من ضرر آلهتهم حين طعن فيهم، و قالوا: أما تخاف أن يخبّلك آلهتنا لأجل أنّك تشتمهم؟ فأجابهم بقوله: وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ (1)في الرّبوبيّة و العبادة كوكبا كان أو صنما من أن يضرّني بسبب طعني فيه، لوضوح كون جميع الأجرام الفلكيّة، و الأجسام العنصريّة مقهورة بقدرة اللّه و إرادته، لا يقدر شيء منها على نفع أو ضرر إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً من الضّرر عليّ، فعند ذلك يضرّني هو بتوسّط شيء من مخلوقاته و لو كان جمادا، فهو تعالى حقيق بأن يخاف منه لقدرته على كلّ شيء، و لكن لا يشاء ضررا على عبده إلاّ إذا علم صلاحه فيه، أو استحقاقه له، فإنّه وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً و أحاط بجميع خلقه خبرا، و من المعلوم أنّه لا يستحقّ ضرره و عذابه من يوحّده و ينزّهه عن المثل و الشّريك، بل يستحقّ حفظه و ثوابه و إكرامه أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ذلك، و لا تتنبّهون أنّ اللّه هو الضارّ النّافع دون آلهتكم، و أنّ المستحقّ للضرر و العذاب هو المشرك دون الموحّد.

قيل: إنّ التّقدير: أتعرضون عن التّأمّل في ما أقول، فلا تتذكّرون أنّ آلهتكم عجزة؟ (2)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 81

وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

ص: 508


1- . تفسير الرازي 13:61.
2- . تفسير أبي السعود 3:155، تفسير روح البيان 3:58.

ثمّ أنكر على قومه توقّعهم خوفه في مورد الأمن بقوله: وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ من الأصنام التي لا قدرة لها على شيء، وَ أنتم لا تَخافُونَ من أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ القادر على كلّ شيء ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ و بإشراكه عَلَيْكُمْ سُلْطاناً و برهانا قاطعا مع امتناع وجود البرهان على ربوبيّة الحادث المتغيّر المحتاج فَأَيُّ فريق من اَلْفَرِيقَيْنِ أفريق الموحّدين أم فريق المشركين أَحَقُّ و أولى بِالْأَمْنِ من الضّرر و العذاب من قبل اللّه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الأحقّ منهما، أخبروني به؟ و إنّما لم يقل: فأيّنا أحقّ، ليحترز عن تزكية نفسه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 82

ثمّ بادر تعالى إلى الجواب تنبيها على وضوحه عند العقل، و بداهته لدى العقلاء بحيث لا يحتاج إلى التّأمّل، بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و بوحدانيّته وَ لَمْ يَلْبِسُوا و لم يخلطوا إِيمانَهُمْ ذلك بِظُلْمٍ و عصيان من الإشراك به في العبادة-كما فعله الذين قالوا: إنّما نعبد الأصنام ليقرّبونا إلى اللّه -و ارتكاب القبائح الموبقة أُولئِكَ الفريق فقط لَهُمُ اَلْأَمْنُ من كلّ عقوبة، دون فريق المشركين الّذين ظلموا أنفسهم بارتكاب أعظم الذّنوب و القبائح وَ هُمْ خاصّة مُهْتَدُونَ إلى الحقّ، مرشدون إلى كلّ خير دون المشركين الّذين هم في ضلال مبين.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)في (المجمع) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «أنّه من تمام قول إبراهيم عليه السّلام» (1).

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: لمّا نزلت هذه الآية شقّ على النّاس و قالوا: يا رسول اللّه، و أيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه ليس الذي تعنون، ألم تستمعوا إلى ما قال العبد الصّالح: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية قال: «الظّلم الضّلال فما فوقه» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الزنا منه؟ قال: «أعوذ باللّه من اولئك، لا، و لكنّه ذنب إذا تاب تاب اللّه عليه» . و قال: «مدمن الزّنا و السّرقة و شارب الخمر كعابد الوثن» (4).

ص: 509


1- . مجمع البيان 4:506 منسوب إلى القيل، و لم ينسبه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، تفسير الصافي 2:136.
2- . مجمع البيان 4:506، تفسير الصافي 2:136، و الآية من سورة لقمان:31/13.
3- . تفسير العياشي 2:105/1442، تفسير الصافي 2:136.
4- . تفسير العياشي 2:105/1441، تفسير الصافي 2:136.

و في رواية قال: «أولئك الخوارج و أصحابهم» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنّ الظّلم هنا الشكّ» (2).

و عنه عليه السّلام وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: «آمنوا بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله من الولاية، و لم يخلطوها بولاية فلان و فلان» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 83

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ علم إبراهيم عليه السّلام و إصابته الحقّ كان بإفاضته تعالى و توفيقه بقوله: وَ تِلْكَ الحجج التي حكيناها إنّما هي حُجَّتُنا و براهيننا التي آتَيْناها و ألهمناها إِبْراهِيمَ بتقوية بصيرته و إنارة قلبه ليقيمها عَلى قَوْمِهِ .

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)ثمّ قرّر سبحانه ذلك بالتّنبيه على أنّ جميع الكمالات الجسمانيّة و الرّوحانيّة منه تعالى بقوله: نَرْفَعُ و نعلّي دَرَجاتٍ كثيرة و مراتب عظيمة من العقل و العلم، و الحكمة و النّبوّة، و الصّفات الكريمة، و الفضائل الجسيمة، و السّعادات الدّنيويّة و الاخرويّة مَنْ نَشاءُ رفعه و تعليته فيها، بمقتضى الحكمة و العلم، و الاستعدادات و القابليّات في خلقه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في فعاله من الرّفع و الخفض و غيرهما عَلِيمٌ باستعدادات الخلق و قابليّاتهم على كثرة مراتبها المتفاوتة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 84 الی 85

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفضيله بنعمة الهداية و العلم و الحكمة، و إراءته ملكوت الموجودات، بيّن تفضيله بكرامة النّسل و شرافة الأصل بقوله: وَ وَهَبْنا لَهُ من رحمتنا إِسْحاقَ ابنه من صلبه وَ يَعْقُوبَ من إسحاق كُلاًّ منهما أو منهم هَدَيْنا إلى الحقّ، و أرشدنا إلى المقامات العالية من العلم و العمل و مكارم الأخلاق، وَ كذلك نُوحاً و هو كان من أجداده هَدَيْنا إلى كمال المعرفة و الحكمة و مقام الرّسالة مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السّابقة من زمان إبراهيم عليه السّلام.

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّالِحِينَ (85)

ص: 510


1- . تفسير العياشي 2:106/1445، تفسير الصافي 2:136.
2- . تفسير العياشي 2:105/1443، تفسير الصافي 2:136.
3- . تفسير العياشي 2:105/1444، تفسير الصافي 2:136.

قيل: كان بين إبراهيم و نوح عليهما السّلام أحد عشر أبا، أوّلهم سام بن نوح و آخرهم تارخ أبو إبراهيم.

عن الباقر عليه السّلام: «يعني هديناهم ليجعلوا الوصيّة في أهل بيتهم» (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أنعم على نوح أيضا نعمة كرامة النّسل بقوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ و نسله هدينا داوُدَ بن إيشا وَ سُلَيْمانَ بن داود اللذين خصّهما اللّه بالملك العظيم مع النّبوّة وَ أَيُّوبَ بن أموص الذي خصّه اللّه بالبلاء العظيم، و كمال الصّبر عليه مع النّبوّة وَ يُوسُفَ بن يعقوب الذي جمع اللّه له عظيم البلاء، و كمال الصّبر، و الملك مع النّبوّة وَ مُوسى وَ هارُونَ ابني عمران بن يصهر اللذين خصّهما اللّه بكمال المهابة، و المعجزات العظيمة القاهرة وَ كَذلِكَ الإنعام بالنّعم العظيمة نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ على أعمالهم الحسنة.

وَ هدينا زَكَرِيّا بن أذن من سبط يهودا وَ يَحْيى ابنه وَ عِيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان وَ إِلْياسَ بن هارون أخي موسى الّذين خصّهم اللّه بغاية الزّهد و الإعراض عن الدّنيا كُلٌّ منهم مِنَ اَلصّالِحِينَ و الكاملين في مكارم الأخلاق و حسن الأعمال.

في أن

الحسنين عليهما السّلام ابنا

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

قال الفخر الرازي في تفسيره: الآية تدلّ على أنّ الحسن و الحسين من ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ اللّه جعل عيسى من ذرّيّة إبراهيم مع أنّه لا ينتسب إلى إبراهيم إلاّ بالامّ، فكذلك الحسن و الحسين عليهما السّلام من ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إن انتسبا إلى رسول اللّه بالامّ (2).

و يقال: إنّ أبا جعفر الباقر استدلّ بهذه الآية عند الحجّاج بن يوسف (3).

أقول: روي عن الصادق عليه السّلام أيضا أنّه قال: «و اللّه لقد نسب اللّه عيسى بن مريم في القرآن إلى إ براهيم عليه السّلام من قبل النّساء» ثمّ تلا هذه الآية (2).

و عن الكاظم عليه السّلام: «إنّما الحق عيسى عليه السّلام بذراري الأنبياء من طريق عليه السّلام مريم، و كذلك الحقنا بذراري النبي صلّى اللّه عليه و آله من قبل امّنا فاطمة عليها السّلام» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 86 الی 87

وَ إِسْماعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى اَلْعالَمِينَ (86) وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)

ص: 511


1- . الكافي 8:116/92، كمال الدين:216/2، تفسير الصافي 2:136. (2 و 3) . تفسير الرازي 13:66.
2- . تفسير العياشي 2:106/1447، تفسير الصافي 2:136.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:84/9، تفسير الصافي 2:137.

وَ هدينا إِسْماعِيلَ بن إبراهيم وَ اَلْيَسَعَ بن أخطوب وَ يُونُسَ بن متّى وَ لُوطاً ابن أخي إبراهيم وَ كلاًّ منهم فَضَّلْنا عَلَى اَلْعالَمِينَ بالكمالات النّفسانيّة و الرّسالة.

و قد استدلّ كثير من المفسّرين على رجوع ضمير (و من ذرّيته) إلى نوح بعدم كون يونس و لوط من ذراري إبراهيم عليه السّلام، و عدم إطلاق الذرّيّة على ولد الصّلب، و قد عدّ إسماعيل بن إبراهيم من الذرّيّة (1).

و قيل برجوع الضّمير إلى إبراهيم عليه السّلام؛ لأنّ الآيات في بيان رفعة إبراهيم، و أنّ يونس كان من الأسباط، و لا بعد في عدّ لوط من ذرّيّته تنزيلا لابن أخيه منزلة ابنه، لكونه في تربيته (2).

و يدلّ عليه استدلال الصادقين عليهما السّلام بعد عيسى في الآية من ذرّيّة إبراهيم عليه السّلام في الرّوايتين السّابقتين.

و قيل برجوع ضمير (و ذريّته) إلى إبراهيم عليه السّلام، و كون قوله: (و اسماعيل) و ما بعده عطفا على قوله: (و نوحا) . ثمّ أنّه ذكر لتأخير ذكر إسماعيل مع كونه ابن إبراهيم لصلبه وجوها غير وجيهة (1).

و يحتمل كون لفظ إسماعيل في الآية معرّب شموئل، و هو النبيّ الذي نصب طالوت ملكا لبني إسرائيل، فعلى هذا لم يذكر إسماعيل بن إبراهيم في الآية، لكون المقصود في المقام الاحتجاج على المشركين بعلوّ مقام الأنبياء المذكورين بسبب هدايتهم إلى التّوحيد، و إنعام اللّه عليهم بكرامة اصولهم و فروعهم و فروع اصولهم، و لم يكن من فروع إسماعيل نبيّ غيره صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: في قوله تعالى: وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى اَلْعالَمِينَ دلالة على أفضلية الأنبياء على الملائكة (2)؛ لأنّ المراد من العالمين جميع ما سوى اللّه تعالى من المخلوقات، فيدخل فيه الملائكة. و فيه نظر، و إنّ كان المدّعى مسلّما عندنا، بل الظّاهر أنّه من ضروريات الإماميّة، ثمّ من المعلوم أنّ المراد من العالمين: هو عالم (3)زمانهم لوضوح عدم أفضليّتهم على خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله.

وَ هدينا بعضا مِنْ آبائِهِمْ و اصولهم وَ ذُرِّيّاتِهِمْ و فروعهم وَ إِخْوانِهِمْ الّذين هم فروع اصولهم-كإخوة يوسف على ما قيل-إلى المعارف الحقّة و الكمالات النّفسانيّة وَ اِجْتَبَيْناهُمْ بالنبوّة، و اصطفيناهم بالرّسالة وَ هَدَيْناهُمْ و أرشدناهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا ضلال فيه أبدا.

قيل: في الآية إشعار بأنّ شرط الرّسالة الرّجوليّة، فلا يجوز أن تكون المرأة رسولا و لا نبيّا (4).

ص: 512


1- . راجع: تفسير الرازي 13:64-65.
2- . تفسير الرازي 13:66.
3- . في النسخة: عالمي.
4- . تفسير الرازي 13:67.

قيل: في قوله: وَ مِنْ آبائِهِمْ دلالة على كون بعض آباء هؤلاء الأنبياء غير مؤمن (1).

أقول: فيه منع لاحتمال كون المراد من هدايتهم: الهداية إلى كمال المعرفة و اليقين لا الإيمان، مع احتمال أن يكون المراد من بعض آبائهم: الأجداد الأبي (2)، و من البعض الآخر الأجداد الأمّي (3)، لإمكان كونهم غير مؤمنين.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 88

ثمّ عظّم اللّه شأن الهداية التي هداهم بها بقوله: ذلِكَ الهدى الذي كان للأنبياء المذكورين، أو لهم و لبعض آبائهم و ذرّيّاتهم و إخوانهم، إلى الحقّ و حقائق الأشياء هُدَى اَللّهِ الكامل و فيضة التامّ يَهْدِي بِهِ إلى أعلى مراتب الكمالات الإمكانيّة و درجات القرب مَنْ يَشاءُ هدايته الكاملة مِنْ عِبادِهِ الطّيّبين بالفطرة، الطّاهرين من رذائل الأخلاق.

ذلِكَ هُدَى اَللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)ثمّ بالغ سبحانه في عظمة ذنب الشّرك بقوله: وَ لَوْ أنّ هؤلاء الأنبياء مع علوّ مقامهم، و كمال قربهم أَشْرَكُوا باللّه شيئا في الالوهيّة أو العبادة على فرض المحال، و اللّه لَحَبِطَ و ذهب عَنْهُمْ و بطل ما كانُوا مدّة أعمارهم يَعْمَلُونَ من الطّاعات و الحسنات، فلا يثابون على شيء منها، فكيف بمن دونهم لو أشرك! و فيه غاية التّرهيب.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 89

ثمّ بالغ سبحانه في عظم شأن هؤلاء الأنبياء الثّمانية عشر بقوله: أُولئِكَ الأنبياء المكرّمون هم اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ و فهم حقائقه و دقائقه وَ علّمناهم اَلْحُكْمَ و الفصل بين النّاس بالحقّ، أو الحكمة، وَ أعطيناهم اَلنُّبُوَّةَ و منصب هداية الخلق.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)ثمّ بشّر سبحانه بنصرة دينه، و أعلن بغناه عن إيمان المشركين بالنبوّة، أو بالثّلاثة المذكورة بقوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ المشركون فقد وَكَّلْنا بِها و وفّقنا لحفظها و رعاية حقّها قَوْماً آخرين لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ قيل: هم الأنبياء الثّمانية عشر (4)، و قيل: هم الأنصار (5)، و قيل: هم المهاجرون (6).

ص: 513


1- . تفسير الرازي 13:66.
2- . كذا، و الظاهر: الأجداد الأبويين.
3- . كذا، و الظاهر: الأجداد الامّيون. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 13:68.

و عن الصادق عليه السّلام: «قوما يقيمون الصّلاة، و يؤتون الزّكاة، و يذكرون اللّه كثيرا» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 90

ثمّ بالغ سبحانه في تحسين طريقة الأنبياء المذكورين بقوله: أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى هم اَللّهُ إلى كلّ حقّ و خير، و وفّقهم لسلوك الطّريق المستقيم فَبِهُداهُمُ و طريقتهم في المعارف و الأخلاق الحسنة اِقْتَدِهْ و اتّبع.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)

في أفضلية خاتم

النبيين صلّى اللّه عليه و آله على

جميع الأنبياء

قيل: فيه دلالة على أفضليّته صلّى اللّه عليه و آله من جميع الأنبياء؛ لأنّ خصال الكمال و صفات الشّرف كانت متفرّقة فيهم، فداود و سليمان كانا من أصحاب الشّكر على النّعمة، و أيّوب كان من أهل الصّبر على البليّة، و يوسف كان جامعا بينهما، و موسى كان صاحب المعجزات القاهرة و التّواضع و الوقار، و زكريّا كان كثير الذّكر، و يحيى كان كثير الخوف و البكاء، و عيسى كان كثير الزّهد، و إسماعيل كان صاحب الصّدق. و بالجملة قد غلب على كلّ منهم خصلة معيّنة، فجمع اللّه في حبيبه صلّى اللّه عليه و آله جميع خصالهم بأمره بالاقتداء بهم، و معلوم أنّه لم يقصّر في الامتثال (2).

ثمّ لمّا كان من أخلاق الأنبياء عدم الطّمع في أموال النّاس، و ترك سؤال الأجر على تبليغ الرّسالة، أمره سبحانه بإعلام النّاس بعدم طمعه في الأجر على تبليغ المعارف و الأحكام التي جميعها في القرآن بقوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً و لا أطلب منكم على تبليغ القرآن جعلا، كما لم يسأله الأنبياء من قبلي على تبليغ الكتب السّماويّة.

ثمّ نبّه على علّة عدم سؤال الأجر على تبليغ كتابه بقوله: إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى و عظة من اللّه لِلْعالَمِينَ و الخلق أجمعين من الإنس و الجنّ، و العرب و العجم، و الأبيض و الأسود، و لا ينبغي سؤال الأجر على الموعظة و التّذكير، لوجوب كون غرض المذكّر الآخرة، و فيه دلالة على عموم رسالته، و عدم اختصاصها بقوم دون قوم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 91

وَ ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتابَ اَلَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اَللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

ص: 514


1- . المحاسن:588/88، تفسير الصافي 2:137.
2- . تفسير الرازي 13:70، تفسير روح البيان 3:62.

ثمّ لمّا أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بترك سؤال الأجر على تبليغ القرآن، و أخبر بأنّه نزل من اللّه تذكرة لجميع النّاس، و كان المشركون و أهل الكتاب منكرين لرسالته و كتابه، قائلين له: ما نزّل اللّه عليك كتابا و دينا، ردّهم اللّه تعالى بقوله: وَ ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما عرفوه حقّ معرفته.

في وجوب ارسال

الرسول و انزال

الكتاب على

اللّه تعالى عقلا

و عن ابن عبّاس: ما عظّموه حقّ تعظيمه (1)، حيث إنّهم طعنوا في حكمته و لطفه، و حسبوه لاعبا عابثا بخلقه العالم إِذْ قالُوا إنكارا لرسالتك و كتابك، و كفرانا لأعظم نعمائه عليهم: ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ من الوحي و الكتاب، مع وضوح أنّه مناف لحكمته البالغة و تنزّهه من العبث، فإنّه لا حكمة في خلق العالم إلاّ تكميل النّفوس البشريّة، و فعليّة استعداداتهم للفيوضات الأبديّة بسبب كمال معرفتهم، و صلاح أخلاقهم، و حسن أعمالهم، و ذلك لا يتم إلاّ ببعث الرّسول، و إنزال الكتاب، و جعل القوانين و الأحكام و الثّواب و العقاب و الوعظ و التّذكير، فالاعتراف بحكمته تعالى ملازم للاعتراف بجميع ذلك.

روي أنّ مالك بن الصّيف من أحبار اليهود و رؤسائهم، خرج مع نفر إلى مكّة معاندين، ليسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عن أشياء، و كان رجلا سمينا، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة فقال [له]صلّى اللّه عليه و آله: أنشدك بالذي أنزل التّوراة على موسى، هل تجد فيها أنّ اللّه يبغض الحبر السّمين؟» قال: نعم. قال: «فأنت الحبر السّمين، و قد سمنت من مكأكلتك (2)التي تطعمك اليهود و لست تصوم» (3). فضحك القوم، فخجل مالك بن الصّيف، فقال (4): ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فلمّا رجع مالك إلى قومه قالوا له: [ويلك، ما هذا الذي بلغنا عنك، أ ليس أن اللّه أنزل التّوراة على موسى، فلم قلت ما قلت؟ قال: أغضبني محمّد، فقلت ذلك، قالوا له:]و أنت إذا غضبت تقول على اللّه غير الحقّ و تترك دينك، فأخذوا الرّئاسة و الحبريّة منه. و جعلوهما إلى كعب بن الأشرف. فنزلت هذه الآية (5).

و أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتبكيتهم و نقض قولهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: مَنْ أَنْزَلَ من السّماء اَلْكِتابَ اَلَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى حال كون ذلك الكتاب نُوراً و ظاهرا بنفسه، أو مظهرا لما خفي من العلوم و المعارف وَ هُدىً و رشادا لِلنّاسِ إلى طريق الفلاح و مقام القرب من اللّه، أو إلى

ص: 515


1- . تفسير الرازي 13:72.
2- . المأكلة: ما يؤكل، و الطّعمة و المرتزق.
3- . زاد في تفسير روح البيان: أي تمسك.
4- . زاد في تفسير روح البيان: غضبا.
5- . تفسير روح البيان 3:63.

نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه.

ثمّ أنتم أيّها اليهود مع عظم شأن هذا الكتاب تَجْعَلُونَهُ في قَراطِيسَ و تكتبونه في أوراق متفرّقة، لكي تستدلّوا بالأوراق التي تُبْدُونَها و تظهرون للعوام ما تريدون إظهاره منها وَ تُخْفُونَ منهم كَثِيراً من تلك الأوراق ممّا فيه [من]نعوت محمّد و كتابه، و صفات أصحابه، و بعض الأحكام الذي تحبّون إخفاءه (1)كحكم رجم المحصن و حكم القصاص، و غيرهما وَ عُلِّمْتُمْ بسبب تفسير محمّد صلّى اللّه عليه و آله آيات ذلك الكتاب، من العلوم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ من قبل.

قيل: إنّ اليهود كانوا يقرأون الآيات المبشّرة بمقدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعثته، و ما كانوا يفهمون المراد منها، فلمّا بعث صلّى اللّه عليه و آله فسّرها لهم (2).

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالمبادرة إلى الجواب عن السّؤال عن منزل كتاب التّوراة بقوله: قُلْ أنزله اَللّهَ تنبيها على غاية وضوحه بحيث لا شبهة لأحد فيه، و تعيّنه بحيث لا يمكن غيره، أو على بهتهم بحيث لا يقدرون عليه.

ثمّ هدّدهم سبحانه بعد إصرارهم على الكفر و عدم ارتداعهم عنه بالحجج القاهرة بقوله: ثُمَّ ذَرْهُمْ ودعهم فِي خَوْضِهِمْ و باطلهم-عن القمّي: [يعني]في ما خاضوا فيه من التّكذيب (3)- يَلْعَبُونَ فإنّه ليس عليك إلاّ التّبليغ، و إقامة الحجج، و إنّما علينا حسابهم و عقابهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 92

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فساد قولهم: (ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أعلن بنزول القرآن من عنده تعالى بقوله: وَ هذا القرآن كِتابٌ عظيم الشّأن، فيه دلائل على أنّا أَنْزَلْناهُ بالوحي و بوساطة جبرئيل، و تولّينا تركيب ألفاظه و عباراته، بلا دخل بشر فيه، منها أنّه مُبارَكٌ كثير خيره، دائم نفعه. و قد مرّ في بعض الطّرائف أنّه ما من علم إلاّ و أصله فيه، و أنّ لتلاوته آثارا دنيويّة و اخرويّة (4).

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)قيل: إنّه مبارك على العوام بأن يدعوهم إلى ربّهم، و على الخواصّ بأن يهديهم إليه، و على خواصّ الخواصّ بأن يوصلهم إليه، و يخلّقهم بأخلاقه (5).

و منها أنّه مُصَدِّقُ و موافق للكتاب اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التّوراة و الإنجيل في العلوم

ص: 516


1- . كذا، و الظاهر: التي تحبّون إخفاءها.
2- . تفسير الرازي 13:79.
3- . تفسير القمي 1:210، تفسير الصافي 2:138.
4- . راجع: الطرفة (27) و (30) من المقدمة.
5- . تفسير روح البيان 3:64.

و المعارف، مع اميّة من جاء به، أو أنّه نازل حسب ما وصف في الكتب، و كان إنزاله ليتبرّك النّاس به وَ لِتُنْذِرَ به يا محمّد من يسكن أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ يكون حَوْلَها و أطرافها من أهل الشّرق و الغرب.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: سمّيت مكّة بامّ القرى؛ لأنّ الأرض دحيت من تحتها (1).

و قيل: لأنّها قبلة أهل الدّنيا (2)و محجّهم، فصارت كالأصل، و سائر البلاد و القرى تابعة لها، و يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الامّ، أو لأنّ الكعبة أوّل بيت وضع للنّاس، أو لأنّ بكّة أوّل بلدة سكنت.

قيل: احتجّت طائفة من اليهود بقوله: وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان رسولا إلى العرب (3). و فيه ما لا يخفى من الوهن.

ثمّ نبّه سبحانه بأنّ عدم الإيمان بالقرآن لا يكون إلاّ للعناد، بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و يخافون عذاب اللّه، و طهرت قلوبهم من حبّ الدّنيا و دنس العصبيّة و العناد، ككثير من الأحبار و الرّهبان، بمجرّد سماع القرآن يُؤْمِنُونَ بِهِ بلا حاجة إلى دلالة أمر خارج على صدقه؛ لأنّ خوف الآخرة يحملهم على النّظر و التّدبّر فيه، فيظهر لهم ما يصدّقه من كونه بجهة الفصاحة و البلاغة في أعلى درجة الإعجاز، و كونه مشتملا على الأخبار الغيبيّة، و كونه موافقا للكتب السّماويّة في العلوم و المعارف، مع كون من جاء به امّيّا، إلى غير ذلك من شواهد صدقه.

ثمّ بين سبحانه أنّ خوف الآخرة كما يحمل على الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، يحمل على العبادات التي أهمّها و أفضلها الصّلوات الخمس، بقوله: وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ الخمس بعد الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه يُحافِظُونَ و يداومون.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 93

ثمّ لمّا كان العلم بقباحة أمر من أقوى الرّوادع عن ارتكابه، أكّد صدق القرآن بأنّ الافتراء على اللّه في دعوى الرّسالة و نسبة القرآن إليه، من أشنع الظّلم، بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ على نفسه و أقبح قولا

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

ص: 517


1- . تفسير الرازي 13:81.
2- . تفسير الرازي 13:81.
3- . تفسير الرازي 13:81.

مِمَّنِ اِفْتَرى و اختلق عَلَى اَللّهِ كَذِباً بادّعاء أنّ القرآن منه مع عدم كونه منه أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من قبله دين و شرع وَ الحال أنّه لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ من الدّين وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ و أخترع من نفسي كتابا مِثْلَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ من الكتاب.

قيل: إنّ الفقرة الأولى في مسيلمة الكذّاب-صاحب اليمامة، فإنّه كان يقول: محمّد رسول قريش، و أنا رسول بني حنيفة-و الأسود العنسي (1).

و الثّانية في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، روي أنّه كان يكتب الوحي، فلمّا نزل قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (2)و أملاه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله عليه، عجب عبد اللّه منه فقال: فتبارك اللّه أحسن الخالقين، فقال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: «هكذا نزلت الآية» فسكت عبد اللّه، و قال: إن كان محمّد صادقا، فقد اوحي إليّ مثله، و إن كان كاذبا فقد عارضته (3).

و الثّالثة في النّضر بن الحارث، فإنّه قال: لو نشاء لقلنا مثل هذا (4).

في (الكافي) : عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّها نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر، و هو ممّن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة هدر دمه، و كان يكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإذا أنزل اللّه عزّ و جلّ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ كتب: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، فيقول له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «دعها، فإنّ اللّه عليم حكيم» و كان ابن أبي سرح يقول للمنافقين: إنّي لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر عليّ، فأنزل اللّه تبارك و تعالى فيه الذي أنزل (5).

في ارتداد عبد اللّه

بن أبي سرح

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان [بن عفان]من الرّضاعة أسلم و قدم المدينة، و كان له خطّ حسن، و كان إذا نزل الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعاه فكتب ما يمليه عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [من الوحي]، فكان إذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. سَمِيعٌ بَصِيرٌ يكتب: سميع عليم، و إذا قال: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يكتب: بصير، و يفرّق بين التّاء و الياء، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: هو واحد، فارتدّ كافرا و رجع إلى مكّة و قال لقريش: و اللّه ما يدري محمّد ما يقول، أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر عليّ ذلك، فأنا انزل مثل ما أنزل [اللّه]، فأنزل اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ .

ص: 518


1- . تفسير الرازي 13:83.
2- . المؤمنون:23/12-14.
3- . تفسير الرازي 13:84، أسباب النزول للواحدي:125، مجمع البيان 4:518.
4- . تفسير الرازي 13:84.
5- . الكافي 8:200/242، تفسير الصافي 2:139.

فلمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة أمر بقتله، فجاء به عثمان، قد أخذ بيده و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد، فقال: يا رسول اللّه اعف عنه، فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ أعاد، فسكت [رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]، ثمّ أعاد، فقال: هو لك، فلمّا مرّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله. فقال رجل: كانت عيني إليك يا رسول اللّه أن تشير إليّ فأقتله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الأنبياء لا يقتلون بالإشارة، فكان من الطّلقاء» (1).

و عن العيّاشي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام في تأويله: «من ادّعى الإمامة دون الإمام» (2).

ثمّ هدّد اللّه تعالى الفرق الثّلاث بسوء حالهم عند الموت بقوله: وَ لَوْ تَرى يا محمّد إِذِ اَلظّالِمُونَ من الفرق الثّلاث و غيرهم من الكفّار خائضون فِي غَمَراتِ اَلْمَوْتِ و سكراته و شدائده، لرأيت أمرا هائلا وَ اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون بقبض الأرواح باسِطُوا و مادّوا أَيْدِيهِمْ لقبض أرواحهم-كالغريم الملحّ الذي يبسط يده إلى من عليه الحقّ، و يعنف عليه في المطالبة، و لا يمهله-قائلين لهم تغليظا و تعنيفا: أَخْرِجُوا إلينا أَنْفُسَكُمُ و أرواحكم من أجسادكم.

و قيل: إنّ المراد من الملائكة: ملائكة العذاب و هم باسطو أيديهم لتعذيبهم (3)، يقولون: أخرجوا أنفسكم من أيدينا و خلّصوها من العذاب إن قدرتم.

اَلْيَوْمَ و في هذه السّاعة، أو في الزّمان الممتدّ بعد الموت تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ و تعاقبون عقابا متضمّنا لغاية الذّل و التّحقير.

عن الباقر عليه السّلام: «العطش يوم القيامة» (4).

بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَقُولُونَ و تفترون عَلَى اَللّهِ قولا غَيْرَ اَلْحَقِّ من اتّخاذه الولد، أو كون الشّريك له في الملك، أو ادّعاء النّبوّة و الوحي وَ كُنْتُمْ تعرضون عَنْ آياتِهِ القرآنية، و براهين توحيده، و تَسْتَكْبِرُونَ عن الإقرار بها و التّسليم لها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 94

ثمّ لمّا كان المشركون يفتخرون بالمال و الأولاد و العشيرة، حكى سبحانه مخاطبته إيّاهم يوم القيامة

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

ص: 519


1- . تفسير القمي 1:210، تفسير الصافي 2:139.
2- . تفسير العياشي 2:109/1456، تفسير الصافي 2:140.
3- . تفسير الرازي 13:85.
4- . تفسير العياشي 2:110/1457، تفسير الصافي 2:140.

ترهيبا لهم بقوله: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا من الدّنيا فُرادى و منقطعين عن الأموال و الأولاد و العشيرة كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ و على الهيئة التي ولدتم عليها في الدّنيا.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّهم يحشرون عراة حفاة غرلا» (1)، قالت عائشة: وا سوأتاه! الرّجل و المرأة كذلك، فقال عليه السّلام «لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قرأ على فاطمة بنت أسد هذه الآية، فقالت: و ما فرادى؟ فقال: «عراة» ، قالت: وا سوأتاه، فسأل اللّه أن لا يبدي عورتها، و أن يحشرها بأكفانها (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «تنوّقوا في الأكفان، فإنّكم تبعثون بها» (4).

ثمّ وبّخهم على عدم تقديم شيء منها إلى الآخرة بصرفه في سبيل اللّه بقوله: وَ تَرَكْتُمْ و خلّفتم ما خَوَّلْناكُمْ و تفضّلنا عليكم بما كنتم تفتخرون به، و تؤثرونه على الآخرة من الحطام وَراءَ ظُهُورِكُمْ و في الدّنيا التي انتقلتم منها إلى هذه الدّار، و ما قدّمتم منه إليها شيئا، و ما حملتم معكم منه نقيرا، و حرمتم أنفسكم من الانتفاع به.

ثمّ وبّخهم على عبادة الأوثان بزعم أنّهم شفعاؤهم بقوله: وَ ما نَرى مَعَكُمْ اليوم شُفَعاءَكُمُ من الأصنام اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مضافا إلى الرّجاء بشفاعتهم أَنَّهُمْ فِيكُمْ و في خلقكم و عبادتكم شُرَكاءُ للّه لَقَدْ تَقَطَّعَ الوصل الذي كان بَيْنَكُمْ و بينهم، و انفصم حبل مودّتكم، و تشتّت جمعكم، وَ ضَلَّ و ضاع عَنْكُمْ اليوم ما كُنْتُمْ في الدّنيا تَزْعُمُونَ و تتوهّمون من شفاعتهم و نفعهم.

عن الصادق عليه السّلام: «نزلت هذه الآية في معاوية و بني اميّة و شركائهم و أئمّتهم (5)لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ يعني المودّة» .

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 95

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان التّوحيد و جملة من دلائله، و إثبات النّبوّة و صدق القرآن تبعا و استطرادا، عاد إلى إقامة البرهان على وجود الصّانع القادر الحكيم، و وحدانيّته تنبيها على أنّه المقصود الأهمّ في

إِنَّ اَللّهَ فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ اَلْمَيِّتِ مِنَ اَلْحَيِّ ذلِكُمُ اَللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (95)

ص: 520


1- . غرلا: جمع أغرل، و هو الذي لم يختن.
2- . مجمع البيان 4:521، تفسير روح البيان 3:69، و الآية من سورة عبس:80/37.
3- . الخرائج و الجرائح 1:91/150، تفسير الصافي 2:140.
4- . الكافي 3:149/6، تفسير الصافي 2:140.
5- . تفسير القمي 1:211، تفسير الصافي 2:141.

السّور المباركة بقوله: إِنَّ اَللّهَ فالِقُ اَلْحَبِّ كالحنطة و الشّعير و غيرهما و خالقه وَ فالق اَلنَّوى التي تكون في جوف الثّمرات كالتّمر و المشمش و أمثالهما، و خالقها، كما عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (1). أو شاقّهما بالنباتات و الأشجار، كما عن أكثر المفسّرين (2). فإنّ الحبّة و النّواة إذا وقعتا في الأرض الرّطبة، و مرّت بهما مدّة، يشقّهما (3)اللّه تعالى شقّتين: إحداهما في أعلاهما، و الاخرى في أسفلهما.

ثمّ يُخْرِجُ النّبات أو الشّجر اَلْحَيَّ بالرّوح النّباتي، و القوّة النّامية من الشّقّ الأعلى مِنَ الحبّ و النّوى اَلْمَيِّتِ لعدم تلك الرّوح فيهما، و العرق الحيّ بالرّوح النّباتي من الشّقّ الأسفل منهما، وَ هو تعالى مُخْرِجُ الحبّ أو النّوى اَلْمَيِّتِ مِنَ النّبات أو الشّجر اَلْحَيَّ .

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، في حديث الطّينة: «تأويل الحبّ بطينة المؤمنين [التي]ألقى اللّه تعالى عليها محبّته، و تأويل النّوى بطينة الكافرين الذين نأوا عن كلّ خير» قال: «و إنّما سمّي النّوى من أجل أنه نأى عن كلّ خير و تباعد منه» (4).

و عن القمّي رحمه اللّه قال: «الحبّ ما أحبّه، و النّوى ما نأى عن الحقّ» .

و قال أيضا: «فالق الحبّ أي يفلق العلم من الأئمّة، و النّوى ما بعد عنه» (5).

و عن الصادق عليه السّلام، في حديث الطّينة (6): فقال اللّه: يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ اَلْمَيِّتِ مِنَ اَلْحَيِّ فالحيّ: المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر، و الميّت الذي يخرج من الحيّ هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن» (7).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: يخرج المؤمن من الكافر، و مخرج الكافر من المؤمن (8).

و عنه رضى اللّه عنه، في رواية اخرى: أنّ المراد من إخراج الحيّ من الميّت إخراج الحيوان من النّطفة أو البيضة، و من إخراج الميّت من الحيّ إخراج النّطفة أو البيضة من الحيوان (9).

قيل: لمّا كان الاعتناء بإخراج الحيّ من الميّت أكثر من إخراج الميّت من الحيّ، أتى سبحانه في بيان الأوّل بالجملة الفعليّة للدّلالة على اعتناء الفاعل بفعله (10)، و في بيان الثّاني بالجملة الاسميّة غير الدّالّة عليه (11).

ص: 521


1- . تفسير الرازي 13:89.
2- . مجمع البيان 4:523، عن الحسن و قتادة و السدّي.
3- . في النسخة: يشق.
4- . الكافي 2:4/7، تفسير الصافي 2:141.
5- . تفسير القمي 1:211، تفسير الصافي 2:141.
6- . في النسخة: الغيبة.
7- . الكافي 2:4/7، تفسير الصافي 2:141.
8- . تفسير الرازي 13:92، تفسير روح البيان 3:70.
9- . تفسير الرازي 13:92.
10- . تفسير الرازي 13:93.
11- . تفسير الرازي 13:93.

ثمّ لمّا أثبت سبحانه كمال قدرته و حكمته، خصّ استحقاق العبادة بذاته المقدّسة بقوله: ذلِكُمُ القادر المدبّر الحكيم اَللّهَ المستحقّ للعبادة دون غيره فَأَنّى تُؤْفَكُونَ و كيف تصرفون عنه إلى غيره، و تتركون عبادته، و تشتغلون بعبادة خلقه؟ !

و قيل: إنّ المراد: لمّا أنّه تعالى يخرج الحيّ من الميّت، و الميّت من الحيّ، كيف تنكرون المعاد و الإحياء بعد الموت (1)؟

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 96 الی 97

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على توحيده بفلقه الحبّ و النّوى، و عجيب تصرّفه في الأرضيّات، استدلّ بما هو أعجب منه، من ظهور كمال قدرته بتصرّفه في الفلكيّات، و فلقه الفجر، بقوله: فالِقُ اَلْإِصْباحِ و خالق عمود الفجر، أو شاقّ ظلمة اللّيل بنور الصّبح، أو شاقّ الصّبح ببياض النّهار وَ جَعَلَ بقدرته الكاملة و حكمته البالغة اَللَّيْلَ لأن يكون للنّاس و عامّة الحيوانات سَكَناً و زمان وقوف عن الحركة، أو وقت راحة لاحتياجهم إلى الرّاحة و السّكون.

فالِقُ اَلْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (96) وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلنُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)في (نهج البلاغة) : «و لا تسر أوّل اللّيل فإنّ اللّه جعله سكنا، و قدّره مقاما لا ظعنا، فأرح فيه بدنك و روّح ظهرك» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «تزوّج باللّيل، فإنّ اللّه جعله سكنا» (3).

و في (الكافي) : كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتّى يطلع الفجر، و يقول: «إنّ اللّه جعل اللّيل سكنا لكلّ شيء» (4).

وَ جعل اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ على أدوار مختلفة ليكونا حُسْباناً و مقدارا للأوقات، فإنّه تعالى قدّر حركة الشّمس و القمر بمقدار من السّرعة و البطء لا يتجاوزانه إلى أقصى منازلهما، فتتمّ الشّمس جميع البروج الاثني عشر في ثلاثمائة و خمسة و ستّين يوما و ربع يوم، و يتمّ القمر في ثمانية و عشرين يوما، و بهذا التّقدير تنتظم مصالح العالم المتعلّقة بالفصول الأربعة من نضج الثّمار و امور الحرث و النسل، و نحو ذلك ممّا يتوقّف عليه النّظام ذلِكَ التّقدير و التّسيير بالحساب المعيّن

ص: 522


1- . تفسير الرازي 13:94.
2- . نهج البلاغة:372 الرسالة 12، تفسير الصافي 2:141.
3- . الكافي 5:366/3، تفسير الصافي 2:141.
4- . الكافي 6:236/3، تفسير الصافي 2:142.

تَقْدِيرُ المدبّر اَلْعَزِيزِ المقتدر الذي قهرهما بإرادته اَلْعَلِيمِ بتدبيرهما و تنظيم امور خلقه.

وَ هُوَ القادر اَلَّذِي جَعَلَ و أنشأ بقدرته لَكُمُ و لأجل انتفاعكم اَلنُّجُومَ المختلفة في المواضع المتفرّقة من الشّمال و الجنوب و المشرق و المغرب لِتَهْتَدُوا و تعرفوا بِها الطّرق إلى البلاد فِي ظُلُماتِ اللّيالي في اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ و المفاوز و اللّجج. و في تخصيص هذه المنفعة بالذّكر بعد ذكر منافعها إجمالا إشعار بعظمة نعمة الاهتداء.

و عن القمّي رحمه اللّه: «النّجوم آل محمّد» (1).

ثمّ منّ سبحانه على النّاس بتعليمهم دلائل توحيده بقوله: قَدْ فَصَّلْنَا و شرحنا اَلْآياتِ و الحجج البيّنات على التّوحيد لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يتدبّرون الآيات، و يستدلّون بالمحسوسات على المعقولات، و ينتقلون من المشهودات إلى المغيّبات، فإنّهم المنتفعون بها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 98

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده و كمال قدرته و حكمته بخلق الإنسان و اختلاف حالاته بقوله: وَ هُوَ اللّه اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ و أوجدكم مع كثرتكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي أبوكم آدم، فإنّ حوّاء خلقت من ضلعه، و عيسى و إن كان خلق من نفخ روح القدس إلاّ أنّه من قبل امّه مريم ينتهي إليه وجوده، فالكلّ منتهون إلى أب واحد، و ذلك مع دلالته على كمال القدرة منّة عظيمة، لكونه سببا للالفة.

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)ثمّ ذكر سبحانه اختلاف حالاتهم بقوله: فَمُسْتَقَرٌّ و ثبات مستمرّ لكم في الأصلاب، أو في الأرحام، أو فوق الأرض وَ مُسْتَوْدَعٌ و ثبات غير مستمرّ في الأصلاب، أو في الرّحم، أو في القبور. و إنّما عبّر عنه بالاستيداع تشبيها له بالوديعة عند الودعيّ في سرعة الزّوال، أو في كون الثّبوت في الرّحم، أو في القبور من قبل الأب، أو من سائر النّاس.

و قيل: إنّ المراد من المستقرّ و المستودع مكان الاستقرار و الاستيداع (2).

عن الباقر عليه السّلام أنّه قال لأبي بصير حين سأله عن هذه الآية: «ما يقول أهل بلدك الذي أنت فيه؟» ، قال: [قلت:]يقولون مستقرّ في الرّحم، و مستودع في الصّلب، فقال: «كذبوا، المستقرّ من استقرّ الإيمان في قلبه فلا ينزع منه أبدا، و المستودع الذي يستودع الإيمان زمانا ثمّ يسلبه، و قد كان الزّبير

ص: 523


1- . تفسير القمي 1:211، تفسير الصافي 2:142.
2- . تفسير الرازي 13:103.

منهم» (1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: «مستقرّ في الرّحم، و مستودع في الصّلب، و قد يكون مستودع الإيمان ثمّ ينزع منه، و لقد مشى الزّبير في ضوء الإيمان و نوره حين قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى مشى بالسّيف و هو يقول: لا نبايع إلاّ عليّا» (2).

و في رواية قال: «المستقرّ الثّابت، و المستودع المعار» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام، في هذه الآية: «ما كان من الإيمان المستقرّ فمستقرّ إلى يوم القيامة و أبدا، و ما كان مستودعا سلبه اللّه قبل الممات» (4).

و في (الكافي) : عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه خلق النّبيّين على النّبوّة فلا يكونون إلاّ أنبياء، و خلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين، و أعار قوما إيمانا، فإن شاء تمّمه لهم، و إن شاء سلبهم إيّاه» قال: «و فيهم جرت فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ» .

و قال: «إنّ فلانا كان مستودعا إيمانه، فلمّا كذّب علينا سلب إيمانه ذلك» (5).

و قيل: إنّ المستقرّ حال الإنسان بعد الموت، فإنّ السّعادة و الشّقاوة تبقى بعد الموت أبدا، و المستودع حاله قبل الموت، فإنّه يتبدّل، فقد يكون الكافر مؤمنا، و المؤمن قد يكون زنديقا، فلكون حالاته في شرف الزّوال شبّهت بالوديعة.

و على أيّ تقدير، فإنّ اختلاف الحالات مع اشتراك جميع أفراد الإنسان في الجسميّة و لوازمها، دالّ على أنّه بإرادة القادر المختار الحكيم (6).

ثمّ أظهر سبحانه على النّاس بتوضيح دلائل توحيده بقوله: قَدْ فَصَّلْنَا و شرحنا اَلْآياتِ و أدلّة التّوحيد لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ و يفهمون دقائق الأمور. و إنّما ذكر في الآية السّابقة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، و في هذه الآية لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ لأن دلالة النّجوم و منافعها على قدرته تعالى و حكمته أوضح من دلالة إيجاد نفوس كثيرة من نفس واحدة و اختلاف حالاتها، فإنّها محتاجة إلى التّأمّل و الدقّة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 99

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ اُنْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

ص: 524


1- . تفسير العياشي 2:111/1464، تفسير الصافي 2:142.
2- . تفسير العياشي 2:111/1466، تفسير الصافي 2:142.
3- . تفسير العياشي 2:113/1470، تفسير الصافي 2:142.
4- . تفسير العياشي 2:111/1467، تفسير الصافي 2:142.
5- . الكافي 2:306/4، تفسير الصافي 2:143.
6- . تفسير الرازي 13:103.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده و قدرته بإنزال الأمطار، و إنبات الزّروع و الأشجار من الحبّ و النّوى، و إخراج الحبوب و الأثمار و اختلاف حالاتها، بقوله: وَ هُوَ القادر اَلَّذِي أَنْزَلَ بقدرته مِنَ اَلسَّماءِ المعروف (1)، أو من جهة العلوّ بالأمطار ماءً مباركا.

ثمّ بيّن سبحانه أعظم فوائد الإنزال بتلوين الخطاب إعظاما لنفسه بقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ من الأرض نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ من الزّرع و الشّجر و غيرهما ممّا له نبات.

ثمّ لمّا أشار في قوله: فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى (2)إلى ما ينبت من الحبّ و هو الزّرع، و إلى ما ينبت من النّوى و هو الشّجر، ذكر القسمين المذكورين و بدأ بذكر ما يخرج من نبات الزّرع بقوله: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ نبتا غضّا خَضِراً متشعّبا من أصل النّبات الخارج من الحبّ، ثمّ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً منضّدا بعضه فوق بعض كسنبل الحنطة و الشّعير و أمثالهما.

ثمّ ذكر الشّجر و ما يخرج منه، و بدأ بذكر النّخل لكونها أعظم نفعا بقوله: وَ مِنَ اَلنَّخْلِ لا من جميعها، بل مِنَ خصوص طَلْعِها و هو شيء يخرج منها كأنّه نعلان مطبقان، يخرج قِنْوانٌ و أعذاق شبه عناقيد العنب، يخرج منها التّمر دانِيَةٌ ملتفّة متقاربة، أو بعضها قريبة من المجتني، سهلة المجتنى، و بعضها بعيدة لم تذكر اختصارا.

ثمّ ذكر أنفع الأشجار بعد النّخل بقوله: وَ جَنّاتٍ و بساتين مِنْ أَعْنابٍ مختلفة بالصّنف وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ أخرجنا من الأرض بذلك الماء الواحد بالطّبع، حال كون كلّ من الأنواع الثّلاثة مُشْتَبِهاً وَ متماثلا في الأوراق غَيْرَ مُتَشابِهٍ في الثّمر طعما و شكلا، فإنّ بعضه حلو و بعضه حامض، و بعضه حلو حامض.

و قيل: إنّ بعض الثّمرات متشابه في الهيئة و اللّون و الطّعم، و بعضها غير متشابه (3).

اُنْظُرُوا أيّها النّاس بنظر الاعتبار إلى كلّ شجر، و إِلى ثَمَرِهِ الحاصل منه إِذا أَثْمَرَ و حين أظهر اكله، كيف يكون صغيرا ضئيلا لا ينتفع به وَ إلى يَنْعِهِ و نضجه، أو حال نضجه، كيف يصير كبيرا لذيذا نافعا مع كونه من أرض واحدة و ماء واحد! إِنَّ فِي ذلِكُمْ الأثمار و الأحوال

ص: 525


1- . لفظ السماء مؤنث، و قد يذكّر.
2- . الأنعام:6/95.
3- . تفسير الصافي 2:143.

المختلفة لها، و اللّه لَآياتٍ عظيمة، و دلالات واضحة على وجود الصّانع القادر الحكيم لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه و بوحدانيّته، أو للّذين يطلبون الإيمان باللّه، فإنّهم المنتفعون بالاعتبار و الاستدلال بها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 100 الی 101

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب عبدة الأصنام من المشركين بالبراهين المتقنة، وبّخ عبدة الملائكة منهم بقوله: وَ جَعَلُوا في اعتقادهم لِلّهِ الواحد القادر الحكيم بعد وضوح وحدانيّته شُرَكاءَ و أندادا، أعني بهم اَلْجِنَّ و إنّما سمّى الملائكة بالجنّ؛ لسترهم عن الأنظار، و تحقيرهم [بالنسبة إلى مقام الالوهية]

(1)، وَ الحال أنّه تعالى خَلَقَهُمْ بقدرته الكاملة، و لا يكون المخلوق شريكا لخالقه.

وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ اَلْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)و قيل: إنّ المراد بالجنّ الشّياطين الّذين دعوهم إلى عبادة الأصنام (2).

و قيل: إنّ المراد أهرمن (3)و جنده من الأبالسة (4).

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: نزلت الآية في الزّنادقة الذين قالوا: إنّ اللّه و إبليس أخوان؛ فاللّه خالق النّاس و الدواب الأنعام و الخيرات، و إبليس خالق السّباع و الحيّات و العقارب و الشّرور (5).

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين القائلين بأنّ له الولد بقوله: وَ خَرَقُوا و اختلقوا لَهُ بهوى أنفسهم بَنِينَ كاليهود القائلين بأنّ عزير ابن اللّه، و النّصارى القائلين بأنّ المسيح ابن اللّه وَ بَناتٍ كمشركي العرب القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ لهم بعظمة اللّه و شناعة هذا الزّعم لوضوح امتناع الولادة من واجب الوجود.

ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن كلّ ما لا يليق به من الشّريك و الولد و غيرهما بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ ربّهم و ينسبون إليه من الندّ و الولد و سائر النّقائص.

ثمّ شرع سبحانه في إقامة البراهين على بطلان القول باتّخاذه الولد بقوله: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و موجدهما بلا سبق مثال و استعانة بشيء هو اللّه، فإذا كان كذلك فهو غنيّ عن الولد.

ثمّ من البديهيّات أنّ الولادة لا يمكن بدون الزّوجة و الصّاحبة، فإذن أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ و كيف

ص: 526


1- . الزيادة من تفسير أبي السعود 3:167.
2- . تفسير الرازي 13:115.
3- . و هو إله الشرّ عند المجوس.
4- . تفسير الرازي 13:113.
5- . تفسير الرازي 13:113.

بوجد له نسل وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ تعالى صاحِبَةٌ يلقي في رحمها نطفة؟ !

ثمّ أشار إلى البرهان الثّالث بقوله: وَ خَلَقَ سبحانه كُلَّ شَيْءٍ ممّا يرى و ما لا يرى، و المخلوق يمتنع أن يكون ولدا لخالقة.

ثمّ أشار إلى البرهان الرّابع بقوله: وَ هُوَ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ ممّا يمكن وجوده و ما لا يمكن عَلِيمٌ أزلا و أبدا بحيث لا تخفى عليه خافية، فإذا علم أن لا كمال له و لا نفع في اتّخاذه الولد يمتنع عليه اتّخاذه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 102

ثمّ بعد إبطال دعوى الشّرك بوجوهه المختلفة، صرّح سبحانه بتوحيده في جميع الجهات بقوله: ذلِكُمُ المتّصف بالصّفات الجلاليّة و الجماليّة هو اَللّهُ المستحقّ للعبادة، و هو رَبُّكُمْ و مدبّر اموركم دون غيره لا إِلهَ و لا معبود في الوجود إِلاّ هُوَ لعدم إمكان التّعدّد لواجب الوجود، و هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، لا خالق غيره في عرضه، لامتناع تعدّد الخالق؛ لأنّه إن أراد أحد الخالقين مثلا خلق شيء و أراده الآخر و تكافئا، يحصل التّمانع و التّعطيل في الوجود، و إن لم يرد أحدهما إيجاد شيء لزم التعطيل في واجب الوجود، و هو نقص لا يليق به، و إن أراد و لم يقدر على مزاحمة الآخر، لزم عجزه من إنفاذ إرادته، و هو أيضا نقص لا يليق بالواجب.

ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)فإذا ثبت تفرّده في خلق العالم، و تربية الموجودات، و استحقاق العبادة فَاعْبُدُوهُ أيّها النّاس و لا تعبدوا غيره.

ثمّ قرّر تفرّده تعالى بتدبير الأمور و إنجاح حوائج النّاس، لصرف قلوبهم إلى نفسه، و قطع تعلّقها بالأسباب بقوله: وَ هُوَ تعالى مع كمال جوده و رأفته، و سعة قدرته و حكمته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و كلّ أمر من الأمور وَكِيلٌ و رقيب يراقب اموركم و يدبّرها، فكلوها إليه و توسّلوا به في إنجاح مطالبكم، فإنّه هو القادر على القيام بها، الوافي بإتمامها، لا منجح للمقاصد و لا مصلح للمهمّات إلاّ هو.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 103

ثمّ بعد التّنبيه بوجوب رفع الحاجات إليه، و كان لرؤية من يتوسّل به في قضائها و علمه بها دخل

ص: 527

في السّؤال منه و التّوكّل عليه، نفى سبحانه إمكان رؤية ذاته المقدّسة بحسّ البصر بقوله: لا تُدْرِكُهُ و لا تصل إليه تعالى اَلْأَبْصارُ الظّاهريّة.

لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (103)ثمّ أثبت علمه و إحاطته بقوله: وَ هُوَ تعالى يُدْرِكُ و يرى اَلْأَبْصارُ الرّافعة إليه للطّلب، و الأعين المادّة إليه للسّؤال.

ثمّ وصف نفسه بما هو علّة للقضيّتين بقوله: وَ هُوَ اَللَّطِيفُ و الغامض الذي لا تدركه العقول، و العميق الذي لا تناله الاوهام و قيل: هو اللّطيف في صنعه و الوهيّته، أو بعباده (1)اَلْخَبِيرُ المطّلع على دقائق الأشياء و خفيّات الأمور، لا يعزب عنه شيء.

عن الرضا عليه السّلام، في رواية قال: «لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ و هذه الأبصار ليست هذه (2)الأعين، إنّما هي الأبصار التي في القلوب، لا تقع عليه الأوهام، و لا يدرك كيف هو» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في رواية: «و أمّا قوله: لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصارَ فهو كما قال: لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ [يعني لا تحيط به الأوهام وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصارَ يعني]يحيط بها» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «يعني إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ (5)، ليس يعني بصر العين-إلى أن قال: -إنّما عنى إحاطة الوهم، كما يقال: فلان بصير بالشّعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدّراهم، و فلان بصير بالثّياب، اللّه أعظم من أن يرى بالعين» (6).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السّند و الهند و البلدان التي لم تدخلها و لم تدركها ببصرك، و أوهام القلوب لا تدركه، فكيف أبصار العيون ؟ !» (7).

و عن الرضا عليه السّلام: «و أمّا اللّطيف فليس على قلّة و قضافة (8)و صغر، و لكن ذلك على النّفاذ في الأشياء، و الامتناع من أن يدرك [كقولك للرجل]: لطف عنّي هذا الأمر، و لطف فلان في مذهبه و قوله، يخبرك أنّه غمض فيه العقل، و فات الطّلب، و عاد متعمّقا متلطّفا لا يدركه الوهم، فكذلك لطف اللّه تبارك و تعالى عن أن يدرك بحدّ، أو يحدّ بوصف، و اللّطافة منّا الصّغر و القلّة، فقد جمعنا الاسم

ص: 528


1- . تفسير الرازي 13:133.
2- . في العياشي و المجمع: هي.
3- . تفسير العياشي 2:114/1474، مجمع البيان 4:533.
4- . التوحيد:262/5، تفسير الصافي 2:145. و في النسخة: لا تدركه الأبصار، و لا تحيط بها.
5- . الأنعام:6/104.
6- . الكافي 1:76/9، التوحيد:112/10، تفسير الصافي 2:145.
7- . الكافي 1:77/11، تفسير الصافي 2:145.
8- . القضافة: من قضف يقضف، إذا دقّ و نحف لا عن هزال.

و اختلف المعنى» .

قال: «و أمّا الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء و لا يفوته، ليس للتّجربة و لا للاعتبار بالأشياء فتفيده التّجربة و الاعتبار علما، و لولاهما ما علم؛ لأنّ من كان كذلك كان جاهلا، و اللّه لم يزل خبيرا بما يخلق، و الخبير من النّاس المستخبر عن جهل المتعلّم، فقد جمعنا الاسم و اختلف المعنى» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 104

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التّوحيد و الرّسالة، نبّه النّاس عن لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله على تماميّة الحجّة عليهم بقوله: قَدْ جاءَكُمْ أيّها النّاس آيات فيها بَصائِرُ و علوم، أو براهين مِنْ رَبِّكُمْ تبصّركم الحقّ و تعرّفكم الصّواب، و تمّ ما عليّ من تبليغها، و بقي ما عليكم من التّبصّر و الإيمان بها فَمَنْ أَبْصَرَ بها الحقّ و آمن به فَلِنَفْسِهِ أبصر، و إيّاها نفع وَ مَنْ عَمِيَ عن رؤية الحقّ و كفر به فَعَلَيْها ضرّ وَ ما أَنَا من قبل ربّي عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ حتّى اجبركم على قبول الحقّ و الإيمان به، بل إنّما أنا نذير، و اللّه مجازيكم بما تستحقّون.

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 105

ثمّ لمّا ادّعى النّبوّة استدلّ سبحانه عليها بقوله: وَ كَذلِكَ التّصريف البديع، و بيان الحجج الواضحة بعبارات مختلفة بالغة أعلى درجة الإعجاز نُصَرِّفُ اَلْآياتِ الدالّة على جميع المعارف و المواعظ و الأحكام، و نأتي بها حالا بعد حال، لتتمّ الحجّة على المعاندين وَ لِيَقُولُوا في عاقبة الأمر، أو لئلاّ يقولوا: دَرَسْتَ و قرأت يا محمّد هذه العلوم على غيرك و تقرأها علينا، و تدّعي الوحي بها إليك وَ لِنُبَيِّنَهُ و نوضّحه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يفهمون، أو يكونوا بتبيينه عالمين بما فيه من المعارف و العلوم. و إنّما كنّى عن الآيات بالضّمير المفرد المذكّر باعتبار القرآن.

وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 106 الی 107

ثمّ لمّا أشار سبحانه إلى قدح المشركين في القرآن بأنّه مطالب مأخوذة من أهل الكتاب، و إلى

اِتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ (106) وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

ص: 529


1- . الكافي 1:95/2، تفسير الصافي 2:145.

تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ادّعاء نزول الوحي إليه، و كان مجال فتور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في التّبليغ و تكدّر خاطره الشّريف، أمره سبحانه بالقيام بوظيفة الرّسالة، و عدم الاعتناء بترّهات المشكرين بقوله: اِتَّبِعْ يا محمّد ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن، و دم على ما أنت عليه من تبليغه و التّديّن بأحكامه التي عمدتها وجوب التّوحيد، و الإيمان بأنّه لا إِلهَ إِلاّ هُوَ تعالى، وحده لا شريك له وَ أَعْرِضْ عَنِ أباطيل اَلْمُشْرِكِينَ و لا تعتن بها، و لا يكن قدحهم في القرآن سبب فتورك في تبليغ رسالتك، و لا يثقلن عليك إصرارهم على ضلالهم، فإنّه بإرادة اللّه حيث خلّى بينهم و بين أنفسهم و الشّيطان المغوي لهم

وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ بالمشيئة التّكوينيّة إيمانهم بالتّوحيد، و تركهم الشّرك ما أَشْرَكُوا أبدا، و لكن تركهم و اختيارهم حتّى يظهر خبث طينتهم و سوء سريرتهم.

و عن (المجمع) ، في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: «و لو شاء اللّه أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتّى لا يعصيه أحد ما كان يحتاج إلى جنّة و نار، و لكنّه أمرهم و نهاهم و امتحنهم و أعطاهم ماله عليهم به الحجّة من الآلة و الاستطاعة، ليستحقّوا الثّواب و العقاب» (1).

و إنّما بعثناك إليهم نذيرا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً حتّى يجب عليك إجبارهم بالإيمان بالتّوحيد و النبوّة، و قهرهم على ترك الشّريك وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ من قبل ربّك بِوَكِيلٍ و قيّم حتّى يجب عليك تدبير امورهم، و النّظر في مصالحهم.

قيل: الحافظ للشيء من يصونه عمّا يضرّه، و الوكيل عليه من يجلب الخير له (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 108

ثمّ قيل: إنّه لمّا طعن المشركون في القرآن بقولهم للرّسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّما درست على علماء أهل الكتاب، غضب المؤمنون و شتموا الأصنام، فنهى اللّه عن ذلك (3)بقوله: وَ لا تَسُبُّوا و لا تشتموا أيّها المؤمنون آلهتهم اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه فَيَسُبُّوا اَللّهَ بسبب سبّكم آلهتهم عَدْواً و غضبا، أو تجاوزا عن الحقّ إلى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ و عن سفة و جهالة، حيث إنّهم ما قدروا اللّه حقّ قدره.

وَ لا تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ فَيَسُبُّوا اَللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: لمّا نزل إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (4)قال

ص: 530


1- . مجمع البيان 4:536، تفسير الصافي 2:147.
2- . تفسير روح البيان 3:82.
3- . تفسير الرازي 13:139.
4- . الأنبياء:21/98.

المشركون: لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا و شتمها لنهجونّ إلهك، فنزلت (1).

و عن السّدي: أنّه لمّا قربت وفاة أبي طالب قالت قريش: ندخل عليه و نطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنّا، فإنّا نستحي أن نقتله بعد وفاته، فيقول العرب: كان يمنعه فلمّا مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان و أبو جهل و النّضر بن الحارث مع جماعة إليه و قالوا له: أنت كبيرنا، و خاطبوه بما أرادوا، فدعا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و قال: هؤلاء قومك و بنو عمّك يطلبون منك أن تتركهم على دينهم و يتركوك على دينك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «قولوا: لا إله إلاّ اللّه» . فأبوا، فقال أبو طالب: قل غير هذه الكلمة، فإنّ قومك يكرهونها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أنا بالذي أقول غيرها حتّى تأتوني بالشّمس فتضعوها في يدي» . فقالوا له: اترك شتم آلهتنا، و إلاّ شتمناك و من يأمرك بذلك (2).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ الشّرك أخفى من دبيب النّملة على صخرة سوداء في ليلة ظلماء» . فقال: «كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون اللّه، فكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون، فنهى اللّه المؤمنين عن سبّ آلهتهم، لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين، فيكون المؤمنون قد أشركوا باللّه من حيث لا يعلمون» (3).

و قيل: إنّ اللّه أجرى شتم الرّسول منزلة شتمه (4)؛ لأنّ العرب كانوا معتقدين باللّه، و يقولون: إنّ الأصنام شفعاؤنا عنده، فلم يمكن إقدامهم على سبّ اللّه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «أ رأيت أحدا يسبّ اللّه؟» . فقيل: لا، و كيف قال ذلك؟ قال: «من سبّ وليّ اللّه فقد سبّ اللّه» (5).

و عنه عليه السّلام أنّه قيل له: إنّا نرى في المسجد رجلا يعلن بسبّ أعدائكم و يسبّهم. فقال: «ما له لعنه اللّه، يعرّض بنا، قال اللّه: وَ لا تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ الآية» .

و قال عليه السّلام: «لا تسبّوهم فإنّهم يسبّوكم» .

و قال: «من سبّ وليّ اللّه فقد سبّ اللّه» .

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «من سبّك فقد سبّني، و من سبّني فقد سبّ اللّه، و من سبّ اللّه فقد أكبّه اللّه على منخريه في نار جهنّم» (6).

كَذلِكَ التزيين الذي يكون لسبّ اللّه في نظر المشركين زَيَّنّا و حسّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ و طائفة

ص: 531


1- . تفسير الرازي 13:139.
2- . تفسير الرازي 13/140.
3- . تفسير القمي 1:213، مجمع البيان 4:537، تفسير الصافي 2:147.
4- . تفسير الرازي 13:140.
5- . تفسير العياشي 2:114/1475، تفسير الصافي 2:147.
6- . الاعتقادات للصدوق:107، تفسير الصافي 2:147.

من الكفّار عَمَلَهُمْ السّيّء.

قيل: يعني في زعمهم حيث قالوا: إنّ اللّه أمرنا بها (1).

و قيل: يعني: أمهلناهم و خلّيناهم و شأنهم حتّى حسن عندهم سوء عملهم، أو أمهلنا الشّيطان حتّى زيّن لهم (2).

و قيل: إنّ المراد: زيّنا لكلّ من المؤمنين و الكافرين عملهم من الخير و الشّرّ، و الطاعة و العصيان، بإيجاد ما يمكّنهم منه توفيقا و خذلانا (1).

ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ و المالك لأمرهم مَرْجِعُهُمْ بعد الموت، أو البعث يوم القيامة فَيُنَبِّئُهُمْ و يخبرهم بِما كانُوا في الدّنيا يَعْمَلُونَ من الحسنات و السيّئات بإعطائهم الجزاء المستحقّ.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 109

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية طعن المشركين في القرآن بكونه من تعليمات أهل الكتاب، حكى طعنهم في نبوّة صلّى اللّه عليه و آله النبي بأنّه لا يقدر على ما اقترحنا عليه من المعجزة، بقوله: وَ أَقْسَمُوا و حلفوا بِاللّهِ و كان يمينهم جَهْدَ أَيْمانِهِمْ و أغلظها و أشدّها لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ ممّا اقترحوه لَيُؤْمِنُنَّ بِها .

وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا اَلْآياتُ عِنْدَ اَللّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)روي أنّ قريشا قالوا: يا محمّد، إنّك تخبرنا أنّ موسى كانت معه عصا، فيضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، و تخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى، و أنّ صالحا أخرج النّاقة من الجبل، فأتنا أنت أيضا بآية بيّنة، فإن فعلت ذلك لنصدقنّك و نؤمن لك، و حلفوا على ذلك و بالغوا في تأكيد الحلف، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أيّ شيء تحبّون؟» . قالوا: تجعل لنا الصّفا ذهبا، أو ابعث لنا بعض موتانا حتّى نسأله عنك أحقّ ما تقول أم باطل، أو أرنا الملائكة يشهدون لك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فإن فعلت بعض ما تقولون تصدّقونني؟» ، قالوا: نعم، و اللّه لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين، و سأل المسلمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينزلها عليهم حتّى يؤمنوا، فهمّ عليه السّلام بالدّعاء فجاء جبرئيل عليه السّلام فقال: إن شئت كان ذلك، و لئن كان فلم يصدّقوك عنده ليعذّبنّهم بعذاب الاستئصال، و لئن شئت تركتهم حتّى يتوب تائبهم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية (2).

ص: 532


1- . تفسير روح البيان 3:84.
2- . تفسير روح البيان 3:85.

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يجيبهم بقوله: قُلْ لهم إِنَّمَا اَلْآياتُ و خوارق العادات كلّها عِنْدَ اَللّهِ و بقدرته و إرادته، لا بقدرتي و إرادتي، و هو يظهر منها ما يشاء و تقتضيه حكمته.

ثمّ بيّن سبحانه حكمة عدم إحابتهم مخاطبا للمسلمين المشتاقين إلى إيمانهم بقوله: وَ ما يُشْعِرُكُمْ و أيّ شيء يعلمكم أيّها المؤمنون حين سألوا الآية أَنَّها إِذا جاءَتْ يؤمنون بها، فإنّا نعلم أنّهم لا يُؤْمِنُونَ بها و يصرّون على كفرهم، فينزل عليهم عذاب الاستئصال، كما نزل على أصحاب المائدة، فيكون في ترك إجابتهم إمهالهم، و رحمة بمن في أصلابهم.

قيل: كلمة (أنّ) في أَنَّها إِذا جاءَتْ بمعنى (لعلّ) ، و المعنى لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون (1). و قيل: إنّ (لا) في لا يُؤْمِنُونَ زائدة (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 110

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم إيمانهم بالآيات بقوله: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ و نحوّل قلوبهم عن قبول الحقّ إلى إنكاره، أو نطبع عليها فلا يفهمون وجه الإعجاز في الآيات، وَ نحوّل أَبْصارَهُمْ و نعميها عن رؤية ما انزل لفساد استعدادهم، و خباثة طينتهم، و سوء أخلاقهم، فلا يؤمنون به كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ مع كمال ظهوره أَوَّلَ مَرَّةٍ و في بدو الأمر. عن القمّي: يعني في الذر و الميثاق (3).

وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)عن الباقر عليه السّلام «وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ، يقول: نقلّب (4)قلوبهم، فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، و نعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى.

و قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أوّل ما يقلبون عنه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثمّ الجهاد بألسنتكم، ثمّ الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه معروفا و لم ينكر منكرا، نكّس قلبه و جعل أعلاه أسفله، و لم يقبل خيرا أبدا» (5).

وَ نَذَرُهُمْ و نتركهم فِي طُغْيانِهِمْ و عتوّهم عن قبول دينك حال كونهم يَعْمَهُونَ عن الحقّ، و يتحيّرون فيه، عقوبة لهم على ترك إيمانهم بك في أوّل بعثتك.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 111

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

ص: 533


1- . تفسير الرازي 13:144.
2- . مجمع البيان 4:539.
3- . تفسير القمي 1:213، تفسير الصافي 2:149.
4- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: ننكّس.
5- . تفسير القمي 1:213، تفسير الصافي 2:149.

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح شدّة إصرارهم على الكفر و العناد، و عدم إيمانهم بأعظم الآيات بقوله: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةَ شاهدين على صدقك كما اقترحوه وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتى بعد إحيائهم بدعائك في صدقك و وجوب الإيمان بك، بل وَ لو حَشَرْنا و جمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ من موجودات هذا العالم من الجمادات و النّباتات و الحيوانات، أو ممّا يدبّ في الأرض، حال كونهم قُبُلاً و أفواجا، أو كفلاء بصدق دعوتك، و صحّة نبوّتك، و عن القمّي رحمه اللّه: أي عيانا (1)ما كانُوا مع مشاهدة تلك الآيات لِيُؤْمِنُوا بك بالطّوع و الرّغبة أبدا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ إيمانهم بالقهر و الإجبار، فلا فائدة في إجابة مسؤولهم من إنزال الآيات، إذ ليس غرضهم من سؤالها إلاّ التهكّم و التّعنّت، كما هو معلوم عندك و عند قليل من المؤمنين كعليّ عليه السّلام وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لقصورهم يَجْهَلُونَ هذه الدّرجة من خبث ذاتهم و رذالة أخلاقهم، فيطمعون في إيمانهم، أو المراد: أنّ أكثر المشركين الّذين يسألون الآيات، يجهلون أنّها لو جاءتهم لا يؤمنون.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 112

ثمّ لمّا كان لجاج القوم سببا لملالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، سلّى سبحانه قلبه الشّريف ببيان كون هذه البليّة عامّة بقوله: وَ كَذلِكَ التّزيين الذي جعلناه لأعمال الامم، أو كذلك العدوّ الذي جعلناه لك جَعَلْنا في كلّ عصر لِكُلِّ نَبِيٍّ من الأنبياء عَدُوًّا و مبغضين، كانوا هم شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ و مردتهما. كما عن ابن عبّاس (2).

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112)و عن الصادق عليه السّلام: «من لم يجعله اللّه من أهل صفة الحقّ، فأولئك شياطين الإنس و الجنّ» (3).

عن الصادق عليه السّلام: «ما بعث اللّه نبيّا إلاّ و في أمّته شيطانان يؤذيانه و يضلاّن النّاس بعده، فأما صاحبا نوح فنيطيفوس و خرّام، و أمّا صاحبا إبراهيم فمكثل و رزام، و أمّا صاحبا موسى فالسّامري و مر عقيبا، و أمّا صاحبا عيسى فبولس و مرينون، و أمّا صاحبا محمّد فحبتر و زريق» (4).

قيل: حبتر كثعلب وزنا و معنى، كنّى به عن رجل كثير الحيلة، و بزريق عن آخر في عينه زرقة (5).

ص: 534


1- . تفسير القمي 1:213، تفسير الصافي 2:149.
2- . مجمع البيان 4:544 عن الحسن و قتادة و مجاهد.
3- . الكافي 8:11/1، تفسير الصافي 2:150.
4- . تفسير القمي 1:214، تفسير الصافي 2:149.
5- . تفسير الصافي 2:150.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة عداوتهم بقوله: يُوحِي و يسرّ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ لتخريب أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ و المزيّن من الكلام الكذب و الباطل ليغرّه إلى إهلاك نفسه غُرُوراً .

قيل: إنّ من الجنّ شياطين و من الإنس شياطين، و إنّ الشّيطان من الجنّ إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرّد من الإنس [و هو شيطان الإنس]، فأغراه بالمؤمن ليفتنه (1)، و ذلك بمشيئة اللّه لحكمة الامتحان، و بروز الاستعدادات.

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ عدم العداوة، أو عدم الإيحاء، أو عدم التّزيين للكلام ما فَعَلُوهُ البتّة، فإذا كان فعلهم بمشيئة اللّه فَذَرْهُمْ يا محمّد وَ ما يَفْتَرُونَ من الكفر، أو دعهم مع ما زيّن لهم إبليس و غرّهم به-كما عن ابن عبّاس (2)-فإنّ لهم عندنا عقوبات شديدة، و لك على تحمّل الأذى منهم مثوبات عظيمة. و فيه غاية التّهديد. و قيل: منسوخ بآية السّيف (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 113 الی 114

ثمّ بعد بيان علّة إيحائهم الأباطيل، بيّن سبحانه علّة تزيينها بقوله: وَ لِتَصْغى و تميل إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و ترغب إلى استماعه قلوبهم وَ لِيَرْضَوْهُ لأنفسهم وَ لِيَقْتَرِفُوا و يكتسبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ و مكتسبون من السّيّئات، و أمّا الّذين يؤمنون بالآخرة فإنّهم لا يميلون إلى استماعه و لا يرضون به لعلمهم ببطلانه و سوء عاقبته.

وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَ فَغَيْرَ اَللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (114)

ثمّ روي أنّ مشركي مكّة بعد اقتراحهم الآيات قالوا: يا محمّد، اجعل بيننا و بينك حكما من أحبار اليهود، أو من أساقفة النصارى يفصل بيّن المحقّ و المبطل، فإنّهم قرأوا الكتب قبلك (4)، فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن ينكر عليهم ما سألوه بقوله: أَ فَغَيْرَ اَللّهِ قيل: إنّ التّقدير: أميل إلى قولكم، فغير اللّه أَبْتَغِي و أطلب حَكَماً و قاضيا بالحقّ بيني و بينكم (5)، يحكم بصحّة نبوّتي وَ هُوَ تعالى اَلَّذِي حكم بها حيث إنّه أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتابَ السّماوي المشتمل على وجوه من الإعجاز، حال كونه مُفَصَّلاً و مبيّنا فيه المحقّ و المبطل، و مع ذلك لا حاجة إلى حكومة أهل الكتاب.

ص: 535


1- . تفسير الرازي 13:154.
2- . تفسير الرازي 13:156.
3- . ناسخ القرآن العزيز و منسوخه:33. (4 و 5) . تفسير روح البيان 3:90.

ثمّ بيّن اللّه عدم أهليّة أهل الكتاب للحكميّة لشدّة عداوتهم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتمانهم الحقّ بقوله: وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ و فهّمناهم ما فيه من علائم النبيّ و صفات كتابه يَعْلَمُونَ بسبب شهادة كتبهم بصدق كتابك أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ متلبّسا بِالْحَقِّ و الصدق، و مع ذلك يكتمون الشّهادة على أنّه منزّل منه فَلا تَكُونَنَّ يا محمّد مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ و الشّاكّين في علمهم بصدق كتابك، و فيه توبيخهم. أو من الممترين في أنّه منزّل من ربّك بسبب جحودهم، و فيه تهييج للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله على الثّبات على يقينه. و قيل: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد غيره (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 115 الی 116

ثمّ أكّد سبحانه كون القرآن أعظم شهادة منه تعالى على صدق نبوّته بقوله: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ و آياته النّازلة إليك في الإعجاز و الشهادة على صدق دعواك، و بيان جميع ما يحتاج إليه النّاس إلى يوم القيامة، حال كونها صِدْقاً في إخبارها وَ عَدْلاً مستقيما في حكومتها؛ لا كذب فيها، و لا تجاوز عن الحقّ لا مُبَدِّلَ و لا مغيّر من خلق اللّه لِكَلِماتِهِ .

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (115) وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ (116)قيل: إنّ المراد: لا يأتي أحد بما هو أصدق و أعدل منها، بل و لا بما يساويها في الصّدق و العدالة، فكيف يجوز ابتغاء حكم غيره تعالى؟ ! (2)

و قيل: إنّ المعنى: لا خلف فيها و لا نقص، أو لا تأثير لشبهات الكفّار في دلالتها على صدقك (3).

ثمّ هدّد المبتغين للتحكيم بقوله: وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لمقال المتحاكمين اَلْعَلِيمُ بخبث ذاتهم و سوء أعمالهم، فيعاقبهم عليها.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الإمام يسمع في بطن امّه، فإذا ولد خطّ بين كتفيه» (4)و في رواية: «بين عينيه» (5)و في اخرى: «على عضده الأيمن: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً الآية (6)، فإذا صار الأمر إليه جعل اللّه له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كلّ بلدة» (7). و في رواية: «فبهذا يحتجّ اللّه على خلقه» (8).

ص: 536


1- . تفسير الرازي 13:159.
2- . تفسير أبي السعود 3:178، تفسير روح البيان 3:91.
3- . تفسير الرازي 13:162.
4- . الكافي 1:318/4، تفسير الصافي 2:151.
5- . الكافي 1:319/6، تفسير الصافي 2:151.
6- . الكافي 1:318/3، تفسير الصافي 2:151.
7- . الكافي 1:318/4، تفسير الصافي 2:151.
8- . الكافي 1:318/2، تفسير الصافي 2:151.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ القرآن الذي هو معجزة باهرة حكم اللّه بصدق نبوّتك فلا حاجة بعده إلى تحكيم غيره في ذلك، بيّن أنّ موافقة الكفّار في ما يطلبونه من التحكيم و غيره صرف الضّلال، بقوله مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بطريق (إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) : وَ إِنْ تُطِعْ الكفار يا محمّد في ما يطلبونه و يشتهون، نظرا إلى كونهم أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ و يحرفوك عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و دينه الحقّ، حيث إنّهم مع إصرارهم على دينهم الباطل غير قاطعين به، بل إِنْ يَتَّبِعُونَ في عقائدهم و مجادلتهم في التّوحيد و أعمالهم إِلاَّ اَلظَّنَّ بصحّة ما وجدوا عليه آباءهم، لا القطع الحاصل من البرهان وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ و يكذبون في ادّعاء القطع، أو يقولون عن تخمين و استحسان.

قيل: إنّ أهل مكّة كانوا يستحلّون [أكل]الميتة و يدعون المسلمين إلى أكلها، و كانوا يقولون: إنّما ذلك ذبح اللّه، فهو أحلّ ممّا ذبحتم بسكاكينكم، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 117 الی 118

ثمّ بعدما بيّن سبحانه ضلالة أكثر النّاس، بيّن علمه بأحوال جميعهم بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ و أيّ شخص ينحرف عَنْ سَبِيلِهِ و دينه الحقّ و قيل: أعلم بمعنى: يعلم (2)وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى الحقّ.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)

ثمّ لمّا كان من ضلالة المشركين تحليل الميتة و ما لم يذكر عليه اسم اللّه، أمر اللّه المؤمنين بعد تحذيرهم من اتّباع المضلّين بتخصيصهم المذكّى بالأكل بقوله: فَكُلُوا أيّها المؤمنون مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ حين ذبحه خاصّة دون ما مات حتف أنفه، أو ذكر اسم الأصنام عليه إِنْ كُنْتُمْ بكتاب اللّه و بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان باللّه و كتابه موجب للاحتراز عن غير ما أحلّه. و يحتمل أن يكون المراد الأمر بتعميم الأكل بكلّ ما ذكّي على اسم اللّه، و إن كان سائبة و أخواتها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 119

وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

ص: 537


1- . تفسير روح البيان 3:92.
2- . تفسير روح البيان 3:92.

ثمّ أنكر عليهم الاحتراز عن أكل ما حرّمه المشركون على أنفسهم، و إن ذكر اسم اللّه عليه، بقوله: وَ ما لَكُمْ من العذر في أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ حين ذبحه أو نحره، وَ الحال أنه قَدْ فَصَّلَ و شرح لَكُمْ في كتابه بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ (1)الآية، أو قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ (2)الآية، أو بالوحي على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ من الحيوانات إِلاّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ من المحرّمات، فإنّ الضّرورات تبيح المحذورات وَ إِنَّ كَثِيراً من النّاس كعمرو بن لحي الذي غير دين إسماعيل، و حرّم كثيرا من الأنعام، و أباح الميتة، و من بعده من المشركين لَيُضِلُّونَ الضّعفاء عن طريق الحقّ بترغيبهم إلى عبادة الأصنام، و أكل الميتة، و التّحرّج عن أكل السائبة و الوصيلة و أخواتهما و إن ذكر اسم اللّه عليها، و الاحتجاج بالاعتبارات السّخيفة بِأَهْوائِهِمْ الزائغة و الشّبهات الفاسدة، و بِغَيْرِ عِلْمٍ و حجّة قاطعة، و اقتباس من الشّريعة.

ثمّ هدّدهم بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ و المتجاوزين عن حدود اللّه بتحليل ما حرّم و تحريم ما أحلّ، فيعاقبهم في الآخرة أشدّ العقاب.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 120

ثمّ أنّه تعالى بعد الإشارة إلى حرمة الميتة، و تفصيل المحرّمات من الحيوان، نهى عن مطلق معاصيه بقوله: وَ ذَرُوا و اتركوا أيّها المؤمنون ظاهِرَ الذّنب و علنه ممّا يعمل بالجوارح، فإنّه سبب اَلْإِثْمِ و العقاب وَ باطِنَهُ و سرّه ممّا يفعل في القلب، كإرادة السّوء، و الكبر، و الحسد، و غيرها.

وَ ذَرُوا ظاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)و قيل: إنّ أهل الجاهلية كانوا يرون الزّنا في السرّ حلالا، فحرّم اللّه تعالى بهذه الآية السرّ منه و العلانية (3).

ثمّ هدّد سبحانه المرتكبين للذّنب بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ و يرتكبون اَلْإِثْمِ و العصيان سَيُجْزَوْنَ و يعاقبون في الآخرة بِما كانُوا في الدنيا يَقْتَرِفُونَ و يرتكبون.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 121

وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ اَلشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

ص: 538


1- . المائدة:5/3.
2- . الأنعام:6/145.
3- . تفسير الرازي 13:167.

ثمّ بعد الإشارة إلى حرمة ما لم يذكر اسم اللّه عليه، صرّح سبحانه بها بقوله: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ حال ذبحه أو نحره.

ثمّ أكّد سبحانه حرمة أكله بقوله: وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ و خروج عن حدود اللّه وَ إِنَّ اَلشَّياطِينَ من إبليس و جنده لَيُوحُونَ و ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ و أتباعهم من المشركين لِيُجادِلُوكُمْ و يعارضوكم في تحليل الميتة، بأن يقولوا: إنّكم تأكلون ممّا قتلتم، و لا تأكلون ممّا قتله اللّه وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الحرام، و ساعدتموهم على باطلهم إِنَّكُمْ إذن لَمُشْرِكُونَ باللّه غيره في طاعته.

و عن عكرمة: يعني بالشّياطين مردة المجوس، ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش، و ذلك لأنّه لمّا نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش، و كانت بينهم مكاتبة: إنّ محمّدا و أصحابه يزعمون أنّهم يتّبعون أمر اللّه، ثمّ يزعمون أنّ ما يذبحونه حلال و ما يذبحه اللّه حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين [من]ذلك [شيء]، فأنزل اللّه تعالى هذه [الآية] (1).

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من لم يسمّ إذا ذبح فلا تأكله» (2).

عن الورد بن زيد-في حديث-قال لأبي جعفر عليه السّلام: مسلم ذبح و لم يسم؟ فقال: «لا تأكل، إنّ اللّه يقول: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ (3)، وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ» (4).

عن الحلبي: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام-في حديث-أنّه سأله عن الرّجل يذبح فينسى أن يسمّي، أ تؤكل ذبيحته؟ قال: نعم، إذا كان لا يتّهم، و كان يحسن الذّبح قبل ذلك» (5).

عن محمّد بن مسلم، قال: سألته عن رجل ذبح فسبّح أو كبّر أو هلّل أو حمد اللّه عزّ و جلّ، قال: «هذا كلّه من أسماء اللّه تعالى، لا بأس به» (6).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 122

ثمّ لمّا ذكر أنّ المؤمنين يساوون المشركين في صورة موافقتهم في استحلال الحرام، أنكر عليهم ذلك التّساوي مع كثرة ألطافه بهم بقوله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً لا حياة له، قيل: إنّ التقدير: أنتم أيّها

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)

ص: 539


1- . تفسير الرازي 13:170.
2- . من لا يحضره الفقيه 3:211/980.
3- . الأنعام:6/118.
4- . من لا يحضره الفقيه 3:210/973.
5- . من لا يحضره الفقيه 3:211/979.
6- . من لا يحضره الفقيه 3:211/978، تفسير الصافي 2:153.

المؤمنون مثل المشركين، و من كان ميتا (1)فَأَحْيَيْناهُ بنفخ الرّوح فيه، و أعطيناه القوى المتحرّكة و المدركة وَ جَعَلْنا لَهُ مع ذلك من الخارج نُوراً عظيما يَمْشِي بِهِ و يسير بسببه فِي اَلنّاسِ آمنا محمودا، يمكن أن يكون كَمَنْ مَثَلُهُ و صفته العجيبة أنّه ثابت أو مستقرّ فِي اَلظُّلُماتِ العديدة، و لَيْسَ بِخارِجٍ و ناج مِنْها في وقت من الأوقات و حال من الأحوال، حاشاه من أن يكون مثله كَذلِكَ الزّين الذي يكون للإيمان في قلوبكم من جانب اللّه زُيِّنَ و حسّن من قبل الشّيطان و بتسويلاته لِلْكافِرِينَ خصوصا المشركين منهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي.

فقوله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً تمثيل لمن هداه اللّه و أنقذه من الضّلالة، و جعل له نور الحجج و الآيات يتأمّل بها في الأشياء، فيميّز بين الحقّ و الباطل و أهلهما، و قوله: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ تمثيل لمن بقي في الضّلالة لا يفارقها.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: نزلت في حمزة و أبي جهل، قال: إنّ أبا جهل رمى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بفرث، فاخبر حمزة بما فعل أبو جهل و هو راجع من الصّيد و بيده قوس، و كان يومئذ لم يؤمن [بعد]، فلقي أبا جهل، فضرب رأسه بالقوس، فقال أبو جهل: أما ترى ما جاء به! سفّه عقولنا و سبّ آلهتنا. فقال حمزة: و أنتم أسفه النّاس، تعبدون الحجارة من دون اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله. فنزلت الآية (2).

و قال مقاتل: نزلت في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أبي جهل، و ذلك أنّه قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشّرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبيّ يوحى إليه، و اللّه لا نؤمن به إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه (3).

و عن عكرمة: أنّها نزلت في عمّار و أبي جهل (4)، و رواه في (المجمع) عن الباقر عليه السّلام (3).

و في (الكافي) : عنه عليه السّلام: «مَيْتاً لا يعرف شيئا، و نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ إماما يؤتمّ به، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ الذي لا يعرف الإمام» (4).

و عنه عليه السّلام: «الميت الذي لا يعرف هذا الشأن، يعني هذا الأمر، وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً إماما يأتمّ به، يعني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ قال بيده [هكذا]: هذا الخلق الذين لا يعرفون شيئا» (5).

ص: 540


1- . تفسير روح البيان 3:96.
2- . تفسير روح البيان 3:96. (3 و 4) . تفسير الرازي 13:173.
3- . مجمع البيان 4:555، تفسير الصافي 2:154.
4- . الكافي 1:142/13، تفسير الصافي 2:153.
5- . تفسير العياشي 2:117/1485، تفسير الصافي 2:153.

و عن الصادق عليه السّلام: «كانَ مَيْتاً عنّا، فَأَحْيَيْناهُ بنا» (1).

و عن القمّي قال: جاهلا عن الحقّ و الولاية، فهديناه إليها (2). قال: النّور: الولاية، و فِي اَلظُّلُماتِ يعني ولاية غير الأئمّة عليهم السّلام (3).

و عنه عليه السّلام-في حديث-: «قال اللّه تعالى: يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ (4)فالحيّ: المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر، و الميت: الذي يخرج من الحيّ [هو]الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن، فالحيّ: المؤمن، و الميت: الكافر، و ذلك قوله عزّ و جلّ: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر، و كانت حياته حين فرّق [اللّه]بينهما بكلمته، و كذلك يخرج اللّه عزّ و جلّ المؤمن في الميلاد من الظّلمة بعد دخوله فيها إلى النّور، و يخرج الكافر من النّور إلى الظّلمة بعد دخوله في النّور، و ذلك قوله عزّ و جلّ: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكافِرِينَ» (5).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 123 الی 124

ثمّ لمّا كان أبو جهل من أكابر قريش، و كان يفتخر بعظمته بينهم، نبّه سبحانه على أنّ العظمة و الرّئاسة من موجبات الفتنة و الخذلان بقوله: وَ كَذلِكَ النّحو الذي فعلنا في مكّة من جعل أكابرها و صناديدها مجرمين ماكرين في إطفاء نور الهداية جَعَلْنا في القرون السالفة فِي كُلِّ قَرْيَةٍ و بلدة أَكابِرَ ها و أعاظمها مُجْرِمِيها و مذنبيها و ماكريها في الإخلال بأمر نبيّها، و قيل: إنّ المراد: كما زينا للكافرين أعمالهم، جعلنا مجرمي كلّ قرية أكابرها، بأن خلّيناهم و أنفسهم لِيَمْكُرُوا و يغدروا فِيها و يحتالوا في إضلال أهلها، و معارضة الأنبياء كبرا و حسدا عليهم و حفظا لرئاستهم (6).

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (123) وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اَللّهِ اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)قيل: إن صناديد قريش أجلسوا على كلّ طريق من طرق مكّة أربعة نفر ليصرفوا النّاس عن الإيمان

ص: 541


1- . مناقب ابن شهر آشوب 3:270، تفسير الصافي 2:153.
2- . في النسخة: إلينا.
3- . تفسير القمي 1:215، تفسير الصافي 2:153.
4- . يونس:10/31.
5- . الكافي 2:4/7، تفسير الصافي 2:154، و الآية من سورة يس:36/70.
6- . تفسير الرازي 13:174.

بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و كانوا يقولون لكلّ من يقدم: إيّاك و هذا الرّجل، فإنّه كاهن ساحر كذّاب (1).

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ لأنّ وبال مكرهم يحيق بهم و لا يتعدّاهم وَ ما يَشْعُرُونَ بذلك أصلا، بل يزعمون أنّهم يمكرون بك و بالمؤمنين.

ثمّ بيّن سبحانه بعض جرم الأكابر بقوله: وَ إِذا جاءَتْهُمْ من عند اللّه آيَةٌ و معجزة دالّة على صدق نبوّتك قالُوا عنادا و لجاجا: لَنْ نُؤْمِنَ بك و بهذه الآية حَتّى نُؤْتى من جانب اللّه مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اَللّهِ من الوحي و منصب الرّسالة، فتكون متبوعا لا تابعا. ففيه دلالة على أنّ إصرارهم على الكفر كان لغاية الحسد لا لطلب الحجّة.

روي أنّ الوليد بن المغيرة قال: و اللّه، لو كانت النّبوّة حقّا لكنت أحقّ بها (2). و قد مرّ ما حكي عن أبي جهل من قوله: زاحمنا بنو عبد مناف في الشّرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبيّ اوحي إليه (3).

قيل: إنّ المراد برسل اللّه: خصوص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الجمع للتّعظيم (4).

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: اَللّهُ أَعْلَمُ من كلّ شيء حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فإنّ استحقاقها ليس بكثرة المال و الجاه الدّنيوي، بل إنّما هو بالفضائل النّفسانيّة، و لذا خصّها بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله دون غيره من أكابر مكّة الفاقدين لها.

ثمّ هدّد سبحانه الأكابر المتكبّرين بقوله: سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا و عصوا اللّه بالاستكبار و الحسد للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله (5)صَغارٌ و ذلّ و حقارة عِنْدَ اَللّهِ في الآخرة، أو من عند اللّه، مكان ما تمنّوا من عزّ النّبوّة و شرف الرّسالة في الدّنيا، وَ عَذابٌ بالنّار شَدِيدٌ غايته بِما كانُوا في الدّنيا يَمْكُرُونَ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يحسدونه.

عن القمّي رحمه اللّه: «أي يعصون اللّه في السرّ» (6).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 125 الی 126

فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

ص: 542


1- . تفسير روح البيان 3:98.
2- . تفسير الرازي 13:175.
3- . تفسير روح البيان 3:99، تفسير الصافي 2:154.
4- . تفسير روح البيان 3:99.
5- . في النسخة: و الحسد على النبيّ.
6- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:155.

ثمّ نبّه سبحانه على كمال سلطنته ببيان أنّ إيمان المؤمن و كفر الكافر بإرادته و توفيقه و خذلانه بقوله: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إلى السّعادة الأبديّة و مقام قربه و رحمته بتعريفه و توفيقه للإيمان يَشْرَحْ و يوسّع صَدْرَهُ و قلبه لِلْإِسْلامِ بتجليته من الأخلاق الرّذيلة، و تجلية عين بصيرته بنور العقل، فيرى الحقّ و يبادر إلى قبوله بسهولة و رغبة.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن شرح الصّدر [ما هو]. فقال: «[نور]يقذفه اللّه في قلب المؤمن، فينشرح له [صدره]و ينفسح» . فقالوا: هل لذلك أمارة يعرف بها؟ فقال: «نعم، الإنابة إلى دار الخلود، و التّجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزوله» (1).

وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ و يحرفه عن طريق الحقّ يَجْعَلْ صَدْرَهُ بسبب تراكم الأخلاق السّيّئة كالكبر و الحسد و حبّ الجاه و المال فيه ضَيِّقاً حَرَجاً شديد الضّيق بحيث لا يبقى فيه مجال لتمكّن الحقّ، أو منسدّ المنافذ بحيث لا تدخل فيه المواعظ و المعارف.

عن الصادق عليه السّلام، [أنه]قال لموسى بن أسمر (2): «أتدري ما الحرج؟» قال: قلت: لا، فقال بيده و ضمّ أصابعه، كالشيء المصمت الذي لا يدخل فيه شيء، و لا يخرج منه شيء (3).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «قد يكون ضيّقا و له منفذ يسمع منه و يبصر، و الحرج هو الملتئم الذي لا منفذ له يسمع به و لا يبصر منه» الخبر (4)و لذا ينبو عن قبول الحقّ، و يكون إيمانه في امتناعه منه و ثقله عليه كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ و يعرج إليها كَذلِكَ الضّيق الذي جعل اللّه لصدر الكافر يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ و الشكّ. كما عن الصادق عليه السّلام (5). أو العذاب، أو اللّعنة في الدّنيا و العذاب في الآخرة. و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هو الشّيطان، أي يسلّطه (6)عَلَى اَلَّذِينَ يعلم أنهم بسبب خبث ذاتهم و سوء اختيارهم لا يُؤْمِنُونَ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دين الإسلام أبدا.

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «من يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ بإيمانه في الدّنيا إلى جنّته و دار كرامته [في الآخرة] يَشْرَحْ صَدْرَهُ للتّسليم للّه و الثّقة به، و السّكون إلى ما وعده من ثوابه حتّى يطمئنّ إليه وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عن جنّته و دار كرامته في الآخرة لكفره به و عصيانه له في الدّنيا يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً حتّى يشكّ في كفره، و يضطرب من اعتقاده قلبه حتّى يصير كَأَنَّما

ص: 543


1- . مجمع البيان 4:561، تفسير الصافي 2:155.
2- . في تفسير العياشي: لموسى بن أشيم.
3- . تفسير العياشي 2:119/1490، تفسير الصافي 2:155.
4- . معاني الأخبار:145/1، تفسير الصافي 2:155.
5- . تفسير العياشي 2:119/1491، تفسير الصافي 2:156.
6- . تفسير الرازي 13:184.

يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (1) .

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث- «و اعلموا أنّ اللّه إذا أراد بعبد خيرا شرح صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحقّ، و عقد قلبه عليه فعمل به، فإذا جمع اللّه له ذلك تمّ له إسلامه، و كان عند اللّه إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقّا، و إذا لم يرد اللّه بعبد خيرا، و كله إلى نفسه فكان صدره ضيّقا حرجا، فإن جرى على لسانه [حقّ]لم يعقد قلبه عليه، و إذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه اللّه العمل به، فإذا اجتمع ذلك عليه حتّى يموت و هو على تلك الحال، كان عند اللّه من المنافقين، و صار ما جرى على لسانه من الحقّ الذي لم يعطه اللّه أن يعقد عليه قلبه و لم يعطه العمل به حجّة عليه، فاتّقوا اللّه و سلوه أن يشرح صدوركم للإسلام، و أن يجعل ألسنتكم تنطق بالحكمة (2)حتّى يتوفّاكم و أنتم على ذلك» (3).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، فأضاء لها سمعه و قلبه حتّى يكون أحرص على ما في أيديكم منكم، و إذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء فأظلم لها سمعه و قلبه» ثم تلا: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ الآية (4).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور (5)، و فتح مسامع قلبه، و وكّل به ملكا يسدّده، و إذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء، و سدّ مسامع قلبه، و وكّل به شيطانا يضلّه» ، ثمّ تلا هذه الآية (6).

وَ هذا التّشريح لصدور المؤمنين، و التّضييق لقلوب الكافرين، و جعل الرّجس عليهم صِراطُ رَبِّكَ و دأبه الذي يستمرّ عليه مُسْتَقِيماً لا عوج فيه و لا انحراف عنه، أو هذا البيان الذي يكون في القرآن صراط ربّك؛ كما عن ابن مسعود (7).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذا الذي أنت عليه يا محمّد دين ربّك مستقيما (8).

و عن القميّ: «يعني الطّريق الواضح» (9).

قَدْ فَصَّلْنَا و شرحنا اَلْآياتِ و المطالب الكثيرة واحدا بعد واحد لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ و يتنبّهون بالآيات و النّذر، فانّهم المنتفعون بها.

ص: 544


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:131/27، التّوحيد:242/4.
2- . في الكافي: بالحق.
3- . الكافي 8:408، تفسير الصافي 2:156.
4- . الكافي 2:170/6، تفسير الصافي 2:156.
5- . في تفسير العياشي: نكتة بيضاء.
6- . الكافي 1:126/2، تفسير العياشي 2:118/1489، تفسير الصافي 2:156.
7- . مجمع البيان 4:562.
8- . تفسير الرازي 13:187.
9- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:157.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 127

ثمّ بشّر سبحانه المتذكّرين بقوله: لَهُمْ في الآخرة دارُ اَلسَّلامِ و منزل مصون من جميع المكاره و الآفات، قيل: إنّ السّلام اسم من أسماء اللّه (1). و إضافة الدّار إليه تعالى مبالغة في تشريفها و تعظيمها، و المراد الجنّة.

لَهُمْ دارُ اَلسَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)و عن القمّي: «يعني: [في]الجنّة، و السّلام الأمان و العافية و السّرور» (2).

و هي معدّة عِنْدَ رَبِّهِمْ اللّطيف بهم حاضرة لديه، أو المراد أنّه تعالى متكفّل بها، و قيل: عند ربّهم كناية عن غاية شرفها و كرامتها (3).

ثمّ بالغ سبحانه في التّبشير بقوله: وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ و محبّهم، أو النّاظر في صلاحهم، و عن القمّي رحمه اللّه: «يعني: أولى بهم» (4)جزاء بِما كانُوا في الدّنيا يَعْمَلُونَ من الخيرات و الحسنات.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 128 الی 129

ثمّ أنّه تعالى بعد البشارة بغاية لطفه بالمؤمنين، أوعد بعتابه و شدّة عذابه للمشركين بقوله: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إلى القيامة جَمِيعاً و يقول عتابا و توبيخا لهم: يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ و جماعة الشّياطين، أنتم قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ و أضفتم إلى جماعتكم كثيرا مِنَ اَلْإِنْسِ بإغوائكم و تسويلاتكم، و صيّرتموهم أولياءكم و أتباعكم.

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا اَلَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ اَلنّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)عن القمّي رحمه اللّه: «من والى قوما فهو منهم، و إن لم يكن من جنسهم» (5).

وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ و أتباعهم مِنَ اَلْإِنْسِ بعد استماع العتاب و التّوبيخ إظهارا للنّدامة: رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ و انتفع بَعْضُنا بِبَعْضٍ أمّا انتفاع الجنّ بالإنس فبإغوائهم و طاعتهم إيّاهم، و أمّا انتفاع الإنس من الجنّ فبإعانتهم إيّاهم على نيل الشّهوات وَ بَلَغْنا الآن أَجَلَنَا اَلَّذِي أَجَّلْتَ لَنا و أدركنا الوقت الذي وقّته لنا من يوم القيامة، بعدما كنّا مكذّبين به طاعة للشّياطين و اتّباعا للشّهوات.

ص: 545


1- . تفسير الرازي 13:188.
2- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:157.
3- . تفسير الرازي 13:189.
4- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:157.
5- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:158.

ثمّ كأنّهم قالوا: ماذا تعامل معنا بعد إفراطنا في عصيانك؟ قالَ اللّه لهم و للشّياطين الّذين والوهم: اَلنّارُ مَثْواكُمْ و منزل إقامتكم، حال كونكم خالِدِينَ فِيها أبدا إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ عدم كونكم فيها.

قيل: هو وقت المحاسبة (1)، و قيل: هي الأوقات التي يخرجون منها لشوب من حميم، ثمّ يكون مرجعهم إلى الجحيم (2)، و قيل: هو وقت الانتقال من النّار إلى الزّمهرير (3).

روي أنّهم يدخلون واديا فيه برد شديد، فهم يطلبون الردّ من ذلك البرد إلى الجحيم (4).

و يحتمل أن يكون المراد من المستثنى: العصاة من المؤمنين؛ فإنّهم من أولياء الشّيطان، و لا خلود لهم.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: استثنى اللّه قوما سبق في علمه أنّهم يسلمون و يصدّقون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (5).

ثمّ لمّا كان مجال توهّم الظّلم في تخليد الكفّار في النّار، دفعه سبحانه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في فعاله لا يصدر منه الظّلم، و إنّما يعاقب على حسب الاستحقاق عَلِيمٌ بأحوال الثّقلين و أعمالهم،

و بما يستحقّون من الجزاء وَ كَذلِكَ التولّي الذي كان بين الجنّ و الإنس، أو الذي بين اللّه تعالى و بين المؤمنين نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّالِمِينَ بَعْضاً آخر منهم.

قيل: يعني نجعل المحبّة و النّصرة بينهم (6)، و قيل: نكل بعضهم إلى بعض في القيامة (7)، و قيل: نقرن بينهم في النّار؛ كلّ ذلك للسّنخيّة التي تكون بينهم طينة و أعتقادا و أخلاقا و عملا، و قيل: يعني نسلّط بعضهم على بعض، فنأخذ من الظالم بالظّالم (8).

عن (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام: «ما انتصر اللّه من ظالم إلاّ بظالم، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّالِمِينَ بَعْضاً» (9).

و عن القمّي رحمه اللّه قال: «نولّي كلّ من تولّى أولياءهم فيكونون معهم» (10)جزاء بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و يرتكبون من الظلم و القبائح.

قيل: إنّ الآية تدلّ على أنّ الرعيّة إذا كانوا ظالمين، سلّط اللّه عليهم ظالما مثلهم، و أيضا تدلّ على أنّه لا بدّ في الخلق من أمير؛ لأنّه تعالى إذا لم يخل أهل الظّلم من أمير ظالم، فبأن لا يخلي أهل

ص: 546


1- . تفسير الرازي 13:192.
2- . تفسير روح البيان 3:103.
3- . تفسير الرازي 13:192، تفسير روح البيان 3:103.
4- . تفسير الرازي 13:192.
5- . تفسير الرازي 13:192.
6- . تفسير الرازي 13:193.
7- . مجمع البيان 4:565.
8- . تفسير روح البيان 3:104.
9- . تفسير العياشي 2:118/1487، الكافي 2:251/19، تفسير الصافي 2:158.
10- . تفسير القمي 1:216، و زاد فيه: يوم القيامة، تفسير الصافي 2:158.

الصّلاح من أمير يحملهم على زيادة الصّلاح، كان أولى (1).

في لزوم وجود

السلطان في الأرض

و لو كان جائرا

و النهي عن سبّ

السلطان

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يصلح للنّاس إلاّ أمير عادل أو جائر» ، فأنكروا قوله: «أو جائر» فقال: «نعم، يؤمّن السّبيل، و يمكّن من إقامة الصّلاة و حجّ البيت» (2).

و عن مالك بن دينار، [جاء]في بعض كتب اللّه تعالى: أنا اللّه مالك الملوك، قلوب الملوك و نواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، و من عصاني جعلتهم عليه نقمة، لا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك، لكن توبوا إليّ اعطّفهم عليكم (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 130

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ العذاب في القيامة لا يكون إلاّ بعد إتمام الحجّة بقوله: يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ و جماعة الثّقلين المنكرين للبعث أَ لَمْ يَأْتِكُمْ في الدّنيا من قبلنا رُسُلٌ مِنْكُمْ و أنبياء يجانسونكم حتّى تميلوا إليهم، و تستفيدوا منهم، و هم كانوا يَقُصُّونَ و يتلون عَلَيْكُمْ آياتِي و كتابي وَ يُنْذِرُونَكُمْ و يخوّفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا و شدّة أهواله و عذابه؟

يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)قيل: إنّ اللّه كما أرسل رسلا من الإنس، أرسل رسلا من الجنّ، و أستدلّ بهذه الآية و بقوله: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (1)و الأكثر على أنّه ما كان من الجنّ رسول، و إنّما كان الرّسول من الإنس خاصّة.

و ضمير (منكم) راجع إلى مجموع الثّقلين، فيكفي كونه من الإنس، أو إلى أحد الثّقلين لا كلّ منهما، أو إلى كلّ منهما، أو كان رسل الجنّ رسل الإنس؛ للإجماع على اختصاص الرّسل بالإنس، و ما روي من أنّ اللّه بعث نبيّا إلى الجنّ يقال له يوسف فقتلوه (2)، و أرسل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إلى الثّقلين، لا دلالة فيه على أنّ ذلك النبيّ كان من الجنّ.

ثمّ لمّا لم يجدوا بدّا من الاعتراف بالرّسل و تبليغاتهم قالُوا مجيبين: بلى شَهِدْنا و أعترفنا عَلى أَنْفُسِنا بالكفر و استحقاق العذاب.

ثمّ بيّن سبحانه علّة كفرهم و شقاقهم مع الرّسل بقوله: وَ غَرَّتْهُمُ و فتنتهم اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا

ص: 547


1- . تفسير الرازي 13:195، و الآية من سورة فاطر:35/24.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:242/1، تفسير الصافي 2:158.

و شهواتها، فلم يؤمنوا بالرّسل وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في القيامة أَنَّهُمْ كانُوا في الدّنيا كافِرِينَ بالبعث و دار الجزاء.

قيل: تشهد جوارحهم عليهم بالشّرك (1)و إنكار الحشر.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 131

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة بعث الرّسل بقوله: ذلِكَ المذكور من إرسال

ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (131)الرّسل، و التّبليغ و الإنذار، لأجل أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مع كمال عدله و حكمته مُهْلِكَ أهل اَلْقُرى و معذّبهم بعذاب الاستئصال بِظُلْمٍ صادر منهم، أو متلبّسا بظلم منه على القرى وَ الحال أنّه أَهْلُها غافِلُونَ عمّا يسخطه و يرضاه، معذورون في عصيان أوامره و نواهيه لجهلهم بها حتّى يكون لهم على اللّه حجّة، و يصحّ قولهم: رَبَّنا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (2).

و حاصل الآية أنّ إرسال الرّسول و إنزال الكتاب، إنّما كان لإتمام الحجّة على النّاس، و لولاه كان تعذيبهم على مخالفة الأحكام مع جهلهم بها ظلما ممتنعا صدوره من اللّه؛ لمنافاته لربوبيّته و الوهيّته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 132

ثمّ لمّا كان بعد إرسال الرّسل و إتمام الحجّة على النّاس تفاوت فاحش بينهم في الإيمان و الكفر و الطّاعة و العصيان، نبّه سبحانه بعلمه بمراتب استحقاقاتهم المختلفة بقوله: وَ لِكُلٍّ من مكلّفي الجنّ و الإنس؛ كفّارهم و مؤمنيهم دَرَجاتٌ و مراتب متفاوتة في القرب من اللّه و البعد عنه، و في مقدار استحقاق المثوبة و العقوبة، حاصلة تلك الدّرجات لهم مِمّا عَمِلُوا من الحسنات و السّيّئات وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ و جاهل بما يرتكبون من الطّاعة و العصيان، و بمراتب استحقاقاتهم؛ فيجزي كلّ عامل على حسب استحقاقه.

وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (132)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 133

ثمّ أعلن سبحانه بغناه عن طاعة الخلق بقوله: وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ المطلق بذاته لا حاجة له إلى طاعة

وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)

ص: 548


1- . تفسير الرازي 13:196.
2- . القصص:28/47.

المطيعين، و لا ضرر عليه من معصية العاصين، و إنّما كلّف الثّقلين لأنّه ذُو اَلرَّحْمَةِ الواسعة على خلقه، و من رحمته عليهم أن يكلّفهم بما يوجب تكميل نفوسهم و استعدادهم للفيوضات الأبديّة و النّعم الدّائمة، و تعاليهم إلى الدّرجات العالية، و سعادتهم بالقيام إلى الطّاعة و التّحرّز عن القبائح.

ثمّ لمّا أعلن سبحانه بغناه وسعة رحمته، أردفه بإظهار كمال قدرته ببيان فيه ترهيب للقلوب بقوله: إِنْ يَشَأْ اللّه أيّها النّاس يُذْهِبْكُمْ من وجه الأرض و يهلككم وَ يَسْتَخْلِفْ و يخلق بدلا منكم مِنْ بَعْدِكُمْ و بعد إهلاككم ما يَشاءُ خلقه من قوم يكونون أطوع منكم له تعالى كَما أَنْشَأَكُمْ و أوجدكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ و من نسلهم مع عدم كونهم مثلكم في العصيان، بل كانوا مطيعين كأصحاب سفينة نوح، و لكنّه تعالى لم يشأ إذهابكم، و لم يعجل في إهلاككم رحمة عليكم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 134 الی 135

ثمّ بالغ سبحانه في ترهيب العصاة بقوله: إِنَّ ما تُوعَدُونَ من العذاب على الكفر و العصيان، و اللّه لَآتٍ و كائن لوجود المقتضي و هو الاستحقاق، و الوعد الذي لا خلف فيه، و عدم فرض المانع عنه إلاّ قدرتكم على تعجيز اللّه وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له تعالى، و فائتين منه، و هاربين من سلطانه.

إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ اَلدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ (135)

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ يا محمّد، تهديدا لقومك العصاة: يا قَوْمِ اِعْمَلُوا ما تريدون من الطّغيان و العصيان مجدّين فيه عَلى غاية مَكانَتِكُمْ و منتهى قدرتكم و استطاعتكم، أو اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر و الطّغيان و عداوة الرّسول، و لا تنحرفوا عنه، و إِنِّي عامِلٌ أيضا بما امرت به من الصّبر على عداوتكم، و الجدّ في تبليغ رسالتي على مكانتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ في الآخرة مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ هذه اَلدّارِ الفانية التي خلقت لتلك العاقبة، و النتيجة من الفلاح و النّعمة و الرّاحة الدّائمة، و من لا تكون له.

ثمّ صرّح بحرمان المشركين من العاقبة المحمودة بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ المشركون الّذين هم اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بالكفر و العصيان، و لا ينجون أبدا من العذاب، و لا يفوزون بمقاصدهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 136

ص: 549

ثمّ لمّا أمرهم تهديدا بالثّبات على أعمالهم، شرع في ذكر بعض أعمالهم القبيحة بقوله: وَ جَعَلُوا هؤلاء المشركون لِلّهِ تعالى مِمّا ذَرَأَ و خلق بقدرته الكاملة في الأرض مِنَ اَلْحَرْثِ و الزّرع وَ من اَلْأَنْعامِ الثّلاثة؛ الإبل و البقر و الغنم نَصِيباً و سهما، مع أنّ الكلّ له، و لأصنامهم التي جعلوها شركاء أنفسهم في أموالهم نصيبا فَقالُوا مشيرين إلى نصيب اللّه: هذا النّصيب لِلّهِ خاصّة، و ذلك كان بِزَعْمِهِمْ الفاسد و ادّعائهم الباطل، لا بالحجّة و البرهان وَ هذا النّصيب الآخر لِشُرَكائِنا في أمو النا من الأصنام فَما كانَ من النّصيب لِشُرَكائِهِمْ و أصنامهم فَلا يَصِلُ و لا يدفع شيء منه إِلَى اَللّهِ بل يدفع إلى سدنة (1)الأصنام وَ ما كانَ من النّصيب لِلّهِ تعالى فَهُوَ يَصِلُ و يدفع إِلى شُرَكائِهِمْ بصرفه في سدنتها، و ذبح النّسائك (2)عندها.

وَ جَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اَللّهِ وَ ما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)ثمّ ذمّهم سبحانه على ذلك التّقسيم، مع أنّ الجميع للّه، ثمّ صرفهم نصيب اللّه في مصارف الأصنام، بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ بشركة الجمادات في ما خلقه اللّه، ثمّ ترجيحها عليه تعالى.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كان المشركون يجعلون للّه من حروثهم و أنعامهم نصيبا و للأوثان نصيبا، فما كان للصّنم أنفقوه عليه، و ما كان للّه أطعموه الصّبيان و المساكين، و لا يأكلون منه البتّة، ثمّ إن سقط ممّا جعلوه للّه في نصيب الأوثان تركوه و قالوا: إنّ اللّه غنيّ، و إن سقط ممّا جعلوه للأوثان في نصيب اللّه أخذوه و ردّوه إلى نصيب الصّنم و قالوا: إنّه فقير (3).

و قيل: كانوا إذا هلك ما لأوثانهم أخذوا بدله ممّا للّه، و لا يفعلون مثل ذلك في ما للّه عزّ و جلّ (4)

و قيل: إنّه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للأصنام في نصيب اللّه سدّوه، و إن كان على ضدّ ذلك تركوه (5).

و قيل: إنّهم كانوا إذا أصابهم القحط استعانوا بما للّه، و وفّروا ما جعلوا لشركائهم (6).

و قيل: إن زكا و نما نصيب الآلهة جعلوه لها و قالوا: لو شاء اللّه زكّا نصيب نفسه، و إن زكا نصيب اللّه و لم يزك نصيب الآلهة قالوا: لا بدّ لآلهتنا من نفقة، فأخذوا نصيب اللّه و أعطوه السّدنة (7).

أقول: لا تنافي بين الوجوه لإمكان أنّ جميعها كان عملهم، و بعض الوجوه مرويّ عن أئمّتنا (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 137

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (137)

ص: 550


1- . أي خدمة الأصنام.
2- . النّسائك و النّسك: جمع النّسيكة، و هي الذبيحة. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 13:204. (6 و 7) . تفسير الرازي 13:204.
3- . راجع: مجمع البيان 4:571، تفسير الصافي 2:160.

ثمّ حكى سبحانه عن مشركي العرب مذهبا آخر أقبح من الأول إظهارا لخفّة عقولهم، و تحقيرا لهم في أنظار العقلاء بقوله: وَ كَذلِكَ التزيين الذي يكون في أنظارهم للتّشريك بين اللّه و بين الأصنام في ما خلقه سبحانه من الحرث و الأنعام زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ الإناث بدفنهنّ أحياء في الأرض خوفا من الفقر، أو السّبي، أو عارا من التّزويج، و الذّكور بنحرهم للحلف عليه شُرَكاؤُهُمْ و أولياؤهم من الشّيطان لِيُرْدُوهُمْ و يهلكوهم إلى الأبد.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: لِيُرْدُوهُمْ في النّار (1)، بالإغواء إلى الأعمال القبيحة وَ لِيَلْبِسُوا و يخلطوا عَلَيْهِمْ بالتّسويلات دِينَهُمْ الحقّ الذي كان عليه إسماعيل، و يضلّوهم عنه.

و قيل: إنّ المراد من شركائهم: سدنة آلهتهم (2)، و عليه يكون المراد: أنّ عاقبة تزيينهم إهلاكهم و تشويش دينهم عليهم، لظهور أنّه لم يكن قصد السّدنة من التّزيين ذلك، و إنّما هو قصد الشّياطين.

ثمّ لمّا كان شيوع تلك القبائح في أولاد إسماعيل ثقيلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، سلّى سبحانه قلبه الشّريف بأنّ صدور هذا القبيح منهم إنّما كان بمشيئة اللّه لأنّه خلاّهم و أنفسهم، و سلّط عليهم الشّياطين وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ عدم صدوره منهم ألجأهم على تركه، أو قوّى عقولهم و صرف قلوبهم عنه، إذن ما فَعَلُوهُ البتّة، فإذا علمت أنّ اللّه شاء عصيانهم، و أنّه مع كمال قدرته على أخذهم تركهم على ما هم عليه ليزدادوا إثما فَذَرْهُمْ و اتركهم أنت أيضا وَ ما يَفْتَرُونَ على اللّه و كذبهم عليه من قولهم: إنّ اللّه أمرنا به، فإنّ لهم في الآخرة عذابا عظيما.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 138

ثمّ حكى سبحانه أنّهم قسّموا أنعامهم ثلاثة أقسام؛ فجعلوا قسما منها و من حرثهم لآلهتهم وَ قالُوا مشيرين إلى هذه القسمة: هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ لآلهتنا حِجْرٌ و ممنوعة من التّصرّف فيها لا يَطْعَمُها و لا يذوق منها أحد إِلاّ مَنْ نَشاءُ أن يطعمها، و هم خدمة الآلهة، و خصوص الرّجال دون النّساء، و هذا الحكم يكون بِزَعْمِهِمْ الباطل و هوى أنفسهم الفاسد، لا بالحجّة و الأخذ من الشّريعة، و قسمة منها جعلوها بحيرة و سائبة و حام، و قالوا مشيرين إليها: وَ هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ على النّاس ظُهُورُها و ركوبها، و قسمة منها جعلوها للذّبح على النّصب، و قالوا مشيرين

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهَا اِفْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)

ص: 551


1- . تفسير الرازي 13:206.
2- . تفسير الرازي 13:206.

إليها: وَ هذه أَنْعامٌ للذّبح للأصنام، و هم لا يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهَا حين ذبحها أو نحرها، بل يذكرون عليها اسم الأصنام، و قيل: يعني لا يحجّون و لا يلبّون عليها، و هم نسبوا ذلك التّقسيم إلى اللّه اِفْتِراءً عَلَيْهِ تعالى (1).

ثمّ هدّدهم بقوله: سَيَجْزِيهِمْ اللّه و يعاقبهم في الآخرة بِما كانُوا يَفْتَرُونَ عليه فيما ينسبون إليه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 139

ثمّ حكى سبحانه حكمهم الباطل في أجنّة البحائر و السّوائب و الحوامي بقوله: وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ اَلْأَنْعامِ من الأجنّة خالِصَةٌ و محلّلة لِذُكُورِنا خاصّة و قيل: إن تاء (خالصة) للمبالغة كراوية (2).

وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ اَلْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)وَ مُحَرَّمٌ أكلها من قبل اللّه عَلى أَزْواجِنا و إناثنا، إن ولدت من امّها حيّة وَ إِنْ يَكُنْ ما في البطون مَيْتَةً حين ولادته فَهُمْ جميعا ذكورهم و إناثهم فِيهِ شُرَكاءُ متساوون لا تفاوت بين ذكورهم و إناثهم في حلّية أكله.

ثمّ هدّدهم بقوله: سَيَجْزِيهِمْ اللّه في الآخرة وَصْفَهُمْ و كذبهم عليه في التّحليل و التّحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ في فعاله، عامل مع خلقه على حسب ما يستحقّون عَلِيمٌ بأقوالهم و أفعالهم و بمقدار استحقاقهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 140

ثمّ أشار سبحانه إلى مفسدة قتل الأولاد و تحريم الانتفاع بالأنعام بقوله: قَدْ خَسِرَ و تضرّر أو هلك المشركون اَلَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ و فوّتوا على أنفسهم النّعمة العظيمة و أعلى الحظوظ البشريّة، و ارتكبوا أعظم الذّنوب و أقبح الظّلم بالتّوهّمات السّخيفة لأجل أنّ لهم سَفَهاً و خفّة عقل، و كونهم ملابسين بِغَيْرِ عِلْمٍ و غاية جهالة، بشناعة هذا العمل و مضارّه في الدّنيا و الآخرة وَ حَرَّمُوا على أنفسهم الانتفاع بالأنعام التي جعلوها سائبة و حاميا، مع كونها [من]

ما رَزَقَهُمُ اَللّهُ و أشياء تفضّل عليهم بإيجادها، و تسليطهم عليها، و إباحة الانتفاع بها أكلا و ركوبا و حملا، و هم

قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اَللّهُ اِفْتِراءً عَلَى اَللّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

ص: 552


1- . جوامع الجامع:137.
2- . تفسير الرازي 13:208، جوامع الجامع:137.

بنسبة تحريمها إلى اللّه يفترون اِفْتِراءً عظيما عَلَى اَللّهِ، فهم قَدْ ضَلُّوا و انحرفوا عن طريق الرّشد إلى مصالحهم الدّنيويّة و الاخرويّة وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إليه أبدا، و إن بالغت في هدايتهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 141

ثمّ لمّا وبّخ اللّه سبحانه المشركين على جعل نصيب من الحرث و الأنعام للأصنام، و تحريم ما رزقهم اللّه، عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده الذي هو المقصود الأصلي في السّورة المباركة بكونه خالق الزّرع و الأشجار و الأنعام؛ بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ و أخرج من العدم إلى الوجود جَنّاتٍ ذوات كروم مَعْرُوشاتٍ و محمولات على ما يحملها من الأخشاب و غيرها وَ جنات غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ .

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ (141)قيل: هي الجنّات التي لا غرس لها، بل يكون فيها ما ينبت منبسطا على وجه الأرض كالقرع و البطّيخ و أمثالهما (1)، و قيل: هي التي فيها الكروم المنبسطة على الأرض (2)، و قيل: هي التي فيها الأشجار المستغنية عن العريش لاستوائه و ذهابه إلى العلوّ بقوّة ساقه (3).

وَ أنشأ اَلنَّخْلَ بأصنافها المختلفة وَ اَلزَّرْعَ من الحبوب التي يقتات بها-كما عن ابن عبّاس (4)-حال كون كلّ من النّخل و الزّرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ و ثمره، و متفاوتا بعضه مع بعض في الطّعم و الهيئة، لكلّ صنف من ثمرهما طعم غير الآخر، و هيئة غير هيئة الآخر، وَ أنشأ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ حال كون بعض ثمرهما مُتَشابِهاً مع بعض في الطّعم و الهيئة و اللّون و الجودة و الرّداءة، وَ بعضه غَيْرَ مُتَشابِهٍ من جميع الجهات أو من بعضها؛ كالرّمانتين اللّتين لونهما واحد و طعمهما مختلف.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مالكيّته لجميع النباتات، أذن للنّاس بالانتفاع بكلّ واحد منها بقوله: كُلُوا و انتفعوا أيّها النّاس مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ و صلح للانتفاع، و إن لم يدرك و لم يينع لأنّه خلق لكم، و لا تحرّموا على أنفسكم منه شيئا، و لا تجعلوا للأصنام منه نصيبا وَ لكن آتُوا الفقراء و أعطوهم حَقَّهُ و ما ثبت عليكم فيه من الضّغث (5)و الحصّة يَوْمَ حَصادِهِ و حين جذاذه.

ص: 553


1- . تفسير الرازي 13:211.
2- . تفسير الرازي 13:212.
3- . تفسير الرازي 13:211.
4- . تفسير الرازي 13:212.
5- . الضّغث: هو قبضة الحشيش المختلط من الأخضر و اليابس.

قيل: اريد بالحقّ ما يتصدّق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدّرة؛ لأنّ الزّكاة فرضت بالمدينة، و الآية مكيّة (1). و قيل: بل هو الزّكاة، أي لا تؤخّروها عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء، و الآية مدنيّة (2).

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «في الزّرع حقّان: حقّ تؤخذ به، و حقّ تعطيه، أمّا الذي تؤخذ به فالعشر و نصف العشر، و أمّا الذي تعطيه فقول اللّه عزّ و جلّ: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فالضّغث تعطيه ثمّ الضّغث حتّى تفرّغ» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «هذا من الصّدقة تعطي المسكين القبضة بعد القبضة، و من الجذاذ الحفنة بعد الحفنة» (4).

و القمّي: عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية، قال: «الضّغث من السّنبل، و الكفّ من التّمر إذا خرص» (5).

و عنه عليه السّلام فيها قال: «أعط من حضرك من مشرك و غيره» (6).

و عنه عليه السّلام: «لا تصرم باللّيل، و لا تحصد باللّيل-إلى أن قال: -و إن حصدت باللّيل لم يأتك السّؤال، و هو قول اللّه: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يعني القبضة بعد القبضة إذا حصدته، فإذا خرج فالحفنة [بعد الحفنة]، و كذلك عند الصّرام» . الخبر (7).

و عن الرضا عليه السّلام، سئل: إن لم يحضر المساكين و هو يحصد؟ قال: «ليس عليه شيء» (8).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالانتفاع و الصّدقة، نهى عن الإسراف بقوله: وَ لا تُسْرِفُوا و لا تتجاوزوا الحدّ في الصّدقة، أو في منعها و قيل: يعني لا تضيّعوا ثمرتكم بأن تجعلوا (9)للأصنام فيها نصيبا، أو لا تنفقوها في معصية اللّه (10)إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ و لا يرضى عنهم.

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد و الجذاذ أن يتصدّق الرّجل بكفّيه جميعا، و كان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدّق بكفّيه صاح به: أعط بيد واحدة، القبضة بعد القبضة، و الضّغث بعد الضّغث من السّنبل» (11)

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «كان فلان بن فلان الأنصاري-و سمّاه-كان له

ص: 554


1- . تفسير أبي السعود 3:192.
2- . تفسير أبي السعود 3:192.
3- . تفسير العياشي 2:120/1496، الكافي 3:564/1، تفسير الصافي 2:162.
4- . الكافي 3:565/2، تفسير الصافي 2:162.
5- . تفسير القمي 1:218، تفسير الصافي 2:162.
6- . تفسير العياشي 2:119/1494، تفسير الصافي 2:162.
7- . الكافي 3:565/3، تفسير الصافي 2:163.
8- . تفسير القمي 1:218، تفسير الصافي 2:163.
9- . في النسخة: تجعلوها.
10- . تفسير الرازي 13:214.
11- . تفسير العياشي 2:121/1501، الكافي 3:566/6، تفسير الصافي 2:163.

حرث، و كان إذا أخذه تصدّق به و يبقى هو و عياله بغير شيء، فجعل اللّه عزّ و جلّ ذلك سرفا» (1).

و عنه عليه السّلام-في حديث-قال: «و في غير آية من كتاب [اللّه]يقول: إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ فنهاهم عن الإسراف و نهاهم عن التّقتير، و لكن أمر بين أمرين، لا يعطي جميع ما عنده ثمّ يدعو اللّه أن يرزقه فلا يستجيب له» (2).

روي أنّها نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس، عمد إلى خمسمائة نخلة فجذّها ثمّ قسّمها في يوم واحد، و لم يدخل منها إلى منزله شيئا (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 142

ثمّ استدلّ سبحانه بأنّه خالق الأنعام و مالكها بقوله: وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ أنشأ ما تكون حَمُولَةً تحمل عليها الأثقال، أو ما تكون صالحة للحمل عليها لطول قوائمها و عظم جثّتها، وَ يكون فَرْشاً على الأرض، شبّه قسم منها به لقصر قوائمها و دنوّها من الأرض، أو فرشا يفرش للذّبح، أو يفرش ما ينسج من صوفها و وبرها.

وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّه مالكها، أذن في الانتفاع بها بقوله: كُلُوا أيّها النّاس و انتفعوا من الأنعام الحمولة و الفرش لكونها مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ و أنعم به عليكم وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ و لا تطيعوه في تسويلاته بجعل الأصنام شريكا فيها، و تحريم الانتفاع ببعضها بجعله سائبة أو بحيرة أو حاميا إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 143 الی 144

ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اَللّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ اَلنّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (144)

ص: 555


1- . الكافي 4:55/5، تفسير الصافي 2:163.
2- . الكافي 5:67/1، تفسير الصافي 2:163.
3- . تفسير الرازي 13:214.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أصناف الأنعام التي رزقها اللّه عباده بقوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ و أصناف متصاحبات، ثمّ فسّرها بقوله: مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ الكبش و النّعجة، أو الأهلي و الوحشي وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ التّيس و العنز، أو الأهلي و الوحشي.

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأن ينكر على المشركين تحريم ما زعموه حراما بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: آلذَّكَرَيْنِ من الضّأن و المعز حَرَّمَ اللّه عليكم أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ منهما أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ منهما من الأجنّة، ذكرا كانت الأجنّة أم انثى، مع أنّكم لا تقرّون برسول من اللّه إليكم حتّى تدّعوا أنّه أخبركم بها.

ثمّ أمره بمطالبة الحجّة على الحرمة بقوله: نَبِّئُونِي و أخبروني بِعِلْمٍ و حجّة قاطعة على تحريم اللّه شيئا من ذلك إِنْ كُنْتُمْ أيّها المشركون صادِقِينَ في نسبة التّحريم إليه سبحانه.

وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ الجمل و النّاقة، أو العراب و البخاتيّ (1)وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ الذّكر و الانثى، أو الأهلي و الوحشي قُلْ يا محمّد، إنكارا عليهم و إفحاما لهم: آلذَّكَرَيْنِ من الأصناف الأربعة حَرَّمَ اللّه عليكم أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ منها أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

ثمّ أنكر عليهم وجود الحجّة على ما أدّعوه من الحرمة بعد عدم اعترافهم برسول و عدم حكم العقل القاطع بها، بقوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ و حضّارا إِذْ وَصّاكُمُ اَللّهُ و حكم عليكم بِهذا الحكم.

و حاصل الاحتجاج: أنّ طريق معرفة حكم اللّه منحصر ببيان الرّسول و حكم العقل و المشاهدة و السّماع من اللّه، و أنتم لا تؤمنون برسول، و ليس لكم برهان عقليّ على التّحريم، و لم تسمعوا من اللّه هذا الحكم، فثبت أنّ القول بتحريم اللّه هذه الأنعام و ما في بطونها افتراء عليه.

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام [قال]: «حمل نوح عليه السّلام في السّفينة الأزواج الثمانية التي قال اللّه عزّ و جلّ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ الآية، فكان من الضّأن [اثنين]: زوج داجنة يربّيها النّاس، و الزّوج الآخر الضّأن التي تكون في الجبال الوحشيّة، احلّ لهم صيدها، و من المعز اثنين: زوج داجنة يربّيها النّاس، و الزّوج الآخر الظّباء التي تكون في المفاوز، و من الإبل اثنين: البخاتي و العراب، و من البقر اثنين: زوج داجنة للنّاس، و الزّوج الآخر الوحشية، و كلّ طير طيّب وحشي و إنسيّ» (2).

و في (الفقيه) : عن داود الرقّي، قال: سألني الخوارج عن هذه الآية مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ الآية، ما الذي أحلّ اللّه من ذلك، و ما الذي حرّم؟ فلم يكن عندي فيه شيء، فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا

ص: 556


1- . العراب: الإبل العربية، و البخاتي: الإبل الخراسانية.
2- . الكافي 8:283/427، تفسير الصافي 2:165.

حاجّ، فأخبرته بما كان، فقال: «إنّ اللّه تعالى أحلّ في الاضحيّة [بمنى الضأن و المعز الأهلية، و حرم أن يضحى فيه بالجبلية، و أمّا قوله عزّ و جلّ: وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ فإنّ اللّه تعالى أحلّ في الأضحية بمنى]الإبل العراب و حرّم منها البخاتي، و أحلّ البقر الأهليّة أن يضحى بها و حرّم الجبليّة» .

فانصرفت إلى الرّجل و أخبرته بهذا الجواب، فقال: هذا شيء حملته الإبل من الحجاز (1).

أقول: الظّاهر أنّ الخارجي كان عالما بالحكم، و أراد أن يمتحن داود بمعرفته. و في الآية دلالة على أنّ عدم وجدان الدّليل على الحرمة كاف في القول بإباحة مشكوك الحرمة.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات كون المشركين في القول بحرمة بعض الأنعام مفترين عليه، ذمّهم بكونهم لأجل افترائهم عليه أظلم النّاس على أنفسهم بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ على نفسه بإهلاكها الأبديّ، و على ربّه بتضييع حقّه مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ بنسبة تحريم ما أحلّه إليه كَذِباً ليغير دينه الحقّ، كعمرو بن لحيّ المغيّر لدين إسماعيل حيث إنّه بحر (2)البحائر و سيّب السّوائب، و ككبرائهم المقرّرون لذلك، و لِيُضِلَّ و يحرف اَلنّاسَ عن الصّراط المستقيم بِغَيْرِ عِلْمٍ بسوء عاقبة هذا التّغيير و الإضلال. و قيل: إن لام (ليضل) لام العاقبة (3).

ثمّ هدّد سبحانه المفترين بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي إلى الحقّ، أو إلى ثوابه و طريق الجنّة اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ فكيف بقوم هم أظلم النّاس!

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 145

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بمطالبة الحجّة من المشركين على ما زعموه من حرمة بعض الأنعام و ما في بطونها، و ظهور عجزهم عن إقامتها، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإقامة الحجّة على حلّية جميع الأنعام بقوله: قُلْ يا محمّد لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ من ربّي من الأحكام طعاما يكون مُحَرَّماً من قبله عَلى طاعِمٍ و آكل يَطْعَمُهُ و يأكله، [سواء أ]

كان ذكرا أو انثى إِلاّ أَنْ يَكُونَ ذلك الطّعام مَيْتَةً و حيوانا خرج روحه بغير التّذكية الشّرعيّة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً و مصبوبا من العروق بعد

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

ص: 557


1- . من لا يحضره الفقيه 2:293/1451، تفسير الصافي 2:165.
2- . بحر الناقة: شقّ اذنها.
3- . تفسير روح البيان 3:113.

الذّبح أو النّحر دون الدّم المتخلّف بعد الذّبح، كما في الكبد و الطّحال و اللّحم أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ و قذر، و كلّ قذر نجس و حرام، و إنّما خصّ حرمة لحمه بالذّكر مع أنّ شحمه أيضا حرام لكونه أهمّ ما فيه و عمدة ما يقصد منه بالأكل أَوْ فِسْقاً و هو الحيوان الذي أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ و رفع الصّوت عند ذبحه أو نحره باسم الأصنام، و إنّما سمّاه فسقا لتوغّله فيه.

عن القمّي رحمه اللّه: قد احتجّ قوم بهذه الآية على أنّه ليس شيء محرّما إلاّ هذا، و أحلّوا كلّ شيء من البهائم؛ القردة و الكلاب و السّباع و الذّئاب و الاسد و البغال و الحمير و الدّوابّ، و زعموا أنّ ذلك كلّه حلال و غلطوا في هذا غلطا مبينا (1)، و إنّما هذه الآية ردّ على ما أحلّت العرب و حرّمت؛ لأنّ العرب كانت تحلّل على نفسها [أشياء]و تحرّم أشياء، فحكى اللّه ذلك لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله ما قالوا (2).

و قال الفاضل المقداد: و هنا سؤال، و هو أنّه قد وجد كثير من المحرّمات، و هو غير مذكور في الآية، فكيف يقول: لا أجد إلاّ كذا. . . الدّال على الحصر؟ و كذا في قوله: إِنَّما حَرَّمَ و (إنّما) للحصر.

و الجواب: أنّ (اوحي) فعل ماض، و (أجد) للحال، فمنطوقها: لا أجد في ما اوحي إليّ في الماضي غير هذه الأربعة، و ليست هذه الآية آخر ما نزل عليه صلّى اللّه عليه و آله، فجاز أن يكون جاءه تحريم أشياء بعد نزولها، و كذا الكلام في (إنّما) ، فإنّ الحصر فيها للحكم الحالي (3).

تحقيق في دفع

إشكال

أقول: حكي الوجهان المذكوران لدفع الإشكال عن بعض العامّة أيضا، و فيهما ما لا يخفى من الضّعف، مع أنّهما منافيان للأخبار العاميّة و الخاصيّة. و قد روى العامّة أن ابن عبّاس و عائشة استدلاّ بالآية على حلّية لحم الحمار (4).

و روى أصحابنا عن الصادقين عليهما السّلام أنّهما قالا: «ليس الحرام إلاّ ما حرّم اللّه» ، و تليا هذه الآية (3).

فالحقّ في الجواب: أنّ جميع ما في آية المائدة داخل في الميتة، و جميع النّجاسات داخل في عموم الرّجس، فإنّ عموم العلّة من قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ يوجب عموم الحكم لكلّ رجس، و أمّا حرمة كلّ ذي ناب من الوحش، و كلّ ذي مخلب من الطّير، و كلّ ما لا فلس له من السّمك، فإن قلنا: بأنّ المراد من الرّجس: الخبيث، و أنّه ما استخبثه الشّارع، فبأدلّة حرمة الأشياء المذكورة نعلم دخولها في الآية، لعموم العلّة، و إن قلنا: إنّ الرّجس هو القذر، فيختصّ بالنّجاسات، و حينئذ لا بدّ من الالتزام بتخصيص مفهوم الآية بتلك الأدلّة، أو كونها قرينة على إرادة الحصر الإضافي أو الحصر الحقيقي، و تنزيل حرمة غير هذه الأربعة منزلة المباح إعظاما لحرمة هذه الأربعة.

ص: 558


1- . في المصدر: بيّنا.
2- . تفسير القمي 1:219، تفسير الصافي 2:166. (3 و 4) . كنز العرفان 2:303.
3- . تفسير العياشي 2:125/1513 و 1514، تفسير الصافي 2:167.

ثمّ بيّن أنّ هذه الأربعة أيضا مباحة عند الضّرورة منّة على العباد بقوله: فَمَنِ اُضْطُرَّ و ألجأته الضّرورة إلى أكل شيء من تلك المحرّمات، و كان غَيْرَ باغٍ لذّة، أو غير متعدّ على مضطرّ آخر مثله وَ لا عادٍ و متجاوز في الأكل على قدر الضّرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ له لا يؤاخذه بأكله رَحِيمٌ به لا يرضى بضرره و مشقّته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 146

ثمّ بيّن سبحانه أنّه حرّمت أشياء اخر على خصوص اليهود بسبب كثرة عصيانهم بقوله: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ حيوان ذِي ظُفُرٍ و إصبع كالإبل و الطّيور.

وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ اَلْحَوايا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّا لَصادِقُونَ (146)و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه الإبل و النّعامة (1). و في رواية اخرى: إنّه الإبل فقط (2).

وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما و ثروبهما إِلاّ ما حَمَلَتْ و اشتملت به ظُهُورُهُما من شحم الكتفين إلى الوركين من داخل و خارج. كما قيل (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: إلاّ ما علق بالظّهر من الشّحم (2).

و عن قتادة: إلاّ ما علق بالظّهر و الجنب من داخل بطونها (3).

أَوِ اَلْحَوايا و ما التصق بالمباعر (4)و المصارين من الشّحوم أَوْ مَا اِخْتَلَطَ و التصق بِعَظْمٍ كشحم الإلية، و كان ذلِكَ التّحريم عليهم جزاء جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ و ظلمهم على أنفسهم بارتكاب المعاصي من أكل الرّبا، و أخذ أموال النّاس بالإثم، و قتل الأنبياء.

قيل: إنّهم كلّما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء ممّا أحلّ لهم. و فيه ردّ على ما أدّعوا من أنّ كلّ ذلك لم يزل محرّما على الامم الماضية، و كانوا مصرّين عليه؛ و لذا أكّد سبحانه كذبهم في الدّعوى بقوله: وَ إِنّا لَصادِقُونَ (5)في إخبارنا بتخصيص حرمة تلك الأشياء بعلّة بغيهم، و إنّهم لكاذبون في أنّها لم تزل محرّمة.

ص: 559


1- . تفسير روح البيان 3:115.
2- . تفسير الرازي 13:223.
3- . تفسير الرازي 13:223.
4- . المباعر: جمع مبعر، و هو مكان خروج البعر من الأمعاء، أو المصران الحاوي للبعر.
5- . تفسير روح البيان 3:115.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 147

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم على تكذيبه بقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا محمّد، مع شهادتنا بصدقك في اختصاص حرمة الأشياء المذكورة بهم، أو فيه و في دعوى الرّسالة و تبليغ الأحكام فَقُلْ للمكذّبين: حقّ عليكم العذاب، و لكن رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ للمؤمن و الكافر، و لذا لا يعجل في عقوبتكم على تكذيبكم رسوله، فلا تغترّوا بإمهاله فإنّه يعذّبكم وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ و عذابه إذا جاء وقته عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ و العاصين بتكذيب الرّسل، و الإصرار على الكفر، و العناد مع الحقّ.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ (147)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 148

ثمّ حكى سبحانه احتجاج المشركين على صحّة قولهم بالشّرك و حرمة السّوائب و أخواتها بقوله: سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه احتجاجا على صحّة قولهم: لَوْ شاءَ اَللّهُ و أراد منّا أن لا نشرك به شيئا و لا نحرّم شيئا ما أَشْرَكْنا نحن وَ لا آباؤُنا الأقدمون وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ لقدرته على منعنا عمّا لا يرضاه، و عدم تمكّننا من التّخلّف عن إرادته، و كوننا مجبورين فيما يصدر منّا-كما يقول الأشاعرة-و حيث رأينا أنّه صدر منّا الشّرك و التّحريم و لم يمنعنا عنهما، علمنا، أنّه أراد منّا ذلك و رضي بما نحن عليه من الاعتقاد و العمل، و أنت كاذب عليه فيما تدّعيه من بغضه إيّاه و نهيه عنه.

سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اَللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ (148)ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: كَذلِكَ التّكذيب الذي صدر منهم بك على تلك الحجّة كَذَّبَ المشركون اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم و لم يؤمنوا بهم حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا و طعموا طعم عذاب الاستئصال، فكان تعذيبهم على تكذيب الرّسل و بقائهم على الشّرك حجّة قاطعة على عدم رضائنا بما هم عليه.

قُلْ لهم يا محمّد: بعدما ثبت أنّ حجّتكم ضعيفة ظنيّة هَلْ عِنْدَكُمْ غيرها دليل يفيد مرتبة مِنْ عِلْمٍ برضا اللّه بما أنتم عليه من الشّرك و سائر الأباطيل فَتُخْرِجُوهُ و تظهروه لَنا حتّى نتّبعه؟ ليس لكم ذلك، بل إِنْ تَتَّبِعُونَ فيما تدّعون شيئا إِلاَّ اَلظَّنَّ الحاصل لكم من عدم صرف اللّه قلوبكم من الشّرك، و عدم قهره إيّاكم على التّوحيد وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ و تخمّنون، أو

ص: 560

تكذّبون أقبح أنواع الكذب.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 149

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتأكيد الحجّة عليهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء المشركين: و إن ثبت أنّ حجّتكم على صحّة الشّرك داحضة فَلِلّهِ على توحيده و عدم رضاه بالشّرك اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ غاية المتانة، و البيّنة الواضحة من تعذيبه المشركين، و آيات كتابه المقرونة بالإعجاز، و البراهين التي قررّها رسوله، و إنّما وكلكم إلى عقولكم و قدرتكم و اختياركم لاقتضاء ذلك حكمته فَلَوْ شاءَ بالإرادة التّكوينيّة، و أقتضت حكمته إجباركم على الهداية و الإيمان لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ البتّة، و حملكم على الإيمان لا محالة، فلا يكون منكم ضالّ و لا مشرك.

قُلْ فَلِلّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)عن القمّي رحمه اللّه قال: «لو شاء لجعلكم كلّكم على أمر واحد، و لكن جعلكم على الاختلاف» (1).

عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ للّه [على النّاس]حجّتين: حجّة ظاهرة، و حجّة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرّسل و الأنبياء و الأئمّة، و أمّا الباطنة: فالعقول» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، سئل عن قوله: قُلْ فَلِلّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ، فقال: «إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالما؟ فإن قال: نعم، قال له: أ فلا عملت [بما علمت]، و إن كان جاهلا قال له: أ فلا تعلّمت حتّى تعمل، فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة» (3).

و عنه عليه السّلام: «الحجّة البالغة التي تبلغ الجاهل من أهل الكتاب فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه» (4).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 150

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال دليل المشركين على صحّة مفترياتهم و إنكار مشاهدتهم اللّه و سماعها منه، طالب منهم إحضار (5)غيرهم ممّن شاهده و سمع منه بقوله: قُلْ هَلُمَّ أيّها المشركون و أحضروا شُهَداءَكُمُ و قادتكم اَلَّذِينَ ينصرون مذهبكم لأجل أنّهم يَشْهَدُونَ عن علم و عيان أَنَّ

قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اَللّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

ص: 561


1- . تفسير القمي 1:220، تفسير الصافي 2:168.
2- . الكافي 1:13/12، تفسير الصافي 2:168.
3- . أمالي الطوسي:9/10، تفسير الصافي 2:169.
4- . تفسير الصافي 2:169.
5- . كذا، و الظاهر: طالبهم بإحضار.

اَللّهَ حَرَّمَ هذا الذي تدّعون حرمته، فَإِنْ شَهِدُوا على سبيل الفرض أنّ اللّه حرّمه فَلا تَشْهَدْ أنت مَعَهُمْ و لا تصدّقهم؛ لأنّهم كاذبون متّبعون لهوى أنفسهم وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ المشركين اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدّالّة على توحيدنا وَ اَلَّذِينَ ينكرون البعث، و لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و دار الجزاء وَ الّذين هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ غيره و يشركونه خلقه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 151

ثمّ لمّا أبطل قولهم بحرمة ما حرّموه من قبل أنفسهم، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بدعوتهم إلى الإيمان بحرمة ما حرّمه اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد، لقومك المشركين: تَعالَوْا و جيئوا يا قوم أَتْلُ و أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ و هو أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من الكواكب و الأصنام و غيرهما.

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)ثمّ أردف النّهي عن الشّرك بالنّهي عن إيذاء الوالدين، لكونهما بعده تعالى أعظم نعمة و حقّا بقوله: وَ بِالْوالِدَيْنِ أحسنوا إِحْساناً عظيما. و إنّما وضع وجوب الإحسان موضع تحريم الإساءة، للمبالغة في تحريمها، و للإشارة إلى عدم جواز الاكتفاء بترك الإساءة في شأنهما.

عن القمّي رحمه اللّه قال: «الوالدين رسول اللّه و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما» (1).

وَ أن لا تَقْتُلُوا بالدّفن في الأرض أَوْلادَكُمْ الإناث مِنْ أجل إِمْلاقٍ و فقر، أو من خشيته، فإنّه ليس عليكم رزقهم، بل نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ فكما أنّه يجب عليكم الاتّكال علينا في رزقكم، كذلك يجب عليكم الاتّكال علينا في رزقهم؛ فلا تخافوا الفقر و العجز عن الإنفاق عليهم، وَ أن لا تَقْرَبُوا و لا ترتكبوا اَلْفَواحِشَ و الأعمال الشديدة القباحة ككبائر الذّنوب أو الزّنا، سواء ما ظَهَرَ مِنْها و ما يفعل علانية وَ ما بَطَنَ و خفي منها.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كانوا يكرهون الزّنا علانية و يفعلون ذلك سرّا، فنهاهم [اللّه]عن الزّنا علانية و سرّا (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «ما ظهر: هو الزّنا، و ما بطن: المخالّة» (3).

ص: 562


1- . تفسير القمي 1:220، تفسير الصافي 2:169.
2- . تفسير الرازي 13:233.
3- . مجمع البيان 4:590، تفسير الصافي 2:169، و المخالّة: الصداقة.

و في (الكافي) : عن السجاد عليه السّلام: «ما ظهر نكاح امرأة الأب، و ما بطن: الزّنا» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن تضييع حقوق الاصول و هم الوالدان، و حقوق الفروع و هم الأولاد، و حقوق نفسه من حفظها من أرتكاب الفواحش الموجبة لهلاك الأبد، نهى عن تضييع حقوق النّاس بقوله: وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ قتلها بأيّ علّة من العلل إِلاّ بِالْحَقِّ الذي جعله اللّه من حكمه بوجوب قتلها في الحدّ، أو جوازه في القصاص.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحلّ دم أمرى مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، و زنا بعد إحصان، و قتل نفس بغير حقّ» (2). و إنّما خصّه سبحانه بالذّكر مع دخوله في عموم الفواحش، للإشعار بعظم شأنه.

ثمّ أكّد سبحانه النّواهي بالحثّ على امتثالها بقوله: ذلِكُمْ المذكور من الأحكام ممّا وَصّاكُمْ اللّه بِهِ و أمركم بحفظه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون منافع دينكم و دنياكم.

و إنّما عبّر عن الأمر بالمحافظة بلفظ الوصيّة، لما فيه من اللّطف و الرّحمة حتّى يكون المكلّف أقرب إلى القبول و القيام إلى الطّاعة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 152

ثمّ بيّن المحرّم السّادس بقوله: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ و لا تتصرّفوا فيه بخصلة من الخصال إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ما يفعل به من حفظه و تنميته، أو أحسن من التّرك كحفظه فقط، أو تجارة يكون غيرها أنفع، و استمرّوا على ذلك حَتّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ و قوّته، و هو كناية عن حلمه و رشده.

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اَللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)عن الصادق عليه السّلام: «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام، و هو أشدّه، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد، و كان سفيها أو ضعيفا، فليمسك عنه وليّه [ماله]» (3).

عن أبي جعفر عليه السّلام-في حديث-قال: «إنّ الجارية ليست مثل الغلام، إنّ الجارية إذا تزوّجت و دخل بها و لها تسع [سنين]، ذهب عنها اليتم، و دفع إليها مالها، و جاز أمرها في الشّراء و البيع، و اقيمت عليها الحدود التامّة، و اخذت لها بها» قال: «و الغلام لا يجوز أمره في الشّراء و البيع، و لا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم، أو يشعر، أو ينبت قبل ذلك» (4).

ص: 563


1- . الكافي 5:567/47، تفسير الصافي 2:169.
2- . تفسير الرازي 13:233.
3- . من لا يحضره الفقيه 4:163/569، تفسير الصافي 2:170.
4- . الكافي 7:198/1.

وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ في المكيلات وَ اَلْمِيزانَ في الموزونات، و أكملوا الحقّ فيهما، حال كونكم متلبّسين بِالْقِسْطِ و العدل و التسوية، لا ينقص من عليه الحقّ منه شيئا، و لا يطلب من له الحقّ زيادة عليه شيئا، و إن كان اتّباع العدل عسرا، فنحن لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ بعدل يكون وُسْعَها و ميسورها، و أمّا معسورها فمعفوّ عنه لا تؤاخذ به.

وَ إِذا قُلْتُمْ قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما فَاعْدِلُوا فيه و لا تجوروا و لا تجاوزوا عن الحقّ وَ لَوْ كانَ المقول له أو عليه ذا قُرْبى منكم و صاحب رحم وَ بِعَهْدِ اَللّهِ من نذوركم و أيمانكم، و ما أمركم به من ملازمة العدل و العمل بأحكامه أَوْفُوا و اعملوا على نحو الكمال، ذلِكُمْ الذي فصّل لكم من الأحكام ممّا وَصّاكُمْ اللّه بِهِ و أمركم بحفظه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ما فيه من الحسن و الصّلاح، و تعملون به.

قيل: إن النّكتة في ختم الآية الاولى بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كون التّكاليف الخمسة التي فيها امورا ظاهرة يكفي في العمل بها التّعقّل و الفهم، و في ختم هذه الآية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ كون التّكاليف الأربعة التي فيها امورا غامضة محتاجة إلى الاجتهاد و الفكر حتّى يقف المكلّف على موضع الاعتدال (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 153

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب، من عمل بهنّ دخل الجنّة، و من تركهنّ دخل النّار (2).

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)وَ اعلموا أَنَّ هذا الذي ذكرت في السّورة المباركة من التّوحيد و المعاد و أحكام الدّين صِراطِي و مسلكي و شرعي المؤدّي إلى كلّ خير، أو إلى جنّتي و رضواني، حال كونه مُسْتَقِيماً مستويا لا عوج فيه، إذن فَاتَّبِعُوهُ أيّها النّاس، و لا تعدلوا عنه إلى غيره وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ المتفرّقة و المذاهب المختلفة كاليهودية و النّصرانيّة و غيرهما من الملل فَتَفَرَّقَ و تباعد بِكُمْ أو أمالكم (3)عَنْ سَبِيلِهِ الحقّ و دينه المرضيّ ذلِكُمْ الاتّباع ممّا وَصّاكُمْ اللّه و أمركم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضّلالات.

ص: 564


1- . تفسير الرازي 13:236.
2- . تفسير الرازي 14:3.
3- . كذا، و الظاهر: تتباعد بكم أو تميلكم. . .

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا تلا هذه الآية خطّ خطّا ثمّ قال: «هذا سبيل الرّشد» أو «سبيل اللّه» ، ثمّ خطّ عن يمينه و شماله خطوطا، ثمّ قال: «هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه» (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في هذه الآية: «سألت اللّه أن يجعلها لعليّ ففعل» (2).

و في (الاحتجاج) : عنه صلّى اللّه عليه و آله، في خطبة الغدير: «معاشر النّاس، إنّ اللّه [قد]أمرني و نهاني، و قد أمرت عليّا و نهيته فعلم الأمر و النّهي من ربّه، فاسمعوا لأمره تسلموا، و أطيعوه تهتدوا، و انتهوا لنهيه ترشدوا، و صيروا إلى مراده، و لا تتفرّق بكم السّبل عن سبيله.

معاشر النّاس، أنا الصّراط المستقيم (3)الذي أمركم باتّباعه، ثمّ عليّ من بعدي، ثمّ ولدي من صلبه أئمّة يهدون بالحقّ و به يعدلون» (4).

و عن الباقر عليه السّلام، قال لبريد العجلي: «تدري ما يعني ب صِراطِي مُسْتَقِيماً؟» ، قال: قلت: لا، قال: «ولاية عليّ و الأوصياء» ، قال: «و تدري ما يعني فَاتَّبِعُوهُ؟» ، قال: قلت: لا، قال: «يعني: عليّ بن أبي طالب» . قال: «و تدري ما يعني وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ؟» . قال: قلت: لا، قال: «ولاية فلان و فلان و اللّه» قال: «و تدري ما يعني فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ؟» قال: قلت: لا. قال: «يعني سبيل عليّ» (5).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 154

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه وصاياه بجميع الامم بالالتزام بالمحرّمات المفصّلة في الآيات غير المتغيّرة بتغيير الشّرائع، منّ على النّاس بتكميل شريعته لهم بالأحكام التي شرّعها في التّوراة المنزلة على موسى عليه السّلام بقوله: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ المسمّى بالتّوراة، لأجل أن يكون تَماماً و مكمّلا للنّعمة و الكرامة عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ القيام به، و ادّى حقّ العمل بأحكامه، و اجتهد في تبليغه كائنا من كان من الأنبياء و المؤمنين، وَ ليكون تَفْصِيلاً كافيا و بيانا وافيا لِكُلِّ شَيْءٍ من العلوم و الأحكام التي يحتاج إليها النّاس، و منها البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء و ذكر علائمه و نعوته، وَ يكون هُدىً من الضّلالة و رشادا إلى كلّ حقّ وَ رَحْمَةً و تفضّلا عظيما بالمؤمنين به، العاملين بأحكامه لَعَلَّهُمْ بالنّظر إلى ظهور قدرة اللّه و كمال حكمته في إنزال هذا الكتاب بِلِقاءِ رَبِّهِمْ

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ تَماماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)

ص: 565


1- . تفسير الرازي 14:3.
2- . روضة الواعظين:106، تفسير الصافي 2:171.
3- . في المصدر: صراط اللّه المستقيم.
4- . الاحتجاج:62، تفسير الصافي 2:171.
5- . تفسير العياشي 2:127/1520، تفسير الصافي 2:171.

و الحشر إلى دار الجزاء، أو بلقاء ثوابه و عقابه يُؤْمِنُونَ به عن صميم القلب، و يوقنون حقّ اليقين.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 155 الی 157

ثمّ لمّا منّ سبحانه على بني إسرائيل و غيرهم بإتمام النّعمة عليهم بإنزال التّوراة، و بيّن مالها من الفضائل، منّ على مشركي أهل مكّة و بني إسماعيل و غيرهم، و احتجّ عليهم بإنزال القرآن الذي هو أفضل الكتب السّماوية بقوله: وَ هذا القرآن الذي بين أيديكم كِتابٌ كريم عظيم الشّأن أَنْزَلْناهُ من السّماء إليكم، و الدّليل على أنّه من قبلنا لا من قبل الرّسول كما تزعمون، أنّه مُبارَكٌ كثير النّفع لدينكم و دنياكم. و قيل: يعني: ثابت لا يتطرّق إليه النّسخ؛ كما تطرّق في الكتابين (1)فَاتَّبِعُوهُ و اعملوا بما فيه من الأحكام وَ اِتَّقُوا اللّه في تكذيبه و مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ باتّباعه و اتّقاء مخالفته،

و إنّما كان إنزاله عليكم لأجل كراهة أَنْ تَقُولُوا يا أهل مكّة يوم القيامة اعتذارا من كفركم و ضلالكم و احتجاجا علينا: إِنَّما أُنْزِلَ اَلْكِتابُ التّوراة و الإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ كائنتين مِنْ قَبْلِنا هما اليهود و النّصارى وَ إِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ و تلاوتهم الكتاب لَغافِلِينَ و بما فيه جاهلين، لكونه على غير لغتنا،

فلم نقدر على قراءته و فهمه أَوْ تَقُولُوا يوم القيامة: لَوْ أَنّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا من السّماء اَلْكِتابُ العربيّ كما انزل على الطّائفتين الكتاب العبريّ لَكُنّا بسبب شدّة ذكائنا و قوّة أفهامنا أَهْدى و أرشد مِنْهُمْ إلى كلّ حقّ، أو إلى ما فيه من العلوم و المعارف و الأحكام فَقَدْ جاءَكُمْ القرآن الذي هو بَيِّنَةٌ و حجة واضحة قاطعة للعذر، كائنة مِنْ قبل رَبِّكُمْ اللّطيف بكم وَ هُدىً إلى كلّ حقّ، و خير و رشاد من الضّلال وَ رَحْمَةٌ عظيمة و نعمة جسيمة للمؤمنين به، كما كانت التّوراة كذلك.

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اِتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ اَلْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْكِتابُ لَكُنّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اَللّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي اَلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ اَلْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)قيل: الفرق بين البيّنة و الهدى، أنّ البيّنة الوضوح فيما يعلم بالسّمع، و الهدى الوضوح فيما يعلم بالسّمع و العقل (2).

ثمّ ذمّهم سبحانه على تكذيبهم القرآن بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ و أضرّ على نفسه و غيره مِمَّنْ كَذَّبَ

ص: 566


1- . تفسير الرازي 14:5.
2- . تفسير الرازي 14:5.

بِآياتِ اَللّهِ المنزلة، و القرأن الذي هو في درجة الإعجاز، مع العلم به وَ صَدَفَ و أعرض، أو صدّ النّاس عَنْها و منعهم من الإيمان بها.

ثمّ هدّدهم بعد إنكار كون أحد أظلم منهم بقوله: سَنَجْزِي في الدّنيا أو الآخرة أو فيهما الكفّار اَلَّذِينَ يَصْدِفُونَ و يعرضون، أو يصدّون النّاس عَنْ آياتِنا القرآنيّة سُوءَ اَلْعَذابِ و أشدّه بِما كانُوا في الدّنيا يَصْدِفُونَ النّاس و يضلّونهم عن الحقّ على التّجدّد و الاستمرار.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 158

ثمّ لمّا بيّن سبحانه انقطاع عذر الكفار في عدم إيمانهم بتوحيده و رسالة رسوله بسبب نزول القرآن الذي هو أفضل الكتب السّماويّة بلغتهم، أكّد سبحانه ذلك ببيان أنّه لا عذر لهم في عدم الإيمان إلاّ انتظار وقوع أحد امور كلّها من المحالات، أو بلوغ وقت انقطاع التّكليف، بقوله إنكارا عليهم: هَلْ يَنْظُرُونَ و ينتظرون في إيمانهم برسالتك و صحّة دينك إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ من السّماء بصورتهم الملكيّة، يشهدون عندهم برسالتك، أو الملائكة الموكّلون على قبض الأرواح أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ عندهم بتصديقك و هم يشهدون بأعينهم، أو بالعذاب، أو بجميع آيات القيامة و أشراط السّاعة و الهلاك الكلّي أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ من المعجزات القاهرات أو أشراط السّاعة.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ اِنْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ (158)عن الصادق عليه السّلام: «الآية المنتظرة: القائم» (1).

مع أنّه يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ كالدّخان، و دابّة الأرض، و طلوع الشّمس من مغربها، و خروج الدجّال، و غيرها.

و عنهم عليهم السّلام: «أنّه العذاب في الدّنيا» (2).

لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لصيرورته ضروريا لها، و لكن ذلك إذا لَمْ تَكُنْ تلك النّفس آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ و في حال عدم معاينة الآخرة.

عن الصادق عليه السّلام: «يعني [في]الميثاق» (3).

أَوْ ما كَسَبَتْ و حصّلت فِي حال إِيمانُها قبل ذلك خَيْراً و عملا صالحا.

ص: 567


1- . كمال الدين:336/8، تفسير الصافي 2:173.
2- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 2:172.
3- . الكافي 1:355/81، تفسير الصافي 2:173.

عن أحدهما عليهما السّلام، في قوله: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قال: «المؤمن العاصي حالت بينه و بين إيمانه كثرة ذنوبه، و قلّة حسناته، فلم يكسب في إيمانه خيرا» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، في حديث أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قال: «الإقرار بالأنبياء و الأوصياء و أمير المؤمنين خاصّة» قال: «لا ينفع إيمانها لأنّه سلب» (2).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث خروج الدجّال و قاتله، و دابّة الأرض، و في آخره: «ثمّ ترفع الدابّة رأسها، فيراها من بين الخافقين بإذان اللّه جلّ جلاله، و ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك ترفع التّوبة فلا تقبل توبة، و لا عمل يرفع، و لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» ثمّ فسّر صعصعة راوي الحديث طلوع الشّمس من مغربها بخروج القائم عليه السّلام (3).

ثمّ أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتهديد المصرّين على الكفر بقوله: قُلِ يا محمّد: اِنْتَظِرُوا إتيان أحد الأمور الثّلاثة إِنّا أيضا مُنْتَظِرُونَ لذلك، و حينئذ لنا الفوز و عليكم الويل بما حلّ بكم من سوء العاقبة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 159

ثمّ أنّه تعالى بعد إتمام الحجّة على المشركين بنزول القرآن بلسان عربيّ مبين، و وعيدهم على تكذيبه، و توبيخهم على الإصرار على الكفر، أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالتبرّي منهم و عدم التّعرّض لهم بالقتال، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا و شعّبوا دِينَهُمْ .

إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اَللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: يريد المشركين، بعضهم يعبدون الملائكة و يزعمون أنّهم بنات اللّه، و بعضهم يعبدون الأصنام و يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه (4).

و عن مجاهد: هم اليهود و النّصارى، كلّ منهم تفرّقوا فرقا، و كفّر بعضهم بعضا (5).

و قيل: هم أهل البدع من هذه الامّة (6)، [و قد]روي عن الباقر عليه السّلام (7).

وَ كانُوا شِيَعاً و أحزابا في الضّلالة، أو كانوا أتباعا لأئمّة الضّلال، كلّ فرقة تشايع (8)إماما.

ص: 568


1- . تفسير العياشي 2:128/1525، تفسير الصافي 2:173.
2- . الكافي 1:355/81، تفسير الصافي 2:173.
3- . كمال الدين:527/1، تفسير الصافي 2:173.
4- . تفسير الرازي 14:7.
5- . تفسير الرازي 14:7.
6- . تفسير الرازي 14:8.
7- . مجمع البيان 4:600، تفسير الصافي 2:174.
8- . في النسخة: شافع.

و القمّي [قال]: فارقوا أمير المؤمنين عليه السّلام، و صاروا أحزابا (1).

لَسْتَ مِنْهُمْ و من السّؤال عن تفرّقهم و عقائدهم، أو من قتالهم (2)، أو من عقابهم فِي شَيْءٍ و قيل: يعني: أنت برئ منهم (3)، أو على التّباعد التامّ من الاجتماع معهم في شيء من مذاهبهم الفاسدة (4)إِنَّما أَمْرُهُمْ في الإمهال و الإهلاك في الدّنيا، و الحكم بينهم فيما اختلفوا فيه راجع إِلَى اَللّهِ وحده، لا إليك و لا إلى غيرك ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ و يخبرهم يوم القيامة بِما كانُوا في الدّنيا يَفْعَلُونَ من المعاصي و القبائح بأن يعاقبهم على رؤوس الأشهاد.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 160

ثمّ أعلن سبحانه بكمال فضله على المحسنين، و غاية عدله في عقاب العاصين بقوله: مَنْ جاءَ و أتى من المؤمنين يوم القيامة بِالْحَسَنَةِ من الإيمان و العمل الصّالح فَلَهُ من الثواب عَشْرُ حسنات أَمْثالِها تفضّلا من اللّه تعالى. و قيل: إنّ العشر كناية عن مطلق الإضعاف (5).

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)وَ مَنْ جاءَ و أتى في ذلك اليوم بِالسَّيِّئَةِ و الفعلة القبيحة فَلا يُجْزى الجائي بها إِلاّ سيّئة مِثْلَها عدلا منه تعالى وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بزيادة العقاب.

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أعطى اللّه سبحانه إبليس ما أعطاه من القوّة، قال آدم: يا ربّ سلّطته على ولدي، و أجريته فيهم مجرى الدمّ في العروق، و أعطيته ما أعطيته، فما لي و لولدي؟ فقال: لك و لولدك السّيّئة بواحدة، و الحسنة بعشر أمثالها، قال: ربّ زدني، قال: التّوبة مبسوطة إلى أن تبلغ النّفس الحلقوم، فقال: يا ربّ زدني، قال: أغفر و لا ابالي، قال: حسبي» (6).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 161

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التّوحيد، و إبطال مذهب الشّرك و أباطيل أهل الجاهليّة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإعلان النّاس بأنّ توحيده في الرّبوبيّة ملّة إبراهيم، و الدّين القويم، و الصّراط المستقيم، بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين الزّاعمين أنّهم على الدّين الحقّ: إِنَّنِي هَدانِي و أرشدني رَبِّي بلطفه إِلى

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (161)

ص: 569


1- . تفسير القمي 1:222، تفسير الصافي 2:174.
2- . في النسخة: قبالهم.
3- . تفسير الرازي 14:8.
4- . تفسير الصافي 2:175.
5- . تفسير الرازي 14:9.
6- . تفسير القمي 1:42، تفسير الصافي 2:176.

صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى قربه و رضوانه، و أوحى إليّ دِيناً قِيَماً قويما، كان هو مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حال كونه عليه السّلام حَنِيفاً و مائلا عن كلّ باطل، أو حال كون ملّته حنيفيّة وَ ما كانَ إبراهيم مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ . و فيه ردّ [على]ما ادّعوه من أنّهم على دين إبراهيم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 162 الی 163

ثمّ أمره سبحانه بالإعلان بتوحيده في العبادة و تمحّضه في الخلوص له تعالى بقوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي و خضوعي وَ نُسُكِي و عباداتي كلّها، أو قرباني.

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ (163)و قيل: إنّ الصّلاة: صلاة العيد، و النّسك: الاضحيّة (1).

وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي و حياتي و موتي، أو ما أنا عليه في حياتي و ما أكون عليه عند موتي من الإيمان و الطّاعة، خالصة لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ وحده لا شَرِيكَ لَهُ فيها، وَ بِذلِكَ التّوحيد أو الإخلاص أُمِرْتُ من جانب ربّي وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ و المنقادين لعبادته في عالم الذرّ لأنّه أوّل من أجاب، أو في هذه الامّة لأنّ إسلام النبيّ قبل إسلام أمّته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 164

ثمّ أمر سبحانه بأن يبالغ في التزامه بالتّوحيد في الرّبوبيّة و العبادة بإظهار غاية قباحة الشّرك من نفسه، و إنكاره عليهم بعد قيام البراهين القاطعة على وجوب التّوحيد بقوله: قُلْ يا محمّد: أَ غَيْرَ اَللّهِ من الملائكة و الكواكب و الأصنام و غيرها أَبْغِي و أطلب لنفسي رَبًّا وَ هُوَ تعالى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ باعتراف جميع الفرق، و بحكم العقل القطعي لبداهة وجوب انتهاء وجود الممكن إلى الواجب، و امتناع تعدّده، و كون الممكن شريكا له.

قُلْ أَ غَيْرَ اَللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)ثمّ نبّههم على أنّ ضرر الشّرك و عقابه عليهم بقوله: وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من الأنفس ضررا إِلاّ كان ذلك الضّرر عَلَيْها لا يتعدّاها إلى غيرها وَ لا تَزِرُ و لا تحتمل نفس وازِرَةٌ و حاملة المعصية وِزْرَ نفس أُخْرى و حملها و عقوبتها.

و فيه ردّ على المشركين القائلين للمؤمنين: اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ (2).

ص: 570


1- . تفسير روح البيان 3:129.
2- . العنكبوت:29/12.

ثُمَّ أنتم بعد الموت إِلى رَبِّكُمْ و مليككم، و إلى حكمه و محضر عدله مَرْجِعُكُمْ و مصيركم فَيُنَبِّئُكُمْ و يخبركم يومئذ بِما كُنْتُمْ في الدنيا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الرّشد و الغيّ، و الحقّ و الباطل، بإعطاء الثّواب العظيم للمحقّين، و الحكم بالعقاب الشّديد للمبطلين.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 165

ثمّ أنّه تعالى لمّا بدأ في السّورة المباركة ببيان كمال قدرته و حكمته و الوهيّته في عالم الوجود، ختمها ببيان كمال منّته و رأفته و وفور نعمه، و شدّة عقابه و سعة رحمته بقوله: وَ هُوَ اللّه القادر اَلَّذِي خلقكم و منّ عليكم بأن جَعَلَكُمْ خَلائِفَ اَلْأَرْضِ و ساكنيها بعد بني الجان، أو بعد فناء الامم الماضية، أو خلفاء نفسه في الأرض تتصرّفون فيها كتصرّف الملاّك في أملاكهم، و تنتفعون بها و بما خلق فيها وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ في القوى الجسمانيّة، و العقل و العلم، و الشّرف و المال، و غيرها من الكمالات الوجودية و السّعادات الدّنيويّة و الاخرويّة فَوْقَ بَعْضٍ آخر، و فضّل كلاّ منكم في الصّفات الخلقيّة، و المحاسن الخلقيّة على الآخر بجوده و رأفته إلى دَرَجاتٍ كثيرة متفاوتة، لا للجهل و القرابة أو غيرهما من الدّواعي النّفسانيّة، بل لِيَبْلُوَكُمْ و يعاملكم معاملة الممتحن لطاعتكم و عصيانكم فِي ما آتاكُمْ و جعل عليكم من التّكاليف و الأحكام.

وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ اَلْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)ثمّ هدّد سبحانه على عصيانه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقابِ في الآخرة على عصيانه و مخالفة أحكامه، ثمّ رغّب في طاعته بقوله: وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ للذّنوب، و ستّار للمعاصي بفضله و كرمه البتّة رَحِيمٌ بعباده المطيعين له بإفاضة نعمه الجسيمة عليهم في الدّنيا و الآخرة لا محالة.

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك حتّى نزلت على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فعظّموها و بجّلوها، فإنّ اسم اللّه عزّ و جلّ فيها في سبعين موضعا، و لو يعلم النّاس ما في قراءتها ما تركوها» (1).

و عن الرضا عليه السّلام: «نزلت الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتّسبيح و التّهليل و التّكبير، فمن قرأها سبّحوا له إلى يوم القيامة» (2).

ص: 571


1- . الكافي 2:455/12، ثواب الأعمال:105، تفسير الصافي 2:178.
2- . تفسير القمي 1:193، تفسير الصافي 2:178.

ص: 572

في تفسير سورة الأعراف

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختم اللّه سورة الأنعام-المشتملة على ردّ المشركين و إبطال بدعهم-بالوعيد بالعقاب السّريع و وعد المؤمنين بسعة رحمته و غفرانه، أردفها بسورة الأعراف المتضمّنة للردّ على المشركين، و تهديدهم بالعقوبات النّازلة في الدّنيا على الامم الّذين كانوا مثلهم في الكفر و الطّغيان و معارضة الأنبياء العظام، و توعيدهم بالعقوبات الشّديدة في الآخرة، و لمدح المؤمنين بالنّصرة و الإكرام في الدّنيا، و الفوز بالنّعم الدّائمة في الآخرة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)فافتتحها سبحانه-على دأبه الجاري في الكتاب الكريم-بأسمائه المباركة تيمّنا و تعليما للعباد، ليتبرّكوا بذكرها عند الشّروع في كلّ أمر ذي بال بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ و قد مرّ تفسيره.

ثم ابتدأ فيها بذكر الحروف المقطّعات بقوله: المص توجيها للقلوب إلى ما بعدها من المطالب المهمّة، و إرمازا من إسمائه الحسنى، و إيماء إلى العلوم الكثيرة التي يستنبطها الرّاسخون في العلم منها.

عن الصادق عليه السّلام، في حديث قال: «و المص أنا اللّه المقتدر الصّادق» (1).

و عن العيّاشي عنه عليه السّلام أنّه أتاه رجل من بني اميّة، و كان زنديقا، فقال له: قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه: المص أي شيء أراد بهذا؟ و أيّ شيء فيه من الحلال و الحرام؟ و أي شيء فيه ممّا ينتفع به النّاس؟ قال: فاغتاظ عليه السّلام من ذلك فقال: «أمسك ويحك، الألف: واحد، و اللام: ثلاثون، و الميم: أربعون، و الصّاد: تسعون، كم معك» ؟ فقال الرجل: مائة و واحد و ستّون، فقال: «إذا انقضت سنة إحدى و ستين و مائة فينقضي ملك أصحابك» ، قال: فنظر، فلمّا انقضت سنة إحدى و ستّين و مائة يوم

ص: 573


1- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 2:179.

عاشوراء دخل المسوّدة الكوفة و ذهب ملكهم (1).

و قيل: إنّ (المص) اسم للكتاب العزيز، و قيل: اسم للسّورة (2). و كلا القولين مبنيّان على الاجتهاد الذي لا اعتماد عليه.

ثمّ بيّن سبحانه أهمّ المطالب، و هو صدق الكتاب العزيز الدالّ على صدق النّبوّة بقوله: كِتابٌ عظيم الشّأن، كاف لإثبات نبوّتك يا محمّد، شاهد صدق على صدقك، واف بجميع ما تحتاج إليه امّتك أُنْزِلَ من جانب اللّه بتوسّط أمين وحيه إِلَيْكَ تفضّلا منه عليك، فإذا علمت ذلك فَلا يَكُنْ و لا يوجد فِي صَدْرِكَ و قلبك حَرَجٌ و ضيق مِنْهُ، من جهه الخوف من التكذيب في تبليغه.

قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يخاف تكذيب قومه و إعراضهم من قبول قوله و أذاهم، فكان يضيق صدره في الأداء، فأمّنه اللّه تعالى بهذه الآية (3).

أو بسبب الشّكّ في أنّه نازل من اللّه لِتُنْذِرَ النّاس و تخوّفهم من سخطه و عذابه على الشّرك و العصيان بِهِ و بآياته وَ ليكون هذا الكتاب ذِكْرى و عظة لِلْمُؤْمِنِينَ به.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد شهادته بصدق القرآن الذي هو دليل على صدق نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمره رسوله بتبليغه و عدم المبالاة بتكذيب قومه، أمر النّاس باتّباعه و العمل بكتابه، و دعاهم بذاته المقدّسة إليه بقوله: اِتَّبِعُوا أيّها النّاس، و لازموا في عقائدهم و أعمالكم ما أُنْزِلَ بتوسّط محمّد صلّى اللّه عليه و آله إِلَيْكُمْ جميعا مِنْ قبل رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، المراعي لصلاحكم، من القرآن الجامع لجميع المعارف و الأحكام.

اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)ثمّ بعد أمرهم بالمعروف نهاهم عن الشّرك الذي هو أعظم المنكرات بقوله: وَ لا تَتَّبِعُوا بإغواء الشّياطين شيئا من خلق اللّه، و لا تتّخذوا مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه من الكواكب و الأصنام و غيرها

ص: 574


1- . تفسير العيّاشي 2:135/1544، تفسير الصافي 2:179. قوله عليه السّلام: «إذا انقضت سنة إحدى و ستين و مائة. . .» استظهر صحته العلامة المجلسي في بحار الأنوار 10:164، حسب ترتيب الأبجدية عند المغاربة «أبجد، هوز، حطي، كلمن، صعفض، قرست، تخذ، ظغش» فالصاد المهملة عندهم ستون، و الضاد المعجمة تسعون، فحينئذ يستقيم ما في أكثر النسخ في عدد المجموع، و لعل الاشتباه في قوله: و الصاد تسعون من النسّاخ، لظنهم أنه مبنيّ على المشهور، و بذلك يصح المجموع المذكور و يطابق سنة انهيار و سقوط دولة بني اميّة، أي سنة 131 ه.
2- . تفسير روح البيان 3:133.
3- . تفسير روح البيان 3:134.

أَوْلِياءَ و آلهة محبوبين، فاذكروا ما ينفعكم، و اتّعظوا بمواعظ اللّه، و لكنّ زمانا أو تذكّرا و اتّعاظا قَلِيلاً ما و في غاية القلّة تَذَكَّرُونَ و تتعظون، لشدّة قساوة قلوبكم، و غلبة شهواتكم. و يمكن أن يكون توصيف تذكّرهم بالقلّة بملاحظة قلّة المتذكّرين.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ لمّا كان التّخويف بعذاب الاستئصال في الدّنيا أردع لهم من الكفر و القبائح، شرع سبحانه في تهديد المشركين على شركهم و عدم اتّعاظهم و اتّباعهم لكتاب اللّه، و معارضتهم الرّسول و تكذيبه بما نزل على الامم الماضية-المعارضين للرّسل، التّابعين للشّياطين-من عذاب الاستئصال في الدّنيا بقوله: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ من القرى، و كثيرا من بلدة من البلاد أَهْلَكْناها و أردنا إفناء أهلها عقوبة على شركهم و إصرارهم على الكفر، و معارضة الأنبياء، و انهماكهم في الشّهوات، و تعرّضهم على قبائح الأعمال.

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاّ أَنْ قالُوا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (5)ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة إهلاكهم بقوله: فَجاءَها بَأْسُنا و قرب منها عذابنا، إمّا بَياتاً و ليلا و هم مستريحون غافلون عنه، كقوم لوط أَوْ نهارا و هُمْ قائِلُونَ نائمون غير متوقّعين سوءا و مكروها، كقوم شعيب، اهلكوا في وسط النّهار و هم قائلون. فلا يغترّ هؤلاء الكفرة بحال الأمن و الرّاحة، فإنّ عذاب اللّه يقع دفعة و بغتة.

قيل: إنّ ذكر نزول العذاب في الوقتين، لاختصاصهما بالرّاحة، و عدم توقّع العذاب فيهما، و لذا كان أشدّ، كما أنّ النّعمة غير المرتقبة ألذّ.

فَما كانَ دَعْواهُمْ و تضرّعهم، كما عن ابن عبّاس (1)إِذا جاءَهُمْ و نزل عليهم بَأْسُنا و عذابنا شيئا إِلاّ أَنْ قالُوا اعترافا باستحقاقهم له و ندامة على شركم و طغيانهم: يا ويلنا إِنّا كُنّا من قبل ظالِمِينَ باختيار الشّرك، و ارتكاب السيّئات.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 6 الی 7

فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنّا غائِبِينَ (7)

ص: 575


1- . تفسير الرازي 14:21.

ثمّ هدّدهم اللّه بأهوال يوم القيامة بقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ توبيخا و تقريعا كافّة الامم اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ الرّسل، عمّا أجابوهم بعد دعوتهم إلى الهدى و دين الحقّ، و نقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ وَ و اللّه لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ عن تأدية الرّسالة، و عمّا اجيبوا به من ردّ و تكذيب، أو قبول و طاعة، فيقولون تشكيّا من اممهم: لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فيقام الرّسل فيسألنّ عن تأدية الرّسالات التي حملوها إلى اممهم، فيخبرون أنّهم قد أدّوا ذلك إلى اممهم، و تسأل الامم فيجحدون، كما قال اللّه: فَلَنَسْئَلَنَّ (1)الآية» .

و فائدة هذا السّؤال تضعيف (2)الإكرام للرّسل، و الإهانة و الفضيحة للكفّار.

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ و لننبّئنّ لهم (3)جميعا جميع ما صدر عنهم من التّبليغ و الإنكار و المعارضة بِعِلْمٍ كامل منّا بظواهرهم و بواطنهم، لأنّا كنّا شاهدين عليهم، مطّلعين على خفيّاتهم وَ ما كُنّا غائِبِينَ عنهم في حال من الأحوال، و لا غافلين عن أعمالهم و أحوالهم في آن من الآنات.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المشركين بالسّؤال عنهم (4)يوم القيامة، هدّدهم بوزن الأعمال و عقائدهم بقوله: وَ اَلْوَزْنُ لأعمال النّاس و عقائدهم: تعيين راجحها و مرجوحها، و جيّدها و رديئها يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ الثّابت بحيث لا مجال للرّيب فيه.

وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (8) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)

في بيان الوجوه

و الأقوال في الميزان

إنّما الكلام في الميزان و الموزون. أمّا الأوّل: فمجمل القول فيه أنّ الميزان في القيامة حسّي و معنوي، أمّا الحسّي: فالحقّ أنّه ينصب ميزان له عمود و كفّتان، في بعض الرّوايات العاميّة: طول عموده خمسون ألف سنة، و إحدى كفّتيه من نور فيوضع فيها الحسنات، و الاخرى من الظّلمة يوضع فيها السيّئات (5).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه تعالى ينصب ميزانا له لسان و كفّتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها و شرّها (6).

و عن عبد اللّه بن سلاّم: أنّ ميزان ربّ العالمين [ينصب]بين الجنّ و الإنس، يستقبل به العرش، إحدى كفّتي الميزان على الجنة، و الاخرى على جهنّم، و لو وضعت السّماوات و الأرض في إحداهما

ص: 576


1- . الاحتجاج:242، تفسير الصافي 2:180.
2- . أي مضاعفة.
3- . كذا، و الظاهر: و لننبّئنّهم.
4- . كذا، و الظاهر: بسؤالهم.
5- . تفسير روح البيان 3:137.
6- . تفسير الرازي 14:24.

لوسعتهنّ، و جبرئيل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه (1). إلى غير ذلك من الرّوايات.

و أمّا المعنوي: فهو النبيّ و الوصيّ و الدّين، فميزان أعمال كلّ امّة نبيّها و شريعتها التي أتى بها.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ نَضَعُ اَلْمَوازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيامَةِ (2)، قال: «هم الأنبياء و الأوصياء» (3).

و في رواية: هم الموازين (4).

و عن مجاهد و الضحّاك و كثير من العامّة: أنّه العدل و القضاء (5). و أنكروا الميزان الحسّي، و استدلّ لقولهم بأنّ الميزان ما يعرف به مقدار الشيء، و مقادير الثّواب و العقاب لا يمكن معرفتها بالميزان، و أمّا نفس الأعمال فغير قابلة للوزن؛ لأنّها أعراض قد فنيت، و وزن المعدوم محال، و على تقدير بقائها كان وزنها محالا.

و عن (الاحتجاج) : عنه عليه السّلام (6)أنّه سئل أو ليس توزن الأعمال؟ قال: «لا، لأنّ الأعمال ليست أجساما، و إنّما هي صفة ما عملوا، و إنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء و لا يعرف ثقلها و خفّتها، و إنّ اللّه لا يخفى عليه شيء» . قيل: فما معنى الميزان؟ قال: «العدل» . قيل: فما معناه في كتابه فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ؟ قال: «فمن رجح عمله» (7).

أقول: بناء على ما هو الحقّ من تجسّم الأعمال في الآخرة، و إمكان تأثير حسن العمل ثقلا فيه، و كون الحكمة في الوزن تهويل العاصي و تفضيحة، و تبشير الميطع و ازدياد فرحة، و إظهار غاية العدل. ففي الرواية وجوه من الإشكال، فلا بدّ من تأويلها إن أمكن، و إلاّ فطرحها أو حملها على التقيّة.

و أمّا الموزون، فهو نفس الأعمال و ما ينتهي الى اختيار العباد من الحسنات و السيّئات.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أمّا المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفّة الميزان، فتثقل حسناته على سيّئاته (8).

و قيل: الموزون صحائف (9).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عمّا يوزن يوم القيامة، فقال: «الصّحف» (10).

ص: 577


1- . تفسير الرازي 14:25.
2- . الأنبياء:21/47.
3- . الكافي 1:346/36، معاني الأخبار:31/1، تفسير الصافي 2:181.
4- . بحار الأنوار 71:226.
5- . تفسير الرازي 14:25.
6- . أي عن الامام الصادق عليه السّلام.
7- . الاحتجاج:351، تفسير الصافي 2:181.
8- . تفسير الرازي 14:24.
9- . تفسير الرازي 14:25.
10- . تفسير الرازي 14:25.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان، و يؤتى له بتسعة و تسعين سجلا، كلّ سجلّ منها مدّ البصر، فيها خطاياه و ذنوبه، فتوضع في كفّة الميزان، ثمّ يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، يوضع في الاخرى فترجّح» (1).

و قيل: إنّ الموزون بالميزان الحسيّ هو أعمال الجوارح دون الأعمال القلبيّة؛ كالعقائد و النيّات و غيرهما، فإنّه يقام لها الميزان المعنوي و هو العدل، فالحسّي للحسّي، و المعنوي للمعنوي.

و قيل: يوزن نفس المؤمن و الكافر (2)، فيظهر بالميزان عظم قدر الأول و ذلّ الثّاني و مهانته.

روي أنّه يؤتى يوم القيامة بالرّجل العظيم الطّويل الأكول الشّروب فيوزن، فلا يزن جناح بعوضة (3).

و قيل: إنّ الوزن لأهل الحقّ و الصّدق و أصحاب البرّ، دون الكفّار و أهل الباطل؛ لأنّه لا وزن للباطل و أهله.

عن السجّاد عليه السّلام-في حديث-: «اعلموا عباد اللّه أنّ أهل الشّرك لا ينصب لهم الموازين، و لا ينشر لهم الدّواوين، و إنّما يحشرون إلى جهنّم زمرا، و إنّما نصب الموازين و نشر الدّواوين لأهل الإسلام، فاتّقوا اللّه عباد اللّه» (4).

أقول: يدلّ عليه قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَزْناً (5)، و يمكن حمل الآية و الرّواية على أنّه لا ينصب لهم الميزان لتعيين وزن حسناتهم و مقدار ثوابها بالنّسبة إلى سيّئاتهم، لحبط حسناتهم. و أمّا تعيين مقدار عظمة سيّئاتهم في أنظار النّاس فيحتاج إلى نصب الميزان.

و قيل: إنّ وزن الأعمال يكون بعد الحساب؛ لأنّ المحاسبة لتقرير الأعمال، و الوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها، فينبغي أن يكون بعدها.

و على أيّ تقدير فَمَنْ ثَقُلَتْ و رجحت مَوازِينُهُ بسبب كثرة الحسنات، أو عظم قدرها فَأُولئِكَ المؤمنون المحسنون هُمُ بالخصوص اَلْمُفْلِحُونَ و النّاجون في الآخرة، الفائزون بالجنّة و النّعم الدّائمة و الكرامة الأبديّة.

روي أنّ داود عليه السّلام سأل ربّه أن يريه الميزان الذي ينصب يوم القيامة، فرأى كل كفّة ملء ما بين المشرق و المغرب فغشي عليه، فلمّا أفاق قال: إلهي من يقدر أن يملأ كفّته بالحسنات؟ فقال اللّه

ص: 578


1- . تفسير الرازي 14:25.
2- . بحار الأنوار 71:226.
3- . تفسير روح البيان 3:137.
4- . الكافي 8:75/29.
5- . الكهف:18/105.

تعالى: يا داود، إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة من صدقة (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما وضع في الميزان أثقل من حسن الخلق» (2).

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بكثرة السيّئات، أو شدّة قبحها فَأُولئِكَ خفاف الموازين هم اَلَّذِينَ خَسِرُوا في الدّنيا و غبنوا أَنْفُسَهُمْ بأن ضيّعوا فطرتهم السّليمة التي هي بمنزلة رأس مالهم في سوق الدّنيا بِما كانُوا فيها بِآياتِنا الدالّة على توحيدنا في الالوهيّة، و كمال الصّفات و المعجزات الشّاهدة على صدق نبيّنا، و البراهين الواضحة على وجوب طاعة أوليائنا يَظْلِمُونَ و حقّها يضيّعون، حيث إنّ حقّها أن يصدّقوها، و هم يكذّبون.

قيل: إنّما قال اللّه: مَوازِينُهُ بصيغة الجمع، لأنّ كلّ عبد ينصب له موازين بالقسط تناسب حالاته، فلبدنه ميزان توزن به أوصافه، و لروحه ميزان توزن به نعوته، و لسرّه ميزان توزن به أحواله، و لخفيّه ميزان توزن به أخلاقه (3).

و قيل: إنّ لأفعال القلوب ميزانا، و لأفعال الجوارح ميزان، و للأقوال ميزان (4).

و عن الزجّاج: أنّه قد يطلق الجمع على الواحد، كما يقال: خرج فلان إلى مكّة على البغال (5).

و قيل: إنّ الموازين جمع موزون (6).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فانّما يعني الحساب (4)، توزن الحسنات و السيّئات، و الحسنات ثقل الميزان، و السيّئات خفّة الميزان» (5).

و عنه عليه السّلام: «هي قلّة الحسنات و كثرتها» (6).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 10

ثمّ أنّه تعالى بعد زجر النّاس عن متابعة الشّياطين و عبادة الأصنام، بتخويفهم من العذاب الدّنيوي و الاخروي، شرع سبحانه في ترغيبهم إلى اتّباع ذاته المقدّسة بتذكيرهم نعمه العظام بقوله: وَ لَقَدْ مَكَّنّاكُمْ و أسكناكم أيّها النّاس فِي اَلْأَرْضِ أو أقدرناكم على التّصرّف فيها بالسكونة (7)و الزّرع و غيرهما من وجوه الانتفاعات وَ جَعَلْنا و أوجدنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ و ما به بقاؤكم و تقوّم اموركم من المطاعم و المشارب و الملابس و المناكح، و ما به تحصّلون الخيرات الدّنيويّة و الاخرويّة،

وَ لَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

ص: 579


1- . تفسير روح البيان 3:137.
2- . تفسير روح البيان 3:137.
3- . تفسير روح البيان 3:137. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 14:26.
4- . في النسخة: يعني إنّما الحسنات.
5- . التّوحيد:268/5، تفسير الصافي 2:181.
6- . تفسير الصافي 2:181.
7- . كذا، و الظاهر: بالسّكن، أو السّكنى.

و مع ذلك قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ تلك النّعم العظام. و هو نظير قوله: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 11 الی 13

ثمّ نبّه سبحانه على عدم انحصار نعمه بالتّمكين في الأرض و خلق ما يعيشون به، بل أصل الوجود الذي هو أعظم النّعم منه تعالى، بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ و أخرجناكم من العدم إلى الوجود، مبتدئا بخلق أبيكم آدم من طين ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بأحسن صورة بعد خلق آدم و تصويره و نفخ الرّوح فيه.

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصّاغِرِينَ (13)عن الباقر عليه السّلام: «أمّا (خلقناكم) فنطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظما ثمّ لحما، و أمّا (صورناكم) فالعين و الأنف و الأذنين و الفم و اليدين و الرّجلين، صوّر هذا و نحوه، ثمّ جعل الدّميم (2)و الوسيم و الجسيم و الطّويل و القصير، و أشباه هذا» (3).

في أمر اللّه الملائكة

بالسجود لآدم

ثمّ لمّا كان خلق الإنسان من آدم عليه السّلام، و كان إكرام الأب منّة على الأبناء، أتبع نعمة الخلق ببيان إكرام آدم عليه السّلام بإسجاد الملائكة له بقوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ جميعا: اُسْجُدُوا لِآدَمَ تكريما له، و قيل: لمّا كان خلق نوع البشر بخلق أوّل فرد منه، كنّى سبحانه عن خلق أبي البشر بالخطاب إلى النّوع، و على أيّ تقدير فَسَجَدُوا كلّهم لأدم من غير ريث إِلاّ إِبْلِيسَ فإنّه وحده خالف أمر ربّه و لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّاجِدِينَ لآدم، فعاتبه جلّ جلاله،

و قالَ : يا إبليس ما مَنَعَكَ عن طاعتي، و أيّ شيء أجرأك على أَلاّ تَسْجُدَ لآدم إِذْ أَمَرْتُكَ مع الملائكة بالسّجود له، و حين أوجبته عليك.

قالَ إبليس: كيف أمرتني بالسّجود لآدم و أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ و أفضل؟ و لا يجوز أمر الأفضل بالسّجود و التّواضع للمفضول، أمّا فضيلتي على آدم فلأنّك خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ و هي حقيقة لطيفة مشرقة علويّة فعّالة وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ كثيف ثقيل، مظلم منفعل، و من الواضح أنّ المخلوق من الأفضل أفضل.

في عدم جواز

القياس في الدين

عن ابن عبّاس أنّه قال: كانت الطّاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربّه و قاس،

ص: 580


1- . سبأ:34/13.
2- . الدّمامة: قبح المنظر و صغر الجسم.
3- . تفسير القمي 1:224، تفسير الصافي 2:182.

و أوّل من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدّين بشيء من رأيه قرنه اللّه مع إبليس (1).

و عن الصادق عليه السّلام، في حديث: «فطرده اللّه عن جواره، و لعنه و سمّاه رجيما، و أقسم بعزّته: لا يقيس أحد في دينه إلاّ قرنه مع عدوّه إبليس في أسفل درك من النّار» (2).

و عنه عليه السّلام أنّه دخل عليه أبو حنيفة، فقال: «يا أبا حنيفة، بلغني أنّك تقيس؟» ، قال: نعم أقيس، قال: «لا تقس، فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فقاس ما بين النّار و الطّين، و لو قاس نوريّة آدم بنوريّة النّار، عرف فضل ما بين النّورين و صفاء أحدهما على الآخر» (3).

قالَ اللّه تعالى لابليس و هو في جنّة عدن-كما عن ابن عبّاس (4)-أو في جنّة الدّنيا: فَاهْبِطْ و انزل أو انتقل مِنْها إلى الأرض، أو إلى خارجها، أو من المنزلة التي أنت عليها، أو من زمرة الملائكة فَما يَكُونُ جائز لَكَ يا إبليس أَنْ تَتَكَبَّرَ و تترفّع في وقت من الأوقات، أو مكان من الأمكنة، لا سيّما فِيها لأنّها مكان المطهّرين من الرّذائل.

ثمّ أكّد الأمر بخروجه بقوله: فَاخْرُجْ من الجنّة، أو من زمرة الملائكة المكرمين إِنَّكَ بتكبّرك و عصيانك بعد مِنَ اَلصّاغِرِينَ و من زمرة الأذلاّء المهينين.

عن ابن عبّاس: يريد أنّ أهل السّماوات ملائكة متواضعون خاشعون، فاخرج إنّك من الصّاغرين. و الصّغار: الذلّة (5).

في التواضع و ذمّ

التكبر

قيل: إنّ إبليس طلب التكبّر فابتلاه اللّه بالذلّة و الصّغار، تنبيها على صحّة ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من تواضع رفعه اللّه، و من تكبّر وضعه اللّه» (6).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ لمّا اشتدّت عداوته لآدم عليه السّلام و ذريّته طلب الفسحة لإغوائهم و قالَ بعد طرده من الجنّة و الرّحمة: ربّ أَنْظِرْنِي و أمهلني في الدّنيا، و أدم حياتي إِلى يَوْمِ القيامة الذي فيه يُبْعَثُونَ من قبورهم و يحشرون إليك لجزاء أعمالهم. و لمّا اقتضت الحكمة ابتلاء آدم و ذريّته، استجاب دعاءه

و قالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ و الممهلين، و لكن لا إلى يوم البعث، و هو النّفخة الثانية، بل إلى يوم يموتون جميعا بالنّفخة الاولى.

قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ (15)

ص: 581


1- . تفسير الرازي 14:34.
2- . علل الشرائع:62/1، تفسير الصافي 2:183.
3- . الكافي 1:47/20، الاحتجاج:362، علل الشرائع:86/1، تفسير الصافي 2:183.
4- . تفسير الرازي 14:35.
5- . تفسير الرازي 14:35.
6- . تفسير الرازي 14:35.

عن الصادق عليه السّلام: «يموت إبليس ما بين النّفخة الاولى و الثانية» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا» (2).

عن ابن عبّاس: أنّ الدّهر يمرّ بإبليس فيهرم، ثمّ يعود ابن ثلاثين (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ أنّ اللّعين بعدما رأى إسعاف مسألتة قالَ معارضة للّه: فَبِما أَغْوَيْتَنِي و بسبب أن أوقعتني في عصيانك بأمرك إيّاي بالسّجود، بعزّتك لأغوينّ آدم و ذريّته، و لَأَقْعُدَنَّ ترصّدا لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ و على منهجك القويم الموصل لهم إلى كلّ خير، و هو دين الإسلام. و قيل: إنّ الباء في قوله: (فبما) للقسم، و المعنى: فبقدرتك عليّ و نفاذ سلطانك فيّ (4).

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)

ثمّ أنّ اللّعين بعد إعلانه بترصّده لذريّة آدم و قعوده على طريقهم إلى الجنّة كقعود السرّاق على طريق العابرين ترصّدا لهم، بيّن تهاجمه عليهم من الجهات التي يعتاد الهجوم منها، و محاصرته إيّاهم من الجوانب بقوله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ و لأحملنّ عليهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ و قدّامهم، يعني: أشكّكهم في صحّة البعث، أو افتّرهم عن الرّغبة فيما ينفعهم في الآخرة، أو أزيّن لهم الدّنيا، أو أبعثهم إلى تكذيب الأنبياء الحاضرين في عصرهم وَ مِنْ خَلْفِهِمْ قيل: يعني: اوهمهم أنّ الدّنيا أزليّة باقية، و ازيّنها في نظرهم، أو افتّرهم عن الرّغبة في المنافع الاخرويّة، أو أبعثهم إلى تكذيب الماضين من الأنبياء وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ قيل: يعني: ارغّبهم في الكفر، أو أصرفهم عن الحقّ، أو افتّرهم عن الرّغبة في الآخرة و الأعمال الحسنة وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ قيل: يعني: اوقعهم في المعاصي، و أزيّن لهم السّيئات و ارّغبهم في الباطل.

عن الباقر عليه السّلام: «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ معناه: أهوّن عليهم أمر الآخرة وَ مِنْ خَلْفِهِمْ آمرهم بجمع الأموال و البخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم، وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ افسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضّلالة، و تحسين الشّبهة، وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ بتحبيب اللّذات إليهم، و تغليب الشّهوات على قلوبهم» (5).

ص: 582


1- . علل الشرائع:402/2، تفسير الصافي 2:183.
2- . تفسير العياشي 2:428/2327، تفسير الصافي 2:183.
3- . تفسير روح البيان 3:142.
4- . تفسير الرازي 14:38.
5- . مجمع البيان 4:623، تفسير الصافي 2:184.

و قيل: إنّ الجهات مؤوّلة بالقوى الأربعة المفوّتة للسّعادات الرّوحانيّة، فالمراد من قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ القوّة الخياليّة التي تكون في البطن المقدّم من الدّماغ، ترد عليها صور المحسوسات، و من قوله: مِنْ خَلْفِهِمْ القوّة الوهميّة التي تكون في البطن المؤخّر منه، تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات، و من قوله: عَنْ أَيْمانِهِمْ القوّة الشهويّة التي تكون في الكبد، و من قوله: وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ القوّة الغضبيّة التي تكون في البطن الأيسر من القلب.

قيل: إنّ النّكتة في تخصيص الأيمان و الشّمائل بكلمة (عن) الدّالّة على المجاوزة: أنّ الملكين الكاتبين للأعمال لمّا كانا قاعدين عن اليمين و الشّمال، لا يقرب الشّيطان منهما، بل يتباعد عنهما.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ الشّيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال له: تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم، ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال له: تدع ديارك و تتغرّب (1)، فعصاه و هاجر، ثمّ قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل فيقسّم مالك و تنكح امرأتك، فعصاه فقاتل» (2).

روي أنّ الشّيطان لمّا قال هذا الكلام رقّت قلوب الملائكة على البشر، فقالوا: يا إلهنا، كيف يتخلّص الإنسان من الشّيطان، مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع؟ فأوحى اللّه تعالى إليهم: إنّه بقي للإنسان جهتان؛ الفوق و التّحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدّعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع، غفرت له ذنب سبعين سنة (3).

ثمّ أخبر اللّعين ظنّا بنتيجة حملاته و محاصرته بني آدم بقوله: وَ لا تَجِدُ يا ربّ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ لك، مطيعين لأحكامك، عاملين برضاك.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 18

ثمّ أنّه تعالى بعد إجهار اللّعين بمعارضته له، و معاندته لبني آدم، عاتبه زجرا و مهانة و قالَ له طردا من الجنّة، أو السّماوات: اُخْرُجْ مِنْها حال كونك مَذْؤُماً مذموما عندي و عند ملائكتي و سائر خلقي مَدْحُوراً و مطرودا عن جنّتي و رحمتي، فبعزّتي لَمَنْ تَبِعَكَ و اقتفى خطواتك من ذريّة آدم، و أطاعك مِنْهُمْ في الدّنيا، و خالفني في أحكامي لَأَمْلَأَنَّ البتّة جَهَنَّمَ أيّها التّابع و المتبوع مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ لا ينجو منها أحد منكم إذا لم تتوبوا.

قالَ اُخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

ص: 583


1- . في النسخة: و تتعرب. (2 و 3) . تفسير الرازي 14:42.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ أنّه تعالى بعد العتاب على اللّعين و طرده من الجنة و وعيده بالنّار، خاطب آدم عليه السّلام لطفا به و رحمة عليه بقوله: وَ يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حوّاء اَلْجَنَّةَ و دار الكرامة فَكُلا و تمتّعا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما و من أيّ نوع من الثّمار و النّعم وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ -مرّ تفسيره في البقرة (1)-

فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطانُ و زيّن في نظرهما قرب الشّجرة و الأكل منها ببياناته المموّهة لِيُبْدِيَ لَهُما و يبرز في نظرهما ما وُورِيَ و ستر عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما و عوراتهما، و يخزيهما بانكشافها عند الملائكة.

وَ يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ اَلْخالِدِينَ (20)قيل: إنّ اللّعين علم أنّ لهما سوءة، و أنّهما إن أكلا منها بدت، بقراءته في كتب الملائكة، و لم يكن آدم يعلم ذلك.

أقول فيه: إنّ اللّه علّم آدم علم كلّ شيء، فكيف يمكن أن لا يعلم عورة نفسه؟ ، مع أنّه يلزم أن يكون إبليس أعلم منه.

و قيل: لم يرياها من أنفسهما، و لا أحدهما من الآخر.

و عن الصادق عليه السّلام: «كانت سوآتهما لا تبدو لهما» ، يعني كانت داخلة (2).

أقول: يحتمل كون التّفسير من الرّاوي.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة وسوسة الشّيطان بقوله: وَ قالَ اللّعين لآدم و زوجته: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ الأكل من هذِهِ اَلشَّجَرَةِ لعلّة من العلل إِلاّ كراهة من أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ لطيفين قويّين غنيّين عن ما يحتاج إليه البشر من الطّعام و الشّراب و غيرهما أَوْ تَكُونا في الجنّة مِنَ اَلْخالِدِينَ و الدّائمين، لا تخرجون منها و لا تموتون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 21 الی 23

وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ اَلنّاصِحِينَ (21) فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ فَلَمّا ذاقَا اَلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (23)

ص: 584


1- . تقدم في تفسير الآية (35) من سورة البقرة.
2- . تفسير العياشي 2:140/1554، تفسير القمي 1:225، تفسير الصافي 2:186.

ثمّ أكّد اللّعين صدق قوله و نصحه بأن حلف باللّه لهما وَ قاسَمَهُما كذبا: إِنِّي لَكُما فيما أقول لَمِنَ اَلنّاصِحِينَ و الدّالّين لكما إلى الخير و الصّلاح

فَدَلاّهُما و حطّهما من المنزلة العالية التي كانت لهما بطاعة اللّه إلى مهوى عصيانه الذي هو أنزل المراتب، و أجرأهما على أكل الشجرة المنهيّ عنها بِغُرُورٍ و تسويل عظيم.

عن ابن عبّاس: أي غرّهما باليمين، و كان آدم عليه السّلام يظنّ أن لا يحلف أحد باللّه كاذبا (1).

قيل: إنّ اللّعين أوّل من حلف باللّه كاذبا.

فأكلا منها فَلَمّا ذاقَا اَلشَّجَرَةَ و وجدا طعم ثمرها أخذتهما العقوبة، فتهافت عنهما لباسهما فورا، و بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما و ظهرت عوراتهما بشؤم العصيان.

قيل: كان لباسهما من حلل الجنّة.

و قيل: كان ظفرا في أشدّ اللّطافة و اللّين و البياض، و كان حاجبا من النّظر إلى أصل البدن، فلما أصابا الخطيئة نزع عن بدنهما، و بقي على رؤوس الأصابع تذكيرا لما فات من النّعم و تجديدا للنّدم (2).

و قيل: كان لباسهما نورا يحول بينهما و بين النّظر إلى البدن، فلمّا عصيا زال النّور عنهما (3).

و على أي تقدير، لمّا انكشفت عورتهما، استقبحا ذلك و استحييا من الملائكة وَ طَفِقا و أخذا يَخْصِفانِ و يرقعان و يلزقان عَلَيْهِما و على عوراتهما ورقة فوق ورقة مِنْ وَرَقِ أشجار اَلْجَنَّةِ .

قيل: كان ذلك الورق من شجرة التّين، و لم تسترهما شجرة غيرها، فقال اللّه تعالى: كما سترت آدم اخرج منك المعنى قبل الدّعوى، و سائر الأشجار يخرج منها الدّعوى قبل المعنى، و لهذه الحكمة يخرج ثمر سائر الأشجار في أكمامها أوّلا، ثمّ تظهر الثّمرة من أكمامها ثانيا، و ثمرة التّين أوّل ما يبدو يبدو بارزا (4)من غير أكمام (5).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أسكنه اللّه الجنّة و أباحها له إلاّ الشجرة؛ لأنّه خلق خلقة لا تبقى إلاّ بالأمر و النّهي و الغذاء و اللّباس و الأكنان و التّناكح، و لا يدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلاّ بالتّوقيف، فجاءه إبليس»

ص: 585


1- . تفسير الرازي 14:49.
2- . تفسير روح البيان 3:145.
3- . تفسير روح البيان 3:146.
4- . كذا، الظاهر: أول ما تبدو تبدو بارزة، و الذي في روح البيان: و شجرة التين أول ما يبدو ثمره يبدو بارزا. . .
5- . تفسير روح البيان 3:146.

إلى أن قال: «فقبل آدم عليه السّلام قوله، فأكلا من الشّجرة، و كان كما حكى اللّه بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما و سقط عنهما ما ألبسهما اللّه من لباس الجنّة، و أقبلا يستران من ورق الجنّة» . الخبر (1).

فدلّت الآية على قبح كشف العورة عقلا من لدن آدم عليه السّلام.

وَ ناداهُما رَبُّهُما المالك لأمرهما عتابا و توبيخا: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ مقاربة تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ قيل: ثمّ نادى آدم عليه السّلام ربّه: أ ما خلقتك بيدي، أ ما نفخت فيك من روحي، أ ما أسجدت لك ملائكتي، أ ما أسكنتك في جنّتي و في جواري؟ ! وَ ألم أَقُلْ لَكُما حين أبى الشّيطان عن السّجود و قال: لأقعدنّ صراطك المستقيم: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُما و لذريّتكما عَدُوٌّ و مبغض مُبِينٌ ظاهر العداوة و البغض؟ ! قيل: كان خجلتهما بهذا العتاب أشدّ عليهما من كلّ محنة (2)، فاعترفا بذنبهما و اعتذرا عن خطئهما و

قالا رَبَّنا و مليكنا، إنّا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بإيقاعها في العصيان، و تعريضها للحرمان من الجنان وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ذنبنا وَ تَرْحَمْنا بقبول توبتنا بربوبيّتك لَنَكُونَنَّ مِنَ زمرة اَلْخاسِرِينَ و المغبونين، حيث بعنا الجنّة و نعيمها بأكلة من الشّجرة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 24 الی 25

قالَ اللّه تعالى: يا آدم، و يا حوّاء، و يا إبليس اِهْبِطُوا و انزلوا من الجنّة، أو السّماوات إلى الأرض، في حال بَعْضُكُمْ يكون لِبَعْضٍ آخر عَدُوٌّ و مبغض إلى الأبد-قيل: العداوة ثابتة بين الجنّ و الإنس أبدا- وَ يكون لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ و مكان و تعيّش إِلى حِينٍ انقضاء آجالكم.

قالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25)

و قالَ تعالى تقريرا لما سبق: فِيها تَحْيَوْنَ و تعيشون وَ فِيها تَمُوتُونَ و تقبرون وَ مِنْها بعد إحيائكم في القبور تُخْرَجُونَ لتجزون بما كنتم تعملون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 26

ثمّ لمّا ذكر اللّه قضيّة ابتلاء آدم بكشف العورة و اضطراره إلى سترها بأوراق الأشجار، بيّن منّته على ذريّته بخلق اللّباس و سائر ما يحتاجون إليه، مخاطبا لهم بقوله: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المطر

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اَللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

ص: 586


1- . تفسير القمي 1:43، تفسير الصافي 2:186.
2- . تفسير روح البيان 3:146.

الذي يخرج به القطن، و يحيي الحيوانات التي لها صوف و شعر و وبر، فكأنّا أنزلنا إليكم لِباساً من السّماء كي يُوارِي سَوْآتِكُمْ و يغنيكم عن أوراق الأشجار، و يقطع عذركم في كشف العورة، وَ أنزلنا رِيشاً و زينة تتجمّلون بها بين النّاس.

و قيل: إنّ الرّيش كل ما يعيش به الإنسان من المتاع و المأكول.

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا اللّباس: فالثّياب التي تلبسون، و أمّا الريش (1): فالمتاع و المال (2)» انتهى.

وَ لكن لِباسُ اَلتَّقْوى و الخوف من اللّه و الالتزام بأحكامه ذلِكَ اللّباس خَيْرٌ و أنفع لصاحبه و لابسه، و أقرب له إلى اللّه تعالى ممّا خلق من اللّباس.

عن الباقر عليه السّلام: «ما لباس التّقوى: فالعفاف، إنّ العفيف لا تبدو له عورة و إن كان عاريا من الثّياب، و الفاجر بادي العورة و إن كان كاسيا من الثّياب، ذلِكَ خَيْرٌ يقول: و العفاف خير» (3).

و عن ابن عبّاس: لباس التّقوى: العمل الصالح (2).

و عن جماعة من المفسّرين هو الإيمان (3)، و قيل: هو السّمت الحسن، و [قيل]: هو الحياء (6)، و قيل: هو السّكينة و الإخبات و العمل الصالح (7).

و إنّما شبّه التّقوى باللّباس لأنّه يستر عيوب صاحبه، و يحفظه ممّا يضرّه كما يستر اللّباس عورته و يحفظه. و قيل: لأنّه يقيه من العذاب (4).

و قيل: إنّ المراد من لباس التّقوى: مطلق اللّباس، و المراد من قوله: ذلِكَ خَيْرٌ يعني: من التّعرّي، فإنّ أهل الجاهليّة كانوا يتعبّدون بالتعرّي في الطّواف بالبيت (5).

و قيل: إنّه ما يلبس في الحروب كالدّروع و الجواشن و المغافر.

و قيل: إنّه الملبوسات المعدّة للصّلاة.

عن القمي: لباس التّقوى الثياب البياض (6).

ص: 587


1- . في تفسير القمي: الرياش. (2 و 3) . تفسير القمي 1:226، تفسير الصافي 2:187.
2- . تفسير الرازي 14:52.
3- . تفسير الرازي 14:52، عن قتادة و السّدي و ابن جريج. (6 و 7) . تفسير الرازي 14:52.
4- . تفسير روح البيان 3:148.
5- . ورد في حديث عن الامام الصادق عليه السّلام أنه قال: «كانت سنة العرب في الحجّ، أنّه من دخل مكّة و طاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها، و كانوا يتصدّقون بها و لا يلبسونها بعد الطواف، فكان من وافى مكّة يستعير ثوبا و يطوف فيه ثمّ يردّه، و من لم يجد عارية اكترى ثيابا، و من لم يجد عارية و لا كرى، و لم يكن له إلاّ ثوب واحد، طاف بالبيت عريانا. . .» راجع بحار الأنوار 35:291/7 عن تفسير القمي. و منه يتبين ما كانوا يتعبّدون بالتعري في الطواف، بل كانوا يتعرّون عند الاضطرار، و قيل: كانوا يطوفون عراة لأنّهم يقولون: لا نعبد في ثياب أذنبنا فيها. راجع بحار الأنوار 83:169، روح البيان 3:153.
6- . تفسير القمي 1:225، تفسير الصافي 2:187.

ثمّ بيّن سبحانه أهمّ منافع خلق اللّباس بقوله: ذلِكَ الإنزال للّباس، أو خلقه بعض مِنْ آياتِ اَللّهِ و دلائله الدالّة على كمال قدرته و فضله و رحمته على بني آدم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ عظم نعمه، و يعرفون غاية فضله و كرمه.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 27

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان شدّة عداوة الشّيطان لآدم و لذريّته و نهيه تعالى عن اتّباعه، أخذ في نصح بني آدم تأكيدا لنهيه السّابق بقوله: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطانُ و لا يغرّنّكم بتسويلاته، و لا يوقعنّكم في البليّة، بأن يمنعكم من دخول الجنّة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ آدم و حوّاء بإغوائه مِنَ اَلْجَنَّةِ بعدما كانا فيها، و عرفتم أنّه من شدّة عداوته لهما كان يَنْزِعُ و يسلب عَنْهُما بإيقاعهما في معصية واحدة لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما و يخزيهما عند الملائكة، مع أنّ اللّه أكرمهما بغاية الكرامة، فكيف أنتم! و لا تتوهّموا حيث لا ترونه أنّه بعيد منكم غافل عنكم (1)إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ بنفسه وَ قَبِيلُهُ و جنوده الّذين هم من نسله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ و من مكان لا تبصرونهم، و من المعلوم أنّ الحذر من عدوّ يراكم و لا ترونه أصعب، فكونوا منه على حذر عظيم.

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا اَلشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)عن مجاهد قال: قال الشّيطان: اعطينا أربع خصال: نرى، و لا نرى، و نخرج من تحت الثّرى، و يعود شيخنا فتى (2).

روي «أنّه يجري من ابن آدم مجرى الدّم» (3).

ثمّ أنّه تعالى أكّد النّهي عن اتّباعه و موالاته، و الأمر بالتحرّز عنه، بالتّنبيه على عدم المناسبة و السّنخيّة الموجبة للموالاة بينه و بين المؤمنين، بقوله: إِنّا جَعَلْنَا اَلشَّياطِينَ أَوْلِياءَ و أصدقاء لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بتوحيدنا، و رسالة رسلنا، و دار الجزاء، للتّسانخ بينهم في الخباثة و سوء الأخلاق، و التّناسب في الطّغيان و الخذلان، دون المؤمنين الذين لا يسانخونهم و لا يناسبونهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 28

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اَللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اَللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)

ص: 588


1- . زاد في النسخة: بأنكم لا ترونه.
2- . تفسير الرازي 14:54.
3- . تفسير روح البيان 3:150.

ثمّ شرع في قدح الّذين لا يؤمنون بتوحيده بقوله: وَ إِذا فَعَلُوا فعلة فاحِشَةً متناهية في القبح، كعبادة الأصنام و تحريم السّائبة و أخواتها، و الطّواف بالبيت عراة، و اعترض عليهم فيها قالُوا مستدلّين على صحّة عملهم من الفاحشة: إنّا وَجَدْنا مرتكبين لتلك الفاحشة مواظبين عَلَيْها آباءَنا و كبراءنا، و هم كانوا أعقل و أعلم، فعلينا أن نقلّدهم وَ اَللّهُ أَمَرَنا بِها .

و لمّا كان استدلالهم بتقليد آبائهم في غاية الفساد، لأنّه ظنّي، و الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا، أعرض سبحانه عن ردّه، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّ دليلهم الثاني بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: إِنَّ اَللّهَ حكيم في فعاله، عليم بمصالح عباده، و من الواضح أنّ اللّه الحكيم لا يَأْمُرُ عباده بِالْفَحْشاءِ و القبائح.

و قد ثبت بحكم العقول السّليمة، و بيان الرّسل أنّ هذه الأعمال من أقبح القبائح، فكيف يمكن أن يأمر اللّه بها، مع أنّكم لا ترون اللّه، و لا تسمعون كلامه، و لا تعترفون برسالة رسوله؟ فبأيّ دليل علمتم بأمره؟ ثمّ أنكر عليهم الدّعوى بقوله: أَ تَقُولُونَ و تفترون عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من أنّه أمركم بها.

عن الصادق عليه السّلام قال: «من زعم أنّ اللّه يأمر بالفحشاء فقد كذب على اللّه، و من زعم أنّ الخير و الشرّ إليه فقد كذب على اللّه» (1).

عن العبد الصالح عليه السّلام قال: «هل رأيت أحدا زعم أنّ اللّه أمر بالزّنا، و شرب الخمر، و شيء من هذه المحارم؟» فقيل: لا، قال: «ما هذه الفاحشة التي يدّعون أنّ اللّه أمرهم بها؟» قيل: اللّه أعلم و وليّه. فقال: «إنّ هذا في أئمّة الجور؛ ادّعوا أنّ اللّه أمرهم بالائتمام بقوم لم يأمرهم اللّه بالائتمام بهم، فردّ اللّه عليهم، فأخبر أنّهم قالوا على اللّه الكذب» (2).

أقول: لعلّ المراد أنّ الإنكار في الآية راجع إلى تقليد آبائهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 29

ثمّ بيّن اللّه ما أمر به من المحسّنات العقليّة بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين: أَمَرَ رَبِّي جميع النّاس بِالْقِسْطِ و العدل في الأمور، و التوسّط في المعاش من المأكل و المشرب و اللّباس و غيرها، و سائر ما تستحسنه العقول، عن ابن عبّاس: القسط هو قول: لا إله إلاّ اللّه (3)وَ أن أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ و استقبلوا بمقاديم أبدانكم إلى القبلة للدّعاء و العبادة عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ و في مكان

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

ص: 589


1- . تفسير العياشي 2:141/1558، تفسير الصافي 2:188.
2- . تفسير العياشي 2:140/1557، تفسير الصافي 2:188.
3- . تفسير الرازي 14:57.

للصلاة، أو في وقتها.

عن الصادق عليه السّلام: «المساجد محدثه، فامروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام» (1).

و عنه عليه السّلام: «عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني: الأئمّة» (2).

أقول: هذا تأويل، و الأوّل تفسير.

وَ اُدْعُوهُ و اعبدوه أيّها النّاس حال كونكم مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ و الطّاعة بصلاتكم و سائر عباداتكم، مبرّأين عن الشّرك فيها.

ثمّ هدّدهم على مخالفة أحكامه بقوله: كَما بَدَأَكُمْ اللّه و أنشأكم أوّلا تَعُودُونَ إليه بأن يحييكم بعد موتكم ثانيا، ليجازيكم على أعمالكم و خلوص نيّاتكم.

عن ابن عبّاس: كما بدأ خلقكم مؤمنا أو كافرا، تعودون فيبعث المؤمن مؤمنا و الكافر كافرا، فإنّ من خلقه اللّه في أوّل الأمر للشّقاوة، أعمله بعمل أهل الشّقاوة، و كانت عاقبته الشّقاوة، و إنّ [من]خلقه للسّعادة أعمله بعمل أهل السعادة، و كانت عاقبته السّعادة (3).

عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «خلقهم حين خلقهم مؤمنا و كافرا، و شقيّا و سعيدا، و كذلك يعودون يوم القيامة مهتد و ضالّ» (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 30

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ما أمر به من المحسّنات المسلّمة عند العقول، بيّن اختلاف النّاس في قبوله و ردّه بقوله: فَرِيقاً من النّاس هَدى هم اللّه إلى الصّواب، و وفّقهم بقبول أوامره بطيب طينتهم و قوّة عقولهم و حسن أخلاقهم وَ فَرِيقاً آخر منهم خذلهم بخبث طينتهم و ضعف عقولهم، و سوء أخلاقهم، و لذا حَقَّ و استقرّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلالَةُ عن الحقّ.

فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا اَلشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)ثمّ بيّن غاية ضلالتهم بقوله: إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا و اختاروا اَلشَّياطِينَ و مردة الجنّ و الإنس أَوْلِياءَ و أحبّاء متبوعين لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ الذي هو وليّهم الحقّ، فيخالفونه و يطيعونهم فيما أمروهم به وَ يَحْسَبُونَ مع ذلك إِنَّهُمُ في طاعتهم لهم مُهْتَدُونَ إلى الحقّ، و الحال أنّهم مخطئون ضالّون.

ص: 590


1- . التهذيب 2:43/136، تفسير الصافي 2:188.
2- . تفسير العياشي 2:141/1560، تفسير الصافي 2:188.
3- . تفسير الرازي 14:58.
4- . تفسير القمي 1:226، تفسير الصافي 2:188.

عن (العلل) : عنه عليه السّلام: «إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا اَلشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَللّهِ يعني: أئمّة دون أئمّة الحقّ» (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 31

ثمّ لمّا أمر اللّه تعالى بالقسط في جميع الأمور من المأكل و المشرب و اللّباس و غيرها، و بإقامة الصّلاة، رغّب عباده بالتزيّن في الصّلاة، و نهاهم عن الإسراف في المأكل و المشرب بقوله: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا و استصحبوا زِينَتَكُمْ و ثيابكم الجيّدة الطّاهرة، و سائر ما تتجمّلون به عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ و في وقت كلّ صلاة.

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ (31)

في استحباب

التزين و التمشيط

عند كلّ صلاة

عن الحسن بن علي عليه السّلام أنّه كان إذا قام إلى الصّلاة لبس أجود ثيابه، فقيل له في ذلك، فقال: «إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال، فأتجمّل لربّي» و قرأ الآية (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها للصّلاة في الجمعات و الأعياد» (3).

و القمّي قال: في العيدين و الجمعة يغتسل و يلبس ثيابا بيضا (4).

و عن الرضا عليه السّلام: «من ذلك التمشّط عند كلّ صلاة» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «تمشّطوا فإنّ التمشّط يجلب الرّزق، و يحسّن الشّعر، و ينجز الحاجة، و يزيد في ماء الصّلب، و يقطع البلغم» (6).

و قيل: إنّ المراد بالزّينة: مطلق اللّباس، و كان أهل الجاهلية من قبائل العرب يطوفون بالبيت عراة (7)، و كانوا يقولون: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذّنوب و دنسناها بها، فكان الرّجال يطوفون بالنّهار و النساء باللّيل عراة (8)، فأمرهم اللّه أن يلبسوا ثيابهم و لا يتعرّوا عند كلّ مسجد، سواء دخلوه للصّلاة أو للطّواف، و كانوا قبل ذلك يدعون ثيابهم وراء المسجد عند قصد الطواف (7).

عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية. قال: «الغسل عند لقاء الامام» (8).

ص: 591


1- . علل الشرائع:610/81 عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 2:189.
2- . تفسير العياشي 2:143/1571، تفسير الصافي 2:189.
3- . مجمع البيان 4:637، تفسير الصافي 2:189.
4- . تفسير القمي 1:229، تفسير الصافي 2:189.
5- . من لا يحضره الفقيه 1:75/319، تفسير الصافي 2:189.
6- . الخصال:268/3، تفسير الصافي 2:189. (7 و 8) . في النسخة: عريانا.
7- . تفسير روح البيان 3:153.
8- . تهذيب الأحكام 6:110/197، تفسير الصافي 2:190.

ثمّ قيل: كان من بدع المشركين أنّهم لا يأكلون في أيّام الحجّ إلاّ قوتا، و يعظّمون بذلك حجّهم، فهم المسلّمون به، فنزلت (1)وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا ممّا تشتهون من الطّعام و الشّراب وَ لا تُسْرِفُوا بالإفراط في الأكل و الشّرب، و إتلاف نعم اللّه، و بالتّعدّي إلى الحرام و تحريم الحلال إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ لإسرافهم، و لا ينظر إليهم نظر الرّحمة.

نقل أنّه كان لهارون الرّشيد طبيب نصراني، فقال لعلي بن حسين بن واقد: ليس في كتابكم شيء من علم الطبّ؟ فقال له: إنّ اللّه جمع الطبّ كلّه في نصف آية في كتابنا، قال: ما هي؟ قال: قوله تعالى: وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا، فقال النّصراني: و هل يؤثر عن رسولكم شيء من الطبّ؟ قال: نعم، جمع رسولنا صلّى اللّه عليه و آله الطبّ في ألفاظ يسيرة، قال: ما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الدّاء، و الحمية رأس كلّ دواء، و عوّدوا كلّ جسم ما اعتاده» ، فقال النّصراني: ما ترك كتابكم و لا نبيّكم لجالينوس شيئا (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كل ما شئت، و البس ما شئت، ما أخطأك خصلتان: السّرف و المخيلة (3).

عن الصادق عليه السّلام قال: «من سأل النّاس و عنده ما يقوته يوما فهو من المسرفين» (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 32

ثمّ لمّا طاف المسلمون كساة (5)، و أكلوا اللّحم و الدّسم في أيّام الحجّ، عيّرهم المشركون لأنّهم كانوا يطوفون عراة، و لا يأكلون اللّحم و الدّسم حال الإحرام، فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يردّهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: مَنْ الذي حَرَّمَ على النّاس زِينَةَ اَللّهِ من الألبسة الفاخرة اَلَّتِي أَخْرَجَ بقدرته و لطفه لِعِبادِهِ من الأرض و الحيوانات و المعادن؛ كالقطن و الكتّان و الحرير و الصّوف و الوبر و الدّروع و غيرها وَ اَلطَّيِّباتِ و المستلذّات مِنَ اَلرِّزْقِ كاللّحوم و الدّسوم و الألبان و غيرها.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)عن الصادق عليه السّلام: «بعث أمير المؤمنين عليه السّلام عبد اللّه بن عبّاس إلى ابن الكوّاء و أصحابه و عليه قميص رقيق و حلّة، فلمّا نظروا إليه قالوا: يا ابن عبّاس، أنت خيرنا في أنفسنا، و أنت تلبس هذا اللّباس! قال: هذا أوّل ما اخاصمكم فيه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ

ص: 592


1- . تفسير روح البيان 3:154.
2- . تفسير روح البيان 3:155، و فيه: لجالينوس طبا.
3- . تفسير روح البيان 3:155.
4- . تفسير العياشي 2:143/1570، تفسير الصافي 2:190.
5- . في النسخة: كاسيا.

اَلرِّزْقِ، و قال اللّه: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (1).

و عنه عليه السّلام، أنّه رآه سفيان الثّوري و عليه ثياب كثيرة القيمة حسان، فقال: و اللّه، لآتينّه و لاوبّخنّه، فدنا منه فقال: يابن رسول اللّه، ما لبس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا اللباس، و لا عليّ و لا أحد من آبائك؟ فقال [له]: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في زمان قتر مقتر، و كان يأخذ لقتره و إقتاره، و إنّ الدّنيا بعد ذلك أرخت عزاليها (2)، فأحقّ أهلها بها أبرارها-ثمّ تلا هذه الآية قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ الآية-فنحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه اللّه، غير أنّي يا ثوري، ما ترى عليّ من ثوب إنّما ألبسه للنّاس» .

ثمّ اجتذب يد سفيان فجرّها إليه، ثمّ رفع الثّوب الأعلى و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا، فقال: هذا لبسته لنفسي، و ما رأيته للنّاس. ثمّ جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظ خشن و داخل ذلك الثّوب ثوب ليّن، فقال: «لبست هذا الأعلى للنّاس، و لبست هذا لنفسك تسرّها» (3).

و عنه عليه السّلام، أنّه كان متكئا على بعض أصحابه، فلقيه عبّاد بن كثير و عليه ثياب مرويّة (4)حسان فقال: يا أبا عبد اللّه، إنّك من أهل بيت النّبوّة، و كان أبوك من كان (5)، فما هذه الثّياب المرويّة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثّياب؟ فقال له: «ويلك يا عبّاد مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ إنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن يراها عليه، ليس بها بأس، ويلك يا عبّاد، إنّما أنا بضعة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا تؤذني» . و كان عبّاد يلبس ثوبين من قطن (6).

و عنه عليه السّلام أنّه قيل له: أصلحك اللّه، ذكرت أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يلبس [الخشن، يلبس] القميص بأربعة دراهم و ما أشبه ذلك، و نرى عليك اللّباس الجيّد؟ فقال له: «[إنّ]عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، و لو لبس مثل ذلك اليوم لشهّر به، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله، غير أنّ قائمنا إذا قام لبس لباس عليّ عليه السّلام و سار بسيرته» (7).

ثمّ لمّا لم يكن للمشركين جواب عن السؤال الإنكاري غير السّكوت، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالجواب عن سؤال نفسه بقوله: قُلْ يا محمّد: ما حرّم اللّه الزّينة و الطّيّبات على أحد، بل هِيَ حلال لِلَّذِينَ آمَنُوا بالأصالة فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و للمشركين و الكفّار بتبعهم، و تكون للمؤمنين حال كونها خالِصَةً

ص: 593


1- . الكافي 6:441/6، تفسير الصافي 2:191.
2- . العزالي: جمع عزلاء، و هو مصبّ الماء من القربة و نحوها، و أرخت الدنيا عزاليها: بمعنى كثر نعيمها.
3- . الكافي 6:442/8، تفسير الصافي 2:191.
4- . نسبة إلى مرو، و هي بلدة بخراسان.
5- . في الكافي: و كان.
6- . الكافي 6:443/13، تفسير الصافي 2:192، و فيه: ثوبين قطريين.
7- . الكافي 6:444/15، تفسير الصافي 2:192.

و مختصّة [بهم]لا يشركهم فيها الكفّار يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و عالم الآخرة كَذلِكَ التّفصيل و التّبيين الواضح نُفَصِّلُ و نبيّن اَلْآياتِ الدالّة على المعارف و الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ حسن العرفان و الطّاعة دون غيرهم لعدم أهليّتهم للانتفاع بها.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 33

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال حرمة ما حرّم المشركون، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ببيان ما حرّم اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ على النّاس اَلْفَواحِشَ و القبائح التي بلغ قبحها النّهاية، سواء ما ظَهَرَ مِنْها كالزّنا المعلن به، و غيره من الكبائر وَ ما بَطَنَ و خفي كالزّنا في السرّ وَ اَلْإِثْمَ و ما توسّط في القبح كالصّغائر وَ اَلْبَغْيَ و الإضرار بالغير نفسا أو مالا بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و مجوّز له وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ في الوهيّته و عبادته شيئا لم يحكم العقل بجواز إشراكه و عبادته، و ما لَمْ يُنَزِّلْ اللّه بِهِ إليكم سُلْطاناً و برهانا.

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)عن الكاظم عليه السّلام: «أمّا اَلْفَواحِشَ فإنّها الزّنا، و أمّا قوله ما ظَهَرَ مِنْها يعني: الزّنا المعلن به و نصب الرّايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهليّة. و أمّا قوله: ما بَطَنَ يعني ما نكح من أزواج الآباء؛ لأنّ النّاس كانوا قبل أن يبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا كان للرّجل زوجة و مات عنها تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن امّه، فحرّم اللّه عزّ و جلّ ذلك. و أمّا اَلْإِثْمَ فإنّها الخمر بعينها، و قد قال اللّه عزّ و جلّ في موضع آخر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ (1). فأمّا اَلْإِثْمَ في كتاب اللّه فهي الخمر و الميسر (2)، و إثمهما كبير، و أمّا اَلْبَغْيَ فهو الزّنا سرا» (3).

أقول: في الرّواية ما لا يخفى من الخلل، و لا يبعد حملها على بيان أظهر المصاديق الشّائعة بين المشركين في زمان النّزول. نعم فسّر جمع من المفسّرين اَلْفَواحِشَ بخصوص الزّنا بدعوى انصراف الفاحشة في العرف إليه، و لقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً (4)، و ما ظَهَرَ بالزّنا العلانية، أو القبلة و الملامسة، و ما بَطَنَ بالسرّ منه، أو بالدّخول، و اَلْإِثْمَ، بخصوص الخمر و اَلْبَغْيَ بالكبر و الظّلم على الغير (5). و في الكلّ نظر.

ص: 594


1- . البقرة:2/219.
2- . زاد في تفسير العياشي: فهي النّرد.
3- . الكافي 6:406/1، تفسير العياشي 2:146/1580، تفسير الصافي 2:193.
4- . النساء:4/22.
5- . راجع: تفسير الرازي 14:65 و 66.

و على ما قلنا من عموم الفواحش و الإثم، يكون إفراد البغي بالذّكر مع دخوله في الأوّلين، للمبالغة في الزّجر عنه. و تقييد البغي بِغَيْرِ اَلْحَقِّ مع دخول القيد في مفهومه للتّأكيد. و تقييد الاشتراك ب ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً للتهكّم و للإشعار بعدم جواز الالتزام بشيء لا حجّة عليه.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ القرآن له ظهر و بطن، فجميع ما حرّم اللّه في القرآن هو الظّاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الجور، و جميع ما أحلّ اللّه في الكتاب هو الظاهر، و الباطن [من ذلك]أئمّة الحق» (1).

وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي تتقوّلوا و تفتروا.

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: ما حجّة اللّه على العباد؟ فقال: «أن يقولوا ما يعلمون، و يقفوا عند ما لا يعلمون» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في وصيّته لابنه محمّد بن الحنفية: «يا بني، لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كلّ ما تعلم» (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 34

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى معظم محرّماته، أو بعضها بنحو العموم و الإجمال و بعضها بنحو التّفصيل، هدّد النّاس على مخالفتها بقوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الامم و طائفة من الطوائف أَجَلٌ و أمد معيّن في علم اللّه و اللّوح المحفوظ، يعيشون فيه و يمهلون إلى انقضائه بمقتضى الحكمة البالغة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ و انقضت مدّة عيشهم و مهلتهم في الدّنيا، أتاهم الموت أو عذاب الاستئصال، إذا لا يَسْتَأْخِرُونَ و لا يمهلون ساعَةً و زمانا قليلا وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ و لا يعجلون، و لو كانوا طالبين للتّأخير و التّقديم، مشتاقين إليهما. فاستنهضوا الفرصة و لا تأمنوا مكر اللّه و بأسه.

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)عن ابن عبّاس: أنّ معنى الآية أنّ اللّه أمهل كلّ امّة كذّبت رسولها إلى وقت معيّن، و هو تعالى لا يعذّبهم إلى أن ينظروا ذلك الوقت الذي يصيرون فيه مستحقّين لعذاب الاستئصال، فإذا جاء ذلك الوقت نزل ذلك العذاب لا محالة (4).

عن الصادق عليه السّلام: «هو الذي سمّي لملك الموت في ليلة القدر» (5).

و عنه عليه السّلام: «تعدّ السّنين، ثمّ تعدّ الشّهور، ثمّ تعدّ الأيام، ثمّ تعدّ الأنفاس، فإذا جاء أجلهم لا

ص: 595


1- . تفسير العياشي 2:145/1578، الكافي 1:305/10، تفسير الصافي 2:194.
2- . التوحيد:459/27، تفسير الصافي 2:194.
3- . من لا يحضره الفقيه 2:381/1627، تفسير الصافي 2:194.
4- . تفسير الرازي 14:67.
5- . تفسير العياشي 2:147/1581، و لم يرد فيه: في ليلة القدر، تفسير الصافي 2:194.

يستأخرون ساعة و لا يستقدمون» (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 35 الی 36

ثمّ بعد بيان المحرّمات و التّهديد على مخالفتها، بيّن اللّه تعالى وجوب متابعة الرّسل، و وعدهم بالثّواب على طاعتهم و العقاب على تكذيبهم و مخالفتهم بقوله: يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ و إذا جاءكم من قبلي رُسُلٌ مِنْكُمْ جنسا؛ ليكون إرشادهم أقطع للعذر، و أبين للحجّة، و هم يَقُصُّونَ و يتلون عَلَيْكُمْ آياتِي من الكتب السّماويّة و دلائل التّوحيد، و يبيّنون أحكام شريعتي فَمَنِ اِتَّقى مخالفتي في الإيمان بهم و مخالفتهم في أحكامهم وَ أَصْلَحَ عقائده و أخلاقه و أعماله بامتثاله أوامرهم، و انتهائه عمّا نهوا عنه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بوجه من الوجوه ممّا يصيب العصاة من عذاب الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أبدا على ما فاتهم من الدّنيا، لاستغراقهم في اللّذّات الروحانيّة في الدّنيا، و النّعم التي أعدّها اللّه للمتّقين في الآخرة.

يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اِتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدّالّة على توحيدي و رسالة رسلي وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها و ترفّعوا عن الإيمان بها، و تجافوا عن قبولها تعظّما أُولئِكَ البعيدون عن رحمتي أَصْحابُ اَلنّارِ و ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا، لا خلاص لهم منها و لا مناص.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 37 الی 39

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ اَلْكِتابِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ فِي اَلنّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتّى إِذَا اِدّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

ص: 596


1- . الكافي 3:262/44، تفسير الصافي 2:194.

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّ المكذّبين للرّسل، و المفترين على اللّه بالبدع و الأحكام الفاسدة الباطلة بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ على نفسه، و أخسر في تجارته مِمَّنِ اِفْتَرى و تقوّل عَلَى اَللّهِ قولا كَذِباً و نسب إليه حكما باطلا، كحرمة البحيرة و أخواتها أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ و أنكر دلائله الدالّة على توحيده في الالوهيّة و العبادة و العظمة، و رسالة رسله، و دار جزائه.

أُولئِكَ البالغون في الظّلم غايته يَنالُهُمْ و يصل إليهم نَصِيبُهُمْ مِنَ الشّقاوة كما عن ابن عبّاس (1)، أو من العقوبات كما عن القمّي (2)، أو من الأرزاق و الأعمار و الحظوظ الدّنيويّة المكتوبة لهم في اَلْكِتابِ و لوح القضاء.

حَتّى إِذا جاءَتْهُمْ و نزلت عليهم رُسُلُنا و المبعوثون من قبلنا من الملائكة الموكّلين بقبض الأرواح، لأجل أنّهم يَتَوَفَّوْنَهُمْ و يقبضون أرواحهم، إذن قالُوا لهم توبيخا و تقريعا: أَيْنَ ما كُنْتُمْ في حياتكم تَدْعُونَ و تعبدونه مِنْ دُونِ اَللّهِ و بدلا منه، من الأصنام و الكواكب و غيرها، و ترجون نفعه لكم عند الشّدائد؟ فادعوهم الآن لينجوكم من أيدينا قالُوا في جوابهم تحسّرا و تندّما: إنّهم قد ضَلُّوا و غابوا عَنّا و لا ينفعوننا اليوم وَ شَهِدُوا و اعترفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الخبيثة أَنَّهُمْ كانُوا في الدّنيا كافِرِينَ باللّه، عابدين لما لا يستحقّ العبادة.

قيل: هذا بيان سوء حالهم في القيامة، و المراد من (الرّسل) ملائكة العذاب، و من (التّوفية) جمعهم و استكمال عدّتهم للحشر إلى النّار، حتّى لا ينفلت منهم أحد (3)إذن قالَ اللّه تعالى، أو خازن النّار: اُدْخُلُوا أيّها المشركون اليوم فِي زمرة أُمَمٍ و جماعات مشركين قَدْ خَلَتْ و مضت تلك الامم في الأزمنة التي كانت مِنْ قَبْلِكُمْ في الدّنيا و هم كانوا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ جنسا فِي اَلنّارِ فيدخلونها فوجا بعد فوج، و امّة بعد امّة.

فلمّا رأوا سوء عاقبة الشّرك كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ منهم في النّار لَعَنَتْ تلك الامّة أُخْتَها و شريكتها في الكفر و الضّلال، و تبرّأت من الجماعة الموافقة لها في الشّرك، فهم يكونون على تلك الحالة حَتّى إِذَا اِدّارَكُوا و تلاحقوا في النّار و اجتمعوا فِيها جَمِيعاً و كافّة قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا و أدناهم منزلة، و هم الأتباع و السّفلة، تخفيفا للعذاب عن أنفسهم، و ازديادا لِأُولاهُمْ دخولا و أعلاهم منزلة في الدّنيا من الرّؤساء و القادة: رَبَّنا هؤُلاءِ الرّؤساء و الكبراء أَضَلُّونا عن الدّين الحقّ، بأن سنّوا لنا سنّة سيّئة فاقتدينا بهم، فَآتِهِمْ و أنزل بهم عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا مِنْ

ص: 597


1- . تفسير الرازي 14:71.
2- . تفسير القمي 1:230، تفسير الصافي 2:195.
3- . تفسير الرازي 14:71.

اَلنّارِ حيث إنّهم ضلّوا بأنفسهم عن الحقّ، و أضلّوا أتباعهم قالَ اللّه تعالى أو خازن جهنّم: لِكُلٍّ من المتبوع و التّابع منكم عذاب ضِعْفٌ أمّا الرّؤساء فبضلالهم و إضلالهم، و أمّا الأتباع فبكفرهم و تقليدهم وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ قدره و شدّته لكلّ فريق.

وَ قالَتْ أُولاهُمْ و قادتهم مخاطبين لِأُخْراهُمْ و أتباعهم بعد استماعهم جواب اللّه أو الخازن: فَما كانَ لَكُمْ أيّها الأتباع إذن عَلَيْنا شيء مِنْ فَضْلٍ و مزيّة بخفّة عذابكم و شدّة عذابنا، بل كلّنا متساوون في العذاب قدرا و شدّة، لأنّا ما ألجأناكم إلى الكفر، بل اتّبعتم هوى أنفسكم كما اتّبعنا فَذُوقُوا اَلْعَذابَ و اطعموا طعمه بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ لأنفسكم من الكفر و العصيان.

عن القمّي: قالوا ذلك شماتة بهم (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 40

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد المشركين و المكذّبين للرّسل بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالّة على التّوحيد و الرّسالة و البعث وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها و امتنعوا ترفّعا عن الإقرار بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ اَلسَّماءِ حتّى ترفع إليها أدعيتهم و أعمالهم في حياتهم، و أرواحهم بعد موتهم.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ اَلسَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُجْرِمِينَ (40)عن الباقر عليه السّلام: «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم و أرواحهم إلى السّماء فتفتح لهم أبوابها، و أمّا الكافر فيصعد بعمله و روحه، حتّى إذا بلغ السّماء نادى مناد: اهبطوا إلى سجّين؛ و هو واد بحضرموت يقال له برهوت» (2).

و روي أنّ روح المؤمن يعرج بها إلى السّماء، فيستفتح لها فيقال: مرحبا بالنّفس الطيّبة التي كانت في الجسد الطّيب، و يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السّابعة، و يستفتح لروح الكافر فيقال لها: ارجعي ذميمة (3)، فإنّه لا تفتح لك أبواب السّماء.

وَ لا يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ في الآخرة أبدا حَتّى يَلِجَ و يدخل اَلْجَمَلُ مع عظم جثّته فِي سَمِّ اَلْخِياطِ و ثقب الإبرة، و هذا محال، فدخول الكافر في الجنّة أيضا محال وَ كَذلِكَ الحرمان من الجنّة نَجْزِي فرق اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة.

ص: 598


1- . تفسير القمي 1:230، تفسير الصافي 2:196.
2- . مجمع البيان 4:646، تفسير الصافي 2:196.
3- . تفسير روح البيان 3:160.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 41 الی 42

ثمّ بيّن شدّة عذابهم بقوله: لَهُمْ مِنْ نار جَهَنَّمَ مِهادٌ و فراش يقعدون و يضطجعون عليه وَ مِنْ فَوْقِهِمْ و على أجسادهم غَواشٍ و أغطية من النّار فيحيط بهم العذاب من كلّ جانب وَ كَذلِكَ الجزاء الفظيع و العذاب الشديد نَجْزِي القوم اَلظّالِمِينَ على أنفسهم (1)باختيار الشّرك و معارضة الأنبياء.

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلظّالِمِينَ (41) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42)

ثمّ أنّه تعالى على دأبه في الكتاب العظيم بعد وعيد الكفّار، شرع في وعد المؤمنين بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله، وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ، و واظبوا على الحسنات و ترك السيّئات بمقدار وسعة بحيث لا يشقّ عليهم (2)، فإنّا لا نُكَلِّفُ نَفْساً من النّفوس إِلاّ تكليفا يكون امتثاله و القيام به وُسْعَها و دون طاقتها، بحيث لا يكون حرج عليها، أُولئِكَ العباد المطيعون أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ و ملازمو النّعمة هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا زوال لنعمهم و لا نفاد.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 43

ثمّ بعدما بشّرهم ربّهم بطيب المسكن و دوام النّعمة، بشّرهم بفراغ القلب من الآلام الرّوحانيّة، و صفاء المنظر بقوله: وَ نَزَعْنا و سلبنا ما فِي صُدُورِهِمْ و قلوبهم مِنْ غِلٍّ و حقد كان لهم على المؤمنين في الدّنيا، و حسد على ما أتى الكمّلين في الآخرة من فضله و إحسانه، فلا يكون بينهم إلاّ التّوادد و التّحابب، فهم إخوان على سرر متقابلين، كما لا يكون بين الكفّار في جهنّم إلاّ التّباغض و التّنافر بحيث يلعن بعضهم بعضا.

وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهارُ وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اَللّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «العداوة تنزع منهم» ، أي من المؤمنين في الجنّة (3).

و أمّا صفاء منظرهم بأنّه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ و أسفل قصورهم اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة، و قيل: إنّ جريان الأنهار كناية عن المكاشفات و الفيوضات الرّوحانيّة وَ قالُوا بعد مشاهدة منازلهم

ص: 599


1- . كذا، و الظاهر: الظالمين أنفسهم.
2- . في النسخة: عليه.
3- . تفسير القمي 1:231، تفسير الصافي 2:197.

و كثرة فضل اللّه عليهم: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا بفضله إلى معرفته، و أرشدنا بتوسّط رسوله لهذا الدّين القويم، و أوصلنا بتوفيقه لِهذا الجزاء العظيم وَ ما كُنّا في الدّنيا لِنَهْتَدِيَ بعقولنا و سعينا لَوْ لا أَنْ هَدانَا اَللّهُ بلطفه إليه.

عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «إذا كان يوم القيامة دعي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده عليهم السّلام فينصبون للنّاس، فإذا رأتهم شيعتهم قالوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا لِهذا الآية، يعني: هدانا إلى ولاية أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده عليهم السّلام» (1).

ثمّ يذكرون علّة انتساب هدايتهم إلى اللّه بقوله: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا من جانب اللّه بِالْحَقِّ و الدّين الصّدق، أو بالمعجزات و دلائل الصّدق، فاهتدينا بإرشادهم، و صدّقناهم و اتّبعناهم بتوفيقه. و إنّما يقولون ذلك نشاطا و سرورا بإنجاز ما وعدهم اللّه على لسان رسله، و فرحا بانقلاب يقينهم البرهاني باليقين الشّهودي وَ نُودُوا من قبل اللّه عند رؤيتهم الجنّة، أو بعد استقرارهم فيها إظهارا للمنّة عليهم: أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ التي وعد المتّقون و أنتم أُورِثْتُمُوها و ملّكتموها بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ لطاعة اللّه و مرضاته، فادخلوها، أو أقيموا فيها خالدين.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من أحد إلاّ و له منزل في الجنّة و منزل في النّار، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله في النّار، و المؤمن يرث الكافر منزله في الجنّة، فذلك قوله: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ليس من كافر و لا مؤمن إلاّ و له في الجنّة و النّار منزل، فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النّار النّار، رفعت الجنّة لأهل النّار، فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل: لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة اللّه، ثمّ يقال لأهل الجنّة: رثوهم (3)بما كنتم تعملون، فيقسّم بين أهل الجنّة منازلهم» (4).

و عن الصادق عليه السّلام (5)، في هذه الآية: «أنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان؛ فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ، و هو الشّراب الطّهور، و اغتسلوا من الاخرى فجرت عليهم نضرة النّعيم، فلم يشعثوا و لم يشحبوا، و يبشّرهم خزنة الجنّة قبل أن يدخلوها بأن يقولوا لهم: أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فإذا دخلوا فيها قالوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا الآية» (6).

و في الخبر: «يقال لهم: جوزوا الصّراط بعفوي، و ادخلوا الجنّة برحمتي، و اقتسموها بأعمالكم» (7).

ص: 600


1- . الكافي 1:346/33، تفسير الصافي 2:197.
2- . مجمع البيان 4:649، تفسير الصافي 2:197.
3- . رثوهم: فعل أمر من ورث يرث.
4- . تفسير الرازي 14:82.
5- . في روح البيان: عن السدّي.
6- . تفسير روح البيان 3:163.
7- . تفسير روح البيان 3:163.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 44

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى وعيد الكفّار بالنّار و وعد المؤمنين بالجنّة، ذكر مخاطبة المؤمنين للكفّار بقوله: وَ نادى أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ بعد استقرارهم فيها، و إشرافهم على جهنّم فرحا بما هم فيه من النّعم أَصْحابَ اَلنّارِ المنكرين للتّوحيد و الرّسالة و الحشر، توبيخا و شماتة لهم: أَنْ قَدْ وَجَدْنا و شهدنا بالعيان ما وَعَدَنا رَبُّنا في الدّنيا بلسان رسوله من الثّواب و الكرامة على الإيمان و الطاعة حَقًّا و صدقا فَهَلْ وَجَدْتُمْ اليوم، و شاهدتم أيّها المكذبون ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العقاب الشّديد على الكفر به و عصيانه و تكذيب رسله حَقًّا؟ و إنّما لم يقل سبحانه: (ما وعدكم ربكم) إشعارا بعدم قابليّتهم لأن يكونوا طرفا لوعد اللّه و توجّهه قالُوا و هم في النّار تحسّرا و تندّما: نَعَمْ وجدنا جميع ما وعده حقّا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ من قبل ربّ العزّة بَيْنَهُمْ و في وسطهم، أو من بينهم أذانا يسمع الخلائق-كما عن القمّي (1)- أَنْ لَعْنَةُ اَللّهِ و عذابه ثابت أو مستقرّ عَلَى الكفارين اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

وَ نادى أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحابَ اَلنّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ (44)عن الكاظم و الرضا عليهما السّلام: «المؤذّن أمير المؤمنين عليه السّلام» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنا ذلك المؤذّن» (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 45

ثمّ ذمّ اللّه الظّالمين بقوله: اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ النّاس عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و دين الإسلام، و يمنعونهم عن قبوله بالقهر أو التّطميع أو غيرهما من الحيل وَ يَبْغُونَها عِوَجاً و يطلبون فيها ميلا و انحرفا عمّا هي عليه من الاستقامة، بإلقاء الشّكوك و الشّبهات فيها و في دلائل صحّتها وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و دار الجزاء كافِرُونَ جاحدون. و فيه إشعار بعلّة ما سبق من سوء أعمالهم.

اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 46 الی 47

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ اَلنّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (47)

ص: 601


1- . تفسير القمي 1:231، تفسير الصافي 2:197.
2- . تفسير العياشي 2:147/1583، الكافي 1:352/70، تفسير القمي 1:231، تفسير الصافي 2:197.
3- . مجمع البيان 4:651، تفسير الصافي 2:198.

ثمّ لمّا حكى اللّه تعالى مخاطبة أهل الجنّة لأهل النّار، و كان مجال توهّم القرب بينهما، و تلذّذ أهل النّار برائحة الجنّة و نعمها، و تأذّي أهل الجنّة من نتن الجحيم و حرّها، دفع التوهّم بقوله: وَ بَيْنَهُما حِجابٌ و سور كسور المدينة وَ عَلَى اَلْأَعْرافِ و أعالي ذلك السّور-كما عن ابن عبّاس (1)-أو المأمورون على تعريف الفريقين رِجالٌ من أشراف أهل الإيمان و الطّاعة قيل: هم الأنبياء يجلسهم اللّه على أعالي ذلك السّور تميّزا لهم عن سائر أهل القيامة، و إظهارا لشرفهم و علوّ مرتبتهم، و ليكونوا مشرفين على أهل الجنّة و النّار، مطّلعين على أحوالهم و مقدار ثوابهم و عقابهم (2)، و قيل: هم الشّهداء (3)يَعْرِفُونَ كُلاًّ من أهل الجنّة و النّار بِسِيماهُمْ و علامتهم التي أعلمهم اللّه بها.

في معنى الأعراف

و المراد من

أصحابه

عن الصادق عليه السّلام: «الأعراف: كثبان (1)بين الجنّة و النّار، و الرجال: الأئمّة» (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النّار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النّار» (6).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية: «نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف الّذين لا يعرف اللّه عزّ و جلّ إلاّ بسبيل معرفتنا، و نحن الأعراف يوقفنا اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة على الصّراط، فلا يدخل الجنّة إلاّ من عرفنا و عرفناه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكرنا و أنكرناه» (2).

و عن سلمان رضى اللّه عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعليّ عليه السّلام أكثر من عشر مرات: «يا عليّ، إنّك و الأوصياء من بعدك أعراف بين الجنّة و النّار، و لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفكم و عرفتموه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكركم و أنكرتموه» (3). إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة بهذا المضمون، أو ما يقرب منه.

و في بعضها: «الرّجال هم الأئمّة من آل محمّد، و الأعراف صراط بين الجنّة و النّار» (4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن أصحاب الأعراف، فقال: «إنّهم قوم استوت حسناتهم و سيّئاتهم، فقصرت بهم الأعمال» . الخبر (5).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنهم، فقال: «قوم استوت حسناتهم و سيّئاتهم، فإن أدخلهم النّار

ص: 602


1- . الكثبان، جمع الكثيب: هو الرمل المجتمع المحدودب. (5 و 6) . مجمع البيان 4:653، تفسير الصافي 2:198.
2- . الكافي 1:141/9، تفسير الصافي 2:198.
3- . تفسير العياشي 2:148/1586، تفسير الصافي 2:199.
4- . بصائر الدرجات:516/5، تفسير الصافي 2:199.
5- . تفسير الصافي 2:199.

فبذنوبهم، و إن أدخلهم الجنّة فبرحمته» (1). و عليه جمع من مفسّري العامّة (2).

و يجمع بين الرّوايات ما في (الجوامع) عن الصادق عليه السّلام قال: «الأعراف كثبان بين الجنّة و النّار، يوقف عليها كلّ نبيّ و كلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضّعفاء من جنده، و قد سيق المحسنون إلى الجنّة» . الخبر (3).

ففيه الدّلالة على أنّ الرّجال الّذين على الأعراف أشراف المؤمنين، و أسفلهم الّذين استوت حسناتهم و سيّئاتهم.

وَ نادَوْا أولئك السّفلة (4)أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ و المحسنين الّذين سبقوهم إليها، إذا عاينوهم يدخلونها و هم بعد واقفون منتظرون للشّفاعة: أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ عن الصادق عليه السّلام، في الرّواية السّابقة: «فيقول الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا (5)إلى الجنّة، فيسلّم عليهم المذنبون، و ذلك قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (6). الخبر لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ أن يدخلهم اللّه أيّاها بشفاعة النبيّ و الإمام.

وَ إِذا صُرِفَتْ و وقعت أَبْصارُهُمْ -حال كونهم على الأعراف تِلْقاءَ أَصْحابِ اَلنّارِ و مقابلهم-عليهم قالُوا تضرّعا إلى اللّه و تعوّذا به: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا في النّار مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ .

عن الصادق عليه السّلام، في الرّواية السّابقة: «و ينظر هؤلاء إلى أصحاب النّار فيقولون: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا . الخبر (7).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 48 الی 49

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى إشراف أشراف المؤمنين الّذين هم على الأعراف، حكى توبيخهم أصحاب النّار، و شماتتهم بهم إلتذاذا لأنفسهم، و ازديادا لعذاب هؤلاء الكفرة بقوله: وَ نادى أَصْحابُ

وَ نادى أَصْحابُ اَلْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اَللّهُ بِرَحْمَةٍ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

ص: 603


1- . الكافي 2:282/1، تفسير الصافي 2:200.
2- . تفسير الرازي 14:88.
3- . جوامع الجامع:146، تفسير الصافي 2:200.
4- . السفلة: نقيض العلوة، سفلة الناس أو سفلتهم: أسافلهم.
5- . في جوامع الجامع: سبقوا.
6- . جوامع الجامع:146، تفسير الصافي 2:201.
7- . جوامع الجامع:146، تفسير الصافي 2:201.

اَلْأَعْرافِ الّذين هم أشراف المؤمنين رِجالاً من رؤساء الكفار الّذين كانوا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ تقريعا و توبيخا، و قالُوا : لقد شاهدتم أيّها الرّؤساء أنّه ما أَغْنى و لم يكف في دفع العذاب عَنْكُمْ اليوم جَمْعُكُمْ الأعوان و الأتباع و الأموال في الدّنيا وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ به من النّسب و الجاه، على الأنبياء و الأولياء و الفقراء من المؤمنين.

و قيل: إن كلمة (ما) في ما أَغْنى استفهاميّة، و (ما) في ما كُنْتُمْ مصدريّة (1).

ثمّ بالغوا في تقريعهم و توبيخهم بقولهم، مشيرين إلى فقراء المؤمنين: أَ هؤُلاءِ الفقراء الضّعفاء اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ و حلفتم على أنّه لا يَنالُهُمُ اَللّهُ و لا يصيبهم بِرَحْمَةٍ منه و فضل أبدا؟ ثمّ يلتفتون إلى فقراء المؤمنين و يقولون لهم: اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ على رغم هؤلاء الرّؤساء المتكبّرين عليكم لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ حين يخاف الكفرة المتكبّرون وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ حين يحزن هؤلاء.

و عن الصادق عليه السّلام، في الحديث السّابق: «و ينادي أصحاب الأعراف-و هم الأنبياء و الخلفاء-رجالا من أهل النّار و رؤساء الكفّار، يقولون لهم مقرّعين: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ و استكباركم، أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اَللّهُ بِرَحْمَةٍ، إشارة لهم إلى أهل الجنّة الّذين كان الرّؤساء يستضعفونهم و يحقّرونهم لفقرهم، و يستطيلون عليهم بدنياهم، و يقسمون أنّ [اللّه]لا يدخلهم الجنّة اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين، عن أمر من أمر اللّه عزّ و جلّ لهم بذلك: اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي لا خائفين و لا محزونين» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 50

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مخاطبة أهل الجنّة و أصحاب الأعراف لأصحاب النّار، حكى مخاطبة أهل النّار لهم بقوله: وَ نادى أَصْحابُ اَلنّارِ بعد استقرارهم فيها أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ بعد استغراقهم في نعمها: أَنْ أَفِيضُوا و صبّوا أيّها المؤمنون عَلَيْنا شيئا قليلا مِنَ اَلْماءِ البارد أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ و أنعم عليكم بفضله من سائر الأشربة، أو منها و من الفواكه و الأطعمة ليخفّف عنّا به حرّ النّار، أو العطش و الجوع.

وَ نادى أَصْحابُ اَلنّارِ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ قالُوا إِنَّ اَللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى اَلْكافِرِينَ (50)عن ابن عبّاس: لمّا صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النّار بفرج بعد اليأس (3).

ص: 604


1- . تفسير روح البيان 3:169.
2- . جوامع الجامع:146، تفسير الصافي 2:201.
3- . تفسير الرازي 14:92.

و قيل: إنّ أهل النّار لمّا بقوا فيها جياعا عطاشا قالوا: يا ربّنا، إنّ لنا قرابات في الجنّة فأذن لنا حتّى نراهم و نكلّمهم، فأمر اللّه الجنّة فتزحزحت (1)فيؤذن في ذلك، فينظرون إلى قراباتهم في الجنّة، و إلى ما هم فيه من أنواع النّعيم، فيعرفونهم و لا يعرفهم أهل الجنّة لسواد وجوههم، فينادون قراباتهم من أهل الجنّة بعد إخبارهم بقرابتهم و يقولون: أَفِيضُوا عَلَيْنا (2).

و قيل: إنّ المراد من (ما رَزَقَكُمُ اَللّهُ) الأطعمة و الفواكه (3).

عن الصادق عليه السّلام: «يوم التّناد يوم ينادي أهل النّار أهل الجنّة: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ» (4).

عن أحدهما عليه السّلام قال: «إنّ أهل النّار يموتون عطاشا، و يدخلون قبورهم عطاشا، و يدخلون جهنّم عطاشا، فيرفع لهم قراباتهم من أهل الجنّة، فيقولون: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ» (5).

روي أنّه لا يؤذن لأهل الجنّة في الجواب أربعين سنة (6).

ثمّ يؤذن لهم في جوابهم، كما حكى اللّه تعالى بقوله: قالُوا في جوابهم: أَنْ شراب الجنّة و طعامها ممنوعان منكم؛ لأنّ اَللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى اَلْكافِرِينَ بأنّكم أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا و أستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تكفرون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 51

ثمّ شرع اللّه تعالى في ذمّ الكفّار و قدحهم بأشنع ذمائمهم و صفاتهم، و تهديدهم بأشدّ العذاب بقوله: اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و جعلوا دِينَهُمْ الذي أمرهم اللّه بالتديّن به، و هو دين الإسلام لَهْواً و بطرا وَ لَعِباً و عبثا، حيث إنّهم يحرّمون ما شاءوا، و يحلّون ما شاءوا، و لا يتّبعون أحكام اللّه، بل يتّبعون هوى أنفسهم التي زيّنها الشّيطان لهم، قيل: كان دينهم دين إسماعيل فغيّروه بهواهم. و قيل: إنّ المراد: أنّهم اتّخذوا اللّهو و اللّعب دينا لأنفسهم. و عن ابن عبّاس: يريد المستهزئين المقتسمين (7).

اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)وَ غَرَّتْهُمُ و شغلتهم اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و لذّاتها و زخارفها عن ذكر اللّه، و التدبّر في آياته و دلائل توحيده، و التفكّر في عواقبهم، فصار همّهم في تحصيل الجاه و المال و سائر المشتهيات فَالْيَوْمَ

ص: 605


1- . في النسخة: فتزخرفت.
2- . تفسير الرازي 14:92.
3- . تفسير الرازي 14:93.
4- . تفسير العياشي 2:150/1592، تفسير الصافي 2:202.
5- . تفسير العياشي 2:149/1591، تفسير الصافي 2:202.
6- . تفسير روح البيان 3:171.
7- . تفسير الرازي 14:93.

نَنْساهُمْ و لا نعتني بهم، و لا نلتفت إليهم، كما لا يلتفت الناسي إلى المنسي، أو نتركهم في النار أبدا كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا و لم يلتفتوا إليه، و لم يعتنوا بما ينفعهم فيه، و لم يستعدوا له.

عن أمير المؤمنين عليه السلام: «يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به و برسله، و خافوه في الغيب، و قد يقول العرب في باب النسيان: قد نسينا فلان فلا يذكرنا، أي أنه لا يأمر لهم بخير و لا يذكرهم به» (1).

و عن الرضا عليه السلام: «أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا، و قال: إنما يجازي من نسيه و نسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم، كما قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» (2).

وَ مثل ما كانُوا في الدنيا بِآياتِنا و دلائل توحيدنا، و رسالة رسلنا يَجْحَدُونَ و إياها ينكرون عنادا و استكبارا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 52

ثم أنه تعالى بعد شرح أحوال الكفار و المؤمنين في القيامة ببيان معجز، أعلن بانقطاع عذر الكفار في ترك الإيمان بالنبوة و الكتاب بقوله: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ عظيم الشأن فَصَّلْناهُ و شرحنا ما فيه من المعارف و الأحكام و المواعظ، و غيرها من العلوم واحدا بعد واحد مبنيا عَلى عِلْمٍ كامل منا بتفاصيله و و اقعيات الأمور، و منافع ما فيه، ليكون ذلك الكتاب هُدىً و رشادا إلى الحق، و سعادة الدنيا و الآخرة وَ رَحْمَةً و نعمة تامة و فضلا عظيما لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به، المصدقين بأنه من الله، فإنهم المنتفعون و المتدبرون في آياته، المقتبسون من أنواره.

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 53

ثم و بخهم الله على ترك الإيمان مع انقطاع عذرهم فيه بقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ و يتوقعون شيئا آخر بعد هذا القرآن يكون باعثا لهم على الإيمان بالله و برسوله و اليوم الآخر، مع أنه ليس شيء أبعث من

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

ص: 606


1- . التوحيد:259/5، تفسير الصافي 2:202.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السلام 1:125/18، تفسير الصافي 2:202، و الآية من سورة الحشر:59/19.

هذا الكتاب إِلاّ تَأْوِيلَهُ و و قوع ما هددوا به فيه، من عذاب الاستئصال في الدنيا، أو مجيء يوم القيامة يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ كفروا به و نَسُوهُ و تركوا العمل بما فيه مِنْ قَبْلُ و في دار الدنيا إيمانا و اعترأ فا بصدق الرسل: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا لهدايتنا بِالْحَقِّ و الدين القويم، أو بالمعجزات الباهرات. فلما رأوا أنه لا ينفعهم إيمانهم، و لا مخلص لهم من العذاب، قالوا تمنيا و تحسرا: فَهَلْ لَنا اليوم مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا و يدفعوا بشفاعتهم العذاب عنا؟ أَوْ نُرَدُّ و نرجع إلى الدنيا فَنَعْمَلَ فيها عملا غَيْرَ العمل اَلَّذِي كُنّا نَعْمَلُ و نتدين بدين غير الذي كنا نتدين به، فإنه لا يمكن الخلاص إلا بأحد هذين الأمرين.

ثم نبه الله سبحانه على امتناع مطلوبهم و مأمولاهم بقوله: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم التي كانت بمنزلة رأس ما لهم، في الكفر و العصيان وَ ضَلَّ و غاب أو فآت عَنْهُمْ منافع ما كانُوا يَفْتَرُونَ على الله أن يقبل شفاعته من الأصنام، و ظهر لهم بطلان الأديان التي كانوا ينصرونها.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 54

ثم لما كان الاعتقاد بالمعاد متوقفا على معرفة الله بالوحدانية و كمال القدرة و العلم، عرف ذاته المقدسة بتلك الصفات بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ هو اَللّهُ اَلَّذِي بقدرته الكاملة خَلَقَ اَلسَّماواتِ السبع بما فيها من الكواكب و غيرها وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ عن القمي رحمه الله: في ستة أوقات (1).

إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبارَكَ اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (54)عن الصادق عليه السلام: «أن الله خلق الخير يوم الأحد، و ما كان ليخلق الشر قبل الخير، و في الأحد و الاثنين خلق الأرضين، و خلق أقواتها يوم الثلاثاء، و خلق السماوات يوم الأربعاء و يوم الخميس، و خلق أقواتها يوم الجمعة» (2). الخبر.

أقول: الظاهر أن المراد من الأيام في الروآية: الأوقات التي لو كانت الشمس -التي بطلوعها و غروبها توجد الأيام و تتعدد-موجودة لكانت تلك الأوقات [هي]تلك الأيام. و أما تقدير الأوقات فيحتمل أنه كان إما بنسبة كل موجود إلى الآخر، و إما بالنسبة إلى حركة فلك الأفلاك. و إرادة غيره من قوله خَلَقَ اَلسَّماواتِ .

و قيل: إن الله خلق الموجودات تدريجا، ليعلم العباد التأني في الأمور.

ص: 607


1- . تفسير القمي 1:236، تفسير الصافي 2:203.
2- . الكافي 8:145/117، تفسير الصافي 2:203.

عن أمير المؤمنين عليه السلام: «و لو شاء أن يخلقها في أقل من لمح البصر لخلق، و لكنه جعل الأناة و المداراة مثالا لا منائه، و إيجابا للحجة على خلقه» (1).

و عن الرضا عليه السلام: «و كان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين، و لكنه عز و جل خلقها في ستة أيام ليظهر على الملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء، فيستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى مرة بعد مرة» (2).

و قيل: للتنبيه على أن لكل شيء حدا محدودا و و قتا معينا، فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فتأخير ثواب المطيعين و عقاب العاصين لذلك.

ثُمَّ اِسْتَوى و استولى بعلمه و تدبيره عَلَى اَلْعَرْشِ . عن أمير المؤمنين عليه السلام: «استوى تدبيره، و علا أمره» (3).

و عن الكاظم عليه السلام: «استولى على ما دق و جل» (4).

و عن الصادق عليه السلام: «استوى على كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء» (5).

و في روآية: «لم يبعد منه بعيد، و لم يقرب منه قريب» (6).

فحاصل الروايتين (7): أن المراد بالعرش جميع الموجودات؛ كما مر في آية الكرسي أنه أحد معنييه.

و قيل: إن المراد بالعرش هو السرير (8)، كما هو معناه لغة، و كنى به عن الملك، فإنه إذا اختل ملك ملك يقال: ثل عرشه، و إذا استقام ملكه و اطرد أمره و حكمه يقال: استوى على عرشه و استقر على سرير ملكه.

و عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إن الملائكة تحمل العرش، و ليس العرش كما يظن كهيئة السرير، و لكنه شيء محدود مخلوق مدبر، و ربك عز و جل مالكه، لا أنه عليه؛ ككون الشيء على الشيء» (9).

ثم استشهد سبحانه على كمال قدرته و تدبيره بقوله: يُغْشِي و يغطي اَللَّيْلَ بظلمته اَلنَّهارَ و يذهب بنوره، و هو مع ذلك يَطْلُبُهُ و يشتاق إلى مجيئه بعده حَثِيثاً و سريعا لا يفصل بينهما شيء، فإن في تنظيم تعاقب الليل و النهار-مع و ضوح أن فيه منافع عظيمة؛ إذ به يتم أمر الحياة،

ص: 608


1- . الاحتجاج:254، تفسير الصافي 2:203.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السلام 1:134/33، تفسير الصافي 2:203.
3- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 2:204.
4- . الاحتجاج:386، تفسير الصافي 2:204.
5- . الكافي 1:99/6، تفسير الصافي 2:204.
6- . الكافي 1:99/8، تفسير الصافي 2:204.
7- . أي اللتين عن الامامين الكاظم و الصادق عليهما السلام.
8- . تفسير روح البيان 3:174.
9- . التوحيد:316/3، تفسير الصافي 2:205.

و كمال صلاح الموجودات -دلالة و اضحة على كمال قدرته و حكمته.

ثم قرر ذلك بقوله: وَ اَلشَّمْسَ التي هي سلطان الكواكب وَ اَلْقَمَرَ الذي هو نائبها وَ اَلنُّجُومَ التي هي خدمها، خلقهن حال كونهن مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ مقهورات تحت إرادته.

ثم لما كان ما سوى الله إما جسماني له مائدة و مدة و حجم و مقدار؛ و يسمى بعالم الخلق، و إما روحاني لا مائدة له و لا مدة له و لا حجم؛ و يسمى بعالم الأمر، بالغ سبحانه في تعريف ذاته المقدسة بالوحدانية، و كمال القدرة و التدبير و السلطنة فيهما بقوله: أَلا لَهُ تعالى خاصة اَلْخَلْقُ و عالم الجسمانيات وَ اَلْأَمْرُ و عالم الروحانيات، إيجادا أو إعداما، و تصرفا و تدبيرا، لا مالك شيء منهما غيره تَبارَكَ و تعالى بالوحدانية في الالوهية و القدرة، و تعظم بالفردانية في السلطنة و الربوبية اَللّهُ الذي هو رَبُّ اَلْعالَمِينَ و خالقها و مدبرها.

ففيه رد على الذين اتخذوا من دون الله أربابا، و دعوتهم إلى القول بتوحيده في الربوبية لجميع الكائنات، و تنظيم عالم الوجود، كالملك المتمكن في مملائكته بتدبيره.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 55

ثم لما بين الله سبحانه أن تدبير العالم بيده و جميع الخيرات نازل منه، أمر الناس بسؤاله و رفع حوائجهم إليه، و قطع طمعهم عن غيره بقوله: اُدْعُوا و سئلوا رَبَّكُمْ اللطيف بكم، السميع لدعائكم، القادر على إجابتكم جميع حوائكم الدنيوية و الآخروية، و ليكن دعاؤكم له تَضَرُّعاً و خضوعا و تذللا وَ خُفْيَةً و سرا بحيث بلا يسمعه غيركم، فإنه أقرب إلى الخلوص و الاستجابة، و لا تعتدوا في دعائكم، و لا تجاوزوا فيه عن حد ما امرتم إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ و لا يرضى عن المتجاوزين عن الحد؛ بالاقتراح عليه، و طلب ما لا ينبغي طلبه.

اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ (55)عن النبي صلى الله عليه و آله: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، و حسب المرأ أن يقول: اللهم إني أسئلك الجنة و ما قرب إليها من قول و عمل، و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول و عمل» (1).

في استحباب

الاخفات في الدعاء

و عنه صلى الله عليه و آله، أنه كان في غزاة، فأشرف على و اد، فجعل الناس يهللون و يكبرون، و يرفعون أصواتهم، فقال: «يا أيها الناس، أربعوا (2)على أنفسكم، أما إنكم لا تدعون أصما (3)و لا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا إنه معكم» (4).

ص: 609


1- . تفسير أبي السعود 3:233.
2- . اربعوا: تريثوا و انتظروا.
3- . كذا، و في المجمع: الأصم، و في الصافي: أصم.
4- . مجمع البيان 4:662، تفسير الصافي 2:206.

و عنه صلى الله عليه و آله قال: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية» (1).

و عن الصادق عليه السلام: «استعن بالله في جميع امورك تضرعا (2)إليه آناء الليل و النهار، قال الله: اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ و الاعتداء من صفة قراء زماننا هذا و علامتهم» (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 56

ثم أنه تعالى بعد بيان كونه مدبر امور العالم و مصلحها، نهى الناس عن الإفساد بقوله: وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بقتل و نهب، و هتك عرض، و إشاعة الكفر بَعْدَ إِصْلاحِها و تنظيم امورها على أحسن نظام.

وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ (56)و قيل: يعني لا تفسدوا فيها باختيار الكفر، و ارتكاب المعاصي بعد إصلاحها ببعث الرسل و تشريع الأحكام.

عن الباقر عليه السلام: «أن الأرض كانت فاسدة، فأصلحها الله بنبيه صلى الله عليه و آله. الخبر (4).

و القمي رحمه الله: أصلحها برسول الله صلى الله عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام، فأفسدوها حين تركوا أمير المؤمنين عليه السلام (5).

ثم لما كان داعي الإفساد تحصيل المنافع الدنيوية، و هو يكون في الدعاء، أكد الترغيب إليه بقوله: وَ اُدْعُوهُ و سئلوه كل ما تحتاجون إليه من المنافع خَوْفاً من أن ترد دعوتكم بسوأ أعمالكم وَ طَمَعاً و رجاء أن يستجاب لسعة رحمته إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ، و من الأعمال الحسنة: الدعاء بأدائه.

و فيه ترجيح للطمع، و تغليب جانب الرحمة، و تنبيه على و سيلة الإجابة، و هو القيام بوظائف العبودية.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 57

وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ اَلْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

ص: 610


1- . تفسير الرازي 14:131.
2- . في مصباح الشريعة: متضرعا.
3- . مصباح الشريعة:58، تفسير الصافي 2:206.
4- . تفسير العياشي 2:150/1593، تفسير الصافي 2:206.
5- . تفسير القمي 1:236، تفسير الصافي 2:206.

ثم لما بشر سبحانه بسعة رحمته، قرره بما أراهم من إنزال الأمطار النافعة التي منها حياة كل شيء، و فيها الشهادة على سعة رحمته، و كمال قدرته، و تدبيره لمصالح خلقه بقوله: وَ هُوَ القادر المدبر الرحيم اَلَّذِي يُرْسِلُ بقدرته و حسن تدبيره اَلرِّياحَ الأربعة، حال كونها بُشْراً و إعلاما للناس بما يسرون به بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ و قدام المطر المحيي للأرض حَتّى إِذا أَقَلَّتْ الرياح و حملت بسهولة سَحاباً و غماما سارية في العلو، حال كونها ثِقالاً بحمل الماء سُقْناهُ و سيرناه لِبَلَدٍ و إلى أرض مَيِّتٍ حاف (1)لا نبات فيها، أو لأجل الأرض اليابسة فَأَنْزَلْنا بِهِ أي بسبب السحاب أو بالبلد اَلْماءَ و المطر النافع فَأَخْرَجْنا بِهِ من الأرض ما تعيشون به مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ و جميع أنواعها.

ثم استدل سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها و إخراج الثمرات منها، على إحياء الرمم، و إخراج الموتى منها للحشر، و جزاء الأعمال بقوله: كَذلِكَ الإحياء و الإخراج نُخْرِجُ اَلْمَوْتى من الأرض إلى الحشر بعد إحيائهم في القبور. و إنما ضربنا لكم المثل لَعَلَّكُمْ أيها الناس تَذَكَّرُونَ و تتنبهون على أن من قدر على ذلك قدر على هذا بلا ريب.

عن ابن عباس رضى الله عنه: إذا مات الناس كلهم في النفخة الاولى مطرت السماء أربعين يوما قبل النفخة الأخيرة مثل مني الرجال، فينبتون من قبورهم بذلك المطر، كما ينبتون في بطون أمهاتهم، و كما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح، ثم تلقى عليهم نومة فينائمون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية -و هي نفخة البعث-جاشوا و خرجوا من قبورهم و هم يجدون طعم النوم في رؤسهم كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ فيناديهم المنادي: هذا ما وَعَدَ اَلرَّحْمنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 58

ثم أنه تعالى بعد بيان رحمته العامة بإنزال المطر و إخراج الثمار من الأرض، نبه على أن عدم نبت الثمار من الأرض الصلبة أو السبخة ليس لعدم نزول المطر عليها، أوعدم النفع فيه، بل إنما هو لخباثة الأرض، وعدم قابليتها للتأثر به بقوله: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ و الأرض الخيّرة لرخاوتها، و قوّة استعدادها

وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

ص: 611


1- . كذا، و لعلّه من قولهم: حفا شاربه، فهو حاف، إذا بالغ في قصّه. أو تصحيف (جاف) من الجفاف. و ينبغي تأنيث هذه الكلمة نظرا إلى قوله: (أرض) ثمّ قوله: (لا نبات فيها) .
2- . تفسير روح البيان 3:180، و الآية من سورة يس:36/52.

يَخْرُجُ نَباتُهُ من الأشجار و الزّروع و الرّياحين و الأزهار بِإِذْنِ رَبِّهِ و قدرته و إرادته، وَ البلد اَلَّذِي خَبُثَ بأن كان سبخا أو صلبا لا تأثّر بنزول المطر عليه، لا يَخْرُجُ نباته منه إِلاّ نباتا نَكِداً قليلا غير نافع.

في أن النفوس

صنفان طيبة

و خبيثة

قيل: هو مثل الاختلاف في الذّات و الطّينة و تشبيههما في الطّيب و الخبث بالأراضي الطيّبة و الخبيثة، فإنّ النّفوس البشريّة بعضها بذاتها و جوهرها طيّبة نقيّة نورانية، مستعدّة لقبول الحقّ و التأثّر بالمواعظ و الحكم، و التنوّر بآيات القرآن الذي هو ماء الحياة للقلوب الميّتة؛ كنفوس المؤمنين على اختلاف مراتبهم، فإنّهم إذا تليت عليهم آيات القرآن و ذكرت لهم دلائل التّوحيد و المعاد، ظهر منهم الانقياد و الخضوع، و أشرقت قلوبهم بأنوار العقائد الحقّة و المعارف الإلهية، و خرجت من جوارحهم أزهار الطّاعة و الأعمال الحسنة.

و بعضها خبيثة سجّينيّة ظلمانيّة، لا تتأثّر بشيء من المواعظ و الحكم، و لا تنقاد لقبول الحقّ، بل لا تزيده آيات القرآن و دلائل التّوحيد و غيره من المعارف إلاّ بعدا و كفرا و طغيانا؛ كنفوس الكفّار المصرّين على الكفر. فالنّفس الطيّبة الطاهرة يخرج نباتها من المعارف الحقّة، و الأخلاق الكريمة، و الأعمال الصّالحة بإذن ربّها و توفيقه و تفضّله، و النّفس الخبيثة لا يخرج منها إلاّ نباتا نكدا قليل الفائدة.

و قيل: إنّ المراد من المثل أنّ الأرض الخبيثة مع قلّة نفعها لا يهملها صاحبها، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا في تحصيل ما يليق بها. فمن طلب النّفع اليسير بالمشقّة العظيمة كان طلبه للمنافع العظيمة الاخرويّة بالمشقّة أولى.

كَذلِكَ التّصريف البديع نُصَرِّفُ اَلْآياتِ الدالّة على المعارف و الحكم و الأحكام لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ألطاف اللّه و نعمه الجسمانيّة و الرّوحانيّة.

و إنّما ختم سبحانه الآية السّابقة بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لكونها متضمّنة لدليل صحّة المعاد، و ختم هذه الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لكونها متضمّنة لبيان النّعمة الجسمانيّة و الرّوحانيّة.

و إنّما ختم سبحانه الآية السّابقة بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لكونها متضمّنة لدليل صحّة المعاد، و ختم هذه الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لكونها متضمّنة لبيان النّعمة الجسمانيّة و الرّوحانيّة.

عن القمّي رحمه اللّه: مثل للأئمّة يخرج علمهم بإذن ربّهم، و لأعدائهم لا يخرج علمهم إلاّ كدرا فاسدا (1).

و في (المناقب) : قال عمرو بن العاص للحسين عليه السّلام: ما بال لحاكم أوفر من لحانا؟ فقرأ عليه السّلام هذه الآية (2).

و روي أنّ معاوية سأل الحسن عليه السّلام عن ذلك، فقرأ عليه السّلام هذه الآية.

ص: 612


1- . تفسير القمي 1:236، تفسير الصافي 2:208.
2- . مناقب ابن شهر آشوب 4:67، تفسير الصافي 2:208.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 59 الی 62

في قصة نوح

و كيفية دعوته

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خبث ذات الكفار، ذكر سبحانه قصص الامم الماضية و سوء عاقبة المصرّين منهم على الكفر، تهديدا لمشركي عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تسلية لخاطره الشّريف، و إثباتا لنبوّته؛ لأنّ ذكرها مع امّيته من الإخبار بالمغيّبات، فابتدأ سبحانه بذكر معارضة قوم نوح و هلاكهم بقوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ لهدايتهم إلى التّوحيد و دين الحقّ، فدعاهم أوّلا إلى التّوحيد الذي هو أهمّ الاصول فَقالَ لقومه رحمة و شفقة: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده، و خصّوه بالخضوع و الطّاعة، فإنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مستحقّ للعبادة و الطّاعة في عالم الوجود غَيْرُهُ تعالى.

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)ثمّ هدّدهم على الاشراك ببيان معلن بغاية شفقته عليهم بقوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن بقيتم على ما أنتم عليه من عبادة الأصنام من أن ينزّل اللّه عليكم عَذابَ الاستئصال في يَوْمٍ عَظِيمٍ من أيام الدّنيا لعظمة عذابه،

أو عذاب النّار في يوم القيامة الذي هو أعظم الأيام و أشدّها قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ و الأكابر من طائفته: إِنّا لَنَراكَ و نعتقدك يا نوح منغمرا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عن الحقّ، و انحراف واضح عن الصّواب حيث خالفت العامّة في قولك، و خرجت عن ربقة تقليد آبائنا الأقدمين في رأيك.

قالَ نوح مبالغا في استمالتهم بندائهم و إضافتهم إلى نفسه، بعد تغليظهم عليه في القول المقتضي للتّغليظ عليهم في الجواب: يا قَوْمِ كيف تنسبونني إلى الضّلال و الحال أنّه لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أبدا و انحراف عن الصّواب بوجه وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رسل رَبِّ اَلْعالَمِينَ مبعوث من قبله إليكم لارشدكم إلى الحقّ و أهديكم إلى التّوحيد،

فأنا على حسب وظيفتي أُبَلِّغُكُمْ و أؤدي إليكم رِسالاتِ رَبِّي من توحيده و أحكامه و مواعظه وَ أَنْصَحُ لَكُمْ و اشير إليكم ما فيه خيركم و صلاحكم وَ أَعْلَمُ مِنَ عقوبة اَللّهِ أو من معارفه و أحكامه بوحيه و تعليمه ما لا تَعْلَمُونَ، قيل: كانوا لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب من قبلهم، و لذا كانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السّلام.

ص: 613

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 63 الی 64

ثمّ لمّا كان القوم تعجّبوا من أدّعائه الرّسالة و بالغوا في تكذيبه، أنكر عليهم بقوله: أَ وَ عَجِبْتُمْ - قيل: إنّ التّقدير: أكذّبتم و عجبتم (1)-من أَنْ جاءَكُمْ و نزل عليكم ذِكْرٌ و موعظة، أو وحي، أو كتاب مِنْ رَبِّكُمْ و خالقكم اللّطيف بكم عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ و بشر مثلكم لِيُنْذِرَكُمْ من بأس اللّه، و يخوّفكم من عقوبته وَ لِتَتَّقُوا مخالفة اللّه، و تحترزوا سخطه بإنذاره، و لأجل أنّه وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالتّقوى، و تفوزون بأكمل السّعادة و أفضل النّعم بطاعته.

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)و في ذكر (لعلّ) إشعار بعدم علّيّة التّقوى لشمول الرّحمة.

فَكَذَّبُوهُ بعد الإبلاغ و الإنذار و الإعذار، و أصرّوا على معارضتة حتّى حقّ عليهم العذاب، فصنع نوح الفلك و فار التنّور فَأَنْجَيْناهُ وَ اَلَّذِينَ آمنوا مَعَهُ من أهله و غيرهم فِي اَلْفُلْكِ، قيل: هم أربعون (2)وَ أَغْرَقْنَا بالطّوفان الكفّار اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و أستمرّوا على التّكذيب.

ثمّ نبّه سبحانه على علّة إهلاكهم بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ في البصيرة، مكفوفين عن رؤية المعجزات، قاصرين عن فهم المواعظ، لم يكونوا يرجى منهم الهداية و الإيمان.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 65 الی 68

في قصة هود

ثمّ أردف سبحانه قصّة قوم نوح بقصّة هود و تكذيب قومه، و ابتلائهم بالعذاب بقوله: وَ إِلى قوم عادٍ بن إرم بن سام بن نوح، أو ابن شالخ بن أرفخشد بن سام، و هم قوم كانوا باليمن بالأحقاف؛ و هو الرّمل الذي كان بين عمان و حضرموت-كذا قيل (3)-أرسلنا أَخاهُمْ في النّسب كان اسمه هُوداً قيل: هو ابن عبد اللّه بن رباح (4)بن خلود بن عاد (5).

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)

ص: 614


1- . تفسير الرازي 14:152.
2- . تفسير البيضاوي 1:344، و فيه: كانوا أربعين رجلا و أربعين امرأة.
3- . تفسير الرازي 14:155.
4- . في روح البيان: رياح.
5- . تفسير البيضاوي 1:344، تفسير روح البيان 3:185.

عن السجاد عليه السّلام أنّه قيل له: إنّ جدّك قال: «إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم على بغيهم» ، فقال: «ويلك، أما تقرأ القرآن وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً، وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً (1)، وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً (2)فهو مثلهم، كانوا إخوانهم في عشيرتهم، و ليسوا إخوانهم في دينهم» (3).

عن الباقر عليه السّلام-في حديث- «و بشّر نوح ساما بهود و قال: إنّ اللّه باعث نبيّا يقال له هود، و أنّه يدعو قومه إلى اللّه فيكذّبونه» . الخبر (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا حضرت نوحا الوفاة دعا الشيعة فقال لهم: [اعلموا]أنّه سيكون من بعدي غيبة يظهر فيها الطّواغيب، و إنّ اللّه عزّ و جلّ سيفرّج عنكم بالقائم من ولدي، اسمه هود، له سمت و سكينة و وقار، يشبهني في خلقي و خلقي» (5).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الأنبياء بعثوا خاصّة و عامّة، و أمّا هود فإنّه ارسل إلى [عاد]بنبوّة خاصّة» (6).

في كيفية دعوة

هود و محاجته

قالَ هود لقومه: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ و لمّا كان قومه مطّلعين على واقعة الطّوفان و هلاك قوم نوح، هدّدهم على الشّرك بقوله: أَ فَلا تَتَّقُونَ بأس اللّه و عذابه، أشار به إلى التّخويف بمثل واقعة قوم نوح المشهورة عندهم

قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد اللّه و رسالة هود مِنْ قَوْمِهِ في جوابه مغلّظين له في القول: يا هود إِنّا لَنَراكَ متمكّنا و راسخا فِي سَفاهَةٍ و خفّة العقل، حيث فارقت الجماعة، و خالفت العامّة وَ إِنّا لَنَظُنُّكَ ألبتّة مِنَ اَلْكاذِبِينَ في دعوى توحيد المعبود، و رسالتك.

قالَ هود لهم بلين و عطوفة، بعد ما سمع منهم الكلام الشّنيع: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أبدا وَ لكِنِّي لكمال عقلي و غاية رشدي رَسُولٌ مِنْ رسل رَبِّ اَلْعالَمِينَ فإنّه لا يكون الرّسول إلاّ من كمل عقله و تمّ رشده و صلاحه، و ما أقول لكم شيئا من قبل نفسي،

بل أُبَلِّغُكُمْ و أؤدّي إليكم رِسالاتِ رَبِّي على حسب وظيفتي وَ أَنَا مع ذلك لَكُمْ فيما أدعوكم إليه من توحيد اللّه و إخلاص العبادة له ناصِحٌ و مشير إلى محض خيركم أَمِينٌ و ثقة عند اللّه في تأدية رسالته، و عندكم في النّصح، لا أغشّ و لا أخون أبدا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 69

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اَللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

ص: 615


1- . الأعراف:7/85.
2- . هود:11/61.
3- . تفسير العياشي 2:150/1595، تفسير الصافي 2:209.
4- . الكافي 8:115/92، تفسير الصافي 2:209.
5- . كمال الدين:135/4، تفسير الصافي 2:209.
6- . كمال الدين:219/2، تفسير الصافي 2:209.

ثمّ لمّا كانوا متعجّبين من ادّعاء الرّسالة، أنكر عليهم تعجّبهم بقوله: أَ وَ عَجِبْتُمْ و استبعدتم أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ و وعظ مِنْ قبل رَبِّكُمْ اللّطيف بكم عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ و يحذّركم من عقوبة اللّه على الشّرك به و الطّغيان عليه.

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد التّهديد و التّوعيد بالعذاب على الكفر، شرع في ترغيبهم إلى الإيمان باللّه و طاعته بقوله: وَ اُذْكُرُوا نعمة اللّه عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ و سكّان في الأرضين متمتّعين بما فيها مِنْ بَعْدِ إهلاك قَوْمِ نُوحٍ بالطّوفان عقوبة على شركهم و طغيانهم و تكذيبهم نوحا عليه السّلام.

و قيل: إنّ المعنى: أنّ اللّه سلّطكم في محالّهم بأن جعلكم ملوكا فيها.

قيل: إنّ شدّاد بن عاد ملك معمورة الأرض (1).

ثمّ بالغ في ترغيبهم بقوله: وَ زادَكُمْ على سائر النّاس فِي اَلْخَلْقِ و الجثّة بَصْطَةً و عظمة من حيث القامّة و القوّة.

قيل: لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام؛ كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع، و قامة الصغير ستّون ذراعا (2).

عن الباقر عليه السّلام: «كانوا كالنّخل الطّوال، و كان الرّجل منهم ينحو (3)الجبل بيده فيهدم منه قطعة» (4).

ألا فَاذْكُرُوا اَللّهَ و نعمه الجسام عليكم، كي يبعثكم ذكر نعمه إلى القيام بشكره، و بذل الجهد في طاعته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بالمقصد الأعلى؛ و هو النّجاة من العذاب، و الدّخول في الجنّة و النّعم الدّائمة.

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «أتدري ما آلاء اللّه؟» قيل: لا، قال: «هي أعظم نعم اللّه على خلقه؛ و هي ولايتنا» (5).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 70 الی 71

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اَللّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اَللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ (71)

ص: 616


1- . تفسير روح البيان 3:186.
2- . تفسير الرازي 14:157، تفسير روح البيان 3:186.
3- . في تفسير الصافي: ينحر، يقال: نحا إليه، أي مال إليه، و أنحى عليه: أقبل عليه، و يقال: نحر الشيء: قابله.
4- . مجمع البيان 4:674، تفسير الصافي 2:210.
5- . الكافي 1:169/3، تفسير الصافي 2:211.

ثمّ أنّهم بعدما سمعوا تلك المواعظ البليغة و النّصائح الجليلة، بالغوا في معارضتة و تكذيبه و قالُوا مجيبين عنه إنكارا عليه و استبعادا لقوله بالتّوحيد، حبّا لما ألفوه، و تمسّكا بتقليد الآباء: أَ جِئْتَنا يا هود من مكان اعتزالك، أو من السّماء؟ ، قالوه استهزاء له، أو المراد: حضرت في مقابلنا، أو في محافلنا و قلت ما قلت لِنَعْبُدَ اَللّهَ وَحْدَهُ و نخصّه بالخضوع و الضّراعة وَ نَذَرَ و نترك عبادة ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا الأقدمون، من الكواكب أو الأصنام، و نعرض عن سيرتهم، و نخرج عن ربقه تقليدهم، لا يكون ذلك أبدا، فإذا علمت أنّا نكون ثابتين على ما نحن عليه من الشّرك، غير معتنين بما تدعونا إليه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا و تهدّدنا به من العذاب الذي أمرتنا بالاتّقاء منه إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى رسالتك و وعيدك، و كانوا مستهزئين به في سؤالهم نزول العذاب، مظهرين عدم احتمالهم صدقه.

فلمّا رآهم مصرّين على كفرهم، مجدّين في تكذيبه، يئس من إيمانهم و قالَ تأسّفا عليهم: يا قوم قَدْ وَقَعَ و وجب عَلَيْكُمْ مِنْ قبل رَبِّكُمْ مع سعة رحمته رِجْسٌ و عذاب، أو الرّين في القلوب وَ غَضَبٌ شديد لأجل كفركم و إصراركم عليه و على معارضة رسوله.

ثمّ بالغ في توبيخهم على عبادة الجمادات و تسميتها آلهة، و مجادلتهم في ذلك بقوله: أَ تُجادِلُونَنِي و تعارضونني فِي شأن أَسْماءٍ و ألفاظ سَمَّيْتُمُوها و وضعتموها للجمادات أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ من قبل أنفسكم و بمقتضى شهواتكم، مع أنّه لا معنى لها في الحقيقة و لا مسمّيات، لعدم إمكان تعقّل تحقّق الألوهيّة في الممكن و لو كان أعلى و أشرف بمراتب من الجمادات فضلا عنها، مع أنّكم لم تكتفوا بالتّسميّة، بل التّزمتم بعبادتها، و الحال أنّه ما نَزَّلَ اَللّهُ بِها و بجوار عبادتها مِنْ سُلْطانٍ بيّن، و حجّة واضحة، و برهان قاطع، و من الواضح أنّه لا ينبغي للعاقل أن يلتزم بدين ليس عليه بيّنة ساطعة و حجّة قاطعة، فإن كنتم مصرّين على ما أنتم عليه من اللّجاج و عبادة الجماد، و مستهزئين بما أدعوكم إليه من التّوحيد، و سائلين منّي إنزال العذاب فَانْتَظِرُوا نزوله عليكم و إِنِّي أيضا مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ له حتّى ترون و أرى هلاككم و استئصالكم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 72

ص: 617

ثمّ أخبر سبحانه بنزول عذاب الاستئصال عليهم، و إكرام هود و من آمن به تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تهديدا لمعارضيه من مشركي مكّة بقوله: فَأَنْجَيْناهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ و آمنوا به من عذاب الخزي بِرَحْمَةٍ عظيمة مِنّا عليهم، و إكرامنا إيّاهم بسبب إيمانهم و طاعتهم وَ قَطَعْنا بالعذاب دابِرَ القوم اَلَّذِينَ كفروا و كَذَّبُوا بِآياتِنا من دلائل التّوحيد و معجزات هود، و استأصلناهم و أهلكناهم عن آخرهم وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ بشيء من الحقّ، و لم يرج لهم (1)الإيمان أبدا.

فَأَنْجَيْناهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ قَطَعْنا دابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)و كان هلاكهم بالرّيح العقيم تخرج من تحت الأرضين السّبع، و ما خرجت منها ريح قطّ إلاّ على قوم عاد حين غضب اللّه عليهم، فأمر الخزّان عليهم أن يخرجوا منها مثل سعة الخاتم فعتت على الخزّان، فخرج على مقدار منخر الثّور تغيّظا منها على قوم عاد، فضجّ الخزنة إلى اللّه تعالى من ذلك فقالوا: ربّنا إنّها عتت عن أمرنا و نحن نخاف أن يهلك من لم يعصك من خلقك و عمّار بلادك، فبعث اللّه إليها جبرئيل فردّها بجناحه فقال لها: اخرجي على ما امرت به، و أهلكت قوم عاد و من كان بحضرتهم.

و عن (المجمع) : عنه عليه السّلام (2): «أنّ للّه تعالى بيت ريح مقفل [عليه]لو فتحت لأذرت (3)ما بين السّماء و الأرض، فما ارسل إلى عاد إلاّ قدر خاتم» قال: «و كان هود و صالح و شعيب و إسماعيل و نبيّنا صلّى اللّه عليهم أجمعين يتكلّمون بالعربيّة» (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 73

ثمّ ذكر سبحانه قصة دعوة صالح و معارضة قومه و هلاكهم بالعذاب بقوله: وَ إِلى قوم ثَمُودَ و هم قبيلة من العرب سمّوا باسسم أبيهم الأكبر ثمود بن عاد بن إرم بن سام-و قيل: سمّوا به لقلّة مائهم (5)-أرسلنا أَخاهُمْ في النّسب صالِحاً .

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اَللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)عن الباقر عليه السّلام: «أنّه ارسل إلى ثمود، و هي قرية واحدة لا تكمل أربعين بيتا على ساحل البحر صغيرة» (6).

و قيل: كانت مساكنهم بين الحجاز و الشّام إلى وادي القرى، فبعث اللّه إليهم صالحا، و كان من

ص: 618


1- . في النسخة: بهم.
2- . في مجمع البيان: عن أبي جعفر عليه السّلام.
3- . أذرت الريح التراب: أطارته و فرّقته.
4- . مجمع البيان 4:676، تفسير الصافي 2:212.
5- . تفسير الرازي 14:161.
6- . اكمال الدين:220/2، تفسير الصافي 2:212.

أوسطهم نسبا و أفضلهم حسبا، فدعاهم إلى عبادة اللّه، و قالَ لهم بلطف و عطوفة: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ .

في كيفية دعوة

صالح و محاجته

و معارضته قومه

قيل: لمّا دعاهم إلى التّوحيد طالبوه بالمعجزة فقال: ما تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا في عيدنا، و نخرج أصنامنا، و تسأل إلهك و نسأل أصنامنا، فإذا ظهر دعاؤك اتّبعناك، و إن ظهر أثر دعائنا اتّبعتنا، فخرج معهم فسألوه أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معيّنة، فأخذ مواثيقهم أنّه إن فعل ذلك آمنوا به فقبلوا، فصلّى ركعتين و دعا اللّه؛ فتمخّضت تلك الصّخرة كما تتمخّض الحامل، ثمّ انفرجت و حرّكت النّاقة من وسطها، و كانت في غاية الكبر (1).

فبعد ظهور هذه المعجزة قال صالح: يا قوم قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ عظيمة، و حجّة واضحة على صدقي في دعوى الرّسالة و التّوحيد مِنْ قبل رَبِّكُمْ فلا عذر لكم في ترك الإيمان بعدها، فإنّكم سألتم أن اخرج من الصّخرة ناقة لتكون آية على صدقي، فانظروا هذِهِ ناقَةُ اَللّهِ لَكُمْ آيَةً ظاهرة، و معجزة باهرة فَذَرُوها و دعوها تَأْكُلْ و ترتع من الكلأ و العشب فِي أَرْضِ اَللّهِ و أكرموها وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ و لا تقربوها بإيذاء و مكروه فضلا عن القتل و الجرح فَيَأْخُذَكُمْ و يصيبكم إذن عَذابٌ أَلِيمٌ .

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 74 الی 76

ثمّ أنّه بعد تهديدهم على العصيان رغّبهم في الطّاعة و الانقياد بتذكيرهم نعم اللّه الموجبة لشكره بقوله: وَ اُذْكُرُوا نعمة اللّه عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ إهلاكه قوم عادٍ بشركهم و طغيانهم وَ بَوَّأَكُمْ و أسكنكم فِي اَلْأَرْضِ التي كانوا يسكنونها، و هي أرض حجر بين الحجاز و الشّام، و أنتم تَتَّخِذُونَ و تبنون مِنْ سُهُولِها و المسطّحات الليّنات منها لأنفسكم قُصُوراً و أبنية رفيعة وَ تَنْحِتُونَ و تنجرون من اَلْجِبالَ و الصّخور بُيُوتاً و مساكن.

وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اَللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76)نقل أنّه لمّا أهلك اللّه تعالى عاد، أقام ثمود مقامهم و عمّروا بلادهم و أخلفوهم في أرضهم في

ص: 619


1- . تفسير الرازي 14:162.

خصب وسعة، و طالت أعمارهم و كثرت نعمهم، و بنوا قصورا في الأرض السّهلة لصيفهم، و نحتوا في الجبال بيوتا لشتائهم.

و قيل: إنّهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا من الجبال بيوتا؛ لأن السّقوف و الأبنيّة كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، فعتوا على اللّه و أفسدوا في الأرض.

ثمّ بالغ صالح في ترغيبهم بقوله: فَاذْكُرُوا آلاءَ اَللّهِ و نعمه العظام عليكم، و اجتهدوا في أداء شكرها بالتّوحيد و القيام بالطّاعة وَ لا تَعْثَوْا و لا تسعوا فِي اَلْأَرْضِ حال كونكم مُفْسِدِينَ فيها.

قالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و ترفّعوا عن الإيمان به و اتّباعه، و هم مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا و استحقروا لفقرهم لِمَنْ آمَنَ به مِنْهُمْ و اتّبعوه، إنكارا و استهزاء بهم: أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ و لمّا كانت رسالته لشهادة معجزاته واضحة، عدل المؤمنون عن جواب سؤالهم، و أخبروا بإيمانهم بما جاء به و قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلَ صالح بِهِ من التّوحيد و الأحكام مُؤْمِنُونَ مصدّقون

قالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا عنادا أو لجاجا: إِنّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ من رسالة صالح و صدق دعواه من التّوحيد و وعد العذاب كافِرُونَ و جاحدون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 77 الی 79

في كيفية عقر

ناقة صالح

ثمّ أنّه روي أنّه زيّنت عقر الناقة امرأتان لمّا أضرّت بمواشيهما، و كانتا كثيرتي المواشي، و كانت إحداهما جميلة الخلق، فطلبت ابن عمّ لها يقال له مصدع ابن دهر، و جعلت له نفسها إن عقر النّاقة، فأجابها إلى ذلك، ثمّ طلبت قدار بن سالف و كان رجلا أحمر أزرق قصيرا، يزعمون أنّه ولد زنا، و لكنّه ولد في فراش سالف، فقالت: يا قدار، أزوّجك أي بناتي شئت على أن تعقر النّاقة، و كان متّبعا في قومه، فأجابها أيضا، فانطلق قدار و مصدع فاستعانا بطغاة ثمود، فأتاهم تسعة رهط فاجتمعوا على عقر النّاقة، فأوحى اللّه تعالى إلى صالح: أنّ قومك سيعقرون الناقة، فقال لهم صالح ذلك، فقالوا: ما كنّا لنفعل (1).

فَعَقَرُوا اَلنّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ اِئْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ اَلنّاصِحِينَ (79)

ص: 620


1- . تفسير روح البيان 3:192.

و قيل: إنّ صالح قال لقومه: يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم بيده، فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم، ثمّ ولد العاشر فأبى أبوه أن يذبحه، فنبت نباتا سريعا، و لما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشّراب، فأرادوا ماء يمزجونه به؛ و كان يوم شرب النّاقة، فما وجدوا الماء و اشتدّ ذلك عليهم، فقال الغلام: هل لكم في أن أعقر النّاقة؟ فشدّ عليها، فلمّا بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى خلف، فأحاشوها عليه فَعَقَرُوا اَلنّاقَةَ فسقطت (1).

وَ عَتَوْا و تجافوا عَنْ امتثال أَمْرِ رَبِّهِمْ بترك مسّ الناقة بسوء. قيل: إن مصدعا و قدارا و أصحابهما التّسعة رصدوا النّاقة حين صدرت عن الماء، فكمن لها مصدع في أصل صخرة، فمرّت النّاقة عليه فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثمّ خرج قدار فعقرها بالسّيف فخرّت ترغو (2)، ثمّ طعنها في لبتها (3)و نحرها، و خرج أهل البلد و اقتسموا لحمها (4).

وَ قالُوا استهزاء: يا صالِحُ اِئْتِنا بِما كنت تَعِدُنا من العذاب على مسّ النّاقة بسوء إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فإنّ الرّسول لا بدّ من أن يكون صادق القول و الوعد.

روي أنّهم لمّا عقروا النّاقة هرب ولدها إلى جبل فرغا ثلاثا، و كان صالح قال لهم بعد بلوغه خبر قتل النّاقة: ادركوا الفصيل عيسى أن يدفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه، فانفرجت الصّخرة بعد رغائه فدخلها، فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم، تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام. و قد عقروا النّاقة يوم الأبعاء، فقال لهم صالح: ابشروا بعذاب اللّه و نقمته، فقالوا: ما علامته؟ فقال: تصبحون غداة يوم الخميس و وجوهكم مصفرّة، ثمّ تصبحون يوم الجمعة و وجوهكم محمرّة، ثمّ تصبحون يوم السّبت و وجوهكم مسودّة، ثمّ يصبّحكم العذاب أوّل يوم الأحد.

فكان الأمر كما وصف، حيث أصبحوا يوم الخميس كأنّ وجوههم طليت بالزّعفران؛ صغيرهم و كبيرهم، ذكرهم و انثاهم، فأيقنوا بالعذاب، فطلبوا صالحا ليقتلوه، فهرب منهم و اختفى في موضع فلم يجدوه، فجعلوا يعذّبون أصحابه ليدلّوهم عليه، فلمّا أصبحوا يوم الجمعة أصبحت وجوههم محمرّة كأنّما خضّبت بالدّماء، فصاحوا بأجمعهم و ضجّوا و بكوا و عرفوا أنّ العذاب قد دنا إليهم، و جعل كلّ واحد يخبر الآخر بما يرى في وجهه، ثمّ أصبحوا يوم السّبت و وجوههم مسودّة كأنّها طليت بالقار و النّيل (5)، فصاحوا جميعا: ألا قد حضر العذاب، فلمّا كانت ليلة الأحد خرج صالح و من آمن معه

ص: 621


1- . تفسير الرازي 14:162.
2- . رغت الناقة: إذا صوّتت و ضجّت.
3- . اللّبّة: موضع النحر من عنق الناقة.
4- . تفسير روح البيان 3:193.
5- . القار: الزّفت، و النّيل: مادة زرقاء للصّباغ تستخرج من ورق نبات بنفس الاسم.

من بين أظهرهم إلى الشام فنزل رملة فلسطين.

فلمّا كان يوم الأحد و هو اليوم الرّبع و ارتفع النّهار، تحنّطوا بالصّبر (1)لئلا يتعرّض لهم السّباع لمرارته، و تكفّنوا بالأنطاع (2)، و ألقوا نفوسهم على الأرض يقلّبون أبصارهم إلى السّماء مرّه و إلى الأرض اخرى، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فأتتهم صيحة من السّماء فيها صوت كلّ صاعقة و صوت كلّ شيء له صوت (3).

فَأَخَذَتْهُمُ بعد تلك، و من أثرها اَلرَّجْفَةُ و الزّلزلة من الأرض، فانقطعت قلوبهم في صدورهم فَأَصْبَحُوا كبيرهم و صغيرهم فِي دارِهِمْ و بلدهم جاثِمِينَ موتى غير متحرّكين.

في ذكر قصة

ثمود و هلاكهم

عن الصادق عليه السّلام، في قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (4): «هذا فيما كذّبوا صالحا، و ما أهلك اللّه تعالى قوما قطّ حتّى يبعث إليهم قبل ذلك الرّسل فيحتجّوا عليهم، فبعث اللّه إليهم صالحا، فدعاهم إلى اللّه فلم يجيبوا و عتوا عليه و قالوا: لن نؤمن لك حتّى تخرج لنا من هذه الصّخرة ناقة عشراء (5)، و كانت الصّخرة يعظّمونها و يعبدونها، و يذبحون عندها في رأس كلّ سنة، و يجتمعون عندها، فقالوا له: إن كنت كما تزعم نبيّا رسولا، فادع إلهك حتّى يخرج لنا من هذه الصّخرة الصمّاء ناقة عشراء، فأخرجها اللّه كما طلبوا منه، ثمّ أوحى اللّه إليه: أن يا صالح، قل لهم: إنّ اللّه قد جعل لهذه النّاقة من الماء شرب يوم و لكم شرب يوم، و كانت النّاقة إذا كان يوم شربها شربت ذلك اليوم الماء، فيحلبونها فلا يبقى صغير و لا كبير إلاّ شرب من لبنها يومهم ذلك، فإذا كان اللّيل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب النّاقة ذلك اليوم، فمكثوا بذلك ما شاء اللّه.

ثمّ أنّهم عتوا على اللّه و مشى بعضهم إلى بعض فقالوا: اعقروا هذه النّاقة و استريحوا منها، لا نرضى أن يكون لها شرب يوم و لنا شرب [يوم]، ثمّ قالوا: من الذي يلي قتلها و نجعل له جعلا (6)ما أحبّ، فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا، لا يعرف له أب يقال له قذار، شقيّ من الأشقياء مشؤوم عليهم، فجعلوا له جعلا، فلمّا توجّهت النّاقة إلى الماء الذي كانت ترده، تركها حتّى شربت ذلك الماء و أقبلت راجعة، فقعد لها في طريقها فضربها بالسّيف ضربة فلم تعمل شيئا، فضربها ضربة اخرى فقتلها و خرّت إلى الأرض على جنبها، و هرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرّات إلى

ص: 622


1- . الصّبر: عصارة شجر مرّ، واحدته: صبرة.
2- . الأنطاع، جمع نطع، و هو بساط من جلد.
3- . تفسير روح البيان 3:194.
4- . القمر:54/23.
5- . العشراء: الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر.
6- . الجعل: ما يجعل على العمل من أجر و رشوة، و كذا الجعالة و الجعال.

السّماء، و أقبل قوم صالح فلم يبق أحد منهم إلاّ شركه في ضربته، و اقتسموا لحمها فيما بينهم، فلم يبق منهم صغير و لا كبير إلاّ أكل منها.

فلمّا رأى ذلك صالح أقبل إليهم فقال: يا قوم، ما دعاكم إلى ما صنعتم، أعصيتم ربّكم؟ ! فأوحى اللّه إلى صالح: إنّ قومك قد طغوا و بغوا، و قتلوا ناقة بعثتها إليهم حجّة عليهم، و لم يكن عليهم منها ضرر، و كان لهم فيها أعظم المنفعة، فقل لهم: إنّي مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيام، فإن هم تابوا و رجعوا قبلت توبتهم و صددت عنهم، و إن هم لم يتوبوا و لم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثّالث، فأتاهم صالح فقال لهم: يا قوم، إنّي رسول اللّه ربكم إليكم، و هو يقول لكم: إن أنتم تبتم و رجعتم و استغفرتم غفرت لكم و تبت عليكم، فلمّا قال لهم ذلك كانوا أعتى ما كانوا و أخبث، و قالوا: يا صالح، إئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين، قال: يا قوم، إنّكم تصبحون غدا و وجوهكم مصفرّة، [و اليوم الثاني وجوهكم محمرّة، و اليوم الثالث وجوهكم مسودّة.

فلّما أن كان أوّل يوم أصبحوا و وجوههم مصفرّة]، فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: قد جاءكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح و لا نقبل قوله و إن كان عظيما، فلمّا كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرّة، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح، و لا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها، و لم يتوبوا و لم يرجعوا، فلمّا كان اليوم الثالث أصبحوا و وجوههم مسودّة، فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: يا قوم، قد أتاكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: لا نقبل (1)ما قال لنا صالح، فلمّا كان نصف اللّيل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم، و فلقت قلوبهم، و صدعت أكبادهم، و قد كانوا في تلك الثلاثة أيام قد تحنّطوا و تكفّنوا و علموا أنّ العذاب نازل بهم، فماتوا أجمعون في طرفة عين صغيرهم و كبيرهم» . إلى أن قال: «ثمّ أرسل اللّه عليهم مع الصّيحة النّار من السّماء فأحرقتهم أجمعين» (2).

فَتَوَلّى صالح و أعرض عَنْهُمْ بعد هلاكهم وَ قالَ تحسّرا و تحزّنا عليهم: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي و دعوتكم إلى الحقّ وَ نَصَحْتُ لَكُمْ بالتّرغيب و التّرهيب، و بذلت جهدي في هدايتكم إلى ما فيه خيركم و صلاحكم وَ لكِنْ لمرارة الحقّ و ثقل النّصح عليكم، كنتم لا تُحِبُّونَ اَلنّاصِحِينَ و تستهزئون بي و بالمؤمنين.

عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: لمّا مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالحجر في غزوة تبوك-يعني: مواضع ثمود-قال

ص: 623


1- . في الكافي: قد أتانا.
2- . الكافي 8:187/214، تفسير الصافي 2:215.

لأصحابه: «لا يدخلنّ أحد منكم هذه القرية، و لا تشربوا من مائها، و لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين، إلاّ أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم» . ثمّ قال: «لا تسألوا رسولكم الآيات، فإنّ هؤلاء قوم صالح، سألوا رسولهم الآية، فبعث اللّه إليهم النّاقة، فكانت ترد من هذا الفجّ، و تصدر من هذا الفجّ فتشرب ماءهم يوم ورودها» و أراهم مرتقى الفصيل [حيث ارتقى]، ثمّ أسرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله السّير حتّى جاوز الوادي (1).

في ذكر فضيلة

لأمير المؤمنين عليه السّلام

روى الفخر الرازي و غيره من العامّة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السّلام: «يا علي، أتدري من أشقى الأوّلين؟» قال: «اللّه و رسوله أعلم» ، قال: «عاقر ناقة صالح» ، ثمّ قال: «أتدري من أشقى الآخرين؟» قال: «اللّه و رسوله أعلم» . قال: «قاتلك» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 80 الی 84

ثمّ ذكر سبحانه قصّة قوم لوط و هلاكهم بقوله: وَ لُوطاً أرسلنا إلى قومه. قيل: كان ابن هاران أخي إبراهيم (3).

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ (84)و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أمّ إبراهيم و امّ لوط كانتا اختين، و هما ابنتا لاحج، و كان اللاحج نبيّا منذرا و لم يكن رسولا» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان لوط ابن خالة إبراهيم، و كانت سارة امرأة إبراهيم اخت لوط، و كان لوط و إبراهيم نبيّين منذرين» (5).

في كيفية دعوة

لوط

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ إبراهيم خرج من بلاد نمرود و معه لوط لا يفارقه و سارة، إلى أن نزل بأعلى الشّامات، و خلّف لوطا بأدنى الشامات» (6).

و قيل: إنّ لوطا هاجر مع ابراهيم إلى الشّام، و نزل الاردنّ-و هو كورة بالشّام-فأرسله

ص: 624


1- . تفسير روح البيان 3:194.
2- . تفسير الرازي 14:163، تفسير روح البيان 3:195، تفسير الكشاف 2:121.
3- . تفسير روح البيان 3:195.
4- . الكافي 8:370/560، تفسير الصافي 2:217.
5- . علل الشرائع:549/4، تفسير الصافي 2:217.
6- . الكافي 8:371 و 373/4، تفسير الصافي 2:217.

اللّه إلى أهل سدوم و هو بلد بحمص (1).

و قيل: ارسل إلى خمسة بلاد أعظمها سدوم، و كان في كلّ بلد أربعة ألف ألف نفس، و كان لوط يأمرهم بالخيرات و ينهاهم عن الفواحش (2).

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ توبيخا لهم و إنكارا لعملهم القبيح عليهم: أَ تَأْتُونَ و ترتكبون الفعلة اَلْفاحِشَةَ و اللّواطة البالغة في القبح الغاية ما سَبَقَكُمْ بِها و ما بادر قبلكم إليها مِنْ أَحَدٍ من بني آدم مِنَ اَلْعالَمِينَ و القرون الأوّلين.

ثمّ صرّح بمراده من الفاحشة بقوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ و تنكحون اَلرِّجالَ و الذّكران شَهْوَةً و طلبا للذّة النّفس مِنْ دُونِ اَلنِّساءِ و متجاوزين عن الزّوجات اللاتي خلقن لقضاء الشّهوة بهنّ، و ابيح التمتّع منهنّ. ثمّ أضرب عن التّوبيخ و ذمّهم بخبث الذّات و خفّة العقل بقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ و متجاوزون عن حدود العقل و الشّرع، أو متجاوزون في الفساد.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس، فإنّه أمكن من نفسه» (3).

و [في](الكافي) : عن أحدهما عليهما السّلام، في قوم لوط: «أن إبليس أتاهم في صورة حسنة فيها تأنيث، و عليه ثياب حسنة، فجاء إلى شبّان منهم، فأمرهم أن يقعوا به، و لو طلب إليهم أن يقع بهم لأبوا عليه؛ و لكن طلب إليهم أن يقعوا به، فلمّا وقعوا به التذّوه، ثمّ ذهب [عنهم]و تركهم، فأحال بعضهم على بعض» (4).

في قصة قوم

لوط

في (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: أنّ لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة، و كان نازلا فيهم و لم يكن منهم، يدعوهم إلى اللّه، و ينهاهم عن الفواحش، و يحثّهم على الطّاعة، فلم يجيبوه و لم يطيعوه، و كانوا لا يتطهّرون من الجناية، بخلاء أشحّاء على الطعام (5)، فأعقبهم البخل الدّاء الذي لا دواء له في فروجهم، و ذلك أنّهم كانوا على طريق السيّارة إلى الشّام و مصر، و كان ينزل بهم الضّيفان، فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضّيف فضحوه، و إنّما فعلوا ذلك لتنكل (6)النازلة عليهم من غير شهوة بهم إلى ذلك، فأوردهم البخل هذا الدّاء حتّى صاروا يطلبونه من الرّجال و يعطون عليه الجعل، و كان لوط سخيّا كريما، يقري الضّيف إذا نزل به، فنهوه عن ذلك، فقالوا: (لا تقري ضيفا ينزل بك) ، فإنّك إن فعلت فضحنا ضيفك، فكان لوط إذا نزل به الضّيف كتم

ص: 625


1- . تفسير روح البيان 3:195.
2- . تفسير روح البيان 3:195.
3- . تفسير الصافي 2:217.
4- . الكافي 5:544/4، تفسير الصافي 2:217.
5- . في النسخة: على الضيافة.
6- . أي تدفع عنهم.

أمره مخافة أن يفضحه قومه، و ذلك أنّه لم يكن للوط عشيرة فيهم» (1).

و عن (العلل) و (العيّاشي) : مثله (2).

وَ ما كانَ جَوابَ لوط و أتباعه النّاهين عن الفاحشة من قَوْمِهِ بعد إبلاغهم النّصح شيئا إِلاّ أَنْ قالُوا فيما بينهم تخلّصا من مواعظ لوط و أتباعه: يا قوم أَخْرِجُوهُمْ جميعا مِنْ قَرْيَتِكُمْ و بلدكم إِنَّهُمْ أُناسٌ و جماعة يَتَطَهَّرُونَ من الرّذائل، و يتنزّهون من الخبائث و الفواحش، قيل: كانوا مستهزئين بهم (3)بهذا القول،

فاستحقّوا العذاب بطغيانهم و كفرهم و استخفافهم بلوط فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ و أتباعه المؤمنين به إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ و زوجته الكافرة إنّها كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في القرية غير المدركين للنّجاة. قيل: كانت تبطن الكفر و تغري الكفار على إنكار لوط (4)

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ من السّماء مَطَراً معجبا؛ لأنّه كان من الحجارة فَانْظُرْ و تأمّل أيّها العاقل، النّاظر في العواقب، و المتأمّل في الأمور كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُجْرِمِينَ و العاصين بالكفر و تكذيب الرّسل حتّى تعتبر بحالهم، و تحترز من أعمالهم.

في هلاك قوم

لوط

قيل: لمّا كثرت فيهم اللّواطة زمانا عجّت الأرض إلى ربّها، فسمعت السّماء فعجّت إلى ربّها، فسمع العرش فعجّ إلى ربّه، فأمر اللّه السّماء أن تحصبهم، و الأرض أن تخسف بهم، فأمطروا أوّلا بالحجارة، ثمّ خسفت بهم الأرض. و قيل: خسف بالمقيمين و امطرت الحجارة على مسافريهم.

روي أنّ تاجرا منهم كان في الحرم، فوقف له الحجر أربعين يوما حتّى قضى تجارته، و خرج من الحرم فوقع عليه (5).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 85

في قصة شعيب

و قومه

ثمّ ذكر سبحانه قصّة دعوة شعيب و معارضة قومه له و هلاكهم بقوله: وَ إِلى قبيلة مَدْيَنَ بن إبراهيم أرسلنا أَخاهُمْ في النّسب، و كان اسمه شُعَيْباً قيل: هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين، و إنّ مدين تزوّج ريثا بنت لوط فولدت له و كثر نسله،

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

ص: 626


1- . مجمع البيان 4:685، تفسير الصافي 2:218.
2- . علل الشرائع:548/4، تفسير العياشي 2:432/2339، تفسير الصافي 2:218.
3- . في النسخة: لهم.
4- . تفسير روح البيان 3:196.
5- . تفسير روح البيان 3:197، تفسير أبي السعود 3:246.

فصاروا قبيلة سمّوا باسم أبيهم، و إنّ شعيبا بكى من خشية اللّه حتّى ذهبت عيناه، و كان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعة قومه، و كانوا أهل بخس للمكيال و الميزان (1)، فدعاهم شعيب أوّلا إلى التّوحيد و قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ فإنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ و خالق مستحقّ للعبادة غَيْرُهُ، ثمّ استدلّ على صحّة نبوّته و صدق دعوته بمعجزته التي لا بدّ لكلّ نبيّ من إتيانها إثباتا لنبوّته بقوله: قَدْ جاءَتْكُمْ و ظهرت لكم بَيِّنَةٌ و معجزة باهرة مِنْ قبل رَبِّكُمْ تصديقا لنبوتّي.

أقول: لم نعثر على تفصيل معجزاته.

و قيل: إنّه كان إذا أراد الصّعود على الجبل العظيم انحطّ الجبل ليصعد عليه بسهولة، و كان يخبر بالمغيّبات.

ثمّ لمّا كان القبيح الشائع في زمانه في قومه البخس في المكيال و الميزان، بدأ بعد الدّعوة إلى التّوحيد بالنّهي عن البخس بقوله: فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ إذا أدّيتم حقوق النّاس به وَ اَلْمِيزانَ إذا وزنتموها وَ لا تَبْخَسُوا و لا تنقصوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ و حقوقهم مطلقا [سواء أ]كانت في المكيلات و الموزونات، أو في غيرهما وَ لا تُفْسِدُوا بالشّرك و تضييع الحقوق فِي اَلْأَرْضِ و لا تشيعوا الظّلم فيها بَعْدَ إِصْلاحِها من جانب اللّه ببعث الرّسل، و تشريع الأحكام، و إيجاب العدل ذلِكُمْ الإيفاء خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع في الدّنيا لإيجابه رغبة النّاس في معاملتكم و كثرة أرباحكم، و في الآخرة بغاية إكرامكم و إجزال ثوابكم على التّوحيد و العدل في الحقوق إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بي و بدار الجزاء.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 86

ثمّ أنّه قيل: إنّ القوم كانوا إذا رأوا أحدا يريد شعيبا يقولون له: لا يفتننّك شعيب عن دينك فإنّه كذّاب، و كانوا يتوعّدون من آمن به، و قيل: إنّهم يقطعون الطّريق، فنهاهم عن ذلك بقوله: وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ و في كلّ طريق، حال كونكم تُوعِدُونَ و تهدّدون النّاس على الإيمان بي، أو تخوّفونهم على أنفسهم و أموالهم و قيل: إنّ المراد: و لا تقتدوا بالشّيطان في قوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ (2).

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ (86)وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و تمنعون عن السّلوك في طريق عبوديّته بتحصيل معارفه و المداومة

ص: 627


1- . تفسير روح البيان 3:200.
2- . الأعراف:7/16.

على العمل بأحكامه مَنْ آمَنَ بِهِ و صدّق بربوبيّته و توحيده وَ تَبْغُونَها و تطلبون لها عِوَجاً و ميلا و انحرافا عن الاستقامة التي تكون للحقّ بإلقاء الشّبهات و الحيل و التّسويلات.

في كيفية دعوة

شعيب و محاجّته

ثمّ رغّبهم في الإيمان و الطاعة بقوله: وَ اُذْكُرُوا نعمة اللّه عليكم إِذْ كُنْتُمْ في بدو الأمر قَلِيلاً من حيث النّسل و المال فَكَثَّرَكُمْ فيهما بفضله و رحمته.

ثمّ وعظهم و هدّدهم على الكفر و المخالفة بقوله: وَ اُنْظُرُوا و تفكّروا في الأمم الماضية أنّه كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض منهم؛ كقوم نوح و عاد و ثمود، و اعتبروا بهم، و احذروا أن تكونوا مثلهم في الكفر و الشّقاق مع الرّسل و استحقاق عذاب الاستئصال.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 87 الی 90

ثمّ لمّا كان الكفّار يطعنون على المؤمنين بالفقر و يقولون لهم: لو كنتم على الحقّ لكان لكم القوّة و الثّروة، و حيث إنّ لنا الغنى و الشّوكة كان الحقّ معنا، ردّهم بأنّ الحقّ لمن كان له حسن العاقبة، و سلّى قلوب المؤمنين به، و هدّد الكفّار بالعذاب بقوله: وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من التّوحيد و دار الجزاء و أحكام اللّه و قوانينه المقرّرة في شرعه وَ طائِفَةٌ اخرى منكم لَمْ يُؤْمِنُوا بما جئت به إصرارا على الكفر، و لجاجا مع الحقّ فَاصْبِرُوا يا قوم و تربّصوا، و لا تغترّوا بما آتاكم اللّه في الدّنيا حَتّى يأتي الوقت الموعود، و هو يوم القيامة، أو وقت نزول عذاب الاستئصال، إذن يَحْكُمَ اَللّهُ بَيْنَنا و بينكم بالحق من نصري و نصر من معي و إعلاء درجاتنا، و خزي الكافرين و تعذيبهم وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ و أعدل القاضين، لا معقّب لحكمه، و لا رادّ لقضائه.

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اَللّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ (87) قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنّا كارِهِينَ (88) قَدِ اِفْتَرَيْنا عَلَى اَللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اَللّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ (89) وَ قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90)

في محاجة شعيب

مع قومه و كيفية

هلاك القوم

قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و ترفّعوا عن قبول الحقّ مِنْ قَوْمِهِ بعد المواعظ الشافية و النّصائح البليغة: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ بالأصالة وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ

ص: 628

تبعا لك مِنْ قَرْيَتِنا و بلدنا بغضا لكم، و تخلّصا من زحمتكم و فتنتكم أَوْ لَتَعُودُنَّ و لترجعنّ فِي مِلَّتِنا من عبادة الأصنام.

و إنّما عبّروا عن الدخول في ملّتهم بالعود-مع أنّ شعيبا لم يكن على ملّتهم قطّ، لعدم جواز الكفر على الأنبياء-لاعتقادهم في حقّه الكفر قبل إظهاره الدّعوة إلى التّوحيد.

فلمّا سمع شعيب منهم هذا الكلام الشّنيع قالَ إنكارا عليهم و تعجّبا من قولهم: أنعود أَ وَ لَوْ كُنّا كارِهِينَ لملّتكم، متنفّرين من الدّخول في دينكم؟ ! لا يكون ذلك أبدا، فإنّه بعد حكم العقل الفطري بالتّوحيد، و شهادة جميع الموجودات، و انتظام العالم أحسن نظام، و اتّفاق جميع الأنبياء من أوّل الدّنيا عليه،

و على بطلان الشّرك و عبادة الأصنام قَدِ اِفْتَرَيْنا عَلَى اَللّهِ كَذِباً عظيما إِنْ أشركنا و عُدْنا كما تزعمون فِي مِلَّتِكُمْ الباطلة، و قلنا بأنّ اللّه اتّخذ لنفسه ندّا بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اَللّهُ مِنْها بتكميل عقولنا، و تهذيب أخلاقنا، و إلهامه إيّانا أنّه ليس كمثله شيء، و أنّ الأصنام لا تضرّ و لا تنفع.

ثمّ بالغ في الإنكار بقوله: وَ ما يَكُونُ جائزا لَنا بحكم العقل السّليم أَنْ نَعُودَ فِيها و نتديّن بها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ ضلالنا و خزينا، و لا يشاء ذلك أبدا؛ لأنّه رَبُّنا اللّطيف بنا و بجميع عباده، لا يريد لنا إلاّ ما يقرّبنا إليه، و يؤهّلنا لفضله و رحمته. و فيه الاعتراف بعجز نفسه عن تحصيل كلّ خير، و أنّ الهداية و الضّلالة بتوفيق اللّه و خذلانه.

ثمّ لمّا كان فضله متوقّفا على القابليّة و الاستعداد، و إثابته و تعذيبه على الإيمان و الكفر، و الطاعة و العصيان، و كلّها منوطة بعلمه بحقائق الأشياء و ضمائر عباده و أحوالهم و أعمالهم، أعلن بسعة علمه بقوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ من القابليّات و الضمائر و الظّواهر عِلْماً (1)لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

ثمّ لما وعده الكفّار أن يخرجوه من بلدهم، أو يعيدوه في ملّتهم، أظهر اعتماده على اللّه بقوله: رَبَّنَا اِفْتَحْ و احكم بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ و بما نستحقّه وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ و أعدل الحاكمين تحلّ المعضلات و تفصل الأمور

وَ قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ تثبيطا للنّاس عن اتّباعه: أيّها النّاس لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً و أمتثلتم ما أمركم به من الإيمان بتوحيد اللّه، و ترك البخس إِنَّكُمْ إِذاً ألبتّة لَخاسِرُونَ و متضرّرون في دنياكم لفوات نفع البخس عنكم، و في دينكم لترككم ما كان عليه آباؤكم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 91 الی 93

فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ اَلْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

ص: 629


1- . لم يرد في النسخة تفسير قوله تعالى: عَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْنا .

فلمّا بالغوا في الضّلال و الإضلال استحقّوا عذاب الاستئصال فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ و الزلزلة الشّديدة الحاصلة من الصّيحة. عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: رجفت بهم الأرض و أصابهم حرّ شديد، فرفعت لهم سحابة فخرجوا إليها يطلبون الرّوح منها، فلمّا كانوا تحتها سالت عليهم بالعذاب و معه صيحة جبرئيل (1)فأحاط بهم العذاب من فوقهم و من تحت أرجلهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ و بلد أمنهم جاثِمِينَ خامدين ساكنين لا حراك لهم.

عن الصادق عليه السّلام: «بعث اللّه عليهم صيحة واحدة فماتوا» (2).

ثمّ بيّن اللّه تعالى أن جثومهم كان على قولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ (3)بقوله: اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً و هدّدوه بأن يخرجوه من القرية، أخرجهم اللّه منها بالإهلاك فصاروا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا و لم يقيموا بها مع قوّتهم و شوكتهم، فهم المخرجون منها بحيث أضمحلّت آثارهم منها دون شعيب. ثمّ ردّ اللّه عليهم قولهم: لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً (4)بقوله: اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ اَلْخاسِرِينَ دنيا و آخرة، لا الّذين اتّبعوا شعيبا

فَتَوَلّى و أعرض عَنْهُمْ شعيب بعد هلاكهم. و قيل: قبل ذلك. وَ قالَ يا قَوْمِ و اللّه لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ و أدّيت إليكم رِسالاتِ رَبِّي بأوفى بيان، بحيث لم يبق لكم العذر في ترك الإيمان، فلم تصدّقوني وَ نَصَحْتُ لَكُمْ أبلغ نصح، فلم تقبلوا منّي، و أنذرتكم من سوء عاقبة الكفر و العصيان، فلم تعتنوا بقولي فَكَيْفَ آسى و أتحزّن بعد ذلك كلّه عَلى هلاك قَوْمِ استحقّوا ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال لكونهم كافِرِينَ باللّه و رسله و دار الجزاء.

قيل: إنّه اشتدّ حزنه على قومه لكثرتهم، و قرابتهم، و طول الألفة (5)بهم، و توقّعه إجابتهم إلى قبول قوله (6).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 94 الی 95

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا اَلضَّرّاءُ وَ اَلسَّرّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)

ص: 630


1- . تفسير روح البيان 3:203.
2- . مجمع البيان 4:693، تفسير الصافي 2:220.
3- . الأعراف:7/88.
4- . الأعراف:7/90.
5- . في النسخة: الفتنة.
6- . تفسير الرازي 14:183.

ثمّ عزّى نفسه بأنّهم أهلكوا أنفسهم بسوء اختيارهم و إصرارهم على الكفر، و مشاقّة اللّه و رسوله، فليسوا بأهل لأن يأسى و يحزن عليهم، ثمّ بيّن اللّه تعالى غاية لطفه بعباده، و أنّه لا يكتفي في هدايتهم بإرسال الرّسل، بل كان يوجد لهم منبّهات اخر بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ و محلّة قوم، بلدا كانت أو رستاقا (1)مِنْ نَبِيٍّ منذر لهدايتهم، فكذّبه أهلها إِلاّ أَخَذْنا و ابتلينا أَهْلَها و ساكنيها بِالْبَأْساءِ و الشّدائد من الفقر و الفّاقة وَ اَلضَّرّاءِ من الأمراض و الأوجاع. و قيل في تفسيرهما على العكس؛ لأجل أنّه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ و رجاء أنّهم يخشعون لنا و ينقادون لأوامرنا، فإنّ البلايا من الفقر و المرض ترقّ القلوب و تؤثّر الانكسار و التّواضع في النّفوس.

ثُمَّ إذا لم يتأدّبوا بالبلاء بَدَّلْنا ما كان من حالهم بأن أعطيناهم مَكانَ اَلسَّيِّئَةِ و البليّة التي كانت أصابتهم اَلْحَسَنَةَ من الرّخاء و السّعة و الصحّة، لتدعوهم النّعمة بعد النّقمة و الرّخاء بعد الشدّة إلى الشّكر و الخضوع و الطّاعة، فلم ينفعهم ذلك و بقوا على كفرهم و طغيانهم حَتّى عَفَوْا و كثروا عددا و عدة و نعمة وَ قالُوا جهلا بأنّ الشّدائد كانت لتأديبهم، و الإحسان إليهم بالنّعم كان لتنبيههم: إنّ هذه التّغييرات من عادة الزمان في أهله، و قَدْ مَسَّ و أصاب آباءَنَا و أجدادنا في سالف الزّمان البأساء مرّة، و اَلضَّرّاءُ اخرى وَ اَلسَّرّاءُ من النّعمة و الرّخاء ثالثة، فلم ينتقلوا عمّا كانوا عليه، فكونوا أنتم كما كان آباؤكم.

فلمّا لم ينتفعوا بتلك الأحوال المختلفة، و لم ينقادوا، بل اصرّوا على ما هم عليه من الكفر و الطّغيان و تكذيب الرّسل فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب بَغْتَةً و فجأة وَ هُمْ حال نزوله لا يَشْعُرُونَ به و لا يحتملون ابتلاءهم به، فكان عذابهم لعدم انتظارهم له أشدّ عليهم نكالا و أعظم حسرة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 96

ثمّ دعا سبحانه النّاس إلى الإيمان و رغّبهم فيه بتنبيههم على فوائده بقوله: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى المهلكة بكفرهم و عصيانهم آمَنُوا بي و بوحدانيّتي، و صدّقوا رسلي الّذين أرسلناهم إليهم لهدايتهم، بدل كفرهم و تكذيبهم وَ اِتَّقَوْا المعاصي و السيّئات بدل ارتكابهم لها و انغمارهم فيها، و اللّه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ كثيرة مِنَ اَلسَّماءِ بالأمطار النافعة وَ من اَلْأَرْضِ بإنبات النّباتات الكثيرة و الثّمار و الزّروع، و إكثار المواشي و إدامة الأمن و السّلامة، و لوسّعنا عليهم جميع

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)

ص: 631


1- . الرّستاق: معرّب «روستاه» و هي القرية بالفارسية.

الخيرات، و يسّرناها لهم من كلّ جانب وَ لكِنْ الأسف كلّ الأسف أنّهم كَذَّبُوا الرّسل فيما جاءوا به من التّوحيد و الشّرائع، و استكبروا عن الإيمان بهم، و عتوا على ربّهم فَأَخَذْناهُمْ بعذاب الاستئصال، و أهلكناهم عن آخرهم، لا للتشفّي؛ لأنّه محال علينا، بل كان هلاكهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسعيهم من الكفر و المعاصي العظام الموجبين لاستحقاقهم ذلك في الدّنيا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 97 الی 99

ثمّ هدّد اللّه تعالى النّاس على كفرهم و عصيانهم بعذاب الاستئصال بأن أنكر عليهم الأمن منه بقوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى من الكفّار أَنْ يَأْتِيَهُمْ و ينزل عليهم بَأْسُنا و عذابنا بَياتاً و ليلا وَ هُمْ نائِمُونَ مستريحون لا يحتملون وقوع العذاب عليهم

أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى و حال ارتفاع الشّمس وَ هُمْ من غاية غفلتهم يَلْعَبُونَ و يشتغلون بما لا ينفعهم في الدّين و الدّنيا، بل يضرّهم كإنكار التّوحيد و تكذيب الرّسل، أو يصرفون هممهم في تحصيل الدّنيا.

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ (99)

ثمّ بالغ سبحانه في إنكار الأمن عليهم بقوله: أَ فَأَمِنُوا هؤلاء المكذّبون للرّسل مَكْرَ اَللّهِ و عذابه البغتي أو استدراجه لهم (1)فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّهِ و أخذه فجأة إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ و المضرّون على أنفسهم بجهلهم باللّه و قدرته، و تركهم النّظر في عواقب الأمور، و عدم اعتبارهم من حال الامم الماضية و المهلكة، فإنّهم الّذين لا يخافون اللّه و عذابه.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 100

ثمّ نبّه اللّه تعالى على أنّ ذكر قصص الأنبياء و عصيان اممهم و إنزال العذاب على معارضيهم، كان لعبرة النّاس بقوله: أَ وَ لَمْ يَهْدِ و لم يتّضح لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ و يسكنونها و يعيشون فيها مِنْ بَعْدِ إهلاك أَهْلِها الذين كانوا ساكنين فيها، فعذّبوا بذنوبهم و طغيانهم أَنْ لَوْ نَشاءُ أهلكناهم بكفرهم و أَصَبْناهُمْ بالعذاب بِذُنُوبِهِمْ كما أصبنا بالعذاب من قبلهم؟ لا و اللّه لا يهتدون؛ لأنّا نختم على أفئدتهم وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بكفرهم و إصرارهم عليها (2)فَهُمْ إذن لا

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)

ص: 632


1- . في النسخة: بهم.
2- . في النسخة: عليهم.

يَسْمَعُونَ مواعظ اللّه و آياته، و ما يقصّ عليهم من العبر سماع القبول، أو لا يعتنون بها كي ينتفعوا بها و يعتبروا منها، فكأنّهم لا يسمعونها.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 101

ثمّ بيّن اللّه تعالى كيفيّة الطبع على القلوب بقوله: تِلْكَ اَلْقُرى الخمس التي نَقُصُّ و نتلو عَلَيْكَ بعضا مِنْ أَنْبائِها و أخبارها التي فيها الغبطة و التّذكير وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، و مع ذلك طبع على قلوبهم فَما كانُوا بعد مجيء الرّسل، و مشاهدة المعجزات، و استماع المواعظ و التّهديدات لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ بل استمرّوا على كفرهم السّابق، و أصرّوا على ما كانوا عليه من التكذيب كَذلِكَ الطّبع الذي كان على قلوب أهالي القرى الخمس المهلكة الّذين مرّ ذكرهم يَطْبَعُ اَللّهُ و يختم عَلى قُلُوبِ جميع اَلْكافِرِينَ المصرّين على كفرهم من أهل عصرك و غيرهم، فلا يدخل في قلوبهم الإيمان، و لا تؤثّر فيها الآيات و النّذر، فلا يحزنك تكذيبهم و إعراضهم.

تِلْكَ اَلْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اَللّهُ عَلى قُلُوبِ اَلْكافِرِينَ (101)

في ذكر بعض اخبار

عالم الذر و الطينة

عن القمّي رحمه اللّه: لا يؤمنون في الدّنيا بما كذّبوا في الذرّ، و هو ردّ على من أنكر الميثاق في الذرّ الأوّل (1).

عن (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه خلق الخلق، فخلق من أحبّ ممّا أحبّ، و كان ما أحبّ أن خلقه من طينة الجنّة، و خلق من أبغض ممّا أبغض، [و كان ما أبغض]أن خلقه من طينة النّار، ثمّ بعثهم في الظّلال» . فقيل: و أيّ شيء الظّلال؟ قال: «أ لم تر إلى ظلّك في الشّمس؛ شيء و ليس بشيء، ثمّ بعث منهم النّبيّين فدعوهم إلى الإقرار باللّه، و هو قوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ (2)، ثمّ دعوهم إلى الإقرار بالنبيّين، فأقرّ بعضهم و أنكر بعض، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا، فأقرّ بها و اللّه من أحبّ و أنكرها من أبغض، و هو قوله: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ثمّ قال: «كان التّكذيب ثمّ» (3). و في رواية اخرى: «فمنهم من أقرّ بلسانة و لم يؤمن بقلبه، فقال اللّه: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ» (4).

و عنهما عليهما السّلام: «بعث اللّه الرّسل إلى الخلق و هم في أصلاب الرّجال و أرحام النّساء، فمن صدّق

ص: 633


1- . تفسير القمي 1:236، تفسير الصافي 2:222.
2- . الزخرف:43/87.
3- . الكافي 2:8/3، تفسير الصافي 2:222.
4- . تفسير القمي 1:248، تفسير الصافي 2:222.

حينئذ صدّق بعد ذلك، و من كذّب حينئذ كذّب بعد ذلك» (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 102

ثمّ لمّا كان الكفّار عند مساس البأساء و الضرّاء، يعاهدون اللّه بقولهم: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (2)، عيّرهم سبحانة على نقض العهد بقوله: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ وفاء بعد عَهْدٍ عاهدوه مع حكم العقل بوجوبه.

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)ثمّ أكّد ذلك التّعيين بقوله: وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ و خارجين من حدود العقل و الدّين، و علمنا أغلبهم عن شكر ربّهم و طاعته آبين.

و قيل: إنّ المراد من العهد: نصب الأدلّة الدالّة على توحيده و رسالة رسوله.

و عن ابن مسعود قال: العهد هنا الإيمان، و الدليل عليه قوله تعالى: إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً (3)يعني: آمن و قال: لا إله إلاّ اللّه (4).

و قيل: إنّ المراد به: العهد الذي أخذه اللّه منهم في عالم الذرّ.

عن ابن عبّاس قال: يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم اللّه و هم في صلب آدم حيث قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (5)، فلمّا أخذ اللّه منهم هذا العهد و أقرّوا به ثمّ خالفوا ذلك، صار كأنّه ما كان لهم عهد، فلهذا قال: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ (6)

العياشي: عن أبي ذرّ رضوان اللّه عليه قال: و اللّه، ما صدق أحد ممّن أخذ ميثاقه فوفى بعهد اللّه غير أهل بيت نبيّهم و عصابة قليلة من شيعتهم، و ذلك قول اللّه: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (7).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال لأبي بصير: يا أبا بصير، إنّكم وفيتم بما أخذ اللّه عليه ميثاقكم من ولايتنا، و إنّكم لم تبدّلوا بنا غيرنا، و لو لم تفعلوا لعيّركم اللّه كما عيّرهم حيث يقول جلّ ذكره: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (8).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّها نزلت في الشاكّ» (9).

ص: 634


1- . تفسير العياشي 2:282/1971، تفسير الصافي 2:223.
2- . يونس:10/22.
3- . مريم:19/87.
4- . تفسير الرازي 14:188.
5- . الأعراف:7/172.
6- . تفسير الرازي 14:188.
7- . تفسير العياشي 2:154/1601، تفسير الصافي 2:223.
8- . الكافي 8:35/6، تفسير الصافي 2:223.
9- . الكافي 2:293/1، تفسير الصافي 2:223.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 103

ثمّ شرع سبحانه في ذكر قصّة موسى و دعوته، و مخالفة فرعون و غرقه بجنوده، و لمّا كان موسى أكثر معجزة و أقواها من سائر الأنبياء، و قصّته أشدّ تأثيرا في نفوس اليهود و النّصارى، بسطها بقوله: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ في بني إسرائيل و مملكة مصر مُوسى بن عمران ملتبسا بِآياتِنا الدالّة على رسالته إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر، قيل: اسمه وليد بن مصعب، و قيل: قابوس (1)وَ مَلاَئِهِ و أشراف مملكته، و إنّما خصّهم بالذّكر مع عموم رسالته لكون غيرهم تبعا لهم فَظَلَمُوا بالمعجزات و الآيات، و كفروا بِها حيث نسبوها إلى السّحر، وسعوا في الإفساد في أمر نبوّته و في الأرض فَانْظُرْ يا محمّد، أو أيّها العاقل بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض بالإفساد في أمر الرّسل.

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ (103)ثمّ أنّه روى الصّدوق عن الباقر عليه السّلام-في حديث-: «ثمّ أنّ اللّه تعالى أرسل الأسباط اثني عشر بعد يوسف، ثمّ موسى و هارون إلى فرعون و ملئه إلى مصر وحدها» (2).

و روى العيّاشي: «أنّ فرعون بنى سبع مدائن يتحصّن فيها من موسى عليه السّلام، و جعل فيما بينها آجاما و غياضا (3)، و جعل فيها الأسد ليتحصّن بها من موسى، فلمّا بعث اللّه موسى عليه السّلام إلى فرعون فدخل المدينة، فلمّا رآه الأسد تبصبصت (4)و ولّت مدبرة، و لم يأت مدينة إلاّ انفتح له بابها، حتّى انتهى إلى قصر فرعون الذي هو فيه. قال: فقعد على بابه و عليه مدرعة (5)من صوف و معه عصاه، فلمّا خرج الآذن قال له موسى عليه السّلام استأذن لي على فرعون، فلم يلتفت إليه، قال: فمكث بذلك ما شاء اللّه يسأله أن يستأذن له، قال: فلمّا أكثر عليه قال له: أما وجد ربّ العالمين من يرسل غيرك؟ ! قال: فغضب موسى عليه السّلام فضرب الباب بعصاه، فلم يبق بينه و بين فرعون باب إلاّ انفتح، حتّى نظر فرعون إليه و هو في مجلسه، فقال: ادخلوه، فدخل عليه و هو في قبّة له مرتفعة كثيرة الارتفاع ثمانون ذراعا» (6).

و في رواية: «أنّ موسى و هارون أتيا باب فرعون، فضرب عصاه بالباب، ففزع فرعون فشاب رأسه فاستحيى فخضب بالسّواد (7)، فأذن لموسى في الدّخول، فدخل هو و أخوه هارون عليه» .

ص: 635


1- . تفسير روح البيان 3:210.
2- . كمال الدين:220/2، تفسير الصافي 2:223.
3- . الآجام: جمع أجمة، و هي الشجر الكثير الملتفّ، و الغياض: جمع غيضة، مجتمع الشجر في مغيض ماء.
4- . تبصبص الكلب: حرّك ذنبه.
5- . المدرعة: جبّة من صوف مشقوقة المقدّم.
6- . تفسير العياشي 2:154/1603، تفسير الصافي 2:224.
7- . تفسير الرازي 14:189، تفسير روح البيان 3:210.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 104 الی 108

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ من الرّسل مبعوث إليك مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ لأدعوك إلى عبادته، و أنهاك عن دعوى الالوهيّة، فقال فرعون: كذبت،

ما أنت برسول، فقال موسى عليه السّلام: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اَللّهِ قولا إِلاَّ اَلْحَقَّ و الصّدق.

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (108)ثمّ أخبر بأنّ له معجزة دالّة على صدقه بقوله: قَدْ جِئْتُكُمْ و أتيت إليكم بِبَيِّنَةٍ واضحة و معجزة باهرة دالّة على صدقي مِنْ قبل رَبِّكُمْ فإذا تبيّن لك صدق رسالتي فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ و فكّهم من قيد العبوديّة، و خلّهم حتّى أذهب بهم إلى الأرض المقدّسة التي هي موطن آبائهم. قيل: كان يستعملهم في الأعمال الشاقّة لعدم اعترافهم بربوبيّته.

قالَ فرعون: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ و معجزة من عند إلهك الذي أرسلك فَأْتِ بِها و أظهرها إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى رسالتك حتّى نعلم بصدقك

فَأَلْقى موسى عليه السّلام عَصاهُ من يده على الأرض فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ و حيّة (1)عظيمة مُبِينٌ لا يشكّ أحد في أنّها ثعبان.

في رواية العيّاشي: «كان لها شعبتان، فإذا هي حيّة قد وقع إحدى الشّعبتين في الأرض و الشّعبة الاخرى في أعلى القبّة، قال: فنظر فرعون إلى جوفها و هو يلتهب نيرانا، قال: و أهوت إليه فأحدث و صاح: يا موسى خذها» (2).

وَ نَزَعَ موسى عليه السّلام بعد معجزة العصا يَدَهُ و أخرجها من جيبه أو جناحه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ بياضا خارقا للعادة لِلنّاظِرِينَ إليها.

روي أنّ موسى أرى فرعون يده و قال: ما هذه؟ فقال: يدك، ثمّ أدخلها جيبه و عليه مدرعة صوف و نزعها، فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشّمس. و كان عليه السّلام آدم (3)شديد الأدمة (4).

و عن ابن عبّاس قال: كان لها نور ساطع يضيء ما بين السّماء و الأرض (5)

ص: 636


1- . في النسخة: و جثّة.
2- . تفسير العياشي 2:155/1603، تفسير الصافي 2:224.
3- . أدم: اشتدت سمرته، فهو آدم.
4- . تفسير روح البيان 3:211.
5- . تفسير الرازي 14:196.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 109 الی 116

فلمّا رأى فرعون هاتين المعجزتين و شاور مع أشراف (1)قومه في أمر موسى عليه السّلام قالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ في مجلس المشورة: إِنَّ هذا الرّجل المدّعي للرّسالة لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسّحر ماهر فيه،

يطلب السّلطنة يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ بوسيلة سحره مِنْ أَرْضِكُمْ و مملكتكم، و يجعل الحكومة فيها لبني إسرائيل، فلمّا سمع فرعون ذلك منهم قال لهم: فَما ذا تَأْمُرُونَ و بأيّ شيء تشيرون عليّ؟

قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ و أخّر أمرهما، و لا تعجل في شأنهما وَ أَرْسِلْ الرّسل فِي اَلْمَدائِنِ و البلاد التي فيها السّحرة، حال كون رسلك حاشِرِينَ و جامعين من له علم بالسّحر

يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بالسّحر حاذق فيه.

قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي اَلْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ اَلْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)عن العيّاشي: روي أنّه لم يكن في جلسائه يومئذ ولد سفاح، و لو كان لأمر بقتلهما. الخبر (2).

قيل: كان له مدائن فيها السّحرة المعدّة لوقت الحاجة إليهم، و لم يكن في زمان السّحرة أكثر من زمان موسى عليه السّلام.

في معارضة السحرة

مع موسى عليه السّلام

وَ جاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد إرسال الشّرطة إليهم و إحضارهم قالُوا : يا فرعون إِنَّ لَنا عندك لَأَجْراً عظيما ألبتّة إِنْ كُنّا نَحْنُ اَلْغالِبِينَ على موسى في عمل السّحر

قالَ فرعون: نَعَمْ إنّ لكم لأجرا جزيلا عندي وَ إِنَّكُمْ مع ذلك لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ عندي منزلة و مقاما.

قيل: إنّه قال لهم: تكونون أوّل من يدخل مجلسي، و آخر من يخرج منه.

نقل أنّه كان في المدائن أخوان ماهران في السّحر، فلمّا بلغهم أنّ فرعون طلبهم لمعارضة موسى عليه السّلام جاءوا إلى قبر أبيهم و قالوا: يا أبه، إنّ فرعون طلبنا لنعارض رجلين معهما عصا إذا ألقياها تصير ثعبانا يأكل كلّ ما يراه، و لذا ضيّقا على فرعون، قال أبوهم: انظروا هل تصير ثعبانا حال نوم

ص: 637


1- . كذا، و الظاهر: شاور أشراف.
2- . تفسير العياشي 2:156/1604، تفسير الصافي 2:225.

صاحبيها، فإن صارت ثعبانا عند نومهما فإنّه ليس من السّحر، و لا يقدر أهل العالم على معارضة الرّجلين. ثمّ حضر الأخوان مع أصحابهما-و كانوا أثني عشر ألفا، و قيل: سبعين ألفا-عند فرعون و قالوا ما قالوا، ثمّ ذكر الأخوان لأصحابهما ما وقع بينهما و بين أبيهما من السّؤال و الجواب، ففتّش السّحرة عن حال العصا وقت نوم موسى عليه السّلام، فعلموا أنّ موسى عليه السّلام إذا نام تصير العصا حيّة و تحرسه، فتردّد القوم و فتروا عن معارضته.

فجلس فرعون في قصره، و طلب موسى عليه السّلام، و أحضر السّحرة كي يعارضوه، و حضر عامّة أهل مصر، فاصطفّ السّحرة في جانب و قام، موسى و هارون عليهما السّلام في جانب آخر، فتقدّم السّحرة إليهما (1)

و قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أوّلا وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ حبالنا و عصيّنا أوّلا، فجعلوا الاختيار لموسى في السّبقة إلى الإلقاء.

قيل: كان سبب إيمانهم تأدّبهم مع موسى عليه السّلام (2).

قيل: في تغيير النّظم إشعار بميلهم إلى كونهم السّابقين في الإلقاء (3).

قالَ لهم موسى تأكيدا لأمر المعجزة: أَلْقُوا انتم، أولا حبالكم و عصيّكم فَلَمّا أَلْقَوْا ما معهم سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّاسِ و خيّلوا إليهم ما لا حقيقة له وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ و بالغوا في إرعابهم وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ .

روي أنّهم جمعوا حبالا غلاظا و خشبا طوالا كأنّها حيّات جسام غلاظ، و لطّخوا تلك الحبال بالزّئبق، و جعلوا الزّئبق داخل تلك العصيّ، فلمّا أثّرت حرارة الشّمس فيها تحرّكت و التوى بعضها على بعض، و كانت كثيرة جدّا، فتخيّل النّاس أنّها تتحرّك و تلتوي باختيارها، و صار الميدان كأنّه مملوء بالحيّات (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 117 الی 122

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ من يدك، فألقاها فَإِذا هِيَ صارت حيّة عظيمة تَلْقَفُ و تبلع ما يَأْفِكُونَ و يزوّرون.

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ اَلْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ اِنْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)

ص: 638


1- . تفسير روح البيان 3:212 و 213.
2- . تفسير روح البيان 3:213.
3- . تفسير الرازي 14:202.
4- . تفسير روح البيان 3:213.

روي [أنّها]لما تلقّفت حبالهم و عصيّهم و ابتلعتها بأسرها، أقبلت على الحاضرين فهربوا، و ازدحموا حتّى هلك منهم جمع كثير لا يعلم عددهم إلاّ اللّه. ثمّ أخذها موسى و صارت عصا كما كانت، و أعدم اللّه بقدرته القاهرة تلك الأجرام العظام، و قيل: فرّقها أجزاء لطيفة، فقالت السّحرة: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا و عصيّنا (1).

فَوَقَعَ ما هو اَلْحَقُّ الثابت في الواقع، و ظهر صدق موسى عليه السّلام وَ بَطَلَ و أضمحلّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السّحر،

و أمّا فرعون و ملؤه فَغُلِبُوا في مجلسهم هُنالِكَ بحيث لم تكن غلبته أظهر من ذلك وَ اِنْقَلَبُوا و رجعوا عن معارضته إلى محالّهم صاغِرِينَ بحيث لا صغار و لا ذلّ في حقّ مبطل مثل ذلك

وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ و خرّوا على الأرض ساجِدِينَ بالشدّة كأنّه ألقاهم ملق، إظهارا لبهور الحقّ و عدم تمالكهم من قبوله، و إعلاما بكسر فرعون بإيمان الّذين أتى بهم لكسر موسى عليه السّلام، و انقلاب الأمر عليه.

استدلّ المتكلّمون بهذه الآية على غاية فضيلة العلم؛ لأنّ السّحرة لعلمهم بحقيقة السّحر و منتهاه علموا أنّ ما أتاه موسى عليه السّلام خارج عن السّحر، و أنّه من المعجزات الإلهية لا من التمويهات البشرية،

و لذا قالُوا آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ و لو لم يكونوا كاملين في علم السّحر لم يمكنهم الاستدلال بتلك المعجزة لاحتمال كونها السّحر الكامل.

ثمّ لمّا كان في كلامهم «ربّ العالمين» ، و كان فرعون مدّعيا للرّبوبيّة أوضحوه بقوله: رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ فإنّ فرعون و إنّ ربّى موسى في صغره فإنّه لم يربّ هارون.

قيل: إنّهم لمّا قالوا: آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ قال فرعون: إياي عنوا، فلمّا قالوا: رَبِّ مُوسى قال: إيّاي عنوا، لأنّي ربّيت موسى، فلمّا قالوا: وَ هارُونَ زالت الشّبهة، و عرف الكلّ أنّهم كفروا بفرعون (2).

و قيل: إنّما خصّوهما بالذّكر تفضيلا و تشريفا لهما (3).

عن ابن عبّاس: آمنت السّحرة و اتّبع موسى عليه السّلام من بني إسرائيل ستمائة ألف (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 123

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)

ص: 639


1- . تفسير روح البيان 3:213.
2- . تفسير الرازي 14:206.
3- . تفسير الرازي 14:207.
4- . تفسير روح البيان 3:214.

ثمّ قالَ فِرْعَوْنُ للسّحرة بعد إيمانهم لموسى عليه السّلام إنكارا عليهم و توبيخا لهم: آمَنْتُمْ بِهِ و صدّقتموه في دعوى رسالته قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في الإيمان به، مع أنّكم عبيدي، و لم يجز لكم عمل بغير إذني إِنَّ هذا الصّنيع البتّة لَمَكْرٌ عظيم مَكَرْتُمُوهُ و حيلة واضحة احتلتموها أنتم و موسى فِي هذه اَلْمَدِينَةِ قبل أن تخرجوا إلى الميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها بذلك المكر أَهْلَها و ساكنيها من القبط و تخلّى لكم و لبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ جزاء مكركم و صنيعكم، و عن قريب تدرون سوء عاقبة عملكم.

قيل: إنّ فرعون لمّا رأى إيمان السّحرة بموسى عليه السّلام حجّة قوية على صحّة نبوّته، ألقى الشّبهة في ذلك بقوله إِنَّ هذا لَمَكْرٌ يعني أنّ إيمانهم به ليس إلاّ لتواطئهم مع موسى على ذلك، و غرضهم منه انقراض سلطنة القبط، و إخراجهم من مصر.

و عن ابن مسعود، و ابن عبّاس: أنّ موسى و أمير السّحرة التقيا، فقال له موسى عليه السّلام: أ رأيتك إن غلبتك أتؤمن بي و تشهد أنّ ما جئت به الحقّ؟ قال السّاحر: لآتينّ غدا بسحر لا يغلبه سحر، فو اللّه لئن غلبتني لأؤمننّ بك، و فرعون ينظر إليهما و يسمع قولها. فهذا هو قول فرعون إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 124 الی 127

ثمّ فصل ما أجمله أوّلا من التّهديد بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ من طرف وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ذلك الطّرف ثُمَّ بعد ذلك لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ على جذوع النّخل تفضيحا لكم، و تنكيلا و عبرة لأمثالكم.

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَ قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)قيل: هو أوّل من سنّ ذلك، فشرعة اللّه تعالى لقطّاع الطّريق تعظيما لجرمهم (2).

ثمّ لمّا سمع السّحرة هذا التهديد الشديد قالُوا إعلاما بثباتهم على دينهم، و عدم مبالاتهم بالموت، و القتل، بل شغفهم على لقاء اللّه: إِنّا إِلى رَبِّنا و رحمته الواسعة مُنْقَلِبُونَ راجعون، إن

ص: 640


1- . تفسير الرازي 14:208.
2- . تفسير روح البيان 3:214.

فعلت بنا ذلك.

قيل: إنّ المراد: أنا نموت لا محالة قتلتنا أم لا، فلا نبالي بوعيدك (1)، أو أنّا و إيّاكم جميعا ننقلب إلى اللّه، فيحكم بيننا و بينكم وَ ما تَنْقِمُ مِنّا و لا تغضب علينا، أو لا تنكر منّا و لا تعيب علينا لجهة من الجهات إِلاّ لأجل أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا و معجزاته التي أجراها على يد موسى عليه السّلام لَمّا جاءَتْنا و شاهدناها، و هذا الإيمان بحكم العقل عين الصّواب و كلّ المنقبة.

عن ابن عبّاس: يريد: ما أتينا بذنب تعذّبنا عليه إلاّ أن آمنّا بآيات ربّنا من المعجزات الجارية على يد موسى عليه السّلام (2).

ثمّ أعرضوا عن فرعون و توجّهوا إلى اللّه و تضرّعوا إليه و قالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ و أفض عَلَيْنا وصب في قلوبنا صَبْراً كاملا كثيرا-كما يصبّ الماء في الإناء-حين القطع و الصّلب وَ تَوَفَّنا و أقبض أرواحنا حال كوننا مُسْلِمِينَ و لأوامرك و أوامر رسولك منقادين، و بتوحيدك و بما جاء به موسى عليه السّلام متديّنين.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ فرعون قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، ثمّ صلبهم على شاطئ نيل مصر (3).

ثمّ روي أنّ فرعون بعد ما رأى من موسى عليه السّلام ما رأى من معجزة العصا و اليد البيضاء، خافه خوفا شديدا، و لذا لم يجب و لم يتعرّض له بسوء، بل خلّى سبيله (4).

وَ لذا قالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ اعتراضا و إنكارا عليه: أَ تَذَرُ و تترك مُوسى وَ قَوْمَهُ من بني إسرائيل الّذين تبعوه على دينه لِيُفْسِدُوا على النّاس دينهم فِي هذه اَلْأَرْضِ و هذا البلد وَ يَذَرَكَ و يتركك وَ آلِهَتَكَ و معبوداتك-قيل: كان يعبد الكواكب (5)، و قيل: إنّه صنع لقومه أصناما على صورته، و أمرهم أن يعبدوها تقرّبا إليه (6)-فأجابهم فرعون و قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ كما كنّا نقتّلهم قبل مجيء موسى وَ نَسْتَحْيِي و نبقي نِساءَهُمْ أحياء لنستخدمهنّ كما [كنّا]

نستخدمهنّ فيما قبل وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ و على ما يزيد في حقّهم مقتدرون، و على مملكة مصر مستقلّون، كما كنّا كذلك من قبل، و بنو إسرائيل تحت أيدينا في ذلّ الأسر و الهوان كما كانوا كذلك، فلم تتغيّر حالنا و حالهم بغلبة موسى علينا بالسّحر. فلمّا فشا هذا

ص: 641


1- . تفسير روح البيان 3:214.
2- . تفسير الرازي 14:209.
3- . تفسير روح البيان 3:215.
4- . تفسير روح البيان 3:215.
5- . تفسير روح البيان 3:215.
6- . تفسير روح البيان 3:215.

التّهديد من فرعون في بني إسرائيل خافوا منه خوفا شديدا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 128 الی 129

قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ و أتباعه تسلية لهم، و تقوية لقلوبهم: يا قوم، لا تخافوا و لا تحزنوا، و اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ و استنصروا منه في دفع تعدّيات فرعون و قومه، و توكّلوا على اللّه وَ اِصْبِرُوا على ما أصابكم في سبيله، و لا تصغوا إلى ما قال فرعون من الأباطيل إِنَّ هذه اَلْأَرْضَ التي يدّعي فرعون السّلطنة فيها لِلّهِ خاصّة لا لفرعون و غيره، و هو تعالى يُورِثُها و يسلّط على التصرّف فيها مَنْ يَشاءُ سلطنته مِنْ عِبادِهِ إلى أجل معلوم، ليس الأمر بيد فرعون وَ اَلْعاقِبَةُ المحمودة من الغلبة و النّصرة و خير الآخرة لِلْمُتَّقِينَ و المنزّهين من الشّرك و العصيان، و أنتم منهم، و فيه وعد بالنّصر و إهلاك القبط.

قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)عن الباقر عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب عليّ عليه السّلام: إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أنا و أهل بيتي الّذين أورثنا اللّه الأرض، و نحن المتّقون، و الأرض كلّها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فعمّرها فليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، و له ما أكل منها حتّى يظهر القائم من أهل بيتي» الخبر (1).

فلم تستكن قلوب بني إسرائيل من الاضطراب، و لذا قالُوا : يا موسى، قد كنّا أُوذِينا من ظلم فرعون و قومه مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرّسالة وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا رسولا.

عن القمّي رحمه اللّه قال: قال الّذين آمنوا بموسى عليه السّلام: قد أوذينا قبل مجيئك يا موسى بقتل أولادنا، و من بعد ما جئتنا. لمّا حبسهم فرعون لإيمانهم بموسى عليه السّلام (2).

فلمّا رأى موسى شدّة خوف قومه من تهديدات فرعون، و عدم تسكين قلوبهم بما أشعر به في كلامه السّابق من الوعد بهلاك فرعون و نصرتهم عليه، صرّح بما كنّى عنه بقوله: قالَ عَسى رَبُّكُمْ اللّطيف بكم، و أرجو منه أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ و يمكّنكم بعد إهلاكه فِي

ص: 642


1- . تفسير العياشي 2:157/1608، تفسير الصافي 2:228.
2- . تفسير القمي 1:237، تفسير الصافي 2:228.

هذه اَلْأَرْضِ التي تمكّن فيها، و تستريحون في محلّ راحته من بأسه فَيَنْظُرَ و يرى أنّكم بعد تلك النّعمة العظيمة عليكم كَيْفَ تَعْمَلُونَ أتطيعونه أو تعصونه، أو تشكرونه أو تكفرونه؟ فيجازيكم حسبما يظهر منكم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 130

ثمّ بيّن اللّه تعالى غاية لطفه بفرعون و قومه بإنزال المحن و الشّدائد عليهم حالا بعد حال ليؤدّبهم و يردعهم عن ما هم عليه من الكفر و الطّغيان بقوله: وَ لَقَدْ أَخَذْنا و ابتلينا آلَ فِرْعَوْنَ و قومه بِالسِّنِينَ المجدبة-كما عن القمي (1)-أو القحط وَ نَقْصٍ كثير مِنَ اَلثَّمَراتِ بإنزال الآفات الكثيرة على بساتينهم و أشجارهم، تأديبا لهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ و يتنبّهون أنّ ذلك بشؤم ما هم عليه من التمرّد و الطّغيان و الكفر و العصيان.

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)قيل: إنّ السّنين و القحط و الجوع كان لأهل البوادي، و نقص من الثّمرات كان لأهل القرى (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 131

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ تلك المحن مع أنّها لم توجب تنبّههم و اتّعاظهم، و لم تؤثّر في قلوبهم الرّقة و الخشوع، زادتهم عتوا بقوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ من قبل اللّه اَلْحَسَنَةُ من الخصب و السّعة و الصحّة قالُوا لَنا هذِهِ الحسنة، و بحسن إقبالنا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من قحط و مرض و ضرر يَطَّيَّرُوا و يتشاءموا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ و تبعه في الدّين-القمّي رحمه اللّه قال: الحسنة هاهنا: الصحّة و السلامة و الأمن و السّعة، و السيئة هنا الجوع و الخوف و المرض (3).

فَإِذا جاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)أَلا إِنَّما يكون طائِرُهُمْ و ما به خيرهم و شرّهم و نفعهم و ضرّهم عِنْدَ اَللّهِ و بإرادته و مشيئته، لا فاعل لها غيره تعالى وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ما يصيبهم بقضاء اللّه و إرادته و بشؤم أعمالهم، و من يعلمه قليل منهم، و لكن لا يعلمون بمقتضاه.

و عن ابن عبّاس قال: إنّما طائرهم ما قضى عليهم و قدّر لهم (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 132 الی 137

وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفانَ وَ اَلْجَرادَ وَ اَلْقُمَّلَ وَ اَلضَّفادِعَ وَ اَلدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَ لَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

ص: 643


1- . تفسير القمي 1:237، تفسير الصافي 2:228.
2- . تفسير روح البيان 3:217.
3- . تفسير القمي 1:237، تفسير الصافي 2:229.
4- . تفسير الرازي 14:216.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إسنادهم الحوادث إلى عادة الدّهر و شؤم موسى، حكى مبالغتهم في الإصرار على تكذيب موسى عليه السّلام، و لجاجهم معه، و إنكار معجزاته و إسنادها إلى السّحر بقوله: وَ قالُوا بعد مشاهدتهم المعجزات، من العصا و اليد البيضاء و القحط و نقص الثّمرات و غيرها: يا موسى مَهْما تَأْتِنا بِهِ و أيّ ما تظهر لنا مِنْ آيَةٍ و فعلة عجيبة لِتَسْحَرَنا بِها و تسكّر أبصارنا و تموّه علينا فَما نَحْنُ لَكَ في دعوى رسالتك و إعجاز ما أتيت به بِمُؤْمِنِينَ و مصدّقين،

فغضب موسى فدعا عليهم فَأَرْسَلْنا بدعائه عَلَيْهِمُ اَلطُّوفانَ وَ اَلْجَرادَ وَ اَلْقُمَّلَ وَ اَلضَّفادِعَ وَ اَلدَّمَ حال كون المذكورات آياتٍ مُفَصَّلاتٍ و علامات بيّنات بحيث لم يكن يشكّ فيها أحد. و قيل عنى بالمفصّلات متفرّقات منفصلات لامتحان أحوالهم قيل: كان امتداد كلّ اسبوعا، و بين كلّ آيتين سنة، و قيل: شهر.

فَاسْتَكْبَرُوا و ترفّعوا مع ذلك على الإيمان بموسى وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ و معاندين للحقّ. عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ القوم لمّا قالوا [لموسى عليه السّلام]: مهما تأتنا به من آية من ربّك، فهي عندنا من باب السّحر، و نحن لا نؤمن بها البتّة، و كان موسى عليه السّلام رجلا حديدا (1)، فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب اللّه له، فأرسل عليهم الطّوفان الدّائم ليلا و نهارا سبتا إلى سبت، حتّى كان الرّجل منهم لا يرى شمسا و لا قمرا، و لا يستطيع الخروج من داره، و جاءهم الغرق فصرخوا إلى فرعون و استغاثوا به، فأرسل إلى موسى عليه السّلام و قال: اكشف عنّا العذاب، فقد صارت مصر بحرا واحدا، فإن كشفت هذا العذاب آمنّا بك، فأزال اللّه عنهم المطر، و أرسل الرّياح فجفّفت الأرض، و خرج من النبات ما لم يروا مثله قطّ.

فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنّا لا نشعر، فلا و اللّه لا نؤمن بك و لا نرسل معك بني إسرائيل، فنكثوا العهد، فأرسل اللّه عليهم الجراد فأكل النّبات، و عظم الأمر عليهم، حتّى صارت عند طيرانها تغطّي الشّمس، و وقع بعضها على بعض في الأرض ذراعا فأكلت النّبات، فصرخ أهل مصر، فدعا

ص: 644


1- . الحديد من الحدّة: ما يعتري الإنسان من الغضب.

موسى عليه السّلام فأرسل اللّه ريحا فاحتملت الجراد فألقته في البحر.

فنظر أهل مصر إلى أنّ بقيّة من كلئهم و زرعهم تكفيهم فقالوا: هذا الذي بقي يكفينا و لا نؤمن بك، فأرسل اللّه بعد ذلك عليهم القمّل سبتا إلى سبت، فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلاّ أكلته، فصاحوا، فسأل موسى عليه السّلام ربّه فأرسل اللّه عليها ريحا حارّة فأحرقتها و احتملتها الريح إلى البحر، فلم يؤمنوا، فأرسل اللّه عليهم الضّفادع بعد ذلك، فخرجت من البحر مثل اللّيل الدّامس، و وقعت في الثّياب و الأطعمة، فكان الرّجل منهم يسقط و على رأسه ذراع من الضّفادع، فصرخوا إلى موسى عليه السّلام و حلفوا بالهه: لئن رفعت عنّا هذا العذاب لنؤمننّ بك، فدعا اللّه تعالى فأمات الضّفادع، و أرسل عليها المطر فاحتملها إلى البحر.

ثمّ أظهروا الكفر و الفساد، فأرسل اللّه عليهم الدّم فجرت أنهارهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب، و بنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيّب، حتّى بلغ منهم الجهد فصرخوا، و ركب فرعون و أشراف قومه إلى أنهار بني إسرائيل، فجعل يدخل الرّجل منهم النهر فإذا اغترف صار في يده دما، و مكثوا سبعة أيام في ذلك لا يشربون إلاّ الدّم، فقال فرعون: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ الآية (1).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لمّا سجد السّحرة و آمن به النّاس، قال هامان لفرعون: إنّ النّاس قد آمنوا بموسى، فانظر من دخل في دينه فاحبسه، فحبس كلّ من آمن به من بني إسرائيل، فجاء إليه موسى عليه السّلام فقال له: خلّ عن بني إسرائيل، فلم يفعل، فأنزل اللّه عليهم في تلك السّنة الطّوفان، فخرّب دورهم و مساكنهم حتّى خرجوا إلى البريّة و ضربوا الخيام، فقال فرعون لموسى: ادع [لنا]ربّك حتّى يكفّ عنّا الطّوفان حتّى اخلّي عن بني إسرائيل و أصحابك، فدعا موسى عليه السّلام ربّه، فكفّ عنهم الطّوفان، و همّ فرعون أن يخلّي عن بني إسرائيل، فقال له هامان: إن خلّيت عن بني إسرائيل غلبك موسى و أزال ملكك، فقبل منه و لم يخلّ عن بني إسرائيل.

فأنزل اللّه عليهم في السّنة الثانيّة الجراد، فجردت كلّ شيء كان لهم من النّبت و الشّجر حتّى كانت تجرد شعرهم و لحاهم، فجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا و قال: يا موسى، ادع ربّك أن يكفّ عنّا الجراد حتّى اخلّي عن بني إسرائيل و أصحابك، فدعا موسى عليه السّلام ربّه فكفّ عنهم الجراد، فلم يدعه هامان أن يخلّي عن بني إسرائيل.

فأنزل اللّه عليهم في السنة الثالثة القمّل، فذهبت زروعهم و أصابتهم المجاعة، فقال فرعون لموسى عليه السّلام: إن دفعت عنّا القمّل كففت عن بني إسرائيل، فدعا موسى عليه السّلام ربّه حتّى ذهب القمّل» .

ص: 645


1- . تفسير الرازي 14:217.

و قال: «أوّل ما خلق اللّه القمّل في ذلك الزّمان، فلم يخلّ عن بني إسرائيل، فأرسل اللّه عليهم بعد ذلك الضّفادع، فكانت تكون في طعامهم و شرابهم و يقال إنّها تخرج من أدبارهم و آذانهم و آنافهم، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا، فجاءوا إلى موسى عليه السّلام فقالوا: ادع اللّه يذهب عنّا الضّفادع، فإنا نؤمن بك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى عليه السّلام ربّه، فرفع اللّه عنهم ذلك.

فلمّا أبوا أن يخلّوا عن بني إسرائيل حوّل اللّه ماء النيل دما، فكان القبطيّ يراه دما، و الاسرائيلي يراه ماء، فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، و إذا شربه القبطيّ يشربه دما، فكان القبطيّ يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك و صبّة في فيّ، فكان إذا صبّه في فم القبطي تحوّل دما، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فقالوا لموسى عليه السّلام: لئن رفع عنّا الدّم لنرسلنّ معك بني إسرائيل، فلمّا رفع اللّه عنهم الدّم غدروا و لم يخلّوا عن بني إسرائيل» (1)الخبر.

و قيل: إنّ المراد بالطّوفان الموت (2).

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الطّوفان هو الموت» (3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل ما الطّوفان؟ فقال: «هو طوفان الماء و الطّاعون» (2).

و عن سعيد بن جبير: كان إلى جنبهم كثيب أعفر (3)، فضربه موسى عليه السّلام بعصاه فصار قمّلا، فأخذت في أبشارهم و أشعارهم و أشفار عيونهم و حواجبهم، و لزم جلودهم كأنّه الجدري، فصاحوا و صرخوا و فزعوا إلى موسى عليه السّلام فرفع عنهم فقالوا: قد تيقّنّا الآن أنّك ساحر عليم، و عزّة فرعون لا نؤمن لك أبدا (6).

و قيل: إنّ المراد بالقمّل الجراد الصّغار الذي لا أجنحة له (7).

و قيل: إنّ المراد بالدّم أنّه تعالى سلّط عليهم الرّعاف (8) .

ثمّ أنّه روي أنّ موسى عليه السّلام مكث فيهم بعدما غلب السّحرة عشرين سنة يريهم الآيات، ثمّ لمّا أصرّوا على الكفر و الطّغيان نزل عليهم الرجز، قيل: هو الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب، و قيل: هو الطّاعون، قال به سعيد بن جبير، و قال: فمات به من القبط تسعون (4)ألف إنسان في يوم واحد، فتركوا غير مدفونين (5).

و في الرّواية السابقة، عن الباقر عليه السّلام: «فأرسل اللّه عليهم الرّجز؛ و هو الثّلج، و لم يروه قبل ذلك،

ص: 646


1- . تفسير القمي 1:237، و في مجمع البيان 4:721، و تفسير الصافي 2:230 عن الباقر و الصادق عليهما السّلام. (2 و 3) . تفسير الرازي 14:218.
2- . تفسير العياشي 2:157/1609، تفسير الصافي 2:229.
3- . الكثيب الأعفر: الرّمل الأحمر، أو الأبيض القليل البياض. (6-7) . تفسير الرازي 14:218.
4- . في تفسير الرازي: سبعون.
5- . تفسير الرازي 14:219.

فماتوا فيه و جزعوا و أصابهم ما لم يعهدوه قبله» الخبر (1).

وَ لَمّا وَقَعَ و نزل عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ من السّماء فزعوا إلى موسى عليه السّلام فزع الامّة إلى نبيّها و قالُوا يا مُوسَى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ متوسّلا بِما عَهِدَ عِنْدَكَ من النّبوّة. و قيل: إنّ (الباء) للقسم، و المعنى: نقسمك بعهد اللّه الذي عندك (2)، أو نقسم به لَئِنْ كَشَفْتَ و رفعت عَنَّا اَلرِّجْزَ و العذاب لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ البتّة، و نصدّقك في رسالتك وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ تذهب بهم أينما شئت

فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ و لكن لا مطلقا، بل إِلى أَجَلٍ و حدّ معيّن من الزّمان هُمْ بالِغُوهُ فإذا بلغوه نهلكهم، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ و ينقضون العهد مبادرين إليه.

و في الحديث السابق عن الباقر عليه السّلام: «فدعا ربّه فكشف عنهم الثّلج، فخلّى عن بني إسرائيل، فلمّا خلّى عنهم اجتمعوا إلى موسى عليه السّلام، و خرج موسى من مصر و اجتمع إليه من كان هرب من فرعون، فبلغ فرعون ذلك فقال له هامان: قد نهيتك عن أن تخلّي عن بني إسرائيل فقد اجتمعوا إليه، فجزع فرعون و بعث في المدائن حاشرين و خرج في طلب موسى» (3)، فآل أمره إلى الغرق.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 136 الی 137

ثمّ أخبر اللّه تعالى بإنجازه وعد موسى عليه السّلام لبني إسرائيل من قوله: «عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم و يستخلفكم في أرض مصر» بقوله: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ و أخذناهم بذنب نكثهم العهد، أو سلبنا عنهم النّعمة بالعذاب فَأَغْرَقْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ و بحر القلزم، و كان قريبا من مصر بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا و براهين توحيدنا، و معجزات رسولنا وَ كانُوا عَنْها معرضين كأنّهم كانوا عنها غافِلِينَ * وَ أَوْرَثْنَا و ملّكنا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ و يقهرون و يستذلّون بذبح أبنائهم و استخدام نسائهم مَشارِقَ اَلْأَرْضِ المقدّسة من الشام و مصر وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب و وفور النّعم و الأمن، فتملّكوها بعد الفراعنة و تمكّنوا فيها بالتصرّف و الاستراحة وَ تَمَّتْ و انجزت

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

ص: 647


1- . تفسير القمي 1:238، تفسير الصافي 2:231.
2- . كذا، و في تفسير الرازي 14:220 أقسمنا بعهد اللّه عندك.
3- . تفسير القمي 1:238، تفسير الصافي 2:231.

بذلك الإهلاك و التّوريث كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى و وعده بالنّصر، و الغلبة على الأعداء، و توريث الأراضي المقدّسات عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ مع غاية ضعفهم و ذلّهم و أسرهم في أيدي الفراعنة بِما صَبَرُوا على الشّدائد و المحن التي أصابوها منهم وَ دَمَّرْنا و خرّبنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ من القبط من العمارات و القصور العالية وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ و يرفعون من جنّات الكروم و الأشجار المحتاجة إلى العريش، أو من الأبنية الرّفيعة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 138 الی 139

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعمه الجسام على بني إسرائيل، ذكر نعمة مجاوزتهم من البحر مع السّلامة، و كفرانهم لتلك النّعم لغاية جهلهم؛ بقوله: وَ جاوَزْنا و عبرنا بإعجاز موسى عليه السّلام و كرامته بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ القلزم بعد إغراق فرعون و قومه فيه، و إهلاكهم فَأَتَوْا و مرّوا عَلى قَوْمٍ من العمالقة الكنعانيّين-على قول-أو على قبيلة في نواحي مصر، فرأوهم يَعْكُفُونَ و يواظبون عَلى عبادة أَصْنامٍ كانت لَهُمْ فلمّا شاهدوهم على ذلك قالُوا لفرط جهلهم، و غاية سفههم: يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا صنما أيضا ليكون لنا إِلهاً و معبودا نعبده كَما يكون لَهُمْ من الأصنام آلِهَةٌ و معبودات يعبدونها. فغضب موسى من قولهم و قالَ لهم: يا قوم إِنَّكُمْ في الحقيقة قَوْمٌ تَجْهَلُونَ و تفرطون في السّفه

إِنَّ هؤُلاءِ القوم العاكفين على الأصنام مُتَبَّرٌ و مهلك ما هُمْ فِيهِ من الدّين الفاسد، حيث إنّ اللّه يذهب به و يبيد أصنامهم وَ باطِلٌ و مضمحلّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها، لا يترتّب عليه نفع في الدّنيا و لا في الآخرة، و إن كانوا متقرّبين به الى اللّه، لأنّه محض الكفر. و الحاصل أنّه لا أصنامهم تبقى و لا دينهم ينفع.

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 140 الی 141

ثمّ أنكر عليهم عبادة الأصنام بعد مشاهدتهم آيات وحدانية اللّه و عظام نعمه بقوله: قالَ أَ غَيْرَ اَللّهِ من الأصنام و الجمادات أَبْغِيكُمْ و أطلب لكم إِلهاً و معبودا وَ هُوَ الذي خصّكم بنعمه

ص: 648

الجسام، و فَضَّلَكُمْ بتلك الخصائص عَلَى اَلْعالَمِينَ فإنّه تعالى لم يعط أحدا من الخلق ما أعطاكم من الآيات الباهرات و المعجزات القاهرات، لا و اللّه لا يجوز لي الابتغاء و لا لكم الاشتراك به.

قالَ أَ غَيْرَ اَللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (140) وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

ثمّ ذكّرهم أعظم نعم اللّه بقوله: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ و خلّصناكم بقدرة اللّه و رحمته مِنْ أسركم في أيدي آلِ فِرْعَوْنَ و قومه من القبط، فإنّهم كانوا يَسُومُونَكُمْ و يطلبون لكم سُوءَ اَلْعَذابِ و شديده.

ثمّ ذكّرهم أشدّ عذابهم بقوله: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ و يكثرون في ذبحهم و إهلاكهم وَ يَسْتَحْيُونَ و يستبقون نِساءَكُمْ و بناتكم ليستخدموهنّ وَ فِي ذلِكُمْ الإنجاء، أو سوء العذاب بَلاءٌ و فوز بالنّعمة، أو محنة و كرب مِنْ جانب رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، و المالك لاموركم عَظِيمٌ في الغاية.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 142 الی 143

ثمّ أنّه روي أنّ موسى عليه السّلام وعد بني إسرائيل و هو بمصر: إن أهلك اللّه عدوّهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون و يذرون، فلمّا هلك فرعون سأل اللّه ربّه ذلك الكتاب، فبيّن اللّه كيفيّة نزول التّوراة (1)بقوله: وَ واعَدْنا مُوسى و دعوناه إلى الطّور ثَلاثِينَ لَيْلَةً من ذي القعدة بأيّامها ليمقاتنا و الوقت الذي وقّتناه، كي يصوم في تمامها، و يجتهد في العبادة فيها وَ أَتْمَمْناها بعد و أكملناها بِعَشْرٍ من ليالي ذي الحجّة فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ و الوقت المضروب لعبادة مليكه أَرْبَعِينَ لَيْلَةً من أوّل ذي القعدة إلى العيد الأضحى.

وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ (142) وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ (143)روي أنّ اللّه أمر موسى عليه السّلام بصوم ثلاثين يوما؛ و هو شهر ذي القعدة، فلمّا أتمّ الثلاثين أنكر خلوف (2)فيه فتسوّك، فقالت الملائكة: كنّا نشمّ من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسّواك، فأوحى اللّه إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره اللّه أن يزيد عليها عشرة

ص: 649


1- . تفسير الرازي 14:226.
2- . خلف الشيء خلوفا: تغيّر و فسد، و الخلوف: رائحة فم الصائم.

أيام من ذي الحجّة لهذا السبب (1)، و هذه حكمة زيادة العشر على الثلاثين.

و قيل: إنّ اللّه أمره أن يصوم ثلاثين يوما، و أن يعمل فيها ما يقرّبه إلى اللّه، ثمّ انزلت التوراة [عليه] في العشر البواقي، و كلّمه فيه أيضا. و هذه حكمة تعبير الأربعين بثلاثين و عشر (2).

وَ قالَ مُوسى حين ذهابه إلى ميقات ربّه لِأَخِيهِ هارُونَ الذي كان شريكا له في النّبوّة و تابعا له: اُخْلُفْنِي و قم مقامي فِي قَوْمِي بني إسرائيل، و سر فيهم بسيرتي. ثمّ أكّد وصيّته بهم بقوله: وَ أَصْلِحْ جميع ما يجب أن يصلح من امورهم و امور دينهم وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ و لا تسلك طريقتهم في الإفساد، و لا تساعدهم و لا تجبهم إليه.

وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا و حضر في الوقت الذي وقّتناه لحضوره، أو إلى المكان الذي واعدناه فيه وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ مشافهة بلا واسطة ملك قالَ بعد استماع كلامه: رَبِّ أَرِنِي نفسك و مكّنني من رؤيتك أَنْظُرْ بعين رأسي إِلَيْكَ .

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: «و سأل موسى، و جرى على لسانه من حمد اللّه عزّ و جلّ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فكانت مسألته تلك أمرا عظيما، و سأل أمرا جسيما فعوقب» (1).

قالَ اللّه تعالى: لَنْ تَرانِي أبدا، لا في الدّنيا و لا في الآخرة وَ لكِنِ إن أردت أن تراني في الدّنيا اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ الذي أنت عليه-قيل: هو أعظم جبل بمدين، يقال له زبير (2)-و أنا أتجلّى بجلوة من جلواتي فَإِنِ اِسْتَقَرَّ الجبل و ثبت مَكانَهُ و لم يتفتّت بذلك التّجلّي فَسَوْفَ تَرانِي .

قيل: لمّا سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلّى لها، و جعل طور أو زبير يتواضع، فلمّا رأى اللّه تواضعه رفعه من بينها و خصّه بالتّجلّي (3).

عن ابن عبّاس قال: لمّا قال موسى عليه السّلام: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ كشف الحجاب، و أبرز له الجبل و قال: انظر، فنظر فإذا أمامه مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون [ألف]نبيّ، محرمين ملبّين، كلّهم يقولون: أرني أرني (4).

فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، قيل: كشف نوره من حجبه قدر ما بين الخنصر و الإبهام (5)، و ظهرت له

ص: 650


1- . التوحيد:262/5، و فيه: فعوتب بدل: فعوقب، تفسير الصافي 2:234.
2- . تفسير روح البيان 3:233.
3- . تفسير روح البيان 3:234.
4- . تفسير روح البيان 3:231.
5- . تفسير روح البيان 3:234.

عظمته و اقتداره-و عن سهل بن سعد: أنّ اللّه أظهر من تسعين (1)ألف حجاب نورا قدر الدّرهم (2)-إذا جَعَلَهُ دَكًّا مفتّتا كأن لم يكن وَ خَرَّ مُوسى و سقط على الأرض صَعِقاً و مغشيا عليه.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ موسى بن عمران عليه السّلام لمّا سأل ربّه النّظر إليه وعده اللّه أن يقعد في موضع، ثمّ أمر الملائكة أن يمرّوا عليه موكبا بعد موكب بالبرق و الرّعد و الرّيح و الصّواعق، فكلّما مرّ به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل: أفيكم ربّي؟ فيجاب: هو آت، و قد سألت عظيما يا بن عمران» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «لمّا سأل موسى عليه السّلام ربّه تعالى و قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فلمّا صعد موسى عليه السّلام على الجبل فتحت أبواب السّماء، و أقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد و في رأسها النّور، يمرّون به فوجا بعد فوج، يقولون: يا بن عمران، اثبت فقد سألت عظيما. قال: فلم يزل موسى عليه السّلام واقفا حتّى تجلّى ربّنا جلّ جلاله، فجعل الجبل دكّا و خرّ موسى صعقا فَلَمّا أن ردّ اللّه عليه روحه و أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ (4).

و عن القمّي رحمه اللّه قال: فرفع اللّه الحجاب و نظر إلى الجبل، فساخ الجبل في البحر، فهو يهوي حتّى السّاعة، [و نزلت الملائكة و فتحت أبواب السماء، فأوحى اللّه إلى الملائكة: أدركوا موسى لا يهرب، فنزلت الملائكة و أحاطت بموسى عليه السّلام، و قالوا: تب يابن عمران، فقد سألت اللّه عظيما، فلمّا نظر موسى عليه السّلام إلى الجبل قد ساخ]. و الملائكة قد نزلت فوقع موسى عليه السّلام على وجهه من خشية اللّه و هول ما رأى، فردّ اللّه عليه روحه، فرفع رأسه و أفاق و قال: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ أي أوّل المصدّقين بأنّك لا ترى (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الكروبيّين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل، جعلهم اللّه خلف العرش، لو قسّم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم» ثمّ قال: «إنّ موسى عليه السّلام لمّا سأل ربّه ما سأل، أمر واحدا من الكربيّين فتجلّى للجبل و جعله دكا» (6).

عن الرضا عليه السّلام: أنّه سئل: كيف يجوز أن يكون كليم اللّه موسى بن عمران لا يعلم أنّ اللّه لا يجوز عليه الرّؤية حتّى يسأله هذا السّؤال؟

ص: 651


1- . في تفسير روح البيان: سبعين.
2- . تفسير روح البيان 3:234.
3- . تفسير العياشي 2:159/1616، تفسير الصافي 2:234.
4- . تفسير العياشي 2:158/1614، تفسير الصافي 2:234.
5- . تفسير القمي 2:240، تفسير الصافي 2:235.
6- . بصائر الدرجات:89/2، تفسير الصافي 2:235.

فقال عليه السّلام: «إنّ كليم اللّه علم أنّ اللّه منزّه عن أن يرى بالأبصار، و لكنّه لمّا كلّمه اللّه و قرّبه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ اللّه كلّمه و قرّبه و ناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعته، و كان القوم سبعمائة ألف، فاختار منهم سبعين ألفا، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف [ثمّ اختار منهم سبعمائة]ثمّ اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، و صعد موسى عليه السّلام إلى الطّور، و سأل اللّه أن يكلّمه و يسمعهم كلامه، فكلّمهم اللّه و سمعوا كلامه من فوق و أسفل، و يمين و شمال، و وراء و أمام؛ لأنّ اللّه أحدثه في الشّجرة، ثمّ جعله منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه حتّى نرى اللّه جهرة. فلمّا قالوا هذا القول العظيم و استكبروا و عتوا، بعث اللّه عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا، فقال موسى عليه السّلام: يا ربّ، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم و قالوا: إنّك ذهبت بهم فقتلتهم؛ لأنّك لم تكن صادقا فيما ادّعيت من مناجاة اللّه إيّاك؛ فأحياهم و بعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت اللّه أن يريك تنظر إليه لأراك (1)، فتخبرنا كيف هو و نعرفه حقّ معرفته.

فقال موسى عليه السّلام: يا قوم، إنّ اللّه لا يرى بالأبصار، و لا كيفيّة له، و إنّما يعرف بآياته، و يعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى تسأله.

فقال موسى عليه السّلام: يا ربّ، إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل و أنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللّه إليه: يا موسى، سلني ما سألوك فلم اؤاخذك بجهلهم.

فعند ذلك قال موسى عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ [و هو يهوي] فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ بآية من آياته جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ منهم بأنّك لا ترى» (2).

أقول: ما في الرّواية من التّوجيه، و إن كان أحسن الوجوه في دفع الإشكال، إلاّ أنّ الظاهر بل المتيقّن أنّ قضيّة اختيار موسى عليه السّلام سبعين رجلا لميقات ربّه كان بعد هذا الميقات الذي سأل فيه الرّؤية و اعطي فيه التّوراة.

و ما نقله الطّبرسي-من أنّ المراد من قوله: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ عرّفني نفسك تعريفا واضحا جليّا بإظهار بعض آيات الآخرة التي تضطرّ الخلق إلى معرفتك أَنْظُرْ إِلَيْكَ يعني: أعرفك معرفة

ص: 652


1- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: لأجابك.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:200/1، تفسير الصافي 2:233.

ضرورية كأنّي أنظر إليك؛ كما جاء في الحديث: «سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر» بمعنى: ستعرفونه معرفة جليّة هي في الجلاء مثل إبصاركم القمر إذا امتلأ و استوى بدرا قالَ لَنْ تَرانِي لن تطيق معرفتي على هذه الطّريقة، و لن تحتمل قوتّك تلك الآية وَ لكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فإنّي اورد عليه آية من تلك الآيات، فإن ثبت لتجلّيها و استقرّ مكانه، فسوف تثبت لها و تطيقها فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ فلمّا ظهرت للجبل آية من آيات ربّه جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً لعظم ما رأى فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ممّا اقترحت وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ بعظمتك و جلالك. انتهى (1).

و به قال بعض العامّة حيث قال: إنّه سأل المعرفة الضّروريّة، أو الآيات الباهرات التي تزول عندها الخواطر و الوساوس، انتهى (2)-مخالف لظاهر الآية و صريح الرّوايات المرويّة بطريق العامّة و الخاصّة.

و قيل: إنّه الرّؤية، و أراد تأكيد الدّليل العقلي الدالّ على امتناع الرّؤية بالدليل السّمعي من قوله لَنْ تَرانِي . و فيه ما لا يخفى من الضّعف، فالأولى الكفّ عن التكلّم في توجيه الآية و إيكال علمه إلى الرّاسخين في العلم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 144

ثمّ أنّه تعالى بعد إفاقة موسى عليه السّلام و توبته من سؤال الرّؤية في يوم عرفة-على رواية-أظهر غاية لطفه به و قالَ له في يوم النّحر-كما روي (3)-: يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ و فضّلتك أو آثرتك عَلَى اَلنّاسِ جميعا من الأوّلين و الآخرين بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي و مخاطبتي إيّاك مشافهة في الأرض بلا واسطة ملك، فإنّ مجموع الأمرين لم يكن و لا يكون لأحد غيرك فَخُذْ الآن ما آتَيْتُكَ و أعطيتك من التّوراة وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ لنعمي عليك.

قالَ يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (144)

ص: 653


1- . جوامع الجامع:156، تفسير الصافي 2:235.
2- . تفسير الرازي 14:229.
3- . تفسير الرازي 14:236.

ص: 654

الفهرس

[57]و أما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم و الله 5

[58]ذلك نتلوه عليك من الآيات و الذكر الحكيم 5

[59-61]إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون 5

[62 و 63]إن هذا لهو القصص الحق و ما من إله إلا الله و إن الله لهو العزيز الحكيم 10

[64]قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله 10

[65]يا أهل الكتاب لم تحاجون فى إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من 13

[66 و 67]ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به و الله 14

[68]إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبى و الذين آمنوا و الله و لى 14

[69]ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يشعرون 14

[70]يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله و أنتم تشهدون 15

[71]يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل و تكتمون الحق و أنتم تعلمون 15

[72 و 73]و قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار15

[74]يختص برحمته من يشاء و الله ذو الفضل العظيم 17

[75]و من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك و منهم من إن تأمنه بدينار17

[76]بلى من أوفى بعهده و اتقى فإن الله يحب المتقين 18

[77]إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة 18

[78]و إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب و ما هو من 19

[79 و 80]ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا20

[81 و 82]و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول 22

[83]أ فغير دين الله يبغون و له أسلم من فى السماوات و الأرض طوعا و كرها24

[84]قل آمنا بالله و ما أنزل علينا و ما أنزل على إبراهيم و إسماعيل و إسحاق 25

ص: 655

[85]و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو فى الآخرة 26

[86]كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم 27

[87 و 88]أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين *خالدين 28

[89]إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم 28

[90]إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم و أولئك هم 29

[91]إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا30

[92]لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون و ما تنفقوا من شىء فإن الله به 30

[93]كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل 32

[94]فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون 34

[95]قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين 34

[96 و 97]إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا و هدى للعالمين *فيه آيات 34

[98]قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله و الله شهيد على ما تعملون 40

[99]قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا و أنتم 41

[100 و 101]يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد42

[103]و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم 43

[104 و 105]و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن 46

[106 و 107]يوم تبيض وجوه و تسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أ كفرتم بعد50

[108 و 109]تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق و ما الله يريد ظلما للعالمين *و لله ما فى 52

[110]كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر53

[111]لن يضروكم إلا أذى و إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون 55

[112]ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس و باؤ56

[113 و 114]ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم 58

[115]و ما يفعلوا من خير فلن يكفروه و الله عليم بالمتقين 60

[116]إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا و أولئك 60

[117]مثل ما ينفقون فى هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث61

[118]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما62

[119]ها أنتم أولاء تحبونهم و لا يحبونكم و تؤمنون بالكتاب كله و إذا لقوكم قالوا63

[120]إن تمسسكم حسنة تسؤهم و إن تصبكم سيئة يفرحوا بها و إن تصبروا64

ص: 656

[121-123]و إذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال و الله سميع عليم *إذ65

[124 و 125]إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة 69

[126]و ما جعله الله إلا بشرى لكم و لتطمئن قلوبكم به و ما النصر إلا من عند الله 70

[127]ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين 71

[128]ليس لك من الأمر شى أ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون 71

[129]و لله ما فى السماوات و ما فى الأرض يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و الله 73

[130-132]يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم 73

[133]و سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها السماوات و الأرض أعدت 74

[134]الذين ينفقون فى السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس 76

[135]و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم 77

[136]أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين 82

[137 و 138]قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة 82

[139 و 140]و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين *إن يمسسكم قرح 83

[141]و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين 84

[142]أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم 85

[143]و لقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه و أنتم 87

[144]و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم 90

[145]و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا و من يرد ثواب الدنيا96

[146]و كأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله و ما97

[147 و 148]و ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا فى أمرنا و ثبت 99

[149 و 150]يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا100

[151]سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا100

[152]و لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم و تنازعتم فى 101

[153]إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و الرسول يدعوكم فى أخراكم فأثابكم 103

[154]ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم و طائفة قد105

[155]إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما108

[156]يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا و قالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى 109

[157]و لئن قتلتم فى سبيل الله أو متم لمغفرة من الله و رحمة خير مما110

ص: 657

[158]و لئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون 111

[159]فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك 111

[160]إن ينصركم الله فلا غالب لكم و إن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده 117

[161]و ما كان لنبى أن يغل و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس 118

[162]ا فمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله و مأواه جهنم و بئس 121

[163]هم درجات عند الله و الله بصير بما يعملون 121

[164]لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم 122

[165]أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند125

[166 و 167]و ما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله و ليعلم المؤمنين *و ليعلم 126

[168]الذين قالوا لإخوانهم و قعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم 127

[169]و لا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم 128

[170]فرحين بما آتاهم الله من فضله و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من 129

[171]يستبشرون بنعمة من الله و فضل و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين 130

[172-174]الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا131

[175]إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم 134

[176]و لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا135

[177]إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا و لهم عذاب 135

[178]و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم 136

[179]ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب 137

[180]و لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر138

[181]لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء سنكتب ما قالوا139

[182]ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد141

[183]الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار141

[184]فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤ بالبينات و الزبر و الكتاب 142

[185]كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن 143

[186]لتبلون فى أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم 144

[187]و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه فنبذوه 145

[188]لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا 146

ص: 658

[189]و لله ملك السماوات و الأرض و الله على كل شىء قدير147

[190]إن فى خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولى 147

[191]الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون فى خلق 149

[192]ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته و ما للظالمين من أنصار151

[193]ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا152

[194]ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك و لا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف153

[195]فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم 154

[196 و 197]لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد*متاع قليل ثم مأواهم جهنم 156

[198]لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها157

[199]و إن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله و ما أنزل إليكم و ما أنزل إليهم 158

[200]يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم 159

في تفسير سورة النساء 165

[1]بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة 165

[2]و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى 169

[3]و إن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى 170

[4]و آتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا172

[5]و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما و ارزقوهم فيها173

[6]و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم 175

[7]للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون و للنساء نصيب مما ترك 177

[8]و إذا حضر القسمة أولوا القربى و اليتامى و المساكين فارزقوهم منه 179

[9]و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله 179

[10]إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا181

[11]يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين 182

[12]و لكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم 185

[13]تلك حدود الله و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجرى من تحتها188

[14]و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب 189

[15]و اللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن 189

[16]و الذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان 190

ص: 659

[17]إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب 190

[18]و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال 192

[19]يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها و لا تعضلوهن 193

[20]و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج و آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا194

[21]و كيف تأخذونه و قد أفضى بعضكم إلى بعض و أخذن منكم ميثاقا195

[22]و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة و مقتا196

[23]حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم و أخواتكم و عماتكم و خالاتكم و بنات 197

[24]و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم و أحل لكم 198

[25]و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما200

[26]يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم و يتوب عليكم و الله 202

[27]و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا202

[28]يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا202

[29]يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة 203

[30]و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما فسوف نصليه نارا و كان ذلك على الله 204

[31]إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا205

[32]و لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا206

[33]و لكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان و الأقربون و الذين عقدت أيمانكم 207

[34]الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا209

[35]و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها إن يريدا211

[36]و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا و بذى القربى 212

[37]الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل و يكتمون ما آتاهم الله من فضله 214

[38]و الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس و لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و من 215

[39]و ما ذا عليهم لو آمنوا بالله و اليوم الآخر و أنفقوا مما رزقهم الله و كان الله بهم 216

[40]إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا216

[41]فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا216

[42]يومئذ يود الذين كفروا و عصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض و لا يكتمون 217

[43]يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون 218

[44]أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة و يريدون أن 222

ص: 660

[45]و الله أعلم بأعدائكم و كفى بالله وليا و كفى بالله نصيرا223

[46]من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون سمعنا و عصينا223

[47]يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن 224

[48]إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله 225

[49]أ لم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء و لا يظلمون 226

[50]انظر كيف يفترون على الله الكذب و كفى به إثما مبينا227

[51]أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت 227

[52]أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا228

[53]أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا228

[54]أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم 228

[55]فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه و كفى بجهنم سعيرا229

[56]إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم 229

[57]و الذين آمنوا و عملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها230

[58]إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن 230

[59]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولى الأمر منكم فإن 231

[60]أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك 240

[61]و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون 241

[62]فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن 241

[63]أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم و عظهم و قل لهم فى 242

[64]و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك 242

[65]فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى 243

[66-68]و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا244

[69 و 70]و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين 245

[71]يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا246

[72 و 73]و إن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن 246

[74]فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة و من يقاتل فى 247

[75]و ما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء247

[76]الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله و الذين كفروا يقاتلون فى سبيل 248

ص: 661

[77]أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة فلما248

[78]أينما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم فى بروج مشيدة و إن تصبهم حسنة 249

[79]ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك و أرسلناك 250

[80]من يطع الرسول فقد أطاع الله و من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا251

[81]و يقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول و الله 252

[82]أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا252

[83]و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول 253

[84]فقاتل فى سبيل الله لا تكلف إلا نفسك و حرض المؤمنين عسى الله أن 254

[85]من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها و من يشفع شفاعة سيئة يكن 255

[86]و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أوردوها إن الله كان على كل شىء256

[87]الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه و من أصدق من الله 257

[88]فما لكم فى المنافقين فئتين و الله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا257

[89]ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى 258

[90]إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم و بينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت 259

[91]ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة 261

[92]و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة 262

[93]و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه 264

[94]يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا و لا تقولوا لمن ألقى 266

[95 و 96]لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر و المجاهدون فى 268

[97]إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا269

[98]إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا 271

[99]فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم و كان الله عفوا غفورا272

[100]و من يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغما كثيرا و سعة و من يخرج273

[101]و إذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن 273

[102]و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك و ليأخذوا275

[103]فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما و قعودا و على جنوبكم فإذا اطمأننتم 277

[104]و لا تهنوا فى ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون 280

[105 و 106]إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله و لا تكن 281

ص: 662

[107]و لا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا281

[108]يستخفون من الناس و لا يستخفون من الله و هو معهم إذ يبيتون ما لا 283

[109]ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم 283

[110]و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما284

[111]و من يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه و كان الله عليما حكيما284

[112]و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا و إثما284

[113]و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون إلا284

[114]لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين 285

[115]و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين 286

[116]إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله 287

[117 و 118]إن يدعون من دونه إلا إناثا و إن يدعون إلا شيطانا مريدا*لعنه الله و قال 287

[119]و لأضلنهم و لأمنينهم و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام و لآمرنهم فليغيرن 288

[120]يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا289

[121]أولئك مأواهم جهنم و لا يجدون عنها محيصا289

[122]و الذين آمنوا و عملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها290

[123]ليس بأمانيكم و لا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به و لا يجد له 290

[124 و 125]و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون 291

[126]و لله ما فى السماوات و ما فى الأرض و كان الله بكل شىء محيطا292

[127]و يستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن و ما يتلى عليكم فى الكتاب 293

[128]و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا293

[129]و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم فلا تميلوا كل الميل 295

[130]و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته و كان الله واسعا حكيما296

[131]و لله ما فى السماوات و ما فى الأرض و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من 297

[132 و 133]و لله ما فى السماوات و ما فى الأرض و كفى بالله وكيلا*إن يشأ يذهبكم 297

[134]من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا و الآخرة و كان الله سميعا298

[135]يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو299

[136]يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذى نزل على رسوله 299

[137 و 138]إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله 300

ص: 663

[139]الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة 301

[140]و قد نزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها302

[141]الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ا لم نكن معكم و إن كان 303

[142 و 143]إن المنافقين يخادعون الله و هو خادعهم و إذا قاموا إلى الصلاة قاموا305

[144]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون 306

[145 و 146]إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار و لن تجد لهم نصيرا*إلا الذين 306

[147]ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و آمنتم و كان الله شاكرا عليما307

[148]لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم و كان الله سميعا307

[149]إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا308

[150 و 151]إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون 309

[152]و الذين آمنوا بالله و رسله و لم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم 309

[153]يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى 309

[154]و رفعنا فوقهم الطور بميثاقهم و قلنا لهم ادخلوا الباب سجدا و قلنا لهم لا 310

[155]فبما نقضهم ميثاقهم و كفرهم بآيات الله و قتلهم الأنبياء بغير حق و قولهم 311

[156]و بكفرهم و قولهم على مريم بهتانا عظيما311

[157]و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه 312

[158]بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما313

[159]و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم 314

[160 و 161]فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم و بصدهم عن 315

[162]لكن الراسخون فى العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل 316

[163]إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده و أوحينا إلى 316

[164]و رسلا قد قصصناهم عليك من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك و كلم الله 318

[165]رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و كان 318

[166]لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله 319

[167]إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا319

[168 و 169]إن الذين كفروا و ظلموا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم طريقا*إلا319

[170]يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم و إن 320

[171]يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق إنما320

ص: 664

[172]لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون و من 322

[173]فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله 322

[174]يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا323

[175]فأما الذين آمنوا بالله و اعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه و فضل 323

[176]يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد و له أخت 324

في تفسير سورة المائدة 327

[1]بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام 327

[2]يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام و لا الهدى و لا 328

[3]حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به و المنخنقة 330

[4]يسئلونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات و ما علمتم من الجوارح 333

[5]اليوم أحل لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم 335

[6]يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى 336

[7]و اذكروا نعمة الله عليكم و ميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا و أطعنا342

[8]يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنكم شنآن قوم 343

[9 و 10]وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة و أجر عظيم *و الذين 344

[11]يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم 344

[12]و لقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل و بعثنا منهم اثنى عشر نقيبا و قال الله 346

[13]فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن 347

[14]و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به 348

[15]يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من 350

[16]يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى 352

[17]لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله 352

[18]و قالت اليهود و النصارى نحن أبناؤا الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم 353

[19]يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا354

[20]و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمت الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء355

[21]يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم و لا ترتدوا على 355

[22 و 23]قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن 356

[24]قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا357

ص: 665

[25]قال رب إنى لا أملك إلا نفسى و أخى فافرق بيننا و بين القوم 357

[26]قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض فلا تأس على 358

[27-29]و اتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل 360

[30]فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين 362

[31]فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال 363

[32]من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد365

[33]إنما جزاؤا الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون فى الأرض فسادا أن 367

[34]إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم 370

[35]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة و جاهدوا فى سبيله 370

[36]إن الذين كفروا لو أن لهم ما فى الأرض جميعا و مثله معه ليفتدوا به من 371

[37]يريدون أن يخرجوا من النار و ما هم بخارجين منها و لهم عذاب 371

[38]و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله و الله عزيز371

[39]فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم 373

[40]ا لم تعلم أن الله له ملك السماوات و الأرض يعذب من يشاء و يغفر لمن 373

[41]يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا آمنا374

[42]سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض 376

[43]و كيف يحكمونك و عندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك 378

[44]إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين 378

[45]و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف380

[46]و قفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة 381

[47]و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك 381

[48]و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا381

[49]و أن احكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم و احذرهم أن يفتنوك عن 383

[50]أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون 384

[51]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء385

[52]فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا386

[53]و يقول الذين آمنوا أ هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم 386

[54]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم 387

ص: 666

[55]إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة 393

[56]و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون 401

[57]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا و لعبا من الذين 402

[58]و إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا و لعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون 402

[59]قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل 403

[60]قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله و غضب عليه و جعل 403

[61]و إذا جاؤكم قالوا آمنا و قد دخلوا بالكفر و هم قد خرجوا به و الله أعلم بما404

[62 و 63]و ترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم و العدوان و أكلهم السحت لبئس ما405

[64]و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه 406

[65]و لو أن أهل الكتاب آمنوا و اتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم و لأدخلناهم جنات 407

[66]و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم 408

[67]يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته 408

[68]قل يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل و ما412

[69]إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون و النصارى من آمن بالله و اليوم 413

[70]لقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل و أرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما413

[71]و حسبوا ألا تكون فتنة فعموا و صموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا و صموا414

[72]لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم و قال المسيح يا بنى 414

[73]لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة و ما من إله إلا إله واحد و إن لم ينتهوا415

[74]أ فلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه و الله غفور رحيم 415

[75]ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صديقة كانا415

[76]قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا و الله هو السميع 416

[77]قل يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد417

[78 و 79]لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود و عيسى ابن مريم ذلك 417

[80]ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط419

[81]و لو كانوا يؤمنون بالله و النبى و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء و لكن كثيرا419

[82]لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا و لتجدن 419

[83-85]و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا420

[86]و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم 421

ص: 667

[87]يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا إن الله لا 421

[88]و كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا و اتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون 424

[89]لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان 424

[90 و 91]يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من 426

[92]و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و احذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على 429

[93]ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا429

[94]يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشىء من الصيد تناله أيديكم و رماحكم 432

[95]يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم و من قتله منكم متعمدا433

[96]أحل لكم صيد البحر و طعامه متاعا لكم و للسيارة و حرم عليكم صيد البر437

[97]جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر الحرام و الهدى 438

[98]اعلموا أن الله شديد العقاب و أن الله غفور رحيم 440

[99]ما على الرسول إلا البلاغ و الله يعلم ما تبدون و ما تكتمون 440

[100]قل لا يستوى الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله 440

[101]يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم و إن تسئلوا441

[102]قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين 442

[103]ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام و لكن الذين كفروا443

[104]و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا444

[105]يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله 444

[106 و 107]يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية 445

[108]ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد448

[109]يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام 449

[110-113]إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك و على والدتك إذ أيدتك 450

[114 و 115]قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا452

[116]و إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أ أنت قلت للناس اتخذونى و أمى إلهين من 455

[117]ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى و ربكم و كنت عليهم شهيدا456

[118]إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم 457

[119]قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها457

[120]لله ملك السماوات و الأرض و ما فيهن و هو على كل شىء قدير459

ص: 668

في تفسير سورة الأنعام 461

[1]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى خلق السماوات و الأرض و جعل 461

[2]هو الذى خلقكم من طين ثم قضى أجلا و أجل مسمى عنده ثم أنتم 462

[3]و هو الله فى السماوات و فى الأرض يعلم سركم وجهركم و يعلم ما463

[4 و 5]و ما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين *فقد كذبوا463

[6]ا لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الأرض ما لم نمكن لكم 464

[7]و لو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن 464

[8 و 9]و قالوا لو لا أنزل عليه ملك و لو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون *و لو465

[10]و لقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به 466

[11]قل سيروا فى الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين 467

[12]قل لمن ما فى السماوات و الأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة 467

[13 و 14]و له ما سكن فى الليل و النهار و هو السميع العليم *قل أ غير الله أتخذ وليا468

[15]قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم 469

[16]من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه و ذلك الفوز المبين 469

[17]و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو و إن يمسسك بخير فهو على كل 470

[18]و هو القاهر فوق عباده و هو الحكيم الخبير470

[19]قل أى شى أ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم و أوحى إلى هذا القرآن 470

[20]الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا471

[21]و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح 472

[22 و 23]و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم 473

[24]انظر كيف كذبوا على أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون 473

[25]و منهم من يستمع إليك و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و فى آذانهم 474

[26]و هم ينهون عنه و ينئون عنه و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون 475

[27]و لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا و نكون 475

[28]بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم 475

[29 و 30]و قالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين *و لو ترى إذ وقفوا على 476

[31]قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا476

[32]و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو و للدار الآخرة خير للذين يتقون ا فلا477

ص: 669

[33]قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين 477

[34]و لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا و أوذوا حتى أتاهم نصرنا479

[35]و إن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الأرض أو479

[36]إنما يستجيب الذين يسمعون و الموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون 480

[37]و قالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية و لكن 480

[38]و ما من دابة فى الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا481

[39]و الذين كذبوا بآياتنا صم و بكم فى الظلمات من يشإ الله يضلله و من يشأ482

[40 و 41]قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أ غير الله تدعون إن كنتم 482

[42]و لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم 483

[43-45]فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا و لكن قست قلوبهم و زين لهم الشيطان ما483

[46]قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم من إله غير485

[47]قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم 485

[48 و 49]و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين فمن آمن و أصلح فلا خوف486

[50]قل لا أقول لكم عندى خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إنى ملك 486

[51]و أنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي و لا 488

[52]و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه ما عليك من 488

[53]و كذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا أ ليس الله 490

[54]و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه 490

[55]و كذلك نفصل الآيات و لتستبين سبيل المجرمين 491

[56]قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد491

[57]قل إنى على بينة من ربى و كذبتم به ما عندى ما تستعجلون به إن الحكم 492

[58]قل لو أن عندى ما تستعجلون به لقضى الأمر بينى و بينكم و الله أعلم 492

[59]و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو و يعلم ما فى البر و البحر و ما تسقط493

[60]و هو الذى يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى 494

[61 و 62]و هو القاهر فوق عباده و يرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت 495

[63 و 64]قل من ينجيكم من ظلمات البر و البحر تدعونه تضرعا و خفية لئن أنجانا496

[65]قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم 497

[66 و 67]و كذب به قومك و هو الحق قل لست عليكم بوكيل *لكل نبأ مستقر498

ص: 670

[68 و 69]و إذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى 498

[70]و ذر الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا و غرتهم الحياة الدنيا و ذكر به أن 499

[71 و 72]قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا و لا يضرنا و نرد على أعقابنا بعد إذ500

[73]و هو الذى خلق السماوات و الأرض بالحق و يوم يقول كن فيكون قوله 501

[74]و إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إنى أراك و قومك فى ضلال 502

[75]و كذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من 503

[76-78]فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين *504

[79]إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من 505

[80]و حاجه قومه قال أتحاجونى فى الله و قد هدان و لا أخاف ما تشركون به إلا508

[81]و كيف أخاف ما أشركتم و لا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به 508

[82]الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون 509

[83]و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك 510

[84 و 85]و وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل و من ذريته 510

[86 و 87]و إسماعيل و اليسع و يونس و لوطا و كلا فضلنا على العالمين *و من آبائهم 511

[88]ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا513

[89]أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد513

[90]أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا514

[91]و ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل 514

[92]و هذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه و لتنذر أم القرى و من 516

[93]و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى و لم يوح إليه شىء517

[94]و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء519

[95]إن الله فالق الحب و النوى يخرج الحى من الميت و مخرج الميت من 520

[96 و 97]فالق الإصباح و جعل الليل سكنا و الشمس و القمر حسبانا ذلك تقدير522

[98]و هو الذى أنشأكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع قد فصلنا الآيات 523

[99]و هو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شىء فأخرجنا منه 524

[100 و 101]و جعلوا لله شركاء الجن و خلقهم و خرقوا له بنين و بنات بغير علم سبحانه 526

[102]ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شىء فاعبدوه و هو على كل شىء527

[103]لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير527

ص: 671

[104]قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه و من عمى فعليها و ما أنا529

[105]و كذلك نصرف الآيات و ليقولوا درست و لنبينه لقوم يعلمون 529

[106 و 107]اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو و أعرض عن المشركين *و لو529

[108]و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا530

[109]لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون 532

[110]و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة و نذرهم فى طغيانهم 533

[111]و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى و حشرنا عليهم كل شىء قبلا533

[112]و كذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس و الجن يوحى بعضهم إلى 534

[113 و 114]و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة و ليرضوه و ليقترفوا ما هم 535

[115 و 116]و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم 536

[117 و 118]إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين *فكلوا مما537

[119]و ما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه و قد فصل لكم ما حرم عليكم إلا537

[120]و ذروا ظاهر الإثم و باطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا538

[121]و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه و إنه لفسق و إن الشياطين ليوحون إلى 538

[122]أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله فى 539

[123 و 124]و كذلك جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها و ما يمكرون إلا541

[125 و 126]فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل 542

[127]لهم دار السلام عند ربهم و هو وليهم بما كانوا يعملون 545

[128 و 129]و يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس و قال 545

[130]يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى 547

[131]ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم و أهلها غافلون 548

[132]و لكل درجات مما عملوا و ما ربك بغافل عما يعملون 548

[133]و ربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء كما548

[134 و 135]إن ما توعدون لآت و ما أنتم بمعجزين *قل يا قوم اعملوا على مكانتكم 549

[136]و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا549

[137]و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم 550

[138]و قالوا هذه أنعام و حرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم و أنعام 551

[139]و قالوا ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا و محرم على أزواجنا و إن 552

ص: 672

[140]يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم 552

[141]و هو الذى أنشأ جنات معروشات و غير معروشات و النخل و الزرع مختلفا553

[142]و من الأنعام حمولة و فرشا كلوا مما رزقكم الله و لا تتبعوا خطوات 555

[143 و 144]ثمانية أزواج من الضأن اثنين و من المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم 555

[145]قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو557

[146]و على الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر و من البقر و الغنم حرمنا عليهم 559

[147]فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة و لا يرد بأسه عن القوم 560

[148]سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا و لا حرمنا من شىء560

[149]قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين 561

[150]هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد561

[151]قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا562

[152]و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده و أوفوا الكيل 563

[153]و أن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله 564

[154]ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن و تفصيلا لكل شىء565

[155-157]و هذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه و اتقوا لعلكم ترحمون *أن تقولوا إنما566

[158]هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى ربك أو يأتى بعض آيات ربك 567

[159]إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم فى شىء إنما أمرهم إلى الله 568

[160]من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها569

[161]قل إننى هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا و ما569

[162 و 163]قل إن صلاتى و نسكى و محياى و مماتى لله رب العالمين *لا شريك له 570

[164]قل أ غير الله أبغى ربا و هو رب كل شىء و لا تكسب كل نفس إلا عليها و لا 570

[165]و هو الذى جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات 571

في تفسير سورة الأعراف 573

[1 و 2]بسم الله الرحمن الرحيم المص *كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج573

[3]اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا574

[4 و 5]و كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون *فما كان دعواهم 575

(6 و 7) فلنسئلن الذين أرسل إليهم و لنسئلن المرسلين *فلنقصن عليهم بعلم و ما575

[8 و 9]و الوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون *و من 576

ص: 673

[10]و لقد مكناكم فى الأرض و جعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون 579

[11-13]و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا580

[14 و 15]قال أنظرنى إلى يوم يبعثون *قال إنك من المنظرين 581

[16 و 17]قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم *ثم لآتينهم من بين 582

[18]قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم 583

[19 و 20]و يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة فكلا من حيث شئتما و لا تقربا هذه 584

[21-23]و قاسمهما إنى لكما لمن الناصحين *فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة 584

[24 و 25]قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم فى الأرض مستقر و متاع إلى حين 586

[26]يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآاتكم و ريشا و لباس التقوى 586

[27]يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما588

[28]و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر588

[29]قل أمر ربى بالقسط و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد و ادعوه مخلصين 589

[30]فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من 590

[31]يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه 591

[32]قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هى للذين 592

[33]قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغى بغير594

[34]و لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون 595

[35 و 36]يا بنى آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى فمن اتقى و أصلح 596

[37-39]فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم 596

[40]إن الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء598

[41 و 42]لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش و كذلك نجزى الظالمين *و الذين 599

[43]و نزعنا ما فى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الأنهار و قالوا الحمد لله 599

[44]و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل 601

[45]الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون 601

[46 و 47]و بينهما حجاب و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم و نادوا601

[48 و 49]و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم 603

[50]و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما604

[51]الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا و غرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما605

ص: 674

[52]و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون 606

[53]هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد606

[54]إن ربكم الله الذى خلق السماوات و الأرض فى ستة أيام ثم استوى على 607

[55]ادعوا ربكم تضرعا و خفية إنه لا يحب المعتدين 609

[56]و لا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها و ادعوه خوفا و طمعا إن رحمت الله 610

[57]و هو الذى يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا610

[58]و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذى خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك 611

[59 و 62]لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إنى 613

[63 و 64]أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم و لتتقوا614

[65-68]و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أ فلا تتقون 614

[69]أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم و اذكروا إذ615

[70 و 71]قالوا أ جئتنا لنعبد الله وحده و نذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت 616

[72]فأنجيناه و الذين معه برحمة منا و قطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا و ما كانوا617

[73]و إلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد618

[74-76]و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد و بوأكم فى الأرض تتخذون من 619

[77-79]فعقروا الناقة و عتوا عن أمر ربهم و قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من 620

[80-84]و لوطا إذ قال لقومه أ تاتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين 624

[85]و إلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد626

[86]و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله من آمن به 627

[87-90]و إن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به و طائفة لم يؤمنوا فاصبروا628

[91-93]فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين *الذين كذبوا شعيبا كأن 629

[94 و 95]و ما أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأساء و الضراء لعلهم 630

[96]و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض 631

[97-99]أ فأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا و هم نائمون *أ و أمن أهل القرى 632

[100]أ و لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم 632

[101]تلك القرى نقص عليك من أنبائها و لقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا633

[102]و ما وجدنا لأكثرهم من عهد و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين 634

[103]ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون و ملإيه فظلموا بها فانظر كيف635

ص: 675

[104-108]و قال موسى يا فرعون إنى رسول من رب العالمين *حقيق على أن لا 636

[108-116]قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم *يريد أن يخرجكم من 637

[117-122]و أوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون *فوقع الحق 638

[123]قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة 639

[124-127]لأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين *قالوا إنا640

[128 و 129]قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من 642

[130]و لقد أخذنا آل فرعون بالسنين و نقص من الثمرات لعلهم يذكرون 643

[131]فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من 643

[132-135]و قالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين *فأرسلنا643

[136 و 137]فانتقمنا منهم فأغرقناهم فى اليم بأنهم كذبوا بآياتنا و كانوا عنها غافلين *647

[138 و 139]و جاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا648

[140 و 141]قال أ غير الله أبغيكم إلها و هو فضلكم على العالمين *و إذ أنجيناكم من آل 648

[142 و 143]و واعدنا موسى ثلاثين ليلة و أتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة 649

[144]قال يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى و بكلامي فخذ653

الفهرس 655

ص: 676

المجلد 3

هویة الکتاب

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الثالث

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 3

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 4

تفسير سوره الاعراف ادامة

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 145

وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ اَلْفاسِقِينَ (145)

ثمّ بيّن اللّه تعالى فضائل التّوراة ببيان ما فيها من العلوم إجمالا بقوله: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ التي كانت من زبرجد الجنّة-على رواية (1)-، أو زمرّد أخضر-على اخرى (2)- مِنْ كُلِّ شَيْءٍ و علم يحتاج إليه، و كتبنا فيها مَوْعِظَةً كثيرة وَ تَفْصِيلاً و شرحا وافيا لِكُلِّ شَيْءٍ من المعارف و الأحكام، و قلنا: يا موسى، إذا علمت ما في الألواح فَخُذْها بِقُوَّةٍ في القلب، أو بجدّ و عزيمة وَ أْمُرْ و حثّ قَوْمَكَ و من تبعك يَأْخُذُوا و يعملوا بِأَحْسَنِها من عزائم أحكامها. و قيل: إنّ المراد من الأحسن: هو الحسن؛ و هو كلّها (3).

ثمّ وعظهم بقوله: سَأُرِيكُمْ دارَ فرعون و قومه، و سائر الامم المهلكة الّذين كانوا هم اَلْفاسِقِينَ و الخارجين عن طاعة أحكامي، كيف خربت و عفيت آثارها بعصياني لتعتبروا بها.

قيل: يعني سادخلكم أرض مصر و أرض الجبابرة و العمالقة بالشّام. و عليه يكون فيه وعد و ترغيب.

عن ابن عبّاس، في تفسير دارَ اَلْفاسِقِينَ قال: هي جهنّم، أي فليكن ذكر جهنّم حاضرا في خواطركم (4).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا أنزل الألواح على موسى عليه السّلام أنزلها و فيها تبيان لكلّ شيء كان أو هو كائن إلى أن تقوم السّاعة، فلمّا انقضت أيّام موسى عليه السّلام أوحى اللّه إليه أن يستودع الألواح- و هي زبرجدة من الجنّة-جبلا يقال له زينة، فأتى موسى عليه السّلام الجبل فانشقّ له الجبل، فجعل فيه الألواح ملفوفة، فلمّا جعلها [فيه]انطبق الجبل عليها، فلم تزل في الجبل حتّى بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، فأقبل ركب من اليمن يريدون الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا انتهوا إلى الجبل انفرج الجبل و خرجت الألواح ملفوفة كما وضعها موسى عليه السّلام، فأخذها القوم فلمّا وقعت في أيديهم القي في قلوبهم أن لا ينظروا إليها و هابوها حتّى يأتوا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل [اللّه]جبرئيل على نبيه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بأمر القوم و بالذي أصابوه.

ص: 5


1- . تفسير العياشي 2:160/1619، تفسير الصافي 2:236.
2- . بصائر الدرجات:161/6، تفسير الصافي 2:237.
3- . تفسير روح البيان 3:240.
4- . تفسير الرازي 14:238.

فلمّا قدموا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّموا عليه ابتدأهم فسألهم عمّا وجدوه، فقالوا: و ما علمك بما وجدنا؟ قال: أخبرني به ربّي، و هو الألواح، قالوا: نشهد أنّك لرسول اللّه. فأخرجوها فدفعوها إليه، فنظر إليها و قرأها و كانت بالعبرانيّة، ثمّ دعا أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: دونك هذه ففيها علم الأوّلين و الآخرين، و هي ألواح موسى عليه السّلام، و قد أمرني ربّي أن أدفعها إليك، فقال: لست احسن قراءتها، قال: إنّ جبرئيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه، فإنّك تصبح و قد علّمت قراءتها قال: فجعلها تحت رأسه، فأصبح و قد علّمه [اللّه]كلّ شيء فيها، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنسخها، فنسخها في جلد؛ و هو الجفر، و فيه علم الأوّلين و الآخرين، و هو عندنا، و الألواح عندنا، و عصا موسى عندنا، و نحن ورثنا النبيّين أجمعين» .

قال: «قال أبو جعفر: تلك الصّخرة التي حفظت ألواح موسى عليه السّلام تحت شجرة في واد يعرف بكذا» (1).

و في رواية: «أنّ الباقر عليه السّلام عرّف تلك الصّخرة ليماني دخل عليه» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 146

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146)

ثمّ هدّد اللّه سبحانه الكفّار المنكرين للتّوراة بقوله: سَأَصْرِفُ عَنْ التفكّر في آياتِيَ الدالّة على توحيدي و كمال قدرتي-من إهلاك الامم الماضية بكفرهم و عصيانهم، و عن النّظر في معجزات موسى عليه السّلام و كتابه-الكفّار اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ و يترفّعون فِي اَلْأَرْضِ على الأنبياء و المؤمنين بهم بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و استحقاق، و يرون أنفسهم أفضل و أشرف من الرّسل، مع أنّه لا فضل لهم و لا شرف وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ و حجّة على توحيد اللّه، أو معجزة دالّة على رسالة رسله، أو من آيات التّوراة لا يُؤْمِنُوا بِها و لا يصدّقوها و لا ينقادوا لها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ و يطّلعوا على طريق الحقّ لا يَتَّخِذُوهُ و لا يختاروه لأنفسهم سَبِيلاً و مسلكا لانطباع قلوبهم، و استيلاء الشّيطان عليهم، و تمرّنهم على الانحراف وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ و طريق الضّلال و المذهب يَتَّخِذُوهُ لسلوك أنفسهم سَبِيلاً لا يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم الزّائغة، و إفضائه إلى مشتهياتهم الباطلة.

ص: 6


1- . تفسير العياشي 2:160/1619، تفسير الصافي 2:237.
2- . بصائر الدرجات:162/7، تفسير الصافي 2:238.

عن القمّي رحمه اللّه: إذا رأوا الإيمان و الصّدق و الوفاء و العمل الصّالح لا يتّخذونه سبيلا، و إن يروا الشّرك و الزّنا و المعاصي يأخذوا بها و يعملوا بها (1).

ذلِكَ الخزي و التكبّر و الانحراف عن الحقّ حصل لهم بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا و كفروا بِآياتِنا الدالّة على الدّين الحقّ و سبيل الرّشد وَ كانُوا عَنْها معرضين كأنّهم كانوا عنها غافِلِينَ.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 147

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد عموم المكذّبين بآياته من الأوّلين و الآخرين بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من التّوراة و الإنجيل و القرآن وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ و الحشر إلى دار الجزاء حَبِطَتْ و بطلت أَعْمالُهُمْ الحسنة التي عملوها مدّة أعمارهم في الدّنيا؛ من صلة الأرحام، و الإحسان إلى الفقراء و الأيتام، و غيرها من الخيرات، فلا يصلون بها إلى الصّواب، و لا يتخلّصون بها من العذاب، لاشتراط قبولها بالإيمان بالمبدأ و المعاد و رسالة الرّسل.

ثمّ نبّه سبحانه على أن عقوبته و خزيه إنّما يكون استحقاقهما بسبب سيّئات الأعمال، لا للتشفّي و غيره من الأغراض، بقوله: هَلْ يُجْزَوْنَ هؤلاء المكذّبون جزاء إِلاّ على ما كانُوا في الدّنيا يَعْمَلُونَ و هل يعاقبون إلاّ على ما كانوا يرتكبون من الكفر و المعاصي و معارضة الرّسل و معاندة الحقّ، لا و اللّه لا يجزون إلاّ على أعمالهم السيّئة و عقائدهم الفاسدة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 148

وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اِتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن غاية جهل بني إسرائيل بسؤالهم من موسى عليه السّلام-بعد عبورهم في بلاد العمالقة، و اطّلاعهم على عبادتهم الأصنام-أن يجعل لهم صنما يعبدونه، ذكر أنّهم لغاية جهلهم آل أمرهم إلى أن عبدوا العجل و اتّخذوه إلها، بقوله: وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى و أغلب قبيلة بني إسرائيل؛ و هم كانوا سبعمائة ألف أو ستمائة ألف مِنْ بَعْدِهِ و بعد ذهابه إلى الميقات، لغاية جهلهم مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً قيل: سمّي ولد البقر به لاستعجال بني إسرائيل عبادته. و كان ذلك العجل جَسَداً ذا لحم و دم لَهُ خُوارٌ و صوت كصوت البقر.

ص: 7


1- . تفسير القمي 1:240، تفسير الصافي 2:238.

قيل: إنّ موسى عليه السّلام وعد قومه بالانطلاق إلى الجبل ثلاثين يوما، فلمّا تأخّر رجوعه قال لهم السّامريّ-و كان رجلا من قرية يقال لها سامرة، و كان مطاعا في بني إسرائيل ذا قدر-: إنّكم أخذتم الحليّ من آل فرعون فعاقبكم اللّه بتلك الخيانة، و منع موسى عنكم. و ذلك أنّ بني إسرائيل كان لهم عيد يتزيّنون فيه و يستعيرون الحليّ من القبط، فاستعاروا حليّ القبط لذلك، فلمّا أغرق اللّه القبط بقيت تلك الحليّ في أيدي بني إسرائيل، فقال لهم السّامريّ: اجمعوا الحلّي حتّى احرقها لعلّ اللّه يردّ علينا موسى (1).

و قيل: سألوه إلها يعبدونه، و قد كان لهم ميلا إلى عبادة البقر منذ مرّوا على العمالقة الّذين كانوا يعبدون تماثيل البقر، فجعل السّامريّ الحلّي بعد جمعها في النّار، و صاغ لهم من ذلك عجلا لأنّه كان صائغا، و ألقى في فمه ترابا أخذه من أثر فرس جبرئيل؛ و كان ذلك الفرس فرس الحياة ما وضع حافره على شيء إلاّ اخضرّ، و كان قد أخذ ذلك التّراب عند فلق البحر، أو عند توجّهه إلى الطّور، فانقلب ذلك الجسد لحما و دما، و ظهر منه خوار و حركة و مشي، فقال السامريّ: هذا إلهكم و إله موسى، فعبدوه إلاّ اثني عشر ألفا من ستمائة ألف (2).

و قيل: إنّه جعل ذلك العجل مجوّفا، و جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص، و كان [قد] وضع التّمثال على مهبّ الرّيح، تدخل من تلك الأنابيب، فظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل، فأوهم بني إسرائيل أنّه هو يخور (3).

أقول: هذا مخالف للقرآن و الأحاديث.

ثمّ وبّخ اللّه بني إسرائيل على عبادتهم ذلك العجل و قولهم بالوهيّته بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ بكلام البشر وَ لا يَهْدِيهِمْ إلى الخير سَبِيلاً و لا يرشدهم إلى الحقّ طريقا، مع أنّ اللّه يكلّم موسى عليه السّلام و يشرّع الشّريعة الموصلة إلى كلّ خير، و هم مع الوصف لغاية جهلهم اِتَّخَذُوهُ إلها و حسبوه خالقا معبودا وَ كانُوا في عبادتهم تلك ظالِمِينَ على اللّه بتضييع حقّه و حطّ شأنه، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 149 الی 151

وَلَمَّا سُقِطَ فِيٓ أَيۡدِيهِمۡ وَرَأَوۡاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمۡ يَرۡحَمۡنَا رَبُّنَا وَيَغۡفِرۡ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّ-ٰلِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِأَخِي وَأَدۡخِلۡنَا فِي رَحۡمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ-ٰحِمِينَ (151)

ص: 8


1- . تفسير روح البيان 3:242.
2- . تفسير روح البيان 3:242.
3- . تفسير روح البيان 3:242.

ثمّ أنّهم ندموا من عملهم الشّنيع بسعي هارون و مواعظه البليغة وَ لَمّا سُقِطَ رؤوسهم فِي أَيْدِيهِمْ و ندموا. قيل: إنّ السّقوط في اليد كناية عن شدّة النّدامة؛ لأنّ النادم يضع غالبا رأسه على يده (1)وَ رَأَوْا و تبيّنوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا عن الطّريق الحقّ بعبادتهم العجل حتّى كأنّهم لشدّة وضوحه عاينوه بأبصارهم قالُوا تحسّرا و ندامة: و اللّه لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا و يتفضّل علينا رَبُّنا بإنعامه وَ يَغْفِرْ لَنا و يتجاوز عن خطيئتنا بكرمه لَنَكُونَنَّ ألبتّة مِنَ اَلْخاسِرِينَ و الهالكين.

وَ لَمّا رَجَعَ مُوسى من الميقات إِلى قَوْمِهِ حال كونه غَضْبانَ عليهم لعبادتهم العجل أَسِفاً شديد الحزن، لأنّ اللّه فتنهم، ثمّ وبّخهم و قالَ: يا قوم بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي و ساء ما عملتم مِنْ بَعْدِي و في زمان غيبتي و ذهابي إلى ميقات ربّي، حيث عبدتم العجل و أشركتم باللّه، أو بعد ما رأيتم منّي التّوحيد و نفي الشّريك عن اللّه.

ثمّ لامهم على ترك انتظارهم رجوعه بقوله: أَ عَجِلْتُمْ و تركتم أَمْرَ رَبِّكُمْ بتوحيده و حفظ عهدي و انتظار رجوعي وَ أَلْقَى من يده اَلْأَلْواحَ و طرحها على الأرض من شدّة غضبه للّه، و فرط انضجاره من قومه حميّة للّدين.

روي أنّه لمّا ألقاها انكسرت فذهب بعضها (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ منها ما تكسّر، و منها ما بقي، و منها ما ارتفع» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: أنّه عرّف يمانيّ صخرة باليمن، ثمّ قال: «تلك الصخرة التي التقمت ما ذهب من التّوراة حين ألقى موسى عليه السّلام الألواح، فلمّا بعث اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله أدّته إليه و هي عندنا» . (4).

و روي أنّها كانت سبعة أسباع، فلمّا ألقى الألواح تكسّرت فرفع منها ستّة أسباع و بقي سبع [واحد]، و كان فيما رفع تفصيل كلّ شيء، و فيما بقي الهدى و الرّحمة (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «رحم اللّه أخي موسى، ليس المخبر كالمعاين، لقد أخبره اللّه بفتنة قومه، و لقد عرّف أن ما اخبر به حقّ، و أنّه على ذلك لمتمسّك بما في يديه، فرجع إلى قومه و رآهم، فغضب

ص: 9


1- . تفسير الرازي 15:8.
2- . تفسير الصافي 2:239.
3- . بصائر الدرجات:161/6، تفسير الصافي 2:239.
4- . بصائر الدرجات:157/7، تفسير الصافي 2:239.
5- . تفسير الرازي 15:11.

و ألقى الألواح» (1).

وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون و بشعره يَجُرُّهُ إِلَيْهِ عن الصادق عليه السّلام: «و ذلك لأنّه لم يفارقهم لمّا فعلوا ذلك، و لم يلحق بموسى عليه السّلام، و كان إذا فارقهم ينزل بهم العذاب (2). و قيل: إنّه جرّه إلى نفسه ليسّاره و يستكشف كيفيّة تلك الواقعة.

إذن اعتذر هارون و قالَ استعطافا له: يا اِبْنَ أُمَّ لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إِنَّ اَلْقَوْمَ لشدّة حرصهم على عبادة العجل اِسْتَضْعَفُونِي و استحقروني و لم يعتنوا إلى قولي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي إن منعتهم عنها، و لم يكن لي من العدّة ما أقهرهم على تركها و أدفعهم عن نفسي، و مع ذلك لم أقصّر في إنذراهم و وعظهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ اَلْأَعْداءَ بإظهار الغضب عليّ وَ لا تَجْعَلْنِي في استحقاق العقوبة شريكا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بعبادة العجل.

عن الصادق عليه السّلام: «لم يقل يابن أبي؛ لأنّ بني الأب إذا كانت امّهاتهم شتّى لم تستبعد العداوة بينهم إلاّ من عصمه اللّه منهم، و إنّما تستبعد العداوة بين بني امّ واحدة» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّه كان أخاه لأبيه و امّه» (2).

و قيل: إنّه كان أكبر من موسى عليه السّلام بثلاث سنين، و كان حمولا (3)ليّنا (4).

فقبل موسى عليه السّلام عذره و تلطّف به و قالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي ما صدر منّي من الغضب على هارون وَ لِأَخِي هارون ما صدر منه من الإقامة في القوم، و ترك التّشديد على عبدة العجل وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ الواسعة و الجنّة وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 152

ثمّ أعلن اللّه سبحانه بغضبه على عبدة العجل و سوء عاقبة عملهم الشّنيع بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ إلها و معبودا لأنفسهم من دون اللّه سَيَنالُهُمْ و يصيبهم غَضَبٌ شديد مِنْ رَبِّهِمْ و مالك أمورهم. قيل: هو ما امروا به من قتل أنفسهم وَ ذِلَّةٌ و خزي فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا قيل: هو خروجهم من ديارهم، و قيل: هي الجزية وَ كَذلِكَ الجزاء الفظيع نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ علينا القائلين بأنّا شاركنا العجل في الالوهيّة.

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ (152)

ص: 10


1- . مجمع البيان 4:741، تفسير الصافي 2:239. (2 و 3) . علل الشرائع:68/1، تفسير الصافي 2:240.
2- . الكافي 8:27/1، تفسير الصافي 2:240.
3- . الحمول: الحليم الصّبور.
4- . تفسير الصافي 2:240.

قيل: إنّ المراد من الّذين اتّخذوا العجل: هم الّذين أصرّوا على عبادته و لم يتوبوا عنها؛ كالسامريّ و أضرابه من الّذين اشربوه في قلوبهم، و من الغضب: عذاب الآخرة، و من الذلّة: الاغتراب و المسكنة الدائمة.

روي أنّ موسى عليه السّلام همّ بقتل السامريّ، فأوحى اللّه إليه: لا تقتله فإنّه سخيّ، و لكن أخرجه من عندك، فقال له موسى عليه السّلام: فاذهب من بيننا مطرودا فإنّ لك في الحياة-أي في عمرك-أن تقول لمن أراد مخالطتك جاهلا بحالك: [لا مساس، أي]لا يمسّني أحد (1).

و في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية فقال: «فلا نرى صاحب بدعة إلاّ ذليلا، و لا مفتريا على اللّه و على رسوله و أهل بيته إلاّ ذليلا» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 153 الی 154

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار الغضب على غير التّائبين من عبدة العجل، أعلن برحمته على العصاة التّائبين بقوله: وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئاتِ كبيرة كانت أو صغيرة ثُمَّ تابُوا منها مِنْ بَعْدِها ما دامت حياتهم باقية وَ آمَنُوا بربّهم إيمانا خالصا من شوب الشّرك و النّفاق، و عملوا بمقتضى الإيمان إِنَّ رَبَّكَ وراء الأعمال السيّئة، أو التّوبة مِنْ بَعْدِها و اللّه لَغَفُورٌ للذّنوب و إن كثرت و جلّت رَحِيمٌ بعبادة التّائبين، مفيض عليهم بالخيرات الدّنيوية و الأخرويّة.

وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ أَخَذَ اَلْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غضب موسى عليه السّلام على عبدة العجل و عمله حاله، بيّن سكون غضبه، و اعتذار هارون، و توبة قومه من عصيانهم و عمله حينه بقوله: وَ لَمّا سَكَتَ و سكن عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ لاعتذار أخيه، و توبة قومه أَخَذَ اَلْأَلْواحَ التي ألقاها حين الغضب من يده، و استنسخ منها التّوراة وَ فِي نُسْخَتِها و الكتاب الذي كتبوا منها هُدىً و إرشاد إلى كلّ حقّ وَ رَحْمَةٌ و خير عظيم لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ و من عصيانه يتّقون، و من عذابه يخافون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 155

وَ اِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ اَلسُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغافِرِينَ (155)

ص: 11


1- . تفسير روح البيان 3:247.
2- . الكافي 2:14/6، تفسير الصافي 2:241.

ثمّ أنّ اللّه تعالى أمر موسى عليه السّلام أن يأتي بسبعين من خيار بني إسرائيل للاعتذار عن عصيان قومهم، و في الوقت الذي عيّنه اللّه وَ أن اِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ و انتخب منهم سَبْعِينَ رَجُلاً من خيارهم لِمِيقاتِنا و الموعد الذي وعدناهم فيه، ليعتذروا من عبادة قومهم العجل.

قيل: إنّ موسى عليه السّلام اختار من كلّ سبط-و كانوا اثني عشر-ستّة رجال، فزاد اثنان على السّبعين، فقال موسى عليه السّلام: ليتخلّف منكم رجلان فإنّي امرت بسبعين، فتنازعوا فقال: إنّ لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب و يوشع و ذهب موسى عليه السّلام مع الباقين. .

عن الرضا عليه السّلام: «أنّ السّبعين لمّا صاروا [معه]إلى الجبل قالوا له: إنّك قد رأيت اللّه، فأرناه كما رأيته، فقال: إنّي لم أره، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ (1)فاحترقوا عن آخرهم» الخبر (2).

و قيل: أخذتهم الرجفة فصعقوا و ماتوا.

فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ بما أجترأوا على اللّه من طلب الرّؤية، و احترقوا و ماتوا، و بقي موسى عليه السّلام وحيدا فقال: يا ربّ، اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل و جئت بهم، فإن أرجع إليهم وحدي كيف يصدّقوني بما اخبرهم به؟ قالَ تذكّرا للعفو السّابق لاستجلاب العفو اللاّحق: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ حين مخالفتهم النّهي عن عبادة العجل وَ إِيّايَ حين سألتك الرّؤية.

و قيل: إنّه تمنّ لهلاكهم و هلاك نفسه قبل أن يرى ما اري، لخوفه من تهمة بني إسرائيل بقتلهم.

ثمّ استعطف من اللّه بإنكار إهلاكهم عليه مع غاية لطفه وسعة رحمته بقوله: أَ تُهْلِكُنا يا ربّ بِما فَعَلَ اَلسُّفَهاءُ مِنّا من سؤالهم رؤيتك إِنْ هِيَ و ما هذه الفتنة و البليّة إِلاّ فِتْنَتُكَ و ابتلاء من قبلك؛ حيث إنّك أسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك، فطمعوا في رؤيتك، و أنت ممتحن عبادك بالفتن و تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ بحسب خبث ذاته-ضلالته وَ تَهْدِي و تثبت على الحقّ مَنْ تَشاءُ -لطيب ذاته-هدايته و ثباته، فلا تزلّ قدمه بفتنتك، بل يزيد إيمانه أَنْتَ وَلِيُّنا و المدبّر لامورنا بحكمتك و لطفك لا مدبّر لنا غيرك، إذن فَاغْفِرْ لَنا ما فرّطنا في جنبك من الخطايا و الزّلل وَ اِرْحَمْنا بإفاضة الخيرات علينا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغافِرِينَ تغفر الذّنوب و تبدّل السيّئات بالحسنات.

ص: 12


1- . البقرة:2/55.
2- . التوحيد:424/1، تفسير الصافي 2:241.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 156

فلمّا رأى موسى عليه السّلام أنّ اللّه تعالى أحيا السّبعين بدعائه، بالغ في الدّعاء بقوله: وَ اُكْتُبْ يا ربّ و أوجب عليك لَنا بكرمك فِي هذِهِ اَلدُّنْيا ما دمنا فيها امورا حَسَنَةً من السّعة في الرّزق، و الرغد في العيش، و التوّفيق للطّاعة وَ فِي عالم اَلْآخِرَةِ أيضا الامور الحسنة من النّجاة من العذاب، و الفوز بالجنّة و النّعم الدّائمة يا مولاي إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ و عرفناك بكمال الصّفات، و سعة الرّحمة و المغفرة، و سؤال الحوائج منك، و إنّا نرجو منك العفو عن زلاّتنا و نعتذر إليك من خطيئاتنا. فأوحى اللّه إلى موسى عليه السّلام بقوله: قالَ عَذابِي في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما أُصِيبُ بِهِ و انزله على مَنْ أَشاءُ تعذيبه على حسب استحقاقه، وَ لكن رَحْمَتِي و نعمتي و إحساني في الدّنيا وَسِعَتْ و شملت كُلَّ شَيْءٍ من الجمادات و النّباتات و الحيوانات، و المؤمنين و الكفّار بعد موتهم فَسَأَكْتُبُها و أثبتها و اديمها في الآخرة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشّرك و المعاصي وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ من أموالهم إلى الفقراء و المصارف المقرّرة وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا و دلائل توحيدنا، و رسالة رسولنا يُؤْمِنُونَ.

وَ اُكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 157

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اختصاص رحمته في الدّارين بالمتّقين المزكّين المؤمنين بالآيات، بيّن اختصاص المؤمنين بخاتم الأنبياء بتلك الصّفات بقوله: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ مختصّون بالرّحمة الدّائمة، فلا تشمل اللاّحقين من بني إسرائيل إلاّ إذا التزموا باتّباعه.

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (157)و عن (الكافي) : عن أحدهما عليهما السّلام: «الرّسول: الذي يظهر له الملك فيكلّمه، و النبيّ: هو الذي يرى

ص: 13

في منامه، و ربّما اجتمعت النبوّة و الرّسالة في واحد» (1).

و قيل: في توصيفه ب «الرّسول» إشعار بأنّه صاحب كتاب، و ب «النبيّ» إيماء إلى أنّه صاحب المعجزة. و قيل: إنّما سمّاه رسولا بالإضافة إلى اللّه، نبيا بالاضافة إلى الخلق (2).

و عن الزجّاج: معنى الامّي الذي هو على صفة امّه العرب، قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّا امّة اميّة؛ لا نكتب و لا نحسب» فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون و لا يقرأون (3).

و من المعلوم أنّ كونه اميّا بهذا المعنى من أعظم معجزاته، فإنّه لو كان يحسن الخطّ و القراءة لصار متّهما بأنّه ربّما طالع كتب الأوّلين و الآخرين. فحصّل هذه العلوم بتلك المطالعة، فلمّا أتى بالقرآن العظيم المشتمل على علوم الأوّلين و الآخرين من غير تعلّم و مطالعة، كان ذلك من جملة معجزاته الباهرة.

و قيل: إنّ المراد من الامّي: المنسوب إلى امّ القرى.

عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل لم سمّي النبيّ بالامّي؟ قال: «نسب إلى مكّة، و ذلك من قول اللّه: وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها (4)و امّ القرى مكّة، فقيل امّي لذلك» (5).

و عن الجواد عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك، فقال: «ما يقول النّاس؟» قيل: يزعمون أنّه إنّما سمّي بالامّي لأنّه لم يحسن أن يكتب الخطّ، فقال: «كذبوا لعنهم اللّه، أنّى ذلك و اللّه يقول: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ (6)فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، و اللّه لقد كان رسول اللّه يقرأ و يكتب باثنين و سبعين-أو قال: ثلاثة و سبعين-لسانا، و إنّما سمّي الامّي لأنّه كان من أهل مكّة، و مكّة من امّهات القرى، و ذلك قول اللّه عز و جل: لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها (7).

ثمّ استدلّ سبحانه على صحّة نبوّته بقوله: اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ عن الباقر عليه السّلام: «يعني اليهود و النّصارى، صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و اسمه [ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ ]فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ ] (8).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قال يهودي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي قرأت نعتك في التّوراة (محمّد بن عبد اللّه مولده بمكّة، و مهاجره بطيبة، ليس بفظّ و لا غليظ، و لا سحار (9)و لا متزين بالفحش و لا قول

ص: 14


1- . الكافي 1:135/4، تفسير الصافي 2:242.
2- . تفسير روح البيان 3:251.
3- . تفسير الرازي 15:23.
4- . الأنعام:6/92.
5- . مجمع البيان 4:749، تفسير الصافي 2:242.
6- . الجمعة:62/2.
7- . علل الشرائع:124/1، تفسير الصافي 2:242.
8- . تفسير العياشي 2:164/1630، تفسير الصافي 2:242.
9- . في أمالي الصدوق: و لا صخّاب.

الخنا) و أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّك رسول اللّه، هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه» (1).

عن الباقر عليه السّلام: «لما انزلت التّوراة على موسى عليه السّلام بشّر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله» قال: «فلم تزل الأنبياء تبشّر به حتّى بعث اللّه المسيح عيسى بن مريم فبشّر بمحمّد، و ذلك قوله: يَجِدُونَهُ يعني اليهود، [و النصارى] مَكْتُوباً يعني صفة محمّد عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ، و هو قول اللّه عزّ و جلّ يخبر عن عيسى: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ» (2).

روي «أنّ موسى ناجاه ربّه تعالى فقال له في مناجاته: اوصيك يا موسى وصيّة الشّفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم، و من بعده؛ بصاحب الجمل الأحمر، الطيّب الطّاهر المطهّر، فمثله في كتابك أنّه مهيمن على الكتب كلّها، و أنّه راكع ساجد راغب راهب، إخوانه المساكين، و أنصاره قوم آخرون» (3).

أقول: لو فرضنا أنّه لم توجد رواية في وجود اسمه في الكتابين لعلمنا بوجوده فيهما؛ لأنّه لو لم يكن مع صراحة القرآن بوجوده و وجود نعوته فيهما لأنكر عليه أهل الكتاب، و صار كذبه أظهر من الشمس في رائعة (4)النّهار.

ثمّ عدّ سبحانه من صفاته الكريمة المكتوبة في الكتابين أنّه صلّى اللّه عليه و آله يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ و يحثّهم على العمل بالمحسّنات العقليّة وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ و يزجرهم عن القبائح وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ و اللّذائذ التي لا خساسة فيها و لا ضرر؛ من المأكولات و المشروبات وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ و ما تتنفّر منه الطّباع، و ما يتضرّر منها وَ يَضَعُ و يرفع عَنْهُمْ بإتيان الحنيفية السّهلة السّمحة إِصْرَهُمْ و التّكاليف الوجوبيّة الشّاقّة عليهم؛ كوجوب قرض موضع النّجاسة من الثّوب و البدن وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ و المحرّمات الشّاقة؛ كحرمة العمل يوم السّبت، و أخذ الدية في القتل، و حرمة التصرّف في الغنائم، و حرمة الشّحوم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ و بما جاء به وَ عَزَّرُوهُ و عظّموه بإطاعة أوامره و نواهية و التّسليم لأحكامه وَ نَصَرُوهُ و أعانوه على أعدائه و في ترويج دينه وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ و هو القرآن اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ و عن الصادق عليه السّلام: «النّور في هذا الموضع عليّ و الأئمّة عليهم السّلام» (5)، و قيل: إنه الهدى و البيان و الرّسالة (6)، و [قيل:]الحقّ الذي ظهوره في القلوب كظهور

ص: 15


1- . أمالي الصدوق:552/737، تفسير الصافي 2:243.
2- . الكافي 8:117/92، تفسير الصافي 2:243، و الآية من سورة الصف:61/6.
3- . الكافي 8:43/8، تفسير الصافي 2:243.
4- . في النسخة: رابعة.
5- . الكافي 1:150/2، تفسير الصافي 2:243.
6- . تفسير الرازي 15:25.

النّور (1).

أُولئِكَ المؤمنون المتّبعون هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ الفائزون بأعلى المقاصد من النّجاة من النّار و الدّخول في الجنّة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 158

ثمّ أنّه تعالى-بعد إثبات رسالة رسوله بالإخبار بوجود اسمه و صفاته في الكتب السماوية، و بكون شريعته أكمل و أسهل من الشّرائع السّابقة، و بيان أفضليّة تابعيه على سائر الامم، و الوعد بالفلاح على الإيمان به و العمل بكتابه-أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإعلام النّاس هموم رسالته بقوله: قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ من العرب و العجم، و الأبيض و الأحمر و الأسود إِنِّي رَسُولُ اَللّهِ أرسلني إِلَيْكُمْ جَمِيعاً.

قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اِتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)عن الحسن المجتبى عليه السّلام: «أنّه جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد، أنت الذي تزعم أنّك رسول اللّه، و أنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران، فسكت النبيّ ساعة ثم قال: نعم، أنا سيد ولد آدم و لا فخر، و أنا خاتم النبيّين، و إمام المتّقين، و رسول ربّ العالمين. قالوا: إلى من، إلى العرب، أم إلى العجم، أم إلينا؟ فأنزل اللّه هذه الآية» (2).

ثمّ أمره اللّه تعالى بإظهار كمال معرفته به بالصّفات التي فيها دليل صحّة دعواه بقوله: اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يعزّ من يشاء و يذل من يشاء، و يعطي الملك من يشاء و ينزعه ممّن يشاء لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لا شريك له في الالوهيّة و الربوبيّة حتّى يزاحمه في إنفاذ إرادته، و لا ندّ له حتّى يقهره في سلطانه، القادر الحيّ الذي يُحيِي الأموات وَ يُمِيتُ الأحياء.

فإذا كان كذلك كان عليه إحياء القلوب بمعارفه، و تربية الأرواح بالأمر بالعبادات و تهذيب الأخلاق، كي يستعدّوا لقبول فيوضاته، و لا يمكن ذلك إلاّ بإرسال رسول يهديهم إلى الحقّ و ما به الحياة الرّوحانيّة و الكمالات المعنويّة، و أنا ذلك الرّسول فَآمِنُوا بِاللّهِ و بوحدانيّته وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ و مرّ تفسيره (3)اَلَّذِي هو لكمال عقله و علمه يُؤْمِنُ بشراشره (4)بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ التي أنزلت إليه و هي القرآن العظيم. و قيل: معجزاته الكثيرة وَ اِتَّبِعُوهُ في جميع أقواله و أفعاله، و انقادوا

ص: 16


1- . تفسير الرازي 15:25.
2- . أمالي الصدوق:254/1، تفسير الصافي 2:243.
3- . تقدم في الآية (157) من تفسير هذه السورة.
4- . الشّراشر: الجسم بجملته.

لأوامره و نواهيه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى خير، و تسعدون في الدّنيا و الآخرة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 159

ثمّ بين سبحانه حسن اتّباع طائفة من بني إسرائيل لدين موسى عليه السّلام ترغيبا لامّة خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله في اتّباعه بقوله: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ و جماعة مهتدون يتّبعون موسى عليه السّلام، و هم مع اهتدائهم في أنفسهم يَهْدُونَ غيرهم من سائر النّاس بِالْحَقِّ و بكتابه النّاطق به إلى الحقّ، و الدّين المرضيّ عند اللّه وَ بِهِ يَعْدِلُونَ في الأحكام الجارية بينهم.

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159)قيل: إنّ الأشهر بين المفسّرين أنّ هذه الامّة قوم من بني إسرائيل وراء الصّين بأقصى المشرق، و ذلك أنّ بني إسرائيل لمّا بالغوا في العتوّ و الطّغيان بعد وفاة موسى عليه السّلام و خليفته يوشع حتى اجترأوا على قتل الأنبياء، و وقع الهرج و المرج، تبرّأ سبط منهم ممّا صنعوا و اعتذروا، و سألوا اللّه تعالى أن يفرّق بينهم و بين أولئك الطّاغين، ففتح اللّه لهم-و هم في بيت المقدس-نفقا في الأرض، و جعل أمامهم المصابيح فساروا و معهم نهر من ماء يجري، و أجرى اللّه عليهم أرزاقهم، فساروا فيه على هذا الوجه سنة و نصف سنة حتّى خرجوا من وراء الصين [إلى أرض]بأقصى المشرق طاهرة طيبة فنزلوها، و هم مختلطون بالسّباع و الوحوش و الهوام لا يضرّ بعضهم بعضا، و هو متمسّكون بالتّوراة مشتاقون إلى الإسلام، لا يعصون اللّه طرفة عين أبدا، تصافحهم الملائكة، و هم في منقطع من الأرض لا يصل إليهم أحد منّا و لا أحد منهم إلينا؛ إمّا لأنّ بينهم و بين الصّين واديا جاريا من رمل يمنع النّاس من إتيانهم، كما عن ابن عبّاس. أو نهرا من شهد، كما عن السدّي. فانّهم كبني أب واحد ليس لاحد [منهم]مال دون صاحبه، يمطرون باللّيل و يضحون (1)بالنّهار، و يزرعون و يحصدون جميعا فيضعون الحاصل في أماكن من القرية، فيأخذ كلّ منهم قدر حاجته و يدع الباقي (2).

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل ليلة المعراج: «إنّي أحبّ أن أرى القوم الّذين أثنى اللّه عليهم بقوله: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» . فقال: إن بينك و بينهم مسيرة ستّ سنين ذهابا، و ستّ سنين إيابا، و لكن سل ربّك حتّى يأذن لك، فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمّن جبرئيل، فأوحى اللّه تعالى إلى جبرئيل أنّه أجيب إلى ما سأل، فركب البراق فخطا خطوات فإذا هو بين أظهر القوم، فسلّم عليهم و ردّوا عليه سلامه، و سألوه: من أنت؟ فقال: «أنا النبيّ الأمّي» ، قالوا: أنت الذي بشّر بك موسى

ص: 17


1- . ضحى يضحو: برز للشمس، ضحى يضحى: أصابه حرّ الشمس.
2- . تفسير روح البيان 3:259.

و أوصانا بأن قال لنا: من أدرك منكم أحمد فليقرى عليه منّي السّلام فرّد رسول اللّه عليه سلامة، و قالوا: فمن معك؟ قال: «أو ترون» ، قالوا: نعم، قال: «هو جبرئيل» . قال: «فرأيت قبورهم على أبواب دورهم فقلت: فلم ذلك؟» قالوا: أجدر أن نذكر الموت صباحا و مساء، فقال: «أرى بنيانكم مستويا؟» قالوا: ذلك لئلاّ يشرف بعضنا على بعض، و لئلاّ يسدّ أحد على أحد الرّيح و الهواء. قال: «فما لي لا أرى لكم قاضيا و لا سلطانا؟» قالوا: إذا أنصف بعضنا بعضا، و أعطينا الحقّ فلم نحتج إلى قاض ينصف بيننا. قال: «فما لي أرى أسواقكم خالية؟» قالوا: نزرع جميعا و نحصد جميعا، فيأخذ كلّ أحد منّا ما يكفيه و يدع الباقي لأخيه، فلا نحتاج إلى مراجعة الأسواق. قال: «فما لي أرى هؤلاء القوم يضحكون؟» قالوا: مات لهم ميّت فيضحكون سرورا بما قبضه اللّه على التّوحيد. قال: «فما لهؤلاء القوم يبكون؟» قالوا: ولد لهم مولود، [فهم]لا يدرون على أيّ دين يقبض فيغتمّون على ذلك.

قال: «فإذا ولد لكم ذكر، فماذا تصنعون؟» قالوا: نصوم للّه شكرا شهرا. «قال: فالانثى؟» قالوا: نصوم للّه شكرا شهرين. قال: «و لم؟» قالوا: لأنّ موسى عليه السّلام أخبرنا أنّ الصبر على الانثى أعظم أجرا من الصّبر على الذّكر. قال: «أفتزنون؟» قالوا: و هل يفعل ذلك أحد، لو فعل ذلك أحد حصبته السّماء، و خسفت به الأرض من تحته. قال: «أفترابون؟» قالوا: إنّما يرابي من لا يؤمن برزق اللّه. قال: «أ فتمرضون؟» قالوا: لا نمرض و لا نذنب، إنّما تذنب امّتك فيمرضون ليكون كفّارة لذنوبهم. قال: «هل في أرضكم سباع و هوام؟» قالوا: نعم، تمر بنا و نمر بها، و لا تؤذينا و لا نؤذيها. فعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شريعته و الصلوات الخمس عليهم، و علّمهم الفاتحة و سورا من القرآن.

و عن الحدّادي: أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، و لم يكن يومئذ نزلت فريضة غير الصلاة و الزّكاة، فأمرهم بالصلاة و الزّكاة، و أن يتركوا تحريم السّبت و يجمعوا، و أمرهم أن يقيموا مكانهم. فهم اليوم هناك حنفاء مسلمون مستقبلون قبلتنا (1).

أقول: هذا يؤيّد القول بأنّ قبلة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانت قبل الهجرة هي الكعبة.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ هذه الآية في قوم من وراء الصّين، بينهم و بين الصّين واد جار من الرّمل، لم يغيروا و لم يبدّلوا، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون باللّيل و يضحون بالنهار و يزرعون، لا يصل إليهم أحد منّا و لا منهم إلينا أحد، و هم على الحقّ» (2).

قال في (المجمع) : و قيل: إنّ جبرئيل انطلق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج إليهم، فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكة فآمنوا به و صدّقوه، و أمرهم أن يقيموا مكانهم و يتركوا السّبت، و أمرهم

ص: 18


1- . تفسير روح البيان 3:260.
2- . مجمع البيان 4:752، تفسير الصافي 2:244.

بالصّلاة و الزّكاة، و لم تكن نزلت فريضة غيرهما، ففعلوا (1).

قال: و روى أصحابنا أنّهم يخرجون مع قائم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و روي أنّ ذا القرنين رآهم (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «قوم موسى هم أهل الإسلام» (3).

و قيل: إنّهم قوم مشوا على دين الحقّ الذي جاء به موسى عليه السّلام، و دعوا النّاس إليه، و صانوه عن التّحريف و التّبديل في زمن تفرّق بني إسرائيل و إحداثهم البدع، و يجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه، و يجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 160

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال متّبعي موسى عليه السّلام من بني إسرائيل، بيّن سوء حال بقيّتهم و كفرانهم النّعم التي أنعمها عليهم بقوله: وَ قَطَّعْناهُمُ و صيّرناهم شعبا، فصاروا اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً و قبائل، كلّ قبيلة منهم من نسل ولد من أولاد يعقوب، يسمّون باسم أبيهم الأعلى، و جعلناهم أُمَماً و جماعات متميّزة.

وَ قَطَّعْناهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اِسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ اَلْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)قيل: إنّه تعالى سمّى كلّ سبط أمّة لكثرة عددهم. و قيل: لأنّ كلّ سبط يؤمّ غير الذي يؤمّ الأسباط الأخر، بحيث لا يكاد توافقهم في أمر لتباغظهم و تعصّبهم، فأنعم اللّه عليهم بهذا التّفريق و التّقطيع لتنتظم أمورهم و يتيسّر عيشهم (5).

ثمّ ذكر سبحانه نعمته الأخرى عليهم بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى في التّيه إِذِ اِسْتَسْقاهُ و طلب قَوْمُهُ منه الماء حين اشتدّ بهم العطش أَنِ يا موسى اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ - المعهود الذي مرّ بيانه و أوصافه في سورة البقرة (6)-فضربه بها فَانْبَجَسَتْ و نبعت مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد أسباط بني إسرائيل.

قيل: إنّ انبجاس الماء: خروجه قليلا، و انفجاره: خروجه واسعا، و كان خروجه من الحجر في

ص: 19


1- . مجمع البيان 4:753، تفسير الصافي 2:244.
2- . مجمع البيان 4:753، تفسير الصافي 2:244.
3- . تفسير العياشي 2:165/1632، تفسير الصافي 2:244.
4- . تفسير الرازي 15:31.
5- . تفسير الرازي 16:33، تفسير روح البيان 3:261.
6- . تقدّم في تفسير الآية (60) من سورة البقرة.

الابتداء قليلا ثمّ واسعا.

ثمّ خصّ موسى عليه السّلام كلّ عين بسبط، و قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ و سبط مَشْرَبَهُمْ و العين التي خصّت بهم، حتّى لا يخالطهم فيها غيرهم، و لا يقع النزاع بينهم لغاية العصبيّة التي كانت لهم وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ اَلْغَمامَ و جعلنا فوقه السّحاب يسير في التّيه بسيرهم و يقف بوقوفهم، كيلا يؤذيهم حرّ الشّمس وَ أَنْزَلْنا من السّماء عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى -و قد سبق تفسيرهما في البقرة (1)-ثمّ قلنا لهم بلسان موسى: كُلُوا يا بني إسرائيل مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و مستلذّات ما أنعمنا عليكم. ثمّ ظلموا بأن كفروا هذه النّعم الجليلة، و عصوا أحكامنا وَ ما ظَلَمُونا بكفرانهم و عصيانهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث انقطع عنهم الرّزق الطيّب الذي كان يأتيهم بلا اكتساب و كلفة، و استحقّوا العذاب في الدّنيا و الآخرة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 161 الی 162

ثمّ بيّن اللّه سبحانه نعمته الاخرى عليهم و كفرانهم إيّاها بعصيانهم و تمرّدهم عن أمر ربّهم بقوله: وَ إِذْ قِيلَ من قبل اللّه لَهُمُ حين نجوا من التّيه و قربوا من البيت المقدّس أو بلدة أريحا، و كانت فيها بقيّة من عاد يقال لهم العمالقة: يا بني إسرائيل اُسْكُنُوا هذِهِ اَلْقَرْيَةَ الكثيرة النّعم و الثّمار وَ كُلُوا مِنْها و تمتّعوا بها حَيْثُ شِئْتُمْ و في أيّ ناحية أردتم بلا تعب و عناء وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً -و قد مرّ تفسيره في البقرة (2)-فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ التي سلفت منكم.

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اُسْكُنُوا هذِهِ اَلْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)ثمّ كأنّه قيل: فماذا لهم بعد المغفرة؟ أو قيل: هذا للعصاة، فماذا للمطيعين؟ فأجاب سبحانه بقوله: سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ و المطيعين إحسانا و ثوابا فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم مِنْهُمْ ما امروا به من قول (حطّة) و الاستغفار من الذّنوب، و قالوا قَوْلاً آخر غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ من قول (حطّة) استهزاء باللّه و رسوله فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ بعد تبديلهم و استهزائهم رِجْزاً و عذابا شديدا مِنَ

ص: 20


1- . تقدّم في تفسير الاية (57) من سورة البقرة.
2- . تقدّم في تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

اَلسَّماءِ روي أنّه مات بالطّاعون منهم في ساعة واحدة أربعة و عشرون ألفا (1)بِما كانُوا يَظْلِمُونَ.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 163

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يسأل يهود عصره عن اصطياد أجدادهم السمك و طغيانهم، لتبكيتهم و تسلية قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله من إصرار الحاضرين منهم على الكفر و الطّغيان بقوله: وَ سْئَلْهُمْ يا محمد عَنِ قضيّة اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اَلْبَحْرِ و قريبة منه؛ اسمها إيلة، أو مدين، أو طبريّة، و فيها اليهود إِذْ يَعْدُونَ و يتجاوزون حدود اللّه فِي يوم اَلسَّبْتِ الذي كان الصّيد محرّما عليهم فيه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ و السّمكات التي كانت في ذلك البحر يَوْمَ سَبْتِهِمْ الذي كان عليهم أن يعظّموه و لا يعصون اللّه فيه بالصّيد، حال كون الحيتان شُرَّعاً فيه، ظاهرة على الماء، قريبة من السّاحل وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ و لا يرعون حرمة السّبت فيه كيوم الأحد لا تَأْتِيهِمْ الحيتان، كما كانت تأتيهم يوم السّبت حذرا من صيدهم كَذلِكَ البلاء و الاختبار العظيم نَبْلُوهُمْ و نختبر طاعتهم و عصيانهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و يعصون من الأحكام؛ ليظهر خبث ذاتهم و شدّة طغيانهم، أو المراد: فنعاقبهم بما كانوا يفسقون على الاستمرار.

وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 164 الی 166

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح غاية كفرهم و عتوّهم بقوله: وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ و طائفة مؤمنون مِنْهُمْ صلحاء القرية الذين كانوا يبالغون في نصح العصاة و الفسّاق و يعظونهم: لِمَ تَعِظُونَ أيّها الصّلحاء قَوْماً لا يرتدعون عن فسقهم و لا يرجى صلاحهم اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ ألبتّة بعذاب الاستئصال أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون الاستئصال لتماديهم في الطّغيان؟

وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)فأجابهم الصّلحاء و قالُوا: إنّما نعظهم ليكون وعظنا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ و لا نأخذ بالتّفريط في

ص: 21


1- . تفسير روح البيان 3:263.

النّهي عن المنكر، وَ لأجل أنّ العصاة لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ العصيان بوعظنا لاحتمال اتّعاظهم عندنا فَلَمّا نَسُوا و تركوا اولئك الطّغاة ما ذُكِّرُوا و وعظوا بِهِ و لم يلتفتوا إلى وعظ الواعظين و نهي الناهين أَنْجَيْنَا و خلّصنا من العذاب الصّلحاء اَلَّذِينَ كانوا يَنْهَوْنَ العصاة و المسيئين عَنِ اَلسُّوءِ و العصيان وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم و طغوا على ربّهم بِعَذابٍ بَئِيسٍ و شديد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ليرتدعوا عن العصيان فَلَمّا عَتَوْا و تأبّوا استكبارا عَنْ ترك ما نُهُوا عَنْهُ من العصيان، أردنا إرادة تكوينيّة مسخهم كأنّا قُلْنا لَهُمْ كُونُوا أيّها العتاة قِرَدَةً و كونوا، أو حال كونهم خاسِئِينَ ذليلين عند اللّه و عند النّاس، أو مطرودين من رحمة اللّه، أو من بين النّاس. فكانوا كذلك من غير ريث.

في قصة أصحاب

السبت

روي أنّ اليهود امروا باليوم الذي امرنا به، و هو يوم الجمعة، فتركوه و اختاروا السّبت، و هو المعنيّ بقوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ (1)و ابتلوا به، و حرّم عليهم الصّيد و امروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السّبت كأنّها المخاض (2)و الكباش البيض السّمان تنتطح، لا يرى وجه الماء لكثرتها، و لا تأتيهم في سائر الأيّام، و كانوا على ذلك برهة من الدّهر، ثمّ جاءهم إبليس فقال لهم: إنّما نهيتم عن أخذها يوم السّبت، فاتّخذوا حياضا سهلة الورود صعبة الصّدور ففعلوا، فجعلوا يسوقون الحيتان إليها يوم السّبت فلا تقدر على الخروج، و يأخذونها يوم الأحد.

و أخذ رجل منهم حوتا و ربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل ثمّ شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السّمك، فتطلّع على تنّوره، فقال له: إنّي أرى اللّه سيعذّبك، فلّما [لم]يره عذاب أخذ في السّبت القابل حوتين.

فلمّا رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم استمرّوا على ذلك، فصادوا و أكلوا و ملّحوا و باعوا، و كانوا نحوا من سبعين ألفا، فكان أهل القرية أثلاثا: ثلث استمروا على النّهي، و ثلث ملّوا التّذكير و سأموه و قالوا للواعظين: لِمَ تَعِظُونَ إلى آخره، و ثلث باشروا الخطيئة، فلمّا لم ينتهوا قال المسلمون: نحن لا نساكنكم، فباعوا الدّور و المساكن و خرجوا من القرية، فضربوا الخيام خارجا منها، أو اقتسموا القرية بجدار؛ للمسلمين باب، و للمعتدين باب، و لعنهم داود.

فأصبح الناهون ذات يوم فخرجوا من أبوابهم و انتشروا لمصالحهم، و لم يخرج من المعتدين أحد

ص: 22


1- . النحل:16/124.
2- . المخاض: الحوامل من النوق، و ابن المخاض: ولد الناقة أو البقرة إذا لقحت امّه. و الانثى بنت مخاض.

فقالوا: لعلّ الخمر غلبتهم أو لهم شأن من خسف أو مسخ أو رمي بالحجارة، فعلوا الجدر فنظروا فإذا هم قردة، أو صار الشّبان قردة و الشّيوخ خنازير، ففتحوا الباب و دخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابهم من الإنس و هم لا يعرفونها، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه فيبكي، و يقول له نسيبه: ألم ننهكم؟ فيقول القردة برأسة: بلى، و دموعه تسيل على خدّه، ثمّ ماتوا عن مكث ثلاثة أيام (1).

و عن علي بن الحسين عليهما السّلام، في قوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قال: «كان هؤلاء قوما يسكنون على شاطئ بحر، نهاهم اللّه و أنبياؤه عن اصطياد السّمك في يوم السّبت، فتوسّلوا (2)إلى حيلة ليحلّوا بها لأنفسهم ما حرّم اللّه، فاتّخذوا أخاديد و عملوا طرقا تؤدّي إلى حياض يتهيّأ للحيتان الدّخول فيها من تلك الطّرق و لا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالرّجوع، فجاءت الحيتان يوم السّبت جاريّة على أمان لها، فدخلت الأخاديد و حصلت في الحياض و الغدران، فلمّا كانت عشية اليوم همّت بالرّجوع منها إلى اللّجج لتأمن من صائدها فلم تقدر، و بقيت ليلها في مكان يتهيّأ أخذها بلا اصطياد لاستر سالها فيه و عجزها عن الامتناع لمنع المكان لها.

و كانوا يأخذون يوم الأحد و يقولون: ما اصطدنا في السّبت، إنّما اصطدنا في الأحد، و كذب أعداء اللّه، بل كانوا اخذيها بأخاديدهم التي عملوها يوم السّبت، حتّى كثر من ذلك مالهم و ثراؤهم و تنعّموا بالنّساء و غير هنّ لاتّساع أيديهم به، و كانوا في المدينة نيّفا و ثمانين ألفا، فعل هذا [منهم]سبعون ألفا و أنكر عليهم الباقون، كما قصّ اللّه وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اَلْبَحْرِ الآية.

و ذلك أن طائفة منهم و عظوهم و زجروهم، و من عذاب اللّه خوّفوهم، و من انتقامه و شدائد بأسه حذّروهم، فأجابوهم من وعظهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ بذنوبهم هلاك الاصطلام، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فأجاب القائلين [لهم]هذا القول: منّا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ إذ كلّفنا الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربّنا مخالفتنا لهم و كراهتنا لفعلهم، قالوا: وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و نعظهم أيضا لعلّه تنجع (3)فيهم المواعظ فيتّقوا هذه الموبقة، و يحذروا عقوبتها.

قال اللّه تعالى: فَلَمّا عَتَوْا حادوا و أعرضوا و تكبّروا عن قبول الزّجر عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ مبعدين من الخير مبغضين، فلمّا نظر العشرة آلاف و النيّف أنّ السّبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم و لا يخافون بتخويفهم إيّاهم و تحذيرهم لهم، اعتزلوهم إلى قرية اخرى قريبة من قريتهم، و قالوا: نكره أن ينزل بهم عذاب اللّه و نحن في خلالهم، فأمسوا ليلة فمسخهم اللّه كلّهم قردة،

ص: 23


1- . تفسير روح البيان 3:265.
2- . في تفسير العسكري: فتوصّلوا.
3- . أي تؤثّر.

و بقي باب المدينة مغلقا، لا يخرج منه أحد و لا يدخله أحد، و تسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم و تسنّموا حيطان البلد فاطّلعوا عليهم، فإذا هم كلّهم رجالهم و نساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم و قراباتهم و خلطاءهم، يقول المطّلع لبعضهم: أنت فلان، أنت فلانة، فتدمع عينه و يومئ برأسه أو بفمه بلا أو نعم، فما زالوا كذلك ثلاثة أيّام، ثمّ بعث اللّه تعالى مطرا و ريحا فجرفهم إلى البحر و ما بقي مسخ بعد ثلاثة أيّام، و إنّما الذين ترون من هذه المصوّرات بصورها فإنّما هي أشباهها، لا هي بأعيانها و لا من نسلها» (1).

و القمّي رحمه اللّه [عن أبي جعفر عليه السّلام]قال: «وجدنا في كتاب علي عليه السّلام أنّ قوما من أهل إيلة من قوم يهود (2)، [و إن]الحيتان كانت سبقت إليهم يوم السّبت ليختبر اللّه طاعتهم في ذلك، فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم و قدّام أبوابهم في أنهارهم و سواقيهم، فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها، فلبثوا في ذلك ما شاء اللّه لا ينهاهم عنها الأحبار و لا يمنعهم العلماء من صيدها، ثمّ إنّ الشّيطان أوحى إلى طائفة منهم: إنّما نهيتم عن أكلها يوم السّبت و لم تنهوا عن صيدها، فاصطادوها يوم السّبت و كلوها فيما سوى ذلك من الأيام.

فقالت طائفة منهم: الآن نصطادها فعتت، و انحازت طائفة [اخرى]منهم ذات اليمين فقالوا: ننهاكم عن عقوبة اللّه أن تتعرّضوا بخلاف أمره، و اعتزلت طائفة منهم ذات الشمال فسكتت فلم تعظهم فقالت للطائفة التي و عظتهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فقالت الطائفة التي وعظتهم: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

قال: فقال اللّه تعالى: فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يعني: لمّا تركوا ما وعظوا به و مضوا على الخطيئة، فقالت الطائفة التي وعظتهم: لا و اللّه لا نجامعكم و لا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم اللّه فيها مخافة أن ينزل اللّه بكم البلاء فيعمّنا معكم.

قال: فخرجوا [عنهم]من المدينة [مخافة أن يصيبهم البلاء، فنزلوا قريبا من المدينة]، فباتوا تحت السّماء، فلمّا أصبح أولياء اللّه المطيعون لأمر اللّه تعالى غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية، فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت، فدقّوه فلم يجابوا، و لم يسمعوا منها حسّ أحد، فوضعوا سلّما على سور المدينة ثمّ أصعدوا رجلا منهم، فأشرف على المدينة، فنظر فإذا هو بالقوم قردة يتعاوون، فقال الرّجل لأصحابه: [يا قوم]أرى و اللّه عجبا، قالو: و ما ترى؟ قال: أرى القوم [قد]صاروا قردة يتعاوون و لها

ص: 24


1- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:268/136، تفسير الصافي 2:246.
2- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: ثمود.

أذناب، فكسروا الباب و دخلوا المدينة. قال: فعرفت القردة أنسابها من الإنس و لم تعرف الإنس أنسابها من القردة، فقال القوم للقردة: ألم ننهكم.

قال: فقال عليّ: و اللّه الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، إنّي لأعرف أنسابها من هذه الامّة لا ينكرون و لا يغيّرون، بل تركوا ما امروا به فتفرّقوا، و قد قال اللّه: فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (1)، فقال اللّه: أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا فنجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا ذرّا (3)، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا» (4).

عن ابن عبّاس: أنّه إذا قرأ هذه الآية بكى و قال: إنّ هؤلاء الذين سكتوا عن النّهي عن المنكر فهلكوا، و نحن نرى أشياء ننكرها ثمّ نسكت و لا نقول شيئا (5).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 167

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر قبائح أعمال اليهود و إنزال العذاب عليهم، نبّه أنّ من عقوبتهم ابتلاء نسلهم بالذلّ و الصّغار بقوله: وَ إِذْ تَأَذَّنَ و قضى رَبُّكَ أنّه تعالى لَيَبْعَثَنَّ و ليسلّطنّ عَلَيْهِمْ البتّة إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ و آخر الدّهر مَنْ يَسُومُهُمْ و يعذّبهم سُوءَ اَلْعَذابِ و شديده من الإذلال، و الإجلاء عن الأوطان، و ضرب الجزية، و غيرها من الشّدائد كبخت نصّر فإنّه غلب على بني إسرائيل، و قتل مقاتليهم، و سبى نساءهم، و خرّب ديارهم، و ضرب عليهم الجزية، و كالمجوس ضربوا عليهم الجزية و أخذوها منهم، حتّى بعث اللّه خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله ففعل بهم ما فعل، فلا ترفع لهم راية أبدا إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد لَسَرِيعُ اَلْعِقابِ يعجلّ في عقوبة العصاة في الدّنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ لمن تاب و رَحِيمٌ بمن أطاع.

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ اَلْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 168

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ عامّة بني إسرائيل نبّه على وجود الصّلحاء فيهم، و أنّه يعامل مع بقيّتهم معاملة

وَ قَطَّعْناهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ اَلصّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ اَلسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

ص: 25


1- . المؤمنون:23/41.
2- . تفسير القمي 1:244، تفسير العياشي 2:166/1636، تفسير الصافي 2:247.
3- . الذّرّ: صغار النّمل.
4- . الكافي 8:158/151، تفسير الصافي 2:248.
5- . تفسير الرازي 15:39.

المختبر، و يبتليهم بما يوجب تنبّههم بقوله: وَ قَطَّعْناهُمْ و شتّتناهم فِي اَلْأَرْضِ حال كونهم أُمَماً و فرقا متباعدة في العقائد و الآراء مِنْهُمُ اَلصّالِحُونَ و هم الذين قدّسوا اللّه عن الشّريك و الولد، و آمنوا بجميع الأنبياء و بخاتمهم عن صميم القلب، عن ابن عبّاس: هم الذين أدركوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و آمنوا به (1)، وَ مِنْهُمْ اناس دُونَ ذلِكَ المقام؛ و هم الّذين ثبتوا على اليهوديّة وَ بَلَوْناهُمْ و عاملناهم معاملة المختبر حالهم بِالْحَسَناتِ الموجبة للشّكر؛ من العافية، وسعة الرّزق، و الخصب، و الأمن وَ اَلسَّيِّئاتِ الموجبة للنّدم على الكفر و العصيان؛ من الأمراض، و الجدب، و الشّدائد لَعَلَّهُمْ بسبب تلك الحوادث المرغّبة للطّاعة المرعبة عن المخالفة و المعصية يَرْجِعُونَ عن الكفر و اللّجاج إلى الإسلام و الانقياد للّه و رسوله، و يتوبون إلى اللّه عمّا هم عليه من الطّغيان و العصيان.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 169

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ الصّلحاء لمّا انقرضوا صار جميع بني إسرائيل على نهج واحد من الكفر و العصيان، و لم يفد الابتلاء في تربية أكثرهم و رجوعهم إلى الهدى و الصلاح بقوله: فَخَلَفَ الصالحون مِنْ بَعْدِهِمْ و غبّ موتهم خَلْفٌ و ذريّة طالحة رديئة؛ و هم الذين كانوا في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و وَرِثُوا اَلْكِتابَ الذي جاء به موسى عليه السّلام من أسلافهم و قرأوه و وقفوا على ما فيه من الأحكام و العلوم و التّزهيد من الدّنيا، و هم مع ذلك يتركون العمل به و يرغبون في جمع الأموال، بل يَأْخُذُونَ من النّاس عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى و حطام هذه الدّنيا الدنيّة، للحكم بغير الحقّ، و تحريف كلام اللّه، و تغيير علائم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المذكورة في التّوراة وَ يَقُولُونَ غرورا و افتراء على اللّه: سَيُغْفَرُ لَنا ذنبنا ذلك و لا يعذّبنا به، بل وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ من أعراض الدّنيا و متاع من أمتعتها بجهة الرّشوة و الجعل على التّحريف و التّغيير نظير ما أتوا به و مِثْلُهُ في الحرمة يَأْخُذُوهُ أيضا حرصا على الدّنيا و زخارفها، و إصرارا على العصيان.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ اَلْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169)ثمّ أنكر اللّه عليهم عملهم ذلك، و وبّخهم على مخالفة حكم التّوراة بقوله: أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ

ص: 26


1- . تفسير الرازي 15:42.

مِيثاقُ اَلْكِتابِ و العهد المؤكّد في التّوراة؛ و هو أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اَللّهِ قولا إِلاَّ القول اَلْحَقَّ و الصّدق، و لا يعملوا عملا إلاّ ما وافق أحكام التّوراة، فلم يقولون للنّاس: إنّ العلائم التي ذكرها اللّه في كتابه تخالف صفات محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و إنّه سيغفر اللّه لنا ذنوبنا، و يصرّون على العصيان و الباطل، وَ الحال أنّهم دَرَسُوا الكتاب و قرأوا ما فِيهِ من الأحكام، و علائم النبيّ، و العهد المؤكّد على أن يعملوا به و لا يخالفوه و لا يحرّفوه.

ثمّ أنّه تعالى بعد العتاب و التّوبيخ وجّه الخطاب إلى هؤلاء المحرّفين الرّاغبين إلى الدّنيا، و وعظهم بقوله: وَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ و الجنّة العالية، و النّعم الباقية فيها خَيْرٌ و أنفع من أعراض الدّنيا و جمع ما فيها، و من الواضح أنّها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ و يحترزون من الكفر و المعاصي أَ فَلا تَعْقِلُونَ و لا تدركون تلك الخيريّة و الاختصاص.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 170

ثمّ لمّا مدح اللّه اليهود الذين عملوا بالتّوراة و لم يحرّفوه، و آمنوا بالنبيّ الامّي، وعدهم بالثوّاب بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ و يعملون بِالْكِتابِ و يلتزمون بجميع ما فيه من الأحكام و علائم النبي، و يؤمنون به، و عملوا بأحكام شريعته وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ التي هي عمدتها، نعطيهم اجورهم إِنّا لا نُضِيعُ و لا نبطل أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ و ثوابهم.

وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ (170)قيل: هم عبد اللّه بن سلام و أضرابه، فإنّهم تمسّكوا بالتّوراة التي جاء بها موسى عليه السّلام فلم يحرّفوها، و لم يكتموها، و لم يتّخذوها مأكلة (1).

و قيل: إنّ المراد: امّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الكتاب: القرآن (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 171

ثمّ بيّن اللّه كيفيّة أخذ الميثاق بالعمل بالتّوراة بقوله: وَ إِذْ نَتَقْنَا و قلعنا اَلْجَبَلَ -و هو الطّور- من موضعه، و رفعناه فَوْقَهُمْ و أوقفناه على رؤوسهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ و سقيفة-كما عن ابن عبّاس (3)- وَ ظَنُّوا و قوى في نفوسهم أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ و ساقط عليهم إن لم يلتزموا بالتّوراة و العمل بما فيها،

وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

ص: 27


1- . تفسير أبي السعود 3:288، تفسير روح البيان 3:270.
2- . تفسير روح البيان 3:270.
3- . تفسير الرازي 15:45.

و قلنا لهم: خُذُوا يا بني إسرائيل ما آتَيْناكُمْ من الكتاب و الأحكام التي فيه بِقُوَّةٍ و جدّ و عزيمة على تحمّل المشاقّ وَ اُذْكُرُوا و احفظوا ما فِيهِ من الأحكام و العهود، بالعمل و الوفاء بها، و لا تتركوها كالمنسيّ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رذائل الخصال، و سيّئات الأعمال، و عذاب اللّه المتعال.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 172 الی 174

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر أخذ الميثاق من بني إسرائيل على العمل بالتّوراة، ذكر أخذه الميثاق من بني آدم في عالم الذرّ على الإقرار بتوحيده و رسالة رسله بقوله: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ و أخرج مِنْ بَنِي آدَمَ أعني مِنْ ظُهُورِهِمْ و أصلابهم ذُرِّيَّتَهُمْ و نسلهم طبقة، بعد طبقة كما يتوالدون في الدّنيا وَ أَشْهَدَهُمْ و أخذ الإقرار منهم عَلى أَنْفُسِهِمْ بتوحيده و ربوبيّته، بأن قال لهم تقريرا: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ و مالك أمركم، و المتصرّف فيكم إيجادا و إعداما و تدبيرا، لا شريك لي و لا ندّ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا و أعترفنا بربوبيّتك و وحدانيّتك.

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

في أخذ الاقرار

بالتوحيد في عالم

الذرّ

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لمّا خلق اللّه آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كلّ نسمة من ذريّته إلى يوم القيامة» (1).

و عن مقاتل: أنّ اللّه مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فخرجت منه ذريّة بيضاء كهيئة الذرّ تتحرّك، ثمّ مسح صفحة ظهره اليسرى فخرجت منه ذريّة سوداء كهيئة الذرّ، فقال: يا آدم، هؤلاء ذريّتك. ثم قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فقال للبيض: هؤلاء في الجنّة برحمتي، و هم أصحاب اليمين، و قال للسّود: هؤلاء في النّار و لا ابالي، و هم أصحاب الشّمال و أصحاب المشئمة. ثمّ أعادهم جميعا في صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتّى يخرج أهل الميثاق كلّهم من أصلاب الرّجال و أرحام النّساء، و قال تعالى في من نقض العهد الأوّل: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ (2).

و عن ابن عبّاس: أنّه أبصر آدم في ذريّته قوما لهم نور فقال: يا ربّ، من هم؟ فقال: الأنبياء (3)الخبر.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال و أبوه يسمع: «حدّثني أبي أنّ اللّه عزّ و جلّ قبض

ص: 28


1- . تفسير الرازي 15:46.
2- . تفسير الرازي 15:46، و الآية من سورة الأعراف:7/102.
3- . تفسير الرازي 15:47.

قبضة من تراب التّربة التي خلق منها آدم، فصبّ فيها الماء العذب الفرات، ثمّ تركها أربعين صباحا، [ثمّ صبّ عليها الماء المالح الاجاج فتركها أربعين صباحا]، فلمّا اختمرت الطّينة أخذها فعركها عركا شديدا، فخرجوا كالذرّ من يمينه و شماله، و أمرهم جميعا أن يقعوا في النّار، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا و سلاما، و أبى أصحاب الشّمال أن يدخلوها» (1).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «أخرج من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة؛ فخرجوا كالذرّ، فعرّفهم نفسه، [و أراهم صنعه] (2)و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه» (3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: كيف أجابوا و هم ذرّ؟ فقال: «جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه» (4).

و عنه عليه السّلام: «لمّا أراد اللّه أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه، فقال لهم: من ربّكم؟ فأوّل من نطق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام فقالوا: أنت ربّنا، فحمّلهم العلم و الدّين. ثمّ قال للملائكة: [هؤلاء حملة ديني و علمي و امنائي في خلقي و هم المسؤولون. ثم قال لبني آدم: أقرّوا للّه بالربوبية و لهؤلاء النفر بالولاية و الطاعة، فقالوا: نعم ربنا أقررنا، فقال اللّه للملائكة:]اشهدوا، فقال الملائكة: شهدنا [على أن لا يقولوا غدا: إنا كنّا عن هذا غافلين، أو يقولوا: إنما أشرك آباؤنا]» (5).

و عن القمّي رحمه اللّه عنه عليه السّلام في هذه الآية، أنّه سئل: معاينة كان هذا؟ قال: «نعم، فثبتت المعرفة، و نسوا الموقف و سيذكرونه، و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ، و لم يؤمن بقلبه فقال اللّه: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» (6).

أقول: نظائر هذه الأخبار كثيرة بحيث لو ادّعى أحد تواترها المعنوي أو الإجمالي لا يعدّ مجازفا، فلا مناص من الالتزام و القول بوجود عالم الذرّ، و عليه عامّة المفسّرين و أهل الأثر كما ادّعاه الفخر الرّازي، و لا مجال لإنكاره و تأويل الأخبار بما نقله الفخر عن أصحاب النّظر و أرباب المعقولات من أنّه تعالى أخرج الذرية من أصلاب آبائهم، و ذلك الإخراج أنّهم كانوا نطفة، فأخرجها اللّه تعالى في أرحام امّهاتهم، و جعلها علقة ثمّ مضغة، ثمّ جعلهم بشرا سوّيا و خلقا كاملا، ثمّ أشهدهم على أنفسهم بما ركّب فيهم من دلائل وحدانيّته و عجائب خلقه و غرائب صنعه، فبالإشهاد صاروا كأنّهم قالوا: بلى،

ص: 29


1- . تفسير العياشي 2:173/1652، الكافي 2:5/2، تفسير الصافي 2:252.
2- . في تفسير العياشي: و أراهم نفسه، و في الكافي: فعرفهم و أراهم نفسه.
3- . تفسير العياشي 2:173/1654، الكافي 2:10/4، التوحيد:330/9، تفسير الصافي 2:252.
4- . تفسير العياشي 2:170/1647، تفسير الصافي 2:252.
5- . الكافي 1:103/7، تفسير الصافي 2:252.
6- . تفسير القمي 1:248، تفسير الصافي 2:252، و الآية من سورة يونس:10/74.

و إن لم يكن هناك قولا باللّسان، و لذلك نظائر منها قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (1)، و منها قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2)فهذا النوع من المجاز و الاستعارة مشهورة في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه (3).

و قال بعض آخر من العامّة في توجيه الآية: إنّه من باب التّمثيل و التخييل، نزّل تمكينهم من العلم بربوبيّته بنصب الدّلائل الآفاقيّة و الأنفسيّة، و خلق الاستعداد فيهم منزلة الإشهاد، و تمكينهم من معرفتها و الإقرار بها منزلة الاعتراف، فلم يكن هناك أخذ و إشهاد و سؤال و جواب، و باب التّمثيل باب واسع في القرآن و الحديث و كلام البلغاء، قال اللّه تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (4).

و قال الفيض رحمه اللّه في (الصافي) : إنّ المراد بالإشهاد إقامة الدّلائل و الحجج على التّوحيد و الرّبوبيّة، و من قولهم «بلى شهدنا على أنفسنا» أنّه ركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها، حتّى صار بمنزلة الإشهاد على طريقة التّمثيل، نظير قوله عزّ و جلّ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و قوله جلّ و علا: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (5).

أقول: و إن كان يشعر بذلك قول الصادق عليه السّلام: «أنه جعل فيهم إذا سألهم أجابوه» (6)إلاّ أنّ قوله عليه السّلام في رواية القمّي: «فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ، و لم يؤمن بقلبه» (7)كالصّريح في خلافه، و يمكن القول بخلق ذريّته في صلبه بصور كالذرّ في الصّغر، و لا مادّة لها، و كان السؤال بلسان الملك، و الجواب بلسان مناسب لخلقهم، أو بلسان الحال؛ لكون عقولهم في ذلك العالم سليمة عن شوب الشّهوات و الأهواء. و كانت الحكمة في ذلك كون تذكاره في عالم الدّنيا موجبا لتهييج رغبتهم إلى الإيمان.

ثمّ علّل سبحانه هذا العهد بكراهته تعالى من أَنْ تَقُولُوا عند مؤاخذتكم على إنكار الربوبيّة و التّوحيد احتجاجا علينا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ: ربّنا إِنّا كُنّا في الدّنيا عَنْ هذا الأمر غافِلِينَ و به جاهلين، و لا يجوز مؤاخذة الجاهل و الغافل أَوْ تَقُولُوا يوم القيامة اعتذارا من شرككم: ربّنا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا الأقدمون مِنْ قَبْلُ و أخترعوا هذا الدّين و سنّوه في الدّنيا قبل ولادتنا وَ كُنّا ذُرِّيَّةً جاهلة مِنْ بَعْدِهِمْ لم يكن لنا طريق إلى معرفتك بالربوبيّة و الوحدانيّة، و لم نقدر على الاستدلال

ص: 30


1- . فصلت:41/11.
2- . النحل:16/40.
3- . تفسير الرازي 15:50.
4- . تفسير روح البيان 3:273.
5- . تفسير الصافي 1:251.
6- . تقدم آنفا.
7- . تقدم آنفا.

عليهما، و لذا اقتدينا بهم و قلّدناهم أَ تأخذنا فَتُهْلِكُنا بالعذاب بِما فَعَلَ قدماؤنا اَلْمُبْطِلُونَ المضلّون وَ كَذلِكَ التفصيل و الشرّح البليغ البديع النّافع نُفَصِّلُ و نشرح اَلْآياتِ الدالّة على صدق القرآن و صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، ليقفوا على ما فيها وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الكفر إلى الإسلام، و عن الباطل إلى الحقّ.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 175

ثمّ أنّه تعالى بعد تنبيه اليهود على نعمه العظيمة الجسمانيّة و الرّوحانيّة و أخذ العهد منهم على العمل بالتّوراة، بيّن أنّ أزهدهم و أعلمهم عصى و أعرض عن الهدى فضلا عن غيره بقوله: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ يا محمّد نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ و علّمناه آياتِنا المنزلة و الكتب السماويّة و الاسم الأعظم، بحيث شملته تلك كالشّملة (1)، بل كالجلد على بدنه فَانْسَلَخَ و انخلع مِنْها بالكلّية لغلبة النّفس عليه فَأَتْبَعَهُ و أدركه اَلشَّيْطانُ بعد أن كان ساعيا في لحوقه و إدراكه فَكانَ ذلك العالم- بانسلاخه من العلم و غلبة النّفس و الشّيطان عليه- مِنَ اَلْغاوِينَ و الرّاسخين في الغواية و الضّلال.

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ اَلْغاوِينَ (175)

قصة بلعم بن

باعورا

و عن ابن عبّاس و ابن مسعود قالا: كان هو عابدا من عبّاد بني إسرائيل، و كان في المدينة التي قصدها موسى عليه السّلام، و كان أهل تلك المدينة كفّارا، و كان عنده اسم اللّه الأعظم، فسأله ملكهم أن يدعو على موسى عليه السّلام بالاسم الأعظم ليدفعه عن تلك المدينة فقال لهم: دينه و ديني واحد، و هذا شيء لا يكون، و كيف أدعو عليه و هو نبيّ اللّه و معه الملائكة و المؤمنون؟ و أنا أعلم من اللّه ما أعلم، و إنّي إن فعلت ذلك أذهبت دنياي و آخرتي. فلم يزالوا به يفتنونه بالمال و الهدايا حتّى فتنوه، فافتتن (2).

قيل: كانت لهذا الرّجل الذي اسمه بلعم امرأة يحبّها و يطيعها، فجمع قومه هدايا عظيمة فأتوا بها إليها و قبلتها، فقالوا لها: قد نزل بنا ما ترين، فكلّمي بلعم في هذا، فقالت لبلعم: إنّ لهؤلاء القوم حقّا و جوارا عليك، و ليس مثلك يخذل جيرانه عند الشدائد، و قد كانوا محسنين إليك، و أنت جدير أن تكافئهم و تهتمّ بأمرهم، فقال لها: لو لا أنّي أعلم أنّ هذا الأمر من عند اللّه لأجبتهم. فلم تزل به حتّى صرفته عن رأيه، فركب أتانا له متوجّها إلى الجبل ليدعو على موسى عليه السّلام، فما سار على الأتان إلاّ

ص: 31


1- . الشّملة: ثوب يتوشّح به، أو كساء من صوف أو شعر يتغطّى به.
2- . تفسير روح البيان 3:276.

قليلا فربضت، فنزل عنها فضربها حتّى كاد يهلكها فقامت فركبها، فربضت [فضربها]، فأنطقها اللّه تعالى فقالت: يا بلعم، ويحك أين تذهب، ألا ترى إلى هؤلاء الملائكة أمامي يردّونني عن وجهي، فكيف تريد أن تذهب لتدعو على نبي اللّه و على المؤمنين؟ ! فخلّى سبيلها، و انطلق حتّى وصل إلى الجبل و جعل يدعو، فكان لا يدعو بسوء إلاّ صرف اللّه به لسانه على قومه، و لا يدعو بخير إلاّ صرف به لسانه إلى موسى. فقال له قومه: يا بلعم، إنّما أنت تدعو علينا و تدعو له، فقال: هذا و اللّه الذي أملكه، و أنطق اللّه به لساني.

ثمّ امتدّ لسانه حتّى بلغ صدره فقال لهم: و اللّه قد ذهبت منّي الآن الدّنيا و الآخرة، فلم يبق إلاّ المكر و الحيلة، فسأمكر لكم و أحتال، حلّوا النّساء و زيّنوهنّ و أعطوهنّ الطّيب، و أرسلوهنّ إلى العسكر، و آمروهنّ لا تمنع امرأة نفسها عن رجل أرادها، فإنّهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم؛ ففعلوا. فلمّا دخلت النّساء العسكر مرّت امرأة منهم برجل من عظماء بني إسرائيل، فقام إليها و أخذ بيدها حين أعجبته بحسنها، ثمّ أقبل بها إلى موسى عليه السّلام فقال له: إنّي لأظنّك أن تقول: هذه حرام، قال: نعم، هي حرام عليك، لا تقربها، قال: فو اللّه لا نطيعك في هذا. ثمّ دخل بها قبّته فوقع عليها، فأرسل اللّه على بني إسرائيل الطّاعون في الوقت.

و كان فنحاص بن عازورا (1)صاحب أمر موسى عليه السّلام رجلا له بسطة في الخلق و قوّة في البطش، و كان غائبا حين صنع ذلك الرّجل بالمرأة ما صنع، فجاء و الطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته و كانت من حديد كلّها، ثمّ دخل القبّة فوجدهما متضاجعين، فدقّهما بحربته حتّى انتظمهما بها جميعا، فخرج بهما يحملهما بالحربة و أعقابهما (2)إلى السّماء، و الحربة قد أخذها بذراعه، و اعتمد بمرفقه، و أسند الحربة إلى لحيته، و جعل يقول: اللّهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الطاعون من حينئذ عنهم، فحسب من هلك من بني إسرائيل في ذلك الطّاعون، فوجدهم سبعين ألفا في ساعة من نهار، و هو ما بين أن زنى الرّجل بها إلى أن قتل.

ثمّ أنّ موسى عليه السّلام و فتاه يوشع بن نون حاربوا أهل تلك البلدة و غلبوهم، و قتلوا منهم و أسروا، و أتوا ببلعم أسيرا فقتل، و جاءوا بما قبل من العطايا الكثيرة و غنموها (3).

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في بلعم بن باعورا، و كان من بني إسرائيل، أوتي علم بعض الكتب (4).

و في (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «الأصل فيه بلعم، ثمّ ضربه اللّه مثلا لكلّ مؤثر هواه على هدى اللّه

ص: 32


1- . في تفسير روح البيان: فخاض بن العيزار.
2- . في تفسير روح البيان: بالحربة رافعا بهما.
3- . تفسير روح البيان 3:277.
4- . تفسير القمي 1:248، تفسير الصافي 2:253.

من أهل القبلة» (1).

و العياشي، عنه عليه السّلام: «مثل المغيرة بن سعيد (2)مثل بلعم الذي اوتي الاسم الأعظم الذي [قال اللّه:] آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها (3)» .

عن القمّي رحمه اللّه: عن الرضا عليه السّلام: «أنّه اعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، و كان يدعو به فيستجاب له، فمال إلى فرعون، فلمّا مرّ فرعون في طلب موسى عليه السّلام و أصحابه قال فرعون لبلعم: ادع اللّه على موسى و أصحابه ليحبسه علينا، فلمّا ركب حمارته ليمرّ في طلب موسى عليه السّلام فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها فأنطقها اللّه عزّ و جلّ فقالت: ويلك على ما ذا تضربني، أتريد أن أجيء معك لتدعو على نبيّ اللّه و قوم مؤمنين؟ ! فلم يزل يضربها حتى قتلها، و انسلخ الاسم الأعظم من لسانه، و هو قوله تعالى: فَانْسَلَخَ مِنْها»» (4).

و عن ابن عبّاس، بعد أن ذكر نزول الآية في بلعم قال: كان مجاب الدّعوة و عنده اسم اللّه الأعظم، و أنّه دعا على موسى عليه السّلام فاستجيب له، و وقع موسى عليه السّلام و بنو إسرائيل في التّيه بدعائه، فقال موسى عليه السّلام: يا رب، بأيّ ذنب وقعنا في التّيه؟ فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه، ثمّ دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم اللّه الأعظم و الإيمان، فسلخه اللّه ممّا كان عليه، و نزع منه المعرفة، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء (5).

أقول: مخالفة هذه الرّواية لكتاب اللّه واضحه، حيث إنّه ناطق بأن سبب وقوع بني إسرائيل في التّيه عصيانهم أمر موسى عليه السّلام، و عدم دخولهم بلد العمالقة.

و قيل: إنّ الآية نزلت في امّية بن أبي الصّلت، و كان قد قرأ الكتب، و علم أن اللّه مرسل رسولا في ذلك الوقت، و رجا أن يكون هو، فلمّا أرسل اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حسده، ثمّ مات كافرا و لم يؤمن بالنبيّ، و هو الذي قال فيه النبي صلّى اللّه عليه و آله: «آمن شعره، و كفر قلبه» (6).

و قيل: نزلت في أبي عامر الرّاهب الذي سمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفاسق، كان يترهّب في الجاهليّة، فلمّا جاء الإسلام خرج إلى الشام، و أمر المنافقين باتّخاذ مسجد ضرار، [و أتى قيصر]و استنجده على

ص: 33


1- . مجمع البيان 4:769، تفسير الصافي 2:253.
2- . المغيرة بن سعيد: خبيث ملعون، كان يكذب على الإمام الباقر عليه السّلام، فلعنه الإمام الصادق عليه السّلام، و أذاقه اللّه حرّ الحديد، قتله خالد بن يزيد القسري، و القصة مذكورة في مستدركات علم الرجال 7:470/15122، سير أعلام النبلاء 5:426.
3- . تفسير العياشي 2:176/1661، تفسير الصافي 2:253.
4- . تفسير القمي 1:248، تفسير الصافي 2:253.
5- . تفسير الرازي 15:54.
6- . تفسير الرازي 15:54.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فمات هناك طريدا وحيدا. و قيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه (1).

أقول: الحقّ أن الآية نزلت في بلعم، و جرت على كلّ عالم متّبع للهوى، معرض عن الهدى.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 176 الی 177

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان انسلاخ بلعم من الآيات و انسلاكه في الرّاسخين في الضّلال، بيّن أنّ تلك الآيات كانت مقتضية لرفع مقامه، إلاّ أنّ حبّه الدّنيا و اتباعه الهوى أهواه في أسفل الدّركات بقوله: وَ لَوْ شِئْنا رفعة مقامه إلى محلّ القرب، و إيصاله إلى جميع السّعادات الدّنيويّة و الاخرويّة ببركة تلك الآيات لَرَفَعْناهُ بِها إليه، و أوصلناه إلى أعلى درجة السّعادة و الكرامة وَ لكِنَّهُ لخبث ذاته و بسوء اختياره أَخْلَدَ و مال إِلَى اَلْأَرْضِ و الدّنيا الدنيّة و اطمأنّ بها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ و وافق شهوته في إيثار الحطام و الزّخارف الفانية، و استرضاء قومه، فانحطّ غاية الإنحطاط، و هوى في أسفل الدّركات.

وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ اَلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)فَمَثَلُهُ و حاله العجب في حرصه على الدنيا، و هلعه إلى حطامها، و عدم اتّعاظه بالموعظة، و عدم اهتدائه، إن ترك كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ في أسوء أحواله و أخسّ صفاته، و هو أنّه إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ أيّها المخاطب بالزّجر و الطّرد يَلْهَثْ و يخرج لسانه و يتنفّس بشدّة أَوْ تَتْرُكْهُ و لا تتعرّض له يَلْهَثْ أيضا، فكما أنّه دائم اللّهث، كذلك هذا العالم المتّبع لهواه لا يتغيّر حاله إن وعظ أو ترك ذلِكَ المثل السيء مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ علموا بصفات محمّد صلّى اللّه عليه و آله المذكورة في التّوراة و ببشارة موسى عليه السّلام بظهوره و بعثته، فحرّفوها و غيّروا اسمه و كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة في الكتب السماويّة فَاقْصُصِ يا محمّد و أتل عليهم تلك اَلْقَصَصَ و الأمثال لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيها و يتّعظون و يحذرون سوء عاقبة أعمالهم السيئة ساءَ مَثَلاً اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة في الكتب السماويّة من التّوراة و الإنجيل و القرآن، و ساء الوصف الذي اتّصفوا به من إنكارها و من جحود الآيات، و تكذيب الرّسول مع قيام الحجّة عليهم، و ما ظلمونا بسوء أعمالهم وَ لكن أَنْفُسَهُمْ

ص: 34


1- . تفسير الرازي 15:54.

كانُوا يَظْلِمُونَ لأنّ و بالها لا يتخطّاهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 178

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الهداية و الضّلال بتوفيق اللّه و خذلانه لا بالعلم بقوله: مَنْ يَهْدِ اَللّهُ و يرشده إلى الحقّ و طريق الصّواب بتوفيقه، كائنا من كان فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي لا غيره وَ مَنْ يُضْلِلْ اللّه عن الهدى و يبعده عن الحقّ و يحرفه عن سبيله بخذلانه و إيكاله إلى النّفس و الهوى المردي و الشّيطان المغوي فَأُولئِكَ الضالّون هُمُ اَلْخاسِرُونَ و المتضرّرون في الدّنيا و الآخرة غاية الضّرر.

مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (178)قيل: في إفراد الضمير في الأول باعتبار اللّفظ، و الجمع في الإشارة في الثاني باعتبار المعنى، إشعار باتّحاد المهتدين لا تّحاد طريقتهم، و تشتّت الضّالين لتشتّت مذاهبهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 179

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الهداية بتوفيقه، و الضّلالة بخذلانه، نبّه على أنّ إعطاء التوفيق و منعه إنّما يكون لاختلاف ذوات النّاس و طيناتهم في الطّيب و الخبث، و تفاوت استعداداتهم في بدو الخلقة لقبول الفيض بقوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا و خلقنا لِجَهَنَّمَ و للتّعذيب فيها كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لكون طينتهم من السجّين و الماء الملح الاجاج، فلا يختارون إلاّ العمل الذي يناسب ذاتهم و طينتهم، و لذا يكون لَهُمْ قُلُوبٌ يعقلون بها تدبيرات أمور دنياهم، و لكن لا يَفْقَهُونَ بِها آيات اللّه و مواعظه، و لا يعقلون بِها براهين التّوحيد و المعاد، و لا يدركون قبح الكفر و المعاصي و سوء عاقبتهما وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ يبصرون بها مرئيّات هذا العالم، و لكن لا يُبْصِرُونَ بِها صنائع اللّه، و حسن نظام عالم الوجود الدالّين على وجود الصّانع الفرد القادر الحكيم، و معجزات الأنبياء الدالاّت على صدقهم، و سبيل الهداية الموصلة إلى السّعادة الأبديّة وَ لَهُمْ آذانٌ يسمعون بها المسموعات الدّنيويّة، و لكن لا يَسْمَعُونَ بِها كلمات اللّه، و دعوة الرّسل و إنذارهم و نصحهم.

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ (179)عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها يقول: «طبع اللّه عليها فلا تعقل، وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ عليها غطاء عن الهدى لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها جعل في اذانهم و قرا فلم

ص: 35

يسمعوا الهدى (1)» .

أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصّفات الخسيسة كَالْأَنْعامِ و البهائم لمشاركتهم لها في القوى الخمس الطبيعيّة و الحواس الخمس الظاهرة، و افتقادهم ما يمتاز به الإنسان من العقل و التفكّر في العواقب بَلْ هُمْ أَضَلُّ و أخسّ من البهائم؛ لأنّها لا قدرة لها على تحصيل المعارف و الفضائل، و هم قادرون عليه و مكلّفون به، و عاصون له و معرضون عنه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ اللّه ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة، و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل، و ركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير الملائكة، و من غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم» (2).

و قيل: لأنّ الأنعام مطيعة للّه، و الكافر غير مطيع له (3).

و قيل: لأنّ الأنعام تعرف ربّها و تذكره، و الكافر لا يعرف ربّه و لا يذكره (4).

و قيل: لأنّ الأنعام تعرف منافعها و مضارّها، فتسعى في تحصيل منافعها، و تحترز عن مضارّها، و الكفّار أكثرهم يعلمون أنّهم معاندون للحقّ، و العناد يجرّهم إلى النّار، و مع ذلك يصرّون عليه و يلقون أنفسهم في النّار و العذاب (5).

و قيل: إنّ الأنعام تفرّ إلى ربّها و من يقوم بمصالحها أبدا، و الكافر يهرب عن ربّه و إلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حدّ لها (6).

و قيل: لأنّها تضلّ إذا لم يكن معها مرشد، فأمّا إذا كان معها مرشد قلمّا تضلّ، و أمّا الكفار فقد جاءهم رسول مرشد و انزل عليهم الكتاب، و هم مع ذلك يزدادون في الضّلال (7).

و أُولئِكَ المخلوقون لجهنّم هُمُ اَلْغافِلُونَ عن سوء عاقبتهم و سوء عاقبة أعمالهم، و عمّا أعدّ اللّه لأعدائه من العذاب الأليم الدّائم، و لأوليائه من النّعم الدّائمة الجسمانيّة و الرّوحانيّة في الدّنيا و الآخرة، و هم حرموا منها، و لو كانوا ملتفتين إلى ذلك لما طاب لهم العيش، بل لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 180

وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)

ص: 36


1- . تفسير القمي 1:249، تفسير الصافي 2:254.
2- . علل الشرائع:4/1، تفسير الصافي 2:254. (3 و 4) . تفسير الرازي 15:65. (5 و 6 و 7) تفسير الرازي 15:65.

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى أنّ الهداية بتوفيقه و الضّلال بخذلانه، و أن سبب الضّلال و الخذلان الغفلة عنه و عن سوء عاقبة عملهم، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يأمر العباد بأن يذكروه في جميع الأحوال و الأوقات، و أن يتضرّعوا إليه و يسألوه الهداية إلى الحقّ و إلى كلّ خير بقوله: وَ لِلّهِ خاصّة اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى و الصّفات العليا.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الاسم، فقال: «صفة لموصوف» (1)، و عن القمّي: قال: الرّحمن الرّحيم (2).

فَادْعُوهُ و سمّوه أو اسألوه بِها و لا تسمّوه أو لا تسألوه بغيرها، و لا تذكروا بها غيره.

عن الرضا عليه السّلام: «إذا نزلت بكم شدّة فاستعينوا بنا على اللّه، و هو قول اللّه: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نحن و اللّه الأسماء الحسنى التي لا تقبل من أحد [طاعة]إلاّ بمعرفتنا-قال: - «فادعوه بها» (3).

وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ و اتركوا من يميلون فيها و يعدلون بها عمّا هي عليه، بأن يسمّوا بها غيره كما سمّى المشركون أصنامهم آلهة.

و قيل: إنّ المراد: ذروا الّذين يصفون اللّه بما لا يليق به، و يسمّونه بما لا يجوز تسميته به.

في (الكافي) : عن الرضا عليه السّلام: «أنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، و أنّى يوصف [الذي] تعجز الحواسّ أن تدركه، و الأوهام أن تناله، و الخطرات أن تحدّه، و الأبصار عن الإحاطة به، جلّ عمّا يصفه الواصفون، و تعالى عمّا ينعته النّاعتون» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى التي لا يسمّى بها غيره، و هي التي وصفها في الكتاب فقال: فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ جهلا بغير

علم، [فالذي يلحد في أسمائه بغير علم يشرك و هو لا يعلم، و يكفر به و هو يظنّ أنه يحسن، فلذلك قال: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (5)]و هم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم، فيضعونها في غير موضعها» (6).

ثمّ هدّد المشركين الملحدين بقوله: سَيُجْزَوْنَ العذاب على ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإلحاد في أسمائه و صفاته.

ص: 37


1- . الكافي 1:88/3، تفسير الصافي 2:254.
2- . تفسير القمي 1:249، تفسير الصافي 2:254.
3- . تفسير العياشي 2:176/1662، تفسير الصافي 2:254.
4- . الكافي 1:107/3، تفسير الصافي 2:255.
5- . يوسف:12/106.
6- . التوحيد:324/1، تفسير الصافي 2:255.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 181

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بخلق كثير من الجنّ و الإنس للنّار، أخبر بخلق جماعة منهم للجنّة، بقوله: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ و جماعة خلقوا للجنّة، و هم مع كونهم مهتدين بأنفسهم يَهْدُونَ النّاس و يرشدونهم إلى كلّ خير و سعادة بِالْحَقِّ و البرهان المتين، أو إلى الحقّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ في أحكامهم بين العباد.

وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181)و في إعادة هذا الإخبار بعد ذكره في قوم موسى عليه السّلام دلالة على وجود هذا الصّنف في امّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله أيضا.

قال الجبّائي المعتزلي: إنّ الآية تدلّ على أنّه لا يخلو زمان ألبّته عمّن يقوم بالحقّ، و يعمل به، و يهدي إليه، و أنّهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل؛ لأنّه لا يخلو أن يكون المراد زمان وجود محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أو أحد الأزمنة على الإجمال، أو جميع الأزمنة. أمّا الأوّل فباطل؛ لقطع الخلق بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه كانوا على الحقّ، فلا فائدة في الإخبار به، و أمّا الثاني فباطل أيضا؛ لقطع النّاس بوجودهم في زمان من الأزمنة، فتعيّن الثالث و هو الإخبار بوجودهم في جميع الأزمنة.

قال الفخر الرّازي: أكثر المفسّرين على أن المراد منه قوم محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و روى قتادة و ابن جريج عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّها هذه الأمّة» . و روى عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «هذه فيهم، و قد أعطى اللّه قوم موسى مثلها» .

و عن الربيع بن أنس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأ هذه الآية فقال: «إنّ من امّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى بن مريم» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «هم الأئمّة» (2).

و في (المجمع) : عن أحدهما عليهما السّلام قالا: «نحن هم» (3).

و عن القمي: هذه الآية لآل محمّد عليهم السّلام و أتباعهم (4).

و العيّاشي: عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و الذي نفسي بيده لتفترقنّ هذه الامّة على ثلاث و سبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ فرقة وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ فهذه التي تنجو من هذه الامّة» (5).

و عن (المجمع) : عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «هذه لكم، و قد اعطي قوم موسى مثلها» (6).

ص: 38


1- . تفسير الرازي 15:72، مجمع البيان 4:773.
2- . تفسير العياشي 2:176/1663، تفسير الصافي 2:255.
3- . مجمع البيان 4:773، تفسير الصافي 2:255.
4- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 2:255.
5- . تفسير العياشي 2:177/1665، تفسير الصافي 2:255.
6- . تقدّم نحوه في تفسير الرازي 15:72، و لم يرد في (مجمع البيان) بهذا اللفظ، لكن ورد في (تفسير الصافي) منسوبا الى (المجمع) ، و الذي في (مجمع البيان) : «هي لامّتي، بالحق يأخذون، و بالحق يعطون، و قد أعطي القوم بين أيديكم مثلها وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:7/159]» . مجمع البيان 4:773، تفسير الصافي 2:256.

أقول: الظّاهر أنّ المراد من قوله: «هذه لكم» أنّ من نعم اللّه عليكم أنّه جعل فيكم جماعة بهذه الصّفات، كما اعطي قوم موسى مثل هذه النّعمة من أنّه جعل منهم هداة مهديّين، و عليه يحمل قوله تعالى: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ فإنّ الظاهر أنّ المراد من قوله: يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ أنّ لهم ملكة العدل و الهداية بحيث لا يمكن تخلّفهم عنهما، و من المعلوم أنّ جميع الأمّة لا يكونون كذلك، بل و لا جميع المهاجرين و الأنصار، لوضوح كثرة العصاة و الجائرين فيهم، فلا بدّ من القول بأن المراد بعضهم، و قد اجمعت الامّة على أنّ عليّا و المعصومين من ذريّته عليهم السّلام كانوا على تلك الصّفات، و هم الباقون إلى نزول عيسى، و لو لا هؤلاء لساخت الأرض بأهلها.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 182

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بوجود أئمّة يهدون إلى الحقّ بآياته، هدّد المكذّبين بالآيات بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله المرفوع عنهم عذاب الاستئصال ببركة نبيّهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ و نقرّبهم إلى الهلاك متدرّجا بإكثار النّعم عليهم، و إغراقهم في اللذّات و الشّهوات، و إنسائهم التوبة حتّى يقعوا في العذاب مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ به و لا يدركون ما يراد بهم.

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هو العبد يذنب الذّنب فتجدّد له النّعمة، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب» (1).

و عنه عليه السّلام: «إذا أراد اللّه بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة و يذكّره الاستغفار، و إذا أراد بعبد شرّا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى بها، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ بالنّعم عند المعاصي» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 183

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من جملة أنحاء استدراجهم إطاعة أعمارهم بقوله: وَ أُمْلِي لَهُمْ و امهلهم في الدّنيا بإطالة أعمارهم ليتمادوا في العصيان و الغفلة، و يزدادوا كفرا و عتوّا إِنَّ كَيْدِي و أخذي

وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

ص: 39


1- . الكافي 2:327/3، تفسير الصافي 2:256.
2- . الكافي 2:327/1، تفسير الصافي 2:256.

العصاة خفية و غفلة منهم مَتِينٌ قويّ بحيث لا يقدرون على دفعه.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 184

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار بغاية الغفلة و عدم الشّعور، وبّخهم على ترك التفكّر في كمال عقل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي هو كالشمس في رائعة (1)النّهار؛ بقوله: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا قيل: إنّ التّقدير: أكذّبوا و لم يتفكّروا في البراهين العقلية التي يقيمها محمّد صلّى اللّه عليه و آله على صحّة دعواه، و العلوم التي تظهر منه ببيان يعجز عن مثله مهرة الفصاحة و البلاغة، و معجزاته القاهرة، و حسن خلقه، و طيب عشرته، و نقاوة سيرته، و متانة آرائه، و غاية أمانته، حتّى يعلموا أنّه ما بِصاحِبِهِمْ و نبيّهم الذي نشأ فيهم، شيء و شائبة مِنْ جِنَّةٍ و اختلال عقل، لا متناع أن يكون المتّصف بتلك الصّفات ناقص العقل فضلا عن فاقده، بل هو قدوة عقلاء العالم.

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)قيل: إنّ كفّار قريش لمّا رأوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معرضا عن الدّنيا، مقبلا إلى الآخرة، مبالغا في الدّعوة إلى التّوحيد، متغيّرا لونه عند نزول الوحي عليه، نسبوه إلى الجنون، فردّهم اللّه بقوله: إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لكم و لأهل العالم، و من شأنه أن يكون بتلك الصّفات مُبِينٌ و مبالغ في الإنذار، مظهر له غاية الإظهار.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان كثيرا ما يحذّر قريشا عقوبة اللّه و وقائعه النّازلة في الامم الماضية، فقام ليلا على الصّفا و جعل يدعوهم إلى عبادة اللّه تعالى قبيلة قبيلة: يا بني فلان، إلى الصّباح، يحذّرهم بأس اللّه، فقال قائلهم: إنّ صاحبكم هذا-يعني محمّدا-لمجنون، بات يهوّت (2)إلى الصّباح (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 185

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على عدم التفكّر في حال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى يعلّموا صدقه، و بخهم على ترك النّظر و التأمّل في شواهد التّوحيد بقوله: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا قيل: إنّ التّقدير: أكذبوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله في دعوته إلى التّوحيد، و لم ينظروا بنظر الاعتبار فِي مَلَكُوتِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و لم يتأمّلوا في مملكة اللّه الوسيعة، و آثار قدرته و حكمته و وحدانيّته الظّاهرة فيها، وَ في ما خَلَقَ اَللّهُ مِنْ شَيْءٍ و موجود حقير أو جليل، صغير أو عظيم، حتّى يطّلعوا على غاية عظمته و قدرته و توحيده.

أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اَللّهُ مِنْ شَيْءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)

ص: 40


1- . في النسخة: رابعة.
2- . هوّت به: صاح.
3- . تفسير روح البيان 3:289.

ثمّ أنّه حذّرهم اللّه من العقوبة على ترك النّظر بقوله: وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ قيل: إنّ المعنى: ألم ينظروا في أنّه يحتمل أن يكون موتهم قريبا؛ فيموتون على الضّلال و يبتلون بالعذاب، فإنّ العقل عند ذلك حاكم بوجوب المسارعة في النّظر و تحقيق الحقّ، كي يأمنوا من العذاب قبل موتهم.

فإذا لم يكتفوا في تحقيق الحقّ بالقرآن، و لم يؤمنوا به مع اشتماله على البراهين المتقنة على التّوحيد و الرّسالة و المعاد، مع إعجاز البيان فَبِأَيِّ حَدِيثٍ و كلام أو كتاب بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مع أنّه لا يمكن أن يكون حديث أبين للحقّ و أحسن منه، فإذا لم يؤمنوا به فلا يرجى منهم الإيمان أبدا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 186

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الذين لا يؤمنون بالقرآن لا يؤمنون بغيره من الكتب السماويّة، بيّن غاية ضلالتهم بقوله: مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ عن سبيل الحقّ، و يحرفه عنها إلى الباطل بسلب توفيقه عنه، و إيكاله إلى نفسه فَلا هادِيَ لَهُ من الأنبياء و الرّسل، لعدم تأثير المواعظ و الكتب السماويّة في هدايته وَ يَذَرُهُمْ و يتركهم فِي حال طُغْيانِهِمْ و مشاقّتهم مع اللّه و الرّسول و هم يَعْمَهُونَ و يتجبّرون في جميع شؤونهم، لا يصلون إلى خير أبدا.

مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 187

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم علمهم بوقت الموت لإيجاب المسارعة في تحصيل الدّين الحقّ؛ لئلا يدركهم الموت و هم على الباطل، بيّن جهل جميع الخلق أيضا بوقت قيام الساعة، و اختصاص العلم به بذاته المقدّسة بقوله: يَسْئَلُونَكَ يا محمّد عَنِ اَلسّاعَةِ و القيامة أَيّانَ مُرْساها و أيّ وقت يكون إتيانها و استقرارها؟ .

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اَللّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)عن ابن عبّاس: أنّ قوما من اليهود قالوا: يا محمّد، أخبرنا متى السّاعة إن كنت نبيّا، فإنّا نعلم متى هي؟ و كان ذلك امتحانا منهم مع علمهم بأنّه تعالى استأثر بعلمها، فنزلت (1).

و قيل: إنّ قريشا قالوا: يا محمّد، إنّ بيننا و بينك قرابة، فاذكر لنا متى السّاعة؟ فنزلت (2).

ص: 41


1- . تفسير الرازي 15:80.
2- . تفسير الرازي 15:80.

و عن القمّي: أنّ قريشا بعثت العاص بن وائل السّهمي، و النّضر بن الحارث بن كلدة، و عقبة بن أبي معيط إلى نجران، ليتعلّموا من علماء اليهود مسائل يسألونها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان فيها: سلوا محمّدا متى تقوم الساعة، فإن ادّعى علم ذلك فهو كاذب، فإنّ قيام السّاعة لم يطلع اللّه عليه ملكا مقرّبا و لا نبيّا مرسلا، فلمّا سألوه نزلت (1).

قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر به، لم يطلع عليه أحدا من خلقه و إن كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا لا يُجَلِّيها و لا يظهرها لِوَقْتِها و في زمانها أحد إِلاّ هُوَ تعالى شأنه، و إنّما يعلمها غيره تعالى حين وقوعها، فإذا وقعت ثَقُلَتْ و عظمت فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ على أهلهما من الملائكة و الجنّ و الإنس، لشدّة أهوالها، و عظم ما فيها من الشدائد.

و قيل: لأنّ فيها فناءهم و هلاكهم. و قيل: ثقيل على قلوبهم لأنّهم يعلمون أنّهم يصيرون فيها إلى البعث و الحساب و السّؤال (2).

و قيل: ثقلت وقعتها على السّماوات؛ لأنّ عندها تشقّقت السّماوات، و تكوّرت الشّمس و القمر، و انتثرت النّجوم، و ثقلت على الأرض؛ لأنّ فيها تبدّل الأرض غير الأرض، و تبطل الجبال و البحار (3).

و قيل: يعني خفيت في السّماوات و الأرض؛ أي لا يعلم أحد من الملائكة الأقربين و الأنبياء المرسلين متى يكون وقوعها (4).

ثمّ أنّه أكّد سبحانه خفاءها على غيره بقوله: لا تَأْتِيكُمْ أيّها النّاس إِلاّ بَغْتَةً و فجأة و على حين غفلة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ السّاعة تفجأ النّاس، فالرّجل يصلح موضعه، و الرّجل يسقي ماشيته، و الرّجل يقوم بسلعته في سوقه، و الرّجل يخفض ميزانه و يرفعه» (5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «و الذي نفس محمّد بيده، لتّقومنّ السّاعة و إنّ الرّجل ليرفع اللّقمة إلى فيه حتى تحول السّاعة بينه و بين ذلك» (6).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة سؤالهم بقوله: يَسْئَلُونَكَ عن السّاعة كَأَنَّكَ حَفِيٌّ و مبالغ في السؤال عَنْها شديد الطلّب لمعرفتها حتّى علمتها، أو كأنّك بارّ لطيف بهم بحيث لا تمنعهم من علمها.

ثمّ بالغ تعالى في جهل غيره بها بقوله: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اَللّهِ لم يعلم بها أحدا من خلقه

ص: 42


1- . تفسير القمي 1:249، تفسير الصافي 2:258. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 15:81. (5 و 6) . تفسير الرازي 15:81.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ اختصاص علمها، أو سبب اختصاص علمها به.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 188

ثمّ لمّا كان النّاس يطلبون منه الإخبار بالمغيّبات و إعطاءهم الأموال الكثيرة و الدّولة العظيمة، أمره اللّه بإظهار قصور قدرته الذاتيّة، و عدم علمه بالمغيّبات إلاّ بإعلام اللّه، بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: لا أَمْلِكُ و لا أقدر لِنَفْسِي على أن أجلب نَفْعاً من المنافع الدّنيويّة و الاخرويّة وَ لا على أن أدفع ضَرًّا و شرّا من المضار و الشّرور إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ أن أملكه منهما، و لا علم لي بشيء منهما إلاّ بإعلامه تعالى.

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ اَلسُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)قيل: إنّ المراد: و لكن ما شاء اللّه منهما كائن.

فمن كان بهذه الدّرجة من العجز و الجهل الذاتّيين، كيف يعلم وقت قيام السّاعة؟ و كيف يقدر على إخباركم به من قبل نفسه؟

وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ و لا زددت في قوتي و مالي و صحّتي القمّي: كنت أختار لنفسي الصحّة و السّلامة (1)وَ ما مَسَّنِيَ و ما أصابني اَلسُّوءُ من الفقر-كما عن الصادق عليه السّلام (2)-أو المكاره من العدو و الفقر و المرض و غيرها، بل إِنْ أَنَا إِلاّ عبد أرسلني اللّه إليكم؛ و الرّسول نَذِيرٌ و محذر من الكفر و مخالفة أحكام اللّه وَ بَشِيرٌ بثواب اللّه و رحمته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه و برسالتي، فإنّهم المنتفعون بمواعظي.

و من شأن النّذير و البشير العلم بأحكام اللّه و ما يرضيه و يسخطه، و ما يترتّب على طاعته و مخالفته، لا العلم بالمغيّبات التي لا نفع فيها.

روي أنّ أهل مكّة قالوا: يا محمّد، ألا يخبرك ربّك بالرّخص و الغلاء حتى نشري فنربح، و بالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة، فنزلت (3).

و قيل: لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة بني المصطلق، جاءت ريح في الطريق فتفرق (4)الدوابّ منها، فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بموت رفاعة في المدينة، و كان فيه غيظ للمنافقين، ثمّ قال: انظروا أين ناقتي؟

ص: 43


1- . تفسير القمي 1:250، تفسير الصافي 2:258.
2- . معاني الأخبار:172/1، تفسير الصافي 2:258.
3- . تفسير الرازي 15:83.
4- . في تفسير الرازي: ففرت.

فقال عبد اللّه بن ابيّ مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرّجل، يخبر بموت رجل بالمدينة و لا يعرف أين ناقته؟ ! فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ ناسا من المنافقين قالوا كيت و كيت، و ناقتي في هذا الشّعب قد تعلّق زمامها بشجرة» ، فوجدوها على ما قال (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 189 الی 190

ثمّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعد ادّعاء الرّسالة دعا النّاس إلى التّوحيد بالبرهان القاطع بقوله: هُوَ الإله القادر اَلَّذِي خَلَقَكُمْ جميعا بقدرته مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هو آدم وَ جَعَلَ و أنشأ من ضلع مِنْها زَوْجَها حوّاء لِيَسْكُنَ آدم و يطمئنّ إِلَيْها اطمئنانا مصحّحا للازدواج، و يستأنس بها فَلَمّا تَغَشّاها و جامعها حَمَلَتْ و حبلت (2)في البدء حَمْلاً خَفِيفاً بحيث لم تكترث به فَمَرَّتْ بِهِ و تحرّكت بالقيام و القعود، و الذّهاب و الإياب، بسهولة و راحة كما كانت قبله، [كما]

قيل (3).

هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمّا تَغَشّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اَللّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (189) فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (190)فَلَمّا أَثْقَلَتْ حوّاء لكبر الجنين في بطنها، استوحشت حواء و استوحش آدم من مآل الحمل الذي لم يعهداه، فلذا دَعَوَا اَللّهَ رَبَّهُما و تضرّعا إليه و قالا: يا ربّ، و عزّتك لَئِنْ آتَيْتَنا و أعطيتنا ولدا صالِحاً سويّا في الخلقة، أو في أمر الدّين، أو فيهما لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ لك هذه النّعمة الجليلة الجديدة.

قيل: لمّا رأى آدم حين أخذ الميثاق على ذريّته أنّ منهم سويّ الأعظاء و منهم غير سويّ، و أنّ منهم التقيّ و منهم غير التقيّ، سألا أن يكون هذا الولد سويّ الأعضاء تقيّا نقيّا من المعصية فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ.

عن ابن عبّاس قال: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هي نفس آدم، وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي حوّاء خلقها [اللّه]من ضلع آدم من غير أذى، فَلَمّا تَغَشّاها آدم حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً. . . فَلَمّا أَثْقَلَتْ أي ثقل الولد في بطنها، أتاها إبليس في صورة رجل و قال: ما هذا يا حوّاء؟ إنّي أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة، و ما يدريك من أين يخرج، أمن دبرك فيقتلك، أو تنشقّ بطنك؟ فخافت حوّاء

ص: 44


1- . تفسير الرازي 15:83.
2- . في النسخة: و أحبلت.
3- . تفسير روح البيان 3:294.

و ذكرت لآدم ذلك، فلم يزالا في همّ من ذلك. ثمّ أتاها و قال: إن سألت اللّه أن يجعله صالحا سويّا مثلك و يسهّل خروجه من بطنك تسمّيه عبد الحارث؛ و كان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذلك قوله تعالى: فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي لمّا آتاهما اللّه ولدا سويّا صالحا جعلا له شركاء، أي جعل آدم و حوّاء له شريكا، و المراد به الحارث (1).

أقول: فيه ما لا يخفى من الإشكال.

و قيل: إن ضمير (جعلا) راجع إلى صنفين من أولاد آدم و حوّاء؛ الذّكور و الإناث، و كذا ضمير التّثنية في قوله: فِيما آتاهُما (2).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه قال له المأمون: يابن رسول اللّه، أ ليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: «بلى» ، قال: فما معنى قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما؟

فقال الرضا عليه السّلام: «إنّ حوّاء ولدت لآدم خمسمائة بطن، في كلّ بطن ذكر و أنثى، و إنّ آدم و حوّاء عاهدا اللّه تعالى و دعواه و قالا: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ* فَلَمّا آتاهُما صالِحاً من النّسل خلقا سويا بريئا من الزّمانة و العاهة، كان ما آتاهما صنفين [صنفا ذكرانا، و]صنفا إناثا، فجعل الصّنفان للّه شركاء فيما آتاهما، و لم يشكراه كشكر أبويهما له عزّ و جلّ، قال اللّه عزّ و جلّ: «فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» . فقال المأمون: أشهد أنّك ابن رسول اللّه (3).

و قيل: إنّ الآية ردّ على المشركين القائلين بأنّ آدم كان يعبد الأصنام و يرجع في الخير و الشّر إليهما (4). و قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ في معنى الاستفهام الإنكاري، و المراد: ما جعلا له شركاء (5)، و قوله: فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ أي تعالى اللّه عن شرك هؤلاء المشركين القائلين بالشّرك، و ينسبونه إلى آدم عليه السّلام (6).

و قيل: إنّ آدم و حوّاء جعلا على أنفسهما إن آتاهما اللّه صالحا أن يجعلاه وقفا على خدمة اللّه و طاعته و عبوديّته على الإطلاق، ثمّ بدا لهما في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدّنيا و منافعها، و تارة كانوا يأمرونه بخدمة اللّه و طاعته (7)، فلهذا قال تعالى: فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ.

عن الباقرّ عليه السّلام: «هما آدم و حوّاء، و إنّما كان شركهما شرك طاعة و ليس شرك عباده» (8).

و قيل: إنّ اللّه تعالى ذكر هذه القصّة على طريق ضرب المثل، و تقريره كأنّه تعالى يقول: هو الذي

ص: 45


1- . تفسير الرازي 15:85.
2- . راجع: تفسير الرازي 15:88.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:196/1، تفسير الصافي 2:259.
4- . تفسير الرازي 15:87.
5- . في تفسير الرازي: التقدير: فلمّا آتاهما صالحا أجعلا له شركاء.
6- . تفسير الرازي 15:87.
7- . تفسير الرازي 15:88.
8- . تفسير العياشي 2:177/1668، تفسير الصافي 2:259.

خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة، و جعل من جنسها زوجها إنسانا يساويها في الإنسانيّة، فلمّا تغشّى الزّوج زوجته و ظهر الحمل دعا الزّوج و الزّوجة ربّهما: لئن آتيتنا ولدا صالحا سويّا لنكوننّ من الشّاكرين لآلائك و نعمائك، فلمّا آتاهما اللّه ولدا صالحا سويا، جعل الزوج و الزّوجة للّه شركاء فيما آتاهما، فتارة ينسبون هذا الولد إلى الطّبائع كقول الطبائعيّين، و تارة إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين، و تارة إلى الأصنام كما هو قول عبدة الأصنام، ثمّ قال تعالى: فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ أي تنزّه اللّه عن ذلك الشّرك (1).

و قيل: إن المراد من النفس الواحدة و زوجها غير آدم و حوّاء، بل المراد منها قصيّ، و الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و جعل من جنسها زوجها قرشية ليسكن إليها، فلمّا آتاهما ما طلبا من الولد الصّالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سمّيا أولادهما الأربعة بعبد مناف و عبد العزّى و عبد قصي و عبد اللاّت، و جعل الضمير في (يشركون) لهما و لأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشّرك (2).

و فيه: أنّ آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلّهم كانوا موحّدين.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 191

ثمّ و بّخ اللّه المشركين على عبادة الجماد العاجز من كلّ شيء بقوله: أَ يُشْرِكُونَ هؤلاء الجهّال باللّه في الالوهيّة و العبادة ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً من الأشياء و لو كان في غاية القلّة و الحقارة، مع أنّ المستحقّ للعبادة لا بدّ أن يكون خالق عابده.

أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191)ثمّ أكّد عدم استحقاق الأصنام للعبادة بقوله: وَ هُمْ يُخْلَقُونَ بقدرة الغير، و المخلوقيّة في غاية المباينة مع الالوهيّة و استحقاق العبادة.

قيل: إن إتيان الضمير الراجع إلى العقلاء للأصنام إنّما هو باعتقاد المشركين، فإنهم كانوا يصوّرونها بصورة العقلاء و يزعمون أنّها تدرك و تشعر.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 192 الی 193

ثمّ أنّه تعالى بعد سلب القدرة على الخلق عنها، نفى عنها القدرة على إيصال النّفع لعبدتها بقوله:

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)

ص: 46


1- . تفسير الرازي 15:87.
2- . تفسير الرازي 15:87.

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ إذا طرأ على عبدتها أمر مهمّ لَهُمْ جزاء لعبادتها نَصْراً و إعانة بجلب نفع أو دفع ضرر، بل وَ لا أَنْفُسَهُمْ إذا أصابهم سوء يَنْصُرُونَ بدفع ما يعتريها من السّوء، كما إذا أراد أحد كسرها أو لطخها بالألواث.

قيل: إنّ المشركين كانوا يلطّخون أفواه أصنامهم بالخلوق (1)و العسل، [و كان]يجتمع عليها الذّباب، فلا تقدر على دفع الذّباب عن أنفسها (2).

ثمّ بالغ سبحانه في سلب أهليّة الأصنام للعبادة بسلب الحياة و الشّعور منها، و أهليّتها لكونها تابعة لعبدتها فيما هو صلاحها، بقوله: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أيّها المشركون إِلَى شيء من اَلْهُدى و الصواب لا يَتَّبِعُوكُمْ و لا يوافقوكم في مرادكم لعدّم حياتهم و شعورهم و علمهم بدعوتكم.

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله: سَواءٌ عَلَيْكُمْ و لا تفاوت في حقّكم أَ دَعَوْتُمُوهُمْ إلى إنجاح حوائجكم، أو إلى ما فيه صلاحكم و خيركم أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ و ساكتون عن دعوتها.

قيل: إنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في أمر مهمّ و معضل تضرّعوا إلى الأصنام، فإذا لم يحدث منها في تلك الواقعة شيء بقوا ساكتين، فقيل لهم: لا فرق بين دعائكم و بين أن تستمرّوا في صمتكم (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 194

ثمّ بالغ سبحانه في بيان عدم صلاحية الأصنام للعبادة بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه، على فرض حياتهم و شعوهم كما تعتقدون عِبادٌ للّه أَمْثالُكُمْ مملوكون مسخّرون تحت قدرة خالقهم، و الحال أنّها جمادات لا شعور لها فَادْعُوهُمْ إلى كشف مضارّكم و قضاء حوائجكم فَلْيَسْتَجِيبُوا دعاءكم، و يقضوا لَكُمْ حوائجكم، و يكشفوا عنكم مضارّكم، و يدفعوا عنكم الشّدائد و البلايا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تدعون من كونهم أحياء شاعرين قادرين، فإن ثبت كونها فاقدات للحياة و الشّعور، عاجزات عن إبصال النّفع، فلا يجوز بحكم العقل عبادتها و الالتفات إليها.

إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 195 الی 196

ص: 47


1- . الخلوق: ضرب من الطّيب أعظم أجزائه الزّعفران.
2- . تفسير روح البيان 3:295.
3- . تفسير الرازي 15:91.

ثمّ نبّه سبحانه على أن الأصنام أدون من الإنسان، بل من سائر الحيوانات، و لا يجوز عبادة الأشرف للأدون، بقوله تقريرا لهم: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها كما أنّها لكم، بل لسائر الحيوانات أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ و يعملون أو يأخذون بِها ما يريدون عمله أو أخذه، كما أنّ لكم أيديا كذلك أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ المبصرات بِها كما أنّ للحيوانات أعينا كذلك أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ الأصوات بِها كما أنّ للحيوانات آذانا كذلك، فإذا لم يكن للأصنام هذه الجوارح الحيّة الفاعلة التي تكون لكم بل لسائر الحيوانات، فأنتم بل سائر الحيوانات أفضل و أشرف منها، و لا يجوز عبادة الأفضل و الأشرف للمفضول و الأوضع.

ثمّ لمّا كان المشركون يخوّفون النبي صلّى اللّه عليه و آله بآلهتهم، أمره بأن يعلن بعدم قابليّتها لأن يخاف منها بقوله: قُلِ يا محمّد، للمشركين: اُدْعُوا الأصنام التي تعتقدون أنّها شُرَكاءَكُمْ في أموالكم، و أنها أنداد للّه في الالوهيّة ليعينوكم على الإضرار بي ثُمَّ أنتم و شركاؤكم كِيدُونِ واسعوا فيما تقدرون عليه من الإساءة إليّ فَلا تُنْظِرُونِ و لا تمهلوني ساعة فإنّي لا ابالي بكم.

إِنَّ وَلِيِّيَ و ناصري عليكم، و حافظي من كلّ سوء هو اَللّهُ الواحد القادر القاهر حيث إنّه اَلَّذِي أكرمني بأن نَزَّلَ عليّ اَلْكِتابَ العزيز، و أوحى إليّ القرآن المجيد وَ هُوَ بلطفه يَتَوَلَّى و ينصر اَلصّالِحِينَ من عباده على أعدائهم فضلا عن أنبيائه، فكيف يخذلني بينكم؟

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 197 الی 198

ثمّ بالغ في إظهار عدم المبالاة بأصنامهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدونهم ممّا سوى اللّه و مِنْ دُونِهِ أيّها المشركون بالغون من العجز إلى الغاية، حيث إنّهم لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ على أحد، و لا يقدرون على إعانتكم في أمر، بل و أَنْفُسَهُمْ إن تأتيهم نائبة يَنْصُرُونَ بدفعها.

وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الحواسّ و القوى عن الأصنام، نفاهما عن جميع المشركين لتأمين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين عن إساءتهم إليهم بقوله: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أيّها الرّسول و المؤمنون إِلَى اَلْهُدى و ما فيه خيرهم من الإقرار بدين الحقّ لا يهتدوا، كأنّهم لا يَسْمَعُوا دعاءكم فضلا عن أن يكيدوا بكم و يتعاونوا على الإضرار عليكم وَ تَراهُمْ يا محمّد أنّهم يَنْظُرُونَ بأعينهم إِلَيْكَ وَ هُمْ عمي

ص: 48

قلوبهم، و لعدم (1)انتفاعهم برؤية أبصارهم كأنّهم لا يُبْصِرُونَ.

و قيل: إنّ ضمائر الجمع كلّها راجعة إلى الأصنام، و المراد المبالغة في عجزها و عدم استفادة المشركين بالاستعانة منها في الإساءة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى: إن تدعوا أيّها المشركون أصنامكم إلى أن يهدوكم إلى إمدادكم في تحصيل مقاصدكم لا يسمعوا دعاءكم، و ترى أيّها الرّائي و تتخيّل أنّ الأصنام ينظرون إليك-لما أنّ المشركين صنعوا لها أعينا مركّبة من الجواهر المضيئة المتلألئة، و صوّروها بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه-و الحال أنّهم لا يبصرون، فلا سمع لهم و لا بصر.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 199

ثمّ لمّا أمّن اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله من كيد المشركين مع كونهم مهدّدين له و مسيئين إليه، أمره اللّه بالعفو عنهم و المداراة معهم بقوله: خُذِ اَلْعَفْوَ عمّن أساء إليك، و لا تجاوزه بالسّوء، و لا تغلظ عليه، و عاشر بحسن الخلق، و التزم به.

خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ (199)روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [أنّه]سأل جبرئيل: «ما الأخذ بالعفو؟» فقال: لا أدري حتّى أسأل، ثمّ رجع فقال: يا محمّد، إنّ ربّك أمرك أن تعطي من حرمك، و تصل من قطعك، و تعفو عمّن ظلمك، و تحسن إلى من أساء إليك (2).

و قيل: إنّ المراد: اقبل من أفعال النّاس ما سهل عليهم، و من أموالهم ما تيسّر لهم، و لا تحمل عليهم الكلفة، و لا تطلب منهم ما يشقّ عليهم (3).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال لرجل من ثقيف: «إيّأك أن تضرب مسلما أو يهوديّا أو نصرانيّا في درهم خراج، أو تبيع دابّة عمل في درهم، فإنّا امرنا أن نأخذ منه العفو» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه أدّب رسوله بذلك، أي خذ منهم ما ظهر و تيسّر» . قال: «و العفو: الوسط» (5).

وَ أْمُرْ يا محمّد امّتك بِالْعُرْفِ و بالجميل من الأفعال، و الحميد من الأخلاق. و يدخل فيه غضّ البصر عن المحارم، و كفّ الجوارح عن المآثم، و القيام بالواجبات و المستحبّات وَ أَعْرِضْ عَنِ سيّئات اَلْجاهِلِينَ و السّفهاء، و لا تمارهم و لا تكافئهم بمثل سفههم.

عن الرضا عليه السّلام: «أنّ اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بمداراة النّاس فقال: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ

ص: 49


1- . في النسخة: و عدم.
2- . تفسير الرازي 15:96، تفسير روح البيان 3:298.
3- . تفسير الصافي 2:260.
4- . من لا يحضره الفقيه 2:13/34، تفسير الصافي 2:261.
5- . تفسير العياشي 2:178/1669، تفسير الصافي 2:261.

اَلْجاهِلِينَ» (1) .

و عن الصادق عليه السّلام: «أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بمكارم الأخلاق، و ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها» (2).

و عن سعيد بن هشام قال: دخلت على عائشة فسألتها عن أخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، فقالت: [كان]خلق رسول اللّه القرآن، و إنّما أدّبه بالقرآن بمثل قوله تعالى: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ، و قوله: وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (3)، و قوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 200

ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت الآية (5)، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كيف يا ربّ و الغضب» ؟ فنزل وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ (6)و يبعثنّك إلى الشرّ مِنَ قبل اَلشَّيْطانِ و بوسوسته نَزْغٌ و باعث، و يهيّجك سفية بإظهار سفهه فَاسْتَعِذْ و التجئ بِاللّهِ من شرّ الشّيطان إِنَّهُ سَمِيعٌ يسمع استعاذتك و التجاءك به عَلِيمٌ يعلم حالك و ما فيه صلاحك. و هذا من باب إيّاك أعني و اسمعي يا جارة، حيث إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المقصود امّته.

وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رآى رجلا يخاصم أخاه قد أحمرّ وجهه و انتفخت أوداجه من الغضب، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ باللّه من الشّيطان، لذهب عنه ما يجد» (7).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 201 الی 202

ثمّ بيّن اللّه حال عباده المتّقين ترغيبا لغيرهم إلى الاستعاذة، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا اللّه و خافوا عقابه إِذا مَسَّهُمْ و أصابهم طائِفٌ و نازلة خفيفة مِنَ وسوسة اَلشَّيْطانِ و اقتربوا من الوقوع في الشرّ و العصيان تَذَكَّرُوا و أشعروا قلوبهم عظمة اللّه و شدّة عقابه، أو الاستعاذة به و التوكّل عليه فَإِذا هُمْ بسبب هذا التذكّر مُبْصِرُونَ مكائد الشّيطان، و طريق السّلامة من شرّه

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)

ص: 50


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:256/9، تفسير الصافي 2:261.
2- . جوامع الجامع:163، تفسير الصافي 2:261.
3- . لقمان:31/17.
4- . تفسير روح البيان 3:298، و الآية من سورة المائدة:5/13.
5- . أي الآية المتقدمة.
6- . تفسير روح البيان 3:298.
7- . تفسير روح البيان 3:299.

فيسلكونه.

القمّي: إذا ذكّرهم الشّيطان المعاصي و حملهم عليها يذكرون اسم اللّه، فإذا هم مبصرون (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو العبد يهمّ بالذّنب، ثمّ يتذكّر فيمسك» (2).

و يمكن أن [يكون]المراد من الطّائف جمعا من الشياطين يطوفون حوله و يوسوسون في قلبه، ففيه مدحهم بقوة العقل بحيث لا يقدر على مسّهم، و الشيطان واحد.

و أمّا أتباع الشّياطين وَ إِخْوانُهُمْ من الإنس؛ و هم الّذين لا يتّقون، يعينون الشّياطين، و يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ و إضلال النّاس، و إيقاعهم في المعاصي بالتّزيين و التّرغيب إليها، أو المراد أنّ الشّياطين يمدّون إخوانهم و أتباعهم من الإنس في الغيّ و الضّلال ثُمَّ الشّياطين و إخوانهم لا يُقْصِرُونَ و لا يسأمون من عملهم، بل يجدّون في الغيّ غايته.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 203

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سعي الشّياطين و أتباعهم من الإنس في الغيّ و الإضلال ذكر نوعا من إضلالهم بقوله: وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن أو ممّا اقترحوها عليك و سألوها تعنّتا عنك، و لم تجبهم إلى ما سألوا قالُوا لَوْ لا اِجْتَبَيْتَها و هلاّ فعلتها بنفسك أو باقتراحك على ربّك إن كنت صادقا في دعوى نبوّتك؟ قُلْ لهم يا محمّد: إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي و لا أقترح عليه أمرا من الامور، و لا أسأله شيئا إلاّ بإذنه، و لا اقدم على عمل إلاّ بإجازته، فإن كان غرضكم من سؤال المعجزة ثبوت نبوّتي فإنّه يكفيكم هذا القرآن الذي هو أعظم المعاجز، حيث يكون فيه بَصائِرُ و أدلّة واضحة على صدقي، نازلة إليكم مِنْ رَبِّكُمْ وَ يكون لكم هُدىً و رشادا إلى كلّ حقّ و خير وَ رَحْمَةٌ و تفضّل عليكم منه، و لكن يكون نفعه المهمّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به؛ لأنّهم المتدبّرون فيه، المستفيدون منه العلوم و المعارف و السّعادة الأبدية، و ما فيه صلاح دنياهم و عقباهم.

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اِجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 204

ثمّ أنه تعالى بعد بيان إعجاز القرآن و منافعه، أمر بالاستماع و الإنصات له حين تلاوته بقوله: وَ إِذا

وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

ص: 51


1- . تفسير القمي 1:253، تفسير الصافي 2:262.
2- . تفسير العياشي 2:178/1671، الكافي 2:315/7، تفسير الصافي 2:262.

قُرِئَ اَلْقُرْآنُ بمسمع منكم فَاسْتَمِعُوا لَهُ بآذانكم و قلوبكم وَ أَنْصِتُوا له حين قراءته، و لا تتكلّموا بشيء تعظيما له و تكميلا للسّماع لَعَلَّكُمْ تفوزون بأعظم فوائده و منافعه و تُرْحَمُونَ بالرّحمة الخاصّة الإلهيّة.

عن ابن عبّاس قال: كان المسلمون قبل نزول هذه الآية يتكلّمون في الصّلاة، و يأمرون بحوائجهم، و يأتي الرجل الجماعة و هم يصلّون فيسألهم: كم صلّيتم، و كم بقي؟ فيقولون: كذا و كذا، فأنزل اللّه هذه الآية و أمرهم بالإنصات عند الصّلاة، فاريد من قراءة القرآن الصلاة لكونها معظم أجرائها (1).

و عنه أيضا قال: قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الصّلاة المكتوبة، و قرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه، فنزلت الآية (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «إن كنت خلف إمام فلا تقرأنّ شيئا في الاوليين، و أنصت لقراءته، و لا تقرأنّ شيئا في الأخيرتين، فإنّ اللّه يقول (3): وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ يعني في الفريضة، خلف الإمام فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ و الأخيرتان تتبع للأوليين» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا كنت خلف إمام تتولاّه و تثق به فإنّه يجزيك قراءته، و إن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت به، فإذا جهر فأنصت، قال اللّه تعالى: وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (5)» .

و عن أحدهما عليهما السّلام قال: «إذا كنت خلف إمام تأتمّ به فأنصت و سبّح في نفسك (6)» .

أقول: فيه دلالة على اجتماع الإنصات مع الذّكر الخفيّ، فعلم أنّ في الجماعة يجب الإنصات لقراءة الإمام، و أمّا في غير الجماعة فلا إشكال في استحبابه، و [أمّا]الصلاة خلف الإمام غير المرضيّ فحكمه حكم غير الجماعة.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الرّجل يؤمّ القوم و أنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة، فقال: «إذا سمعت كتاب اللّه يتلى فأنصت له» . قيل: فإنّه يشهد عليّ بالشّرك، قال: «إن عصى اللّه فأطع اللّه» . فرددت عليه فأبى أن يرخّص لي. قيل: اصلّي إذن في بيتي ثمّ أخرج إليه، فقال: «أنت و ذاك» .

و قال: «إنّ عليّا عليه السّلام كان في صلاة الصّبح فقرأ ابن الكوّاء و هو خلفه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ

ص: 52


1- . تفسير روح البيان 3:303.
2- . تفسير الرازي 15:102.
3- . زاد في من لا يحضره الفقيه و تفسير الصافي: للمؤمنين.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:256/1160، تفسير الصافي 2:262.
5- . التهذيب 3:33/120، تفسير الصافي 2:263.
6- . تفسير العياشي 2:179/1677، تفسير الصافي 2:263.

مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (1) فأنصت عليّ عليه السّلام تعظيما للقرآن، حتّى فرغ من [الآية ثم عاد في]قراءته، ثمّ أعاد ابن الكوّاء الآية، فأنصت عليّ عليه السّلام أيضا، ثمّ قرأ فأعاد ابن الكوّاء، فأنصت عليّ عليه السّلام، ثمّ قال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 205 الی 206

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالإنصات عند تلاوة القرآن، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بإخفات ذكر اللّه لكونه أقرب إلى الإخلاص، بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ و في الخفية بحيث لا يسمع ذكرك غيرك، حال كونك تتضرّع إليه و تخاف منه تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً.

وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ اَلْغافِلِينَ (205) إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206)قيل: معنى الذّكر في النّفس: كون الإنسان عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها باللّسان، مستحضرا لصفات اللّه الكمالية و عزّه و علوّه و جلاله و عظمته.

و في توصيف ذاته المقدّسة بصفة الربوبيّة في المقام إشعار بكمال رحمته و قربه من الذّاكر، و فضله و إحسانه إليه.

و قيل: إنّ الخطاب في الآية إلى الإنسان، لا خصوص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ رخّص سبحانه في ترك المبالغة في الإخفات، و أن يذكربصوت فوق الأخفات بقوله: وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ و فوق الإخفات، فيكون متوسّطا بينهما.

و عن ابن عبّاس: إنّ المعنى أن يذكر ربّه على وجه يسمع نفسه (3). بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ و الصّباح و المساء؛ لكونهما أفضل الأوقات وَ لا تَكُنْ في وقت من الأوقات مِنَ اَلْغافِلِينَ عن ربّك و ذكره و اللاّهين عنه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً يعني: مستكينا وَ خِيفَةً يعني: خوفا من عذابه وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ يعني: دون الجهر من القراءة بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ يعني: بالغداة و العشيّ» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من ذكر اللّه في السرّ فقد ذكر اللّه كثيرا، إنّ المنافقين كانوا يذكرون اللّه

ص: 53


1- . الزمر:39/65.
2- . التهذيب 3:35/127، تفسير الصافي 2:263، و الآية من سورة الروم:30/60.
3- . تفسير الرازي 15:108.
4- . تفسير العياشي 2:179/1678، تفسير الصافي 2:264.

علانية و لا يذكرونه سرّا، فقال اللّه: يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً» (1).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «لا يكتب الملك إلاّ ما يسمع، و قال اللّه: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً فلا يعلم ثواب ذلك الذّكر في نفس الرّجل إلاّ اللّه لعظمته» (2).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية قال: «تقول عند المساء لا إله إلاّ هو (3)وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت، [و يميت و يحيي]و هو على كلّ شيء قدير» .

قيل: بيده الخير؟ قال: «إنّ بيده الخير، و لكن قل كما أقول لك عشر مرّات. و أعوذ باللّه السّميع العليم [من همزات الشياطين، و أعوذ بك ربّ ان يحضرون إن اللّه هو السّميع العليم]. حين تطلع الشّمس و حين تغرب عشر مرّات» (4).

ثمّ لمّا رغّب اللّه سبحانه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و عامّة النّاس في الذّكر باللّسان صباحا و مساء و في تذكّره تعالى، و إنّما قوّى داعيتهم إليه ببيان حال المقرّبين عنده، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة مع نهاية شرفهم، و كمال طهارتهم و عصمتهم، و نزاهتهم عن بواعث الشّهوة و الغضب و عوارض الحقد و الحسد. و عن القمّي يعني: الأنبياء و الرّسل و الأئمّة (5)، مع عصمتهم لا يَسْتَكْبِرُونَ و لا يتأنّفون عَنْ الخضوع للّه و عِبادَتِهِ بل هم مستغرقون فيها آناء اللّيل و أطراف النّهار وَ يُسَبِّحُونَهُ و ينزّهونه من النقائص الإمكانيّة وَ لَهُ وحده يَسْجُدُونَ.

فإذا كانت الأنبياء و الملائكة و المقرّبون حالهم كذا، فالإنسان المبتلى بظلمات الطّبيعة، المنهمك في اللّذات النّفسانيّة و الشّهوات الحيوانيّة، أولى بالمواظبة على العبادة و الذّكر و الطاعة، و أن لا يخلو من ذكره و تسبيحه و تقديسه.

ص: 54


1- . الكافي 2:364/2، تفسير الصافي 2:264، و الآية من سورة النساء:4/142.
2- . تفسير العياشي 2:179/1677، تفسير الصافي 2:264.
3- . في تفسير العياشي و تفسير الصافي: إلاّ اللّه.
4- . تفسير العياشي 2:180/1679، تفسير الصافي 2:264.
5- . تفسير القمي 1:254، تفسير الصافي 2:264.

في تفسير سورة الأنفال

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم سورة الأعراف التي عمدة مطالبها إبطال الشّرك، و تهديد أهله بالعذاب، و بيان غاية عجز الأصنام، و أمّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالأعلان بوثوقه باللّه تعالى في دفع كيدهم، و العفو عمّن ظلمه، و الإعراض عن الجاهلين، و مداراة النّاس، و الاستعاذة باللّه عند نزغ الشّيطان، و مدح المتّقين بتذكّر اللّه عند ذلك، اردفت بسورة الأنفال التي أهمّ مطالبها إثبات صحّة نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إيجاب طاعته، و ملازمة التّقوى، و بيان كيفيّة نزغ الشيطان، و إيجاب رفع التّنازع بالصّلح، و غير ذلك من الأمور المرتبطة بما في السّور السّابقة، فابتدأ بذكر الأسماء المباركات على حسب دأبه تعالى في كتابه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)ثمّ افتتحها ببيان حكم الغنيمة التي وقع بين المسلمين التّنازع فيها في وقعة بدر بقوله: يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ حكم اَلْأَنْفالِ و يستفتونك فيها قُلِ في جوابهم: اَلْأَنْفالِ كلّها لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ ليس لغيرهما فيها حقّ.

روي أنّ المسلمين اختلفوا في غنائم بدر و في تقسيمها، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كيف تقسّم، و إلى أين تصرف، و من الّذين يتولّون قسمتها؛ أهم المهاجرون أم الأنصار؟ (1)فنزلت (2).

و عن عبادة بن الصامت قال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النّفل، و ساءت فيه أخلاقنا، فنزعه اللّه من أيدينا و جعله لرسوله، فقسّمه بين المسلمين على السّواء (3).

و روي أن الشبّان يوم بدر قتلوا و أسروا، و الأشياخ وقفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المصافّ، فقال الشبّان: الغنائم لنا؛ لأنّا قتلنا و هزمنا، و قال الأشياخ: كنّا ردءا لكم، و لو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلا تذهبوا

ص: 55


1- . زاد في تفسير روح البيان: أم هم جميعا. (2 و 3) . تفسير روح البيان 3:311.

بالغنائم دوننا. فوقعت المخاصمة، فنزلت (1).

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قسّم ما غنموه يوم بدر على من حضر، و على أقوام لم يحضروا أيضا؛ و هم ثلاثة من المهاجرين، و خمسة من الأنصار، أمّا المهاجرون فأحدهم عثمان؛ فإنّه صلّى اللّه عليه و آله تركه على ابنته لأنّها كانت مريضة، و طلحة، و سعيد بن زيد؛ فإنّه صلّى اللّه عليه و آله كان بعثهما للتجسّس عن خبر العير، و خرجا في طريق الشّام. و أمّا الخمسة [من]الأنصار فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، خلّفه النبي صلّى اللّه عليه و آله على المدينة، و عاصم خلّفه على العالية، و الحارث بن حاطب ردّه من الرّوحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه، و الحارث بن الصمّة أصابته علّة بالرّوحاء، و خوّات بن جبير، فهولاء لم يحضروا و ضرب لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك الغنائم بسهم، فوقع من غيرهم فيه منازعة (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت يوم بدر لمّا انهزم النّاس، و كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ثلاث فرق؛ فصنف كانوا عند خيمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صنف أغاروا على النّهب، و فرقة طلبت العدوّ و أسروا و غنموا، فلمّا جمعوا الغنائم و الأسارى تكلّمت الأنصار في الأسارى، فأنزل اللّه ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ (3)، فلمّا أباح اللّه لهم الأسارى و الغنائم تكلّم سعد بن معاذ- أو سعد بن عثمان، على نسخة-و كان ممّن أقام عند خيمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، ما منعنا أن نطلب العدوّ زهادة في الجهاد، و لا جبنا من العدوّ، و لكنّا خفنا أن يعرى موضعك فتميل عليك خيل المشركين، و قد أقام عند الخيمة وجوه المهاجرين و الأنصار، و لم يشكّ أحد منهم، و الناس كثير يا رسول اللّه و الغنائم قليلة، و متى يعطى هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء.

و خاف أنّ يقسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغنائم و أسلاب القتلى بين من قاتل و لا يعطي من تخلّف عند (4)خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيئا، فاختلفوا فيما بينهم حتى سألوا رسول اللّه فقالوا: لمن الغنائم؟ فأنزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فرجع الناس و ليس لهم في الغنيمة شيء، ثمّ أنزل اللّه بعد ذلك وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (5)الآية، فقسّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهم، فقال سعد بن [أبي]وقاص: يا رسول اللّه، أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ثكلتك امّك، و هل تنصرون إلاّ بضعفائكم؟ !» .

قال: «فلم يخمّس رسول اللّه ببدر، و قسّم بين أصحابه، ثمّ استقبل بأخذ الخمس بعد بدر» (6).

ص: 56


1- . تفسير الرازي 15:115.
2- . تفسير الرازي 15:115.
3- . الأنفال:8/67.
4- . في النسخة: على.
5- . الأنفال:8/41.
6- . تفسير القمي 1:254، تفسير الصافي 2:267.

و أمّا الأنفال، فعن ابن عباس و جماعة أنّها غنيمة بدر (1). و قيل: هي أنفال السّرايا (2). و قيل: هي ما شذّ من المشركين من عبد أو جارية من غير قتال (3).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «الفيء و الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم، أو قوم صولحوا و أعطوا بأيديهم، و ما كان من أرض خربة أو بطون أودية، فهو كلّه من الفيء و الأنفال، فهذا كلّه للّه و لرسوله، فما كان فهو لرسوله يضعه حيث يشاء، و هو للإمام بعد الرسول» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، أو قوم صولحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، و كلّ أرض خربه و بطون الأودية فهو لرسول اللّه، و هو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء» (5).

و عنه عليه السّلام: «من مات و ليس له وارث، فماله من الأنفال» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «لنا الأنفال» ، قيل: و ما الأنفال؟ قال: «منها المعادن و الآجام، و كلّ أرض لا ربّ لها، و كلّ أرض باد أهلها فهو لنا» (7).

و قال: «ما كان للملوك فهو من الأنفال» (8).

أقول: لا شكّ أنّ المراد بالسؤال في الآية الغنائم؛ كما عن ابن عباس و عن الصادق عليه السّلام، لوضوح أنّه لم يكن في غنائم بدر شيء من الأمور المذكورة في الروايات، و إنّما هو المقصود من الأنفال الذي أطلق في غير الآية، أو معناه الأعمّ من الأمور المذكورة و الغنائم، و إن وقع السؤال في بدر من الغنائم.

و لمّا كان التّنازع محرّما أمر المؤمنين بالتّقوى بقوله: فَاتَّقُوا اَللّهَ و خافوا عقابه أيّها البدريّون، و لا تقدموا على معصية و اتركوا المنازعة، و ارضوا بما حكم به الرسول صلّى اللّه عليه و آله وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ من الأحوال بالمواساة فيما رزقكم اللّه و الأقوال، و لا تنازعوا.

ثمّ أكّد الأمر بالتّقوى بقوله: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في أوامره و نواهيه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بهما عن صميم القلب، فإنّ الإيمان لا يتمّ إلاّ بالطّاعة.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 2 الی 3

ص: 57


1- . مجمع البيان 4:795.
2- . مجمع البيان 4:796.
3- . تفسير الرازي 15:115.
4- . تفسير العياشي 2:182/1687، التهذيب 4:134/376، تفسير الصافي 2:266.
5- . الكافي 1:453/3، تفسير الصافي 2:266.
6- . تفسير الصافي 2:266.
7- . تفسير العياشي 2:183/1691، تفسير الصافي 2:267.
8- . تفسير الصافي 2:267.

ثمّ بيّن علّة ملازمة الإيمان للطّاعة ببيان الصّفات النفسانيّة التي لا ينفكّ المؤمن الكامل منها بقوله: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ الصادقون في الإيمان، الكاملون فيه هم اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ عندهم، أو ذكروه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ و خافت أفئدتهم من عظمته و مهابته، و من احتمال التّقصير في طاعته؛ فيستحقّوا عتابه أو عقابه وَ إِذا تُلِيَتْ و قرئت عَلَيْهِمْ و بمسمع منهم آياتُهُ القرآنيّة البالغة أعلى درجة الفصاحة، المشحونة بالعلوم و المعارف و المواعظ و الحكم زادَتْهُمْ تلك الآيات بالتفكّر و التدبّر فيها إِيماناً على إيمانهم لزيادة معرفتهم بعظمته و قدرته و حكمته و صدق رسوله وَ من المعلوم بأنّ من آثار ازدياد المعرفة و قوّة اليقين بصفاته الكماليّة أنّهم عَلى رَبِّهِمْ و مالك امورهم، اللّطيف بهم يَتَوَكَّلُونَ و عليه يعتمدون في امورهم، و إليه يفوّضون جميع شؤونهم من حفظهم و رزقهم و تدبير معاشهم، فلا يخافون و لا يرجون غيره.

و روي أنّه «لا يكمل إيمان المرء حتّى يرى النّاس كالأباعير» (1).

فإذا حصل للمؤمنين هذه الصّفات لا يكون نظره إلاّ إلى تحصيل رضا اللّه، فيقوم بطاعته و يبذل نفسه و ماله في سبيله، و لذا وصفهم بعد تلك الصّفات الحميدة النفسانيّة بقوله:

اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ التي هي أهمّ العبادات البدنيّة مراعيا لشرائطها المعتبرة في صحّتها و كمالها وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و أعطيناهم من القوى و العلم و الجاه و المال يُنْفِقُونَ في سبيله، و يبذلون في مرضاته. و إنّما خصّ سبحانه التوكّل من بين الصّفات النفسانيّة الباطنية، و الصّلاة و الإنفاق من بين الأعمال الخارجية الظاهريّة بالذّكر تنبيها على شرفها و تبعيّة سائر الصّفات الكماليّة و الأعمال العباديّة لها.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 4 الی 6

ص: 58


1- . ورد في (البحار) عن (مكارم الأخلاق) و (عدة الداعى) بلفظ: «لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يرى الناس في جنب اللّه تبارك و تعالى أمثال الأباعر» . بحار الأنوار 72:304 و 77:85.

ثمّ أنّه تعالى بعد حصر المؤمنين الكمّلين بالواجدين لتلك الصّفات و الأعمال، أكّده بقوله: أُولئِكَ الموصوفون بالصّفات الجليلة المذكورة هُمُ: بالخصوص اَلْمُؤْمِنُونَ إيمانا حَقًّا ثابتا لا يشوبه شرك جليّ و لا خفيّ؛ لإحاطة نور الإيمان بقلوبهم و جوارحهم، و ظهور آثاره من بواطنهم و ظواهرهم.

ثمّ بيّن سبحانه اختصاصهم بغاية الكرامة عنده بقوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ رفيعة من الكرامة و الشّرف عِنْدَ رَبِّهِمْ في الدّنيا و الآخرة، وَ لهم مَغْفِرَةٌ و ستر، أي ستر لذنوبهم و زلاّتهم وَ رِزْقٌ واسع هنيء كَرِيمٌ لا انقطاع له، و لا تعب، و لا كدورة فيه في البرزخ و الآخرة.

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في أمير المؤمنين، و أبي ذرّ، و سلمان، و مقداد (1).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة، و بالزّيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدّرجات عند اللّه، و بالنّقصان دخل المفرّطون النّار» (2).

ثمّ أنّه روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رأى كثرة المشركين يوم بدر و قلّة المسلمين قال: من قتل قتيلا فله سلبه، و من أسر أسيرا فله كذا و كذا، ليرغّبهم في القتال، فلمّا انهزم المشركون قال سعد بن عبادة: يا رسول اللّه، إنّ جماعة من أصحابك و قومك فدوك بأنفسهم و لم يتأخّروا عن القتال جبنا و لا بخلا ببذل مهجهم، و لكنّهم أشفقوا عليك من أن تغتال، فمتى أعطيت هؤلاء ما سمّيته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء، فأنزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ. . . (3)ففوّض اللّه أمر الغنيمة إلى رسوله يصنع فيها ما يشاء، فأمسك المسلمون عن الطّلب و في أنفس بعضهم شيء من الكراهة (4).

و كذلك حين خرج الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة، فشبّه سبحانه كراهتهم اختصاص الأنفال بالرّسول بكراهتهم خروج الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى قتال بدر بقوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ الذي كنت فيه بالمدينة، أو من المدينة التي هي دار هجرتك إلى قتال بدر إخراجا مقرونا بِالْحَقِّ و الحكمة و الصّلاح وَ الحال إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بك لَكارِهُونَ خروجك، فكما أنّ كراهتهم لخروجك كانت لما هو خير لهم، كذلك كراهتهم اختصاصك بالغنيمة تكون كراهة ما فيه خيرهم.

و قيل: إنّ المعنى: أنّ الموصوفين بتلك الصّفات هم المؤمنون حقّا، كما أنّ حكم اللّه بخروجك من بيتك إلى القتال حقّ. قيل: إن جبرئيل أتاه و أمره بالخروج.

ص: 59


1- . تفسير القمي 1:255، تفسير الصافي 2:268.
2- . الكافي 2:31/1، تفسير الصافي 2:268.
3- . الأنفال:8/1.
4- . تفسير الرازي 15:125.

في بيان واقعة

بدر

روى بعض العامّة أنّ عير قريش-أي قافلتهم-أقبلت من الشّام و فيها تجارة كثيرة عظيمة، و معها أربعون راكبا منهم أبو سفيان و عمرو بن العاص و مخرمة بن نوفل، و كان في السنة الثانية من الهجرة، فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإقبالها، فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقّيها لكثرة المال و قلّة الرّجال، فلمّا خرجوا سمع أبو سفيان فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكّة، و أمره أن يأتي قريشا فيستنفزّهم، و يخبرهم أنّ محمدا قد اعترض لعيركم فأدركوها، فلمّا بلغ أهل مكّة هذا الخبر نادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكّة: النّجاء النّجاء على كلّ صعب و ذلول، عيركم و أموالكم-أي أدركوها-إن أصابها محمّد لن تفلحوا بعدها أبدا.

و قد رأت عاتكة اخت العباس بن عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكّة بثلاث ليال رؤيا فقالت لأخيها: إنّي رأيت عجبا، كأنّ ملكا نزل من السماء و أخذ صخرة من الجبل ثمّ حلّق بها-أي رمى بها- إلى فوق، فلم يبق بيت من بيوت مكّة إلاّ أصابه حجر من تلك الصّخرة، فحدّث بها العباس صديقا له يقال له عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، و ذكرها عتبة لبنت له، ففشا الحديث. فقال أبو جهل للعبّاس: يا أبا الفضل، أما يرضى رجالكم أن تنبّأوا حتّى تنبّأت نساؤكم، فخرج أبو جهل بأهل مكّة و هم النّفير، فقيل له: إنّ العير أخذت طريق السّاحل و نجت، فارجع بالناس إلى مكّة، فقال: لا و اللّه، لا يكون ذلك أبدا حتّى ننحر الجزور، و نشرب الخمور، و نقيم القينات (1)و المعازف ببدر، فتتسامع جميع العرب بمخرجنا، و إنّ محمدا لم يصب العير، و إنّا قد أغضضناه.

فمضى بهم إلى بدر-و بدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السّنة-فنزل جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّ اللّه وعدكم إحدى الطائفتين؛ إمّا العير، و إمّا قريشا، فاستشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فقال: «ما تقولون، إنّ القوم قد خرجوا من مكّة على كل صعب و ذلول؟ فالعير أحبّ إليكم أم النّفير؟» فقالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدو. فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ ردّد عليهم فقال: «إنّ العير قد مضت على ساحل البحر، و هذا أبو جهل قد أقبل» -يريد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك أنّ تلقّي النّفير و جهاد المشركين آثر عنده و أنفع للمؤمنين من الظّفر بالعير، لما في تلقّي النّفير من كسر شوكة المشركين، و إظهار الدّين الحقّ على الأديان كلّها، فقالوا: يا رسول اللّه، عليك بالعير و دع العدوّ.

فقام عند ما غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبو بكر و عمر، فأحسنا الكلام (2)في اتّباع مراد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ

ص: 60


1- . القينات: جمع قينة، الأمة مغنية كانت أو غير مغنية.
2- . الذي في (صحيح مسلم) : فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلّم عمر فأعرض عنه، و نص كلام أبي بكر و عمر الذي أعرض عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله سيأتي برواية القمي، و نقله أيضا الواقدي في (المغازي) و المقريزي في (الامتاع و المؤانة) . راجع: معالم المدرستين 1:235.

قام سيّد الخزرج سعد بن عبادة فقال: انظر في أمرك و امض، فو اللّه لو سرت إلى عدن أبين (1)ما تخلّف عنك رجل من الأنصار. ثمّ قال المقداد بن عمرو: يا رسول اللّه، امض لما أمرك اللّه فإنّا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (2)و لكن نقول: اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دامت عين منّا تطرف.

فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: «أشيروا عليّ أيّها النّاس» و هو يريد الأنصار، أيّ بيّنوا لي ما في ضميركم في نصرتي و معاونتي؛ و ذلك لأنّ الأنصار عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة العقبة أن ينصروه مادام في المدينة، و إذا خرج منها لا يكون عليهم معاونته و نصرته، فأراد صلّى اللّه عليه و آله أن يعاهدهم على النّصرة في هذه المعركة.

فقام سعد بن معاذ فقال: كأنّك تريدنا يا رسول اللّه، قال: «أجل» ، قال: قد آمنّا بك و صدّقناك، و شهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، و أعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السّمع و الطّاعة، فامض يا رسول اللّه لما أردت، فو الّذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضنا معك، ما تخلّف منا رجل، و ما نكره أن تلقى بنا عدوّنا، إنّا لصبّر عند الحرب، صدّق عند اللّقاء، و لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركه اللّه. ففرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نشطه قول سعد ثمّ قال: «سيروا على بركة اللّه و ابشروا، فإنّ اللّه وعدني إحدى الطّائفتين، و اللّه لكأنّي انظر إلى مصارع القوم» (3).

بيان قصة بدر

الكبرى

عن القمّي رحمه اللّه: أنّ عير قريش خرجت إلى الشّام فيها خزائنهم، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالخروج ليأخذوها، فأخبرهم أنّ اللّه تعالى قد وعده إحدى الطّائفتين؛ إما العير أو قريش إن ظفر بهم، فخرج في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، فلمّا قارب بدرا، كان أبو سفيان (لعنه اللّه) في العير، فلمّا بلغه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد خرج يتعرّض العير خاف خوفا شديدا، و مضى إلى الشّام، فلمّا وافى البهرة (4)اكترى ضمضم بن عمرو الخزاعي بعشرة دنانير، و أعطاه قلوصا (5)، و قال له: امض إلى قريش: و أخبرهم أنّ محمدا و الصّباة (6)من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم، فأدركوا العير. و أوصاه أن يخرم (7)ناقته و يقطع اذنها حتّى يسيل الدّم و يشقّ ثوبه من قبل و دبر، فاذا دخل مكّة ولّى وجهه إلى ذنب البعير و صاح بأعلى صوته: يا آل غالب يا آل غالب،

ص: 61


1- . عدن أبين: مدينة على ساحل بحر العرب.
2- . المائدة:5/24.
3- . تفسير روح البيان 3:315.
4- . بهرة: موضع بنواحي المدينة، و في النسخة: النقرة.
5- . القلوص: الشابة من النوق.
6- . الصّباة: جمع صابئ، و هو الخارج من دين إلى آخر، و كانت قريش تسمي أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله الصّباة لأنهم خرجوا من دين قريش إلى الإسلام.
7- . أي يشقّ ما بين منخريها.

اللّطيمة (1)اللّطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا، و ما أراكم تدركون، فإنّ محمّدا و الصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم. فخرج ضمضم يبادر إلى مكّة.

و رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيّام، كأنّ راكبا قد وافى مكّة ينادي: يا آل غدر، يا آل غدر، اغدوا إلى مصارعكم صبح ثالث. ثمّ وافى بجمله إلى أبي قبيس، فأخذ حجرا و دهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلاّ أصابه منه فلذة، و كان وادي مكّة قد سال من أسفله دما، فانتبهت ذعرة فأخبرت العبّاس بذلك، فأخبر العبّاس عتبة بن ربيعة، فقال عتبة بن ربيعة: تلك مصيبة تحدث في قريش.

ففشت الرّؤيا في قريش، فبلغ ذلك أبا جهل فقال: ما رأت عاتكة هذه الرّؤيا، و هذه نبيّة ثانية في [بني]عبد المطّلب، و اللاّت و العزّى لننتظرنّ ثلاثة أيّام، فإن كان ما رأت حقّا فهو كما رأت، و إن كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتابا أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا و نساء من بني هاشم. فلمّا مضى يوم قال أبو جهل: هذا يوم قد مضى، فلمّا كان اليوم الثّاني قال أبو جهل: هذان يومان قد مضيا، فلمّا كان اليوم الثّالث وافى ضمضم ينادي في الوادي: يا آل غالب، يا آل غالب، اللّطيمة اللّطيمة، العير العير، أدركوا [أدركوا]و ما أراكم تدركون، فإنّ محمّدا و الصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم التي فيها خزائنكم.

فتصايح الناس بمكّة و تهيّأوا للخروج، فقام سهل بن عمرو و صفوان بن اميّة و أبو البختري بن هشام و منبه و نبيه ابنا الحجّاج و نوفل بن خويلد فقالوا: يا معشر قريش [و اللّه]ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه، أن يطمع محمّد و الصّباة من أهل يثرب أن يتعرّضوا لعيركم التي فيها خزائنكم، فو اللّه ما قرشيّ و لا قرشيّة إلاّ و لهما في هذه العير نشّ (2)فصاعدا، و إنّه لذلّ و صغار أن يطمع محمّد في أموالكم و يفرّق بينكم و بين متجركم.

فأخرجوا و أخرج صفوان بن اميّة خمسمائة دينار و جهّز بها، و أخرج سهيل بن عمرو [خمس مائة]، و ما بقي [أحد]من عظماء قريش إلاّ أخرجوا مالا، و حمّلوا و قوّوا، و خرجوا على الصّعب و الذّلول لا يملكون أنفسهم كما قال اللّه: خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ اَلنّاسِ (3)، و خرج معهم العبّاس بن عبد المطّلب، و نوفل بن الحارث، و عقيل بن أبي طالب، و أخرجوا معهم القيان يشربون الخمر و يضربون بالدّفوف (4).

ص: 62


1- . اللطيمة: العير التي تحمل الطيب و بزّ التجارة و قوله: يا آل غالب الطليمة، أي أدركوها.
2- . النشّ: نصف أوقية، و يعادل عشرين درهما.
3- . الأنفال:8/47.
4- . في النسخة: بالدفّ.

و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، فلمّا كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بشير بن أبي الزّغباء و محمّد بن عمرو يتجسّسان خبر العير، فأتيا ماء بدر فأناخا راحلتيهما و استعذبا من الماء، و سمعا جاريتين قد تشبّثت إحداهما بالاخرى، و تطالبها بدرهم كان لها عليها، فقالت: عير قريش نزلت أمس في موضع كذا، و هي تنزل غدا هاهنا، و أعمل لهم و أقضيك.

فرجعا فأخبراه بما سمعا، فأقبل أبو سفيان بالعير، فلمّا شارف بدرا تقدّم العير و أقبل وحده حتّى انتهى إلى ماء بدر، و كان بها رجل من جهينة يقال له الكسب الجهني فقال له: يا كسب، هل لك علم بمحمد و أصحابه؟ قال: لا، قال: و اللاّت و العزّى لئن كتمتنا أمر محمّد، لا تزال قريش. لك معادية آخر الدّهر، فإنّه ليس أحد من قريش إلاّ و له في هذه العير نشّ فصاعدا، فلا تكتمني، فقال: و اللّه مالي علم بمحمد، و ما بال محمد و أصحابه بالتجّار، إلاّ أنّي رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا فاستعذبا من الماء، و أناخا راحلتيهما و رجعا، و لا أدري من هما. فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما، ففتّ أبعار الإبل، فوجد فيها النّوى فقال: هذه علائف يثرب، هؤلاء و اللّه عيون محمّد، فرجع مسرعا و أمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر، و تركوا الطّريق و مرّوا مسرعين.

و نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره أنّ العير قد أفلتت، و أنّ قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها، و أمر بالقتال و وعده النّصر، و كان نازلا ماء الصّفراء (1)، فأحبّ أن يبلو الأنصار، لأنّهم إنّما و عدوه أن ينصروه إذا كان في الدّار، فأخبرهم أنّ العير قد أفلتت، و أن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها، و أنّ اللّه قد أمرني بمحاربتهم، فجزع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك، و خافوا خوفا شديدا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أشيروا عليّ» فقام أبو بكر فقال: يا رسول اللّه، إنّها قريش و خيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، و لا ذلّت منذ عزّت، و لم تخرج على هيئة الحرب.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «اجلس» فجلس، فقال: «أشيروا عليّ» ، فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر، فقال: «اجلس» ، ثمّ قام المقداد فقال: يا رسول اللّه، إنّها قريش و خيلاؤها، و قد آمنّا بك و صدّقناك و شهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه، و لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضى و شوك الهراس (2)لخضنا معك، و لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (3)و لكنا نقول: اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون. فجزاه النبي صلّى اللّه عليه و آله خيرا فجلس.

ص: 63


1- . الصفراء: واد من ناحية المدينة، كثير النخل و الزرع، بينه و بين بدر مرحلة.
2- . الغضى: جمع غضاة، و هي شجرة الأثل صلبة الخشب، و جمره يبقى زمانا طويلا، و الهراس: شجر كبير من الفصيلة القرنية، و له شوك كأنّه الحسك.
3- . المائدة:5/24.

ثمّ قال: «أشيروا عليّ» ، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، كأنّك أردتنا، قال: «نعم» ، قال: فلعلّك خرجت على أمر قد امرت بغيره، قال: «نعم» ، قال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، إنّنا قد آمّنا بك و صدّقناك و شهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه، فمرنا بما شئت، و خذ من أموالنا ما شئت، و اترك منها ما شئت، و الذي أخذت منه أحبّ إلي ممّا تركت، و اللّه لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضنا معك.

ثمّ قال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، و اللّه ما خضت هذا الطّريق قطّ، و مالي به علم، و قد خلّفنا بالمدينة قوما ليس نحن بأشدّ جهادا لك منهم، و لو علموا أنّه الحرب لما تخلّفوا، و لكن نعدّ لك الرّواحل و نلقى عدوّنا، فإنّا صبّر عند اللّقاء أنجاد في الحرب، و إنّا لنرجو أن يقرّ اللّه عينك بنا، فإنّ يك ما تحبّ فهو ذاك، و إن يك غير ذلك قعدت على رواحلك فلحقت بقومنا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أو يحدث اللّه غير ذلك، كأنّي بمصرع فلان هاهنا، [و بمصرع فلان هاهنا] و مصرع أبي جهل، و عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و منبّة و نبيه ابني الحجّاج، فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين، و لن يخلف اللّه الميعاد» فنزل جبرئيل [على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]بهذه الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ (1)الآية.

قيل: إنّ المعنى (أخرجك ربّك) كأن (2)تترك التوجّه إلى العير و تؤثر عليه مقاتلة النّفير في حال كراهة فريق من أصحابك ما آثرته من محاربة النّفير (3).

و هم يُجادِلُونَكَ و يخاصمونك فِي اَلْحَقِّ الذي هو تلقّي النّفير لإيثارهم عليه تلقّي العير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ و ظهر لهم بإعلامك أنّهم ينصرون أينما توجّهوا، قيل: كانوا يقولون: ما كان خروجنا إلاّ للعير، و هلاّ قلت إنّ الخروج لمقاتلة النّفير لنستعدّ و نتأهّب؟ فخرجوا كارهين كَأَنَّما يُساقُونَ بالعنف إِلَى اَلْمَوْتِ و القتل وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إلى أمارات الموت و أسبابه و يشاهدونها عيانا، و ما كانت هذه المرتبة من الخوف إلاّ لقلّة عددهم و عدم تأهّبهم. و قد مرّ أنّه كان عددهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، و أمّا تأهّبهم فقد روي أنّه لم يكن فيهم إلاّ فارسان؛ الزّبير و المقداد، و لهم سبعون بعيرا، و ستّ أدرع، و ثمانية أسياف (4).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 7 الی 9

ص: 64


1- . تفسير القمي 1:256، تفسير الصافي 2:271.
2- . في تفسير روح البيان: أخرجك ربك من بيتك لأن.
3- . تفسير روح البيان 3:316.
4- . تفسير روح البيان 3:316.

ثمّ شرع سبحانه في بيان وقعة بدر و كراهة قومه إيّاها، و كيفية نصرته نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّهُ إِحْدَى اَلطّائِفَتَيْنِ العير أو النّفير أَنَّها تكون لَكُمْ و مختصّة بكم وَ أنتم تَوَدُّونَ و تحبّون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ اَلشَّوْكَةِ و القوّة من الطائفتين، و هي العير تَكُونُ لَكُمْ حيث لم يكن فيها إلاّ أربعون رجلا، و ذات الشّوكة منهما، و هي النّفير، فإنّه كان عددهم ألفا، أو قريبا منه وَ لكن يُرِيدُ اَللّهُ إرادة تكوينيّة من توجيهكم إلى ذات الشّوكة أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ و يثبته بِكَلِماتِهِ و آياته الدالّة عليه وَ يَقْطَعَ دابِرَ اَلْكافِرِينَ و يستأصلهم و يهلكهم بسيوف المسلمين.

ثمّ أكّد سبحانه التّعليل بقوله: لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ و يظهر دين الإسلام و التّوحيد وَ يُبْطِلَ اَلْباطِلَ و يمحو من أرض الحجاز الباطل و مذهب الشّرك وَ لَوْ كَرِهَ ذلك اَلْمُجْرِمُونَ و الطّغاة العاصون.

قيل: إنّ المراد من الأوّل بيان سبب اختلاف الإرادتين، و من الثاني بيان حكمة توجيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى النّفير.

و في رواية القمّي: فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالرّحيل حتّى نزل عشاء ماء بدر، و هي العدوة (1)الشاميّة، و أقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانيّة، و بعثت عبيدها تستعذب من الماء، فأخذهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حبسوهم، فقالوا [لهم]: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش، قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير، فأقبلوا يضربونهم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّي، فانفتل من صلاته فقال: «إن صدقوكم ضربتموهم، و إن كذبوكم تركتموهم، عليّ بهم» ، فأتوا بهم، فقال لهم: «من أنتم» قالوا: يا محمّد، نحن عبيد قريش، قال صلّى اللّه عليه و آله: «كم القوم؟» قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: «كم ينحرون في كلّ يوم جزورا؟» قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «القوم تسعمائة إلى ألف» قال: «فمن فيهم من بني هاشم؟» قالوا: العباس بن عبد المطلب، و نوفل بن الحارث، و عقيل بن أبي طالب، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهم فحبسوا.

و بلغ قريشا ذلك، فخافوا خوفا شديدا، و لقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال [له]: أما

ص: 65


1- . العدوة: المكان المرتفع أو شاطئ الوادي و جانبه.

ترى هذا البغيّ، و اللّه ما أبصر موضع قدمي، خرجنا لنمنع عيرنا و قد افلتت، فجئنا بغيا و عدوانا، و اللّه ما أفلح قوم قط بغوا، و لوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كلّه و لم نسر هذا المسير.

فقال له أبو البختري: إنّك سيّد من سادات قريش، فسر في النّاس و تحمّل العير التي أصابها محمّد و أصحابه بنخلة، و دم ابن الحضرمي فإنّه حليفك.

فقال عتبة: أنت تشير عليّ بذلك و لا لأحد (1)منّا خلاف إلاّ ابن حنظلة-يعني أبا جهل-فسر إليه و أعلمه أنّي تحمّلت العير التي أصابها محمّد و دم بن الحضرمي.

فقال أبو البختري: فقصدت خباءه، فإذا هو قد أخرج درعا له فقلت له: إنّ أبا الوليد بعثني إليك برسالة، فغضب ثمّ قال: أما وجد عتبة رسولا غيرك؟ فقلت: أما و اللّه لو أرسلني غيره ما جئت، و لكن أبا الوليد سيّد العشيرة، فغضب غضبة اخرى فقال: تقول سيّد العشيرة، فقلت: أنا أقول و قريش كلّها تقول إنّه [قد]تحمّل العير و دم ابن الحضرمي.

فقال: إنّ عتبة أطول الناس لسانا، و أبلغهم في الكلام، و يتعصّب لمحمد، فإنّه من بني عبد مناف، و ابنه معه، و يريد أن لا يخذله بين الناس، لا و اللاّت و العزّى حتّى نقحم عليهم بيثرب، و نأخذهم اسارى، فندخلهم مكّة، و تتسامع العرب بذلك، فلا يكون بيننا و بين متجرنا أحد نكرهه. و بلغ أصحاب رسول اللّه كثرة قريش، ففزعوا فزعا شديدا، و شكوا و بكوا و استغاثوا، الخبر (2).

و في رواية عاميّة: أنّهم لمّا علموا أنّه لا بدّ من القتال، جعلوا يدعون اللّه قائلين: أي ربّ انصرنا على عدوّك، يا غياث المستغيثين أغثنا (3).

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى المشركين و هم ألف و إلى أصحابه و هم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، فاستقبل القبلة و مدّ يديه يدعو و يقول: اللّهم أنجر [لي]ما وعدتني، اللّهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فما زال كذلك حتّى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه و التزمه من ورائه، و قال: يا نبيّ اللّه كفاك منا شدتك ربّك، فإنّه سينجز ما وعدك (4).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 10 الی 11

ص: 66


1- . في المصدر: بذلك و ما على أحد.
2- . تفسير القمي 1:260، تفسير الصافي 2:275.
3- . تفسير روح البيان 3:317.
4- . تفسير روح البيان 3:318.

فذكّرهم سبحانه ذلك الوقت بقوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ و تسالونه النّصر و الغلبة على عدوّكم فَاسْتَجابَ لَكُمْ و أنجح مسألتكم بأن أوحى إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله أَنِّي مُمِدُّكُمْ و مؤيّدكم بِأَلْفٍ مقاتل مِنَ اَلْمَلائِكَةِ حال كونهم مُرْدِفِينَ و متتابعين بعضهم إثر بعض، أو متابعين للمسلمين.

ثمّ نبّه سبحانه على غناه في نصر المسلمين عن الملائكة، و إنّما كان إنزالهم ليراهم المسلمون فتطمئنّ بهم قلوبهم، و يفرحوا برؤية أنصارهم، بقوله: وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ أيّها المسلمون و ما أنزلهم إِلاّ ليكون نزولهم بُشْرى لكم و موجبا لسرور قلوبكم بمشاهدة سبب نصركم وَ لِتَطْمَئِنَّ بإمدادهم و تستقرّ بِهِ من التّزلزل الحاصل من الوجل من كثرتهم و شوكتهم، و قلّة عددكم و عدّتكم قُلُوبُكُمْ فإن نظركم إلى الأسباب وَ مَا اَلنَّصْرُ و الغلبة لأحد إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و بقدرته و إرادته إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و غالب على خلقه، و قويّ على إنفاذ إرادته بلا حاجة إلى شيء حَكِيمٌ في فعاله، مراع للمصالح فيها.

قيل: إنّ الملائكة لم يقاتلوا مستدلاّ بهذه الآية، و قيل: إنّهم قاتلوا و قتلوا مستدلاّ بالرّوايات.

روي عن ابن مسعود أنّه قال له أبو جهل: من أين الصّوت الذي كنّا نسمع و لا نرى شخصا؟ قال: هو من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم (1).

و روي أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربه بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك و قد خرّ مستلقيا و قد شقّ وجهه، فحدّث الأنصاري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: صدقت، ذاك من مدد السّماء (2).

ثمّ أنّه روى بعض أصحابنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نزل في موضع لا تثبت فيه القدم لكثرة الرّمل، فلمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جنّه اللّيل القي على أصحابه النّعاس حتّى ناموا، و احتلم في تلك اللّيلة بعضهم، فأنزل اللّه عليهم السماء، فذكّرهم اللّه سبحانه تلك المنّة بقوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ. . . (3).

و عن بعض العامّة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سار بأصحابه حتى نزلوا في كثيب أعفر-أي في تلّ من الرّمل الأحمر-تسوخ فيه الأقدام-أي تدخل فيه و تغيب-و على غير ماء، بالجانب الأقرب من المدينة من الوادي، و نزل المشركون بجانبه الأبعد من المدينة الأقرب إلى مكّة و الوادي بينهما، ثمّ

ص: 67


1- . تفسير الرازي 15:130.
2- . تفسير الرازي 15:130.
3- . تفسير القمي 1:261.

باتوا ليلتهم و ناموا، ثمّ استيقظوا و قد أجنب أكثرهم، و غلب المشركون على ماء بدر و ليس معهم ماء، فتمثّل لهم الشيطان فوسوس إليهم و قال: أنتم يا أصحاب محمّد تزعمون أنّكم على الحقّ، و أنّكم أولياء اللّه و فيكم رسوله، و أنّكم تصلّون على غير وضوء و على الجنابة، و قد عطشتم، و لو كنتم على الحقّ ما سبقكم المشركون إلى الماء، و ما غلبوكم عليه، و ما ينتظرون إلاّ أن يضعفكم العطش، فإذا قطع أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبّوا و ساقوا بقيّتكم إلى مكّة؛ فحزنوا حزنا شديدا و أشفقوا، فأنزل اللّه عليهم المطر ليلا حتّى سال الوادي و امتلأ من الماء، فاغتسل المسلمون و توضّأوا و شربوا و سقوا دوابّهم، و بنوا على عدوته-أي جانبه-حياضا، و اشتدّ الرّمل و تلبّدت بذلك أرضهم- و أوحلت أرض عدوّهم-حتّى ثبتت عليها الأقدام، و زالت وسوسة الشّيطان، فطابت نفوسهم، و قويت قلوبهم. و تهيّأوا للقتال من الغد (1).

فذكّرهم اللّه ذلك بقوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ و يحيط بكم اَلنُّعاسَ و النّوم الخفيف العارض في البدء؛ لأنّه وجدت قلوبكم أَمَنَةً من ضرر العدوّ لا كلالا و لا إعياء، و تلك الأمنة كانت مِنْهُ تعالى و بلطفه، لا بالأمارات و الأسباب العادية وَ يُنَزِّلُ اللّه عَلَيْكُمْ حال كونكم نائمين مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا مباركا لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من حدث الجنابة و غيره وَ يُذْهِبَ و يزيل عَنْكُمْ ذلك المطر رِجْزَ اَلشَّيْطانِ و وسوسته المخوّفة لكم، و الشّكوك العارضة لقلوبكم-و قيل: اريد بالرّجز الجنابة- وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ و يقوّيها بالثّقة بلطفه و تأييده وَ يُثَبِّتَ بِهِ اَلْأَقْدامَ منكم على الأرض حتى تتمكّنوا و تقدروا على المشي و الكرّ بسهوله، و قيل: يعني يثبّت أقدامكم في الحرب.

عن القمّي رحمه اللّه: وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ اَلشَّيْطانِ و ذلك أنّ بعض أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله احتلم-إلى أن قال-و كان المطر على قريش مثل العزالي (2)، و كان على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رذاذا بقدر ما تلبّد به الأرض، و خافت قريش خوفا شديدا فأقبلوا يتحارسون و يخافون البيات، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّار بن ياسر و عبد اللّه بن مسعود فقال: «ادخلا في القوم و آتونا بأخبارهم» . فكانا يجولان بعسكرهم فلا يرون إلاّ خائفا ذعرا، إذا صهل الفرس و ثب على جحفلته (3)، فسمعوا منبّة بن الحجّاج يقول:

ص: 68


1- . تفسير روح البيان 3:320.
2- . العزالي: جمع عزلاء، و هي مصبّ الماء من القربة، كناية عن شدّته.
3- . الجحفلة: شفة الفرس، بمعنى أنه يريد إسكانه عن الصهيل.

لا يترك الجوع لنا مبيتا *** لا بدّ أن نموت أو نميتا

قالوا (1): و اللّه كانوا شباعا، و لكنّهم من الخوف قالوا هذا، و ألقى اللّه في قلوبهم الرّعب، كما قال اللّه تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ (2).

فلمّا أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبّأ أصحابه، و كان في عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرسان، فرس للزّبير بن العوّام، و فرس لمقداد، و كان في عسكره سبعون جملا يتعاقبون عليها، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي بن أبي طالب عليه السّلام و مرثد بن أبي مرثد الغنوي على جمل يتعاقبون عليه و الجمل لمرثد، و كان في عسكر قريش أربعمائة فرس، فعبّأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بين يديه فقال: «غضّوا أبصاركم، و لا تبتدروهم بالقتال، و لا يتكلّمنّ أحد» .

فلمّا نظرت قريش إلى قلّة أصحاب رسول اللّه قال أبو جهل: ما هم إلاّ أكلة رأس (3)، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد، فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كمينا و مددا؟ فبعثوا عمرو (4)بن وهب الجحمي، و كان فارسا شجاعا، فجال بفرسه حتى طاف [على]عسكر رسول اللّه، ثمّ صعد في الوادي و صوّت، ثمّ رجع إلى قريش فقال: ما لهم كمين و لا مدد، و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون يتلمّظون تلمّظ الافاعي، ما لهم ملجأ إلاّ سيوفهم، و ما أراهم يولّون حتّى يقتلوا، و لا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم، فارتأوا رأيكم. فقال له أبو جهل: كذّبت و جبنت و انتفخ سحرك (5)حين نظرت إلى سيوف أهل يثرب.

و فزع أصحاب رسول اللّه حين نظروا إلى كثرة قريش و قوّتهم، فأنزل اللّه على رسوله وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ (6)، و قد علم اللّه أنّهم لا يجنحون و لا يجيبون إلى السّلم، و إنّما أراد بذلك تطييب قلوب أصحاب النبيّ، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى قريش فقال: «يا معشر قريش، ما أحد [من العرب]أبغض إليّ من أن أبدأكم، فخلّوني و العرب، فإن أك صادقا فأنتم أعلا بي عينا، و إن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري؛ فارجعوا» .

فقال عتبة: و اللّه ما أفلح قطّ الذين ردّوا هذا. ثمّ ركب جملا له أحمر، فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يجول في العسكر و ينهى عن القتال، فقال: «إن يكن عند أحد خير، فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا» .

ص: 69


1- . في تفسير القمي: قال صلّى اللّه عليه و آله.
2- . الأنفال:8/12.
3- . أي قليل يشبعهم رأس واحد.
4- . في القمي: عمر.
5- . السّحر: كلّ ما تعلّق بالحلقوم من قلب ورثة، بمعنى: خفت و جبنت.
6- . الأنفال:8/61.

فأقبل عتبة يقول: يا معشر قريش، اجتمعوا و اسمعوا، ثمّ خطبهم فقال: يمن مع رحب، و رحب مع يمن، يا معشر قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدّهر، و ارجعوا إلى مكّة و [اشربوا]الخمور و عانقوا الحور، فإنّ محمدا له إلّ و ذمّة و هو ابن عمّكم، فارجعوا و لا تردّوا قولي (1)، و إنّما تطالبون محمّدا بالعير التي أخذها بنخلة، و دم ابن الحضرمي و هو حليفي و عليّ عقله (2).

فلمّا سمع أبو جهل ذلك غاظه و قال: إنّ عتبة أطول الناس لسانا و أبلغهم كلاما، ثم قال: يا عتبة، نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب و جبنت و انتفخ سحرك، و تأمر النّاس بالرّجوع و قد رأينا ثارنا بأعيننا، فنزل عتبة عن جمله و حمل على أبي جهل، و كان على فرس، فأخذ بشعره فقال النّاس: يقتله (3)، فقال: أمثلي يجبن؟ ! و ستعلم قريش اليوم أيّنا ألأم و أجبن، و أيّنا المفسد لقومه، لا يمشي إلاّ أنا و أنت إلى الموت عيانا، ثمّ قال:

هذا جناي و خياره فيه و كلّ جان يده إلى فيه.

ثمّ أخذ بشعره يجرّه، فاجتمع إليه النّاس فقالوا: يا أبا الوليد، اللّه [اللّه]لا تفتّ في أعضاد النّاس، تنهى عن شيء و تكون أوّله، فخلّصوا أبا جهل من يده.

فنظر عتبة إلى أخيه شيبة و نظر إلى ابنه الوليد فقال: قم يا بني، فقام ثمّ لبس درعه، و طلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوها لعظم هامته، فاعتمّ بعمامتين، ثمّ أخذ سيفه و تقدّم هو و أخوه شيبة و ابنه الوليد و نادى: يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش، فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار: عوذ (4)و معوّذ و عوف [من]بني عفراء فقال عتبة: من أنتم؟ انتسبوا لنعرفكم. فقالوا: نحن بنو عفراء أنصار اللّه و أنصار رسول اللّه، فقال: ارجعوا فإنّا لسنا إيّاكم نريد، إنّما نريد الأكفاء من قريش، فبعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «أن ارجعوا» فرجعوا، و كره أن يكون أولّ الكرّة بالأنصار، فرجعوا و وقفوا موقفهم.

ثمّ نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب؛ و كان له سبعون سنة، فقال له: «قم يا عبيدة» ، فقام بين يديه بالسّيف، ثمّ نظر إلى حمزة بن عبد المطّلب فقال: «قم يا عمّ» ، ثمّ نظر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له: «قم يا عليّ» ؛ و كان أصغر القوم سنّا فقال: «اطلبوا بحقّكم الذي جعله اللّه لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها و فخرها تريد أن تطفئ نور اللّه و يأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره» .

ثمّ قال: «يا عبيدة عليك بعتبة» ، و قال لحمزة: «عليك بشيبة» ، و قال لعليّ عليه السّلام: «عليك بالوليد بن عتبة» ، فمرّوا حتّى انتهو إلى القوم، فقال عتبة: من أنتم انتسبوا لنعرفكم. فقال عبيدة: أنا عبيدة بن

ص: 70


1- . في المصدر: رأيي.
2- . أي ديته.
3- . زاد في المصدر: فعرقب فرسه.
4- . في مغازي الواقدي 1:68 معاذ، بدل: عوذ.

الحارث بن عبد المطلب، فقال: كفؤ كريم. [فقال:]فمن هذان؟ فقال: حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب، فقال: كفؤان كريمان، لعن اللّه من أوقفنا و إيّاكم هذا الموقف، فقال شيبة لحمزة: من أنت؟ فقال: أنا حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه و أسد رسوله، فقال له شيبة: لقد لقيت أسد الحلفاء، فانظر كيف تكون صولتك يا أسد اللّه؟

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ففلق هامته، و ضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها و سقطا جميعا، و حمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسّيفين حتّى انثلما و كلّ واحد منهما يتّقي بدرقته، و حمل أمير المؤمنين عليه السّلام على الوليد بن عتبة فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه. فقال عليّ عليه السّلام: «فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي، فظننت أن السّماء وقعت على الأرض» . ثمّ اعتنق حمزة و شيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى الكلب قد بهر (1)عمّك، فحمل عليه علي عليه السّلام ثمّ قال: «يا عمّ طأطئ رأسك» و كان حمزة أطول من شيبة، فأدخل حمزة رأسه في صدره، فضربه أمير المؤمنين عليه السّلام على رأسه فطيّر نصفه، ثم جاء إلى عتبة و به رمق فأجهز عليه، و حمل عبيدة بين حمزة و علي حتّى أتوا به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستعبر، فقال: يا رسول اللّه، بأبي أنت و امّي، أ لست شهيدا؟ قال: «بلى، أنت أوّل شهيد من أهل بيتي» ، فقال: أما لو أنّ عمّك كان حيّا لعلم أنّي أولى بما قال منه، قال صلّى اللّه عليه و آله: و أيّ أعمامي تعني؟ قال: أبو طالب، حيث يقول:

كذبتم و بيت اللّه نبزى (2)محمدا *** و لمّا نطاعن دونه و نناضل

و نسلمه حتى نصرّع حوله *** و نذهل عن أبنائنا و الحلائل (3)

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أما ترى ابنه كاللّيث العادي بين يدي اللّه و رسوله، و ابنه الآخر في جهاد اللّه بأرض الحبشة؟» فقال: يا رسول [اللّه]، أسخطت عليّ في هذه الحالة؟ فقال: «ما سخطت عليك، و لكن ذكرت عمّي فانقبضت لذلك» .

و قال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا و لا تبطروا كما عجل و بطر ابناء ربيعة، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا، و عليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكّة، فنعرّفهم ضلالتهم التي كانوا عليها.

و كان فئة (4)من قريش أسلموا بمكّة فحبسهم آباؤهم، فخرجوا مع قريش إلى بدر و هم على الشكّ و الارتياب و النّفاق؛ منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو قيس بن الفاكهة، و الحارث بن ربيعة،

ص: 71


1- . بهر: أي أجهده حتى تتابع نفسه.
2- . أي نسلب، و أراد لا نبزى.
3- . ديوان أبي طالب عليه السّلام:25.
4- . في تفسير القمي: فتية.

و علي بن اميّة بن خلف، و العاص بن المنبّة، فلمّا نظروا إلى قلّة أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله قالوا: مساكين هؤلاء غرّهم دينهم فيقتلون السّاعة.

إلى أن قال: فجاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا جار لكم، ادفعوا إليّ رايتكم؛ فدفعوها إليه، و جاء بشياطينه يهوّل بهم على أصحاب رسول اللّه، و يخيّل إليهم و يفزعهم، و أقبلت قريش يقدمها إبليس معه الرّاية، فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لأصحابه: «غضّوا أبصاركم و عضّوا على النّواجذ، و لا تسلّوا سيفا حتّى آذن لكم» ثمّ رفع يده إلى السماء فقال: «يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، و إن شئت أن لا تعبد» لا تعبد، ثمّ أصابه الغشيّ فسرّي عنه و هو يسلت (1)العرق عن وجهه و يقول: «هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين» . قال: فنظرنا فإذا بسحابة [سوداء]فيها برق لائح قد وقعت على عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قائل يقول: أقدم حيزوم، [أقدم حيزوم]و سمعنا قعقعة السّلاح من الجو. الخبر (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ ذكّر اللّه المسلمين وقت الرّبط على قلوبهم و تثبيت أقدامهم بقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ قيل: إنّ التقدير: اذكر وقتا يوحي ربّك (3)إِلَى اَلْمَلائِكَةِ المأمورين بنصرة المؤمنين إِنِّي مَعَكُمْ بالنّصر و العون، و قيل: إنّ التقدير: أن قولوا للمؤمنين بالإلهام أو بتوسّط الرّسول: إنّ اللّه معكم فَثَبِّتُوا أيّها الملائكة اَلَّذِينَ آمَنُوا في معركة القتال و النّزال بتقوية قلوبهم و إيمانهم، و بشارتهم بالنّصر، و تكثير سوادهم، و قولوا لهم: إنّي سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ منهم، و الخوف من سطوتهم فَاضْرِبُوا أيّها الملائكة، أو المؤمنون فَوْقَ اَلْأَعْناقِ و أعاليها التي هي المذابح وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ و أصابع. و قيل: إنّ المراد ضرب جميع الأعضاء من أعاليها و أسافلها.

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْناقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ اَلنّارِ (14)ذلِكَ المذكور من إلقاء الرّعب في قلوب الكفّار، و ضرب أعضائهم بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا و عاندوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و عارضوهما وَ مَنْ يُشاقِقِ و يعاند و يعارض اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و يسعى في إطفاء

ص: 72


1- . أي يمسحه و يزيله.
2- . تفسير القمي 1:261، تفسير الصافي 2:277.
3- . تفسير روح البيان 3:321.

نورهما فَإِنَّ اَللّهَ يعاقبه عقابا شديدا، لكونه تعالى شَدِيدُ اَلْعِقابِ على من أشرك به و عاده، و عادى أولياءه، و ما نزل بهم في [هذا]اليوم قليل [إذا قيس]بما أعدّ لهم و حكم في حقّهم.

ذلِكُمْ العذاب العاجل من القتل و الخزي، أيّها الكفار فَذُوقُوهُ و اطعموا طعمه في الدّنيا وَ اعلموا أَنَّ لِلْكافِرِينَ في الآخرة عَذابَ اَلنّارِ الذي يكون ما نزل بكم بالنّسبة إليه يسيرا في الغاية.

القمّي رحمه اللّه: و خرج أبو جهل بين الصفّين فقال: اللّهم إنّ محمدا قطعنا الرحم و أتانا بما لا نعرفه فأهنه الغداة-إلى أن قال القمّي: -ثمّ أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفّا من حصى فرمى به في وجوه قريش و قال: «شاهت الوجوه» ، فبعث اللّه رياحا تضرب وجوه قريش، فكانت الهزيمة (1)، فقتل منهم سبعون و اسر سبعون.

و التقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل، فضرب [عمرو]أبا جهل على فخذه، و ضرب أبو جهل عمرا على يده، فأبانها من العضد فتعلّقت بجلدة، فاتّكأ عمرو على يده برجله، ثمّ نزا (2)في السّماء حتى انقطعت الجلدة و رمى بيده.

و قال عبد اللّه بن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل و هو يتشحّط بدمه، فقلت: الحمد للّه الذي أخزاك، فرفع رأسه فقال: إنّما أخزى عبد بن امّ عبد (3)، لمن الدّين، و لمن الملك [ويلك]؟ قلت: للّه و لرسوله، و إنّي قاتلك، و وضعت رجلي على عنقه، فقال: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، أما إنّه ليس شيء أشدّ من قتلك إيّاي في هذا اليوم، لا يولي قتلي إلاّ رجل من المطلبيين (4)أو رجل من الأحلاف، فقلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته، و أخذت رأسه و جئت به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: يا رسول اللّه البشرى، هذا رأس أبي جهل، فسجد للّه شكرا.

و أسر أبو بشر الأنصاري العباس بن عبد المطلب و عقيل بن أبي طالب، و جاء بهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له صلّى اللّه عليه و آله: «هل أعانك عليهما أحد؟» قال: نعم، رجل عليه ثياب بيض، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ذاك من الملائكة. ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعباس: «افد نفسك و ابن أخيك» ، فقال: يا رسول

ص: 73


1- . زاد في المصدر: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اللهم لا يفلتن فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام» .
2- . نزا: وثب.
3- . في المصدر: إنّما أخزى اللّه عبد بن امّ عبد اللّه.
4- . في المصدر: هذا اليوم ألا تولى قتلى رجل من المطمئنين، و لعل الصواب: المطيّبين، و حلف المطيّبين: اجتمع بنو هاشم و بنو زهرة و تيم في دار ابن جذعان في الجاهلية، و جعلوا طيبا في جفنة و غمسوا أيديهم فيه، و تحالفوا على التناصر و الأخذ للمظلوم من الظالم فسموا المطيّبين، و تعاقدت بنو عبد الدار مع جمح و مخزوم و عديّ و كعب و سهم هلفا آخر مؤكّدا، فسمّوا الأحلاف لذلك. النهاية 3:149.

اللّه، قد كنت أسلمت، و لكنّ القوم استكرهوني، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اللّه أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقّا فاللّه يجزيك عليه، فأمّا ظاهر أمرك فقد كنت علينا» . ثم قال: «يا عباس، إنّكم خاصمتم اللّه فخصمكم» ، ثمّ قال: «افد نفسك و ابن أخيك» و قد كان العباس أخذ معه أربعين اوقية من ذهب، فغنمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا قال رسول اللّه [للعباس]: «افد نفسك و ابن اخيك» قال: يا رسول اللّه، احسبها من فدائي، فقال رسول اللّه: «لا، ذاك شيء أعطانا اللّه منك، فافد نفسك و ابن أخيك» ، فقال العبّاس: ليس لي مال غير الذي ذهب منّي، قال: «بلى، المال الذي خلّفته عند امّ الفضل بمكّة، و قلت لها: إن حدث عليّ حدث فاقسموه بينكم» ، فقال له: تتركني (1)و أنا أسأل النّاس بكفّي؟ !

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعقيل: «قد قتل اللّه أبا جهل بن هشام، و عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و منبّه و نبيه ابني الحجّاج، و نوفل بن خويلد، و أسر سهيل بن عمرو، و النّضر بن الحارث بن كلدة، و عقبة بن أبي معيط، و فلان و فلان» ، فقال عقيل: إذا لا تنازع في تهامة، فان كنت أثخنت القوم و إلاّ فاركب أكتافهم، فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

إلى أن قال القمّي رحمه اللّه: فجمعوا الاسارى و فرّقوهم في الجمال (2)، و ساقوهم على أقدامهم، و جمعوا الغنائم. و قتل من أصحاب رسول اللّه تسعة رجال؛ فيهم سعد بن خيثمة، و كان من النقباء.

فرحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل الأثيل عند غروب الشمس، و هو من بدر على ستّة أميال، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عقبة بن أبي معيط و إلى النّضر بن الحارث، و هما في قران واحد، فقال النّضر لعقبة: أنا و أنت مقتولان، فقال عقبة: من بين قريش؟ قال: نعم، لأنّ محمّدا قد نظر إلينا نظرة رأيت فيها القتل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ علىّ بالنّضر و عقبة» و كان النّضر رجلا جميلا، عليه شعر، فجاء علي عليه السّلام فأخذ بشعره، فجرّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال النّضر: يا محمّد أسألك بالرّحم التي بيني و بينك إلاّ أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني، و إن فاديتهم فاديتني، و إن أطلقتهم أطلقتني، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا رحم بيني و بينك، قطع اللّه [الرّحم]بالإسلام. قدّمه يا عليّ فاضرب عنقه» . [فقدّمه و ضرب عنقه].

فقال عقبة: [يا محمّد]ألم تقل: «لا تصبر قريش» -أي لا يقتلون صبرا-قال: «أو أنت من قريش؟ ! إنّما أنت علج من أهل صفّورية (3)، لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له، قدّمه يا عليّ

ص: 74


1- . في المصدر: ما تتركني إلاّ.
2- . كذا في النسخة و الصافي، و في تفسير القمي: و قرنوهم في الجمال، و لعلّه تصحيف: و قرنوهم في الحبال.
3- . صفّورية: بلدة بالأردن.

فاضرب عنقه» ، فقدّمه فضرب عنقه (1).

و عن ابن عباس: سوّى أصحاب رسول اللّه صفوفهم و قدّموا راياتهم، فوضعوها مواضعها، فوقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على بعير له يدعو اللّه و يستغيث، فهبط جبرئيل في خمسمائة على ميمنتهم، و ميكائيل في خمسمائة على ميسرتهم، فكان الملك يأتي الرّجل من المسلمين على صورة رجل و يقول له: دنوت من عسكر المشركين فسمعتهم يقولون: و اللّه لئن حملوا علينا لا نثبت لهم أبدا، فألقى اللّه في قلوب الكفرة الرّعب بعد قيامهم للصفّ (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ لمّا ذكر اللّه نعمته على أهل بدر بالثّبات و الاستقامة في الحرب، أمر المسلمين كافّة بالثّبات في مطلق جهاد الكفّار بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ و صادفتم اَلَّذِينَ كَفَرُوا في أيّ وقت و أيّ مكان، حال كونهم زَحْفاً و مقبلين إليكم للقتال فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ و لا تجعلوا ظهوركم نحوهم فضلا عن الفرار، و إن كانوا أضعافكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (16)ثمّ هدّدهم سبحانه على الفرار بقوله: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ و حين التقائهم دُبُرَهُ و جعل ظهره نحوهم بأيّ داع من الدّواعي إِلاّ أن يكون المولّي مُتَحَرِّفاً و مائلا إلى طائفة اخرى لِقِتالٍ أو إلى جهة اخرى ليتخيّل الكافر أنّه انهزم فيتعاقبه و يبعد عن أعوانه، ثمّ يكرّ عليه وحده أَوْ يكون مُتَحَيِّزاً و متوجّها إِلى فِئَةٍ و جماعة من المسلمين ليستعين بهم، فليس المولّي في هاتين الصّورتين فارّا من القتال، بل هو متهيّئ و متقوّ للحرب، و من تولّى لغير هذين الغرضين فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ شديد كائن مِنَ اَللّهِ القاهر الغالب، و أثر هذا الغضب أن يكون منزله وَ مَأْواهُ في الآخرة النّار الموقدة بذلك الغضب، تسمّى جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ و المرجع تلك، فلا ترجعوا من مقابل الكفّار إلى مأوى تأمنون فيه من القتل حتّى لا تبتلوا بالرّجوع إلى مأوى من النّار.

عن الكاظم عليه السّلام، إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ قال: «متطرّدا يريد الكرّة عليهم أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ يعني متأخّرا إلى أصحابه من غير هزيمة، فمن انهزم حتّى يجوز صفّ أصحابه فقد باء بغضب من اللّه» (3).

ص: 75


1- . تفسير القمي 1:267، تفسير الصافي 2:283.
2- . تفسير روح البيان 3:322.
3- . تفسير العياشي 2:188/1711، تفسير الصافي 2:286.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ قوّى سبحانه قلوب المؤمنين في الجهاد ببيان أنّه هو القاهر للأعداء و قاتلهم و هازمهم كما قتلهم و هزمهم ببدر، بقوله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ في غزوة بدر بقوّتكم و قدرتكم وَ لكِنَّ اَللّهَ بقدرته قَتَلَهُمْ حيث قوّى قلوبكم، و أزال عنكم الخوف، و أيّدكم بالملائكة، و ألقى في قلوبهم الرّعب وَ ما رَمَيْتَ الحصى أو التراب في وجوه قريش يوم بدر إِذْ رَمَيْتَ الحصى أو التّراب يا محمّد وَ لكِنَّ اَللّهَ في الحقيقة رَمى حيث إنّه أمرك بالرّمي، و أوصل الحصاة إلى عيون المشركين.

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكافِرِينَ (18)روي أنّه لمّا طلعت قريش من العقنقل-و هو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي-قال صلّى اللّه عليه و آله: «اللّهم هذه قريش جاءت بخيلائها و فخرها، يكذّبون رسولك، اللّهم إنّي أسألك ما وعدتني» فأتاه جبرئيل فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلمّا التقى الجمعان قال لعليّ عليه السّلام: «أعطني من صباء الوادي» ، فرمى بها في وجوههم و قال: «شاهت الوجوه» -أي قبحت-فما من المشركين أحد إلاّ أصاب عينيه و منخريه تراب، فانهزموا و ردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم، ثمّ لمّا انصرفوا من المعركة غالبين غانمين، أقبلوا على التّفاخر يقولون: قتلت و أسرت و فعلت و تركت، فنزلت (1).

فحاصل الآية أنّ الرّمي و إن كان بيدك، إلاّ أن إيصال ذرّات الحصى في وجوه جميع المشركين؛ بحيث لم يبق فيهم عين إلاّ أصابها منه، لم يكن إلا بقدرة اللّه تعالى و على خلاف العادة.

و إنّما فعل ذلك ليمحق الكافرين وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ و يمتحنهم مِنْهُ بَلاءً و امتحانا حَسَناً ليعلم أنّهم يقومون بشكره أم لا. و قيل: يعني: لينعم عليهم نعمة عظيمة من النّصر و الغلبة و مشاهدة الآيات إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ لدعائهم و استغاثتهم عَلِيمٌ بنيّاتهم و صفاء ضمائرهم، و انقطاعهم عن الأسباب.

ذلِكُمْ البلاء الحسن للمؤمنين إحدى العلل، و الثانية: أن يعلم المؤمنون أنّ اللّه مؤيّدهم وَ أَنَّ اَللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكافِرِينَ و مبطل حيلهم في إطفاء نور الحقّ، و الإخلال في أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: نزل قوله: وَ ما رَمَيْتَ في يوم خيبر، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوسا و هو على باب خيبر فرمى سهما، فأقبل السّهم حتّى قتل ابن أبي الحقيق، فنزلت (2).

ص: 76


1- . تفسير روح البيان 3:325.
2- . تفسير الرازي 15:140.

و قيل: نزلت في أحد، و ذلك أنّه أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلف بعظم رميم و قال: يا محمد، من يحيي هذا و هو رميم؟ فقال عليه السّلام: يحييه اللّه [ثم يميتك، ثم يحيك]، ثمّ يدخلك النّار» فأسر يوم بدر، فلمّا افتدي قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن عندي فرسا أعتلفها كلّ يوم فرقا (1)من ذرة كي أقتلك عليها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل أنا أقتلك إن شاء اللّه» .

فلمّا كان يوم أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتّى دنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «استأخروا» ، و رماه بحربة فكسر ضلعا من أضلاعه، فحمل فمات ببعض الطّريق، فنزلت (2).

ثمّ أنّه روي أنّ أهل مكّة لمّا أرادوا الخروج إلى بدر تعلّقوا بأستار الكعبة و قالوا: اللّهم انصر أعلى الجندين، و أهدى الفئتين، و أكرم الحزبين، و أفضل الدّينين (3).

و روي أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللّهم انصر أفضل الفريقين و أحقّهما بالنّصر، اللّهم أيّنا أقطع للرّحم و أفسد للجماعة فاقتله (4).

[سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 19]

فبيّن اللّه استجابة دعائهم في حقّ المؤمنين بقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا و تسنصروا يا أهل مكّة لأعلى الجندين فَقَدْ جاءَكُمْ من قبل اللّه اَلْفَتْحُ و النّصرة. و ذلك على سبيل التّهكّم. و قيل: إنّ التهكم في إطلاق الفتح على الهزيمة و الخزي.

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ اَلْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ (19)ثمّ وعظهم بقوله: وَ إِنْ تَنْتَهُوا و ترتدعوا عن الكفر و العناد و العصيان فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من البقاء عليها و الابتلاء بالحرب وَ إِنْ تَعُودُوا إلى محاربة الرّسول نَعُدْ إلى نصرته و تأييده، و خذلانكم و قهركم وَ لَنْ تُغْنِيَ و لن تكفّ، أو لن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ و جماعتكم التي تجمعونها شَيْئاً من الإغناء وَ لَوْ كَثُرَتْ الفئة عددا و عدّة وَ اعلموا أَنَّ اَللّهَ بالنّصر و العون مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ بتوحيده و برسوله و كتابه.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 20 الی 23

ص: 77


1- . الفرق: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع.
2- . تفسير الرازي 15:140.
3- . تفسير الرازي 15:142.
4- . تفسير روح البيان 3:328.

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالثّبات في جهاد الكفّار و التّهديد على التولّي عنهم، أمر بالثّبات في طاعة الرّسول، و عدم التولّي عنه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في جميع أوامره و نواهيه وَ لا تَوَلَّوْا و لا تعرضوا عَنْهُ و لا تخالفوه في شيء من الامور وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن الذي أنزله اللّه عليه، الدالّ على نبوّته باشتماله على معاجز كثيرة، الناطق بوجوب طاعته وَ لا تَكُونُوا أيّها المؤمنون كَالَّذِينَ إذا تليت عليهم آيات اللّه قالُوا بألسنتهم: سَمِعْنا تلك الآيات سماع فهم و قبول وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع القبول عن صميم القلب، و لا ينتفعون بها شيئا، بل يستهزئون بها سرّا إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ و الحيوانات التي تدبّ و تتحرّك في الأرض، أو البهائم التي تمشي على أربع، و أخسّها عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه اَلصُّمُّ الّذين لا يسمعون الحقّ و اَلْبُكْمُ الذين لا ينطقون به اَلَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ الحقّ و لا يدركونه و لا يميّزون بينه و بين الباطل، فمن لم يسمع الآيات الإلهيّة سماع القبول، و لم يفهمها حقّ الفهم، فهو شرّ منهم عند اللّه، و إنّما كان اتّصافهم بتلك الرّذائل لعدم الخير فيهم أصلا وَ لَوْ عَلِمَ اَللّهُ فِيهِمْ خَيْراً سيّما من جهة قابليّة الذّات و طيب الطينة لَأَسْمَعَهُمْ الآيات و المواعظ، و فهّمهم معانيها و حقائقها وَ لكن خبثت ذاتهم و طينتهم بحيث لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا عن قبولها، و ما انتفعوا من سماعها وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عنها غير معتنين بها لعنادهم.

عن الباقر عليه السّلام: نزلت في بني عبد الدّار، لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير، و حليف لهم يقال له سويبط» (1).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 24

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بإجابة دعوة الرّسول و طاعته بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ و بادروا إلى قبول دعوتهما إِذا دَعاكُمْ الرّسول المبلّغ عن اللّه لِما يُحْيِيكُمْ حياة الأبد من المعارف الإلهيّة، و العلوم الحقّة، و محاسن الأخلاق، و الأعمال الصّالحة، فإنّ جميعها سبب حياة القلب التي لا موت بعدها.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

ص: 78


1- . مجمع البيان 4:818، تفسير الصافي 2:288، و في النسخة: سويط، بدل سويبط، راجع: أسد الغابة 2:376، قاموس الرجال 5:339/3465.

و قيل: هو الدّعوة إلى الإيمان و قيل: إلى القرآن: و قيل: إلى الجهاد الذي هو سبب الشهادة التي بها الحياة الأبديّة.

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في ولاية علي عليه السّلام» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «ولاية علي عليه السّلام، فإنّ اتّباعكم إيّاه و ولايته أجمع لأمركم و أبقى للعدل فيكم» . و القمّي: الحياة: الجنّة (2).

ثمّ هدّد على ترك الأجابة بالخذلان في الدّنيا بقوله: وَ اِعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّ اَللّهَ قريب منكم و أنتم في قبضة قدرته بحيث يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ و نفسه و إرادته، بأن يصرفه عنها.

القمي: أي يحول بينه و بين ما يريد (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «يحول بين المؤمن و معصيته أن تقوده إلى النار» و بين الكافر و بين طاعته أن يستكمل بها الإيمان، و اعلموا أنّ الأعمال بخواتيمها» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «يحول بينه و بين أن يعلم أنّ الباطل حقّ» (3).

و عنه عليه السّلام: «معناه لا يستيقن القلب أنّ الحقّ باطل أبدا، و لا يستيقن القلب أنّ الباطل حقّ أبدا» (4).

و عنه عليه السّلام: «هو أن يشتهي الشيء، بسمعه و بصره و لسانه و يده، فإن هو غشي شيئا ممّا (5)يشتهيه فإنّه لا يأتيه إلاّ و قلبه منكر لا يقبل الذي يأتيه لأنّه (6)يعرف أنّ الحقّ ليس فيه» (7).

أقول: كان في عبارة الرّواية-بنظري-الاغتشاش، فغيّرتها إلى ما فهمت من معناها.

و عن الباقر عليه السّلام: «هذا الشيء يشتهيه الرّجل بقلبه و سمعه و بصره، لا تتوق نفسه إلى غير ذلك، فقد حيل بينه و بين قلبه، فلا يتوجّه إلى ذلك الشيء» (8).

أقول: الظاهر أنّ التّهديد فيه بالخذلان و صرف القلب عن إرادة الخير.

ثمّ هدّدهم بعذاب الآخرة بقوله: وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيامة من القبور فيجازيكم على أعمالكم، و يعاقبكم على عصيانكم أوامر الرّسول و نواهيه، و عدم إجابتكم دعوته، فسارعوا إلى طاعته، و بادروا إلى إجابته.

ص: 79


1- . الكافي 8:248/349، تفسير الصافي 2:289. (2 و 3) . تفسير القمي 1:271، تفسير الصافي 2:289.
2- . تفسير القمي 1:271، تفسير الصافي 2:289.
3- . تفسير العياشي 2:189/1716، التوحيد:358/6، تفسير الصافي 2:289.
4- . تفسير العياشي 2:190/1719، مجمع البيان 4:820، تفسير الصافي 2:289.
5- . في تفسير العياشي: أما إنّه لا يغشى شيئا منها، و إن كان.
6- . في تفسير العياشي: الذي يأتي.
7- . تفسير العياشي 2:189/1717، تفسير الصافي 2:289.
8- . تفسير العياشي 2:189/1718، تفسير الصافي 2:289.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 25

ثمّ هدّدهم بابتلائهم بالفتن و البلايا في الدّنيا بقوله: وَ اِتَّقُوا أيّها المؤمنون بطاعة الرّسول فِتْنَةً و بلاء عامّا لا تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا و عصوا الرّسول مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تعمّهم و غيرهم ممّن أطاع؛ كافتراق الكلمة، و ظهور البدع.

وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (25)عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «أصابت النّاس فتنة بعد ما قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى تركوا عليّا و بايعوا غيره، و هي الفتنة التي فتنوا بها، و قد أمرهم رسول اللّه باتّباع عليّ و الأوصياء من آل محمّد» (1).

و عن ابن عبّاس: لمّا نزلت قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوّتي و نبوّة الأنبياء قبلي» (2).

و عن القمّي: نزلت في طلحة و الزبير لمّا حاربا عليا عليه السّلام [و ظلموه] (3).

و عن الحسن: نزلت في عليّ و عمّار، و طلحة و الزّبير، و هو يوم الجمل خاصّة (4).

روى الفخر الرازي: أنّ الزّبير كان يسامر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما، إذ أقبل عليّ فضحك إليه الزّبير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كيف حبّك لعليّ؟» فقال: يا رسول اللّه، أحبّه كحبّي لولدي أو أشدّ، فقال: «كيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟» (5)

و قيل: نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل (4).

و عن الحدّادي في تفسيره: نزلت في عثمان و علي عليه السّلام، أخبر اللّه تعالى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالفتنة التي تكون بسببهما، قال: إنّها ستكون بعدك تلقاها أصحابك، تصيب الظّالم و المظلوم، و لا تكون للظلمة وحدهم خاصّة، و لكنها عامّة. فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك أصحابه (5).

ثمّ بالغ في تهديدهم بعذاب الآخرة بقوله: اِعْلَمُوا أيّها النّاس أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ على من خالف اللّه و رسوله، و أهاج الفتن بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالأوّل و الثّاني و الثّالث.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 26

وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

ص: 80


1- . تفسير العياشي 2:190/1720، تفسير الصافي 2:289.
2- . مجمع البيان 4:822، تفسير الصافي 2:290.
3- . تفسير القمي 1:271، تفسير الصافي 2:290. (4 و 5) . تفسير الرازي 15:149.
4- . مجمع البيان 4:821، تفسير الرازي 15:149.
5- . تفسير روح البيان 3:333.

ثمّ أنّه تعالى بعد التّهديدات البليغة الأكيدة، رغّبهم في الطّاعة بقوله: وَ اُذْكُرُوا أيّها المؤمنون المهاجرون إِذْ أَنْتُمْ في بدء إسلامكم قَلِيلٌ من حيث العدد و العدّة مُسْتَضْعَفُونَ و مقهورون تحت أيدي كفّار قريش فِي اَلْأَرْضِ التي كنتم متوطّنين فيها؛ و هي مكّة، في حال تَخافُونَ من أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ و يستلبكم اَلنّاسُ و يذهبوا بكم و يقتلوكم فَآواكُمْ اللّه بلطفه و رحمته، و أسكنكم في المدينة وَ أَيَّدَكُمْ و قوّاكم بِنَصْرِهِ إيّاكم على الكفّار وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الغنائم اَلطَّيِّباتِ المحلّلات لكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النّعمة الجليلة بالقيام بطاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و إجابة دعوته.

القمّي: نزلت في قريش خاصّة (1).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 27

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بطاعته و طاعة رسوله و إجابتهما، نهى عن خيانتهما و غشّهما بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ و لا تغشّوهما.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حاصر بني قريظة إحدى و عشرين ليله، فسألوه الصّلح كما صالح إخوانهم بني النّضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات و أريحا من بلاد الشام، فأبى عليه السّلام إلاّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا و قالوا: أرسل إلينا إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، و كان مناصحا لهم لأنّ عياله [و ماله]كانت في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا: ما ترى، هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار [بيده]إلى حلقه [بالذبح]؛ أي إنّ حكم سعد فيكم أن تقتلوا صبرا، فلا تنزلوا على حكمه (2).

و روي عن الباقر عليه السّلام قريب منه: ثمّ قال: «فأتاه جبرئيل فأخبره بذلك، قال أبو لبابة: فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي خنت اللّه و رسوله. فنزلت الآية [فيه]، فلمّا نزلت شدّ نفسه على سارية من سواري المسجد و قال: و اللّه ما أذوق طعاما و لا شرابا حتّى أموت أو يتوب اللّه عليّ؛ فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاما و لا شرابا حتّى خرّ مغشيّا عليه، ثمّ تاب اللّه عليه» (3).

ص: 81


1- . تفسير القمي 1:271، تفسير الصافي 2:290.
2- . مجمع البيان 4:823، تفسير روح البيان 3:335، تفسير الصافي 2:290.
3- . مجمع البيان 4:824، تفسير الصافي 2:291.

القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «فخيانة اللّه و رسوله معصيتهما» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن خيانة نفسه و خيانة رسوله، نهى عن خيانة النّاس بقوله: وَ لا تَخُونُوا و لا تضيّعوا أَماناتِكُمْ و لا تفرّطوا فيها فيما بينكم وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حقيقة الخيانة و قبحها.

و من المعلوم أنّ من الأمانات أحكام اللّه و فرائضه التي ائتمن اللّه عباده عليها، كما عن الباقر عليه السّلام قال: «و أمّا خيانة الأمانة، فكلّ إنسان مأمون على ما فرض اللّه عليه» (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ لمّا كان الباعث إلى الخيانة حبّ المال و الأولاد، كما كان ذلك في نفس أبي لبابة، ذمّهما سبحانه بقوله: وَ اِعْلَمُوا [أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ ]

أَنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر رضى ربّه على هوى نفسه، و أطاع حكم اللّه، و راعى حدوده و إن كان على ضرره و ضرر أقاربه.

وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (29)عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يقولنّ أحدكم: اللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة؛ لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة، و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن، فإنّ اللّه سبحانه يقول: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» (3).

ثمّ بالغ سبحانه في التّرغيب إلى طاعته و طاعة رسوله و النّصح له بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ بالمواظبة على طاعته و طاعة رسوله، و النّصح لهما و ترك الخيانة في أماناتهما و أمانات النّاس يَجْعَلْ لَكُمْ بسبب ذلك في قلوبكم فُرْقاناً و نورا تميّزون به بين الحقّ و الباطل، أو يعرّفكم امورا تفرّقون بها بين المحقّ و المبطل. عن القمّي: يعني العلم الذي به تفرّقون بين الحقّ و الباطل (4).

وَ يُكَفِّرْ و يستر عَنْكُمْ في القيامة سَيِّئاتِكُمْ و زلاّتكم بأن يبدّلها بالحسنات وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم و معاصيكم بالعفو و التّجاوز عنها وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ و الإحسان الجسيم، و لذا يعطي الكثير بالقليل، و يزيدكم من الثّواب على ما وعدكم به من الجنّة و النّعم الدّائمة، و المقامات

ص: 82


1- . تفسير القمي 1:272، تفسير الصافي 2:291.
2- . تفسير القمي 1:272، تفسير الصافي 2:291، و فيهما: ما أفترض اللّه عزّ و جلّ عليه.
3- . مجمع البيان 4:824، تفسير الصافي 2:291.
4- . تفسير القمي 1:272، تفسير الصافي 2:292.

العالية.

[سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 30]

ثمّ ذكر سبحانه خيانة النّاس برسوله، و حفظه منها ليشكر نعمته، بقوله: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي قريش لِيُثْبِتُوكَ و يوقفوك في موضع لا تقدر [على]الخروج منه، أَوْ يَقْتُلُوكَ بأسيافهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكّة إلى غيرها وَ يَمْكُرُونَ و يدبّرون خفية في شأنك وَ يَمْكُرُ اَللّهُ و يدبّر في ردّ مكرهم عليهم وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ لا يردّ مكره شيء، و لا يعبا بمكر غيره عند مكره.

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ (30)روت العامّة أنّه لمّا رأت قريش أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد كانت له شيعة و أصحاب من غيرهم بغير بلدهم، و رأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنّهم قد نزلوا دارا و أصابوا سعة، فحذروا خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عرفوا أنّه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة؛ و هي الدّار التي بناها قصيّ بن كلاب بمكّة، و كانت قريش لا تقضي أمرا إلاّ فيها، و سمّيت دار النّدوة لأنّهم ينتدون فيها، أي يجتمعون للمشاورة، فتشاوروا في أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، منهم عتبة و شيبة ابنا ربيعة، و أبو جهل، و أبو سفيان و النّضر بن الحارث، و أبو البختري بن هشام، و أبيّ بن خلف، و زمعة بن الأسود، و غيرهم من الرّؤساء و الأكابر.

فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ كبير عليه ثياب أطمار فجلس بينهم، فقالوا: ما لك يا شيخ، دخلت في خلوتنا بغير إذننا؟ فقال: أنا رجل من أهل نجد قدمت مكّة، فأراكم حسنة وجوهكم، طيبة روائحكم، فأحببت أن أسمع حديثكم فاقتبس منكم خيرا فدخلت، و إن كرهتم مجلسي خرجت، و ما جئتكم إلاّ لأنّي سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضر معكم، و أن لا تعدموا (1)منّي رأيا و نصحا. فقالوا: هذا رجل لا بأس عليكم منه.

فتكلّموا فيما بينهم، فبدأ عمرو بن هشام فقال: أمّا أنا فأرى أن تأخذوا محمّدا فتجعلوه في بيت تسدّون عليه بابه، و تشدّون عليه وثاقه، و تجعلون له كوّة تدخلون عليه طعامه و شرابه، فيكون محبوسا إلى أن يموت، فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه و يخلّصه من أيديكم، فقالوا: صدق و اللّه الشيخ.

ص: 83


1- . في تفسير روح البيان: و لن تعدموا.

ثمّ تكلّم أبو البختري بن هشام فقال: أرى أن تحملوه على بعير فتشدّوا وثاقه عليه، ثمّ تخرجوه من أرضكم حتّى يموت أو يذهب حيث شاء، فقال إبليس: بئس الرأي، تعمدون إلى رجل أفسد جماعتكم، و معه منكم طائفة، فتخرجونه إلى غيركم، فيأتيهم فيفسد منهم أيضا جماعة بما يرون من حلاوة كلامه و طلاقة لسانه، و تجتمع إليه العرب و تستمع إلى حسن حديثه، ثمّ ليأتينّكم بهم فيخرجكم من دياركم و يقتل أشرافكم. فقالوا: صدق و اللّه الشيخ.

فتكلّم أبو جهل فقال: أرى أن يجتمع من كلّ بطن منكم رجل و يأخذون السّيوف فيضربونه جميعا ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا يدري قومه من يأخذون به، و لا يقومون على حرب قريش كلّهم، و إذا طلبوا العقل عقلناه و استرحنا، فقال إبليس: صدق و اللّه [هذا]الشاب، و هو أجودكم رأيا، القول قوله، فتفرّقوا على رأيه، فنزل جبرئيل فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و أمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، و أمره بالهجره إلى المدينة، فبيّت عليّا عليه السّلام على مضجعه، و خرج هو و أبو بكر إلى الغار (1).

و عن العيّاشي: عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّ قريشا اجتمعت فخرج من كلّ بطن اناس، ثمّ انطلقوا إلى دار النّدوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإذا شيخ قائم على الباب، فإذا ذهبوا ليدخلوا قال: أدخلوني معكم، قالوا: و من أنت يا شيخ؟ قال: أنا شيخ من مضر، ولي رأي اشير به عليكم، فدخلوا و جلسوا و تشاوروا و هو جالس، و أجمعوا أمرهم على أن يخرجوه، فقال: ليس هذا لكم برأي، إن أخرجتموه أجلب عليكم (2)النّاس فقاتلوكم، قالوا: صدقت، ما هذا برأي.

ثمّ تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه، قال: ليس هذا برأي، إن فعلتم هذا و محمّد رجل حلو اللّسان، أفسد عليكم أبناءكم و خدمكم، و ما ينتفع أحدكم إذا فارقه أخوه و ابنه و امرأته.

ثمّ تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه؛ يخرجون من كلّ بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعا عند الكعبة» . ثمّ قرأ هذه الآية: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ (3).

و عن القمّي: نزلت بمكّة قبل الهجرة، و كان سبب نزولها أنّه لمّا أظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الدّعوة بمكّة قدمت عليه الأوس و الخزرج، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تمنعوني و تكونون لي جارا حتّى أتلو عليكم كتاب ربّي و ثوابكم على اللّه الجنّة» ، فقال سعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد اللّه بن حزام: يا رسول اللّه، اشترط لربّك و لنفسك ما شئت، فقال لهم: «موعدكم العقبة في اللّيلة الوسطى من ليالي

ص: 84


1- . تفسير روح البيان 3:338.
2- . أجلب عليكم: جمع الناس عليكم و ألّبهم.
3- . تفسير العياشي 2:190/1722، تفسير الصافي 2:292.

التّشريق» . فحجّوا و رجعوا إلى منى، و كان فيهم ممّن قد حجّ بشر كثير، فلمّا كان الثاني من أيّام التّشريق قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان اللّيل فاحضروا دار عبد المطّلب على العقبة، و لا تنبّهوا نائما، و لينسلّ واحد فواحد» .

فجاء سبعون رجلا من الأوس و الخزرج فدخلوا الدّار، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تمنعوني و تجيروني حتّى أتلو عليكم كتاب ربّي و ثوابكم على اللّه الجنّة» ، فقال سعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد اللّه بن حزام: [نعم]يا رسول اللّه، اشترط لربّك و لنفسك ما شئت، فقال: «أمّا ما اشترط لربّي، فأن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا، و اشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم، و تمنعون أهلي ممّا تمنعون أهليكم و أولادكم» .

فقالوا: فما لنا على ذلك، فقال: «الجنّة في الآخرة، و تملكون العرب، و يدين لكم العجم في الدّنيا، و تكونون ملوكا في الجنّة» . فقالوا: قد رضينا.

فقال: أخرجوا إليّ [منكم]اثني عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك، كما أخذ موسى عليه السّلام من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، فأشار إليهم جبرئيل فقال: هذا نقيب و هذا نقيب؛ تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس، فمن الخزرج: سعد بن زرارة، و البرّاء بن معرور، و عبد اللّه بن حزام-أبو جابر بن عبد اللّه-، و رافع بن مالك، و سعد بن عبادة، و المنذر بن عمر، و عبد اللّه بن رواحة، و سعد بن الربيع، و عبادة بن الصامت و من الأوس: أبو الهيثم بن التيهان، و هو من اليمن، و اسيد بن حضير (1)، و سعد بن خيثمة.

فلمّا اجتمعوا و بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صاح إبليس: يا معشر قريش و العرب، هذا محمّد و الصّباة من أهل يثرب على جمرة العقبه يبايعونه على حربكم، فأسمع أهل منى، و هاجت قريش فأقبلوا بالسّلاح، و سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النّداء فقال للأنصار: «تفرّقوا» ، فقالوا: يا رسول اللّه، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا، [فعلنا]. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لم اؤمر بذلك، و لم يأذن اللّه لي في محاربتم» ، قالوا: أفتخرج معنا؟ قال: «انتظر أمر اللّه» ، فجاءت قريش على بكرة أبيها (2)، قد أخذوا السّلاح، و خرج حمزة و أمير المؤمنين عليه السّلام و معهما السّيف، فوقفا على العقبة، فلمّا نظرت قريش إليهما قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما تجمّعنا و ما هاهنا أحد، و اللّه لا يجوز هذه العقبة أحد إلاّ ضربته بالسيف.

فرجعوا إلى مكّة و قالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا و يدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمّد،

ص: 85


1- . في النسخة: اسيد بن حصين، تصحيف، راجع: اسد الغابة 1:92، معجم رجال الحديث 3:212.
2- . أي جاءوا جميعا.

فاجتمعوا في دار النّدوة، و كان لا يدخل في دار النّدوة إلاّ من أتى عليه أربعون سنة، فدخل أربعون رجلا من مشايخ قريش، فجاء إبليس في صورة شيخ كبير، فقال له البوّاب: من أنت؟ قال: أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم منّي رأي صائب، إنّي حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرّجل، فجئت لاشير عليكم. فقال: ادخل، فدخل إبليس.

فلمّا أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنّه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا، نحن أهل اللّه، تفد إلينا العرب في السّنة مرّتين و يكرموننا، و نحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا محمّد بن عبد اللّه، فكنّا نسميه الأمين لصلاحه و سكونه و صدق لهجته، حتّى إذا بلغ ما بلغ و أكرمناه ادّعى أنّه رسول اللّه، و أن أخبار السّماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا، و أفسد شباننا، و فرّق جماعتنا، و زعم أنّ من مات من أسلافنا ففي النّار، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، و قد رأيت [فيه]رأيا، قالوا: ما رأيت؟ قال: رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات.

فقال الخبيث: هذا رأي خبيث، قالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم، فإنّه إذا قتل [محمّد]تعصّبت بنو هاشم و حلفاؤهم من خزاعة، و إنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشى قاتل محمّد على الأرض، فتقع بينكم الحرب في حرمكم و تتفانون.

فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر، قال: و ما هو؟ قال: نثبته في بيت و نلقي إليه قوته حتّى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير و النابغة و امرئ القيس.

فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر، قال: كيف ذلك؟ قال: لأنّ بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم و اجتمعوا عليكم فأخرجوه.

و قال آخر: لا، و لكنّا نخرجه من بلادنا، و نتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا، قال إبليس: هذا أخبث من الرّأيين المتقدّمين، قالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأنّكم تعمدون إلى أصبح النّاس وجها، و أنطق النّاس لسانا و أفصحهم لهجة، فتحملونه إلى بوادي العرب فيخدعهم و يسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم إلاّ و قد ملأها عليكم خيلا و رجلا. فبقوا حائرين.

ثمّ قالوا لإبليس: فما الرأي فيه يا شيخ؟ قال: ما فيه إلاّ رأي واحد. قالوا: و ما هو؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد، يكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكّينة أو حديدة أو سيفا، فيدخلون عليه فيضربونه كلّهم ضربة واحدة، حتّى يتفرّق دمه في قريش كلّها، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه و قد شاركوا فيه، و إن سألوكم أن تعطوا الديّة فأعطوهم ثلاث ديات. فقالوا: نعم، عشر

ص: 86

ديات.

ثمّ قالوا: الرأي رأي الشيخ النّجدي. فاجتمعوا و دخل معهم في ذلك أبو لهب عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، و نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أخبره أنّ قريشا اجتمعت في دار النّدوة يدبّرون عليك، و أنزل عليه في ذلك وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ إلى آخره. و اجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، و خرجوا إلى المسجد يصفّرون و يصفّقون.

إلى أن قال: فلمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جاءوا ليدخلوا عليه، فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه باللّيل، فإنّ في الدّار صبيانا و نساء، و لا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فناموا حول حجرة رسول اللّه، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يفرش له ففرش له، فقال لعلي بن أبي طالب عليه السّلام: «أفدني بنفسك» ، قال: «نعم يا رسول اللّه» ، قال: «نم على فراشي، و التحف ببردتي» . فنام علي عليه السّلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التحف ببردته، و جاء جبرئيل فأخذ بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخرجه على قريش و هم نيام، و هو يقرا عليهم وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (1)، و قال له جبرئيل: خذ على طريق [ثور، و هو جبل على طريق]منى له سنام كسنام الثّور، فدخل الغار و كان من أمره ما كان.

فلمّا أصبحت قريش و ثبوا إلى الحجرة و قصدوا الفراش، فوثب عليّ عليه السّلام في وجوههم فقال: ما «شأنكم» ؟ قالوا: أين محمّد؟ قال: «أجعلتموني عليه رقيبا؟ أ لستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم» ، فأقبلوا يضربون أبا لهب و يقولون (2): أنت تخدعنا منذ اللّيلة، فتفرّقوا في الجبال، و كان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفو الآثار، فقالوا: يا أبا كرز، اليوم اليوم. فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: هذه قدم محمّد، و اللّه لاخت القدم التي في المقام، و كان أبو بكر استقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فردّه معه، فقال أبو كرز: و هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه، ثمّ قال: و هاهنا عبر ابن أبي قحافة، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار، ثمّ قال: [ما]جاوزا هذا المكان، إمّا أن يكونا صعدا إلى السّماء أو دخلا تحت الأرض. و بعث اللّه العنكبوت فنسجت على باب الغار، و جاء فارس من الملائكة حتّى وقف على باب الغار، ثمّ قال: ما في الغار أحد، فتفرّقوا في الشّعاب، فصرفهم عن رسول اللّه (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 31 الی 32

ص: 87


1- . يس:36/9.
2- . في النسخة: يضربونه و يقولون.
3- . تفسير القمي 1:272، تفسير الصافي 2:292.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مكرهم بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله، بيّن مكرهم بآيات اللّه و في دينه بقوله: وَ إِذا تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية قالُوا قَدْ سَمِعْنا هذه الكلمات الملفّقة. و لكن ما سمعوها في الحقيقة، لكونهم أظهر مصاديق شرّ الدّوابّ الذين قال اللّه في حقّهم: وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (1)و لذا قالوا مكابرة و عنادا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا الكلام.

كيف لم يكن مكابرة و أنّه لم يمنعهم من مشيئته شيء، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحدّاهم به مدّة ثلاث عشرة سنة حتّى قال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (2). ثم أعلن بعجزهم عن ذلك بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا (3)و مع ذلك لم يأتوا بسورة قصيرة، بل و لا بآية مع حرصهم على تكذيبه و تذليله و الغلبة عليه، خصوصا فيما يتعلّق بالفصاحة و البلاغة التي هم مهرة تلك الصّناعة.

قيل: إنّ قائل هذا الكلام النّضر بن الحارث من بني عبد الدّار، فإنّه كان يختلف تاجرا إلى فارس و الرّوم و الحيرة، فيستمع أخبار رستم و اسفنديار و أحاديث العجم، و اشترى أحاديث كليلة و دمنة، و كان يمرّ باليهود و النّصارى فيراهم يقرأون التّوراة و الإنجيل و يركعون و يسجدون، فجاء مكّة فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّى و يقرأ القرآن، فطفق يقعد مع المستهزئين، و يقرأ عليهم أساطير الأوّلين، و كان يزعم أنّها [مثل]ما يذكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قصص الأنبياء و الامم الماضين (4). و يقول: إِنْ هذا الكلام الذي جاء به محمّد، و ما هو إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و الأباطيل المسطورة في دفاتر السّابقين.

ثمّ أنّه روي أنّه قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ويلك إنّه كلام اللّه» (5)فذكر اللّه تحاشيه عن قبوله بقوله: وَ إِذْ قالُوا حسدا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله على نزول الكتاب عليه، أو إظهارا لليقين بعدم كونه كلام اللّه: اَللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا القرآن هُوَ اَلْحَقَّ النّازل مِنْ عِنْدِكَ و صدقا و صحيحا انتسابه إليك فَأَمْطِرْ عَلَيْنا عقوبة لتكذيبنا إيّاه حِجارَةً مِنَ اَلسَّماءِ كما أمطرت على قوم لوط أَوِ اِئْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ آخر تهلكنا به.

قيل: نزل في النّضر بن الحارث بضع عشرة آية (6).

ص: 88


1- . الأنفال:8/23.
2- . البقرة:2/23.
3- . البقرة:2/24.
4- . تفسير روح البيان 3:340.
5- . تفسير روح البيان 3:341.
6- . تفسير روح البيان 3:341.

و عن (الكافي) : قاله الحارث بن عمرو الفهري (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: نزلت لمّا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقريش: «إنّ اللّه بعثني أن أقتل جميع ملوك الدّنيا و أجرّ الملك إليكم، فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكوا بها العرب، و تدين لكم بها العجم، و تكونوا ملوكا في الجنّة» . فقال أبو جهل: اللّهم إن كان هذا الذي يقول محمّد هو الحق من عندك [فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم]حسدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2).

و عن المجمع: عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه: «لمّا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا يوم غدير خم قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه. طار ذلك في البلاد، فقدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله النّعمان بن الحارث الفهري فقال: أمرتنا من اللّه أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّك رسول اللّه، و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصّوم و الصّلاة و الزّكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند اللّه؟ فقال: و اللّه الذي لا إله إلاّ هو، إنّ هذا من اللّه، فولّى النّعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء، فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 33

ثمّ بيّن اللّه سبحانه علّة عدم إنزال العذاب عليهم مع غاية استحقاقهم له، بقوله: وَ ما كانَ اَللّهُ و ليس مناسبا للطفه بك لِيُعَذِّبَهُمْ بما عذّب به الامم الماضية وَ أَنْتَ مع كونك رحمة للعالمين و أمانا لأهل السّماوات و الأرضين فِيهِمْ و حيّ بينهم، بل لم يعذّب امّة من الامم الماضية إلاّ بعد خروج نبيّهم من بينهم.

وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اَللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)ثم ذكر علّة أخرى بقوله: وَ ما كانَ اَللّهُ مُعَذِّبَهُمْ و فيهم، أو في أصلابهم المؤمنون وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.

و قيل: إنّ مرجع الضمير الكفّار، و المعنى: أنّهم لو استغفروا لم يعذّبوا، و المقصود حثّهم على الاستغفار.

و قيل: إنّ المراد بالاستغفار الإسلام، و المعنى: و هم يسلمون فيما بعد، فإنّه كان في علم اللّه أنّه يسلم كثير منهم؛ كأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، و الحارث بن هشام، و حكيم بن حزام،

ص: 89


1- . الكافي 8:57/18، تفسير الصافي 2:297.
2- . تفسير القمي:1:276، تفسير الصافي 2:298.
3- . مجمع البيان 10:530، تفسير الصافي 2:299.

و أضرابهم.

عن ابن عبّاس أنّه قال: كان فيهم أمانان؛ نبيّ اللّه، و الاستغفار، أمّا النبي صلّى اللّه عليه و آله فقد مضى، و أمّا الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في (نهج البلاغة) : «كان في الأرض أمانان من عذاب اللّه، فرفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رفع فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا الأمان الباقي فالاستغفار» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لكم في حياتي خيرا، و في مماتي خيرا. فقيل: يا رسول اللّه، أمّا حياتك فقد علمنا، فما لنا في وفاتك؟ فقال: أمّا في حياتي فإنّ اللّه يقول: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ، و أمّا في مماتي فتعرض عليّ أعمالكم فاستغفر لكم» (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 34

ثمّ صرّح سبحانه بغاية استحقاقهم العذاب، و وعدهم بالعذاب الاخروي أو الدّنيوي يوم بدر، أو يوم الفتح بقوله: وَ ما لَهُمْ من السبب أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اَللّهُ و يسلّمهم منه بالكلّية وَ الحال أنّ هُمْ يَصُدُّونَ أولياءه و المؤمنين به عَنِ دخول اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و القرب منه عام الحديبية بادّعاء أنّهم أولياؤه و أولياء بيته وَ الحال أنّهم ما كانُوا أَوْلِياءَهُ بل إِنْ أَوْلِياؤُهُ و ما أحبّاؤه أحد إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ الّذين يتحرّزون المنكرات و القبائح؛ كالشّرك و المكاء و التّصدية و غيرها من المعاصي وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّهم ليسوا بأوليائه، و إنّما يعلمه بعضهم، و مع ذلك يدّعي أنّه وليّ البيت، و يقول نصدّ من نشاء و ندخل من نشاء.

وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اَللّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 35

ثمّ استشهد سبحانه على عدم كونهم أولياءه بقوله: وَ ما كانَ دعاء المشركين و صَلاتُهُمْ للّه عِنْدَ اَلْبَيْتِ الحرام إِلاّ مُكاءً و صفيرا وَ تَصْدِيَةً و تصفيقا بضرب إحدى الكفّين بالاخرى، فإنّهم كانوا يفعلونهما عوض التّسبيح و الدّعاء.

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

ص: 90


1- . تفسير الرازي 15:158.
2- . نهج البلاغة:483/88، تفسير الصافي 2:300.
3- . الكافي 8:254/361، تفسير الصافي 2:300.

عن ابن عبّاس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة الرّجال و النّساء، مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها، و يصفّقون (1).

و عن الرضا عليه السّلام: «سميّت مكّة مكّة لأنّ النّاس يمكون فيها، و كانوا يقولون لمن قصدها: قد مكا، و ذلك قول اللّه تعالى: وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فالمكاء: الصّفير، و التّصدية: صفق اليدين» (2).

و عن مقاتل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا صلّى في المسجد قام رجلان من بني عبد الدّار عن يمينه و رجلان عن يساره، فيصفرون كما يصفر المكّاء، و يصفقون بأيديهم ليخلّطوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صلاته و قراءته، و كانوا يفعلون كذلك بصلاة من آمن به (3).

و عن مجاهد: كانوا يعارضون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الطواف، و يستهزئون به، و يصفرون و يخلّطون عليه طوافه و صلاته (4).

ثمّ هدّدهم اللّه تعالى بقوله: فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بالسّيف يوم بدر، أو بالنّار يوم الحشر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ و تشركون.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم على عبادتهم البدنيّة، ذمّهم و هدّدهم على طاعتهم الماليّة بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أشركوا من قريش يُنْفِقُونَ و يصرفون أَمْوالَهُمْ ليخلّوا في أمر رسالة الرّسول و لِيَصُدُّوا النّاس و يمنعوهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و الدّخول في دين الإسلام، و قبول اتّباع الرّسول.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اَللّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (37)ثمّ نبّه سبحانه على غاية خسارتهم بقوله: فَسَيُنْفِقُونَها بتمامها ثُمَّ تَكُونُ تلك الأموال عَلَيْهِمْ حَسْرَةً و ندامة لذهابها من أيديهم من غير حصول المقصود ثُمَّ يُغْلَبُونَ في قتال

ص: 91


1- . تفسير روح البيان 3:343.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:90/1، تفسير الصافي 2:301.
3- . تفسير روح البيان 3:343.
4- . تفسير الرازي 15:160.

المسلمين آخر الأمر.

قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، و كانوا اثني عشر رجلا من أشراف قريش (1)، يطعم كلّ واحد منهم عسكر الكفّار عشر جزر (2).

و عن سعيد بن جبير: نزلت في أبي سفيان و إنفاقه المال على حرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم احد، و كان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش [من]العرب، و أنفق عليهم أربعين اوقيّة، و الاوقيّة اثنان و أربعون مثقالا (3).

ثمّ هدّدهم اللّه بعذاب الآخرة بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا و استمرّوا على كفرهم إِلى جَهَنَّمَ لا إلى غيرها يُحْشَرُونَ و يساقون في القيامة، و يكون ذلك الحشر لِيَمِيزَ اَللّهُ و يفرّق اَلْخَبِيثَ الذي هو الكافر مِنَ اَلطَّيِّبِ الذي هو المؤمن، فإنّهم يحشرون إلى الجنّة وَ يَجْعَلَ و يضع اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ و يجمعه جَمِيعاً قيل: إنّ المراد من الخبيث: نفقة الكافر على عداوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و من الطيّب: نفقة المؤمن في نصرته (4)، فيضم اللّه ذلك المال الخبيث بعضه إلى بعض فَيَجْعَلَهُ و يلقيه فِي جَهَنَّمَ ليعذّبهم به أُولئِكَ الكافرون المنفقون أموالهم فيما يسخط اللّه هُمُ بالخصوص اَلْخاسِرُونَ في الدّنيا و الآخرة.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه مزج طينة المؤمن حين أراد خلقه بطينة الكافر؛ فما يفعل المؤمن من سيّئة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج، و كذلك مزج طينة الكافر حين أراد خلقه بطينة المؤمن؛ فما يفعل الكافر من حسنة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج» . قال: «فإذا كان يوم القيامة ينزع [اللّه]من العدوّ النّاصب سنخ المؤمن و مزاجه و طينته و جوهره و عنصره مع جميع أعماله الصّالحة، و يردّه إلى المؤمن، و ينزع اللّه من المؤمن سنخ الكافر (5)و مزاجه و طينته و جوهره و عنصره مع جميع أعماله السيّئة، و يردّه إلى النّاصب، عدلا منه جلّ جلاله و تقدّست أسماؤه، و يقول للنّاصب: لا ظلم عليك، هذه الأعمال الخبيثة من طينتك و مزاجك فأنت أولى بها، و هذه الأعمال الصّالحة من طينة المؤمن و مزاجه و هو أولى بها لا ظُلْمَ اَلْيَوْمَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ» (6).

ثمّ قال: أزيدك في هذا المعنى من القرآن [أ ليس اللّه عزّ و جلّ]يقول: اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

ص: 92


1- . تفسير الرازي 15:160.
2- . الجزر: جمع جزور، هو ما يصلح لأن يذبح من الابل.
3- . تفسير الرازي 15:160.
4- . تفسير الرازي 15:161.
5- . في تفسير الصافي: الناصب.
6- . غافر:40/17.

وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (1) ، و قال عزّ و جلّ: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ* لِيَمِيزَ اَللّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 38

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المشركين و تهديدهم على عباداتهم البدنيّة و الماليّة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بترغيبهم إلى قبول الإسلام، و تهديدهم على تركه بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا و يرتدعوا عن الشّرك و عداوة الرّسول و قبائح الأعمال، و يدخلوا في دين الإسلام و تبعيّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و يلتزموا بالصّالحات من الأعمال يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ منهم و يعفى عن عقوبة ما ارتكبوا في حال كفرهم؛ من العقائد الفاسدة، و الأعمال السيّئة و تبعاتها من الحدود و القصاص و الضّمان و قضاء الفوائت، كما روي أنّ الاسلام يجبّ ما قبله (3). وَ إِنْ يَعُودُوا و يرجعوا إلى قتالك، و إلى ما كانوا عليه من الأعمال السّيئة، و أصرّوا على ما هم عليه من الكفر و الشّقاق فَقَدْ مَضَتْ و تبيّنت سُنَّتُ اللّه و معاملته مع الامم اَلْأَوَّلِينَ و القرون السّابقين الذين عارضوا الأنبياء، و تحزّبوا عليهم، و سمعوا كيف دمّرهم اللّه و أهلكهم بعذابه، و جعل الأنبياء غالبين عليهم، فلينتظروا لأنفسهم مثل تلك المعاملة.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ (38)عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام أنّه قال له رجل: إنّي كنت عاملا لبني اميّة، فأصبت مالا كثيرا، فظننت أن ذلك لا يحلّ لي، فسألت عن ذلك فقيل [لي]: إنّ أهلك و مالك و كلّ شيء لك حرام. فقال عليه السّلام: «ليس كما قالوا لك» ، قال: فلي توبة؟ قال: «نعم، توبتك في كتاب اللّه قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» (4).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 39 الی 40

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بما أنزل على الامم الماضية من العذاب، أمر المؤمنين بقتالهم بقوله:

وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ (40)

ص: 93


1- . النور:24/26.
2- . بحار الأنوار 67:106/21، تفسير الصافي 2:302.
3- . تفسير الرازي 15:163.
4- . تفسير العياشي 2:193/1727، تفسير الصافي 2:302.

وَ قاتِلُوهُمْ أيّها المؤمنون و اقتلوهم حَتّى أن لا تَكُونَ في الأرض فِتْنَةٌ و فساد من الشّرك و قبائح الأعمال، و يضمحلّ دين الوثنيّة و سائر الأديان الباطلة بسبب انقراض أهلها أو رجوعهم إلى الحقّ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ الذي بين النّاس كُلُّهُ خالصا لِلّهِ وحده فَإِنِ اِنْتَهَوْا و ارتدعوا عن الأديان الباطلة، و دخلوا في دين الإسلام فَإِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على انتهائهم عن دينهم، و رجوعهم إلى الحقّ أحسن الجزاء وَ إِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن قبول دين الحقّ فَاعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّ اَللّهَ مَوْلاكُمْ و حافظكم في قبالهم، فلا تبالوا بعدواتهم و كثرتهم و شوكتهم، و هو نِعْمَ اَلْمَوْلى و الحافظ للصّلاح، فإنّه لا يضيّع من تولاّه و اعتمد عليه وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ و المعين لا يغلب من نصره و أعانه.

الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «لم يجىء تأويل هذه الآية بعد، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رخّص لهم لحاجته و حاجة أصحابه، فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم، و لكنّهم يقتلون حتّى يوحّدوا اللّه، و لا يكون شرك» (1).

أقول: الظاهر أنّ المراد: رخّص للمؤمنين أخذ الفداء و الجزية، لحاجته و حاجة أصحابه.

و عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «لم يجيء تأويل هذه الآية، و لو قام قائمنا بعد، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، و ليبلغنّ دين محمّد ما بلغ اللّيل، حتّى لا يكون شرك على وجه الأرض، كما قال اللّه تعالى: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» (2).

و قيل: إنّ المراد من كون الدّين كلّه للّه في خصوص أرض الحجاز، كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 41 الی 42

ص: 94


1- . الكافي 8:201/243، تفسير الصافي 2:303.
2- . تفسير العياشي 2:193/1728، مجمع البيان 4:834، تفسير الصافي 2:303 و الآية من سورة النور:24/55.
3- . تفسير الرازي 15:164.

في بيان خمس

الغنائم

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه بقتال الكفّار أردفه ببيان حكم الغنيمة بقوله: وَ اِعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّما غَنِمْتُمْ و كلّ الذي أصبتم مِنْ شَيْءٍ قليل أو كثير من أموال الكفّار بالقهر و الغلبة، و من التّجارات و الصّناعات و الزّراعات، و الكنوز و المعادن، و الغوص في البحار، على تفصيل مذكور في الفقه، و عن الصادق عليه السّلام: «هي و اللّه الإفادة يوما بيوم» (1)

فَأَنَّ لِلّهِ قيل: إنّ التّقدير: فحكمه أنّ للّه خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى و هو الإمام إجماعا وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ من آل هاشم.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نحن و اللّه [الذين]عنى [اللّه]بذي القربى الذين قرنهم اللّه بنفسه و برسوله فقال: ف. . . لله. . . وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ منّا خاصّة» . قال: «و لم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا (2). أكرم اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أكرمنا أن يطعمنا أو ساخ [ما في]أيدي النّاس» (3).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقيل له: فما كان للّه فلمن هو؟ فقال: «لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ما كان لرسول اللّه فهو للإمام» . فقيل له: أ رأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر و صنف أقلّ، فما يصنع به؟ قال: «ذلك إلى الإمام، أ رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف يصنع، أ ليس إنّما كان يعطي على ما يرى؟ كذلك الإمام» (4).

عن أحدهما عليهما السّلام: «خمس اللّه و خمس الرّسول للإمام، و خمس ذي القربى لقرابة الرّسول و هي للإمام (5)، و اليتامي يتامى آل الرّسول، و المساكين منهم، و أبناء السّبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم» (6).

و عن القمّي: فمن الغنيمة يخرج الخمس، و يقسّم على ستّة أسهم: سهم للّه، [و سهم لرسول اللّه] و سهم للإمام. فسهم اللّه و سهم الرّسول يرثه الإمام؛ فيكون للإمام ثلاثة أسهم من ستّة، و الثلاثة الأسهم لأيتام آل الرّسول و مساكينهم و أبناء سبيلهم. و إنّما صارت للإمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم، لأنّ اللّه تعالى قد ألزمه بما ألزم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تربية الأيتام، و [مؤن]المسلمين، و قضاء ديونهم، و حملهم في الحجّ و الجهاد، و ذلك قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا انزل عليه اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (7)، و هو أب لهم، فلمّا جعله اللّه أبا للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد لولده، فقال

ص: 95


1- . الكافي 1:457/1، تفسير الصافي 2:303.
2- . في الكافي: لنا سهما في الصدقة.
3- . الكافي 1:453/1، تفسير الصافي 2:304.
4- . الكافي 1:457/1، تفسير الصافي 2:304.
5- . في التهذيب: الرسول و الإمام.
6- . التهذيب 4:125/361، تفسير الصافي 2:304.
7- . الأحزاب:33/6.

عند ذلك: «من ترك مالا فلورثته، و من ترك دينا أو ضياعا فعلى الوالي (1).

أقول: هذه الرّوايات قد عمل بها الأصحاب، و ما خالفها مؤوّل أو مطروح. و ممّا يجب فيه الخمس: المال الحلال المختلط بالحرام، و لا يتميّز صاحب الحرام أصلا، و الأرض التي اشتراها الذمّي من مسلم، و إنّما ثبت هذان الحكمان بالرّوايات المعتبرة المعمول بها.

ثمّ لما كان قطع المجاهدين أطماعهم عن خمس الغنيمة صعبا عليهم، رغّبهم في الالتزام به، و بيّن أنّه من لوازم الإيمان، و أن التّسليم له شكر لنعمه العظام، بقوله: إِنْ كُنْتُمْ، و المعنى: فسلّموا لهذا الحكم و ارضوا به إن كنتم آمَنْتُمْ عن صميم القلب و خالص النيّة بِاللّهِ الواحد المالك لجميع الأشياء وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله من النّصر و الآيات يَوْمَ اَلْفُرْقانِ الذي فرق فيه بين الحقّ و الباطل، بظهور خوارق العادات و المعجزات الباهرات، الدالّة على صدق نبيّنا و صحّة دين الإسلام، و كان ذلك اليوم يَوْمَ اِلْتَقَى فيه اَلْجَمْعانِ و تقابل الفريقان؛ فريق المؤمنين، و فريق الكفّار و المشركين، بوادي بدر، فنصر اللّه المؤمنين مع ضعفهم و قلّة عددهم و عدّتهم على الكافرين مع كثرتهم و شوكتهم و قوّتهم بقدرته وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و إيجاد كلّ ممكن من الممكنات التي منها غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة قَدِيرٌ لا يعجزه عن إنفاذ إرادته شيء، و لا يمنعه عنه مانع.

فجدّوا في الجهاد، و توكّلوا عليه، و اطمئنّوا بنصره، و قد أراكم قدرته على نصركم و غلبتكم على أعدائكم يوم بدر إِذْ أَنْتُمْ كنتم نازلين بِالْعُدْوَةِ اَلدُّنْيا و الجانب الأقرب إلى المدينة من ذلك (2)الوادي وَ هُمْ كانوا نازلين بِالْعُدْوَةِ اَلْقُصْوى و الجانب الأبعد من المدينة و الأقرب إلى مكّة وَ اَلرَّكْبُ و العير المقبل من الشّام الذي كنتم في طلبه، نازل في مكان هو أَسْفَلَ مِنْكُمْ و قريب من ساحل البحر، بينه و بين المشركين ثلاثة أميال، و كان أهله مستظهرين بهم. وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم و أعداؤكم على القتال لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعادِ و تخلّفتم عنه، و خالفتم الوعد؛ لقلّتكم و ضعفكم، و كثرة عدوّكم و قوّتهم، و استظهارهم بالرّكب الذي كان قريبا منهم، و كونهم بالعدوة القصوى القريبة من الماء وَ لكِنْ ما تواعدتم، بل جمع اللّه بينكم و بينهم بلا سابقة وعد لِيَقْضِيَ اَللّهُ و يتمّ أَمْراً كانَ حقيقا (3)بأن يكون مَفْعُولاً و واقعا من نصر أوليائه، و خزي أعدائه، و ظهور آثار وحدانيّته و رسالة رسوله. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ بالكفر و الطّغيان عَنْ بَيِّنَةٍ و حجّة واضحة عظيمة، و ظهور دليل قويّ على بطلان عقائدهم، و بعد مشاهدة الآيات الباهرة على كون معارضتهم للرّسول صلّى اللّه عليه و آله

ص: 96


1- . تفسير القمي 1:278، تفسير الصافي 2:304.
2- . في النسخة: تلك.
3- . في النسخة: حقيقيا.

معارضة للحقّ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ بروح الإيمان، و تنوّر قلبه بنور الإسلام عَنْ بَيِّنَةٍ و حجّة واضحة على الحقّ، و صدق الرّسول، و صحّة دينه وَ إِنَّ اَللّهَ لَسَمِيعٌ لمقال الفريقين عَلِيمٌ بضمائرهم و أحوالهم و تدبير امورهم على حسب استحقاقهم.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 43

ثمّ أنّه روي أنّه أرى اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله كفّار قريش في منامه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا: رؤيا النبيّ حقّ، و القوم قليل، فصار ذلك سببا لقوّة قلوبهم (1). فذكّرهم اللّه تلك النّعمة بقوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً لتخبر به أصحابك، فيكون تثبيتا لقلوبهم، و تشجيعا لهم على قتال عدوّهم وَ لَوْ أَراكَهُمْ في منامك كَثِيراً و أخبرت بكثرتهم أصحابك لَفَشِلْتُمْ و جبنتم في حربهم وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ الذي كنتم فيه من قتالهم، و اختلفت آراؤكم في الثّبات في حربهم و الفرار منهم وَ لكِنَّ اَللّهَ أنعم عليكم بأن سَلَّمَ جمعكم من الفشل و الاختلاف في الرّأي و التّنازع و الفرار إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و المكنونات في القلوب، من قوّة الإيمان و ضعفه، و الجرأة و الخوف، و الصّبر و الجزع.

إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ لكِنَّ اَللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (43)القمّي رحمه اللّه: المخاطبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى لأصحابه (2).

عن الباقر عليه السّلام: «كان إبليس يوم بدر يقلّل المسلمين في أعين الكفّار، و يكثّر الكفّار في أعين المسلمين، فشدّ عليه جبرئيل [بالسيف]فهرب منه و هو يقول: يا جبرئيل، إنّي مؤجّل» (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 44

ثمّ ذكّرهم اللّه نعمته الاخرى بقوله: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ و حين بارزتموهم فِي أَعْيُنِكُمْ مع كثرتهم قَلِيلاً من حيث العدد تصديقا لرؤيا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تقوية لقلوبكم.

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اَللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (44)عن ابن مسعود: لقد قلّلوا في أعيننا حتّى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا (4).

ص: 97


1- . تفسير روح البيان 3:350.
2- . تفسير القمي 1:278، تفسير الصافي 2:306.
3- . الكافي 8:277/419، تفسير الصافي 2:306.
4- . جوامع الجامع:170، تفسير الصافي 2:306.

وَ يُقَلِّلُكُمْ اللّه فِي أَعْيُنِهِمْ ليجترئوا عليكم قبل اللّقاء، حتّى قال قائلهم: إنّما هم أكلة جزور. ثمّ كثّرهم في أعين الكفّار لتفجأهم الكثرة و يفتّرهم الرّعب عن القتال لِيَقْضِيَ اَللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً قيل: إن التّكرار لاختلاف الفعل المعلّل، و هو الجمع بين الفريقين على الحالة المذكورة في الأوّل، و تقليل كلّ فريق في أعين الفريق الآخر في الثّاني وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ و بيده تصريفها يغلّب من يشاء و يخذل من يشاء، لا رادّ لأمره، و لا معقّب لحكمه.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 45 الی 47

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمه على المؤمنين و نصرتهم على الكفّار، أمرهم بالثّبات و التوكّل عليه و طلب النصر منه، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً و جماعة من الكفّار في معركة القتال فَاثْبُتُوا و وطّنوا أنفسكم على الصّبر و النّزال، و لا تخذلوا أنفسكم بالفرار وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ بالتّكبير و التّهليل في مواقع الشدّة كَثِيراً و اطلبوا منه الصّبر و الثّبات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بالنّصر و الغلبة، و المثوبة الاخرويّة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ (46) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)عن ابن عبّاس: أمر اللّه أولياءه بذكره في أشدّ الأحوال، تنبيها على أنّ الإنسان لا يجوز أن يخلي قلبه و لسانه عن ذكر اللّه، و لو أنّ رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء، و الآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل اللّه، كان الذّكر أعظم أجرا (1).

ثمّ لمّا كان الجهاد غير نافع إلاّ لمن أطاع اللّه و رسوله، أمر اللّه بطاعتهما بقوله: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في جهاد الكفّار و غيره.

ثمّ نهى عن التّنازع و اختلاف الكلمة بقوله: وَ لا تَنازَعُوا في أمر الجهاد، و لا تختلف آراؤكم فيه كما اختلفت (2)ببدر فَتَفْشَلُوا و تفتروا فيه و تضعفوا عنه وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ و شوكتكم، و تزول دولتكم، وَ اِصْبِرُوا على شدائد الحرب و مشاقّ منازلة الكفّار إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ في جهاد أعدائه بالنّصرة و الحفظ وَ لا تَكُونُوا أيّها المؤمنون كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و أوطانهم إلى حرب اللّه و رسوله بَطَراً و افتخارا بكثرة العدّة و العدد و النّعم، و شرف الآباء وَ رِئاءَ اَلنّاسِ

ص: 98


1- . تفسير الرازي 15:171.
2- . في النسخة: اختلف.

ليثنوا عليهم بالشّجاعة و السّماحة و الغلبة على الخصم وَ يَصُدُّونَ النّاس و يمنعونهم عَنْ السّلوك في سَبِيلِ اَللّهِ و الدّخول في دينه.

ثمّ هدّدهم اللّه على تلك القبائح بقوله: وَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ من البطر و الرّئاء و الصدّ، و غيرها من القبائح مُحِيطٌ و مطّلع، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.

روي أنّ قريشا لمّا بلغوا الجحفة (1)، أتاهم رسول أبي سفيان و قال: ارجعوا فقد سلمت عيركم من أصحاب محمّد و نهبهم، فقال أبو جهل: لا و اللّه، حتّى نقدم بدرا و نشرب بها الخمور، و تعزف علينا [فيها]القيان، و نطعم بها من حضرنا من العرب؛ فوافوها و لكن سقوا كأس المنايا بدل كأس الخمور، و ناحت عليهم النّوائح مكان تغنّي القيان، فنهى اللّه المؤمنين أن يكونوا أمثالهم (2).

و قيل: إنّه لمّا بلغت (3)قريش الجحفة، بعث الحقّاف الكناني-و كان صديقا لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له، فلمّا أتاه قال: إنّ أبي ينعمك صباحا، و يقول لك: إن شئت أن أمدّك بالرّجال أمددتك، و إن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت.

فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك اللّه و الرّحم خيرا، إن كنّا نقاتل اللّه كما يزعم محمّد؛ فو اللّه ما لنا باللّه من طاقة، و إن كنّا نقاتل النّاس؛ فو اللّه إنّ بنا على النّاس لقوّة، و اللّه لا نرجع عن قتال محمّد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، و تعزف علينا فيها القيان؛ فإنّ بدرا موسم من مواسم العرب، و سوق من أسواقهم، حتّى تسمع العرب بهذه الواقعة (4).

قيل: إنّما ذكر اللّه العلّتين الاوليين-و هما البطر و الرّئاء-بصيغة المصدر؛ لأنّ الاسم دالّ على التمكّن و الثّبوت، و كان الوصفان المذكوران متمكّنين فيهم و ملكتين لهم، و ذكر العلّة الثّالثة-و هي الصدّ-بصيغة المضارع الدالّة على التجدّد و الحدوث. لأنّها حصلت في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (5).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 48 الی 49

ص: 99


1- . الجحفة: قرية كبيرة على طريق مكة، على أربع مراحل.
2- . تفسير روح البيان 3:354.
3- . في النسخة: بلغ.
4- . تفسير الرازي 15:172.
5- . تفسير الرازي 15:173 «نحوه» .

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من علل خذلان قريش إغواء الشّيطان لهم بقوله: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة من معاداة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تحزّبهم لقتاله.

روي أنّ المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر، خافوا من بني بكر بن كنانة؛ لأنّهم كانوا قتلوا منهم واحدا، فلم يأمنوا أن يأتيهم القوم من ورائهم، فتصوّر الشّيطان لهم بصورة سراقة بن مالك بن جعشم؛ و هو من بني بكر بن كنانة، و [كان]من أشرافهم، في جند من الشّياطين (1)، و معه راية (2)وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ و لا قاهر عليكم أحد مِنَ اَلنّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ و دافع عنكم بني كنانة و غيرهم.

فَلَمّا تَراءَتِ اَلْفِئَتانِ و الفريقان؛ فريق المسلمين، و فريق المشركين، و رأى إبليس نزول الملائكة: قيل: كانت (3)يده في يد الحارث بن هشام (4)نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ و رجع القهقرى و أراد الفرار، و قال له الحارث: أتخذلنا في هذه الحالة؟ ! فأعرض عنه وَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ و معرض عنكم إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من جنود الملائكة، فقال الحارث: ما نرى إلاّ جعاشيش (5)أهل يثرب (6)، فدفع الشّيطان في صدر الحارث و انهزم و قال: إِنِّي أَخافُ اَللّهَ من أن يهلكني وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ.

قال قتادة: صدق في قوله: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ و كذب في قوله: إِنِّي أَخافُ اَللّهَ.

قيل: لمّا رأى الملائكة ينزلون من السّماء خاف أن الوقت الذي انظر إليه قد حضر (7).

قيل: إنّ قوله: وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ليس من كلام إبليس، و إنّما هو كلام اللّه (8).

قيل: لمّا رجعت قريش إلى مكّة قالت: هزم النّاس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: و اللّه ما شعرت بمسيركم حتّى بلغتني هزيمتكم. فعند ذلك تبيّن للقوم أنّ ذلك الشّخص لم يكن سراقة، بل كان شيطانا (9).

و عن الباقر عليه السّلام و الصادق عليه السّلام ما يقرب منه، إلى قوله: حتّى بلغتني هزيمتكم. و زاد: «فقالوا: إنّك أتيتنا يوم كذا، فحلف لهم، فلمّا أسلموا علموا أنّ ذلك كان شيطانا» (10).

ص: 100


1- . في النسخة: الشيطان.
2- . تفسير الرازي 15:174.
3- . في النسخة: كان.
4- . تفسير الرازي 15:174.
5- . الجعاشيش: جمع جعشوش، و هو الرجل القصير الذميم.
6- . تفسير روح البيان 3:356.
7- . تفسير الرازي 15:176.
8- . تفسير الرازي 15:176.
9- . تفسير الرازي 15:174.
10- . مجمع البيان 4:844، تفسير الصافي 2:308.

عن العيّاشي: عن السجّاد عليه السّلام: «لمّا عطش القوم يوم بدر، انطلق عليّ عليه السّلام بالقربة يستسقي و هو على القليب (1)، إذ جاءت ريح شديدة ثمّ مضت فلبث ما بدا له، ثمّ جاءت ريح اخرى [ثمّ مضت، ثمّ جاءت اخرى]كادت أن تشغله و هو على القليب، ثمّ جلس حتّى مضت، فلمّا رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبره بذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمّا الرّيح الاولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة، و الثّانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة، و الثّالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة، و قد سلّموا عليك، و هم مدد لنا، و هم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى حين يقول: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ» (2).

ثمّ قيل: إنّ قوما من الأوس و الخزرج كانوا منافقين، و أسلم قوم من قريش و كان في قلوبهم شكّ، و لذا لم يهاجروا. ثمّ لمّا حثت (3)قريش إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال اولئك: نخرج مع قومنا، فإن كان محمّد في كثرة خرجنا إليه، و إن كان في قلّة أقمنا في قومنا (4).

فحكى اللّه تعالى قولهم حين رأوا قلّة المسلمين بقوله: إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ من الأوس و الخزرج وَ يقول اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشكّ من قريش، حين رأوا كثرة المشركين و قلّة المسلمين: غَرَّ هؤُلاءِ المسلمين دِينُهُمْ. عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: معناه أنّه خرج بثلاثمائة و ثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل، و ما ذلك إلاّ أنّهم اعتمدوا على دينهم (5).

و قيل: معناه أنّ هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت، و يثابون على هذا القتل (4).

و قيل: إنّهم قالوا: هؤلاء المؤمنون خرجوا مع قلّة عدهم لحرب قريش مع كثرتهم و شوكتهم، و لا شكّ أنّ قريشا تغلبهم. فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ و يثق به، و يسلّم إليه اموره فَإِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و غالب على أمره، لا يخذل من توكّل عليه و استجار به حَكِيمٌ في فعاله، يفعل ما فيه صلاح خلقه و إن كان خارقا للعادة.

و قد سبق عن القمّي: أنّ فتية من قريش أسلموا بمكّة. فاحتبسهم آباؤهم، فخرجوا مع قريش إلى بدر و هم على الشكّ و الارتياب و النّفاق؛ منهم قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو قيس بن الفاكه، و الحارث بن ربيعة، و علي بن اميّة بن خلف، و العاص بن المنبّه، فلمّا نظروا إلى قلّة أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله قالوا: مساكين هؤلاء غرّهم دينهم، فيقتلون السّاعة. فأنزل اللّه [على رسوله]: إِذْ يَقُولُ

ص: 101


1- . القليب: البئر.
2- . تفسير العياشي 2:203/1750، تفسير الصافي 2:308.
3- . في النسخة: حث. (4 و 5) . تفسير الرازي 15:176.
4- . تفسير الرازي 15:177.

اَلْمُنافِقُونَ (1) إلى آخره.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 50 الی 51

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة موت المشركين في بدر و تعذيبهم، بقوله: وَ لَوْ تَرى يا محمّد إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا و يقبض أرواحهم اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون على قبض الأرواح، و هم بعد قبض أرواحهم يَضْرِبُونَ بمقامع من حديد تلتهب منها النّار-على ما قيل- وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ و ظهورهم-و عن العيّاشي: إنّما أراد و أستاههم (2)، إنّ اللّه كريم يكنّي (3)- وَ يقولون: ذُوقُوا و اطعموا أيّها المشركون بعد القتل و الخزي في الدّنيا عَذابَ اَلْحَرِيقِ و ألم النّار المحرقة.

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)عن ابن عبّاس: قول الملائكة: ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ إنّما صحّ لأنّه كان مع الملائكة مقامع كلّما ضربوا بها التهبت النّار في الأجزاء و الأبعاض (4).

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم بقوله: ذلِكَ المذكور من الضّرب، و ذوقهم عذاب النّار، يكون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ و ما كسبت جوارحكم باختياركم؛ من الشّرك و المعاصي، و معارضة الرّسول وَ بسبب أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ يعطي كلاّ ما يستحقّه، فلا يدخل المطيع النّار، و لا المسيء الجنّة.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 52

ثم بيّن سبحانه أنّ عادة قريش و دأبهم في معاندة الحقّ، و معارضة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الكفّار اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و سيرتهم في تكذيب آيات اللّه و معجزات الّرسول، تكون كسيرتهم.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اَللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (52)ثمّ كأنّه قيل: ما كان دأب آل فرعون و أضرابهم؟ فأجاب بقوله: كَفَرُوا و كذّبوا بِآياتِ اَللّهِ و معجزات رسله فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ و عذّبهم بالغرق و الرّيح و الصّاعقة بِذُنُوبِهِمْ الموبقة، كما أخذ

ص: 102


1- . تفسير القمي 1:266.
2- . الاست: العجز.
3- . تفسير العياشي 2:204/1751، تفسير الصافي 2:309.
4- . تفسير الرازي 15:178.

هؤلاء المشركين بالقتل و الخزي، بشركهم و معارضتهم الرّسول إِنَّ اَللّهَ قَوِيٌّ لا يعجزه شيء شَدِيدُ اَلْعِقابِ على المشركين به، المعارضين لرسله. و فيه تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تهديد سائر الكفّار.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 53

ثمّ نبّه سبحانه على علّة عدم ابتلاء العاصي قبل المعصية بالعذاب، و عدم أخذه بالشّقاوة الذاتيّة التي تكون له في بطن امّه، بقوله: ذلِكَ التّعذيب بعد النّعمة، و الأخذ بعد الاسترسال، معلّل بِأَنَّ اَللّهَ لَمْ يَكُ من دأبه و مقتضى حكمته أن يكون مُغَيِّراً و مبدّلا نِعْمَةً أَنْعَمَها و تفضّل بها عَلى قَوْمٍ من العقل و الصحّة، و الرّاحة و سعة العيش، و غيرها حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال و الأخلاق و الأعمال التي كانوا عليها حين وجدان تلك النّعمة، إلى أسوأها، كما غيّرت قريش حالها (1)في صلة الرّحم و عدم التعرّض للآيات، إلى قطع الرّحم و التّكذيب بالآيات و معجزات الرّسول، وَ نظائرها أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ لما يقولون عَلِيمٌ بما يفعلون في السّابق و اللاّحق، فيرتّب على كلّ منهما ما يليق به من إبقاء النّعمة عليه و تغييرها.

ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 54 الی 56

ثمّ أكّد سبحانه مشابهة دأب مشركي قريش بدأب كفّار الامم السّابقة بقوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الكفّار اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقوم نوح و عاد و ثمود، من حيث إنّهم كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ المنعم عليهم، و جحدوها فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كما أهلكنا عتاة قريش وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ و من معه من القبط في البحر وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ على اللّه (2)بتضييع حقوق نعمه، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللّهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) اَلَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ (56)قيل: هذه الآية تفصيل للآية الأولى (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مساواة الكفّار في الظّلم، بيّن أنّ شرّهم الناقضون للعهد، بقوله: إِنَّ شَرَّ

ص: 103


1- . في النسخة: حالهم.
2- . في النسخة: على أنّه.
3- . تفسير الرازي 15:181.

اَلدَّوَابِّ و الحيوانات المتحرّكة (1)على وجه الأرض عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أبدا، لخبث ذاتهم، و شدّة عنادهم و لجاجهم اَلَّذِينَ عاهَدْتَ بعضا مِنْهُمْ مرّات ثُمَّ يَنْقُضُونَ و يخالفون عَهْدَهُمْ الذي أخذت منهم فِي كُلِّ مَرَّةٍ من مرّات المعاهدة وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ اللّه، و لا يحترزون سيّئة الغدر، و لا يبالون العار و النّار.

عن ابن عبّاس: هم يهود قريظة (2).

قيل: إنّهم عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن لا يعينوا عليه عدوّا، فنقضوا [العهد]و أعانوا أهل مكّة يوم بدر بالسّلاح، ثمّ قالوا: نسينا و أخطأنا، ثمّ عاهدهم عليه مرّة اخرى فنكثوا و أعانوا المشركين عليه يوم الخندق، و ذلك أنّهم لمّا رأوا غلبة المسلمين على المشركين يوم بدر قالوا: إنّه هو النبيّ الموعود، بعثه [اللّه]في آخر الزّمان، فلا جرم يتمّ أمره، و لا يقدر أحد على محاربته، ثم [أنهم]لمّا رأوا يوم احد ما وقع من نوع ضعف المسلمين شكّوا، و قد كان احترق كبدهم بنار الحسد من ظهور دينه و قوّة أمره، فركب كعب بن أسد سيّد بني قريظة مع أصحابه إلى مكّة، و واثقوا المشركين على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأدّى ذلك إلى غزوة الخندق (3).

و عن القمّي: هم أصحابه الذين فرّوا يوم احد (4).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 57 الی 58

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار النّاقضين للعهد بأنّهم شرّهم، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتّغليظ و التشديد عليهم، بقوله: فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ و تظفرنّ بهم فِي تضاعيف اَلْحَرْبِ و القتال فَشَرِّدْ بِهِمْ و فرّق بسبب قتلهم و تنكيلهم مَنْ يكون خَلْفَهُمْ و من ورائهم من أعدائك، و أوقع بالناقضين من النّكاية و القهر ما يضطرب به حال غيرهم من الكفّار، و يخاف منك أمثالهم، بحيث يذهب عنهم بالكليّة ما يخطر ببالهم من معاداتك و محاربتك لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ و يتّعظون بما شاهدوا من معاملتك مع النّاقضين، فيرتدعوا من نقض العهد وَ إِمّا تَخافَنَّ و تعلمنّ بالأمارات مِنْ قَوْمٍ عاهدوك على أمر خِيانَةً و نقض عهد فَانْبِذْ و اطرح إِلَيْهِمْ عهدهم عَلى سَواءٍ و بطريق الاقتصاد، بأن تخبرهم إخبارا واضحا بأنّك ألغيت عهدهم، و قطعت ما بينك و بينهم من الوصلة، و لا

فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ (58)

ص: 104


1- . في النسخة: المتحركين.
2- . تفسير الرازي 15:182.
3- . تفسير روح البيان 3:362.
4- . تفسير القمي 1:379، تفسير الصافي 2:311.

تقدم على حربهم في حال كونهم على توهّم بقاء العهد، كي لا يتوهّم في حقّك شائبة الخيانة إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ و في هذا التذييل (1)دلالة على قبح الخيانة و مبغوضيّتها للّه مطلقا، سواء كانت في العهد أو غيره، مع الرّسول أو مع غيره. القمّي: نزلت في معاوية لمّا خان أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 59

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بتشديد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على النّاقضين للعهد و معاملته معهم معاملة يعتبر بها غيرهم، و قد فاته تعالى يوم بدر بعض من بلغ في أذيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نقض عهده مبلغا عظيما، سلاّه سبحانه و وعده بالظّفر بهم، لئلاّ يبقى في قلبه الشّريف حسرة، بقوله: وَ لا يَحْسَبَنَّ و لا يتوهّم (3)اَلَّذِينَ كَفَرُوا و نقضوا عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لم يظفر بهم أنّهم سَبَقُوا و أفلتوا من أن يعاقبوا، فليعلموا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ اللّه من أن يظهر بعد، أو المراد: لا يجدون اللّه الذي هو طالبهم عاجزا من إدراكهم.

وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)و قيل: إنّ المراد أنّهم لا يحسبوا بتخلّصهم من الأسر و القتل أنّهم يخلصون من عقاب اللّه و عذابه في الآخرة، إنّهم لا يعجزون اللّه بهذا السّبق و التخلّص، من الانتقام منهم في الآخرة.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 60

ثمّ أنه تعالى لمّا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتشريد النّاقضين للعهد، و نقض عهد من يخاف منه النّقض، أمر المؤمنين بالإعداد لهؤلاء الكفّار و التهيؤ لقتالهم، بقوله: وَ أَعِدُّوا لقتال الكفّار و هيّئوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ و ما بلغ وسعكم مِنْ قُوَّةٍ و عدّة، كائنا ما كان من سلاح و قسيّ و ترس و غيرها.

وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)قيل: إنّه لمّا اتّفق لأصحاب (4)النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قضية (5)بدر أن قصدوا الكفّار بلا آلة و لا عدّة، أمرهم اللّه أن لا يعودوا لمثله، و أن يعدّوا [للكفار]ما يمكنهم من آلة و قوّة (6).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قرأ هذه الآية على المنبر و قال «ألا أنّ القوّة الرّمي» ثلاثا (7). و قيل: هي الحصون (8).

ص: 105


1- . في النسخة: التذليل.
2- . تفسير القمي 1:279، تفسير الصافي 2:311.
3- . في النسخة: و لا يتوهن.
4- . في تفسير الرازي: أصحاب.
5- . في تفسير الرازي: قصة.
6- . تفسير الرازي:15/185.
7- . تفسير الرازي 15:185، تفسير أبي السعود 4:32.
8- . تفسير الرازي 15:185.

و عن الصادق عليه السّلام: «سيف و ترس» (1). و في الفقيه: عنه عليه السّلام: «منه الخضاب بالسّواد» (2).

و عن القمّي: السّلاح (3).

و قيل: عامّ، في كلّ ما يتقوّى به على حرب العدوّ (4)من الآلات، و الحصون، و العلوم المربوطة به. وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ و أفراس مربوطة في سبيل اللّه. و عن عكرمة: الإناث منه (5).

و روي: عليكم بإناث الخيل، فإنّ ظهورها حرز و بطونها كنز (4).

و في الحديث: «من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا به و تصديقا بوعده، فإنّ شبعه و ريّه و روثه و بوله في ميزانه [يوم القيامة]» (5).

ثمّ بيّن سبحانه علّة إيجاب الإعداد للحرب بقوله: تُرْهِبُونَ بالإعداد و ترعبون بِهِ كفّار قريش الّذين يكونون عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ لكونكم أولياء اللّه وَ أعداء آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ و ممّن عداهم من الكفرة؛ كاليهود و النّصارى و المنافقين لا تَعْلَمُونَهُمُ و لا تعرفونهم جميعا لنفاقهم اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ و يعرفهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بتحصيل القوّة للحرب، رغّب المسلمين ببذل المال [بقوله:] وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ و وجوه الخير التي أهمّها الجهاد يُوَفَّ و يوصل إِلَيْكُمْ جزاؤه كاملا في الآخرة وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بترك الإثابة أو تنقيصها.

عن ابن عبّاس قال: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي لا يضيع في الآخرة أجره، و يعجّل اللّه عوضه في الدّنيا (6)، وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من الثّواب.

و روي أنّه «من أعان مجاهدا في سبيل اللّه، أو غارما ف عسرته، أو في مكاتبا في رقبته، أظلّه اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه» (7).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 61

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالإعداد للحرب، أمر بإجابة الكفّار إذا سألوا الصّلح بقوله: وَ إِنْ جَنَحُوا و مالوا لِلسَّلْمِ و المصالحة و طلبوها منك فَاجْنَحْ لَها و مل إليها إن رأيت الصّلاح فيها وَ تَوَكَّلْ

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (61)

ص: 106


1- . تفسير العياشي 2:204/1753، تفسير الصافي 2:312.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:70/282، تفسير الصافي 2:312.
3- . تفسير القمي 1:279، تفسير الصافي 2:312. (4 و 5) . تفسير الرازي 15:185.
4- . تفسير روح البيان 3:365.
5- . تفسير روح البيان 3:365.
6- . تفسير الرازي 15:187.
7- . تفسير روح البيان 3:366.

عَلَى اَللّهِ و فوّض الأمر في معاهدتك معهم إليه، فإنّه ينصرك عليهم إذا نقضوها و عدلوا عن الوفاء بها إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ لمقالاتهم الخفيّة الخداعية، و بضمائرهم السيّئة من إبطانهم المكر في الصّلح.

قيل: إنّها منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1)، و قوله: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (2).

و عن القمّي: أنّها منسوخه بقوله: فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ (3).

أقول: في الجميع نظر.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما السّلم؟ قال: «الدّخول في أمرنا» (4).

أقول: الرّواية مناسبة لقوله: اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً (5)، و لا ربط لها بهذه الآية.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أكّد سبحانه وجوب التوكّل عليه عند الخوف من نقضهم العهد بقوله: وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ في طلب الصّلح، و يمكروا بك بنقض العهد، فلا تبال بهم فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللّهُ و كفاك من شرّهم، و ينصرك عليهم، فإنّه تعالى هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ و قوّاك بِنَصْرِهِ يوم بدر و غيره من أيّام عمرك وَ بِالْمُؤْمِنِينَ من المهاجرين و الأنصار بعد بعثتك وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بعد أن كان بينها من التّباعد و البغضاء قبل الإيمان بك، بحيث لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً لتؤلّف قلوبهم ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لا متناعه بالأسباب العاديّة وَ لكِنَّ اَللّهَ بقدرته الكاملة أَلَّفَ بَيْنَهُمْ قلبا و قالبا، فصاروا بقدرته و توفيقه كنفس واحدة إِنَّهُ عَزِيزٌ و غالب على أمره، لا يستعصي شيء ممّا يريد حَكِيمٌ و عالم بمصالح الأمور و تدابيرها.

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللّهُ هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)القمّي: كان بين الأوس و الخزرج حرب شديدة و عداوة في الجاهلية، فألّف اللّه بين قلوبهم و نصر بهم نبيّه صلّى اللّه عليه و آله (6).

ص: 107


1- . التوبة:9/5.
2- . تفسير الرازي 15:187، و الآية من سورة التوبة:9/29.
3- . تفسير القمي 1:279، تفسير الصافي 2:312، و الآية من سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله:47/35.
4- . تفسير العياشي 2:204/1755، تفسير الصافي 2:312.
5- . البقرة:2/208.
6- . تفسير القمي 1:279، تفسير الصافي 2:313.

قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، و حميّتهم عظيمة، حتّى لو لطم رجل من قبيلة لطمة، قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثمّ انقلبوا من تلك الحالة حتّى قاتل الرّجل [أخاه و]أباه و ابنه و اتفقوا على طاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صاروا أنصارا، و عادوا أعوانا (1).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 64

ثمّ أنّه تعالى بعد ما وعد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنّصر عند خديعة الأعداء، وعده بالنّصر في جميع الأوقات، و على جميع الكفار بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللّهُ و كافيك في دفع شرّ أعدائك، وَ كافيك مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ، و قيل: إنّ المعنى: أنّ اللّه كافيك و كافي أتباعك (2).

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللّهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (64)قيل: نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال تقوية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسلية لأصحابه (3).

و قيل: لمّا أسلم عمر و بلغ بإسلامه عدد المؤمنين أربعين نزلت الآية (4).

و في (نهج الحقّ) : روى الجمهور أنّها نزلت في عليّ عليه السّلام (3). و ذكره (4)صاحب (كشف الغمّة) عن كتاب عزّ الدين بن عبد الرزّاق المحدّث الحنبلي (5).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 65

ثمّ أنّه تعالى بعد تقوية قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أمره بتحريض المؤمنين على القتال بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ و حثّهم عَلَى اَلْقِتالِ مع أعداء اللّه، و بالغ في ترغيبهم إليه بوعد الثّواب العظيم على فعله، و العقاب الشّديد على القعود عنه، و قل لهم: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أيّها المؤمنون عِشْرُونَ صابِرُونَ على المنازلة في معركة القتال يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الذين كفروا وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابرة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و هذا الضّعف في الكفّار معلّل بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ و لا يدركون الحقّ، و لا يعرفون اللّه، و لا يعتقدون باليوم الآخر حتّى يقاتلوا تقرّبا (6)إلى اللّه، و توكّلا (7)عليه، و رجاء للثّواب، بل يقاتلون بهوى النّفس، و بالأغراض الدّنيويّة، و لذا يستحقّون الخزي و القتل، و لا يستحقّون النّصر.

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65)

ص: 108


1- . تفسير الرازي 15:189.
2- . تفسير الرازي 15:191. (3 و 4) . تفسير روح البيان 3:368.
3- . نهج الحق:185.
4- . في النسخة: و ذكر.
5- . كشف الغمة 1:312.
6- . في النسخة: متقربا.
7- . في النسخة: و متوكلا.

و قيل: إذا كانوا يقاتلون لهذه (1)الأغراض الفاسدة يشحّون على أنفسهم و حياتهم، و لا يعرّضونها للزّوال؛ و لذا أمر المسلمون بالثّبات في مقابل عشر أمثالهم منهم.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 66

ثمّ لمّا شقّ التّكليف على المسلمين حتّى ضجّ المهاجرون-كما عن ابن عبّاس-و قالوا: يا ربّ، نحن جياع و أعداؤنا شباع، و نحن في غربة و أعداؤنا في أهليهم، و نحن قد اخرجنا من ديارنا و أموالنا و أولادنا و أعداؤنا ليسوا كذلك. و قال الأنصار: شغلنا بعدوّنا، و واسينا إخواننا، فنزل التّخفيف (2)بقوله: اَلْآنَ خَفَّفَ اَللّهُ عَنْكُمْ برفع التّكليف السّابق وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً عن المقاومة في قبال عشر أمثالكم بأن يقاتل الواحد عشرا، و العشرة مائة، و المائة ألفا فَإِنْ يَكُنْ من بعد مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ على مشاقّ الحرب، ثابتة الأقدام في معركة النّزال يَغْلِبُوا و يقهروا مِائَتَيْنِ من الكفّار وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ في ميدان القتال يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ من الكفّار بِإِذْنِ اَللّهِ و قدرته و تيسيره و تسهيله وَ اَللّهُ بنصره و تأييده مَعَ اَلصّابِرِينَ في جهاد أعدائه.

اَلْآنَ خَفَّفَ اَللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ (66)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يبعث العشرة إلى وجه المائة، و بعث حمزة رضى اللّه عنه في ثلاثين راكبا قبل بدر إلى قوم، فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكب، و أرادوا قتالهم فمنعهم حمزة، و بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي و كان في جماعة، فابتدر عبد اللّه و قال: يا رسول اللّه، صفه لي، فقال: «إنّك إذا رأيته ذكرت الشّيطان، و وجدت لذلك قشعريرة، و قد بلغني أنّه جمع لي، فاخرج إليه و اقتله» ، قال: فخرجت نحوه، فلمّا دنوت منه وجدت القشعريرة، فقال لي: من الرّجل؟ قلت له: من العرب، سمعت بك و بجمعك. و مشيت معه حتّى إذا تمكّنت منه قتلته بالسّيف، و أسرعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكرت أنّي قتلته، فأعطاني عصا و قال: «أمسكها، فإنّها آية بيني و بينك يوم القيامة» (3).

ثمّ إنّ هذا التّكليف شقّ على المسلمين فأزاله اللّه بهذه الآية.

و قال ابن عبّاس: أيّما رجل فرّ من ثلاثة فلم يفرّ، فإنّ فرّ من اثنين فقد فرّ (4). و عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

ص: 109


1- . في النسخة: بهذه.
2- . تفسير الرازي 15:194.
3- . تفسير الرازي 15:194.
4- . تفسير الرازي 15:194.

«من فرّ من رجلين في القتال من الزّحف فقد فرّ من الزّحف، و من فرّ من ثلاثة رجال [في القتال من الزّحف]فلم يفرّ» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، في حديث ذكر فيه هذه الآية فقال: «نسّخ الرّجلان العشرة» (2).

قيل: كان فيهم قلّة أوّلا، فأمروا بذلك، ثمّ لمّا كثروا خفّف اللّه عنهم.

أقول: يشمّ ذلك من الآيتين، حيث ذكر في الآية الاولى غلبة العشرين على مائتين، و مائة على ألف، و في الثّانية غلبة مائة على مائتين، و ألف على ألفين.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 67

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم الجهاد، و الأمر بالمسالمة إذا طلبها الكفّار، بيّن حكم الأسارى و الغنائم بقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ من الأنبياء، و ما صحّ له أَنْ يَكُونَ و يثبت لَهُ أَسْرى و سبايا حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ و يكثر القتل و يبالغ فيه، حتّى يذلّ الكفر و يقلّ حزبه و يعزّ الإسلام.

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتي يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العبّاس بن عبد المطّلب و عقيل بن أبي طالب، فاستشار فيهم، فقال أبو بكر: [هم]قومك و أهلك، استبقهم لعلّ اللّه يهديهم إلى الإسلام، و خذ منهم فدية تقوّي بها أصحابك. و قال عمر: كذّبوك، و أخرجوك من ديارك، و قاتلوك، فاضرب أعناقهم، فإنّهم أئمّة الكفر، مكّنّي من فلان؛ نسيب لي، و [مكّن]عليا من عقيل، و حمزة من العبّاس، فلنضرب أعناقهم فلم يهو ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «إنّ اللّه ليليّن قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللّبن، و إنّ اللّه ليشدّد قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة، و إنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)، و مثلك يا عمر مثل نوح قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيّاراً» (4).

فخيّر أصحابه بأن قال لهم: «إن شئتم قتلتموهم، و إن شئتم أطلقتموهم، بأن تأخذوا من كلّ أسير عشرين اوقية-و الاوقية أربعون درهما في الدّراهم، و ستّة دنانير في الدّنانير-على (5)أن يستشهد منكم بعدّتهم» ، فقالوا: بل نأخذ الفداء و يدخل منّا الجنّة سبعون، فاستشهدوا يوم أحد بسبب قولهم هذا و أخذهم الفداء، فنزلت الآية في فداء اسارى بدر، فدخل عمر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو و أبو بكر

ص: 110


1- . تفسير العياشي 2:207/1758، تفسير الصافي 2:313.
2- . الكافي 5:69/1، تفسير الصافي 2:313.
3- . إبراهيم:14/36.
4- . نوح:71/26.
5- . في تفسير روح البيان: إلاّ.

يبكيان، فقال: يا رسول اللّه، أخبرني، فإن أجد بكاء أبكي و إلاّ تباكيت، فقال: «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء، و لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» (1).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا تخرجوا أحدا منهم إلاّ بفداء، أو بضرب عنق» ، فقال ابن مسعود: إلاّ سهيل (2)بن بيضاء، فإنّي سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اشتدّ خوفي، ثمّ قال من بعد: «إلاّ سهيل بن بيضاء» (3).

و عن ابن سيرين: كان فداؤهم مائة اوقية (4).

و نقل: أنّ الأسرى منهم من فدي، و منهم من قتل، و منهم من خلّي سبيله من غير فداء، و منهم من مات (5).

ثمّ لا مهم سبحانه على أخذ الفداء بقوله: تُرِيدُونَ أيّها المؤمنون بأسرهم و أخذ الفداء منهم عَرَضَ اَلدُّنْيا و زخارفها التي تزول و لا تبقى وَ اَللّهُ يُرِيدُ لكم اَلْآخِرَةَ و ثوابها الذي يكون قليله خيرا من الدّنيا و ما فيها، فعليكم بطلب الآخرة وَ اَللّهُ عَزِيزٌ و قادر يجمع لكم الدّنيا و الآخرة، و يغلّبكم على أعدائكم حَكِيمٌ بحكمته يدبّر مصالح عباده و أوليائه.

قيل: إنّ اللّه أمرنا بالإتخان و منع عن الافتداء حين كانت الشّوكة للمشركين، و لمّا تحوّلت الحال و صارت الغلبة للمسلمين، خيّر بين المنّ و الفداء (6).

في الردّ على القول

بعمل الأنبياء

باجتهاد

قال بعض العامّة: الآية دالّة على أنّ الأنبياء مجتهدون، لأنّ اللّوم لا يكون على ما صدر عن الوحي، و لا على فعل ما هو صواب، بل يكون على ما كان خطأ (7).

و فيه: أنّه بعد ما ثبت عصمة النبيّ بالأدلّة العقليّة و النقليّة عن الخطأ لا يمكن نسبته إليه، فلا بدّ من القول بأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما بخطأ الصّحابة في الإصرار بأخذ الفداء، و لكنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا كان رحمة للعالمين كان مأمورا بموافقتهم و عدم تخطئتهم، كي تنزل آية فيها تخطئتهم و العتاب عليهم، و يظهر للمسلمين أنّ أبا بكر و أضرابه كانوا طالبين للدّنيا دون الآخرة.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 68 الی 71

ص: 111


1- . تفسير الرازي 15:197، تفسير روح البيان 3:372.
2- . في النسخة: إسماعيل، و كذا ما بعدها. (3 و 4) . تفسير الرازي 15:198. (5 و 6 و 7) . تفسير روح البيان 3:373.

ثمّ عاتبهم اللّه على أخذ الفداء بقوله: لَوْ لا كِتابٌ و حكم و قضاء مِنَ اَللّهِ سَبَقَ بحلّ الغنائم، أو بأن لا يعذّب من أذنب بجهالة، أو بأن يمهل طالبي الدّنيا حتّى يقوم بهم الاسلام لَمَسَّكُمْ و لأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء و بسببه عَذابٌ عَظِيمٌ.

ثمّ روي أنّ الصّحابة لمّا عوتبوا على أخذ الفداء أمسكوا عن الغنائم (1)، حتّى صرّح اللّه سبحانه بحلّها لهم بقوله: فَكُلُوا أيّها المؤمنون مِمّا غَنِمْتُمْ و استفدتم من أمتعة الكفّار و أموالهم في الحرب، حال كونه حَلالاً و مباحا لكم من اللّه و طَيِّباً و غير مكروه لطباعكم وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في مخالفة أحكامه إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لمن فرّط منكم في استباحة الفداء قبل إذنه رَحِيمٌ بكم بإحلاله الغنائم لكم، مع أنّها كانت محرّمة على الامم الذين من قبلكم.

عن ابن عبّاس: كانت الغنائم حراما على الأنبياء، فكانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للقربان، فكانت تنزل النّار من السّماء فتأكله، و للّه عنايات بهذه الامّة لا تحصى (2).

ثمّ أنّه روي أنّه اسر العبّاس بن عبد المطّلب يوم بدر، و كان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام من خرج من مكّة لحماية العير، و كان قد خرج بعشرين اوقيّة من ذهب ليطعم بها الكفّار، فوقع القتال قبل أن يطعم بها، و بقيت العشرون اوقيّة معه، فأخذت منه في الحرب، فكلّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أن يحتسب العشرين أوقيّة من فدائه، فأبى صلّى اللّه عليه و آله و قال: «إنّما هو شيء خرجت به لتستعين به علينا، فلا أتركه لك» . فكلّفه أن يفدي نفسه بمائة اوقيّة زائدا على فداء غيره لقطع الرّحم، و كلّفه أن يفتدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحارث، كلّ واحد بأربعين أوقيّة، فقال: يا محمّد، تتركني أتكفّف قريشا ما بقيت!

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فأين [الذهب]الذي دفعته إلى امّ الفضل وقت خروجك من مكّة، و قلت لها: إنّي لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك و لعبد اللّه و الفضل و قثم؟» فقال العبّاس: و ما يدريك؟ قال: «أخبرني به ربّي» ، قال: أشهد أنّك صادق، و أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّك رسول اللّه، و اللّه لم يطّلع عليه أحد إلاّ اللّه، و لقد دفعته إليها في سواد اللّيل، و لقد كنت مرتابا في أمرك، و أمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب (3).

ص: 112


1- . تفسير الرازي 15:203.
2- . تفسير روح البيان 3:374.
3- . تفسير روح البيان 3:375.

فنزلت يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرى كالعبّاس و غيره: إِنْ يَعْلَمِ اَللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً من الإيمان و الخلوص و النّصح للرّسول صلّى اللّه عليه و آله يُؤْتِكُمْ و يعطيكم في الدّنيا و في الآخرة، أو فيهما من الثّواب ما يكون خَيْراً و أفضل مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء و الغنيمة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم التي سلفت منكم وَ اَللّهُ غَفُورٌ لذنوب المذنبين رَحِيمٌ بعباده المؤمنين.

عن السجّاد عليه السّلام قال: «أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمال دراهم (1)فقال: يا عبّاس ابسط رداءك و خذ من هذا المال طرفا، فبسط رداءه و أخذ طائفة منه، ثمّ قال رسول اللّه: هذا من الذي قال اللّه: إِنْ يَعْلَمِ اَللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً. . . مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ» (2).

و روي أنّ العبّاس قال: فأبدلني اللّه خيرا ممّا اخذ منّي، لي الآن عشرون عبدا، و إنّ أدناهم ليضرب- أي يتّجر-في عشرين ألف درهم، و أعطاني سقاية زمزم، ما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال أهل مكّة، أنجز اللّه لي أحد الوعدين، و أنا أرجو أن ينجز لي الوعد الثّاني (3).

و روي أنّه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضّأ لصلاة الظّهر و ما صلّى حتّى فرّقه، و أمر العبّاس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، و كان يقول: «هذا خير ممّا أخذ منّي، و أنا أرجو المغفرة» (4).

وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ بأن عزموا على الثّبات على الكفر، و عدم الوفاء بما ضمنوا من الفداء، أو بما عاهدتهم (5)عليه من عدم العود إلى محاربتك، و إلى معاهدة المشركين، فليس بدعا منهم فَقَدْ خانُوا اَللّهَ مِنْ قَبْلُ بما أقدموا عليه من محاربتك يوم بدر فَأَمْكَنَ اللّه المؤمنين مِنْهُمْ قتلا و أسرا. و فيه بشارة للرّسول صلّى اللّه عليه و آله بتمكينه من كلّ من يخونه و ينقض عهده. و عن القمّي رحمه اللّه: وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ في عليّ، فقد خانوا اللّه من قبل فيك (6)وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بضمائرهم من إبطان الخلوص و الصّدق، و الخيانة و الغدر حَكِيمٌ في فعاله، يراعي ما هو صلاح مملكته، و يجازيهم على حسب استحقاقهم.

و في رواية عاميّة: أنّ العبّاس كان قد أسلم قبل وقعة بدر، و لكن لم يظهر إسلامه، لأنّه كان له ديون متفرّقة في قريش، و كان يخشى إن أظهر الإسلام ضياعها، و إنّما كلّفه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفداء، لأنّه كان عليه ظاهرا لا له، و لمّا كان يوم فتح مكّة و قهرهم الإسلام أظهر إسلامه، و لم يظهر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إسلامه رفقا

ص: 113


1- . في النسخة: بمأتي درهم.
2- . قرب الإسناد:21/73، تفسير الصافي 2:315.
3- . تفسير روح البيان 3:376.
4- . تفسير الرازي 15:204.
5- . في النسخة: عاهدتم.
6- . تفسير القمي 1:269، تفسير الصافي 2:315.

به، كيلا يضيع ماله عند قريش، و كان قد استأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الهجرة، فكتب إليه: «يا عمّ أقم مكانك الذي أنت فيه، فإنّ اللّه يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» فكان كذلك (1).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قضيّة بدر و ثبات المؤمنين فيها، و بيان أحكام الجهاد و الغنيمة و الأسر، شرع في مدح المؤمنين و ذكر أقسامهم، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و كتابه وَ هاجَرُوا أوطانهم و أهليهم للالتزام بخدمة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و القيام بطاعته وَ جاهَدُوا أعداء اللّه بِأَمْوالِهِمْ بأن صرفوها إلى المحتاجين و لوازم الجهاد وَ أَنْفُسِهِمْ بأن باشروا القتال، و خاضوا فى المهالك فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لنصرة دينه، و حبّا لرسوله وَ اَلَّذِينَ آوَوْا و أسكنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المهاجرين في بلدهم و مأواهم وَ نَصَرُوا هم على أعدائهم، و عاونوهم على مقاصدهم أُولئِكَ المؤمنون بتلك الصّفات الفائقة بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ و وارث بَعْضٍ.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)القمّي: لمّا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة آخا بين المهاجرين و المهاجرين، و بين الأنصار و الأنصار، و بين المهاجرين و الأنصار، و كان إذا مات الرّجل يرثه أخوه في الدّين و يأخذ المال، و كان له ما ترك دون ورثته، فلمّا كان بعد بدر أنزل اللّه: اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2)فنسخت آية الاخوّة بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (3).

و في (المجمع) عن الباقر عليه السّلام: «أنّهم كانوا يتوارثون بالمواخاة الاولى (4)، دون التّقارب، حتّى نسخ ذلك [بقوله]: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» (5).

و عن ابن عبّاس: المراد هو الولاية في الميراث، و قال: جعل اللّه تعالى سبب الإرث الهجرة و النّصرة دون القرابة، و كان القريب إذا آمن و لم يهاجر لم يرث، من أجل أنّه لم يهاجر و لم ينصر (6).

كما بيّن اللّه ذلك بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا كسائر المؤمنين ما لَكُمْ أيّها المؤمنون

ص: 114


1- . تفسير روح البيان 3:376.
2- . الأحزاب:33/6.
3- . تفسير القمي:1:280، تفسير الصافي 2:315.
4- . مجمع البيان 4:862، تفسير الصافي 2:316.
5- . تفسير الصافي 2:316.
6- . تفسير الرازي 15:209.

مِنْ وَلايَتِهِمْ في الميراث مِنْ شَيْءٍ و إن كانوا أقرب أقاربكم حَتّى يُهاجِرُوا.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم وجوب القطع منهم في جميع الجهات كالكفّار، دفعه اللّه سبحانه بقوله: وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ و استعانوا بكم (1)على من يعاديهم فِي اَلدِّينِ من الكفّار فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ لهم، و ليس لكم أن تخذلوهم إِلاّ إذا استنصروكم عَلى قَوْمٍ من الكفّار الذين بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ و عهد على أن لا تقاتلوهم، فإنّه لا يجوز لكم نصر المؤمنين عليهم في هذه الصّورة؛ لأنّ حرمة نقض الميثاق مانعة منه وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الطّاعة و العصيان لأحكامه بَصِيرٌ و مطّلع فيجازيكم على ما صدر عنكم على حسب استحقاقكم.

و روي أنّ لمّا نزل قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا قام الزّبير و قال: فهل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا؟ فنزل وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ الآية (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 73

ثمّ نهى اللّه المؤمنين عن موالاة الكفّار و معاونتهم بأيّ وجه، و إن كانوا أقرب الأقارب بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ليسوا أولياءكم لانقطاع العلاقة بينكم و بينهم بالإسلام، بل بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لاشتراكهم في السّنخيّة، و اتّفاقهم على الباطل و معاداة الرّسول و معارضته، فيجب عليكم التّباعد منهم و التّعاند معهم و إِلاّ تَفْعَلُوهُ بأن تخالطوهم و توالوهم تَكُنْ فِتْنَةٌ عظيمة فِي اَلْأَرْضِ و هي ضعف المؤمنين و قوّة الكفّار وَ فَسادٌ كَبِيرٌ من جهة رغبة المسلمين إلى الكفّار، و رجوعهم عن الإسلام إلى الكفر بسبب المخالطة و الموادّة.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (73)

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 74 الی 75

ثمّ مدح اللّه سبحانه المؤمنين من المهاجرين و الأنصار بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا الكفّار بأموالهم و أنفسهم فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا هم على الكفّار أُولئِكَ هُمُ

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

ص: 115


1- . في النسخة: عنكم.
2- . تفسير الرازي 15:211.

اَلْمُؤْمِنُونَ إيمانا حَقًّا و صدقا و خالصا لقيامهم بلوازمه، و عملهم بمقتضاه لَهُمْ بسبب الإيمان الخالص، و العمل الصّالح مَغْفِرَةٌ و ستر لذنوبهم السّابقة وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ واسع كثير بلا منّ و لا تعب في الآخرة وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ -عن ابن عبّاس: بعد الحديبية، و قيل: بعد بدر، و قيل: بعد نزول الآية (1)-و لحقوا بالسّابقين من المؤمنين في اعتقاد التّوحيد، و تبعيّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و طاعة أوامره وَ هاجَرُوا من أوطانهم إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ جاهَدُوا أعداءه مَعَكُمْ و في جماعتكم فَأُولئِكَ يعدّون مِنْكُمْ و يحسبون من زمرتكم، و يكون لهم ما لكم.

ثمّ نسخ سبحانه حكم التّوارث بالهجرة و النّصرة بقوله: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ و ذوو القرابات النسبيّة من المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلى و أحقّ في الإرث بِبَعْضٍ الأقرب إليهم فِي كِتابِ اَللّهِ و حكمه المنزل في القرآن، أو المكتوب في اللّوح المحفوظ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و مصلحة من المصالح عَلِيمٌ بذاته، و مطّلع بإحاطته.

عن الصادق عليه السّلام: «كان عليّ عليه السّلام إذا مات مولى له و ترك قرابة، لم يأخذ من ميراثه شيئا، و يقول: أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» (2).

القمّي، قال: هذه الآية نسخت: [قوله]: وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (3).

أقول: نسخت إطلاقه.

عن الصادق عليه السّلام: «لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحسن و الحسين عليهما السّلام أبدا، إنّما جرت من علي بن الحسين عليهما السّلام كما قال اللّه: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ، فلا تكون بعد علي بن الحسين عليهما السّلام إلاّ في الأعقاب بعد الأعقاب» (4).

أقول: لعلّ المراد أنّ قضاء اللّه في نصب الأئمّة طابق حكمه في الميراث؛ لأنّ الإمامة داخلة في حكم الإرث.

نقل الفخر الرّازي أن محمّد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب تمسّك بهذه الآية في كتابه إلى [أبي]جعفر المنصور على أنّ الإمام بعد رسول اللّه هو علي بن أبي طالب عليه السّلام، فقال: قوله تعالى وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ يدلّ على ثبوت الأولويّة (5)،

ص: 116


1- . تفسير الرازي 15:213.
2- . الكافي 7:135/5، تفسير الصافي 2:317، و الآية من سورة الأحزاب:33/6.
3- . تفسير القمي 1:281، تفسير الصافي 2:317، و الآية من سورة النساء:4/33.
4- . الكافي 1:225/1، تفسير الصافي 2:317، و فيهما: إلاّ في الأعقاب و أعقاب الأعقاب.
5- . في المصدر: الولاية.

و ليس في الآية شيء معيّن في ثبوت هذه الأولويّة، فوجب حمله على الكلّ إلاّ ما خصّه الدّليل، و حينئذ يندرج فيه الإمامة، و لا يجوز أن يقال أنّ أبا بكر كان من اولي الأرحام، لما نقل أنّه صلّى اللّه عليه و آله أعطاه سورة براءة ليبلّغها إلى القوم، ثم بعث عليّا خلفه، و أمر بأن يكون المبلّغ هو عليّ عليه السّلام و قال: «لا يؤدّيها إلاّ رجل منّي» و ذلك يدلّ على أنّ أبا بكر ما كان منه.

ثم أجاب الفخر عنه: بأنّه إن صحّت هذه الدّلالة، كان العبّاس أولى بالإمامة؛ لأنّه كان أقرب إلى رسول اللّه [من عليّ]. ثمّ قال: و بهذا الوجه أجاب المنصور عنه (1).

أقول: بالوجه الذي استدلّ محمّد بن عبد اللّه على أنّ أبا بكر ما كان منه، له الاستدلال على أنّ العباس ما كان منه، و إلاّ لبعث العبّاس ليكون هو المبلّغ لبراءة، على أنّ آية وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ تثبت الإمامة للرّحم إذا كان واجدا لشرائط الإمامة من العلم و العصمة و غيرهما، فإذا فرض أنّ عليّا عليه السّلام و أبا بكر كانا واجدين للشّرائط كان عليّ عليه السّلام أولى بالآية، كما أنّ شرط الإرث الإسلام، و عدم كون الوارث قاتلا، مع أنّ الآية تنفي الإمامة عن أبي بكر و تثبته في أرحام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فيدور أمرها بين علي عليه السّلام و العبّاس، فإذا قارنها الإجماع على أنّ العبّاس لم يكن إماما، دلّت الآية على إمامة عليّ عليه السّلام، و على أي تقدير أبطلت الآية إمامة أبي بكر، و تجعلها في أرحام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إذا بطلت إمامة أبي بكر كان عليّ عليه السّلام إماما بالإجماع المركّب، على أنّه ثبت بالنصّ و الإجماع عند أصحابنا أنّ ابن العمّ الأبويني أولى في الميراث من العمّ الأبي (2).

الحمد للّه المتعال على التّوفيق لإتمام تفسير سورة الأنفال، نسأله أن يجعله ذخرا ليوم لا بيع فيه و لا خلال.

ص: 117


1- . تفسير الرازي 15:213.
2- . يريد أن العباس أخو عبد اللّه (والد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) لأبيه فقط، بينما أبو طالب (والد علي عليه السّلام) أخو عبد اللّه لامّه و لأبيه.

ص: 118

في تفسير سورة براءة

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة الأنفال اردفت بسورة البراءة لكونهما في الجهاد، و ما روي عن الصادق عليه السّلام و سعيد بن المسيّب من أنّهما واحد (1)، محمول على وحدتهما مطلبا، لوضوح كونهما سورتين.

بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (1)و قيل: إنّ في الأنفال ذكر العهود، و في البراءة نبذها، فوضعت بجنب الأنفال (2).

و قيل: إنّه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا، و أن يكونوا منقطعين عن الكفّار (3)، و في البراءة التّصريح به.

و من أسمائها سورة التوبة؛ لذكر توبة المهاجرين و الأنصار، و الثّلاثة الذين خلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و عن حذيفة: إنّكم تسمّونها سورة التوبة، و اللّه ما تركت أحدا إلاّ نالت منه (2).

و منها الفاضحة؛ عن ابن عبّاس قال: إنّها الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم و تنال منهم حتّى حسبنا (3)أن لا تدع أحدا (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لم تنزل بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ على [رأس]سورة براءة؛ لأنّ بِسْمِ اَللّهِ للأمان و الرّحمة، و نزلت براءة لرفع الأمان بالسيف» (5).

و عن ابن عبّاس قال: سألت عليّا رضى اللّه عنه لم لم يكتب بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ بين الأنفال و البراءة؟ قال: «لأنّ بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ أمان، و هذه السّورة نزلت بالسّيف و نبذ العهود، و ليس فيها أمان» (6).

و حاصل الرّوايتين عدم المناسبة بين الرّحمة التي تدلّ عليها البسملة، و الإعلان بالحرب و نبذ العهود اللّذين يدلّ عليها الإعلان بالبراءة بقوله: بَراءَةٌ و قطيعة عظيمة، و نبذة عهد كائنة مِنَ قبل اَللّهِ وَ رَسُولِهِ مرسلة أو موصولة إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ من أهل مكّة،

ص: 119


1- . مجمع البيان 5:4. (2 و 3) . تفسير الرازي 15:216.
2- . تفسير الرازي 15:215.
3- . في تفسير الرازي: خشينا.
4- . تفسير الرازي 15:215.
5- . مجمع البيان 5:4، تفسير الصافي 2:318.
6- . تفسير الرازي 15:216.

لظهور الخيانة منهم.

قيل: إنّ المسلمين كانوا عاهدوا المشركين من أهل مكّة و غيرهم بإذن اللّه و أمر الرّسول، فنكثوا إلاّ بني ضمرة و بني كنانة، فأمر اللّه المسلمين بنبذ العهد إلى الناكثين.

و قيل: إنّ عهدهم كان مشروطا بعدم أمر اللّه بقطعه.

و قيل: إنّه قد انقضت مدّة عهدهم، و إنّما أعلن اللّه بعدم إعادة العهد معهم، و أنّ الرّسول مأمور بمحاربتهم.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 2

ثمّ أخبرهم اللّه بإمهالهم في القتال أربعة أشهر بقوله: فَسِيحُوا و سيروا أيّها المشركون فِي اَلْأَرْضِ آمنين من القتل و الغارة أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ غير خائفين فيها من قتال و اغتيال، و أمّا بعد انقضاء المدّة فليس إلاّ الإسلام أو السّيف وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ بسياحتكم في أقطار الأرض غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّهِ و غير فائتين منه بالهرب و التّحصين وَ أَنَّ اَللّهَ مُخْزِي اَلْكافِرِينَ و مذلّهم في الدّنيا بالقتل و الأسر، و في الآخرة بعذاب أليم.

فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّهِ وَ أَنَّ اَللّهَ مُخْزِي اَلْكافِرِينَ (1)قيل: نزلت في أوّل شوال، و كانت (2)الأشهر: شوال و ذو القعدة و ذو الحجّة و محرّم، و كان الإمهال صيانة للأشهر الحرم (2).

و قيل: كان أوّلها عاشر ذي الحجّة، و آخرها عاشر ربيع الآخر؛ لأنّ التّبليغ كان في يوم النّحر (3).

روى الفخر الرّازي: أن فتح مكّة كان سنة ثمان، و كان الأمير فيها عتّاب بن أسيد، و نزول هذه السّورة سنة تسع، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر سنة تسع بأن يكون على الموسم، فلمّا نزلت هذه السّورة أمر عليّا أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم، فقيل له: لو بعثت [بها]إلى أبي بكر؟ فقال: «لا يؤدّي عنّي إلاّ رجل منّي» .

فلمّا دنا على سمع أبو بكر الرّغاء، فوقف و قال: هذا رغاء ناقة رسول اللّه، فلمّا لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور، ثمّ ساروا، فلمّا كان قبل التّروية خطب أبو بكر و حدّثهم عن مناسكهم، و قام عليّ يوم النّحر عند جمرة العقبة فقال: «يا أيّها النّاس، إنّي رسول رسول اللّه إليكم» فقالوا: بماذا؟ فقرا

ص: 120


1- . تفسير الرازي 15:219.
2- . في النسخة: و كان.
3- . تفسير الرازي 15:220، تفسير روح البيان 3:383.

عليهم ثلاثين أو أربعين آية-و عن مجاهد: ثلاث عشرة آية-ثم قال: «امرت بأربع: أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك، و لا يطوف بالبيت عريان، و لا يدخل الجنّة إلاّ كلّ نفس مؤمنة، و أن يتمّ إلى كلّ ذي عهد عهده» .

فقالوا عند ذلك: يا عليّ، أبلغ ابن عمّك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، و أنّه ليس بيننا و بينه عهد إلاّ طعن بالرّماح و ضرب بالسّيوف (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة تبوك، في سنة تسع من الهجرة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين من الحجّ في تلك السّنة، و كان سنّة العرب في الحجّ أنّه من دخل مكّة و طاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها، و كانوا يتصدّقون بها، و لا يلبسونها بعد الطّواف، فكان من وافى مكّة يستعير ثوبا و يطوف فيه ثمّ يردّه، و من لم يجد عارية اكترى ثيابا، و من لم يجد عارية و لا كراء و لم يكن له إلاّ ثوب واحد طاف بالبيت عريانا، فجاءت امرأة من العرب و سيمة جميلة فطلبت عارية أو كراء فلم تجده، فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت إلى أن تتصدّقي بها، فقالت: و كيف أتصدّق بها و ليس لي غيرها! فطافت بالبيت عريانة، و أشرف عليها النّاس، فوضعت إحدى يديها على قبلها و الاخرى على دبرها، و قالت:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه *** فما بدا منه فلا احلّه

فلمّا فرغت من الطّواف خطبها جماعة، فقالت: إنّ لي زوجا.

و كانت سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله، و لا يحارب إلاّ من حاربه و أراده، و قد كان نزل عليه في ذلك من اللّه عزّ و جلّ: فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (2)، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه و اعتزله حتّى نزلت عليه سورة براءة، و أمر بقتل المشركين من اعتزله و من لم يعتزله إلاّ الذين قد عاهدهم يوم فتح مكّة إلى مدّة؛ منهم صفوان بن اميّة، و سهيل بن عمرو، فقال اللّه عزّ و جلّ: بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثمّ يقتلون حيثما وجدوا.

فهذه أشهر السّياحة: عشرون من ذي الحجّة، و المحرّم، و صفر، و شهر ربيع الأوّل، و عشر من ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من أول براءة، دفعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر و أمره بأن يخرج إلى مكّة و يقرأها على النّاس بمنى يوم النّحر، فلمّا خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا

ص: 121


1- . تفسير الرازي 15:218.
2- . النساء:4/90.

محمد، لا يؤدّي عنك إلاّ رجل منك. فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام في طلبه، فلحقه بالرّوحاء و أخذ منه الآيات، فرجع أبو بكر إلى رسول اللّه فقال: يا رسول [اللّه]، أنزل فيّ شيء؟ قال: إنّ اللّه أمرني أن لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على النّاس، فنزل جبرئيل عليه السّلام فقال: لا يبلّغ عنك إلاّ عليّ، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام فأمره أن يركب ناقته العضباء، و أمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة و يقرأها على النّاس بمكّة، فقال أبو بكر: أسخطة؟ فقال: لا، إلاّ أنّه انزل عليه أنّه لا يبلّغ إلاّ رجل منك، فلمّا قدم عليّ مكّة، و كان يوم النّحر بعد الظّهر؛ و هو يوم الحجّ الأكبر، قام ثمّ قال: إنّي رسول رسول اللّه إليكم، فقرأها عليهم بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عشرين من ذي الحجّة، و المحرّم، و صفر، و ربيع الأول، و عشرا من ربيع الآخر، قال: لا يطوف بالبيت عريان و لا عريانة و لا مشرك إلاّ من كان له عهد عند رسول اللّه، فمدّته إلى هذه الأربعة أشهر» (2).

و في رواية محمّد بن مسلم: «قال أبو بكر: يا عليّ، هل نزل فيّ شيء منذ فارقت رسول اللّه؟ قال: لا، و لكن أبى اللّه أن يبلّغ عن محمّد إلاّ رجل منه. فوافى الموسم، فبلّغ عن اللّه و عن رسوله بعرفة و المزدلفة، و يوم النّحر عند الجمار، و في أيّام التّشريق كلّها ينادي بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ الآية، و يقول: لا يطوفنّ بالبيت عريان» (3).

و في (المجمع) : روى أصحابنا «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ولاّه أيضا الموسم، و أنّه حين أخذ براءة من أبي بكر رجع أبو بكر» (4).

ثمّ اعلم أنّ الظاهر ممّا رواه العامّة، فضلا عمّا رواه الخاصّة، أنّ وجه تخصيص أمير المؤمنين عليه السّلام بتبليغ براءة و قراءتها على النّاس، أنّه مرتبة من الرّسالة من اللّه، لأنّ نقض عهد المشركين كان من اللّه لا من الرّسول نفسه، و لا ينافي ذلك قوله عليه السّلام: إنّي رسول رسول اللّه.

و من المعلوم أنّ إنذار الكفّار بالخزي، و تبشيرهم بعذاب أليم، كان وظيفة الرّسول، أو وظيفة من هو قائم مقامه و منزلته منه منزلة هارون من موسى، و لذا لم يقل جبرئيل عليه السّلام: «أو رجل من أقاربك» كما لم يقل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل قال جبرئيل عليه السّلام: «أو رجل منك» و قال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: «أو رجل منّي»

ص: 122


1- . تفسير القمي 1:281، تفسير الصافي 2:319.
2- . تفسير العياشي 2:213/1771، تفسير الصافي 2:320.
3- . تفسير العياشي 2:214/1772، تفسير الصافي 2:320.
4- . مجمع البيان 5:6، تفسير الصافي 2:321.

كما قال: «عليّ منّي و أنا منه» .

و كفى هذا في فضيلة عليّ و إثبات خلافته للرّسول، و عدم قابلية أبي بكر لها، خصوصا على ما في روايات أصحابنا من أنّه صلّى اللّه عليه و آله أعطى أبا بكر الآيات أوّلا، ثمّ بعث عليّا وراءه بأمر اللّه، و أمره بأخذها منه. فإنّ الدّلالة التي ذكرنا فيه أوضح، و الإعلان أظهر.

قال الفخر الرّازي بعد نقل الرواية السابقة: اختلفوا في السّبب الذي لأجله أمر عليّا عليه السّلام بقراءة هذه السورة عليهم، و تبليغ هذه الرسالة إليهم، فقالوا: السبب فيه أنّ عادة العرب أن لا يتولّى تقرير العهد و نقضه إلاّ رجل من الأقارب، فلو تولاّه أبو بكر لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهد، فربّما لم يقبلوا فازيحت علّتهم بتولية ذلك عليّا (1).

و قيل: لمّا خصّ أبا بكر بتولية إمارة الموسم، خصّ عليّا بهذا التبليغ تطييبا للقلوب و رعاية للجوانب (2).

و قيل: قرّر أبا بكر على الموسم، و بعث خلفه عليا لتبليغ هذه الرّسالة، حتّى يصلّي عليّ خلف أبي بكر، و يكون ذلك جاريا مجرى التّنبيه على إمامة أبي بكر (1).

أقول: في الوجوه الملفّقة ما لا يخفى من الوهن:

أمّا الأول: ففيه أنّ إلغاء العهد لم يكن من الرسول صلّى اللّه عليه و آله، بل كان من اللّه، و على ما ذكروه كان اللاّزم أن يكون مبلّغه هو اللّه أو رسوله أو من هو بمنزلة نفس الرسول و هو علي عليه السّلام لآية أَنْفُسَنا (2)، مع أنّه لو كان عادة العرب أن لا يتولّى نقض العهد إلاّ أقارب المعاهد، لم يقل أصحابه المطّلعون على تلك العادة: لو بعثت إلى أبي بكر، مضافا إلى احتمال انقضاء مدّة عهد المسلمين، و كان المقصود من البراءة المنع من العود إلى العهد و تجديده، فلم يكن نقض عهد حتّى يحتاج إلى أن يكون مبلّغه الأقارب.

و امّا الوجه الثاني: ففيه أنّه صلّى اللّه عليه و آله أراد تطييب قلب علي عليه السّلام أو قلب غيره؟ فإن قلتم إنّه أراد تطييب قلب عليّ عليه السّلام، فمن المعلوم عنده صلّى اللّه عليه و آله و عند أصحابه أنّ قلب عليّ عليه السّلام كان طيّبا بما كان يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكن يخطر في قلبه خطور سوء بفعله صلّى اللّه عليه و آله، و لو أهانه عند الأصحاب غاية التّوهين فإنّه لا يرى نفسه (3)في مقابل مرضاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و إن أرادوا تطييب قلب غير عليّ عليه السّلام، فمن المعلوم أنّ بعث عليّ عليه السّلام بسورة براءة كان أثقل على قلوب كثير من الصّحابة من تنصيب أبي بكر

ص: 123


1- . تفسير الرازي 15:219.
2- . آل عمران:3/61.
3- . كذا.

أميرا على الموسم.

و أمّا الوجه الثّالث: فإنّ القول بصلاة عليّ عليه السّلام خلف أبي بكر تخرّص بالغيب، و على فرض التّسليم لا تنبيه فيه على إمامة أبي بكر، و إلاّ لكان في إمارة اسامة على الجيش الذي فيه أبو بكر و عمر و سائر أعيان الصّحابة سوى عليّ عليه السّلام، تنبيه على إمامة أسامة بعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما بأنّ أكثر أصحابه و امّته لا يعتنون بالنّصوص الجليّة الصّريحة على الإمامة، فكيف يعتمدون بالتّنبيهات و الإشعارات (1).

فتبيّن أنّ الوجوه الثّلاثة لم تخرج إلاّ من القلوب المشحونة بالعصبيّة و بغض عليّ عليه السّلام و حبّ أبي بكر، حشرهم اللّه معه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد التبرّي عن المشركين المعاهدين، أعلن بالبراءة من جميع المشركين بقوله: وَ أَذانٌ و إعلان عام كائن مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ مرسل إِلَى جميع اَلنّاسِ من المسلمين و المشركين و غيرهم من الكفّار يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ -عن ابن عبّاس: هو يوم عرفة (2)، و قيل: يوم النّحر (3)، و قيل: جميع أيام منى (2)- أَنَّ اَللّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ و منقطعة عصمته و علقة ولايته منهم وَ كذا رَسُولِهِ فلا عصمة بينه و بينهم و لا عهد، و ليس لهم إلاّ الإسلام أو السّيف، فإذا كان كذلك فَإِنْ تُبْتُمْ أيّها المشركون إلى اللّه، و دخلتم في حصن الإسلام فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع في الدّنيا و الآخرة من البقاء على الكفر، و الإصرار على الغدر وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم عن التّوبة و قبول دين الاسلام فَاعْلَمُوا و أيقنوا أَنَّكُمْ بسياحتكم في الأرض مدّة قليلة، و تدبيركم و إعدادكم للحرب غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّهِ و غير فائتين منه هربا، و غير غالبين عليه قدرة و حربا وَ بَشِّرِ يا محمّد اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على الشّرك و الغدر، و قل لهم تهكّما: أبشروا بِعَذابٍ أَلِيمٍ من القتل و الأسر و الخزي في الدّنيا، و من الدّخول في النّار في الآخرة.

وَ أَذانٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّهِ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)عن العيّاشي: عن السجّاد: «الأذان أمير المؤمنين عليه السّلام» (3).

ص: 124


1- . كذا، و الظاهر: الاشارات. (2 و 3) . تفسير الرازي 15:221.
2- . تفسير الرازي 15:221.
3- . تفسير العياشي 2:217/1781، تفسير الصافي 2:321.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية: «كنت أنا الأذان في النّاس» (1).

و هذا التأويل مرويّ عن الصادق عليه السّلام أيضا و فيه: فقيل له: فما معنى هذه اللّفظة اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ؟ فقال: «إنّما سمّى الحجّ الأكبر لأنّها كانت سنة حجّ فيها المسلمون و المشركون، و لم يحجّ المشركون بعد تلك السّنة» (2).

و عنه أيضا: اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ: الوقوف [بعرفة] (3)و رمي الجمار، و الأصغر: العمرة (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 4

ثمّ أنّه تعالى بعد الإعلان بالبراءة عن كلّ المشركين الذي لازمه إلغاء عهد جميعهم، استثنى عهد غير النّاكثين بقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ، و قيل: إنّ الاستثناء منقطع و المعنى: لا تمهلوا النّاكثين فوق أربعة أشهر، و لكنّ الذين عاهدتموهم ثُمَّ بعد العهد لَمْ يَنْقُصُوكُمْ من شرائط العهد الذي يكون بينكم شَيْئاً و لم ينكثوه وَ لَمْ يُظاهِرُوا و لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا أيّها المسلمون و أدّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ كاملا إِلى تمام مُدَّتِهِمْ و لا تجعلوا الوافين كالنّاكثين و الغادرين إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ و المتحرّزين عن مخالفة أمره و تضييع الحقوق.

إِلاَّ اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ (4)عن ابن عبّاس قال: بقي لحيّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر (5).

روي أنّه عدت بنو بكر على خزاعة في حال غيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ظاهرتهم قريش بالسّلاح، حتّى و فد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأنشده:

لا همّ إنّي ناشد محمّدا *** حلف أبينا و أبيك ألا تلدا

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا *** و نقضوا ذمامك المؤكّدا

هم بيّتونا بالحطيم هجّدا *** و قتلونا ركّعا و سجّدا

فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا نصرت إن لم أنصركم (6).

ص: 125


1- . تفسير القمي 1:282، تفسير الصافي 2:321.
2- . معاني الأخبار:296/5، علل الشرائع:442/1، تفسير الصافي 2:321.
3- . في تفسير العياشي: الوقوف بعرفة و بجمع.
4- . تفسير العياشي 2:218/1785، تفسير الصافي 2:321.
5- . تفسير الرازي 15:224.
6- . تفسير الرازي 15:224.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 5

ثمّ أمر اللّه المسلمين بالتّشديد على النّاكثين بقوله: فَإِذَا اِنْسَلَخَ و انقضى اَلْأَشْهُرُ التي هي اَلْحُرُمُ لحرمة القتال فيها إمهالا فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ بأيّ نحو أمكنكم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ و في أيّ مكان لقيتموهم من الحلّ و الحرم، و في أي حال أدركتموهم وَ خُذُوهُمْ و أسروهم وَ اُحْصُرُوهُمْ في المضائق، و اجسوهم في المحابس. و قيل: يعني امنعوهم من البيت الحرام وَ اُقْعُدُوا منتظرين لَهُمْ القتل و الأخذ كُلَّ مَرْصَدٍ و طريق تترقّبون عبورهم فيه إلى البيت أو التّجارة، و سدّوا سبيلهم فَإِنْ تابُوا من الشّرك بالدّخول في الإسلام وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ المفروضة وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ الواجبة التي هي من أعظم شعائر الاسلام فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إلى البيت و الذّهاب إلى مهمّاتهم، و لا تتعرّضوا لهم بوجه أبدا إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لهم ما سلف من ذنوبهم بعد التّوبة و الايمان رَحِيمٌ بهم إذا صدّقوا إيمانهم بالأعمال الصّالحات.

فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 6

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ التّشديد على الكفّار إنّما هو لتماميّة الحجّة عليهم، و أمّا من كان في طلب الحقّ و تحقيق صحّة دين الاسلام، فلا يجوز التعرّض له، بقوله: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ الذين امرت بالتّشديد عليهم اِسْتَجارَكَ و استأمنك، و طلب الجوار منك و الأمان، لسماع القرآن و تحقيق الحقّ فَأَجِرْهُ و آمنه حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اَللّهِ الذي يتمّ بسماعه الحجّة على كلّ أحد لوضوح إعجازه ثُمَّ بعد استماعه القرآن أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ من منزله أو قبيلته إن لم يؤمن، و يكون ذلِكَ الحكم بوجوب تأمينه و إيصاله إلى مأمنه معلّلا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ الكتاب و الدّين و حقيقته، فلا بدّ من تأمينهم و إمهالهم حتّى يفهموا الحقّ، و ينقطع عنهم العذر.

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)عن ابن عبّاس قال: إنّ رجلا من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: إن أردنا أن نأتي رسول اللّه بعد انقضاء الأجل لسماع كلام اللّه، أو لحاجة اخرى، فهل نقتل؟ فقال عليّ عليه السّلام: «لا، إنّ اللّه تعالى قال: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ إلى آخره» (1).

ص: 126


1- . تفسير الرازي 15:226.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 7

ثمّ أنكر سبحانه حسن مراعاة العهد في حقّ النّاكثين بقوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ واجب الرّعاية و الوفاء عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ لهؤلاء المشركين مع إضمارهم الغدر و النّكث إِلاَّ اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ -قيل: يعني: و لكن يجب مراعاة العهد للذين عاهدتموهم-و أكّدتموه بإيقاعه عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و في قرب منه، و هم بنو ضمرة و بنو كنانة، فإنّهم لم ينقضوا عهدهم، و لم يضمروا الغدر فيه فَمَا اِسْتَقامُوا لَكُمْ و وفوا بعهدهم فَاسْتَقِيمُوا و اثبتوا على الوفاء لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن نقض العهد.

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ فَمَا اِسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ (7)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 8

ثمّ أكد سبحانه إنكار حسن الوفاء بعهد الناكثين بقوله: كَيْفَ يحسن رعاية عهد المشركين وَ الحال أنّهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ و يظفروا بكم لا يَرْقُبُوا و لا يراعوا فِيكُمْ أبدا إِلاًّ و حلفا أو قرابة وَ لا ذِمَّةً و عهدا.

كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)و من الواضح أنّ وجوب مراعاة العهد على كلّ من المتعاهدين مشروط بمراعاة الآخر، و هم لا يراعون بل يخادعون، و يغدرونكم بأنّهم يُرْضُونَكُمْ عن أنفسهم بإظهار الوفاء و الصّفاء، و وعد الايمان و الطّاعة، و اعلموا أنّ كلّ ذلك يكون بِأَفْواهِهِمْ و ألسنتهم وَ تَأْبى و تمتنع قُلُوبُهُمْ ممّا يقولون لكم و يتفوّهون به عندكم وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ و خارجون عن حدود العقل، و متمرّدون عن طاعة أحكام الشّرع، ليست لهم عقيدة مانعة و لا مروءة رادعة.

قيل: في تخصيص الأكثر بالحكم بالفسق إشعار بوجود من يتعفّف عن فعل ما يجرّ إليه المثالب و المعائب في المشركين.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 9

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم بقوله: اِشْتَرَوْا هؤلاء النّاكثون بِآياتِ اَللّهِ الدالّة على التّوحيد و وجوب الوفاء بالعهود، و أعرضوا عنها، و أخذوا بدلا منها ثَمَناً و عوضا قَلِيلاً و يسيرا من حطام الدّنيا و شهواتها الفانية فَصَدُّوا و عدلوا عَنْ سَبِيلِهِ أو صرفوا النّاس عنها إِنَّهُمْ ساءَ

ص: 127

ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الاستبدال و الصدّ.

اِشْتَرَوْا بِآياتِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)روي أنّ أبا سفيان بن حرب جمع الأعراب و أطعمهم ليصدّهم بذلك عن متابعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ليحملهم على نقض العهد الذي كان بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنقضوه بسبب تلك الأكلة (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 10 الی 12

ثمّ ذمهم سبحانه بعدم رعاية أحد من المؤمنين بقوله: لا يَرْقُبُونَ و لا يرعون فِي حقّ مُؤْمِنٍ كائنا من كان إِلاًّ و حلفا أو قرابة وَ لا ذِمَّةً و عهدا أو حقّا وَ أُولئِكَ المذمومون هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ و المتجاوزون عن حدود العقل و الدّين، فبلغوا غاية الشّرارة و الظّلم.

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)ثمّ أنّه تعالى بعد الإبلاغ في ذمّ المشركين بنكث العهد و الغدر و الصدّ و الظّلم، أعلن بسعة رحمته بقوله: فَإِنْ تابُوا -مع هذه الذّمائم-عن الشّرك و الأعمال السيّئة، و حقّقوا إيمانهم بالالتزام بلوازمه وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ التي هي أهمّ شعائره وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ التي هي أعظم آثاره فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ هؤلاء التائبون، فارضوا لهم ما ترضون لأنفسكم، كما تكونون كذلك في حقّ إخوانكم في النّسب، كذلك التّفصيل وَ الشّرح البليغ نُفَصِّلُ و نشرح اَلْآياتِ و الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يفهمون الحكم و المصالح، فإنّهم يدركون حسن تلك الأحكام، و يلتزمون بها. و فيه غاية الحثّ على محافظتها (2).

عن ابن عبّاس قال: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة (3).

وَ إِنْ نَكَثُوا و نقضوا أَيْمانَهُمْ و أحلافهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ المؤكّد بها، و تجاهروا بالشرّ و الفساد وَ طَعَنُوا و قدحوا فِي دِينِكُمْ الحقّ، و عابوه عنادا له فَقاتِلُوا هم إذن، لكونهم أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ و رؤساء الضّلال، و لا تمهلوهم إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ في الحقيقة، و إلاّ لما نكثوها، أو المراد: لا أمان لهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ و يرتدعون عن الكفر و أعمالهم الشّنيعة.

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت هذه الآية في أصحاب الجمل، و قال أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الجمل ما قاتلت

ص: 128


1- . تفسير روح البيان 3:392.
2- . كذا، و الظاهر: المحافظة عليها.
3- . تفسير الرازي 15:233.

هذه الفئة النّاكثة إلاّ بآية من كتاب اللّه، يقول اللّه: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «دخل عليّ اناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزّبير، فقلت لهم: كانا أئمّة الكفر، إنّ عليا عليه السّلام يوم البصرة لمّا صفّ الخيول قال لأصحابه: لا تعجلوا على القوم حتّى أعذر فيما بيني و بين اللّه و بينهم. فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة، هل تجدون عليّ جورا في حكم؟ قالوا: لا، قال: فحيفا في قسمة؟ قالوا: لا، قال: فرغبة في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم، فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال: فأقمت فيكم الحدود و عطّلتها عن غيركم؟ قالوا: لا، قال: فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث؟ إنّي ضربت الأمر أنفه و عينه فلم أجد إلاّ الكفر أو السيف. ثمّ ثنى إلى أصحابه فقال: إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية، ثمّ قال: و الذي فلق الحبّة، و برأ النّسمه، و اصطفى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالنبوّة، إنّهم لأصحاب هذه الآية، و ما قوتلوا منذ نزلت» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «عذرني اللّه من طلحة و الزّبير، إنّهما بايعاني طائعين غير مكرهين، ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته، و اللّه ما قوتل [أهل]هذه الآية منذ نزلت حتّى قاتلتهم وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «من طعن في دينكم هذا فقد كفر، قال اللّه: وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ» الخبر (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 13

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على قتال المشركين النّاكثين، بإنكاره التّقاعد عنه على المؤمنين، و بيان استحقاقهم القتل بقوله: أَ لا تُقاتِلُونَ أيّها المؤمنون قَوْماً نَكَثُوا و نقضوا أَيْمانَهُمْ و عهودهم المؤكّده بها مع الرّسول و المؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم أعداءهم في الحديبية-على ما قيل- وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ اَلرَّسُولِ من مكّة حين تشاورهم في دار النّدوة، و قيل: من المدينة لمّا أقدموا عليه من المشورة و الاجتماع على قتله (5)وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ بالقتال و القتل أَوَّلَ مَرَّةٍ في بدر، إذن فما يمنعكم عن قتالهم أَ تَخْشَوْنَهُمْ من أن يغلبوا عليكم (6)، أو ينالوكم بمكروه فَاللّهُ القادر الغالب

أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

ص: 129


1- . تفسير القمي 1:283، تفسير الصافي 2:324.
2- . قرب الإسناد:96/327، تفسير العياشي 2:219/1790، تفسير الصافي 2:324.
3- . تفسير العياشي 2:221/1795، تفسير الصافي 2:325.
4- . تفسير العياشي 2:220/1793، تفسير الصافي 2:324.
5- . تفسير الرازي 15:235.
6- . كذا و الظاهر: يغلبوكم.

المدرك أَحَقُّ و أولى من غيره أَنْ تَخْشَوْهُ و تخافوه في مخالفة أمره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بوحدانيّته، و كمال قدرته، و شدّة عقابه على من خالفه و عصاه. و من المعلوم أنّ لازم هذا الإيمان أن لا يخشى إلاّ منه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ أكّد سبحانه وجوب قتالهم بقوله: قاتِلُوهُمْ أيّها المؤمنون يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ بالقتل و الأسر بِأَيْدِيكُمْ و سيوفكم وَ يُخْزِهِمْ و يذلّهم وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ جميعا وَ يَشْفِ من ألم الحقد و انتظار الفتح صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قيل: هم خزاعة، و عن ابن عبّاس: [هم]بطن من اليمن و سبأ، قدموا مكّة [فأسلموا]

فلقوا من أهلها أذى كثيرا، فبعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يشكون إليه، فقال: «أبشروا، فإنّ الفرج قريب» (1)وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ و يسكّن غضبهم.

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)عن العيّاشي: عن أبي الأغرّ التميمي (2)قال: كنت واقفا يوم صفّين، إذ نظرت إلى العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و هو شاك في السّلاح، إذ هتف به هاتف من أهل الشام يقال له عرار بن أدهم: يا عبّاس هلمّ إلى البراز، ثمّ تكافحا بسيفهما مليّا لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته، إلى أن حطّ العبّاس درع الشامي فأهوى إليه بالسّيف فانتظم به جوانح الشامي، فخرّ الشامي صريعا و كبّر الناس تكبيرة ارتجّت لها الأرض، فسمعت قائلا يقول: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ بِأَيْدِيكُمْ الآية. فالتفتّ فإذا هو أمير المؤمنين عليه السّلام (3).

ثمّ أخبر اللّه بإسلام بعضهم بقوله: وَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ إسلامه و توبته من السيّئات من هؤلاء المشركين وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأحوال خلقه و عواقب أمورهم حَكِيمٌ في فعاله، يراعي مصالح عباده.

و في الأخبار المذكور دلالة واضحة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لوقوع ما أخبر به، فإنّه أسلم بعد الآية عكرمة بن أبي جهل، و سهيل بن عمرو، و جمع آخر من المشركين.

ص: 130


1- . تفسير روح البيان 3:395.
2- . في النسخة: أبي الأعز اليمني.
3- . تفسير العياشي 2:221/1797، تفسير الصافي 2:325. و رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار 1:179، و ابن أبي الحديد في شرح النهج 5:219.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 16

ثمّ أنكر سبحانه على المؤمنين حسبان عدم افتتانهم بالجهاد و ترك رعاية القرابة و الصّداقه ترغيبا لهم فيه بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ و هل توهّمتم أَنْ تُتْرَكُوا على الحالة التي أنتم فيها من الاختلاط وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ و لم يميّز اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ممّن لا يجاهد وَ لم يميّز الذين لَمْ يَتَّخِذُوا و لم يختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً و بطانة و صاحب سرّ من غيره وَ اَللّهُ خَبِيرٌ و عالم بِما تَعْمَلُونَ من الجهاد و تركه، و اتّخاذ الوليجه و عدمه.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)عن الباقر عليه السّلام: «يعني بالمؤمنين آل محمّد، و الوليجة: البطانة» (1).

و عنه عليه السّلام: «لا تتّخذوا من دون اللّه وليجة فلا تكونوا مؤمنين، فإنّ كلّ سبب و نسب و قرابة و وليجة و بدعة و شبهة منقطع إلاّ ما أثبته القرآن» (2).

و عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام: «الوليجة: الذي يقام دون وليّ الأمر، و المؤمنون في هذا لموضع هم الأئمّة الذين يؤمنون على اللّه فيجيز أمانهم» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ روي أنّ المشركين كانوا يفتخرون بعمارة المسجد الحرام و سقاية الحاج، فبيّن اللّه أن لا فضيلة في هذين العملين مع الشّرك؛ بقوله: ما كانَ و ما صحّ لِلْمُشْرِكِينَ في حال شركهم أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اَللّهِ [سواء]

كان المسجد الحرام أو غيره، و لا نفع لهم فيه، مع كونهم شاهِدِينَ و معترفين عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ عملا حيث ينصبون الأصنام فيها و يعبدونها، و قولا حيث يقولون: نعبدها ليقرّبونا إلى اللّه أُولئِكَ المطرودون عن ساحة رحمة اللّه حَبِطَتْ و بطلت أَعْمالُهُمْ الخيريّة التي يفتخرون بها وَ فِي اَلنّارِ هُمْ خالِدُونَ في الآخرة لأنّ الشّرك ظلم عظيم، و معصية غير مغفورة.

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اَللّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي اَلنّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اَللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ (18)روي أنّ المسلمين عيّروا اسارى بدر، و وبّخ عليّ عليه السّلام العبّاس بقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قطيعة الرّحم،

ص: 131


1- . تفسير القمي 1:283، تفسير الصافي 2:326.
2- . الكافي 1:48/22، تفسير الصافي 2:326.
3- . الكافي 1:425/9، تفسير الصافي 2:326.

فقال العبّاس: تذكرون مساوءنا و تكتمون محاسننا. فقالوا: و لكم محاسن؟ ! قال: نعم، إنّما نعمر المسجد الحرام، و نحجب الكعبة، و نسقي الحجيج، و نفكّ العاني، فنزلت (1).

ثمّ حصر اللّه العمارة النّافعة بالمؤمنين بقوله: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اَللّهِ عمارة نافعة مَنْ آمَنَ بِاللّهِ و بوحدانيّته وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و دار الجزاء وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ في القيام بوظائف دينه أحدا إِلاَّ اَللّهَ.

قيل: من عمارة المسجد: كنسه و تنظيفه، و تنويره بالسّراج، و صيانته ممّا لا يليق به؛ كحديث الدّنيا و الكسب و اللّغو و اللّهو، و الاشتغال فيه بالعبادة و الذّكر، و درس العلوم الدينيّة.

في الحديث القدسي: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، و إنّ زوّاري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، فحقّ على المزور أن يكرم زائره (2).

و في الحديث النبويّ: «يأتي في آخر الزّمان اناس من امّتي يأتون المساجد، يقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدّنيا و حبّ الدّنيا، لا تجالسوهم فليس [للّه]بهم حاجة» (3).

ثمّ وعد اللّه المتّصفين بالكلمات العلميّة و العمليّة بالاهتداء إلى الخير-بصيغة الترجّي-قطعا لطمع المشركين في الانتفاع بعمارتها؛ بقوله: فَعَسى و يرجى في حقّ أُولئِكَ المؤمنين أَنْ يَكُونُوا بأعمالهم الحسنة مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ.

قيل: لم يذكر الايمان بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله في الآية: لاستلزام الصّلاة المعهودة الايمان بشارعها، و لأنّ من أجزائها الشّهادة بالرّسالة، و لإجهار أنّ مقصود الرّسول تبليغ معرفة المبدأ و المعاد دون رئاسة نفسه، حتّى لا يتوهّموها في حقّه.

و قيل: إنّ في إقران الزّكاة بالصّلاة دلالة على عدم قبول أحدهما بدون الآخر (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 19

ثمّ نقل أنّه افتخر طلحة بن شيبة و العبّاس و عليّ، فقال طلحة: أنا صاحب البيت و بيدي مفتاحه، و قال العبّاس: أنا صاحب السّقاية، و قال عليّ: «أنا صاحب الجهاد» ، فردّ اللّه على طلحة و العبّاس بقوله: أَ جَعَلْتُمْ أيّها المفتخرون سِقايَةَ اَلْحاجِّ وَ عِمارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ في الفضيلة و الكرامة

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ اَلْحاجِّ وَ عِمارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللّهِ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (19)

ص: 132


1- . جوامع الجامع:175، تفسير الصافي 2:327.
2- . تفسير الرازي 16:10.
3- . تفسير الرازي 16:10.
4- . تفسير روح البيان 3:398.

عند اللّه كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ و بوحدانيّته وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ. قيل: إنّ التّقدير: أجعلتم أهل سقاية الحاجّ كمن آمن، أو سقاية الحاجّ كإيمان من آمن.

ثمّ أنّه تعالى بعد نفيه التّساوي بين المتّصفين بتلك الصّفات بإنكاره على مدّعيه، صرّح بعدم تساويهم تأكيدا بقوله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللّهِ ثمّ عيّن المفضول بقوله: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى خير و فضله اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بترك قبول الاسلام، و القيام في الجهاد.

و قيل: إنّ المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحاجّ، و عمّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمّد و أصحابه؟ فقالت اليهود: أنتم أفضل (1).

و قيل: إنّ علىّ عليه السّلام قال للعبّاس بعد إسلامه: يا عمّي، ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول اللّه؟ فقال: أ لست في أفضل من الهجرة؛ أسقي حاجّ البيت، و أعمر المسجد الحرام. فلمّا نزلت هذه الآية قال: ما أراني إلاّ تارك سقايتنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أقيموا على سقايتكم فإنّ لكم فيها خيرا» (2).

و عن ابن عبّاس: لمّا أغلظ عليّ الكلام للعبّاس، [قال العباس]: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام و الهجرة و الجهاد، فلقد كنّا نعمر المسجد الحرام و نسقي الحاجّ (3)، فنزلت.

و قال العلامة في (نهج الحق) : روى الجمهور في (الجمع بين الصحاح الستة) : أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لمّا افتخر طلحة بن شيبة و العباس، فقال طلحة: أنا أولى بالبيت لأنّ المفتاح بيدي، و قال العباس: أنا أولى، أنا صاحب السّقاية و القائم عليها، فقال عليّ عليه السّلام: «أنا أوّل الناس إيمانا، و أكثرهم جهادا» . فانزل اللّه هذه الآية (1).

و قال فضل بن روزبهان: هذا صحيح من رواية الجمهور (2).

القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ قوله: كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ (3).

و عنه: نزلت في عليّ عليه السّلام و العباس و شيبة، قال العباس: أنا أفضل لأنّ سقاية الحاجّ بيدي، و قال شيبة: أنا أفضل لأنّ حجابة البيت بيدي، و قال عليّ عليه السّلام: «أنا أفضل؛ فإنّي آمنت قبلكما، ثمّ هاجرت و جاهدت» ، فرضوا برسول صلّى اللّه عليه و آله اللّه [حكما] (4)فأنزل اللّه [الآية].

و زاد في رواية: «و ضربت خراطيمكما بالسّيف حتّى آمنتما صلّى اللّه عليه و آله» (5).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «نزلت في حمزة و عليّ و جعفر و العباس و شيبة، إنّهم فخروا بالسّقاية

ص: 133


1- . نهج الحق:182.
2- . دلائل الصدق 2:159.
3- . تفسير القمي 1:284، تفسير الصافي 2:328.
4- . تفسير القمي 1:284، تفسير الصافي 2:328.
5- . مجمع البيان 5:23، تفسير الصافي 2:328.

و الحجابة، فأنزل اللّه [الآية]، و كان عليّ و حمزة و جعفر الّذين آمنوا باللّه و اليوم الآخر، و جاهدوا في سبيل اللّه» (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 20 الی 22

ثمّ عيّن اللّه الفاضل صريحا بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ و هم عليّ عليه السّلام و أضرابه، فإنّهم بسبب تلك الصّفات أَعْظَمُ دَرَجَةً و أعلى منزلة، و أكثر كرامة عِنْدَ اَللّهِ ممّن ليس له هذه الصّفات، و إن كان ساقي الحاجّ و عامر المسجد الحرام وَ أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصّفات الفائقة هُمُ اَلْفائِزُونَ بأعلى المقاصد، و هو أنّه يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ في الدّنيا بلسان الرّسل، و في الآخرة بتوسّط الملائكة بِرَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنْهُ تعالى وَ رِضْوانٍ منه تعجز العقول عن إدراكهما و وصفهما وَ جَنّاتٍ و بساتين عديدة لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ و دائم لانفاد له، حال كونهم خالِدِينَ في تلك الجنّات، مقيمين فِيها أَبَداً ليس لهم خوف الخروج منها إِنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ على هذه الكمالات النفسانيّة أَجْرٌ عَظِيمٌ يستحقر عنده كلّ أجر.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اَللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن اتّخاذ الكفّار وليجة و بطانة، نهى عن موالاتهم و لو كانوا أقرب الأقارب، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله عن صميم القلب لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ مع كمال قربهم إليكم أَوْلِياءَ و أحبّاء لأنفسكم إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ و رجّحوه عَلَى اَلْإِيمانِ.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اِقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ (24)ثمّ حذّرهم اللّه عن موالاتهم و مخالطتهم بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ و يوادّهم مِنْكُمْ بأيّ مرتبة من

ص: 134


1- . تفسير العياشي 2:226/1802، الكافي 8:203/245، تفسير الصافي 2:328.

الموالاة و الموادّة فَأُولئِكَ الموالون لهم هُمُ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك و العذاب.

عن ابن عباس قال: يريد مشركا مثلهم؛ لأنّه رضي بشركهم، و الرّضا بالكفر كفر، كما أنّ الرّضا بالفسق فسق (1).

قيل: إنّهم ظالمون بوضع الموالاة في غير موضعها (2).

عن الباقر عليه السّلام: «الكفر في الباطن، في الآية: ولاية الأول و الثاني، و الايمان: ولاية عليّ عليه السّلام» (3).

ثمّ قيل: إنّ جماعة من المؤمنين قالوا: يا رسول اللّه، كيف يمكننا البراءة منهم بالكليّة، و إنّها توجب انقطاعنا عن آبائنا و إخواننا و عشيرتنا، و ذهاب تجارتنا، و هلاك أموالنا، و خراب ديارنا (4)؟ و قيل: لمّا امروا بالهجرة كان يمنعهم أقرباؤهم، فمنهم من كان يتركها لأجلهم (5).

و عن القمّي: لما أذّن أمير المؤمنين عليه السّلام بمكّة: أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام، جزعت قريش و قالوا: ذهبت تجارتنا و ضاع عيالنا، و خربت دورنا (6)، فردّهم اللّه بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ أيّها المؤمنون وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اِقْتَرَفْتُمُوها و أصبتموها وَ تِجارَةٌ و أمتعة مهيّأة للمعاملة تَخْشَوْنَ كَسادَها و فوات أوان رواجها لغيبتكم من سوقها وَ مَساكِنُ و منازل تَرْضَوْنَها و تحبّونها لأنفسكم أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ و طاعتهما بالهجرة إلى المدينة، وَ جِهادٍ مع أعداء اللّه فِي سَبِيلِهِ و طلبا لمرضاته فَتَرَبَّصُوا و انتظروا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ من عقوبة شديدة عاجلة، أو أجلكم؛ لأنّكم عصيتم اللّه بترجيح حبّ غيره على حبّه، و تقديم هوى أنفسكم و شهواتها على مرضاته و مرضاة رسوله، و حبّ الحطام الفانية الدّنيويّة على النّعم الاخرويّة الدائمة، و حبّ المساكن الخربة الزائلة على القصور العالية. فإنّ ذلك لا يكون إلاّ لضعف الايمان، و عدم المعرفة الصحيحة بالمبدأ و المعاد، و الإقبال على الدّنيا، و الإعراض عن الدّين، و الخروج عن حدوده وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى الخير، و لا يوصل إليه اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ و الخارجين عن حدود العقل و الشّرع.

و فيه وعيد شديد لا يتخلّص منه إلاّ الأوحديّ من أهل الايمان.

في الحديث: «لا يجد [أحدكم]طعم الايمان حتّى يحبّ في اللّه و يبغض في اللّه» (7).

ص: 135


1- . تفسير الرازي 16:18.
2- . تفسير روح البيان 3:403.
3- . تفسير العياشي 2:226/1803، تفسير الصافي 2:329.
4- . تفسير الرازي 16:19.
5- . جوامع الجامع:176.
6- . تفسير القمي 1:284، تفسير الصافي 2:329.
7- . جوامع الجامع:176، تفسير الصافي 2:329.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 25 الی 26

ثمّ لمّا كان حبّ الأقارب لتوقّع النّصرة منهم على الأعداء، نبّههم على أنّه خير النّاصرين و الحافظين لهم، بقوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بقدرته على الأعداء فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ من الحروب، و مقامات عديدة في الجهاد؛ كيوم بدر، و احد، و الأحزاب، و غيرها وَ يَوْمَ غزوة حُنَيْنٍ و هو-على ما قيل -واد بين مكّة و الطائف، و يقال لها غزوة أوطاس إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ و سرّتكم كَثْرَتُكُمْ و زيادة نفوسكم، و قوّة شوكتكم، حتّى قال أبو بكر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لن نغلب اليوم من قلّة (1)، فساءته صلّى اللّه عليه و آله مقالته فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ كثرة عددكم (2)شَيْئاً من الإغناء، و لم تفدكم قوّة شوكتكم فائدة أصلا وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ فلا تجدون مأمنا من بأس العدوّ فيها بِما رَحُبَتْ و مع سعتها من شدّة الرّعب ثُمَّ وَلَّيْتُمْ الأعداء ظهوركم، حال كونكم مُدْبِرِينَ و منهزمين منهم.

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلْكافِرِينَ (26)روى بعض العامّة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فتح مكّة لثلاثة أيّام بقيت من رمضان-و قيل: لثلاثة عشر يوما (3)مضت منه-فمكث بها إلى أن دخل شوّال، و حين فتحت مكّة أطاعه العرب إلاّ هوازن و ثقيفا، و كانوا طغاة مردة، فخافوا أن يغزوهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ظنّوا أنّه صلّى اللّه عليه و آله يدعوهم إلى الاسلام، فثقل ذلك عليهم، فحشدوا و بغوا و قالوا: إنّ محمّدا لاقى أقواما لا يحسنون القتال، فأجمعوا أمرهم على قتال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فأخرجوا معهم أموالهم و نساءهم و أبناءهم وراءهم، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله يوم السّبت السادس من شوّال إلى حنين، و استعمل على مكّة عتاب بن أسيد يصلّي بهم، و معاذ بن جبل يعلّمهم السّنن و الأحكام، و كان عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اثني عشر ألفا؛ عشرة آلاف من شهد فتح مكّة من المهاجرين و الأنصار، و ألفان من الطّلقاء، و هم أهل مكّة، و كان هوازن و ثقيف أربعة آلاف، سوى الجمّ الغفير من أمداد سائر العرب، و حملوا النّساء فوق الإبل وراء صفوف الرّجال، ثمّ جاءوا بالإبل و الغنم و الذّراري وراء ذلك؛ كي يقاتل كلّ منهم عن أهله و ماله، و لا يفرّ أحد بزعمهم، فساروا كذلك حتّى نزلوا بأوطاس.

ص: 136


1- . تفسير الرازي 16:21.
2- . في النسخة: كثرة عدوّ.
3- . في النسخة: لثلاث عشرة أيام.

و قد كان صلّى اللّه عليه و آله بعث إليهم عينا ليتجسّس عن حالهم، و هو عبد اللّه بن أبي حدرد (1)من بني سليم، فوصل إليهم فسمع مالك بن عوف أمير هوازن يقول لأصحابه: أنتم اليوم أربعة آلاف رجل، فإذا لقيتم العدوّ فاحملوا عليهم حملة واحدة، و اكسروا جفون سيوفكم، فو اللّه لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئا إلاّ فرج.

فأقبل العين إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بما سمع من مقالتهم، فقال سلمة بن سلامة الوقسي الأنصاري- أو أبو بكر؛ كما قال الفخر الرازي، و بعض آخر من العامّة-: يا رسول اللّه، لن نغلب اليوم من قلّة، فساءت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلمته، فركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغلته دلدل، و لبس درع داود التي لبسها حين قتل جالوت، و وضع الألوية و الرّايات مع المهاجرين، فلمّا كان بحنين و انحدروا [في الوادي]و ذلك عند غلس (2)الصّبح يوم الثّلثاء، خرج عليهم القوم و كانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي و مضائقه، و كانوا رماة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المشركون و خلّوا الذّاري، فأكبّ المسلمون عليهم، فتنادى المشركون: يا حملة (3)السّوء، اذكروا الفضائح، فتراجعوا و حملوا عليهم، فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب و شؤمها، فانكشفوا فلم يقوموا لهم مقدار حلب شاة (4).

قيل: بلغ منهزمهم مكّة، و سرّ بذلك قوم من المشركين، و أظهروا الشّماتة حتى قال أخو صفوان بن اميّة لامّه: ألا قد أبطل اللّه السّحر اليوم. فقال له صفوان؛ و هو يومئذ مشرك: فضّ اللّه فاك، و اللّه لئن يملكني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يملكني رجل من هوازن. فلمّا انهزموا بقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وحده و ليس معه إلاّ عمّه العباس آخدا بلجام بغلته، و ابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب آخدا بركابه، و هو يركض (5)البغلة نحو المشركين و يقول:

«أنا النبيّ لا كذب *** أنا بن عبد المطّلب

و كان يحمل على الكفّار فيفرّون، ثمّ يحملون عليه فيقف لهم، فعل ذلك بضع عشرة مرّة. قال العبّاس: كنت أكفّ البغلة لئلاّ تسرع [به]نحو المشركين. و ناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته حيث لم يخف اسمه في تلك الحال، و لم يخف الكفّار على نفسه، و ما ذلك إلاّ لكونه مؤيّدا من عند اللّه العزيز الحكيم.

فعند ذلك قال: يا ربّ ائتني بما وعدتني، و قال للعباس-و كان جهوريّ الصّوت-: «صح بالنّاس» ،

ص: 137


1- . في النسخة: جذر، و في المصدر: حذر، و كلاهما تصحيف، راجع: اسد الغابة 3:141.
2- . في تفسير روح البيان: غبش، و الغلس كالغبش، و هي ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
3- . في تفسير روح البيان: حماة.
4- . تفسير روح البيان 3:405.
5- . أي يضرب جنبها برجله ليحثّها على السّير، و الضمير عائد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فنادى الأنصار فخذا فخذا، ثمّ نادى: يا أصحاب الشّجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكرّوا عنقا واحدة (1)و هم يقولون: لبّيك لبّيك، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده كفّا من الحصاة فرماهم بها و قال: «شاهت الوجوه» .

فأخبره اللّه سبحانه بنزول النّصر بقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ و رحمته المسكّنة للقلوب عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ.

و قيل: إنّ بغلته انخفضت حتى كادت بطنها تمسّ الأرض، ثمّ قبض قبضة من تراب فرمى به نحو المشركين و قال: «شاهت الوجوه» ، فلم يبق منهم أحد إلاّ امتلات به عيناه، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «انهزموا و ربّ الكعبة» (2).

وَ أَنْزَلَ اللّه لنصره من السّماء جُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها . عن سعيد بن جبير قال: أيّد اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بخمسة آلاف من الملائكة (3).

و عن سعيد بن المسيّب قال: حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء تلقّانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا: شاهت الوجوه، ارجعوا فرجعنا، فركبوا أكتافنا (4).

في ذكر قصة

غزوة حنين

القمّي رحمه اللّه: كان سبب غزوة حنين أنّه لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى فتح مكة، أظهر أنّه يريد هوازن، و بلغ الخبر هوازن فتهيّأوا و جمعوا الجموع و السلاح، و اجتمع رؤساؤهم إلى مالك بن عوف النضري فرأّسوه عليهم، و خرجوا و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم، و مرّوا حتّى نزلوا أوطاس، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اجتماعهم بأوطاس، فجمع القبائل و رغّبهم في الجهاد و وعدهم النّصر، و أن اللّه قد وعده أن يغنمه أموالهم و نساءهم و ذراريهم، فرغّب النّاس و خرجوا على راياتهم، و عقد اللّواء الأكبر و دفعه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و كلّ من دخل مكّة براية أمره أن يحملها، و خرج في اثني عشر ألف رجل، عشرة آلاف ممّن كان معه (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان معه من بني سليم ألف رجل رئيسهم عبّاس بن مرداس السّلمى، و من مزينة ألف رجل» .

ص: 138


1- . أي حملوا جماعة واحدة.
2- . تفسير روح البيان 3:406-407.
3- . تفسير الرازي 16:22.
4- . تفسير الرازي 16:22.
5- . تفسير القمي 1:285، تفسير الصافي 2:330.

فمضوا حتّى كان من القوم مسيرة بعض ليله، و قال مالك بن عوف لقومه: ليصيّر كلّ رجل منكم أهله و ماله خلف ظهره، و اكسروا جفون سيوفكم، و اكمنوا في شعاب هذا الوادي و في الشّجر، فإذا كان في غلس الصّبح فاحملوا حملة رجل واحد، و هدّوا القوم، فإنّ محمّدا لم يلق أحدا يحسن الحرب.

فلمّا صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغداة انحدر في وادي حنين، و هو واد له انحدار بعيد، و كان بنو سليم على مقدّمته، فخرج عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية، فانهزمت بنو سليم و انهزم من وراءهم، و لم يبق أحد إلاّ انهزم، و بقي أمير المؤمنين يقاتلهم في نفر قليل، و مرّ المنهزمون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يلوون على شيء، و كان العبّاس آخذا بلجام بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن يمينه، و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب عن يساره، فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينادي: «يا معشر الأنصار، إلى أين (1)؟ أنا رسول اللّه» . فلم يلو أحد عليه.

و كانت نسيبة بنت كعب المازنيّة تحثو في وجوه المنهزمين التّراب و تقول: إلى أين تفرّون عن اللّه و عن رسوله؟ و مرّ بها عمر فقالت: و يلك، ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر اللّه.

فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. الهزيمة ركض نحوهم على بغلته و قد شهر سيفه و قال: «يا عبّاس اصعد هذا الظّرب (2)و ناد: يا أصحاب البقرة، و يا أصحاب الشّجرة، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول اللّه» .

ثمّ رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده فقال: «الّلهم لك الحمد، و إليك المشتكى، و أنت المستعان» . فنزل عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللّه، دعوت بما دعا [به]موسى حيث فلق اللّه له البحر و نجّاه من فرعون، ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبي سفيان [بن]الحارث: ناولني كفّا من الحصى فناوله، فرماه في وجوه المشركين ثمّ قال: «شاهت الوجوه» ، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء و قال: «اللّهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد» .

فلمّا سمعت الأنصار نداء العباس، عطفوا و كسروا جفون سيوفهم و هم يقولون: لبّيك، و مرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استحيوا أن يرجعوا إليه، و لحقوا بالرّاية، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعباس: «من هؤلاء يا أبا الفضل؟» فقال: يا رسول اللّه، هؤلاء الأنصار، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «الآن حمي الوطيس» ، و نزل النّصر من اللّه، و انهزمت هوازن، و كانوا يسمعون قعقعة السّلاح في الجوّ، و انهزموا في كلّ وجه، و غنّم اللّه رسوله أموالهم و نساءهم و ذراريهم، و هو قول اللّه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ

ص: 139


1- . زاد في القمي: المفرّ.
2- . الظّرب: الجبل المنبسط.

حُنَيْنٍ (1) .

و قال رجل من بني نضر بن معاوية يقال له شجرة بن ربيعة للمؤمنين؛ و هو أسير في أيديهم: أين الخيل البلق (2)، و الرّجال عليهم الثياب البيض؟ فإنّما كان قتلنا بأيديهم، و ما كنّا نراكم فيهم إلاّ كهيئة الشّامة، قالوا: هم الملائكة (3).

و عن الرضا عليه السّلام، سئل: ما السكينة؟ فقال: «ريح من الجنّة، لها وجه كوجه الإنسان، أطيب ريحا من المسك، و هي التي أنزلها اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه و آله بحنين، فهزم المشركون» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «قتل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم حنين أربعين صلّى اللّه عليه و آله» (5).

و روي أنّه لمّا هزم اللّه المشركين بوادي حنين ولّوا مدبرين، و نزلوا بأوطاس و بها عيالهم و أموالهم، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلا من الأشعريّين يقال له أبو عامر، و أمّره على جيش إلى أوطاس، فسار إليهم فاقتتلوا، و هزم اللّه المشركين، و سبى المسلمون عيالهم، و هرب أميرهم مالك بن عوف (6).

وَ عَذَّبَ اللّه اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر وَ ذلِكَ العذاب جَزاءُ اَلْكافِرِينَ في الدّنيا، و لعذاب الآخرة أكبر.

ثمّ روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتى الطائف، فحاصر أهله بقيّة ذلك الشهر، فلمّا دخل ذو القعدة انصرف عنهم، فأتى الجعرانة (7)فأحرم منها بعمرة بعد أن قام بها ثلاث عشرة ليلة، و قال: «اعتمر منها سبعون نبيّا» ، و قسّم بها غنائمهم، و كانت ستة آلاف نفس، و الإبل أربعة و عشرون ألفا، و الغنم أكثر من أربعين ألفا، و أربعة آلاف اوقيّة فضّة، و تألّف اناسا فجعل يعطي الرّجل الخمسين و المائة من الإبل، و لمّا قسّم ما بقي خصّ كلّ رجل بأربع من الإبل و أربعين شاة، فقالت طائفة: يا للعجب، إنّ أسيافنا تقطر من دمائهم، و غنائمنا تردّ إليهم! فبلغ ذلك النّبي صلّى اللّه عليه و آله فجمعهم فقال: «يا معشر الأنصار، ما هذا الذي بلغني عنكم؟» فقالوا: هو الذي بلغك؛ و كانوا لا يكذبون، فقال: «ألم تكونوا ضلاّلا فهداكم اللّه بي، و كنتم أذلّة فأعزّكم اللّه بي، و كنتم و كنتم؟ أما ترضون أن ينقلب النّاس بالشّياه و الإبل، و تنقلبون برسول اللّه إلى بيوتكم؟» فقالوا: بلى رضينا يا رسول اللّه، و اللّه ما قلنا ذلك إلاّ محبّة للّه و لرسوله. فقال: «إنّ اللّه و رسوله يصدّقانكم و يعذرانكم» (8).

ص: 140


1- . تفسير القمي 1:286، تفسير الصافي 2:330.
2- . البلق: جمع أبلق، و هو الذي يخالط لونه السواد مع البياض.
3- . تفسير القمي 1:288، تفسير الصافي 2:332.
4- . الكافي 5:257/3، تفسير الصافي 2:332.
5- . الكافي 8:376/566، تفسير الصافي 2:332.
6- . تفسير روح البيان 3:408.
7- . اسم موضع بين مكة و الطائف.
8- . تفسير روح البيان 3:408.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 27

ثمّ أنّه أخبر اللّه بإسلام بعض هوازن بقوله: ثُمَّ يَتُوبُ اَللّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ توبته بتوفيقه لقبول الإسلام وَ اَللّهُ غَفُورٌ و متجاوز عمّا سلف منهم من الكفر و المعاصي رَحِيمٌ بهم بإعطائهم الثّواب الجزيل.

ثُمَّ يَتُوبُ اَللّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)روي أنّ اناسا منهم جاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بايعوه على الاسلام، و قالوا: يا رسول اللّه، أنت خير النّاس و أبرّهم، و قد سبي أهلونا و أولادنا، و اخذت أموالنا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ عندي ما ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم و نساءكم، و إمّا أموالكم» . قالوا: ما كنّا نعدل بأحسابنا شيئا.

فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «إنّ هؤلاء جاءونا مسلمين، و إنّا خيّرناهم بين الذّراري و الأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده سبي و طابت نفسه أن يردّه فشأنه [و ليفعل ما طاب له]و من لا فليعطنا و لكن قرضا علينا، حتّى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» . قالوا: رضينا و سلّمنا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّا لا ندري لعلّ فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا» ، فرفعت إليه العرفاء أنّهم قد رضوا.

ثمّ قال لوفد هوازن: «ما فعل مالك بن عوف؟» قالوا: يا رسول اللّه، هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله و ماله، و أعطيته مائة [من]الإبل» ، فلمّا بلغه هذا الخبر نزل من الحصن مستخفيا خوفا من أن تحبسه ثقيف إذا علموا الحال، و ركب فرسه و ركضه حتّى أتى الدّهناء-محلا معروفا-و ركب راحلته و لحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأدركه بالجعرانة فأسلم، فردّ عليه أهله و ماله، و استعمله على من أسلم من هوازن، و كان هو ممّن فتح عامّة الشّام (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 28

ثمّ منع اللّه المشركين من دخول المسجد الحرام بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و قذر، عن ابن عباس قال: أعيانهم نجسة كالكلاب و الخنازير (2)فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ فضلا عن أن يدخلوا فيه بَعْدَ عامِهِمْ هذا الذي أنتم فيه.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

ص: 141


1- . تفسير روح البيان 3:408.
2- . تفسير الرازي 16:24.

ثمّ قيل: إن اناسا قالوا لأهل مكّة: ستلقون الشدّة من انقطاع السّبل، و فقد الحمولات (1)، فوعد اللّه سدّ خلّة (2)المؤمنين بقوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ على أنفسكم عَيْلَةً و فقرا و حاجة بسبب منع المشركين من الحجّ، و انقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق، و تعطيل المكاسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ عنهم في إرزاقكم مِنْ فَضْلِهِ وجوده إِنْ شاءَ غناءكم وسعة معائشكم.

و في تعليق إغنائهم على مشيئته تنبيه على وجوب كونهم راجين بكرمه، متضرّعين إليه، و أنّ ما يصل إليهم يكون بتفضّله، و أنّ الوعد لا يعمّ جميع الناس و جميع الأمكنة و الأزمان، بل هو لبعض دون بعض.

في إيجاب الجزية

على أهل الكتاب

قيل: إنّ اللّه أنجز وعده بأن أرسل السّماء عليهم مدرارا و وفّق أهل تبالة و جرش (3)للاسلام، و امتاروا (4)لهم، ثمّ فتح عليهم البلاد، و رزقهم الغنائم الوفيرة، و وجّه إليهم النّاس من أقطار الأرض (5).

إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بأحوال عباده و مصالحهم حَكِيمٌ يعطي و يمنع على حسب صلاح الأشخاص و نظام العالم.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 29

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بقتال المشركين حتّى يقتلوا أو يسلموا و يتوبوا، أمر بقتال أهل الكتاب حتّى يعطوا الجزية بقوله: قاتِلُوا يا أهل الإسلام اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ حقّ الإيمان به وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ كما ينبغي وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ عليهم في كتابه وَ رَسُولُهُ في سنّته وَ لا يَدِينُونَ و لا يعتقدون أو لا يقبلون دِينَ اَلْحَقِّ الثّابت من اللّه و هو الاسلام مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ السّماوي من التّوراة و الإنجيل و غيرهما، و استمرّوا على قتالكم حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ و المال المضروب عليهم منكم، حال كون عطائهم إيّاه عَنْ يَدٍ منهم و بمباشرتهم الإعطاء وَ هُمْ

قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)

ص: 142


1- . الحمولات: جمع الحمولة، و هي الإبل و غيرها التي تحمل المؤن، و تطلق الحمولة على نفس المؤن المحمولة على الإبل.
2- . الخلّة: هي الفقر الحاجة.
3- . في النسخة: بتالة و حريش، و تبالة: موضع ببلاد اليمن، و جرش: من مخاليف اليمن من جهة مكة، قال المهلّبي: أسلم أهل تبالة و جرش من غير حرب، فأقرّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أيدي أهلها على ما أسلموا عليه، و جعل على كلّ حالم ممن بهما من أهل الكتاب دينارا، و اشترط عليهم ضيافة المسلمين. معجم البلدان 2:10 و 147.
4- . أى جمعوا الميرة لأنفسهم، و هي الطعام و المؤن.
5- تفسير روح البيان 3:411.

صاغِرُونَ ذليلون عندكم.

في أحكام الجزية

عن الباقر عليه السّلام: «بعث اللّه محمّدا بخمسة أشياء» (1)إلى أن قال: «قال اللّه تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (2)نزلت هذه الآية في أهل الذمّة، ثمّ نسخها قوله سبحانه: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ الآية، فمن كان منهم في دار الإسلام لم يقبل منهم إلاّ الجزية أو القتل، و ما لهم فيء، و ذراريهم سبي، فإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرّم علينا سبيهم، و حرّمت أموالهم، و حلّت لنا مناكحتهم، و من كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم و أموالهم، و لم تحلّ مناكحتهم، و لم يقبل منهم إلاّ الدّخول في الاسلام أو الجزيه أو القتل» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن المجوس: أكان لهم نبيّ؟ فقال: «نعم، أما بلغك كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أهل مكّة: أن أسلموا و إلاّ فأذنوا بحرب، فكتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أن خذ منّا الجزية و دعنا على عبادة الأوثان، فكتب إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لست آخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب، فكتبوا إليه، يريدون تكذيبه: زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب، ثمّ أخذت الجزية من مجوس هجر؟ ! فكتب إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه، و كتاب أحرقوه» (4).

و في (العلل) : عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن النّساء: كيف سقطت الجزية و رفعت عنهن؟ فقال: «لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن قتل النّساء و الولدان في دار الحرب إلاّ أن تقاتل، و إن قاتلت [أيضا]» فأمسك عنها ما أمكنك و لم تخف خللا، فلمّا نهى عن قتلهنّ في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى، و لو امتنعت أن تؤدّي الجزية لم يمكن قتلها، فلمّا لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها، و لو امتنع الرّجال و أبوا أن يؤدّوا الجزية كانوا ناقضين للعهد، و حلّت دماؤهم و قتلهم، لأنّ قتل الرّجال مباح في دار الشّرك، و كذلك المقعد من أهل الشّرك و الذّمة، [و الأعمى]و الشيخ الفاني، و المرأة و الولدان في أرض الحرب. و من أجل ذلك رفعت عنهم الجزية» (5).

و عنه عليه السّلام: «جرت السنّة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه، و لا من المغلوب على عقله» (6).

و القمّي رحمه اللّه: عنه عليه السّلام، أنّه سئل: ما حدّ الجزية على أهل الكتاب، و هل عليهم في ذلك [شيء] موظّف لا ينبغي أن يجوزوا إلى غيره؟

فقال: «ذلك إلى الإمام، يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله و ما يطيق، إنّما هم قوم فدوا

ص: 143


1- . في الكافي: أسياف.
2- . البقرة:2/83.
3- . الكافي 5:11/2، تفسير الصافي 2:334.
4- . الكافي 3:567/4، تفسير الصافي 2:334.
5- . علل الشرائع:376/1، تفسير الصافي 2:334.
6- . الكافي 3:567/3، من لا يحضره الفقيه 2:28/101، تفسير الصافي 2:335.

أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يؤخذ منهم بها حتى يسلموا، فإنّ اللّه تعالى قال: حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ، و كيف يكون و هو لا يكترث لما يؤخذ منه، لا حتّى يجد ذلاّ لما يؤخذ منه فيألم لذلك فيسلم» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في أهل الذّمّة: أيؤخذ من أموالهم و مواشيهم شيء سوى الجزية؟ قال: «لا» (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 30

ثمّ بيّن سبحانه عدم إيمانهم بقوله: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ و اعتقدت أنّه عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ.

وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اَللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ (30)عن ابن عبّاس: أتى جماعة من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ و هم سلاّم بن مشكم، و النّعمان بن أوفى، و مالك بن الصّيف، و قالوا: كيف نتبعك و قد تركت قبلتنا، و لا تزعم أنّ عزيرا ابن اللّه؟ فنزلت الآية (3).

و قيل: إنّ هذا القول كان شائعا بينهم في ذلك العصر ثمّ انقطع، و لا عبرة بإنكار اليهود، فإنّ حكاية اللّه عنهم أصدق.

و في (الاحتجاج) : أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طالبهم فيه بالحجّة، فقالوا: لأنّه أحيى [لبني إسرائيل]التّوراة بعدما ذهبت، و لم يفعل بها هذا إلاّ لأنّه ابنه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كيف صار عزير ابن اللّه دون موسى، و هو الذي جاءهم بالتوراة، و رأوا منه [من] المعجزات ما [قد]علمتم، فإن كان عزير ابن اللّه لما ظهر من إكرامه من إحياء التّوراة، فلقد كان موسى بالنبوّة أحقّ و أولى» (4).

وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ثمّ ردّهم بقوله: ذلِكَ القول الباطل الذي صدر منهم قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ و ألسنتهم بلا مساعدة برهان عليه، بل البراهين القاطعة على خلافه، و هم في هذا القول يُضاهِؤُنَ و يشابهون، يعني قولهم هذا يشابه قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ بأنّ الملائكة، أو اللاّت و العزّى بنات اللّه.

ثمّ أظهر الغضب بالدّعاء عليهم بقوله: قاتَلَهُمُ اَللّهُ و أهلكهم كيف تصدر من لسانهم هذه الأباطيل، و أَنّى يُؤْفَكُونَ و إلى أين يصرفون من الحقّ.

ص: 144


1- . تفسير القمي 1:288، تفسير الصافي 2:335.
2- . الكافي 3:568/7، تفسير الصافي 2:335.
3- . تفسير الرازي 16:33.
4- . الاحتجاج:23، تفسير الصافي 2:335.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: «أي لعنهم، فسمّى اللّعنة قتالا» (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اشتدّ غضب اللّه على اليهود حين قالوا: عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ، و اشتدّ غضب اللّه على النّصارى حين قالوا: اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ، و اشتدّ غضب اللّه على من أراق دمي و آذاني في عترتي» (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 31

ثمّ قدح اللّه فيهم بإثبات شرك آخر لهم بقوله: اِتَّخَذُوا هؤلاء اليهود و النّصارى أَحْبارَهُمْ و علماءهم وَ رُهْبانَهُمْ و زهّادهم أَرْباباً و مطاعين كأنّهم معبودون لهم مِنْ دُونِ اَللّهِ و متجاوزين عنه.

اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (31)عن الصادق عليه السّلام: «أما و اللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، و لو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، و لكن أحلّوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (3).

وَ اتّخذوا اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ أيضا ربّا و معبودا بعد ما قالوا إنّه ابن اللّه.

القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «أمّا المسيح فعصوه، و عظّموه في أنفسهم، حتّى زعموا أنّه إله، و أنّه ابن اللّه، و طائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة [و طائفة منهم قالوا: هو اللّه]، و أمّا أحبارهم و رهبانهم فإنّهم أطاعوهم، و أخذوا بقولهم، و اتّبعوا ما أمروهم به، و دانوا بما دعوهم إليه، فاتّخذوهم أربابا بطاعتهم لهم، و تركهم أمر اللّه و كتبه و رسله، فنبذوه وراء ظهورهم» . قال: «و إنّما ذكر هذا في كتابه لكي نتّعظ بهم» (4).

وَ الحال أنّهم ما أُمِرُوا من قبل اللّه، و بحكم عقولهم، بشيء إِلاّ لِيَعْبُدُوا و ليطيعوا إِلهاً واحِداً و لا يطيعون غيره، و أمّا طاعة غيره بأمره فهي (5)في الحقيقة طاعته.

ثمّ أكّد سبحانه وحدانيّته في الالوهيّة و الربوبيّة و العبادة بقوله: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الشّرك بقوله: سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ به في الالوهيّة و العبادة، و تعالى شأنه عن ذلك.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 32

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ (32)

ص: 145


1- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 2:336.
2- . تفسير العياشي 2:229/1810، أمالى الطوسي:142/231، تفسير الصافي 2:336.
3- . الكافي 1:43/1، تفسير الصافي 2:336.
4- . تفسير القمي 1:289، تفسير الصافي 2:336.
5- . زاد في النسخة: بأمره.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء عقيدتهم، بيّن سوء أفعالهم الموجب لاستحقاقهم القتل و الذلّة بقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا و يخمدوا نُورَ اَللّهِ و يبطلوا براهين توحيده و تنزّهه عن اتّخاذ الولد، و يخفوا أدلّة صدق النبيّ عن عوامّهم، و يشوّشوا شواهد صحّة شريعته بأقاويلهم الباطلة و شبهاتهم الفاسدة التي يقولونها بِأَفْواهِهِمْ مع عدم اعتقاد صحّة معانيها في قلوبهم، كأنّهم يسعون أن يطفئوا نور الشّمس بنفخهم وَ يَأْبَى اَللّهُ و يمتنع إِلاّ أَنْ يثبت دينه، و يُتِمَّ نُورَهُ ببلوغه الغاية في الإضاءة و الإنارة، و يحقّ الحقّ بنصرة رسوله، و ظهور معجزاته، و إعلاه كلمته وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ ذلك فضلا عن أن لا يكرهوه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في هذه الآية: «يعني [أنّهم]أثبتوا في الكتاب ما لم يقله اللّه ليلبسوا على الخليقة، فأعمى اللّه قلوبهم حتّى تركوا فيه ما دلّ على ما أحدثوا فيه و حرّفوا منه» (1).

و عنه عليه السّلام: «جعل [اللّه]أهل الكتاب المقيمين به، و العالمين بظاهره و باطنه، من شجرة أصلها ثابت و فرعها في السّماء تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها، أي يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، و جعل أعداءها أهل الشجرة الملعونه الّذين حاولوا إطفاء نور اللّه بأفواههم فأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره» (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 33

ثمّ بيّن اللّه إتمام نور بظهور رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله: هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ الذي جاءكم بِالْهُدى و دلائل الصّدق من القرآن العظيم، و المعجزات الباهرة الكثيرة وَ دِينِ اَلْحَقِّ المرضيّ عند اللّه، و الأحكام الموافقة لصلاح العباد لِيُظْهِرَهُ و ليغلبه بالحجّة و السّيف عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره.

هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ (33)قيل: إنّ المراد ظهور الإسلام على سائر الأديان في جزيرة العرب، أو غلبته على سائر الأديان في الجملة، فإنّه لم يكن أهل دين إلاّ و قهرهم المسلمون؛ أمّا اليهود فقد قهرهم المسلمون حتى أخرجوهم من جزيرة العرب، و أمّا النّصارى فقد غلبوهم على بلاد الشّام و ما والاها إلى ناحية الرّوم و المغرب، و امّا عبدة الأوثان فقد غلبوهم على كثير من بلادهم ممّا يلي التّرك و الهند، و كذلك سائر الأديان.

ص: 146


1- . الاحتجاج:249، تفسير الصافي 2:337.
2- . الاحتجاج:252، تفسير الصافي 2:337.

و روت العامة عن أبي هريرة أنّه قال: هذا وعد من اللّه بأنّه تعالى يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان، و تمام هذا يحصل عند نزول عيسى (1).

و عن السدي قال: ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلاّ دخل في الاسلام، أو أدّى الخراج (2).

القمّي قال: نزلت في القائم من آل محمّد. قال: و هو الذي ذكرناه ممّا تأويله بعد تنزيله (1).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «و اللّه ما نزل تأويلها بعد، و ما ينزل حتى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لا يبقى كافر باللّه العظيم و لا مشرك بالإمام إلاّ كره خروجه، حتّى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة لقالت: يا مؤمن، في بطني كافر فاكسرني و اقتله» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و غاب صاحب هذه الأمر بإيضاح الغدر له في ذلك؛ لاشتمال الفتنة على القلوب، حتّى يكون أقرب النّاس إليه أشدّهم عداوة له، و عند ذلك يؤيّده اللّه بجنود لم تروها، و يظهر دين نبيّه على يديه على الدّين كلّه وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ (3).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «أنّ ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمّد، فلا يبقي أحد إلاّ أقرّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله» (4).

و عن العياشي: عنه عليه السّلام، ما في معناه، قال: و في خبر آخر قال: «ليظهره اللّه في الرّجعة» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر و لا وبر إلاّ أدخله اللّه الإسلام إمّا بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، إمّا يعزّهم فيجعلهم اللّه من أهله فيعزّوا به، أو يذلّهم فيدينون له» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «القائم منّا منصور بالرّعب، مؤيّد بالنّصر، تطوى له الأرض، و تظهر له الكنوز، و يبلغ سلطانه المشرق و المغرب، و يظهر اللّه به دينه على الدّين كلّه، فلا يبقى في الأرض خراب إلاّ عمّر، و ينزل روح اللّه عيسى بن مريم فيصلّي خلفه» (7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «أظهر ذلك بعد؟» قالوا: نعم، قال: «كلا، فو الذي نفسي بيده، حتّى لا تبقى قرية إلاّ و تنادي بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و محمّد رسول اللّه، بكرة و عشيّا» (8).

و عن الكاظم عليه السّلام، في هذه الآية: «هو الّذي أمر رسوله بالولاية لوصيّة، و الولاية هي دين الحقّ ليظهره على جميع الأديان عند قيام القائم، و اللّه متمّ ولاية القائم و لو كره الكافرون بولاية عليّ عليه السّلام» .

ص: 147


1- . تفسير القمي 1:289، تفسير الصافي 2:338.
2- . كمال الدين:670/16، تفسير الصافي 2:338.
3- . الاحتجاج:256، تفسير الصافي 2:338.
4- . مجمع البيان 5:38، تفسير الصافي 2:338.
5- . تفسير العياشي 2:231/1818، تفسير الصافي 2:338.
6- . مجمع البيان 5:38، تفسير الصافي 2:338.
7- . إكمال الدين:331/16، تفسير الصافي 2:339.
8- . تفسير الصافي 2:338.

قيل: هذا تنزيل؟ قال: «نعم، هذا الحرف تنزيل، و أما غيره فتأويل» (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أهل الكتاب باتّخاذهم علمائهم أربابا بالمعنى الذي ذكرنا، ذمّ علماءهم و زهّادهم بأكل الرّشا و غيره من المال الحرام بإضلال النّاس؛ بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبارِ و علماء اليهود وَ اَلرُّهْبانِ و زهّاد النّصارى و اللّه لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ و طريق الحرام كالرّشوة للحكم بالجور، و تغيير الأحكام الإلهيّة، و تحريف الكتب السماويّة وَ يَصُدُّونَ و يمنعون النّاس بتسويلاتهم و شبهاتهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و قبول دين الحقّ.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبارِ وَ اَلرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)و لمّا كان استمرارهم على أخذ الحرام مشعرا بغاية حرصهم على جمع الدّراهم و الدّنانير، هدّد سبحانه من له هذه الرّذيلة بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ و يدّخرون اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ [سواء أ]كانا مسكوكين كالدّينار و الدّرهم، أو غير مسكوكين كالسّبائك وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ و الوجوه الخيريّة فَبَشِّرْهُمْ يا محمّد بِعَذابٍ أَلِيمٍ الذي يشتاقون إليه باشتياقهم إلى سببه الذي هو جمع الدّراهم و الدّنانير يَوْمَ يُحْمى و يوقد عَلَيْها نار ذات لهب و شدّة حرارة فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى و تحرق بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ.

قيل: خصّ اللّه الكيّ بتلك المواضع، لأنّ المقصود من الأموال حصول الفرح الذي يحصل أثره في الوجه، و الشّبع الذي ينتفخ به الجنبان، و تحصيل ثياب فاخرة تطرح على الظّهر (2).

و قيل: إنّ البخيل الموسر إذا رأى الفقير قبض جبينه، و إذا جلس بجنبه تباعد منه، و ولاّه ظهره (3).

و قيل: لأنّ في داخل هذه الأعضاء آلات ضعيفة يعظم تألّمها إذا وصل أدنى مولم إليها (4).

و قيل: لأنّ ألطف أعضاء الإنسان جبينه، و متوسّطها في اللّطافة جنبه، و أصلبها ظهره، و المراد بيان إحاطة الكيّ بجميع الأعضاء (5).

و قيل: لأنّ كمال بدن الإنسان بالجمال و القوّة، و محلّ الجمال الوجه، و أعزّ الأعضاء منه الجبهة،

ص: 148


1- . الكافي 1:358/91، تفسير الصافي 2:338. (2 و 3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 16:48.

و محلّ القوّة الجنب و الظّهر، فإذا وقع الكيّ في تلك الأعضاء ذهب الجمال و القوة (1).

أقول: يمكن كون العلّة جميع الامور المذكورة.

و على أيّ تقدير، يقال لهم ازديادا لتحسّرهم: هذا المال هو ما كَنَزْتُمْ و ادّخرتم لِأَنْفُسِكُمْ لا تنفقونه و تلتذّون به فَذُوقُوا و اطعموا طعم ما كُنْتُمْ في الدّنيا تَكْنِزُونَ من الدّنانير و الدّراهم المحماة بالنّار.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تبّا للذّهب و تبّأ للفضّة» قالها ثلاثا، فقالوا له: أيّ مال نتّخذ؟ قال: «لسانا ذاكرا، و قلبا خاشعا، و زوجة تعين أحدكم على دينه» (2).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» .

و توفّي رجل و في مئزره دينار، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كيّة» . و توفّي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كيّتان» (3).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الدّينار و الدّرهم أهلكا من كان قبلكم، و هما مهلكاكم» (2).

و القمّي: عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «أنّ اللّه حرّم كنز الذّهب و الفضّة، و أمر بإنفاقه في سبيل اللّه» .

قال: «كان أبو ذرّ الغفاري يغدو كلّ يوم و هو بالشام فينادي بأعلى صوته: بشّر أهل الكنوز بكيّ في الجباه، و كيّ في الجنوب، و كىّ في الظّهور أبدا حتّى يتردّد الحرّ في أجوافهم» (3).

و في (المجمع) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تبّا للذّهب، تبّا للفضّة» يكرّرها ثلاثا، فشقّ ذلك على أصحابه، فسألوه: أيّ المال نتّخذ؟ فقال: «لسانا ذاكرا، و قلبا خاشعا، و زوجة مؤمنة، تعين أحدكم على دينه» (4).

و في (الخصال) عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الدّينار و الدّرهم أهلكا من كان قبلكم، و هما مهلكاكم» (5).

و القمّي رحمة اللّه، في حديث: «نظر عثمان إلى كعب الأحبار فقال له: يا أبا إسحاق، ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال: لا، و لو اتّخذ لبنة من ذهب و لبنة من فضّة ما وجب عليه شيء، فرفع أبو ذرّ عصاه فضرب بها رأس كعب، ثمّ قال له: يا بن اليهوديّة الكافرة، ما أنت و النّظر في أحكام المسلمين، قول اللّه أصدق من قولك حيث قال: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ. . . الآية» (6).

عن أمير المؤمنين، بطريق عامي قال: «كلّ مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز، أدّيت زكاته أو لم

ص: 149


1- . تفسير الرازي 16:48. (2 و 3) . تفسير الرازي 16:44.
2- . الخصال:43/37، تفسير الصافي 2:340.
3- . تفسير القمي 1:289، تفسير الصافي 2:340.
4- . مجمع البيان 5:40، تفسير الصافي 2:340.
5- . تقدم أنفا.
6- . تفسير القمي 1:52، تفسير الصافي 2:340.

تؤدّ» (1).

العيّاشي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «إنّما عنى بذلك ما جاوز ألفي درهم» (2).

و في (الأمالي) : لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ مال تؤدّى زكاته فليس بكنز و إن كان تحت سبع أرضين، و كلّ مال لا تؤدّى زكاته فهو كنز و إن كان فوق الأرض» (3).

عن الصادق عليه السّلام: «موسّع على شيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حرّم على [كلّ]ذي كنز كنزه حتّى يأتيه به، فيستعين به على عدوّه، و هو قول اللّه: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ. . .» (4).

أقول: يمكن حمل الأخبار الدالّة على حرمة الكنز على جمع المال في وقت يجب إنفاقه في الجهاد، و حفظ شوكة الإسلام و النّفوس المحترمة، و غير ذلك من المصارف التي يجب صرف المال فيها، كعصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام و ما شابهه، و الأخبار الدالّة على الجواز على غيره.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 36

ثمّ لمّا أمر اللّه بقتال المشركين و أهل الكتاب، ذكر الشّهور التي يجوز فيها القتال، و التي لا يجوز بقوله: إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ القمريّة التي هي ما بين الهلالين عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه و قضائه اِثْنا عَشَرَ شَهْراً من غير زيادة و نقصان، مثبتة تلك العدّة فِي كِتابِ اَللّهِ عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه اللّوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التّفصيل (5)يَوْمَ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و حين أبدع الأجرام اللّطيفة و الكثيفة؛ لأنّ الشّمس و القمر الّذين بهما مدار الأيام و الشّهور جرمان في السّماوات مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ يحرّم القتال فيها، و تعظّم حرمتها، ثلاثة منها سرد (6)متعاقبة: ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم، و واحد فرد و هو شهر رجب.

إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّهِ اِثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اَللّهِ يَوْمَ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ (36)قيل: كانت حرمة تلك الأشهر عند العرب بحيث لو لقي الرجل فيها قاتل ابنه، لم يكن يتعرّض له. ذلِكَ المذكور من كون الأشهر اثني عشر، و الحرم منها أربعة معيّنة، هو اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ و الشّرع

ص: 150


1- . تفسير الرازي 16:45.
2- . تفسير العياشي 2:231/1820، تفسير الصافي 2:340.
3- . أمالي الطوسي:519/1142، تفسير الصافي 2:340.
4- . تفسير العياشي 2:231/1821، الكافي 4:61/4، تفسير الصافي 2:341.
5- . تفسير الرازي 16:51.
6- . السّرد: المتتابع و المتعاقب.

الباقي المستقيم الذي جاء به إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام، لا يغيّر و لا يبدّل فَلا تَظْلِمُوا أيّها العرب فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بتضييع حرمتها و تغيير شهورها.

ثمّ بيّن اللّه حكم قتال المشركين فيها بقوله: وَ قاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حال كونكم كَافَّةً و مجتمعين و متناصرين، مستحلّين لقتالها (1)كَما يُقاتِلُونَكُمْ حال كونهم كَافَّةً و مجتمعين على قتالكم، مستحلّين له فيها.

ثم وعد اللّه المؤمنين النّصر بقوله: وَ اِعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّ اَللّهَ بنصره و تأييده مَعَ اَلْمُتَّقِينَ و الخائفين من اللّه في مخالفة أوامره.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 37

ثمّ أنّ رجلا من كنانة، كان يقف بالموسم و يقول: قد أحللت دماء المحلّين طي و خثعم في شهر المحرّم و أنسأته، و حرّمت بدله صفرا، فإذا كان العام المقبل يقول: قد أحللت صفرا و أنسأته، و حرمت بدله شهر المحرّم. على رواية القمي (2).

إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اَللّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اَللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ (37)فردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ و التّأخير في الشّهر الحرام زِيادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ و بدعة مضافة إليه.

و قيل: إنّ أوّل من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني، كان يقوم على جمل أحمر في الموسم فينادي: إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم فأحلّوه، ثمّ ينادي في القابل: إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه (3).

و هذا التّأخير و النّسيء يُضَلُّ بِهِ من قبل اللّه، أو الشّيطان اَلَّذِينَ كَفَرُوا.

ثمّ فسّر سبحانه النّسيء بقوله: يُحِلُّونَهُ و يجوّزون القتال فيه عاماً و يمنعون عن القتال بدله في شهر حرام وَ يُحَرِّمُونَهُ و يمنعون القتال في ذلك الشّهر الذي أحلّوه عاماً آخر لِيُواطِؤُا و يوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اَللّهُ من الأشهر. [ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اَللّهُ ]

عن ابن عبّاس: أنّهم ما أحلّوا شهرا من الحرام إلاّ حرّموا مكانه شهرا آخر من الحلال، و لم يحرّموا

ص: 151


1- . كذا، و الظاهر: لقتالهم فيها.
2- . تفسير القمي 1:290، تفسير الصافي 2:342.
3- . تفسير الصافي 2:342.

شهرا من الحلال إلاّ أحلّوا مكانه شهرا آخر من الحرام، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره اللّه (1).

ثمّ نسب سبحانه هذا النسيء المضاف إلى الكفر إلى تزيين الشّيطان بقوله: زُيِّنَ لَهُمْ بتسويلات الشّيطان سُوءُ أَعْمالِهِمْ و قبح أفعالهم وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى خير، و لا يوصل إلى صلاح اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عقائدهم السيّئة و أعمالهم الشّنيعة، حثّ المؤمنين على قتالهم بإنكار التّثاقل و التّواني عليهم فيه؛ بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ من العذر و الحالة المانعة عن الامتثال إِذا قِيلَ لَكُمُ من قبل اللّه و الرسول اِنْفِرُوا و اخرجوا جميعا إلى الجهاد فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لمرضاته اِثّاقَلْتُمْ و تباطأتم كأنّكم لثقل أبدانكم متمائلون إِلَى اَلْأَرْضِ مخلدين فيها حبّا للحياة، و طلبا للرّاحة، و كراهة لمشاقّ السّفر، و خوفا من العدوّ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا و اطمأنتم إليها، و سكنت قلوبكم إلى شهواتها و نعيمها، بدلا مِنَ اَلْآخِرَةِ و نعيمها الدائم (2)فَما مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و لذائذها و نعمها فِي جنب لذائذ اَلْآخِرَةِ و نعيمها إِلاّ قَلِيلٌ غير معتدّ به عند العقل و العقلاء.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ اِثّاقَلْتُمْ إِلَى اَلْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا مِنَ اَلْآخِرَةِ فَما مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ (38) إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)عن ابن عبّاس: أنّ هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، و ذلك لأنّه لمّا رجع [النبيّ صلّى اللّه عليه و آله]من الطّائف أقام بالمدينة، و أمر بجهاد الرّوم، و كان ذلك الوقت زمان شدّة الحرّ، و طابت ثمار المدينة و أينعت، و استعظموا غزو الرّوم و هابوه. فنزلت (3).

و في (الجوامع) : كان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر، بعد رجوعهم من الطّائف، استنفروا في وقت قحط و قيظ، مع بعد الشّقّة، و كثرة العدوّ، فشقّ ذلك عليهم (4).

القمّي رحمه اللّه: و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يسافر سفرا أبعد و لا أشدّ منه، و كان سبب ذلك أنّ

ص: 152


1- . تفسير الرازي 16:58.
2- . في النسخة: الدائمة.
3- . تفسير الرازي 16:59.
4- . جوامع الجامع:178، تفسير الصافي 2:342.

الصيّافة (1)كانوا يقدمون المدينة من الشّام معهم الدّرموك (2)و الطّعام و هم الأنباط، فأشاعوا بالمدينة أنّ الرّوم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عسكر عظيم، و أنّ هرقل قد سار في جنوده و جلب معهم غسّان و جذام و بهراء و عاملة، و قد قدم عساكره البلقاء، و نزل هو حمص، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالتهيّوء إلى تبوك، و هي من بلاد البلقاء، و بعث إلى القبائل حوله و إلى مكّة و إلى من أسلم من خزاعة و مزينة و جهينة، و حثّهم على الجهاد، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع، و أمر أهل جدّة أن يعينوا من لا قوّة له، و من كان عنده شيء أخرجه، و حملوا و قوّوا و حثّوا على ذلك. ثمّ خطب خطبة و رغّب النّاس في الجهاد. قال: و قدمت القبائل من العرب ممّن استنفرهم، و قعد عنه قوم من المنافقين (3).

فهدّدهم اللّه سبحانه على التّقاعد عنه بقوله: إِلاّ تَنْفِرُوا أيّها المؤمنون، و لا تخرجوا إلى الجهاد يُعَذِّبْكُمْ اللّه في الدّنيا عَذاباً أَلِيماً و يهلككم إهلاكا فظيعا بالقتل و غلبة العدوّ و القحط-كما قيل (4)- وَ يَسْتَبْدِلْ بكم بعد إهلاككم قَوْماً غَيْرَكُمْ خيرا منكم، و أطوع لأمر اللّه وَ لا تَضُرُّوهُ بتثاقلكم عن الجهاد و نصرة دينه شَيْئاً يسيرا من الضّرر، لكونه تعالى غنيّا عن العالمين، لا يحتاج في إنفاذ إرادته إلى معين، أو المراد: لا تضرّوا النبيّ شيئا، لأنّ اللّه عصمه من النّاس، و وعده النّصر.

عن ابن عبّاس قال: المراد من القوم الآخرين التّابعون (5). و قيل: أهل اليمن (6). و قيل: أبناء فارس (7).

و احتمل بعض أن يكون المراد: أن يخرج النبي صلّى اللّه عليه و آله من بين أهل المدينة و ينصره بالملائكة (6).

ثمّ أكّد غناه بقوله: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من التّعذيب و التّبديل و غيرهما قَدِيرٌ لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السّماء، فإذا وعد بالعقاب لا يخلف وعده. و هو غاية التّهديد.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 40

إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اَللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي اَلْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اَللّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلسُّفْلى وَ كَلِمَةُ اَللّهِ هِيَ اَلْعُلْيا وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

ص: 153


1- . أي الذين يأتون في الصيف.
2- . الدّرموك: الثياب و البسط.
3- . تفسير القمي 1:290، تفسير الصافي 2:342.
4- . تفسير روح البيان 3:429.
5- . تفسير الرازي 16:61. (6 و 7) . تفسير الرازي 16:61، تفسير أبي السعود 4:65.
6- . تفسير الرازي 16:61.

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار غناه عن نصرتهم بقوله: إِلاّ تَنْصُرُوهُ في غزوة تبوك، فإنّ اللّه ناصره، و ليست نصرته من اللّه تعالى أمرا بديعا فَقَدْ نَصَرَهُ اَللّهُ و أعانه على أعدائه إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من قريش من مكّة، بأن اجتمعوا على قتله فخرج منها، حال كونه ثانِيَ اِثْنَيْنِ واحد الرّجلين، و لم يكن معه إلاّ أبو بكر.

في ذهاب

الرسول صلّى اللّه عليه و آله

إلى الغار

روت العامّة: أنّ بعد تفرّق قريش عن دار النّدوة، و اتّفاقهم على قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في اللّيل، أتاه جبرئيل عليه السّلام فأخبره بمكر قريش، و أمره بمفارقة مضجعه تلك اللّيلة، فقال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: نم على فراشي و اتّشح بردائي هذا الحضرمي، و كان صلّى اللّه عليه و آله يشهد العيدين في ذلك الرّداء، فلمّا مضت عتمة (1)من اللّيل-يعني ثلثه-اجتمعت (2)قريش على باب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانوا مائة، فجعلوا يتطلّعون من شقّ الباب و يرصدون متى ينام فيثبون عليه و يقتلونه، فخرج صلّى اللّه عليه و آله عليهم و هم ببابه، و قرأ يس* وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إلى قوله: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (3)، فأخذ اللّه أبصارهم عنه صلّى اللّه عليه و آله فلم يبصروه حتّى خرج من بينهم (4).

و في رواية: أنّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ قبضة من تراب فذرّها عليهم، فأتاهم آت فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمّدا، قال: فقد خيّبكم اللّه، و اللّه خرج من بينكم محمّد، ثمّ ما ترك رجلا منكم إلاّ وضع في رأسه التّراب، و انطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم، فوضع كلّ رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه التّراب.

فدخلوا على عليّ عليه السّلام فقالوا له: يا عليّ، أين محمّد؟ قال: «لا أدري أين ذهب» و كان قد انطلق إلى بيت أبي بكر، فلمّا دخل عليه قال: «إنّ اللّه أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: الصّحبة يا رسول اللّه، بأبي أنت و امّي، قال: نعم، قال أبو بكر: خذ إحدى راحلتي هاتين، فإنّي أعددتهما للخروج، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم، بالثّمن» و هي الناقة القصوى أو الجدعاء، و أمّا الناقة العضباء فقد جاء أنّ ابنته فاطمة تحشر عليها.

ثمّ استأجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبو بكر رجلا من بني الدّئل ليدلّهما على الطريق للمدينة؛ و كان على دين قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، و واعداه غار جبل ثور بعد ثلاث ليال أن يأتي بالرّاحلتين صباح اللّيلة الثّالثة، فمكث صلّى اللّه عليه و آله في بيت أبي بكر إلى اللّيلة القابلة، فخرجا إلى طرف الغار، فمشى صلّى اللّه عليه و آله ليلته على طرف أصابعه حتّى حفيت رجلاه. إلى أن قالوا: و لمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغار، أمر اللّه شجرة- و هي التي يقال لها القتاد، و قيل: امّ غيلان-فنبتت في وجه الغار، فسترته بفروعها (5).

ص: 154


1- . في النسخة: مضى قسمة.
2- . في النسخة: اجتمع.
3- . يس:36/1-9.
4- . تفسير روح البيان 3:431.
5- . تفسير روح البيان 3:432.

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله دعا تلك اللّيلة شجرة كانت أمام الغار، فأقبلت حتّى وقفت على باب الغار، و كانت مثل قامة الإنسان (1).

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ على ثمامة-و هي شجرة صغيرة ضعيفة-فأمر أبا بكر أن يأخذها معه، فلمّا صار إلى باب الغار أمره أن يجعلها على باب الغار، و بعث اللّه العنكبوت فنسجت ما بين فروعها نسجا متراكبا كنسج أربعين سنة (2).

فلمّا فقد المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شقّ عليهم و خافوا، و طلبوه بمكّة أعلاها و أسفلها، و بعثوا القافة في كلّ وجه ليقفوا أثره، فوجد الذي ذهب إلى جبل ثور أثره انتهى إلى الغار، فقال: هاهنا انقطع الأثر، و لا أدري ذهب يمينا أو شمالا، أو صعد على الجبل، فأقبل فتيان قريش من كلّ بطن بعصيّهم و سيوفهم، فلمّا انتهوا إلى الغار قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال اميّة بن خلف: ما أرى أنّه أتى الغار، إنّ عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمّد، و لو دخل فيه لما نسج العنكبوت، و عند ما حاموا حول الغار حزن أبو بكر خوفا على رسول اللّه (3).

أقول: لم يكن له بحال الخوف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن كان مؤمنا برسالته و صدق أخباره، مع مشاهدته المعجزات العظيمة منه؛ كمجيء الشجر على باب الغار، و نسج العنكبوت عليه، بل إنّما كان خوفه دليلا على عدم إيمانه بالرّسول، و حمله معجزاته على السّحر، و عليه كان خوفه على نفسه، بحيث كاد أن يعلو صوته و يطّلع المشركون على كون الرسول في الغار، فنصر اللّه رسوله.

إِذْ هُما فِي اَلْغارِ و المشركون على بابه إِذْ يَقُولُ الرّسول لِصاحِبِهِ و الذي معه فيه و هو أبو بكر: لا تَحْزَنْ و لا تخف إِنَّ اَللّهَ بحفظه و عونه مَعَنا.

و إنّما قال: مَعَنا و لم يقل: «معي» لعلمه بعدم سكون قلبه بقوله: «إنّ اللّه معي» ، و لو كان خوفه على الرسول صلّى اللّه عليه و آله لكفى في زواله قوله: «إن اللّه معي» ، كما أنّه كفى في تسكين قلب عليّ عليه السّلام حين نومه في فراش الرّسول أنّه صلّى اللّه عليه و آله بشّره بسلامة نفسه.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقبل يقول لأبي بكر في الغار: اسكن، فإنّ اللّه معنا و قد أخذته الرّعدة و هو لا يسكن، فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حاله قال له: أتريد أن اريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدّثون، و اريك جعفرا و أصحابه في البحر يغوصون؟ قال: نعم، فمسح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده على وجهه، فنظر إلى الأنصار يتحدّثون، و إلى جعفر و أصحابه في البحر يغوصون» . الخبر (4).

ص: 155


1- . تفسير روح البيان 3:433.
2- . تفسير روح البيان 3:433، و فيه: أربع سنين.
3- . تفسير روح البيان 3:434.
4- . الكافي 8:262/377، تفسير الصافي 2:344.

في استدلال العامة

على فضيلة

أبي بكر وردّه

ثمّ أعلم أنّه استدلّت العامّة بهذه الآية على فضيلة أبي بكر، و أن إيمانه كان حقيقيّا بوجوه ضعيفة نقلها الفخر الرازي (1):

الأوّل: أنّه صلّى اللّه عليه و آله إنّما ذهب إلى الغار لأجل أنّه كان يخاف الكفّار من أن يقدموا على قتله، فلولا أنّه كان قاطعا على باطن أبي بكر بأنّه كان من المؤمنين المحقّين الصادقين الصدّيقين لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع؛ لأنّه لو جوّز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره لخافه من أن يدلّ عليه أعداءه، و أيضا لخافه من أن يقدم على قتله (2).

و فيه: أنّه يمكن أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان قاطعا بأنّه لو لم يصحبه معه مع استدعائه المصاحبة كان يفسد في أمره، و كان عالما بأنّه يحفظه من أعماله السيّئة، و من أن يخبر الكفّار بمكانه إذا صحبه، مع علمه صلّى اللّه عليه و آله بعدم قدرته مع ضعف بدنه و قلبه على الإساءة إليه و إصابته بمكروه.

الثّاني: أن الهجرة كانت (3)بأمر اللّه، و كان في خدمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. جماعة من المؤمنين المخلصين، و كانوا في النّسب إلى شجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقرب من أبي بكر، فلولا أنّ اللّه أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك القضيّة الهائلة لما كان يستصحبه، و لا يخصّه بهذه الصّحبة، و تخصيص اللّه إيّاه بهذا التّشريف دلّ على منصب عال له في الدّين (4).

و فيه: أنّ صريح روايتهم أنّه حين ملاقاته النبيّ و اطّلاعه على هجرته، التمس منه الصّحبة، فأجابه النبيّ إليها، و لو كان استصحابه بأمر اللّه لبشّره النبيّ به في بدو ملاقاته، مع أنّه يمكن أنّ اللّه أمر النبي باستصحابه خاصّة لحكم؛ منها أنّه لو لم يستصحبه و أبقاه في مكّة، لم يكن على إسلامه الظّاهري؛ لأنّه كان منه على حرف، فاقتضت الحكمة حفظ إسلامه ليقضي [اللّه]أمرا كان مفعولا.

الثّالث: أنّ كلّ من سوى أبي بكر فارقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أمّا هو فما سبق رسول اللّه كغيره، بل صبر على مؤانسته و ملازمته و خدمته، عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد (5).

و فيه: أنّ المراد من الخوف الشّديد الذي لم يبق معه أحد، هو الحاصل من اتّفاق قريش على قتله في دار النّدوة، و اجتماعهم على باب داره، لذلك فالظّاهر أنّه لم يطّلع عليه أحد من الأصحاب حتّى أبي بكر؛ لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اطّلع عليه في مساء ذلك اليوم بإخبار جبرئيل، و لم يكن أبو بكر في ملازمته و خدمته، بل ذهب النبيّ-على ما رووه-إلى بيت أبي بكر في قرب من نصف اللّيل، بعد أن أمر عليّا عليه السّلام بالمبيت على فراشه. و على صدق الرّواية لعلّه كان ذهابه إلى بيته لأجل شرائه ناقته

ص: 156


1- . تفسير الرازي 16:63.
2- . تفسير الرازي 16:63.
3- . في النسخة: كان. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:63.

و الاختفاء عنده.

الرّابع: أنّه تعالى سمّاه ثانِيَ اِثْنَيْنِ فجعله ثاني محمّد، حال كونهما في الغار (1).

و فيه: أنّ المراد بيان أنّ اللّه نصر النبي صلّى اللّه عليه و آله بطريق خارق للعادة، حيث أخرجه من بين أظهر الكفّار و لم يكن معه إلاّ رجل واحد و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله ثانيه. و عليه،

فلا شبهة في أنّ المراد من ثانِيَ اِثْنَيْنِ الثاني في العدد لا الثاني في الفضيلة و الرّتبة و المنزلة عند اللّه.

و لعمري إنّ هذا في الوضوح بمكان لا يخفى على أحد حتّى الأحمق العيّ، فكيف بالفاضل الزكيّ؟ و العجب من الفخر و أضرابه أنّهم تخيّلوا أنّ المراد الثاني في المنزلة، مع أنّهم قالوا: إذا حضر اثنان يقال لكلّ واحد أنّه ثاني اثنين، أي هو أحدهما.

ثمّ قال الفخر: و العلماء أثبتوا أنّ أبا بكر كان ثاني محمّد صلّى اللّه عليه و آله في أكثر المناصب الدّينيّة، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أرسل إلى الخلق و عرض الإسلام على أبي بكر آمن به أبو بكر، ثمّ ذهب و عرض الإسلام على طلحة و الزّبير و عثمان بن عفّان و جماعة آخرين من أجلّة الصّحابة، و الكلّ آمنوا على يديه، ثمّ إنّه جاء بهم إلى رسول اللّه بعد أيام قلائل، فكان هو ثاني اثنين في الدّعوة إلى اللّه (2).

أقول فيه: أولا: لا نسلّم أنّه آمن بدعوته [أحد]إلاّ قليل ممّن كان إيمانه كإيمانه؛ كطلحة الذي قال: إنّ محمّدا يحرّم علينا نساءه و يتزوّج هو بنسائنا، لئن أمات اللّه محمّدا لنركضنّ بين خلاخيل نسائه، كما ركض بين خلاخيل نسائنا (3). و كعثمان الذي ملأت مطاعنه الدّفاتر.

و ثانيا: كان جعفر بن أبي طالب أولى منه بأن يكون ثاني اثنين محمّد صلّى اللّه عليه و آله في الدّعوة، حيث إنّه هاجر إلى الحبشة و آمن بدعوته النّجاشي و جماعة كثيرة.

ثمّ قال: و أيضا كلّما وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة، كان أبو بكر يقف في خدمته و لا يفارقه، فكان ثاني اثنين في مجلسه (4).

أقول فيه: إنّ وقوفه عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغزوات كان لجبنه و ضعف قلبه، و عدم كونه من رجال الحرب و باذلا مهجته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لذا لم يكن ممّن بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الموت في غزوة احد، مع كونه عنده صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ قال: و لمّا مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قام مقامه في إمامة النّاس في الصلاة، فكان ثاني اثنين (5).

أقول: العجب ممّن لا يستحي من القول الباطل، كيف لم يقل إنّه أقامه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقامه في

ص: 157


1- . تفسير الرازي 16:64.
2- . تفسير الرازي 16:64.
3- . تفسير القمي 2:195، بحار الأنوار 17:27. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:64.

الإمامة، ليثبت له الفضل؟ فإنّ قيامه مقامه في الإمامة بغير إذن الرّسول لا فضل فيه، مع توهّم النّاس أنّه أرسله الرّسول صلّى اللّه عليه و آله للإمامة، بل هو غصب لمقامه و جرأة عليه صلّى اللّه عليه و آله، كما أنّه جلس مجلسه و غصب محرابه و منبره و خلافته.

ثمّ قال الفخر: و طعن بعض الحمقى من الرّوافض في هذا الوجه، و قال: كونه ثاني اثنين للرّسول لا يكون أعظم من كون اللّه تعالى رابعا لكلّ ثلاثة في قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ (1)، ثمّ أنّ هذا الحكم عام في حقّ الكافر و المؤمن، فلمّا لم يكن هذا المعنى من اللّه تعالى دالاّ على فضيلة الإنسان، فلأن لا يدلّ من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على فضيلة الإنسان كان أولى.

و الجواب: أنّ هذا تعسّف بارز، لأنّ المراد هناك: كونه تعالى مع الكلّ بالعلم و التّدبير، و كونه مطّلعا على ضمير كلّ أحد، أما هاهنا فالمراد بقوله تعالى: ثانِيَ اِثْنَيْنِ تخصيصه بهذه الصّفة في معرض التّعظيم، و أيضا قد دلّلنا بالوجوه الثلاثة المتقدّمة، على أنّ كونه معه في هذا الموضع، دليل قاطع على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاطعا بأنّ باطنه كظاهره، فأين أحد الجانبين من الآخر (2).

أقول فيه: إنّه قد بيّنا أن المراد من كون النبي ثانِيَ اِثْنَيْنِ كونه أحد الرّجلين، و لا دلالة له على أنّ أبي بكر ثاني النبي و تاليه في الفضيلة و المنزلة عند اللّه، و إنّما كان سوق الكلام في بيان عظمة النبيّ و أنّ اللّه ينصره و لو لم يكن معه أحد؛ كما نصره يوم الغار و لم يكن معه إلاّ رجل كان وجوده كعدمه، فأين هذا من بيان الفضيلة لأبي بكر؟ و قد أوضحنا أنّ الوجوه الثلاثة التي ذكرها من التّرّهات التي لا تصدر من العقلاء.

و لعمري، إنّ الاعتماد عليها في إثبات الفضيلة لمن له شائبة الفضل من أقوى الشّواهد على غاية الحمق، بل الآية دالّة على عدم فضيلة لأبي بكر، و كونه ساقطا من نظر الرّحمة حيث خصّ سبحانه النبي بنزول السّكينة و التأييد بالملائكة بقوله: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ و رحمته الخاصّة التي توجب اطمئنان قلب نبيّه عَلَيْهِ صلّى اللّه عليه و آله دون صاحبه وَ أَيَّدَهُ و قومه في بدر و غيره من المواطن بِجُنُودٍ من الملائكة لإعانته على أعدائه، و أنتم لَمْ تَرَوْها.

عن الرضا عليه السّلام (3): [قيل له]: إنّهم يحتجّون علينا بقول اللّه: ثانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي اَلْغارِ، [فقال عليه السّلام]: «و ما لهم في ذلك من حجّة، فو اللّه لقد قال اللّه: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ و ما

ص: 158


1- . المجادلة:58/7.
2- . تفسير الرازي 16:64.
3- . في النسخة: عن الصادق عليه السّلام.

ذكره-يعني: أبا بكر-فيها بخير» . قيل: هكذا تقرأونها؟ قال: «هكذا قرأتها» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ قال: «ألا ترى أنّ السكينة [إنّما]نزلت على رسوله» (2).

أقول: الرّوايتان محمولتان على إرادة بيان مرجع ضمير عَلَيْهِ، لا بيان أنّه كانت في الآية عَلى رَسُولِهِ بدل عَلَيْهِ فحرّفت.

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة نصرته لرسوله بقوله: وَ جَعَلَ اللّه بقدرته الكاملة كَلِمَةَ الشّرك التي قالها اَلَّذِينَ كَفَرُوا هي اَلسُّفْلى و الدّنيا أبدا إلى آخر الدّنيا وَ كَلِمَةُ اَللّهِ و هي توحيده، و رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة دينه هِيَ بالخصوص الكلمة اَلْعُلْيا و الأقوى بحيث لا تعلو عليها كلمة باطل وَ اَللّهُ عَزِيزٌ و غالب على أمره، و قادر على اضمحلال الباطل و تجلية الحقّ حَكِيمٌ في تدبيره و قضائه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 41

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالجهاد بقوله: اِنْفِرُوا أيّها المؤمنون، و اخرجوا إلى الجهاد جميعا، حال كونكم خِفافاً وَ ثِقالاً و ركبانا و مشاة، أو شبابا و شيوخا، أو أغنياء و فقراء، أو أصحّاء و مرضى، أو نشّاطا و غير نشّاط، أو عزّابا و متأهّلين، أو مقلّين لسلاح أو مكثرين. و قيل يعني: على كلّ حال (3)- وَ جاهِدُوا الكفّار بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ و ابذلوهما فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نصرة دينه ذلِكُمْ الجهاد و بذل الأموال و الأنفس خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع في الدّنيا و الآخرة من تركه و الاستراحة و الاشتغال بلذّات الدّنيا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ عواقب الامور و نتائج الأعمال، و تدركون الخير و النّفع.

اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 42

ثمّ أنّه تعالى بعد التّرغيبات الكثيرة إلى الجهاد، و التّهديد على التخلّف عنه، وبّخ المتخلّفين عنه

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اِسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)

ص: 159


1- . تفسير العياشي 2:232/1825، تفسير الصافي 2:344.
2- . تفسير العياشي 2:233/1826، تفسير الصافي 2:344.
3- . تفسير أبي السعود 4:67.

و المتباطئين فيه بقوله: لَوْ كانَ ما دعيتم (1)إليه من غزوة تبوك عَرَضاً و غنما من أموال الدّنيا قَرِيباً إليهم، و سهلا عليهم وَ كان سَفَراً قاصِداً و متوسّطا لا تعب فيه لاَتَّبَعُوكَ فيه، و أطاعوا أمرك به طمعا في الغنيمة وَ لكِنْ بَعُدَتْ مسافة تبوك و كثرت عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ و الكلفة، و لذا يتخلّفون عنك، و يتقاعدون فيه وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ اعتذارا إليك بعد رجوعك إليهم فاتحا لَوِ اِسْتَطَعْنا و أمكننا الخروج من حيث التّهيئة و صحّة البدن لَخَرَجْنا مَعَكُمْ إلى السّفر و الغزو، و ما تخلّفنا عنكم. و هم بتخلّفهم عن الغزو، و عصيانهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و حلفهم الكاذب، و يمينهم الفاجرة يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالعذاب الدّنيوي و الاخروي وَ اَللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في دعوى عدم استطاعتهم للخروج.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 43

ثمّ لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مأمورا بالرّفق و المداراة مع البرّ و الفاجر، فلهذا أذن للمنافقين في التخلّف رفقا و مداراة لهم و تقبّلا لأعذارهم، أظهر اللّه سبحانه غاية الغضب عليهم بتوجيه العتاب إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على الإذن، بعد المبالغة في تعظيم نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أوّلا بقوله: عَفَا اَللّهُ عَنْكَ حيث إنّ هذا الدّعاء-على ما قيل-كان شائعا في مقام تعظيم الأعاظم و الملوك. ثمّ وجّه العتاب بقوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ في التخلّف عنك في هذا الغزو، و لم تتأنّ في الإذن حَتّى يَتَبَيَّنَ و يظهر لَكَ المعتذرون اَلَّذِينَ صَدَقُوا في اعتذارهم من عدم خروجهم إلى السّفر بعدم استطاعتهم للخروج من حيث المال و البدن وَ تَعْلَمَ اَلْكاذِبِينَ منهم في اعتذارهم، فإنّك لو توقّفت في إذنهم لعلمت أن جميعهم كانوا كاذبين، و افتضح كلّهم عندك بالنّفاق.

عَفَا اَللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكاذِبِينَ (43)عن الباقر عليه السّلام: «يقول لتعرف أهل العذر (2)، و الذين جلسوا بغير عذر» (3).

و في (الجوامع) : هذا من لطيف المعاتبة الذي بدأه بالعفو قبل العتاب، و يجوز العتاب من اللّه فيما غيره [منه]أولى لا سيّما للأنبياء، و ليس كما قال جار اللّه من أنّه كناية عن الجناية، و حاشا سيّد الأنبياء و خير بني حوّاء من أن ينسب إليه الجناية، انتهى (4).

و من التّفسير الذي ذكرنا يعلم أنّه لا يحتاج المقام إلى الالتزام بصدور خلاف الأولى منه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 160


1- . في النسخة: ما دعوتم.
2- . في تفسيري العياشي و الصافي: الغدر.
3- . تفسير القمي 1:294، تفسير الصافي 2:345.
4- . جوامع الجامع:179، تفسير الصافي 2:345.

و استحقاقه العتاب عليه، بل الاستفهام كناية عن بيان عدم قابليّة (1)هؤلاء للرّفق بهم، و إن كان من شأن النبيّ هذا الرّفق.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 44

ثمّ نبّه سبحانه على علامة الخلوص بقوله: لا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ عن صميم و خلوص النيّة بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و ليس من دأبهم الاستجازة في أَنْ يُجاهِدُوا الكفّار بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ بل يبادرون إلى الجهاد شوقا إليه بلا انتظار لإذنك، فضلا عن أن يستأذنوك في التخلّف عنه. و قيل: إنّ المعنى: ليس من عادتهم أن يستأذنوك في التخلّف كراهة أن يجاهدوا وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ و مطّلع على أحوالهم و ضمائرهم، و يجازيهم بأحسن الجزاء.

لا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)قال الفخر الرّازي: كان الأكابر من الصّحابة لا يستأذنون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الجهاد، و كانوا بحيث لو أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقعود عنه لشقّ عليهم ذلك، ألا ترى أنّ عليّ بن أبي طالب لمّا أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يبقى في المدينة شقّ عليه ذلك، و لم يرض إلى أن قال له الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ؟ (2)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 45

ثمّ بيّن سبحانه علامة النّفاق بقوله: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ المنافقون اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ عن صميم القلب بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ في التخلّف عن الجهاد وَ اِرْتابَتْ قُلُوبُهُمْ و خلجت للشكّ فيها لا للجزم بعدمها فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ و شكّهم المستقرّ في قلوبهم يَتَرَدَّدُونَ و يتحيّرون. و إنّما استعمل التردّد في التحيّر؛ لأنّ عادة المتحيّر التردّد.

إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اِرْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من تردّد في الرّيب سبقه الأوّلون، و أدركه الآخرون، و وطئته سنابك الشّياطين» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 46

وَ لَوْ أَرادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اَللّهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقاعِدِينَ (46)

ص: 161


1- . مراده عدم استحقاق.
2- . تفسير الرازي 16:76.
3- . الخصال:233/74، تفسير الصافي 2:346.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 46

ثمّ بيّن اللّه سبحانه عدم إرادة المنافقين المعتذرين من أولّ الأمر الخروج إلى تبوك بقوله: وَ لَوْ أَرادُوا اَلْخُرُوجَ معك إلى تبوك لَأَعَدُّوا لَهُ و تهيّأوا لسفرهم في وقته عُدَّةً و اهبة، عن ابن عبّاس: يريد الزّاد و الماء و الرّاحلة؛ لأن سفرهم بعيد و في زمان شديد، فتركهم العدّة دليل على أنّهم أرادوا التخلّف (1)، و لو أراد اللّه خروجهم بالإرادة التّكوينيّة، لخرجوا و جاهدوا معكم وَ لكِنْ كَرِهَ اَللّهُ اِنْبِعاثَهُمْ و نهوضهم للخروج لما فيه من المفاسد فَثَبَّطَهُمْ و حبسهم عن الخروج بإلقاء الجبن في قلوبهم، و الكسل عليهم وَ قِيلَ لهم من قبل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: أيّها المنافقون اُقْعُدُوا في أماكنكم مَعَ اَلْقاعِدِينَ في بيوتهم من النّساء و الصّبيان. و فيه غاية ذمّهم بإلحاقهم بالعجزة.

وَ لَوْ أَرادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اَللّهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقاعِدِينَ (46)و الظّاهر أنّ هذا القول هو إذنهم الذي عاتب اللّه عليه بقوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.

و قيل: إنّ القائل هو اللّه؛ لأنّه كره انبعاثهم، فنزل منزلة الأمر بالقعود (2).

و قيل: إنّ القائل بعضهم (3)، و قيل: هو الشّيطان بوسوسته (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 47

ثمّ شرح اللّه مفاسد خروجهم بقوله: لَوْ خَرَجُوا هؤلاء المنافقون فِيكُمْ أيّها المسلمون إلى الغزو ما زادُوكُمْ شيئا إِلاّ خَبالاً و شرّا و مكرا و خديعة، أو غيّا أو اضطرابا في الرأي، بالتّجبين و تهويل أمر الكفّار وَ لَأَوْضَعُوا و مشوا خِلالَكُمْ و فيما بينكم بالنميمة (2)، أو أسرعوا ركائبهم بينكم بإلقاء العداوة، و ما يوجب الانهزام فيكم، و هم يَبْغُونَكُمُ و يطلبون لكم اَلْفِتْنَةَ و اختلاف الكلمة وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ و نمّامون و جواسيس لَهُمْ لينقلوا إليهم ما سمعوه منكم وَ اَللّهُ عَلِيمٌ و محيط بِالظّالِمِينَ ظواهرهم و بواطنهم، أقوالهم و أعمالهم.

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ اَلْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (47)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 48

ثمّ أخبر اللّه بأنّ التفتين هو دأبهم السّابق بقوله: لَقَدِ اِبْتَغَوُا و طلبوا اَلْفِتْنَةَ و الاختلاف بين

لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ حَتّى جاءَ اَلْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ (48)

ص: 162


1- . تفسير الرازي 16:78. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 16:80، تفسير أبي السعود 4:71.
2- . في النسخة: بالنمام.

أصحابك مِنْ قَبْلُ قيل: هو صدّ النّاس عن الدّخول في الإسلام (1). و قيل: هو ما فعله عبد اللّه بن أبيّ يوم احد من انصرافه مع أصحابه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2)، و قيل: هو أن اثني عشر من المنافقين وقفوا على ثنيّة الوداع ليلة العقبة ليفتكوا به، فأخبره اللّه بذلك (3)، و قيل: هو إلقاؤهم شيئا بين قوائم ناقة النبيّ باللّيل حتّى تنفر و تلقي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ظهرها (2)و قيل: هو قولهم يوم الأحزاب: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا (3)و الحقّ أنّ الكلّ داخل في الفتنة.

وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ و دبّروا في إطفاء نورك الحيل، و كانوا مصرّين و مستمرّين على ذلك حَتّى جاءَ اَلْحَقُّ من النّصر و التّأييد لك وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّهِ و نشر دينه و علا شرفه، على رغم منهم وَ هُمْ كارِهُونَ لذلك.

و حاصل المراد: أنّه لم يؤثّر مكرهم و سعيهم في إثارة الفتنة شيئا، بل كلّما مكروا ردّ اللّه مكرهم في نحرهم، و قلب مرادهم، و أتى بضدّ مقصودهم، و كذلك يكون فيما بعد. و فيه تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 49

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لك يا رسول اللّه: اِئْذَنْ لِي في الإقامة في البلد، و القعود عن السّفر وَ لا تَفْتِنِّي و لا تبتلني بالوقوع في عصيانك بالقعود بغير إذنك، أو لا تهلكني بسبب السّفر في شدّة الحرّ مع ضعف الحال و قلّة الطّاقة، أو لا تبتلني بتلف العيال و المال.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)قيل: إنّه قال الجدّ بن قيس: قد علمت الأنصار أنّي مغرم بالنّساء، فلا تفتنّي ببنات الأصفر-يعني: نساء الرّوم-لكنّي اعينك بمالي فاتركني (4).

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: أَلا تنبّهوا أيّها المسلمون أنّهم فِي اَلْفِتْنَةِ و الشرّ من الكفر باللّه و رسوله و عصيانهما سَقَطُوا و في الخوف من المسلمين و الفضيحة بينهم بظهور النّفاق و الحرمان من السّعادات الدّنيويّة و الاخرويّة وقعوا في الدّنيا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ في الآخرة لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ لإحاطة أسباب دخولها بهم في الدّنيا، و هؤلاء المنافقون منهم.

القمّي: لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الجدّ بن قيس فقال له: يا أبا وهب، ألا تنفر معنا في هذه الغزوة، لعلّك

ص: 163


1- . تفسير الرازي 16:83. (2 و 3) . تفسير الرازي 16:83، تفسير أبي السعود 4:71.
2- . تفسير روح البيان 3:443.
3- . تفسير روح البيان 3:443، و الآية من سورة الأحزاب:33/13.
4- . تفسير الرازي 16:83.

أن تحتفد من بنات الأصفر (1)؟ فقال: يا رسول اللّه، و اللّه إنّ قومي ليعلمون أنّه ليس فيهم أحد أشدّ عجبا بالنّساء منّي، و أخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر؛ فلا تفتنّي، و أذن لي أن اقيم. و قال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحرّ، فقال ابنه: تردّ على رسول اللّه و تقول ما تقول، ثمّ تقول لقومك لا تنفروا في الحرّ! و اللّه لينزلنّ اللّه في هذا قرآنا يقرأه النّاس إلى يوم القيامة، فأنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه و آله في ذلك: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي الآية. ثمّ قال الجدّ بن قيس: أيطمع محمّد أنّ حرب الرّوم كحرب غيرهم، لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 50

ثمّ بيّن اللّه شدّة عداوتهم للرّسول، و حسدهم عليه بقوله: إِنْ تُصِبْكَ يا محمّد في غزواتك و غيرها حَسَنَةٌ و فائدة من ظفر و غنيمة و غيرها تَسُؤْهُمْ و تحزنهم، ذلك لفرط عداوتهم و حسدهم عليك وَ إِنْ تُصِبْكَ في غزواتك مُصِيبَةٌ من جراحة، و شدّة، و قتل أصحابك كيوم احد يَقُولُوا فرحا و شكرا: نحن بحسن آرائنا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا و راعينا حزمنا مِنْ قَبْلُ باعتزالنا في تلك الواقعة فسلمنا ممّا أصابهم وَ يَتَوَلَّوْا و يعرضوا عن مجلس أصحابهم إلى أهاليهم وَ هُمْ فَرِحُونَ مسرورون بمصائبك و سلامة أنفسهم بقعودهم عن الحرب.

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ (50)القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «أمّا الحسنة فالغنيمة و العافية، و أمّا المصيبة فالبلاء و الشدّة» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 51 الی 52

ثمّ أمر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ لهم: لَنْ يُصِيبَنا شيء من خير أو شرّ، أو رخاء أو شدّة أبدا إِلاّ ما كَتَبَ اَللّهُ في اللّوح و قدّره لَنا فإنّه ما من حادثة إلاّ و هي منتهية إلى قضائه و قدره.

قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اَللّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)قيل: إنّ المراد: ما كتب اللّه لنا في عاقبة الأمر من الظّفر و الغلبة على الأعداء، و إن أصابنا في أوّل

ص: 164


1- . أي تخدم من بنات الروم بعد أسرهنّ.
2- . تفسير القمي 1:292، تفسير الصافي 2:347.
3- . تفسير القمي 1:292، تفسير الصافي 2:348.

الأمر شدّة. فيكون فيه ردّ لفرحهم.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: هُوَ تعالى مَوْلانا و مدبّر امورنا، و حافظ صلاحنا، و اللّطيف بنا، لا يريد إلاّ ما هو خيرنا و صلاحنا.

ثمّ ذكر ما هو لازم معرفته بالولاية بقوله: وَ عَلَى اَللّهِ خاصّة فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ و ليعتمد العارفون في جميع امورهم علما منهم بغاية فضله، و سعة رحمته عليهم، و عدم كون أحد و شيء من الموجودات منشأ خير أو شرّ.

روي أنّه «لا يكمل إيمان المرء حتّى يرى النّاس كأباعير» (1).

ثمّ ردّهم ثانيا بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: هَلْ تَرَبَّصُونَ و تنتظرون بِنا أيّها المنافقون شيئا إِلاّ إِحْدَى العاقبتين اَلْحُسْنَيَيْنِ إمّا الثّواب العظيم المعدّ للشّهداء في الآخرة، و الأجر الجزيل على تحمّل الشّدائد إن صرنا مغلوبين، و إمّا الغنيمة و الشوكة و رواج الإسلام مع الأجر إن صرنا غالبين، ليس لكم أن تودّوا (2)فينا غير العاقبتين المذكورتين، و كلّ واحدة منهما في غاية الجلالة و الرّفعة وَ إنّا نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ و ننتظر في حقّكم إحدى العاقبتين السيّئتين إمّا أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّهُ في الدّنيا بِعَذابٍ عظيم كائن مِنْ عِنْدِهِ من الصّيحة و الرّجفة و الصاعقة و غيرها، كما أصاب من قبلكم من الامم الظّالمة المهلكة أَوْ عذاب بِأَيْدِينا من القتل و الأسر، فإذا كان كذلك فَتَرَبَّصُوا و انتظروا عاقبتنا و عاقبتكم إِنّا أيضا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ذلك.

عن (النهج) و (الكافي) : عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و كذلك المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر إحدى الحسنيين؛ إمّا داعي اللّه، فما عند اللّه خير له، و إمّا رزق اللّه، فإذا هو ذو أهل و مال و معه دينه و حسبه» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ قال: «إمّا موت في طاعة اللّه، أو إدراك ظهور الإمام، (و نحن نتربص بهم) مع ما نحن فيه من الشّدة (أن يصيبهم الله بعذاب من عنده) قال: هو المسخ أَوْ بِأَيْدِينا و هو القتل، قال [اللّه عزّ و جلّ]: فَتَرَبَّصُوا. . . قال: التربّص انتظار وقوع البلاء بأعدائهم» (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 53

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)

ص: 165


1- . بحار الأنوار 72:304/51. «نحوه» .
2- . في النسخة: تتوددون.
3- . نهج البلاغة:64/23، الكافي 5:57/6، تفسير الصافي 2:348.
4- . الكافي 8:286/431، تفسير الصافي 2:348.

ثمّ لمّا بيّن اللّه أنّ المنافقين مستحقّين للعذاب، و أنّ جهنم محيطة بهم، بيّن أنّ نفقاتهم و صدقاتهم غير مقبولة عند اللّه، و غير نافعة لهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المنافقون: أَنْفِقُوا على الفقراء و المجاهدين إن شئتم طَوْعاً أَوْ إن شئتم كَرْهاً و اعلموا أنّها على أيّ التقديرين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ عند اللّه، و لن تثابوا عليها أبدا لا في الدّنيا و لا في الآخرة.

ثمّ نبّه على العلّة بقوله: إِنَّكُمْ أيّها المنافقون كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ و خارجين عن حدود الإسلام إلى الكفر.

عن ابن عبّاس: نزلت في الجدّ بن قيس حين قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ائذن لي في القعود، و هذا مالي اعينك به (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 54

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الفسق المانع عن قبول الصّدقات هو البالغ حدّ الكفر بقوله: وَ ما مَنَعَهُمْ و حرمهم من أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ و يثابون عليها شيئا إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ و بدين الإسلام، وَ لذا لا يَأْتُونَ اَلصَّلاةَ جماعة أو فرادى إِلاّ وَ هُمْ كُسالى و متثاقلون وَ لا يُنْفِقُونَ أموالهم على الفقراء و المجاهدين إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ للإنفاق لعدم اعتقادهم النّفع فيهما، و عدم خوفهم من العقاب على تركهما.

وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ اَلصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ (54)روي أن الجدّ بن قيس تاب بعد ذلك من نفاقه، و حسن حاله، و مات في خلافة عثمان (2).

عن الصادق عليه السّلام: «لا يضرّ مع الإيمان عمل، و لا ينفع مع الكفر عمل، ألا ترى أنّه تعالى قال: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ الآية؟» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 55

ثمّ بيّن سبحانه أنّ أموالهم و أولادهم مع أنّهما لا ينفعانهم في الدّنيا، يكونان وبالا عليهم و استدراجا في الدّنيا، بقوله: فَلا تُعْجِبْكَ و لا يحسن في نظرك أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ التي يظنّون انتفاعهم بهما، فإنّه ليس الأمر كما يظنّون، بل إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أن يملي لهم فيهما لِيُعَذِّبَهُمْ

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (55)

ص: 166


1- . تفسير الرازي 16:88.
2- . تفسير روح البيان 3:448.
3- . الكافي 2:335/3، تفسير الصافي 2:349.

بِها فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا أمّا تعذّبهم بالمال فبسبب كثره التّعب في جمعها و حفظها، و الخوف من تلفها، و الحزن على ذهابها؛ و بالأولاد فبسبب الابتلاء بنفقتهم، و أمراضهم، و سوء أخلاقهم، و الحزن على فراقهم و موتهم وَ لأن تَزْهَقَ و تخرج أَنْفُسُهُمْ و أرواحهم من أبدانهم وَ هُمْ كافِرُونَ لكون اشتغالهم بهما سببا لغفلتهم عن التفكّر في آيات التّوحيد و المعاد.

روى بعض العامّة: أنّه سأل معاوية امرأة كانت تعرف عليّا صلّى اللّه عليه و آله، فقال لها: كيف رأيت عليّا؟ قالت: كان رجل لم يبطره الملك، و لم تعجبه النّعمة (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 56 الی 57

ثمّ بيّن اللّه سبحانه شدّة نفاق المنافقين، و إظهارهم الموافقة للمؤمنين الخلّص (2)بقوله: وَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ نفاقا و كذبا لكم إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ و في زمرتكم، و إيمانهم كإيمانكم وَ ما هُمْ مِنْكُمْ و من جملتكم لكفرهم و خبث ذاتهم وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ و يخافون منكم، و لذا يظهرون الإسلام تقيّة، و يؤكّدون دعوتهم بالأيمان الفاجرة الكافرة.

وَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (57)ثمّ بيّن اللّه غاية خوفهم من المسلمين بقوله: لَوْ كانوا يَجِدُونَ لأنفسهم مَلْجَأً و حصنا حصينا يلجأون إليه، و يتحصّنون به من بأسكم أَوْ يجدون مَغاراتٍ و كهوفا في الجبال يختفون فيها، و يستترون منكم أَوْ مُدَّخَلاً و نقبا في الأرض يدخلون فيه، أو قوما يدخلون فيهم و هم يحفظونهم، أو لا يعرفون من بينهم.

و عن الباقر عليه السّلام: «أسرابا في الأرض» (3)، و عن القمّي: موضعا يلجأون إليه (4).

لَوَلَّوْا و فرّوا إِلَيْهِ منكم فرقا و خوفا وَ هُمْ في فرارهم يَجْمَحُونَ و يسرعون إسراعا لا يردّهم شيء، و إنّما لم يفرّوا منكم، و بقوا فيكم يعاشرونكم، لأنّهم لا يجدون المفرّ، و لذا اضطرّوا إلى النّفاق، و يحلفون كذبا أنّهم لمنكم ليؤمّنوا أنفسهم من الأسر، و أموالهم من النّهب، و لو يجدون لأنفسهم حيلة غير النّفاق لم ينافقوا، بل أظهروا كفرهم و شقاقهم.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 58

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)

ص: 167


1- . تفسير روح البيان 3:450.
2- . في النسخة: الخلّصين.
3- . مجمع البيان 5:62، تفسير الصافي 2:350.
4- . تفسير القمي 1:298، تفسير الصافي 2:350.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ [ما]في بعضهم [من]الطّمع في الغنائم و الصّدقات بعثهم إلى النّفاق مضافا إلى الخوف، بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ و يعيبك فِي قسمة اَلصَّدَقاتِ و يطعنون عليك بأنّك تجور فيها.

قيل: إنّهم كانوا يقولون: إنّه صلّى اللّه عليه و آله يؤثر بها أقاربه و أهل مودّته (1).

عن أبي سعيد الخدري: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقسّم مالا، إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التّميمي؛ و هو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج، فقال: اعدل يا رسول اللّه، فقال: ويلك، و من يعدل إن لم أعدل!» فنزلت الآية (2).

و عن الكلبي: قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تزعم أنّ اللّه أمرك أن تضع الصّدقات في الفقراء و المساكين و لم تضعها في رعاء الشّاء (3). فقال رسول اللّه: «لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود راعيا؟ !» فلمّا ذهب قال صلّى اللّه عليه و آله: «احذروا هذا و أصحابه فإنّهم منافقون» (4).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لرجل من أصحابه: «ما علمك بفلان؟» فقال: ما لي به علم، إلاّ أنّك تدنيه في المجلس، و تجزل له العطاء فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه منافق أداري عن نفاقه و أخاف أن يفسد عليّ غيره» . فقال: لو أعطيت فلانا بعض ما تعطيه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه مؤمن أكله إلى إيمانه، و أمّا هذا فمنافق أداريه خوف إفساده» (5).

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الباعث لهم على لمز الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كثرة طمعهم، بقوله: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها قدر ما يريدون و يطمعون رَضُوا بالقسمة و استحسنوها وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها ذلك المقدار، بل أقلّ ممّا طمعوا إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ القسمة و يغضبو منها (4)فورا، بحيث لم يمكنهم التحمّل و التأخير لما اجبلوا عليه من حبّ الدّنيا و الشّره في تحصيلها.

عن القمّي: لمّا جاءت الصّدقات جاء الأغنياء و ظنّوا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقسّمها بينهم، فلمّا وضعها في الفقراء تغامزوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لمزوه و قالوا: نحن الذين نقوم في الحرب، و ننفر معه، و نقوّي أمره، ثمّ يدفع الصّدقات إلى الذين لا يعينونه و لا يغنون عنه شيئا (5).

عن الصادق عليه السّلام: «أهل هذه الآية أكثر من ثلثي النّاس» (6).

ص: 168


1- . تفسير الرازي 16:97.
2- . تفسير الرازي 16:97.
3- . في النسخة: وعاء الشاة. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:97.
4- . في النسخة: يغضبونها.
5- . تفسير القمي 1:298، تفسير الصافي 2:350.
6- . تفسير العياشي 2:234/1830، مجمع البيان 5:63، الكافي 2:302/4، تفسير الصافي 2:350.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 59

ثمّ وبّخهم اللّه سبحانه و لا مهم على سخطهم بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ و طابت أنفسهم به و إن قلّ وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ و كفى فضله و إحسانه إلينا في جميع الأوقات، [سواء]كان لنا نصيب في الصّدقات أو لم يكن، و إن قلّت قسمتنا في هذه الصّدقات الحاضرة نرجو أنّه سَيُؤْتِينَا اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه وَ رَسُولُهُ في قسمة اخرى، و يعطيانا (1)فيها أكثر ممّا أعطيانا في هذه القسمة إِنّا إِلَى اَللّهِ راغِبُونَ و متوجّهون، و منه طالبون أن يغنينا من فضله، و يوسّع علينا بجوده و كرمه، لكان خيرا لهم و أقوم من لمز الرّسول و السّخط عليه.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ سَيُؤْتِينَا اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنّا إِلَى اَللّهِ راغِبُونَ (59)و في تقرين اللّه تعالى اسمه العظيم باسم رسوله في الموضعين، دلالة على غاية تعظيم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و تنبيه على أنّ ما يفعله إنّما يكون بأمره.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 60

في بيان مصارف

الزكاة

ثمّ بيّن اللّه سبحانه مصارف الصّدقات لئلاّ يطعن على رسوله صلّى اللّه عليه و آله في صرفها فيها بقوله: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ الواجبة من قبل اللّه على عباده، الموسومة بالزّكاة تكون لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ و قد مرّ تفسيرهما وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها و السّاعين لجمعها و حملها و حفظها، [سواءأ]كانوا أغنياء أو فقراء، من بني هاشم أو من غيرهم وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ من الكفّار وَ للصّرف فِي فكّ اَلرِّقابِ و تحرير المماليك؛ بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء مال الكتابة وَ في اَلْغارِمِينَ و المديونين؛ بأن تؤدّى ديونهم إذا لم يقدروا على أدائها، و لم يدن (2)في المعصية وَ يصرف فِي سَبِيلِ اَللّهِ و وجوه الخير؛ من تهيئة السّلاح لجهاد، و المصارف اللاّزمة لتجهيز الجيش، و عمارة الطّرق و الشّوارع و القناطر و الحمّامات العامّة و الرّباطات (3)و أضرابها، و تعظيم شعائر اللّه وَ في اِبْنِ اَلسَّبِيلِ و قد مضى تفسيره.

إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)و في العدول في الأصناف الأربعة الأخيرة من (اللام) إلى (في) دلالة على عدم صيرورة الزّكاة ملكا

ص: 169


1- . في النسخة: و يعطيناني.
2- . كذا، و الظاهر: يستدن.
3- . يريد به رباط الخيل و مرابطها في الثغور ممّا يلي العدوّ.

للأربعة الأخيرة.

ثمّ أكّد اللّه سبحانه وجوب الزّكاة و صرفها في المصارف الثمانية دون غيرها بقوله: فَرِيضَةً عظيمة كائنة مِنَ قبل اَللّهِ تعالى فالتزموا بها وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ في أفعاله و أحكامه.

القمّي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المصارف الثمانية، فقال: «الفقراء: هم الذين لا يسألون، و عليهم مؤونات من عيالهم، و الدّليل على أنّهم هم الّذين لا يسألون قول اللّه تعالى في سورة البقرة: لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ. . . لا يَسْئَلُونَ اَلنّاسَ إِلْحافاً (1)، و المساكين: هم أهل الزّمانة (2)من العميان و العرجان و المجذومين، و جميع أصناف الزّمناء من الرّجال و النّساء و الصّبيان، و العاملين عليها: هم السّعاة و الجباة في أخذها و جمعها و حفظها حتّى يؤدّوها إلى من يقسّمها، و المؤلّفة قلوبهم: قوم وحّدوا اللّه و لم تدخل المعرفة في قلوبهم أنّ محمدا رسول اللّه، [فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله] يتألّفهم و يعلّمهم كيما يعرفون، فجعل اللّه لهم نصيبا في الصّدقات لكي يعرفوا و يرغبوا، و في الرّقاب: قوم قد لزمهم كفّارات في قتل الخطأ، و في الظّهار، و قتل الصيد في الحرم، و في الأيمان، و ليس عندهم ما يكفّرون و هم مؤمنون، فجعل اللّه لهم سهما في الصّدقات ليكفّر عنهم، و «الغارمين» قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف، فيجب على الإمام أن يقضي ذلك عنهم، و يكفيهم من مال الصّدقات، و «في سبيل اللّه» قوم يخرجون في الجهاد و ليس عندهم ما ينفقون، أو قوم من المسلمين ليس عندهم ما يحجّون به، أو في جميع سبل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصّدقات حتى يتقوّوا به على الحجّ و الجهاد و «ابن السبيل» أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم و يذهب مالهم، فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصّدقات. و الصّدقات تتجزأ في ثمانية أجزاء فيعطى كلّ انسان من هذه الثمانية على قدر ما يحتاجون إليه بلا إسراف و لا تقتير، يقوم في ذلك الإمام يعمل بما فيه الصّلاح (3).

أقول: الظاهر أنّ تجزئة الزّكاة ثمانية أجزاء وظيفة الإمام عند بسط يده.

و عن الباقر عليه السّلام: «ما كانت المؤلّفة قلوبهم قطّ أكثر منهم اليوم، و هم قوم وحّدوا اللّه و قد خرجوا من الشّرك، و لم تدخل معرفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله قلوبهم و ما جاء به، فتألّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تألّفهم المؤمنون بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكيما يعرفوا» (4).

ص: 170


1- . البقرة:2/273.
2- . الزّمانة: الأمراض المزمنة.
3- . تفسير القمي 1:351، تفسير الصافي 1:298.
4- . الكافي 2:302/5، تفسير الصافي 2:352.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته و قد أدّى بعضها، قال: «يؤدّى عنه من مال الصّدقة، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: وَ فِي اَلرِّقابِ» (1).

و في (الكافي) : عنه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه: أيّما مسلم أو مؤمن مات و ترك دينا لم يكن في فساد و لا إسراف، فعلى الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك، إنّ اللّه يقول: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ الآية، فهو من الغارمين، و له سهم عند الإمام، فإن حبسه فإثمه عليه» (2).

و فيه؛ عنه عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي، و صدقة أهل الحضر في أهل الحضر، و لا يقسّمها بينهم بالسويّة و إنّما يقسّمها على قدر ما يحضرها منهم و ما يرى، و ليس في ذلك شيء موقّت موظّف» (3).

و عنه عليه السّلام: «سهم المؤلّفة قلوبهم و سهم الرّقاب عامّ و الباقي خاصّ» . يعني: خاصّ بالعارف لا يعطى غيره (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «لا تحلّ الصّدقة لبني هاشم إلاّ في وجهين؛ إن كانوا عطاشى فأصابوا ماء فشربوا، و صدقة بعضهم على بعض» (5).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 61 الی 62

ثمّ ذمّ اللّه تعالى المنافقين بإيذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إساءة القول إليه؛ بقوله: وَ مِنْهُمُ و بعض المنافقين اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ صلّى اللّه عليه و آله بأقوالهم الشّنيعة؛ و منها أنّهم يعيبون عليه وَ يَقُولُونَ في شأنه هُوَ أُذُنٌ و قليل الذّكاء، سريع الاغترار بكلّ ما يسمع.

وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)روي أنّ رجلا منهم قال لقومه: إن كان ما يقوله محمّد حقّا، فنحن شرّ من الحمير، فسمعها ابن امرأته فقال: و اللّه إنّه لحقّ و إنّك شرّ من حمارك. ثمّ بلغ ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال بعضهم: إنما محمّد اذن إن لقيته و حلفت له ليصدّقنّك، فنزلت (6).

ص: 171


1- . تفسير العياشي 2:239/1844، من لا يحضره الفقيه 3:74/258، تفسير الصافي 2:352.
2- . تفسير العياشي 2:239/1846، الكافي 1:336/7، تفسير الصافي 2:352.
3- . الكافي 5:27/1، تفسير الصافي 2:352.
4- . الكافي 3:496/1، تفسير الصافي 2:353.
5- . الخصال:62/88، تفسير الصافي 2:353.
6- . تفسير الرازي 16:116.

و عن ابن عبّاس: أنّ جماعة من المنافقين ذكروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بما لا ينبغي من القول، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنّا نخاف أن يبلغه ما نقول، فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما شئنا، ثمّ نذهب إليه و نحلف أنّا ما قلنا فيقبل قولنا، و إنّما محمّد اذن سامعة. فنزلت (1).

و عن القمّي قال: كان سبب نزولها أنّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقا، و كان يقعد إلى جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيسمع كلامه و ينقله إلى المنافقين و ينمّ عليه، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمد، إنّ رجلا من المنافقين ينمّ عليك و ينقل حديثك إلى المنافقين، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من هو؟» فقال: الرجل الأسود، الكثير شعر رأسه، ينظر بعينين كأنّهما قدران، و ينطق بلسانه الشّيطان (2)، فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره، فحلف أنّه لم يفعل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «قد قبلت منك فلا تقعد» فرجع إلى أصحابه فقال: إنّ محمّدا اذن، أخبره اللّه أنّي أنمّ عليه و أنقل أخباره فقبل، و أخبرته أنّي لم أفعل فقبل. فأنزل اللّه على نبيّه [الآية]، الخبر (3).

قيل: أظهر اللّه للمنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسترونها لتكون حجّة للرّسول، و لينزجروا، فقال: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقاتِ، ثمّ قال: وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ، ثمّ قال: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اَللّهَ (4)إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب، و في كلّ ذلك دلائل على كونه نبيّا حقّا (5).

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: نعم، هو اذن، و لكن أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ فإنّ من يسمع العذر فيقبله خير ممّن لا يقبله؛ لأنّ قبول العذر من الكرم و حسن الخلق، فحمل سبحانه كلام النّاس الصادر منهم على جهة الذّمّ على المدح.

ثمّ فسّر اللّه سبحانه اذن الخير بقوله: يُؤْمِنُ بِاللّهِ و يصدّق وحدانيّته و جميع ما أنزل منه إليه وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ و يصدّقهم فيما يقولون، لكونه نافعا لهم حيث يقبل معاذيرهم، و يتغافل عن جهالاتهم، و لا يؤاخذهم بما يعلم.

القمّي: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدّق اللّه فيما يقوله له، و يصدّقك فيما تعتذر إليه في الظّاهر دون الباطن، و قوله: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: للمقرّين بالإيمان من غير اعتقاد (6).

عن الصادق عليه السّلام: «يعني يصدّق اللّه و يصدّق المؤمنين؛ لأنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين» (7).

وَ هو رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ في الظّاهر، و إن كانوا كافرين في الباطن، حيث لا يكشف

ص: 172


1- . تفسير الرازي 16:116.
2- . في المصدر: بلسان شيطان.
3- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:353.
4- . التوبة:9/75.
5- . تفسير الرازي 16:116.
6- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:353.
7- . تفسير العياشي:2:241/1851، تفسير الصافي 2:354.

أسرارهم و لا يهتك أستارهم رفقا بهم و ترحّما عليهم.

ثمّ هدّدهم اللّه سبحانه بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللّهِ بالقول أو الفعل لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

ثمّ قيل: إنّ المنافقين كانوا يتكلّمون بالمطاعن، ثمّ يأتون المؤمنين فيعتذرون إليهم، و يؤكّدون معاذيرهم بالأيمان الفاجرة ليعذرهم و يرضوا عنهم، فذمّهم سبحانه و لامهم بفعلهم بقوله: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ هؤلاء المنافقين لَكُمْ أيّها المؤمنون على أنّهم ما قالوا ما نقل إليكم من الطّعن في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ما يورث أذيّته لِيُرْضُوكُمْ باعتذارهم و حلفهم عن أنفسهم وَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أولى و أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ عن أنفسهم بالتّوبة ممّا ارتكبوه من الطّعن و الإيذاء-و في إفراد ضمير يُرْضُوهُ دلالة على أنّ المقصود بالذّات رضى اللّه، و رضى الرّسول تبع و لازم له- إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ بهما واقعا كما ادّعوا.

القمّي: نزلت في المنافقين الّذين كانوا يحلفون للمؤمنين أنّهم منهم، لكي يرضى عنهم المؤمنون (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 63 الی 65

ثمّ وبّخهم اللّه على إيذائهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و إصرارهم على النّفاق بقوله: أَ لَمْ يَعْلَمُوا بعد مبالغة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في دعوتهم و تعليمهم و وعظهم مدّة مديدة أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و يعارضهما بالعصيان و الطّغيان؛ فيخالف اللّه (2)-كما عن ابن عبّاس- فَأَنَّ لَهُ بالاستحقاق غير القابل للعفو نارَ جَهَنَّمَ حال كونه خالِداً و دائما فِيها و من الواضح أنّ ذلِكَ الخلود في النّار هو اَلْخِزْيُ و الذلّ اَلْعَظِيمُ و النّدامة الشّديدة.

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ اَلْخِزْيُ اَلْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ اَلْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اِسْتَهْزِؤُا إِنَّ اَللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)ثمّ أنّه روى القمّي: أنّه كان [قوم]من المنافقين لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى تبوك يتحدّثون فيما بينهم، و يقولون: أيرى محمّد أن حرب الرّوم مثل حرب غيرهم، لا يرجع منهم أحد أبدا، فقال بعضهم: ما أخلقه أن يخبر اللّه محمّدا بما كنّا فيه، و بما في قلوبنا و ينزل [عليه]بهذا قرآنا يقرأه النّاس!

ص: 173


1- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:354.
2- . تفسير الرازي 16:120.

و قالوا هذا على [حدّ]الاستهزاء (1).

فأخبر اللّه بذلك و هدّدهم بقوله: يَحْذَرُ اَلْمُنافِقُونَ و يحترزون (2)من اطّلاع المؤمنين على نفاقهم بسبب أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ من اللّه سُورَةٌ و قطعة من القرآن، تخبر المؤمنين، و تُنَبِّئُهُمْ تلك السّورة بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الشّرك و النّفاق و الاستهزاء بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله؛ فتفضحهم بين المؤمنين، و تهتك أستارهم، و يحتمل رجوع جميع الضمائر إلى المنافقين؛ لأنّ السّورة إذا نزلت في شأنهم فهي نازلة عليهم، و هي بمضمونها تقول لهم: إنّ في قلوبكم كذا و كذا، و تذيع أسرارهم.

ثمّ أمر اللّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلِ لهم يا محمّد: اِسْتَهْزِؤُا بي و بديني و كتابي إِنَّ اَللّهَ مُخْرِجٌ من الكمون إلى البروز ما تَحْذَرُونَ منه من نزول سورة فاضحة لكم.

و في رواية القمّي: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعمّار بن ياسر: «الحق القوم، فإنّهم قد احترقوا» ، فلحقهم عمّار فقال: ما قلتم؟ قالوا: ما قلنا شيئا، إنّما [كنّا]نقول شيئا على حدّ اللّعب و المزاح. فنزلت وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ (3)، عمّا قالوا لَيَقُولُنَّ في الجواب: إِنَّما كُنّا نَخُوضُ في الكلام، و نتحدّث لقطع الطريق بالحديث، كما هو دأب الرّكب، وَ نَلْعَبُ كما يلعب الصّبيان.

و روي أنّ رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك: ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا، و لا أكذب ألسنا، و لا أجبن عند اللّقاء-يعني: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين-فقال واحد من الصّحابة: كذبت و لأنت منافق، ثمّ ذهب ليخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرّجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان قد ركب ناقته، فقال: يا رسول اللّه، إنّا كنّا نلعب و نتحدّث بحديث الرّكب نقطع به الطّريق، و كان يقول: إنّما كنّا نخوض و نلعب، الخبر (4).

و روي أنّه لمّا سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى تبوك، قال المنافقون: أتراه يظهر على الشام و يأخذ حصونها و قصورها؛ هيهات هيهات، فعند رجوعه دعاهم فقال: أنتم القائلون كذا و كذا؟ فقالوا: ما كان ذلك بالجدّ في قلوبنا، إنّما كنّا نخوض و نلعب (5).

و روي أنّ المتخلّفين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئلوا عمّا كانوا يصنعون، و عن سبب تخلّفهم، فقالوا هذا القول (6)، فأمر اللّه رسوله بتوبيخهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: أَ بِاللّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ.

ص: 174


1- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:354.
2- . في النسخة: و يحرزون.
3- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:354.
4- . تفسير الرازي 16:122.
5- . تفسير الرازي 16:122.
6- . تفسير الرازي 16:122.

قيل: إنّ المراد بالاستهزاء بقدرته بعد قولهم: كيف يقدر محمّد على أخذ حصون الشام؟ ! و قيل: هو الاستهزاء بتكاليفه (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 66

ثمّ أنّه تعالى بعد اعتذار المنافقين من استهزائهم، ردّهم بقوله: لا تَعْتَذِرُوا ممّا قلتم بتلك المعاذير، فإنّه لا يرتفع بها لومكم و لا استحقاقكم للعقوبة، لأنّه قَدْ كَفَرْتُمْ علانية بَعْدَ إِيمانِكُمْ الذي كنتم تظهرونه باستهزائكم بالرّسول.

لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)ثمّ هدّدهم بقوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ ذنب طائِفَةٍ و جماعة مِنْكُمْ بسبب إيمانهم و توبتهم نُعَذِّبْ طائِفَةً اخرى منكم البتّة بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ بإصرارهم على الكفر و النّفاق، و إيذاء الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: إنّ الطّائفة الاخرى المعذّبة هم المستهزئون، و الطّائفة المعفوّ عنهم هم الذين ضحكوا عند استهزاء هؤلاء.

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: لا تَعْتَذِرُوا، قال: هؤلاء قوم كانوا مؤمنين صادقين، ارتابوا و شكّوا، و نافقوا بعد إيمانهم، و كانوا أربعة نفر، و قوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ كان أحد الأربعة مخشيّ (2)بن حميّر، فاعترف و تاب، و قال: يا رسول اللّه، أهلكني اسمي، فسمّاه رسول اللّه عبد اللّه بن (3)عبد الرّحمن، فقال: يا ربّ اجعلني شهيدا حيث لا يعلم أين أنا، فقتل يوم اليمامة، و لم يعلم أحد أين قتل، فهو الذي عفي عنه (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 67

اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اَللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (67)

ص: 175


1- . تفسير الرازي 16:123.
2- . في النسخة و تفسير القمي: محتبر، تصحيف، راجع: أسد الغابة 4:338، و تاريخ الطبري 3:108، و مغازي الواقدي 3:169، و في مغازي الذهبي:642، و سيرة ابن هشام 4:168: مخشن.
3- . في النسخة: أو.
4- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:355.

ثمّ أنّه تعالى بعد حلف المنافقين للمؤمنين على أنّهم منهم، ردّهم بقوله: اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلْمُنافِقاتُ ليسوا من المؤمنين، بل بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لاشتراكهم في الكفر و عصيان الرّسول، حيث إنّهم جميعا يَأْمُرُونَ النّاس بِالْمُنْكَرِ من الكفر و مخالفة الرّسول و تكذيبه وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ من الإيمان بالرّسول و طاعته وَ يَقْبِضُونَ و يمسكون أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق في سبيل اللّه، و إنّما فعلوا ذلك كلّه لأنّهم نَسُوا اَللّهَ و لهوا (1)عن ذكره، و تركوا عبادته فَنَسِيَهُمْ اللّه و ترك ذكرهم بالرّحمة و الإحسان و التّوفيق للهداية.

ثمّ بالغ في بيان عدم استحقاقهم للرّحمة بقوله: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ عموما هُمُ اَلْفاسِقُونَ و الكاملون في الكفر و الطّغيان و معصية الرّسول.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 68

ثمّ أكّد اللّه سبحانه وعيدهم بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ وَ اَلْكُفّارَ المتجاهرين في الكفر نارَ جَهَنَّمَ حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا هِيَ حَسْبُهُمْ و كافيهم عقوبة، فإنّه لا عقوبة فوقها وَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ و أبعدهم من رحمته، و أخزاهم غاية الخزي و الهوان، و هو العذاب الرّوحاني.

وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ وَ اَلْكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)ثمّ أكّد سبحانه خلودهم مع دوام تألّمهم بالنّار و اللّعن بقوله: وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ و دائم، فلا يتوهّم أنّه يحصل لهم طبع سمندريّ (2)بسبب دوامهم في النّار فينقطع تألّمهم بها.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 69

ثمّ بالغ سبحانه في إرعاب المنافقين بتنظير حالهم بحال الامم السّابقة المهلكة، مع الرّجوع من الغياب إلى مخاطبتهم بقوله: كَالَّذِينَ -قيل التّقدير: أنتم كالّذين كفروا-و كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ في القرون القريبة من قرنكم.

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (69)

ص: 176


1- . في النسخة: و ألهوا.
2- . نسبة إلى السّمندر أو السّمندل، و هو دابة أو طائر في الهند و الصين، يقال: إنه لا يحترق بالنار، أو نسيج من حيوان لا يحترق بالنار.

ثمّ كأنّه قيل: كيف كان حالهم؟ فقال سبحانه: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً و أعظم قدرة وَ أَكْثَرَ منكم أَمْوالاً وَ أَوْلاداً و أوفر منكم ثروة و ذريّة فَاسْتَمْتَعُوا و استلذّوا بِخَلاقِهِمْ و نصيبهم المقدّر لهم من حطام الدّنيا و نعيمها.

ثمّ بيّن سبحانه وجه شبههم بهم بقوله: فَاسْتَمْتَعْتُمْ و انتفعتم بِخَلاقِكُمْ و نصيبكم من الأمتعة الدّنيويّة مدّة عمركم، حال كونكم كافرين طاغين عاصين للّه، لأجل الغرور باللّذات كَمَا اِسْتَمْتَعَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ حال كونهم كافرين طاغين عاصين للّه، لأجل الانهماك في الشّهوات وَ خُضْتُمْ و انغمرتم في الباطل كتكذيب الأنبياء، و الاستهزاء و الغدر بهم كَالَّذِي و مثل الباطل الذي خاضُوا فيه-و قيل: إنّ التّقدير: كالفوج الذي (1)، و قيل: كالقوم الّذين، و حذف النّون للتّخفيف (2)، و قيل: كالخوض الذي- أُولئِكَ الامم المذمومة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و بطلت حسناتهم فِي اَلدُّنْيا بسبب الموت و انتقالهم من الغنى إلى الفقر، و من العزّ إلى الذلّ، و من القوّة إلى الضّعف وَ في اَلْآخِرَةِ بسبب ضياع ثوابهم و ابتلائهم بالعقاب وَ أُولئِكَ بالخصوص هُمُ اَلْخاسِرُونَ و المتضرّرون، حيث ضيّعوا عمرهم الذي كان بمنزلة رأس مالهم، و أتعبوا أنفسهم في تحصيل العزّ و الجاه و النّعم، بالسّعي في تكذيب الأنبياء و معارضتهم و الغدر بهم، و لم يستفيدوا إلاّ الحرمان من الخيرات الدّنيويّة و الاخرويّة، و الذلّ الدائم، و العقوبة الأبديّة، فهم مع كونهم أقوى منكم كانت حالهم تلك، فأنتم مع ضعفكم بسبب اشتراككم معهم في الكفر و الطّغيان أولى بحبط الأعمال و غاية الخسران.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 70

ثمّ أنّه تعالى بعد تشبيه المنافقين بالامم المهلكة في الرّغبة في الدّنيا و التمتّع بها، و الإعراض عن الآخرة و الإصرار على الكفر، و تكذيب الأنبياء، و غاية الخسران، ذكر طوائف مشهورة بتلك الصّفات (1)منهم، و ابتلائهم بعذاب الاستئصال بقوله: أَ لَمْ يَأْتِهِمْ و هل لم يبلغهم نَبَأُ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و خبرهم الذي له شأن عظيم؟

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ اَلْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)ثمّ كأنّه أجاب عن الاستفهام و قال: نعم، بلغهم نبأ قَوْمِ نُوحٍ أنّهم اهلكوا بالطّوفان وَ قوم

ص: 177


1- . في النسخة: مشهورة بالصفات.

عادٍ أنّهم اهلكوا بالرّيح العقيم وَ قوم ثَمُودَ أنّهم اهلكوا بالصّيحة و الرّجفة وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ أنّهم اهلكوا بالهدم وَ أَصْحابِ بلد مَدْيَنَ و أهله و هم قوم شعيب، أنّهم اهلكوا بالنّار وَ اَلْمُؤْتَفِكاتِ و القرى المنقلبات على أهلها، بحيث صار عاليها سافلها.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المؤتفكات، قال: «اولئك قوم لوط» (1).

ثمّ كأنّه قيل: هل تمّت الحجّة عليهم قبل هلاكهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: أَتَتْهُمْ جميعا رُسُلُهُمْ من جانب اللّه بِالْبَيِّناتِ و الحجج الظاهرات، و البراهين القاطعات، فلم يعتنوا بهم، بل كذّبوهم و استهزأوا بهم و آذوهم، فاهلكوا بعد إتمام الحجّة عليهم فَما كانَ اَللّهُ و ليس من شأنه و المناسب لحكمته و عدله لِيَظْلِمَهُمْ و يعذّبهم قبل إتمام الحجّة عليهم، و بغير استحقاق منهم وَ لكِنْ كانُوا بالمشاقّة مع اللّه و رسله أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرّضوها للهلاك بقبائح الأعمال، مع قدرتهم على تعليتها إلى أعلى درجات الجنّة، و إيصالها بطاعة الأنبياء إلى النّعم الأبديّة.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 71

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين و وعدهم العذاب، مدح المؤمنين المخلصين بحسن العقائد و الأعمال بقوله: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ لاتّفاقهم على التّوحيد، و الايمان بالرّسول و بما جاء به بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ و كلّ مراع لصلاح الآخر، و لذا يَأْمُرُونَ المؤمنين بِالْمَعْرُوفِ و يبعثونهم إلى الخيرات الدّنيويّة و الاخرويّة من تكميل الايمان باللّه و الرّسول، و طاعتهما وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ و القبيح و الشرّ من الكفر و سيّئات الأعمال وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ و يداومون عليها وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ الواجبة و يؤدّونها إلى الجباة و الفقراء، و لا يقبضون أيديهم عن أدائها كما قبض المنافقون وَ يُطِيعُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فيما أمراهم به و نهياهم عنه، و ليسوا فاسقين عن طاعتهما كالمنافقين أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصّفات الحميدة سَيَرْحَمُهُمُ اَللّهُ و يفيض عليهم من البركات و الفيوضات الدّنيويّة و الاخرويّة ما لا يتصوّره متصوّر، و لا يبلغه الوهم و الفكر إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و قادر على إنجاز وعده حَكِيمٌ لا يخلف وعده، و لا يعطي شيئا غير أهله.

وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)

ص: 178


1- . الكافي 8:181/202، تفسير الصافي 2:357.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 72

ثمّ شرح اللّه الرّحمة الموعودة بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ على إيمانهم و طاعتهم جَنّاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً مرضيّة-روي أنّها قصور من اللّؤلؤ و الزّبرجد و الياقوت (1)-كائنة فِي جَنّاتِ عَدْنٍ التي هي أبهى الجنّات و أعلاها و أسناها وَ رِضْوانٌ يسير مِنَ اَللّهِ تعالى أَكْبَرُ و أعظم من تلك الجنّات و نعمها؛ لأنّه مبدأ جميع الخيرات و السّعادات، و به ينال قربه الذي هو أعلى الحظوظ، و أكمل المثوبات ذلِكَ الرّضوان هُوَ اَلْفَوْزُ و الحظّ اَلْعَظِيمُ الذي يستحقر عنده كلّ فوز و حظّ.

وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (72)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «عدن دار اللّه التي لم ترها عين و لم تخطر في قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيّين، و الصدّيقين، و الشّهداء، يقول اللّه تعالى: طوبى لمن دخلك» (2).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سأله يهوديّ: أين يسكن نبيّكم من الجنّة؟ فقال: «في أعلاها درجة، و أشرفها مكانا، في جنّات عدن» . فقال: صدقت (3).

روي أنّ اللّه خلق جنّة عدن بيده بغير واسطة، و جعلها [له]كالقلعة للملك، و جعل فيها كثيبا و مقام الوسيلة، و غرس شجرة طوبى بيده في جنّة عدن، و أطالها حتى علت فروعها سور جنّة عدن و تركت مظلّلة على سائر الجنّات كلّها، و ليس في أكمامها ثمر إلاّ الحليّ و الحلل (4).

و روي أنّه تعالى يقول لأهل الجنّة: هل رضيتم؟ فيقولون: فما لنا لا نرضى، و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أما اعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: و أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: احلّ عليكم رضواني، و لا أسخط عليكم أبدا (5).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 73

ثمّ أنّه تعالى بعد التّغليظ على المنافقين و وعدهم بالعقوبة الشّديدة، و نصحهم و تهديدهم

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (73)

ص: 179


1- . تفسير روح البيان 3:464.
2- . مجمع البيان 5:77، تفسير الصافي 2:357.
3- . تفسير الصافي 2:357.
4- . تفسير روح البيان 3:464.
5- . تفسير الرازي 16:134.

بالعقوبات الدنيويّة التي أنزلها على الامم الماضية، أمر النبيّ بمجاهدتهم بالحجّة ما داموا مستترين، و جهادهم بالسّيف إذا أظهروا كفرهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ المتجاهرين في كفرهم بالسّيف وَ اَلْمُنافِقِينَ المستترين لكفرهم بالحجّة و النّصح وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ و اعنف (1)بهم و لا ترفق معهم، هذا جزاؤهم في الدّنيا، و أمّا في الآخرة فمنزلهم وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ هي بِئْسَ اَلْمَصِيرُ و المنقلب لهم من الدّنيا.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «فجاهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكفّار، و جاهد عليّ عليه السّلام المنافقين، فجهاد (2)عليّ جهاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 74

ثمّ أكّد سبحانه استحقاق المنافقين التّغليظ بقوله: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ أنّهم ما قالُوا كلمة سوء وَ اللّه لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ من سبّ النبيّ، و إنكار رسالته وَ كَفَرُوا بإظهارهم ما في قلوبهم من عداوة النبيّ، و بغضهم لدين الإسلام بَعْدَ إِسْلامِهِمْ الظّاهري.

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (74)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، و يعيب المنافقين المتخلّفين فقال الجلاس بن سويد: و اللّه، لئن كان ما يقوله محمّد في إخواننا الذين خلّفناهم في المدينة حقّا، مع أنّهم أشرافنا، فنحن شرّ من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل و اللّه، إنّ محمّدا صادق، و أنت شرّ من الحمار، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستحضر الجلاس، فحلف باللّه أنّه ما قال، فرفع عامر يده و قال: اللّهمّ أنزل على عبدك و نبيّك تصديق الصادق، و تكذيب الكاذب، فنزلت الآية، فقال الجلاس: لقد ذكر اللّه التّوبة في هذه الآية، و لقد قلت هذا الكلام و صدق عامر، فتاب الجلاس و حسنت توبته (4).

و روي أنّها نزلت في عبد اللّه بن أبيّ لمّا قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى اَلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا

ص: 180


1- . في النسخة: و اغضب، راجع تفسير روح البيان 3:465.
2- . في تفسير الصافي: فجاهد.
3- . تفسير الصافي 2:358.
4- . تفسير الرازي 16:136.

اَلْأَذَلَّ (1) و أراد به الرّسول، فسمع زيد بن أرقم ذلك و بلّغه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهمّ عمر بقتل عبد اللّه بن ابيّ (2)[فجاء عبد اللّه و حلف أنّه لم يقل، فنزلت هذه الآية (3).

روى قتادة: أنّ رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة و الآخر من غفار، فظهر الغفاري على الجهيني، فنادى]عبد اللّه بن ابي و قال: يا بني الأوس، انصروا أخاكم، و اللّه ما مثلنا و مثل محمّد إلاّ كما قيل: «سمّن كلبك يأكلك» ، فذكروه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنكر عبد اللّه و جعل يحلف (4).

ثمّ روي أنّ المنافقين همّوا بقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند رجوعه من تبوك؛ و هم خمسة عشر، تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة باللّيل، و كان عمّار آخذا بخطام راحلته، و حذيفة خلفها يسوقها، فسمع حذيفة وقع خفاف الإبل و قعقعة السّلاح، فالتفت فإذا قوم متلثّمون فقال: إليكم إليكم يا أعداء اللّه، فهربوا (5)، فلامهم اللّه بقوله: وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و من المعلوم أنّهم حين اجتمعوا على قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طعنوا في نبوّته، و نسبوه إلى الكذب.

عن (المجمع) : نزلت في أهل العقبة، فإنّهم أضمروا أن يقتلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة حين مرجعهم من تبوك، و أرادوا أن يقطعوا أنساع (4)راحلته ثمّ ينخسوا به، فأطلعه اللّه على ذلك، و كان من جملة معجزاته، لأنّه لا يمكن معرفة ذلك إلاّ بوحي من اللّه، فبادر رسول اللّه [في العقبة]وحده، و عمّار و حذيفة يقود أحدهما راحلته و الآخر يسوقها، و أمر النّاس كلّهم بسلوك [بطن]الوادي، و كان الذين همّوا بقتله اثني عشر رجلا، أو خمسة عشر، عرفهم الرّسول: سمّاهم بأسمائهم. قال: و قال الباقر عليه السّلام: «كان ثمانية منهم من قريش، و أربعة من العرب» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما قال في غدير خمّ، و صاروا بالأخبية، فمرّ المقداد بجماعة منهم يقولون (6): إذا دنا موته و فنيت أيّامه و حضر أجله، أراد أن يولّينا عليّا من بعده، أما و اللّه ليعلمنّ. قال: فمضى المقداد و أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: الصلاة جامعة. قال: فقالوا: قد رمانا المقداد، فقوموا نحلف عليه. قال: فجاءوا حتّى جثوا بين يديه فقالوا: بآبائنا و امّهاتنا يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ، و الذي أكرمك بالنبوّة، ما قلنا ما بلغك، و الذي اصطفاك على البشر، قال: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «بسم الله

ص: 181


1- . المنافقون:63/8.
2- . في النسخة: فخافة بدل ما في المعقوفات.
3- . تفسير الرازي 16:136. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:136.
4- . الأنساع جمع نسع: و هو سير عريض طويل تشد به الرحال على الدابة.
5- . مجمع البيان 5:79، تفسير الصافي 2:359.
6- . زاد في تفسير العياشي: و الله إن كنا و قيصر لكنا في الخز و الوشي و الديباج و النساجات، و إنا معه في الأخشنين، نأكل الخشن، و نلبس الخشن حتى.

الرحمن الرحيم» * يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ليلة العقبة» (1).

عن القمّي: نزلت في الذين تحالفوا في الكعبة أن لا يردّوا هذا الأمر في بني هاشم، فهي [كلمة] الكفر، ثمّ قعدوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة، و همّوا بقتله، و هو قوله: وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا.

و قال في موضع آخر: فلمّا أطلع اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره، حلفوا له أنّهم لم يقولوا و لم يهمّوا به، حتّى أنزل اللّه يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا. . . الآية (2).

ثمّ بيّن اللّه أنّ حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يشكروه لا أن يهمّوا بقتله، بقوله: وَ ما نَقَمُوا و ما كرهوا شيئا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه، بسبب الغنائم و العطايا، و هذا موجب للمحبّة و الشّكر، لا العداوة و الكفر.

قيل: إنّهم كانوا حين قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة في غاية شدّة العيش؛ لا يركبون الخيل، و لا يحوزون الغنيمة، فأثروا بالغنائم و كثرت أموالهم (3).

و قيل: كان أحدهم يبيع الرؤوس، و آخر يبيع الكراع و يفتل القرامل (4).

و قتل للجلاس مولى، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بديته اثني عشر ألف درهم، فاستغنى (5).

و قيل: الضمير في أَغْناهُمُ للمؤمنين، أي غاظهم إغناؤه للمؤمنين (6).

ثمّ استعطف قلوبهم و دعاهم إلى التّوبة بقوله: فَإِنْ يَتُوبُوا من كفرهم و نفاقهم يَكُ ذلك التوب خَيْراً لَهُمْ و أنفع في الدّنيا و الآخرة وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا و يعرضوا عن قبول الإسلام و التّوبة خالصة (5)للّه، و استمرّوا على ما هم عليه من الكفر و النّفاق و الغدر يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيا بالقتل و الأسر و نهب الأموال-و قيل: عند الموت (8)، و قيل: في القبر (9)- وَ في اَلْآخِرَةِ بالنّار و غيرها من أنواع العذاب المعدّ للكفّار وَ ما لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ بسعتها و تباعد أقطارها، و كثرة أهلها مِنْ وَلِيٍّ يحفظهم منه بالشّفاعة وَ لا نَصِيرٍ ينجيهم منه بالقدرة و القوة.

روي أنّه لمّا تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآية على المنافقين، قال بعضهم: يا رسول اللّه، لقد عرض اللّه عليّ التوبة، و اللّه لقد قبلت فتاب (6).

ص: 182


1- . تفسير العياشي 2:246/1858، تفسير الصافي 2:360.
2- . تفسير القمي 1:301، تفسير الصافي 2:358.
3- . تفسير روح البيان 3:468.
4- . تفسير الصافي 2:360، و القرامل: جمع القرمل، و هو ضفائر من شعر أو غيره تصل بها المرأة شعرها. (5 و 6) . تفسير روح البيان 3:468.
5- . فى النسخة: خالصا. (8 و 9) . تفسير الرازي 16:137.
6- . تفسير روح البيان 3:468.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 75 الی 76

ثمّ بيّن اللّه أنّ غدر المنافقين لا يختصّ بالنبيّ و المؤمنين، بل يجاهرون بالغدر باللّه و مخالفة عهده بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اَللّهَ عهدا مؤكّدا بالحلف، حيث قال: و اللّه لَئِنْ آتانا اللّه مِنْ فَضْلِهِ و خزائن رحمته مالا لَنَصَّدَّقَنَّ و لنؤدّينّ حقوقه الواجبة وَ لَنَكُونَنَّ البتّة مَنْ المؤمنين اَلصّالِحِينَ الملتزمين بالعمل بأحكام اللّه. عن ابن عبّاس: يريد الحجّ (1)فَلَمّا آتاهُمْ اللّه و أعطاهم مِنْ فَضْلِهِ و كرمه مالا، منعوا حقّ اللّه، و بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن الوفاء بعهدهم (2)مع اللّه وَ هُمْ قوم عادتهم أنّهم مُعْرِضُونَ عن طاعة اللّه و جميع العهود.

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اَللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلصّالِحِينَ (75) فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (76)عن ابن عبّاس: أنّ حاطب بن أبي بلتعة، أبطأ عنه ماله بالشّام. فلحقه شدّة، فحلف باللّه و هو واقف في بعض مجالس الأنصار: لئن آتانا من فضله لأصدّقن و لأؤدّينّ منه حقّ اللّه (3).

في حكاية ثعلبة

بن حاطب

و روي أنّ ثعلبة بن حاطب الأنصاري كان ملازما لمسجد الرّسول ليلا و نهارا، و كان يلقّب لذلك حمامة المسجد، و كانت جبهته كركبة البعير من كثرة السّجود على الأرض و الحجارة المحماة بالشّمس، ثمّ جعل يخرج من المسجد كلّما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الفجر بالجماعة من غير لبث و اشتغال بالدّعاء، فقال صلّى اللّه عليه و آله له يوما: «ما لك [صرت]تعمل عمل المنافقين بتعجيل الخروج؟» فقال: يا رسول اللّه، إنّي في غاية الفقر بحيث أنّ لي و لا مرأتي ثوبا واحدا، و هو الذي عليّ و أنا اصلّي فيه و هي عريانة في البيت، ثمّ أعود إليها فأنزعه و هي تلبسه و تصلّي فيه، فادع اللّه أن يرزقني مالا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ويلك يا ثعلبة، قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه» . فراجعه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أما ترضى أن تكون مثل نبيّ اللّه، فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا و فضّة لسارت، و لكن أعرف أنّ الدّنيا حظّ من لا حظّ له، و بها يغترّ من لا عقل له» . فراجعه و قال: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ نبيّا، لو دعوت اللّه أن يرزقني مالا لأؤدّينّ كلّ ذي حقّ حقّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اللّهمّ ارزق ثعلبة مالا» -ثلاث مرّات.

فاتّخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود حتّى ضاقت بها أزقّة المدينة، فنزل واديا حتّى فاتته الجماعة، لا يصلّي بالجماعة إلاّ الظّهر و العصر، ثمّ نمت و كثرت فتنحّى مكانا بعيدا حتّى انقطع عن الجماعة و الجمعة، فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنه، فقيل: كثر ماله حتّى لا يسعه واد، فخرج بعيدا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ويح ثعلبة» .

ص: 183


1- . تفسير روح البيان 3:469.
2- . في النسخة: بعهده.
3- . تفسير الرازي 16:138.

فلمّا نزل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً. . . استعمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجلين على الصّدقات؛ رجلا من الأنصار، و رجلا من بني سليم، و كتب لهما الصّدقة و أسنانها، و أمرهما أن يأخذاها من النّاس، فاستقبلهما النّاس بصدقاتهم، و مرّا بثعلبة فسألاه الصّدقة، و أقرآه كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلاّ جزية أو اخت الجزية، و قال: ارجعا حتّى أرى رأيي، فلمّا رجعا قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يكلّماه: «ويح ثعلبة» مرّتين، فنزلت.

فركب عمر راحلته و مضى إلى ثعلبة و قال: ويحك يا ثعلبة هلكت، قد أنزل اللّه فيك كذا و كذا، فجاء ثعلبة بالصّدقة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه منعني أن أقبل منك» فجعل يحثو التّراب على رأسه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هذا عملك» (1).

عن القمّي: عن الباقر عليه السّلام: هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف، كان محتاجا فعاهد اللّه، فلمّا آتاه بخل به (2).

أقول: إنّما أمر اللّه أن لا يقبل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله صدقته لكونه إهانة و عبرة لغيره، أو لكون صدقته رياء لا خالصا لوجه اللّه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 77 الی 78

ثمّ بيّن اللّه أثر البخل و الإعراض عن العهد بقوله: فَأَعْقَبَهُمْ اللّه، و جعل عاقبة أمرهم، أو أثر بخلهم و عقبه نِفاقاً راسخا ثابتا فِي قُلُوبِهِمْ مستمرّا إِلى يَوْمِ يرجعون فيه إلى اللّه و يَلْقَوْنَهُ عن أمير المؤمنين عليه السّلام: اللّقاء [هو]

البعث» (3). و قيل: يوم خروجهم من الدّنيا- بِما أَخْلَفُوا اَللّهَ ما وَعَدُوهُ و ما وفوا بما عاهدوه وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ في أقوالهم و عهودهم.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اَللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ (78)ثمّ وبّخهم اللّه على إبطانهم النّفاق و طعنهم سرّا في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دينه؛ بقوله: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ و ما في قلوبهم من الكفر و النّفاق، أو العزم على التخلّف وَ نَجْواهُمْ و ما يفاوضونه من الطّعن في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دينه، أو تسمية الزّكاة جزية وَ أَنَّ اَللّهَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ و المطّلع على الخفايا و الأسرار، بحيث لا يخفى عليه خافية، فكيف يجترئون على ارتكاب القبائح؟

ص: 184


1- . تفسير روح البيان 3:469.
2- . تفسير القمي 1:301، تفسير الصافي 2:360.
3- . التوحيد:267/5، تفسير الصافي 2:361.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 79 الی 80

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين بلمز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تعييبه، ذمّهم بلمز المؤمنين و الاستهزاء بهم، بقوله: اَلَّذِينَ قيل التّقدير: هم الذين يَلْمِزُونَ و يعيبون اَلْمُطَّوِّعِينَ و المتنفّلين مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و يغتابونهم فِي اَلصَّدَقاتِ التي تصدّقوا [بها]

لتجهيز جيش غزوة تبوك وَ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ للإنفاق إِلاّ جُهْدَهُمْ و مقدار طاقتهم من الصّدقة، و إن كان في غاية القلّة فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ و يستهزئون بهم، اولئك سَخِرَ اَللّهُ مِنْهُمْ بأن جازاهم جزاء السّخرية، كما عن الرضا عليه السّلام (1)وَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ.

اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقاتِ وَ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ (80)عن ابن عبّاس قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطبهم ذات يوم و حثّ على أن يجمعوا الصّدقات، فجاءه عبد الرّحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، و قال: كان لي ثمانية آلاف درهم؛ فأمسكت لنفسي و لعيالي أربعة، و هذه الأربعة أقرضتها ربّي. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بارك اللّه لك فيما أعطيت، و فيما أمسكت» (2). قيل: قبل اللّه دعاءه صلّى اللّه عليه و آله فيه، حتّى صالحت امرأته عن ربع الثّمن على ثمانين ألفا.

و جاء عمر بنحو ذلك، و جاء عاصم بن عديّ الأنصاري بسبعين و سقا من تمر الصّدقة، و جاء عثمان بن عفّان بصدقة عظيمة، و جاء أبو عقيل بصاع من تمر، و قال: آجرت اللّيلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله، فأخذت صاعين من تمر؛ فأمسكت أحدهما لنفسي و لعيالي، و أقرضت الآخر ربّي، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بوضعه في الصّدقات.

فقال المنافقون على وجه الطّعن: ما جاءوا بصدقاتهم إلاّ رياء و سمعة، و أمّا أبو عقيل فإنّما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر، و اللّه غنيّ عن صاعه، فأنزل اللّه هذه الآية (3).

عن القمّي: جاء سالم بن عمير الأنصاري بصاع من تمر، فقال: يا رسول اللّه، كنت ليلتي أجيرا لجرير حتّى عملت بصاعين من تمر؛ فأمّا أحدهما فأمسكته، و أمّا الآخر فأقرضته ربّي، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينشره في الصّدقات، فسخر منه المنافقون فقالوا: و اللّه إن اللّه لغنيّ عن هذا الصاع، ما يصنع اللّه بصاعه شيئا، و لكنّ أبا عقيل أراد أن يذكر نفسه ليعطى من الصّدقات، فنزلت (4).

ص: 185


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:126/19، تفسير الصافي 2:361.
2- . تفسير الرازي 16:144.
3- . تفسير الرازي 16:145.
4- . تفسير القمي 1:320، تفسير الصافي 2:361.

و عن الصادق عليه السّلام: آجر أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه على أن يستقي كلّ دلو بتمرة يختارها؛ فجمع تمرا، فأتى [به]النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عبد الرّحمن بن عوف على الباب فلمزه، أي وقع فيه، فانزلت هذه الآية (1).

ثمّ أنّه روي عن ابن عبّاس قال: عند نزول الآية الاولى في المنافقين قالوا: يا رسول اللّه، استغفر لنا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «سأستغفر لكم» . و اشتغل بالاستغفار لهم، الخبر (2)، فردع اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن الاستغفار بقوله: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فاختر أيّهما شئت، فإنّهما متساويان في عدم النّفع لهم، بل إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً قيل: إنّ السّبعين كناية عن الكثير (3)فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ أبدا لامتناع المغفرة لهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ و الكافر غير قابل لأن تناله المغفرة و تشمله الرّحمة وَ اَللّهُ لا يَهْدِي و لا يوصل إلى خير اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ و المتمرّدين عن حدود اللّه و أحكامه.

و روي أنّهم كانوا تأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيعتذرون و يقولون: إن أردنا إلاّ إحسانا و توفيقا، فنزلت (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 81

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّ المتخلّفين عن الرّسول في غزوة تبوك بقوله: فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ الذين أجازهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تخلّفهم رفقا بهم، أو لعلمه بأنّهم يفسدون و يشوّشون عليه. و قيل: هم المتخلّفون بغير الإجازة بِمَقْعَدِهِمْ و إقامتهم في المدينة، كما عن ابن عبّاس (5)خِلافَ رَسُولِ اَللّهِ و لعصيان أمره، أو خلف الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و بعده وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا أعداء اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لطلب مرضاته، لاعتقادهم أنّه تعريض للمال و النّفس للتّلف، و ترويج للباطل.

فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اَللّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)ثمّ بيّن اللّه أنّهم مع تقاعد أنفسهم عن الجهاد و فرحهم به، سعوا في منع غيرهم من الخروج بقوله: وَ قالُوا لإخوانهم و أصدقائهم: لا تَنْفِرُوا و لا تخرجوا إلى سفر الغزو فِي زمان اَلْحَرِّ و الصّيف.

ص: 186


1- . تفسير العياشي 2:248/1861، تفسير الصافي 2:362.
2- . تفسير الرازي 16:146.
3- . تفسير روح البيان 3:473.
4- . تفسير الرازي 16:146.
5- . تفسير الرازي 16:146.

ثمّ ردّهم و هدّدهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: نارُ جَهَنَّمَ في الآخرة أَشَدُّ حَرًّا من حرارة الشّمس و الصّيف في الدّنيا، و قد اخترتموها لأنفسكم بقعودكم عن الجهاد، و مخالفتكم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ و يفهمون بقوّة العقل أنّ بعد هذه الدّار دار الجزاء، و أنّ مشقّة حرّها راحة بالنّسبة إلى مشقّة حرارة النّار في الآخرة، مع أنّ الاولى سريعة الزّوال، و الثانية باقية.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 82

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر فرح المنافقين بالقعود، و كان الضّحك من لوازم شدّة الفرح، هدّدهم بغاية الحزن في الآخرة على معاصيهم و ابتلائهم بالعذاب بقوله: فَلْيَضْحَكُوا في الدّنيا ضحكا قَلِيلاً و إن كان ضحكهم مدّة عمرهم، فإنّ مدّة عمر الدّنيا قليلة، فكيف بمدّة عمرهم؟ وَ لْيَبْكُوا في الآخرة على أنفسهم بابتلائهم بالعذاب بكاء كَثِيراً حيث لا انقطاع له جَزاءً بِما كانُوا في الدّنيا يَكْسِبُونَ لأنفسهم من المعاصي و الذّنوب.

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)روي أنّ أهل النّفاق يبكون في النّار عمر الدّنيا لا يرقأ لهم دمع، و لا يكتحلون بنوم (1).

و في رواية: أنّه يرسل اللّه البكاء على أهل النّار فيبكون حتّى تنقطع الدّموع، ثمّ يبكون الدم حتّى ترى وجوههم كهيئة الاخدود (2).

و قيل: إنّ القلّة كناية عن العدم، و الكثرة كناية عن الدّوام، و عليه يجوز أن يكون وقتهما في الدّنيا، و يجوز أن يكون في الآخرة (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا و ضحكتم قليلا (4).

و روي أنّه خرج ذات يوم، فإذا قوم يتحدّثون و يضحكون، فوقف و سلّم عليهم، فقال: أكثروا ذكر هادم اللّذّات، قيل: و ما هادم اللّذّات؟ قال: الموت (5).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 83

ثمّ أنه تعالى بعد توضيح غاية خبث المنافقين و كفرهم و تعييبهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين و توهينهم

فَإِنْ رَجَعَكَ اَللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ (83)

ص: 187


1- . تفسير روح البيان 3:476. (4 و 5) . تفسير روح البيان 3:476.

إيّاهم، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عنهم، و الاستغناء عن نصرتهم و كونهم في جيش المسلمين، بقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اَللّهُ و أعادك من غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ تخلّفوا عنك في تلك الغزوة بغير عذر و علّة فَاسْتَأْذَنُوكَ و استجازوا منك لِلْخُرُوجِ من المدينة إلى غزوة اخرى بعد هذه الغزوة فَقُلْ لهم إعراضا عنهم: إنّكم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ إلى غزوة أَبَداً و لا تدخلوا في عداد المسلمين وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا من أعدائي إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ و فرحتم بِالْقُعُودِ عن القتال و التخلّف عن جيش المسلمين، و الإقامة بالمدينة أَوَّلَ مَرَّةٍ و في الخرجة السابقة، و هي الخروج إلى تبوك، إذن فَاقْعُدُوا في مكانكم مَعَ اَلْخالِفِينَ و التزموا بيوتكم مع المتخلّفين من النّساء و الصّبيان، فإنّكم مثلهم، لا تليقون للجهاد. فأخرجهم اللّه من ديوان الغزاة، و محا أساميهم من دفتر المجاهدين، و نحّاهم عن محفل صحبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، عقوبة لهم على تخلّفهم و إهانة نبيّهم، و إظهارا لنفاقهم و شدّة كفرهم.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 84

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإهانتهم و تذليلهم في حال حياتهم، أمر بإهانتهم بعد موتهم بقوله: وَ لا تُصَلِّ يا محمّد عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ بعد ما ماتَ أَبَداً لتدعو و تستغفر له وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ و لا تقف عند تربته للزّيارة و الدّعاء.

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (84)قيل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا دفن الميّت وقف على قبره و دعا له (1).

ثمّ علّل سبحانه وجوب تذليلهم، و حرمة الاستغفار لهم بقوله: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ مدّة حياتهم وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ و متمرّدون عن طاعة اللّه، فلذا يستحقّون الخذلان و العذاب في الدّنيا و الآخرة.

عن ابن عبّاس: لمّا اشتكى عبد اللّه بن ابيّ، عاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فطلب منه أن يصلّي عليه إذا مات، و يقوم على قبره. ثمّ إنّه أرسل إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله يطلب قميصه ليكفّن فيه، فأرسل إليه القميص الفوقاني، فردّه و طلب الذي يلي جلده ليكفّن فيه، فقال عمر: لم تعطي قميصك الرّجس النّجس؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ قميصي لا يغني عنه من اللّه شيئا، فلعلّ اللّه أن يدخل به ألفا في الاسلام» ، و كان المنافقون لا يفارقون عبد اللّه، فلمّا رأوه يطلب هذا القميص و يرجوه أن ينفعه، أسلم منهم ألف.

ص: 188


1- . تفسير الرازي 16:153.

فلمّا مات جاء ابنه يعرّفه، فقال صلّى اللّه عليه و آله لابنه: «صلّ عليه و ادفنه» . فقال: إن لم تصلّ عليه يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لم يصلّ عليه، مسلم، فقام صلّى اللّه عليه و آله ليصلّي عليه، فقام عمر و حال بين رسول اللّه و بين القبلة، لئلاّ يصلّي عليه. فنزلت هذه الآية، و أخذ جبرئيل بثوبه، و قال: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً (1).

نقل كلام الفخر

الرازي وردّه

قال الفخر الرّازي: إنّ هذا يدلّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر؛ لأنّ الوحي نزل على وفق قوله (2).

أقول: من اعتقد أنّ رأي عمر كان أصوب من رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو كافر، و أمّا اعتقادنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان يريد إلاّ ما أراد اللّه، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعلم القرآن جميعه قبل نزوله، و إنّما كان مأمورا بإظهار الرّفق و حسن الخلق بالنّسبة إلى البرّ و الفاجر حتّى ينزل الوحي بردعه، و يكون بذلك معذورا في أنظار النّاس.

بل نقول: إنّ الرّواية و أمثالها دالّة على قدح عظيم في عمر، و غاية جسارته على الرسول صلّى اللّه عليه و آله باعتراضه عليه، و حيلولته بينه صلّى اللّه عليه و آله و بين القبلة، و اعتقاده أنّه أعقل منه صلّى اللّه عليه و آله، و لذا لم يرد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أمثال ذلك، مع كونه أقرب النّاس إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و أعزّهم عليه، و أحبّهم عنده، و أعقل الصّحابة و أعلمهم، بل أعقل أهل العالم سوى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكن ذلك إلاّ لغاية معرفتة بشؤون الرّسول، و تسليمه له، و تبعيّته لإرادته.

عن القمّي رحمه اللّه: لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، مرض عبد اللّه بن ابيّ و كان ابنه عبد اللّه مؤمنا، فجاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أبوه يجود بنفسه، فقال: يا رسول اللّه، بأبي أنت و امّي، إنّك إن لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا، فدخل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المنافقون عنده، فقال له ابنه عبد اللّه: يا رسول اللّه، استغفر له. [فاستغفر له]فقال عمر: ألم ينهك اللّه-يا رسول اللّه-أن تصلّي عليهم أو تستغفر لهم؟ فأعرض عنه رسول اللّه، فأعاد عليه، فقال له: «ويلك، إنّي خيّرت فاخترت، إنّ اللّه يقول: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ إلى قوله: فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ» .

فلمّا مات عبد اللّه جاء ابنه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، إن رأيت أن تحضر جنازته؟ فحضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قام على قبره، فقال له عمر: ألم ينهك اللّه أن تصلّي على أحد منهم مات أبدا، و أن تقوم على قبره؟ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ويلك، و هل تدري ما قلت؟ إنّما قلت: اللّهمّ احش قبره نارا، و جوفه نارا، واصله النّار» . فبدا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما لم يكن يحبّ (3).

ص: 189


1- . تفسير الرازي 16:152.
2- . تفسير الرازي 16:152.
3- . تفسير القمي 1:302، تفسير الصافي 2:364.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لابن عبد اللّه بن ابيّ: إذا فرغت من أبيك فأعلمني، و كان قد توفّى، فأتاه فأعلمه، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نعليه للقيام، فقال عمر: أ ليس قد قال اللّه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ؟ ! فقال له: «ويحك-أو ويلك-إنّما أقول: اللّهم احش قبره نارا، و [املأ]جوفه نارا، واصله يوم القيامة نارا» (1).

و في رواية: «أنّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ بيد ابنه في الجنازة فمضى، فتصدّى له عمر ثمّ قال: أما نهاك ربّك عن أن تصلّي على أحد منهم مات أبدا، أو تقوم على قبره؟ ! فلم يجبه، فلمّا كان قبل أن ينتهي إلى القبر أعاد عمر ما قال له أوّلا، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لعمر عند ذلك: ما رأيتنا صلّينا له على جنازة و لا قمنا له على قبر. ثمّ قال: إنّ ابنه رجل من المؤمنين، و كان يحقّ علينا أداء حقّه، فقال عمر: أعوذ باللّه من سخط اللّه، و سخط رسوله» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان رسول اللّه إذا صلّى على ميّت، كبّر و تشهّد، ثمّ كبّر و صلّى على الأنبياء، ثمّ كبّر و دعا للمؤمنين، ثمّ كبّر الرّابعة و دعا للميّت، ثمّ كبّر و انصرف. فلمّا نهاه اللّه عن الصّلاة على المنافقين، كبّر و تشهّد، ثمّ كبّر و صلّى على النبيّين، ثمّ كبّر و دعا للمؤمنين، ثمّ كبّر الرّابعة و انصرف و لم يدع للميّت» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 85

ثمّ أنّه تعالى بعد التّأكيد في إهانة المنافقين، و الإعراض عنهم، و الاستغناء عنهم و عن معاونتهم، ردع المؤمنين عن توهم أنّ كثرة مالهم و ولدهم موجب لإعزازهم و الاعتناء بشأنهم؛ بقوله: وَ لا تُعْجِبْكَ و لا يحسن في نظرك أَمْوالُهُمْ و إن كثرت وَ أَوْلادُهُمْ و إن كانوا كثيرين مقتدرين، فإنّهما موجبان لخسرانهم لأجل أنّه إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ بتمتّعهم بالأموال و الأولاد أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها ما داموا فِي اَلدُّنْيا بسبب ما يلحقهم من المصائب و الهموم وَ أن تَزْهَقَ و تخرج أَنْفُسُهُمْ من أبدانهم أو من الدّنيا وَ هُمْ كافِرُونَ لاشتغالهم بالتمتّعات، و إصلاح مفاسد ما اعطوا (4)من الزّينات الفانيات، و انهماكهم في الشّهوات، و الإلهاء عن النّظر في الآيات.

وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (85)

ص: 190


1- . تفسير العياشي 2:248/1862، تفسير الصافي 2:364.
2- . تفسير العياشي 2:248/1863، تفسير الصافي 2:364.
3- . تفسير العياشي 2:249/1864، تفسير الصافي 2:365.
4- . في النسخة: اعطى.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 86

ثمّ أنّ اللّه تعالى بعد ذمّ المنافقين بالتخلّف عن الرسول و مخالفة أمره، ذمّهم بمخالفة أمر نفسه الذي هو في القرآن، المشتمل على إعجاز البيان، الدالّ على كونه من اللّه بقوله: وَ إِذا أُنْزِلَتْ من قبل اللّه سُورَةٌ تامّة، أو آية منها و كان مضمونها: أَنْ آمِنُوا أيّها المسلمون عن صميم القلب بِاللّهِ و آياته و دينه وَ جاهِدُوا أعداء اللّه مَعَ رَسُولِهِ تراهم مع ذلك يتثاقلون، و اِسْتَأْذَنَكَ في القعود منه أُولُوا اَلطَّوْلِ و السّعة و الرّئاسة مِنْهُمْ بأن جاءوا عندك وَ قالُوا لك: ذَرْنا و دعنا نَكُنْ في المدينة و نقعد في بيوتنا مَعَ اَلْقاعِدِينَ و المعذّرين عن الجهاد من النّساء و الصّبيان و المجانين.

وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ اَلْقاعِدِينَ (86)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 87 الی 88

ثمّ ذمّهم اللّه بقوله: رَضُوا حبّا للبقاء، و شوقا إلى الشّهوات بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ و العجزة الذين وظيفتهم التخلّف كالنّساء و الصّبيان و المجانين، أو المراد: مع الذين لا خير فيهم وَ طُبِعَ اللّه و ختم عَلى قُلُوبِهِمْ بأن أظلمها و أقساها فى الغاية فَهُمْ لذلك الطّبع و الختم لا يَفْقَهُونَ ما في الإيمان الحقيقي و الجهاد في سبيل اللّه من الخير و سعادة الدّارين، و ما في التخلّف عنه، و تحمّل منافيات المروءة؛ من الذلّ و العار، و من الشّقاوة و النّكال.

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (88)ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ حال الرّسول و المؤمنين الذين عقلوا أنّ في الايمان و الجهاد في سبيل اللّه خير الدّارين، بخلاف حال المنافقين و أنّهم إن تخلّفوا عن الغزو، فقد بادر إليه الذين هم خير منهم و أخلص؛ بقوله: لكِنِ إن تخلّف المنافقون عن الجهاد فقد بادر اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و اليوم الآخر مَعَهُ و بتبعهم (1)إليه و جاهَدُوا في سبيل اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ طاعة للّه، و شوقا إلى رضاه وَ أُولئِكَ المجاهدون لَهُمُ اَلْخَيْراتُ الدّنيويّة و الاخرويّة وَ أُولئِكَ هُمُ بالخصوص اَلْمُفْلِحُونَ في الدّارين، و الفائزون بأعلى المقاصد و الحظوظ التي لا تتصوّرها العقول في النّشأتين؛ من النّصر و الغنيمة، و الشّرف و حسن الذّكر، و الجنّة و النّعم الدّائمة، و الكرامة

ص: 191


1- . في النسخة: بتبعه.

الأبدية.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 89 الی 90

ثمّ ذكر أهمّ الحظوظ بقوله: أَعَدَّ اَللّهُ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة جَنّاتٍ ذوات أشجار كثيرة مثمرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة المعهودة، حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا دائما ذلِكَ الفوز بالجنّة اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه.

أَعَدَّ اَللّهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (89) وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين الذين كانوا في المدينة بتثاقلهم في الجهاد، و تباطئهم في الخروج، ذمّ أهل البوادي منهم بقوله: وَ جاءَ إلى الرّسول اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ و المعتذرون من أهل البوادي بالأعذار غير الوجيهة لِيُؤْذَنَ لَهُمْ في القعود عن الجهاد وَ قَعَدَ جمع آخر منهم عنه بلا استئذان و اعتذار، جرأة على اللّه و رسوله، لظهور أنّهم اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في دعواهم الإيمان بهما.

قيل: إنّ أقواما تكلّفوا عذرا بباطل، فهم الذين عنى اللّه بقوله: وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ و تخلّف الآخرون بلا عذر و لا شبهة عذر، جرأة على اللّه تعالى، فهم المرادون بقوله: وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّهَ.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ و استمرّوا على النّفاق عَذابٌ أَلِيمٌ أمّا في الدّنيا فبالقتل و الأسر، و نهب الأموال و الإذلال، و أمّا في الآخرة فبالنّار، و سائر فنون العذاب المعدّ للكفّار.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 91 الی 92

ص: 192

الفقراء اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ على أنفسهم في السّفر لشدّة فقرهم حَرَجٌ و بأس في التخلّف عن السّفر و الغزو، و لكن ذلك إِذا نَصَحُوا و أخلصوا قلوبهم و أعمالهم لِلّهِ وَ رَسُولِهِ و لم يغشّوا الرّسول و المؤمنين لأنّهم المحسنون في أعمالهم، و ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ من أهل الإيمان شيء مِنْ سَبِيلٍ من العقاب و العتاب وَ اَللّهُ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم، يثيبهم على إيمانهم و إحسانهم أفضل الثواب وَ لا حرج أيضا عَلَى المؤمنين اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ و حضروا عندك و التمسوا منك لِتَحْمِلَهُمْ على مركوب، يطيقون السير معك، مع وجدانهم النّفقة على أنفسهم، و أنت قُلْتَ في جوابهم: إنّي لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فلمّا يئسوا منك تَوَلَّوْا و رجعوا من عندك وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ و تسيل مِنَ اَلدَّمْعِ كأنّ كلّها دمع فائض حَزَناً على حرمانهم من الجهاد لأجل أَلاّ يَجِدُوا من المال مقدار ما يُنْفِقُونَ في شراء المركوب.

لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)قيل: الفقراء الذين لم يجدوا ما ينفقون على أنفسهم هم مزينة و جهينة و بنو عذرة (1)، و الذين لم يجدوا ما يحملون عليه سبعة من الأنصار، فإنّهم أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: نذرنا الخروج، فاحملنا على الخفاف المرقوعة (2)و النّعال المخصوفة، فنغزو معك، فقال: «لا أجد» ، فتولّوا و هم يبكون (3).

و عن ابن عبّاس: سألوه أن يحملهم على الدّوابّ، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا أجد ما أحملكم عليه» لأنّ الشّقّة بعيدة، و الرّجل يحتاج إلى بعير يركبه و بعير يحمل عليه ماءه و زاده (4).

عن القمّي رحمه اللّه: جاء البكّاؤن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم سبعة نفر؛ من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، قد شهد بدرا لا اختلاف فيه، و من بني واقف: هرمي (5)بن عمير، و من بني حارثة: علبة (6)بن زيد، و هو الذي تصدّق بعرضه (7)، و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بالصّدقة، فجعل النّاس يأتون بها، فجاء علبة فقال: يا رسول اللّه، ما عندي ما أتصدقّ به، و قد جعلت عرضي حلاّ، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قد قبل اللّه صدقتك. و من بني مازن بن النّجار: أبو ليلى عبد الرّحمن بن كعب، و من بني سلمة (8): عمرو (9)

ص: 193


1- . تفسير روح البيان 3:484.
2- . في النسخة: المدبوغة.
3- . تفسير أبي المسعود 4:92، تفسير روح البيان 3:485.
4- . تفسير الرازي 16:162.
5- . في النسخة: حرمي، و في المصدر: هدمي (هرمي خ ل) ، و قد اختلف في اسم أبيه أيضا، ففي أسد الغابة: هرمي بن عبد اللّه، و في طبقات ابن سعد و مغازي الواقدي: هرمي بن عمرو. راجع: أسد الغابة 5:58، طبقات ابن سعد 2: 165، مغازي الواقدي 3:994.
6- . في النسخة و المصدر: علية، تصحيف، راجع: اسد الغابة 5:10، طبقات ابن سعد 2:165، مغازي الواقدي 3: 994.
7- . تصدّقت بعرضه، أي تصدّق بعرضه على من ذكره بما يرجع إليه عيبة.
8- . في النسخة: بني سلمى، و ما أثبتناه من المصدر و اسد الغابة 4:123، و طبقات ابن سعد 2:165، و مغازي الواقدي 3:994.
9- . في النسخة: عمر، و ما أثبتناه من المصدر و المصادر المتقدمة، و قد وقع الاختلاف في اسم أبيه، ففي المصدر: غنمة (عتمة خ ل) ، و في اسد الغابة: غنمة، و في طبقات ابن سعد: عنمة، و في مغازي الواقدي: عتبة.

بن غنيمة، و من بني زريق-أو رزين-: سلمة بن صخر، و العرباض (1)بن سارية السّلمي. هؤلاء جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يبكون، فقالوا: يا رسول اللّه، ليس بنا قوّة أن نخرج معك، فأنزل اللّه تعالى فيهم لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى إلى قوله: أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ قال: و إنّما سأل البكاؤون نعلا يلبسونها (2).

و قيل: هم بنو مقرن، و كانوا سبعة إخوة كلّهم صحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ليس في الصّحابة سبعة إخوة غيرهم (3).

و قيل: إنّها نزلت في أبي موسى الأشعري و أصحابه (4).

و قيل: إنّهم ثلاثة إخوة: معقل، و سويد. و النّعمان، بنو مقرن، سألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يحملهم على الخفاف المدبوغة و النّعال المخصوفة (5).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 93 الی 94

ثمّ أنّه تعالى بعد ما نفى السّبيل عن المؤمنين المعذورين، أثبتها على غير المعذورين بقوله: إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ من العتاب و العقاب و الخزي ثابت عَلَى المنافقين اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في القعود و التخلّف وَ هُمْ أَغْنِياءُ واجدون لاهبة السّفر و الغزو مع السّلامة.

إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اَللّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)ثمّ كأنّه قيل: ما كانت علّة استئذانهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ و تحمّلوا الدّناءة و الذلّة و الانتظام في عداد النّساء و العجزة وَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لذلك الطّبع لا يَعْلَمُونَ منافع الجهاد و مضارّ القعود عنه أبدا، و لذا تنفّروا عن الجهاد.

قيل: كانوا ثمانين رجلا من قبائل شتّى (6)، ذمّهم سبحانه بالاعتذار بالأعذار الباطلة الكاذبة بقوله:

ص: 194


1- . في النسخة: و من بني الغرماء ضرة، و في المصدر: و من بني العرياض ناصر، تصحيف، راجع: المصادر المتقدمة، و اسد الغابة 3:399.
2- . تفسير القمي 1:293، تفسير الصافي 2:367.
3- . تفسير روح البيان 3:485.
4- . تفسير الرازي 16:162.
5- . تفسير الرازي 16:162.
6- . تفسير القمي 1:293، تفسير الصافي 2:368.

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ في التخلّف عنكم إِذا رَجَعْتُمْ من غزوة تبوك إِلَيْهِمْ.

ثمّ لمّا كان الجواب وظيفة الرسول، أمره اللّه بأن يجيبهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: لا تَعْتَذِرُوا فإنّ فائدة الاعتذار دفع التوهّم السّوء في حقّ المعتذر، و هو لا يكون إلاّ بتصديق المعتذر إليه، و نحن لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ و لا نصدّقكم في اعتذاركم أبدا؛ لأنّه قَدْ نَبَّأَنَا اَللّهُ و أخبرنا بالوحي بعضا مِنْ أَخْبارِكُمْ الموجب للعلم بضمائركم من الكفر و الشرّ و الفساد، فلذا لا يمكننا تصديقكم فيما هو معلوم الكذب عندنا وَ سَيَرَى اَللّهُ فيما بعد عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ من التّوبة، و نصرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و النّصح له، و غيرها ممّا له شهادة على صدق اعتذاركم، و من الغدر و الكفر و الفساد ما هو من أدلّة كذبه ثُمَّ تُرَدُّونَ و ترجعون بالموت من الدّنيا إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ و دار الجزاء المستورة عن الأنظار وَ عالم اَلشَّهادَةِ و كشف السّر عمّا في الضمائر، و رفع الحجاب عن الجنّة و النّار فَيُنَبِّئُكُمْ اللّه عند ردّكم إليه و وقوفكم بين يديه بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ من السيّئات السّابقة و اللاّحقة، و الحسنات بما يحكم به عليكم من العتاب و العقاب، و لكم من الإكرام و الثّواب.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 95

ثمّ بعد بيان كذبهم في الاعتذار، ذمّهم سبحانه بحلفهم الكاذب عليه بقوله: سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ تأكيدا لمعاذيرهم الكاذبة إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ و انصرفتم من سفر الغزو إِلَيْهِمْ: إنّا ما قدرنا على الخروج، و لو قدرنا ما تخلّصنا، كما قيل: إنّه مقالة جدّ بن قيس، و معتّب بن قشير و أصحابهما (1)لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ عن لومهم و تعنيفهم، و تصفحوا عن تقصيرهم. قيل: إنّهم طلبوا إعراض الصّفح؛ فأمر اللّه المؤمنين بإعراض المقت (2)بقوله: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ.

سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)عن ابن عبّاس: يريد ترك الكلام و السّلام (3).

و قيل: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم و لا تكلّموهم» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على علّة الإعراض بقوله: إِنَّهُمْ رِجْسٌ و قذر ذاتا و روحا، لا يتطهّرون بالتّقريع و النّصح وَ مَأْواهُمْ و مقرّهم في الآخرة جَهَنَّمُ لا ينجون منها جَزاءً بِما كانُوا في الدّنيا يَكْسِبُونَ من الكفر و قبائح الأعمال، فإذا كانوا كذلك تكون مجالستهم و مكالمتهم مؤثّرة في ظلمة

ص: 195


1- . تفسير أبي السعود 4:95، تفسير روح البيان 3:487. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 16:164.

القلب و كدورة الرّوح، و موجبة للبعد عن اللّه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 96

ثمّ لمّا كان المنافقون طالبين للإعراض مع الصّفح و الرّضا، نهى اللّه المؤمنين عن ذلك بقوله: يَحْلِفُونَ باللّه لَكُمْ على صدق معاذيرهم كذبا لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم، و تعاملوا معهم معاملتكم مع المسلمين فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فقد خالفتم اللّه في ذلك فَإِنَّ اَللّهَ لا يَرْضى أبدا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ و الطّاغين عليه بالكفر و فساد الأعمال، فعليكم أن لا ترضوا عنهم أيضا لأنّ رضا المؤمن تابع لرضا اللّه.

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللّهَ لا يَرْضى عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ (96)القمّي رحمه اللّه: لمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة من تبوك، كان أصحابه المؤمنون يتعرّضون للمنافقين و يؤذونهم، و كانوا يحلفون لهم أنّهم على الحقّ، و ليسوا بمنافقين لكي يعرضوا عنهم و يرضوا عنهم، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

عن (المجمع) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من التمس رضا اللّه بسخط النّاس رضي اللّه عنه، [و أرضى عنه النّاس]، و من التمس رضا النّاس بسخط اللّه [سخط اللّه]

عليه، و أسخط عليه النّاس» (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 97 الی 98

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين من أهل المدينة، ذمّ أهل البادية منهم بقوله: اَلْأَعْرابُ و أهل البوادي منهم أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً من أهل الحضر و سكّان البلد. قيل: لأنّهم يشبهون الوحوش من حيث إنّهم مجبولون على الامتناع عن الطاعة و الانقياد (3)وَ هم أَجْدَرُ و أولى أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ من الأحكام و العبادات، لعدم ملازمتهم حضوره، و بعدهم عن استماع القرآن و المواعظ الشافية و سنن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأحوال عباده، بدويهم

اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

ص: 196


1- . تفسير القمي 1:302، تفسير الصافي 2:368.
2- . مجمع البيان 5:94، تفسير الصافي 2:368.
3- . تفسير روح البيان 3:489.

و حضريهم حَكِيمٌ فيما يجازي به محسنهم و مسيئهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين من الأعراب لشدّة الكفر و النّفاق و الجهل، ذمّهم بسوء الأعمال بقوله: وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ و يعدّ ما يُنْفِقُ من ماله في الظّاهر في سبيل اللّه مَغْرَماً و خسرانا و ضررا على نفسه، لاعتقاده عدم النّفع له فيه في الدّنيا و الآخرة، و إنّما ينفقه رياء و اتّقاء من المسلمين وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ و ينتظر في شأنكم اَلدَّوائِرَ و المصيبات؛ من الموت و القتل و الأسر بأيدي الكفّار بعد موت الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ دعا عليهم بمثل ما طلبوا للمسلمين بقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ و البليّة المحيطة المكروهة من الخزى و القتل و الأسر في الدّنيا، و العذاب الشّديد في الآخرة، فلا يرون في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين إلاّ ما يسوءهم وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لأقوالهم عند الإنفاق و غيره عَلِيمٌ بنيّاتهم و ما في ضمائرهم من الرّياء و الاتّقاء و الكفر، و عداوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 99

ثمّ مدح المؤمنين الخلّص منهم بقوله: وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ عن صميم القلب وَ يَتَّخِذُ و يعدّ ما يُنْفِقُ من أمواله في سبيل اللّه قُرُباتٍ و وسائل حصول الكرامة و المثوبة عِنْدَ اَللّهِ تعالى وَ ذريعة صَلَواتِ اَلرَّسُولِ عليهم، و دعائة لهم بالخير و البركة و الغفران.

وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اَللّهِ وَ صَلَواتِ اَلرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اَللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)ثمّ شهد سبحانه بصحّة معتقدهم في نفقتهم بقوله: أَلا تنبّهوا أيّها المؤمنون إِنَّها قُرْبَةٌ عظيمة، و وسيلة حصول المنزلة العالية لَهُمْ عند اللّه، و من آثار قربهم أنّه تعالى سَيُدْخِلُهُمُ اَللّهُ فِي رَحْمَتِهِ و جنّته، و يحيط بهم فضله و نعمه إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لسيّئاتهم رَحِيمٌ بهم بأن يوفّقهم لطاعته و العمل بمرضاته.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 100

ص: 197

ثمّ لمّا مدح اللّه المؤمنين من الأعراب، و وعدهم الثواب، و أعلن بعدم رضائه عن المنافقين و الفاسقين، بيّن أفضليّة الصّحابة السّابقين في الإيمان و النّصرة، و رضاءه منهم بقوله: وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ في الإيمان و النّصرة مِنَ اَلْمُهاجِرِينَ كأمير المؤمنين و حمزة. و عنه عليه السّلام: «لا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها و أقرّبها فهو مهاجر» (1)وَ من اَلْأَنْصارِ كالسّبعة الذين بايعوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في العقبة الاولى و السّبعين الذين بايعوه في العقبة الثانية.

وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (100)و القمّي رحمه اللّه: هم النّقباء؛ أبو ذرّ، و المقداد، و سلمان، و عمّار، و من آمن و صدّق و ثبت على ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

و في (نهج البلاغة) : «اسم الهجرة لا يقع على أحد إلاّ بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر» (3).

وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ و اقتدوا بهم متلبّسين بِإِحْسانٍ من الأخلاق الحسنة، و الصّفات الكريمة، و الأعمال الصّالحة.

عن الصادق عليه السّلام في حديث: «فبدأ بالمهاجرين الأوّلين على درجة سبقهم، ثمّ ثنّى بالأنصار، ثمّ ثلّث بالتّابعين بإحسان، فوضع كلّ قوم على قدر درجاتهم و منازلهم عنده» (4).

روت العامّة: أنّه اوحي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو ابن أربعين سنة في مكّة، فبايعه جماعة من النّاس، فعدا عليهم كفّار قريش فظلموهم ليردّوهم إلى ما كانوا عليه، فأمرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالهجرة إلى أرض الحبشة، فخرجوا نحوا من ثمانين رجلا، و هذه هي الهجرة الأولى (5).

في نقل كلام الفخر

الرازي وردّه

أقول: لا شبهة أنّهم السّابقون في الهجرة، و لم يكن فيهم أبو بكر، فما ذكر الفخر الرّازي-من أنّ السّبق إلى الهجرة إنّما حصل لأبي بكر، فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر (6)- من الأغلاط؛ لأن المهاجرين إلى الحبشة كانوا أسبق في الهجرة من أبي بكر، و إن كان مراده الهجرة إلى المدينة، فمن المعلوم أنّ مصعب بن عمير كان أسبق منه فيها، و نصيبه أوفر من نصيبه، حيث رووا أنّه لمّا انصرف أهل العقبة الثّانية إلى المدينة، بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معهم مصعب بن عمير ليفقّه أهلها، و يعلّمهم القرآن، و كانت (7)هجرته في السنة الثانية عشر (8).

ص: 198


1- . نهج البلاغة:280/189، تفسير الصافي 2:369.
2- . تفسير القمي 1:303، تفسير الصافي 2:369.
3- . تقدم آنفا.
4- . تفسير العياشي 2:253/1872، الكافي 2:34/1، تفسير الصافي 2:369.
5- . تفسير روح البيان 3:492.
6- . تفسير الرازي 16:169.
7- . في النسخة: كان.
8- . تفسير روح البيان 3:492.

ثمّ بشّر سبحانه المهاجرين و الأنصار و التّابعين لهم بإحسان برضائه عنهم بقوله: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم و أعمالهم وَ رَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدّنيويّة و الاخرويّة.

قال الفخر الرّازي: فإذا ثبت هذا يعني كون أبي بكر من السّابقين إلى الهجرة، صار محكوما عليه بأنّه رضي اللّه عنه و رضي هو عنه، و ذلك في أعلى الدّرجات من الفضل، فاذا ثبت هذا وجب أن يكون إماما حقّا بعد الرّسول، إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحقّ اللّعن و المقت، و ذلك ينافي مثل هذا التّعظيم، فصارت هذه الآية من أدلّ الدلائل على فضل أبي بكر و عمر، و صحّة إمامتهما.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّه لم قلتم أنّه بقي على تلك الحالة، و لم لا يجوز أن يقال أنّه تغيّر عن تلك الحالة، و زالت عنه تلك الفضيلة، بسبب إقدامه على الإمامة (1).

ثمّ أجاب عنه: بأنّ قوله تعالى: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ يتناول جميع الأوقات و الأحوال؛ بدليل أنّه لا وقت و لا حال إلاّ و يصحّ استثناؤه منه، فيقال: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ إلاّ في وقت طلب الإمامة، و مقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللّفظ (2).

أقول: فيه أنّ الظاهر من الآية رضاؤه تعالى عنهم في أوّل إيمانهم و هجرتهم، و إنّه باق ما لم يصدر منهم ما يوجب الغضب و السّخط، و لو لا ذلك لزم القول برضائه تعالى عن عمر و عثمان حين فرارهما من الزّحف يوم احد، و كون فرارهما حقّا، و لازم ذلك كون ثبات الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فيه باطلا، و عن جميع الصّحابة حين مخالفتهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و معارضتهم له يوم الحديبية.

و مع القول بذلك لا معنى لقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ (3)لأنّ رضاءه حصل و لم يزل، فكان الإخبار بحدوثه بعد البيعة إخبارا بحصول ما كان حاصلا، و لزم القول برضائه تعالى عن الزّبير حين خروجه من بيت أمير المؤمنين عليه السّلام بالسّيف، يوم اجتماع النّاس على بابه لإخراجه إلى بيعة أبي بكر، و كونه حقّا، فكانت إمامة أبي بكر و بيعته باطلتين. و أيضا لزم كون قتال طلحة و الزّبير مع أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا، و لا يقول به مسلم، و كون تخلّف كثير من الصّحابة و السّابقين الأوّلين-كسعد بن عبادة و أضرابه، عن بيعة أبي بكر، و اجتماعهم على قتل عثمان-حقّا، فكانت (4)إمامة أبي بكر و عثمان باطلة خصوصا بناء على ما قاله أكثر مفسّري العامّة من أنّ الآية تتناول جميع الصّحابة؛ لأنّ جميعهم موصوفون بكونهم سابقين أوّلين بالنّسبة إلى سائر المسلمين (5).

ص: 199


1- . تفسير الرازي 16:169.
2- . تفسير الرازي 16:170.
3- . الفتح:48/18.
4- . في النسخة: فكان.
5- . تفسير الرازي 16:171.

ثمّ بشّرهم اللّه بالثّواب الاخروي بقوله: وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهارُ حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أَبَداً ذلِكَ المذكور من رضاء اللّه عنهم، و خلودهم في الجنّة هو اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ الذي لا فوز و لا نجاح أعظم منه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 101

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين المشهورين في المدينة و البوادي، أخبر بنفاق بعض المسلمين المبطنين للنّفاق بقوله: وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ و في أطراف بلدكم مِنَ اَلْأَعْرابِ و أهل البوادي المشهورين بينكم بالإيمان مُنافِقُونَ مستور نفاقهم عنكم. قيل: هم جهينة و مزينة و أسلم و أشجع و غفار، كانوا نازلين حول المدينة (1)وَ بعض مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا و عتوا و استمرّوا عَلَى اَلنِّفاقِ و بلغوا في المهارة فيه إلى درجة لا تَعْلَمُهُمْ مع كمال فطنتك، و قوّة فراستك، و نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ و نعرفهم لإحاطتنا بضمائرهم و أسرارهم سَنُعَذِّبُهُمْ قبل يوم القيامة مَرَّتَيْنِ مرّة في الدّنيا، و مرّة في البرزخ و القبر. و قيل: إنّ المراد من مَرَّتَيْنِ تكرّر عذابهم في الدّنيا (2)ثُمَّ يُرَدُّونَ في القيامة إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدره.

وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 102

ثمّ ذكر سبحانه القسم الثّالث من أهل المدينة بقوله: وَ آخَرُونَ منهم اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قيل: هم المنافقون الذين تابوا من نفاقهم (3). و قيل: هم جمع من المسلمين تخلّفوا عن غزوة تبوك كسلا لا نفاقا و كفرا (4)، ثمّ أقرّوا على أنفسهم بالعصيان، و أظهروا النّدامة، و هم خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً من حضورهم في الغزوات، و اهتمامهم بالعبادات، و ندمهم على القعود عن غزوة تبوك، و توبتهم من التخلّف وَ آخَرَ سَيِّئاً من المعاصي السّابقة و اللاّحقة.

وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)روي أنّهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، و أوس بن ثعلبة، و وديعة بن حزام (3).

و قيل: كانوا عشرة، فسبعة منهم لمّا بلغهم ما نزل في المتخلّفين و أيقنوا بالهلاك، أوثقوا أنفسهم

ص: 200


1- . تفسير الرازي 16:173، تفسير أبي السعود 4:97، تفسير روح البيان 3:493.
2- . تفسير أبي السعود 4:98، تفسير روح البيان 3:494. (3 و 4) . تفسير الرازي 16:174.
3- . تفسير الرازي 16:175.

على سواري المسجد، فقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدخل المسجد و صلّى ركعتين، و كانت هذه عادته، فلمّا رآهم موثقين سأل عنهم، فذكر له أنّهم حلفوا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يكون الرّسول هو الذي يحلّهم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و أنا اقسم أنّي لا أحلّهم حتّى اومر فيهم» . فنزلت هذه الآية.

فأطلقهم و عذرهم (1)لمّا أخبر اللّه بقبول توبتهم بقوله: عَسَى اَللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ و يعود عليهم بالرّحمة و المغفرة إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لذنوب التّائبين رَحِيمٌ بهم و مفضّل عليهم بالثّواب.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 103

روي أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، هذه أموالنا، و إنّما تخلّفنا عنك بسببها، فتصدّق بها و طهّرنا، فقال: ما امرت أن آخذ من أموالكم شيئا. فنزل قوله تعالى (2): خُذْ يا محمّد مِنْ أَمْوالِهِمْ التي أعطوك صَدَقَةً حال كونك تُطَهِّرُهُمْ من الذّنوب التي خلطوها بأعمالهم الصّالحة وَ تُزَكِّيهِمْ بِها و تنمّي بتلك الصّدقة أنفسهم بالكمال، و أموالهم في الدّنيا و الآخرة بالبركة و الثّواب-و قيل: يعني تبالغ في تطهيرهم (3)، أو تعظيم شأنهم و تثني عليهم بها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ و ادع لهم بالخير و البركة و الغفران إِنَّ صَلاتَكَ عليهم و دعاءك لهم سَكَنٌ لَهُمْ و طمأنينة تطمئنّ بها قلوبهم. و عن ابن عبّاس: إنّ دعاءك رحمة لهم (4)وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لاعترافهم و توبتهم و مقالاتهم عند إعطائهم الصّدقة و دعائك لهم عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من الصّدق و الخلوص.

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ ثلث أموالهم لتكميل توبتهم، و تكفير ذنوبهم التي منها تخلّفهم عن الغزو (5).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللّهم صلّ عليهم» (6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية: أجارية في الإمام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: نعم (7).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 104

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (104)

ص: 201


1- . تفسير الرازي 16:175.
2- . تفسير الرازي 16:175.
3- . تفسير الرازي 16:179، تفسير أبي السعود 4:99.
4- . تفسير الرازي 16:184.
5- . تفسير روح البيان 3:495.
6- . مجمع البيان 5:103، تفسير الصافي 2:371.
7- . تفسير العياشي 2:255/1879، تفسير الصافي 2:371.

ثمّ لمّا لم يصرّح اللّه سبحانه في الآية السّابقة بقبول توبتهم، صرّح به بقوله: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ من الذّنوب عَنْ عِبادِهِ المؤمنين المذنبين التّائبين وَ يَأْخُذُ منهم اَلصَّدَقاتِ الصّادرة منهم عن خلوص النيّة. ثمّ أكّد قبول توبتهم بقوله: وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ على المذنبين، و مبالغ في قبول توبتهم اَلرَّحِيمُ بهم.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا حكم بصحّة توبتهم، قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا معنا بالأمس لا يكلّمون و لا يجالسون، فما لهم؟ فنزلت (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه يقول: ما من شيء إلاّ و قد وكّلت [به]من يقبضه غيري إلاّ الصّدقة فإنّي أتلقّفها بيدي تلقّفا، حتّى إنّ الرّجل ليتصدّق بالتّمرة أو بشقّ التّمرة فاربّيها له كما يربّي الرجل فلوه (2)و فصيله، فيأتي يوم القيامة و هو مثل احد و أعظم من احد» (3).

و عن السجّاد عليه السّلام: «ضمنت على ربّي أنّ الصّدقة لا تقع في يد العبد حتّى تقع في يد الربّ، و هو قوله: هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه كان إذا أعطى السّائل قبّل يد السائل، فقيل له: لم تفعل ذلك؟ قال: «لأنّها تقع في يد اللّه قبل يد العبد» . و قال: «ليس من شيء إلاّ وكّل به ملك إلاّ الصّدقة فإنّها تقع في يد اللّه» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان أبي إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السّائل ثم ارتدّه منه فقبّله و شمّه [ثم رده في يد السائل]» (6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا ناولتم السائل شيئا فاسألوه أن يدعو لكم فإنّه يجاب له فيكم، و لا يجاب في نفسه-إلى أن قال: -و ليردّ الذي ناوله يده إلى فيه فيقبّلها، فإنّ اللّه تعالى يأخذها قبل أن تقع في يده، كما قال: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ» (7).

و عن الصادق عليه السّلام في حديث: «و الأخذ في وجه القبول منه، كما قال: وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ أي يقبلها من أهلها و يثيب عليها» (8).

و قيل: إنّ قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ذكر أنّ الآخذ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و في هذه ذكر أنّ الآخذ

ص: 202


1- . تفسير الرازي 16:185.
2- . الفلو: الجحش أو المهر يفطم أو يبلغ السنة.
3- . الكافي 4:47/6، تفسير الصافي 2:372.
4- . تفسير العياشي 2:257/1886، تفسير الصافي 2:372.
5- . تفسير العياشي 2:257/1885، تفسير الصافي 2:372.
6- . تفسير العياشي 2:256/1882، الكافي 4:9/3، تفسير الصافي 2:372.
7- . الخصال:619/10، تفسير الصافي 2:372.
8- . التوحيد:162/2، تفسير الصافي 2:372.

هو اللّه، فيفهم من الآيتين أنّ أخذ الرّسول أخذ اللّه، ففيه التّنبيه على عظم شأن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 105

ثمّ رغّب سبحانه التّائبين على العمل بعد قبول توبتهم، أو عموم العباد في مطلق الخيرات، و رهّبهم من العصيان بقوله: وَ قُلِ للتّائبين، أو لعموم المؤمنين: اِعْمَلُوا ما شئتم من الأعمال خيرا أو شرّا فَسَيَرَى اَللّهُ و يعلم البتّة عَمَلَكُمْ خيرا كان أو شرّا، ظاهرا كان أو خفيّا وَ رَسُولُهُ أيضا يراه، بل وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يرونه.

وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)عن الباقر عليه السّلام: «هو و اللّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هم الأئمّة عليهم السّلام» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «إيّانا عنى» (4).

و عنه عليه السّلام: «تعرض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعمال العباد كلّ صباح، أبرارها و فجّارها؛ فاحذروها، و هو قوله تعالى وَ قُلِ اِعْمَلُوا. . . الآية» (5).

و عنه عليه السّلام أنّه قرئ عنده هذه الآية فقال: «ليس هكذا هي، إنّما هي (و المأمونون) ، فنحن المأمونون» (6).

أقول: ليس المراد تغيير اللّفظ، بل بيان أن مادّة «مؤمنون» الأمن لا الإيمان.

و روي: لو أنّ رجلا عمل في صخرة لا باب لها و لاكوّه، لخرج عمله إلى النّاس كائنا ما كان (7).

وَ سَتُرَدُّونَ و ترجعون البتّة بعد الموت إِلى جزاء أعمالكم، أو إلى دار الآخرة التي هي معنى عالِمِ اَلْغَيْبِ لغيابه عن أنظار العامّة، وَ عالم اَلشَّهادَةِ لحضوره عند النّاس، أو لشهودهم حقائق الأعمال و الأشياء فيه فَيُنَبِّئُكُمْ و يخبركم اللّه بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ بإراءتكم جزاءه.

ص: 203


1- . تفسير الرازي 16:186.
2- . تفسير العياشي 2:258/1889، الكافي 1:171/5، تفسير الصافي 2:373.
3- . تفسير العياشي 2:259/1893، الكافي 1:171/2، تفسير الصافي 2:373.
4- . الكافي 1:146/2، تفسير الصافي 2:373.
5- . تفسير العياشي 2:259/1891، الكافي 1:171/1، تفسير الصافي 2:373.
6- . الكافي 1:351/62، تفسير الصافي 2:373.
7- . تفسير الرازي 16:189، تفسير روح البيان 3:501.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 106

ثمّ بيّن سبحانه القسم الآخر من النّاس بقوله: وَ آخَرُونَ منهم قوم مُرْجَوْنَ و مؤخّرون في جزائهم لِأَمْرِ اَللّهِ و إلى نزول حكمه في شأنهم، أو إلى إرادته التّعذيب أو العفو، فهو تعالى إِمّا يُعَذِّبُهُمْ على ذنوبهم إن سوّفوا التّوبة إلى أن يموتوا على ما هم عليه وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إن تابوا عن خلوص وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيما يفعل بهم من التّعذيب و العفو.

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)روي عنهما عليهما السّلام في هذه الآية: «أنّهم قوم مشركون، قتلوا مثل حمزة و جعفر و أشباههما من المؤمنين، ثمّ دخلوا في الإسلام، فوحّدوا اللّه و تركوا الشّرك، و لم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة، و لم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النّار، فهم على تلك الحال إمّا يعذّبهم و إمّا يتوب عليهم» (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 107 الی 108

ثمّ ذمّ اللّه المنافقين على بناء مسجد ضرار بقوله: وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و بنوا مَسْجِداً بجنب مسجد قبا (2)، ليكون أو ليضرّوا به ضِراراً وَ كُفْراً وَ ليفرّقوا به تَفْرِيقاً و يوقعوا اختلافا بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ يترصّدوا و ينتظروا إِرْصاداً و انتظارا لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ.

وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ اَلْحُسْنى وَ اَللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى اَلتَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُطَّهِّرِينَ (108)

في بيان علة بناء

مسجد ضرار

عن ابن عبّاس و جمع من مفسّري العامّة قالوا: كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين، بنوا مسجدا ليضارّوا مسجد قبا (3).

و قيل: إنّ أبا عامر الرّاهب-والد حنظلة، الذي غسّلته الملائكة-و سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الفاسق، و قد تنصّر في الجاهليّة، و ترهّب و طلب العلم، فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاداه لأنّه زالت رئاسته،

ص: 204


1- . تفسير العياشي 2:261/1901 و الكافي 2:299/1 عن الباقر عليه السّلام، تفسير القمي 1:304 عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 2:374.
2- . مسجد قبا: أصله اسم بئر في قرية تجمّع حولها بنو عمرو بن عوف، على ميلين من المدينة، و فيها مسجد التقوى، و هو أول مسجد صلّيت فيه صلاة الجمعة.
3- . تفسير الرازي 16:193. عن ابن عباس و مجاهد و قتاده و عامة أهل التفسير.

و قال: لا أجد قوما يقاتلونك إلاّ قاتلتك معهم، و لم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمّا انهزمت هوازن خرج إلى الشّام و أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة و سلاح، و ابنوا لي مسجدا، فإنّي ذاهب إلى قيصر و آت من عنده بجند فاخرج محمدا و أصحابه. فبنوا هذا المسجد، و انتظروا مجيء أبي عامر ليصلّي بهم في ذلك المسجد (1).

و عن (الجوامع) قال: روي أنّ بني عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قبا، و صلّى فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، و قالو: نبني مسجدا نصلّي فيه و لا نحضر جماعة محمّد. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا، و قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يتجهّز إلى تبوك: إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه، فقال: «إنّي على جناح سفر» . و لمّا انصرف من تبوك نزلت الآية، فأرسل من هدم المسجد و أحرقه، و أمر أن يتّخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف و القمامة (2).

ثمّ أخبر اللّه تعالى بنفاق البانين للمسجد بقوله: وَ لَيَحْلِفُنَّ باللّه للرّسول صلّى اللّه عليه و آله عند سؤاله عن علّة بنائه إِنْ أَرَدْنا و ما قصدنا ببنائه إِلاَّ الفعلة أو الخصلة أو الإرادة اَلْحُسْنى من الصّلاة و التّوسعة على ضعفاء المؤمنين و قيل: إنّهم قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلّة و الحاجة، و الشيخ الفاني، و اللّيلة الممطرة، و اللّيلة الشّاتية (3). فردّ اللّه سبحانه عليهم، و كذّب قولهم و حلفهم بقوله: وَ اَللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يقولون.

عن القمّي قال: كان سبب نزولها أنّه جاء قوم من المنافقين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه، أتأذن لنا أن نبني مسجدا في بني سالم للعليل و اللّيلة الممطرة، و الشيخ الفاني؟ فأذن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو على جناح الخروج إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه، لو أتيتنا و صلّيت فيه، فقال: «أنا على جناح السّفر، فإذا وافيت-إن شاء اللّه-أتيته فصلّيت فيه» .

فلمّا أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تبوك نزلت هذه [الآية]في شأن المسجد و أبي عامر الرّاهب، و قد كانوا حلفوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّهم يبنون ذلك للصّلاح و الحسنى، فأنزل اللّه على رسوله وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يعني: أبا عامر الرّاهب، كان يأتيهم و يذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه (4).

قيل: إنّه كان من أشراف قبيلة الخزرج، و كان له علم بالتّوراة و الإنجيل (5). و كان يذكر صفات

ص: 205


1- . تفسير الرازي 16:193.
2- . جوامع الجامع:186، تفسير الصافي 2:375.
3- . تفسير البيضاوي 1:420، تفسير الرازي 16:194.
4- . تفسير القمي 1:305، تفسير الصافي 2:375.
5- . تفسير روح البيان 3:505.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأهل المدينة قبل هجرته إليها، فلمّا هاجر إليها و آمن به أهلها، تركوا صحبة أبي عامر (1)، فحسد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له: ما هذا الدّين الذي جئت به؟ قال: «دين إبراهيم الخليل» . قال: لا و اللّه، ليس ذلك. فقال النبيّ: «بل جئت بها بيضاء نقيّة» . فقال أبو عامر: أمات اللّه من [هو]كاذب منّا طريدا وحيدا غريبا. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «آمين» ، فهرب بعد غزوة بدر و لحق بكفّار مكّة (2).

و عن تفسير الإمام عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، و كان ملك النواحي، له مملكة عظيمة ممّا يلي الشام، و كان يهدّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقصده و قتل أصحابه، و كان أصحاب رسول اللّه خائفين وجلين من قبله. . . ثمّ إنّ المنافقين اتّفقوا و بايعوا لأبي عامر الرّاهب الذي سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الفاسق، و جعلوه أميرا عليهم، و بخعوا له بالطّاعة، فقال لهم: الرأي أن أغيب عن المدينة لئلاّ اتّهم إلى أن يتمّ تدبيركم، و كاتبوا أكيدر صاحب دومة الجندل ليقصد المدينة (3).

فأوحى اللّه إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و عرّفه ما أجمعوا عليه من أمره، و أمره بالمسير إلى تبوك، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّما أراد غزوا ورّى بغيره إلاّ غزوة تبوك، فإنّه أظهر ما كان يريده، و أمر أن يتزوّدوا لها، و هي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون، و ذمّهم اللّه في تثبطهم عنها، و أظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما اوحي إليه أنّ اللّه سيظهره بكيدر-أو أكيدر-حتّى يأخذه و يصالحه على ألف اوقّية من ذهب في رجب و مائتي حلّة، و ألف أوقيّة في صفر و مائتي حلّة، و ينصرف سالما إلى ثمانين يوما، و قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ موسى وعد قومه أربعين ليلة، و أنا أعدكم ثمانين ليلة، ثمّ أرجع سالما غانما ظافرا بلا حرب تكون، و لا يستأسر أحد من المؤمنين. فقال المنافقون: لا و اللّه، و لكنّها آخر كرّاته [التي]لا ينجبر بعدها، إنّ أصحابه ليموت بعضهم في الحرّ و رياح البوادي و مياه المواضع المؤذية الفاسدة، و من سلم من ذلك فبين أسير في [يد]أكيدر، و قتيل و جريح.

و استأذنه المنافقون بعلل ذكروها؛ بعضهم يعتلّ بالحرّ، و بعضهم بمرض في جسده، و بعضهم بمرض عياله، و كان يأذن لهم.

فلمّا صحّ عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الرّحلة إلى تبوك، عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجد ضرار، يريدون الاجتماع فيه، و يوهمون أنّه للصّلاه، و إنّما كان ليجتمعوا فيه لعلّة الصلاة فيتمّ تدبيرهم و تقع هناك ما يسهل به لهم ما يريدون.

ثمّ جاء جماعة منهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: يا رسول اللّه، إنّ بيوتنا قاصية عن مسجدك، و إنّا

.

ص: 206


1- . تفسير روح البيان 3:505.
2- . تفسير روح البيان 3:506.
3- . زاد في المصدر: ليكونوا هم عليه، و هو يقصدهم فيصطلموه.

نكره الصّلاة في غير جماعة، و يصعب علينا الحضور، و قد بنينا مسجدا، فإن رأيت أن تقصده و تصلّي فيه لنتيمّن و نتبرّك بالصّلاة في موضع مصلاّك، فلم يعرّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما عرّفه اللّه من أمرهم و نفاقهم، فقال: ائتوني بحماري، فأتي بيعفور فركبه يريد مسجدهم، فكلّما بعثه هو و أصحابه لم ينبعث و لم يمشي، فإذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سيره و أطيبه، قالوا: لعلّ الحمار رأى من الطريق شيئا كرهه و لذلك لا ينبعث نحوه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ائتوني بفرس فركبه، فلمّا بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث، و كلّما حرّكوه نحوه لم يتحرّك، حتّى إذا فتلوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير، فقالوا: لعلّ هذا الفرس قد كره شيئا في هذا الطريق، فقال صلّى اللّه عليه و آله: تعالوا نمش إليه، فلمّا تعاطى هو و من معه المشي نحو المسجد جثوا في مواضعهم و لم يقدروا على الحركة، فإذا همّوا بغيره من المواضع خفّت حركاتهم، و خفّت أبدانهم و نشطت قلوبهم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذا أمر قد كرهه اللّه، و ليس يريده الآن و أنا على جناح سفر، فأمهلوا حتّى أرجع إن شاء اللّه، ثمّ أنظر في هذا نظرا يرضاه اللّه.

و جدّ في العزم على الخروج إلى تبوك، و عزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا، فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمّد، العلي الأعلى يقرئك السّلام، و يقول: إمّا أن تخرج أنت و يقيم عليّ، و إمّا أن يخرج عليّ و تقيم أنت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ذلك لعليّ، فقال علي عليه السّلام: السّمع و الطّاعة لأمر اللّه و أمر رسوله، و إن كنت أحبّ أن لا أتخلّف عن رسول اللّه في حال من الأحوال.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي. قال: رضيت يا رسول اللّه، فقال له رسول اللّه: يا أبا الحسن، إنّ [لك]أجر خروجك معي في مقامك في المدينة، و إنّ اللّه قد جعلك امّة وحدك، كما جعل إبراهيم امّة، تمنع جماعة المنافقين و الكفّار هيبتك عن الحركة على المسلمين.

فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شيّعه عليّ عليه السّلام، خاض المنافقون و قالوا: إنّما خلّفه محمّد بالمدينة لبغضه له و ملاله منه، و ما أراد بذلك إلاّ أن يبيّته المنافقون فيقتلوه. فاتّصل ذلك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عليّ عليه السّلام: أتسمع ما يقولون يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما يكفيك أنّك جلدة ما بين عيني، و نور بصري، و كالرّوح في بدني.

ثمّ سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه، و أقام عليّ عليه السّلام بالمدينة، فكان كلّما دبّر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من عليّ عليه السّلام و خافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك، و جعلوا يقولون فيما بينهم: هي كرّة محمّد التي لا يؤوب منها. . . إلى أن عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غانما ظافرا، و أبطل اللّه

ص: 207

كيد المنافقين، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإحراق مسجد ضرار، و أنزل اللّه تعالى وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً. . . الآيات.

ثمّ ذكر أنّ أبا عامر الرّاهب كان عجل هذه الامّة كعجل قوم موسى، و أنّه دمّر اللّه عليه و أصابه بقولنج و برص [و فالج]و لقوة (1)و بقي أربعين صباحا في أشدّ عذاب، ثمّ صار إلى عذاب اللّه» (2). و قيل: إنّه مات بالشّام طريدا وحيدا (3).

و قيل: إنّه أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مالك بن الدخشم (4)و معن بن عديّ بخراب المسجد و إحراقه، فألقوا فيه النّار فاحترق بعض من فيه (5).

قيل: إنّ مجمع بن جارية (6)كان إمام مسجد ضرار، ثمّ جاء إلى عمر و طلب منه إمامة مسجد قبا، قال عمر: لا، إنّك كنت إمام مسجد ضرار، قال مجمع: مهلا لا تعجل عليّ، إنّي كنت في ذلك الزّمان شابّا و كان المصلّون فيه شيوخا، و كنت قارئا للقرآن و هم لا يعلمون منه شيئا، و ما كنت مطّلعا على أحوالهم، و لو كنت مطّلعا ما أقمت معهم ساعة، فقبل عمر عذره و أعطاه إمامة مسجد قبا (7).

ثمّ قيل: لمّا رجع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تبوك همّ أن يذهب إلى مسجد ضرار، فنهاه اللّه عنه (8)بقوله: لا تَقُمْ يا محمّد للصّلاة فِيهِ أَبَداً و اللّه لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ و بني عَلَى اَلتَّقْوى و خلوص النيّة و الأغراض الخيريّة مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ بني-عنهما عليهما السّلام: يعني مسجد قبا (9)- أَحَقُّ و أولى أَنْ تَقُومَ للصّلاة فِيهِ من أن تقوم للصّلاة في مسجد اسّس على العصيان و الضّرر على المسلمين.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا هاجر من مكّة و قدم قرية قبا-و هي قرية بقرب المدينة على نصف فرسخ-نزل في بني عمرو بن عوف؛ و هم بطن من الأوس، على كلثوم بن هرم (10)، و كان شيخ بني عمرو بن عوف، أسلم قبل وصول الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى قبا أو بعده-على خلاف فيه-فلمّا نزل قال عمّار بن ياسر: لا بدّ لرسول اللّه من أن يجعل له مكان يستظلّ به إذا استيقط و يصلّي فيه، فجمع

ص: 208


1- . القولنج: مرض معويّ مؤلم يصعب معه خروج البراز و الريح، و سببه التهاب القولون، و البرص: بياض يقع في الجسد لعلّة، و اللّقوة: داء يعرض للوجه، يعوجّ منه الشدق إلى أحد جانبي العنق، فيخرج البلغم و البصاق من جانب واحد، و لا يحسن التقار الشفتين، و لا تنطبق إحدى العينين.
2- . التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام:481-488، تفسير الصافي 2:376.
3- . تفسير البيضاوي 1:421، تفسير روح البيان 3:506.
4- . في النسخة: مالك بن الدحثم، تصحيف، راجع: اسد الغابة 4:278.
5- . تفسير مجمع البيان 5:110.
6- . في النسخة: مجمع بن حارث، تصحيف، راجع: اسد الغابة 4:303.
7- . الكشاف 2:312.
8- . تفسير الرازي 16:195.
9- . تفسير العياشي 2:262/1905، تفسير الصافي 2:379.
10- . في النسخة: كلثوم بن الهند، و في تفسير روح البيان: كلثوم بن الهدم، تصحيف، راجع: اسد الغابة 4:251.

حجارة فأسّس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسجدا، و استتمّ بنيانه عمّار، فعمّار أوّل من بني مسجدا لعموم المسلمين، و كان مسجد قبا أوّل مسجد صلّى فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه جماعة ظاهرين، فلبث رسول اللّه بقبا بقيّة يوم وروده و هو يوم الاثنين و يوم الثّلاثاء و يوم الأربعاء و يوم الخميس-و قيل: بضع عشرة ليلة، و قيل: أربعة عشر يوما-فلمّا تحوّل منه إلى المدينة كان يأتيه يوم السّبت ما شيا أو راكبا و يصلّي فيه، ثمّ ينصرف (1).

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يأتيه في كلّ سنة و يصلّي فيه (2).

و قيل: إنّ المراد من المسجد مسجد الرّسول في المدينة (3).

و روي أنّ رجلين اختلفا فيه، فقال أحدهما: مسجد قبا، و قال آخر: مسجد الرّسول، فسألاه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «هو مسجدي هذا» (4).

ثمّ بيّن سبحانه وجه ترجيح مسجد المؤمنين بقوله: فِيهِ رِجالٌ مؤمنون يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الأقذار الجسمانيّة؛ كالبول و الغائط، بالماء و الأحجار، و من الأقذار الرّوحانيّة؛ كالذّنوب و الأخلاق الرّذيلة، و أدناس الشكّ و الشّرك، بالتّوبة و الرّياضة، و الجدّ في القيام بوظائف العبوديّة وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُطَّهِّرِينَ و يحيط بهم فضله و رحمته.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية، مشى رسول اللّه و معه المهاجرون حتّى وقف على باب مسجد قبا، فإذا الأنصار جلوس، فقال: مؤمنون أنتم؟ فسكت القوم، ثمّ أعادها، فقال عمر: يا رسول اللّه، إنّهم لمؤمنون، و أنا معهم، فقال: أترضون بقضاء اللّه؟ قالوا: نعم، قال: أتصبرون على البلاء؟ قالوا: نعم، قال: أتشكرون في الرّخاء؟ قالوا: نعم، قال صلّى اللّه عليه و آله: مؤمنون و ربّ الكعبة. ثمّ قال: يا معشر الأنصار، إنّ اللّه أثنى عليكم، فما الذي تصنعون في الوضوء؟ قالوا: نتبع الماء الحجر، فقرأ النبيّ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا. . . الآية (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الاستنجاء بالماء» (6).

و عن الباقر و الصادق عليه السّلام: «يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا: بالماء عن الغائط و البول» (7).

و روي أنّ أوّل من استنجى بالماء إبراهيم عليه السّلام (8).

ص: 209


1- . تفسير روح البيان 3:504.
2- . تفسير الرازي 16:195.
3- . جوامع الجامع:186، تفسير روح البيان 3:507.
4- . تفسير الرازي 16:195.
5- . تفسير الرازي 16:196، تفسير البيضاوي 1:421، تفسير روح البيان 3:508.
6- . تفسير العياشي 2:263/1906، تفسير الصافي 2:379.
7- . مجمع البيان 5:111، تفسير الصافي 2:379.
8- . تفسير روح البيان 3:508.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 109

ثمّ أنكر سبحانه اعتقاد التّساوي بين مسجد قبا و مسجد ضرار، أو فضيلة الثاني على الأوّل تنبيها على فضيلة الأول على الثاني بقوله: أَ فَمَنْ و التقدير: أبعد ما علم حال المتّقين، فمن أَسَّسَ و أحكم قواعد دينه و مسجده و بُنْيانَهُ بوضعه عَلى تَقْوى و خوف مِنَ اَللّهِ في مخالفته وَ رِضْوانٍ عظيم منه بالاشتغال بطاعته خَيْرٌ و أفضل أَمْ مَنْ أَسَّسَ و وضع أساس دينه و مسجده و بُنْيانَهُ عَلى الباطل الذي هو مثل شَفا جُرُفٍ و شفير طين مجتمع في طرف السّيل هارٍ و مشرف على السّقوط، في عدم الثّبات فَانْهارَ و أهوى باطل المبطل، و نفاق المنافق بِهِ بعد موته بسرعة فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ و حاصل المراد، و اللّه أعلم: أنّ البناء الذي كان بغرض التّقوى و الخوف من اللّه، و بقصد تحصيل مرضاته لازم الإبقاء، و لبانيه الفضيلة، و الذي كان بغرض الكفر و النّفاق لازم الهدم، و لبانيه النار و العقاب وَ اَللّهُ لا يَهْدِي و لا يوصل إلى النّجاة و النّجاح و الخير و الصّلاح اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بمعصية اللّه و الكفر و النّفاق.

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (109)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 110

ثمّ بيّن اللّه سبحانه ضرر بناء مسجد ضرار على أنفس المنافقين بقوله: لا يَزالُ و يكون دائما بُنْيانُهُمُ و مسجدهم اَلَّذِي بَنَوْا ضرارا على أنفسهم، لأنّه زاد رِيبَةً و شكّا ثابتا فِي قُلُوبِهِمْ حالا بعد حال، لا خلاص لهم منه إِلاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قطعا، و تتفرّق أجزاؤهم (1)تفريقا بحيث لا يبقى لها قابليّة إدراك و إضمار، أو قابلية حياة، فما دامت قلوبهم سالمة لا تخلو من الرّيب.

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ اَلَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)قيل: إنّ المنافقين عظم فرحهم ببناء المسجد، فلمّا أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بتخريبه ثقل ذلك عليهم، و ازداد بغضهم له و ارتيابهم في نبوته صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: إنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لمّا أمر بتخريب المسجد، ظنّوا أنّه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه، و عظم خوفهم منه، و صاروا مرتابين في أنّه هل يتركهم أو يقتلهم و يأمر بنهب أموالهم (3).

وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بنفاقهم و سوء ضمائرهم حَكِيمٌ في أمره بتخريب مسجدهم.

ص: 210


1- . في النسخة: أجزائه. (2 و 3) . تفسير الرازي 16:197.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 111

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تخلّف المنافقين عن الغزو، و إصرارهم على القعود عن الجهاد، و تدبيرهم في تخريب الاسلام و ذمّهم على ذلك، بيّن فضيلة المؤمنين الخلّص (1)، و رغّبهم في الجهاد بقوله: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ الخلّص (2)ببيعتهم و معاهدتهم مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله على نصرته أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ كي يبذلوهما في تقوية الإسلام و ترويجه، و حفظ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و نصرته بِأَنَّ لَهُمُ بالاستحقاق في الآخرة اَلْجَنَّةَ و نعمها أبدا، فهم وفاء بهذه المعاملة و المبايعة يُقاتِلُونَ الكفّار و المشركين، و يبذلون أموالهم و أنفسهم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لمرضاته فَيَقْتُلُونَ أعداءه وَ يُقْتَلُونَ في نصرة رسوله و حماية دينه.

إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (111)قيل: لمّا بايعت الأنصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة العقبة الثانية بمكّة و هم سبعون-أو أربعة و سبعون- نفسا قال عبد اللّه بن رواحة: اشترط لربّك و لنفسك ما شئت؟ فقال عليه السّلام: «أشترط لربّي أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا، و لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم و أموالكم» ، قالوا: فإذا فعلنا ذلك، فماذا لنا؟ قال: «الجنّة» ، قالوا: ربح البيع لا نقيل و لا نستقيل، فنزلت (1).

و في التّعبير عن الأمر بالجهاد باشترائه أنفسهم و أموالهم؛ مع كونه تعالى مالكهما، غاية التلطّف في الدّعوة إليه، و التّحريض عليه، و إشارة إلى أنّ المؤمن مادام كونه متعلّق القلب بحياته و ماله، امتنع وصوله إلى الدّرجات العالية من القرب و النّعم الاخرويّة.

ثمّ أكّد سبحانه وعده بالجنّة بقوله: وَعْداً واجب الوفاء عَلَيْهِ تعالى و في عهدته حَقًّا و ثابتا بحيث لا يمكن تخلّفه عنه و ترك وفائه به.

ثمّ لمّا كان من لوازم البيع الذي يكون ثمنه مؤجلا أن يكتب في كتاب، أخبر سبحانه عن الكتاب الذي كتب هذا البيع فيه بقوله: فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ و التّقدير: أنّه يثبت فيهما وَ في اَلْقُرْآنِ.

و قيل: إنّ المراد أنّه تعالى ذكر في التّوراة و الإنجيل أنّه اشترى من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنفسهم و أموالهم،

ص: 211


1- . تفسير الرازي 16:199، تفسير روح البيان 3:512.

بأنّ لهم الجنّة، كما بيّن ذلك في القرآن (1).

و على التفسير الأوّل تكون الآية دليلا على ثبوت الأمر بالجهاد في الشّريعتين السّابقتين على الاسلام.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب وفائه بهذا العهد بقوله: وَ مَنْ يكون أَوْفى و أعمل بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ و الذّات المتّصف بالالوهيّة؛ مع كون الحكمة و العدل المقتضيين للوفاء بالعهد، و امتناع التخلّف عنه عينها، فإذا كان الأمر كذلك يمتنع أن يساويه أحد في الوفاء فضلا عن أن يكون أوفى منه، إذن فَاسْتَبْشِرُوا و افرحوا غاية الفرح أيّها المؤمنون بِبَيْعِكُمُ أنفسكم و أموالكم من اللّه بالجنّة، و قيل: أي بالثّمن (2)اَلَّذِي بايَعْتُمْ أنفسكم و أموالكم بِهِ و فيه غاية التّقرير للبيع، و إشعار بغاية الرّبح فيه، حيث إنّه مبادلة الفاني بالباقي، و الزائل بالدائم، مع كون البدلين له تعالى.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: وَ ذلِكَ البيع هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و النّجاح الأكمل بأعلى المقاصد.

روى الخفر الرّازي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ليس لأبدانكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها» (3).

و روى بعض العامّة عنه عليه السّلام أنّه كان يقول: «يابن آدم اعرف قدر نفسك، فإنّ اللّه عرّفك قدرك، لم يرض أن يكون لك ثمن إلاّ الجنّة» (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 112

ثمّ عرّف سبحانه المؤمنين الذين باعوا أنفسهم و أموالهم من اللّه بقوله: اَلتّائِبُونَ من الشّرك- كما عن ابن عبّاس، أو منه و من النّفاق؛ كما عن بعض، أو من كلّ معصية؛ كما عن آخرين (5)-و اَلْعابِدُونَ للّه المعظّمون له في السرّاء و الضرّاء-و عن ابن عبّاس: الذين يرون عبادة اللّه واجبة عليهم (6)-و اَلْحامِدُونَ له على كلّ حال، الشّاكرون لنعمائه الدّنيويّة و الاخرويّة، و اَلسّائِحُونَ و هم الصائمون-كما عن ابن عبّاس (7)، أو الطالبون للعلم، السائرون في الأرض لطلبه؛ كما عن عكرمة (6)، أو المجاهدون و المهاجرون؛ كما عن بعض (7)-و اَلرّاكِعُونَ للّه اَلسّاجِدُونَ له؛ و هم

اَلتّائِبُونَ اَلْعابِدُونَ اَلْحامِدُونَ اَلسّائِحُونَ اَلرّاكِعُونَ اَلسّاجِدُونَ اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنّاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْحافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّهِ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (112)

ص: 212


1- . تفسير الرازي 16:201.
2- . تفسير مجمع البيان 5:114.
3- . تفسير الرازي 16:199.
4- . تفسير روح البيان 3:513.
5- . تفسير الرازي 16:202. (6 و 7) . تفسير الرازي 16:203.
6- . تفسير الرازي 16:204، تفسير روح البيان 3:519.
7- . تفسير الرازي 16:204.

الحافظون للصّلاة، المديمون عليها، و اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ من الإيمان باللّه و الرّسول و طاعتهما وَ اَلنّاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ من الشّرك و العصيان وَ اَلْحافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّهِ من تكاليفه و أحكامه، المراعون لها، المجدّون في العمل بها.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره المؤمنين بالاستبشار في الآية السّابقة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ببشارتهم بأعلى المثوبات بقوله: وَ بَشِّرِ يا محمّد اَلْمُؤْمِنِينَ بثواب يجلّ عن إحاطة الأفهام به، و بلوغ الأوهام إليه، و التّعبير بالكلام عنه.

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية، يعني إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ إلى آخره، قام رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا نبي اللّه، أرأيتك الرّجل يأخذ للّه سيفه فيقاتل حتّى يقتل، إلاّ أنّه يقترف من هذه المحارم، أشهيد هو؟ فأنزل اللّه على رسوله اَلتّائِبُونَ اَلْعابِدُونَ الآية، فبشّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المجاهدين من المؤمنين الذين هذه صفتهم و حليتهم بالشّهادة و الجنّة» .

و قال عليه السّلام: «اَلتّائِبُونَ من الذّنوب، اَلْعابِدُونَ الذين لا يعبدون إلاّ اللّه، و لا يشركون به شيئا، اَلْحامِدُونَ الذين يحمدون اللّه على كلّ حال في الشدّة و الرّخاء اَلسّائِحُونَ الصّائمون اَلرّاكِعُونَ اَلسّاجِدُونَ الذين يواظبون على الصّلوات الخمس، الحافظون لها، و المحافظون عليها بركوعها و سجودها، و الخشوع فيها، و في أوقاتها اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بعد ذلك، و العاملون به، وَ اَلنّاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ و المنتهون عنه. قال: فبشّر من قتل و هو قائم بهذه الشّروط بالشّهادة و الجنّة» (1).

عن العيّاشي قال: «هم الأئمّة» (2).

و عن القمّي قال: نزلت الآية في الأئمّة عليهم السّلام، لأنّه وصفهم بصفة لا تجوز في غيرهم، فالآمرون بالمعروف هم الذين يعرفون المعروف كلّه، صغيره و كبيره، و النّاهون عن المنكر هم الذين يعرفون المنكر كلّه، صغيره و كبيره، و الحافظون لحدود اللّه هم الذين يعرفون حدود اللّه، صغيرها و كبيرها، دقيقها و جليلها، و لا يجوز أن يكون بهذه الصّفة غير الأئمّة عليهم السّلام (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 113 الی 115

ص: 213


1- . الكافي 5:15/1، تفسير الصافي 2:381.
2- . تفسير العياشي 2:265/1911، تفسير الصافي 2:381.
3- . تفسير القمي 1:306، تفسير الصافي 2:381.

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالتبرّي عن المشركين، و التّأكيد من أوّل السّورة إلى هنا في إظهار عداوتهم و القتال معهم، و بيان عدم فائدة الاستغفار لهم، نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين عن الاستغفار لهم، و إن كانوا أقرب النّاس إليهم؛ بقوله: ما كانَ يصحّ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا و لا يستقيم لهم في حكمة اللّه و حكمه أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ المتجاهرين منهم بالشّرك، أو المنافقين وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى و منتسبين إليهم بالولادة أو المصاهرة مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ و ظهر لَهُمْ بسبب إصرارهم على الشّرك و موتهم عليه أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ و أهل النّار.

روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه سمع رجلا يستغفر لأبويه المشركين، قال: «فقلت له: أتستغفر لأبويك و هما مشركان؟ فقال: أ ليس استغفر إبراهيم لأبويه و هما مشركان؟ فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت هذه الآية» (1)وَ ما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ناشئا عن سبب من الأسباب إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ.

قيل: إن إبراهيم كان يرجو إيمان آزر، و لذا وعده أن يستغفر له بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي (2)، و قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ (3).

فَلَمّا تَبَيَّنَ لإبراهيم و ظهر لَهُ بأن رآه مصرّا على الشّرك أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ و لا يؤمن به أبدا تَبَرَّأَ مِنْهُ و تنزّه عن الاستغفار له.

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ما يقول النّاس في قول اللّه: وَ ما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ؟ فقيل: يقولون: إنّ إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له، قال: ليس هو هكذا، إنّ أبا إبراهيم وعده أن يسلم فاستغفر له فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (4).

و في رواية: «لمّا مات تبيّن له أنّه عدوّ للّه فلم يستغفر له» (5).

و عن القمّي رحمه اللّه: إنّ إبراهيم عليه السّلام قال لأبيه: إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك، فلمّا لم يدع الأصنام

ص: 214


1- . تفسير الرازي 16:209.
2- . سورة مريم:19/47.
3- . تفسير روح البيان 3:522، و الآية من سورة الممتحنة:60/4.
4- . تفسير العياشي 2:266/1915، تفسير الصافي 2:382.
5- . تفسير العياشي 2:266/1917، تفسير الصافي 2:382.

تبرّأ منه (1).

أقول: لا منافاة بين التّفسيرين لجواز وقوع كلا الوعدين.

ثمّ بيّن سبحانه علّة استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ و كثير التفجّع على خلق اللّه، و شديد الرّأفة و الشّفقة على النّاس حَلِيمٌ و صبور على أذاهم، و لذا كان يحلم على أذى أبيه و يترحّم له، فيستغفر له.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الأوّاه الخاشع المتضرّع» (2). و في رواية اخرى قال: «الدعاء» (3).

و قيل: معناه أنّه كلّما ذكر لنفسه تقصيرا، أو ذكر عنده شيء من شدائد الآخرة كان يتأوّه إشفاقا منه، و استعظاما له (2). و عليه يكون قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ علّة للتبرّي من أبيه، و المعنى: أنّه مع كونه بهذه الصّفات، غلظ قلبه عليه، و تبرّأ منه بعد ما ظهر إصراره على الشّرك، فأنتم أولى بذلك.

ثمّ قيل: إنّ المؤمنين لمّا خافوا على أنفسهم من استغفارهم لآبائهم و أقربائهم ممّن مات على الكفر قبل نزول الآية، و على المسلمين الذين ماتوا و كانوا في حياتهم يستغفرون للمشركين (3)، أزال اللّه خوفهم بقوله: وَ ما كانَ اَللّهُ و ليس من شأنه و مقتضى حكمته و عدله لِيُضِلَّ و يصرف عن طريق الجنّة قَوْماً من الأقوام، و يأخذ بالعذاب طائفة من النّاس بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام و وفقهم لقبوله حَتّى يُبَيِّنَ و يوضّح لَهُمْ بتوسّط الرّسول الباطن، أو الرّسول الظّاهر ما يَتَّقُونَ و يحترزون عنه من المحرّمات-و عن الصادق عليه السّلام قال: «ما يرضيه و يسخطه» (4)-فلا عقوبة من اللّه إلاّ بعد إعلامهم بتكليفه، و إزالة العذر عنهم، فإنّ العقوبة بلا بيان-مع كون الجهل عن قصور الجاهل عذرا عقليّا-من الجهل، و من البيّن إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

في الاستدلال على

البراءة في مشكوك

الوجوب و الحرمة

فالآية دالّة على أنّ الأصل في مشكوك الوجوب و الحرمة البراءة. و الجواب عنه بأنّه- بعد دلالة الأدلّة المعتبرة على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الحرمة، لا يكون العقاب عليه عقابا بلا بيان-فاسد، بأنّه مبنيّ على كون وجوب الاحتياط نفسيا، و أمّا مع كونه مقدّميّا علميّا ناشئا عن تنجّز الواقع المجهول، فالعقاب يكون على الواقع المجهول الذي تنفي الآية صحّته، و يحكم العقل أيضا بقبحه.

و ما قيل من أنّ الإضلال غير العقوبة فلا ربط للآية بالبراءة المتنازع فيها. ففيه: أنّ الملاك واحد إن

ص: 215


1- . تفسير القمي 1:306، تفسير الصافي 2:382. (2 و 3) . تفسير الرازي 16:211.
2- . تفسير روح البيان 3:522.
3- . تفسير الرازي 16:212.
4- . تفسير العياشي 2:267/1919، الكافي 1:124/3، تفسير الصافي 2:383.

لم نقل بالأولويّة، فلا بدّ من حمل ما دلّ على وجوب الاحتياط في المقام على الاستحباب، أو على الحرمة المعلومة بالإجمال.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 116

ثمّ لمّا كان ارتكاب القبيح من العالم بالقبح قد يكون لأجل الحاجة، نفاها عن نفسه بإثبات سعه ملكه، و كمال قدرته بقوله: إِنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فلا حاجة له إلى شيء، و يُحْيِي بقدرته الموتى وَ يُمِيتُ الأحياء، فليس له عجز عن تحصيل مراده.

إِنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (116)ثمّ استدلّ على عدم إمكان صدور العقاب منه بلا بيان بغاية لطفه بعباده بقوله: وَ ما لَكُمْ أيّها المؤمنون في عالم الموجود مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه مِنْ وَلِيٍّ و حافظ لصلاحكم وَ لا نَصِيرٍ دافع للمضارّ عنكم.

و قيل: إنّه قال قوم من المسلمين: لمّا أمرتنا بالانقطاع عن المشركين فلا يمكننا مخالطة آبائنا و أبنائنا؛ لأنّه ربّما كان كثير منهم كافرين، فسلّى سبحانه قلوبهم: بأنّكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم و نصرتهم، فالإله الذي هو مالك السماوات و الأرض، و المحيي و المميت، ناصركم و وليّكم، فلا يضرّكم الانقطاع عنهم (1).

أو المراد: أنّكم لا تخافوا من ضرر الكفّار بالتبرّي منهم، فإنّ مالك عالم الوجود؛ القادر على كلّ شيء، هو ناصركم و وليّكم، فلا يقدرون على إضراركم. و على أي تقدير، فالآية دالّة على كمال لطفه بعباده المؤمنين.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 117

ثمّ أنّه تعالى أظهر غاية لطفه بخصوص المهاجرين و الأنصار بقبول توبتهم، ضامّا للنبي المعصوم عن كلّ ذنب بهم، تعظيما لهم، و تطييبا لقلوبهم؛ بقوله، لَقَدْ تابَ اَللّهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ وَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ، قيل: إنّ نكتة ضمّ النبيّ بهم، أنّ قبول التّوبة فضل اللّه و رحمته المخصوصة به، و كلّ فضل

لَقَدْ تابَ اَللّهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ وَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ اَلْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)

ص: 216


1- . تفسير الرازي 16:213.

و رحمة و نعمة يريد إيصالها إلى العباد لا بدّ من أن يكون عبورها على ولاية النبوّة، ثمّ يفيض منها على المهاجرين و الأنصار و سائر الامّة (1).

أقول: و لعلّه لتلك النّكتة و الحكمة يستحبّ الابتداء بالصّلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله عند طلب الحاجة من اللّه تعالى، و عليه يحمل ما روي عن الصادق عليه السّلام، و الرضا عليه السّلام من أنّهما قرءا: (لقد تاب اللّه بالنبي صلّى اللّه عليه و آله على المهاجرين و الأنصار) (2)، و ما في ذيل رواية أبان بن تغلب، عن الصادق عليه السّلام من قوله: «إنّما تاب اللّه به على امّته» (3).

ثمّ وصف اللّه المهاجرين و الأنصار بما يوجب قبول توبتهم، و إنزال الرّحمة عليهم بقوله: اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ و خرجوا معه فِي ساعَةِ اَلْعُسْرَةِ و نصروه في زمان الشدّة-و هو غزوة تبوك-فإنّه قد أصابتهم فيها مشقّة عظيمة من شدّة الحرّ و قلّة المركب؛ حتّى روي أنّه كانت العشرة تعتقب على بعير واحد (4)، و من قلّة الزّاد؛ حتّى روي أنّه ربّما مصّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتّى لا يبقى منها إلاّ النّواة، و كان معهم شيء من شعير مسوّس، فكان إذا وضع أحدهم اللّقمة في فيه أخذ أنفه من نتن تلك اللّقمة، و من قلّة الماء (5).

في ذكر بعض

المتخلّفين في غزوة

تبوك عن النبي صلّى اللّه عليه و آله

روي أنّ عمر قال: خرجنا في قيظ شديد، و أصابنا فيه عطش شديد، حتّى [أن] الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه و يشربه (6).

عن القمّي رحمه اللّه: هم أبو ذرّ، و أبو خيثمة، و عمر بن وهب، الذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (5).

قال: و تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من أهل نيات (6)و بصائر، لم يكن يلحقهم شكّ و لا ارتياب، و لكنّهم قالوا: نلحق برسول اللّه، منهم أبو خيثمة و كان قويا، و كان له زوجتان و عريشان (7)، و كانت زوجتاه قد رشّتا عريشيه [و برّدتا له الماء، و هيئتا له طعاما، فأشرف على عريشيه، فلمّا نظر إليهما] قال: و اللّه، ما هذا بإنصاف، فإنّ رسول اللّه مع أنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر قد خرج في الصخّ (8)و الرّيح، و قد حمل السّلاح يجاهد في سبيل اللّه، و أبو خيثمة قويّ قاعد في عريشيه مع

ص: 217


1- . تفسير روح البيان 3:525.
2- . مجمع البيان 5:120، الاحتجاج:76، تفسير الصافي 2:383.
3- . الاحتجاج:76، تفسير الصافي 2:384.
4- . تفسير الرازي 16:215. (5 و 6) . تفسير الرازي 16:215.
5- . تفسير القمي 1:297، تفسير الصافي 2:384.
6- . في المصدر: ثبات.
7- . العريش: كل ما يستظل به، و في المصدر: عريشتان، و العريشة: الهودج.
8- . الصخّ: و هو الصوت الشديد يقرع السمع، و هو صوت قرع الصخرة، و ضرب الحديد على الحديد.

امرأتين حسناوين، لا و اللّه ما هذا بإنصاف. ثمّ أخذ ناقته فشدّ عليها رحله فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنظر النّاس إلى راكب على الطريق، فأخبروا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كن أبا خيثمة» ، فكان أبا خيثمة، فأقبل و أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بما كان [منه]، فجزاه خيرا و دعا له.

و كان أبو ذرّ تخلّف عن رسول اللّه ثلاثة أيّام، و ذلك أن جمله كان أعجف (1)، و وقف عليه في بعض الطّريق، فتركه و حمل ثيابه على ظهره، فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد ثلاثة أيّام، فلمّا ارتفع النّهار و نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كن أبا ذر» ، فقالوا: هو أبو ذر، فقال رسول اللّه: «أدركوه بالماء فإنّه عطشان» ، فأدركوه بالماء، فوافى [أبو ذرّ]رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه إداوة (2)فيها ماء، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا أبا ذرّ، معك ماء و عطشت؟» ، قال: نعم يا رسول اللّه، بأبي أنت و أمّي، انتهيت إلى صخرة و عليها ماء السّماء فذقته، فإذا هو عذب بارد، فقلت: لا أشربه حتّى يشربه حبيبي رسول اللّه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا أبا ذرّ، رحمك اللّه، تعيش وحدك، و تموت وحدك، و تبعث وحدك، و تدخل الجنّة وحدك، يسعد بك قوم من العراق يتولّون غسلك و تجهيزك [و الصلاة عليك] و دفنك» (3).

أقول: هؤلاء و إن تخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أنّ الظاهر أنّهم لم يكونوا من أهل الذّنب الذي أخبر اللّه عنه بقوله: مِنْ بَعْدِ ما كادَ و قرب يَزِيغُ و يميل قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثّبات مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، بأن همّوا بالانصراف من الغزو بغير استئذان، لشدائد أصابتهم في ذلك السّفر، فعصمهم اللّه فصبروا و ندموا على ما خطر ببالهم.

قيل: إنّه تعالى بشّر بقبول توبتهم قبل ذكر ذنبهم تطييبا لقلوبهم (4).

و قيل: لم يهمّوا بالرّجوع، و إنّما خطر في قلوبهم، فخافوا أن يكون معصية (5).

ثمّ أكّد اللّه البشارة بقوله: ثُمَّ تابَ اللّه عَلَيْهِمْ لئلاّ يبقى في قلوبهم شكّ في قبول توبتهم. ثمّ بالغ سبحانه في التأكيد بقوله: إِنَّهُ تعالى بِهِمْ رَؤُفٌ لا يرضى بضررهم، و لا اضطراب قلوبهم رَحِيمٌ بهم بإيصال جميع الخيرات إليهم.

روي أنّ الأصحاب شكوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عسرة الماء [في غزوة تبوك]فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، إنّ اللّه تعالى عوّدك في الدّعاء خيرا، فادع لنا، قال: «أتحبّ ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه، فلم يرجعهما حتّى أرسل اللّه سحابة، فمطرت حتّى ارتوى النّاس، و احتملوا ما يحتاجون إليه، و تلك السّحابة لم

ص: 218


1- . الأعجف: الهزيل.
2- . الإدواة: الإناء الصغير لحمل الماء.
3- . تفسير القمي 1:294، تفسير الصافي 2:384. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:216.

تتجاوز العسكر (1).

و روي أنّهم نزلوا يوما في غزوة تبوك بفلاة من الأرض على غير ماء، و كادت عتاق الخيل و الرّكاب تقع عطشا فدعا صلّى اللّه عليه و آله و قال: «أين صاحب الميضأة» (2)؟ قيل: هو ذا يا رسول اللّه، قال: «جئني بميضأتك، فجاء بها و فيها شيء من الماء، فوضع أصابعه الشّريفة عليها فنبع الماء من أصابعه العشرة، فأقبل الناس و استقوا، و فاض الماء حتّى رووا و رووا خيلهم و ركابهم، و كان في العسكر من الخيل اثني عشر ألفا، و من الإبل خمسة عشر ألف بعير، و النّاس ثلاثون ألف و قيل: سبعون (3).

و روي أنّهم لمّا أصابهم في غزوة تبوك مجاعة، قالوا: يا رسول اللّه، لو أذنت لنا نحرنا نواضحنا (4)و ركابنا و ادّهنّا، فقال عمر: يا رسول اللّه، إن فعلت فنى الظهر، و لكن ادعهم بفضل أزوادهم، و ادعوا اللّه لهم فيها بالبركة، لعلّ اللّه أن يجعلها في ذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم» فدعا بنطع (5)فبسطه، ثمّ دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يأتي بكفّ من ذرة، و يجيء الآخر بكفّ من تمر، و يجيء الآخر بميرة، حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير، فدعا عليه السّلام بالبركة.

ثمّ قال: «خذوا في أوعيتكم» ، فأخذوا حتّى ما تركوا في العسكر وعاء إلاّ ملأوه، و أكلوا حتّى شبعوا، و فضلت فضلة فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّي رسول اللّه، لا يلقى اللّه بها عبد غير شاكّ إلاّ وقاه النار» (6).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 118

ثمّ عطف سبحانه على قبول توبة عموم المهاجرين و الأنصار قبول توبة الثّلاثة الذين كانوا مرجون لأمر اللّه بقوله: وَ عَلَى اَلثَّلاثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا عن رسول اللّه و أقاموا بالمدينة؛ و هم كعب بن مالك الشاعر، و مرارة (7)بن الرّبيع العنبري، و هلال بن اميّة.

وَ عَلَى اَلثَّلاثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اَللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (118)قيل: كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم، فقال: يا أرضاه، ما خلّفني عن رسول اللّه إلاّ أمرك، اذهبي فأنت في سبيل اللّه، فلاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إلى رسول اللّه ففعل. و كان للثّاني أهل، فقال:

ص: 219


1- . تفسير روح البيان 3:529.
2- . الميضأة: إناء يتوضأ به.
3- . تفسير روح البيان 3:526.
4- . النّواضح: جمع ناضح، و هو البعير يستقى عليه.
5- . النّطع: البساط من جلد.
6- . تفسير روح البيان 3:526.
7- . في النسخة: زرارة، و ما أثبتناه موافق للمصدرين الآتيين، و راجع: اسد الغابة 4:343.

يا أهلاه، ما خلّفني عن رسول اللّه إلاّ أمرك و لاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إليه و فعل. و الثّالث ما كان له أهل و لا مال، فقال: ما لي سبب إلاّ الضنّ بالحياة، و اللّه لاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إلى رسول اللّه، فلحقوا بالرّسول، فأنزل اللّه وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللّهِ (1).

و آخر قبول توبتهم حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ و مع سعتها؛ لأنّهم بسبب إعراض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين عنهم، صاروا بحيث كأنّهم لم يجدوا فيها موضع قرار. و ضيق الأرض كناية عن شدّة الحيرة و الوحشة.

و قيل: إنّهم لم يلحقوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فنهى صلّى اللّه عليه و آله عن مجالستهم و مكالمتهم، و أمر بمباينتهم حتّى أمر نساءهم بذلك، فضاقت عليهم الأرض (2)وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ و امتلأت قلوبهم بالوحشة و الغمّ بحيث لم يبق لهم فيها ما يسع شيئا من الرّاحة و السّرور، و لخوفهم من اللّه و من أن يموتوا و لا يصلّي عليهم النبيّ و المؤمنون-و قيل: جاءت امرأة هلال إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالت: يا رسول اللّه، لقد بكى هلال حتّى خفت على بصره (3).

قيل: كانوا على تلك الحالة خمسون يوما (4)وَ ظَنُّوا و اطمأنّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اَللّهِ و من سخطه إِلاّ إِلَيْهِ و لا مخلّص من نقمته إلاّ الاستغفار و التضرّع لديه.

ثمّ أكّد سبحانه قبول توبتهم بقوله: ثُمَّ تابَ اللّه عَلَيْهِمُ بفضله لِيَتُوبُوا و يرجعوا إلى حالتهم السّابقة إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ على المذنبين اَلرَّحِيمُ بالتّائبين و لو عادوا في اليوم مائة مرّة.

عن القمّي قال: تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من المنافقين، و قوم من المؤمنين المستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق؛ منهم كعب بن مالك الشاعر، و مرارة بن الربيع، و هلال بن اميّة الواقفي، فلمّا تاب اللّه عليهم.

قال كعب: ما كنت قطّ أقوى منّي في الوقت الذي خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى تبوك، و ما اجتمعت لي راحلتان إلاّ ذلك اليوم (2)، فكنت أقول: أخرج غدا، أخرج بعد غد، فإنّي قويّ و توانيت و بقيت بعد خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أياما أدخل السوق و لا أقضي حاجة، فلقيت هلال بن أميّة و مرارة بن الرّبيع، و قد كانا تخلّفا أيضا، فتوافقنا أن نبكّر إلى السّوق و لم نقض [حاجة]، فمازلنا نقول: نخرج غدا و بعد غد، حتّى بلغنا إقبال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فندمنا.

فلمّا وافى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استقبلناه نهنّئه بالسّلامة، فسلّمنا عليه فلم يردّ علينا السّلام فأعرض

ص: 220


1- . تفسير الرازي 16:217، تفسير روح البيان 3:528. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 16:218.
2- . في النسخة: إلى ذلك اليوم.

عنّا، و سلّمنا على إخواننا فلم يردّوا علينا السّلام، فبلغ ذلك أهلينا فقطعوا كلامنا، و كنّا نحضر المسجد فلم يسلّم علينا أحد و لا يكلّمنا، فجاءت نساؤنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا، أفنعتزلهم؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تعتزلنهم، و لكن لا يقربوكنّ» .

فلمّا رأى كعب بن مالك و صاحباه ما قد حلّ بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة و لا يكلّمنا رسول اللّه و لا إخواننا و لا أهلونا، فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل، فلا نزال فيه حتّى يتوب اللّه علينا أو نموت، فخرجوا إلى ذناب (1)جبل بالمدينة، فكانوا يصومون، و كان أهلوهم يأتونهم بالطّعام فيضعونه ناحية ثم يولّون عنهم لا يكلّمونهم، فبقوا على هذه الحالة أياما كثيرة، يبكون باللّيل و النّهار، و يدعون اللّه أن يغفر لهم، فلمّا طال عليهم الأمر قال كعب: يا قوم، قد سخط اللّه علينا، و رسوله قد سخط علينا، و إخواننا سخطوا علينا، و أهلونا سخطوا علينا فلا يكلّمنا أحد، فلم لا يسخط بعضنا على بعض، فتفرّقوا في اللّيل، و حلفوا أن لا يكلّم أحد [منهم]صاحبه حتّى يموت أو يتوب اللّه عليه، فبقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام، كلّ [واحد]منهم في ناحية من الجبل، لا يرى أحد منهم صاحبه و لا يكلّمه.

فلمّا كان في اللّيلة الثالثة، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بيت أمّ سلمة، نزلت توبتهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال تعالى: حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ حيث لا يكلّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا إخوانهم و لا أهلوهم، فضاقت المدينة عليهم حتّى خرجوا منها، و ضاقت عليهم أنفسهم حيث حلفوا أن لا يكلّم بعضهم بعضا، فتفرّقوا و تاب اللّه عليهم لمّا عرف صدق نيّاتهم (2).

روى بعض العامّة عن كعب أنّه قال: أنزل اللّه توبتنا على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله حين بقي الثّلث الأخير من اللّيل، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند امّ سلمة، و كانت امّ سلمة محسنة في شأني معينة في أمري، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «يا امّ سلمة، تيب على كعب» ، قالت: أ فلا أرسل إليه فابشّره؟ قال: «إذن يحطم (3)النّاس فيمنعوكم النوم سائر اللّيلة» ، حتّى إذا صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلاة الفجر أعلم بتوبة اللّه علينا. قال: فانطلقت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتلقّاني النّاس فوجا فوجا يهنّئوني بالتّوبة، حتّى دخلت المسجد فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس و حوله النّاس، فقام إليّ طلحة بن عبد اللّه يهرول حتّى صافحني و هنّأني، و اللّه ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، و لا أنساها لطلحة، و ذلك لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أخى بينهما حين قدم المدينة (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 119

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّادِقِينَ (119)

ص: 221


1- . الذّناب من كلّ شيء: عقبه و مؤخّره.
2- . تفسير القمي 1:296-298، تفسير الصافي 2:386.
3- . أي يزدحمون.
4- . تفسير روح البيان 3:529.

ثمّ أنّه تعالى بعد قبول توبة المتخلّفين، أمر المؤمنين بطاعة الرّسول و ملازمته في الجهاد و غيره بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ في مخالفته و مخالفة رسوله وَ كُونُوا مَعَ اَلصّادِقِينَ و هم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و من هو بمنزلته في العصمة عن الخطأ و بيان خلاف الواقع.

نقل كلام فخر

الرازي في حجيّة

الإجماع

قال الفخر الرّازي في تفسيره: إنّه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصّادقين، و متى وجب الكون مع الصّادقين فلا بدّ من وجود الصّادقين في كلّ وقت، و ذلك يمنع من إطباق الكلّ على الباطل، و متى امتنع إطباق الكلّ على الباطل، وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقّين. فهذا يدلّ على أن إجماع الامّة حجّة (1).

ثمّ اعترض على نفسه بأنّه لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلوّ زمان التّكليف منه؛ كما تقوله الشيعة (2). ثمّ ردّ ذلك الاعتراض بقوله: نحن نعترف بأنّه لا بدّ من معصوم في كلّ زمان، إلاّ أنّا نقول: ذلك المعصوم هو مجموع الامّة، و أنتم تقولون: ذلك المعصوم هو واحد منهم. فنقول: هذا الثاني باطل؛ لأنّه تعالى أوجب على كلّ أحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين، و إنّما يمكنه ذلك لو كان عالما بأن ذلك الصادق من هو، لا جاهلا بأنّه من هو، فلو كان مأمورا بالكون معه كان ذلك تكليفا بما لا يطاق، و أنّه لا يجوز، لكنّا لا نعلم إنسانا معيّنا موصوفا بوصف العصمة و العلم، [و العلم]بأنّا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضّرورة. فثبت أنّ قوله: كُونُوا مَعَ اَلصّادِقِينَ ليس أمرا بالكون مع شخص معيّن، و لمّا بطل هذا، بقي أنّ المراد منه الكون مع مجموع الامّة، و ذلك يدلّ على أن قول مجموع الامّة حقّ و صواب، و لا معنى لقولنا «الإجماع حجّة» إلاّ ذلك (1)، انتهى كلامه بطوله المملّ.

فى إبطال استدلال

الفخر على حجيّة

الإجماع

و فيه: أنّ لفظ اَلصّادِقِينَ كالنصّ في أنّ المراد الأشخاص، لا المجموع المركّب من الأشخاص، مع كون كلّ واحد منهم كاذبا، أو من يجوز عليه الكذب. و عدم علم هذا الشّخص المتعصّب بالشّخص الموصوف بالعصمة لا يكون قرينة على إرادة المجموع من الامّة، مع قيام الأدلّة القطعيّة و الرّوايات المتواترة على تعيينه باسمه و نسبه، في كلّ زمان و عصر عند من برئ عن التعصّب و اللّجاج، و طابت طينته، و طهر مولده، مع أنّ الوجدان القطعي يشهد بعدم تمكّن أحد من المؤمنين حتّى المجتهدين المتبحّرين منهم، من العلم باتّفاق مجموع الامّة، بحيث لم يشذّ منهم واحد على أمر، حتّى في الزّمان المتّصل بوفاة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الذي كان المسلمون بالنّسبة إلى الأعصار المتأخّرة في غاية القلّة، و لو ادّعى أحد بالعلم بذلك حسّا، نعلم

ص: 222


1- . تفسير الرازي 16:221.

بحسب العادة بكذبه، مع أنّه لا شبهة في أنّ المراد من اَلصّادِقِينَ في زمان نزول الآية شخص الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و إرادة الشّخص المعيّن منه في زمان، و الهيئة المركّبة من الامّة في زمان آخر، تستلزم إرادة المعنيين المستقلّين الحقيقي و المجازي من استعمال واحد؛ و هو محال، و ليس بينهما جامع عرفي بكون اللّفظ مستعملا فيه، و يكون كلّ واحد منهما مصداقه.

و في (الإكمال) : عن أمير المؤمنين أنّه قال في مجمع من المهاجرين و الأنصار، أيّام خلافة عثمان: «أسألكم باللّه، أتعلمون أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال سلمان: يا رسول اللّه، عامّة هذه الآية أم خاصّة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: أمّا المامورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك، و أمّا الصادقون فخاصّة لأخي و أوصيائي من بعده إلى يوم القيامة» ، قالوا: اللّهمّ نعم (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «إيّانا عنى» (2). و عنه عليه السّلام قال: «مع آل محمّد» (3).

و عن الرضا عليه السّلام: «الصّادقون هم الأئمة» ، الخبر (4).

و قال العلاّمة: روى الجمهور: أنّها نزلت في علي عليه السّلام (5). فلا ترتبط الآية بحجيّة الإجماع، بل هي دالّة على عصمة عليّ عليه السّلام و أولاده الطيّبين و إمامتهم، رغما للنّواصب.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 120 الی 121

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بكون المؤمنين مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله في جميع غزواته، أكّده بالنهي عن التخلّف عنه بقوله: ما كانَ صحيحا في حكم اللّه لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ من المؤمنين وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ و الذين في أطرافهم من مؤمني أهل البوادي كجهينة و مزينة و أسلم و أشجع و غفار أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ في غزوة من غزواته وَ أن لا يَرْغَبُوا و لا يعرضوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ

ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ (120) وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

ص: 223


1- . كمال الدين:278/25، تفسير الصافي 2:388.
2- . الكافي 1:162/1، تفسير الصافي 2:387.
3- . مجمع البيان 5:122، تفسير الصافي 2:388.
4- . الكافي 1:162/2، تفسير الصافي 2:387.
5- . كشف الحق:190.

نَفْسِهِ و لا يضايقوا من بذلوا (1)مهجهم دونه، بل عليهم أن يصبروا معه على البأساء و الضرّاء، و أن يفدوا بأنفسهم لنفسه برغبة و نشاط ذلِكَ الثّبات معه، أو الإلزام منّا على متابعته بِأَنَّهُمْ إذا ثبتوا على الجهاد معه، و التزموا بخدمته لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ و لا ينالهم عطش وَ لا نَصَبٌ و تعب في أبدانهم، و لو كانا يسيرين وَ لا مَخْمَصَةٌ و مجاعة، و لو كانت قليلة فِي سَبِيلِ اَللّهِ و ترويج دينه، و إعلاء كلمته وَ لا يَطَؤُنَ بأقدامهم و حوافر خيولهم و أخفاف رواحلهم مَوْطِئاً و مكانا يَغِيظُ اَلْكُفّارَ و يسوءهم وطء المسلمين فيه من أراضيهم وَ لا يَنالُونَ مِنْ قبل عَدُوٍّ من أعداء اللّه نَيْلاً من آفة و محنة، من قتل و جراحة و أسر و خوف إِلاّ كُتِبَ في صحيفة أعمالهم، و ثبّت لَهُمْ عند اللّه بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ و حسنة مقبولة توجب الثّواب الجزيل، و الأجر العظيم.

ثمّ أكّد سبحانه وعده و قرّره بقوله: إِنَّ اَللّهَ بكرمه و فضله و عدله لا يُضِيعُ و لا يبطل أَجْرَ إحسان اَلْمُحْسِنِينَ و ثواب أعمال الصّالحين وَ لا يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه و جهاد أعدائه نَفَقَةً سواء كانت صَغِيرَةً كنعل فرس، بل تمرة وَ لا كَبِيرَةً و كثيرة كألف دينار أو أزيد وَ لا يَقْطَعُونَ و لا يتجاوزون في سيرهم وادِياً من الأودية إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ في دفتر أعمالهم ذلك الذي فعلوه من الإنفاق و السير لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ بذلك العمل جزاء أَحْسَنَ و أفضل من جزاء سائر ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الخيرات و العبادات، أو أحسن من ذلك العمل الذي عمل، و من المال الذي بذل.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 122

ثمّ أنّه روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلّف عنه إلاّ منافق أو صاحب عذر، فلمّا بالغ اللّه سبحانه في تعييب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون: و اللّه، لا نتخلّف عن شيء من الغزوات مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و لا عن سريّة، فلمّا قدم الرّسول المدينة و أرسل السّرايا إلى الكفّار، نفر المسلمون جميعا إلى الغزو و تركوه وحده بالمدينة (2)، فنهى المسلمين عن أن ينفروا جميعا إلى الغزوات و يتركوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المدينة وحده، بقوله: وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ و ما يسوغ لهم لِيَنْفِرُوا إلى الجهاد كَافَّةً و عامّة، و يتركوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وحده فَلَوْ لا نَفَرَ و خرج إلى الجهاد مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ و جماعة كثيرة مِنْهُمْ طائِفَةٌ و جماعة قليلة، و أقامت البقيّة عند

وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

ص: 224


1- . في النسخة: بذل.
2- . تفسير الرازي 16:225، مجمع البيان 5:125.

الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ و يتعلّموا أحكام الإسلام وَ لِيُنْذِرُوا و يخوّفوا بالإرشاد إلى ما تعلّموه من الأحكام، و بيان عقوبة اللّه على مخالفتها قَوْمَهُمْ النّافرين إِذا رَجَعُوا من الجهاد إِلَيْهِمْ و حضروا عندهم لَعَلَّهُمْ باطّلاعهم على الأحكام بتوسّط المقيمين المتفقّهين من الرّسول يَحْذَرُونَ و يجتنبون عصيانها بعد التعلّم.

عن الباقر عليه السّلام: «كان هذا حين كثر النّاس، فأمرهم [اللّه]أن تنفر طائفة منهم، و تقيم طائفة للتفقّه، و أن يكون الغزو نوبا» (1).

و قيل: إنّ المراد: تفقّه الطّائفة النّافرة بمشاهدة الآيات الإلهيّة الدالّة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة دين الإسلام، من غلبة عدّة قليلة من المسلمين؛ مع قلّة زادهم و سلاحهم، على أضعافهم من المشركين مع كمال قوّتهم و شوكتهم، و غيرها من الآيات الاخر لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ النّافرين بما شاهدوه من الآيات لَعَلَّهُمْ باطّلاعهم على دلائل صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دين الاسلام يَحْذَرُونَ الكفر و الضّلال (2).

و قيل: إنّ المراد أنّ المسافرة إلى الرّسول لطلب العلم و تعلّم الأحكام ليس كالهجرة و الجهاد واجبا على جميع المسلمين، بل هو واجب كفاية عليهم، فليخرج من القبائل و سكنة البلاد طائفة قليلة إلى حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، ليتفقّهوا في الدّين، و يتعلّموا الأحكام، و يعودوا إلى قبائلهم و أوطانهم، فينذروا و يرشدوا كلّ طائفة قومهم، لكي يرجعوا عن الكفر و يهتدوا إلى الأحكام المنزلة. و حاصل مفاد الآية وجوب النّفر لطلب العلم و التفقّه على من به الكفاية.

عن الصادق عليه السّلام، أنّه قيل له: إنّ قوما يروون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «اختلاف امّتي رحمة» ، فقال: «صدقوا» ، فقيل: إن كان اختلافهم رحمة، فاجتماعهم عذاب؟

قال: «ليس حيث تذهب و ذهبوا، إنّما أراد قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ. . . الآية، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يختلفوا إليه، فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافا في دين اللّه، إنّما الدّين واحد» (3).

و عن (الكافي) : قيل للصادق عليه السّلام: إذا حدث على الإمام حدث، كيف يصنع النّاس؟ فقال: «أين قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ. . . الآية» قال: «هم [في عذر]ما داموا في الطّلب، و هؤلاء

ص: 225


1- . مجمع البيان 5:126، تفسير الصافي 2:389.
2- . تفسير الرازي 16:226.
3- . علل الشرائع:85/4، تفسير الصافي 2:389، و زاد في المصدر: إنما الدين واحد.

الّذين ينتظرون هم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم» (1).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «تفقّهوا في الدّين، فإنّ من لم يتفقّه منكم في الدّين فهو أعرابيّ، إنّ اللّه يقول في كتابه: لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ» (2).

ثمّ اعلم أنّه استدلّ كثير من العامّة و الخاصّة بهذه الآية على حجيّة خبر الواحد في الأحكام بوجوه، و الحقّ عدم دلالتها عليها بوجه؛ لأنّ الظاهر منها بيان الطّريق العادي العقلائي لتحصيل العلم بالأحكام، لا الحكم الشّرعي التعبّدي الطّريقي، و يشهد على ذلك استدلال الإمام عليه السّلام بالآية على وجوب الفحص عن الإمام بعد الإمام بتوسّط المبعوثين مع الإجماع باعتبار اليقين بإمامة الإمام.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 123

ثمّ أنّه تعالى بعد إرشاد عباده إلى طريق العلم بالأحكام، أرشدهم إلى أصوب طرق الجهاد مع الكفّار؛ و هو الابتداء بالأقرب فالأقرب، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ و يجاورونكم مِنَ اَلْكُفّارِ و لا تدعوا الجهاد مع الأقرب و تجاهدوا الأبعد لحكم واضحة، عن الصادق عليه السّلام قال: «الدّيلم» (3). و عن القمّي رحمه اللّه: يجب على كلّ قوم أن يقاتلوا من يليهم ممّن يقرب [بلادهم]من الكفّار و لا يجوزوا ذك الموضع (4)وَ لْيَجِدُوا و يعاينوا فِيكُمْ حين الجهاد و قبله غِلْظَةً و خشونة في القول، و شجاعة في القلب، و قساوة في القتل، فإنّها أرعب لقلوبهم، و أزجر لهم عن الكفر و القبائح، و لازموا التّقوى و اعتمدوا في نصركم عليهم على اللّه وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بالنّصر و التأييد و الحفظ و التّسديد مَعَ اَلْمُتَّقِينَ.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ (123)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 124 الی 125

ص: 226


1- . الكافي 1:309/1، تفسير الصافي 2:389.
2- . تفسير العياشي 2:271/1931، الكافي 1:23/6، تفسير الصافي 2:389.
3- . تفسير العياشي 2:271/1932، التهذيب 6:174/345، تفسير الصافي 2:390.
4- . تفسير القمي 1:307، تفسير الصافي 2:309.

ثمّ أخبر اللّه عن بعض أقاويل المنافقين المؤثّرة في تثبيط المؤمنين عن الجهاد بقوله: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ من اللّه إلى الرّسول سُورَةٌ من سور القرآن و سمعها المنافقون فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لإخوانهم المنافقين استهزاء و سخرية، أو لبعض المؤمنين صرفا لهم عن الإيمان، و تثبيطا لهم عن الجهاد أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السّورة المنزلة إِيماناً بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دينه.

ثمّ أجاب اللّه سبحانه عنهم بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد، عن صميم القلب، و برئوا عن النّفاق فَزادَتْهُمْ السّورة المنزلة إِيماناً باللّه و برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يقينا بها لظهور كونها كلام اللّه، الخارج إتيان مثلها من طوق البشر وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ و يفرحون بنزولها لما يعتقدون بأنّ فيها المنافع الدنيويّة و الاخرويّة لأنفسهم و لإخوانهم المؤمنين وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من الكفر و الشكّ و النّفاق و الكبر و الحسد، و غيرها من الرّذائل فَزادَتْهُمْ تلك السّورة بسماعها رِجْساً و كفرا منضمّا إِلَى رِجْسِهِمْ و كفرهم السّابق لازدياد حسدهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله على ما آتاه اللّه من فضله، و إصرارا على عنادهم للحقّ، حتّى أحاطت ظلمة الكفر على قلوبهم فطبع عليها وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ.

في الحديث: أنّ اللّه يرفع بهذا الكتاب أقواما و يضع به آخرين (1)، كما قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 126

ثمّ وبّخهم اللّه تعالى و أنكر عليهم الإصرار على الكفر و النّفاق مع وفور دلائل الحقّ المقتضية للإيمان و الخلوص، بقوله: أَ وَ لا يَرَوْنَ و التّقدير: ألا ينظرون و لا يرون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ و يبتلون امتحانا فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً من أعوام أعمارهم بالأمراض، و الشّدائد الموجبة لتفكّرهم في العواقب، و تذكّرهم للموت، و تنبيههم لفناء الدّنيا مرّة واحدة أَوْ مَرَّتَيْنِ -قيل: هو كناية عن الكثرة (3)- ثُمَّ مع ذلك لا يَتُوبُونَ و لا يرجعون عن كفرهم و نفاقهم وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ و يتّعظون بتلك الفتن، و لا ينتبهون بسوء عاقبة الكفر و معاندة اللّه و الرّسول.

أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 127

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)

ص: 227


1- . تفسير روح البيان 3:540.
2- . البقرة:2/26.
3- . تفسير روح البيان 3:541.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 127

ثمّ أخبر سبحانه عن غاية خبث سريرتهم، و حيلهم في إضلال النّاس، و أعمالهم الرّادعة لغيرهم عن الإيمان بالقرآن بقوله وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ من اللّه سُورَةٌ من القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيها فضائح المنافقين ضحكوا، ثمّ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ نظرا مفهما للطّعن فيها و الاستهزاء بها، و تغامزوا فيها إنكارا لها، و يقولون لإخوانهم حين إرادتهم الخروج من المسجد، أو من محضر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خوفا من افتضاحهم بالضحك من تلك السّورة، بعد غلبته عليهم: يا إخواننا، إن قمتم من المجلس و انصرفتم منه هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المؤمنين أو لا، فإن يراكم أحد منهم لا تخرجوا و انتظروا غفلتهم عنكم، و عدم التفاتهم إليكم، فعند ذلك قوموا و اخرجوا، فكانوا يترصّدون ذلك، فإن لم يرهم أحد من المؤمنين قاموا ثُمَّ اِنْصَرَفُوا و خرجوا و تفرّقوا مخافة الفضيحة بضحكهم، و ذلك الانصراف لأنّه صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ عن قبول الهداية و الإيمان، و طبع عليها.

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)و عن ابن عبّاس: عن كلّ رشد و خير و هدى (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الحقّ إلى الباطل (2). و يحتمل كون الجملة دعائية.

ثمّ علّل سبحانه صرف قلوبهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ فوائد الإيمان و التّسليم، و مضارّ الكفر و النّفاق و سوء عاقبتهما.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 128 الی 129

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فضائح المنافقين و عنادهم للرّسول، أظهر منّته على النّاس، و عظمة نعمته عليهم ببعث رسول من جنسهم فيهم، و حبّ ذلك الرّسول لهم و شفقته عليهم، تحبيبا لقلوب المنافقين إيّاه، و جلبا لتوجّههم إليه، بقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ أيّها النّاس من جانب اللّه رَسُولٌ عظيم الشأن رفيع المنزلة، و من أفاضل مننه تعالى عليكم أنّه جعل ذلك الرّسول مِنْ أَنْفُسِكُمْ و من جنسكم، أي من البشر لا من الملائكة. و يحتمل أن يكون الخطاب إلى العرب، و يكون المراد من قوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من العرب.

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ (129)عن ابن عبّاس قال: ليس في العرب قبيلة إلاّ ولدت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بسبب الجدّات؛ مضرها و ربيعها

ص: 228


1- . تفسير الرازي 16:234.
2- . تفسير القمي 1:308، تفسير الصافي 2:391.

و يمانيها، فالمضريّون و الرّبيعيّون هم العدنانية، و اليمانيّون هم القحطانيّة (1).

و المنّة عليهم بذلك، لأنّ كلّ ما يحصل له من العزّ و الشّرف فهو عائد إليهم، مع مدخليّته التامّة في الشّفقة عليهم، و لذا بيّن سبحانه شفقته عليهم بقوله: عَزِيزٌ و شاقّ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ و مشقّتكم، و ثقيل عليه تضرّركم و تحرّجكم، فحاله بالنّسبة إليكم حال الأب الشّفيق بالنّسبة إلى ولده حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ و شديد الطّلب لإيمانكم، و تربية قلوبكم، و تزكية نفوسكم، و تهذيب أخلاقكم بِالْمُؤْمِنِينَ به رَؤُفٌ رَحِيمٌ كما أنّه على الكافرين شديد غليظ.

ثمّ ختم سبحانه السّورة المباركة بتسلية قلب حبيبه على عناد القوم، بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا مع ذلك عن الإيمان بك، فلا تبال بهم فَقُلْ حَسْبِيَ و كفاني اَللّهُ الذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ في جميع اموري، و لذا عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو غيره، و لا أخاف إلاّ منه؛ لأنّه القاهر على جميع الموجودات وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ.

عن الصادق عليه السّلام: «أي الملك العظيم» (2).

روي «أنّه من قرأ سورة الأنفال و براءة في كلّ شهر لم يدخله النّفاق، و كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام (3)، و يأكل من موائد الجنّة مع شيعته حتّى يفرغ النّاس من الحساب» (4).

ص: 229


1- . تفسير الرازي 16:236.
2- . تفسير الصافي 2:392.
3- . ثواب الأعمال:106.
4- . تفسير العياشي 2:213/1768، تفسير الصافي 2:392.

ص: 230

في تفسير سورة يونس

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 10 (يونس): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم سبحانه سورة براءة-بذكر استهزاء المنافقين بالرّسول و كتابه، و تسليته، و أمره بالتوكّل عليه و عدم المبالاة بهم، و بيان استحقاقه العبوديّة، و كونه مربّي الموجودات-اردفت بسورة يونس ببيان عظمة القرآن الدالّ على صدق الرّسول.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْحَكِيمِ (1)ثمّ توبيخ الكفّار على التعجّب من رسالة رسول من جنسهم، و تسلية الرّسول بذكر توكّل نوح و عدم مبالاته بمعارضة قومه، و نصرته عليهم، و نصرة موسى على فرعون و قومه.

ثمّ شرح ربوبيّته للعرش ببيان كونه خالق السّماوات و الأرض، و مدبّر الموجودات، ابتدأ فيها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

و قد مرّ تفسيره.

ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعات بقوله: الر و قد مرّ تأويلها في بعض الطرائف، و بيان حكمة ذكرها التي منها جلب التوجّه إلى ما يذكر بعدها من المطالب المهمّة؛ التي منها عظمة شأن القرآن، و لذا ذكرها بعدها ردّا على المستهزئين بقوله: تِلْكَ الآيات التي في هذه السّورة، أو المنزلة من أوّل القرآن إلى هنا، أو في القرآن كلّه آياتُ اَلْكِتابِ و القرآن اَلْحَكِيمِ و المستحكم المصون من التّغيير و التّحريف و المحو و الاندراس في كرور الدّهر، أو المخزون عند اللّه، أو المشتمل على الحكم غير المتناهية، أو الحاكم بين النّاس بالحقّ و مميّزه عن الباطل، أو الدالّ على الحكمة و الصّواب، أو المحكوم فيه بالعدل و الإحسان و سائر المحسّنات العقليّة، و بمثوبة المطيعين و عقوبة العاصين.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 2

ص: 231

ثمّ لمّا أثبت سبحانه نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتعظيم كتابه و توصيفه بما لا يمكن أن يكون الموصوف به إلاّ من اللّه، أنكر على منكريه التعجّب من رسالة البشر، أو رسالة مثل محمّد اليتيم الفقير، بقوله: أَ كانَ لِلنّاسِ و هم كفّار مكّة-على ما قيل (1)- عَجَباً من أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ كائن مِنْهُمْ جنسا و نسبا، و قلنا له بالوحي: أَنْ أَنْذِرِ و خوّف اَلنّاسَ بالعذاب على الشّرك و العصيان، كي يرتدعوا عنهما وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه و رسالتك أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ و عملا صالحا، أو ثوابا مذخورا عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم.

أَ كانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنّاسَ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ اَلْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)و عن ابن عبّاس: لهم شفاعة نبيّهم، و هو أمامهم إلى الجنّة، و هم بالأثر (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ معنى قَدَمَ صِدْقٍ شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (3).

و عنه عليه السّلام أيضا: «هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (3).

ثمّ كأنّه قال: لا مجال للعجب من رسالة البشر، أو رسالة محمّد، إنّما العجب في أنّه لمّا أتاهم بالمعجزات و أنذرهم قالَ اَلْكافِرُونَ عنادا و لجاجا: إِنَّ هذا الرّجل المدّعي للنبوّة، الفاعل لخوارق العادات لَساحِرٌ مُبِينٌ و مشعبذ ظاهر.

أقول: فيه دلالة على أنّهم رأوا منه معجزة لم يمكنهم معارضته.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخ الكفّار على إنكار رسالة الرّسول، بيّن أنّه تعالى خالق العالم و مدبّره، تنبيها على كمال حكمته المقتضي لبعث الرّسول و استحقاقه العبادة بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ و مدبّر اموركم هو اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته اَلسَّماواتِ السّبع وَ اَلْأَرْضَ و ما فيهما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ و أوقات ثُمَّ اِسْتَوى و استولى بالعلم و التّدبير عَلَى اَلْعَرْشِ و سرير سلطنته، أو على جميع الموجودات، و هو يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ و ينظّم شؤون الخلق على وفق الحكمة، و يهيّئ ما فيه صلاح كلّ شيء، و من تدبيره في نظام العالم إرسال الرّسول، و إنزال الكتب، و جعل القوانين و الأحكام و الثّواب و العقاب ما مِنْ شَفِيعٍ في تدبيره و ثوابه و عقابه إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ و رضاه؛ لأنّه تعالى أعلم بمواضع (4)

إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (5)

ص: 232


1- . تفسير روح البيان 4:5.
2- . تفسير روح البيان 4:6.
3- . تفسير العياشي 2:274/1940، الكافي 8:364/554، تفسير الصافي 2:393.
4- . في النسخة: مواضع.
5- . مجمع البيان 5:134، تفسير الصافي 2:393.

الحكمة و الصّواب من جميع خلقه؛ ملكا كان أو نبيّا أو رسولا، فكيف بالأصنام التي هي جمادات لا شعور لها بشيء، و لا إدراك؟ و أعجب من كلّ عجب أنّ المشركين كانوا يتعجّبون من أن يكون البشر رسولا، و لا يتعجّبون من أن يكون الحجر المنحوت أو الفلزّ المصنوع بأيديهم إلها أو شفيعا عند اللّه. ثمّ لمّا أثبت سبحانه كمال قدرته و حكمته و تدبيره و عظمته، خصّ الربوبيّة و الالوهيّة، و استحقاق العبادة بذاته المقدّسة بقوله: ذلِكُمُ الموصوف بالصّفات الكماليّة و الجماليّة هو اَللّهُ المستحقّ للعبادة، و هو رَبَّكُمُ و مليككم و مدبّر اموركم، لا غيره كوكبا كان أو صنما، أو غيرهما، فإذا علمتم ذلك فَاعْبُدُوهُ وحده، و اخضعوا له بقلوبكم و جوارحكم، و لا تشركوا به شيئا في الربوبيّة و العبادة أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أنّ الإله و الربّ لا بدّ أن يكون له تلك الصّفات، و أنّ الأصنام بمعزل عن الالوهيّة و استحقاق العبادة.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 4

ثمّ لمّا أثبت سبحانه توحيد المبدأ، رتّب عليه المعاد بقوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ و معادكم بعد خروجكم من الدّنيا جَمِيعاً بحيث لا يشذّ منكم أحد، و هذا الوعد يكون وَعْدَ اَللّهِ الذي يستحيل منه الخلف في وعده، بل يحقّ حَقًّا و يثبت ثبوتا لا مجال للشكّ فيه.

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)ثمّ استدلّ على إمكانه بقوله: إِنَّهُ تعالى يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ و يوجد الإنسان في هذا العالم، بلا سبق مثال، من نطفة أمشاج، للإيمان و العمل الصّالح ثُمَّ يُعِيدُهُ البتّة لقدرته على الإعادة و الخلق ثانيا، لكونه أهون عليه.

ثمّ استدلّ على وجوبه بقوله: لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّته و برسله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ في الدّنيا بِالْقِسْطِ المقتضي لعدم تضييع أجر المحسنين، و عدم التّسوية بينهم و بين المسيئين.

قيل: إنّ المراد: ليجزيهم بقسطهم و عدلهم (1)في حقوق أنفسهم؛ حيث لم يظلموا عليها بالمعاصي و تعريضها للهلاك و العذاب، و في حقوق غيرهم من النّاس.

و إنّما لم يعيّن الجزاء تنبيها على أنّه بما يليق بلطفه و كرمه، و كونه ممّا لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب أحد.

ص: 233


1- . جوامع الجامع:190.

ثمّ قيل: لمّا لم يكن المقصود الأصلي في الخلق هو العذاب (1)، غيّر سبحانه النّظم في بيان جزاء الكفّار بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا في الدّنيا باللّه و وحدانيّته و رسله لَهُمْ بالاستحقاق شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ و ماء حار متناه [في]حرارته وَ عَذابٌ بالنّار أَلِيمٌ غايته بِما كانُوا في الدّنيا يَكْفُرُونَ.

و قيل: إنّ نكتة تغيير النّظم، التّنبيه على المبالغة في استحقاقهم (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 5

ثمّ لمّا كان الأهمّ إثبات المبدأ و كونه (3)ملازما للقول بالمعاد و سائر العقائد الحقّة، عاد إلى الاستدلال عليه بقوله: هُوَ الإله القادر اَلَّذِي جَعَلَ بقدرته اَلشَّمْسَ و خلقها لتكون ضِياءً للعالم وَ خلق اَلْقَمَرَ ليكون في اللّيل نُوراً للنّاس وَ قَدَّرَهُ قيل: إنّ التقدير: و قدّر مسير القمر مَنازِلَ أو قدّر القمر ذا منازل (4)-و قيل: إنّ ضمير قَدَّرَهُ راجع إلى الكوكبين، فاللّفظ مفرد و المعنى تثنية، و منازل الشّمس البروج الاثنا عشر، و منازل القمر ثمان و عشرون، فإذا كان في آخر منازله دقّ و استقوس (5)-و ذلك التّقدير لِتَعْلَمُوا أيّها النّاس بسيرهما في منازلهما عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ للأوقات من الأيام و الشّهور ما خَلَقَ اَللّهُ ذلِكَ المذكور من الكوكبين و منازلهما، بسبب من الأسباب إِلاّ بِالْحَقِّ و الحكمة و صلاح نظام العالم، كذلك التّفصيل البديع لتلك الآية يُفَصِّلُ و نذكر متواليا واحدا بعد واحد، و نشرح و نبيّن اَلْآياتِ و الدّلائل المتقنة على قدرتنا و حكمتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يعقلون، أو يتفكّرون في الموجودات و حكمها، ليطّلعوا على شؤون صانعها، فإنّهم المنتفعون بها.

هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ ما خَلَقَ اَللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 6

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بخلق السّماوات و الأرض و الشّمس و القمر، و فائدتهما بفائدة سير الكوكبين، استدلّ بفائدة اخرى لسير الشّمس و بسائر الموجودات بقوله: إِنَّ فِي اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ

إِنَّ فِي اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

ص: 234


1- . تفسير البيضاوي 1:428.
2- . تفسير البيضاوي 1:428، تفسير الصافي 2:394.
3- . في النسخة: و مكونه.
4- . تفسير أبي السعود 4:120، تفسير الرازي 17:35.
5- . تفسير أبي السعود 4:120.

وَ اَلنَّهارِ بالنّور و الظّلمة و تغيّرهما بالطّول و القصر، أو تعاقبهما و ذهاب أحدهما و مجيء الآخر وَ في ما خَلَقَ اَللّهُ فِي اَلسَّماواتِ من الكواكب السيّارة و الثّابتة وَ في اَلْأَرْضِ من الجبال و المعادن و البحار و الحيوانات و النّباتات، و سائر ما فيها من الممكنات لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة على كونها تحت قدرة قادر حكيم متفرّد بالصّنع و التّدبير، و إنّما الانتفاع بها يكون لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ سوء العاقبة، و لذا يتدبّرون فيها؛ فيزدادون معرفة و يقينا.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التّوحيد و المعاد، هدّد منكريهما بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ ينكرون المعاد، و لا يَرْجُونَ و لا يظنّون لِقاءَنا و البعث لجزائنا بعد الموت، و لا يخافون الحشر (1)، كما عن ابن عبّاس (2)، أو لا يطمعون في الثّواب، كما عن غيره (3)وَ رَضُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا و اختاروها و انهمكوا في شهواتها وَ اِطْمَأَنُّوا بِها و سكنت قلوبهم إلى لذّاتها و زخارفها، بحيث لا توجّه لهم إلى غيرها وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا و دلائل توحيدنا غافِلُونَ و عن النّظر إليها ذاهلون، لاستغراقهم في التفكّر فيما يضادّها، و اشتغال قلوبهم بما يلهي عنها أُولئِكَ المتّصفون بتلك الرّذائل مَأْواهُمُ و مسكنهم في الآخرة اَلنّارُ الموقدة التي تطّلع على الأفئدة بِما كانُوا في الدّنيا يَكْسِبُونَ من الكفر، و قساوة القلب، و البعد عن اللّه.

إِنَّ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اِطْمَأَنُّوا بِها وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ بشّر سبحانه الموحّدين بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ تفكّروا في آيات اللّه، و تدبّروا فيها بعقولهم السّليمة، و لذا آمَنُوا باللّه و وحدانيّته و صفاته الجمالية و الجلالية وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و قاموا بوظائف العبوديّة سرّا و علانية يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ في الآخرة بعد بعثهم من قبورهم بِإِيمانِهِمْ و بسبب نوره إلى الجنّة التي وعد المتّقون.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهارُ فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اَللّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (10)روي أنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له

ص: 235


1- . في تفسير الرازي: البعث. (2 و 3) . تفسير الرازي 17:38.

نورا (1).

و قيل: يعني: يرشدهم ربّهم في الدّنيا بسبب إيمانهم إلى جميع الخيرات (2).

و في الآخرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ يعني تحت قصورهم و سررهم اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ و بساتين كثيرة النّعم دَعْواهُمْ في تلك الجنّات، و دعاؤهم أو عبادتهم فِيها أو قولهم، أو طريقتهم في تمجيد اللّه قولهم: سُبْحانَكَ اَللّهُمَّ.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن التّسبيح، فقال: «اسم من أسماء اللّه تعالى، و دعوى أهل الجنّة» (3).

قيل: إنّهم إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا: سُبْحانَكَ اَللّهُمَّ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى (4).

و قيل: إنّ المعنى أنّه ليس تمنّيهم في الجنّة إلاّ في تسبيح اللّه و تنزيهه و تقديسه (5)؛ لأنّ لذّتهم و سرورهم و كمال حالهم به.

و قيل: إنّ أهل الجنّة إذا دخلوها و وجدوا نعمها العظيمة، عرفوا صدق وعده تعالى. فعند هذا قالوا: سُبْحانَكَ اَللّهُمَّ أي نسبّحك و ننزّهك عن الخلف في الوعد و الكذب (4)في القول.

وَ تَحِيَّتُهُمْ و تكرمتهم من الملائكة في الجنّة، أو تحيّة بعضهم لبعض فِيها عند الملاقاة سَلامٌ عليكم، إذ فيه بشارة بالأمن من كلّ مكروه وَ آخِرُ دَعْواهُمْ و خاتمة دعائهم، أو أقوالهم، أو عبادتهم أَنِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ.

قيل: إنّهم إذا أكلوا و شبعوا قالوا ذلك (7).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ أهل الجنّة يلهمون الحمد و التّسبيح كما تلهمون أنفاسكم» (8).

و قيل: إنّهم يفتتحون بتعظيم اللّه و تنزيهه، و يختتمون بشكره و الثّناء عليه (9). و قيل: إنّ التّسبيح من نعم اللّه عليهم، و لذا تأخّر الحمد عنه، و ختم به الذّكر (10).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 11

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار و وعدهم بالعذاب الاخروي، نبّه على أنّ مصلحة الإمهال منعت من نزول العذاب عليهم في الدّنيا، مع استحقاقهم له بقوله: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللّهُ لِلنّاسِ اَلشَّرَّ و العذاب حسب استحقاقهم و استعجالهم فيه اِسْتِعْجالَهُمْ و نحو تسريعهم بِالْخَيْرِ من العافية و الرّاحة

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللّهُ لِلنّاسِ اَلشَّرَّ اِسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

ص: 236


1- . تفسير الرازي 17:41، تفسير روح البيان 4:19.
2- . تفسير أبي السعود 4:123، تفسير روح البيان 4:19.
3- . تفسير العياشي 2:275/1944، تفسير الصافي 2:395. (4 و 5) . تفسير الرازي 17:44.
4- . تفسير الرازي 17:45. (7 و 8 و 9 و 10) . تفسير الرازي 17:46.

و الحطام الدنيويّة لَقُضِيَ و ادّي إِلَيْهِمْ في السّاعة أَجَلُهُمْ الذي عيّن لعذابهم، و اميتوا و اهلكوا دفعة و بلا مهلة، و لكن لا يعجّل و لا يقضى فَنَذَرُ و نترك الكفرة اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ و لا يتوقعون لِقاءَنا و الحشر إلينا لجزاء أعمالهم فِي طُغْيانِهِمْ و عتوّهم من الكفر و إنكار الحشر يَعْمَهُونَ و يتردّدون، إلزاما للحجّة، أو استدراجا، أو لطفا بهم لأجل أن يؤمنوا، أو بمن في أصلابهم كي يخرجوا إلى الدّنيا و يوفّقوا للإيمان.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 12

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان استحقاق الكفّار للعذاب، بيّن أنّهم-مع غاية ضعفهم، و قلّة طاقتهم في تحمّل مكروه من المكاره الجزئية الدّنيوية، و تضرّعهم إلى اللّه، و دفعه تعالى ذلك المكروه و الضّرر عنهم-أعرضوا عنه، و تجرّأوا عليه، و عبدوا الأصنام، و كفروا بنعمه بقوله: وَ إِذا مَسَّ و أصاب اَلْإِنْسانَ الشقيّ اَلضُّرُّ و المكروه من فقر أو مرض، أو غيرهما من المضارّ، جزع و دَعانا لكشفه من غاية عجزه و ضعفه، و تضرّع إلينا لدفعه، في جميع أحواله [سواءأ]كان ملقى لِجَنْبِهِ على الأرض، أو مضطجعا في الفراش أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً لا يفتر عن الضّراعة في حال من حالاته.

وَ إِذا مَسَّ اَلْإِنْسانَ اَلضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)فَلَمّا كَشَفْنا و دفعنا عَنْهُ لإخلاصه في دعائه ضُرَّهُ و أزلنا عنه ما كرهه، نسينا، و نسي ابتلاءه و تضرّعه، و تفضّلنا عليه، و مَرَّ و مضى على المسلك الذي كان عليه قبل تضرّره؛ من الشّرك و الطّغيان كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى كشف ضُرٍّ مَسَّهُ و لم نمنّ عليه بشيء من النّعم حتّى نستحقّ عليه الشّكر كَذلِكَ التّزيين الحاصل في نظير هذا الكافر لكفران النّعمة و الطّغيان على المنعم زُيِّنَ من قبل النّفس و الشّيطان لِلْمُسْرِفِينَ و المتجاوزين عن حدود العقل، و المتعدّين على أنفسهم باختيار الشّرك، و الانهماك في الشّهوات، و الغفلة عن شكر المنعم ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإعراض عن اللّه، و معارضة الرّسل، و ارتكاب القبائح.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 13 الی 14

ص: 237

استحقاقهم نزول العذاب عليهم فيها، و التّنبيه على علّة استحقاقهم؛ و هي الجرأة على اللّه، و كفرانهم نعمه، بعد تنبيههم على غاية ضعفهم، و عدم طاقتهم على تحمّل أقلّ قليل من المضارّ الدنيويّة، فكيف بعذاب الاستئصال في الدّنيا، و عذاب النّار في الآخرة؟ -وعظهم سبحانه ببيان ما نزل على الامم السّابقة لكفرهم و عدم إيمانهم بالرّسل، اعتبارا لهم بقوله: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا بعذاب الاستئصال؛ كالغرق و الخسف و الصّيحة و الصّاعقة و غيرها اَلْقُرُونَ و الامم الذين كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ أيّها المشركون، و في الأعصار السّابقة على عصركم أيّها الظّالمون لَمّا ظَلَمُوا على أنفسهم بتعريضها للهلاك، بسبب الإصرار على الشّرك، و تكذيب الآيات وَ الحال أنّه قد جاءَتْهُمْ من قبل اللّه رُسُلُهُمْ مستدلّين على دعواهم بِالْبَيِّناتِ و الحجج الواضحات من المعجزات الباهرات، و البراهين السّاطعات وَ ما كانُوا مع ذلك لِيُؤْمِنُوا باللّه و رسله، لشدّة قساوتهم، و رسوخ حبّ الدّنيا في قلوبهم، و فساد أخلاقهم، فصاروا بحيث لا يرجى منهم الهداية كَذلِكَ الجزاء الفضيع نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ في كلّ عصر و زمان.

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)ثُمَّ جَعَلْناكُمْ أيّها المشركون في هذا العصر خَلائِفَ و أبدالا لهم في السّكونة فِي اَلْأَرْضِ و التعيّش فيها مِنْ بَعْدِهِمْ و بعد إهلاكهم لِنَنْظُرَ نظر الاختبار، و نعلم بالشّهود كَيْفَ تَعْمَلُونَ في أيّام حياتكم، أتعملون خيرا أو شرّا؟ فنجازيكم حسب أعمالكم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 15

ثمّ لمّا بيّن سبحانه تكذيب الامم الماضية المهلكة لرسلهم، ذكر تكذيب مشركي مكّة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا المنزلة من القرآن، مع كونها بَيِّناتٍ و واضحات الدّلالات على صدق النبيّ، و كونها كلام اللّه قالَ المشركون اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا و لا يؤمنون باليوم الآخر حتّى يخافوا من التّكذيب و الاستهزاء بالقرآن: اِئْتِ يا محمّد بِقُرْآنٍ آخر غَيْرِ هذا الذي أتيت به ترتيبا و نظما و مطلبا، فإنّ فيما أتيت به ما نستبعده من أمر البعث، و ما نكرهه من ذمّ آلهتنا و تحقيرهم أَوْ بَدِّلْهُ و غيّره من حيث المطلب و إن أبقيته على ما هو عليه من النّظم و التّرتيب.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)و قيل: إنّ الفرق بين إتيان الغير و التّبديل أنّ المراد من الأوّل: إتيان كتاب آخر مغاير لما أتى به في المطلب، مع إبقاء الأوّل على حاله، و من الثاني: تغيير ما أتى به. و على أيّ تقدير، كان المقصود إظهار

ص: 238

أنّه كلام تقوّله من قبل نفسه، و أنّه كاذب فيما يدّعيه من أنّه من اللّه (1)أو السّخرية و الاستهزاء به.

عن ابن عبّاس: أنّ خمسة من الكفّار كانوا يستهزئون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن: الوليد بن المغيرة المخزومي، و العاص بن وائل السّهمي، و الأسود بن المطّلب، و الأسود بن عبد يغوث، و الحارث بن حنظلة، فقتل اللّه كلّ واحد منهم بطريق آخر، كما قال اللّه: إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ (2)، فذكر اللّه أنّهم إذا تتلى عليهم آيات القرآن، قال الّذين لا يرجون لقاءنا: إئت بقرآن غير هذا أو بدّله (3).

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمّد للمستهزئين: ما يَكُونُ لِي و لا يمكنني أَنْ أُبَدِّلَهُ من قبلي و مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي لأنّه ليس بكلامي و كلام غيري من البشر، بل إنّما هو كلام ربّي، و إِنْ أَتَّبِعُ فيما أتلو عليكم إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ من قبل ربّي، بلا تصرّف و تغيير منّي فيه إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالتّغيير في كلامه، أو التّبديل فيه عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فإنّ العاصي مستحقّ له؛ و لو كان على فرض المحال أحبّ الخلق إليه.

و إنّما اقتصرّ في الجواب على بيان عدم قدرته على التّبديل، لفهم عدم قدرته على التّغيير بالأولويّة.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 16

ثمّ أمره اللّه سبحانه بالاستدلال على عدم كون القرآن من تلقاء نفسه بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: لَوْ شاءَ اَللّهُ أن لا أتلو عليكم القرآن، ما أوحاه إليّ، و ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ لعجزي عن إتيان هذا الكتاب المحتوي على العلوم الكثيرة، و تفاصيل المبدأ و المعاد، و المعارف و الحكم و الأحكام، و تواريخ الأنبياء و اممهم، و غيرها ممّا لا يحيط به البشر، مع إعجاز البيان بحيث لا يقدر على إتيان سورة منه جميع الفصحاء؛ و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فلا بدّ من كونه بوحي اللّه و تعليمه وَ لو شاء لا أَدْراكُمْ و أعلمكم، أو أنذركم بِهِ -كما عن ابن عبّاس (4)-مع أنّكم تعلمون أنّي لا أعرف الخطّ، و ما طالعت الكتب، و ما جالست عالما قطّ فَقَدْ لَبِثْتُ و مكثت فِيكُمْ و بين ظهرانيكم عُمُراً طويلا، و مدّة مديدة مِنْ قَبْلِهِ ما كنت أتلوه و لا أعلمه أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تدركون أنّ من لم يقرأ كتابا، و لم يجالس عالما، و لم يمارس بحثا، لا يمكنه أن يأتي بمثل هذا الكتاب العظيم الشّأن، الفائق على الكتب السّماوية، فلا بدّ أن يكون بتعليم اللّه و وحيه.

قُلْ لَوْ شاءَ اَللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (16)

ص: 239


1- . تفسير روح البيان 4:23، تفسير الرازي 17:55-56، مجمع البيان 5:147.
2- . الحجر:15/95.
3- . تفسير الرازي 17:55.
4- . تفسير الرازي 17:58.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 17

ثمّ أكّد تنزّهه عن الاختلاق بإظهار علمه بغاية قبح الافتراء على اللّه، و سوء عاقبته بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ على نفسه بتعريضها للهلاك، و على غيره من النّاس بإضلالهم مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ بإسناد ما ليس له إليه كَذِباً.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلْمُجْرِمُونَ (17)ثمّ ساوى بين المفترين على اللّه و المكذّبين لآياته، في كونهم أظلم خلق اللّه، تهديدا لهم بقوله: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة منه، و استهزأ بها؛ كالمشركين المستهزئين بالقرآن.

ثمّ بالغ في تهديدهم بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ و لا ينجو اَلْمُجْرِمُونَ من العذاب، و لا يفوزون بمطلوب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 18

ثمّ لمّا كان التماسهم تغيير القرآن لتضمّنه شتم الأصنام و تحقيرها، وبّخهم سبحانه على عبادتها بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و يشركون به في العبادة و الخضوع ما لا يَضُرُّهُمْ شيئا إن لم يعبدوه وَ لا يَنْفَعُهُمْ قليلا إن عبدوه، لأنّه جماد لا شعور له و لا قدرة، و اللاّئق للعبادة هو الحيّ المدرك القادر على كلّ شيء، و العجب أنّهم مع ذلك كانوا يشيرون إلى أصنامهم وَ يَقُولُونَ عن جهالة و سفاهة: هؤُلاءِ الأصنام شُفَعاؤُنا في مهمّاتنا و حوائجنا عِنْدَ اَللّهِ.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اَللّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (18)قيل: إنّ وجه اعتقاد المشركين شفاعة الأصنام، أنّهم توهّموا أنّهم ليسوا أهلا لعبادة اللّه، و إنّما الأهل و اللاّئق لها الأرواح المدبّرة لهذا العالم، أو الكواكب المؤثّرة في المواليد؛ كالشّمس و القمر، و سائر السيّارات.

في ذكر مبدأ

عبادة الأصنام

ثمّ لمّا كانت الأرواح غير مشاهدة، و الكواكب غاربة، وضعوا لكلّ روح أو لكلّ كوكب صنما، فاشتغلوا بعبادته باعتقاد أنّ ذلك الرّوح أو الكوكب يشفع لهم عند اللّه (1).

و فيه: أنّ ظاهر الآيات أنّهم كانوا يعتقدون أنّ نفس الأصنام يشفعون لهم، و يمكن أن [يكون]وجه اعتقاد مبدعي هذا المذهب في أوّل الأمر ذلك، ثمّ بعد تمادي الزّمان غلب الجهل على أتباعهم،

ص: 240


1- . تفسير الرازي 17:59.

و اعتقدوا ذلك في نفس الأصنام باعتقاد أنّ قدماءهم أيضا كانوا معتقدين لذلك.

قيل: إنّ أوّل ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح، و ذلك أنّ آدم كان له خمسة أولاد صلحاء؛ و هم: ودّ و سواع و يغوث و يعوق و نسر، فمات ودّ و حزن النّاس عليه حزنا شديدا، فاجتمعوا حول قبره و لا يكادون يفارقونه، و ذلك بأرض بابل، فلمّا رأى إبليس ذلك جاء إليهم في صورة إنسان، و قال لهم: [هل]لكم أن اصوّر لكم صورة إذا نظرتم إليها ذكرتموه؟ قالوا: نعم، فصوّر لهم صورته، فصار كلّما مات منهم واحد صوّر صورته، و سمّوا تلك الصّور بأسمائهم، ثمّ لمّا تقادم الزّمن و تناست الآباء و الأبناء، و أبناء الأبناء، قال لمن حدث بعدهم: إنّ الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصّور؛ فعبدوها، فأرسل اللّه إليهم نوحا عليه السّلام فنهاهم عن عبادتها، فلم يجيبوه إلى ذلك، و كان بين آدم و نوح عليهما السّلام عشرة قرون كلّهم على شريعة من الحقّ، ثمّ أن تلك الصّور دفنها الطّوفان في ساحل جدّه، فأخرجها اللّعين.

و أوّل من نصب الأوثان في العرب عمرو بن لحيّ بن خزاعة، و ذلك أنّه خرج من مكّة إلى الشام في بعض اموره، فرأى بأرض البلقاء العماليق (1)و هم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، و نستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أ فلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب، فأعطوه صنما-يقال له هبل-من العقيق، على صورة إنسان، فقدم به مكّة فنصبه في بطن الكعبة على يسراها، و أمر الناس بعبادته و تعظيمه، فكان الرّجل إذا قدم من السّفر بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت، و حلق رأسه عنده (2).

فردّهم اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد، تقريعا لهم، و تهكّما بهم: أَ تُنَبِّئُونَ اَللّهَ و تخبرونه، و هو علاّم الغيوب بِما لا يَعْلَمُ في عالم الوجود، لا فِي اَلسَّماواتِ و عالم الملكوت وَ لا فِي اَلْأَرْضِ و عالم الملك. و معلوم أنّ ما لا يعلمه اللّه لا وجود له.

القمّي رحمه اللّه قال: كانت قريش يعبدون الأصنام، و يقولون: إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى، فإنّا لا نقدر على عبادة اللّه، فردّ اللّه عليهم فقال: قُلْ لهم يا محمّد أَ تُنَبِّئُونَ اَللّهَ بِما لا يَعْلَمُ أي ليس يعلم (3)، فوضع حرفا مكان حرف، أي ليس له شريك يعبد (4).

ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الشريك بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ به، و تبرّأ و جلّ عن هذا النّقص.

ص: 241


1- . زاد في تفسير روح البيان: ولد عملاق بن لاود بن سام بن نوح.
2- . تفسير روح البيان 4:25.
3- . في النسخة: أي يعلم أنّه ليس، و ما أثبتناه من تفسير الصافي.
4- . تفسير القمي 1:310، تفسير الصافي 2:397.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 19

ثمّ أنّه تعالى بعد تبرئة نفسه عن اتّخاذ الشّريك، نبّه على أنّ حدوث مذهب الشّرك إنّما كان بالأهواء الزّائغة و الآراء الفاسدة بقوله: وَ ما كانَ اَلنّاسُ من زمان آدم إلى زمان نوح عليهما السّلام-على ما قيل (1)- إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً و جماعة متّفقة على ملّة التّوحيد و المذهب الحقّ-كما مرّ-و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: كانوا على دين الإسلام في عهد آدم عليه السّلام و عهد ولده (2)، و قيل: إنّ المراد من النّاس: العرب (3)، فإنّهم كانوا على مذهب التّوحيد من زمان إبراهيم عليه السّلام- فَاخْتَلَفُوا -على التّفسير الأوّل- في عهد نوح، و عن ابن عبّاس: عند قتل قابيل هابيل (4)، و على أنّ المراد من النّاس: العرب، عند تغيير عمرو بن لحي دين إسماعيل، فمنهم من بقي على التّوحيد و دين الحقّ، و منهم من أشرك و كفر.

وَ ما كانَ اَلنّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)قيل: إنّ الغرض من بيان بدء حدوث الشّرك ترك تعصّب العرب لنصرته، بل الاستدلال به على بطلانه، لكون آدم و الأطايب من أولاده على دين التّوحيد دليل على بطلان مذهب الشّرك (5).

و قيل: إنّ المراد أنّ النّاس كانوا على فطرة التّوحيد فاختلفوا بواسطة الآباء (6).

و قيل: كانوا على الكفر فاختلفوا بواسطة الأنبياء. و عليه يكون الغرض تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قطع رجائه بإيمان الكلّ (7).

ثمّ نبّه سبحانه على استحقاق المخالفين لأهل الإيمان التّسريع في تعذيبهم، و التّعجيل في إهلاكهم، و إنّما اقتضت الرّحمة و صلاح نظام العالم إمهالهم إلى أجلهم، بقوله: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من قوله: سبقت رحمتي غضبي (8)، و من قوله: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ (9)-على قول-و من إخباره تعالى بأنّ التّكليف باق على العباد و إن كانوا به كافرين-على قول آخر (10)- لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من التّوحيد و الشّرك، و قضائه بإنزال العذاب على المشركين و الرّحمة على المؤمنين، و إنّما الرّحمة الواسعة، و مصلحة نظام العالم على الوجه الأتمّ، و كرامة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الأكرم اقتضت إمهال المشركين و تأخير تعذيبهم إلى ما بعد الموت و يوم القيامة.

و الحاصل: أنّ الحكمة اقتضت أن تكون هذه الدّار الفانية دار بلاء و اختبار، و الدّار الآخرة دار ثواب

ص: 242


1- . تفسير الرازي 17/62، تفسير أبي السعود 4/132.
2- . تفسير الرازي 17:61.
3- . تفسير أبي السعود 4:132.
4- . مجمع البيان 5:149، منسوب إلى القيل.
5- . تفسير الرازي 17:62.
6- . تفسير روح البيان 4:27.
7- . تفسير الرازي 17:62.
8- . الأحاديث القدسية:230، تفسير الرازي 17:63.
9- . الأنفال:8/33.
10- . تفسير الرازي 17:63.

و عقاب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 20

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب الشّرك، و بيان استحقاق المشركين التّعجيل في عقوبتهم و التّسريع في إهلاكهم، حكى سبحانه تعنّتهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و اقتراحهم عليه معجزة اخرى، سوى ما رأوه منه من القرآن، و سائر ما نسبوه إلى السّحر؛ بقوله: وَ يَقُولُونَ تعنّتا و لجاجا: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ و معجزة سوى القرآن مِنْ رَبِّهِ مع كفاية القرآن لإثبات نبوّته لما فيه من وجوه الإعجاز.

وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ (20)و لمّا كان إنزال الزائد على الكفاية منوطا بمصلحة لا يعلمها إلاّ اللّه، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يردّهم بقوله: فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ و العلم بالمصالح الواقعيّة خاصّ لِلّهِ لا يشركه فيه غيره فَانْتَظِرُوا مشيئته و فعله إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ لذلك.

و قيل: إن المعنى: انتظروا لما يفعل اللّه بكم بجحودكم الآيات المنزلة (1).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 21

ثمّ بيّن سبحانه أنّ تكذيبهم المعجزات و تعنّتهم إنّما يكون لبطرهم بالرّاحة، و سعة العيش بقوله: وَ إِذا أَذَقْنَا اَلنّاسَ قيل: يعني مشركي مكّة رَحْمَةً من سعة و صحّة (2)مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ من فقر و مرض إِذا لَهُمْ حين إذاقتهم الرّحمة مَكْرٌ و سعي بليغ فِي تكذيب آياتِنا و معجزات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله.

وَ إِذا أَذَقْنَا اَلنّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اَللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)روي أنّ اللّه سلّط القحط على أهل مكّة سبع سنين، ثمّ أنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثمّ أنّهم نسبوا تلك الرّحمة إلى أصنامهم، و طفقوا يقدحون في آيات اللّه، و يكيدون الرّسول، فقابلوا نعمة اللّه بالكفران (3).

ثمّ أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلِ يا محمّد لهم: اَللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً و أعجل عقوبة ممّا تأتون به في إبطال الحقّ، فإنّه يزيل عنكم تلك النّعمة بتسليط المسلمين عليكم، و ابتلائكم بالقتل

ص: 243


1- . تفسير البيضاوي 1:431، تفسير روح البيان 4:28.
2- . تفسير روح البيان 4:29.
3- . تفسير الرازي 17:65، تفسير روح البيان 4:29.

و الأسر، أو الانقياد للرّسول قبل أن تنالوا بمطلوبكم؛ من الإخلال بأمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و الإفساد في دينه.

ثمّ بالغ في تهديدهم بقوله: إِنَّ رُسُلَنا من الملائكة الكتبة لأعمال النّاس يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ و ما تحتالون في تكذيب الآيات، في صحائف أعمالكم، ثمّ يعرض عليكم يوم القيامة لتزداد فضيحتكم و خزيكم.

و قيل: إن المراد أن لا يخفى على الحفظة شيء من خفيّات أعمالكم، فكيف باللّه المطّلع على السرائر (1)؟

سوره 10 (يونس): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ ذكر سبحانه أحد مصاديق الرّحمة بعد الضرّ بقوله: هُوَ القادر الرحيم اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ و يمكّنكم لقطع المسافة فِي اَلْبَرِّ على الأقدام، و ظهر الدوابّ وَ في اَلْبَحْرِ بالسّفن و الزّوارق، لنيل مقاصدكم و أنتم ذاهلون عن ألطافه حَتّى إِذا اتّفق في التسييرات (2)أنّكم كُنْتُمْ متمكّنين فِي اَلْفُلْكِ و السّفن، ثمّ عدل سبحانه عن الخطاب إلى الغيبة مبالغة في تعجيب حالهم و إنكارها عليهم؛ بقوله: وَ جَرَيْنَ تلك السّفن بِهِمْ على الماء بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ليّنة، موافقة لمقصودهم وَ فَرِحُوا و سرّوا بِها لطيبها و موافقتها، فإذا تلقّت تلك الرّيح، أو الفلك، و جاءَتْها من الطّرف المخالف رِيحٌ عاصِفٌ شديدة، بحيث استولت على الاولى الطيّبة وَ جاءَهُمُ لشدّة الرّيح و تلاطم البحر اَلْمَوْجُ كالجبال مِنْ كُلِّ مَكانٍ و جانب وَ ظَنُّوا لذلك أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ الهلاك و سدّت عليهم المسالك، فارتعدت فرائصهم من الخوف، و صاروا منقطعي الرّجاء من الخلق، إذن دَعَوُا اَللّهَ و تضرّعوا إليه بالفطرة، حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ غير مشركين به، قائلين في دعائهم: يا ربّ، و اللّه لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ المهلكة

هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (22) فَلَمّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

ص: 244


1- . تفسير البيضاوي 1:432، تفسير روح البيان 4:30.
2- . في النسخة: التيسيرات.

لَنَكُونَنَّ البتّة بعد ذلك مِنَ اَلشّاكِرِينَ لنعمك التي منها نعمة النجاة المسؤولة بتخصيصك بالعبادة و الطّاعة.

روى الفخر الرّازي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال له رجل: اذكر دليلا على إثبات الصانع؟ فقال: أخبرني عن حرفتك؟ فقال: أنا رجل اتّجر في البحر، فقال: صف لي كيفيّة حالك؟ فقال: ركبت البحر، فانكسرت السّفينة، و بقيت على لوح واحد من ألواحها، و جاءت الرّياح العاصفة. فقال جعفر الصادق عليه السّلام: هل وجدت في قلبك تضرّعا و دعاء؟ فقال: نعم، فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرّعت إليه في ذلك الوقت (1).

فَلَمّا أَنْجاهُمْ اللّه من الورطة، و ما غشيهم من الكربة؛ إجابة لدعوتهم الخالصة، و وجدوا السّلامة التي هي أعظم النّعم إِذا هُمْ في حال السّلامة و الرّاحة يَبْغُونَ و يظلمون فِي اَلْأَرْضِ و يفسدون في أقطارها-عن ابن عبّاس: يريد به الفساد و التّكذيب، و الجرأة على اللّه تعالى (2)-حال كونهم متديّنين بِغَيْرِ دين اَلْحَقِّ و هو التّوحيد، أو حال كونهم مبطلين في بغيهم لا محقّين؛ كما فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببني قريظة، أو مبطلين في اعتقادهم.

ثمّ وعظهم سبحانه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ الباغون إِنَّما يكون بَغْيُكُمْ و ظلمكم، أو إفسادكم في الأرض، ضرر عظيم عَلى أَنْفُسِكُمْ و جزاؤه لا حق بكم، لا على من تبغون عليه، أو المراد: إنّما يكون بغيكم على أمثالكم، و أبناء نوعكم الّذين هم كأنفسكم، فتمتّعوا مَتاعَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و انتفعوا بلذّاتها، فإنّها لا تبقى إلاّ مدّة قليلة، ثمّ تزول بسرعة ثُمَّ يكون إِلَيْنا بعد الموت مَرْجِعُكُمْ و إلى محضر عدلنا مصيركم فَنُنَبِّئُكُمْ و نخبركم بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ بتعذيبكم أشدّ العذاب عليه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أسرع الخير ثوابا صلة الرّحم، و أعجل الشّر عقابا البغي و اليمين الفاجرة (3).

و روي أيضا: ثنتان يعجّلهما اللّه في الدّنيا: البغي، و عقوق الوالدين (4).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: لو بغى جبل على جبل لاندكّ الباغي (5).

و عن الصادق عليه السّلام: ثلاث يرجعن على صاحبهنّ: النّكث، و البغي، و المكر. ثمّ تلا هذه الآية (6).

ص: 245


1- . تفسير الرازي 17:67.
2- . تفسير الرازي 17:71.
3- . تفسير الرازي 17:71.
4- . تفسير الرازي 17:71، تفسير روح البيان 4:33.
5- . تفسير الرازي 17:71.
6- . تفسير العياشي 2:275/1948، تفسير الصافي 2:399.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 24

ثمّ لمّا نبّه سبحانه على فناء الدّنيا و زوال لذّاتها، أوضحه بضرب المثل بقوله: إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و حالها العجيبة في سرعة الزّوال و الفناء، بعد اغترار النّاس بها كَماءٍ نافع أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ بالأمطار على أرض ميتة، فاخضرّت بسبب المطر فَاخْتَلَطَ و كثف بِهِ نَباتُ تلك اَلْأَرْضِ بأنواعه المختلفة النافعة مِمّا يَأْكُلُ اَلنّاسُ كالزّروع و البقول وَ ما يأكل اَلْأَنْعامُ كالحشائش، فيبقى ذلك النّبات مختلطا و مشتبكا حَتّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ من ذلك النّبات زُخْرُفَها و غاية حسنها كالعروس التي لبست الثّياب الفاخرة، المختلفة الألوان وَ اِزَّيَّنَتْ بجميع الألوان التي تتزيّن بها وَ ظَنَّ أصحاب تلك الأرض و أَهْلُها أَنَّهُمْ متمكّنون من حصاد تلك الأرض، و قادِرُونَ عَلَيْها و على رفع غلّتها أَتاها بغتة أَمْرُنا و حكمنا بخرابها، و هلاك ثمارها بآفة من الآفات لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها بسبب نزول الآفة أرضا ملساء، كأنّ زرعها و حشيشها صار حَصِيداً من أصله، بل كَأَنْ لَمْ تَغْنَ و لم ينبت فيها شيء بِالْأَمْسِ و في الزّمان السّابق كَذلِكَ التّوضيح و التفصيل البديع نُفَصِّلُ و نوضّح، أو نذكر واحدة بعد اخرى اَلْآياتِ القرآنية التي منها الآيات المنبّهة على زوال الدّنيا، و عدم لياقتها للاغترار بها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها، و يقفون على دقائقها.

إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ اَلنّاسُ وَ اَلْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 25

ثمّ أنّه تعالى بعد تنفير النّاس من الدّنيا و لذّاتها، رغّبهم في الآخرة بقوله: وَ اَللّهُ يَدْعُوا النّاس من دار البلاء إِلى دارِ اَلسَّلامِ و يرغّبهم فيها.

وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ اَلسَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ السّلام هو اللّه عزّ و جلّ، و داره التي خلقها لعباده و لأوليائه الجنّة» (1).

قيل: إنّ وجه تسمية اللّه نفسه بالسّلام سلامته-لوجوب ذاته-من الآفات و التّغيير و الاحتياج، أو سلامة النّاس من ظلمه، أو أنّه معطي السّلامة من الآفات و المكاره و العيوب (2).

و قيل: إنّ دار السّلام الجنّة، لسلامة من دخل فيها من الضّرر و الآفة و المكروه، أو لأنّ اللّه يسلّم على

ص: 246


1- . معاني الأخبار:176/2، تفسير الصافي 2:399.
2- . تفسير الرازي 17:75.

أهلها (1)؛ كما قال تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (2)، و تسلّم الملائكة عليهم، و يسلّم بعضهم على بعض.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «مثلي و مثلكم شبه سيّد بنى دارا، و وضع مائدة، و أرسل داعيا، فمن أجاب الدّاعي دخل الدّار، و أكل من المائدة، و رضي عنه السّيد، و من لم يجب الدّاعي لم يدخل الدّار، و لم يأكل من المائدة، و لم يرض عنه السيّد، فاللّه السيّد، و الدّار دار السّلام، و المائدة الجنّة، و الدّاعي محمّد» (3).

و عنه عليه السّلام: «ما من يوم تطلع فيه الشّمس إلاّ و بجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كلّ الخلائق إلاّ الثّقلين: أيّها النّاس هلمّوا إلى ربّكم، و اللّه يدعو إلى دار السّلام» (4).

ثمّ أنّه تعالى بعد دعوته العامّة، خصّ لطفه و توفيقه بالذّوات الطيّبة المستعدّة بقوله: وَ يَهْدِي اللّه بلطفه و توفيقه مَنْ يَشاءُ هدايته و توفيقه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق موصل إلى تلك الدّار؛ و هو معرفة اللّه بالتّوحيد و الصّفات الكماليّة، و معرفة ملائكته و رسله و حججه بالرّسالة و العصمة، و وجوب الطّاعة.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 26

ثمّ لمّا دعا اللّه سبحانه عباده إلى الجنّة، بشّرهم بما أعدّ لهم فيها من الحظوظ بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا بتحصيل العقائد الحقّة، و المعارف الصّحيحة، و الأعمال الصّالحة في الدّنيا، المثوبة اَلْحُسْنى و الجزاء الأوفى وَ زِيادَةٌ عليها من فضله و كرمه.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الزّيادة غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعه أبواب» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «أمّا الحسنى فالجنّة، و أمّا الزيادة في الدّنيا (4)، ما أعطاهم اللّه في الدّنيا لم يحاسبهم به في الآخرة» (5).

و عن القمّي رحمه اللّه: هي النّظر إلى رحمة اللّه (6).

أقول: و عليه يحمل ما روته العامّة من أنّه إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، يقول اللّه تعالى: تريدون شيئا

ص: 247


1- . تفسير الرازي 17:75.
2- . يس:36/58. (3 و 4) . تفسير الرازي 17:74.
3- . مجمع البيان 5:158، تفسير الصافي 2:400.
4- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: و أمّا الزيادة فالدنيا.
5- . تفسير القمي 1:311، تفسير الصافي 2:400.
6- . تفسير القمي 1:311، و فيه: إلى وجه اللّه عزّ و جل، تفسير الصافي 2:400.

أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنّة، ألم تنجّنا من النّار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النّظر إلى ربّهم، ثمّ تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيادَةٌ (1).

ثمّ بشّرهم سبحانه بالصّون عن المكاره كلّها بقوله: وَ لا يَرْهَقُ و لا يغشى وُجُوهَهُمْ في الجنّة قَتَرٌ و غبار فيه سواد وَ لا ذِلَّةٌ و هوان. قيل: إنّ نفي الوصفين كناية عن نفي موجبات الخوف و الحزن، ليعلم أنّ نعيمهم غير مشوب بمكروه يوجب سلب نضارة الوجه (2)أُولئِكَ المحسنون هم (أصحاب الجنة و أهلها) ، و هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مأمونون من الخروج منها.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 27

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال المحسنين، بيّن سوء حال المسيئين بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا و حصّلوا العقائد و الأعمال اَلسَّيِّئاتِ في الدّنيا فلهم جَزاءُ سَيِّئَةٍ صدرت منهم بِمِثْلِها بلا زيادة لمنافاتها العدل. قيل: إنّ التّقدير: و جزاء الذين كسبوا السيّئات جزاء سيئة بمثلها (1)وَ تَرْهَقُهُمْ و تغشاهم ذِلَّةٌ و مهانة. و في إسناد الذلّة إليهم دون وجوههم، دلالة على إحاطتها بهم ما لَهُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ تعالى مِنْ عاصِمٍ و حافظ، و يسودون كَأَنَّما أُغْشِيَتْ و البست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ حال كونه مُظْلِماً لشدّة سوادها بسبب سواد الجهل، و لظلمة الكفر و الضّلال.

وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا اَلسَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)عن الصادق عليه السّلام: «أما ترى البيت إذا كان اللّيل كان أشدّ سوادا فكذلك (2)[هم]يزدادون سوادا» (3)أُولئِكَ المسيئون أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا، كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اعيدوا فيها.

القمّي رحمه اللّه، عن الباقر عليه السّلام: «هؤلاء أهل البدع و الشّبهات و الشّهوات، يسوّد اللّه وجوههم ثمّ يلقونه. قال: و يلبسهم اللّه الذلّة و الصّغار» (4).

ص: 248


1- . تفسير البيضاوي 1:433.
2- . في الكافي: سوادا من خارج فلذلك.
3- . تفسير العياشي 2:277/1952، الكافي 8:252/355، تفسير الصافي 2:400.
4- . تفسير القمي 1:311، تفسير الصافي 2:400.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 28

ثمّ بيّن اللّه تعالى زيادة خزي المشركين بقوله: وَ يَوْمَ نحيي الكفّار و المؤمنين، و نَحْشُرُهُمْ في القبور إلى القيامة جَمِيعاً لا يشذّ منهم أحد ثُمَّ نَقُولُ من بينهم لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بربّهم غيره في الالوهيّة و العبادة: الزموا أيّها العابدون و المعبودون مَكانَكُمْ و لا تبرّحوا عنه أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ الذين تدعون من دون اللّه، حتّى ننظر في أمركم فَزَيَّلْنا و فرّقنا بَيْنَهُمْ و بين شركائهم الذين كانوا يعبدونهم، و انقطعت أطماعهم من شفاعتهم. عن القمّي: يبعث اللّه نارا تزيل بين الكفار و المؤمنين (1)«و قال شركاؤكم» و معبودوهم من الملائكة و البشر و الأصنام و غيرهم، بعد ما أنطق اللّه الجمادات منهم: أيّها المشركون ما كُنْتُمْ في الدّنيا إِيّانا تَعْبُدُونَ و إنّما كنتم تعبدون أهواءكم، و تطيعون الشّياطين الآمرين لكم بالشّرك.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيّانا تَعْبُدُونَ (28)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 29 الی 30

ثمّ لا يكتفون بالتّبري عن المشركين بالإنكار، بل يستشهدون باللّه على قولهم، بقوله: فَكَفى بِاللّهِ العالم بحقائق الامور شَهِيداً و مطّلعا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ في إِنْ كُنّا في الدّنيا عَنْ عِبادَتِكُمْ لنا لَغافِلِينَ لعدم الحياة و الشّعور للجماد، و لعدم الرّضا بها من غيره هُنالِكَ المقام، و في ذلك الموقف تَبْلُوا و تختبر كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس ما أَسْلَفَتْ و قدّمت من العقائد و الأعمال، فتعلم خيرها و شرّها، و نفعها و ضرّها، و أعرضوا عن مطاوعتهم الباطل وَ رُدُّوا و ارجعوا إِلَى حكم اَللّهِ الذي هو مَوْلاهُمُ و مطاعهم اَلْحَقِّ و إلى جزائه و عقابه. و قيل: يعني صاروا ملجأين إلى الإقرار بالوهية اللّه (2)و وحدانيّته وَ ضَلَّ و ضاع عَنْهُمْ في ذلك المقام ما كانُوا في الدّنيا يَفْتَرُونَ على اللّه بادّعاء الوهيّته و شفاعته.

فَكَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللّهِ مَوْلاهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 31 الی 33

ص: 249


1- . تفسير القمي 1:312، تفسير الصافي 2:400.
2- . تفسير الرازي 17:85.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فضائح المشركين، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإقامة الحجّة على فساد مذهبهم بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين احتجاجا على صحّة التّوحيد، و بطلان الشّرك مَنْ الذي يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ بإنزال الأمطار النّافعة وَ من اَلْأَرْضِ بإنبات النّباتات التي هي غذاؤكم و غذاء الحيوانات التي تأكلونها؟ أَمَّنْ الذي يَمْلِكُ و يخلق لكم اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ اللذين هما أعظم أعضائكم، و أنفعها لكم؟ و قيل يعني: من يحفظهما من الآفات مع كثرتها (1)؟ وَ مَنْ الذي يُخْرِجُ و يخلق بقدرته الحيوان اَلْحَيَّ مَنْ المبدأ اَلْمَيِّتِ كالنّطفة وَ يُخْرِجُ و يخلق الشيء اَلْمَيِّتِ كالمنيّ مَنْ الحيوان اَلْحَيَّ؟ و قيل: إنّ المراد من الحيّ: المؤمن، و من الميت: الكافر (2)وَ مَنْ الذي يُدَبِّرُ و ينظّم اَلْأَمْرَ في عوالم الوجود علويّا و سفليّا، و جسمانيّا و روحانيّا فَسَيَقُولُونَ: إنّه اَللّهُ وحده، لاعتقادهم بأنّه صانع العالم و مدبّره، و إنّما كانوا يعبدون الأصنام لقولهم بأنّهم شفعاء.

فإذا اعترفوا بذلك فَقُلْ لهم: أَ فَلا تَتَّقُونَ اللّه في أن تجعلوا له شركاء في العبادة مع اعترافكم بأنّ جميع الامور بيده، و أنّ الأصنام مقهورون تحت قدرته و تدبيره فَذلِكُمُ اَللّهُ القادر القاهر المدبّر بالخصوص رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ الثابتة ربوبيّته، لا ما أشركتم به. فإذا ثبت أن التّوحيد هو الدّين الحقّ فَما ذا بَعْدَ دين اَلْحَقُّ و غير ملّة التّوحيد إِلاَّ اَلضَّلالُ لعدم الواسطة بين الحقّ و الباطل، فمن تخطّى أحدهما وقع في الآخر، فإذا عرفتم هذا الأمر الواضح فَأَنّى تُصْرَفُونَ عن الحقّ؟ و كيف تعدلون عنه إلى الباطل و الضّلال؟ كَذلِكَ الحقّ الذي ثبت عند كلّ أحد له عقل حَقَّتْ و ثبتت كَلِمَةُ رَبِّكَ و حكمه و قضاؤه عَلَى اَلَّذِينَ فَسَقُوا و تمرّدوا عن طاعة اللّه و رسله، و خرجوا عن قابليّة الهداية، و ذلك الحكم و القضاء الثابت أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أبدا، لعلمه تعالى بخبث طينتهم، و الطّبع على قلوبهم.

و قيل: إنّ المراد: ثبت عذاب ربّك عليهم لأنّهم لا يؤمنون (3)، بل يموتون كفّارا.

ص: 250


1- . تفسير أبي السعود 4:141، تفسير روح البيان 4:43.
2- . مجمع البيان 5:162، تفسير الرازي 17:86.
3- . تفسير الرازي 17:88.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ أكّد سبحانه الحجّة عليهم بقوله: قُلْ يا محمّد: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ و معبوداتكم مَنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ و يوجده أوّلا بلا مثال سابق، من نطفة أمشاج ثُمَّ يُعِيدُهُ و يخلقه ثانيا بعد إمامتته و صيرورته ترابا.

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ قُلِ اَللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)فلمّا كان الجواب في القضيّتين في غاية الوضوح، لسطوع برهانه، و إن كانوا جاحدين للمعاد، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن ينوب عنهم في الجواب بقوله: قُلِ اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لا غيره؛ كائنا ما كان، فلمّا ظهر ذلك فَأَنّى تُؤْفَكُونَ و إلى أين تقلبون عن سبيل الحقّ؟

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد الحجّة بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الّذين تدعون من دون اللّه مَنْ يَهْدِي أحدا إِلَى الدّين اَلْحَقِّ بنصب الحجج و البراهين، و إرسال الرّسول، و إنزال الكتاب، و توفيق النّظر و التدبّر فيها قُلِ اَللّهُ بلطفه يَهْدِي جميع الخلق لِلْحَقِّ و يرشدهم إليه بتوسّط الهداة، فإذا كان الأمر كذلك أَ فَمَنْ يَهْدِي النّاس إِلَى اَلْحَقِّ و هو اللّه الهادي لعباده إلى كلّ خير أَحَقُّ و أولى أَنْ يطاع و يُتَّبَعَ في أحكامه أَمَّنْ لا يَهِدِّي و لا يهتدي إلى شيء من منافعه إِلاّ أَنْ يُهْدى بتوسّط غيره.

قيل: إنّ المشركين لمّا كانوا معتقدين بالوهيّة الأصنام عبّر اللّه عن أصنامهم بما يغيّر عن العاقل العالم (1).

و قيل: إنّ المراد من قوله: من لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى هم العقلاء من آلهتهم؛ كالملائكة، و عيسى عليه السّلام، و عزير (2).

فإذا كان اتّباع الهادي إلى الصّراب واجبا بحكم العقل و الوجدان فَما لَكُمْ و أيّ داع يدعوكم إلى اتّباع الجماد الذي لا هداية له، و كَيْفَ و أنتم عقلاء تَحْكُمُونَ بما لا يحكم به عاقل، و تلتزمون بما لا يلتزم به شاعر.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 36 الی 37

ص: 251


1- . تفسير الرازي 17:91.
2- . تفسير البيضاوي 1:435، تفسير روح البيان 4:44.

ثمّ ذكر سبحانه علّة عبادتهم الأصنام بقوله: وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ في اعتقاد الوهيّة الأصنام، و كونها شفعاء لهم إِلاّ ظَنًّا ضعيفا حاصلا لهم من تقليد آبائهم. و فيه إشعار بأنّ بعضهم كانوا عالمين بالتّوحيد، و كانوا يكابرون في إنكاره عنادا.

ثمّ أبطل سبحانه اتّباعهم الظنّ بقوله: إِنَّ اَلظَّنَّ و إن كان في غاية القوّة لا يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ و الواقع شَيْئاً من الإغناء، و لا يكفي في التديّن بأمر، و لا يقوم مقام العلم و اليقين أبدا.

ثمّ هدّدهم سبحانه على اتّباع الظنّ بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ من اتّباع الظّن، و الإعراض عن البرهان.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التّوحيد، شرع في إثبات النبوّة بدفع دعوى المشركين أنّ القرآن هو كلام البشر بقوله: وَ ما كانَ هذَا اَلْقُرْآنُ مع ما هو عليها من وجوه الإعجاز أَنْ يُفْتَرى قيل: إنّ المعنى: ليفترى (1)، أو افتراء و اختلافا مِنْ دُونِ اَللّهِ و صادرا من غيره تعالى، لعدم قدرة غيره على ترتيب مثله وَ لكِنْ يكون تَصْدِيقَ الكتاب اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ و مطابقا لما نزل من اللّه قبله في المعارف و المواعظ، و بيان أحوال الأنبياء و قصص الامم الماضين، مع كون من أتى [به]اميّا لم يقرأ الخطّ، و لم يطالع الكتب، و لم يجالس العلماء، و لم يتلمذ عند أحد، فلو لم تكن مطالبه مطابقة لما في الكتب، لبالغ المعاندون في الطّعن و القدح فيه، و لمّا لم يطعن أحد فيه مع شدّة حرص الكفّار عليه و عنادهم له، علم مطابقته.

ثمّ ثنّى سبحانه الدّليل على صدق كون القرآن كلام اللّه بقوله: وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتابِ و تبيين ما شرّع من الأحكام الموافقة للعقل و صلاح الكلّ إلى يوم القيامة، و لذا لا رَيْبَ فِيهِ أنّه نازل مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 38

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على صدق القرآن بالدّليلين المتقنين، أنكر على المشركين نسبة الافتراء إليه بقوله: أَمْ يَقُولُونَ إنّ محمّدا اختلق القرآن و اِفْتَراهُ على اللّه. ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)

ص: 252


1- . تفسير الرازي 17:94.

بالتحدّي به بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: إن كان القرآن كلام البشر فَأْتُوا أيّها المهرة في الفصاحة و البلاغة بِسُورَةٍ واحدة صغيرة مِثْلِهِ في الفصاحة و البلاغة و الحلاوة وَ اُدْعُوا لإعانتكم على ترتيب سورة مثل القرآن مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ دعوته مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواء إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادّعاء أنّه كلام البشر، و أنّي افتريته، فان ما افتراه أحد من النّاس يقدر على إتيان مثله غيره، فعجز الكلّ من عمل، مع كثرة المهرة فيه، دليل قاطع على أنّه من اللّه، خصوصا مع تحدّي مدّعي النبوّة به.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 39

ثمّ ذكّر سبحانه علّة تكذيبهم بقوله: بَلْ لشدّة النّفور عن مخالفة آبائهم في الدّين، سارعوا إلى أن كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ و لم يعطوه حقّ النّظر ليفهموا معانيه و حقائقه و دقائقه، و يقفوا على كنهه وَ لَمّا يَأْتِهِمْ و لم يقع بعد تَأْوِيلُهُ و ما أخبر اللّه به من الامور المستقبلة، ليعلموا صحّة أخباره الغيبيّة بصدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه كَذلِكَ التّكذيب الصادر من قومك بلا تأمّل في معجزتك كَذَّبَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم.

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلظّالِمِينَ (39)ثمّ هدّد سبحانه المكذّبين بقوله: فَانْظُرْ يا محمّد نظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المكذّبين اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك بعذاب الاستئصال، أو بإيقاعها في أشدّ الخسران، لأنّهم طلبوا الدّنيا و تركوا الآخرة، فلمّا ماتوا فاتتهم الدّنيا و الآخرة، و وقعوا في أشدّ العذاب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 40

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين بالعذاب، نبّه على علّة تأخيره عنهم، و إمهالهم بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ فيما بعد، أو في قلبه، و يكذّب عنادا وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أبدا، لا ظاهرا و لا باطنا، لفرط غباوته، و قلّة تدبّره. عن الباقر عليه السّلام: هم أعداء محمّد و آل محمّد [من]بعده (1). وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ و المعاندين الذين أفسدوا فطرتهم الأصليّة؛ فيعاقبهم أشدّ العقاب.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 41

وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ (41)

ص: 253


1- . تفسير القمي 1:312، تفسير الصافي 2:403.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالمداراة مع المشركين، أو زجرهم و ردعهم، أو إظهارا لليأس منهم بقوله: وَ إِنْ كَذَّبُوكَ يا محمّد، في ادّعاء الرّسالة و التّوحيد بعد إلزامهم بالحجّة فَقُلْ في جوابهم: لِي عَمَلِي من الايمان باللّه و طاعته، أو جزاء عملي وَ لَكُمْ أيّها المشركون عَمَلُكُمْ من الشّرك و الطّغيان، أو جزاء عملكم أَنْتُمْ بَرِيئُونَ و غير مسؤولين مِمّا أَعْمَلُ فلا تؤاخذون به وَ أَنَا أيضا بَرِيءٌ و غير مسؤول مِمّا تَعْمَلُونَ فلا اؤاخذ بعملكم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 42 الی 43

ثمّ بالغ سبحانه في بيان شدّة عداوة المكذّبين بالقرآن بحيث لا يرجى إيمانهم؛ بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ حين تقرأ القرآن و تعلّمه أصحابك؛ و هم كالصّمّ لا يفهمون كلامك، و لا يلتفتون إلى محاسنه لشدّة بغضهم لك و نفرتهم من القرآن، فلا تقرأ عليهم القرآن، و لا تجهد نفسك في دعوتهم أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ بقدرتك البشريّة، و تفهم كلامك اَلصُّمَّ الذين سدّ أسماع قلوبهم الشّهوات، و حبّ الدّنيا، و شدّة العداوة من إدراك الكلام و محاسنه وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ فإنّ تفهيم الكلام للأصمّ العاقل لو كان ممكنا لفراسته، لا يمكن تفهيمه للأصمّ المجنون وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ ببصره الظّاهر إِلَيْكَ و إلى معجزاتك الواضحة، و لكنّهم لعمى قلوبهم لا يرون نورك و جهات إعجاز معجزاتك أَ فَأَنْتَ تَهْدِي اَلْعُمْيَ و فاقدي البصر إلى طريق الحقّ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ بعين قلوبهم الطّريق.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43)و قيل: إنّ المقصود من الآيتين تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتشبيه المكذّبين المصرّين على الكفر بالأصمّ الذي لا عقل له، و الأعمى الذي لا بصيرة له، فكما يمنع الصّمم في الأذن، و العمى في العين عن إدراك محاسن الكلام و مشاهدة محاسن الصّورة-خصوصا إذا انضمّ إلى الصّم عدم العقل، و إلى العمى عدم البصيرة-كذلك تمنع شدّة بغض المكذّبين للحقّ، و عداوتهم للرّسول، و نفرتهم عن القرآن، و عن قبولهم الهداية، و كما أنّ الطّبيب إذا رأى مريضا لا يمكن علاجه، أعرض عنه بلا استيحاش من عدم قبوله العلاج، كذلك يجب على الرّسول الإعراض عن هؤلاء المكذّبين بلا استيحاش من عدم قبولهم الحقّ (1).

ص: 254


1- . الرازي 17:101.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 44 الی 45

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ قطع الرّحمة عنهم مع سعتها إنّما هو بسيّئات أعمالهم؛ بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ اَلنّاسَ و لا يقطع عنهم رحمته، و لا ينقصهم ممّا يتعلّق بمنافعهم الدنيويّة و الاخرويّة؛ من السّمع و البصر، و العقل و البصيرة، و استعداد الهداية شَيْئاً و لو كان يسيرا وَ لكِنَّ اَلنّاسَ بسيّئات أعمالهم أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث إنّهم لانهماكهم في الشّهوات يضيّعون استعدادهم، و يفسدون عقولهم، و لذا يحرمون من السّعادات الاخرويّة.

إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ اَلنّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ اَلنّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنَ اَلنَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)ثمّ هدّد سبحانه المكذّبين المضيّعين لفطرتهم الأصليّة و عقولهم السّليمة بقوله: وَ يَوْمَ يحيي اللّه المكذّبين و يَحْشُرُهُمْ فيه، و حالهم أنّ مدّة أعمارهم في الدّنيا، أو إقامتهم في القبور كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا و لم يمكثوا فيها إِلاّ ساعَةً و زمانا قليلا مِنَ اَلنَّهارِ.

قيل: إنّ الساعة كناية عن أقلّ زمان، و تخصيصها بالنّهار لكون ساعاته أعرف حالا من ساعات اللّيل (1).

ثمّ بالغ سبحانه في تقليل مكثهم بقوله: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ في ذلك اليوم؛ كما يعرف بعضهم بعضا في الدّنيا، كأنّهم لم يفارقوا إلاّ مدّة قليلة، ثمّ ينقطع التّعارف إذا عاينوا الأهوال.

و قيل يعني: يعرف بعضهم بعضا بما كانوا عليه من الكفر و الطّغيان (2).

قيل: إنّ استقلالهم الأعمار إنّما يكون لصرفها فيما لا نفع فيه، أو لما يشاهدون من أهوال القيامة، أو لطول مقامهم و وقوفهم في المحشر (3).

ثمّ أخبر سبحانه بغاية خسرانهم بقوله: قَدْ خَسِرَ المشركون اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ و أنكروا الحشر للحساب و جزاء الأعمال وَ ما كانُوا في الدّنيا مُهْتَدِينَ إلى منافعهم و مصالحهم.

و قيل: إنّه كلام المشركين، و المعنى: و يوم يحشرهم حال كونهم متعارفين و قائلين قد خسر الذين . . . إلى آخره (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 46 الی 47

ص: 255


1- . تفسير روح البيان 4:49. (2 و 3) . تفسير الرازي 17:104.
2- . تفسير الرازي 17:105.

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين، عاد إلى تسلية نبيّه بقوله: وَ إِمّا نُرِيَنَّكَ في الدّنيا بَعْضَ العذاب اَلَّذِي نَعِدُهُمْ على تكذيبك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ و نخرجنّك من الدّنيا قبل أن نرينّك عذابهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ و مصيرهم في الآخرة ثُمَّ اَللّهُ شَهِيدٌ و مطّلع عَلى ما كانوا يَفْعَلُونَ من تكذيبك فنرينّك إذا مجازاتهم كما تحبّ.

و قيل يعني: أنّ اللّه شاهد عليهم، يشهد بأعمالهم القبيحة على رؤس الأشهاد يوم القيامة؛ ليزداد خزيهم (1).

و قيل: إنّ كلمة ثُمَّ لترتيب الإخبار على الإخبار، أو بمعنى الواو (2).

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الامم من زمان آدم إلى اليوم رَسُولٌ مبعوث من جانب اللّه؛ لهدايتهم و دعوتهم إلى التّوحيد و المعاد، على حسب حكمته و لطفه فَإِذا جاءَ إلى كلّ امّة رَسُولُهُمْ بالبيّنات و المعجزات القاهرات، كذّبته امّته، فإذن قُضِيَ من قبل اللّه بين الرّسول و بَيْنَهُمْ بأن يحكم بنجاة الرّسول و المؤمنين به، و هلاك المكذّبين له، و هو الحكم بِالْقِسْطِ و العدل على المكذّبين وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في ذلك القضاء الموجب لتعذيبهم، لكونه نتيجة أعمالهم بعد إتمام الحجّة عليهم، و قطع أعذارهم ببيانات الرّسول، و إقامته الدّلائل على الحقّ.

و قيل: إنّه تعالى لمّا قال: اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ يوم القيامة، بيّن أنّه مع ذلك يحضرهم في موقف القيامة مع رسولهم، ليشهد عليهم بتلك الأعمال، حتّى يظهر عدله تعالى غاية الظّهور (1).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «تفسيرها في الباطن أنّ لكلّ قرن من هذه الامّة رسولا من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله يخرج إلى القرن الذي هو إليهم رسول؛ و هم الأولياء و هم الرّسل. و أمّا قوله: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ فإن (2)معناه: أنّ رسل اللّه يقضون بالقسط و هم لا يظلمون» (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 48 الی 49

ص: 256


1- . تفسير الرازي 17:106.
2- . في تفسير العياشي: قال.
3- . تفسير العياشي 2:278/1958، و زاد فيه: كما قال اللّه، تفسير الصافي 2:405.

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين بالعذاب، حكى استهزاءهم به بقوله: وَ يَقُولُونَ لك يا محمّد، و للمؤمنين بك استهزاء، أو استبعادا لما وعدتهم من العذاب: مَتى يكون وقوع هذَا اَلْوَعْدُ الذي وعدتمونا به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم؟

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يجيبهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: إنّي لا أَمْلِكُ و لا أقدر لِنَفْسِي على أن أدفع ضَرًّا و إن كان يسيرا وَ لا أن أجلب نَفْعاً و إن كان حقيرا إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ أن أدفعه من الضرّ، أو أجلبه من النّفع؛ لأنّه تعالى مالكهما، و هو لم يعيّن لوعده وقتا، إنّما المعلوم عندنا (1)لِكُلِّ أُمَّةٍ وعد بتعذيبهم أَجَلٌ و وقت معيّن لعذابهم، خاصّ بهم في علمه، يحلّ بهم العذاب الموعود عند حلوله، و إِذا جاءَ كلّ امّة أَجَلُهُمْ المضروب لهلاكهم، أنجز اللّه وعده فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عنه و لا يمهلون ساعَةً و زمانا قليلا وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ عليه.

عن الصادق عليه السّلام: «هو الذي سمّي لملك الموت في ليلة القدر» (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 50 الی 53

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بلوم المكذّبين في تعجيلهم العذاب بقوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني أيّها المكذّبون إِنْ أَتاكُمْ و نزل بكم عَذابُهُ الموعود بَياتاً و ليلا أَوْ نَهاراً و أنتم تشتغلون بامور معاشكم ما ذا و أيّ نفع تتصوّرون للعذاب الذي يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ هؤلاء اَلْمُجْرِمُونَ أيّ مقصود لهم في استعجاله، مع أنّ العاقل يستأخره و يفرّ منه لشدّة مرارته و صعوبة تحمّله.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ اَلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)و في وضع المجرمين موضع الضمير، تنبيه على علّة استحقاقهم العذاب، و على مقتضى فرارهم منه، و مباينة حالهم للاستعجال فيه.

ثمّ كأنّه قال سبحانه: إن كان غرضهم من الاستعجال علمهم بصدق النبيّ، و إيمانهم بتوحيد اللّه و صدق وعده، فليعلموا أنّ الإيمان بعد مشاهدة العذاب لا ينفعهم في الخلاص و الوصول إلى ثوابه،

ص: 257


1- . زاد في النسخة: أن، قبل الآية، و حذفناها لما يترتب عليها من تغيير الموقع الإعرابي للفظ الآية و تفسيرها بحيث يكون (أجلا و وقتا معينا. . .) .
2- . تفسير العياشي 2:278/1959، تفسير الصافي 2:405.

بل يقال لهم عند إيمانهم بعد رؤية العذاب توبيخا و تقريعا لهم: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ العذاب، و هل بعد نزوله عليكم و سقوط الايمان عن النّفع في حقّكم آمَنْتُمْ بِهِ و صدّقتموه؟ !

ثمّ أكّد سبحانه التّوبيخ و التّقريع عليهم بقوله: آلْآنَ و هل في هذا الحين تؤمنون باللّه و برسالة الرّسول، و ترجون الانتفاع بالايمان و الخلاص به من العذاب وَ قَدْ كُنْتُمْ قبل نزوله بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تكذيبا لوعد اللّه، و استهزاء بالرّسول؟

ثُمَّ قِيلَ بعد نزول العذاب لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بوضع تكذيب الرّسول موضع تصديقه، و الكفر موضع الإيمان: ذُوقُوا و اطعموا عَذابَ اَلْخُلْدِ و الدّائم، كما أذقتم الرّسول و المؤمنين جرع الغصص، و كؤوس الكروب هَلْ تُجْزَوْنَ اليوم بسبب إِلاّ بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَكْسِبُونَ لأنفسكم من الكفر و العصيان، و فيه تنبيه على أنّه تعالى خلق الخلق للرّحمة، و إنّما العذاب هو نتيجة أعمالهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية استهزاء المكذّبين بوعدهم بالعذاب، حكى عنهم السّؤال عن صدق هذا الوعد بقوله: وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ و يستخبرون منك يا محمّد، بعد إخبارك إيّاهم بالعذاب أَ حَقٌّ هذا الوعد، و صدق هُوَ أم صرف تخويف لا واقع له؟ قُلْ في جوابهم: إِي وَ رَبِّي و نعم و اللّه إِنَّهُ لَحَقٌّ حقيق بالقبول، و صدق لا مجال للرّيب فيه. عن الباقر عليه السّلام: «و يستنبئك (1)أهل مكّة عن عليّ: أ إمام هو قُلْ إِي وَ رَبِّي» (2)وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربّكم من إدراككم، و فائتين عنه بالهرب حين إرادته تعذيبكم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 54

ثمّ بالغ سبحانه؛ بعد نفي قدرتهم على الهرب من العذاب، في بيان عدم تمكّنهم من الخلاص ببذل الفداء بقوله: وَ لَوْ فرض أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ من النّفوس التي ظَلَمَتْ بالإشراك-و عن القمّي: آل محمّد حقّهم (3)- ما فِي اَلْأَرْضِ من خزائنها و كنوزها و أمتعتها لاَفْتَدَتْ تلك النّفس بِهِ و بذلته بإزاء نجاتها من العذاب-عن القمّي: يعني في الرّجعة (4)-لا يقبّل منها وَ أَسَرُّوا و أخفوا اَلنَّدامَةَ على ما ارتكبوه من الشّرك و العصيان، كراهة لشماتة الأعداء-كما عن

وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي اَلْأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا اَلنَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)

ص: 258


1- . زاد في الأمالى: يا محمد.
2- . أمالي الصدوق:771/1047، تفسير الصافي 2:406. (3 و 4) . تفسير القمي 1:313، تفسير الصافي 2:406.

الصادق عليه السّلام (1)-أو عجزا عن النّطق لغاية الحيرة و الدّهشة لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ. و قيل: إنّ أَسَرُّوا هنا بمعنى أظهروا (2)؛ لأنّه ليس بيوم تصبّر وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ جميعا؛ المشركين منهم و غير المشركين، من سائر فرق الكفّار و الطّغاة بِالْقِسْطِ و العدل، و يحكم عليهم بالعذاب اللاّئق بهم وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فيما فعل بهم من العذاب، لكونه نتيجة سيّئاتهم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 55 الی 56

ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الكذب في وعده، و نفي قبوله الفداء لرفع العذاب، أعلن بغناه المطلق، و عدم تطرّق الكذب في وعده بقوله: أَلا إِنَّ لِلّهِ وحده ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فلا يحتاج إلى أخذ الفداء، و ليس لكم مال تفدون به أَلا إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالثّواب و العقاب حَقٌّ و صدق لا يمكن الخلف فيه، لقبحه المنافي لحكمته، و كمال قدرته على إنجازه وَ لكِنَّ النّاس أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك لقصور عقولهم، و كمال غفلتهم، بسبب انهماكهم في الشّهوات، فيقولون ما يقولون.

أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)ثمّ أكّد سبحانه كمال قدرته بقوله: هُوَ القادر الذي يُحيِي الميّت وَ يُمِيتُ الحيّ، بلا دخل لأحد في ذلك وَ إِلَيْهِ في الآخرة تُرْجَعُونَ كما أنّكم منه تبدأون.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 57

ثمّ أنّه تعالى بعد تحذير النّاس من الكفر و تكذيب الرّسل، وجه خطابه إليهم، استمالة لهم نحو الحقّ و قبوله؛ بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ ثمّ دعاهم إلى اتّباع القرآن بذكر فوائده العظيمة بقوله: قَدْ جاءَتْكُمْ الآيات القرآنيّة التي هي مَوْعِظَةٌ لكم، و تذكرة بعواقب أعمالكم مِنْ قبل رَبِّكُمْ اللّطيف بكم وَ هي شِفاءٌ و برء لِما فِي اَلصُّدُورِ و القلوب من الأمراض الروحانيّة كالجهل و الشكّ، و رذائل الأخلاق. عن الصادق عليه السّلام: أنّه شفاء من أمراض الخواطر، و مشتبهات الامور (3). و في رواية: من نفث الشيطان (4)وَ هي هُدىً و رشاد إلى الحقّ و سائر الخيرات وَ رَحْمَةٌ و فضل خاصّ لِلْمُؤْمِنِينَ المتدبّرين فيها، المقتبسين من أنوارها.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي اَلصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)

ص: 259


1- . تفسير العياشي 2:279/1961، تفسير القمي 1:313، مجمع البيان 5:175، تفسير الصافي 2:406.
2- . تفسير الرازي 17:111.
3- . تفسير الصافي 2:407.
4- . الكافي 8:44/8، تفسير الصافي 2:407.

قيل: شبّه اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالطّبيب الحاذق و كتابه بكتاب فيه دستور معالجة المريض (1).

و لمّا كان أوّل التّدبير في معالجته نهيه عن تناول ما يضرّه، وصف القرآن أولا بكونه موعظة، و زاجرا عن المعاصي و ارتكاب المبعدات و الملهيات عن اللّه. ثمّ استعمال الأدوية المنقّية لمزاجه من الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض، وصف القرآن ثانيا بكونه شفاء، و المراد منه المجاهدة في إزالة الأخلاق الرّذيلة، فإذا زالت حصل الشّفاء للقلب و الصّفاء للرّوح. ثمّ استعمال الأدوية المقوّية للمزاج، وصف القرآن ثالثا بكونه هدى، و المراد منه تجلية الأنوار القدسيّة في القلب. ثمّ استعمال ما يوجب تزايد القوّة من مرتبة الصحّة إلى مرتبة الكمال القابل، وصف القرآن رابعا بكونه رحمة، و المراد منها إيصال جوهر الرّوح إلى أعلى درجات القرب، و هذا خاصّ بالمؤمنين الكاملين في الإيمان و العمل.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 58

ثمّ أنّه تعالى بعد الإشارة إلى مراتب تفضّله و رحمته بعباده المؤمنين، أمر نبيّه بأن يأمر المؤمنين بتخصيص فرحهم و سرورهم لهما بقوله: قُلْ يا محمّد للمؤمنين: بِفَضْلِ اَللّهِ و هو رسوله وَ بِرَحْمَتِهِ و هي القرآن فليفرحوا، و إن فرحوا بشيء في العالم فَبِذلِكَ المذكور من الفضل و الرّحمة بالخصوص فَلْيَفْرَحُوا لا بشيء آخر؛ لأنّ ما ذكر من الفضل و الرّحمة هُوَ خَيْرٌ و أفضل و أنفع مِمّا يَجْمَعُونَ من زخارف الدّنيا الفانية، و حطامها الكاسد.

قُلْ بِفَضْلِ اَللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (58)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فضل اللّه: نبوّة نبيّكم، و رحمته: ولاية عليّ بن أبي طالب، فَبِذلِكَ قال: بالنبوّة و الولاية فَلْيَفْرَحُوا يعني: الشّيعة هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يعني: مخالفيهم، من الأهل و المال و الولد، في دار الدّنيا» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «فضل اللّه: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رحمته: علي بن أبي طالب» (3).

و زاد القمّي رحمه اللّه: فبذلك فليفرح شيعتنا، هو خير ممّا أعطي أعداؤنا من الذّهب و الفضّة» (4).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 59

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اَللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّهِ تَفْتَرُونَ (59)

ص: 260


1- . تفسير الرازي 17:115.
2- . أمالي الصدوق:583/803، تفسير الصافي 2:407.
3- . مجمع البيان 5:178، جوامع الجامع:195، تفسير الصافي 2:407.
4- . تفسير القمي 1:313، تفسير الصافي 2:407.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب الشّرك، و توعيد المشركين على تكذيب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و استهزائهم به و بالقرآن، وبّخهم على بدعهم و مفترياتهم على اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد للمشركين: أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني ما أَنْزَلَ اَللّهُ لَكُمْ من السّماء مِنْ رِزْقٍ حلال بسبب الأمطار، و تأثير الشّمس و سائر الكواكب، في نضجه و تربيته و تلوينه. و قيل: إنّ المراد من الإنزال من السّماء: التّقدير فيه (1)، و قيل: الخلق و الإنشاء (2)فَجَعَلْتُمْ بعضا مِنْهُ حَراماً على أنفسكم كالسّائبة و أخواتها وَ بعضا حَلالاً.

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالاستخبار بالتّكرار بقوله: قُلْ توبيخا لهم: آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ في هذا الجعل و التّبعيض، فتمتثلون أمره تعالى أَمْ عَلَى اَللّهِ بأهوائكم تَفْتَرُونَ و في نسبة ذلك إليه تكذبون؟ فإن تقولوا إنّ الجعل على سبيل الافتراء، فقد التزمتم بما اتّفق العقلاء على بطلانه و قبحه، و تستحقّون العقوبة عليه، و إن تقولوا إنّه بإذن اللّه، فمن المعلوم أنّه ما شافهكم اللّه به، فلا بدّ أن تلتزموا بمجيء رسول منه إليكم، مع أنّكم تنكرون الرّسالة، و تبالغون في تكذيب مدّعيها، فثبت أنّكم مفترون.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 60

ثمّ أظهر سبحانه التعجّب من جرأتهم على اللّه في هذا الافتراء بقوله: وَ ما ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ الحكم اَلْكَذِبَ؟ و أيّ توهّم لهم أن يصنع بهم و يتعامل معهم يَوْمَ اَلْقِيامَةِ الذي هو يوم عرض الأعمال و الأقوال، و المجازاة عليها مثقالا بمثقال؟ أيتوهّمون أنّهم لا يسألون عن افترائهم، و لا يجازون عليه، أو يجازون و لكن لا يجازون جزاء شديدا، و لذا لا يبالون بما يرتكبون؟ كلاّ بل يعذّبون عذابا شديدا، بل أشدّ العذاب؛ لأنّ عصيانهم أشدّ المعاصي و في ذكر الكذب مع الافتراء؛ الذي هو عين الكذب، مبالغة في قبحه.

وَ ما ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)ثمّ أكّد سبحانه استحقاقهم العذاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ جميعا بإعطائهم القوى و العقل المميّز بين الحسن و القبيح، و الحقّ و الباطل، و بإرسال الرّسل، و إنزال الكتب، و تعليم الشّرائع، و بالإرشاد إلى طرق تحصيل المعاش و المعاد وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ اللّه على تلك النّعم بالقيام بوظائف العبوديّة، و صرف القوى الظاهريّة و الباطنيّة فيما خلقت له، و لذا يستحقّون العذاب،

ص: 261


1- . تفسير أبي المسعود 4:156، تفسير روح البيان 4:55.
2- . تفسير الرازي 17:120.

و يبتلون بأشدّ العقاب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 61

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر إصرار المشركين على الكفر و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استهزائهم بالقرآن، و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالجواب عن مقالاتهم و المداراة معهم، و تهديدهم بالعذاب، بالغ في تسلية النبيّ و المؤمنين، و تهديد الكفّار ببيان أنّ جميع أحوالهم و أعمالهم بعين اللّه بقوله: وَ ما تَكُونُ يا محمّد فِي شَأْنٍ من الشؤون، و حال من الأحوال الظّاهرة و الباطنة و الخفيّة، من امور الدّنيا أو من جميع الامور، ثمّ خصّ شأن تلاوة القرآن بالذّكر تعظيما له بقوله: وَ ما تَتْلُوا تلاوة هي بعض شأنك و المعظم مِنْهُ يكون مِنْ قُرْآنٍ.

وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)و قيل: إنّ ضمير مِنْهُ راجع إلى القرآن من باب الإضمار قبل الذّكر؛ لتعظيم القرآن (1). ثمّ جمع في الخطاب بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بقوله: وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ جليل أو حقير، ظاهر أو خفيّ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً و رقباء حافظين له إِذْ تُفِيضُونَ و تخوضون فِيهِ و تشتغلون به وَ ما يَعْزُبُ و لا يبعد عَنْ رَبِّكَ و لا يغيب عن علمه المحيط بجميع الأشياء مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ و ما يساوي وزن نملة صغيرة أو هباءة لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ و هما كناية عن عالم الوجود وَ لا شيء أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ الذرّة وَ لا أَكْبَرَ منها إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ و [هو]اللّوح المحفوظ.

و قيل: إنّ المعنى: لا يعزب عن ربّك شيء من الأشياء، و لكنّ جميع الأشياء في كتاب مبين، فكيف يعزب عنه شيء (2)؟ فإذا كان كذلك فليخف الكافرون عذاب اللّه، و لا يخف المؤمن منهم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 62

ثمّ بالغ سبحانه في تقوية قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ و أحبّاءه من النبيّ و المؤمنين لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدّارين من نيل مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوت مأمول و مطلوب.

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

ص: 262


1- . تفسير الرازي 17:122.
2- . تفسير أبي السعود 4:158.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن أولياء اللّه، فقال: «هم الذين يذكر اللّه برؤيتهم» ، يعني في السّمت و الهيئة (1).

و عن الصادق، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من عرف اللّه و عظّمه منع فاه من الكلام، و بطنه من الطّعام، و عنّى نفسه بالصّيام و القيام. قالوا: بآبائنا و امّهاتنا يا رسول اللّه، هؤلاء أولياء اللّه؟ قال: إنّ أولياء اللّه سكتوا فكان سكوتهم ذكرا، و نظروا فكان نظرهم عبرة، و نطقوا فكان نطقهم حكمة، و مشوا فكان مشيهم بين النّاس بركة، لو لا الآجال التي كتب اللّه عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفا من العقاب (2)، و شوقا إلى الثّواب» (3).

عن الباقر عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب علي بن الحسين عليهما السّلام: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ إذا أدّوا فرائض اللّه، و أخذوا بسنن رسول اللّه، و تورّعوا عن محارم اللّه، و زهدوا في عاجل زهرة الدّنيا، و رغبوا فيما عند اللّه، و اكتسبوا الطيّبات من الرّزق، لا يريدون [به]التّفاخر و التّكاثر، ثمّ أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة، فاولئك الّذين بارك اللّه لهم فيما اكتسبوا، و يثابون على ما قدّموا لآخرتهم» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته، المطيعين له في ظهوره، اولئك أولياء اللّه الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» (5).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 63 الی 64

ثمّ وصف سبحانه أولياءه بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بكلّ ما جاء من عند اللّه وَ كانُوا يَتَّقُونَ الأعمال السيّئة، و الأخلاق الذّميمة، و حبّ الدّنيا، و ما ألهى عن ذكر اللّه.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اَللّهِ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (64)و قيل: يتّقون ممّا سوى اللّه، و هو التّقوى الحقيقي (6).

ثمّ نبّه اللّه على نتيجة ولايته بقوله: لَهُمُ اَلْبُشْرى بالسّلامة من كلّ شرّ و مكروه فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و بالرّحمة الموصولة، و النّعم بعد الموت وَ فِي اَلْآخِرَةِ.

و قيل: إنّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بيان لتولّيهم اللّه تعالى (7)، و قوله: لَهُمُ اَلْبُشْرى بيان لتولّي اللّه إيّاهم.

ص: 263


1- . جوامع الجامع:196، تفسير الصافي 2:409.
2- . في الكافي: العذاب.
3- . الكافي 2:186/25، تفسير الصافي 2:409.
4- . تفسير العياشي 2:280/1965، تفسير الصافي 2:409.
5- . إكمال الدين:357/54، تفسير الصافي 2:409.
6- . تفسير أبي السعود 4:159.
7- . تفسير البيضاوي 1:440.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اَلْبُشْرى فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا الرّؤيا الحسنة يراها المؤمن، فيبشّر بها في دنياه» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله في رواية عاميّة: «هي في الدّنيا الرّؤيا الصالحة، يراها المؤمن لنفسه، أو ترى له، و في الآخرة الجنّة» (2).

و في (الفقيه) : و أمّا قوله وَ فِي اَلْآخِرَةِ فإنّها بشارة [المؤمن]عند الموت، يبشّر [بها]عند موته أنّ اللّه عزّ و جلّ قد غفر لك و لمن يحملك إلى قبرك (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «يبشّرهم بقيام القائم و بظهوره، و بقتل أعدائهم، و بالنّجاة في الآخرة، و الورود على محمّد و آله الصّادقين على الحوض» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الرّجل إذا وقعت نفسه في صدره، يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فيقول له: أنا رسول اللّه، أبشر. ثمّ يرى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فيقول: أنا عليّ بن أبي طالب الذي كنت تحبّه، أنا (5)أنفعك اليوم. قال: و ذلك في القرآن قوله عزّ و جلّ: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «إنّما أحدكم حين تبلغ نفسه هاهنا ينزل عليه ملك الموت فيقول له: [أمّا]ما كنت ترجو فقد اعطيته، و أمّا ما كنت تخافه فقد أمنت منه. و يفتح له باب إلى منزله من الجنّة، و يقال له: انظر إلى مسكنك من الجنّة، و انظر هذا رسول اللّه و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين رفقاؤك، و هو قول اللّه تبارك و تعالى و تقدّس: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ إلى آخر الآية» (7).

ثمّ أكّد سبحانه الوعد بقوله: لا تَبْدِيلَ و لا تغيير لِكَلِماتِ اَللّهِ و لأقواله، و لا خلف في وعده ذلِكَ التّبشير في الدّارين هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ الذي لا فوز فوقه.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 65

ثمّ أنّه تعالى بعد بشارة النبيّ و المؤمنين بالأمن من كلّ مكروه، و كان المشركون في تدبير إهلاك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إبطال أمره، نهاه تعالى عن المبالاة بهم و التأثّر بأفعالهم و أقوالهم بقوله: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ و تكذيبهم و تشاورهم في تدبير إهلاكك.

وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (65)

ص: 264


1- . من لا يحضره الفقيه 1:80/356، تفسير الصافي 2:409.
2- . تفسير الرازي 17:127، تفسير روح البيان 4:61، جوامع الجامع:196، تفسير الصافي 2:410.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:80/356، تفسير الصافي 2:409.
4- . الكافي 1:356/83، تفسير الصافي 2:410.
5- . في الكافي: تحبّه تحبّ أن.
6- . الكافي 3:133/8، تفسير الصافي 2:410.
7- . تفسير العياشي 2:280/1967، تفسير الصافي 2:410.

ثمّ كأنّه قيل: لم لا يحزن مع قلّة أنصاره و كثرة أعدائه؟ فأجاب سبحانه بقوله: إِنَّ اَلْعِزَّةَ و القوّة و الغلبة لِلّهِ وحده جَمِيعاً في مملكته و سلطانه، لا قدرة لأحد غيره، فهو يغلبهم و ينصر رسله و المؤمنين، و هُوَ اَلسَّمِيعُ لمقالات المعاندين اَلْعَلِيمُ بما عزموا عليه، و هو مجازيهم أشدّ الجزاء. ففيه مع تأمينه من القتل و الإيذاء، تبشير له بالغلبة و النّصرة.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 66

ثمّ أكّد سبحانه كمال قدرته، و نفوذ سلطانه بقوله: أَلا إِنَّ لِلّهِ وحده بلا شركة أحد من مخلوقاته مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس، فإنّ الجميع-مع كونهم شاعرين عاقلين قادرين-مقهورون تحت قدرته و سلطانه، فكيف بغيرهم من الحيوانات و النّباتات و الجمادات؟

أَلا إِنَّ لِلّهِ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ (66)ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات قدرته و توحيده في الالوهيّة و السّلطنة، ذمّ المشركين بقوله: وَ ما يَتَّبِعُ المشركون اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه من الأصنام، بتوهّم أنّهم شُرَكاءَ للّه في الالوهيّة و العبادة برهانا و يقينا، بل إِنْ يَتَّبِعُونَ شيئا إِلاَّ اَلظَّنَّ الحاصل من عمل الآباء و الكبراء وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ و يخمّنون من عند أنفسهم.

و قيل: أي يكذّبون في قولهم: أنّها آلهة.

و قيل: إنّ (ما) في قوله وَ ما يَتَّبِعُ استفهامية، و المعنى: أيّ شيء يتّبع المشركون؟ و الجواب: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ (1)، و قيل: إنّها موصولة (2)، و المعنى للّه ما يتّبع المشركون (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 67 الی 68

ص: 265


1- . تفسير الصافي 2:411، تفسير البيضاوي 1:441.
2- . في تفسير البيضاوي: موصولة و معطوفة على (من) في الآية لِلّهِ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ. . . .
3- . تفسير الصافي 2:411، تفسير البيضاوي 1:441.

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير قدرته الكاملة الدالّة على اختصاص العزّة به بقوله: هُوَ القادر اَلَّذِي جَعَلَ و أنشأ لَكُمُ اَللَّيْلَ و جعله مظلما لِتَسْكُنُوا و تستريحوا فِيهِ من تعب طلب المعاش وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً و مضيئا، لتتحرّكوا فيه لتحصيل معاشكم و مصالحكم إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل لَآياتٍ بيّنات، و براهين ساطعات على التّوحيد لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ الدّلائل، أو آيات القرآن سماع تدبّر و تفهّم و اعتبار.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال القول بوجود الشّريك له، شرع في إبطال القول بوجود الولد له بقوله: قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ و اختار لنفسه وَلَداً من الملائكة؛ كما هو قول مشركي العرب، أو من البشر؛ كعيسى و عزير. ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن هذه النّسبة، أو أظهر التعجّب من كلمتهم الحمقاء بقوله: سُبْحانَهُ كيف يكون له الولد و هُوَ اَلْغَنِيُّ على الإطلاق، و اتّخاذ الولد من آثار الحاجه؟ !

ثمّ أكّد غناه بقوله: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ و ما بينهما، و لا يمكن أن يكون الولد ملكا لوالده.

ثمّ أكّد بطلان قولهم، بقوله مخاطبا لهم: إِنْ عِنْدَكُمْ و ما لكم مِنْ سُلْطانٍ و برهان بِهذا القول، و كفى في بطلانه عدم البرهان به.

ثمّ وبّخهم بقوله: أَ تَقُولُونَ و تختلقون عَلَى اَللّهِ العظيم ما لا تَعْلَمُونَ من القول ببرهان ساطع! و من المعلوم أنّ الالتزام بما لا يعلم عين السّفة، و مباين لطريقة العقلاء.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 69 الی 70

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ و يقولون عليه اَلْكَذِبَ من اتّخاذه الشّريك و الولد لا يُفْلِحُونَ و لا يفوزون بنعمة الآخرة، و لا ينجون من عذابها.

قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي اَلدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذابَ اَلشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)ثمّ كأنّه قيل: كيف و كثير منهم متنعّمون بالنّعم (1)؟ فأجاب سبحانه: ذلك مَتاعٌ و تلذّذ يسير فِي اَلدُّنْيا زائل بسرعة ثُمَّ إِلَيْنا بعد الموت مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذابَ اَلشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.

ص: 266


1- . تفسير روح البيان 4:64.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 71

ثمّ ذكر سبحانه معارضة نوح قومه تسلية للمؤمنين، و تهديدا للكفّار بقوله: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ و خبره الذي له شأن من معارضته لقومه الّذين هم أضراب قومك في الكفر و العناد، ليتدبّروا و ينزجروا عمّا هم عليه من الشّرك و الشّقاق، و تثبت نبوّتك بسبب موافقة ما تخبر به لما ثبّت في الكتب السّماويّة و غيرها، مع علمهم بأنّك اميّ لم تقرأ كتابا، و ما جالست عالما و يظهر لهم أنّ العزّة للّه، و يطمئنّ المؤمنون بأنّ اللّه ينصر أولياءه، و يقوى قلبك في معارضة قومك و عدم المبالاة بهم و بأقوالهم إِذْ قالَ نوح لِقَوْمِهِ بعد تكذيبهم قوله و إيذائهم له: يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ و شقّ عَلَيْكُمْ و ثقل على قلوبكم مَقامِي فيكم، و مكثي بينكم لطول مدّته، و نفرتكم عن دعوتي، أو قيامي للوعظ وَ تَذْكِيرِي إيّاكم بِآياتِ اَللّهِ و براهين الوهيّته و وحدانيّته فَعَلَى اَللّهِ وحده تَوَكَّلْتُ و به وثقت في جميع اموري منذ عرفته، فلا ابالي بكم، و لا أخاف من كيدكم فَأَجْمِعُوا أنتم أَمْرَكُمْ وَ اعزموا على السّعي في إهلاكي الذي هو مطلوبكم، أو اجمعوا ذوي الأمر منكم، أو وجوه كيدكم، و ادعوا إلى إعانتكم عليه شُرَكاءَكُمْ و أصنامكم.

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اَللّهِ فَعَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71)و قيل: إنّ الواو بمعنى (مع) (1).

و قيل: إنّ التّقدير: أجمعوا أمر شركائكم (2). و على أيّ تقدير، هو مبنيّ على التهكّم.

ثمّ بالغ في دعوتهم إلى مبارزته و إظهار عدم المبالاة بهم بقوله: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ ذلك و مقصودكم هذا عَلَيْكُمْ غُمَّةً و مستورا، بل اجعلوه ظاهرا مكشوفا لعدم الدّاعي إلى ستره مع عدم خوفكم منّي، و استحالة هربي منكم عند اطّلاعي على تجمّعكم على قتلي. و قيل: إنّ المعنى: لا يكن أمركم و حالكم؛ الذي يعتريكم من كراهة مقامي و تذكيري عليكم، غمّة و كربة، بل عجلوا في تخليص أنفسكم بإهلاكي (3). و عن القمّي: لا تغتمّوا (4)ثُمَّ اُقْضُوا و أدّوا إِلَيَّ إهلاكي الذي تتوهّمون أنّه حقّي عليكم، أو المراد: أوصلوه إليّ وَ لا تُنْظِرُونِ و لا تمهلوني ساعة، بل عجّلوا بذلك غاية التّعجيل، فإنّي مع ثقتي باللّه و بحفظه إيّاي حسب وعده، أعلم أنّكم لن تجدوا إلى ذلك سبيلا.

ص: 267


1- . تفسير الرازي 17:137، تفسير روح البيان 4:66، تفسير أبي السعود 4:164.
2- . تفسير أبي السعود 4:164.
3- . تفسير أبي السعود 4:165.
4- . تفسير القمي 1:314، تفسير الصافي 2:411.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 72 الی 74

ثمّ بيّن أنّه لا علّة لإعراضهم عنه، و إرادتهم إهلاكه بقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم عنّي و عن نصحي و تذكيري، فقد فعلتم ما لا سبب له و لا باعث، فإن تخيّلتم أنّي أطمع في أموالكم فَما سَأَلْتُكُمْ بمقابل وعظي و تذكيري مِنْ أَجْرٍ و عوض تؤدّونه إليّ من أموالكم، حتّى يؤدّي ذلك إلى إعراضكم لثقله عليكم، أو لدلالته على أنّ قصدي من دعوتي طلب الدّنيا لا امتثال أمر اللّه، و اعلموا أنّ قصدي إطاعة أمر اللّه إِنْ أَجْرِيَ و ما عوض عملي إِلاّ عَلَى اَللّهِ لأنّ العمل له، و عوضه عليه، و هو لا يضيع أجر العاملين له، و إن لم تنفعكم دعوتي، و تولّيتم عن الإصغاء لكلامي، فإنّ عليّ العمل بما امرت به وَ أنا أُمِرْتُ من قبل عقلي أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ و المنقادين لأوامره، و لذا لا اخالف أمره، و لا أرجو الثّواب إلاّ منه.

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اَللّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ (74)و قيل: إنّ المعنى: و أمرت أن أكون من المستسلمين لما يصيبني من البلاء في طاعته (1).

فَكَذَّبُوهُ بعد إتمام الحجّة عليهم، و إيضاح المحجّة لهم، كتكذيبهم قبله، فلمّا ظهر أنّ تولّيهم ليس إلاّ من العتوّ و الطّغيان، فلا جرم حقّت عليهم كلمة العذاب فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ كان مَعَهُ من المؤمنين فِي اَلْفُلْكِ الذي صنعه بأمرنا، و كانوا ثمانين وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ في الأرض من الهالكين برحمتنا التي [هي]من شؤون الرّبوبيّة وَ أَغْرَقْنَا بالطّوفان الكفّار اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا غضبا عليهم بمقتضى جرائمهم الموبقة فَانْظُرْ يا محمّد، أو أيّها الإنسان، نظر التعجّب و الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُنْذَرِينَ و إلى مآل أمرهم. و فيه تهويل لما جرى عليهم، و تهديد لمكذّبي الرّسول و تسلية له.

ثُمَّ بَعَثْنا بالرّسالة مِنْ بَعْدِهِ و بعد انقضاء رسالته بالموت رُسُلاً كثيرة، عظيمة الشّأن إِلى قَوْمِهِمْ كهود إلى عاد، و صالح إلى ثمود، و إبراهيم إلى أهل بابل، و شعيب إلى أهل مدين، و غيرهم ممن قصّ أحوالهم أو لم يقصّ فَجاؤُهُمْ و أتوا بينهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات

ص: 268


1- . تفسير أبي السعود 4:165.

الباهرات، لا بأن يأتي كلّ رسول بمعجزة واحدة، بل لكلّ واحد منهم معجزات عديدة، خاصّة به حسب اقتضاء الحكمة البالغة فَما كانُوا هؤلاء الأقوام لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أن يروا المعجزات، و لم يرج منهم أن يصدّقوهم في رسالتهم التي أنكروها في أوّل بعثتهم، أو في عالم الذرّ، لشدّة إصرارهم على العتوّ و التمرّد و العناد للحقّ، و الطّبع على القلوب كَذلِكَ الطّبع المحكم نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الكفّار اَلْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن حدود العقل، المتجافين عن قبول الحقّ و سلوك طريق الرّشد، فلم يمكن إيمانهم بسوء اختيارهم و انهماكهم في الشّهوات و الضّلال.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ حكى سبحانه إرسال موسى عليه السّلام بعد اولئك، و معارضة قومه معه، و توكّله على اللّه بقوله: ثُمَّ بَعَثْنا بالرّسالة مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بن عمران وَ أخاه هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ و أشراف قومه بِآياتِنا التّسع، فأتياهم و بلغاهم الرّسالة فَاسْتَكْبَرُوا عن قبول قولهما و اتّباعهما وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ متمرّنين على العتوّ و الطّغيان، و معتادين لارتكاب العصيان، فلذا اجترأوا على تكذيبهما فَلَمّا جاءَهُمُ الآيات البيّنات التي كلّها اَلْحَقُّ الذي عرفوه مِنْ عِنْدِنا قالُوا عتوّا و عنادا: إِنَّ هذا الذي جاء به و سمّاه معجزة لَسِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة، لا مجال للشكّ فيه، فلا يجوز الاعتماد عليه في الإيمان بموسى و اتّباعه، و لا الاغترار به.

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ اَلسّاحِرُونَ (77)فلمّا كذّبوه و نسبوا ما أتى به من المعجزة الظّاهرة [إلى السحر] قالَ مُوسى للمكذّبين تعجّبا من قولهم، و توبيخا لهم: أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ الذي هو أبعد شيء من السّحر-الذي هو الباطل البحت-ما تقولون، أو تعيبونه و تطمّعون فيه لَمّا جاءَكُمْ و وقفتم عليه من غير تدبّر و تأمّل؟ !

ثمّ بالغ في توبيخهم بقوله: أَ سِحْرٌ هذا المعجز الذي إعجازه في غاية الظّهور، بحيث لا يمكن أن يرتاب فيه أحد؟ و كيف يمكن أن أكون من السّاحرين، وَ الحال أنّه لا يُفْلِحُ اَلسّاحِرُونَ و لا يفوزن بمطلوب، و لا ينجون من مكروه، مع أنّي ظافر بكلّ مطلوب و مصون من كلّ محذور؟

سوره 10 (يونس): آیه شماره 78 الی 82

ص: 269

ثمّ كأنّه قيل: ما قال فرعون و ملؤه لموسى في جوابه؟ فأجابهم سبحانه بقوله: قالُوا عجزا عن محاجّته: أَ جِئْتَنا يا موسى لِتَلْفِتَنا و تصرفنا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام، و تمنعنا من تقليدهم في الشّرك وَ تَكُونَ باتّباعنا لَكُمَا اَلْكِبْرِياءُ و السّلطنة و التفوّق علينا فِي تلك اَلْأَرْضِ و مملكة مصر وَ ما نَحْنُ لَكُما البتّة بِمُؤْمِنِينَ و بكما مصدّقين في دعوى النبوّة، و توحيد الإله، و لا نؤثر رئاستكما على رئاستنا. وَ قالَ فِرْعَوْنُ لخدمه و ملأه: اِئْتُونِي من كلّ ناحية بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بالسّحر، حاذق فيه، حتّى يعارضوا موسى بمثل ما أتى به، فذهب الخدمة و أتوا بهم فَلَمّا جاءَ اَلسَّحَرَةُ و وقفوا في مقابل موسى عليه السّلام لمعارضته قالَ لَهُمْ مُوسى إظهارا لعدم مبالاته بهم: أَلْقُوا أيّها السّحرة ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من الحبال و العصيّ فَلَمّا أَلْقَوْا حبالهم و عصيّهم، و استرهبوا النّاس بسحرهم قالَ مُوسى لهم و هو غير مكترث بهم و بعملهم: ما جِئْتُمْ بِهِ و ما صنعتموه هو اَلسِّحْرُ البيّن الذي يعرفه كلّ أحد، و اعلموا إِنَّ اَللّهَ سَيُبْطِلُهُ و يمحقه، بما يظهره على يدي من المعجزة، أو المراد أنّ اللّه يظهر بطلانه للنّاس و يفضح فاعله.

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِياءُ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَ قالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمّا جاءَ اَلسَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اَللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اَللّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ (82)ثمّ بيّن سبحانه علّة إبطاله بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يُصْلِحُ و لا يثبت على حاله عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ [سواء أ]كان سحرا أو غيره، لأنّه لا يرضى بالفساد في الأرض وَ يُحِقُّ اَللّهُ اَلْحَقَّ و يثبته و يديمه بِكَلِماتِهِ و مواعيده التي وعدها على لسان رسله، أو بما سبق من قضائه وَ لَوْ كَرِهَ ذلك اَلْمُجْرِمُونَ المصرّون على العصيان. و فيه تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 83 الی 86

ص: 270

«الذرّيّة» يعبّر [به]عن القوم على وجه التّحقير و التّصغير (1). و قيل: اريد بالذريّة أولاد من دعاهم، و أمّا الآباء فقد استمرّوا على الكفر (2). و قيل: اريد من «قومه» قوم فرعون: و هم آسية، و خازنة، و امرأة خازنة و ماشطتها، و مؤمن آل فرعون (1)-و على أي تقدير، كان إيمانهم عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ و قيل: إنّ ضمير الجمع راجع إلى فرعون لما يعتاد في ضمائر الأعاظم (2). و قيل: عبّر عن قوم فرعون باسمه (3). و قيل: إنّه راجع إلى الذرّيّة؛ لأن آباءهم كانوا يمنعونهم من الإيمان خوفا عليهم من فرعون (4)- أَنْ يَفْتِنَهُمْ و يعذّبهم وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ و غالب، أو متكبّر وعات فِي تلك اَلْأَرْضِ التي ملكها وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ في الظّلم و الفساد بتعذيب الضّعفاء، و سفك الدّماء، أو في الكبر و العتوّ حتّى ادّعى الربوبيّة، و استرقّ أبناء الأنبياء.

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ (83) وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (85) وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (86)وَ قالَ مُوسى للمؤمنين لمّا اشتدّ خوفهم من فرعون: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ عن صميم القلب، و عرفتموه بالقدرة الكاملة و الرّحمة و الرأفة فَعَلَيْهِ وحده تَوَكَّلُوا و اعتمدوا في حفظكم، و إن نزل بكم بلاء فاصبروا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ و مستسلمين لقضائه، راضين برضاه فَقالُوا مجيبين له من غير ريث إظهارا لكمال الإيمان و الخلوص: عَلَى اَللّهِ وحده تَوَكَّلْنا في جميع امورنا.

ثمّ قالوا متوجّهين إلى اللّه و متضرّعين إليه: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا بمقتضى ربوبيّتك و لطفك فِتْنَةً و مورد عذاب لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ أو لا تسلّطهم علينا فيفتنوننا عن دينك، أو يفتنوا بنا بتخيّلهم أنّنا لو كنّا على الحقّ ما أصابنا منهم ضرر. عنهما عليهما السّلام: «لا تسلّطهم [علينا]فتفتنهم بنا» (5)- وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ صحبة اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ و سوء جوارهم، أو من ظلمهم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 87

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار القوم إيمانهم و توكّلهم عليه و تضرّعهم إليه، أمر موسى و هارون باتّخاذ المساجد لهم، و الاهتمام بالصّلاة، و تبشير المؤمنين بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ هارون أَنْ تَبَوَّءا أو اتّخذا، أو هيّئا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً يسكنون فيها، و يرجعون إليها للعبادة وَ اِجْعَلُوا أنتما و قومكما بُيُوتَكُمْ تلك قِبْلَةً و مصلّى، أو مساجد متوجّهة إلى القبلة-عن

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (87)

ص: 271


1- . تفسير الرازي 17:144، تفسير البيضاوي 1:444.
2- . تفسير البيضاوي 1:444.
3- . تفسير الرازي 17:145.
4- . تفسير أبي السعود 4:170.
5- . مجمع البيان 5:193، تفسير الصافي 2:414.

ابن عبّاس: كانت الكعبة قبلة موسى (1). و من غيره: كانت قبلته جهة بيت المقدس (2). و قيل: يعني: اجعلوا بيوتكم متقابلة، و المقصود حصول الجمعيّة، و تعاضد بعضهم ببعض (3). و قيل يعني: صلّوا في بيوتكم لئلاّ يظهر عليكم الكفّار فيؤذوكم و يفتنوكم عن دينكم (4). و قيل يعني: استقبلوا البيوت لأجل الصّلاة (1)وَ أَقِيمُوا جميعا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ يا موسى اَلْمُؤْمِنِينَ بالنّصرة في الدّنيا إجابة لدعائكم، و بالجنّة في الآخرة.

و إنّما خاطب سبحانه خصوص موسى و هارون في اتّخاذ المساجد لأنّه وظيفة الرّؤساء، و خاطب الكلّ في الأمر بجعل البيوت مساجد و الصّلاة فيها، لأنّه وظيفة الكلّ، و خاطب موسى في الأمر بالبشارة لأنّه وظيفة الرّسول.

عن العيّاشي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطب النّاس فقال: أيّها «النّاس، إنّ اللّه عزّ و جلّ أمر موسى و هارون أن يبنيا لقومهما بمصر بيوتا، و أمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب، و لا يقرب فيه النّساء إلاّ هارون و ذريّته، و إنّ عليّا منّي بمنزلة هارون من موسى، فلا يحلّ لأحد أن يقرب النّساء في مسجدي، و لا يبيت فيه جنب، إلاّ عليّ و ذريّته، فمن ساءه ذلك فهاهنا» . فضرب (2)بيده نحو الشام (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 88 الی 89

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر موسى ببشارة المؤمنين بالنّصر و الغلبة على الأعداء إجابة لدعائهم، حكى دعاء موسى عليه السّلام على الكفّار بعد بيان سبب طغيانهم بقوله: وَ قالَ مُوسى غضبا على فرعون و قومه: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ و أعطيت فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً و مفاخر كثيرة؛ كالجمال و القوّة و الشّوكة و نظائرها وَ أَمْوالاً وفيرة فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فألهتهم تلك الزّينة و الأموال عن ذكرك و ذكر الآخرة، فاشتغلوا بإضلال عبادك، كأنّك رَبَّنا أعطيتهم تلك لِيُضِلُّوا النّاس عَنْ سَبِيلِكَ و يصرفوهم عن تصديق رسولك و اتّباع دينك.

وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)

ص: 272


1- . تفسير الرازي 17:147.
2- . في المصدر: و أشار.
3- . تفسير العياشي 2:283/1974، تفسير الصافي 2:414.

و عن القمّي: يفتنون النّاس بالأموال ليعبدوهم و لا يعبدونك (1). و قيل: إنّ الكلام على سبيل التعجّب المقرون بالإنكار، و المعنى: آتيتهم ذلك ليضلّوا. و قيل: إنّ لِيُضِلُّوا دعاء عليهم كما يقال: ليغفر اللّه للمؤمنين و ليعذّب الكافرين (2). و قيل: إنّ اللاّم للعاقبة (3)، و المعنى: صار عاقبة إحسانك إليهم إضلالهم.

رَبَّنَا اِطْمِسْ و أورد الهلاك، أو التّغيير عَلى أَمْوالِهِمْ حتى لا ينتفعوا بها وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ و أقسها فَلا يُؤْمِنُوا بشيء من الحقّ حَتّى يَرَوُا و يعاينوا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ في الدّنيا، أو في الآخرة، فلا ينفعهم الإيمان إذ ذاك.

عن ابن عبّاس: أنّ موسى كان يدعو، و هارون كان يؤمّن (4).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «دعا موسى و أمّن هارون و أمّنت الملائكة قالَ اللّه تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما و من غزا في سبيل اللّه استجيب له كما استجيب لكما يوم القيامة (5).

و عن ابن عبّاس: بلغنا أنّ الدّراهم و الدّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها (6).

فَاسْتَقِيما و أثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة و لا تستعجلا، فإنّ ما طلبتما كائن و لكن في وقته وَ لا تَتَّبِعانِّ و لا تسلكا سَبِيلَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ و طريق الجهّال في الاستعجال، و عدم الوثوق بوعد اللّه، أو لا يعلمون أنّ عادة اللّه تعليق الأمور بالحكم و المصالح.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 90

ثمّ أخبر سبحانه بإنجازه وعده لموسى و المؤمنين بالنّصر، و كيفيّة إهلاك فرعون و قومه بقوله: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ و عبّرناهم اَلْبَحْرَ بتجفيفه و حفظهم، حتّى خرجوا منه إلى السّاحل فَأَتْبَعَهُمْ و لحقهم فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ و ذهبوا في أثرهم ليرتكبوا بَغْياً و ظلما عليهم، أو إفراطا في قتلهم وَ عَدْواً و تجاوزا في ظلمهم، أو المعنى: حال كونهم باغين في القول، عادين في الفعل، و ذلك أنّ موسى عليه السّلام لمّا خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون، سمع بخروجهم فرعون و تبعهم حتّى وصل إلى ساحل البحر، و بنو إسرائيل خرجوا منه و مسلكهم باق على حاله يبسا، فسلكه بجنوده أجمعين، فلمّا دخلوا في مسلكهم الذي كان في البحر غشيهم من اليمّ ما غشيهم.

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (90)

ص: 273


1- . تفسير القمي 1:315، تفسير الصافي 2:415.
2- . تفسير الرازي 17:150.
3- . تفسير أبي السعود 4:172.
4- . تفسير الرازي 17:152.
5- . الكافي 2:370/8، تفسير الصافي 2:415.
6- . تفسير الرازي 17:152.

عن العيّاشي مرفوعا: «لمّا صار موسى عليه السّلام في البحر أتبعه فرعون و جنوده، قال: فتهيّب فرس فرعون أن يدخل البحر، فتمثّل له جبرئيل على رمكة (1)، فلمّا رأى فرس فرعون الرّمكة أتبعها فدخل في البحر هو و أصحابه فغرقوا» (2).

حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ و وصل به اَلْغَرَقُ و عاين الموت قالَ إلجاء و اضطرارا آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ و أخلصت له ديني كما أخلصوا له دينهم وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ و المنقادين له كما هم كذلك. و إنّما أظهر تبعيّته لهم في الإيمان رجاء أن يكون تبعا لهم في النّجاة.

قيل: كرّر المعنى الواحد بثلاث عبارات، حيث قال أوّلا: آمَنْتُ، ثمّ قال: لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، ثمّ قال: أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ حرصا على القبول المفضي إلى النّجاة (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 91 الی 92

ثمّ وبّخه اللّه سبحانه على تأخيره الإيمان إلى وقت لا نفع له بقوله: آلْآنَ و هل في هذا الوقت الذي لا ينفعك الإيمان فيه تؤمن و تتوب وَ قَدْ عَصَيْتَ ربّك قَبْلُ و في زمان ينفعك فيه الإيمان و التّوبة وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض، المبالغين في الضّلال و الإضلال؟ و فيه غاية التّوبيخ و التّقريع.

آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)عن الصادق عليه السّلام: «ما أتى جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ كئيبا حزينا، و لم يزل كذلك منذ أهلك اللّه فرعون، فلمّا أمره اللّه بنزول هذه الآية آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ نزل عليه و هو ضاحك مستبشر، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أتيتني يا جبرئيل إلاّ و قد تبيّن الحزن في وجهك حتّى السّاعة؟ قال: نعم يا محمّد، لمّا أغرق اللّه فرعون قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فأخذت حمأة (4)فوضعتها في فمه، ثمّ قلت له: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ و عملت ذلك من غير أمر اللّه، ثمّ خفت أن تلحقه الرّحمة من اللّه و يعذّبني اللّه على ما فعلت، فلمّا كان الآن و أمرني اللّه أن اودّي إليك ما قلته لفرعون، آمنت و علمت أنّ ذلك كان للّه تعالى رضا» (5).

أقول: في الرّواية بنظري إشكالات لا مجال لذكرها، و إنّما يسهّل الخطب أنّها من الآحاد التي لا

ص: 274


1- . الرّمكة: أنثى الفرس تتّخذ للنّسل.
2- . تفسير العياشي 2:284/1975، تفسير الصافي 2:416.
3- . تفسير أبي السعود 4:173.
4- . الحمأ: الطين الأسود المنتن، و القطعة منه: حمأة.
5- . تفسير القمي 1:316، تفسير الصافي 2:416.

توجب علما و لا عملا.

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل: لأيّ علّة أغرق اللّه فرعون و قد آمن به، و أقرّ بتوحيده؟ قال: «لأنّه آمن عند رؤية البأس، و الإيمان عند رؤية البأس غير مقبول، و ذلك حكم اللّه تعالى ذكره في السّلف و الخلف» . الخبر (1).

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ و ننقذك من البحر بِبَدَنِكَ و جثّتك بعد موتك، و نلقي جيفتك الخبيثة على نجوة من الأرض، ليتيقّن بنو إسرائيل بعد رؤيتك هالكا بإنجاز اللّه وعده إيّاهم بهلاكك، كما عن القمّي: أخبر موسى عليه السّلام بني إسرائيل أنّ اللّه قد أغرق فرعون فلم يصدّقوه، فأمر اللّه عزّ و جلّ البحر فلفظ به على الساحل حتّى رأوه ميّتا (2).

لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ و بقي بعدك من القائلين بالوهيّتك و ربوبيّتك آيَةً و دليلا على نهاية عجزك؛ كما قيل: أراد اللّه أن يشاهده الخلق على الذلّ و المهانة، بعد ما سمعوا منه قوله: أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى لينزجروا عن مثله (3).

قيل: تخصيصه من بين المغرقين بهذه الحالة العجيبة، آية عظيمة على كمال قدرته تعالى، و على صدق موسى عليه السّلام (4).

عن الرضا عليه السّلام في رواية: «و أمّا فرعون فنبذه اللّه وحده و ألقاه بالسّاحل لينظروا إليه و ليعرفوه، ليكون لمن خلفه آية، و لئلاّ يشكّ أحد في هلاكه، إنّهم كانوا اتّخذوه ربّا، فأراهم اللّه إيّاه جيفة ملقاة على السّاحل، ليكون لمن خلفه عبرة و موعظة» (5).

و عنه عليه السّلام: «أنّه كان من قرنه إلى قدمه في الحديد قد لبسه على بدنه، فلمّا غرق ألقاه اللّه تعالى على نجوة من الأرض [ببدنه]، ليكون لمن بعده علامة فيرونه مع ثقله بالحديد على مرتفع من الأرض، و سبيل الثّقيل أن يرسب و لا يرتفع» (6).

و عن ابن عبّاس: كان عليه درع من ذهب يعرف بها، فأخرجه اللّه [من الماء]مع ذلك الدّرع ليعرف (7).

ثمّ وبّخ سبحانه النّاس على إعراضهم عن الآيات بقوله: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ

ص: 275


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:77/7، تفسير الصافي 2:417.
2- . تفسير القمي 1:316، تفسير الصافي 2:417.
3- . تفسير الرازي 17:157.
4- . تفسير الرازي 17:157.
5- . تفسير القمي 1:316 و تفسير الصافي 2:418 عن الباقر عليه السّلام.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:78/7، تفسير الصافي 2:417.
7- . تفسير الرازي 17:157.

لا يتفكّرون فيها، و لا يعتبرون بها مع وفورها.

عن الصادق عليه السّلام: «كان بين قول اللّه: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما، و بين أخذ فرعون أربعون سنة» (1).

عن الباقر عليه السّلام: «أملى اللّه لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة، ثمّ أخذه اللّه نكال الآخرة و الاولى، و كان بين أن قال اللّه لموسى و هارون: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما و بين أن عرّفهما اللّه الإجابة أربعون سنة» (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 93

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر غضبه على فرعون بالغرق و الإهلاك، بيّن رحمته على بني إسرائيل بقوله: وَ لَقَدْ بَوَّأْنا و أسكنّا بَنِي إِسْرائِيلَ بعد إنجائهم من ظلم فرعون، و إهلاك أعدائهم مُبَوَّأَ صِدْقٍ و منزلا صالحا مرضيا، و مسكنا محمودا؛ و هو الشّام و مصر وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ كالمنّ و السّلوى، و الأثمار اللّذيذة فَمَا اِخْتَلَفُوا في امور دينهم حَتّى جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بصحّة جميعها، و الاطّلاع بسبب تلاوة التّوراة على جميع الشرائع و الأحكام، و وجوب التّوحيد و اتّحاد الكلمة.

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)عن ابن عبّاس: المراد ببني اسرائيل بني قريظة، و بني النّضير، و بني قينقاع، الّذين كانوا في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنزلهم اللّه بين المدينة و الشّام من أرض يثرب، و رزقهم من الرّطب و التّمر الّذي لا يوجد مثله في البلاد، فما اختلفوا في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلاّ من بعد ما علموا صدقه، فآمن به بعضهم كعبد اللّه بن سلام و أضرابه، و كفر به آخرون. و المراد بالعلم: القرآن العظيم (3).

ثمّ وعد سبحانه المؤمنين، و أوعد الكافرين منهم بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد يَقْضِي و يحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإثابة المؤمنين، و تعذيب الكافرين.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 94 الی 95

ص: 276


1- . تفسير العياشي 2:284/1975، بحار الأنوار 13:140/55.
2- . الخصال:539/11، بحار الأنوار 13:128/29.
3- . تفسير روح البيان 4:79 عن ابن عباس.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اختلاف بني إسرائيل في امور الدّين، بيّن إعجاز القرآن بكونه موافقا للكتب السّماويّة، مع كون من أتى به اميّا؛ بقوله مخاطبا لرسوله صلّى اللّه عليه و آله في الظّاهر، و لامّته في الواقع: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القصص التي من جملتها قصّة موسى و فرعون، و إنجاء بني إسرائيل و إسكانهم الأرض المقدّسة فَسْئَلِ عن صحّتها العلماء اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتابَ السّماوي النّازل مِنْ قَبْلِكَ و من قبل كتابك؛ كعبد اللّه بن سلام و تميم الدّاري و أضرابهما من علماء أهل الكتاب، فإنّ جميع ما نزل عليك محقّق عندهم، ثابت في كتبهم.

و قيل: إنّ الخطاب في الظّاهر و الواقع للرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و لا يستلزم القضيّة الشرطية إمكان تحقّق مقدّمها، بل تصحّ مع امتناعه و امتناع جزائه؛ كقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعابِدِينَ (1). فلا دلالة في الآية على إمكان وجود الشكّ للرّسول.

و قيل: إنّ الخطاب لكلّ من يسمع، و المعنى: إن كنت أيّها الإنسان أو السّامع في شكّ (2).

و عن الهادي عليه السّلام أنّه سأله أخوه موسى عن هذه الآية، حين كتب إليه يحيى بن أكثم يسأله عن مسائل فيها: أخبرني من المخاطب بالآية، فإن كان المخاطب هو النبي صلّى اللّه عليه و آله فليس قد شكّ (3)، و إن كان المخاطب غيره؛ فعلى غيره إذن انزل الكتاب؟ قال موسى: فسألت أخي-عليّ بن محمّد عليهما السّلام-عن ذلك، فقال: «المخاطب بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكن في شكّ ممّا أنزل اللّه (4)، و لم يكن يسأل، و لكن ليتّبعهم كما قال تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ (5)، و كذلك عرف النبيّ أنّه صادق فيما يقول، و لكن أحبّ أن ينصف من نفسه» (6).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا أشكّ و لا أسأل» (7).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام: «لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى السّماء و اوحى [اللّه]إليه في عليّ عليه السّلام ما اوحى من شرفه و من عظمته عند اللّه، ورد إلى البيت المعمور، و جمع له النبيّين و صلّوا خلفه، عرض في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من عظم ما اوحي إليه في عليّ عليه السّلام، فأنزل اللّه فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: الأنبياء، فقد أنزلنا إليهم في

ص: 277


1- . الزخرف:43/81.
2- . تفسير روح البيان 4:80.
3- . زاد في تفسير العياشي: فيما أنزل اللّه.
4- . هناك كلام طويل في المصدر أسقطه المؤلف للاختصار، و أبدله بعبارة (و لم يكن يسأل) .
5- . آل عمران:3/61.
6- . تفسير العياشي 2:284/1977، علل الشرائع:129/1، تفسير الصافي 2:419.
7- . علل الشرائع:130/2، تفسير الصافي 2:419.

كتبهم في فضله ما أنزلنا في كتابك. إلى أن قال: فو اللّه، ما شكّ و ما سأل» (1).

ثمّ أكّد سبحانه صدق ما أخبر به بقوله: لَقَدْ جاءَكَ اَلْحَقُّ الذي لا مجال للرّيب فيه مِنْ رَبِّكَ لظهور حقّانيّته بالآيات الباهرة و الحجج القاطعة، فإذا علمت أنّ ما انزل إليك موافق لما في سائر الكتب السماويّة، و لا يمكن أن يكون ما أخبر به ربّك مخالفا للواقع فَلا تَكُونَنَّ البتة مِنَ اَلمُمْتَرِينَ و الشاكّين فيه، بل دم على ما أنت عليه من اليقين كما كنت من قبل.

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن الشكّ، و بيان طريق تحصيل اليقين للنّاس، أعلن بغاية قبح التّكذيب به بالنّهي عنه من لا يتصوّر في حقّه إمكان صدوره منه بقوله: وَ لا تَكُونَنَّ البتّة مِنَ الكفّار اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ فَتَكُونَ مع عظم قدرك، و علوّ مقامك، و غاية قربك إلى ربّك مِنَ اَلْخاسِرِينَ في الدّنيا و الآخرة أنفسا و أعمالا، و من المكذّبين عقوبة و نكالا بذلك التّكذيب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 96 الی 97

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن الشكّ في نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة دينه، و صدق ما أخبر به في كتابه، و التّنبيه على طريق إزالة الشكّ لو فرض وجوده، و تحصيل اليقين، و بيان غاية قبح التّكذيب بآيات اللّه و التّهديد عليه بغاية الخسران في الدّارين، بيّن شدّة إصرار جماعة من الكفّار مع ذلك على كفرهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ و ثبتت عَلَيْهِمْ في اللّوح المحفوظ كَلِمَتُ رَبِّكَ و حكمه بأن يبقوا على الكفر و يخلّدوا في العذاب لا يُؤْمِنُونَ بك و بكتابك أبدا وَ لَوْ جاءَتْهُمْ من قبل ربّك كُلُّ آيَةٍ و معجزة اقترحوها، بل يصرّون على الكفر حَتّى يَرَوُا في الدّنيا، أو بعد الموت اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ و حينئذ لا ينفعهم الإيمان، كما لم ينفع فرعون و أضرابه.

إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ (97)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 98

ثمّ لامهم و وبّخهم سبحانه بقوله: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ من القرى، و أهالي بلدة من البلدان آمَنَتْ قبل رؤية العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله اللّه منها، و يكشف بسببه العذاب عنها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ بن متّى فإنّهم من بين أهل القرى مخصوصون بهذا الإيمان النّافع بعد التّكذيب. و قيل:

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

ص: 278


1- . تفسير القمي 1:316، تفسير الصافي 2:419.

إن الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكنّ قوم يونس. لَمّا آمَنُوا حين رأوا أمارات العذاب، و بادروا إلى التّوبة كَشَفْنا و دفعنا عَنْهُمْ بإيمانهم عَذابَ الاستئصال الموقع لهم في اَلْخِزْيِ و الهوان و الفضيحة و نجّيناهم منه فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا لكون إيمانهم في وقت الاختيار و بقاء التّكليف وَ مَتَّعْناهُمْ متاع الدّنيا بعد كشف العذاب عنهم إِلى حِينٍ و زمان قدّرناه لهم في علمنا.

روت العامّة: أنّ يونس عليه السّلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذّبوه، فذهب عنهم مغاضبا، فلمّا فقدوه خافوا نزول العذاب، فلبسوا المسوح و عجّوا أربعين ليلة، و كان يونس قال لهم: إنّ أجلكم أربعون ليلة، فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنّا بك. فلمّا مضت خمس و ثلاثون ليلة ظهر في السّماء غيم أسود شديد السّواد، فظهر منه دخان شديد، و هبط ذلك الدّخان حتّى وقع في المدينة و سوّد سطوحهم، فخرجوا إلى الصحراء، و فرّقوا بين النّساء و الصّبيان، و بين الدّواب و أولادها، فحنّ بعضها إلى بعض، فعلت الأصوات و كثرت التضرّعات، و أظهروا الإيمان و التّوبة، و تضرّعوا إلى اللّه تعالى، فرحمهم و كشف عنهم، و كان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة (1).

و عن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ردّوا المظالم، حتّى إنّ الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه، فيردّه إلى مالكه (2).

عن الفضل بن عبّاس: أنّهم قالوا: إنّ ذنوبنا قد عظمت و جلّت، و أنت أعظم منها و أجلّ، افعل بنا ما أنت أهله، و لا تفعل بنا ما نحن أهله (3).

و قيل: إنّهم خرجوا إلى شيخ من بقيّة علمائهم، فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، و يا حيّ يا محيي الموتى، و يا حيّ لا إله إلا أنت. فقالوا، فكشف اللّه عنهم العذاب (4).

في قصة نزول

العذاب على قوم

يونس و رفعه بالتوبة

و عن الباقر عليه السّلام يقول: «[وجدنا في بعض]كتب أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنّ جبرئيل حدّثه أنّ يونس بن متّى عليه السّلام بعثه اللّه إلى قومه و هو ابن ثلاثين سنة، و كان رجلا تعتريه الحدّة، و كان قليل الصّبر على قومه و المداراة لهم، عاجزا عمّا حمّل من ثقل حمل أوقار النبوّة و أعلامها، و إنّه تفسّخ تحتها كما يتفسّخ الجذع تحت حمله، و إنّه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان باللّه و التصديق به و اتّباعه ثلاثا و ثلاثين سنة، فلم يؤمن به و لم يتبعه من قومه إلاّ رجلان؛ اسم أحدهما روبيل، و اسم الآخر تنوخا، و كان روبيل من أهل بيت العلم و النبوّة و الحكمة، و كان قديم الصّحبة ليونس بن متّى من قبل أن يبعثه اللّه بالنّبوّة، و كان تنوخا

ص: 279


1- . تفسير الرازي 17:165.
2- . تفسير الرازي 17:165.
3- . تفسير الرازي 17:165.
4- . تفسير الرازي 17:165.

رجلا مستضعفا عابدا زاهدا منهمكا في العبادة، و ليس له علم و لا حكم، و كان روبيل صاحب غنم يرعاها و يتقوّت منها، و كان تنوخا رجلا حطّابا يحتطب على رأسه و يأكل من كسبه، و كان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا؛ لعلم روبيل و حكمته و قديم صحبته.

فلمّا رأى يونس عليه السّلام أنّ قومه لا يجيبونه و لا يؤمنون، ضجر و عرف من نفسه قلّة الصّبر، فشكا ذلك إلى ربّه، و كان فيما شكا أن قال: يا ربّ إنّك بعثتني إلى قومي ولي ثلاثون سنة، فلبثت فيهم أدعوهم إلى الايمان بك و التّصديق برسالتي، و اخوّفهم عذابك و نقمتك ثلاثا و ثلاثين سنة، فكذّبوني و لم يؤمنوا بي، و جحدوا نبوّتي و استخفّوا برسالتي، و قد توعّدوني و خفت أن يقتلوني، فانزل عليهم عذابك فإنّهم قوم لا يؤمنون.

قال: فأوحى اللّه إلى يونس: إنّ فيهم الحمل و الجنين، و الطّفل و الشّيخ الكبير، و المرأة الضعيفة و المستضعف المهين، و أنا الحكم العدل، سبقت رحمتي غضبي، لا اعذّب الصّغار بذنوب الكبار من قومك، و هم يا يونس عبادي و خلقي، و بريّتي في بلادي، و في عيلتي، احبّ أن أتأنّاهم و أرفق بهم و انتظر توبتهم، و إنّما بعثتك إلى قومك لتكون حفيظا عليهم، تعطف عليهم بسجال (1)الرّحمة الماسّة منهم، و تأنّاهم برأفة النبوّة، و تصبر عليهم بأحلام الرّسالة، و تكون لهم كهيئة الطيب المداري العالم بمداراة الدّاء (2)، فحرّجت (3)بهم و لم تستعمل قلوبهم بالرّفق، و لم تسسهم بسياسة المرسلين. ثم سألتني عن سوء نظرك العذاب لهم عند قلّة الصبر منك، و عبدي نوح كان أصبر منك على قومه، و أحسن صحبة، و أشدّ تأنّيا في الصّبر عندي، و أبلغ في العذر، فغضبت له حين غضب لي، و أجبته حين دعاني.

فقال يونس: يا ربّ، إنّما غضبت عليهم فيك، و إنّما دعوت عليهم حين عصوك، فو عزّتك لا أتعطّف عليهم برأفة أبدا، و لا أنظر إليهم بنصيحة شفيق بعد كفرهم و تكذيبهم إيّاي و جحدهم نبوّتي، فأنزل عليهم عذابك، فإنّهم لا يؤمنون أبدا.

فقال اللّه تعالى: يا يونس، إنّهم مائة ألف أو يزيدون من خلقي، يعمرون بلادي و يلدون عبادي، و محبّتي أن أتأنّاهم للذي سبق [من]علمي فيهم و فيك، و تقديري و تدبيري غير علمك و تقديرك، و أنت المرسل و أنا الربّ الحكيم، و علمي فيهم يا يونس باطن في الغيب عندي لا يعلم ما منتهاه،

ص: 280


1- . السّجال: جمع سجل، و هي الدلو العظيمة المملوءة، و المراد هنا: المقدار العظيم من الرحمة.
2- . في تفسير العياشي: المداوي العالم بمداواة الدواء.
3- . في تفسير العياشي: فخرقت، و معنى حرّج به: ضيّق عليه، و خرق به: لم يرفق به، و لم يحسن معاملته.

و علمك فيهم ظاهر لا باطن له.

يا يونس، قد أجبتك إلى ما سألت من إنزال العذاب عليهم، و ما ذلك يا يونس بأوفر لحظّك عندي، و لا أحمد (1)لشأنك، و سيأتيهم عذاب في شوّال يوم الأربعاء وسط الشّهر بعد طلوع الشّمس، فأعلمهم ذلك. فسرّ [ذلك]يونس و لم يسؤه، و لم يدر ما عاقبته.

فانطلق يونس عليه السّلام إلى تنوخا العابد فأخبره بما اوحي إليه من نزول العذاب على قومه في ذلك اليوم، و قال له: انطلق حتّى اعلمهم بما أوحى اللّه إليّ من نزول العذاب، فقال تنوخا: فدعهم في غمرتهم و معصيتهم حتى يعذّبهم [اللّه]. فقال له يونس: [بل]نلقى روبيل فنشاوره، فإنّه رجل عالم حكيم من أهل بيت النبوّة، فانطلقا إلى روبيل، فأخبره يونس بما أوحى اللّه إليه من نزول العذاب على قومه في شوّال يوم الأربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشّمس، فقال له: ما ترى، انطلق بنا حتّى اعلمهم ذلك؟

فقال له روبيل: ارجع إلى ربّك رجعة نبيّ حكيم، و رسول كريم، و اسأله أن يصرف عنهم العذاب، فإنّه غنيّ عن عذابهم، و هو يحبّ الرّفق بعباده، و ما ذلك بأضرّ لك عنده، و لا أسوأ لمنزلتك لديه، و لعلّ قومك بعد ما سمعت و رأيت من كفرهم و جحودهم يؤمنون يوما، فصابرهم و تأنّاهم.

فقال له تنوخا: ويحك يا روبيل، ما أشرت على يونس و أمرته [به]بعد كفرهم باللّه، و جحدهم لنبيّه، و تكذيبهم إيّاه، و إخراجهم إيّاه من مساكنه، و ما همّوا به من رجمه.

فقال روبيل لتنوخا: اسكت، فإنّك رجل عابد لا علم لك.

ثمّ أقبل إلى يونس عليه السّلام فقال: أرايت يا يونس إذا أنزل اللّه العذاب على قومك، أفيهلكهم جميعا أو يهلك بعضا و يبقي بعضا؟ فقال له يونس: بل يهلكهم جميعا؛ و كذلك سألته، ما دخلتني لهم رحمة تعطّف، اراجع اللّه فيهم و أسأله أن يصرف عنهم. فقال له روبيل: أتدري يا يونس، لعلّ اللّه [إذا]أنزل عليهم العذاب فأحسّوا به، أن يتوبوا إليه و يستغفروا، فيرحمهم اللّه فإنّه أرحم الرّاحمين، و يكشف عنهم العذاب من بعد ما أخبرتهم عن اللّه تعالى أنّه ينزل عليهم العذاب يوم الأربعاء، فتكون بذلك عندهم كذّابا.

فقال له تنوخا: ويحك يا روبيل، لقد قلت عظيما، يخبرك النبيّ المرسل أنّ اللّه أوحى إليه أنّ العذاب ينزل عليهم، فتردّ قول اللّه، و تشكّ فيه و في قول رسوله، اذهب فقد حبط عملك.

فقال روبيل لتنوخا: لقد فسد رأيك.

ص: 281


1- . في تفسير العياشي: أجمل.

ثمّ أقبل إلى يونس عليه السّلام فقال: أنزل الوحي و الأمر من اللّه فيهم على ما انزل عليك فيهم من إنزال العذاب عليهم؟ و قوله الحقّ، أرايت إذا كان ذلك فهلك قومك كلّهم، و خربت قريتهم، أ ليس يمحو اللّه اسمك من النبوّة و تبطل رسالتك، و تكون كبعض ضعفاء النّاس، و يهلك على يديك مائة ألف (1)من النّاس؟

فأبى يونس عليه السّلام أن يقبل وصيّته، فانطلق و معه تنوخا إلى قومه، فأخبرهم أنّ اللّه أوحى إليه أنّه منزل العذاب عليهم يوم الأربعاء في شوّال في وسط الشهر بعد طلوع الشّمس، فردّوا عليه قوله [و كذّبوه] و أخرجوه من قريتهم إخراجا عنيفا.

فخرج يونس عليه السّلام و معه تنوخا من القرية، و تنحّيا عنهم غير بعيد، و أقاما ينتظران العذاب، و أقام روبيل مع قومه في قريتهم، حتّى إذا دخل عليهم شوّال صرخ روبيل بأعلى صوته في رأس الجبل إلى القوم: أنا روبيل الشّفيق عليكم، الرّحيم بكم، قد أنكرتم عذاب اللّه، هذا شوال قد دخل عليكم، و قد أخبركم يونس نبيّكم و رسول ربّكم أنّ اللّه أوحى إليه أنّ العذاب ينزل بكم في شوّال في وسط الشهر يوم الأربعاء بعد طلوع الشمس، و لن يخلف اللّه وعده رسله، فانظروا ما ذا أنتم صانعون. فأفزعهم كلامه فوقع في قلوبهم تحقيق نزول العذاب، فأقبلوا نحو روبيل و قالوا له: ماذا أنت مشير به علينا يا روبيل؟ فإنّك رجل عالم حكيم، لم نزل نعرفك بالرقّة علينا و الرّحمة لنا، و قد بلغنا ما أشرت به على يونس [فينا]، فمرنا بأمرك و أشر علينا برأيك.

فقال لهم روبيل: إنّي أرى لكم و أشير عليكم أن تنظروا و تعمدوا إذا طلع الفجر يوم الأبعاء في وسط الشهر، أن تعزلوا الأطفال عن الامّهات في أسفل الجبل في طريق الأودية، و توقفوا النساء في سفح الجبل، و يكون هذا كلّه قبل طلوع الشّمس، [فإذا رأيتم ريحا صفراء أقبلت من المشرق]فعجّوا عجيجا، الكبير منكم و الصغير بالصّراخ و البكاء و التضرّع إلى اللّه، و التّوبة إليه و الاستغفار له، و ارفعوا رؤوسكم إلى السّماء و قولوا: ربّنا ظلمنا أنفسنا، و كذّبنا نبيّك، و تبنا إليك من ذنوبنا، و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكوننّ من الخاسرين المعذّبين [فأقبل توبتنا]و ارحمنا يا أرحم الرّاحمين. ثمّ لا تملّوا من البكاء و الصّراخ و التضرّع إلى اللّه و التّوبة إليه، حتى توارى الشّمس بالحجاب، أو يكشف اللّه عنكم العذاب قبل ذلك. فأجمع رأي القوم جميعا على أن يفعلوا ما أشار به عليهم روبيل.

فلمّا كان يوم الأربعاء الذي توقّعوا العذاب، تنحّى روبيل عن القرية حيث يسمع صراخهم و يرى العذاب إذا نزل، فلمّا طلع الفجر يوم الأربعاء فعل قوم يونس ما أمرهم روبيل به، فلمّا بزغت الشّمس

ص: 282


1- . زاد في العياشي: أو يزيدون.

أقبلت ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير و حفيف [و هدير]، فلمّا رأوها عجّوا جميعا بالصّراخ و البكاء و التضرّع إلى اللّه، و تابوا و استغفروا، و صرخت الأطفال بأصواتها تطلب امّهاتها، و عجّت سخال البهائم تطلب الثّدي، و ثغت (1)الأنعام تطلب الرّعي، فلم يزالوا بذلك، و يونس و تنوخا يسمعان صيحتهم و صراخهم، و يدعوان اللّه بتغليظ العذاب عليهم، و روبيل في موضعه يسمع صراخهم و عجيجهم و يرى ما نزل، و هو يدعو اللّه بكشف العذاب عنهم.

فلمّا أن زالت الشمس، و فتحت أبواب السّماء، و سكن غضب الربّ تعالى، رحمهم الرّحمن، و استجاب دعاءهم و قبل توبتهم، و أقالهم عثرتهم. و أوحى إلى إسرافيل أن اهبط إلى قوم يونس فإنّهم عجّوا إليّ بالبكاء و التضرّع، و تابوا إليّ و استغفروني، فرحمتهم و تبت عليهم، و أنا اللّه التّواب الرّحيم، أسرع إلى قبول توبة عبدي التائب من الذّنب، و قد كان عبدي يونس و رسولي سألني نزول العذاب على قومه و قد أنزلته عليهم، و أنا اللّه أحقّ من وفى بعهده، و لم يكن اشترط يونس عليه السّلام حين سألني أن انزل عليهم العذاب أن اهلكهم. فاهبط إليهم و اصرف عنهم ما نزل بهم من عذابي.

فقال إسرافيل: يا ربّ، إنّ عذابك بلغ اكتافهم و كاد أن يهلكهم، و ما أراه إلاّ و قد نزل بساحتهم، فإلى أين أصرفه؟

فقال اللّه: كلا، إنّي قد أمرت ملائكتي أن يصرفوه و لا ينزلوه عليهم، حتّى يأتيهم أمري فيهم و عزيمتي، فاهبط يا إسرافيل عليهم و اصرفه عنهم، و اصرف به الى الجبال و ناحية مفاض (2)العيون و مجاري السّيول، في الجبال العاتية العادية المستطيلة على الجبال، فأذلّها به وليّنها حتّى تصير ملتئمة حديدا جامدا. فهبط إسرافيل فنشر أجنحته، فاستاق بها ذلك العذاب حتّى ضرب بها تلك الجبال التي أوحى اللّه إليه أن يصرفه إليها» .

قال أبو جعفر عليه السّلام: «و هي الجبال التي بناحية الموصل اليوم، فصارت حديدا إلى يوم القيامة.

فلمّا رأى قوم يونس أن العذاب قد صرف عنهم، هبطوا إلى منازلهم من رؤس الجبال، و ضمّوا إليهم نساءهم و أولادهم و أموالهم، و حمدوا اللّه على ما صرف عنهم. و أصبح يونس و تنوخا يوم الخميس في موضعهما الذي كانا فيه، لا يشكّان أنّ العذاب قد نزل بهم و أهلكهم جميعا لمّا خفيت أصواتهم عنهما، فأقبلا ناحية القرية يوم الخميس مع طلوع الشّمس ينظران إلى ما صار إليه القوم، فلمّا دنوا من القوم و استقبلتهم الحطّابون و الحمّارة (3)و الرّعاة بأغنامهم، و نظروا إلى أهل القرية

ص: 283


1- . أي صاحت.
2- . في تفسير العياشي: الجبال بناحية مفائض.
3- . الحمّارة: أصحاب الحمير.

مطمئنّين، قال يونس لتنوخا: كذّبني الوحي، و كذب وعدي لقومي، لا و عزّة ربّي لا يرون لي وجها أبدا بعد ما كذّبني الوحي.

فانطلق يونس عليه السّلام هاربا على وجهه مغاضبا لربّه ناحية بحر إيلة، متنكّرا فرارا من أن يراه أحد من قومه فيقول له: يا كذّاب، فلذلك قال اللّه: وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. . . (1)الآية، و رجع تنوخا إلى إى القرية فلقي روبيل، فقال له: يا تنوخا، أيّ الرأيين كان أصوب و أحقّ، رأيي أو رأيك؟ فقال تنوخا: بل رأيك كان أصوب، و لقد كنت أشرت برأي العلماء و الحكماء.

و قال تنوخا: أما إنّي لم أزل أرى أنّي أفضل منك لزهدي و فضل عبادتي، حتّى استبان فضلك بفضل علمك، و ما أعطاك ربّك من الحكمة مع التقوى أفضل من الزّهد و العبادة بلا علم. فاصطحبا فلم يزالا مقيمين مع قومهما.

و مضى يونس على وجهه مغاضبا لربّه، فكان من قصّته ما أخبر اللّه به في كتابه: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (2).

قال أبو عبيدة: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كم كان غاب يونس عن قومه حتى رجع إليهم بالنبوّة و الرّسالة، فآمنوا به و صدّقوه؟ قال: «أربعة أسابيع؛ سبعا منها في ذهابه إلى البحر، و سبعا في بطن الحوت، و سبعا تحت الشجرة بالعراء، و سبعا منها في رجوعه إلى قومه» .

فقلت له: و ما هذه الأسابيع، شهور أو أيام أو ساعات؟ فقال: «يا أبا عبيدة، إنّ العذاب أتاهم يوم الأربعاء في النّصف من شوّال، و صرف عنهم من يومهم ذلك، فانطلق يونس عليه السّلام مغاضبا فمضى يوم الخميس، سبعة أيام في مسيرة إلى البحر، و سبعة أيام في بطن الحوت، و سبعة أيّام تحت الشجرة بالعراء، و سبعة أيّام في رجوعه إلى قومه، فكان ذهابه و رجوعه [مسير]ثمانية و عشرين يوما. ثمّ أتاهم فأمنوا به و صدّقوه و اتّبعوه، فلذلك قال اللّه: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (3).

أقول: في الرّواية إشكالات غامضة لا تنحلّ إلاّ بارتكاب التأويل في ظواهرها، و التكلّف في توجيهها، بما لا ينافي عصمة الأنبياء، و كونهم أعقل امّتهم، و أعلمهم، و أطوعهم لأوامر اللّه، و أسلمهم لمرضاته.

و عنه عليه السّلام: «أنّ يونس لمّا آذاه قومه دعا اللّه عليهم، فأصبحوا أوّل يوم و وجوههم صفر، و أصبحوا اليوم الثاني و وجوههم سود. قال: و كان اللّه و اعدهم أن يأتيهم العذاب، فأتاهم حتّى نالوه برماحهم،

ص: 284


1- . الأنبياء:21/87.
2- . الصافات:37/148.
3- . تفسير العياشي 2:285/1979، تفسير الصافي 2:421.

ففرّقوا بين النّساء و أولادهنّ، و بين البقر و أولادها، و لبسوا المسوح و الصّوف، و وضعوا الحبال في أعناقهم و الرّماد على رؤوسهم، و ضجّوا ضجّة واحدة إلى ربّهم، و قالوا: آمنّا بإله يونس، فصرف اللّه عنهم العذاب، و أصبح يونس و هو يظنّ أنّهم هلكوا، فوجدهم في عافية» (1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: لأيّ علّة صرف اللّه العذاب عن قوم يونس؛ و قد أظلّهم، و لم يفعل كذلك بغيرهم من الامم؟» قال: «لأنّه كان في علم اللّه أنّه سيصرفه عنهم يلتوبتهم، و إنّما ترك إخبار يونس عليه السّلام بذلك لأنّه عزّ و جلّ أراد أن يفرّغه لعبادته في بطن الحوت، فيستوجب بذلك ثوابه و كرامته» (2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ جبرئيل عليه السّلام استثنى في هلاك قوم يونس، و لم يسمعه يونس عليه السّلام» (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 99

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية عدم نفع جهد يونس في إيمان قومه، و إنّما هم آمنوا أخيرا بتوفيق اللّه، بيّن أنّ إيمان جميع النّاس منوط بمشيئته و توفيقه، لا بجهد الرّسل في إيمانهم و إكراههم لهم؛ بقوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ إيمان النّاس بالإكراه و الاضطرار لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لا يشذّ منهم أحد حال كونهم جَمِيعاً و متّفقين عليه. و لكن لم يشأ ذلك لمنافاته للحكمة البالغة التي عليها أساس التّكوين و التّشريع، بل مقتضى الحكمة أن يشاء لهم ما يشاءون لأنفسهم من الكفر و الإيمان، حسب اقتضاء طينتهم، تكميلا لحكم القبضتين، و تحصيلا لأهل النّشأتين.

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)فإذا كان الأمر كذلك أَ فَأَنْتَ يا محمّد تُكْرِهُ اَلنّاسَ على الإيمان الذي لم يشأ اللّه إكراههم عليه حَتّى يَكُونُوا بإكراهك عليه مُؤْمِنِينَ ليس ذلك عليك و لا مقدورك، إنّما عليك البلاغ و الإنذار و النّصح.

و فيه دلالة على كمال حرصه على إيمان قومه، و تسلية قلبه الشّريف بقطع رجائه في إيمان جميعهم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 100

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)

ص: 285


1- . تفسير العياشي 2:294/1981، تفسير الصافي 2:426.
2- . علل الشرائع:77/1، تفسير الصافي 2:426.
3- . تفسير القمي 2:74، تفسير الصافي 2:427.

ثمّ بيّن سبحانه إناطة الإيمان بمشيئته و توفيقه بقوله: وَ ما و ما صحّ لِنَفْسٍ من النّفوس أَنْ تُؤْمِنَ بسبب من الأسباب إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ و توفيقه و تسهيله و لطفه، لا بالمعجزات و تقرير الدلائل و دفع الشّبهات و المبالغة في الوعظ و النّصح، و إن كان لها دخل.

ثمّ بيّن أنّ الكفر أيضا يكون بخذلانه، الناشئ عن قلّة العقل و كثرة الجهل؛ بقوله: وَ يَجْعَلُ اللّه اَلرِّجْسَ و الكفر المستقذر لشدّة قباحته عَلَى اَلَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ دلائل التّوحيد و النبوّة و المعاد، و لا يتدبّرون فيها.

عن الرضا عليه السّلام أنّه سأله المأمون عن هذه الآية، فقال: «حدّثني أبي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ المسلمين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو أكرهت يا رسول اللّه من قدرت عليه من النّاس على الإسلام لكثر عددنا و قوينا على عدوّنا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما كنت لألقى اللّه ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئا، و ما أنا من المتكلّفين. فأنزل اللّه عليه: يا محمد وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً على سبيل الإلجاء و الاضطرار في الدّنيا، كما يؤمنون عند المعاينة و رؤية البأس في الآخرة، و لو فعلت ذلك بهم لم يستحقّوا منّي ثوابا و لا مدحا، و لكنّي اريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرّين، ليستحقّوا منّي الزّلفى و الكرامة، و دوام الخلود في جنّة الخلد أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ و أمّا قوله: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها، و لكن على معنى أنّها ما كانت لتؤمن إلاّ، بإذن اللّه و إذنه أمره لها بالإيمان ما كانت متكلّفة متعبّدة، و إلجاؤه إيّاها إلى الإيمان عند زوال التّكليف و التعبّد عنها» . فقال المأمون: فرّجت [عني فرّج اللّه عنك] (1).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 101

ثمّ أنّه تعالى بعد الإشارة إلى أنّ الكفر إنّما يكون بسبب عدم التعقّل و التدبّر في الآيات، و أنّ الايمان موقوف على تعقّلها و التفكّر فيها، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ببعث النّاس إلى النّظر و التفكّر في الآيات السماويّة و الأرضيّة بقوله: قُلِ يا محمّد للنّاس عموما، أو لأهل مكّة اُنْظُرُوا بنظر التفكّر و الاعتبار ما ذا من الآيات الدالّة على التّوحيد فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و أيّ شيء بديع فيهما من عجائب الصّنع الدالّة على كمال قدرة اللّه و حكمته.

قُلِ اُنْظُرُوا ما ذا فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي اَلْآياتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)

ص: 286


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:135/33، تفسير الصافي 2:427.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تفكّروا في الخلق، و لا تتفكّروا في الخالق» (1).

ثمّ ذمّ الكفّار الذين لا يتأثّرون بالآيات بقوله: وَ ما تُغْنِي اَلْآياتُ و عجائب المصنوعات، و البراهين الساطعات على التوحيد وَ اَلنُّذُرُ و المواعظ، أو الرّسل المنذرون عَنْ قَوْمٍ علم اللّه أنّهم لا يُؤْمِنُونَ و حكم عليهم بأنّهم أهل النّار لخبث طينتهم، و غاية شقاوتهم، و شدّة قساوتهم.

عن الصادق عليه السّلام: «اَلْآياتُ الأئمّة عليهم السّلام، و اَلنُّذُرُ الأنبياء عليهم السّلام» (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 102

ثمّ ذمّهم سبحانه و هدّدهم على عدم الإيمان بقوله: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ هؤلاء المصرّون على الكفر في إيمانهم شيئا إِلاّ يوما مِثْلَ أَيّامِ المشركين المعارضين للرّسل من الامم اَلَّذِينَ خَلَوْا و مضوا من الدّنيا بعذاب الاستئصال، و واقعة عظيمة من الوقائع العظام التي كانت للمكذّبين الذين كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السّابقة على عصرهم قُلْ يا محمّد، تهديدا لهم: فَانْتَظِرُوا ما هو عاقبة أمركم من الابتلاء بالعذاب أيضا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ لذلك لأنّكم لا تستحقّون غيره. و قيل يعني: انتظروا لهلاكي، و إنّي [معكم]من المنتظرين لهلاككم (3).

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ (102)عن الرضا عليه السّلام: «انتظار الفرج من الفرج، إنّ اللّه يقول: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ» (4).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 103

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إنزال العذاب على الامم السّابقة، بيّن لطفه بالرّسل و المؤمنين بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا و المراد: أنّا كنّا ننزل العذاب على امم، ثمّ ننجّي رسلنا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بهم من ذلك العذاب حين نزوله كَذلِكَ الإنجاء الذي كان لهم في الأعصار السّابقة حقّ حَقًّا و ثبت ثبوتا عَلَيْنا بمقتضى الحكمة و العدل نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ من الرّسل و أتباعهم في كلّ عصر، من الشّدائد و البلايا. و إنّما أدخل الرّسل في المؤمنين للإشعار بأنّ ملاك النّجاة هو الإيمان.

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ (103)عن الصادق عليه السّلام: «ما يمنعكم [من]أن تشهدوا على من مات منكم على هذا الأمر أنّه من أهل

ص: 287


1- . تفسير الرازي 17:169.
2- . تفسير القمي 1:320، الكافي 1:161/1، تفسير الصافي 2:428.
3- . تفسير روح البيان 4:85.
4- . تفسير العياشي 2:297/1985، تفسير الصافي 2:428.

الجنّة، إنّ اللّه تعالى يقول: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ» (1).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 104 الی 106

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر الرّسول عليه السّلام بالدّعوة إلى التّوحيد، و أمر النّاس بالنّظر في الآيات الدالّة عليه، أمر رسوله عليه السّلام بإعلام النّاس بدينه و هو التّوحيد و البراءة من الشّرك بقوله: قُلْ يا محمّد: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ ما، و ترديد مِنْ دِينِي الذي اخترته لنفسي، و لا تتيقّنوا به فَلا أَعْبُدُ أبدا الآلهة اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لعلمي بعدم قابليّة شيء منها للعبادة وَ لكِنْ أَعْبُدُ اَللّهَ اَلَّذِي بقدرته يَتَوَفّاكُمْ و بإرادته يميتكم.

قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اَللّهَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (104) وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (105) وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ اَلظّالِمِينَ (106)و قيل: يعني أعبد الذي وعدني بأن يتوفّاكم و يهلككم و يبقيني، فإنّه الذي يجب أن يخاف منه، دون ما هو بمعزل عن القدرة على التصرّف في موجود من الموجودات كأصنامكم. و إنّما قدّم ترك عبادة الغير في الذّكر على تخصيص عبادته باللّه، لتقدّم التّخلية، و للإيذان في أوّل الأمر بالمخالفة (2).

و قيل: إنّ المراد: إن كنتم في شكّ من صحّة ديني، فاعلموا أنّ ديني الإخلاص في العبادة لمن بيده ناصية كلّ شيء، و رفض عبادة غيره ممّا لا يضرّ و لا ينفع، فانظروا بعقولكم أيّهما أولى بالعبادة، فإن تفكّرتم علمتم أن لا مجال للشكّ في صحّة ديني فضلا عن القطع بعدمه، أو إن كنتم في الشكّ من ثباتي على ديني، فإنّي لا أتركه أبدا (3).

وَ أُمِرْتُ من قبل خالقي و عقلي أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ باللّه، الموحّدين له وَ قيل لي: أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ و وجه عقلك و قلبك و شراشر وجودك لِلدِّينِ القيّم، و أقبل بكلّك إليه، حال كونك حَنِيفاً و معرضا عن غيره من الأديان الباطلة وَ لا تَكُونَنَّ البتّة في آن من عمرك مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اعتقادا و عملا وَ لا تَدْعُ و لا تعبد بوجه من الوجوه مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه ما لا يَنْفَعُكَ بإيصال محبوب إليك، أو دفع مكروه عنك إن دعوته وَ لا يَضُرُّكَ بشيء أبدا إن تركته، لعدم قدرته على شيء، و عدم شعوره بشيء فَإِنْ فَعَلْتَ ما نهيت عنه من عبادة غير اللّه فَإِنَّكَ

ص: 288


1- . تفسير العياشي 2:297/1986، مجمع البيان 5:209، تفسير الصافي 2:428.
2- . تفسير أبي السعود 4:179.
3- . تفسير أبي السعود 4:179، تفسير البيضاوي 1:448.

إِذاً لسوء اختيارك مِنَ اَلظّالِمِينَ على اللّه بتضييع حقوقه و كفران نعمه، و على نفسك بتعريضها للهلاك و العذاب الدائم.

القمّي: مخاطبة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المعنيّ النّاس (1).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 107

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عجز غيره عن الضرّ و النّفع، بيّن أنّ جميع المنافع و المضارّ بيده تعالى وحده بقوله: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ و يصبك بِضُرٍّ و مكروه فَلا كاشِفَ و لا دافع لَهُ أحد إِلاّ هُوَ تعالى شأنه وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ من الخيرات الدنيويّة و الاخرويّة فَلا رَادَّ و لا مانع لِفَضْلِهِ و إحسانه و إنعامه، لعجز الغير عن معارضته.

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (107)قيل: إنّما ذكر الإرادة مع الخير و المسّ مع الضرّ، للإيذان بأنّ الخير مطلوبه تعالى أوّلا و بالذّات، و الضرّ ثانيا (2)و بالعرض، أو للإشعار بأنّ الضرّ كلّه وجودي، و أمّا الخير فقد يكون عدميّا.

لمّا نبّه سبحانه على أنّ الخير إنّما هو بفضله لا بالاستحقاق، قرّر ذلك بقوله: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ أن يتفضّل عليه مِنْ عِبادِهِ مؤمنا كان أو كافرا، فتعرّضوا له بالمسألة و الطّاعة، و لا تيأسوا منه بسبب العصيان، إذ هو المفضل المحسن وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 108

ثمّ بالغ سبحانه في السّورة المباركة في إثبات التّوحيد و النبوّة و المعاد بذكر الدّلائل المتقنة، و البراهين المحكمة عليها، الموجبة لاهتداء جميع العقلاء به، ختمها بأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة إلى الإيمان بالقرآن، و الاهتداء به، و إعلام النّاس بإتمام الحجّة به عليهم بقوله: قُلْ يا محمّد لقومك: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قد تمّت عليكم الحجّة، و انقطعت عنكم المعذرة، حيث إنّه قَدْ جاءَكُمُ القرآن العظيم الذي هو اَلْحَقُّ المشتمل على جميع ما تحتاجون إليه من المعارف و الأحكام، و البيّنات و الهدى مِنْ رَبِّكُمْ اللّطيف بكم فَمَنِ اِهْتَدى إلى الحقّ بالإيمان به، و العمل بما فيه فَإِنَّما يَهْتَدِي إلى المنافع الدنيويّة و الاخرويّة التي تكون لِنَفْسِهِ لا تتعدّى إلى غيره وَ مَنْ ضَلَّ

قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)

ص: 289


1- . تفسير القمي 1:320، تفسير الصافي 2:429.
2- . تفسير روح البيان 4:87.

و انحرف عن طريق الحقّ بالكفر به و الإعراض عنه فَإِنَّما يَضِلُّ عن سبيل كلّ خير، و وباله عَلَيْها و ضرر راجع إليها، فلا نفع للّه ولي في إيمانكم، و لا ضرر عليه و عليّ بكفركم وَ ما أَنَا من قبل ربّي عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ و حفيظ حتّى أجبركم على الإيمان، و أقهركم على قبول الحقّ و العمل به، بل إنّما تكون وظيفتي التّبليغ و الإنذار و التّبشير، و قد عملت بها.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 109

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بدعوة النّاس إلى الإيمان بالقرآن و العمل به، و إتمام الحجّة عليهم، أمره تعالى بأن يتّبعه بنفسه الشّريفة، و إن لم يؤمن و لم يعمل به أحد، و الصّبر على أذى قومه بقوله: وَ اِتَّبِعْ يا محمّد ما يُوحى إِلَيْكَ من الآيات القرآنية، و التزم بالإيمان و العمل بها، و إن أعرض عنها جميع النّاس وَ اِصْبِرْ على كلّ ما أصابك من المكاره و الأذى لاتّباعك وحي ربّك، و دم على ذلك حَتّى يَحْكُمَ اَللّهُ فيهم بما يستحقّون من العذاب و الهلاك، وَ هُوَ تعالى خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ و أعدل القاضين، و أصوبهم في الحكم، لا يجور و لا يخطأ.

وَ اِتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اَللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ (109)روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة يونس اعطي له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس و كذّب به، و بعدد من غرق مع فرعون» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة يونس في كلّ شهرين أو ثلاثة لم يخف [عليه]أن يكون من الجاهلين، و كان يوم القيامة من المقرّبين» (2). إن شاء اللّه.

و الحمد للّه ربّ العالمين على إتمام تفسيرها، و أسأله التّوفيق لإتمام ما يتلوها.

ص: 290


1- . مجمع البيان 5:131.
2- . ثواب الأعمال:106، مجمع البيان 5:131، تفسير الصافي 2:429.

في تفسير سورة هود

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 11 (هود): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة يونس؛ و كانت سورة هود أنسب السّور بها، لاشتراكهما في التّصدير بالحروف المقطّعة، و بيان كون الآيات محكمة، و في الدّعوة إلى التّوحيد، و دفع شبهات المشركين فيه و في النبوّة و المعاد، و التحدّي بسور القرآن و تهديدهم بالعذاب، و في بيان هلاك الامم الماضية به، و في محاجّة الأنبياء و كمال توكّلهم و صبرهم، إلى غير ذلك من المطالب العالية، أردفها بسورة هود فافتتحها بذكر بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ بذكر الحروف المقطّعة بقوله: الر و قد مرّ تفسيرها (1).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)ثمّ شرع في إثبات النبوّة بإثبات عظمة القرآن بقوله: كِتابٌ و التّقدير: هذا القرآن العظيم كتاب رفيع الشّأن، الذي أُحْكِمَتْ و نظّمت آياتُهُ نظما رصيفا محكما، بمعنى أنّه لا يعتريه النّقص و الخلل، أو لا يطرأ عليه النّسخ (2)بكتاب بعده، أو بمعنى كثير الحكمة، أو مؤيّده بالحجج القاطعة الدالّة على صدقه ثُمَّ فُصِّلَتْ بفصول من المعارف و الأحكام، و القصص و المواعظ، و مهمّات المعاش و المعاد.

و قيل: فصّلت يعني فرّقت في التّنزيل منجّمة بحسب المصالح (3)، أو فرقت بين الحقّ و الباطل (4).

و قيل يعني: زيّنت بإعجاز البيان، و كثرة الفوائد؛ كما تزين القلائد بالفرائد (5).

و نزّلت مِنْ لَدُنْ إله حَكِيمٍ لا نهاية لحكمته خَبِيرٍ بخفيّات الامور. و أمّا وصف ذاته المقدّسة بالوصفين، تنبيها على كون كتابه حاويا للحكم التي لا تحصى، و العلوم التي لا تنتهي.

ص: 291


1- . مرّ تفسيرها في الطرفة (18) من مقدمة التفسير.
2- . في النسخة: لا يطرأه النسخ.
3- . تفسير أبي السعود 4:182.
4- . تفسير الرازي 17:179.
5- . تفسير روح البيان 4:90.

سوره 11 (هود): آیه شماره 2 الی 4

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إنزال هذا الكتاب الذي هو أفضل الكتب السماويّة لأجل أَلاّ تَعْبُدُوا أيّها النّاس شيئا إِلاَّ اَللّهَ و لا تخضعوا إلاّ له. قيل: إنّ كلمة (أن) مفسّرة لمعنى القول (1)المشرب في «فصّلت» ، و التّقدير: إنّ القول المفصّل فيه أن لا تعبدوا، أو للأمر، و المعنى: لتأمر النّاس يا محمّد أن لا يعبدوا إلاّ اللّه، و تقول لهم: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ تعالى نَذِيرٌ و مخوّف من عذابه على ترك عبادته، و التوجّه إلى عبادة غيره وَ لكم بَشِيرٌ بثوابه على عبادته. و إنّما قدّم الإنذار لكونه أدخل في الرّدع من التّبشير.

أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2) وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ و اطلبوا منه ستر ذنوبكم بالتّوبة ثُمَّ تُوبُوا من ذنوبكم إِلَيْهِ عن صدق و خلوص. و قيل يعني: استغفروا من الشّرك، ثمّ ارجعوا إليه بالطّاعة، أو توبوا إليه من المعاصي (2). إذن يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً و يعيشكم عيشا رغيدا مرضيّا، لا يفوتكم فيه شيء من مشتهياتكم، و لا ينقصه شيء من الكدورات إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و عمركم المقدور، و موتكم الطّبيعي وَ يُؤْتِ كُلَّ تائب ذِي فَضْلٍ و مزيّة في الأعمال و الأخلاق، و الكمالات العلميّة فَضْلَهُ و مزيّته في الجزاء في الدّارين وَ إِنْ تَوَلَّوْا و تعرضوا عمّا أدعوكم إليه من التّوحيد و الاستغفار و التّوبة، و تصرّوا على ما أنتم عليه من الشّرك و العصيان فَإِنِّي بمقتضى شفقتي و رحمتي أَخافُ عَلَيْكُمْ و أتوقّع في حقّكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ شأنه، عظيم أهواله و شدائده، و هو يوم القيامة.

و القمّي: يعني: الدّخان و الصّيحة (3).

ثمّ قرّر سبحانه كبر اليوم بقوله: إِلَى اَللّهِ وحده بعد الموت مَرْجِعُكُمْ و مآبكم في ذلك اليوم؛ فيعاقبكم على أعمالكم وَ هُوَ تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ و منه تعذيبكم بعد الإماتة و البعث.

سوره 11 (هود): آیه شماره 5

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (5)

ص: 292


1- . تفسير الرازي 17:180.
2- . تفسير أبي السعود 4:184.
3- . تفسير القمي 1:321، تفسير الصافي 2:431.

ثمّ لمّا كان مجال للسؤال عمّا قابلوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من القبول و الإعراض، أجاب سبحانه بقوله: أَلا يا أهل العقل تعجّبوا من فعلهم إِنَّهُمْ بعد ما سمعوا المقال الذي ينبغي أن تخرّ منه صمّ الجبال يَثْنُونَ و يعطفون صُدُورَهُمْ على ما فيها من الكفر و عداوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عطف الثّياب على ما فيها من الأشياء المستورة لِيَسْتَخْفُوا من الرّسول، أو من اللّه و يستتروا مِنْهُ لئلاّ يطّلع على ما هم عليه.

عن الباقر عليه السّلام: «أخبرني جابر بن عبد اللّه أن المشركين كانوا إذا مرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حول البيت، طأطأ أحدهم ظهره و رأسه-هكذا-و غطّى رأسه بثوبه حتّى لا يراه رسول اللّه. فأنزل اللّه هذه الآية» (1).

و روي أنّ طائفة من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا، و أرسلنا ستورنا، و استغشينا ثيابنا، و ثنينا صدورنا على عداوة محمّد، فكيف يعلم بنا؟ (2)

و عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في الأخنس بن شريق، و كان رجلا حلو المنطق، حسن السّياق للحديث، يظهر المحبّة لرسول اللّه، و يضمر في قلبه ما يضادّها (3).

و عن ابن شداد: أنّها نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثنى صدره و ظهره، و طأطأ رأسه، و غطّى وجهه، كيلا يراه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قيل: إنّما صنع ذلك لأنّه لو رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يمكنه التخلّف عن حضور مجلسه، و المصاحبة معه، و ربّما يؤدّي ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر و النّفاق (4).

ثمّ هدّدهم اللّه بقوله: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ و يغطّونها عليهم يَعْلَمُ اللّه ما يُسِرُّونَ في صدورهم من الكفر وَ ما يُعْلِنُونَ و يظهرون بأفواههم من الطّعن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه؛ فيعاقبهم عليه إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بذاته بِذاتِ اَلصُّدُورِ و ضمائر القلوب من الأسرار و النيّات التي لا يطّلع عليها أحد، فكيف يخفى عليه ضمائرهم؟

سوره 11 (هود): آیه شماره 6

ثمّ أنّه تعالى بعد ما نبّه على علمه بالضمائر و الظّواهر، أكّده ببيان تكفّله لأرزاق الحيوانات، المتوقّف على علمه بأحوالها بقوله: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ و حيوان متحرّك فِي اَلْأَرْضِ من ظهرها

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اَللّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)

ص: 293


1- . تفسير العياشي 2:299/1988، الكافي 8:144/115، تفسير الصافي 2:431.
2- . تفسير الرازي 17:185. (3 و 4) . تفسير روح البيان 4:94.

و تخومها، ذكرا أو انثى، صغيرا أو كبيرا، وحشيّا أو أهليّا، برّيا أو بحريّا، طائرا أو غير طائر إِلاّ عَلَى اَللّهِ الخالق لها رِزْقُها و ما تعيش به (1)من الغداء و الشّراب و غيرهما، مدّة حياتها، تفضّلا و إحسانا وَ يَعْلَمُ قبل وجوها و بعده مُسْتَقَرَّها و مسكنها في الأرض وَ مُسْتَوْدَعَها و محلاّ تكون مودعة (2)فيه من أصلاب الآباء و أرحام الامّهات، و ما يجري مجراها من البيضة و نحوها.

و قيل: المستقرّ: محلّ التعيّش، و المستودع: محلّ الموت (3). و قيل: إنّ الأوّل أصلاب الآباء، و الثّاني أرحام الامّهات (4).

ثمّ بالغ سبحانه في علمه بقوله: كُلٌّ من الدوابّ و أرزاقها و مستقرّها و مستودعها مكتوب فِي كِتابٍ مُبِينٍ و اللّوح المحفوظ الذي تظهر فيه جميع المقدّرات لمن ينظر إليه من الملائكة، و النّفوس المقدّسة.

في (نهج البلاغة) : «قسّم أرزاقهم، و أحصى آثارهم و أعمالهم، و عدد أنفاسهم، و خيانة أعينهم و ما تخفي صدورهم من الضّمير، و مستقرّهم و مستودعهم من الأرحام و الظّهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات» (3).

روي أنّ موسى عليه السّلام عند نزول الوحي إليه، تعلّق قلبه بأحوال أهله، فأمره اللّه تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة، فانشقّت و خرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقّت و خرجت صخرة ثالثة، ثمّ ضربها بعصاه فانشقّت و خرجت منها دودة كالذرّة، و في فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، و رفع الحجاب عن سمع موسى فسمع الدّودة تقول: سبحان من يراني، و يسمع كلامي، و يعرف مكاني، و يذكرني و لا ينساني (4).

سوره 11 (هود): آیه شماره 7

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة إحاطة علمه بجميع الموجودات؛ و هي قيموميّته عليها بقوله وَ هُوَ اللّه اَلَّذِي بقدرته خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و ما بينهما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ قد مرّ تفسيره (5).

وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

ص: 294


1- . في النسخة: و ما يعيش بها.
2- . في النسخة: يكون مودعا. (3 و 4) . تفسير روح البيان 4:96.
3- . نهج البلاغة:123 الخطبة 90.
4- . تفسير الرازي 17:186.
5- . تقدّم في الآية (54) من سورة الأعراف، و الآية (3) من سورة يونس.

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار قدرته بقوله: وَ كانَ قبل خلقها عَرْشُهُ و سرير سلطنته؛ مع كونه أعظم الأشياء، مستقرّا عَلَى اَلْماءِ الذي لا يستقرّ عليه الثّقيل، و هو تعالى بقدرته التي لا حدّ لها أمسكه عليه بغير عمد.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «كان اللّه و لم يكن معه شيء، و كان (1)عرشه على الماء» (2).

أقول: في اقتران القضيّتين دلالة على أنّ المراد بالعرش و الماء غير معناهما الظّاهر، و إلاّ لنافت القضية الاولى.

و عن كعب الأحبار: خلق اللّه تعالى ياقوتة خضراء، فنظر إليها بالهيبة، فصارت ماء يرتعد من مخافة اللّه، ثمّ خلق الرّيح فجعل الماء على متنها، ثمّ وضع العرش على الماء (3).

القمّي رحمه اللّه: كان [ذلك]في مبدأ الخلق (4). [و كان عرشه على الماء و]الماء على الهواء، و الهواء لا يحدّ، و لم يكن يومئذ خلق غيرهما، و الماء عذب فرات (5).

أقول: يمكن أن يكون المراد من العرش: الوجود المنبسط الذي يعبّر عنه بنفس الرّحمن، و من الماء: علمه تعالى بعلاقة كونهما سبب حياة كلّ شيء.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السّماوات و الأرضين؛ و لم يكن قبلهنّ سماوات و لا أرضون، أما تسمع لقوله تعالى: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ؟» (6).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ، فقال: «ما يقولون [في ذلك]؟» قيل: يقولون إنّ العرش كان على الماء، و الربّ فوقه. فقال: «كذبوا، من زعم هذا فقد صيّر اللّه محمولا و وصفه بصفة المخلوقين، و لزمه أنّ الشيء الذي يحمله أقوى منه» . ثمّ قال: «إنّ اللّه حمّل دينه و علمه الماء، قبل أن تكون سماء أو أرض، أو جنّ أو إنس، أو شمس أو قمر» (7).

أقول: يحتمل أن يكون علمه مبتدأ، و الماء خبره، و المعنى أنّ العرش دينه، و الماء علمه. و يمكن أن يكون المراد من الماء: الأئمّة المعصومين و أشباحهم، و المعنى: حمّل دينه و علمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصياءه. و الحاصل أنّ هذه الرّوايات من المتشابهات التي يجب ردّ علمها إليهم عليهم السّلام.

ثمّ بيّن سبحانه حكمة الخلق بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ و يعامل معكم معاملة الممتحن لأحوالكم بعد

ص: 295


1- . في تفسير الرازي ثم كان.
2- . تفسير الرازي 17:188.
3- . تفسير الرازي 17:187.
4- . تفسير القمي 1:321، تفسير الصافي 2:432.
5- . تفسير القمي 2:69، تفسير الصافي 2:432.
6- . الكافي 1:200/2، تفسير الصافي 2:432.
7- . الكافي 1:103/7، التوحيد:319/1، تفسير الصافي 2:432.

خلق هذه الدّار، و إسكانكم فيها، و الإنعام عليكم بفنون النّعم، و تكليفكم و تعريضكم للثّواب و العقاب أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.

روي أنّ المعنى: تمتاز درجات أفرادكم في العلم و المعرفة و العقائد الحقّة، و تبين مراتب أعمالكم الجوانحيّة و الجوارحيّة؛ فيجازيكم حسب استحقاقكم.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، «يعني: أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «ليس يعني أكثركم عملا، و لكن: أصوبكم عملا، و إنّما الإصابة خشية اللّه و النّيّة الصادقة» (2).

ثمّ لمّا كان لازم الابتلاء بالتّكاليف وجود عالم آخر للحساب و الجزاء، وبّخ المشركين على إنكاره بقوله: وَ لَئِنْ قُلْتَ يا محمّد للنّاس: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لجزاء أعمالكم، مستدلاّ على صحّة قولك بالقرآن النّاطق، الذي هو أعظم معجزاتك لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا منهم: إِنْ هذا القرآن إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة، أو ما قولك هذا إلاّ خديعة باطلة مثل السّحر الظّاهر. و قيل: إنّ وجه تعلّق الآية بما قبلها، أنّ البعث لمّا كان خلقا جديدا، كأنّه تعالى قال: هو الذي خلق جميع الموجودات ابتداء لهذه الحكمة، و مع ذلك إن أخبرتهم بأنّه تعالى يعيدكم تارة اخرى، يقولون ما يقولون، مع أنّ الإعادة أهون من الابتداء (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 8

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيبهم الرّسول، حكى استهزاءهم بوعده بالعذاب بقوله: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ اَلْعَذابَ الذي وعدتهم به إِلى أُمَّةٍ و طائفة من الأيام مَعْدُودَةٍ و قليلة. القمّي: عن أمير المؤمنين عليه السّلام: يعني به الوقت (4). و قيل يعني: إلى انقراض جماعة قليلة من المتوعّدين بالعذاب (5)لَيَقُولُنَّ استهزاء بوعيدك ما ذا يَحْبِسُهُ و أيّ مانع يمنعه من النّزول علينا.

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ اَلْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب الموعود، و حان حينه لَيْسَ مَصْرُوفاً و مدفوعا عَنْهُمُ البتّة، بل وقع عليهم وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب. و إنّما أخبر بصيغة الماضي، تنبيها على تحقّق وقوعه، و مبالغة في التّهديد.

ص: 296


1- . تفسير روح البيان 4:100، تفسير الصافي 2:433.
2- . الكافي 2:13/4، تفسير الصافي 2:432.
3- . تفسير أبي السعود 4:188.
4- . تفسير القمي 1:323، تفسير الصافي 2:433.
5- . تفسير الرازي 17:189.

عن القمّي: يعني: إن متّعناهم في هذه الدّنيا إلى خروج القائم؛ فنردّهم و نعذّبهم لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أي يقولون: ألا يقوم القائم، ألا يخرج؟ على حدّ الاستهزاء (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الامّة المعدودة أصحاب القائم الثّلاثمائة و بضعة عشر» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو القائم و أصحابه» (3).

و عنه عليه السّلام: إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ يعني عدّة كعدة بدر لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ قال: العذاب» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «أصحاب القائم الثّلاثمائة و بضعة عشر رجلا، هم و اللّه الامّة المعدودة التي قال اللّه في كتابه» ، و تلا هذه الآية. الخبر (5).

سوره 11 (هود): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بتحتّم العذاب على المستهزئين، بيّن شدّة كفرهم في حال الشّدة و الرّخاء بقوله: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً و أعطيناه نعمة من صحّة وجدة و أمن و غيرها، بحيث يجد أقلّ قليل من لذّتها و طعم حلاوتها ثُمَّ نَزَعْناها و سلبناها مِنْهُ مع شدّة تعلّقه بها و حرصه عليها، بسبب عصيانه و شؤم نفسه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ من تلك النّعمة، و شديد القنوط من روحه، و منقطع الرّجاء من عود النّعمة إليه، لاعتقاده أنّ سبب النّعمة اتّفاقي، فإذا انعدم يبعد عوده، و هو حين وجوده كَفُورٌ لتلك النّعمة لا يؤدّي شكرها، لعدم اعتقاده أنّها من اللّه وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ من الصّحة و الرّاحة و الأمن و غيرها بَعْدَ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ و نقلناه من الشّدّة إلى الرّخاء لَيَقُولَنَّ غرورا بدوام تلك النّعم: ذَهَبَ اَلسَّيِّئاتُ و زال المصائب و المضارّ عَنِّي فلا تعود إليّ أبدا، إذن إِنَّهُ لَفَرِحٌ و بطر بتلك النّعم، و فَخُورٌ على النّاس بها، مشغول عن القيام بشكرها، لكون الدّنيا أكبر همّه، و الفوز بسعاداتها أعظم مطالبه.

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)و في التّعبير، عن نيل النّعم بالذّوق؛ الذي هو إدراك الطّعم، و عن الابتلاء بالضرّاء بالمسّ؛ الذي هو مبدأ الوصول، إشعار بأنّ ما يجده الإنسان في هذا العالم انموذج لما يجده في الآخرة. و في إضافة الأوّل إلى ذاته المقدّسة دون الثّاني، تنبيه على أنّ الخيرات بتفضّله، و الشّرور بسيّئات الأعمال.

ص: 297


1- . تفسير القمي 1:322، تفسير الصافي 2:433.
2- . تفسير القمي 1:323، تفسير الصافي 2:433.
3- . تفسير العياشي 2:301/1995، تفسير الصافي 2:433.
4- . تفسير العياشي 2:301/1993، تفسير الصافي 2:433.
5- . تفسير العياشي 2:301/1994، تفسير الصافي 2:433.

عن القمّي رحمه اللّه قال: إذا أغنى اللّه العبد ثمّ افتقر، أصابه الإياس و الجزع و الهلع (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 11 الی 12

ثمّ بيّن حال المؤمنين الصّابرين بقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا في البلايا و الشّدائد وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ عند النّعمة و الرّاحة شكرا أُولئِكَ الصّابرون الشّاكرون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ للذّنوب، و نجاة من الشّدائد الاخرويّة وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ و ثواب عظيم، و النّعم الدّائمة بما صبروا في الدّنيا على البلايا، و شكروا للنّعم.

إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)ثمّ لمّا كان المشركون يكذّبون القرآن و يستهزئون به، بحيث كان يضيق صدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يبلّغ إليهم ما لا يقبلونه و يضحكون منه، هيجه اللّه سبحانه لأداء الرّسالة، و عدم المبالاة باستهزائهم به بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ للقيام بوظيفة الرّسالة، و يتوقّع منك أن لا تبلّغ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ من الآيات الدالّة على صدق نبوّتك، المنادية بأنّها من عند اللّه، أو ممّا يخالف رأي المشركين كإبطال مذهبهم، و ذمّ آلهتهم و سبّها، و إلزامهم بترك تقليد آبائهم وَ ضائِقٌ بتبليغه قلبك، و عارض لك بِهِ من الغمّ ما لا يسعه صَدْرُكَ مع أنّك أفسح النّاس صدرا، و أصبرهم في جنب اللّه، و كان ذلك لأجل أَنْ يَقُولُوا تكذيبا لك و استهزاء بك لَوْ لا أُنْزِلَ إليه، و هلاّ القي عَلَيْهِ من السّماء كَنْزٌ و مال وافر ينفقه في اموره و استتباع النّاس له كالملوك، و يستدلّ به على صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ من الملائكة يصدّقه في دعوى رسالته، و يعينه على عدوّه.

قيل: إن القائل عبد اللّه بن اميّة المخزومي (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ رؤساء مكّة قالوا: يا محمّد، اجعل لنا جبال مكّة ذهبا إن كنت رسولا. و قال آخرون: آتينا بالملائكة حتّى يشهدوا على نبوّتك، فقال: لا أقدر على ذلك. فنزلت (3)، فردّهم اللّه بقوله: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ و مأمور من قبل ربّك لوعظ النّاس، و تخويفهم من الشّرك و العصيان، بتلاوة ما اوحي إليك من القرآن عليهم، غير مبال بتكذيبهم و ردّهم وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أحوالهم و أعمالهم و أقوالهم وَكِيلٌ و حفيظ؛ فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء، فتسلّ و لا يضيق صدرك.

ص: 298


1- . تفسير القمي 1:323، تفسير الصافي 2:434.
2- . تفسير أبي السعود 4:191.
3- . تفسير الرازي 17:192، تفسير أبي السعود 4:191.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزل قديدا (1)قال لعليّ عليه السّلام: إنّي سألت ربّي أن يوالي بيني و بينك ففعل، و سألت ربّي أن يؤاخي بيني و بينك ففعل، و سألت ربّي أن يجعلك وصيّي ففعل. فقال رجلان من قريش: و اللّه لصاع [من]تمر في شنّ (2)بال أحبّ إلينا ممّا سأل محمّد ربّه، فهلاّ سأل ربّه ملكا يعضده على عدوّه، أو كنزا يستغني به عن فاقته، و اللّه ما دعاه إلى حقّ أو باطل إلاّ أجابه إليه. فأنزل اللّه إليه فَلَعَلَّكَ تارِكٌ. . . الآية» (3).

و زاد العيّاشي: «و دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام في آخر صلاته رافعا بها صوته: اللّهم هب لعليّ المودّة في صدور المؤمنين، و الهيبة و العظمة في صدور المنافقين. فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا (4)فقال رمع: و اللّه لصاع [من]تمر في شنّ بال أحبّ إليّ ممّا سأل محمّد ربّه، أ فلا سأل ربّه ملكا يعضده، أو كنزا يستظهر به على فاقته. فأنزل فيه عشر آيات من هود أوّلها: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ الآية» (5).

عن العيّاشي: عن زيد بن أرقم، قال: إنّ جبرئيل الرّوح الأمين نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عشيّة عرفة، فضاق بذاك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مخافة تكذيب أهل الإفك و النّفاق، فدعا قوما أنا منهم، فاستشارهم في ذلك ليقوم به في الموسم، فلم ندر ما نقول له، و بكى فقال له جبرئيل: يا محمّد، أجزعت من أمر اللّه؟ فقال: «كلا يا جبرئيل، و لكن قد علم ربّي ما لقيت من قريش إذ لم يقرّوا لي بالرّسالة حتّى أمرني بجهادهم، و أهبط إليّ جنودا من السّماء فنصروني، فكيف يقرّون لعليّ بعدي؟» فانصرف عنه جبرئيل، فنزل عليه فَلَعَلَّكَ تارِكٌ الآية (6).

[سوره 11 (هود): آیه شماره 13]

ثمّ ضرب سبحانه عن ذكر عدم اعتنائهم بالوحي، و تهاؤنهم به، و اقتراحهم عليه، و ذكر ما هو أشدّ قبحا و هو نسبة القرآن إلى الافتراء بقوله: أَمْ يَقُولُونَ، قيل المعنى: بل أيقولون (7)في شأن القرآن عنادا و لجاجا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اِفْتَراهُ و نسبه كذبا إلى اللّه، مع أنّه ليس منه قُلْ يا محمّد في

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13)

ص: 299


1- . قديد: اسم موضع قرب مكّة.
2- . الشّنّ: القربة الصغيرة يوضع فيها الماء ليبرد.
3- . الكافي 8:378/572، تفسير الصافي 2:434.
4- . مريم:19/96.
5- . تفسير العياشي 2:302/1997، تفسير الصافي 2:435.
6- . تفسير العياشي 2:301/1996، تفسير الصافي 2:435.
7- . تفسير أبي السعود 4:191، تفسير روح البيان 4:105.

جوابهم تعجيزا لهم: إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا أنتم أيضا؛ مع كونكم مهرة فنّ الكلام، و حذقة صناعة الفصاحة و البلاغة، ممارسين الخطب و الأشعار، مزاولين أساليب النّظم و النّثر، مطّلعين على الوقائع و الأيّام بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في الفصاحة و البلاغة، و الحلاوة و حسن النّظم مُفْتَرَياتٍ و مختلقات من عند أنفسكم وَ اُدْعُوا للاستظهار في المعارضة، و ترتيب السّور المختلقة مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ دعاءه و الاستعانة به من آلهتكم التي تستمدّون بها في اموركم، و الكهنة الذين تلتجئون إليهم في مهمّاتكم، و كلّ من ترجون منه مساعدتكم، حال كونكم مِنْ دُونِ اَللّهِ و منحازين عنه تعالى، لأنّه القادر على ذلك دون غيره إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى أنّي افتريته، فإنّ ذلك يستلزم أن يقدر غيري من البشر على إتيان مثل هذا القرآن، و لا أقلّ من سور قليلة منه.

[سوره 11 (هود): آیه شماره 14]

ثمّ خاطب سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله بصيغة الجمع تعظيما له، أو إيّاه مع المؤمنين بقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا هؤلاء الكفّار المكذّبون لَكُمْ و لم يقدروا على إتيان ما سألتموه منهم، مع شدّة حرصهم على إبطال قولكم، و إظهار افترائكم، و تبيّن عجزهم عن المعارضة، و لو مع الاستعانة بغيرهم من الإنس و الجنّ فَاعْلَمُوا أنّ إتيان مثله خارج عن طوق البشر و غيره من المخلوقين، و أَنَّما أُنْزِلَ من القرآن انزل بِعِلْمِ اَللّهِ و قدرته الكاملة خاصّة من دون دخل غيره فيه. و اثبتوا على الإيمان به.

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)و في التّعبير عن الإتيان بالمثل بالاستجابة إشعار بل دلالة على أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بل و المؤمنين يأمرونهم بالإتيان بمثله، و دعوهم إليه مع إرادتهم منهم وقوعه، مع علمهم بعجزهم منه.

ثمّ لمّا ثبت كون القرآن النّاطق بالتّوحيد و بطلان الشّرك، نازلا من عند اللّه، ثبت أنّ الشّرك فاسد وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وحده فَهَلْ أَنْتُمْ أيّها المؤمنون بعد وضوح صحّة مذهب التّوحيد، و صدق النبيّ في دعوى النبوّة، و صدق كتابه مُسْلِمُونَ عن صميم القلب، مخلصون في الإيمان.

و قيل: إنّ ضمائر الجمع في الآية كلّها راجع إلى المشركين، و المعنى: إن لم يستجب لكم آلهتكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيّها المشركون أنّ هذا القرآن أنّما انزل بعلم اللّه، فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد لزوم الحجّة عليكم، أم تصرّون على الشّرك و الكفر عنادا و لجاجا؟

سوره 11 (هود): آیه شماره 15 الی 16

ص: 300

ثمّ لمّا كان غرض الكفّار-من معارضة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تكذيب القرآن، و اقتراحهم عليه بجعل جبال مكّة ذهبا، و تعييره بعدم نزول كنز عليه-طلب الدّنيا و حبّ زخارفها، لا طلب الحقّ و الآخرة، هدّدهم بغاية الخسران، و عذاب النّيران في الآخرة بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ و يطلب اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها و زخارفها بأعماله الخيريّة نُوَفِّ إِلَيْهِمْ و نعطهم كاملا ما يساوي أَعْمالَهُمْ من الأجر الدّنيوي فِيها لأنّ هممهم مقصورة على تحصيل الدنيا وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ و لا ينقصون شيئا من اجورهم، بحيث إذا خرجوا منها لم يكن معهم أثرها، حتّى لا يستحقّون شيئا من الثّواب الموعود عليها في الآخرة أُولئِكَ الطّالبون للدنيا هم اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّارُ لعدم لياقتهم إلاّ لها وَ حَبِطَ و فسد ما صَنَعُوا فِيها من الأعمال الصّالحة، لعدم كونها لوجه اللّه وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ رياء و سمعة، لعدم صلوحه في نفسه لترتيب الأجر عليه.

مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)

سوره 11 (هود): آیه شماره 17

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار في الآخرة و غاية خسرانهم، وضعة محلّهم، بيّن حسن حال النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، و رفعة مقامهم، بإنكار التّساوي بينهما بقوله: أَ فَمَنْ كانَ قادرا و مستوليا عَلى بَيِّنَةٍ و حجّة واضحة كائنة مِنْ رَبِّهِ على صحّة دينه، و برهان على كلّ حقّ و صواب، و يتبع ذلك البرهان وَ يَتْلُوهُ أو يتبع ذلك الذي كان على بيّنة شاهِدٌ و مصدّق مِنْهُ يشهد له على صدقه وَ مِنْ قَبْلِهِ تشهد له التّوراة التي هي كِتابُ مُوسى حال كونه إِماماً و تبعا وَ رَحْمَةً و نعمة للنّاس، كمن يريد الكفر و الضّلال طلبا للدّنيا و زينتها، لا يكون ذلك أبدا، فكيف و بينهما بون بعيد؟

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزابِ فَالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)و قيل: إنّ وجه النّظم بين الآيتين و سابقتهما، أنّه لمّا أمر اللّه المؤمنين بأن يزدادوا يقينا بنزول القرآن بعلم اللّه، بعد ظهور عجز البشر عن الإتيان بمثله، و بيّن أنّ الكفّار لا حظّ لهم في الآخرة، كان مجال توهّم الحظّ لهم فيها بسبب الأعمال الخيريّة، دفع اللّه ذلك التوهّم بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْحَياةَ

ص: 301

اَلدُّنْيا. . . الآية (1)، ثمّ عاد سبحانه إلى التّرغيب في الايمان بالقرآن و التّوحيد و الإسلام بقوله: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.

ثمّ أنّه قد كثر الاختلاف بين مفسّري العامّة في المراد من الآية، فمنهم من قال: إنّ المراد من من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ هو النبيّ، و من البينة هو القرآن، و من التلاوة قراءة القرآن، و من الشاهد جبرئيل (2)، و قيل: لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (3)، و قيل: معجزاته (2)، و قيل: هو أمير المؤمنين عليه السّلام؛ كما نقله الفخر الرازي، و قال: المراد بكلمة (منه) تشريف الشّاهد بأنّه بعض [من]محمّد صلّى اللّه عليه و آله (3)، فيكون حاصل المراد: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على بيّنة عظيمة على نبوّته، و صحّة دينه و هي القرآن، و يتلوه و يقرأه أمير المؤمنين عليه السّلام الذي هو جزء من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بمنزلة نفسه.

و روى العلاّمة في (نهج الحق) ، عن الجمهور: أنّ من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الشاهد عليّ عليه السّلام (4).

و قال القاضي في (إحقاق الحق) ، بعد نقل إنكار فضل بن روزبهان الناصبي كونه من تفاسير أهل السنة: إنّ ما نسب المصنّف روايته إلى الجمهور، قد رواه ابن جرير الطّبري، و ذكره الثّعلبي، و كذا الحافظ أبو نعيم بثلاثة طرق عن عبد اللّه بن عبد اللّه الأسدي، و الفلكي المفسّر عن مجاهد و عن عبد اللّه بن شدّاد، و غيرهم من قدماء أهل السّنة، و من المتأخّرين فخر الدّين الرازي، ثمّ نقل عبارة الفخر التي ملخصها ما ذكرنا.

ثمّ قال القاضي: و لا ريب أنّ شاهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على امّته يكون أعدل الخلائق سيّما إذا تشرّف بكونه بعضا منه صلّى اللّه عليه و آله كما ذكر الرّازي، فكيف يتقدّم عليه غيره؛ مع كون ذلك الشّاهد من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ (من) هاهنا لتبيين الجنس، فيؤذن بأنّ عليّ بن أبي طالب من جنس الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فيه بيان لكون عليّ عليه السّلام تالي الرّسول من غير فصل بينهما بتال آخر، فمن جعله تاليا بعد ثلاثة فعليه الدّلالة، لأنّ التالي هو من يلي غيره على أثره من غير فصل بينهما (5).

أقول: الظّاهر أن (من) للتّبعيض-كما ذكره الفخر-و دلالته على فضل أمير المؤمنين عليه السّلام أقوى من كون (من) لتبيين الجنس، و كون عليّ عليه السّلام بعضا من الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لكونه نفسه، كما دلّت عليه آية المباهلة، فما دام كون نفس النبيّ-التي هي بعض مجموع من نفسه و بدنه-موجودا بين النّاس، كان

ص: 302


1- . تفسير أبي السعود 4:194. (2 و 3) . تفسير الرازي 17:201.
2- . تفسير أبي السعود 4:195.
3- . تفسير الرازي 17:201.
4- . نهج الحق:195.
5- . إحقاق الحق 3:357 و 358.

النبي موجودا بينهم، فلا معنى لرجوع النّاس إلى غيره.

و لو قلنا أنّ (يتلوه) مأخوذ من تلاوة القرآن و قراءته-كما ذكره الفخر-فمعناه أنّه كالرّسول و بمنزلته في تبليغ كتاب اللّه إلى الامّة، فيكون مفاده مفاد قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» .

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما من رجل من قريش إلاّ و قد انزلت فيه آية أو آيتان من كتاب اللّه. فقال رجل من القوم: فما نزل فيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أما تقرأ الآية التي هي في هود أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ محمّد على بيّنة من ربّه، و أنا الشّاهد» (1).

و في (الأمالي) : «و أنا الشّاهد، و أنا منه» (2).

و في (البصائر) : «و أنا الشّاهد له فيه، و أنا أتلوه معه» (3).

و في (الاحتجاج) ، أنّه سئل عن أفضل منقبة له، فتلا هذه الآية و قال: «أنا الشّاهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (4).

و فيه، في حديث: قال له بعض الزّنادقة: و أجد اللّه يخبر أنّه يتلو نبيّه شاهد منه، و كان الذي تلاه عبدة الأصنام برهة من دهره. فقال: «و أمّا قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فذلك حجّة اللّه، أقامها اللّه على خلقه، و عرّفهم أنّه لا يستحقّ مجلس النبيّ إلاّ من يقوم مقامه، و لا يتلوه إلاّ من يكون في الطّهارة مثله و بمنزلته، لئلاّ يتّسع من مسّه رجس الكفر في وقت من الأوقات، انتحال الاستحقاق لمقام الرّسول» . الخبر (5).

و عن الكاظم و الرضا عليهما السّلام: أمير المؤمنين؛ الشّاهد على رسول اللّه، و رسول اللّه على بيّنة من ربّه» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما انزل أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إماما و رحمة وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى» (7).

أقول: هذه الرّواية محمولة على أنّ قوله: إِماماً وَ رَحْمَةً حالان للشّاهد، لوضوح عدم التّحريف في الكتاب المجيد.

ص: 303


1- . تفسير العياشي 2:303/1999، تفسير الصافي 2:437.
2- . أمالي الطوسي:372/800، تفسير الصافي 2:437.
3- . بصائر الدرجات:153/2، تفسير الصافي 2:437.
4- . الاحتجاج:159، تفسير الصافي 2:437.
5- . الاحتجاج:245 و 251، تفسير الصافي 2:438.
6- . الكافي 1:147/3 عن أبي الحسن عليه السّلام، تفسير الصافي 2:437.
7- . تفسير القمي 1:324، تفسير الصافي 2:437.

و قيل: إنّ المراد من من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من (البينة) القرآن، و من (الشاهد) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1).

و قيل: إنّ الشّاهد اشتمال القرآن على أعلى مرتبة الفصاحة و البلاغة، بحيث لا يقدر البشر على إتيان مثله (2).

عن الحسين بن عليّ عليه السّلام: «الشّاهد من اللّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (1).

و قيل: إنّ المراد من من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مؤمنو9 أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه (2)، و استشهدوا له بقوله: أُولئِكَ المؤمنون بكونهم على بيّنة على الدّين الحقّ من مذهب التّوحيد و الإسلام يُؤْمِنُونَ بِهِ حقّ الايمان، لتوافق البرهان و نصّ القرآن المشتمل على إعجاز البيان، و دلالة توراة موسى بن عمران على صحّته، و صدق النبيّ الجائي به، و لذا بلغ في القوة و الظّهور إلى ما لا مزيد عليه.

ثمّ هدّد سبحانه الكافرين بالقرآن بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ و يجحده مِنَ اَلْأَحْزابِ و القبائل من أهل مكّة، الذين تحزّبوا و اجتمعوا على إبطال الحقّ و إطفاء نور الرّسول، أو المراد حزب أهل الكتاب، و حزب المشركين، و حزب المنافقين فَالنّارُ مَوْعِدُهُ يوم القيامة حسبما وعدهم اللّه بقوله: لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّارُ.

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد صدق القرآن، أو صدق الوعيد المذكور بقوله: فَلا تَكُ يا محمّد، أو يا إنسان فِي مِرْيَةٍ و شكّ مِنْهُ بعد ظهور صدقه، و كونه من عند اللّه بالشّواهد المذكورة، أو بعد وضوح كون الكافرين بالقرآن من أعداء اللّه، و من المتوعّدين بالنّار. و عن الصادق عليه السّلام: «فِي مِرْيَةٍ من ولاية عليّ عليه السّلام» (3)إِنَّهُ اَلْحَقُّ الثّابت مِنْ رَبِّكَ اللّطيف بك وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لقصور عقلهم و نظرهم، أو لعنادهم و لجاجهم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 18

ثمّ قيل: إنّ بعض الكفّار كانوا شديدي الحرص على الدّنيا، فردّهم اللّه بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا الآية، و بعضهم كانوا قادحين في معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فردّهم اللّه بقوله: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ اَلْأَشْهادُ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ (18)

ص: 304


1- . مجمع البيان 5:226، تفسير الصافي 2:438.
2- . تفسير الرازي 17:201.
3- . تفسير العياشي 2:303/1997.

مِنْ رَبِّهِ، و بعضهم كانوا مفترين على اللّه بالقول بشفاعة الأصنام، فردّهم اللّه بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ على اللّه، و على نفسه مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً بقوله: هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند اللّه. لا و اللّه، لا يكون أحد أظلم منه، لأنّ الشّرك ظلم عظيم (1).

ثمّ هدّدهم اللّه بقوله: أُولئِكَ الظّالمون يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ و يحضرون عنده وَ يَقُولُ أهل الموقف، أو الملائكة الحفظة، أو الأنبياء، أو الأئمّة الّذين هم اَلْأَشْهادُ على النّاس يوم القيامة تفضيحا لهم: هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ اللّطيف بهم، المحسن بنعمه عليهم، المالك لنواصيهم بقولهم: الأصنام شركاء اللّه في الالوهيّة، و شفعاؤنا عنده أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ و غضبه و عذابه عَلَى هؤلاء اَلظّالِمِينَ على اللّه بالافتراء عليه، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

روي أنّ اللّه تعالى يدني المؤمن يوم القيامة، فيستره من النّاس فيقول: أي عبدي، أتعرف ذنب كذا و كذا؟ فيقول: نعم يا ربّ. فإذا أقرّه بذنوبه قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا، و قد غفرتها لك اليوم، ثمّ يعطى كتاب حسناته. و أمّا الكفّار و المنافقون، فيقول الأشهاد: هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ يفضحونهم بما كانوا عليه في الدّنيا و يبيّنون أنّهم ملعونون عند اللّه بسبب ظلمهم (2).

القمّي: يعني بالأشهاد الأئمّة عليهم السّلام أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ آل محمّد حقّهم (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 19

ثمّ ذمّهم سبحانه بأسوأ أعمالهم بقوله: اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ و يمنعون النّاس بشبهاتهم عَنْ الدّخول في سَبِيلِ اَللّهِ و دين الحقّ و قبوله وَ يَبْغُونَها و يطلبون لها عِوَجاً و انحرافا، بأن يصفوها بالبعد عن الحقّ، أو يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها بتعويج دلائلها المستقيمة.

اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)القمّي: يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ عن طريق اللّه؛ و هي الإمامة يَبْغُونَها عِوَجاً حرّفوها إلى غيرها (4).

وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ بالخصوص كافِرُونَ ليس كفر غيرهم في جنب كفرهم بشيء.

سوره 11 (هود): آیه شماره 20

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20)

ص: 305


1- . تفسير الرازي 17:203-204.
2- . تفسير روح البيان 4:112.
3- . تفسير القمي 1:325، تفسير الصافي 2:439.
4- . تفسير القمي 1:325، تفسير الصافي 2:439.

سوره 11 (هود): آیه شماره 20 الی 21

ثمّ عاد إلى تهديدهم بقوله: أُولئِكَ الملعونون لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ اللّه و مانعيه من تنفيذ إرادته فِي اَلْأَرْضِ بالهرب منه و المدافعة عن عذابه وَ ما كانَ لَهُمْ يوم القيامة مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سوا بعضا مِنْ أَوْلِياءَ و أنصار ينجونهم من العذاب بالقهر، فلا حيلة لهم في الخلاص منه، بل هم لكفرهم بالمبدأ و المعاد، و جمعهم بين ضلال أنفسهم و إضلال غيرهم يُضاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذابُ و قيل: تضعيف العذاب حكمة تأخيره عنهم (1).

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21)ثمّ بيّن سبحانه علّة شدّة كفرهم و تماديهم في الضّلالة بقوله: و ما كانُوا لفرط تصاممهم عن الحقّ، و امتناعهم عن الإذعان بالقرآن الذي طريق تلقّيه السّمع يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ و الإصغاء إليه وَ ما كانُوا لشدّة بغضهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يُبْصِرُونَ معجزاته أُولئِكَ اَلَّذِينَ اشتروا الضّلالة بالهدى، و عبادة الأصنام بعبادة اللّه، و العذاب بالمغفرة، فلذا خَسِرُوا و أضرّوا أَنْفُسَهُمْ غاية الخسران، و أشدّ الضّرر وَ ضَلَّ و ضاع عَنْهُمْ في ذلك اليوم ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الآلهة و شفاعتها.

و عن القمّي: بطل الذين دعوا [غير]أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

سوره 11 (هود): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ بالغ سبحانه في الإعلام بغاية خسرانهم بقوله: لا جَرَمَ و لا بدّ، أو لا شكّ، أو حقّا أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ بحيث لا يدانيهم أحد في الخسران.

لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23)ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار في الآخرة و غاية خسرانهم، بيّن حسن حال المؤمنين و كثرة ربحهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا و أطمأنّوا إِلى رَبِّهِمْ و رحمته، أو خضعوا له أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ و ملازموها، و هُمْ فِيها خالِدُونَ و مقيمون أبدا لا يخافون الخروج منها.

[سوره 11 (هود): آیه شماره 24]

مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (24)

ص: 306


1- . تفسير أبي السعود 4:197.
2- . تفسير القمي 1:325، تفسير الصافي 2:439.

ثمّ أوضح سبحانه سوء حال الكفّار و حسن حال المؤمنين، بضرب المثل بقوله: مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ فريق الكفّار و فريق المؤمنين و حالهم العجيبة، ببيان أوضح: أنّ فريق الكفّار كَالْأَعْمى وَ اَلْأَصَمِّ الذي يكون متحيّرا في جميع اموره، لا يهتدي إلى شيء من مصالحه و منافعه وَ فريق المؤمنين مثل اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ الذي يهتدي إلى كلّ خير هَلْ الفريقان يَسْتَوِيانِ مَثَلاً و حالا؟ كلاّ، لوضوح أنّ الأوّل يتخبّط في المسالك و يقع في المهالك، و الثاني يمشي مطمئنّا و يهتدي إلى جميع مطالبه إلى أقطار الأرض أَ فَلا تَذَكَّرُونَ؟ قيل: إنّ التقدير: أتعقلون عن هذا التّفاوت بينهما، فلا تذكّرون؟ أو فلا تتألّمون في هذا المثل، مع أنّ العاقل لا ينبغي له الغفلة و عدم التذكّر. و في المثل تقرير لعدم التّساوي بين من كان على بيّنة، و غيره (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 25 الی 28

في بيان كيفية دعوة

نوح و معارضته

قومه

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بالعذاب الاخروي، ذكر قصّة نوح و هلاك قومه، عبرة و تهديدا لهم بالعذاب الدّنيوي، و تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فقال: يا قوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ و مخوّف بالعذاب على الشّرك و الطّغيان مُبِينٌ لإنذاري أكمل بيان، و موضّح له أوضح تبيان.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ اَلرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)و قيل يعني: مبين ما أعدّ اللّه للمطيعين من الثّواب (2).

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة إنذاره، و ما أنذر به بقوله: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ و لا تشركوا به شيئا إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن خالفتموني عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ من جهة ما يقع فيه من العذاب فَقالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف اَلَّذِينَ كَفَرُوا و كانوا مِنْ قَوْمِهِ في جوابه، تماديا في الكفر، و عنادا للحقّ: ما نَراكَ يا نوح إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا تأكل و تنام و تمشي وَ ما نَراكَ اِتَّبَعَكَ و آمن بك إِلاّ الصعاليك اَلَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا و أدانينا بادِيَ اَلرَّأْيِ و ظاهر الأنظار من غير تعمّق، أو بلا حاجة إليه لوضوحه، فلا عبرة باتّباعهم لك، لأنّهم ليسوا بذوي عقل رزين، و رأي أصيل وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا

ص: 307


1- . تفسير أبي السعود 1:199.
2- . تفسير الرازي 17:210.

مِنْ فَضْلٍ و مزيّة من حيث العقل و الشّرف و المال، توجب اختصاصكم بالنبوّة، و القرب من اللّه بَلْ نَظُنُّكُمْ جميعا كاذِبِينَ في دعوى التّوحيد و النبوّة.

قالَ لهم نوح بلطف و لين: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني عن عقل و إنصاف إِنْ كُنْتُ في دعوى نبوّتي عَلى بَيِّنَةٍ عظيمة، و حجّة واضحة من كمال العلم و المعرفة، و المعجزة الباهرة مِنْ رَبِّي و مليكي الذي أرسلني إليكم وَ آتانِي رَحْمَةً عظيمة، و نعمة جسيمة مِنْ عِنْدِهِ و بلطفه و قدرته، من النبوّة و المعجزة فَعُمِّيَتْ و اشتبهت حقيقة الأمر عَلَيْكُمْ لسوء أخلاقكم، و تقولون إنّه لم تظهر عندكم نبوّتي أَ نُلْزِمُكُمُوها و نجبركم على قبولها و الاهتداء بها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ و عنها معرضون، لعدم إقبال قلوبكم إليها، و عدم تأمّلكم فيها.

و حاصل الجواب: أخبروني إن كانت لي حجّة ظاهرة، و أنتم لا تسلّمون لها لخفائها عنكم، بسبب حسدكم و عنادكم، هل نقدر على إلزامكم بقبولها، مع عدم نظركم إليها، و عدم تأمّلكم فيها، و إعراضكم عنها؟ كلا، لا نقدر على ذلك. و فيه إظهار غاية تمرّدهم، و اليأس عن إيمانهم.

و قيل: إنّ المقصود صرفهم عن الإعراض، و حثّهم على التدبّر في حججه و معجزاته (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 29

ثمّ لمّا كان من موجبات الإعراض أو توهّم الكذب توهّمهم طمعه في أموالهم، أعلمهم ببراءته عن الطّمع في أموالهم بقوله: وَ يا قَوْمِ إن كان سبب إعراضكم عنّي، و تكذيبكم قولي توهّم طمعي في أموالكم، فاعلموا أنّي مأمور من قبل ربّي بتبليغ دينه، و لذا لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً و إن كان يسيرا؛ لأنّ عملي ليس لكم حتّى استحقّ عليكم أجره إِنْ أَجرِيَ و ما جزاء عملي على أحد إِلاّ عَلَى اَللّهِ لأنّي عامل له، فلا تحرموا أنفسكم عن السّعادة في الدّارين، باحتمال طمعي في أموالكم، و تضرّركم بسبب قبول قولي و الإيمان بي، و أمّا اعتراضكم بأن أتباعي الفقراء و أداني النّاس، فلا وقع له، لأنّي رسول اللّه إلى النّاس، و إنّما غرضي هدايتهم، و لذا لا يتفاوت في نظري كون المهتدي غنيا أو فقيرا، شريفا أو وضيعا وَ ما أَنَا بِطارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته من مجلسي و من حولي، و إن كانوا أفقر خلق اللّه و أرذلهم، حيث إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ يوم القيامة، فيشكون إليه طاردهم و يخاصمونه.

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاّ عَلَى اَللّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)

ص: 308


1- . تفسير أبي السعود 4:201.

أو المراد: كيف أطردهم، مع أنّهم أعظم الناس قدرا، و أعلاهم منزلة؟ لأنّهم ملاقو ربّهم، و الفائزون بقرب مليكهم، بسبب إيمانهم و حسن عملهم. ثمّ أنتم ترون أنفسكم أعقل و أعلم منّي و منهم وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ بالواقعيّات، و ما وراء المحسوسات، و عواقب الامور، و تغترّن بالظّواهر لقصور نظركم، و عدم تدبّركم، و لذا تدّعون أنهم أرذل النّاس و تسألون طردهم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ بالغ في الاعتذار عن عدم طردهم بقوله: وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي و ينجيني مَنْ عذاب اَللّهِ و يدفع عنّي عقابه إِنْ طَرَدْتُهُمْ و أبعدتهم من حولي، مع أنّي مأمور بتقريبهم و إكرامهم؟ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أنّ هذا أبلغ الإعذار في ترك طردهم؟

وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اَللّهِ وَ لا أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللّهُ خَيْراً اَللّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ (31)ثمّ لمّا كان في قوله: لا أَسْئَلُكُمْ إيهام بغناه المطلق، و في دعوى رسالته إيهام بكونه ملكا في اعتقاد القائلين بأنّه بشر، و في قوله: إني أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ إيهام بكونه عالما بالبواطن و المغيّبات، و في قوله: ما أَنَا بِطارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إيهام بكونه عالما بما في أنفسهم من الخلوص في الإيمان، و كلّ ذلك كان موردا لتكذيبهم؛ لغاية استبعاده في نظرهم، دفع جميع التوهّمات بقوله: وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اَللّهِ و بيدي مفاتيح كنوزه، ولي الغنى المطلق، حتّى تجحدوا ذلك و تقولوا: ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، فإنّ النبوّة لا تنال بالمال و الجاه وَ لا أقول: إنّي أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ حتّى تستبعدوه منّي وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ من الملائكة، حتّى تكذّبوني و تقولوا: ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ، فإنّ البشريّة من مبادئ النبوّة لا من موانعها وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ و تسترذلوهم في أنظاركم: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللّهُ خَيْراً كما تقولون ذلك في شأنهم، أو آتاهم جميع الخيرات بخلوص إيمانهم. و إنّما أنظر أنا بظاهر حالهم و مقالهم، و اَللّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الخلوص و النّفاق إِنِّي إِذاً و اللّه لَمِنَ اَلظّالِمِينَ على نفسي بادّعاء ما ليس لي، و على المؤمنين بطردهم و تحقيرهم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 32 الی 33

ص: 309

فلمّا ردّ نوح شبههم، و ألزمهم بالحجج و البيّنات الواضحة، ضاقت عليهم الحيل و قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا و خاصمتنا في إثبات نبوّتك فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا و أطلته حتّى مللتنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب العاجل، عى ترك إيماننا بك، و بما ادّعيت من التّوحيد إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى نبوّتك و وعيدك، فإنّ مواعظك و مناظرتك لا تؤثّر فينا قالَ نوح: أنا لا أقدر على إتيان العذاب، بل إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللّهُ القادر على كلّ شيء إِنْ شاءَ إتيانه عاجلا أو آجلا وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له و مانعيه من تعذيبكم بالهرب و الدّفاع.

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)

سوره 11 (هود): آیه شماره 34

ثمّ نبّههم بكونه ناصحا لهم لا مجادلا، و أظهر يأسه عن إيمانهم متأسّفا عليهم بقوله: وَ لا يَنْفَعُكُمْ و لا يؤثّر فيكم نُصْحِي و موعظتي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ و أرشدكم بما فيه خيركم، و أزجركم عمّا فيه ضرّكم و شرّكم، لا تسمعوا قولي، و لا تعتنوا إلى نصحى إِنْ كانَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ و يضلّكم عن صراط الحقّ لخبث طينتكم و سوء اختياركم و إعمالكم له ذلك، إذ هُوَ رَبُّكُمْ و مالك أمركم، العالم بطينتكم و سوء أخلاقكم و أعمالكم، حيث إنّه خلقكم أوّلا، و ربّاكم في مدّة عمركم وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ آخرا؛ فيجازيكم بما تستحقّون.

وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)عن الرضا عليه السّلام: «يعني: الأمر إلى اللّه يهدي من يشاء» (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 35

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية محاجّة نوح مع قومه-التي [هي]من الأخبار الغيبيّة بالنّسبة إلى النبيّ الامّي، و الدّلائل الواضحة على صدق القرآن-وبّخ المشركين بنسبة الافتراء إليه بقوله: أَمْ يَقُولُونَ هؤلاء المشركون في شأن القرآن العظيم: إنّ محمّدا اِفْتَراهُ و اختلقه من عند نفسه قُلْ يا محمّد لهؤلاء المعاندين المصرّين على الكفر و اللّجاج: إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ كما تقولون فَعَلَيَّ إِجْرامِي و عقوبة ذنبي، و إن كنت صادقا في نسبة القرآن إلى ربّي؛ و أنتم تكذّبوني، فعليكم عقاب ذنبكم و وبال جرمكم وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ من إسناد الافتراء إليّ، فلا وجه لمعاداتكم لي.

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ (35)و قيل: هذه الآية تتمّة قول نوح، و الضّمير المنصوب في اِفْتَرَيْتُهُ راجع إلى الوحي الذي ادّعاه (2).

ص: 310


1- . تفسير العياشي 2:304/2002، و فيه: يهدي و يضلّ، تفسير الصافي 2:442.
2- . تفسير الرازي 17/220.

سوره 11 (هود): آیه شماره 36

ثمّ لمّا كان يئس نوح عليه السّلام من إيمان معارضيه دون غيرهم من الكفّار و من في أصلابهم، أخبره سبحانه بعدم إيمان الموجودين في عصره، و لا من في أصلابهم أبدا بقوله: وَ أُوحِيَ من قبل اللّه إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ و من في أصلابهم أحد أبدا إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ بك، فلا تحتمل في حقّهم و في حقّ نسلهم الإيمان، ثمّ أنّهم إن عصوك و كذّبوك فَلا تَبْتَئِسْ و لا تحزن بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من العصيان و الإيذاء، و بما كانوا يرتكبون من التّكذيب و الاستهزاء، لأنّه قد انتهت مدّة إمهالهم، و قربت ساعة مجازاتهم.

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ نوحا [كان]إذا جادل قومه ضربوه حتّى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللّهمّ اهد قومي فانّهم لا يعلمون» (1).

قيل: لمّا جاء هذا الوحي، دعا عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ. . . الآية (2).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ نوحا عليه السّلام لبث فى قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاما، يدعوهم سرّا و علانية، فلمّا أبوا و عتوا قال: رب أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فأوحى اللّه تعالى إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ. . . الآية. فلذلك قال نوح: وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً (3). الخبر (4).

سوره 11 (هود): آیه شماره 37 الی 38

ثمّ أمره اللّه بصنع الفلك بقوله: وَ اِصْنَعِ يا نوح اَلْفُلْكَ حال كونك محفوظا بِأَعْيُنِنا و حفظنا إيّاك من أن يمنعك الكفّار من صنعه، أو من الخطأ فيه، أو بحفظ الملائكة المؤيّدين لك الموكّلين بحفظك و إعانتك، و ليكن صنعك إيّاه بتعليمنا وَ وَحْيِنا إليك كيفيّة صنعه.

وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38)عن ابن عبّاس: لم يعلم نوح كيفيّة صنعة الفلك، فاوحي إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر، فأخذ القدوم و جعل يضرب و لا يخطأ (5).

ص: 311


1- . تفسير روح البيان 4:122.
2- . تفسير روح البيان 4:122، و الآية من سورة نوح:71/26.
3- . سورة نوح:71/26.
4- . تفسير العياشي 2:305/2004، الكافي 8:282/424، تفسير الصافي 2:442.
5- . تفسير روح البيان 4:123.

و روي أنّه أمر بغرس الأشجار، فنمت تلك الأشجار، في مدّة عشرين سنة، فلم يولد في تلك المدّة مولود، و بلغت الأطفال التي ولدت من قبل، و كفروا و عارضوا نوحا تبعا لآبائهم (1).

ثمّ لمّا كان نوح عليه السّلام كثير الشّفقة على قومه، أوحى اللّه إليه بقوله: وَ لا تُخاطِبْنِي و لا تراجعني فِي شأن اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و الطّغيان، و لا تشفع لهم في دفع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بالطّوفان لا محالة في حكمي و قضائي، فلا يمكن صرفه عنهم.

وَ كان نوح يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ التي أمر بصنعها وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ و أشراف مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ إمّا لعدم معرفتهم بنفعها-قيل: إنّ قومه قالوا: ما تصنع يا نوح؟ فقال: أصنع بيتا يمشي على الماء، فتعجّبوا و سخروا منه-و إمّا لأنّه كان يصنعها في أبعد موضع من الماء في وقت غاية عزّته (2)، و كان القوم يتضاحكون و يقولون: يا نوح، صرت نجّارا بعد ما كنت نبيّا، و يقولون: أتجعل للماء إكافا (3)، فأين الماء (4)؟ !

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ نوحا عليه السّلام لمّا غرس النّوى، مرّ عليه قومه فجعلوا يضحكون و يسخرون و يقولون: قد قعد غرّاسا، حتّى إذا طال النّخل، و كان جبّارا طوالا، قطعه ثمّ نحته، فقالوا: قد قعد نجّارا. ثمّ ألّفه فجعله سفينة، فمرّوا عليه فجعلوا يضحكون و يسخرون و يقولون: قد قعد ملاّحا في فلاة الأرض؛ حتّى فرغ منها» (5).

و قيل: إنّه كان ينذرهم بالغرق، فلمّا طال مكثه فيهم و لم يشاهدوا منه عينا و لا أثرا، عدّوه من المحالات، ثمّ لمّا رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص منه سخروا منه (6).

فلمّا رأى نوح عليه السّلام سخريتهم قالَ لهم: إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا اليوم فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إذا وقع عليكم الغرق في الدّنيا، و الحرق في الآخرة كَما تَسْخَرُونَ منّا.

سوره 11 (هود): آیه شماره 39

ثمّ هدّدهم بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ و عن قريب تشهدون مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ عظيم في الدّنيا يُخْزِيهِ و يذلّه، و هو الطّوفان وَ يَحِلُّ و يرد عَلَيْهِ في الآخرة عَذابٌ بالنّار مُقِيمٌ دائم لا انقطاع له أبدا.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)

ص: 312


1- . تفسير روح البيان 4:123.
2- . أي قلّته.
3- . الإكاف: البرذعة أو البردعة، و هي ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه كالسّرج للفرس.
4- . تفسير روح البيان 4:125.
5- . الكافي 8:283/425، تفسير الصافي 2:443.
6- . تفسير الرازي 17:224.

قيل: صنع نوح السفينة في سنتين، و استأجر اجراء ينحتون معه (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان منزل نوح و قومه في قرية على منزل من الفرات ممّا يلي غربي الكوفة، و كان نوح رجلا نجّارا، فجعله اللّه نبيّا و انتجبه، و نوح أوّل من عمل سفينة تجرى على ظهر الماء» .

قال: «و لبث نوح في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى الهدى، فيمرّون به و يسخرون منه، فلمّا رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيّاراً. . . (2)، فأوحى اللّه إليه: يا نوح، اصنع الفلك و أوسعها و عجّل عملها بأعيننا و وحينا، فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده يأتي بالخشب من بعد، حتّى فرغ منها.

فسئل [عليه السّلام]: في كم عمل نوح سفينته حتّى فرغ منها؟ قال: في دورين. قيل: و كم الدّوران؟ قال: ثمانون سنة. قيل: إنّ العامّة يقولون: عملها في خمسائة عام، فقال: كلاّ و اللّه، كيف و اللّه يقول: وَ وَحْيِنا» (3).

قيل: إنّ المراد بالوحي السّرعة و العجلة (4).

و عن (حياة الحيوان) : أنّ أوّل من اتّخذ الكلب للحراسة نوح عليه السّلام، قال: يا ربّ أمرتني أن أصنع الفلك، و أنا في صناعته أصنع أيّاما فيجيئون باللّيل فيفسدون كلّ ما عملت، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به، قد طال عليّ أمري؟ فأوحى اللّه إليه: يا نوح، اتّخذ كلبا يحرسك. فاتّخذ نوح كلبا، و كان يعمل بالنّهار و ينام باللّيل، فإذا جاء قومه ليفسدوا باللّيل ينبحهم الكلب، فينتبه نوح فيأخذ الهراوة (5)و يثب إليهم فينهزمون منه، فالتأم ما أراد، و فعل السّفينة (6).

سوره 11 (هود): آیه شماره 40

ثمّ أنّه كان مشتغلا بصنع الفلك حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا للتنّور بالفوران، أو عذابنا وَ فارَ اَلتَّنُّورُ و نبع الماء منه بشدّة كغليان القدر. قيل: كان التنّور في مسجد الكوفة، و السّفينة أيضا فيه (7).

حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ اَلتَّنُّورُ قُلْنَا اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ (40)و عن الصادق عليه السّلام: «كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد» يعني مسجد الكوفة، فقيل له: فإنّ ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثمّ سئل: أو كان بدو خروج الماء من ذلك

ص: 313


1- . تفسير روح البيان 4:123.
2- . نوح:71/27.
3- . تفسير العياشي 2:305/2005، الكافي 8:280/421، تفسير الصافي 2:446.
4- . تفسير الصافي 2:446.
5- . الهراوة: العصا الضّخمة.
6- . تفسير روح البيان 4:123.
7- . تفسير أبي السعود 4:208.

التنّور؟ قال: «نعم، إنّ اللّه أحبّ أن يري قوم نوح آية» (1).

و عنه عليه السّلام: «جاءت امرأة نوح إليه، و هو يعمل السّفينة، فقالت له: إن التنّور قد خرج منه ماء، فقام إليه مسرعا حتّى جعل الطّبق عليه، فختمه بخاتمه فقام الماء (2)، فلمّا فرغ من السّفينة جاء إلى خاتمه، ففضّه و كشف الطّبق ففار الماء» (3).

في بيان ركوب نوح

في السفينة و حمل

الحيوانات

فيها

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ نوحا لمّا فرغ من السّفينة، و كان ميعاده فيهما بينه و بين ربّه في إهلاك قومه أن يفور التنّور، ففار فقالت امرأته: إنّ التنّور قد فار، فقام إليه فختمه، فقام الماء» . الخبر (4).

ثمّ قُلْنَا لنوح: اِحْمِلْ فِيها معك مِنْ كُلٍّ من أنواع الحيوان التي لا بدّ من وجودها في الأرض زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ الذّكر و الانثى، لئلاّ ينقرض نسلها.

روي أنّ نوحا عليه السّلام قال: يا ربّ، كيف أحمل من كلّ زوجين اثنين؟ فحشر اللّه إليه السّباع و الطّير، فجعل يضرب يديه في كلّ جنس، فيقع الذّكر في يده اليمنى و الانثى في اليسرى، فيجعلها في السّفينة (5).

و قيل: لم يحمل فيها إلاّ ما يلد و يبيض، دون ما يتولّد من التراب كالحشرات (6).

و قيل: أوّل ما حمله الذرة (5)، و آخر ما حمله الحمار، فلمّا دخل صدره تعلّق إبليس بذنبه فلم تستقلّ رجلاه، فجعل نوح عليه السّلام يقول: ويحك ادخل، فينهض فلا يستطيع، حتّى قال نوح عليه السّلام ادخل و الشّيطان معك، فلمّا قال نوح عليه السّلام ذلك خلّى الشّيطان سبيله، فدخل و دخل الشّيطان معه، فقال نوح عليه السّلام: ما أدخلك يا عدوّ اللّه؟ قال: ألم تقل: ادخل و الشّيطان معك؟ قال: اخرج عنّي يا عدوّ اللّه. قال: مالك بدّ من أن تحملني معك (6).

و نقل أنّه عليه السّلام قال للحمار: ادخل يا ملعون، فدخل الحمار [السفينة]و دخل معه إبليس، فلمّا كان بعد ذلك رأى نوح إبليس في السّفينة، فقال له: دخلت السّفينة بغير أمري؟ فقال إبليس: ما دخلت إلاّ بأمرك، فقال له: أنا ما أمرتك، فقال: أمرتني حين قلت للحمار: ادخل يا ملعون، و لم يكن ثمّة ملعون

ص: 314


1- . الكافي 8:281/421، مجمع البيان 5:247، تفسير الصافي 2:443.
2- . قام الماء: إذا ثبت لا يجد منفذا.
3- . تفسير العياشي:2:307/2008، الكافي 8:282/423، تفسير الصافي 2:443.
4- . الكافي 8:281/422، تفسير الصافي 2:443. (5 و 6) . تفسير روح البيان 4:126.
5- . الذرّ: صغار النّمل.
6- . تفسير روح البيان 4:126.

إلاّ أنا فدخلت، فتركه (1).

عن الصادق عليه السّلام: «حمل نوح في السفينة الأزواج الثّمانية التي قال اللّه: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ (2)، فكان من الضّأن اثنين؛ زوج داجنة يربّيها النّاس، و الزّوج الآخر التي تكون في الجبال وحشيّة، احلّ لهم صيدها» (3).

القمّي: عنه عليه السّلام: «لمّا أراد اللّه هلاك قوم نوح عقّم أرحام النّساء أربعين سنة، فلم يولد لهم مولود، و لمّا فرغ نوح عليه السّلام من إيجاد السّفينة أمره اللّه أن ينادي بالسّريانيّة أن تجتمع جميع الحيوانات، فلم يبق حيوان إلا حضر، فأدخل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين، ما خلا الفأر و السّنّور، و إنّهم لمّا شكوا من سرقين (4)الدّواب و القذر، دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس، فسقط من أنفه فأر، فتناسل، فلمّا كثروا شكوا إليه منها، فدعا بالأسد فمسح جبينه فعطس، فسقط من أنفه زوج سنّور» . و في رواية: «شكوا العذرة (5)، فأمر اللّه الفيل فعطس فسقط الخنزير» (6).

و عنه عليه السّلام: «كان طول سفينة نوح ألف ذراع و مأتي ذراع، و عرضها ثمانمائة و مائتي [ذراع]، و طولها في السّماء ثمانين [ذراعا]» (7).

و في رواية اخرى: «طولها ثمانمائة [ذراع]، و عرضها خمسمائة [ذراع]» (8).

و عن الرضا عليه السّلام: «اتّخذ نوح عليه السّلام في الفلك تسعين بيتا للبهائم» (9).

و في رواية: «و كان نوح عليه السّلام قد اتّخذ لكلّ ضرب من أجناس الحيوان موضعا في السّفينة، و جمع لهم فيها ما يحتاجون إليه من الغذاء» (10).

و قيل: كانت من خشب السّاج، و جعلت ثلاثة بطون؛ حمل في البطن الأوّل الوحوش و السّباع و الهوامّ، و في البطن الأوسط الدّوابّ و الأنعام، و في البطن الأعلى هو و من معه، مع ما يحتاجون إليه من الزّاد، و حمل معه جسد آدم (11).

ص: 315


1- . تفسير روح البيان 4:127.
2- . الزمر:39/6.
3- . تفسير العياشي 2:308/2012، الكافي 8:283/427، تفسير الصافي 2:445.
4- . السّرقين: السّرجين، و هو زبل الحيوان.
5- . العذرة: الغائط.
6- . مجمع البيان 5:242، تفسير الصافي 2:445، تفسير القمي 1:326 «قطعة منه» .
7- . تفسير العياشي 2:310/2022، الكافي 8:283/426، تفسير الصافي 2:446.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:244/1، تفسير الصافي 2:446.
9- . الخصال:598/1، عن ابن عباس، تفسير الصافي 2:445.
10- . تفسير القمي 1:327، تفسير الصافي 2:444.
11- . تفسير أبي السعود 4:206.

و قيل: جعل في الأوّل الدّوابّ و الوحوش، و في الثّاني الإنس، و في الأعلى الطّير (1).

وَ احمل معك أَهْلَكَ و هم: امرأته و بنوه و نساؤهم-عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «كانوا ثمانية: نوح و أهله: و بنوه الثّلاثة، و نساؤهم» (2)- إِلاّ مَنْ سَبَقَ في علمي عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ و الحكم بأنّه من المغرقين، و هو ابنه كنعان، و امّه غائلة، لأنّهما كانا كافرين وَ احمل مَنْ آمَنَ بك من سائر النّاس وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ.

و عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «و كان الّذين آمنوا به من جميع الدّنيا ثمانين رجلا» . الخبر (3).

و عنه عليه السّلام: «آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «ليس كلّ من في الأرض من بني آدم من ولد نوح، قال اللّه في كتابه: اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ. . . إلى قوله: وَ مَنْ آمَنَ و قال: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. . .» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ نوحا حمل الكلب في السّفينة، و لم يحمل ولد الزّنا» (6).

و عنه عليه السّلام: «ينبغي لولد الزّنا أن لا تجوز له شهادة، و لا يوم النّاس، لم يحمله نوح في السّفينة، و قد حمل فيها الكلب و الخنزير» (7).

سوره 11 (هود): آیه شماره 41 الی 43

ثمّ أنّه روي عن الصادق عليه السّلام: «ثمّ [إنّ اللّه]أرسل [عليهم]

المطر يفيض فيضا، و فاض الفرات فيضا، و العيون كلّهنّ فيضا» (8).

وَ قالَ اِرْكَبُوا فِيها بِسْمِ اَللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ اِبْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ اَلْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْماءِ قالَ لا عاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فَكانَ مِنَ اَلْمُغْرَقِينَ (43)و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «و انكسفت الشّمس، و جاء من السّماء ماء منهمر صبّ بلا قطر،

ص: 316


1- . تفسير أبي السعود 4:206.
2- . تفسير روح البيان 4:128.
3- . تفسير القمي 1:327.
4- . مجمع البيان 5:248، تفسير الصافي 2:444.
5- . تفسير الصافي 2:444، و الآية من سورة الأسراء:17/3.
6- . تفسير العياشي 2:309/2013، تفسير الصافي 2:445.
7- . تفسير العياشي 2:309/2014، تفسير الصافي 2:445.
8- . تفسير العياشي 2:307/2007.

و تفجّرت الأرض عيونا فَالْتَقَى اَلْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ» (1).

وَ قالَ نوح لمن معه من المؤمنين بعد حمل الأزواج في السّفينة: اِرْكَبُوا أيّها المؤمنون، و ادخلوا فِيها حال كونكم مستعينين بِسْمِ اَللّهِ أو قائلين: له مَجْراها و حين سيرها على الماء وَ مُرْساها و وقت وقوفها عليه.

و عن الصادق عليه السّلام: «أي مسيرها و موقفها» (2).

و قيل: إن المعنى: بسم اللّه إجراؤها و إرساؤها، فكان عليه السّلام إذا أراد أن تجري قال: بسم اللّه؛ فجرت، و إذا أراد أن ترسو قال: بسم اللّه؛ فرست (3).

ثمّ بيّن نوح عليه السّلام علّة نجاتهم بقوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بالمؤمنين، و لذا أنجاكم مع زلاّتكم و فرطاتكم.

قيل: سارت السّفينة لأوّل يوم من رجب، أو لعشر منه (4).

فركب نوح عليه السّلام و المؤمنون في السّفينة مسمّين وَ هِيَ كانت تَجْرِي على الماء، و تسير بِهِمْ فِي خلال مَوْجٍ و مياه مرتفعة على الماء لشدّة الرّياح، و كانت الأمواج في عظمتها و ارتفاعها كَالْجِبالِ.

عن الرضا عليه السّلام: «أنّ نوحا عليه السّلام لمّا ركب السّفينة أوحى اللّه إليه: يا نوح، إن خفت الغرق فهلّلني ألفا، ثمّ سلني النّجاة، انجك و من آمن معك من الغرق. قال: فلمّا استوى نوح و من آمن معه في السّفينة و رفع القلس (5)، عصفت الرّيح عليهم، فلم يأمن نوح عليه السّلام [الغرق]، و أعجلته الرّيح فلم يدرك أن يهلّل [اللّه]ألف مرّة، فقال بالسريانيّة هيلوليلا (6)ألفا ألفا، يا ماريا اتقن (7). قال: فاستوى القلس و استقرّت السّفينة، فقال نوح عليه السّلام: إنّ كلاما نجّاني اللّه به من الغرق لحقيق أن لا يفارقني. قال: فنقش في خاتمه: لا إله إلاّ اللّه ألف مرّة، يا ربّ أصلح» (8).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ نوحا عليه السّلام لمّا ركب السّفينة و خاف الغرق، قال: اللّهمّ إنّي أسألك بمحمد (9)و آل محمّد لمّا أنجيتني من الغرق، فنجّاه اللّه عزّ و جلّ» (10).

ص: 317


1- . تفسير القمي 1:327، تفسير الصافي 2:444، و الآية من سورة القمر:54/12.
2- . تفسير القمي 1:327، تفسير الصافي 2:447.
3- . تفسير روح البيان 4:129.
4- . تفسير الرازي 17:229.
5- . القلس: العظيم من حبال السّفينة.
6- . في تفسير الصافي و عيون أخبار الرضا عليه السّلام: هيلوليا.
7- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: أيقن.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:55/206، و فيه: يا رب أصلحني، تفسير الصافي 2:447.
9- . في الاحتجاج: بحقّ محمد.
10- . الإحتجاج:48، تفسير الصافي 2:447.

وَ نادى نُوحٌ اِبْنَهُ كنعان، و قيل: اسمه يام (1).

و قيل: إنّه كان ربيبه (2)، ابن واغلة (3)الكافرة (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه قرأ: «ابنها» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «ليس بابنه، إنّما هو ابن امرأته، و هو لغة طيّئ، يقولون لابن المرأة: ابنه» (6).

وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ و ناحية بعيدة من نوح: يا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنا في السّفينة وَ لا تَكُنْ مَعَ اَلْكافِرِينَ و تغرق و تهلك. عن الصادق عليه السّلام: «نظر نوح إلى ابنه يقع و يقوم، فقال له: يا بُنَيَّ اِرْكَبْ . . . (7)الآية» . قالَ ابنه: سَآوِي و ألتجئ إِلى جَبَلٍ من الجبال العظيمة المرتفعة، فإنّه يَعْصِمُنِي و يحفظني بارتفاعه مِنَ اَلْماءِ و الغرق، فلا أحتاج إلى سفينتك قالَ نوح: يا بني لا عاصِمَ و لا حافظ اَلْيَوْمَ لأحد مِنْ أَمْرِ اَللّهِ و عذابه إِلاّ مَنْ رَحِمَ العباد، و هو اللّه تعالى. قيل: إنّ المعنى: لا معصوم من العذاب إلاّ من رحمه اللّه (8).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّه قال حين أشرف على النّجف: هو الجبل الذي اعتصم به ابن جدّي نوح عليه السّلام، فقال: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْماءِ، فأوحى اللّه إليه: يا جبل، أيعتصم بك منّي أحد، فغار في الأرض و تقطّع إلى الشّام» (9).

وَ حالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فانقطع كلامهما بسبب الحيلولة فَكانَ كنعان بن نوح مِنَ جملة اَلْمُغْرَقِينَ و المهلكين.

عن ابن عبّاس أنّه قال: أمطرت السّماء أربعين يوما و ليلة، و خرج ماء الأرض كذلك، فارتفع الماء على أطول جبل في الأرض بخمسة عشر ذراعا، أو بثلاثين، أو بأربعين، و طافت بهم السّفينة الأرض كلّها في خمسة أشهر لا تستقرّ على شيء، حتّى أتت الحرم فلم تدخله، و دارت حول الحرم اسبوعا، و قد اعتق اللّه البيت من الغرق (10).

القمّي: عن الصادق عليه السّلام في حديث: «فدارت السّفينة و ضربتها الأمواج، حتّى وافت مكّة و طافت بالبيت، و غرق جميع الدّنيا إلاّ موضع البيت، و إنّما سمّي البيت العتيق، لأنّه اعتق من الغرق، فبقي الماء

ص: 318


1- . مجمع البيان 5:249، تفسير روح البيان 4:130.
2- . الرّبيب: ابن امرأة الرّجل من غيره.
3- . في تفسير روح البيان: واعلة.
4- . تفسير روح البيان 4:130.
5- . تفسير الرازي 17:231.
6- . تفسير القمي 1:328، تفسير العياشي 2:309/2017، تفسير الصافي 2:447، و ابنه: بفتح الهاء، أي: ابنها.
7- . تفسير القمي 1:327، تفسير الصافي 2:448.
8- . تفسير روح البيان 4:132.
9- . من لا يحضره الفقيه 2:351/1612، تفسير الصافي 2:448.
10- . تفسير روح البيان 4:133.

ينصبّ من السّماء أربعين صباحا، و من الأرض العيون، حتّى ارتفعت السّفينة فسحّت (1)السّماء. قال: فرفع نوح عليه السّلام يده فقال: يا رهمان أتقن، و تفسيرها: يا ربّ، أحسن» (2).

و عنه عليه السّلام: «ارتفع الماء على كلّ جبل و كلّ سهل خمسة عشر ذراعا» (3).

و قيل: رفع البيت الذي بناه آدم إلى السّماء السّادسة (4)، و استودع الحجر الأسود أبا قبيس إلى زمن إبراهيم (5).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ نوحا كان في السّفينة، و كان فيها ما شاء اللّه، و كانت السّفينة مأمورة، فطافت بالبيت، و هو طواف النّساء» (6).

و في رواية: وسعت بين الصّفا و المروة (7).

سوره 11 (هود): آیه شماره 44

و عن الصادق عليه السّلام، بعد حكاية دعاء نوح عليه السّلام: «فأمر اللّه عزّ و جلّ الأرض أن تبلع ماءها بقوله: وَ قِيلَ يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ، قال: نزلت بلغة الهند: اشربي» (8). وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي و أمسكي ماءك وَ غِيضَ و نقص اَلْماءُ من وجه الأرض وَ قُضِيَ و تمّ اَلْأَمْرُ و هو إنجاز ما وعد، و فرغ من إهلاك الكافرين و إنجاء المؤمنين.

وَ قِيلَ يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْماءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (44)و في رواية: «فبلعت الأرض ماءها، فأراد ماء السّماء أن يدخل في الأرض، فامتنعت الأرض من قبوله، و قالت: إنّما أمرني اللّه أن ابلع مائي، فبقي ماء السّماء على وجه الأرض وَ اِسْتَوَتْ السّفينة، و استقرّت عَلَى جبل اَلْجُودِيِّ و هو جبل عظيم بالموصل، فبعث اللّه عزّ و جلّ جبرئيل، فساق الماء إلى البحار حول الدّنيا» (9).

و في رواية عن الكاظم عليه السّلام: «فأوحى اللّه إلى الجبال: إنّي واضع سفينة نوح عبدي على جبل منكنّ، فتطاولت و شمخت، و تواضع الجوديّ، و هو جبل عندكم، فضربت السّفينة بجؤجؤها (10)الجبل، قال:

ص: 319


1- . سحّت السماء: صبّت الماء.
2- . تفسير القمي 1:328، تفسير الصافي 2:448.
3- . الكافي 8:284/428، تفسير الصافي 2:450.
4- . زاد في تفسير روح البيان: و هو البيت المعمور.
5- . تفسير روح البيان 4:133.
6- . الكافي 2:101/12، تفسير الصافي 2:449.
7- . تفسير العياشي 2:310/2022، الكافي 8:283/426، تفسير الصافي 2:450.
8- . تفسير العياشي 2:310/2020، تفسير الصافي 2:448.
9- . تفسير القمي 1:328، تفسير الصافي 2:449.
10- . الجؤجؤ: صدر السّفينة.

فقال نوح عند ذلك: يا ماري أتقن، و هو بالسّريانيّة: ربّ أصلح» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «سمع نوح صرير السّفينة على الجوديّ، فخاف عليها، فأخرج رأسه من كوّة كانت فيها، فرفع يده و أشار بإصبعه و هو يقول: يا رهمان (2)أتقن، تأويلها: ربّ أحسن» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى نوح و هو في السّفينة أن يطوف بالبيت اسبوعا، فطاف كما أوحى [اللّه تعالى]إليه، ثمّ نزل في الماء إلى ركبتيه، فاستخرج تابوتا فيه عظام آدم عليه السّلام، فحمله في جوف السّفينة، حتّى طاف ما شاء اللّه أن يطوف، ثمّ ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها، ففيها قال اللّه للأرض: اِبْلَعِي ماءَكِ، فبلعت [ماءها]من مسجد الكوفة كما بدأ الماء منه، و تفرّق الجمع الذي كان مع نوح عليه السّلام في السّفينة» الخبر (4).

وَ قِيلَ على سبيل اللّعن و الطّرد: بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (5)قيل: إنّ القائل هو اللّه (6)، و قيل: نوح (7).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل: كم لبث نوح عليه السّلام و من معه في السّفينة حتّى نضب الماء و خرجوا منها؟ فقال: «لبثوا فيها سبعة أيّام و لياليها، و طافت بالبيت اسبوعا، ثمّ استوت على الجوديّ، و هو فرات الكوفة» (8).

سوره 11 (هود): آیه شماره 45 الی 47

ثمّ حكى سبحانه اعتراض نوح عليه السّلام عند هلاك كنعان بالغرق، مع وعده إيّاه بإنجاء أهله؛ بقوله: وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ حزنا على ابنه فَقالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي كنعان-أو يام-كان مِنْ أَهْلِي الّذين وعدتني إنجاءهم في قولك: وَ أَهْلَكَ، وَ إِنَّ وَعْدَكَ هذا، بل جميع وعودك (9)اَلْحَقُّ و الصّدق، لا يمكن تطرّق الخلف إليه وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحاكِمِينَ و أعدلهم قالَ اللّه: يا نُوحُ إِنَّهُ

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (47)

ص: 320


1- . الكافي 2:101/12، تفسير الصافي 2:449.
2- . في تفسير العياشي: ربعمان.
3- . تفسير العياشي 2:311/2026، تفسير الصافي 2:450.
4- . التهذيب 6:23/51، تفسير الصافي 2:449.
5- . تفسير الرازي 17:235.
6- . مجمع البيان 5:250.
7- . مجمع البيان 5:250.
8- . تفسير العياشي 2:307/2007، الكافي 8:281/421، تفسير الصافي 2:450.
9- . في النسخة: وعدك.

لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الّذين وعدتك بنجاتهم؛ لأنّه لم يكن على دينك إِنَّهُ بذاته عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ و فيه مبالغة في ذمّه.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه قال لنوح عليه السّلام: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لأنّه كان مخالفا له، و جعل من اتّبعه من أهله» (1).

و في رواية: «نفاه عنه حين خالفه في دينه» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد تنبيه نوح عليه السّلام بخطأه، و أن ولده كان ممّن سبق عليه القول، عاتبه على عدم تأمّله في حسن مطلوبه بقوله: فَلا تَسْئَلْنِي و لا تطلب منّي عمل ما لَيْسَ لَكَ بِهِ و بصلاحه و صوابه عِلْمٌ أجد مثل هذا السّؤال [ليس]من شأنك الرّفيع و مقامك المنيع عندي، و إِنِّي لحبّي لك و شفقتي عليك أَعِظُكَ و أنصحك كراهة أَنْ تَكُونَ في آن مِنَ اَلْجاهِلِينَ بعلوّ منزلتك المنافي للسّؤال الذي يكون تركه أولى و أفضل، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

قالَ نوح معتذرا من تركه الأولى، و مستغفرا من زلّته: رَبِّ إِنِّي لا أملك لنفسي أن أحفظها من مثل هذه الزلاّت، و أَعُوذُ بِكَ و ألتجئ إليك و إلى حفظك في بقيّة عمري من أَنْ أَسْئَلَكَ فيما بعد ما لَيْسَ لِي برضاك بِهِ و ما صوّبته (3)عندك عِلْمٌ فضلا عمّا أعلم فساده و عدم رضاك به، فاغفر لي ما صدر منّي وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِي زلّتي وَ تَرْحَمْنِي بقبول توبتي و معذرتي أَكُنْ ألبتّة مِنَ اَلْخاسِرِينَ أعمالا، فإنّ الانصراف عن شكر نعمك، و الاشتغال بما ليس فيه رضاك؛ كطلب نجاة من يستحقّ العذاب، خسران ظاهر، و غبن فاحش. و فيه غاية التّذلّل و الاستكانة.

سوره 11 (هود): آیه شماره 48

و إنّما أخّر سبحانه ذكر نداء نوح عليه السّلام عن ذكر زوال الطّوفان مع كونه في بدوه، رعاية للتّرتيب بين توبته و اعتذاره، و بين إظهار غاية لطفه به بأمره تعالى بنزوله من الفلك بسلام و بركات عليه و على أتباعه بقوله: قِيلَ يا نُوحُ اِهْبِطْ و انزل من الفلك على الأرض متلبّسا بِسَلامٍ و أمّن من الآفات و المكاره، و حفظ كامل كائن مِنّا أو تحيّة عظيمة من قبلنا وَ بَرَكاتٍ كثيرة و خيرات نامية فائضة عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ و جماعات كثيرة مؤمنة متولّدة و منشعبة مِمَّنْ مَعَكَ.

قِيلَ يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)

ص: 321


1- . تفسير العياشي 2:312/2028، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:75/3، مجمع البيان 5:253، تفسير الصافي 2:450.
2- . تفسير العياشي 2/312/2028، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:76/3، تفسير الصافي 2:451.
3- . كذا، و الظاهر صوابيّته.

قيل: لمّا خرج نوح عليه السّلام من السّفينة خاف من الشدّة و ضيق المعاش، لعلمه بفناء ما على الأرض ممّا ينتفع به البشر، فبشّره اللّه بالسّلامة المستلزمة للأمن من الآفات، و السّعة في العيش، و بالبركات و هي الثّبات و البقاء ببقاء نسله، حيث إنّه لم يكن معه إلاّ نسله، أو كان و لكن مات من لم يكن من نسله، و لذا قالوا إنّه آدم الثاني (1).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «فنزّل نوح عليه السّلام بالموصل من السّفينة مع الثّمانين، و بنوا مدينة الثّمانين، و كانت لنوح ابنة ركبت معه السّفينة، فتناسل النّاس منها، و ذلك قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نوح أحد الأبوين» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد تبشيره بحسن حال المؤمنين من ذريّته و ذريّة من معه، بيّن حال الكفّار منهم بقوله: وَ أُمَمٌ و جماعات منهم سَنُمَتِّعُهُمْ في الدّنيا قليلا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ و يصيبهم بعد الموت و في الآخرة مِنّا عقوبة على كفرهم و سوء أعمالهم عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره.

قيل: إنّه لمّا رست السّفينة على الجوديّ كشف نوح عليه السّلام الطّبق الذي فيه الطّير، فبعث الغراب لينظر هل غرقت البلاد، و كم بقي من الماء، فيأتيه بخبر الأرض؟ فأبصر جيفة، فوقع عليها و اشتغل بها و لم يرجع، ثمّ أرسل الحمامة فلم تجد موضعا في الأرض، فجاءت بورق الزّيتون في منقارها، فعرف نوح عليه السّلام أنّ الماء قد نقص، و طهرت الأشجار، ثمّ أرسلها فوقعت على الأرض، فغابت رجلاها في الطّين قدر حمرتها، فجاءت إلى نوح عليه السّلام فأرته، فعرف أنّ الأرض قد ظهرت، فبارك على الحمامة و طوّقها الخضرة التي في عنقها، و دعا لها بالأمان، فمن ثمّ تألف البيوت، و دعا على الغراب بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، و تتشأّم العرب به» (3).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا حسر الماء عن عظام الموتى، فرأى ذلك نوح عليه السّلام جزع جزعا شديدا و اغتمّ لذلك، فأوحى اللّه عزّ و جلّ [إليه]هذا عملك (4)، أنت دعوت عليهم، فقال: يا ربّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك. فأوحى اللّه إليه أن كل العنب الأسود ليذهب غمّك» (5).

و قيل: لمّا ارتفع الطّوفان قسّم نوح عليه السّلام الأرض بين أولاده الثّلاثة، فأمّا سام فأعطاه بلاد الحجاز و اليمن و الشّام، فهو أبو العرب، و أمّا حام: فأعطاه بلاد السّودان، فهو أبو السّودان، و أمّا يافث فأعطاه بلاد المشرق، فهو أبو التّرك» (6).

ص: 322


1- . تفسير الرازي 18:6.
2- . تفسير القمي 1:328، تفسير الصافي 2:451.
3- . تفسير روح البيان 4:142.
4- . زاد في الكافي: بنفسك.
5- . الكافي 6:350/2، تفسير الصافي 2:454.
6- . تفسير روح البيان 4:141.

عن الصادق عليه السّلام: «كانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة» (1).

و عنه عليه السّلام: «عاش نوح عليه السّلام ألفي [سنة]و ثلاثمائة سنة، منها ثمانمائة و خمسون سنة قبل أن يبعث، و ألف سنة إلاّ خمسين عاما و هو في قومه يدعوهم، و خمسمائة عام بعد ما نزل من السّفينة، و نضب الماء فمصّر الأمصار، و أسكن ولده البلدان. ثمّ إنّ ملك الموت جاءه و هو في الشّمس، فقال: السّلام عليك، فردّ عليه نوح فقال: ما جاء بك يا ملك الموت؟ فقال: جئتك لأقبض روحك، قال: دعني أدخل من الشّمس إلى الظلّ، فقال له، نعم، فتحوّل ثمّ قال: يا ملك الموت كلّ ما مرّبي من الدّنيا مثل تحويلي من الشّمس إلى الظّل، فامض لما امرت به، فقبض روحه» (2).

و عنه عليه السّلام: «عاش نوح بعد الطّوفان خمسمائة سنة، ثمّ أتاه جبرئيل فقال: يا نوح، إنّه قد انقضت نبوّتك، و استكملت أيّامك، فانظر إلى الاسم الأكبر، و ميراث العلم، و آثار النّبوّة التي معك، فادفعها إلى ابنك سام، فإنّي لا أترك الأرض إلاّ و فيها عالم تعرف به طاعتي، و يعرف به هداي، و يكون نجاة [فيما]بين مقبض النبيّ و مبعث نبيّ آخر، و لم [أكن]أترك النّاس بغير حجّة [لي]و داع إليّ و هاد إلى سبيلي، و عارف بأمري، فإنّي [قد]قضيت أن أجعل لكلّ قوم هاديا أهدي به السّعداء، و يكون حجّة لي على الأشقياء. قال: فدفع نوح عليه السّلام الاسم الأكبر، و ميراث العلم، و آثار النّبوّة إلى سام، و أمّا حام و يافث فلم يكن عندهما ما ينتفعان به. قال: و بشّرهم نوح عليه السّلام بهود، و أمرهم باتّباعه، و أمرهم أن يفتحوا الوصيّة في كلّ عام، و ينظروا فيها، و يكون عيدا لهم» (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 49

ثمّ نبّه سبحانه على إعجاز القرآن من جهة تضمّنه للمغيّبات، إثباتا لصدقه و صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: تِلْكَ القصّة التّي قصصناها عليك من تفصيل دعوة نوح، و محاجّته مع قومه، و صنعه الفلك، و استهزاء قومه به، و غرقهم بالطّوفان، و مكالمته مع ابنه كنعان، إلى آخرها، كلّها مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ و من الأخبار التي لا يعلم بها أحد إلاّ بطريق الوحي، و نحن نُوحِيها إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ و إن لم تكن اميّا وَ لا يعلمها قَوْمُكَ بهذا التّفصيل مِنْ قَبْلِ نزول هذا القرآن، و إن علموا بها إجمالا، فمع هذه المعجزة العظيمة إن أصرّوا على تكذيبك في النّبوّة،

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

ص: 323


1- . كمال الدين:523/2، تفسير الصافي 2:454.
2- . الكافي 8:284/429، تفسير الصافي 2:454.
3- . الكافي 8:285/430، تفسير الصافي 2:454.

و تكذيب كتابك فَاصْبِرْ على تكذيبهم و إيذائهم، كما صبر نوح عليه السّلام سنين متطاولة على ذلك، و ابشر بأنّه كما كانت عاقبة صبر نوح النّصر و الظّفر و الفرح و السّرور، تكون عاقبة صبرك كذلك، بل نقول: إِنَّ اَلْعاقِبَةَ المحمودة في الدّنيا و الآخرة لِلْمُتَّقِينَ و المؤمنين الصّابرين كافّة، [سواءأ] كانوا رسلا أو غيرهم. و فيه تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين.

سوره 11 (هود): آیه شماره 50 الی 51

ثمّ أردف سبحانه قصّة نوح بقصّة هود، ازديادا للاعتبار و التّسلية بقوله: وَ إِلى عادٍ أرسلنا أَخاهُمْ و من هو من قبيلتهم، و كان اسمه هُوداً و هذه القبيلة كانت من العرب، بناحية اليمن، على ما قيل (1).

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اَلَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ (51)ثمّ أنّه عليه السّلام دعاهم إلى التّوحيد، و قالَ لهم: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده، فإنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ و معبود مستحقّ للعبادة غَيْرُهُ تعالى، لدلالة جميع الموجودات على الوهيّته و وحدانيّته إِنْ أَنْتُمْ و ما كنتم إِلاّ مُفْتَرُونَ و كاذبون في دعوى كون غيره شريكا له في الالوهيّة، لظهور آثار الحدوث في غيره، الدّالّة (2)على كونه مخلوقا مثلكم.

ثمّ دفع توهّم طمعه في أموالهم، استجلابا لقلوبهم بقوله: يا قَوْمِ إن تحترزوا من قبول قولي لتوهّمكم طمعي في أموالكم، فاعلموا أنّي بعملي هذا من الدّعوة و الهداية إلى التّوحيد لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً و عوضا من أموالكم إِنْ أَجْرِيَ و ما عوض عملي إِلاّ عَلَى اللّه اَلَّذِي فَطَرَنِي و خلقني بقدرته، أتنكرون توحيده أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنّه حقّ لا محيص عنه بحكم العقل السّليم؟ و إنّي بريء من الطّمع في أموالكم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 52

ثمّ حثّهم على ترك الشّرك و التّوبة منه بقوله: وَ يا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا و اسألوا رَبَّكُمْ ستر ما سلف من إشراككم به ثُمَّ تُوبُوا و ارجعوا إِلَيْهِ بالنّدم على عصيانكم، و بالعزم على عدم العود إلى

وَ يا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)

ص: 324


1- . تفسير الرازي 18:9.
2- . في النسخة: الدلالة.

مثله، فإن فعلتم ذلك يقبل اللّه توبتكم، و يُرْسِلِ و يمطر اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ برحمته، حال كونه مِدْراراً و متتابعا في أوقات الحاجة إليه، فعند ذلك تكثر نعمكم و توفر حظوظكم وَ يَزِدْكُمْ مع ذلك قُوَّةً في الجسم إِلى قُوَّتِكُمْ التي تكون في الحال، فلذا تتمكّنون من كمال الانتفاع بتلك النّعم، فتجتمع لكم السّعادة الجسمانيّة و الماليّة.

ثمّ أكّد أمره بالمعروف بنهيه عن المنكر بقوله: وَ لا تَتَوَلَّوْا و لا تعرضوا عن نصحي و إرشادي لكم إلى خيركم، حال كونكم مُجْرِمِينَ و عاصين لربّكم، مستحقّين لعقوبة مليككم.

قيل: إنّهم كانوا أصحاب زروع و بساتين و عمارات، حرّاصا عليها أشدّ الحرص، و كانت بساتينهم في غاية اللّطف و البهجة، و كانوا أحوج شيء إلى الماء، و كانوا في غاية القوّة و البطش، محفوظين بها من العدوّ، مهيبين في كلّ ناحية (1)، مفتخرين بكثرة المال و القوّة، و لذا وعدهم هود بالزّيادة فيها.

سوره 11 (هود): آیه شماره 53

ثمّ أنّ القوم بعد ما سمعوا دعوة هود إلى التّوحيد، و ترغيبهم إلى التّوبة من الشّرك قالُوا تكذيبا له: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ و ما أقمت حجّة على نبوّتك، و صدق قولك وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي عبادة آلِهَتِنا و أصنامنا التي كنّا نلتزم بها تقليدا لآبائنا، حال كون التّرك صادرا عَنْ مجرّد قَوْلِكَ بلا حجّة و لا معجزة دالّة على صدقه وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ و لقولك بمصدّقين.

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)

سوره 11 (هود): آیه شماره 54 الی 56

ثمّ لم يكتفوا بتكذيبه، بل نسبوه إلى الجنون بقوله: إِنْ نَقُولُ في شأنك إِلاَّ قولا خاصّا و صدقا، و ما نعتقد إلاّ اعتقادا صائبا، و هو أنّه اِعْتَراكَ و أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا و أصنامنا بِسُوءٍ و جنون، لأنّك تشتمهم، و تمنع عن عبادتهم، و تحطّهم عن مقام الالوهيّة بقولك: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، فلا اعتداد بقولك، و لا ينبغي للعاقل تصديقك و الإيمان بك.

إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اَللّهَ وَ اِشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)

ص: 325


1- . تفسير روح البيان 4:147.

و في تنكير السّوء، و نسبته إلى بعض آلهتهم، إشعار بعدم مبالغتهم فيه، و إن بالغوا في تكذيبه بدعوى عدم قابليّة كلامه للتّصديق و نظمه في الهدايات، و لذا بالغ هو عليه السّلام أيضا في الإجهار بعدم الوهيّة أصنامهم، و قالَ: يا قوم إِنِّي أُشْهِدُ اَللّهَ وَ اِشْهَدُوا جميعا أَنِّي بَرِيءٌ ما دامت حياتي مِمّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ صنما كان أو غيره، فإن استثقلتم قولي، و نصبتم لي العداوة، و صدّقتم في دعوى قدرة أصنامكم على الإساءة بي فَكِيدُونِي و احتالوا أنتم و أصنامكم جَمِيعاً في قتلي ثُمَّ بعد احتيالكم لا تُنْظِرُونِ ساعة و لا تمهلوا فىّ لحظة، فإنّي لا ابالي مع انفرادي منكم مع كثرتكم و قوّتكم، و شدّة بطشكم و بأسكم إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ و مالكي و مالككم، و وتقت به، و التجأت إليه، فانّه القادر على حفظي فيكم، و دفعكم عنّي، لوضوح أنّه ما مِنْ دَابَّةٍ في الأرض إِلاّ هُوَ تعالى مالكها، و القاهر عليها، يصرّفها حيث يشاء، كأنّه تعالى آخِذٌ بِناصِيَتِها لا تقدر على أن تتحرّك إلاّ بإرادته تعالى إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ من الحقّ و العدل، و لذا لا يكاد يسلّطكم عليّ، و يضيع من توكّل عليه و اعتصم به.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني أنّه على الحقّ، يجزي بالإحسان إحسانا، و بالسّيء سيّئا، و يعفو عمّن يشاء و يغفر [سبحانه و تعالى]» (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 57

ثمّ أعلمهم بتماميّة الحجّة عليهم بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا و تعرضوا عن قبول قولي، و تصرّوا على تكذيبي فَقَدْ أتممت عليكم الحجّة، حيث إنّي أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ بلا تفريط منّي في أداء رسالتي، و تقصير منّي في القيام بوظيفتي، و إنّما التفريط من قبلكم، حيث إنّكم مع وضوح الحقّ عندكم أبيتم إلاّ الجحود و التّكذيب، فاحذروا من أن يهلككم اللّه على كفركم عن آخركم وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي في دياركم و أموالكم بعد إهلاككم قَوْماً غَيْرَكُمْ و فريقا سواكم، أطوع له منكم، وَ أنتم لا تَضُرُّونَهُ بتولّيكم و إعراضكم عن قبول دعوة رسوله، و الإيمان بتوحيده شَيْئاً يسيرا، و لا تنقصون من ملكه و سلطانه نقيرا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ و مستول و رقيب، فكيف يقدر شيء على الإضرار به؟

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)و قيل: يعني هو مطّلع على كلّ شيء، فلا يخفى عليه عصيانكم و طغيانكم، فيجازيكم عليه أسوأ

ص: 326


1- . تفسير العياشي 2:312/2029، تفسير الصافي 2:456.

الجزاء. أو هو مطّلع على عملي و عملكم، فيحفظني من مكركم و شرّكم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 58

ثمّ أنّهم بعد تلك المواعظ و التّهديدات، بالغوا في الإصرار على الكفر و معارضة الرّسول، فاستحقّوا عذاب الاستئصال، فأخبر سبحانه بنزوله عليهم بقوله: وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا و نزّل عذابنا نَجَّيْنا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و هم أربعة آلاف-على ما قيل (1)- بِرَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنّا و هي التّوفيق للإيمان الذي أنعمناه عليهم، و الهداية له.

وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)ثمّ بيّن سبحانه المراد من الأمر، و ما نجّاهم منه بقوله: وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ و شديد، أنزلناه على الكافرين.

و قيل: اريد بالتّنجية الثّانية عذاب الآخرة (2).

و إنّما ذكره لبيان تكملة النّعمة عليهم بالنّجاة في الدّارين، و تشديده فيها على الكفّار.

عن القمّي رحمه اللّه: أنّ عادا كانت بلادهم في البادية من المشرق (1)إلى الأجفر أربعة منازل، و كان لهم زرع و نخل كثير، و لهم أعمار طويلة و أجساد طويلة، فعبدوا الأصنام، و بعث اللّه إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام و خلع الأنداد، فأبوا و لم يؤمنوا بهود و آذوه، فكفّت السّماء عنهم سبع سنين حتّى قحطوا. و كان هودا زرّاعا، و كان يسقي الزّرع، فجاء قوم إلى بابه يريدونه، فخرجت إليهم امرأة شمطاء عوراء فقالت: من أنتم؟ قالوا: نحن من بلاد كذا و كذا، أجدبت بلادنا فجئنا إلى هود نسأله أن يدعو اللّه حتّى تمطر و تخصب بلادنا، فقالت: لو استجيب لهود لدعا لنفسه، فقد احترق زرعه لقلّة الماء. قالوا: فأين هو؟ قالت: في موضع كذا و كذا، فجاءوا إليه فقالوا: يا نبيّ اللّه، قد أجدبت بلادنا و لم تمطر فاسأل اللّه أن تخصب بلادنا و تمطر. فتهيّأ للصلاة و صلّى و دعا لهم فقال: ارجعوا فقد امطرتم و أخصبت بلادكم، فقالوا: يا نبيّ اللّه، إنّا رأينا عجبا، قال: و ما رأيتم؟ قالوا: رأينا في منزلك امرأة شمطاء عوراء قالت لنا: من أنتم [و ما]تريدون؟ فقلنا: جئنا إلى هود ليدعو اللّه لنا فنمطر، فقالت: لو كان هود داعيا لدعا لنفسه، فإنّ زرعه قد احترق. فقال هود: هي أهلي، و أنا أدعو اللّه أن يطول لها البقاء. فقالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأنّه ما خلق اللّه مؤمنا إلاّ و له عدوّ يؤذيه، و هي عدوّ لي، فلئن يكون عدو ممّن أملكه خير من أن يكون عدوّ من يملكني.

ص: 327


1- . في المصدر: الشقيق.

فبقي هود عليه السّلام في قومه يدعوهم إلى اللّه، و ينهاهم عن عبادة الأصنام حتّى أخصبت بلادهم، و أنزل اللّه عليهم المطر، و هو قوله عزّ و جلّ: يا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ. . . الآيات.

فلمّا لم يؤمنوا أرسل اللّه عليهم الرّيح الصّرصر-يعني: الباردة-و هو قوله تعالى في سورة القمر: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ* إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (1)، و حكى في سورة الحاقّة فقال: وَ أَمّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ* سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً (2)، قال: كان القمر منحوسا بزحل سبع ليال و ثمانية أيّام (3).

و قيل: إنّ العذاب الغليظ هو السّموم (4)، كانت تدخل انوف الكفرة، و تخرج من أدبارهم، فتقطّعهم إربا إربا (5).

سوره 11 (هود): آیه شماره 59 الی 60

ثمّ ذمّهم اللّه بعد إهلاكهم بقوله: وَ تِلْكَ القبيلة المهلكة عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ و دلائل توحيده، و معجزات نبيّه وَ عَصَوْا رُسُلَهُ جميعا بعصيانهم هودا، لكون جميعهم على قول واحد وَ اِتَّبَعُوا في الكفر و العصيان أَمْرَ كُلِّ جَبّارٍ و متمرّد عن الحقّ عَنِيدٍ و معارض له.

وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اِتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ (59) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)قيل: «تلك» إشارة إلى قبورهم (6).

ثمّ بيّن سبحانه سوء عاقبتهم عبرة للنّاس بقوله: وَ اِتَّبَعُوا و اردفوا باتّباعهم رؤساء الضّلال، الدّعاة إلى الكفر بالآيات، و تكذيب الرّسل فِي هذِهِ اَلدُّنْيا لَعْنَةً و بعدا عن الرّحمة و عن كلّ خير، بحيث لا يفارقهم أبدا، بل يدور معهم حيثما داروا وَ كذا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و يكون أثر بعدهم الدّخول في النّار، و الخلود فيها.

ثمّ بالغ سبحانه في تفضيح حالهم، و الحثّ في الاعتبار بهم بقوله: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ و نعمه، و جحدوا وحدانيّته. ثمّ دعا عليهم بالهلاك تسجيلا لاستحقاقهم له بقوله: أَلا بُعْداً و هلاكا قطعيّا لِعادٍ. ثمّ بيّن المراد من عاد بقوله: قَوْمِ هُودٍ لئلا يشتبه بعاد الثانية؛ و هم عاد بن إرم.

ص: 328


1- . القمر:54/18 و 19.
2- . الحاقة:69/6 و 7.
3- . تفسير القمي 1:329، تفسير الصافي 2:457.
4- . السّموم: هي الريح الحارّة، و الحرّ الشديد النافذ في المسام.
5- . تفسير أبي السعود 4:219.
6- . تفسير البيضاوي 1:461.

سوره 11 (هود): آیه شماره 61

ثمّ أتبع سبحانه قصّة ثمود بالقصّتين ازديادا لعبرة المشركين، و تسلية للنبيّ عليه السّلام و المؤمنين بقوله: وَ إِلى قبيلة ثَمُودَ الّذين هم من العرب سمّوا باسم أبيهم الأكبر (1)، أرسلنا أَخاهُمْ و رجلا منهم سمّي صالِحاً قيل: هو ابن عبيد بن اسف بن ماشح بن عتيد بن حادر (2)بن ثمود (3)قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده لأنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)ثمّ استدلّ على استحقاقه العبادة بنعمه الدالّة على كمال قدرته و رحمته حثّا لهم عليها بقوله: هُوَ أَنْشَأَكُمْ و خلقكم بقدرته من آدم، أو من المنيّ المتكوّن من الأغذية النباتيّة، و معلوم أنّ آدم أو النّبات مخلوق مِنَ اَلْأَرْضِ و ترابها وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ و استبقاكم مدّة طويلة، أو أقدركم على العمارة فِيها أو جعلها لكم نحو العمري (4)، بأن أسكنكم فيها مدّة حياتكم، ثمّ جعلها بعد موتكم لغيركم، فإذا كان اللّه بهذه المرتبة من القدرة عليكم، و الإحسان إليكم، المقتضيين للخوف من عصيانه و الشّكر له فَاسْتَغْفِرُوهُ عمّا صدر منكم من العصيان و كفران النّعمة ثُمَّ تُوبُوا و ارجعوا إِلَيْهِ بالإيمان بوحدانيّته، و النّدم على الشّرك، و العزم على عدم العود إليه إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ منكم علما و إحاطة، يسمع استغفاركم، و يرى تضرّعكم، أو قريب الرّحمة منكم مُجِيبٌ لدعائكم.

قيل: إنّ قوله: (قريب) ناظر إلى أمره بالتّوبة، و (مجيب) إلى أمره بالاستغفار، كأنّه قال: ارجعوا إليه فإنّه قريب، و اسألوه المغفرة فإنّه مجيب (5).

سوره 11 (هود): آیه شماره 62 الی 64

ص: 329


1- . تفسير أبي السعود 4:220، تفسير روح البيان 4:153.
2- . في تفسير أبي السعود: ماشج بن عبيد بن جادر، و في تفسير روح البيان: ماسح بن عبيد بن خاور.
3- . تفسير أبي السعود 4:220، تفسير روح البيان 4:153.
4- . العمري: من عقود التمليك، كأن تقول: هذه الدار لك عمرك، أي ما دمت حيا.
5- . تفسير روح البيان 4:154.

ثمّ أنّ القوم بعدما دعاهم صالح إلى القول بالتّوحيد قالُوا في جوابه: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا و محلاّ للآمال من حيث قوّة عقلك، و رزانة رأيك، و حسن تدبيرك، و كمال شفقتك. عن ابن عبّاس: يعني فاضلا خيرا نقدّمك على جميعنا (1)قَبْلَ هذا الوقت الذي ادّعيت بطلان مذهبنا و فساد عقائدنا، و دعوتنا إلى التّوحيد و ترك عبادة الأصنام، يا للعجب أَ تَنْهانا عن أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا الأقدمون، و تأمرنا بأن نترك تقليد أسلافنا الأكرمين؟ ! إذن قد انقطع رجاؤنا عنك، و تبيّن خطؤنا فيك وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونا من التّوحيد و ترك عبادة الأصنام، و ذلك الشّكّ فيما تدعونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ و موقع للقلق و الاضطراب في قلوبنا، أو نحن في (2)ريبة عظيمة.

و قيل: إنّ الشّكّ هو تساوي الاحتمالين، و الرّيب هو رجحان احتمال السّوء و الفساد (3).

قالَ صالح برفق و لين: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ كُنْتُ في ادّعائي عَلى بَيِّنَةٍ و حجّة ظاهرة، أو معرفة و بصيرة كاملة كائنة مِنْ رَبِّي و مليكي وَ آتانِي مِنْهُ في الواقع و الحقيقة رَحْمَةً و رسالة، أو معجزة قاهرة فَمَنْ يَنْصُرُنِي و يحفظني مِنْ عذاب اَللّهِ و بأسه إِنْ عَصَيْتُهُ و خالفت أمره بتبليغ رسالته إليكم، و نهيه [عن]المساهلة فيه و المداراة معكم فَما تَزِيدُونَنِي إذن بتوقعكم السّكوت عن دعوتكم إلى التّوحيد، و الموافقة معكم في الشّرك، شيئا غَيْرَ تَخْسِيرٍ و تضرّر، حيث إنّه ليس في موافقتكم إلاّ التعرّض لسخط اللّه و عذابه.

و قيل: إنّ المراد: ما تزيدونني بما تقولون غير أن [أنسبكم إلى الخسران و]أقول لكم إنّكم لخاسرون (4).

وَ يا قَوْمِ إن تريدون منّي آية و معجزة دالّة على صدق نبوّتي و صحّة ما أدعوكم إليه من التّوحيد، فانظروا هذِهِ الجثّة العظيمة ناقَةُ اَللّهِ التي خلقها بقدرته من الصّخرة بهذه الصّورة دفعة من غير ولادة، و هي لَكُمْ آيَةً عظيمة، و حجّة ظاهرة على نبوّتي، و صدق قولي، و لا يثقل عليكم كونها فيكم، لأنّكم ليس عليكم علوفتها (5)فَذَرُوها و خلّوها تَأْكُلْ النّباتات و الحشائش التي تجدها فِي أَرْضِ اَللّهِ و إنّما عليكم أن لا تؤذوها وَ لا تَمَسُّوها و لا تصيبوها بِسُوءٍ من ضرب و قتل لبغضكم إيّاها فَيَأْخُذَكُمْ و ينزل عليكم إذن عَذابٌ قَرِيبٌ سريع النّزول.

في قصة ناقة

صالح

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لمّا دعا صالح قومه إلى اللّه كذّبوه، فضاق صدره فسأل

ص: 330


1- . تفسير أبي السعود 4:221.
2- . في النسخة: ذو.
3- . تفسير الرازي 18:18.
4- . تفسير أبي السعود 4:222.
5- . أي علفها.

ربّه أن يأذن له في الخروج من عندهم، فأذن له، فخرج فانتهى إلى ساحل البحر، فإذا برجل يمشي على الماء، فقال له صالح: ويحك من أنت؟ فقال: أنا من عباد اللّه، كنت في سفينة كان قومها كفرة غيري، فأهلكهم اللّه و نجّاني منهم، فخرجت إلى جزيرة أتعبّد هناك، فأخرج أحيانا و أطلب شيئا من رزق اللّه، ثمّ أرجع إلى مكاني.

فمضى صالح فانتهى إلى تلّ عظيم، فرأى رجلا فانتهى إليه و سلّم عليه فردّ عليه السّلام، فقال له صالح: من أنت؟ قال: كانت هاهنا قرية كان أهلها كفّارا غيري، فأهلكهم اللّه و نجّاني منها، فجعلت على نفسي أن أعبد اللّه تعالى هاهنا إلى الموت، و قد أنبت اللّه لي شجرة رمّان، و أظهر عين ماء، آكل من الرّمان، و أشرب من ماء العين و أتوضّأ منه. فذهب صالح و انتهى إلى قرية كان أهلها كفّارا كلّهم غير أخوين مسلمين يعملان عمل الخوص.

فضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثلا و قال: لو أنّ مؤمنا دخل قرية فيها ألف رجل كلّهم كفّار و فيهم مؤمن واحد، فلا يسكن قلبه مع أحد حتّى يجد المؤمن. و لو أنّ منافقا دخل قرية فيها ألف رجل كلّهم مؤمنون و فيهم منافق واحد لم يسكن قلب المنافق مع أحد ما لم يجد المنافق.

فدخل صالح و انتهى إلى الأخوين، فمكث عندهما أيّاما، و سأل عن حالهما، فأخبرا أنّهما يصبران على أذى المشركين، و أنّهما يعملان عمل الخوص، و يمسكان قوتهما و يتصدّقان بالفضل، فقال صالح: الحمد للّه الذي أراني في الأرض من عباده الصّالحين الذين صبروا على أذى الكفّار، فأنا أرجع إلى قومي و أصبر على أذاهم، فرجع إليهم و قد كانوا خرجوا إلى عيد لهم، فدعاهم إلى الإيمان، فسألوه آية، فقال: أيّ آية تريدون؟ فأشار سيّدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها الكائنة، و قال له: أخرج من هذه الصّخرة ناقة واسعة الجوف، كثيرة الوبر، عشراء-أي أتت عليها من يوم ارسل الفحل عليها عشرة أشهر-فإن فعلت صدّقناك، فأخذ عليهم مواثيقهم: لئن فعلت ذلك لتؤمننّ، قالوا: نعم، فصلّى و دعا ربّه، فتمخّضت الصّخرة تمخّض النتوج بولدها، فانشقّت عن ناقة عشراء جوفاء و براء كما وصفوا، فقال: يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اَللّهِ لَكُمْ آيَةً. . . ، فآمن جندع في جماعة و امتنع الباقون» (1).

و في رواية اخرى: «و منع الباقين [من الإيمان]دواب بن عمرو، و الحبّاب صاحب أوثانهم، و رباب كاهنهم، فمكثت النّاقة مع ولدها ترعى الشّجر و ترد الماء غبّا (2)، فما ترفع رأسها من البئر حتّى تشرب

ص: 331


1- . تفسير روح البيان 4:157.
2- . و ترد الماء غبّا: أن تشرب يوما و تترك يوما.

كلّ ما فيها، ثمّ تتفحّج (1)فيحلبون ما شاءوا حتّى تمتلئ أوانيهم فيشربون و يدّخرون» (2)، و هم تسعمائة أهل بيت، و قيل: ألف و خمسمائة.

سوره 11 (هود): آیه شماره 65 الی 66

ثمّ أنّه عليه السّلام لمّا خاف عليها لما شاهد من إصرارهم على الكفر، قال: لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ و كانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، و تشتو ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشقّ عليهم ذلك فَعَقَرُوها و اقتسموا لحمها فرقي فصيلها (3)جبلا اسمه قارة فرغا (4)ثلاثا، فقال لهم صالح: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه، و انفجرت الصّخرة بعد رغائه فدخلها (5)فَقالَ لهم صالح: تَمَتَّعُوا و تعيّشوا فِي دارِكُمْ و منازلكم، أو في الدّنيا ثَلاثَةَ أَيّامٍ بلا نقص و زيادة ذلِكَ الوعد الذي وعدتكم من نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه، أو غير كذب لا يتطرّق إليه الخلف.

فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ (66)ثمّ حكى سبحانه إنجاء صالح و المؤمنين بقوله: فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا و حكمنا بنزول العذاب، أو نزل عذابنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و اتّبعوه بِرَحْمَةٍ عظيمة فائضة عليهم من النّبوة و خلوص الإيمان، أو برأفة خاصّة بهم مِنّا من عذاب الاستئصال وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ و ذلّة و فضيحة كائنة لهم حينئذ من الموت بالصّيحة، أو من خزي يوم القيامة، و هو أنّه إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد هُوَ اَلْقَوِيُّ القادر على كلّ شيء اَلْعَزِيزُ الغالب على جميع خلقه، المسلّط على إنفاذ إرادته.

سوره 11 (هود): آیه شماره 67 الی 68

ثمّ أنّه تعالى بعد إخباره بما هو الأهمّ من نجاة أوليائه، أخبر بهلاك أعدائه بقوله: وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بظلمهم اَلصَّيْحَةُ التي فيها صوت كلّ صاعقة، و صوت كلّ شيء في الأرض-على ما

وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)

ص: 332


1- . أي تباعد ما بين رجليها ليحلبوها.
2- . تفسير أبي السعود 4:222.
3- . الفصيل: ولد النافة.
4- . أي صوّت و ضجّ.
5- . تفسير أبي السعود 4:222.

قيل (1)، و قيل: المراد صيحة جبرئيل (2)-فتقطّعت قلوبهم-و قيل: لمّا وقع بعدها التموّج في الهواء، وقعت بعدها الرّجفة التي أخبر اللّه بها في سورة الأعراف (1)فَأَصْبَحُوا و صاروا فِي دِيارِهِمْ و مساكنهم، أو بلادهم جاثِمِينَ خامدين، لا صوت لهم و لا حركة كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا في الدّنيا، أو في ديارهم و مساكنهم، و لم يتعيّشوا فِيها أبدا.

ثمّ أعلن سبحانه بذمّهم و شدّة استحقاقهم بقوله: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ و لم يؤدّوا شكر نعمه، و لذا استحقّوا أشدّ العذاب أَلا بُعْداً من الرّحمة لِثَمُودَ و هلاكا فضيعا لهم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 69 الی 71

في ذكر قصة لوط

و قومه

ثمّ عقّب سبحانه قصّتهم بقصّة قوم لوط بقوله: وَ لَقَدْ جاءَتْ الملائكة الّذين هم رُسُلُنا إلى قوم لوط لإهلاكهم، إِبْراهِيمَ أوّلا بِالْبُشْرى و الخبر الموجب لسرور قلبه، و هو إخباره بولادة إسحاق من سارة؛ كما عن العيّاشي (2)، أو بولادة إسماعيل من هاجر؛ كما عن الباقر عليه السّلام (3)، أو بسلامة لوط و إهلاك قومه؛ كما قيل (6).

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ اِمْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)و عن ابن عبّاس: كانوا ثلاثة: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «كانوا أربعة: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل، و كروبيل» (4).

و قيل: هم جبرئيل، و اثنا عشر ملكا على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن (5). و قيل: كانوا تسعة (6).

فلمّا حضروا عند إبراهيم قالُوا: نسلّم عليك سَلاماً، و قيل: يعني قالوا قولا ذا سلام، أو ذكروا سلاما (7)قالَ إبراهيم عليه السّلام مجيبا لهم: عليكم سَلامٌ كامل تامّ من ربّكم، أو منّي. قيل: إنّه عليه السّلام كان كثير المحبّة للضّيافة، و مرّ عليه خمس عشرة ليلة لا يأتيه الضّيف، فاغتمّ لذلك، ثمّ جاءته

ص: 333


1- . تفسير أبي السعود 4:223، تفسير روح البيان 4:160.
2- . تفسير العياشي 2:314/2032، تفسير الصافي 2:459.
3- . تفسير العياشي 2:313/2031، تفسير الصافي 2:459. (6 و 7) . تفسير الرازي 18:23.
4- . مجمع البيان 5:272، تفسير الصافي 2:459.
5- . تفسير الرازي 18:23.
6- . تفسير الرازي 18:23، مجمع البيان 5:272.
7- . تفسير أبي السعود 4:224.

الملائكة في صورة الأضياف ليسرّ برؤيتهم، فلمّا رآهم بصورة لم ير مثلهم فَما لَبِثَ و ما توقّف حتّى أَنْ جاءَ عندهم بِعِجْلٍ حَنِيذٍ و مشويّ في حفرة من الأرض بحجارة محماة بغير تنور و مسّ نار، كفعل أهل البادية (1).

و عن الباقر عليه السّلام: يعني: «زكيّا مشويّا نضيجا» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: يعني: «مشويّا نضيجا» (3).

و قيل: يعني: مشويّا يقطر منه دسمه (4).

و عنه عليه السّلام: «قال عليه السّلام (5): كلوا، فقالوا: لا نأكل حتّى تخبرنا ما ثمنه، فقال: إذا أكلتم فقولوا: بسم اللّه، و إذا فرغتم فقولوا: الحمد للّه» . قال الصادق عليه السّلام: «فالتفت جبرئيل إلى أصحابه؛ و كانوا أربعة رئيسهم جبرئيل، فقال: حقّ للّه أن يتخذ هذا خليلا» (6).

فلم يأكلوا من العجل، و لم يمدّوا أيديهم إليه فَلَمّا رَأى إبراهيم عليه السّلام أن أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ بل كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللّحم و يأكلون منه-على ما روي (7)-و كان ترك الأكل أمارة إرادة السّوء بالمضيف نَكِرَهُمْ و كره ذلك منهم وَ أَوْجَسَ و أدرك في نفسه مِنْهُمْ خِيفَةً لظنّه من عدم أكلهم الطّعام إرادتهم السّوء به، أو أنّهم ملائكة أرسلهم اللّه إليه لأمر أنكره عليه، أو لتعذيب قومه.

فلمّا رأت الرّسل تشويش قلبه الشّريف قالُوا تسكينا له: لا تَخَفْ منّا على نفسك و قومك إِنّا ملائكة أُرْسِلْنا من جانب اللّه بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ خاصّة، فطب نفسا.

وَ اِمْرَأَتُهُ ابنة عمّه هاران بن ناحور (8)-على ما قيل (9)- قائِمَةٌ وراء السّتر، أو في المجلس للخدمة-لكون خدمة الضّيفان من مكارم الأخلاق-فسمعت كلامهم فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخوف عن إبراهيم، أو بالبشارة بهلاك أهل الفساد، أو بهما، أو بقول جبرئيل: حقّ لمثل هذا الرّجل أن يتّخذه ربّه خليلا، أو موافقة قول الملائكة لقولها لإبراهيم عليه السّلام قبل مجيئهم: إنّ اللّه لا يترك قوم لوط حتّى يعذّبهم، أو برؤيتها أنّ الملائكة أحيوا العجل المشويّ حين سألهم إبراهيم عليه السّلام معجزة دالّة

ص: 334


1- . تفسير الرازي 18:24.
2- . تفسير العياشي 2:313/2031، تفسير الصافي 2:459.
3- . تفسير العياشي 2:315/2034، تفسير الصافي 2:459.
4- . تفسير الرازي 18:24، تفسير روح البيان 4:162.
5- . أي إبراهيم عليه السّلام.
6- . تفسير العياشي 2:315/2032، تفسير الصافي 2:459.
7- . تفسير أبي السعود 4:224.
8- . في مجمع البيان: هاران بن ياحور.
9- . مجمع لبيان 5:273.

على كونهم رسل اللّه، على ما قيل (1).

و قيل: إنّ معنى «ضحكت» تعجّبت، كما عن الباقر عليه السّلام (2). أو حاضت من الفزع. و عن الصادق عليه السّلام: «يعني حاضت» (3). و عن القمّي: أي حاضت، و قد كان ارتفع حيضها منذ دهر طويل (4).

فَبَشَّرْناها بتوسّط أولئك الرّسل بِإِسْحاقَ عقيب سرورها أو تعجّبها وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ و بعده يَعْقُوبَ، قيل: لمّا حاضت بشّرت بالولد (5).

سوره 11 (هود): آیه شماره 72 الی 74

فمّا سمعت سارة تلك البشارة قالَتْ إظهارا لفضاعة هذا الخبر، و تعجّبا منه: يا وَيْلَتى و يا عجبا أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ بنت تسعة و تسعين سنة، كما قيل (6)، أو تسعين سنة، كما عن أحدهما عليهما السّلام (7)وَ هذا الرّجل بَعْلِي و زوجي ترونه شَيْخاً ابن مائة سنة، كما قيل (8)، أو ابن مائة و عشرين سنة، كما عن أحدهما عليهما السّلام (9). لا يكون ذلك بحسب العادة إِنَّ هذا الخبر الذي تخبرون به لو وقع لَشَيْءٌ عَجِيبٌ وقع بالنّسبة إلى عادة اللّه المسلوكة في عباده. و إنّما كان مقصودها استعظام الأمر، لا إظهار الشّك في قدرة اللّه.

قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ اَلْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)فلمّا رأى الرّسل تعجّبها ممّا بشّروها به قالُوا منكرين عليها: أَ تَعْجَبِينَ يا سارة مِنْ أَمْرِ اَللّهِ و شأنه بسبب إيجاد الولد من الكبيرين الفانيين، مع أنّ قدرته أعظم من ذلك، حيث إنّه خلق الإنسان من تراب، و سنّته في عموم النّاس غير سنّته في خواصّ أوليائه إظهارا للآية. و اعلمي أنّه تكون رَحْمَةِ اَللّهِ و نعمه الفاضلة وَ بَرَكاتُهُ النامية و خيراته المتكاثرة نازلتين عَلَيْكُمْ محيطتين بكم، لازمتين لكم يا أَهْلَ اَلْبَيْتِ و منها إكرامكم بهذه الولادة.

قيل: إنّ الرّحمة هي النبوّة، و البركات هي الأسباط (10).

ص: 335


1- . تفسير الرازي 18:26.
2- . تفسير العياشي 2:313/2031، تفسير الصافي 2:460.
3- . تفسير العياشي 2:314/2031، تفسير الصافي 2:460.
4- . تفسير القمي 1:334، تفسير الصافي 2:460.
5- . تفسير الرازي 18:26.
6- . مجمع البيان 5:273.
7- . علل الشرائع:551/6، تفسير الصافي 2:460.
8- . مجمع البيان 5:273.
9- . علل الشرائع:551/6، تفسير الصافي 2:460.
10- . تفسير روح البيان 4:164.

ثمّ حثّوها على الحمد و الثّناء على اللّه بقوله: إِنَّهُ حَمِيدٌ و محمود بذاته، أو مستحقّ للحمد من عباده مَجِيدٌ فيما ينعم عليهم. قيل: إن المجيد الشّريف ذاته، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه (1).

فَلَمّا ذَهَبَ و زال عَنْ إِبْراهِيمَ اَلرَّوْعُ و الخوف الذي طرأ عليه (2)من عدم أكل الرّسل عنده، لمّا عرف أنّهم الملائكة و لم يجيئوا لتعذيب قومه وَ جاءَتْهُ اَلْبُشْرى بنجاة قومه، أو بالولد، كان يُجادِلُنا و يكلّمنا بمكالمة رسلنا فِي شأن قَوْمِ لُوطٍ و رفع العذاب عنهم بشفاعته.

قيل: إنّه قال لهم-حين قالوا: إنّا مهلكو أهل هذه القرية: أ رأيتم إن كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين، أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتّى بلغ العشرة، قالوا: لا، قال: فرجل واحد مسلم؟ قالوا: لا، قال: إنّ فيها لوطا (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 75 الی 81

ثمّ لمّا كان الباعث على المجادلة صفاته الحميدة، مدحه اللّه بها بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ و مساهل في الانتقام من المسيئين أَوّاهٌ و شديد الأسف على المذنبين مُنِيبٌ و رجّاع إلى اللّه، ضرّاع إليه.

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)ثمّ قالت الرّسل: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ و كفّ عَنْ هذا الجدال و الترحّم بمن ليس أهلا للرّحمة، و الإشفاق على من لا يليق بالشّفقة إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ و بلغ وقت جريان قدره على وفق قضائه في حقّ قوم لوط وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ و نازل عليهم عَذابٌ شديد غَيْرُ مَرْدُودٍ و لا مدفوع عنهم بجدال أو شفاعة و دعاء.

ص: 336


1- . تفسير روح البيان 4:164.
2- . في النسخة: طرأه.
3- . تفسير الرازي 18:29.

عن ابن عبّاس: ثمّ انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط، و بين القريتين أربعة فراسخ، و دخلوا عليه على صورة شبّان مرد من بني آدم، و كانوا في غاية الحسن (1).

وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً و رآهم بتلك الصّفة من الحسن و الجمال سِيءَ بِهِمْ و خاف من قومه عليهم، أو على نفسه حيث منعوه من أن يدخل عليه الضّيف وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً و قلّت بمكانهم طاقة تحمّله، أو ضاق صدره أو قلبه و انقبض من ورودهم عليه، لعلمه بخبث قومه، و عجزه عن دفاعهم عنهم وَ قالَ تلهّفا: هذا اليوم يَوْمٌ عَصِيبٌ و شديد عليّ أمره.

روي أنّ اللّه تعالى قال للملائكة: لا تهلكوهم حتّى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلمّا مشى منطلقا بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: و ما أمرها؟ قال: أشهد باللّه أنّهم لشرّ قوم في الأرض عملا-يقول ذلك أربع مرّات-، فدخلوا منزله و لم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرت به قومها و قالت: إنّ في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قطّ (2).

وَ جاءَهُ قَوْمُهُ و هو في بيته مع أضيافه، و هم يُهْرَعُونَ و يسرعون إِلَيْهِ لشدّة طلبهم الفاحشة من أضيافه وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ و يرتكبون القبائح، و يتمرّنون عليها، بحيث لم يبق في نظرهم قبحها (3)، و لذا كانوا متجاهرين بها، غير مستحيين منها. فلمّا رآهم لوط و علم بقصدهم قالَ لهم وقاية لأضيافه، و إظهارا لغاية كرامة نفسه: يا قَوْمِ إن تريدون قضاء الشّهوة فانظروا هؤُلاءِ النّسوة بَناتِي فاقضوا بهنّ الشّهوة هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ و أنزه.

قيل: كانوا يطلبونهنّ من قبل و لا يجيبهم، لخبثهم و عدم كفاءتهم (4)، و لم يقل ذلك على الجدّ و الحقيقة، و إنّما قاله طمعا في أن يستحيوا أو يرقّوا له، فينزجروا عمّا أرادوا.

و عن القمّي: عنى به أزواجهم، و ذلك أنّ النبيّ أبو امّته، فدعاهم إلى الحلال، و لم يكن يدعوهم إلى الحرام (5).

و حكي ذلك عن مجاهد و سعيد بن جبير (6).

ثمّ نصحهم بقوله: فَاتَّقُوا اَللّهَ في ارتكاب الفاحشة بإتيان الذّكران، ثمّ تضرّع إليهم بقوله: وَ لا تُخْزُونِ و لا تفضحوني، أو لا تخجلوني عند النّاس فِي شأن ضَيْفِي هؤلاء أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ و مهتد إلى الحقّ، و منكر لفعل القبيح يردّ هؤلاء الأوباش.

ص: 337


1- . تفسير الرازي 18:31.
2- . تفسير أبي السعود 4:227.
3- . في تفسير روح البيان 4:167 و استمروا حتى لم تعب عندهم قباحتها.
4- . تفسير أبي السعود 4:228.
5- . تفسير القمي 1:335، تفسير الصافي 2:461.
6- . مجمع البيان 5:279.

عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّه وضع يده على الباب، ثمّ ناشدهم فقال: «اتّقوا اللّه و لا تخزون في ضيفي، ثمّ عرض عليهم بناته بنكاح» (1).

ثمّ أنّهم مع جميع ذلك قالُوا مجيبين له: يا لوط لَقَدْ عَلِمْتَ بعد إقامتك فينا مدّة طويلة أنّه ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ و حاجة في رفع الشّهوة، أو حقّ تمتّع، لأنّهنّ لسن لنا بأزواج، و لا تميل طباعنا أيضا إليهنّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ و ما نشتهي، و هو مواقعة الذّكران، و لا ننصرف عنها.

فلمّا يئس لوط من انصرافهم عمّا هم عليه قالَ تمنّيا: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً و على دفعكم قدرة بنفسي أَوْ آوِي و ألتجئ إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ و ناصر قاهر امتنع به عنكم.

و قيل: يعني: أو أنّ لي أحد الأمرين لفعلت ما فعلت (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «رحم اللّه أخي لوطا، كان يأوي إلى ركن شديد» (3).

عن الباقر عليه السّلام: «رحم اللّه لوطا لو يدري من معه في الحجرة لعلم أنّه منصور حيث يقول: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي ركن أشدّ من جبرئيل؟» (4).

روي أنّه أغلق أبوابه دون أضيافه، و أخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوّروا الجدار، فلمّا رأت الملائكة كرب لوط و عجزه عن مدافعتهم قالُوا تسلية له: يا لُوطُ لا تغتمّ و لا تبال بهم إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ و إنّهم لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بسوء و مكروه، فافتح الباب و دعنا و إيّاهم (5).

و في (الجوامع) : قال جبرئيل: إنّ ركنك لشديد، افتح الباب و دعنا و إيّاهم، ففتح الباب فدخلوا (6)، فاستأذن جبرئيل ربّه في عقوبتهم فأذن له، فقام جبرئيل في الصّورة التي يكون فيها، فنشر جناحه، و له جناحان، و عليه و شاح من درّ منظوم، و هو برّاق الثّنايا، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم و أعماهم، فصاروا لا يعرفون الطّريق، فخرجوا و هم يقولون: النّجاء النّجاء، فإنّ في بيت لوط قوما سحرة (7).

ثمّ قالوا للوط: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ و عيالك بِقِطْعٍ و طائفة مِنَ اَللَّيْلِ و اخرجوا جميعا من القرية وَ لا يَلْتَفِتْ و لا ينظر إلى الوارء مِنْكُمْ أَحَدٌ أنت و أهلك. قيل: لئلاّ يبطئوا في السّير، أو لئلاّ يروا ما ينزل بالقوم من العذاب، فيرقّوا (8)لهم، أو المراد: لا يتخلّف منكم [أحد] إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ.

ص: 338


1- . تفسير العياشي 2:318/2040، تفسير الصافي 2:461.
2- . تفسير أبي السعود 4:229.
3- . تفسير الرازي 18:35، تفسير أبي السعود 4:229.
4- . الكافي 5:546/5، تفسير الصافي 2:462.
5- . تفسير أبي السعود 4:229.
6- . جوامع الجامع:208.
7- . تفسير أبي السعود 4:229، تفسير روح البيان 4:169.
8- . تفسير روح البيان 4:169.

روي أنّه لمّا أسرى بأهله تبعتهم، فلمّا سمعت هدّة العذاب التفتت و قالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها (1).

و الظّاهر؛ كما عن الأكثر، الاستثناء راجع إلى قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ لا إلى قوله: وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، و المعنى: فأسر بأهلك إلاّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ من العذاب لا محالة، فتكون من الهالكين.

ثمّ ذكروا علّة خروجه باللّيل بقولهم: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ و وقت نزول العذاب عليهم هو اَلصُّبْحُ روي أنّما لمّا قالوا: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ قال لوط: اريد أعجل من ذلك، بل السّاعة، فقالوا: أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (2).

قيل: إنّ علّة توقيت العذاب بالصّبح أنّه وقت الدّعة و الرّاحة، و العذاب فيه أشدّ (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 82 الی 83

ثمّ حكى سبحانه كيفيّة العذاب و شدّته بقوله: فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا و عذابنا، أو وقت نزوله على القرى السّبعة (4)، و فيها أربعمائة ألف ألف-على ما قيل (5)أو أمرنا به بقولنا: (كن) ، أو أمرنا للملائكة بإهلاكهم، قلبناها، بأن جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها بتوسّط جبرئيل وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها بعد قلبها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قيل: إنّه معرّب «سنگ گل» (6). و قيل: إنّه «سجين» قلبت نونه لاما (7). و قيل: يعني: من طين، فإنّ أصل الحجر الطّين (8)، و قيل: مأخوذ من (سجلّ) ، و المعنى أنّه ممّا كتب اللّه أن يعذّبهم به (9). و قيل: إنّه اسم سماء الدّنيا (10). و قيل: معناه موضع الحجارة، و هي جبال مخصوصة (11)، و ذلك السجّيل (6)مَنْضُودٍ و موضوع بعضه فوق بعض، ليكون معدّا للعذاب، أو المعنى كان ذلك المطر متتابعا بنزول بعضه إثر بعض؛ كقطر الأمطار. و كلّ حجارة مُسَوَّمَةً و معلّمة بخطوط حمراء مثل الجزع (7)، أو بنقط فيها-كما عن القمّي (8)أو بأمثال الخواتيم، أو بسيماء لا تشارك حجارة الأرض، أو

فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ اَلظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

ص: 339


1- . تفسير الرازي 18:36، تفسير أبي السعود 4:229.
2- . تفسير الرازي 18:37، تفسير أبي السعود 4:230.
3- . تفسير أبي السعود 4:230، تفسير روح البيان 4:170.
4- . في تفسير أبي السعود: قرى قوم لوط، و هي التي عبّر عنها بالمؤتفكات، و هي خمس مدائن.
5- . تفسير أبي السعود 4:230. (6و7و8) تفسير الرازي 18:38. (9و10و11) . تفسير الرازي 18:38.
6- . هذا التعبير لا يتناسب مع قوله: مَنْضُودٍ من حيث الإعراب، فهو يقتضي أن يكون (منضودة) بالرفع.
7- . الجزع: ضرب من العقيق بخطوط متوازية مستديرة مختلفة الألوان.
8- . تفسير القمي 1:336، تفسير الصافي 2:463.

بأنّه كان عليها اسم من رمى بها. و على أيّ تقدير كانت تلك الحجارة عِنْدَ رَبِّكَ و في خزائنه لا يتصرّف فيها غيره.

ثمّ هدّد سبحانه مشركي عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ ما هِيَ مِنَ اَلظّالِمِينَ الّذين هم في هذا العصر بِبَعِيدٍ.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سأل جبرئيل عن هذا، فقال: يعني ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلاّ و هو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة (1).

عن الباقر عليه السّلام: «وَ ما هِيَ مِنَ اَلظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [من]ظالمي امّتك، إن عملوا ما عمل قوم لوط» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من مات مصرّا على اللّواط لم يمت حتّى يرميه اللّه بحجر من تلك الحجارة تكون فيه منيّته، و لا يراه أحد» (3).

و عنه عليه السّلام: «ما من عبد يخرج من الدّنيا يستحلّ عمل قوم لوط إلاّ رمى اللّه كبده من تلك الحجارة تكون منيّته فيها، و لكنّ الخلق لا يرونه» (4).

و قيل: إنّ المراد: ليست القرى المؤتفكات من مشركي مكّة ببعيد، لأنّها كانت في الشّام، و هو قريب من مكّة (5).

عن الباقر عليه السّلام: «كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم اللّه، فطلبهم إبليس الطّلب الشّديد، و كان من فضلهم و خيرهم أنّهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و تبقى النّساء خلفهم، فلم يزل إبليس يعتادهم، و كانوا إذا رجعوا خرّب إبليس ما كانوا يعملون، فقال بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الذي يخرّب متاعنا، فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقالوا له: أنت الذي تخرّب متاعنا مرّه بعد مرّة، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه، فجعلوه عند رجل، فلمّا كان اللّيل صاح، فقال له: مالك؟ فقال: كان أبي ينوّمني على بطنه، فقال له: تعال فنم على بطني، قال: فلم يزل بذلك الرّجل حتّى علّمه أن يفعل بنفسه، فأوّلا علّمه إبليس و الثانية علّمه هو، ثمّ انسلّ ففرّ منهم، و أصبحوا و جعل الرّجل يخبر بما فعل الغلام و يعجّبهم منه و هم لا يعرفونه، فوضعوا أيديهم فيه حتّى اكتفى الرّجال بالرّجال بعضهم ببعض، ثمّ جعلوا يرصدون مارّة الطّريق فيفعلون بهم، حتّى تنكّب (6)مدينتهم الناس، ثمّ تركوا نساءهم و أقبلوا على الغلمان.

ص: 340


1- . تفسير الرازي 18:39.
2- . الكافي 5:546/5، تفسير الصافي 2:463.
3- . تفسير العياشي 2:321/2046، الكافي 5:548/9، تفسير الصافي 2:463.
4- . تفسير القمي 1:336، تفسير الصافي 2:463.
5- . تفسير الرازي 18:39.
6- . أي أعرض عنها و تجنّبها.

فلمّا رأى أنّه قد أحكم أمره في الرّجال، جاء إلى النّساء فصيّر نفسه امرأة، ثمّ قال: إن رجالكنّ يفعل بعضهم ببعض، قلن: نعم، قد رأينا ذلك. و كلّ ذلك يعظهم لوط و يوصيهم، و إبليس يغويهم حتّى استغنى النّساء بالنّساء.

فلمّا كملت عليهم الحجّة بعث اللّه جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في زيّ غلمان عليهم أقبية، فمرّوا بلوط و هو يحرث فقال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قطّ، قالوا: إنّا أرسلنا سيّدنا إلى ربّ هذه المدينة. قال: أو لم يبلغ سيّدكم ما يفعل أهل هذه المدينة؟ يا بنيّ إنّهم و اللّه يأخذون الرّجال فيفعلون بهم حتّى يخرج الدّم، قالوا: أمرنا سيّدنا أن نمرّ وسطها، قال: فلي إليكم حاجة، قالوا: و ما هي؟ قال: تصبرون هاهنا إلى اختلاط الظّلام، فجلسوا، فبعث ابنته فقال: جيئي لهم بخبز و بماء في القرعة (1)و عباء يتغطّون بها من البرد.

فلمّا أن ذهبت الابنة أقبل المطر و الوادي، فقال [لوط]: السّاعة يذهب بالصّبيان الوادي، قال: قوموا حتّى نمضي، و جعل لوط يمشي في أصل الحائط، و جعل جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل يمشون وسط الطّريق، فقال يا بنيّ امشوا هاهنا، فقالوا: أمرنا سيّدنا أن نمرّ في وسطها، و كان لوط يستغنم الظّلام، و مرّ إبليس فأخذ من حجر امرأة صبيّا فطرحه في البئر، فتصايح أهل المدينة كلّهم على باب لوط، فلمّا نظروا إلى الغلمان في منزل لوط، قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا، قال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني في ضيفي، قالوا: هم ثلاثة، خذ واحدا و أعطنا اثنين. قال: فأدخلهم في حجرة، و قال: لو أنّ لي أهل بيت يمنعونني منكم، فتدافعوا على الباب و كسروا باب لوط و طرحوا لوطا، فقال له جبرئيل: إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فأخذ كفّا من بطحاء فضرب بها وجوههم و قال: شاهت الوجوده فعمي أهل البلد كلّهم، فقال لهم لوط: يا رسل ربّي فما أمركم ربّي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسّحر، قال: فلي إليكم [حاجة]قالوا: فما حاجتك؟ قال: تأخذونهم السّاعة (2)، فقالوا: يا لوط إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ لمن يريد أن يأخذ، فخذ أنت بناتك ودع امرأتك» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل و كروبيل، فمرّوا بإبراهيم عليه السّلام و هم معتمّون، فسلّموا عليه فلم يعرفهم، و رأى هيئة حسنة فقال: لا يخدم هؤلاء إلاّ أنا بنفسي، و كان صاحب ضيافة، فشوى لهم عجلا سمينا حتّى أنضجه، ثمّ قرّبه إليهم، فلمّا وضعه بين أيديهم رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة، فلمّا رأى

ص: 341


1- . القرعة: واحدة القرع: و هو نبات الدّبّاء، تستخدم قشرته كإناء للماء و غيره.
2- . زاد في الكافي: فإني أخاف أن يبدو لربّي فيهم.
3- . الكافي 5:544/5، تفسير الصافي 2:464.

ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم، فقال: أنت هو، قال: نعم. و مرّت سارة امرأته فبشّرها بإسحاق، و من وراء إسحاق يعقوب، فقالت: ما قال اللّه عزّ و جلّ، و أجابوها بما في الكتاب العزيز، فقال لهم إبراهيم: لماذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط، فقال: إن كان فيهم مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا: لا» . . . إلى آخر ما سبق من مجادلة إبراهيم، بتفاوت يسير.

قال الرّاوي: [قال عليه السّلام] «لا أعلم هذا القول إلاّ و هو يستبقيهم، و هو قول اللّه عزّ و جل: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ، فأتوا لوطا و هو في زراعة قرب القرية، فسلّموا عليه و هم معتمّون، فلمّا رأى هيئة حسنة، عليهم ثياب بيض، و عمائم بيض، فقال لهم: المنزل؟ فقالوا: نعم، فتقدّمهم و مشوا خلفه فتندّم على عرضه المنزل عليهم و قال: أيّ شيء صنعت، أن آتي [بهم]قومي و أنا أعرفهم! فالتفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه، قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتّى يشهد عليهم ثلاث مرّات، و قال هذه واحدة، ثمّ مشى ساعة ثمّ التفت إليهم و قال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه، قال جبرئيل: هذه ثنتان، ثمّ مشى فلمّا بلغ المدينة التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه، فقال جبرئيل: هذه الثالثة، ثمّ دخل و دخلوا معه حتّى دخل منزله، فلمّا رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة، فصعدت فوق السطح و صفّقت: فلم يسمعوا، فدخّنت، فلمّا رأوا الدّخان أقبلوا يهرعون حتّى جاءوا إلى الباب، فنزلت إليهم فقالت: عنده قوم، ما رأيت قوما قطّ أحسن منهم هيئة، فجاءوا إلى الباب ليدخلوا، فلمّا رآهم لوط قام إليهم، فقال لهم: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، و قال: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فدعاهم إلى الحلال، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ، فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، فقال جبرئيل: لو يعلم أيّ قوّة له.

قال: فكاثروه (1)حتّى دخلوا البيت، فصاح به جبرئيل و قال: يا لوط دعهم يدخلون، فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم، فذهبت أعينهم، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ (2)، ثمّ ناداه جبرئيل فقال له: إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ، و قال له جبرئيل: إنّا بعثنا في إهلاكهم، فقال: يا جبرئيل عجّل، فقال: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، فأمره فتحمّل هو و من معه إلاّ امرأته، ثمّ اقتلعها-يعني المدينة-جبرئيل بجناحيه من سبعة أرضين، ثمّ رفعها حتّى سمع أهل السّماء (3)نباح الكلاب و صراخ الدّيوك، ثمّ قلبها و أمطر عليها و على

ص: 342


1- . أي غالبوه بالكثرة.
2- . القمر:54/37.
3- . في الكافي: أهل سماء الدّنيا.

من حول المدينة حجارة من سجّيل» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ يا لوط، إذا مضى من يومك هذا سبعة أيّام و ليالها بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ. قال: فلمّا كان اليوم الثّامن مع طلوع الفجر قدّم [اللّه]رسلا إلى إبراهيم يبشّرونه بإسحاق و يعزّونه بهلاك قوم لوط، و ذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى» (2).

أقول: لا يخفى ما في روايات هذه القصّة من الاختلاف من جهات كثيرة، و الذي يهوّن الخطب أنّه لا حجّية فيها. و لا بأس بالتبرّع بحمل بعضها على الإجمال، و بعضها على التّفصيل، و بعضها على اشتباه الرّاوي.

سوره 11 (هود): آیه شماره 84

ثمّ ذكّر سبحانه بعد قصّة هلاك قوم لوط قصّة هلاك قوم شعيب، بعد إتمام الحجّة عليهم، و إصرارهم على الكفر و الطّغيان، إرعابا لقلوب المشركين، و تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِلى قبيلة مَدْيَنَ و هم أولاد مدين بن إبراهيم الخليل، سمّوا باسم جدّهم الأعلى، أو المراد: أهل مدين- و هي بلدة بناها مدين و سمّيت باسمه (3)-أرسلنا أَخاهُمْ و واحدا منهم، كان اسمه شُعَيْباً ليدعوهم إلى التوحيد و ترك عبادة الأصنام قالَ لهم بلين و رفق: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده و اتركوا عبادة غيره، لأنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ و معبود مستحقّ للعبادة غَيْرُهُ.

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)ثمّ أنّه عليه السّلام بعد ردعهم عن أشنع العقائد التي كانوا عليها، نهاهم عن أقبح الأعمال التي كانوا حريصين عليها بقوله: وَ لا تَنْقُصُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ حين تؤدّون حقوق النّاس بالكيل أو الوزن، و لا تظلموهم بالسّرقة من أموالهم عند إيفائها.

ثمّ نصحهم بقوله: إِنِّي أَراكُمْ متلبّسين بِخَيْرٍ وسعة في المعاش، و ثروة مغنية لجميع حوائجكم، فلا تتوسّلوا إلى ازديادها بالظّلم على النّاس، أو المراد: إنّي أراكم محاطين بنعم اللّه التي كان حقّها أن تشكروها بالإحسان إلى غيركم، فلا تزيلوها بكفرانها بما أنتم عليه من الظّلم.

ثمّ هدّدهم عليه بقوله: وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من أن تلاقوا في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما،

ص: 343


1- . الكافي 5:546/6، تفسير الصافي 2:465.
2- . تفسير العياشي 2:433/2339، علل الشرائع:549/4، تفسير الصافي 2:463.
3- . تفسير أبي السعود 4:231.

بعملكم هذا عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ بكم، ذلك اليوم بما فيه من الشّرور، إحاطة الدّائرة بما فيها، بحيث لا ينجو منها أحد.

قيل: إنّ التّهديد بتوصيف اليوم بالإحاطة، أبلغ من توصيف العذاب بها (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 85

ثمّ أكّد ردعهم عن عادتهم الشّنيعة بقوله: وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ بِالْقِسْطِ و العدل عند إيفائكم الحقوق إلى صاحبها، أو استيفائكم حقوق أنفسكم من غيركم. و من المعلوم أنّ لازم وجوب الوفاء الاحتياط فيه عند الشكّ فيه، حتّى يعلم بحصوله.

وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)عن الباقر عليه السّلام: «وجدنا في كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا طفّف (2)المكيال و الميزان أخذهم اللّه بالسّنين و النّقص» (3).

و في رواية اخرى: «و شدّة المؤنة، و جور السّلطان» (4).

ثمّ عمّم النّهي عن تنقيص جميع الحقوق و لو كان إيفاؤها بغير المكيال و الميزان بقوله: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ و لا تنقصوهم أَشْياءَهُمْ التي يجب عليكم أن تؤدّوها إليهم بالكيل و الوزن، أو بغيرهما من الأموال و الحقوق.

ثمّ عمّم النّهي لمطلق الإضرار على الغير، و الإفساد في دينهم أو دنياهم بقوله: وَ لا تَعْثَوْا و لا تسعوا فِي اَلْأَرْضِ حال كونكم مُفْسِدِينَ مصالح أنفسكم و أبناء نوعكم، دنيويّا و اخرويّا، أو المراد: لا تسعوا في إفساد امور غيركم حال كونكم بهذا الإفساد مفسدين في امور أنفسكم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 86

ثمّ بالغ في النّصح بقوله: بَقِيَّتُ اَللّهِ و ما رزقكم من الحلال خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع ممّا تكتسبون بالتّطفيف و البخس و غيرهما إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بأحكام اللّه و ثوابه و عقابه في الآخره، تصدّقون قولي، أو المراد: إن كنتم مصدّقين بأنّي ناصح لكم وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ و رقيب حتّى أجبركم على ترك القبائح، أو حافظ لأعمالكم كي اجازيكم بها، و إنّما أنا نذير و اللّه هو الحفيظ، أو المراد: و ما

بَقِيَّتُ اَللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)

ص: 344


1- . تفسير أبي السعود 4:231.
2- . طفّف المكيال: إذا بخسه و نقصه.
3- . الكافي 2:277/2، تفسير الصافي 2:467.
4- . الكافي 2:277/1، تفسير الصافي 2:467.

أنا بحافظ عليكم نعم اللّه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من الكفران الموجب لزوالها.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ أوّل ما ينطق [به]القائم حين يخرج، هذه الآية: بَقِيَّتُ اَللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، ثمّ يقول: أنا بقيّة اللّه [في أرضه]و حجّته و خليفته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلّم إلاّ قال: السّلام عليك يا بقية اللّه في أرضه» (1).

روي أنّ الباقر عليه السّلام صعد جبلا يشرف على مدين حين اغلق دونه باب مدين، و منع أن يخرج إليه بالأسواق، فخاطبهم بأعلى صوته: «يا أهل المدينة الظّالم أهلها، أنا بقيّة اللّه، يقول اللّه: بَقِيَّتُ اَللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. و كان فيهم شيخ كبير فأتاهم فقال لهم: يا قوم، هذه و اللّه دعوة شعيب النبي، و اللّه لئن لم تخرجوا إلى هذه الرّجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم و من تحت أرجلكم» (2).

سوره 11 (هود): آیه شماره 87 الی 88

ثمّ أنّ القوم بعد إبلاغ النّصح و الإنذار قالُوا لشعيب عنادا و استهزاء: يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ و تدعوك إلى أن تأمرنا أَنْ نَتْرُكَ عبادة ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، أَوْ نترك أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا من التصرّف بالزّيادة و النّقص، و الأخذ و الإعطاء.

قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (88)قيل: إنّه عليه السّلام كان يصلّي باللّيل، و يعظ قومه بالنّهار و ينهاهم عن تقطيع أطراف الدّراهم و الدّنانير (3)، و البخس و التّطفيف. و كانوا إذا رآوه يصلّي يتغامزون و يتضاحكون (4)، و لذا أسندوا مواعظه إلى الخطرات الحاصلة له من مواظبته على الصّلاة.

ثمّ وصفوه بالعقل و الرّشد تهكّما بقولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ و العاقل المهتدي إلى كلّ خير. و المقصود ضدّهما، و الإشعار بأنّه السّفيه الضّال. و عليه يحمل ما عن القمّي: أنّهم قالوا: إنّك

ص: 345


1- . كما الدين:331/16، تفسير الصافي 2:468.
2- . الكافي 1:392/5، تفسير الصافي 2:468.
3- . تفسير البيضاوي 1:466، تفسير روح البيان 4:174.
4- . تفسير أبي السعود 4:232.

لأنت السّفيه الجاهل، فحكى (1)اللّه عزّ و جل قولهم: فقال: إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ (2).

و قيل: إنّ الحليم الرّشيد؛ بلغة أهل مدين، الأحمق السّفيه (3).

و قيل: إنّه تعليل لما سبق من استبعادهم قوله، و المعنى: إنّك لأنت الحليم الرّشيد على زعمك، فلا ينبغي منك هذه الأقوال الفاسدة (4).

قالَ شعيب: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ و حجّة واضحة على نبوّتي، أو حكمة كاملة اوتيتها مِنْ قبل رَبِّي و مليكي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ بفضله رِزْقاً حَسَناً و مالا حلالا يكفيني في معيشتي و راحتي، أو وهبني من النّبوّة مرتبة عالية، فهل يسعني؛ مع هذا الإنعام العظيم و تفضّله عليّ بالسّعادة الجسمانيّة و الرّوحانيّة، أن اقصّر في تبليغ وحيه، و اخالفه في أمره و نهيه، بأن اوافق معكم و لا آمركم بترك عبادة الأصنام و قبائح الأعمال، مع أنّه تعالى أرسلني إليكم لذلك؟ ! وَ ما أُرِيدُ بنصحي لكم و ردعكم عمّا أنتم عليه أَنْ أُخالِفَكُمْ و ما أنا مائل إِلى ما أَنْهاكُمْ و أزجركم عَنْهُ من المشتهيات، بل أختار لكم ما أختار لنفسي، و أزجركم عمّا أنزجر عنه، و أنتم تعرفون من حالي مدّة عمري بينكم أنّي إِنْ أُرِيدُ و ما أطلب بنصحي إِلاَّ اَلْإِصْلاحَ لنفوسكم و أعمالكم، و تنزيهكم عن القبائح مقدار مَا اِسْتَطَعْتُ من الإصلاح، أو ما دمت متمكّنا منه، و ما اريد إلقاء الفتنة فيكم وَ ما تَوْفِيقِي لإنفاذ مقصودي و تحقيق مرامي المذكور إِلاّ بِاللّهِ الموفّق لكلّ خير. و فيه تنبيه على عدم جواز اعتماد المؤمن في أعماله على قدرته.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: عَلَيْهِ تعالى تَوَكَّلْتُ و اعتمدت في القيام بوظيفتي عمّا سواه؛ لأنّه القادر على كلّ شيء، و ما سواه عاجز عن كلّ شيء وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ و أرجع فيما أنا بصدده من الإصلاح و الإرشاد، أو إليه أقبل بشراشري في جميع اموري. و فيه إعلان بكمال توحيده، و بعدم مبالاته بعداوة النّاس، و إشعار بمعرفته بالمعاد.

سوره 11 (هود): آیه شماره 89 الی 92

ص: 346


1- . في المصدر: فكنى.
2- . تفسير القمي 1:337، تفسير الصافي 2:468.
3- . تفسير روح البيان 4:174.
4- . تفسير أبي السعود 4:233.

سوره 11 (هود): آیه شماره 93

ثمّ بالغ في نصحهم بقوله: وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ و لا يحملنّكم شِقاقِي و عداوتي على أَنْ يُصِيبَكُمْ بكفركم و لجاجكم مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من العذاب، فإن لم تعتبروا باولئك الامم المهلكة؛ لبعد مكانهم و زمانهم، فاعتبروا بقوم لوط وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ مكانا لقرب بلادهم من مدين، و زمانا لكون زمان إهلاكهم أقرب إلى زمانكم من زمان هلاك هؤلاء الأقوام وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الإشراك به ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من التّطفيف و غيره من المعاصي، حتّى يغفر لكم، و يتوب عليكم إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بعباده التّائبين وَدُودٌ و محبّ لهم، ينجيهم من العذاب، و يعطيهم الثّواب.

وَ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)قالُوا بعد تلك المواعظ الكافية، إهانة له: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ و لا نفهم كَثِيراً مِمّا تَقُولُ. قيل: إنّما كانت علّة عدم فهمهم غاية نفرتهم عن كلامه (1)، أو عدم معرفتهم صحّة دلائل التّوحيد، و شناعة البخس و التّطفيف.

ثمّ بالغوا في تحقيره بقولهم: وَ إِنّا لَنَراكَ فِينا و بيننا ضَعِيفاً في القوى الجسمانيّة، بحيث لا تقدر على الدّفاع إن آذيناك و قتلناك، أو مهينا لا عزّ لك وَ لَوْ لا رَهْطُكَ و حرمة أقاربك الّذين هم على ديننا لَرَجَمْناكَ و قتلناك بأسوأ القتل، و هو رميك بالحجارة وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ و مكرم، و إنّما يحفظك من الرّجم حرمة قومك لا حرمتك.

قالَ شعيب: يا قَوْمِ أَ رَهْطِي و عشيرتي أَعَزُّ و أكرم عَلَيْكُمْ مِنَ اَللّهِ العزيز القاهر الذي أرسلني إليكم لتبليغ توحيده و أحكامه، فإنّ إهانتي و إيذائي إهانته و إيذاؤه وَ أنتم اِتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا و نبذتموه خلف أظهركم، و جعلتموه منسيّا لا تعتنون به أبدا.

ثمّ إنّه بعد توبيخهم على جعل رعاية قومه أولى من رعاية حرمة اللّه، هدّدهم بقوله: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ من القبائح و السيّئات مُحِيطٌ و مطّلع، بحيث لا يخفى منه شيء، فيجازيكم عليها أسوأ الجزاء وَ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا و اسعوا في الإضرار بي، و إيصال الشرّ إليّ عَلى قدر مَكانَتِكُمْ و وسعكم، بلا تقصير و توان، و إِنِّي أيضا عامِلٌ و مجدّ قدر وسعي في التّبليغ و إتمام الحجّة

ص: 347


1- . تفسير البيضاوي 1:467.

عليكم، إذن سَوْفَ تَعْلَمُونَ و عن قريب تشهدون مَنْ يَأْتِيهِ من قبل اللّه عَذابٌ شديد يُخْزِيهِ و يذلّه فوق الذّلّ الذي يلازمه الهلاك بمطلق العذاب وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ في دعواه، أنتم في دعوى الشّرك، أو أنا في دعوى التّوحيد وَ اِرْتَقِبُوا و انتظروا عاقبة أمري و أمركم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ و منتظر لذلك.

عن الرضا عليه السّلام: «[ما]أحسن الصّبر و انتظار الفرج! أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ: وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» (1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا ذكر شعيبا قال: «ذاك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته في كلامه بين قومه (2).

سوره 11 (هود): آیه شماره 94 الی 95

ثمّ حكى اللّه لطفه بشعيب و المؤمنين، و غضبه على أعدائهم بقوله: وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا و عذابنا، أو وقت أمرنا ملكا بإهلاكهم بالصّيحة نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ و فضل مِنّا أو بإيمان و طاعة وفّقناهم لهما وَ أَخَذَتِ الكافرين اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر اَلصَّيْحَةُ السّماويّة المهلكة فَأَصْبَحُوا أو صاروا دفعة فِي دِيارِهِمْ و مساكنهم جاثِمِينَ ميّتين لا حراك لهم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا في الدّنيا، و لم يعيشوا فِيها أبدا أَلا يا أهل العالم بُعْداً من الرّحمة الواسعة الإلهيّة، و هلاكا دائما لِمَدْيَنَ و أهله كَما بَعِدَتْ و هلكت ثَمُودُ.

وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)عن ابن عبّاس: لم يعذّب اللّه تعالى امّتين بعذاب واحد، إلاّ قوم شعيب، و قوم صالح. فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصّيحة من تحتهم، و أمّا قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 96 الی 99

ص: 348


1- . كمال الدين:645/5، مجمع البيان 5:288، تفسير الصافي 2:470.
2- . تفسير روح البيان 4:179.
3- . تفسير الرازي 18:51.

ثمّ ختم سبحانه قصص الأنبياء و هلاك اممهم بقصّة موسى و هلاك فرعون و قومه بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا و هي التّوراة و الشّرائع، كما قيل (1)، أو المعجزات الباهرات؛ على قول آخر (2)، وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و البرهان القاطع، على قول، أو المعجزات التّسع، على آخر (3)، إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ و أشراف قومه، أمّا فرعون فجحده و عارضه، و أمّا ملأه فَاتَّبَعُوا و امتثلوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ إيّاهم بالكفر و الجحود لنبوّة موسى عليه السّلام، و تكذيبه فيما جاء به وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ و ذي صلاح أو محمود العاقبة، بل كان عين الغيّ و الضّلال.

و كما كان هو قدوة و متّبعا لهم في الكفر و الفساد في الدّنيا يَقْدُمُ قَوْمَهُ الأشراف منهم و الأراذل يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و هم يتبعونه في طريق جهنّم فَأَوْرَدَهُمُ اَلنّارَ الموقدة وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ و ساء المكان الذي يدخلونه وَ أُتْبِعُوا و اردفوا، اولئك القوم الذين اتّبعوه فِي هذِهِ الدّنيا لَعْنَةً عظيمة دائمة، حيث تلعنهم الامم إلى يوم القيامة وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ حيث يلعنهم جميع أهل الموقف، بسبب اتّباعهم أمر فرعون بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ و ساء العطاء المعطى، أو العون المعان به تلك اللّعنة.

القمّي: فِي هذِهِ لَعْنَةً يعني: الهلاك و الغرق، وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [أي]يرفدهم اللّه بالعذاب (4). فإذا كان حال الأتباع هكذا، فكيف يكون حال المتبوع؟ !

سوره 11 (هود): آیه شماره 100

ثمّ استدلّ سبحانه بصدق هذه القصص على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، مع كونه اميّا، بقوله: ذلِكَ المذكور مِنْ أَنْباءِ اَلْقُرى المهلكة، الذي لا تعلمه أنت و لا قومك، و إنّما نحن نَقُصُّهُ بالوحي عَلَيْكَ فلا مجال للشكّ في نبوّتك.

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100)و أمّا تلك القرى التي نزل فيها العذاب، فبعض مِنْها قائِمٌ و باق إلى الآن بأساسه و بنيانه (5)كالزّرع القائم على ساقه، وَ منها حَصِيدٌ و عافي الأثر كالزّرع المحصود.

سوره 11 (هود): آیه شماره 101 الی 103

ص: 349


1- . تفسير الرازي 18:52.
2- . تفسير الرازي 18:52.
3- . تفسير الرازي 18:53.
4- . تفسير القمي 1:337، تفسير الصافي 2:471.
5- . في النسخة: بأساسها و بنيانها.

ثمّ نبّه سبحانه على أن تعذيب أهالي القرى كان بمقتضى العدل بقوله: وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتعذيبهم وَ لكِنْ هم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للهلاك بسبب اختيارهم الكفر، و ارتكابهم العصيان.

ثمّ وبّخهم على عبادة الأصنام بقوله: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ و ما نفعتهم في دفع العذاب عنهم بالقدرة أو الشّفاعة آلِهَتُهُمُ و أصنامهم اَلَّتِي كانوا يَدْعُونَ و يعبدونها مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ يسير لَمّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ و عذابه، لعدم قدرتهم و مكانتهم عند اللّه وَ ما زادُوهُمْ بعبادتهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ و هلاك و تخسير.

ثمّ بيّن سبحانه عموميّة عذابه لكلّ امّة ظالمة بقوله: وَ كَذلِكَ الأخذ الشّديد الذي كان للامم المذكورة أَخْذُ رَبِّكَ و عذابه إِذا أَخَذَ اَلْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ و عذّب أهاليها و هم كفّار طغاة إِنَّ أَخْذَهُ و عذابه أَلِيمٌ و موجع شَدِيدٌ في الغاية.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه يمهل الظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» . ثمّ تلا هذه الآية (1).

إِنَّ فِي ذلِكَ الأخذ للامم الهالكة، أو في المذكور من قصصهم لَآيَةً و عبرة كاملة، و موعظة شافية لِمَنْ خافَ عَذابَ اَلْآخِرَةِ لأنّه المعتبر به، حيث إنّه يستدلّ بما حاق بهم من العذاب في الدّنيا بسبب الكفر و العصيان على شدّة عذاب الآخرة. و أمّا من ينكر الآخرة، فإنّه لا يتأثّر بهذه الحوادث، لأنّه يسندها إلى الأوضاع الفلكيّة و الأسباب الاتّفاقيّة.

ثمّ وصف سبحانه يوم القيامة ترهيبا للقلوب بقوله: ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنّاسُ من الأوّلين و الآخرين، للحساب و الجزاء وَ ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَشْهُودٌ و محضر فيه جميع الخلائق من أهل السّماوات و الأرضين، ليشهدوا أعمال العباد و جزاءهم عليها.

القمّي: يشهد عليهم الأنبياء و الرّسل (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام، في هذه الآية: «فذلك يوم القيامة، و هو اليوم الموعود» (3).

عن السجاد عليه السّلام: «و اعلم أنّ من وراء هذا أعظم و أفظع و أوجع للقلوب، يوم القيامة ذلِكَ يَوْمٌ

ص: 350


1- . مجمع البيان 5:292، تفسير الصافي 2:471.
2- . تفسير القمي 1:338، تفسير الصافي 2:472.
3- . تفسير العياشي 2:322/2052، تفسير الصافي 2:472.

مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يجمع اللّه عزّ و جلّ فيه الأوّلين و الآخرين» (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 104 الی 107

ثمّ بيّن سبحانه علّة تأخيره بقوله: وَ ما نُؤَخِّرُهُ لعلّة من العلل إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ و انقضاء مدّة قليلة تقتضيها الحكمة البالغة، فإذا انقضت فلا بدّ من خراب الدّنيا و قيام القيامة، و كلّ آن قريب.

وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (105) فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ (107)ثمّ قرّر سبحانه عظمة ذلك اليوم، بذكر بعض أحواله بقوله: يَوْمَ يَأْتِ الأمر المهيب الهائل، أو ذلك اليوم؛ بتأويل اليوم المذكور بحين، إذن لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ و لا تنطق فيه بما ينفعها من الاعتذار و الشّفاعة و الجواب إِلاّ بِإِذْنِهِ و إرادته، أو بترخيصه لها في التكلّم. قيل: إنّه في بعض المواقف (2).

ثمّ بيّن سبحانه أحوال أهل الموقف بقوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ و خبيث النّفس و العمل، مستحقّ للعذاب وَ منهم سَعِيدٌ طيّب النفس و العمل، مستحقّ للثّواب و الإكرام.

ثمّ كأنّه قيل: ما حالهم و شأنهم؟ فأجاب تعالى بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّارِ يدخلون و يستقرّون، فيشتدّ كربهم و بلاؤهم، بحيث يكون لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ و صوت كصوت الحمار عند ردّ نفسه وَ شَهِيقٌ و صوت كصوته عند إخراج نفسه.

و قيل: الزّفير في الحلق، و الشّهيق في الصّدر (3).

و قيل: الزّفير الصّوت الشّديد، و الشّهيق الصوت الضّعيف (4).

و قيل: الزّفير ما يجتمع في الصّدر من النفس عند البكاء الشّديد؛ فينقطع النّفس، و الشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكرب و الحزن، و ربّما تتبعهما الغشية، و ربّما حصل عقيبهما الموت (5).

و المراد وصف شدّة كربهم و تشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة، و انحصر فيه روحه.

و عن ابن عبّاس قال: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ يريد ندامة، و نفسا عاليا، و بكاء لا ينقطع، و حزنا لا يندفع (6).

و قيل: الزّفير لهيب جهنّم، يرفعهم بقوّته، حتّى إذا وصلوا إلى أعلى درجات جهنّم و طمعوا في أن

ص: 351


1- . الكافي 8:73/29، تفسير الصافي 2:472.
2- . تفسير أبي السعود 4:241.
3- . تفسير الرازي 18:62.
4- . تفسير الرازي 18:63.
5- . تفسير الرازي 18:62.
6- . تفسير الرازي 18:63.

يخرجوا منها اعيدوا فيها، و يردّوا إلى أسفل دركاتها، فالزّفير ارتفاعهم في النّار، و الشّهيق انحطاطهم فيها (1)، حال كونهم خالِدِينَ و دائمين فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ و بقيا في عالم الآخرة، فإنّ لأهل الآخرة سماوات و أرضا لقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّماواتُ (2)، و للرّوايات الدالّة على أنّ لجهنّم جبالا و أودية.

و قيل: إنّ الكلمة كناية في لسان العرب عن الدّوام (3)؛ كقولهم: ما لاح كوكب، و ما اختلف اللّيل و النّهار، و لو لم تكن سماوات و أرض و كوكب، للنّصوص القاطعة على دوام العذاب و النّعمة في الآخرة و أبديّتهما، فلا مجال للقول بانقطاع عذاب الكفّار للآية و بعض الوجوه الفاسدة.

و قيل: إنّ المراد: السماوات و الأرض الدّنيويّة (4).

و عن القمّي: هذا في نار الدّنيا قبل يوم القيامة (5).

و قيل: إنّ الأبديّة مفهومة من قوله: إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ بناء على أن (إلاّ) بمعنى سوى، و المعنى: أنّهم يكونون في النّار في مدّة بقاء السماوات و الأرض سوى ما يتجاوز عن ذلك من الزّيادة التي لا آخر لها (6).

و فيه من الضّعف ما لا يخفى، و أكثر المفسّرين على أنّ الاستثناء على (حقبا) ، و أنّ الآية في بيان عذاب الكفّار في الآخرة لا في البرزخ، و المعنى: إلا زمانا شاء ربّك عدم خلودهم فيها، و لم يشأ و لا يشاء ذلك أبدا، و إنّما المقصود بيان أنّ خلودهم فيها بإرادة اللّه و لو شاء لا يخلّدهم، و لكن لا يشاء ذلك البتّة، للأدلّة القطعيّة على خلودهم فيها و عدم خروجهم منها. و يؤيّد ذلك تذييل الآية بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ.

و قيل: إنّ المراد من المستثنى مدّة أعمارهم في الدّنيا، أو مدّة مكثهم في القبر و البرزخ، أو في المحشر للحساب، ثمّ يصيرون إلى النّار (7). و الكلّ فاسد.

و قيل: زمان خروجهم من النّار، و انتقالهم إلى الزّمهرير و سائر أنواع العذاب (8).

و قيل: إنّ المراد استثناء أشقياء أهل التّوحيد، فإنّه لا خلود لهم فيها (9).

و عن الباقر عليه السّلام: «هاتان الآيتان-يعني: هذه الآية، و ما بعدها-في غير أهل الخلود من الأشقياء و السّعداء» (7).

ص: 352


1- . تفسير الرازي 18:62.
2- . إبراهيم:14/48.
3- . تفسير الرازي 18:64.
4- . تفسير الصافي 2:473.
5- . تفسير القمي 1:338، تفسير الصافي 2:473.
6- . تفسير الرازي 18:65. (7 و 8 و 9) . تفسير الرازي 18:66.
7- . تفسير العياشي 2:323/2054، تفسير الصافي 2:473، و فيهما: من أهل الشقاوة و السعادة.

سوره 11 (هود): آیه شماره 108

ثمّ بيّن سبحانه حال السّعداء بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا و وحّدوا ربّهم، و بذلوا جهدهم في طاعته فَفِي اَلْجَنَّةِ يدخلون و يستقرّون، حال كونهم خالِدِينَ و دائمين فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ و هو يعطيهم ذلك عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ و يفضّل عليهم تفضّلا غير مقطوع عنهم أبدا.

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)و يأتي في الآية كلّ ما ذكر في سابقتها من الوجوه، لدفع المنافاة بين تقييد الدّوام فيها بدوام السّماوات و الأرض و الاستثناء، و بين ما علم من الأدلّة القطعيّة من الدّوام الأبدي بلا استثناء.

و قيل في الآية: إنّ السّعداء قد يرفعون إلى العرش، و مقام الرّضوان، و المنازل الرّفيعة التي لا يعلمها إلاّ اللّه (1).

و فيه: إنّ الخروج من الجنّة و لو آنا ما مناف للأدلّة القطعيّة على الخلود فيها. و أمّا مقام الرّضوان و المنازل الرّفيعة، فكلّها في الجنّة ليس بخارج منها.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «قال الجاهل بعلم التّفسير: إنّ هذا الاستثناء من اللّه إنّما هو لمن دخل الجنّة و النّار، و ذلك أنّ الفريقين جميعا يخرجان منهما فتبقيان و ليس فيهما أحد و كذّبوا، فإنّ اللّه تعالى ليس يخرج أهل الجنّة و لا كلّ أهل النّار منهما أبدا، كيف يكون ذلك و قد قال اللّه في كتابه: ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (2)ليس فيه استثناء؟» (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 109

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة المشركين الماضين، و ابتلائهم بالعذاب، و عدم انتفاعهم بآلهتهم في دفعه، و ذكر حال الأشقياء و السّعداء في الآخرة، بيّن مساواة حال المشركين المعاصرين للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و آلهتهم، مع السّابقين المهلكين و آلهتهم، في سوء العاقبة و ابتلائهم بالعذاب، و عدم إغناء آلهتهم عنهم، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تبشيرا له بالنّصر، و تهديدا للمشركين بقوله: فَلا تَكُ يا محمّد، بعد ما انزل إليك من القرآن، و اطّلعت بما فيه من قصص الامم، كائنا فِي مِرْيَةٍ و شكّ مِنْ حال

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

ص: 353


1- . تفسير الرازي 18:67.
2- . الكهف:18/3.
3- . تفسير العياشي 2:323/2053، تفسير الصافي 2:473.

ما يَعْبُدُ هؤُلاءِ المشركون المعاصرون لك من الأصنام، في أنّها لا تدفع عنهم شيئا من العذاب، و اعلم أنّهم ما يَعْبُدُونَ الأصنام إِلاّ كَما كان يَعْبُدُ ها آباؤُهُمْ و كبراؤهم الذين بيّنت لك سوء عاقبتهم مِنْ قَبْلُ بلا تفاوت، فكما كانت عبادة قدمائهم إيّاها عن جهل و تقليد بلا تحقيق و برهان، كانت عبادة هؤلاء المشركين الموجودين في عصرك لها كذلك وَ إِنّا كما وفّينا نصيب آبائهم من الرّزق و السّعة و العمر، و إرسال الرّسل، و إنزال الكتب، و إتمام الحجّة عليهم في الدّنيا، و إنزال العذاب عليهم فيها و في الآخرة، و اللّه لَمُوَفُّوهُمْ و معطوهم كاملا نَصِيبَهُمْ و حظّهم المعيّن لهم من المذكورات، حال كون ذلك النّصيب غَيْرَ مَنْقُوصٍ منه مثقال ذرّة، و يكون حال هؤلاء كحال قدمائهم بدوا و ختما بلا تفاوت. فليكونوا على حذر، و كن أنت على ما أنت عليه من التّبليغ، و القيام بوظيفه الرّسالة.

سوره 11 (هود): آیه شماره 110

ثمّ أنّه تعالى بعد تسلية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في إنكار المشركين التّوحيد، و معارضتهم له فيه، سلاّه سبحانه في إنكارهم صدق كتابه بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فمن قومه من آمن به، و منهم من أنكر صدقه، كما اختلف قومك في شأن كتابك أنّه من عند اللّه أو من اختلاق البشر، فلا تبال يا محمّد باختلاف قومك و تكذيبهم كتابك، فإنّهم على سيرة من قبلهم، و اصبر كما صبر موسى عليه السّلام.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)عن الباقر عليه السّلام: «اختلفوا كما اختلفت هذه الامّة [في الكتاب]، و سيختلفون في الكتاب الذي مع القائم الذي يأتيهم به، حتّى ينكره ناس منهم (1)، فيقدّمهم و يضرب أعناقهم» (2).

ثمّ بيّن اللّه شدّة استحقاقهم العذاب بقوله: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من وعده أو حكمه بتأخير عذاب هذه الامّة، أو حكمه بين المختلفين إلى القيامة، لحكمة داعية إليه، أو إخباره بسبق رحمته غضبه لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ و حكم عليهم في الحال بعذاب الاستئصال، أو بالتميّز بين المحقّ و المبطل من قومك بإهلاك مكذّبي كتابك، مع أنّهم ليسوا على يقين من كذبه وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ عظيم من صدقه، و ترديد مِنْهُ مع وضوح دلائله مُرِيبٍ ذلك الشكّ، و موقع لقلوبهم في اضطراب و تشويش، مع أنّ الحقّ الاطمئنان به.

ص: 354


1- . في الكافي: ناس كثير.
2- . الكافي 8:287/432، تفسير الصافي 2:474.

سوره 11 (هود): آیه شماره 111

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر الاختلاف في صدق كتابه، وعد المصدّقين و أوعد المكذّبين بقوله: وَ إِنَّ كُلاًّ من المصدّقين لكتابك و المكذّبين له لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ و ليعطينّهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ و جزاء تصديقهم و طاعتهم، و عقوبة تكذيبهم و عصيانهم، حسبما يستحقّون إِنَّهُ تعالى بِما يَعْمَلُونَ من خير و شر خَبِيرٌ و مطّلع بحيث لا يخفى عليه جلائله و دقائقه، و مقدار ما يستحقّون من الثّواب و العقاب، فلا ينقص من حقوق كلّ منهم شيء.

وَ إِنَّ كُلاًّ لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)و قيل: إنّه تعالى لمّا أخبر بتوفية الأجزية، أكّده بسبعة أنواع من التأكيدات: كلمة (إنّ) و كلمة (كلّ) ، و اللام الداخلة على خبر (إنّ) ، و ماء الموصولة، و القسم المضمر في (ليوفّينّ) ، و اللام الدّاخلة على جوابه، و النّون المؤكّدة. فجميع هذه التأكيدات تدلّ على أنّ أمر الرّبوبيّة و العبوديّة، لا يتمّ إلاّ بالبعث و القيامة و العقاب و الثّواب (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 112 الی 113

ثمّ أنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تكذيب نبوّته و كتابه، و معارضة المشركين له، أمره بالثّبات على دينه و دعوته بقوله: فَاسْتَقِمْ يا محمّد، و اثبت على ما أنت عليه من الدّين و الدّعوة إليه. و عن الصادق عليه السّلام: «أي افتقر إلى اللّه بصحّة العزم» (2)كَما أُمِرْتَ به من ربّك، و على النّحو الّذي أراد منك، غير عادل عنه، و لا متوان فيه وَ كذا مَنْ تابَ من الشّرك و العصيان، و كان مَعَكَ في الإيمان، و تبعك في العقائد و الأعمال.

فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)و عن ابن عبّاس: ما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جميع القرآن آية أشدّ عليه من هذه الآية، و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله: «شيّبتني سورة هود و أخواتها» (3).

و عن بعض أنّه قال: رأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله في النّوم، فقلت له: روي عنك أنّك قلت: «شيّبتني سورة هود و أخواتها» . فقال: نعم، فقلت: و بأيّ آية؟ قال: «بقوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» (4).

ثمّ خصّ سبحانه الخطاب بالمؤمنين بقوله: وَ لا تَطْغَوْا و لا تتجاوزوا عن حدود اللّه و أوامره

ص: 355


1- . تفسير الرازي 18:70.
2- . جوامع الجامع:211، تفسير الصافي 2:474. (3 و 4) . تفسير الرازي 18:71.

و نواهيه بطرفيّ الإفراط و التّفريط، و لا تدخلوا طاعة أهويتكم في طاعة ربّكم، عن ابن عبّاس: تواضعوا للّه، و لا تتكبّروا على أحد (1). و قيل: يعني: لا تعدلوا عن طريق شكره و التواضع له عند عظيم نعمه (2)إِنَّهُ تعالى بِما تَعْمَلُونَ من التعدّي و التّقصير بَصِيرٌ و مطّلع غايته، فيجازيكم عليه، فاتّقوا في المحافظة على حدوده. و فيه غاية التّهديد وَ لا تَرْكَنُوا و لا تسكنوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان، و لا تميلوا إليهم بالمحبّة و النّصح و لو قليلا.

و عنهم عليهم السّلام: «الرّكون المودّة و النّصيحة و الطّاعة» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الرّجل يأتي السّلطان، فيحبّ بقاءه إلى أن يدخل يده في كيسه فيعطيه» (2).

أقول: الظّاهر من السّلطان السّلاطين المعاصرون لهم الغاصبون لحقّهم.

و عن ابن عبّاس: لا تداهنوا الظّلمة (3). فَتَمَسَّكُمُ و تصيبكم اَلنّارُ في الآخرة، وَ الحال أنّه ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه مِنْ أَوْلِياءَ و أعوان يدفعون عنكم العذاب ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ من قبل اللّه، لشدّة استحقاقكم.

عن الصادق عليه السّلام: «أما أنّه لم يجعلها خلودا، و لكن قال: فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ، فلا تركنوا إليهم» (4).

قال السّدّي: إنّ الرّكون [المنهيّ عنه]هو الرّضا بما عليه الظّلمة من الظّلم، و تحسين طريقتهم و تزيينها عندهم و عند غيرهم، فأمّا مداخلتهم لدفع ضرر، أو اجتلاب منفعة عاجلة، فغير داخل في الرّكون إليهم (5). فإذا كان الرّكون إليهم موجبا لمسّ النار، فكيف حال أنفسهم؟

سوره 11 (هود): آیه شماره 114

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بالاستقامة، و نهيه عن التعدّي عن حدوده و الرّكون إلى الكفّار، و التّهديد عليه، أمرنا بالصّلاة التي هي أعظم العبادات، و أتمّ الرّكون و الإقبال إلى اللّه بقوله: وَ أَقِمِ يا محمّد و أدّ اَلصَّلاةَ التي هي عمود دينك، و معراج امّتك في طَرَفَيِ اَلنَّهارِ و هما الغداة و العشيّ وَ زُلَفاً و ساعات قريبة من النّهار، كائنة مِنَ اَللَّيْلِ.

وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ (114)

ص: 356


1- . مجمع البيان 5:306، تفسير الصافي 2:475.
2- . الكافي 5:108/12، تفسير الصافي 2:475.
3- . مجمع البيان 5:306 عن السدي.
4- . تفسير العياشي 2:324/2059، تفسير الصافي 2:475.
5- . تفسير الرازي 18:72، و القول منسوب إلى المحققين.

قيل: «طَرَفَيِ اَلنَّهارِ الغداة و العصر، و زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ المغرب و العشاء» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «طَرَفَيِ اَلنَّهارِ الغداة و المغرب، و زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ العشاء الآخرة» (2).

ثمّ حثّ سبحانه على الصّلاة بقوله: إِنَّ اَلْحَسَناتِ و الأعمال الخيريّة التي منها الصّلاة يُذْهِبْنَ و يمحنّ اَلسَّيِّئاتِ الصّغار.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الصّلاة إلى الصّلاة كفّارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر» (3).

و عن ابن عبّاس: إن الصّلوات الخمس كفّارات لسائر الذّنوب، بشرط الاجتناب عن الكبائر (4).

و في رواية: «الصّلوات الخمس، و الجمعة إلى الجمعة، و رمضان إلى رمضان، مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر» (5).

و عن مجاهد: الحسنات قول العبد: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر (6).

عن الصادق عليه السّلام: «صلاة المؤمن باللّيل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار» (7).

و عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أربع من كنّ فيه لم يهلك-إلى أن قال: -و يهمّ بالسيّئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء، و إن هو عملها اجّل سبع ساعات، و قال صاحب الحسنات لصاحب السّيئات؛ و هو صاحب الشمال: لا تعجل، عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإنّ اللّه يقول: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ أو الاستغفار» الخبر (8).

و عنه عليه السّلام: «إعلم أنّه ليس شيء أضرّ عاقبة، و لا أسرع ندامة، من الخطيئة، و أنّه ليس شيء أشدّ طلبا و لا أسرع دركا للخطيئة، من الحسنة. أما أنّها لتدرك الذّنب العظيم القديم المنسيّ عند صاحبه، فتحطّه و تسقطه و تذهب به بعد إثباته، و ذلك قوله: إِنَّ اَلْحَسَناتِ. . . إلى آخره» (9).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّ عليّا عليه السّلام قال: سمعت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أرجأ آية في كتاب اللّه: وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ. . . و قرأ الآية كلّها. و قال: يا عليّ، و الذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا [إنّ]أحدكم ليقوم إلى (10)وضوئه فتساقط عن جوارحه الذّنوب، فإذا استقبل اللّه بقلبه و وجهه، لم ينفتل [عن صلاته]و عليه من ذنوبه شيء، كما ولدته امّه، فإن أصاب شيئا بين الصّلاتين كان له مثل ذلك، حتّى عدّ الصّلوات الخمس. ثمّ قال: يا عليّ، إنّما مثل الصّلوات الخمس لامّتي كنهر جار على باب

ص: 357


1- . تفسير أبي السعود 4:246.
2- . التهذيب 2:241/954، تفسير الصافي 2:475.
3- . تفسير البيضاوي 1:472، تفسير الصافي 2:475.
4- . تفسير الرازي 18:74.
5- . تفسير روح البيان 4:197.
6- . تفسير الرازي 18:74.
7- . الكافي 3:266/10، تفسير الصافي 2:475.
8- . الكافي 2:313/4، تفسير الصافي 2:475.
9- . تفسير العياشي 2:328/2067، مجمع البيان 5:307، تفسير الصافي 2:476.
10- . في مجمع البيان: من.

أحدهم، فما يظنّ أحدهم إذا كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النّهر خمس [مرّات في اليوم] أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و اللّه الصّلوات الخمس [لأمّتي]» (1).

و عن عليّ عليه السّلام: «أنّ اللّه يكفّر بكلّ حسنة سيّئة» . [ثمّ]تلا هذه الآية (2).

في قصة أبي

اليسر

و روت العامة في سبب نزول الآية: أنّ أبا اليسر الأنصاري كان يبيع التّمر، فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إنّ في البيت أجود من هذا التّمر، فذهب بها إلى داخل البيت، فضمّها إلى نفسه و قبّلها، و فعل بها كلّ شيء إلاّ الجماع، فقالت له: اتّق اللّه، فتركها و ندم، فأتى أبا بكر فأخبره، فقال: استر على نفسك و تب إلى اللّه، فلم يصبر فأتى عمر، فقال له مثل ذلك، فلم يصبر، ثمّ أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بما فعل، فقال: «أنتظر أمر ربّي، فاستر على نفسك» ، فلمّا صلّى العصر نزلت هذه الآية، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «صلّيت العصر معنا؟» قال: نعم، فقال: «اذهب، فإنّها كفّارة لما فعلت» ، فقال الحاضرون: هذا له خاصّة أم للنّاس عامّة؟ قال: «بل للنّاس كافّة» (3).

ثمّ حثّ سبحانه على العمل بالتّكاليف بقوله: ذلِكَ المذكور من الاستقامة على الدّين، و ترك الرّكون إلى الظّالمين، و إقامة الصّلاة ذِكْرى و عظة لِلذّاكِرِينَ و المتّعظين.

سوره 11 (هود): آیه شماره 115 الی 116

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بالأمر بالصّبر و الوعد بالأجر بقوله: وَ اِصْبِرْ يا محمّد، على مشاقّ التّكاليف، و احمل نفسك على الطّاعة فَإِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ و لا يبطل أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ بل يوفّيهم اجور أعمالهم على حسب استحقاقهم.

وَ اِصْبِرْ فَإِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْ لا كانَ مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْفَسادِ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116)ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بالاستقامة على الدّعوة و الإرشاد، و عدم الرّكون إلى الكفّار، و الرّكون إلى اللّه بالقيام إلى الصّلاة، و الصّبر على مشاقّ التكليف، نبّه على أنّ رفع الكفر و الفساد لا يكون إلاّ بالدّعوة إلى الحقّ، و النّهي عن المنكر بقوله: فَلَوْ لا كانَ مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ و هلاّ وجد من الامم الهالكة السّابقة على عصركم فريق أُولُوا بَقِيَّةٍ و أصحاب فضل و خير يَنْهَوْنَ المفسدين عَنِ اَلْفَسادِ فِي اَلْأَرْضِ و العصاة عن العصيان في الدّنيا إِلاّ قَلِيلاً و غير

ص: 358


1- . تفسير العياشي 2:325/2061، مجمع البيان 5:308، تفسير الصافي 2:476.
2- . أمالي الطوسي:26/31، تفسير الصافي 2:475.
3- . تفسير روح البيان 4:197.

شرذمة (1). و الاستثناء راجع إلى النّفي المستفاد من كلمة التّحضيض، و المعنى: ما كان من القرون غير قليل من ذوي عقل و فضل.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكن قليلا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ (2).

و عليه يكون حاصل المفاد أنّه لم يكن في الامم السّابقة الطّاغية رجال صلحاء ينهونهم عن المنكر، حتّى لا ينزل عليهم العذاب، نعم قليل منهم نهوهم عن المنكر، فنجوا من العذاب، و هم أتباع الأنبياء.

و أمّا غيرهم فتركوه وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب الفساد، و ترك النّهي عن المنكر ما أُتْرِفُوا و انعموا، أو اطلقوا و تركوا فِيهِ من الشّهوات و اللّذّات التي آثروها على رضا اللّه تعالى و النّعم الاخرويّة وَ كانُوا لذلك مُجْرِمِينَ و صاروا عصاة طاغين، و مستحقّين لعذاب الاستئصال، مبتلين بأشدّ النّكال. أمّا جهّالهم فبسبب العصيان و الطّغيان، و أمّا علماؤهم فبسبب المداراة و ترك النّهي عن المنكر.

روي أنّ اللّه لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة، حتّى يروا المنكر بين ظهرانيهم و هم قادرون على أن ينكروا فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلك عذّب اللّه العامّة و الخاصّة (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 117

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ تعذيبهم كان بمقتضى عدله بقوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ و ما صحّ له لِيُهْلِكَ اَلْقُرى بالعذاب بِظُلْمٍ منه لهم، أو بظلمهم على أنفسهم بسبب الشّرك و العصيان وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ فيما بينهم، منصفون في حقوق إخوانهم.

وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ ينصف بعضهم من بعض» (4).

حاصل الآية: أنّ اللّه لا يهلك قوما بمجرّد الشّرك و اعتقاد الباطل، و إنّما يهلكهم إذا سعوا في الفساد، و ظلموا النّاس، فإنّ من رحمته تعالى أن يسامح في حقوق نفسه دون حقوق النّاس.

سوره 11 (هود): آیه شماره 118 الی 119

ص: 359


1- . الشّرذمة: الجماعة القليلة من الناس.
2- . تفسير روح البيان 2:200.
3- . تفسير روح البيان 2:200.
4- . مجمع البيان 5:309، تفسير الصافي 2:477.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ أمره بدعوة النّاس إلى التّوحيد و نهيهم عن المنكر، ليس لعجز نفسه عن حملهم على الإيمان؛ بقوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ بالمشيئة التّكوينيّة إيمانهم لَجَعَلَ اَلنّاسَ في جميع الأزمنة أُمَّةً واحِدَةً و جماعة متّفقة على دين الحقّ و ألزمهم و قهرهم على ملّة التّوحيد، و لكن لم يشأ ذلك لحكمة داعية إلى إيكالهم إلى اختيارهم وَ لذا لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في العقائد و الأخلاق في القرون و الأعصار، فتاهوا في شعب الباطل و مسالك الضّلال إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ و وفّقه للاهتداء إلى الحقّ، و أرشده إلى الصّراط المستقيم وَ لِذلِكَ المذكور من الرّحمة خَلَقَهُمْ و للاهتداء إلى الحقّ بفضله أوجدهم.

عن الصادق عليه السّلام (1)، في هذه الآية: «النّاس مختلفون في إصابة القول، و كلّهم هالك، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ و هم شيعتنا، و لرحمته (2)خلقهم، [و هو قوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ]، يقول: لطاعة الامام عليه السّلام» (3).

و عنه عليه السّلام: «خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته، فيرحمهم» (4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الدّين إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يعني: آل محمّد و أتباعهم. يقول اللّه: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ يعني: أهل الرحمة لا يختلفون [في الدين]» (5).

و قيل: إنّ لام (لذلك) لام العاقبة، و اسم الإشارة إشارة إلى الاختلاف بمعنى المخالفة (6)و ضمير خَلَقَهُمْ راجع إلى عموم الناس، و المعنى: و كان عاقبة خلقهم المخالفة للحقّ.

و قيل: إنّ اسم الإشارة راجع إلى المذكور من الرّحمة و الاختلاف، و المراد: أنّه خلق أهل الرّحمة للرّحمة، و أهل العذاب للاختلاف (7).

عن ابن عبّاس قال: خلق [اللّه]أهل الرّحمة لئلاّ يختلفوا، و أهل العذاب لأن يختلفوا، و خلق الجنّة و خلق لها أهلا، و خلق النّار و خلق لها أهلا (8).

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ و حقّت، أو وصل وعيده إلى عباده، أو مضى حكمه و قضاؤه من قوله: لَأَمْلَأَنَّ في القيامة جَهَنَّمَ البتّة مَنْ الشّياطين و عصاة اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ.

عن القمّي رحمه اللّه: «و هم الذّين سبق الشّقاء لهم، فحقّ عليهم القول أنّهم للنار خلقوا، و هم الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك أنّهم لا يؤمنون» (9).

ص: 360


1- . في الكافي: عن الباقر عليه السّلام.
2- . في النسخة: و لرحمتهم.
3- . الكافي 1:355/83، تفسير الصافي 2:477.
4- . التوحيد:403/10، تفسير الصافي 2:477.
5- . تفسير القمي 1:338، تفسير الصافي 2:478.
6- . تفسير البيضاوي 1:473.
7- . تفسير روح البيان 4:202.
8- . تفسير الرازي 18:79.
9- . تفسير القمي 1:338، تفسير الصافي 2:478.

سوره 11 (هود): آیه شماره 120 الی 122

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كثير من قصص الأنبياء و اممهم، نبّه على فوائده بقوله: وَ كُلاًّ نَقُصُّ و نتلو عَلَيْكَ يا محمّد شيئا مِنْ أَنْباءِ اَلرُّسُلِ و بعضا من أخبارهم ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ و نقوّي به قلبك في القيام بوظيفة الرّسالة، و نزيد به يقينك بأنّك مؤيّد من ربّك و تطيب به نفسك، و تعلم أنّ ما يفعل بك من التّكذيب و الإيذاء فقد فعل بغيرك من الأنبياء. و فيه تسلية عظيمة، فإنّ من رأى لنفسه شركاء في المصيبة هانت عليه، و سلا قلبه.

وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ اَلرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ اَلْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّا عامِلُونَ (121) وَ اِنْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ (122)وَ جاءَكَ من قبلنا و وحينا فِي هذِهِ السّورة؛ كما عن ابن عبّاس (1)، أو هذه الأنبياء المقتصّة عليك، و الوعد و الوعيد، أو في هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع، أو في هذه الدّنيا اَلْحَقُّ و التّبيان الصّدق الذي هو دليل نبوّتك، أو البرهان القاطع على التّوحيد و سائر المعارف، أو بيان أنّ الخلق يجازون بأنصبائهم المذكورة في قوله: وَ إِنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَ فيه مَوْعِظَةٌ و نصيحة وَ ذِكْرى و تنبيه لِلْمُؤْمِنِينَ بك و بكتابك، لأنّهم المتّعظون.

وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بك و لا يصدّقون كتابك، و لا ينتفعون بالإعذار و الإنذار، و الوعد و الوعيد، و الوعظ و التّهديد: اِعْمَلُوا و اجتهدوا في كفركم، و تكذيب كتاب ربّكم، أو في إهلاكي و الإضرار بي عَلى قدر مَكانَتِكُمْ و استطاعتكم، أو المراد: لا تقصّروا و لا تّتوانوا فيما تعزمون عليه من الإخلال في أمر رسالتي، على حالكم الذي أنتم عليه إِنّا أيضا عامِلُونَ و مبالغون في أداء الرّسالة، و مجدّون في إحياء الحقّ و إماتة الباطل، على قدر وسعنا، أو على ما نحن عليه من الحال. القمّي: أي نعاقبكم (2)وَ اِنْتَظِرُوا بنا الدائرة، أو خذلانكم، أو نزول العذاب عليكم كما نزل على الّذين من قبلكم إِنّا أيضا مُنْتَظِرُونَ نصرنا من قبل ربّنا، أو نزول العذاب عليكم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 123

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقصص الأنبياء و اممهم، و أمره بإظهار عدم المبالاة بمكائد الكفّار، أعلن بكمال علمه وسعة قدرته، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالقيام بوظائف عبوديّته و رسالته، و التوكّل

وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (123)

ص: 361


1- . تفسير روح البيان 4:204.
2- . تفسير القمي 1:339، تفسير الصافي 2:478.

عليه بقوله: وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و يختصّ به العلم بخفيّاتهما، لا يشركه فيه غيره، و لا تخفى عليه خافية وَ إِلَيْهِ تعالى وحده يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ المتعلّق بعوالم الوجود كُلُّهُ من الإيجاد و الإعدام، و الإماتة و الإحياء، و التّنمية و التربية، و إرسال الرّسل، و توفيق النّاس و هدايتهم إلى الحقّ و إضلالهم عنه، و نصر الرّسل و خذلان معارضيهم، أو المراد: أنّه إليه تعود عواقب الامور في القيامة، كما أنّه مصدر جميعها، فهو يثيبك على طاعتك و تبليغك، و يعاقب أعداءك على عدم الإيمان بك و معارضتك، فإذا كان ربّك كذلك فَاعْبُدْهُ حقّ عبادته، و أطعه حقّ طاعته، و استقم على تبليغ رسالته و مكابدة أعدائه وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ و فوّض امورك إليه، فإنّه ناصرك و كافيك و عاصمك وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ أنت و هؤلاء الكفّار، فإنّ الغفلة لا تجوز على العالم بغيب السّماوات و الأرض، فيجازيك و إيّاهم على حسب الأعمال و الاستحقاق.

روي أنّ هذه الآية خاتمة التّوراة (1).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة هود في كلّ جمعة، بعثه اللّه يوم القيامة في زمرة النبيّين، و لم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة» (2).

الحمد للّه على التّوفيق لإتمام تفسير سورة هود، و نسأله التّوفيق لتفسير ما يتلوها بمحمّد و آله الطّيبين.

ص: 362


1- . مجمع البيان 5:314، تفسير روح البيان 4:205.
2- . ثواب الاعمال:106، تفسير الصافي 2:478.

في تفسير سورة يوسف عليه السّلام

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم اللّه سبحانه سورة هود بذكر كمال علمه و سعة قدرته، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالعبادة و التوكّل عليه، أردفها بسورة يوسف لما فيها من الشّواهد على علمه و قدرته، و من عبادة يوسف و توكّله و نتائجها، فابتدأها على دأبه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ، ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعات من قوله: الر قيل: هي رمز من: أنا اللّه أرى صنيع إخوة يوسف، و ما جرى عليه، أو أرى ما لا يرى الخلق (1).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (1)و عن الصادق عليه السّلام: «يعني: أنا اللّه الرّؤوف» (2).

ثمّ وصف كتابه العظيم بقوله: تِلْكَ الآيات أو السّورة آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و القرآن الظّاهر أمره من كونه كلام اللّه، لدلالة ما فيه من وجه الإعجاز، أو المظهر للمعارف و الأسرار و الأحكام، أو المراد: تلك الآيات آيات مكتوبة في اللّوح المحفوظ.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح كتابه بالشرف الذاتي، وصفه بالشّرف الإضافي بقوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ إلى النبيّ الصّادق بتوسّط جبرئيل، حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغتكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مضامينه، و تفهمون معانيه، حتّى تتمّ عليكم الحجّة، و لا يبقى لكم العذر في ضلالتكم، بأن تقولوا أنّه ليس بلغتنا و ما خاطبنا اللّه به.

إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا اَلْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغافِلِينَ (3)ثمّ روي أنّ جمعا من أحبار اليهود قالوا لرؤساء المشركين: سلوا محمّدا لم انتقل [آل]يعقوب من

ص: 363


1- . تفسير روح البيان 4:207.
2- . معاني الأخبار:22/1.

الشّام إلى مصر، و عن قصّة يوسف؟ فنزلت (1).

و عن سعيد بن جبير: لمّا نزل القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يتلوه على قومه، فقالوا: يا رسول اللّه، لو قصصت علينا فنزل قوله (2): نَحْنُ نَقُصُّ و نتلو عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ و أنفع الأخبار، لكثرة ما فيه من العبر و الحكم و العجائب و الفوائد التي تصلح للدّين و الدّنيا، كسير الملوك و المماليك، و مكر النّساء، و الصّبر على أذى الأعداء، و التّجاوز عنهم بعد القدرة عليهم، و غير ذلك.

و قيل: إنّ المراد أنّ هذه القصّة بِما أَوْحَيْنا و بسبب إيحائنا إِلَيْكَ هذَا اَلْقُرْآنَ.

ثمّ علّل سبحانه كون علمه بها بسبب الوحي بقوله: وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغافِلِينَ و الذّاهلين عنها.

قيل: إنّما عبّر سبحانه عن عدم علمه بالغفلة، إجلالا لشأنه (3). و يمكن كون التّعبير على وجه الحقيقة، لأنّ جميع القصّة كان بمنظره و مرآه عليه السّلام في عالم الأشباح، و بعد انتقاله إلى هذا العالم ذهل عنها لاستغراقه في التوجّه إلى اللّه و عبادته، و إرشاد الخلق و هدايتهم.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 4

ثمّ شرع سبحانه في القصّة بقوله: إِذْ قالَ يُوسُفُ بعد انتباهه من النّوم لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ في المنام أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ.

إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)ثمّ كأنّه قيل له: كيف رأيتهم؟ فقال: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ و خاضعين.

و إنّما ذكر الشّمس و القمر، مع كونهما من الكواكب، لإظهار شرفهما. و إنّما أخّرهما في الذّكر للإشارة إلى تأخّر رؤيتهما عن رؤية الكواكب كما تأخّر ملاقاة أبويه عن ملاقاة أخويه. و إنّما أرجع ضمير العقلاء إلى الكواكب لإسناد السّجدة؛ التّي هي فعل العقلاء، إليها، أو للإشعار بكون الأجرام الفلكيّة حيّة عاقلة؛ كما عليه الفلاسفة.

عن وهب: أنّه قال: رأى يوسف؛ و هو ابن سبع سنين، أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدّائرة، و إذا عصا صغيرة و ثبت عليها و ابتلعتها، فذكر ذلك لأبيه، فقال: إيّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمّ رأى و هو ابن اثنتي عشرة سنة-و قيل: ابن عشر سنين ليلة الجمعة و القدر (4)-

ص: 364


1- . جوامع الجامع:213، تفسير الصافي 3:7، تفسير الرازي 18:83، تفسير روح البيان 4:207.
2- . تفسير الرازي 18:84.
3- . تفسير روح البيان 4:210.
4- . تفسير روح البيان 4:212.

الشّمس و القمر و الكواكب تسجد له فقصّها على أبيه (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «رأى الرّؤيا و هو ابن تسع سنين» (2).

عن جابر [بن عبد اللّه]قال: أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجل من اليهود يقال له بشان، فقال: يا محمّد، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له، ما أسماؤهنّ؟ فلم يجبه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يومئذ في شيء. فنزل جبرئيل فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأسمائها، فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى بشان، فلمّا أن جاءه قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «هل أنت مسلم إن أخبرتك بأسمائها؟» قال: نعم، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «جوبان-و في نسخة: جربان-، و الطّارق، و الذيال، و ذو الكتفين، و قايس (3)، و وثّاب، و عمودان، و الفيلق-و في رواية: و الفليق-، و المصبح، و الصّدوح-و في رواية: و الضروح-، و ذو الفروغ-و في رواية: و الفزع-، و الضّياء، و النور، رآها في افق السّماء ساجدة له» .

و في رواية: «أنّه رآهن نزلن من السّماء و سجدن له» . فقال بشأن: و اللّه إنّ هذه لأسماؤها، ثمّ أسلم (4).

أقول: المراد بالضّياء و النّور الشّمس و القمر.

و قيل: إنّه عليه السّلام رأى أنّه على جبل شامخ، حوله أنهار جارية و أشجار خضرة، فرأى الكواكب سجدن له (5).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 5

فلمّا ذكرها لأبيه، و كان شديد الحبّ له و لأخيه بنيامين، و عالما بشدّة حسد إخوته عليه قالَ إشفاقا عليه: يا بُنَيَّ إنّ هذا أمر متشتّت يجمعه اللّه من بعد-على رواية جابر (5)-و لكن لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ و لا تخبرهم بها، فإنّهم يعرفون تعبيرها فَيَكِيدُوا لَكَ و يحتالوا في إهلاكك كَيْداً عظيما و يدبّروا تدبيرا خفيّا عنك، لا تقدر على دفعه.

قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ اَلشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (6)ثمّ أكّد نهيه بقوله: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ كائنا من كان عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، فلا تستبعد صدور قتلك من إخوتك الّذين هم أولاد الأنبياء و مربوبون في حجر النبيّ، مع أنّك الأخ النّسبي و الدّيني لهم.

نقل أنّه لمّا بلغ إسحاق إلى مائة و ثمانين [سنة]من العمر، وصّى إلى يعقوب بأن يخرج إلى خاله

ص: 365


1- . تفسير الرازي 18:87.
2- . تفسير القمي 1:340، تفسير الصافي 3:6.
3- . في الخصال و تفسير الصافي: قابس.
4- . الخصال:454/2، تفسير روح البيان 4:212، تفسير الصافي 3:5.
5- . الرواية المتقدمة الواردة عن الخصال.
6- . تفسير روح البيان 4:212.

في جانب الشّام حذرا من أن يقتله أخوه عيص حسدا، لأنّه أقسم باللّه (1)أن يقتل يعقوب، فانطلق يعقوب إلى خاله ليا بن فاهر و أقام عنده، و كانت لخاله بنتان إحداهما لايا و هي كبراهما، و الاخرى راحيل و هي صغراهما، فخطب يعقوب إلى خاله أن يزوّجه إحداهما، فقال له خاله: هل لك مال؟ قال: لا، و لكن أعمل لك، فقال: نعم، صداقها أن تخدمني سبع سنين، فقال يعقوب: أخدمك سبع سنين على أن تزوّجني راحيل، قال: ذلك بيني و بينك. فرعى له يعقوب سبع سنين، فزوّجه الكبرى و هي لايا، قال يعقوب: [إنك]خدعتني، إنّما أردت راحيل، فقال له خاله: [إنا]لا ننكح الصّغيرة قبل الكبيرة، فهلمّ فاعمل سبع سنين اخرى فازوّجك اختها-و كان النّاس يجمعون بين الاختين، إلى أن بعث اللّه موسى-، فرعى [له]سبع سنين اخرى، فزوّجه راحيل فجمع بينهما، و كان خاله حين جهّزها دفع إلى كلّ واحدة منهما أمة تخدمها، اسم إحداهما زلفة و الاخرى بلهة، فوهبتا الأمتين ليعقوب، فولدت لايا ستّة بنين و بنتا واحدة اسمها دينة، و اسم البنين: روبيل، و شمعون، و يهودا، و لاوي، و يسجر، و زيالون. و ولدت زلفة ابنين: دان، و يغثالي. و ولدت بلهة حاد و اشير. و بقيت راحيل عاقرا سنين، ثم حملت و ولدت يوسف.

و ليعقوب إحدى و تسعون سنة، و أراد يعقوب أن يهاجر إلى موطن أبيه إسحاق بكل الحواشي، و كان ليوسف خال له أصنام من ذهب، فقالت لايا ليوسف: اذهب و استرق منه صنما، لعلّنا نستنفق منه، فذهب يوسف فأخذ صنما. و قيل: إنّ خاله جهّزه، و في سنة هجرته حملت راحيل ببنيامين، و ماتت في نفاسها و يوسف ابن سنتين (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 6

ثمّ عبّر يعقوب رؤياه بقوله: وَ كَذلِكَ الاجتباء، و مثل هذا الاصطفاء الذي لك من بين إخوتك، لمثل هذه الرّؤيا العظيمة يَجْتَبِيكَ و يصطفيك رَبُّكَ للنبوّة التي هي أعظم منها، أو لعلوّ الدّرجة وَ يُعَلِّمُكَ شيئا مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ و تعبير الرّؤى-و إنّما عبّر عن الرّؤى بالأحاديث، لكونها أحاديث الملك إن كانت صادقة، و أحاديث النّفس و الشّيطان إن كانت كاذبة-أو العلم بحقائق الأشياء، أو تفسير كتب اللّه المنزلة، و بيان المراد من عبارات الأنبياء وَ يُتِمُّ اللّه باصطفائك للسّلطنة

وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

ص: 366


1- . زاد في تفسير روح البيان: في قصة الشواء.
2- . تفسير روح البيان 4:211.

نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ و يضمّ في حقّك إلى النبوّة التي هي أعظم نعمه الواقعيّة الرّوحانيّة، الملك الذي هو أعظم نعمه الظّاهريّة الجسمانيّة، أو المراد به: يكمل عليك الحظوظ الدّنيويّة و الاخرويّة وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ و نسله و أشراف قومه، بأن يصل نعمهم الدّنيويّة بالنّعم الاخرويّة، و يجمع لهم السّعادة في الدّارين، من كثرة الأولاد و الخدم، و التّوسعة في المال و الجاه، و الوقع في القلوب، و معرفة اللّه، و وفور العلم، و حسن الأخلاق و العاقبة، دون النبوّة في أولاده الصّلبيين، لكونهم بالظّلم على يوسف عصاة، و لا يكون النبيّ إلاّ معصوما من المعاصي و الخطأ و الزلل من أوّل عمره، و لا دلالة لرؤيتهم في المنام بصورة الكواكب التي يهتدى بها في ظلمات البرّ و البحر، على نيلهم منصب النبوّة، لكفاية صيرورتهم ذوي الفضل و العلم، بحيث يستضاء بهم في ظلمات الجهل و الضّلال كسائر العلماء الرّاشدين، في تعبير الكواكب، و لا شبهة في صدق إتمام النّعم عليهم بذلك، و صحّة التّشبيه بقوله: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ أعني إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ حيث جمع اللّه لهما حظّ الدّنيا؛ من السّعة في المال و الجاه، و العظمة في القلوب، و حظّ الآخرة؛ من النبوّة و الرّسالة.

و قيل: يعني: يتمّ نعمته عليك بخلاصك من السّجن و المحن، كما أتمّها على أبويك إبراهيم بنجاته من النّار، و إسحاق بتخليصه من الذّبح (1).

و فيه: أنّه قد ثبت أنّ الخلاص من الذّبح كان لإسماعيل، لا لإسحاق.

و قيل: إتمام النّعمة على إبراهيم عليه السّلام بإنجائه من النّار و ذبح الولد، و اتّخاذه خليلا، و على إسحاق بإخراج يعقوب و الأسباط من صلبه، و اتّخاذه رسولا (2).

و إنّما عبّر عن إبراهيم و إسحاق بالأبوين مع كونهما جدّيه، لكون الجدّ أبا حقيقة، و لبيان كمال ارتباطه بالأنبياء العظام.

ثمّ بيّن استحقاقه للاجتباء بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يفعل ذلك لأنّه عَلِيمٌ بحقائق الأمور، فلا يخفى عليه استحقاقك للاجتباء و إتمام النّعمة، و حَكِيمٌ و معطي كلّ شيء ما يستحقّه، و فاعل لما هو صلاح و صواب.

عن الباقر عليه السّلام: «تأويل رؤيا يوسف أنّه سيملك مصر، و يدخل عليه أبواه و إخواته، أمّا الشّمس فإنّها امّه راحيل-و في رواية: خالته-، و القمر يعقوب، و أمّا الأحد عشر كوكبا فإخوته. فلمّا دخلوا عليه سجدوا للّه شكرا للّه وحده حين نظروا إليه» . الخبر (3).

ص: 367


1- . تفسير الرازي 18:90.
2- . تفسير روح البيان 4:216.
3- . تفسير القمي 1:339، تفسير الصافي 3:5.

قيل: كان بين رؤيا يوسف و وقوع تعبيره عشرون أو أربعون، أو ثمانون سنة (1).

قال بعض الحكماء: إنّ الرّؤيا الرّديئة يقع تعبيرها عن قريب؛ لأنّ رحمة اللّه بعباده أن لا يعلمهم بسوء أو شرّ إلا قريبا من وقوعه لئلاّ تطول مدّة حزنهم، بخلاف الرّؤيا الحسنة المبشّرة، فإنّها تطول مدّة وقوع تعبيرها، ليكون السّرور الحاصل بها أكثر و أتمّ (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 7

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقصّة يوسف دليل على صدق دعواه في التّوحيد [و] النبوّة بقوله: لَقَدْ كانَ فِي قصّة يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ الأحد عشر آياتٌ باهرة، و دلالات ظاهرة على توحيد اللّه و قدرته و حكمته، و حجج تامّة على صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه؛ لأنّه اميّ، و على حفظه من شرّ الأعداء و إن حسده الحاسدون، و على نصره عليهم و تعلية قدره و إن طال الزّمان لِلسّائِلِينَ عنها و المستمعين لها.

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسّائِلِينَ (7)و عن ابن عبّاس قال: دخل حبر من اليهود على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسمع منه قراءة يوسف، فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنّه سمعها منه كما في التّوراة، فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع، فقالوا: من علّمك هذه [القصة]؟ فقال: «اللّه علّمني» ، فنزل: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ. . . الآية (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 8

ثمّ شرح سبحانه قصّتهم بقوله: إِذْ الإخوة قالُوا فيما بينهم: و اللّه لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ بنيامين أَحَبُّ إِلى أَبِينا يعقوب مِنّا و الحال أنّهما صبيّان ضعيفان وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ و رجال أقوياء و كفاة، قوّامون باموره و مصالحه، قيل: إنّ العصبة عشرة رجال فصاعدا (4)، و قالوا: إنّه لحبّه لهما يفضّلهما علينا، و اللّه إِنَّ أَبانا بعمله ذلك لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و خطأ ظاهر. و إنّما قالوا ذلك مع اعترافهم بنبوّة أبيهم، لقصور معرفتهم بشأن النبيّ من كونه معصوما عن الخطأ حتّى في العاديّات.

إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)قيل: إنّ شدّة حبّ يعقوب لهما إنّما كان لموت امّهما في صغرهما، و ظهور آثار الرّشد و النّجابة فيهما أزيد ممّا كان يجده في سائر أولاده (5)، و لعلمه بأنّ يوسف وارث نبوّته.

ص: 368


1- . مجمع البيان 5:320، تفسير الرازي 18:87، تفسير أبي السعود 4:252.
2- . تفسير الرازي 18:87.
3- . تفسير الرازي 18:92.
4- . تفسير الرازي 18:92، تفسير روح البيان 4:218.
5- . تفسير الرازي 18:93.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 9

ثمّ اشتدّ حسدهم على يوسف حتّى قال بعضهم-قيل: إنه دان (1)، و قيل: إنّه شمعون (2)، و قيل: إنّه يهودا (3)، و قيل: إنّهم شاوروا أجنبيّا (4)، و قيل: إنّ القائل الشّيطان، فإنّه جاءهم بصورة الشيخ، فقال لهم: - إنّ يوسف يريد أن يتّخذكم عبيدا لنفسه، فقالوا: فما التّدبير (5)؟ فقال: اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ و ألقوه أَرْضاً بعيدة من العمران حتّى يهلك فيها من الجوع و العطش، أو تأكله السّباع، إذن يَخْلُ و يخلص لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ و يكن محبّا لكم، مقبلا عليكم، مشتغلا بشأنكم، غير متوجّه إلى غيركم وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ و وراء الفراغ من أمره قَوْماً و جماعة صالِحِينَ، حسني (6)الحال عند أبيكم، أو في الدّنيا، أو تائبين من ذنبكم.

اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)عن السجاد عليه السّلام: «أي تتوبون» (7).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 10

ثمّ كأنّه قيل: هل اتّفقوا على هذا الرّأي؟ فقيل: لا، بل قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ -قيل: هو يهودا، و كان أقدمهم في السّنّ و الرّأي و الفضل (8). و قيل: هو روبيل، و كان ابن خالته، و أحسنهم في الرّأي (9). و عن القمّي: أنّه لاوي (8)-: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإنّ القتل بغير الجرم من أقبح القبائح، و لا تطرحوه أرضا بعيدة، فإنّه مثل القتل، بل هو عينه لعدم احتمال السّلامة له وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ اَلْجُبِّ و قعر البئر الذي يستسقى منه يَلْتَقِطْهُ و يأخذه إذن بَعْضُ القوافل اَلسَّيّارَةِ و المارّة، و يذهب به معه إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ بمشورتي، و عاملين برأيي، فافعلوا ذلك، فإنّ فيه غرضكم و هو التّفريق بينه و بين أبيه، و مظنّة حفظه من التّلف. و إنّما لم يحتّم رأيه عليهم لتألّف قلوبهم و توجيههم إلى رأيه.

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ اَلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ اَلسَّيّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)و قيل: يعني: إن كنتم فاعلين ما يفرّق بينه و بين أبيه (9).

ص: 369


1- . تفسير أبي السعود 4:256.
2- . تفسير أبي السعود 4:256، تفسير الرازي 18:95.
3- . تفسير روح البيان 4:219.
4- . تفسير الرازي 18:95.
5- . تفسير روح البيان 4:219.
6- . في النسخة: حسن.
7- . علل الشرائع:47/1، تفسير الصافي 3:7. (8 و 9) . تفسير الرازي 18:95.
8- . تفسير القمي 1:340، تفسير الصافي 3:7.
9- . تفسير الصافي 3:7.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 11 الی 12

ثمّ أنّه لمّا اتّفقوا على رأي القائل جاءوا أباهم و قالُوا مكرا و استعطافا و استنزالا له عن تصميمه على تحفّظه عنهم: يا أَبانا ما العذر لَكَ و أيّ داع يدعوك إلى أن لا تَأْمَنّا عَلى أخينا يُوسُفَ و نحن بنوك؟ و لم تخاف منّا عليه؟ وَ الحال إِنّا لَهُ و اللّه لَناصِحُونَ و عليه لمشفقون، لا نطلب إلاّ خيره.

قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)قيل: لمّا كان عادتهم أن يذهبوا إلى الرّعي (1)، قالوا: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصّحراء يَرْتَعْ من الفواكه، و يأكل منها كثيرا وَ يَلْعَبْ بالاستباق و التّناضل، و غيرهما ممّا يناسب الصّبيان وَ إِنّا لَهُ و اللّه لَحافِظُونَ من المكاره و المضارّ و الآفات، فأكّدوا وعد حفظه بأنواع التّأكيدات.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 13 الی 15

ثمّ كأنّه قيل: هل قبل يعقوب قولهم و أجاب مسألتهم؟ فقيل: لا، بل قالَ يا بني إِنِّي و اللّه لَيَحْزُنُنِي فراق يوسف، و يؤلم قلبي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ لقلّة صبري عنه وَ مع ذلك أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لاشتغالكم بالرّعي و الرّتع و اللّعب، و تهاونكم في حفظه.

قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ اَلْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)قيل: إنّه عليه السّلام قال ذلك لأنّ الأرض كانت مذأبة (2). و روي أنّه عليه السّلام رأى في المنام كأنّه على رأس جبل، و يوسف في الصّحراء، فهجم عليه أحد عشر ذئبا، فغاب يوسف بينهن (3). و قد لقّنهم عليه السّلام بتلك الحجّة.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا تلقّنوا الكذب فيكذبوا، فإنّ بني يعقوب لم يعلموا أنّ الذّئب يأكل الإنسان حتى لقّنهم أبوهم» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «قرّب يعقوب لهم العلّة فاعتلّوا بها في يوسف» (5).

ص: 370


1- . تفسير الرازي 18:96.
2- . تفسير روح البيان 4:221، و الأرض المذأبة: الكثيرة الذئاب.
3- . تفسير روح البيان 4:221.
4- . مجمع البيان 5:331، تفسير الصافي 3:8.
5- . علل الشرائع:600/56، تفسير الصافي 3:8.

قيل: إنّ البلاء موكّل بالمنطق (1).

ثمّ لمّا سمع الإخوة ذلك الكلام من أبيهم، و كانوا يعلمون أنّ الخوف أقوى السّببين لامتناعه من الإجازة، اقتصروا على دفعه و قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ اَلذِّئْبُ بيننا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ و رجال أقوياء حافظون له إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ و هالكون ضعفا و عجزا، أو مستحقّون للهلاك لعدم الخير في حياتنا، أو لأن يدعى علينا بالخسار و الدّمار، أو مغبونون بترك حرمة الوالد و الأخ.

قيل: لمّا رأى يعقوب إلحاح بنيه في إخراج يوسف معهم إلى الصّحراء، و مبالغتهم بالعهد و اليمين، و رأى ميل يوسف إلى التفرّج و التّفريح (2)، رضي بالقضاء و أذن لهم في إخراجه معهم، فأمر أن يغسل بدن يوسف في طست كان أتى به جبرئيل إلى إبراهيم حين مجيء الفداء، فأجرى فيه دم الكبش، و أمر أن يرجّل شعره (3)و يدهن بدهن إسماعيل الذي جاء به جبرئيل من الجنّة، و أن يكحل ففعلوا (4).

و روي أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا القي في النّار و جرّد عن ثيابه، أتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، و إسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة (5)و علّقها في عنق يوسف. ثمّ شايعه إلى شجرة كانت على باب كنعان تسمّى بشجرة الوداع، فضمّه إليه و ودّعه و بكى بكاء شديدا، فقال يوسف: لم تبكي يا أبة؟ فقال: حزنا على فراقك، و ما أدري إلى ما تصير عاقبة أمرك. ثمّ قال: يا بني اوصيك بأربع، فاجعلها نصب عينيك: يا بني، لا تنس اللّه على كلّ حال، فإنّه لا قرين خير من ذكر اللّه و شكره. و إذا وقعت في بليّة فاستعن باللّه. و أكثر من قول: حسبي اللّه و نعم الوكيل، فإنّه لمّا القي جدّك خليل اللّه في النّار قاله، فدفع اللّه عنه ضرّ أصحاب نمرود و شرّهم، و ما أصابه حرّ النّار، يا بني لا تنسني فإنّي لا أنساك. ثمّ بالغ في الوصيّة بحفظه إلى بنيه (6).

و عن السّجاد عليه السّلام: «لمّا خرجوا [به]من منزلهم لحقهم أبوهم مسرعا فانتزعه من أيديهم، فضمّه إليه و اعتنقه و بكى، ثمّ دفعه إليهم» (7).

فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ و هم يحملونه على عواتقهم، و يعقوب عليه السّلام ينظر إليهم و يبكي، فأسرعوا في المشي مخافة أن يأخذه منهم و لا يدفعه إليهم، فلمّا بعدوا عن العيون تركوا وصايا إبيهم، فألقوه على الأرض و قالوا: يا صاحب الرّؤيا الكاذبة، أين الكواكب التي رأيتهم لك ساجدين حتّى يخلّصوك من أيدينا اليوم؟ قيل: لمّا حكى يوسف رؤياه سمعها بعض أزواج إخوته، فحكتها لهم، فاطّلعوا على

ص: 371


1- . تفسير الرازي 18:97، تفسير روح البيان 4:222.
2- . في تفسير روح البيان: و التنزه.
3- . رجل شعره: سوّاه و زيّنه و سرّحه.
4- . تفسير روح البيان 4:222.
5- . التّميمة: ما يعلّق في العنق لدفع العين.
6- . تفسير روح البيان 4:222.
7- . تفسير العياشي 2:335/2077، علل الشرائع:47/1، تفسير الصافي 3:8.

رؤياه (1)فجعلوا يؤذونه و يضربونه، و كلّما لجأ إلى واحد منهم ضربه، و لا يزدادون عليه إلاّ غلظة و حنقا، و هو يبكي و ينادي: يا أبتاه، ما أسرع ما نسوا عهدك، و ضيّعوا وصيّتك، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء (2)!

و قيل: إنّهم جرّوه على الأرض جائعا عطشانا، حتّى أشرف على الهلاك (3).

و روي: أنّهم أتوا به غيظة (4)أشجار فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت [هذه]الشّجرة فيأكله الذّئب اللّيلة (5).

و قيل: إنّه أخذه روبيل فجلد به الأرض (6)، و وثب على صدره، و أراد قتله، و لوى عنقه ليكسره، فنادى يوسف: يا يهودا-و كان أرفقهم به-اتّق اللّه و حل بيني و بين من يريد قتلي، فأخذته الرّأفة و الرّحمة، فقال يهودا: أ لستم قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه؟ قالوا: بلى (7)، قال: ألقوه في غيابة الجبّ، فسكن غضبهم.

وَ أَجْمَعُوا و عزموا و اتّفقوا على أَنْ يَجْعَلُوهُ و يلقوه فِي غَيابَتِ اَلْجُبِّ و قعره، فأتوا به على رأس البئر الذي حفره شدّاد حين عمّر بلاد الاردنّ، و كان على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب بكنعان، و كان عمقها سبعين ذراعا، و كان رأسها ضيّقا و أسفلها واسعا-على ما قيل (8)، و قيل: هو بئر ببيت المقدس (7)-فنزعوا قميصه ليلطّخوه بالدّم الكذب، فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في حياتي، و يكون كفني بعد مماتي، فلم يفعلوا فتعلّق بثيابهم فنزعوها من يديه، فدلّوه فيها بحبل مربوط على وسطه فتعلّق بشفيرها، فربطوا يديه، فلمّا بلغ نصفها قطعوا الحبل و ألقوه فيها ليموت، و كان في البئر ماء فسقط فيه، ثمّ آوى إلى صخرة بجانب البئر، فقام عليها و هو يبكي، فنادوه فظنّ أنّها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأراد أن يرضخوه، فمنعهم يهودا (8).

و في رواية عن السجّاد عليه السّلام: «و ألقوه في البئر و هم يظنّون أنّه يغرق في الماء، فلمّا صار في قعر الجبّ ناداهم: يا ولد رومين اقرأوا يعقوب منّي السّلام، فلمّا سمعوا كلامه قال بعضهم لبعض: لا تزالوا من هاهنا حتّى تعلموا أنّه قد مات، فلم يزالوا بحضرته حتّى أمسوا و رجعوا» (9).

و عن القمّي رحمه اللّه: فأدنوه من رأس الجبّ و قالوا له: انزع قميصك، فبكى و قال: يا إخوتي [لا]

ص: 372


1- . تفسير روح البيان 4:217.
2- . تفسير روح البيان 4:223.
3- . تفسير روح البيان 4:223.
4- . الغيظة: الموضع الكثير الشجر.
5- . تفسير العياشي 2:335/2077، علل الشرائع:47/1.
6- . جلد به الأرض: ضربها به. (7 و 8) . تفسير روح البيان 4:223.
7- . تفسير الرازي 18:96.
8- . تفسير روح البيان 4:223.
9- . تفسير العياشي 2:335/2077، علل الشرائع:47/1، تفسير الصافي 3:8.

تجرّدوني، فسلّ واحد منهم عليه السكّين و قال: لئن لم تنزعه لأقتلنّك، فنزعه فدلّوه في البئر و تنحّوا عنه، فقال يوسف في الجبّ: يا إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، ارحم ضعفي و قلّة حيلتي و صغري (1).

و روي أنّه قال: يا شاهدا غير غائب، و يا قريبا غير بعيد، و يا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجا و مخرجا (2).

و في رواية اخرى: اجعل لي فرجا ممّا أنا فيه (3).

و روي أنّه ذكر اللّه بأسمائه الحسنى، فسمعه الملائكة فقالوا: يا ربّ نسمع صوتا حسنا في الأرض (4)، فأمهلنا ساعة، فقال اللّه: أ لستم قلتم: أ تجعل فيها من يفسد فيها؟ فحفّته الملائكة فأنس بهم (5).

و قيل: إنّ اللّه أوحى إلى جبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصل إلى قعر البئر، فأدركه جبرئيل و أخذه بيده، و أجلسه على صخرة كانت في قعر البئر، و ألبسه قميص الخليل الذي عوذه به يعقوب، و أطعمه من طعام الجنّة و شرابها (6).

و روي أن هوامّ الأرض (7)قال بعضها لبعض: لا تخرجنّ من مساكنكنّ، فإنّ نبيّا من الأنبياء نزل بساحتكنّ، فأنجحرن إلاّ الأفعى، فإنّها قصدت يوسف، فصاح بها جبرئيل، فصمّت و بقي الصّمم في نسلها (8).

ثمّ حكى سبحانه ألطافه بيوسف، و كأنّه قال: فحفظناه وَ أَوْحَيْنا بتوسّط جبرئيل إِلَيْهِ إيناسا له، و إزالة لوحشته، و تبشيرا له أن لا تخف و لا تحزن، إنّا نخلّصك من الجبّ، و نرفع مكانك، و نمكّنك في الأرض، و نحوج إليك إخوتك حتّى يجيئوك خاضعين متذلّلين، فعند ذلك و اللّه لَتُنَبِّئَنَّهُمْ و تخبرنّهم بِأَمْرِهِمْ و عملهم هذا الذي صدر منهم وَ الحال أنّ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنّك يوسف لتباين حالك هذا و حالك حين ملاقاتهم، حيث إنّك يومئذ عالي الشّأن، عظيم السّلطان، متغيّر الهيئة و الصّورة، لطول عهدهم بك.

و فيه إشارة إلى دخولهم عليه بمصر ممتارين (9)، فعرفهم و هم له منكرون.

ص: 373


1- . تفسير القمي 1:340، تفسير الصافي 3:9.
2- . تفسير الرازي 18:99، تفسير روح البيان 4:224.
3- . تفسير روح البيان 4:224.
4- . في تفسير روح البيان: الجب.
5- . تفسير روح البيان 4:224.
6- . تفسير روح البيان 4:224، و في النسخة: شرابه، بدل: شرابها.
7- . في تفسير روح البيان: البئر.
8- . تفسير روح البيان 4:224.
9- . ممتارين: طالبين و جامعين للميرة، و هي الطعام.

روي أنّهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة عرفهم و هم له منكرون، ثم دعا بصواع (1)فوضعه على يده ثمّ نقره فطنّ، فقال: إنّه ليخبرني هذا الصّواع بأنّه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، فطرحتموه في البئر و قلتم لأبيكم أكله الذّئب (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «يقول: لا يشعرون أنّك أنت يوسف، أتاه جبرئيل فأخبره بذلك» (3).

و قيل: يعني: أنّهم لا يشعرون بنزول الوحي إليه، و إزالة الوحشة عنه (4).

عن السجّاد عليه السّلام، أنّه سئل: ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجبّ؟ قال: «كان ابن تسع سنين» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه كان ابن سبع سنين» (6).

أقول: يمكن أن تكون السّبع تحريف التّسع.

و قيل: إنّه كان ابن اثنتي عشرة سنة (7). و قيل: سبع عشرة سنة (8). و قيل ثماني عشرة سنة (9).

ثمّ قيل: إنّهم ذبحوا جديا على قميصه (10).

و عن القمّي رحمه اللّه: فقالوا: نعمد إلى قميصه فنلطّخه بالدّم، و نقول لأبينا: إنّ الذّئب أكله، فقال لهم أخوهم لاوي: يا قوم، ألسنا بني يعقوب إسرائيل اللّه، ابن إسحاق نبي اللّه، ابن إبراهيم خليل اللّه، أفتظنّون أنّ اللّه يكتم هذه الخبر عن أنبيائه؟ فقالوا: ما الحيلة؟ قال: نقوم و نغتسل، و نصلّي جماعة، و نتضرّع إلى اللّه تعالى أن يكتم ذلك عن أبينا، فإنّه جواد كريم، فقاموا و اغتسلوا، و كان في سنّة إبراهيم و إسحاق و يعقوب أنّهم لا يصلّون جماعة حتّى يبلغوا أحد عشر رجلا، فيكون واحد منهم إماما و عشرة يصلّون خلفه. فقالوا: كيف نصنع، و ليس لنا إمام؟ فقال لاوي: نجعل اللّه إمامنا، فصلّوا و تضرّعوا و بكوا و قالوا: يا ربّ اكتم علينا هذا (11).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 16 الی 18

ص: 374


1- . الصّواع: الصاع، و هو المكيال، أو إناء يشرب به.
2- . تفسير الرازي 18:100.
3- . تفسير القمي 1:340، تفسير الصافي 3:9.
4- . جوامع الجامع:214.
5- . علل الشرائع:48/1.
6- . تفسير العياشي 2:336/2080، تفسير الصافي 4:9.
7- . تفسير روح البيان 4:223.
8- . تفسير روح البيان 4:224، تفسير الرازي 18:99.
9- . تفسير روح البيان 4:224.
10- . تفسير القمي 1:341، تفسير الرازي 18:102.
11- . تفسير القمي 1:341، تفسير الصافي 4:9.

فرجعوا إلى كنعان وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً و دخلوا عليه آخر النّهار و هم يَبْكُونَ فلمّا رأى يعقوب بكاءهم فزع و قال: هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما فعل يوسف؟ قالُوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا من عند يوسف كي نَسْتَبِقُ بالتّناضل و العدو وَ تَرَكْنا و خلّينا يُوسُفَ وحده عِنْدَ مَتاعِنا و زادنا و ثيابنا و أثاثنا فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ بلا ريث و طول زمان يحتاج إلى التعهّد وَ ما أَنْتَ يا أبه بِمُؤْمِنٍ و مصدّق لَنا في ما نذكره، لفرط حبّك ليوسف، و سوء ظنّك بنا وَ لَوْ كُنّا من قبل عندك في سائر أخبارنا صادِقِينَ غير متّهمين بالكذب أو المراد: و إن كنّا في هذا الذي نقول صادقين في الواقع وَ جاؤُ للشّهادة على صدقهم بقميص يوسف، حال كونهم صابّين عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ مكذوب كأنّه عين كَذِبٍ بحيث لا يشكّ فيه كلّ من يراه.

روي أنّه لمّا سمع يعقوب بخبر يوسف صاح بأعلى صوته، ثمّ قال: أين قميصه؟ فأخذه و ألقاه على وجهه، و بكى حتّى خضب وجهه بدم القميص. ثمّ قال: تاللّه، ما رأيت إلى اليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني و لم يمزّق عليه قميصه (1).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية قال: «اللّهمّ لقد كان ذئبا رفيقا حيث لم يشقّ القميص» (2).

و القمّي رحمه اللّه: قال [يعقوب]: ما كان أشدّ غضب ذلك الذّئب على يوسف، و أشفقه على قميصه، حيث أكل يوسف و لم يمزّق قميصه (3).

ثمّ قالَ: ليس الأمر كما تقولون بَلْ سَوَّلَتْ و سهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أو هوّنت في نظركم أَمْراً عظيما، أمّا ما عليكم فتدارك الذّنب، و أمّا ما عليّ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أو المراد: فصبر جميل وظيفتي و تكليفي، و هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق-على رواية (4)، أو: ما لا جزع فيه؛ على قول آخر (5)- وَ اَللّهُ اَلْمُسْتَعانُ و المطلوب منه الإعانة عَلى تحمّل ما تَصِفُونَ و تخبرون به من أمر يوسف، و الصّبر على فراقه.

عن السجّاد عليه السّلام: «أنّه لمّا سمع مقالتهم، استرجع و استعبر، و ذكر ما أوحى اللّه إليه من الاستعداد للبلاء» (6).

قيل: إنّ اللّه ابتلى يعقوب بفراق يوسف، لأنّه ذبح جديا بين يدي امّه (7).

و قيل: إنّه استطعمه فقير يوما فما اهتمّ بإطعامه، فانصرف الفقير حزينا (8).

ص: 375


1- . تفسير روح البيان 4:226.
2- . تفسير العياشي 2:337/2082، تفسير الصافي 3:10.
3- . تفسير القمي 1:342، تفسير الصافي 3:10.
4- . تفسير الرازي 18:103، تفسير روح البيان 4:227، تفسير الصافي 3:10.
5- . تفسير الرازي 18:103.
6- . علل الشرائع:47/1، تفسير الصافي 3:10. (7 و 8) . تفسير روح البيان 4:225.

و قيل: لمّا ولد يوسف اشترى له ظئرا (1)، و كان لها ابن رضيع، فباع ابنها تكثيرا للّبن على يوسف، فبكت و تضرّعت، و قالت: يا ربّ، إنّ يعقوب فرّق بيني و بين ولدي، ففرّق بينه و بين ولده يوسف، فاستجاب اللّه دعاءها، فلم يصل يعقوب إلى يوسف إلاّ بعد أن لقيت تلك الجارية ابنها (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ما جرى بين يعقوب و إخوة يوسف، ذكر كيفيّة تخليص يوسف من البئر، و ما جرى عليه بعد خلاصه بقوله: وَ جاءَتْ من طرف مدين قافلة سَيّارَةٌ و مارّة من الأرض التي فيها البئر، قاصدين مصر، بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في البئر، فنزلوا قريبا منها، و كانت البئر معروفة ترد عليها القوافل كثيرا، و إنّما ألقوه فيها ليلتقطه السيّارة، و ليكون أقرب إلى السّلامة؛ كما قيل.

وَ جاءَتْ سَيّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ (20)عن ابن عبّاس: جاءت سيّارة-أي قوم يسيرون-من مدين إلى مصر، فأخطأوا الطّريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فها جبّ يوسف، و كان الجبّ في قفرة بعيدة من العمران، لم يكن إلاّ للرّعاة (3).

و في رواية: لمّا دعا يوسف بالدّعاء الذي نقلناه سابقا، ما بات في الجبّ، و خرج منه بعد رجوع إخوته (4).

قيل: كان ماؤه ملحا فعذب حين القي فيه (5).

و على أي تقدير احتاجت (6)القافلة إلى الماء فَأَرْسَلُوا رجلا كان وارِدَهُمْ و سقّاءهم الذي يرد الماء-يقال له مالك بن ذعر الخزاعي-ليطلب لهم الماء، فجاء على رأس الجبّ فَأَدْلى و أرسل دَلْوَهُ في الجبّ ليملأها من الماء، و كان يوسف في ناحية من قعره، فتعلّق بالحبل-و قيل: اوحي إليه بأن يتعلّق به (7)فتعلق به-و خرج منه، فلمّا نظر مالك، فإذا بغلام وجهه كفلقة القمر، فنادى من فرط الشّغف: يا للبشارة، لنفسه و أصحابه، و قالَ يا بُشْرى احضري، فهذا أوانك-و قيل: معناه: ابشروا يا أصحابي- هذا غُلامٌ لا نظير له، قد أنعم اللّه به علينا بدل الماء، نبيعه بثمن عال (8)، أو صرنا

ص: 376


1- . الظّئر: المرضعة لغير ولدها.
2- . تفسير روح البيان 4:225.
3- . تفسير الرازي 18:105.
4- . تفسير روح البيان 4:224.
5- . تفسير الرازي 18:105، تفسير أبي السعود 4:261.
6- . في النسخة: احتاج.
7- . تفسير روح البيان 4:228.
8- . تفسير الرازي 7:106.

سببا لحياته.

و قيل: إنّ البشرى كان علما لصاحبه، ناداه، ليعينه على نزع الدّلو من البئر (1).

و عن الأعمش: أنّه دعا امرأة اسمها بشرى (2).

قيل: لمّا خرج يوسف من البئر بكت أطراف البئر على مفارقته (3).

ثمّ أنّ مالكا و أصحابه لمّا خافوا من أهل القافلة أن يشاركوهم في يوسف أخفوه وَ أَسَرُّوهُ منهم، بأن جعلوه بِضاعَةً و متاع تجارة، و قالوا: إنّ أهل الماء أو دعوه عندنا لنبيعه بمصر؛ كذا قيل (4).

و عن ابن عبّاس: أنّ إخوة يوسف لمّا طرحوه في الجبّ و رجعوا إلى كنعان، عادوا بعد ثلاثة أيّام ليتعرّفوا خبره، فوجدوه عند السيّارة (5).

و قيل: إنّ يهودا كان يأتيه كلّ يوم بالطّعام، فأتاه يومئذ فلم يجده فيها، فأخبر إخوته فأتوا و رأوا آثار السيّارة، فطلبوهم فلمّا رأوا يوسف قالوا: هذا عبدنا أبق منّا، و وافقهم يوسف على ذلك، لأنّهم توعّدوه بالقتل بلسان العبرانيّة (6).

و عن السجّاد عليه السّلام: «أنّهم لمّا أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتّى ننظر ما حال يوسف، أمات أم هو حيّ؟ فلمّا انتهوا إلى الجبّ، وجدوا بحضرة الجبّ سيّارة، و قد أرسلوا واردهم و أدلى دلوه، فلمّا جذب دلوه فإذا هو بغلام متعلّق بدلوه، فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام، فلمّا أخرجوه أقبل إليهم إخوته فقالوا: هذا عبدنا سقط [منّا]أمس في هذا الجبّ، و جئنا اليوم لنخرجه، فانتزعوه من أيديهم و تنحّوا به ناحية، فقالوا: إمّا أن تقرّ لنا أنّك عبدنا فنبيعك [على]بعض هذه السيّارة، أو نقتلك، فقال لهم يوسف: لا تقتلوني، و اصنعوا ما شئتم، فأقبلوا به إلى السيّارة فقالوا: أمنكم من يشتري منا هذا العبد؟ (7)و عن ابن عبّاس: أسرّوا شأنه، يعني: أخفوا كونه أخا لهم (8).

وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ممّا يسرّون و ما يعلنون وَ شَرَوْهُ و باعوه من السيّارة-و عن مجاهد: أنّهم قالوا للقوم: استوثقوه لئلاّ يأبق (9). و قيل: إنّهم باعوه ممّن استخرجه (10). و قيل: إنّ الوارد و أصحابه باعوه (9).

ص: 377


1- . تفسير البيضاوي 1:479، تفسير روح البيان 4:229.
2- . تفسير الرازي 18:106.
3- . تفسير روح البيان 4:228.
4- . تفسير الرازي 18:106.
5- . تفسير الرازي 18:107.
6- . تفسير أبي السعود 4:261، تفسير الرازي 18:106.
7- . علل الشرائع:48/1، تفسير الصافي 3:11.
8- . تفسير الرازي 18:106. (9 و 10) . تفسير الرازي 18:107.
9- . تفسير أبي السعود 4:261.

و قيل: إنّ الشّراء بمعنى الإشراء، و المراد أنّ القوم اشتروه (1)- بِثَمَنٍ و عوض بَخْسٍ و ناقص من حيث الغشّ و قلّة العيار.

و عن ابن عبّاس: يعني: بثمن حرام، لأن ثمن الحرّ حرام (2). لأنّ البخس بمعنى النّاقص، و الحرام ناقص البركة.

و قيل: يعني: بثمن ظلم، لكون الظّلم نقصا (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قلّة الثّمن في نفسه، بيّن قلّته من حيث المقدار بقوله: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ قليلة لا توزن.

قيل: إنّهم كانوا لا يوزنون الدّراهم إلاّ إذا بلغت اوقيّة؛ و هي الأربعون (4).

و قيل: إنّ قوله دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ بيان للثّمن البخس، بمعنى: ثمن قليل (5).

و قيل: يعني: ثمن ناقص عن قيمة يوسف نقصانا ظاهرا (1)، و هو دراهم معدودة.

عن ابن عبّاس: كانت عشرين درهما (2)، و هو مرويّ عن السّجاد عليه السّلام (3).

و عن السّدي كانت: اثنين و عشرين [درهما]، و الإخوة كانوا أحد عشر، فكلّ واحد أخذ اثنين إلاّ يهوذا (4).

أقول: لا شبهة في وقوع السّهو في ذكر عدد الإخوه، لأنّهم كانوا عشرة، و كذا في التّقسيم.

وَ كانُوا بائعو يوسف فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ و غير الرّاغبين، أمّا لو كانوا إخوته فوجهه واضح، و أمّا لو كانوا ملتقطوه، فلأنّ الملتقط متهاون لما يلتقطه، أو لخوفهم أن يظهر له مالك أو صاحب، فينزعه من أيديهم، و أمّا لو كان المراد القوم الّذين اشتروه، فلا يظهرون الرّغبة فيه، للتّوصّل بذلك إلى تقليل الثّمن، أو لاطمئنانهم بكذب دعوى رقيّته، و احتمالهم أن ينتزع منهم.

قيل: إنّ يوسف أخذ يوما مرآة، فنظر إلى صورته، فأعجبه حسنه و بهاؤه، فقال: لو كنت عبدا فباعوني لما وجد لي ثمن، فابتلى بالعبوديّة، و بيع بثمن بخس (5).

روى بعض العامّة: أنّ الصّبيان أخذوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في طريق المسجد، و قالوا: كن لنا جملا، كما تكون للحسن و الحسين، فقال لبلال: اذهب إلى البيت و آت بما وجدته لأشتري نفسي منهم، فأتي بثماني جوزات، فاشترى بها منهم نفسه، و قال: أخي يوسف باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، و باعوني بثماني جوزات (6).

ص: 378


1- . تفسير الرازي 18:107.
2- . تفسير الرازي 18:108، تفسير أبي السعود 4:261.
3- . علل الشرائع:48/1، تفسير الصافي 3:11.
4- . تفسير الرازي 18:108.
5- . تفسير روح البيان 4:225.
6- . تفسير روح البيان 4:229.

قيل: حمل القوم يوسف إلى مصر، فاطّلع أهل مصر بمجيء تجّار مدين، فخرجوا ليشتروا من أمتعتهم، و خرج فيهم بعض خدم العزيز، فلمّا رأوا يوسف تحيّروا من غاية حسنه و نعت جماله، فرجعوا و أخبروا به العزيز، و هو كان يعشقه لما سمع من صيت حسنه، و افتتن أهل مصر به، و التمسوا من مالكه أن يعرضه للبيع، فزيّنه و أخرجه إلى السّوق و عرضه للبيع مزايدة ثلاثة أيّام، و اجتمع النّاس لشرائه، و فيهم عجوز أتت بشيء من الغزل لتشتريه به، فتزايدوا في ثمنه حتّى بلغ إلى ما لا يقدر عليه أحد غير العزيز، فاشتراه بوزنه مرّة مسكا، و مرّة لؤلؤا، و مرّة ذهبا، و مرّة فضّة، و مرّة حريرا. و كان وزنه أربعمائة رطل، و سنّة سبع عشرة سنة (1).

و قيل: إنّه اشتراه بعشرين دينارا (2).

و قيل: [اشتراه العزيز بأربعين دينارا]و زوج نعل، و ثوبين أبيضين (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 21

وَ قالَ العزيز اَلَّذِي اِشْتَراهُ و كان مِنْ أهل مِصْرَ بعد أن ذهب به إلى بيته لاِمْرَأَتِهِ راعيل، الملقّبة بزليخا بنت دعائل، أو هيكاهم: أن أَكْرِمِي مَثْواهُ و مسكنه، و اجعليه أحسن ما يكون.

وَ قالَ اَلَّذِي اِشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ وَ اَللّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)قيل: هو كناية عن المبالغة في إكرام نفسه، و إحسان تعهّده في المطعم و المشرب، و غيرهما (4).

ثمّ ذكر علّة لزوم إكرامه بقوله: عَسى و يرجى أَنْ يَنْفَعَنا في امورنا، و يكفينا مهمّاتنا أَوْ نَتَّخِذَهُ و نختاره لأنفسنا وَلَداً لمّا تفرّس منه الرّشد و النّجابة و كرامة النّفس، و لم يكن له ولد. و لذا قالوا: هو أفرس النّاس.

قيل: إنّه كان على خزائن مصر، و صاحب جنود الملك، و كان اسمه قطفير-أو أطفير-و لقبه العزيز، لغلبته على أهل مملكته، و قربه من الملك، و هو يومئذ ريّان بن الوليد العماليقي (5).

قيل: إنّه عمّر إلى زمان موسى، و كان هو فرعون موسى (6).

و قيل: إنّه كان من أجداد فرعون موسى، و آمن بيوسف، و مات في حياته، و ملك بعده قابوس (5)بن

ص: 379


1- . تفسير روح البيان 4:230.
2- . تفسير الرازي 18:109.
3- . جوامع الجامع:215.
4- . تفسير روح البيان 4:231. (5 و 6) . تفسير الرازي 18:108، تفسير أبي السعود 4:262، تفسير روح البيان 4:230.
5- . في النسخة: قامومن.

مصعب (1).

وَ كَذلِكَ التّمكين البديع و الرّفعة التي حصلت ليوسف في قلب العزيز، حتّى أمر امرأته بإكرام مثواه. أو التّمكين الذي حصل له في منزله مَكَّنّا لِيُوسُفَ و جعلنا له مقاما عاليا فِي أهل تلك اَلْأَرْضِ و وجاهة تامّة في أنظار سكنة تلك المملكة، و محبوبيّة كاملة في قلوبهم، ليترتّب على تلك المكانة و الوجاهة ما جرى بينه و بين امرأة العزيز وَ لِنُعَلِّمَهُ و نلهمه مقدارا كافيا مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ و تعبير الرّؤى و المنامات التي عمدتها رؤيا صاحبي السّجن، و رؤيا الملك. و إنّما أراد إخوته إذلاله و إهلاكه، و أراد اللّه إعزازه و رفعة محلّه وَ اَللّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ و قادر على إنفاذ إرادته، لا دافع لقضائه، و لا مانع عن إجراء حكمه-في أرضه و سمائه-قيل: إنّ ضمير أَمْرِهِ راجع إلى يوسف، و المعنى: أنّه تعالى غالب على أمر يوسف (2)-و بيده انتظامه، لا بسعيه و إرادته وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنّ زمام جميع الامور بيد اللّه، بل يزعمون أنّ لهم فيها دخلا، و لتدبيرهم فيها تأثيرا، أو المراد: أنّهم لا يعلمون لطائف صنع اللّه، و خفايا فضله.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 22 الی 24

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان صبر يوسف على البلايا و المحن، و مكافاته بالنّعم الجسمانيّة الظّاهريّه؛ من التّمكين في قلب العزيز، و علوّ منزلته عند أهل مصر، ذكر مكافاته بالنّعم الرّوحانيّة الباطنيّة بقوله: وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ و كملت قواه الجسمانيّة و الرّوحانيّة آتَيْناهُ و أعطيناه حُكْماً و نبوّة، أو حكمة عمليّة، التي هي الاستيلاء على النّفس، بحيث يسهل عليه منعها عن اتّباع الهوى، و ارتكاب الرّذائل وَ عِلْماً كاملا بجميع ما يحتاج إليه النّاس من المعارف و الأحكام، جزاء على حسن صبره وَ كَذلِكَ الجزاء البديع الجزيل نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ جميعا على أعمالهم الحسنة.

وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (22) وَ راوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اَللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ (23) وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ (24)قيل: إنّه عليه السّلام صار نبيّا و له ثلاث و ثلاثون سنة (3).

ص: 380


1- . تفسير الرازي 18:108، تفسير أبي السعود 4:262، تفسير روح البيان 4:230.
2- . تفسير الرازي 18:110.
3- . تفسير الرازي 18:110.

و الأشدّ: سنّ الوقوف، و هو ما بين ثلاثين و أربعين؛ كما هو مرويّ عن ابن عبّاس (1).

و قيل: إنّه كان نبيّا حين القي في الجبّ (2). و كان له ثماني عشرة سنة، و هو الأشدّ، لأنّه سن الشّباب، و هو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين.

قيل إنّ زليخا كانت أجمل نساء عصرها، و كانت بنت جلموس (3)سلطان المغرب، فرأت ذات ليلة في المنام غلاما على أحسن ما يكون من الحسن و الجمال، فسألت عنه، فقال: أنا عزيز مصر، فلمّا استيقظت افتتنت بما رأت في الرّؤيا، و أدّى ذلك إلى تغيّر حالها، و لكنّها كتمت حالها عن الأغيار دهرا. ثمّ تفطّن من في البيت من الجواري و غيرهنّ أنّ بها أمرا، فقال بعض: أصابتها عين، و بعض: أصابها سحر، و بعض: مسّها الجنّ، و بعض: ابتلت بالعشق، ففتّش عن أمرها، فما وجد فيها غير العشق، و قد كان خطبها ملوك الأطراف، فابت إلاّ عزيز مصر، فجهّزها أبوها بما لا يحصى من العبيد و الجواري و الأموال، و أرسلها مع حواشيه إلى جانب مصر، فاستقبلها العزيز بجمع كثير في زينة عظيمة، فلمّا رأته زليخا علمت أنّه ليس الذي رأته في المنام، فأخذت تبكي و تتحسّر على ما فات من المطلوب، فسمعت هاتفا يقول: لا تحزني يا زليخا، فإنّ مقصودك يحصل بواسطة هذا.

ثمّ لمّا دخلوا مصر أنزلوا زليخا في دار العزيز بالعزّ و الاحترام، و هي في نفسها على آلام الفراق، و كانت على هذه الحال سنين، و بقيت بكرا لأنّ العزيز كان عنّينا، ثمّ كان ما كان من حسد إخوان يوسف عليه، و وصوله إلى مصر بالعبوديّة، فلمّا رأته زليخا علمت أنّه هو الذي رأته في المنام، فلمّا ورد يوسف في دار العزيز ملك سلطان العشق مملكة قلب زليخا (4).

روي أنّ يوسف كان يأوي إلى بستان في قصر زليخا يعبد اللّه فيه، و كان قد قسّم نهاره ثلاثه أقسام: ثلثا لصلواته، و ثلثا لبكائه، و ثلثا لذكر اللّه و تسبيحه، فلمّا أدرك يوسف مبالغ الرّجال، طلبت منه الوقاع.

وَ راوَدَتْهُ و جاءت و ذهبت عنده المرأة اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها لتخادعه عَنْ نَفْسِهِ و هو يهرب منها إلى البستان، فلمّا طال ذلك عليها تغيّر لونها و اصفر وجهها، فدخلت عليها دايتها فأخبرتها بذلك، فأشارت عليها أن تبني له بيتا مزيّنا بكلّ ما تقدر عليه من الزّينة و الطّيب، ليكون وسيلة إلى صحبة يوسف، فبنته، فلمّا فرغ الصنّاع من عمله دعت العزيز، فدخل فيه فأعجبه، لكونه على اسلوب عجيب، و قال لها: سمّيه بيت السّرور ثمّ فرح، فاستدعت يوسف فزينه بكلّ ما يمكن من الزّينة،

ص: 381


1- . تفسير أبي السعود 4:263، تفسير روح البيان 4:232.
2- . تفسير الرازي 18:110، تفسير روح البيان 4:233.
3- . في تفسير روح البيان: طيموس.
4- . تفسير روح البيان 4:234.

و تزيّنت هي أيضا، و كانت بيضاء حسناء، بين عينيها خال يتلألأ حسنا، و لها أربع ذوائب قد نظمتها بالدّر و الياقوت، و عليها سبع حلل، و أرسلت قلائدها على صدرها، فجاءوا بيوسف، فلمّا دخل عليها في البيت الأوّل أغفلته و أغلقته، و راودته عن نفسه بكلّ حيلة، فلم يجبها، ثمّ أدخلته في البيت الذي يليه، و راودته بكلّ ما يمكن، فلم يساعدها يوسف، و دفعها بكلّ ما قدر عليه، ثمّ إلى أن انتهى إلى البيت السّابع (1)وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوابَ السّبعة كلّها عليه، بحيث لم يمكن فتحها عادة.

ثمّ دعته إلى نفسها وَ قالَتْ له: هَيْتَ لَكَ و أقبل و أسرع إليّ-قيل: هذه الكلمة بالعبريّة: هيا لج (2)، فعرّبه القرآن-فامتنع يوسف من إجابتها، و قالَ مَعاذَ اَللّهِ و ألتجئ إليه من أن أعصيه، و اضيع حقوقه، و أكفر نعمه العظام عليّ.

ثمّ اعتذر أوّلا بأنّ هذا العمل كفران نعمة العزيز بقوله: إِنَّهُ رَبِّي و منعمي، و سيّدي الذي أَحْسَنَ مَثْوايَ و أكرمني غاية الكرامة، ثمّ اعتذر ثانيا بأنّ في هذا العمل خسران الدّارين بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بفعل القبيح، و على منعميهم بالخيانة في عرضهم.

و يحتمل أن تكون كلمة مَعاذَ اَللّهِ حقيقة عرفيّة في إظهار الامتناع الشّديد، و قوله إِنَّهُ رَبِّي علّة له، و قوله إِنَّهُ لا يُفْلِحُ علّة للعلّة. و يكون حاصل المعنى: لا يكون ذلك العمل منّي أبدا، لأنّ العزيز ربّي الذي أحسن إليّ بإكرام مثواي، و حقّه أن لا أخونه في عرضه، لأنّه ظلم في حقّه، و لا يفلح الظالمون.

و يحتمل أن يكون ضمير إِنَّهُ رَبِّي راجعا إلى اللّه، و المعنى: إنّ اللّه ربّي و منعمي، حيث أكرمني غاية الإكرام، و عصيانه كفران نعمته، و ظلم في حقّه، و لا يفلح الظّالم.

عن ابن عبّاس قال: كان يوسف إذا تبسّم رؤي النّور في ضواحكه، و إذا تكلّم رؤي شعاع النّور في كلامه يذهب من بين يديه، و لا يستطيع آدميّ أن ينعت نعته، فقالت له: يا يوسف، إنّما صنعت هذا البيت المزيّن لأجلك، فقال يوسف: يا زليخا، إنّي أخشى أن يكون هذا البيت الذي سمّيته بيت السّرور بيت الأحزان و الثّبور، و بقعة من بقاع جهنّم. فقالت زليخا: يا يوسف، ما أحسن عينيك! قال: هما أوّل شيء يسيل إلى الأرض من جسدي. قالت: ما أحسن وجهك! قال: هو للتّراب يأكله. قالت: ما أحسن شعرك! قال: هو أوّل ما ينتشر من جسدي. قالت: إن فراش الحرير مبسوط فقم و اقض حاجتي، قال: إذن يذهب نصيبي من الجنّة. قالت: إن طرفي سكران من محبّتك، فارفع طرفك إلى

ص: 382


1- . تفسير روح البيان 4:236.
2- . تفسير الرازي 18:113.

حسني و جمالي، قال: صاحبك أحقّ بحسنك و جمالك (1).

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ و عزمت على مخالطته و مجامعته عزما جزما بعد تغليق الأبواب، و دعوتها إلى نفسها، و الإلحاح في مقاربتها، و مدّ يدها إليه لتعانقه وَ هَمَّ بِها و عزم على إجابتها بمقتضى الطبيعة البشرية و قوّة شهوة الشباب مع وجود أسباب هيجان الرغبة لَوْ لا أَنْ رَأى يوسف بُرْهانَ رَبِّهِ و حجّته الباهرة الدالة على قبح الزنى، و كونه مبغوضا له تعالى، و كمال إيقانه الواصل إلى مرتبة عين اليقن التي تتجلّى عندها حقائق الأشياء بصورتها الواقعية البرزخية.

و هذه المرتبة هي العصمة الالهية، و لكن رأى البرهان فلم يهتمّ بها أصلا، و كان فاقد الشرط، و المقصود بيان أنّه لم يكن امتناعه عن ارتكاب الفاحشة لقصور في قواه الطبيعية و نقص في موجبات الرغبة، بل كان بمقتضى العفّة و العصمة الألفية (2)مع وفور الدواعي النفسانية و تمامية الموجبات الخارجية لظهور أحكام الطبيعة.

عن الرضا عليه السّلام، و قد سأله المأمون عن عصمة الأنبياء: قال عليه السّلام: «لقد همّت به، و لو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها كما همّت به، لكنّه كان معصوما، و المعصوم لا يهمّ بذنب و لا يأتيه» .

قال: «و لقد حدّثني أبي، عن أبيه الصادق عليه السّلام، أنّه قال: همّت بأن تفعل، و همّ بأن لا يفعل» (3).

و في رواية: «أنّها همّت بالمعصية، و همّ يوسف بقتلها إن أجبرته، لعظم ما تداخله، فصرف اللّه عنه قتلها و الفاحشة» (4).

و قيل: إنّ البرهان هو أنّه رأى مكتوبا في جانب البيت: لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى (5).

و قيل: إنّه قال له ملك: أنت تهمّ بفعل السفهاء، و أنت (6)مكتوب في ديوان الأنبياء (7)و في هذا القول ما لا يخفى.

و قيل: إنّه انفرج له سقف البيت، فرأى يعقوب عاضّا على يديه (8).

و قيل: إنّ يعقوب ضرب على صدره، فخرجت شهوته من أنامله (7).

و قيل: بدت كفّ [فيما بينهما]لا عضد لها و لا معصم، مكتوب فيها: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ*

ص: 383


1- . تفسير روح البيان 4:236.
2- . كذا، و لعلّ مراده المألوفة.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:201/1، تفسير الصافي 3:13.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:193/1، تفسير الصافي 3:13.
5- . تفسير روح البيان 4:238.
6- . زاد في النسخة: و اسمك. (7 و 8) . تفسير روح البيان 4:238.
7- . تفسير أبي السعود 4:266.

كِراماً كاتِبِينَ (1) فلم ينصرف، ثمّ رأى فيها: وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (2)فلم يتنبّه (3)، ثمّ رأى فيها: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ (4)فلم ينجع. فقال اللّه عزّ و جلّ لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الفاحشة (5). فانحطّ جبرئيل عليه السّلام و هو يقول: يا يوسف، اتعمل عمل السّفهاء و أنت مكتوب في ديوان الأنبياء (6).

في عصمة الأنبياء

أقول: لا شبهة في فساد هذا القول و كذبه، و قيل: إنّه رأى تمثال العزيز (7).

و قيل: إنّه رأى شخصا يقول له: يا يوسف، انظر إلى يمينك، فنظر [فرأى]ثعبانا أعظم ما يكون، فقال: هذا يكون في بطن الزاني غدا (8).

و قيل: إنّه سمع قائلا يقول: يابن يعقوب، المؤمن كالطير (9)له ريش، فاذا زنى سقط ريشه (10).

و قيل: إنه رأى جبرئيل عاضّا على يده (11).

عن السجّاد عليه السّلام: قامت امرأة العزيز إلى الصنم، فألقت عليه ثوبا، فقال لها يوسف: [ما هذا؟ قالت: أستحيي من الصنم أن يرانا، فقال لها يوسف:]أتستحيين ممّن لا يسمع و لا يبصر و لا يفقه، و لا يأكل و لا يشرب، و لا أستحيي أنا ممّن خلق الانسان فعلمه، فذلك قوله: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ (12).

و روي ذلك عن الباقر عليه السّلام بعد أن كذّب قول الناس إنّه رأى يعقوب عاضا على إصبعه (13).

و عن الصادق عليه السّلام: «أن رضا الناس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط، و كيف تسلمون ممّا لا يسلم منه أنبياء اللّه و رسله و حجج اللّه عليهم السّلام، ألم ينسبوا يوسف عليه السّلام إلى أنه همّ بالزنا» (14).

أقول: و العجب أنّه مع ذلك روى بعض العامه عن الصادق عليه السّلام باسناده عن علي عليه السّلام أنه قال: «طمعت فيه و طمع فيها، فكان طمعه فيها أنّه همّ أن يحلّ التّكّة» (15)بل نقلوا عن ابن عباس أنه قال: حلّ الهميان (16)، و جلس منها مجلس الخائن (17). و عنه أيضا: أنّها استلقت له و جلس بين رجليها ينزع ثيابه (18).

أقول: لا شبهة أن كلّها من الأكاذيب بحكم العقل و النقل و إجماع أهل الحلّ و العقد.

ص: 384


1- . الإنفطار:82/10 و 11.
2- . الإسراء 17/32.
3- . في تفسير أبي السعود: فلم ينته.
4- . البقرة:2/281.
5- . في تفسير أبي السعود: الخطيئة.
6- . تفسير أبي السعود 4:266.
7- . تفسير أبي السعود 4:267.
8- . تفسير روح البيان 4:238.
9- . في تفسير الرازي: يا ابن يعقوب لا تكون كالطير يكون.
10- . تفسير الرازي 18:120.
11- . مجمع البيان 5:345.
12- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:45/162، تفسير الصافي 3:14.
13- . تفسير العياشي 2:340/2092، تفسير الصافي 3:14.
14- . أمالى الصدوق:164/163، تفسير الصافي 2:14.
15- . تفسير الرازي 18:115.
16- . الهميان: شداد السّراويل. (17 و 18) . تفسير الرازي 18:115.

قال الفخر الرازي: إن كلّ من له تعلّق بتلك الواقعة، شهد ببراءة يوسف من المعصية، فانّ الذين لهم تعلّق بتلك الواقعة يوسف و المرأة و زوجها و النسوة و الشهود و ربّ العالمين، و كلّهم شهدوا ببراءته، و الشيطان أقرّ أيضا ببراءته من المعصية، فاذا كان الأمر كذلك لم يبق لمسلم مجال التوقّف في هذا الباب.

أمّا ادّعاء يوسف ببراءته فقوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي (1)و قوله: رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (2).

و أما المرأة فانّها اعترفت بذلك بقولها للنسوة: وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ (3)و بقولها: اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ (4).

و أمّا زوج المرأة فبقوله: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخاطِئِينَ (5).

و أمّا الشهود فيقول الشاهد: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (6).

و أمّا النسوة فبقولهنّ: اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (7)و قولهن: حاشَ لِلّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ (8).

و أمّا شهادة اللّه فبقوله: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ

و أمّا اقرار إبليس بذلك فبقوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (9)فأقرّ بأنّه لا يمكنه إغواء العباد المخلصين.

ثمّ بيّن اللّه منّته على يوسف بقوله: كَذلِكَ الاراءة للبرهان أريناه، و مثل ذلك التبصير بصّرناه فيما قيل، أو مثل ذلك التثبّت ثبّتناه لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ كلّه، و منه خيانة العزيز، أو قتل زليخا وَ اَلْفَحْشاءَ كان هو الزنا، أو ما شابهه في شدّة القباحة.

ثمّ علّل ذلك اللّطف به بقوله: إِنَّهُ أحد مِنْ عِبادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ و المصطفين لعبادتي و طاعتي.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 25 الی 29

ص: 385


1- . يوسف:12/26.
2- . يوسف:12/33.
3- . يوسف:12/32.
4- . يوسف:12/51.
5- . يوسف:12/28 و 29.
6- . يوسف:12/26.
7- . يوسف:12/30.
8- . يوسف:12/51.
9- . تفسير الرازي 18:116، و الآية من سورة ص:38 و 82 و 83.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه شدّة طلب زليخا و شدّة امتناع يوسف من إجابتها بقوله: وَ اِسْتَبَقَا اَلْبابَ البرّاني و تسابقا إليه، أما يوسف فللهرب من زليخا، و أمّا زليخا فلصدّ يوسف عن الفرار و الخروج.

و في رواية: كانت الأقفال تتساقط و الأبواب تفتح (1)ليوسف، فلمّا بلغته زليخا اجتذبت قميصه من خلفه، لتوقفه و تمنعه من الخروج وَ لذا قَدَّتْ و شقّت قَمِيصَهُ طولا مِنْ دُبُرٍ و خلف بالاجتذاب وَ أَلْفَيا و وجدا العزيز الذي كان سَيِّدَها و زوجها لَدَى اَلْبابِ و هو يريد أن يدخل البيت كما قيل، و قيل: إنه كان جالسا عند الباب مع تمليخا ابن عمّ زليخا (2)، و إنما قال سبحانه سيّدها لأنّ الزوج سيد المرأة، و لم يكن سيد يوسف لأنّه لم يكن مالكه في الواقع.

ثمّ كأنّه قيل: ما قالت زليخا لسيدها عند ذلك؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالَتْ زليخا لسيدها تنزيها لنفسها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ و زوجتك سُوءاً أو فحشا، و ليس جزاؤه و عقوبته إِلاّ أَنْ يُسْجَنَ و يحبس في المحبس أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ كالقتل بالسيف أو الضرب الشديد، و قيل: إن كلمة ما استفهامية، و المعنى أيّ شيء جزاؤه (3)غير السجن أو العذاب الشديد؟

قال العزيز: من أراد بك سوءا؟ قالت زليخا: إنّي كنت نائمة في فراشي، فجاء هذا الغلام العبرى، و كشف عن ثيابي، و راودني عن نفسي. فالتفت العزيز إلى يوسف، و قال: يا غلام، أهذا جزائي منك؟ ! أنا أحسنت إليك، و أنت تخونني (4)! قالَ يوسف تنزيها لعرضه و تبرئة لنفسه و حفظا لها من السجن و التعذيب: هِيَ راوَدَتْنِي لتخادعني عَنْ نَفْسِي و طالبتني مواقعتها، و أنا امتنعت من إجابتها حتّى فررت منها.

قيل: إنّ العزيز قال: لا أقبل قولك إلا بالبرهان (5). و قيل: إنّه نظر إلى ظاهر حال (4)زليخا و تظلّمها، فأمر بأن يسجن يوسف، فعند ذلك دعا يوسف بانزال براءته، و كان لزليخا خال له ابن في المهد-ابن ثلاثة أشهر على رواية، أو ابن أربعة على اخرى، أو ابن ستة أشهر على ثالثة-فهبط جبرئيل إلى ذلك الطفل

ص: 386


1- . تفسير أبي السعود 4:267، تفسير روح البيان 4:240.
2- . تفسير روح البيان 4:240.
3- . جوامع الجامع:216، تفسير روح البيان 4:240. (4 و 5) . تفسير روح البيان 4:240.
4- . في تفسير روح البيان: قول.

و أجلسه في المهد، و قال له: اشهد ببراءة يوسف: فقام الطفل من المهد فجعل يسعى حتى قام بين يدي العزيز (1)وَ شَهِدَ ببراءة يوسف، مع أنه شاهِدٌ كان مِنْ أَهْلِها و أقاربها.

و عن ابن عباس: أن الشاهد كان صبيا انطقه اللّه تعالى في المهد (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «ألهم اللّه عز و جل يوسف أن قال للملك: سل هذا الصبيّ في المهد، فإنّه يشهد بأنّها راودتني عن نفسي. فقال العزيز للصبي: فأنطق اللّه الصبيّ في المهد» (3).

و قيل: كان لها ابن عمّ، و كان رجلا حكيما، و اتّفق أنه كان مع العزيز في ذلك الوقت، يريد أن يدخل عليها. فقال: فقد سمعنا الجلبة (4)من وراء الباب، و شقّ القميص و لا ندري أيّكما قدّام صاحبه (5)، ثمّ قال: انظروا إلى قميص يوسف إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ و شقّ مِنْ قُبُلٍ و قدّام فَصَدَقَتْ زليخا في أن يوسف أراد بها سوءا وَ هُوَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ في قوله: هي راودتني عن نفسي وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ و شقّ مِنْ دُبُرٍ و خلف فَكَذَبَتْ زليخا في قولها و رميها يوسف وَ هُوَ مِنَ جملة اَلصّادِقِينَ في رمي زليخا بمراودته عن نفسه، لأنّه إن كان يوسف طالبا لها و مقبلا إليها، فإما أن تقوم زليخا في قباله و تدفعه عن نفسها، و إمّا أن تهرب منه، و يتبعها يوسف، و يسرع في المشي، فيعثر بذيله، و على أي تقدير لا بدّ أن ينشقّ قميص يوسف من قدّام، و أما إن كانت زليخا طالبة له، و يوسف هاربا منها، فلا بدّ من أن ينشقّ قميصه من خلف، لأنّها تتبعه و تجتذب قميصه من خلف.

و اعترض عليه بأنّ شقّ القميص من خلف ليس له دلالة قطعية على براءة يوسف، لاحتمال أنّه لمّا طلب منها الزنا غضبت عليه، و أرادت إيذاءه فهرب منها، و ركضت خلفه و جذبته لتضربه، فخرق قميصه من خلف.

و فيه: أنه كانت على تقدير كون الشاهد ابن عمها أمارات اخرى على صدقه:

منها: أنه عليه السّلام كان بحسب الظاهر عبدا، و العبد يبعد أن يتجاسر على مولاه و زوجته.

و منها: أنّهم رأوا زليخا زيّنت نفسها بأكمل الزينة التي لم تتزين بها إلى ذلك اليوم.

و منها: أن إثار الشهوة كانت فيها متكاملة بصبرها على الزوج سنين متطاولة، لأنّ زوجها كان عنينا.

و منها: أنهم رأوا يوسف في غاية العفّة مدّة مديده، إلى غير ذلك من القرائن.

و لذا فَلَمّا رَأى العزيز أو ابن عمها قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ علم ببراءة يوسف و صدقه في قوله

ص: 387


1- . تفسير روح البيان 4:240.
2- . تفسير الرازي 18:123.
3- . تفسير القمي 1:343، تفسير الصافي 3:15.
4- . الجلبة: الصّياح و الصّخب.
5- . تفسير الرازي 18:123.

و قالَ لزليخا: إن الأمر قد ظهر إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ و مكركنّ أيتها النساء الماكرات، لا من كيد يوسف إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ لأنّه أشدّ تاثيرا في النفوس من كيد الرجال، و أعلق بالقلوب منه، بل من كيد الشيطان لأنّه يوسوس مسارقة، و هنّ يواجهن به الرجال، فخجلت زليخا بعد انكشاف الأمر، و استحيى العزيز و سكت.

ثمّ لمّا كان حليما قليل الغيرة، محبّا لزليخا غاية الحبّ، خائفا من أن يشتهر الأمر في الناس، قال ليوسف: يا يُوسُفُ أَعْرِضْ و اغمض عَنْ هذا الأمر و اكتمه عن الناس، و لا تحدّث به أحدا، لأنّهم يعيّرونني إن سمعوا به، و يا زليخا توبي وَ اِسْتَغْفِرِي اللّه لِذَنْبِكِ الذي ارتكبته إِنَّكِ كُنْتِ و صرت بسببه مِنَ جملة القوم اَلْخاطِئِينَ و المتعمّدين لفعل القبيح. قيل: إن تذكير الجمع لتغليب الذكور على الإناث (1).

روي أنّ العزيز حلف أن لا يدخل عليها إلى أربعين يوما، و أخرج يوسف من عندها، و شغله بخدمة نفسه، و بقيت زليخا لا ترى يوسف (2).

و قيل: إنّ الآية من كلام الشاهد (3)، و كان هو الصبيّ، أو ابن عمّها.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 30 الی 32

ثمّ قيل: إن امرأة ساقي الملك و امرأة خبّازه و امرأة صاحب دوابّه و امرأة صاحب سجنه و امرأة حاجبه، كنّ كثير المراودة مع زليخا: فاطّلعن على قضيتها مع يوسف، فأفشين الخبر في نسوة مصر (4)، وَ عند ذلك قالَ نِسْوَةٌ كن فِي اَلْمَدِينَةِ و بلدة مصر، أو المراد أنّ النسوة الخمس في المدينة [قلن]

للنساء تشنيعا و لوما على زليخا: اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ مع جلالة شأنها و غاية خطرها

وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصّاغِرِينَ (32)

ص: 388


1- . تفسير الرازي 18:125، تفسير روح البيان 4:343.
2- . تفسير روح البيان 4:343.
3- . تفسير الرازي 18:124.
4- . مجمع البيان 5:352، تفسير الرازي 18:126.

تُراوِدُ فَتاها و تطالب مملوكها مواقعته لها و تخادعه عَنْ نَفْسِهِ، و تحتال في تحصيل مقصودها القبيح منه قَدْ شَغَفَها و وصل ذلك الفتى إلى سويداء قلبها حُبًّا و عشقا، و حاصل المراد أنّه تمكّن حبّه في قلبها بحيث شغلها عن غيره.

و قيل: إنّ المعنى أحاط بقلبها حبّه كإحاطة الشّغاف، و هو الجلدة المحيطة بالقلب (1).

و قيل: إن المعنى أنّ حبّه شقّ شغاف قلبها: و دخل فيه (2).

عن القمي، عن الباقر عليه السّلام، يقول: «قد حجبها حبّه عن الناس فلا تعقل غيره» (3).

إِنّا و اللّه لَنَراها و نعلمها، كعلمنا بالشيء بطريق المشاهده غائرة فِي ضَلالٍ و انحراف عن طريق العفاف و الرّشد و الصواب مُبِينٍ و ظاهر ضلالها عند كلّ أحد، أو مظهر بين الناس.

قيل: إنّما قلن: لنراها في ضلال، و لم يقلن: إنّها في ضلال، إشعارا بانّ حكمهنّ بضلالها عن علم و يقين، لا عن ظنّ و تخمين، و إعلانا بتنزّههنّ عمّا هي عليه (4).

قيل: لذا ابتلاهنّ اللّه بما عيّروها، لأنّه ما عيّر أحد أخاه بذنب إلاّ ارتكبه قبل أن يموت (5).

عن القمي: و شاع الخبر بمصر، و جعلن النساء يتحدّثن بحديثها، و يعذلنها (6)و يذكّرنها (7).

فَلَمّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَّ و تعيّبهنّ إياها في الخفاء و السرّ، كاخفاء الماكر مكره. و قيل: مكرهنّ إفشاؤهن سرّ زليخا (8)، فانّ إفشاء السرّ يسمى مكرا.

و قيل: إنّ النسوة كنّ مشتاقات لأنّ ينظرن إلى وجه يوسف، فاحتلن تعييب زليخا في ذلك، لأنهنّ عرفن أنّهن إذا قلن ما قلن عرضت زليخا عليهن يوسف ليظهر عذرها عندهن (9).

و لذا أَرْسَلَتْ زليخا خدمها إِلَيْهِنَّ لتدعوهن لضيافتها، إكراما لهنّ، قيل: دعت أربعين امرأة، منهنّ الخمس المذكورات (10). عن القمي: بعثت إلى كلّ امرأة رئيسة فجمعتهن في منزلها (11)وَ أَعْتَدَتْ و هيئت لَهُنَّ مُتَّكَأً و نمارق يعتمدن عليها، و قيل: إن المتّكأ هو الطعام، أو الاترج، أو الطعام المحتاج إلى القطع بالسكين (12).

وَ آتَتْ و أعطت زليخا كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ بعد الاتكاء سِكِّيناً : لقطع الفواكه أو الأطعمة

ص: 389


1- . تفسير الرازي 18:126.
2- . تفسير روح البيان 4:245.
3- . تفسير القمي 1:357، تفسير الصافي 3:16.
4- . تفسير روح البيان 4:245.
5- . تفسير روح البيان 4:245.
6- . في المصدر: و يعيرنها.
7- . تفسير القمي 1:343، تفسير الصافي 3:16.
8- . تفسير الرازي 18:126، تفسير أبي السعود 4:271.
9- . تفسير الرازي 18:126.
10- . تفسير أبي السعود 4:271، تفسير روح البيان 4:246.
11- . تفسير القمي 1:343، تفسير الصافي 3:16.
12- . تفسير الرازي 18:127.

التي حضرت عندهنّ، روي أنّ زليخا اتخذت لهنّ ضيافة عظيمة من أنواع الفواكه و ألوان الأطعمة و الأشربة ما لا يوصف (1).

قيل: جاءت زليخا عند يوسف، فالبسته حلّة خضراء، و أرسلت ذوابته على صدره، و شدّت في وسطه منطقة من الذهب، و ألبسته نعلين مزيّنين بالجواهر (2).

وَ قالَتِ له حين اشتغالهنّ باستعمال السكاكين في ما بأيديهنّ من الفواكه و أضرابها: اُخْرُجْ يا يوسف عَلَيْهِنَّ و ابرز لهنّ، فخرج عليهنّ لمّا لم يقدر على مخالفتها.

فَلَمّا رَأَيْنَهُ بذلك الحسن الفائق و الجمال الرائق الذي يضمحل عنده جمال كلّ جميل، إذن أَكْبَرْنَهُ و أعظمنه، و دهشن من فرط حسنه، بحيث غفلن عن أنفسهن، و خرجت أفعالهنّ عن اختيارهنّ، و لم يعلمن ما يفعلن. و قيل: يعني حضن من شدّة الشّبق ليوسف (3)وَ قَطَّعْنَ بالسكاكين أَيْدِيَهُنَّ بدل الفواكه و الأطعمة. عن وهب: ماتت جماعة منهنّ (4).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «رأيت في السماء الثانية رجلا صورته كالقمر ليلة البدر، فقلت لجبرئيل: من هذا؟ قال: أخوك يوسف» (5).

قيل: كان فضل يوسف على الناس في الفضل و الحسن كفضل القمر ليل البدر على سائر الكواكب (6). و قيل: إنه إذا سار في أزقّة مصر، يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس عليها (7). و قيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه (8).

وَ لذا قُلْنَ من فرط التعجّب من حسنه و كمال قدرة اللّه على الخلق: حاشَ لِلّهِ و نزّه عن العجز حيث قدر على خلق مثل هذا الغلام الذي لا يتصوّر له نظير في الجمال و الحسن.

ثمّ لمّا كان المركوز في الأذهان أنّ الملك أحسن المخلوقات بالغن في توصيف حسنه بقولهن: ما هذا الذي نراه بَشَراً و من جنس بني آدم لعدم إمكان وجود هذه الدرجة من الحسن فيهم، بل إِنْ هذا الجميل الذي لا نظير له، و ما هو إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ على ربّه.

قيل: إنّ النساء لمّا رأين غاية عفّته و كرامة نفسه قلن ذلك (7). فلمّا رأت زليخا دهشة النساء من رؤية يوسف قالَتِ اعتذارا من عشقها إياه و حبها له: فَذلِكُنَّ الشاب الذي رأيتنه افتتنتنّ به هو العبد

ص: 390


1- . تفسير روح البيان 4:246.
2- . تفسير روح البيان 4:246.
3- . تفسير أبي السعود 4:272، تفسير روح البيان 4:247.
4- . تفسير روح البيان 4:247.
5- . مجمع البيان 5:353، تفسير الصافي 3:16.
6- . تفسير الرازي 18:127. (7 و 8) . تفسير الرازي 18:127، تفسير روح البيان 4:248.
7- . تفسير الرازي 18:128، مجمع البيان 5:353.

الكنعاني اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ و عذلتنني على حبّه و افتتاني به، و لو رأيتنه قبل المجلس أو تصوّرتم صورته لما كنتم تلومونني على حبّه، بل ظهر أنكنّ أحقّ باللوم لأنكنّ بنظرة واحدة إليه ظهر فيكن ما لم يظهر في المدة المديدة.

قيل: أنّما أشارت زليخا إليه بذلك الذي للبعيد لكونها بعد انصرافه من المجلس (1)، أو لاظهار رفعة منزلته في الحسن.

ثمّ إنها لمّا ظهر عذرها عند النسوة، كشفت السرّ عمّا كانت تستره، و أعلنت بحقيقة الحال بقولها: وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ و طلبت منه أن يمكّننى من قربه فَاسْتَعْصَمَ باللّه و استجار إليه من إجابتي، وَ و اللّه لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ و لم يجب ما أسأله من المواقعة لَيُسْجَنَنَّ البتة وَ لَيَكُوناً لا محالة مِنَ جملة اَلصّاغِرِينَ و المهانين في الناس، و إنما أوعدته بالصّغار و الذلّ لعلمها بأن له تأثيرا عظيما في قلب من كان عزيز النفس رفيع المقام عظيم الخطر كيوسف، فتضيق عليه الحيل، و إنّما قالت ذلك بين النساء ليعلم يوسف أنّها ليست من أمرها على خيفة و خفية.

قيل: إنّ النسوة لمّا سمعن منها هذا التهديد اجتمعن على يوسف، و قلن: إنّا نرى صلاحك في موافقتها، و إلاّ توقعك في السجن، و تبتليك بالذلّ و الصّغار (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 33 الی 36

ثمّ لمّا رأى يوسف عليه السّلام موجبات الرغبة في إجابة مسؤولها كثيرة من حسنها و كثرة أموالها و موافقة النسوة معها، و توقّع شرّها كالقتل و السجن و نظائرهما، التجأ إلى اللّه و اعتصم به بقوله: قالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ الذي تهدّدني به زليخا، و تخوّفني به النسوة أَحَبُّ إِلَيَّ و أولى بالتحمّل لديّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الزنا و الفحش لقلّة المحاذير الدنيوية بالنسبة إلى المحاذير الاخروية وَ إِلاّ تَصْرِفْ و لا تدفع عَنِّي كَيْدَهُنَّ و مكرهنّ بي في إلقائي في الخطر و بعثي إلى خلاف رضاك

قالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا اَلْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ (35) وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ (36)

ص: 391


1- . تفسير الرازي 18:130.
2- . تفسير الرازي 18:130.

أَصْبُ و أميل إِلَيْهِنَّ و اوافق ميلهنّ و أقدم في إجابة مسؤولهن وَ أَكُنْ بعملي هذا مِنَ اَلْجاهِلِينَ و السفهاء الذين لا ينظرون إلى سوء عواقب أعمالهم.

القمي رحمه اللّه: فما أمسى يوسف في ذلك البيت حتى بعثت إليه كلّ امرأة رأته تدعوه إلى نفسها، فضجر يوسف في ذلك البيت فقال: رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ (1)الآية.

قيل: عند ذلك بكت الملائكة رحمة له، و هبط إليه جبرئيل فقال له: يا يوسف، ربّك يقرئك السّلام و يقول لك: اصبر فإن الصبر مفتاح الفرج، و له عاقبة (2)محمودة (3).

قيل: إنّه لو قال ربّ العافية أحبّ إليّ، لعافاه اللّه (4)، و لم يبتل بالسجن فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه و مسألته فَصَرَفَ و دفع عَنْهُ برحمته كَيْدَهُنَّ حسب دعائه، و ثبّته على العصمة و العفّة التي كان عليها حتّى وطّن نفسه على مقاساة السجن و اختيار المحنة و الشدّة على اللذّة و الراحة إِنَّهُ تعالى هُوَ اَلسَّمِيعُ لدعاء الداعين له و تضرّع المتضرّعين إليه اَلْعَلِيمُ بما في قلوبهم من الخلوص و بما يصلحهم.

في (العلل) عن السجاد عليه السّلام: «كان [يوسف]من أجمل أهل زمانه، فلمّا راهق راودته امرأة الملك عن نفسه، فقال لها: معاذ اللّه إنّا من أهل بيت لا يزنون: فغلّقت الأبواب عليها و عليه. و قالت لا تخف، و ألقت نفسها عليه، فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه، فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه، فأفلت منها في ثيابه، و ألفيا سيدها لدى الباب، قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلاّ أن يسجن أو عذاب أليم.

قال: فهمّ الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف: و إله يعقوب، ما أردت بأهلك سوءا، بل هي راودتني عن نفسي، فسل هذا الصبي أيّنا راود صاحبه عن نفسه. قال: و كان عندها صبيّ من أهلها زائر لها، فأنطق اللّه الصبي لفصل القضاء، فقال: أيّها الملك، انظر إلى قميص يوسف، فان كان مقدودا من قدّامه فهو الذي راودها، و إن كان مقدودا من خلفه فهي التي راودته.

فلمّا سمع الملك كلام الصبيّ و ما اقتصّ، أفزعه ذلك فزعا شديدا، فجيء بالقميص فنظر إليه، فلمّا رآه مقدودا من خلفه قال لها: إنه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم. و قال ليوسف: أعرض عن هذا و لا يسمعه منك أحد و اكتمه. قال: فلم يكتمه يوسف و أذاعه في المدينة حتّى قلن نسوة فيها: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، فبلغها ذلك فأرسلت إليهنّ و هيأت لهنّ طعاما و مجلسا، ثمّ أتتهنّ بأترجّ،

ص: 392


1- . تفسير القمي 1:343، تفسير الصافي 3:17.
2- . في تفسير روح البيان: و عاقبته. (3 و 4) . تفسير روح البيان 4:252.

و أتت كلّ واحدة منهنّ سكّينا، ثمّ قالت ليوسف: اخرج عليهنّ: فلمّا رأينه أكبرنه و قطّعن أيديهن و قلن ما قلن. فقالت لهنّ هذا اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ يعني في حبّه، و خرجن النسوة من عندها فأرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف سرّا من صواحبها تسأله الزيارة، فأبى عليهنّ، و قال: إِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجاهِلِينَ فصرف اللّه عنه كيدهنّ» (1).

ثمّ قيل: لمّا ظهر للعزيز براءة يوسف، لم يتعرّض له، و خصّه بخدمة نفسه، فاحتالت زليخا بعد ذلك بحيل تضطرّ يوسف إلى موافقتها، فلم توثّر فيه، فلمّا أيست منه قالت لزوجها: إنّ هذا العبد فضحني في الناس، و لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي في الخروج للاعتذار، أو تحبسه كما حبستني (2).

و قيل: إنّ النسوة كنّ يدعون يوسف إلى أنفسهن، فلمّا يئسن منه جئن إلى زليخا، و قلن: نرى أن تحبسه أياما قلائل، لعلّه بعد ابتلائه بذلّ السجن و تعبه انقاد لك، فقالت زليخا للعزيز: أرى أنّ الأصلح أن تحبسه لينقطع عن الناس ذكر هذا الحديث (3)، أو يحسبون أنّه المجرم، و كان العزيز مطيعا لها، فاغترّ بقولها ثُمَّ بَدا لَهُمْ و تغيّر رأيهم عمّا كان عليه من عدم التعرّض له مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا اَلْآياتِ و الشواهد على براءة يوسف لَيَسْجُنُنَّهُ و ليحبسنّه حَتّى حِينٍ انقطاع قالة الناس بنظر العزيز، و إلى زمان انقياد يوسف أو حسبان الناس أنّه المجرم بنظر زليخا.

عن الباقر عليه السّلام: «الآيات: شهادة الصبي، و القميص المخرّق من دبر، و استباقهما الباب حتّى سمع مجاذبتها إياه على الباب، فلمّا عصاها لم تزل مولعة (4)بزوجها حتى حبسه» (5).

قيل: كان للعزيز ثلاثة سجون: سجن العذاب، و سجن القتل، و سجن العافية، فأمّا سجن العذاب فهو محفور في الأرض و فيه الحيّات و العقارب، و هو مظلم لا يعرف فيه الليل من النهار، و أمّا سجن القتل فهو محفور في الأرض أربعين ذراعا، و كان الملك إذا سخط على أحد يلقيه فيه على امّ رأسه فلا يصل إلى قعره إلاّ و قد هلك، و أمّا سجن العافيه فإنّه كان على وجه الأض إلى جانب قصره، فإذا غضب على أحد من حواشيه حبسه في ذلك السجن، فلمّا أرادت زليخا أن يسجن يوسف أرسلت إلى سجّان سجن العافية، و أمرته أن يصلح فيه مكانا متفرّدا ليوسف، ثمّ قالت ليوسف: لقد أعييتني، و انقطعت فيك حيلتي، فلأسلّمنّك إلى المعذّبين يعذّبونك كما عذّبتني، و لألبسنك بعد الحليّ

ص: 393


1- . علل الشرائع:48/1، تفسير الصافي 3:18.
2- . تفسير الرازي 18:132.
3- . تفسير روح البيان 4:254.
4- . ولع به: اغري به، في تفسير القمي: ملحة.
5- . تفسير القمي 1:244، تفسير الصافي 3:19.

و الحلل جبّة صوف تأكل جلدك، و لأقيّدنك بقيد من حديد يأكل رجليك.

ثمّ نزعت ما كان عليه من اللباس، و البسته جبّة صوف، و قيّدته بقيد من حديد، فلمّا دنا من باب السجن نكّس رأسه، فلمّا دخل قال: بسم اللّه (1)وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيانِ و عبدان من عبيد الملك الأكبر: أحدهما صاحب طعامه، و الآخر صاحب شرابه.

قيل: إنّ جماعة من أهل مصر و عدوهما (2)مالا كثيرا ليسمّا الملك في طعامه و شرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثمّ أنّ الساقي نكل عن ذلك، و مضى عليه الخبّاز فسمّ الخبز، فلمّا حضر الطعام قال الساقي: لا تأكل أيّها الملك من الخبز فإنّه مسموم. و قال الخباز: لا تشرب أيّها الملك من الشراب فانّه مسموم، فقال الملك للساقي: اشربه فشربه فلم يضرّه، و قال للخباز: كله فأبى، فجرّبه بدابّة فهلكت، فأمر الملك بحبسهما، فاتفق أن ادخلا في السجن مع يوسف (3).

فلمّا دخل يوسف في السجن جلس في ناحية منه، و أحاط به أهل السجن و هو يبكي، فأتاه جبرئيل فقال له عليه السّلام: ممّ بكاؤك و أنت اخترت السجن لنفسك؟ فقال: إنّما بكائي لانّه ليس في السجن مكان طاهر [أصلي فيه]فقال له جبرئيل: صلّ حيث شئت، فإنّ اللّه قد طهّر خارج السجن و داخله أربعين ذراعا لأجلك، فكان يصلّي حيث أراد، و كان يصلّي ليلة الجمعة عند باب السجن، فطلبت زليخا السجّان، و قالت له: ارفع الغلّ عن يوسف، و ألبسه حلل الحرير و الاستبرق، و ارفق به غاية الرّفق.

ثمّ أثّر في قلبها الفراق، و احترقت بنار الاشتياق، فجاءت ليلة مع دايتها (4)إلى السجن و طالعت جمال يوسف من بعيد: ثمّ كانت تنظر إليه من روزنة (5)القصر إلى السجن، و كان يوسف على عادته مشغولا بالعبادة، و يسلّي أهل السجن، و يحسن إليهم بكلّ ما قدر، فقالوا، بارك اللّه عليك، ما أحسن وجهك! و ما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك. فمن أنت يا فتى؟ فقال عليه السّلام: أنا يوسف ابن صفي اللّه يعقوب بن ذبيح اللّه إسحاق بن خليل اللّه إبراهيم. فقال له السجان: لو استطعت لخلّيت سبيلك، و لكن احسن جوارك، فكن في أيّ بيت شئت (6).

و روي أنّ الفتيين قالا له: إنّا لنحبّك من حين رأيناك. فقال: أنشد كما باللّه أن لا تحبّاني، فو اللّه ما أحبّني أحد قطّ إلاّ دخل من حبّه عليّ بلاء، لقد أحبّتني عمّتي فدخل عليّ من حبّها بلاء، ثمّ أحبّني

ص: 394


1- . تفسير روح البيان 4:254.
2- . في تفسير أبي السعود و روح البيان: ضمنوا لهما.
3- . تفسير أبي السعود 4:275، تفسير روح البيان 4:257.
4- . الداية: المرضعة الأجنبية، و الحاضنة، و القابلة.
5- . الروزنة: الكوّة.
6- . تفسير روح البيان 4:255-258.

أبي فدخل عليّ من حبّه بلاء، ثمّ أحبّتني امرأة صاحبي فدخل عليّ من حبّها بلاء، فلا تحبّاني بارك اللّه فيكما (1).

و في رواية عن الراضا عليه السّلام، «قال: قال السجان ليوسف: [إني]لاحبّك. فقال يوسف: ما أصابني [بلاء]إلاّ من الحبّ، إن كانت خالتي أحبّتني فهي سرقتني، و إن كان أبي أحبّني فقد حسدني إخوتي، و إن كانت امرأة العزيز أحبّتني فحبستني» (2).

و عن القمي رحمه اللّه: إنّ يوسف شكا إلى اللّه في السجن، فقال: يا رب، بما استحققت السجن؟ فأوحى اللّه إليه: أنت اخترت السجن حين قلت: ربّ السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه، هلاّ قلت: العافية أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «البكّاؤن خمسة» إلى أن قال: «و أمّا يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذّى به أهل السجن، فقالوا له: إمّا أن تبكي الليل و تسكت بالنهار، و إمّا أن تبكي بالنهار و تسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما» (2).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «ما بكى أحد بكاء الثلاثة إلى أن قال: و أمّا يوسف فإنّه كان يبكي على أبيه يعقوب و هو في السجن، فتأذّى به أهل السجن، فصالحهم على أن يبكي يوما و يسكت يوما» (3).

قيل: إن زليخا سالت من العزيز بعد أيام أن يخرج يوسف من السجن، فلم يفعل، فأنساهم اللّه أمر يوسف فلم يذكره حتّى مضى عليه خمس سنين، و بقي الفتيان اللذان دخلا معه السجن فيه خمس سنين، ثمّ رأيا الرؤيا قبل انقضاء المدّة بثلاثة أيام (4).

ثمّ قالَ: الساقي الذي هو أَحَدُهُما: و كان اسمه ابروها أو بوقا (5)على ما قيل إِنِّي أَرانِي: في المنام كأنّي في بستان، فإذا أنا بأصل عنبه (6)حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها، و كأنّ كأس الملك بيدي، و إنّي أَعْصِرُ فيه العنب الذي يكون مصيره خَمْراً و سقيت الملك فشربه (7).

و قيل: إن أهل عمان يسمّون العنب بالخمر، فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكّة فنطقوا بها (8).

ص: 395


1- . تفسير روح البيان 4:258. (2 و 3) . تفسير القمي 1:354، تفسير الصافي 3:19.
2- . الخصال:273/15، تفسير الصافي 2:19.
3- . تفسير العياشي 2:344/2102، تفسير الصافي 3:19.
4- . تفسير روح البيان 4:264.
5- . في تفسير روح البيان: يونا.
6- . في تفسير روح البيان: حبلة، و كلاهما بمعنى، فالحبلة: الكرم.
7- . تفسير روح البيان 4:257، تفسير الرازي 18:134.
8- . تفسير الرازي 18:134.

وَ قالَ: الخبّاز و هو اَلْآخَرُ منهما اسمه غالب أو مخلب على ما قيل (1): إِنِّي أَرانِي في المنام كأنّي في مطبخ الملك، و أنا أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي ثلاث سلال ملئن خُبْزاً و أرى أنّه تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ.

قيل: إنّ يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله: إنّي أعبّر الرؤيا و المنامات (2). و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أمر الملك بحبس يوسف في السجن ألهمه اللّه تعالى تأويل الرؤيا، فكان يعبّر لأهل السجن رؤياهم، و إنّ فتيين أدخلا معه في السجن يوم حبسه، فلمّا باتا أصبحا فقالا له، إنّا رأينا» (3)الخبر.

قيل: إنّهما لم يريا شيئا، و كذبا في ذلك (4).

و قيل: إنّ الساقي كان صادقا، و الآخر كاذبا (5).

و عن مجاهد: أنّهما كانا صادقين (6). ثم قالا ليوسف استعلاما و اختبارا: يا يوسف نَبِّئْنا و أخبرنا بتعبير رؤيانا و بِتَأْوِيلِهِ و لمّا رأياه أنه يأوّل رؤيا أهل السجن تأويلا حسنا عللا سؤالهم التعبير عنه بقولهم: إِنّا نَراكَ و نشاهدك مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ في تأويل الرؤيا. و قيل: يعني من المتخلّقين بالأخلاق الكريمة، و الملتزمين بالأعمال الحسنة، و من كان كذلك يهتمّ بإزالة الغمّ عن القلوب، بحسن التعبير (7).

عن الصادق عليه السّلام: «كان يوسّع المجلس، و يقرض (8)للمحتاج، و يعين الضعيف» (9).

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى: «كان يقوم على المريض، و يلتمس للمحتاج، و يوسّع على المحبوس (10).

و قيل: كان يعامل مع أهل السجن بمكارم الأخلاق، و يحسن إليهم غاية الإحسان (11). و قيل: يعني من المحسنين في أمر الدين، و المواظبين على العبادات، و من كان كذلك يوثق بقوله في التعبير (12).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 37

قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37)

ص: 396


1- . تفسير روح البيان 4:257.
2- . تفسير الرازي 18:134، تفسير روح البيان 4:257.
3- . تفسير العياشي 2:342/2097، تفسير الصافي 3:20.
4- . تفسير الرازي 18:134، تفسير أبي السعود 4:276.
5- . مجمع البيان 5:356، تفسير روح البيان 4:257.
6- . مجمع البيان 5:356.
7- . تفسير الرازي 18:135.
8- . في الكافي و تفسير الصافي: يستقرض.
9- . الكافي 2:465/3، تفسير الصافي 3:20.
10- . تفسير القمي 1:344، تفسير الصافي 3:20. (11 و 12) . تفسير الرازي 18:135.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 38

ثمّ أنّه أراد دعوتهما إلى التوحيد الذي هو أولى بهما ممّا سألاه قبل إسعاف حاجتهما على ما هو وظيفة النبوه و طريقة الأنبياء، فبدأ باظهار معجزة دالة على صدقه في الدعوة، و هي الإخبار بالمغيبات (1)، حيث قالَ لا يَأْتِيكُما من الخارج طَعامٌ كان مأكولا أو مشروبا تُرْزَقانِهِ و تطعمانه في مقامكما وقتا من الأوقات إِلاّ نَبَّأْتُكُما و أخبرتكما بِتَأْوِيلِهِ و بجميع خصوصياته من جنسه و مقداره و كيفية طعمه و لونه و خواصه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما و يحضر عندكما. قيل: إنّه كان يخبرهما بما يؤتى إليهما في السجن و يصفه لهما قبل أن يأتيهما، و يقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت و كيت، و كم تأكلان منه، فيجدان كما أخبرهما (2).

وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)و قيل: إنّما قال ذلك لاعلامهما بعدم اختصاص علمه بتعبيير الرؤيا، بل هو عالم بالمغيبات (3).

و قيل: إنّ الملك كان إذا أراد قتل أحد أدخل في طعامه السّمّ و أرسله إليه، و لذا قال ذلك، و أراد من قوله: نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أخبرتكما بأنّه مسموم أم لا. فتعجبوا من ذلك، و قالوا: من أين لك العلم الذي يكون للعرّاف و الكهنة؟ قال: ذلِكُما الاخبار بالتأويل الذي من العلم بالمغيبات مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي بطريق الإلهام و الوحي، و ليس من التكهّن و التنجيم (4).

ثمّ بيّن علّة تفضّل اللّه عليه بهذه الفضيلة بقوله: إِنِّي تَرَكْتُ و رفضت مِلَّةَ قَوْمٍ و دين جمع لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ و لا يوحّدونه، بل يعبدون الأصنام و يشركون به وَ هُمْ مع ذلك بِالْآخِرَةِ و دار الجزاء و الجنّة و النار هُمْ كافِرُونَ و منكرون وَ اِتَّبَعْتُ من بين الملل التي عليها الناس مِلَّةَ آبائِي الكرام، أعني إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ و فيه تعريف نفسه بشرف النسب الموجب لازدياد الرغبة في قبول قوله و الاقتداء به.

ثمّ بالغ في إظهار بطلان الشرك و التبرئ منه بقوله: ما كانَ يصحّ لَنا معاشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللّهِ المتفرّد بالالوهية مِنْ شَيْءٍ من الأشياء ملك أو جنّ أو إنس فضلا عن الجماد الذي لا روح له و لا شعور ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اَللّهِ و رحمته عَلَيْنا حيث أوحاه إلينا لقوة نفوسنا، و وفور عقلنا، و كمال بصيرتنا وَ عَلَى سائر اَلنّاسِ ببعثنا إليهم لهدايتهم إليه وَ لكِنَّ

ص: 397


1- . تفسير روح البيان 4:259.
2- . تفسير روح البيان 4:260.
3- . تفسير الرازي 18:136.
4- . في النسخة: و التنجم.

أَكْثَرَ اَلنّاسِ المبعوث إليهم الرسل لا يَشْكُرُونَ اللّه على هذه الرحمة العظيمة و الفضل الجسيم، فلا يقدمون بقبوله و الالتزام به، بل يعرضون عنه و يشركون به الأصنام، و يعبدون الأوثان.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 39

ثمّ أخذ عليه السّلام في الاستدلال على صحّة التوحيد و بطلان الشرك بعد مخاطبتهما بما يوجب تهييج المودة و جلب التوجّه بقوله: يا صاحِبَيِ اَلسِّجْنِ و مشاركي في الضّيق و الضّنك، أو يا ملازمي السجن أَ أَرْبابٌ و آلهة كثيرة مُتَفَرِّقُونَ في أطراف العالم على ما تعتقدون، أو متفاوتون في الجنس كالذهب و الفضّة و الخشب و الحجارة، و في المقدار كالطول و العرض و القصر و الصغر و الكبر خَيْرٌ لنظام العالم و تربية الموجودات على الوجه الأتمّ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ لجميع الأشياء بحيث يكون كلّ شيء تحت قدرته، و لا يمنعه شيء عن إنفاذ إرادته، فمن البديهي أنّ الواحد القادر الذي يتمّ به النظام خير من الكثير العاجز الذي يختلّ به النظام.

يا صاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (39)و قيل: إنّ المراد أنّ الواحد القادر الذي لا يقهره شيء و هو يقهر كلّ شيء خير، أم الأصنام المتفرقة بالشكل، المصنوعة بيد الغير، المقهورة تحت قدرة الخلق (1)؟ أو المراد: أن الإله الواحد الذي نعلم أنّه المنعم علينا و المستحقّ لعبادتنا خير، أم الآلهة الكثيرة التي لا نعلم أيّها خالقنا و رازقنا و المنعم علينا حتى نعبده.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 40

ثمّ استدلّ ثانيا مخاطبا لهما، و لمن كان على دينهما بقوله: ما تَعْبُدُونَ إذ تعبدون مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه شيئا إِلاّ أَسْماءً صرفه لا مسمّيات لها، و لا واقعية لمعانيها، و لا وجود لمفاهيمها في الخارج، و إنما سَمَّيْتُمُوها و جعلتموها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ أسماء لهذه الأجسام بمحض جهلكم و ضلالكم، و كانت تسميتها بالآلهة و عبادتها من قبل أنفسكم ما أَنْزَلَ اَللّهُ بِها شيئا مِنْ سُلْطانٍ و برهان يوجب جوازها إِنِ اَلْحُكْمُ و ما الأمر في جواز العبادة المتفرّعة على التسمية إِلاّ لِلّهِ وحده لأنّه المستحقّ لها بالذات، لكونه الواجب الموجد لجميع الأشياء، المالك لأمرها.

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اَللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)

ص: 398


1- . تفسير الرازي 18:140.

ثمّ كأنّه قيل: ماذا أمره في العبادة؟ فقال: أَمَرَ أيها الناس بتوسط الأنبياء أَلاّ تَعْبُدُوا شيئا إِلاّ إِيّاهُ و أن لا تضرّعوا و لا تخضعوا إلاّ له ذلِكَ التوحيد و التخصيص للعبادة به، هو اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ و السنّة المرضية الثابتة من أول الخلق إلى آخر الأبد وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيتبعون بجهلهم هوى أنفسهم.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 41

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد دعوتهما إلى التوحيد و إقامة البرهان عليه، عبّر رؤياهما بقوله: يا صاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمّا الساقي الذي هو أَحَدُكُما فيتخلّص من السجن فَيَسْقِي عن قريب رَبَّهُ و مالكه الذي هو الملك خَمْراً كما كان يسقيه من قبل.

يا صاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41)روي أنّه قال للساقي: ما أحسن ما رأيت! أمّا الكرمة فهو الملك، و أمّا حسنها فهو حسن حالك عنده، و أمّا الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام تمضي عليك في السجن، ثمّ يرسل إليك الملك عند انقضائها، فيردّك إلى عملك، فتصير كما كنت بل أحسن (1).

وَ أَمَّا الخبّاز الذي هو اَلْآخَرُ منكما فيخرج من السجن فَيُصْلَبُ و يبقى مصلوبا فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ مخّ رَأْسِهِ.

روي أنّه قال للخبّاز: بئسما رأيت، أمّا خروجك من المطبخ فخروجك من عملك، و أما السلال الثلاث فثلاثة أيام ثمرّ عليك، ثمّ يوجّه إليك الملك عند انقضائهنّ فيصلبك، فتأكل الطير من رأسك (2).

عن القمي رحمه اللّه: و لم يكن رأى ذلك و كذب، فقال له يوسف: أنت يقتلك الملك و يصلبك و تأكل الطير من دماغك، فجحد الرجل، و قال: إني لم أر ذلك، فقال يوسف عليه السّلام: قُضِيَ و اتمّ و احكم اَلْأَمْرُ (1)و التأويل اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ و تسألان عنه، فكان كما عبّر يوسف حيث أخرج الملك صاحب الشراب فردّه إلى مكانه و خلع عليه و أحسن إليه لمّا تبيّن عنده حاله في الأمانة، و أخرج الخبّاز و نزع ثيابه و جلده بالسياط حتى مات لمّا ظهر عنده خيانته، و صلبه على قارعة الطريق، و أقبلت طيور سود فأكلت من رأسه، و هو أول من استعمل الصلب، ثمّ استعمله فرعون موسى، أقول: بناء على أنه لم يكن هو، بل كان من أجداده.

ص: 399


1- . تفسير القمي 1:344، تفسير الصافي 3:21.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 42

وَ قالَ يوسف لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا و علم بحصول مكانه له عند الملك، و قيل: إن المراد بمن ظنّ هو الساقي اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ و سيدك، و قل له: غلام محبوس في السجن قد طال حبسه لعلّه يرحمني و يخلّصني منه (1)، فلمّا نجا الساقي و تقرّب إلى الملك اشتغل بجمع الأموال و انغمر في اللذائذ و الحظوظ فَأَنْساهُ اَلشَّيْطانُ بصرف قلبه إلى المهام الدنيوية ذِكْرَ يوسف عند رَبِّهِ و سيده، أو أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه و خالقه حتى توسّل بغيره في خلاصه فَلَبِثَ و أقام فِي اَلسِّجْنِ عقوبة على توسّله بغير اللّه بِضْعَ سِنِينَ و سبعة أعوام من يوم التوسّل.

وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ اَلشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)عن الصادق عليه السّلام: «لم يفرغ (2)يوسف في حاله إلى اللّه فيدعوه، فلذلك قال اللّه: فَأَنْساهُ اَلشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» (3).

و في رواية قال: «سبع سنين» (4).

قال: «فأوحى اللّه إلى يوسف في ساعته تلك: يا يوسف، من أراك الرؤيا التي رأيتها؟ فقال: أنت يا ربّي. قال: فمن حبّبك إلى أبيك؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن وجّه السيارة إليك؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن علمك الدعاء الذي دعوت به حتى جعل لك من الجبّ فرجا؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن جعل لك من كيد المرأة مخرجا؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن أنطق لسان الصبي بعذرك؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن صرف كيد امرأة العزيز و النسوة عنك؟ قال: أنت يا ربي قال: فمن ألهمك تأويل الرؤيا؟ قال: أنت يا ربي. قال: فكيف استعنت (5)بغيرى و لم تستعن (6)بي؟ و تسألني أن اخرجك من السجن و استعنت (7)و أمّلت عبدا من عبادي ليذكرك إلى مخلوق من خلقي في قبضتي، و لم تفزع إليّ، البث في السجن بذنبك بضع سنين» (8).

و في رواية: «ذكر عند كلّ وحي (9)فصاح و وضع خده على الأرض، ثمّ قال: أنت يا ربي» (10).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «رحم اللّه أخي يوسف، لو لم يقل اذكرني عند ربك، لما لبث في السجن سبعا بعد

ص: 400


1- . تفسير روح البيان 4:263.
2- . في تفسير العياشي و تفسير الصافي: يفزع.
3- . تفسير العياشي 2:342/2097، تفسير الصافي 3:22.
4- . تفسير العياشي 2:345/2104، تفسير الصافي 3:22.
5- . في تفسير العياشي: استغثت.
6- . في تفسير العياشي: تستغث.
7- . في تفسير العياشي: و استغثت.
8- . تفسير العياشي 2:343/2097، تفسير الصافي 3:22.
9- . في تفسير الصافي: و في رواية اخرى عنه عليه السّلام اقتصر على بعضها و زاد في كل مرّة.
10- . تفسير العياشي 2:345/2103، تفسير الصافي 3:22.

الخمس» (1).

قيل: لبث يوسف في السجن اثنتي عشرة سنة عدد حروف اذكرني عند ربك (2).

و قيل: إن في هذا العدد كمال القوة و التاثير، و لذا كان الأئمة اثني عشر، و البروج اثني عشر، و الملائكة الموكّلون بالبروج اثني عشر (3).

أقول: ببالي أنه روي أنّ القائم يخرج في اولى القوة (1)، قيل: ما أولو القوة؟ قال: اثني عشر ألفا (2). و قيل: هو عدد لا إله إلاّ اللّه، و عدد محمد رسول اللّه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ يوسف قال: أسألك بحقّ آبائي [و أجدادي]عليك إلاّ فرّجت عنّي، فأوحى اللّه إليه ما يكون (4)أي حق لآبائك و أجدادك عليّ، إن كان أبوك آدم فانّي خلقته بيدي، و نفخت فيه من روحي، و أسكنته جنّتي، و أمرته أن لا يقرب شجرة منها، فعصاني و سألني فتبت عليه. و إن كان أبوك نوح فإني انتجبته من بين خلقي، و جعلته رسولا اليهم، فلمّا عصوا دعاني فاستجبت له و أغرقتهم و أنجيته و من معه في الفلك. و إن كان أبوك إبراهيم، فإنّي اتخذته خليلا، و أنجيته من النار و جعلتها عليه بردا و سلاما، و إن كان [أبوك]يعقوب فإنّي و هبت له اثني عشر ولدا، فغيّبت عنه واحدا، فما زال يبكي حتى ذهب بصره، و قعد في الطريق يشكوني إلى خلقي، فأي حقّ لآبائك [و أجدادك]عليّ.

قال: فقال له جبرئيل: قل يا يوسف أسألك بمنّك العظيم، و إحسانك (5)القديم، فقالها فرأى الملك الرؤيا» (6).

و عنه عليه السّلام: «لمّا انقضت المدّة و أذن اللّه له في دعاء الفرج، وضع خدّه على الأرض، ثمّ قال: اللهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فانّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ففرج اللّه عنه» (7).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 43

وَ قالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)

ص: 401


1- . تفسير القمي 1:336، تفسير العياشي 2:319/2042.
2- . لم نعثر عليه.
3- . تفسير روح البيان 4:264.
4- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: يا يوسف و.
5- . في تفسير القمي: و سلطانك.
6- . تفسير القمي 1:353، تفسير الصافي 3:22.
7- . تفسير القمي 1:345، تفسير الصافي 3:23.

وَ قالَ اَلْمَلِكُ بعد ما رأى رؤيا اضطرب منها قلبه و خاف من رؤيته غلبة الضعيف على القوي ذهاب ملكه و سلطانه، و أحضر العلماء و الحكماء و الكهنة و المعبّرين و السّحرة و المنجّمين اجتهادا لتحصيل العلم بتعبيرها إِنِّي كنت أَرى البارحة-و هي ليلة الجمعة على ما قيل (1)-في المنام سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ خرجن عن النهر اليابس على قول-أو من البحر على آخر (2)-ثمّ أرى سبع بقرات عجاف مهازيل خرجن من المكان الذي خرجت السّمان، ثم رأيت أنّه يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ مهازيل و يبتلعهن بحيث لم تبق من البقرات السّمان شيء وَ أرى أيضا سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ رطاب قد انعقدت حبّاتها، وَ سبع أُخَرَ يابِساتٍ فالتوت على الخضر حتى غلبن عليها على ما قيل (3).

ثمّ أمر الحضّار بتعبير رؤياه و قال: يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ و الجماعة الحاضرة من الأشراف أَفْتُونِي و أخبروني ممّا تتفرّسون و تعتقدون فِي تعبير رُءْيايَ هذه إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ و على تأويلها تقدرون.

ثمّ لمّا أراد اللّه خلاص يوسف من السجن، و كانت الرؤيا من توجّه النفس و تصاعدها إلى عالم الملكوت و المثال بعد قلّة اشتغالها بتدبير البدن، فكلّما رأت شيئا من المعاني الحقيقية في تلك العالم، فإما أن لا تتصرف القوة الخيالية فيه، فتقع عيناه في الخارج، و لا تحتاج إلى التعبير، و إما أن تتصرف فيه القوة الخيالية بتصوير المعاني العقلية بصور مناسبة لها، كتصوير العلم بصورة اللبن، و الزوجة بصورة النعل، و المال بصورة القاذورات و أمثال ذلك، فهي محتاجة إلى التعبير، و هو الانتقال من الصور إلى ما يناسبها من المعاني، و كلّما تلقى النفس الشياطين حين صعودها فيرونها امورا باطلة مشوّشة مختلطة، أو تطالع الصور الخيالية المرتكزة في الخاطر، فهي الرؤيا الكاذبة، و تسمّى بالأضغاث و الأحلام.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 44 الی 48

ص: 402


1- . تفسير روح البيان 4:265.
2- . تفسير روح البيان 4:265.
3- . تفسير روح البيان 4:265.

و لمّا ذكر من تقدير خلاص يوسف، عجز الحكماء و العلماء و الكهنة عن تعبير رؤيا الملك و قالُوا أيها الملك رؤياك هذه أَضْغاثُ أَحْلامٍ و تخاليط الرّؤى و أباطيلها وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلامِ و تعبير أباطيل الرّؤى التي هي من الشيطان أو من قوة الخيال بِعالِمِينَ و إنّما الذي نعلم هو تعبير الرؤيا الصادقة الحاصلة من رؤية المعاني الحقيقية في عالم الملكوت.

وَ إذن قالَ الساقي اَلَّذِي كان أحد الفتيين و نَجا مِنْهُما من السجن وَ اِدَّكَرَ و تذكّر ما أوصاه به يوسف بعد تأويل رؤياه في السجن، أو حين خروجه منه و مفارقته يوسف بَعْدَ أُمَّةٍ و أوقات كثيرة من نجاته منه: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ و اخبركم أيها الملأ الحاضرون العاجزون عن تعبير رؤيا الملك بِتَأْوِيلِهِ و تعبيره.

قيل: إنّه لمّا رأى الملك متفكّرا، تذكّر حال يوسف و تأويله رؤياه في السجن، و ما وصاه به، فجلس بين يدي الملك على ركبتيه، و خاطب الملك بقوله: أنا انبئكم، و إنّما أتى في خطاب الملك بضمير الجمع للتعظيم، فان أردتم تعبير الرؤيا فَأَرْسِلُونِ و ابعثوني إلى السجن، فان فيه رجلا حكيما عارفا بتعبير الرؤيا (1)، فأرسله الملك إلى يوسف، فلمّا جاءه و اعتذر إليه من نسيانه قال: يا يُوسُفُ ثمّ عظّمه بقوله: أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ المبالغ في الصدق في تأويل الرؤيا أَفْتِنا و أخبرنا برأيك فِي تأويل رؤيا سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ تأويل رؤيا سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ و علّمني تعبيره لَعَلِّي أَرْجِعُ من عندك إِلَى اَلنّاسِ و أهالي مصر و اخبرهم ما اوّلت و عبّرت لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تعبيرها بتعليمك، أو يعلمون مكانك و فضلك، و كان من صبر يوسف و متانته أنّه لم يعلّق إسعاف حاجته بإخراجه من السجن، بل قالَ من غير ريث و توان قل لهم، أيها النّاس تَزْرَعُونَ في الأرض من الغلاّت و الحبوب سَبْعَ سِنِينَ حال كونكم دَأَباً و مستمرين على الزراعة بجد و اجتهاد، أو زراعة متوالية على عادتكم فَما حَصَدْتُمْ منها فَذَرُوهُ و اتركوه فِي سُنْبُلِهِ و لا تدوسوه حتّى لا يفسد و لا يقع فيه السّوس إِلاّ قدرا قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ منه في تلك السنة، هذا تعبير سبع بقرات سمان و سبع سنبلات خضر ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ السبع سنين الرّخص سَبْعٌ اخر من السنين شِدادٌ و صعاب على الناس لأجل الجدب و الجوع و الغلاء بحيث أنّ تلك السنين الشداد يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ و ادّخرتم لَهُنَّ من الحبوب و الغلاّت المتروكة في سنابلها إِلاّ مقدارا قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ و تحرزون للبذر،

ص: 403


1- . تفسير روح البيان 4:268.

و هذه السبع الشداد تأويل سبع بقرات عجاف و سبع سنبلات يابسات، و إنّما أسند الأكل إلى السنين مع أنه فعل أهل السنين للتطبيق بين المعبّر و المعبّر به.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 49

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المذكور من السنين الشداد عامٌ فِيهِ يُغاثُ اَلنّاسُ و يمطرون أو ينقذون من الشدّة وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ما من شأنه أن يعصر و يؤخذ ماؤه و دهنه كالعنب و الرّمان و الزيتون و أمثال ذلك، و هذا التعبير كناية عن وفور النّعم، لأنه إذا كان الناس في ضيق من المأكول يأكلون جميع ذلك و لا يعصرون شيئا ليفسد ما سوى مائه.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ اَلنّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49)و قيل: يعني يحلبون الضّروع (1).

و قيل: أي ينجون (2)من الشدّة، أو يمطرون (3)، و هذان المعنيان على قراءة يَعْصِرُونَ مبنيا للمفعول، كما نسبها العياشي إلى الصادق عليه السّلام (4).

و روي عنه عليه السّلام أنه قال «أما سمعت قول اللّه تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً» (5).

و القمي رحمه اللّه عنه عليه السّلام: «قرأ رجل على أمير المؤمنين عليه السّلام ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ اَلنّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ -يعني على البناء للفاعل-فقال: ويحك و أيّ شيء يَعْصِرُونَ يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين، كيف أقرؤها؟ فقال: إنما أنزلت عامٌ فِيهِ يُغاثُ اَلنّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ أي يمطرون بعد [سنين]المجاعة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً» (6).

و إنّما كرّر سبحانه لفظ فِيهِ إمّا للاشعار بكون الإغاثة و العصر متغايرين، أحدهما فعل اللّه، و الآخر فعل الناس، و إما لأنّ المقام مقام تعداد منافع ذلك العام، و لذا قدّم في الموضعين.

و يحتمل أن يكون التقديم لبيان الحصر، كأنه فرض أن الإغاثة و العصر في سائر السنوات بالنسبة إلى تلك السنة كالمعدوم، أو لمراعاة الفواصل.

ص: 404


1- . تفسير الرازي 18:151، تفسير البيضاوي 1:486.
2- . جوامع الجامع:218، تفسير البيضاوي 1:486، تفسير أبي السعود 4:283.
3- . جوامع الجامع:218، تفسير الرازي 18:151، تفسير أبي السعود 4:283.
4- . تفسير العياشي 2:347/2109، تفسير الصافي 3:24.
5- . تفسير الصافي 3:25، و الآية من سورة النبأ:78/14.
6- . تفسير القمي 1:346، تفسير الصافي 3:25.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 50

ثمّ رجع الرسول إلى الملك، و حكى له التعبير الذي بيّنه يوسف للرسول في ضمن الدستور الذي أمر به، فلمّا سمع الملك التعبير سكن قلبه و فرح وَ قالَ اَلْمَلِكُ لخدمه بعد اطّلاعه على فضيلة يوسف في العلم: اِئْتُونِي بِهِ و أحضروه عندي لأسمع التعبير منه و اكرمه فَلَمّا جاءَهُ اَلرَّسُولُ من جانب الملك ليخرجه من السجن و يذهب به إلى الملك أبى يوسف من إجابته حتّى تظهر طهارة ذيله ممّا اتهموه، و مظلوميته في الحبس و قالَ للرسول: اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ و سيدك فَسْئَلْهُ أن يتفحّص من أنه ما بالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ في مجلس ضيافة زليخا بالسكاكين، و كيف كان حالهن و حالي؟ حتّى يتحقّق عنده واقع الأمر، و أنّي بريء من التّهمة و الخيانة، ثمّ استشهد بعلم اللّه بمكر النسوة و اتهامهنّ له بقوله: إِنَّ رَبِّي و هو اللّه وحده لا الملك و لا العزيز و لا غيرهما، بمكر النساء و بِكَيْدِهِنَّ في حقّي و اتهامهن إياي عَلِيمٌ.

وَ قالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ فَلَمّا جاءَهُ اَلرَّسُولُ قالَ اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)قيل: فيما قاله يوسف للرسول لطائف، منها أنه أمر الرسول أن يسأل الملك عن حال النسوة، و لم يقل قل له تفحّص عن ذلك، لئلاّ يكون في كلامه أمر للملك حتّى يلزم خلاف الأدب (1). و منها: أنه لم يذكر اسم زليخا تأدّبا، و مراعاة لحقّها (2)، و احترازا من أن تبالغ في المكر به مع كونها قادرة على ما لم تقدر عليه غيرها. و منها: أنه لم يشك من النسوة مع أنّهنّ على ما قيل دعينه إلى أنفسهن، و بالغن في ترغيبه إلى موافقة زليخا، بل قيل: إنّهن اتّهمنه بالفحش عند الملك (3).

روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لقد عجبت من يوسف و كرمه و صبره، و اللّه يغفر له، حين سئل عن البقرات السّمان و العجاف، و لو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت عليهم أن يخرجوني من السجن، و لقد عجبت [منه]حين أتاه الرسول فقال: اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ الآية، و لو كنت مكانه و لبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الاجابة و بادرتهم إلى الباب و ما ابتغيت العذر، إنّه كان حليما ذا أناة» (4).

قيل: إن هذا الكلام من الرسول على سبيل التواضع لا إظهار أنه كان مستعجلا في الامور غير متأن فيها (5)، و إنّما لم يسرع يوسف في الخروج ليزول عن قلب الملك ما كان متّهما به و لا ينظر إليه بعين

ص: 405


1- . تفسير الرازي 18:152.
2- . تفسير روح البيان 4:271.
3- . تفسير الرازي 18:152.
4- . تفسير الرازي 18:151.
5- . تفسير روح البيان 4:272.

الصّغار و الذّل (1).

عن العياشي عنهما عليهما السّلام: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عن رؤياه ما حدّثته حتّى اشترط عليه أن يخرجني من السجن، و تعجبت (2)لصبره عن شأن امرأة الملك حتّى أظهر اللّه عذره» (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 51

ثمّ قيل: إنه لمّا رجع الرسول إلى الملك و أخبره بالتماس يوسف، أمر باحضار النسوة (4). و قالَ لهن ما خَطْبُكُنَّ و أي شأن شأنكنّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قيل: إنّ الخطاب في الواقع و الظاهر للنسوة؛ لأنّ كلّ واحدة منهنّ كنّ يدعين يوسف إلى نفسه أو كلّ يراودنّ (5)يوسف ليهيجنه لإجابة زليخا (6).

قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ (51)و قيل: إنّ الخطاب و إن كان في الظاهر إليهنّ إلاّ أنه أريد به واحدة منهنّ (7)و هي زليخا (8)، و على أي تقدير قُلْنَ جميعهنّ في جواب الملك: حاشَ لِلّهِ و ننزّهه عن العجز من خلق هذا البشر العفيف ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ و ذنب و خيانة، فلمّا شهدن (9)كلّهن ببراءة يوسف و تنزّهه قالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ و كانت حاضرة في المجلس بعد ما رأت رعايه يوسف حقّها بتركه ذكر اسمها مع النسوة مع أنّها كانت أكثر إساءة إليه، و أنّه لا ينفع الكتمان: اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ و انكشفت حقيقية الواقع أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ و طلبت منه القرب وَ إِنَّهُ -في قوله: هي راودتني-و اللّه لَمِنَ اَلصّادِقِينَ.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 52

قيل: إن الملك أرسل إلى يوسف بأن النسوة اعترفن بذنبهن و براءتك، فاحضر حتى اعاقبهن بحضورك بما تريد. قال يوسف للرسول في جواب الملك: ذلِكَ الالتماس الذي صدر منّي لم

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ اَلْخائِنِينَ (52)

ص: 406


1- . تفسير روح البيان 4:272.
2- . في تفسير العياشي: و عجبت.
3- . تفسير العياشي 2:346/2106، تفسير الصافي 3:25.
4- . تفسير الرازي 18:153.
5- . في النسخة: يراودون.
6- . تفسير الرازي 18:153.
7- . في النسخة: منهم.
8- . تفسير الرازي 18:153.
9- . في النسخة: شهدت.

يكن لأن اعاقب النسوة بما صدر منهن (1)بل لِيَعْلَمَ العزيز المنعم عليّ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في عرضه بِالْغَيْبِ و في الخطأ منه، أو لم أخن الملك، فإنّ الخيانة بالوزير خيانة بالملك وَ ليعلم أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا ينفذ كَيْدَ اَلْخائِنِينَ و لا يجعله مؤثّرا في حصول المقصود، بل يبطله كما أبطل مكائد زليخا حتّى أقرّت بأنّها خانت زوجها.

و قيل: إنه قال هذا الكلام في محضر الملك كما روي عن ابن عباس، و إنما ذكره على لفظة الغيبة تعظيما للملك عن الخطاب (2).

و قيل: إنّ الآيه من تتمة كلام امرأة العزيز، و المعنى أنّي و إن بالغت في إثبات الذنب على يوسف في حضوره إلاّ أنّ ذلك الاعتراف منّي بذنبي ليعلم يوسف أنّي لم أخنه و لم أقل في حقّه خلاف الحقّ و هو في السجن، ثمّ بالغت في تأكيد الحقّ بقولها: وَ أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ اَلْخائِنِينَ (3)و لذا افتضحت أنا لأنّي كنت خائنة، و إنه طهّر يوسف من الذنب و أخرجه من السجن، لأنّه كان بريئا.

أقول: هذا في غاية البعد.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 53

ثمّ قال يوسف تواضعا للّه و هضما للنفس و تحديثا بانعام اللّه عليه بالتوفيق و العصمة: وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي و لا انزّهها عن السوء و لا ازكيها من الخطأ و الذنب من حيث هي و مقتضى طبعها إِنَّ اَلنَّفْسَ بجنسها و بذاتها و اللّه لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ و باعثه إلى القبايح و الشهوات لميلها إليها و التذاذها بها إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي من النفوس بعصمتها من الوقوع في الهلكات و ارتكاب المنكرات، و هي نفوس الأنبياء و الأولياء المعصومين، فانّها لا تميل إليها، و لا تأمر بها.

وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)و قيل: إنّ كلمة ما بمعنى الزمان، و المعنى إلاّ زمان رحمة ربي (2)و عصمته لها بتقويته القوة العاقلة و إعلامها بحقائق الأشياء و الأعمال.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى و لكن رحمة ربي تصرفها عن السوء (3).

إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ و ستّار لخطايا النفوس رَحِيمٌ لها بعصمتها من الزلل.

قيل: هذه الآية أيضا بقية كلام زليخا (4)، و المعنى و ما ابرئ نفسي من الخيانة بزوجي و الإساءة

ص: 407


1- . تفسير روح البيان 4:273. (2 و 3) . تفسير الرازي 18:154.
2- . جوامع الجامع:219.
3- . تفسير أبي السعود 4:286.
4- . جوامع الجامع:219.

بيوسف، و المقصود اعتذارها ممّا صدر منها، أو تأكيد تصديقها إياه.

ثمّ أنّه روي أنّ جبرئيل أتى يوسف في السجن و قال: قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا و مخرجا، و ارزقني من حيث احتسب و من حيث لا احتسب (1)، فقبل اللّه دعاءه، فعظم يوسف في عين الملك علما من حيث تعبيره الرؤيا، و صبرا و ثباتا من حيث عدم مبادرته إلى الخروج من السجن، و أدبا من حيث عدم أمره للملك بالتفتيش للحقّ، و مراعاة للحقوق من حيث عدم ذكره اسم زليخا مع علم الملك بأنّها أكثر النسوه إساءة إليه، و عفّة من حيث ظهور براءته من التهمة مع وفور أسباب ارتكابه للزنا بمثل زليخا، و نسيا لذكر الساقي نسبة له، فلذا اشتاق إلى لقائه غاية الاشتياق.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 54

وَ قالَ اَلْمَلِكُ لخدمه: اذهبوا إلى يوسف و اِئْتُونِي بِهِ و احضروه لديّ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي و أخصّه بقربي.

وَ قالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)روي أنّ الرسول-و قيل: كان هو الساقي-قال ليوسف: قم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة و الهيئة الحسنة (2).

و قيل: إنّ الملك أرسل سبعين حاجبا على سبعين مركبا، و معهم تاج و ثياب فاخرة إلى السجن، فلمّا أتوه وضعوا التاج على رأسه، و ألبسوه الثياب النظيفة، ثمّ قالوا: أجب الملك. فقام و ودّع أهل السجن و دعا لهم، و قال: اللهم اعطف قلوب الصالحين عليهم، و لا تستر الأخبار عنهم، فخرج من السجن و كتب على بابه: هذه منازل البلوى، و قبور الأحياء، و شماتة الأعداء، و تجربة الأصدقاء. ثمّ اغتسل و تنظّف و لبس ثيابا جديدة، و ركب مركبا فارها مكلّلا بالدّر و الجواهر، فلمّا قرب من الملك استقبله و أكرمه غاية الإكرام (3).

روي أنّه لمّا دخل على الملك قال: اللهمّ إنّي سألك بخيرك من خيره، و أعوذ بعزّتك و قوّتك من شرّه. ثمّ سلّم على الملك و دعا له بالعبرانية، و كان يوسف يتكلّم باثنين و سبعين لسانا، فلم يفهمها الملك فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب. ثمّ كلّمه بالعربيّة فلم يفهمها الملك، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمّي إسماعيل، و كان الملك يتكلّم بسبعين لسانا، فكلّمه بها

ص: 408


1- . تفسير الرازي 18:158.
2- . تفسير الرازي 18:159، تفسير روح البيان 4:277.
3- . تفسير روح البيان 4:277.

فأجابه بجميعها فتعجّب منه (1).

قيل: لمّا دخل على الملك كان ابن ثلاثين سنة، فلمّا رآه الملك شابا قال للساقي: هذا الذي علم تأويل رؤياي مع أنّ السحرة و الكهنة ما علموها؟ قال: نعم. فأقبل على يوسف و قال: إنّي أحبّ أن أسمع التعبير منك فَلَمّا أجابه و كَلَّمَهُ و عبّر عنده الرؤيا شفاها، و شهد قلبه بصحّة تعبيره قالَ ليوسف: إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ (2)و ذو منزلة رفيعة أَمِينٌ على كلّ شيء في مملكتي بحيث لا تتّهم.

قيل: لمّا عبّر يوسف رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيّها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا، و تأخذ من الناس خمس زروعهم، و تذر الجميع في سنبله، و تبني الخزائن، و تجمع فيها الطعام، فإذا جاءت السنين المجدبة تبيع الغلاّت لأهل مصر، و تحفظهم من المخمصة، و يحصل لك مال عظيم. فقال الملك: من لي لهذا الشّغل (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 55

قالَ يوسف: اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ هذه اَلْأَرْضِ و تلك المملكة، و ولّني أمرها من الايراد و الحفظ و الصرف، و إنّما طلب الولاية لكونها وسيلة إلى هداية الناس، و نفوذ قوله، و قبول دعوته إلى الحقّ، و نشر الأحكام الالهية، و وضع الحقوق مواضعها، و بسط العدل، و إعانة الخلق و حفظهم من التلف في السنين المجدبة شفقة عليهم.

قالَ اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)عن ابن عباس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية، أنّه قال: «رحم اللّه أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، لكنّه لمّا قال ذلك أخّره عنه سنة» (4).

ثمّ وصف نفسه بما يوجب أهليته لذلك بقوله: إِنِّي حَفِيظٌ لخزائنك من التلف و الضّياع و الصرف في غير المصرف عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها.

عن الرضا عليه السّلام: «حفيظ لما تحت يدي، عليم بكلّ لسان» (5).

جواز تزكية المرء

نفسه عند الاضطرار

عن الصادق عليه السّلام: «يجوز أن يزكّي الرجل نفسه إذا اضطرّ إليه، أما سمعت قول يوسف: اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ و قول العبد الصالح:

ص: 409


1- . تفسير روح البيان 4:277.
2- . تفسير الرازي 18:159.
3- . تفسير الرازي 18:160، تفسير روح البيان 4:278.
4- . تفسير الرازي 18:160.
5- . تفسير العياشي 2:348/2112، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:139/1، تفسير الصافي 3:37.

وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ» (1) .

عن ابن عباس: لمّا انصرمت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة، دعاه الملك فتوجّه و ختمه بخاتمه، و ردّاه بسيفه، و وضع له سريرا من ذهب مكلّلا بالدّرّ و الياقوت طوله ثلاثون ذراعا و عرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا، فقال يوسف: أمّا السرير فأشدّ به ملكك، و أمّا الخاتم فأدّبر به أمرك، و أمّا التاج فليس من لباسي و لباس آبائي، فقال الملك: فقد وضعته إجلالا لك، و إقرارا بفضلك. فجلس عليه و أتت له الملوك (2).

و روي أنّ الملك لمّا عيّن يوسف لأمر الخزائن توفّى قطفير عزيز مصر في تلك الليالي (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 56

ثمّ لمّا كانت رفعة مكان يوسف مستندة في الظاهر إلى الملك، نبّه اللّه على أنّها كانت بقدرته و إنعامه عليه بقوله: وَ كَذلِكَ التمكين العظيم، و مثل هذا الإنعام الجسيم الذي على يوسف من تقريبنا إياه من الملك، و تحبيبنا إياه في قلبه مَكَّنّا لِيُوسُفَ و أقدرناه على إنفاذ ما أراد فِي تلك اَلْأَرْضِ و المملكة، و هي أربعين فرسخا في أربعين على ما قيل (4)، فهو يَتَبَوَّأُ مِنْها و ينزل من بلادها حَيْثُ يَشاءُ و أيّ مكان يريد، لا يدافعه مدافع (5)، و لا ينازعه منازع، رحمة منّا عليه، و جزاء منّا على صبره على البلاء و تسليمه للقضاء و قيامه بوظائف العبودية، فإنّا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا و فضلنا مَنْ نَشاءُ أن نرحمه و نتفضّل عليه على حسب استعداده و قابليته و عمله وَ لا نُضِيعُ و لا نبطل أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ و جزاءهم على إحسانهم من الصبر و القيام بوظائف العبودية.

وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ (56)

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 57

ثمّ بيّن سبحانه أفضلية الأجر الاخروي على الدنيوي بقوله: وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ و الثواب الذي نعطيهم فيها خَيْرٌ و أفضل بمراتب من أجر الدنيا و ثوابه فيها، و لكن إنما يكون أجر الآخرة لِلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيته وَ كانُوا يَتَّقُونَ السيئات و القبائح، و هم الأنبياء و أتباعهم.

وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (57)قيل: إنّ يوسف أمر أهل كلّ قرية و بلدة بالاشتغال بالزّرع و ترك غيره، فلم يدعوا مكانا إلاّ زرعوه

ص: 410


1- . تفسير العياشي 2:348/2113، تفسير الصافي 3:37، و الآية من سورة الأعراف:7/68.
2- . تفسير روح البيان 4:283.
3- . تفسير روح البيان 4:279.
4- . تفسير أبي السعود 4:287، تفسير روح البيان 4:283.
5- . في النسخة: دافع.

حتى بطون الأودية و رؤوس الجبال مدة سبع سنين، و هو يأمرهم أن يدعوه في سنبله، و كان ياخذ منهم الخمس و يجعله في الأهراء (1)، و كذا ما زرعه السلطان و أعوانه و خدمه، ثمّ أقبلت السنون المجدبة، فحبس اللّه عنهم القطر من السماء، و النبات من الأرض حتى لم ينبت لهم في جميع أراضي مصر حبّة واحدة (2)من المأكولات.

قيل: إن زليخا بعد وفاة قطفير زوجها انقطعت عن كلّ شيء و سكنت خرابة سنين كثيرة، و كانت لها جواهر كثيرة [جمعت في زمان زوجها]فاذا سمعت من أحد خبر يوسف أو اسمه، بذلت منها حبا له حتّى نفدت، و كانت تبكي شوقا إلى يوسف.

ثمّ لمّا اشتدّ حالها لشدائد الخلوة في الخرابة اتخذت بيتا من القصب على الطريق التي هي ممرّ يوسف، و كان يوسف يركب في بعض الأحيان و له فرس لا يصهل إلاّ وقت ركوبه، و يسمع صهيله على ميلين، فيعلم الناس بركوبه، فتقف زليخا على قارعة الطريق، فاذا مرّ بها يوسف تناديه بأعلى صوتها، فلا يسمع لكثرة اختلاط أصوات الناس، فأقبلت يوما على صنمها الذي كانت تعبده، و قالت له: تبا لك و لمن يسجد لك، أما ترحم كبري و عماي و فقري و ضعفي، فأنا اليوم كافرة بك و مؤمنة بربّ يوسف، و صارت تذكر اللّه صباحا و مساء.

فبعد ذلك ركب يوسف يوما، فلمّا صهل فرسه اجتمع الناس للنظر إلى جماله و احتشامه، فخرجت زليخا من بيتها، فلمّا مرّ بها يوسف نادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، و جعل العبيد بطاعتهم ملوكا، فأمر اللّه الريح فألقت كلامها في مسامع يوسف، فأثّر فيه فبكى، ثمّ التفت فرآها، فقال لغلامه: اقض حاجة المرأة: فقال: ما حاجتك؟ قالت: إنّ حاجتي لا يقضيها إلاّ يوسف. فذهب بها إلى دار يوسف.

فلمّا رجع يوسف إلى قصره نزع ثياب الملك، و لبس مدرعة من الشعر، و جلس في بيت عبادته يذكر اللّه تعالى، فذكر العجوز و دعا بالغلام و قال له: ما فعلت بالعجوز؟ فقال: إنّها زعمت أنّ حاجتها لا يقضيها غيرك. فقال: إئتني بها، فأحضرها فسلمت عليه و هي منكّسة الرأس، فرقّ لها، و ردّ عليها السّلام، و قال لها: يا عجوز، إنّي سمعت منك كلاما فأعيديه. فقالت: إنّي قلت: سبحان من جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، و جعل العبيد بطاعتهم ملوكا.

في تزويج يوسف

بزليخا

فقال: نعم ما قلت، فما حاجتك؟ قالت: يا يوسف، ما أسرع ما نسيتني! فقال: من

ص: 411


1- . الأهراء: جمع هري، و هو بيت كبير ضخم يجمع فيه طعام السلطان.
2- . تفسير روح البيان 4:283.

أنت؟ ما لي بك معرفة. قالت: زليخا. فقال يوسف: لا إله إلاّ اللّه الذي يحيي و يميت و هو حي لا يموت، أنت بعد في الدنيا [يا]رأس الفتنة و أساس البلية! فقالت: يا يوسف، أبخلت عليّ بحياة الدنيا! فبكى يوسف و قال: ما صنع حسنك و جمالك و مالك؟ قالت: ذهب به الذي أخرجك من السجن و أورثك هذا الملك. فقال لها: ما حاجتك؟ قالت: أو تفعل؟ قال: نعم و حقّ شيبة إبراهيم. فقالت: لي ثلاث حاجات: الاولى و الثانية أن تسأل اللّه أن يردّ عليّ بصري و شيابي و جمالي، فانّي بكيت عليك حتّى ذهب بصري و نحل جسمي. فدعا لها يوسف فردّ اللّه عليها بصرها و شبابها و حسنها. قالت: و الثالثة أن تتزوجني. فسكت يوسف و أطرق رأسه، فأتاه جبرئيل، و قال: يا يوسف، ربك يقرئك السّلام، و يقول لك: لا تبخل عليها بما طلبت، فتزوّج بها فانّها زوجتك في الدنيا و الآخرة، فدعا ملك مصر و جميع الأشراف فعقد عليها لنفسه، و نزلت الملائكة عليه تهنّئه بزواجها، و قالوا: هنّأك اللّه بما أعطاك، فهذا ما وعدك ربّك و أنت في الجب. فقال يوسف: الحمد للّه الذي أنعم عليّ و أحسن إلي و هو أرحم الراحمين.

ثمّ قال: إلهي و سيدي أسألك أن تتمّ هذه النعمة، و تريني وجه يعقوب، و تقرّ عينه بالنظر إليّ، و تسهّل لإخوتي طريقا إلى الاجتماع بي، فانّك سميع الدعاء، و أنت على كلّ شيء قدير، و أرسل زليخا إلى بيت الخلوة فاستقبلتها الجواري بأنواع الحليّ و الحلل، فتزيّنت بها، فلمّا جنّ الليل دخل يوسف عليها، و قال لها: أ ليس هذا خيرا ممّا كنت تريدين؟ فقالت: أيّها الصدّيق، لا تلمني فإنّي كنت امرأة حسناء ناعمة في ملك و دنيا، و كان زوجي عنينا لا يصل إلى النساء، و كنت كما جعلك اللّه في صورة حسنة، فغلبتني نفسي، فلما بني بها وجدها عذراء (1).

و عن الهادي عليه السّلام: «لمّا مات العزيز في السنين الجدبة، افتقرت امرأة العزيز و احتاجت حتى سألت [الناس]فقالوا لها: لو قعدت للعزيز؟ و كان يوسف يسمّى العزيز. فقالت: أستحي منه، فلم يزالوا بها حتّى قعدت له [على الطريق]، فأقبل يوسف في موكبه، فقامت إليه و قالت: سبحان الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا، و جعل العبيد بالطاعة ملوكا. فقال يوسف لها: أنت تيك؟ فقالت: نعم. فقال لها: هل لك فيّ رغبة؟ قالت: دعني بعد ما كبرت أتهزأني! قال: لا، [قالت: نعم]فأمر بها فحوّلت إلى منزله و كانت هرمه، فقال لها [يوسف]: الست فعلت [بي]كذا و كذا؟ فقالت: إني بليت بثلاثة لم يبل بها أحد. قال: و ما هي؟ قالت: بليت بحبّك و لم يخلق اللّه لك في الدنيا نظيرا، و بليت [بحسني]بأنّه لم تكن بمصر امرأة أجمل منّي و لا أكثر مالا منّي، و بليت بزوج عنين. فقال لها يوسف: فما تريدين؟

ص: 412


1- . تفسير روح البيان 4:279-282.

فقال: تسأل اللّه أن يردّ عليّ شبابي. فسأل اللّه، فردّ عليها شبابها، فتزوّجها و هي بكر» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «استأذنت زليخا على يوسف، فقيل لها: إنّا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه قالت: إنّي لا أخاف ممن يخاف اللّه. فلمّا دخلت قال لها: يا زليخا، مالي أراك قد تغيّر لونك؟ قالت: الحمد اللّه الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، و جعل العبيد بطاعتهم ملوكا. فقال لها: ما الذي دعاك إلى ما كان منك؟ قالت: حسن وجهك. فقال: كيف لو رأيت نبيا يقال له محمد يكون في آخر الزمان أحسن منّي وجها، و أحسن منّي خلقا، و اسمح [مني]كفّا؟ قالت: صدقت. قال: و كيف علمت أنّي صدقت؟ قالت: لأنّك حين ذكرته وقع حبّه في قلبي فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى يوسف أنّها قد صدقت، و أني قد أحببتها لحبّها محمّدا، فأمره اللّه عز و جل أن يتزوّجها» (2).

قيل: فحملت من يوسف و ولدت له ابنين في بطن واحد، أحدهما افرائيم، و الآخر ميشا، و كانا كالشمس و القمر في الحسن و البهاء، و باهى اللّه بحسنهما الملائكة في السماوات السبع، و أحبّ يوسف زليخا حبا شديدا، و تحوّل عشق زليخا و حبّها الأول إليه حتّى لم يبق له بدونها قرار، و حوّل اللّه تعالى عشق زليخا و ميلها إلى الطاعة و العبادة، و راودها يوسف يوما ففرّت منه فتبعها و قدّ قميصها من دبر، فقالت: إن قددت قميصك من قبل، فقد قددت قميصي الآن، فهذا بذاك (3).

ثمّ أقبلت السنون المجدبة، فحبس اللّه عنهم قطر السماء و نبات الأرض حتى لم ينبت لهم حبة واحدة، فاجتمع الناس إليه، و قالوا: يا يوسف، قد فنى ما في أموالنا من الطعام، فبعنا ممّا عندك، فأمر يوسف بفتح الأهراء (4)، و باع من أهل مصر، و لا يبيع من أحد أكثر من حمل بعير، تقسيطا على الناس، و كان لم يشبع مدة القحط مخافة نسيان الجياع (5).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا صارت الأشياء ليوسف بن يعقوب، جعل الطعام في بيوت، و أمر بعض و كلائه ببيعه، و كان يقول: بع بكذا و كذا، و السعر قائم، فلمّا علم أنّه يزيد في ذلك اليوم كره أن يجري الغلاء على لسانه، فقال له: اذهب وبع، و لم يسمّ له سعرا، فذهب الوكيل غير بعيد، ثمّ رجع إليه، فقال له: اذهب وبع، و كره أن يجري الغلاء على لسانه، فذهب الوكيل فجاء أوّل من اكتال، فلمّا بلغ دون ما كان بالأمس بمكيال قال المشتري: حسبك إنّما أردت بكذا و كذا، فعلم الوكيل أنّه قد غلا بمكيال، و هكذا» (6)الخبر.

ص: 413


1- . تفسير القمي 1:357.
2- . علل الشرائع:55/1.
3- . تفسير روح البيان 4:282.
4- . تفسير روح البيان 4:283.
5- . تفسير روح البيان 4:284.
6- . الكافي 5:163/5، تفسير الصافي 3:27.

عن الرضا عليه السّلام: «باعهم في السنة الاولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق في مصر و ما حولها دينار و لا درهم إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر حتّى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جواهر إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة الثالثة بالدوابّ و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها دابّة و لا ماشية إلاّ صار في ملكية يوسف. و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة الخامسة بالدور و العقار حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دار و لا عقار إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حرّ إلاّ صار عبد يوسف [فملك]أحرارهم و عبيدهم و أموالهم، و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه اللّه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما [و علما]و تدبيرا» (1)الخبر.

أقول: إنّما صيّر اللّه أهل مملكة مصر عبيدا و إماء له، لأنّهم في البدو نظروا إليه بعنوان العبودية، ثمّ قال يوسف للملك: أيّها الملك، ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و أهلها، أشر عليّ برأيك، فإنّي لم اصلحهم لا فسدهم، و لم انجهم من البلاء ليكون و بالا عليهم. قال له الملك: الرأي رأيك. قال يوسف: إنّي اشهد اللّه و اشهدك أيّها الملك أنّي قد اعتقت أهل مصر كلّهم، و رددت إليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت إليك خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلاّ بسيرتي، و لا تحكم إلاّ بحكمي.

فقال الملك: أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أنّك رسوله، فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين (2).

قيل: إنّه سرى القحط إلى كنعان و بلاد الشام و ضاق المعاش على يعقوب و أولاده، فقالوا لأبيهم: إنّا سمعنا أنّ في مصر ملكا يعين الناس و يبيع الطعام من المحتاجين، فأذن لنا أن نذهب إليه و نشترى منه الطعام بالبضاعة التي عندنا، فأذن لهم جميعا إلاّ بنيامين ليقوم بخدمته، فتجهّزوا للسفر، و أخذوا معهم أحد عشر بعيرا لكلّ منهم بعير، و بعير لبنيامين، و حملوا عليها البضاعة (3)، قيل: كانت نعالا و أدما (4). و قيل: دراهم (5). و قيل: مقلا (6).

ص: 414


1- . مجمع البيان 5:373، تفسير الصافي 3:28.
2- . مجمع البيان 5:373، تفسير الصافي 3:28.
3- . تفسير روح البيان 4:285.
4- . تفسير الرازي 18:201، تفسير البيضاوي 1:489، تفسير أبي السعود 4:289.
5- . تفسير الرازي 18:201، تفسير روح البيان 4:288.
6- . تفسير الرازي 18:201، تفسير البيضاوي 1:494، و المقل: حمل شجرة الدّوم، و هي تشبه النخلة، و ثمرتها في غلظ التفاحة ذات قشر صلب أحمر، و له نواة ضخمة ذات لبّ اسفنجي، يكثر في صعيد مصر و في بعض بلاد العرب.

و قيل: لمّا أجدبت بلاد الشام و غلت أسعارها، جمع يعقوب بنيه، و قال لهم: اذهبوا إلى مصر، و اشتروا منها طعاما من العزيز. قالوا: يا نبي اللّه، كيف يطيب قلبك بأن (1)ترسلنا إلى الفراعنة، و أنت تعلم عداوتهم لنا، و لا نأمن أن ينالنا منهم شرّ؟ فقال: بلغني أنّه ولي أهل مصر ملك عادل، فاذهبوا إليه، و أقرئوه منّي السّلام، فانّه يقضي حاجتكم، ثمّ جهّز أولاده العشر، و أرسلهم إلى مصر، و كان بين مصر و كنعان ثماني-أو اثنى عشر-مراحل (2).

و عن القمي: ثمانية عشر يوما (3)، و كان يوسف أوّل من صنع القرطاس، و مع ذلك أخفى اللّه أمر يوسف على يعقوب، و لم يأذن ليوسف أن يخبره عن حاله إلى الأجل المعين.

القمي: كان الناس من الآفاق يخرجون إلى مصر ليمتاروا (4)طعاما، و كان يعقوب و ولده نزولا في بادية فيها مقل، فأخذ إخوة يوسف من ذلك المقل، و حملوه إلى مصر ليمتاروا به، و كان يوسف يتولّى البيع بنفسه (5).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 58

وَ جاءَ إذن إِخْوَةُ يُوسُفَ ممتارين في مصر فَدَخَلُوا عَلَيْهِ و هو في مجلس حكومته على زينة و احتشام فَعَرَفَهُمْ يوسف في أول نظرة لكمال فراسته، و ترصّده لمجيئهم، و تقارب حال مفارقتهم و حال لقائهم، و تشابه هيئاتهم و زيّهم في الحالين وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ غير عارفين به لبعد عهدهم منه-عن ابن عباس: كان بين أن قذفوه في البئر و بين أن دخلوا عليه أربعون سنة (6)-و لتباين حاله عند مفارقتهم له، لأنّه كان في سنّ الحداثة و غاية الضعف و الحالة التي زاده عليها من الكبرو و السّلطان.

وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)عن الباقر عليه السّلام: «لم يعرفه إخوته لهيبة الملك و عزّه» (7).

قيل: إنّهم رأوه على السرير، و عليه ثياب الحرير، و في عنقه طوق من ذهب، و على رأسه تاج من ذهب (8).

روي أنّهم كلّموه بالعبرانية، فقال لهم: من أنتم، و ما شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا للميرة فقال: لعلكم جئتهم عيونا تنظرون إلى عورة بلادي؟ قالوا: معاذ اللّه نحن إخوة بنو أب واحد، و هو شيخ صدّيق نبي اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا: كنّا اثني عشر، فهلك منّا

ص: 415


1- . في النسخة: فان، و لم ترد في المصدر.
2- . تفسير روح البيان 4:285.
3- . تفسير القمي 1:346، تفسير الصافي 3:29.
4- . زاد في النسخة: به.
5- . تفسير القمي 1:346، تفسير الصافي 3:29.
6- تفسير روح البيان 4:286.
7- . تفسير العياشي 2:349/2115، تفسير الصافي 3:29.
8- . تفسير الرازي 18:166.

واحد. قال: كم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الآخر الحادي عشر؟ قالوا: عند أبيه يتسلّى به من الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنّكم لستم بعيون، و أنّ الذي تقولون حقّ؟ قالوا: نحن أهل بلاد بعيدة لا يعرفنا هنا أحد، فأمر أن يعطى كلّ واحد منهم حمل بعير من الحنطة (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 59

وَ لَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ و بذل لهم كلّ ما يحتاجون إليه من الزاد و مؤنة السفر قالَ: دعوا بعضكم عندي رهينة اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ و معه رسالة من أبيكم على صدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، فخلّفوه عنده، ثمّ حثّهم على إتيانه بقوله: أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي و اتمّ لكم اَلْكَيْلَ و لا انقص شيئا من حقّ أحد وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ و أكرم المضيفين.

وَ لَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ (59)قيل: إنّه لمّا أعطى كلّ واحد حمل بعير سألوا حملا آخر لبنيامين، فسألهم عنه قالوا: هو أخونا من أبينا بقي عنده لخدمته. قال يوسف: أنا أعطي على عدد الرؤوس لا عدد البعير، ثمّ أعطاهم حملا آخر و شرط عليهم أن يأتوا به (2).

عن القمي رحمه اللّه: قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن بنو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه الذي ألقاه نمرود في النار فلم يحترق، و جعلها اللّه عليه بردا و سلاما. قال: فما فعل أبوكم؟ قالوا: شيخ ضعيف. قال: ألكم أخ غيركم؟ قالوا: لنا أخ من أبينا لا من امّنا. قال: فإذا رجعتم إليّ فأتوني به (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «قال لهم يوسف: قد بلغني أنّ لكم أخوين من أبيكم، فما فعلا؟ قالوا: أما الكبير منهما فانّ الذئب أكله، و أمّا الصغير فخلّفناه عند أبيه، و هو به ضنين، و عليه شفيق. قال: فإنّي احبّ أن تأتوني به معكم إذا جئتم تمتارون» (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 60 الی 62

ثمّ هدّدهم على التخلّف بقوله: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ و خالفتم عهدكم فَلا كَيْلَ من الغلّة لَكُمْ

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنّا لَفاعِلُونَ (61) وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اِجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

ص: 416


1- . تفسير روح البيان 4:286.
2- . تفسير روح البيان 4:286.
3- . تفسير القمي 1:347، تفسير الصافي 3:30.
4- . تفسير العياشي 2:349/2115، تفسير الصافي 3:30.

عِنْدِي من بعد أصلا فضلا عن إيفائه وَ لا تَقْرَبُونِ و لا تدخلون عليّ، بل لا تدخلون بلادي، و إنّما قال ذلك لعلمه بأنّهم مضطرّون إلى المراجعة للامتيار، و لكونه مأمورا من اللّه أن يطلب أخيه، ليعظم أجر أبيه على فراقه.

قالُوا ليوسف: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ و نحتال في انتزاعه من يد أبيه، و نجتهد فيه وَ إِنّا و اللّه لَفاعِلُونَ ذلك غير مفرطين و لا متوانين في طاعة أمرك.

وَ قالَ يوسف بعد أخذ العهد من إخوته على إتيان بنيامين، سرّا منهم لِفِتْيانِهِ و مماليكه الموكلين على بيع الطعام و أخذ الأثمان: اِجْعَلُوا و دسّوا بِضاعَتَهُمْ و متاعهم الذي أخذتموه منهم ثمنا للحنطة فِي رِحالِهِمْ و جواليقهم تفضّلا عليهم، و إكراما لهم، و حثا لهم على الرجوع، و إعانة لهم على مؤنته لَعَلَّهُمْ يطّلعون على مكرمتهم و يَعْرِفُونَها، و يراعون حقّها إِذَا اِنْقَلَبُوا و رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ و أقاربهم، و فتحوا جواليقهم و رأوا ردّ أمتعتهم إليهم تفضّلا و إحسانا لَعَلَّهُمْ لشكرهم ذلك الإنعام يجدّون في الوفاء بالعهد و يَرْجِعُونَ إلينا مع أخيهم بنيامين.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 63 الی 64

فوضع الغلمان بضاعتهم في أوعيتهم خفية منهم، ثمّ أذن لهم يوسف بالرجوع إلى وطنهم و أهلهم فَلَمّا رَجَعُوا من مصر إِلى كنعان و دخلوا على أَبِيهِمْ يعقوب قالُوا له قبل فتح الأوعية و اطّلاعهم على ردّ البضاعة: يا أَبانا أخذ منا العهد على أن نذهب ببنيامين معنا إلى مصر، و إلاّ مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ و حرمنا من الطعام فيما بعد، و [من]

رجوع شمعون إليك فَأَرْسِلْ مَعَنا إلى مصر أَخانا بنيامين إذن نَكْتَلْ ما نشاء من الطعام وَ إِنّا و اللّه لَهُ لَحافِظُونَ من كلّ آفة- و مكروه-، و ضامنون لسلامته و عوده إليك.

فَلَمّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (64)فامتنع يعقوب من إجابتهم قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ و الحال أنه ليس تأمينكم على حفظه و ردّه إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى حفظ أَخِيهِ يوسف و ردّه إليّ مِنْ قَبْلُ و ما اعتمادي على قولكم في حفظه ورده إلاّ كاعتمادي على قولكم في حفظ يوسف في الزمان السابق، و قد قلتم في حقّه ما قلتم، و فعلتم ما فعلتم، فلا ينبغي الوثوق بعد ما رأيت منكم بقولكم و عهدكم في حفظه، فإن ارسله معكم فلا اعتمد في حفظه إلاّ على اللّه.

ص: 417

فَاللّهُ خَيْرٌ منّي و منكم لحفظه لكونه تعالى حافِظاً لكلّ شيء، فأتوكّل عليه، و افوّض أمر حفظه إليه وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ من أهل السماوات و الأرضين بعباده، فيرحم شيبتي و ضعفي، فلا يرضى بأن يجمع عليّ مصيبتين، و فيه إشعار برضاه في ذهابهم به، لاحتياجه إلى الطعام، و إيناسه الخير و الصلاح فيهم، و عدم شدّة الحسد و الحقد بينهم و بين بنيامين، كذا قيل عن كعب، لمّا قال يعقوب: فَاللّهُ خَيْرٌ حافِظاً قال اللّه تعالى: و عزّتي لأردّن عليك كليهما بعد ما توكّلت عليّ (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 65 الی 66

ثمّ قيل: إنّ يعقوب قال لبنيه: يا بنيّ، قدّموا أحمالكم لأدعو لكم فيها بالبركة، فقدّموها إليه (2)وَ لَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ و أبواب جواليقهم وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي سلّموها إلى ملك مصر ثمنا للطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ بأن وضعت في رؤوس أجمالهم، فلمّا رأوا ذلك قالُوا لأبيهم: يا أَبانا ما نَبْغِي و لا نطلب بمدحنا ملك مصر في الكرم كذبا، أو لا نطلب منه إكراما و تفضلا فوق هذا الاكرام و التفضّل، أو لا نطلب منك مؤنة الرجوع هذِهِ البضاعة التي ترى هي بِضاعَتُنا التي سلّمناها له عوض الطعام رُدَّتْ إِلَيْنا.

وَ لَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اَللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)أو المعنى أي شيء نطلب بعد إيفائه الكيل لنا و ردّ ثمنه إلينا بأحسن وجه، فاذا رجعنا إليه نأخذ ما نريد من الطعام وَ نَمِيرُ أَهْلَنا و نأتيهم ما يكفيهم من الطعام وَ نَحْفَظُ من كلّ مكروه أَخانا بنيامين وَ نَزْدادُ على كيل أحمال أباعرنا كَيْلَ بَعِيرٍ آخر بسبب حضوره عند الاكتيال، فإنّ ذلِكَ الذي تحمله أباعرنا كَيْلَ و طعام يَسِيرٌ و قليل لا يكفي لحاجتنا، أو ذلك الذي يعطينا الملك من الزيادة يسير و سهل عليه، فانّه سخيّ كريم لا يضايقه من (3).

قالَ يعقوب: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ إلى مصر أبدا حَتّى تُؤْتُونِ و تعطوني مَوْثِقاً و عهدا أكيدا منضما بالحلف باللّه-أو بمحمد خاتم الأنبياء (4)على قول-أو بالإشهاد (5)أو بالإذن (6)مِنَ اَللّهِ

ص: 418


1- . تفسير روح البيان 4:289، عن كعب.
2- . تفسير روح البيان 4:291.
3- . في النسخة: منّا.
4- . مجمع البيان 5:379.
5- . تفسير الرازي 18:171.
6- . تفسير الرازي 18:170.

لَتَأْتُنَّنِي بِهِ و تردّونه صحيحا سالما إليّ على أيّ حال إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ و يغلب عليكم بحيث لا تقدرون على حفظه و إتيانه إليّ.

و قيل: يعني إلاّ أن تهلكوا جميعا (1).

قيل: البلاء موكل بالمنطق، فانّه عليه السّلام قال في حقّ يوسف: أخاف أن يأكله الذئب، فابتلي بهذا القول، و قال هنا: إلاّ أن يحاط بكم، فابتلي أيضا بهذا القول، حيث إنّهم احيط بهم و غلبوا عليه (2).

فَلَمّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ و عاهدوه عهدا مؤكّدا بالحلف على حفظه و ردّه سالما إليه، حثّهم على الوفاء به بقوله: قالَ اَللّهُ القادر القاهر عَلى ما نَقُولُ من التعاهد وَكِيلٌ و شهيد، أو مراقب و كاف، يثيب على الوفاء به، و يعاقب على الخلف.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 67

ثمّ أذن عليه السّلام في أن يذهبوا ببنيامين معهم إلى مصر، فتهيّئوا للسفر، فلمّا أرادوا أن يخرجوا خاف يعقوب عليهم العين، لكونهم ذوي جمال فائق، و كمال رائق، و هيئة حسنة، و بني أب واحد، وَ لذا قالَ يا بَنِيَّ اوصيكم بأنّه إذا وصلتم إلى مصر لا تَدْخُلُوا فيها مِنْ بابٍ واحِدٍ للمدينة على ما أنتم عليه من العدد و الهيئة وَ اُدْخُلُوا فيه متفرّقين مِنْ أَبْوابٍ متعدّدة مُتَفَرِّقَةٍ و طرق متشتته، و مسالك مختلفة، و إنّما وصّاهم في هذه الكرّة، لأنّهم صاروا في السفر الأول مشتهرين في المصر بالقرب عند الملك، و كانت ترفع إليهم الأبصار دون الكرّة الاولى، فانّهم كانوا حين الورود مجهولين مقهورين بين الناس غير متجمّلين تجمّلهم في الثانية، و إنّما كانت تلك الوصية بالنظر إلى حبّ الأبوة.

وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ (67)ثمّ التفت إلى أنّ التدبير لا يردّ التقدير، و أنّ القضاء لا يدفع بالحيل و الأداء، فقال: وَ ما أُغْنِي و لا أنفعكم بتدبيري في دفع إصابة العين عَنْكُمْ إذا كان مِنْ قضاء اَللّهِ يسيرا مِنْ شَيْءٍ من الضّرر.

القمي: رحمه اللّه: أعلن بتفويضه الأمر إلى اللّه بقوله إِنِ اَلْحُكْمُ و ما القضاء في الامور من النفع و الضرّ و الخير و الشرّ لأحد إِلاّ لِلّهِ وحده لا يشاركه فيه أحد، و لا يمانعه عنه شيء، فإذا كان ذلك فإنّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و إليه فوّضت جميع اموري التي منها حفظ أولادي من الآفات في جميع

ص: 419


1- . مجمع البيان 5:379.
2- . تفسير روح البيان 4:291.

الأوقات وَ عَلَيْهِ تعالى فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ البتّه بتبع أنبيائهم.

ثمّ لمّا أنكر بعض تأثير العين، حملوا وصية يعقوب على أنّه لمّا علم اشتهارهم في المصر بالحسن و الكمال خاف عليهم أن يحسدهم الناس، و يسعوا عليهم عند الملك، أو خاف أن يخافهم الملك الأكبر على ملكه فيحبسهم.

أقول: و إن كان هذا الوجه ممكنا و محتملا إلاّ أن إنكار تأثير العين إنكار لما هو ثابت بالشرع و التجربة، فقد روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «العين تدخل الرجل في القبر، و البعير في القدر» (1).

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أن جبرئيل أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فرآه مغتما فقال: يا محمد، ما هذا الغمّ الذي أراه في وجهك؟ فقال: الحسن و الحسين أصابتهما عين. فقال: صدقت، فانّ العين حقّ» (2). إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة من طرق العامة و الخاصة التي لا مجال لانكارها.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 68

وَ لَمّا وصل أولاد يعقوب إلى مصر دَخَلُوا فيها مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ و بنحو [ما] وصّاهم والدهم من دخولهم من أبواب متفرّقة ما كانَ رأي يعقوب و تدبيره في حفظهم من الابتلاء يُغْنِي و ينفع عَنْهُمْ مِنَ قضاء اَللّهِ و مشيئته في حقّهم مِنْ شَيْءٍ يسير، و لا يردّه عنهم بوجه إِلاّ حاجَةً قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكن حاجة كانت فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ و هو إظهار خوفه من أن تصيبهم العين أو يحسدهم أهل مصر (3)، و هو قَضاها بتلك التوصية.

وَ لَمّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)عن ابن عباس: «ذلك التفرّق ما كان يردّ قضاء اللّه، و لا أمرا قدّره اللّه (4). و فيه تصديق اللّه لما قال يعقوب: «ما اغني عنكم من اللّه شيء» وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ بأن التدبير لا يدفع التقدير لِما عَلَّمْناهُ و لاجل و حينا إليه.

و قيل: أي لذو حفظ و مراقبة لما علمناه، أو لذو علم بفوائد ما علمناه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ و هم الجهّال غير العارفين لا يَعْلَمُونَ ما علم يعقوب، أو أن يعقوب بهذه الصفة أو القضاء لا يردّ التدبير. و قيل: إنّ المراد أنّ المشركين لا يعلمون أنّ اللّه كيف أرشد أولياءه إلى العلوم النافعة لهم في

ص: 420


1- . تفسير أبي السعود 4:292، تفسير روح البيان 4:293.
2- . تفسير روح البيان 4:293. (3 و 4) . تفسير الرازي 18:176.

الدنيا و الآخرة (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 69

وَ لَمّا دَخَلُوا مع بنيامين عَلى يُوسُفَ و هو جالس في قصره منقّبا على السرير، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن كنعانيون، الذين أمرتنا بأن نأتي بأخينا من أبينا فامتثلنا أمرك و أتينا به. قال: أحسنتم، و ستجدون جزاءكم عندي فاجلسوا. فجلسوا على حاشية البساط، فأكرمهم و أمر باحضار الطعام، و قال: فليجلس كلّ أخوين من أب و امّ على خوان من الطعام، فجلس كلّ منهم مع أخيه الأبويني على خوان واحد، و بقي بنيامين فردا لا قرين له، فبكى حتى غشي عليه، فأمر يوسف بأن يرشّوا الجلاّب (2)على وجهه حتّى أفاق، فقال له يوسف: يا شاب، ما كان سبب بكائك و غشيتك؟ قال: كان لي أخ من امّي يقال له يوسف و فقد سنين متطاولة، فلمّا أمرت أن يجلس كلّ أخوين من أبّ و امّ على خوان واحد ذكرته، و قلت في نفسي: لو كان معي أخ لأجلسني معه، فأخذتني العبرة و تغيّر حالي. قال يوسف: أترضى أن أكون أخاك آكل معك، فأمر أن يوضع خوانا في بيت آخر أو وراء الستر، فقام يوسف إليه، و دعا بنيامين و آوى إِلَيْهِ أَخاهُ بنيامين و ضمّه إلى نفسه في الطعام و المنزل و المبيت، و عيّن لكلّ اثنين من إخويه بيتا ثمّ قال لبنيامين: هل تزوّجت؟ قال: نعم، ولي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك.

وَ لَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69)و قيل: إنّه قال: رزقت ثلاثة أولاد ذكور. قال: ما أسماؤهم؟ قال: اسم أحدهم ذئب. فقال يوسف: أنت ابن نبي، فكيف سمّيت ولدك بأسماء الوحوش؟ فقال: إنّ إخوتي لمّا زعموا أنّ أخي أكله الذئب سمّيت ابني ذئبا حتى إذا صحت به ذكرت أخي، فبكى و بكى يوسف. و قال: ما اسم الآخر؟ قال: دم. قال: لم سميّته بهذا الاسم؟ قال: إخوتي جاءوا بقميص أخي متضمّخا بالدم، فسمّيته بذلك حتى إذا صحت به ذكرت أخي، فبكى و بكى يوسف. فقال: و ما اسم الثالث؟ قال: يوسف، سمّيته به حتى إذا صحت به ذكرت أخي، فبكى و بكى يوسف و قال في نفسه: يا الهي و سيدي، هذا أخي أراه بهذا الحزن، فكيف يكون حال الشيخ يعقوب، اللّهم اجمع بيني و بينه قبل فراق الدنيا. ثمّ قال: أ تحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، و لكن لم يلدك يعقوب و لا راحيل، فبكى

ص: 421


1- . تفسير الرازي 18:177.
2- . الجلاّب: ماء الورد، فارسي معرب.

يوسف و قام إليه و عانقه و قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف (1).

و قيل: إنّ يوسف مدّ يده إلى الطعام و هو متنقّب، فلمّا نظر بنيامين إلى يد يوسف بكى، فقال يوسف: مما بكائك؟ قال: أيها الملك ما أشبه يدك بيد أخي يوسف، فلمّا سمع منه هذا الكلام لم يتمالك و ألقى النقاب من وجهه، و قال: إنّي أنا أخوك (2).

و قيل: إنّ بنيامين لما جلس على الخوان جعل يأكل و يغصّ بأكله و يطيل النظر إلى يوسف، فقال له يوسف: أراك تطيل النظر إليّ؟ فقال: إنّ أخي الذي أكله الذئب يشبهك. فقال يوسف: أنا أخوك (3)فَلا تَبْتَئِسْ و لا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بنا فيما مضى، فإنّ اللّه أحسن إلينا و جمعنا بالخير، و أمره أن لا يخبرهم، بل تخفى الحال عنهم.

عن الصادق عليه السّلام: «قد كان يوسف هيّأ لهم طعاما، فلمّا دخلوا عليه قال: ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة، فجلسوا و بقى بنيامين قائما، فقال له يوسف: مالك لا تجلس؟ قال له: إنّك قلت ليجلس كلّ بني امّ على مائدة، و ليس لي فيهم ابن امّ فقال يوسف: أما كان لك ابن امّ؟ قال له بنيامين: بلى. قال يوسف: فما فعل؟ قال: زعم هؤلاء أنّ الذئب أكله. قال: فما بلغ من حزنك عليه؟ قال: ولد لي أحد عشر ابنا كلّهم شققت (2)له أسماء من اسمه. فقال له يوسف: أراك قد عانقت النساء، و شممت و الولد من بعده؟ قال له بنيامين: إنّ لي أبا صالحا، و إنّه قال [لي]تزوّج لعلّ اللّه أن يخرج منك ذريّة تثقل الأرض بالتسبيح. فقال له [يوسف]: تعال فاجلس معي على مائدتي. فقال إخوة يوسف: لقد فضّل اللّه يوسف و أخاه علينا حتى إن الملك قد أجلسه معه على مائدته (3).

و في رواية: أنه حين أجلسه على المائدة، تركوا الأكل و قالوا: إنا نريد أمرا و يأبى اللّه [إلاّ]أن يرفع ولد ياميل (4)علينا (5).

و عن القمي رحمه اللّه: فخرجوا و خرج معهم بنيامين، و كان لا يؤاكلهم و لا يجالسهم و لا يكلّمهم، فلمّا وافوا مصر دخلوا على يوسف و سلّموا، فنظر يوسف إلى اخيه فعرفه، و جلس منهم بالبعيد، فقال يوسف: أنت أخوهم؟ قال: نعم. قال: فلم لا تجلس معهم؟ قال: لأنّهم أخرجوا أخي من امّي و أبي ثمّ رجعوا و لم يردّوه، و زعموا أنّ الذئب أكله، فاليت على نفسي أن لا اجتمع معهم على أمر مادمت حيا. قال: فهل تزوّجت؟ قال: بلى. قال: فولد لك ولد؟ قال: بلى. قال: كم ولد لك؟ قال: ثلاثة بنين؟ قال:

ص: 422


1- . تفسير روح البيان 4:297. (2 و 3) . تفسير روح البيان 4:297.
2- . في مجمع البيان: اشتققت.
3- . مجمع البيان 5:384، تفسير الصافي 3:32.
4- . في تفسير العياشي: يامين.
5- . تفسير العياشي 2:351/2116، تفسير الصافي 3:33.

فما سمّيتهم؟ قال: سمّيت واحدا منهم بالذئب، و واحدا القميص، و واحدا الدم. قال: و كيف اخترت هذه الأسماء؟ قال: لئلا أنسى أخي، كلّما دعوت واحدا منهم ذكرت أخي. قال لهم يوسف: اخرجوا، و حبس بنيامين [عنده]، فلمّا خرجوا من عنده قال يوسف لأخيه: أَنَا أَخُوكَ [يوسف] فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.

ثمّ قال له: أنا احبّ أن تكون عندي، فقال: لا يدعوني إخوتي، فانّ أبي قد أخذ عليهم عهد اللّه و ميثاقه أن يردّوني إليه. قال: أنا احتال بحيلة، فلا تنكر إذا رأيت شيئا و لا تخبرهم. فقال: لا (1).

و في رواية عامية: أنّ بنيامين لمّا عرف أخاه أخذته الغشوة من الشوق و الفرح، فلمّا أفاق عانقه و قاله له: لا افارقك، قد علمت اعتمام والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمّه، و لا سبيل إلى ذلك إلاّ أن أشهرك بأمر فظيع. قال: لا ابالي، فافعل ما بدا لك. قال: أدسّ صاعي في رحلك، ثمّ انادى عليك: بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم. قال: افعل.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 70

ثمّ قال يوسف لإخوته: أتحبّون سرعة الرجوع إلى أبيكم؟ قالوا: نعم، فأمر الكيّال بكيل الطعام، و قال له: زدهم وقر (2)بعير، ثمّ جهّزهم بأحسن جهاز فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ و أكمل مؤنة سفرهم جَعَلَ بمباشرته أو بواسطة افرائيم أو بعض خواصه و محارمه اَلسِّقايَةَ و المشربه التي كانت من فضّة، أو من بلور، أو من زمرّدة خضراء، أو ياقوتة حمراء تساوي مائتي ألف دينارا، أو من ذهب مرصّعة بالجواهر، جعلت صواعا وكيلا يكال به الطعام لعزّته، أو يكال به طعام إخوته إكراما لهم (3)فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين و دسّها في حمله.

فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70)ثمّ أمر إخوته بالمسير، ثمّ لمّا انفصل الإخوة من مصر، طلب أصحاب يوسف السّقاية، فما وجدوها، و ما كان أحد هناك غير الذين ارتحلوا، فأخبروا يوسف، فأرسل من استوقفهم فوقفوا ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ و نادى مناد من قبل الملك اسمه افارائيم على ما قيل (4): أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ و قافلة الكنعانيون إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ.

قيل: أراد يوسف من نسبة السرقة إليهم سرقتهم إياه من أبيه (3).

ص: 423


1- . تفسير القمي 1:348، تفسير الصافي 3:33.
2- . الوقر: الحمل الثقيل. (3 و 4) . تفسير روح البيان 4:298.
3- . تفسير روح البيان 4:299.

كما روي أيضا عن الصادق عليه السّلام قال: «ما سرقوا و ما كذب يوسف، إنّما عنى سرقتم يوسف من أبيه» (1).

و في رواية: «ألا ترى [أنّه]قال لهم حين قالوا: ماذا تفقدون. قالوا: نفقد صواع الملك، و لم يقولوا: سرقتم صواع الملك» (2).

و عنه عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا كذب على مصلح، ثمّ تلا أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ثمّ قال: و اللّه ما سرقوا و ما كذب» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «إرادة الاصلاح» (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 71 الی 75

و قيل: إنّ النداء كان من قبل الكيّالين على ظنّ سرقتهم (5)، فلمّا سمعت الإخوة هذا النداء قالُوا للذين جاءوا لطلب السّقاية وَ هم أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ازعاجا من نسبتهم إلى السرقة مع كونهم في غاية الشرف: ما هذه النسبة و ما ذا تَفْقِدُونَ و تعدمون، و أي شيء ضاع منكم؟ فلمّا رأى فتيان يوسف في وجوههم غضبا شديدا قالُوا في جوابهم نَفْقِدُ و نعدم صُواعَ اَلْمَلِكِ وكيله الذي كلنا به طعامكم.

قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما كُنّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي اَلظّالِمِينَ (75)عن الباقر عليه السّلام: «الصاع (6): الطاس الذي يشرب فيه» (7).

ثمّ قال المؤذن تسكينا لقلوبهم و إيهاما لعدم اعتقادهم السرقة في حقّهم: وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ قبل تفتيش الغلمان له حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام جعلا (8)له وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ و كفيل بأن اؤديه (9)إليه من مالي لئلا يتهمني الملك.

فأجابهم الإخوة و قالُوا تعجبا من هذه النسبة إليهم مع ظهور الشرف و النجابة و الصلاح منهم:

ص: 424


1- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:34.
2- . تفسير العياشي 2:354/2122، تفسير الصافي 3:34.
3- . الكافي 2:256/22، تفسير الصافي 3:34.
4- . الكافي 2:256/17.
5- . تفسير روح البيان 4:299.
6- . في تفسير العياشي: صواع الملك.
7- . تفسير العياشي 2:354/2123، تفسير الصافي 3:34.
8- . الجعل: ما يجعل على العمل من أجر.
9- . في النسخة: كفيل لأديه.

يا أيها الفتية تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ و تبيّن لكم من حالنا أنّا ما جِئْنا من بلدنا إليكم لِنُفْسِدَ فِي هذه اَلْأَرْضِ و تلك البلدة بالسرقة وَ ما كُنّا في مدّة عمرنا سارِقِينَ فانّ العلم بالأحوال المشاهدة يستلزم العلم بالغائبة قالُوا في جوابهم فَما عقوبة السرق أو السارق و أيّ شيء جَزاؤُهُ في شرعكم؟ إِنْ كُنْتُمْ في جحودكم السرقة و إنكار كون الصّواع عندكم كاذِبِينَ فلمّا كانوا مطمئنين ببراءة أنفسهم قالُوا في شرع يعقوب عقوبة السارق أو السرق و جَزاؤُهُ استرقاق مَنْ وُجِدَ الصّواع فِي رَحْلِهِ و أمتعته فَهُوَ جَزاؤُهُ.

قيل: كان في شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة (1).

ثمّ أكّدوا الحكم المذكور بعد بيانه بقولهم: كَذلِكَ الجزاء و مثل تلك العقوبة نَجْزِي و نعاقب اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالعصيان، و على غيرهم بسرقة ماله.

عن الصادق عليه السّلام: «يعنون السّنّة التي كانت تجري فيهم أن يحبسه» (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 76

ثمّ روي أنّ غلمان يوسف قالوا للإخوة: أنيخوا حتى نفتّش رحالكم، فأناخوا (3)فَبَدَأَ المفتّش بأمر يوسف بِأَوْعِيَتِهِمْ و جواليقهم في التفتيش قَبْلَ تفتيش وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين دفعا للتّهمة.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)ثُمَّ اِسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ قيل: فتّشوا رحل الأخ الأكبر، ثمّ الذي يليه، ثمّ و ثمّ إلى أن بلغت النوبة إلى رحل بنيامين، فقال يوسف: ما أظنّ أنّ هذا أخذ شيئا. فقال فتيانه: و اللّه ما نتركه حتّى ننظر في رحله، فانّه أطيب لنفسك و لأنفسنا، ففتحوا متاع بنيامين، فرأوا الصّواع فأخذوه و ما معه من الصّواع، و ردّوه إلى مصر (4).

و أخذ إخوته يشتمونه بالعبرانية و قالوا: يا لعين (5)، ما حملك على سرقة صواع الملك؟ و لا يزال ينالنا منك بلاء كما لقينا من ابن راحيل. فقال بنيامين: بل ما لقي ابنا راحيل البلاء إلاّ منكم، فأمّا يوسف فقد فعلتم به ما فعلتم، و أمّا أنا فنسبتموني إلى السرقة. قالوا: فمن جعل الإناء في متاعك؟ قال: إن

ص: 425


1- . تفسير روح البيان 4:300.
2- . تفسير العياشي 2:351/2116، تفسير الصافي 3:35.
3- . تفسير روح البيان 4:300.
4- . في تفسير روح البيان: إلى يوسف.
5- . في تفسير روح البيان: و قالوا له: يا لصّ.

كنتم سرقتم بضاعتكم الاولى و جعلتموها في رحالكم، فأنا جعلت الصّواع في رحلي. فقال روبيل: و اللّه لقد صدق و أراد بنيامين أن يخبرهم بخبر يوسف، فذكر وصيته له فسكت (1).

ثمّ ذكر اللّه سبحانه لطفه بيوسف و منّته عليه بقوله: و كَذلِكَ الكيد المعجب و التدبير البديع كِدْنا و دبّرنا نفعا لِيُوسُفَ و تحصيلا لغرضه حيث ألهمناه أن يسألهم عن جزاء السارق في شرعهم ليلزمهم بما التزموا به، و إلاّ فانّه ما كانَ لِيَأْخُذَ و يسترقّ أو يحبس أَخاهُ بنيامين بالجزاء المقرّر فِي دِينِ اَلْمَلِكِ الأكبر و سنّته، أو في حكمه و قضائه، لأنّ جزاء السارق في دينه هو ضربه و تغريمه ضعف ما سرق دون الاسترقاق و الحبس إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ ذلك الكيد الذي علّمناه، أو يشاء تغيير دين الملك، أو أخذه بوجه آخر.

ثمّ مدح سبحانه رفعة مقام يوسف في العلم بقوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ كثيرة في العلم مَنْ نَشاءُ رفعه و نعلي إلى مراتب عالية من نريد تعليته بالحكمة حسب استعداد الخلق و قابليتهم، و اقتضاء الحكمة و المصلحة، كما رفعنا درجة يوسف و مرتبته في العلم على درجة علم إخوته و غيرهم من أهل عصره وَ فَوْقَ درجة كُلِّ ذِي عِلْمٍ من الخلق عَلِيمٌ و يكون من كلّ صاحب علم من هو أرفع منه في العلم إلى أن ينتهى إلى اللّه.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 77

ثمّ أن الإخوة قالُوا ليوسف تنزيها لساحتهم من صنع بنيامين: إِنْ يَسْرِقْ هو فليس هذا العمل منه ببعيد و لا عجب فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ كان لَهُ من امّه مِنْ قَبْلُ و كنّا نحن برئاء منهم. فسمع يوسف الكلمة الشنيعة فَأَسَرَّها و أخفاها يُوسُفُ منهم فِي نَفْسِهِ و قلبه وَ لَمْ يُبْدِها و لم يظهرها لَهُمْ بوجه حلما و صفحا.

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)ثمّ قالَ في نفسه: يا إخوتي أَنْتُمْ شَرٌّ مني مَكاناً و منزلة حيث سرقتموني من أبي، و فعلتم بي ما فعلتم وَ اَللّهُ العالم بحقايق الامور أَعْلَمُ منكم و من كلّ أحد بِما تَصِفُونَ و تنسبون إليّ.

قيل: كان جدّه لامّه يعبد الصّنم، فقالت له امّه راحيل: خذ صنم أبي و اكسره لعلّه يترك عبادته، فأخذه يوسف و كسره و ألقاه بين الجيف في الطريق (2).

ص: 426


1- . تفسير روح البيان 4:300.
2- . تفسير روح البيان 4:301.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «سرق يوسف صنما لجدّه أبي امّه من فضّة و ذهب فكسره و ألقاه على الطريق» .

و قيل: كانت لإبراهيم منطقة (1)يتوارثها أكابر ولده، فورثها إسحاق، ثمّ وقعت إلى ابنته، و كانت أكبر أولاده، فحضنت يوسف و هي عمّته بعد وفاة [امه]راحيل، و كانت تحبّه حبا شديدا بحيث لا تصبر عنه، فلمّا شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها، فاحتالت بأن شدّت المنطقة على وسط يوسف تحت ثيابه و هو نائم، و قالت: فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها. ففتّشوا فوجدوها مشدودة على وسط يوسف تحت ثيابه، فقالت: إنّه سرقها منّي، فكان سلما لي، و كان حكمهم أنّ من سرق يسترق، فتوسّلت بهذه الحيلة، إلى إمساكه عند نفسها، فتركه يعقوب عندها إلى أن ماتت (2).

عن الرضا عليه السّلام قال: «كانت لاسحاق النبي منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر، و كانت عند عمّة يوسف، و كان يوسف عندها، و كانت تحبه فبعث إليها أبوه: أن ابعثيه، إليّ و أردّه إليك، فبعثت إليه: أن دعه عندي الليلة أشمّه ثمّ ارسله إليك غدوة، فلمّا أصبحت أخذت المنطقة فربطتها في حقوه (3)و ألبسته قميصا و بعثت به إليه، و قالت: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان دفع به إلى صاحب السرقة» (4).

و في رواية: «فقال لها يعقوب: فإنّه عبدك على أن لا تبيعيه و لا تهبيه، قالت: فأنا أقبله على أن لا تأخذه منّي و اعتقه الساعة. فأعطاها إياه و أعتقته» (5).

و قيل: إنّه كان يسرق من مائدة أبيه و يدفعه إلى الفقراء (6).

و قيل: إنّه سرق عناقا (7)من أبيه (8). و قيل: دجاجة، و دفعه إلى مسكين (9).

أقول: فساد هذين القولين واضح.

و قيل: إنّ الإخوة اتهموه و كذبوا عليه، و كانت قلوبهم مملوءة من الغضب عليه (8).

و قيل: إنّ يوسف نسبهم إلى السرقة بقوله إنكم لسارقون، فكوفي بقولهم: سرق أخ له (9).

ثمّ لمّا حبس يوسف بنيامين كلمه إخوته في إطلاقه، روي أنّه قال له روبيل: أيها الملك لتردنّ إلينا

ص: 427


1- . المنطقة: ما يشدّ به الوسط.
2- . تفسير روح البيان 4:301.
3- . الحقو: الخصر.
4- . تفسير العياشي 2:355/2125، تفسير الصافي 3:35.
5- . الخرائج و الجرائح 2:739/53، تفسير الصافي 3:36.
6- . تفسير الرازي 18:184.
7- . العناق: الانثى من أولاد المعز و الغنم من حين الولادة إلى تمام الحول. (8و9) . تفسير الرازي 18:184.
8- . تفسير الرازي 18:184.
9- . تفسير روح البيان 4:302.

أخانا، أو لأصيحنّ صيحة تضع منها الحوامل في مصر، و قامت شعور جسده، فخرجت من ثيابه، و كان بنو يعقوب إذا غضبوا لا يطاقون خلا أنّه إذا مسّ من غضب واحد منهم سكن غضبه، فقال يوسف لابنه: قم إلى جنبه فمسّه-و في رواية، قال: خذ بيده فمسّه-فسكن غضبه. فقال روبيل: إن هنا لبذرا من بذور يعقوب. فقال يوسف: من يعقوب (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 78

روي أنّه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فركضه برجله، و أخذ بتلابيبه، فوقع على الأرض، فقال: أنتم معشر العبرانيين تظنّون أن لا أحد أشدّ منكم، فلمّا رأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليص بنيامين خضعوا (2)ليوسف و قالُوا استعطافا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ في كنعان أَباً يكون شَيْخاً كَبِيراً في السنّ، أو في القدر والدين بحيث يجب على كلّ أحد رعاية حاله و الترحّم عليه، فانّ له محبة شديدة و انسا تاما بهذا الولد بعد هلاك أخيه من أمه فَخُذْ أَحَدَنا استعبادا مَكانَهُ و عوضه -أو رهنا-حتى نأتيك بفداء لك إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ إلينا بالإكرام و المتفضلين علينا بايفاء كيل (1)الطعام و البذل الكثير و ردّ البضاعة فأتمم إحسانك بردّ أخينا.

قالُوا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ (78)أو المراد نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ إلى جميع أهل مملكتك باعتاقهم ورد أموالهم إليهم بعد استرقاقهم و تملّك أموالهم عوض الطعام، فكن محسنا إلينا أيضا و إلى أبيه الضعيف بإعتاق ولده الذي لا يصبر على فراقه (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ إن فعلت» (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 79 الی 81

ص: 428


1- . في النسخة: الكيل.
2- . في النسخة: بفراقه.
3- . تفسير العياشي 2:350/2115، تفسير الصافي 3:36.

قالَ يوسف مَعاذَ اَللّهِ لا يمكن أَنْ نَأْخُذَ بالعبودية أو بالحبس أحدا إِلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا و صواعنا عِنْدَهُ.

القمي: قال إِلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ و لم يقل: إلا من سرق متاعنا (1)، لأنّ أخذه إنما كان بقضية شرعكم و فتواكم، فلو أخذنا البريء بدلا عن المجرم و لو برضاه إِنّا إِذاً لَظالِمُونَ في حكمكم و شرعكم و ليس لنا ذلك فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا من يوسف و انقطع رجاءهم مِنْهُ بالكلية في تخليص بنيامين خَلَصُوا و انفردوا من غيرهم حال كونهم نَجِيًّا و مسرين في التشاور في تدبير رجوعهم إلى أبيهم و اعتذارهم عنده من عدم ردّ بنيامين إليه مع كونهم مضطرّين إلى الرجوع لشدّة انتظارهم و كمال حاجة أهليهم إلى الطعام.

و لمّا رأى بعضهم رجوعهم بالاتفاق قالَ كَبِيرُهُمْ في السنّ-و هو روبيل، أو في الرياسة و هو شمعون، أو في العقل و هو يهودا (2)، أو لاوي على قول القمي (3)-إنكارا عليهم الرجوع بالاتفاق: أَ لَمْ تَعْلَمُوا يا إخواني و لم تتيقّنوا أَنَّ أَباكُمْ أبى أن يأذن في أن يسافر بنيامين معكم إلى مصر حتى أن قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً و عهدا أكيدا بالحلف المأذون فيه مِنَ اَللّهِ على أن ترجعوا إليه ابنه و لا تغدروه وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ و قصّرتم فِي العهد على إرجاع يُوسُفَ و لم تغنوا به و لم تحفظوه فيه.

عن ابن عباس: لمّا قال يوسف: معاذ اللّه أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده، غضب يهودا، و كان إذا غضب يقوم شعره على جسده (4).

و في رواية القمي: [و كانوا ولد يعقوب إذا غضبوا خرج من ثيابهم شعر و]يقطر من رؤوسهم (5)دم أصفر (6).

قال ابن عباس: و إذا صاح فلا تسمع صوته حامل إلاّ وضعت، و لا يسكن غضبه حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه. فقال لبعض إخوته: أكفوني (7)أهل مصر، و أنا اكفيكم الملك. فقال يوسف عليه السّلام لابن صغير له: مسّه فمسّه فذهب غضبه، و همّ أن يصيح فركض (8)يوسف عليه السّلام رجله على الأرض، و أخذ بملابسه و جذبه فسقط، فعنده قال: يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إلى آخره.

فلمّا أيسوا من قبول الشفاعة، تذاكروا و قالوا: إن أباكم قد أخذ عليكم موثقا عظيما من اللّه، و أيضا

ص: 429


1- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:36.
2- . تفسير روح البيان 4:303.
3- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:37.
4- . تفسير الرازي 18:188.
5- . في النسخة: رؤوسها.
6- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:36.
7- . زاد في تفسير الرازي: اسواق.
8- . ركض: رفس.

نحن متّهمون بواقعة يوسف، فكيف المخلص من هذه الورطة؟ (1). قال يهودا: فَلَنْ أَبْرَحَ و لا افارق أبدا هذه اَلْأَرْضَ و تلك البلدة حَتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اَللّهُ لِي بالخروج منها و الرجوع إلى أبي على وجه لا يؤدّي إلى نقض الميثاق، أو يجعل لي مخلصا بسبب من الأسباب.

و قيل: يعني يقضي اللّه عليّ بالموت (2)وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ لأنّه لا يحكم إلاّ بالعدل و الحقّ و لا يجور و لا يداهن، يا إخوتي اِرْجِعُوا أنتم إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا له يا أَبانا إِنَّ اِبْنَكَ بنيامين سَرَقَ صواع الملك بمصر وَ ما شَهِدْنا عليه عندك بالسرقة إِلاّ بِما عَلِمْنا و رأينا من استخراج الصّواع من وعائه وَ ما كُنّا لِلْغَيْبِ و باطن الأمر و واقع الحال ب حافِظِينَ فلعلّ أهل مصر رموه في وعائه ليتّهموه بالسرقة حسدا و عداوة.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 82

و قيل: يعني ما كنا نعلم أنّ ابنك هذا يسرق، و لو علمنا ذلك منه ما ذهبنا به إلى ملك مصر، و لم نحضره معنا عند الملك، و ما أعطيناك العهد على إرجاعه إليك (3)، و إن لا تصدّقنا فيما نقول لاتّهامنا عندك بالكذب و خلف العهد، ففتّش عن القضية وَ سْئَلِ عنها اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّا فِيها و أهل البلدة التي وقعت القضية فيها-قيل: هي مصر (4)و قيل: هي قرية قريبة من مصر، فانّه وقعت القضية فيها (5)- وَ اسأل اَلْعِيرَ و القافلة اَلَّتِي أَقْبَلْنا و توجّهنا إليك فِيها فانّهم كانوا معنا ذهابا و إيابا، و في الوقعة.

وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّا فِيها وَ اَلْعِيرَ اَلَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنّا لَصادِقُونَ (82)و قيل: يعني اسأل حيطان القرية و جدرانها و الأباعير التي كانت معنا حتى يخبروك بها، فانّك من أكابر الأنبياء فينطق اللّه لك الجمادات و الحيوانات (6).

و قيل: إنّ الشيء إذا ظهر ظهورا تاما يقال [فيه]: سل الجمادات (4)و جميع الأشياء عنه (5).

قيل: كان معهم قوم من كنعان من جيران يعقوب (6).

ثمّ أكّدوا قولكم بالحلف باللّه، وَ قولوا (7)إِنّا و اللّه لَصادِقُونَ فيما نخبرك به.

ثمّ لما اخذوا دستور كيفية إخبار يعقوب بالقضية، رجعوا إلى كنعان، و رجع يهودا إلى يوسف، فقال

ص: 430


1- . تفسير الرازي 18:188.
2- . مجمع البيان 5:391.
3- . تفسير الرازي 18:190. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 18:190.
4- . في تفسير الرازي: سل السماء و الأرض.
5- . تفسير الرازي 18:190.
6- . تفسير روح البيان 4:304.
7- . في النسخة: و قالوا.

له: لم رجعت؟ قال: إنّك اتّخذت أخي رهينة، فخذني معه، فجعله عند أخيه، و أحسن إليهما.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم، و تخلّف يهودا، فدخل على يوسف يكلّمه في أخيه حتّى ارتفع الكلام بينهما حتى غضب يهودا، و كان على كتفه شعره إذا غضب قامت الشعرة، فلا تزال تقذف بالدم حتّى يمسّه بعض ولد يعقوب، و كان بين يدي يوسف ابن له صغير في يده رمّانه من ذهب يلعب بها، فلمّا رآه يوسف قد غضب و قامت الشعره تقذف بالدم، أخذ الرمّانة من يد الصبيّ، ثمّ دحرجها نحو يهودا، و تبعها الصبيّ ليأخذها، فوقعت يده على يد يهودا فذهب غضبه، فارتاب يهودا، و رجع الصبيّ بالرّمّانه إلى يوسف، ثمّ عاد يهودا إلى يوسف فكلّمه في أخيه حتّى ارتفع الكلام بينهما، حتى غضب يهودا، و قامت الشعرة، فجلعت تقذف بالدم، فلمّا رأى ذلك يوسف دحرج الرمّانة نحو يهودا، و تبعها الصبيّ ليأخذها، فوقعت يده على يد يهودا، فسكن غضبه، فقال يهودا: «إنّ في البيت معنا بعض ولد يعقوب، حتّى صنع ذلك ثلاث مرات» (1)الخبر.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 83 الی 84

ثمّ إن الإخوة التسعة لمّا دخلوا على يعقوب و أخبروه بقضية بنيامين حسبما لقّنهم يهودا قالَ لهم يعقوب على ما روى: هبوا أنّه سرق، و لكن كيف عرف الملك أنّ شرع بني إسرائيل أنّ من سرق يسترق (2)؟ فما كنتم بريئين من التقصير في حقّه بَلْ سَوَّلَتْ و احتالت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً عظيما، و هو تهمة بنيامين بالسرقة مع أنّه بريء، أو إخراجه معكم إلى مصر بظنّ النفع فترتب عليه هذا الضرر، أو فتواكم عند الملك بأنّ جزاء السارق استرقاقه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا شكوى فيه إلى الخلق، تكليفي و وظيفتي.

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ (83) وَ تَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)قيل: لمّا أخبروا أبيهم بالواقعة بكى، و قال: يا بنيّ لا تخرجون من عندي مرة إلاّ و نقص بعضكم، ذهبتم مرة فنقص يوسف، و في الثانية نقص شمعون، و في هذه المرة نقص كبيركم روبيل-أو يهودا- و بنيامين، ثمّ بكى و قال: عَسَى اَللّهُ و أرجو منه أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً (3)لحسن ظنّي برحمته إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ بشدّة حزني و غاية ضعفي اَلْحَكِيمُ في فعاله، لا يفعل بعبده إلاّ ما هو عين

ص: 431


1- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:37.
2- . تفسير الرازي 18:190.
3- . تفسير الرازي 18:191.

التفضّل و الاحسان و الصلاح وَ تَوَلّى و أعرض عَنْهُمْ بوجهه كراهة لما سمع منهم، و ذهب إلى بيت الأحزان، و هاج حزنه على يوسف لكون مصيبته أصل مصائبه، و لأنّه كان يعلم بحياة غيره دونه، و كان يتسلّى برؤية بنيامين عن رؤيته، لكونهما من امّ واحدة، و في غاية المشابهة، فضاق قلبه وَ قالَ يا أَسَفى و يا حزنا عَلى يُوسُفَ تعال فهذا أوانك. في الحديث: «لم تعط امّة من الامم إنّا للّه و إنّا إليه راجعون [عند المصيبة]إلاّ امّة محمد صلّى اللّه عليه و آله، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع بل قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» (1).

و عن القمي رحمه اللّه: إنّ يعقوب لم يعلم الاسترجاع، فمن هنا قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ (2).

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل: ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف؟ قال: «حزن سبعين ثكلى بأولادها» (3).

و روي أنّ يوسف قال لجبرئيل: أيها الروح الأمين، هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم، وهب اللّه له الصبر الجميل، و ابتلاه بالحزن عليك، قال: فما قدر حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى. قال: فما له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، و ما أساء ظنّه باللّه ساعة قطّ (2).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية-قيل له: كيف حزن يعقوب على يوسف و قد أخبره جبرئيل أنه لم يمت، و أنّه سيرجع إليه؟ قال: «إنه نسي ذلك» (3)الخبر، فأكثر البكاء عليه وَ اِبْيَضَّتْ عَيْناهُ و محقت سوادهما مِنَ اَلْحُزْنِ روي أنّه ما جفّت عينا يعقوب من يوم فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين سنه (4)فَهُوَ كَظِيمٌ ممسك عن النياحة و ذكر ما لا ينبغي.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 85 الی 86

و قيل: يعني مملوءا من الغيظ على أولاده، ممسكا له قلبه (5)، أو متجرّعا غصّته لا يظهرها عند أحد، ثمّ لامه أو سلاّه بعض ولده أو أقربائه و قالُوا تَاللّهِ تَفْتَؤُا و لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجّعا عليه حَتّى تَكُونَ حَرَضاً و مريضا أو فاسد الجسم و العقل أَوْ تَكُونَ هالكا مِنَ اَلْهالِكِينَ من شدّة الحزن عليه قالَ يعقوب لا أشكو حزني عند أحد إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي و غمّي الذي لا يطاق له وَ حُزْنِي و همّي الذي يطاق له إِلَى اَللّهِ لأنّه لا أرجو كشف الغمّ الشديد، و لا تفريج الغمّ

قالُوا تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)

ص: 432


1- . تفسير روح البيان 4:306. (2 و 3) . تفسير القمي 1:350، تفسير الصافي 3:38.
2- . تفسير روح البيان 4:309.
3- . تفسير العياشي 2:358/2131، تفسير الصافي 3:38.
4- . تفسير أبي السعود 4:301.
5- . تفسير أبي السعود 4:302، تفسير الصافي 3:38.

الضعيف إلاّ منه وَ أنا أَعْلَمُ مِنَ لطف اَللّهِ و رحمته بعباده ما لا تَعْلَمُونَ و لذا أرجو أن يرحمني و يكشف ما بي من الغمّ و الهمّ.

و قيل: يعني أعلم بالهام اللّه ما لا تعلمون من حياة يوسف و لقائي إياه (1).

قيل: إنّ اللّه أوحى إليه أنّه سيوصل إليه يوسف، و لكنّه تعالى ما عيّن الوقت (2).

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ يعقوب عليه السّلام لما ذهب منه بنيامين نادى: يا رب، أما ترحمني، أذهبت عيني، و أذهبت ابني. فأوحى اللّه تعالى: لو أمتهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك و بينهما و لكن تذكر الشاة التي ذبحتها و شويتها و أكلتها، و فلان و فلان إلى جانبك صائم لم تعطهم منها شيئا» (3).

و روى أنّه عليه السّلام رأى ملكا (4)في منامه، فسأله عن يوسف فقال: هو حي (5).

و قيل: علم من رؤيا يوسف أنّه لا يموت حتّى يخرّوا له سجّدا (6).

و عن السّديّ: لما أخبره أولاده بسيرة ملك مصر أحسّت نفسه و قال: لعلّه يوسف (7).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّ أعرابيا اشترى من يوسف طعاما فقال له: إذا مررت بوادي كذا فناد: يا يعقوب فانّه يخرج إليك شيخ، فقل له: إنّي رأيت بمصر رجلا يقرئك السّلام و يقول: إنّ وديعتك عند اللّه محفوظة لن تضيع. فلمّا بلغه الأعرابي خرّ يعقوب مغشيا عليه، فلمّا أفاق قال: هل لك [من] حاجة؟ قال: لي ابنة عمّ-و هي زوجتي-لم تلد، فدعا له فرزق منها أربعة أبطن في كلّ بطن اثنين (8).

و في رواية: كان يعقوب يعلم أنّ يوسف حيّ لم يمت، و أنّ اللّه سيظهره له بعد غيبته، و كان يخبر بنيه، و كان أهله و أقرباؤه يفنّدونه على ذكر يوسف (9).

[سوره 12 (يوسف): آیه شماره 87]

و قيل: إنّه عليه السّلام لمّا علم أنّ بنيامين لا يسرق، و سمع أنّ الملك ما آذاه و ما أهانه، غلب على ظنّه أنّ الملك هو يوسف (10)، فرجع إلى أولاده باللّطف، و تكلّم معهم باللّين و الرحمة، و قال: يا بَنِيَّ اِذْهَبُوا إلى مصر فَتَحَسَّسُوا و فتّشوا بأسماءكم و أبصاركم بعضا مِنْ أخبار يُوسُفَ

يا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ (87)

ص: 433


1- . تفسير روح البيان 4:309.
2- . تفسير الرازي 18:198.
3- . الكافي 2:489/4، تفسير الصافي 3:39.
4- . في تفسير أبي السعود و تفسير الصافي: ملك الموت.
5- . تفسير أبي السعود 4:302، تفسير روح البيان 4:309.
6- . تفسير روح البيان 4:309.
7- . تفسير الرازي 18:198، تفسير روح البيان 4:309.
8- . الخرائج و الجرائح 2:931، تفسير الصافي 3:39.
9- . إكمال الدين:142/9، تفسير الصافي 3:39.
10- . تفسير الرازي 18:198.

وَ أَخِيهِ بنيامين، و إنّما لم يذكر الثالث لكون إقامته بمصر اختيارية.

ثمّ رغّبهم في التفتيش بقوله: وَ لا تَيْأَسُوا و لا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اَللّهِ و رحمته و تفريجه و تنفيسه.

عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل أنّ يعقوب حين قال لولده: اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ أكان يعلم أنّه حيّ و قد فارقه منذ عشرين سنة، و ذهبت عيناه من الحزن؟ قال: «نعم إنّه كان يعلم [أنه]حيّ» .

قيل: و كيف علم؟ قال: «إنّه دعا في السّحر أن يهبط عليه ملك الموت، فهبط عليه تريال (1)-و هو ملك الموت-فقال له تريال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقّة؟ قال: بل متفرّقة روحا. قال: فمرّ بك روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنّه حيّ، فقال لولده: اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ» (2).

ثمّ هدّدهم على اليأس بقوله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ لجهلهم بسعة رحمته و كمال لطفه و بعباده، و أمّا المؤمنون فلمعرفتهم بكمال صفاته يرجونه في جميع الأحوال، و إن كانت معاصيهم أكثر من الرمل و الحصا و عدد نجوم السماء، و ما يرى و ما لا يرى، فامتثل أولاد يعقوب أمره، و أرادوا الرجوع إلى مصر.

قيل: كتب يعقوب إلى يوسف:

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

من يعقوب إسرائيل اللّه ابن اسحاق [ذبيح اللّه]ابن إبراهيم خليل اللّه، إلى عزيز مصر.

أمّا بعد، فانّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أمّا جدّي إبراهيم فانّه ابتلي بنار نمرود فصبر، فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما [و أمّا أبي إسحاق فابتلي بالذبح فصبر، ففداه اللّه بذبح عظيم]، و أمّا أنا فابتلاني اللّه بفقد ولدي يوسف، فبكيت عليه حتى ذهب بصري و نحل جسمي، و قد كنت أتسلّى بهذا الغلام الذي أمسكته عندك و زعمت أنّه سارق، و إنّا أهل بيت لا نسرق، و لا نلد سارقا فان رددته عليّ و إلاّ دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك. و السّلام (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ يعقوب كتب إلى يوسف.

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

ص: 434


1- . في تفسير العياشي: تربال، و كذا التي بعدها.
2- . تفسير القمي 1:350، تفسير العياشي 2:360/2137، الكافي 8:199/238، علل الشرائع:52/1، تفسير الصافي 3:39.
3- . تفسير أبي السعود 4:303، تفسير روح البيان 4:310.

إلى عزيز مصر، و مظهر العدل، و موفي الكيل.

عن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، صاحب نمرود، الذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما و انجاه منها.

اخبرك-أيها العزيز-أنّا أهل بيت لم يزل البلاء [إلينا]سريعا من اللّه ليبلونا عند السرّاء و الضرّاء، و إن المصائب تتابعت على منذ عشرين سنة، أوّلها أنّه كان لي ابن سمّيته يوسف، و كان سروري من بين ولدي و قرّة عيني و ثمرة فؤادي و [أن]إخوته من غير امّه سألوني أن أبعثه معهم [يرتع و يلعب، فبعثته معهم]بكرة فجاؤني عشاء يبكون، و جاءوا على قميصه بدم كذب، و زعموا أنّ الذئب أكله، فاشتدّ لفقده حزني و كثر على فراقه بكائي حتّى ابيضت عيناي من الحزن، و إنّه كان له أخ، و كنت به معجبا، و كان لي أنيسا، و كنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري فسكن بعض ما أجد في صدري، و إنّ إخوته ذكروا أنك سألتهم عنه، و أمرتهم أن يأتوك به، فان لم يأتوك به منعتهم الميرة، فبعثته معهم ليمتاروا لنا قمحا، فرجعوا إليّ و ليس هو معهم، و ذكروا أنّه سرق مكيال الملك، و نحن أهل بيت لا نسرق، و قد حبسته عنّي، و فجعتني به، و قد اشتدّ لفراقه حزني حتّى تقوّس لذلك ظهري، و عظمت به مصيبتي مع مصائب تتابعت عليّ، فمنّ عليّ بتخلية سبيله و إطلاقه من حبسك، و طيّب لنا القمح، و اسمح لنا في السعر، و أوف لنا الكيل، و عجّل سراح آل إبراهيم (1).

ثمّ أعطى الكتاب ولده، و أعطاهم بضاعة من صوف و سمن (2). و قيل: من الصنوبر و الحبة الخضراء (3). و قيل: من سويق المقل و الأقط (2). و قيل: الدراهم الزيوف (3).

و عن الرضا عليه السّلام: «كانت المقل، و كانت بلادهم بلاد المقل» (4).

فجاءوا إلى مصر، فلمّا وردوها رأوا أخاهم الذي تخلّف عنهم بمصر، فذهبوا معه إلى يوسف (5).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 88

فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أعطوه كتاب يعقوب و خضعوا له و قالُوا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ و الملك القادر

فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اَللّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ (88)

ص: 435


1- . مجمع البيان 5:399، تفسير الصافي 3:41. (2 و 3) . تفسير البيضاوي 1:494، تفسير أبي السعود 4:303.
2- . تفسير البيضاوي 1:494، تفسير أبي السعود 4:303، الأقط: لبن محمض يجمد حتى يستحجر و يطبخ.
3- . تفسير البيضاوي 1:494.
4- . تفسير العياشي 2:363/2140، تفسير الصافي 3:40.
5- . تفسير روح البيان 4:310.

القاهر مَسَّنا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ و أصابتنا الشدّة من الجوع و الضعف و الهزال وَ جِئْنا إليك بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ و عوض غير قابل للقبول لغاية قلّته و حقارته و فَأَوْفِ و أكمل مع ذلك بكرمك لَنَا اَلْكَيْلَ من الطعام كما توفيه لغيرها بالأمتعة المرغوبة و الدراهم الجياد وَ تَصَدَّقْ و منّ عَلَيْنا بقبول ما عندنا من العوض القليل و المتاع الحقير باعطاء (1)الطعام الكثير، أو باطلاق أخينا بنيامين-عن الصادق عليه السّلام: «و تصدق علينا بأخينا بنيامين» (2)-و هذا كتاب يعقوب أرسله إليك في أمره يسألك تخلية سبيله، فمنّ به علينا إِنَّ اَللّهَ يَجْزِي أحسن الجزاء، و يثيب بفضله أعلى الثواب اَلْمُتَصَدِّقِينَ على المحتاجين، و المتفضّلين على السائلين.

قيل: إنّهم لم يقولوا: إنّ اللّه يجزيك لأنّهم لم يعلموا بأنّه مؤمن (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 89

ثمّ روي أنّه لمّا سمع من إخوته عرض الحاجة الشديدة، و إظهار غاية المسكنة، و تضرّعهم إليه و إلحاحهم لديه، اغرورقت عيناه، و سال دمعه، و لما قرأ كتاب أبيه ارتعدت فرائصه، و اقشعر جلده، و كثر بكائه، و عيل صبره، و لم يتمالك حتّى عرّفهم نفسه (4)و قالَ لهم تصديقا لما أوحى اللّه إليه حين ألقوه في الجبّ من قوله: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا (5)هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ من القبائح و الشنائع بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ بنيامين و هل تنبّهتم بسوء ما أقدمتم عليه في حقّها حين كانا مقهورين تحت أيديكم من ضربكم يوسف و إلقائه في الجبّ، و إيذائكم أخيه، و نسبتكم إياه إلى السرقة، و شتمكم له إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ بشدّة قبحه لغروركم، أو بما يئول إليه أمر يوسف، و إنّما كان كلامه هذا شفقة عليهم و نصحا لهم في الدين، و حثّا لهم على التوبة، لا معاتبة و تثريبا عليهم، إيثارا لحقّ اللّه تعالى على حقّ نفسه.

قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 90 الی 91

ص: 436


1- . في النسخة: و اعطاء.
2- . مجمع البيان 5:399، نسبه إلى القيل، تفسير الصافي 3:40.
3- . تفسير روح البيان 4:311.
4- . تفسير الرازي 18:203.
5- . يوسف:12/15.

ثمّ قيل: إنه عليه السّلام رفع النّقاب عن وجهه، و ألقى التاج من رأسه، فنظر إخوته إلى وجهه (1)، و قالُوا تقريرا له و استعجابا من مقامه: أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ أخونا يُوسُفُ قالَ نعم أَنَا أخوكم يُوسُفُ الذي ظلمتموني بأعظم ظلم.

ثم بالغ في تعريف نفسه و تفخيم بنيامين بقوله: وَ هذا الجالس عندي أَخِي من أبي و امّي قَدْ مَنَّ اَللّهُ و أنعم عَلَيْنا بالسلامة، و العزّة بعد الذلّة، و الاجتماع بعد الفرقة.

عن ابن عباس: أي بكلّ عزّ في الدنيا و الآخرة (2).

ثمّ ذكر علّة منّة اللّه على نفسه و أخيه بقوله: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللّه، و يخافه في معاصيه و يحفظ نفسه من ارتكاب ما يسخطه وَ يَصْبِرْ على الطاعة، و يتحمل أذى الناس يؤجر أجرا عظيما فَإِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ و لا يبطل أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ و هم المتقون الصابرون.

ثمّ أن الإخوة خضعوا له و قالُوا اعتذارا من تفريطهم في حقّه، و تواضعا له: تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللّهُ و فضلّك عَلَيْنا بالعلم و الحلم و العقل و الفضل و حسن الخلق و الخلق و السعادة في الدارين وَ إِنْ كُنّا في الإساءة إليك لَخاطِئِينَ و متعمّدين بالذنب، و فيه إشعار بالتوبة و الاستغفار.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 92

و عن الباقر عليه السّلام: «قالوا فلا تفضحنا و لا تعاقبنا اليوم و اغفر لنا» (3). قالَ يوسف لهم كرما و صفحا: يا إخوتي لا تَثْرِيبَ و لا تقصير و لا توبيخ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ فيما فعلتم بي فضلا عن العتاب و العقوبة.

قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (92)و قيل: اليوم متعلّق بما بعد (4)فالآية اليوم يَغْفِرُ اَللّهُ لَكُمْ و يستر ذنوبكم وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ بعضادتي (5)باب الكعبة يوم الفتح فقال لقريش: «ما تروني فاعلا بكم؟» قالوا: نظنّ خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم و قد قدرت. فقال: «أقول ما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ» (6).

روي أنّه لمّا قرأ الكتاب-كتاب أبيه-بكى و كتب في جوابه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

ص: 437


1- . تفسير روح البيان 4:312.
2- . تفسير الرازي 18:204.
3- . تفسير العياشي 2:363/2138، تفسير الصافي 3:41.
4- . تفسير الرازي 18:206.
5- . عضادتا الباب: خشبتان تكونان على جانبيه مثبتتان في الحائط.
6- . تفسير الرازي 18:206، تفسير روح البيان 4:313.

إلى يعقوب إسرائيل اللّه من ملك مصر.

أمّا بعد، أيّها الشيخ، فقد بلغني كتابك و قرأته و أحطت به علما و ذكرت فيه آباءك الصالحين، و ذكرت أنهم أصحاب البلايا، فانّهم ابتلوا و صبروا و ظفروا، فاصبر كما صبروا، و السّلام.

فلمّا قرأ يعقوب الكتاب قال: و اللّه ما هذا كتاب الملوك، و لكنّه كتاب الأنبياء، و لعلّ صاحب الكتاب هو يوسف (1).

روي أنّ إخوة يوسف لمّا عرفوه أرسلوا إليه: أنّك تدعونا إلى طعامك بكرة و عشيا، و نحن نستحي منك بتفريطنا فيك. فقال يوسف: إنّ أهل مصر-و إن ملكت فيهم-كانوا ينظرون إليّ بالعين الاولى، و يقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، و لقد شرفت بكم الآن، و عظمت في العيون، حيث علم الناس أنّكم إخوتي، و أنّي من حفدة إبراهيم (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 93

ثمّ قيل: إنه عليه السّلام سأل إخوته عن أبيه، فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ذهبت عيناه. فأعطاهم قميصه الذي علّق عليه يعقوب كالتّميمة (3)حين خروجه مع إخوته، و قال لهم: يا إخوتي اِذْهَبُوا (4)معكم بِقَمِيصِي هذا إلى كنعان فَأَلْقُوهُ و اطرحوه عَلى وَجْهِ أَبِي فان فعلتم ذلك يردّ اللّه إليه عينه يَأْتِ إلى حال كونه بَصِيراً و قيل: بصيرا، يعني يصير بصيرا (5).

اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أمّا قوله: اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فانّ نمرود الجبّار لمّا ألقى إبراهيم في النار، أنزل اللّه جبرئيل بقميص من الجنّة، و طنفسة (6)من الجنّة، فألبسه القميص، و أقعده على الطّنفسة، و قعد معه يحدّثه، فكسا إبراهيم ذلك القميص إسحاق، و كساه إسحاق يعقوب، و كساه يعقوب يوسف، فجعله في قصبة من فضة و علّقها عليه مخافة من إخوته، فألقي في الجبّ و القميص في عنقه، و كان فيه ريح الجنّة، و لا يقع على مبتلى أو سقيم إلاّ صحّ و عوفي (7).

ثمّ هيّأ يوسف أسباب مسافرة أبيه و جميع أقاربه من كنعان إلى مصر و مؤنتهم، فأعطاها إخوته، قال لهم: اذهبوا إلى كنعان وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ و أقاربكم و من اتصل بكم من النساء و الذراري و العبيد

ص: 438


1- . تفسير روح البيان 4:312.
2- . تفسير الرازي 18:206، تفسير روح البيان 4:313.
3- . التّميمة: ما يعلق في العنق لدفع العين.
4- . تفسير روح البيان 4:314.
5- . تفسير الرازي 18:206.
6- . الطّنفسة: البساط، و النمرقة التي فوق الرحل.
7- . تفسير روح البيان 4:314.

و الاماء أَجْمَعِينَ لا يشذّ منهم أحد.

روى أن يهودا حمل القميص و قال: أنا أحزنت أبي بحمل القميص الملطّخ بالدم إليه، فافرحه كما أحزنته، فحمله و هو حاف حاسر من مصر إلى كنعان و معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتاه، و كانت المسافة ثمانين فرسخا (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 94

وَ لَمّا فَصَلَتِ و جاورت اَلْعِيرُ و قافلة الإخوان من حيطان بلد مصر و عمرانه، هاجت الريح، فحملت ريح القميص من مسافة ثمانين فرسخا.

وَ لَمّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)قيل: إنّ ريح الصّبا استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها، فأتته بها، و لذا يستروح كلّ محزون بريح الصّبا، و يشمّها المكروب فيجد بها روحا، فلمّا اتصلت بيعقوب وجد ريح الجنّة، فعلم أنّه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلاّ ما كان من ذلك القميص (2)، فلذا قالَ أَبُوهُمْ لمن حوله من الأهل و الأرقاب: إِنِّي و اللّه لَأَجِدُ و أشمّ رِيحَ قميص يُوسُفَ ابني لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ و تنسبوني إلى السّفه أو الخطأ في الحواسّ بسبب الهرم، أو إلى الكذب في القول لصدّقتموني.

عن الصادق عليه السّلام: «وجد يعقوب ريح قميص إبراهيم حين فصلت العير من مصر و هو بفلسطين» (3).

و عن العياشي مرفوعا: «أنّ يعقوب وجد ريح قميص يوسف من مسيرة عشر ليالي، و كان يعقوب ببيت المقدس، و يوسف بمصر، و هو القميص الذي نزل على إبراهيم من الجنة» الخبر (4).

و عنه عليه السّلام: «كان قميص إبراهيم الذي نزل (5)على إبراهيم من الجنّة في قصبة من فضّة (6)، و كان إذا لبس كان واسعا كبيرا، فلمّا فصلوا و يعقوب بالرّملة و يوسف بمصر، قال يعقوب: إنّي لأجد ريح يوسف، يعني ريح الجنة» (7)الخبر.

قيل: لمّا انقضت أيام المحنة، أوصل اللّه إليه ريح يوسف من المكان البعيد، و منع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الاخرى في مدّة ثمانين سنة، و ذلك دليل على أنّ كلّ سهل في زمان المحنة صعب، و كلّ صعب في زمان الاقبال سهل (8).

ص: 439


1- . تفسير روح البيان 4:315.
2- . تفسير روح البيان 4:316.
3- . مجمع البيان 5:402.
4- . تفسير العياشي 2:365/2146، تفسير الصافي 3:46.
5- . في المصدر: كان القميص الذي انزل به.
6- . زاد في المصدر: أو حديد.
7- . تفسير العياشي 2:365/2145.
8- . تفسير الرازي 18:208.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 95 الی 96

فلمّا سمع الحاضرون عنده هذا الكلام منه مع اعتقادهم موت يوسف قالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ يا يعقوب لَفِي ضَلالِكَ اَلْقَدِيمِ و انحرافك عن الصواب الذي كنت عليه من زمان فقد يوسف باعتقادك حياته، و إفراطك في حبّه و ذكره فَلَمّا أَنْ جاءَ يهودا الذي هو اَلْبَشِيرُ ليعقوب بحياة يوسف و سلطنته، كما عن الصادق عليه السّلام (1)، و أتى بالقميص أَلْقاهُ و طرحه عَلى وَجْهِهِ.

قالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ اَلْقَدِيمِ (95) فَلَمّا أَنْ جاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96)و قيل: إنّ يعقوب أخذ القميص من يهودا و ألقاه على وجهه فَارْتَدَّ و رجع إلى ما كان عليه من كونه بَصِيراً بقدرة اللّه و فضله (2).

قيل: لمّا عظم فرحه و زالت أحزانه، عادت قوة بصره، و قالَ لولده و أهله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ (3)حين لمتموني على ذكر يوسف إِنِّي أَعْلَمُ بالهام مِنَ قبل اَللّهِ و تفضّله ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف و فرحي بلقائه.

عن الصادق عليه السّلام: «كتب عزيز مصر إلى يعقوب: أمّا بعد، فهذا ابنك [يوسف]اشتريته بثمن بخس دراهم معدودة و اتّخذته عبدا، و هذا ابنك بنيامين قد سرق فاتّخذته عبدا» .

قال: «فما ورد على يعقوب شيء أشدّ عليه من ذلك الكتاب، فقال للرسول: مكانك حتى اجيبه، فكتب إليه يعقوب: أمّا بعد، فقد فهمت كتابك بأنك اتّخذت ابني بثمن بخس، و اتّخذته عبدا، و أنّك اتّخذت ابني بنيامين و قد سرق، و اتّخذته عبدا، فانّا أهل بيت لا نسرق، و لكنّا [أهل بيت]نبتلى، و قد ابتلي أبونا إبراهيم بالنار فوقّاه اللّه، و ابتلي أبونا إسحاق بالذبح فوقّاه اللّه، و إنّي قد ابتليت بذّهاب بصري و ذهاب ابنيّ، و عسى اللّه أن يأتيني بهم جميعا» .

قال: «فلمّا ولّى الرسول عنه رفع يديه إلى السماء، ثمّ قال: يا حسن الصّحبة، يا كريم المعونة يا خيرا كلّه، ائتني بروح (2)و فرج من عندك، فما انفجر عمود الصّبح حتّى اتي بالقميص و طرح على وجهه، فردّ اللّه عليه بصره، و ردّ عليه ولده (3).

روي أنّ يوسف وجّه إلى أبيه جهازا كثيرا و مأتي راحلة، و سأله أن يأتيه بأهله أجمعين، فتهيّأ [يعقوب]للخروج إلى مصر (4).

ص: 440


1- . إكمال الدين:142/9، تفسير الصافي 3:43. (2 و 3) . تفسير الرازي 18:209.
2- . زاد في تفسير الصافي: منك.
3- . تفسير العياشي 2:366/2151، تفسير الصافي 3:44.
4- . تفسير روح البيان 4:319.

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية- «و ردّهم إلى يعقوب في ذلك اليوم، و جهّزهم بجميع ما يحتاجون إليه، فلمّا فصلت عيرهم من مصر، وجد يعقوب ريح يوسف، فقال لمن بحضرته من ولده: إنّي لأجد ريح يوسف لو لا أن تفنّدون. قال: و أقبل ولده يحثّون السير بالقميص فرحا و سرورا [بما رأوا]من حياة (1)يوسف و الملك الذي أعطاه اللّه (2)، فكان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام [فلمّا أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه، فارتدّ بصيرا]و قال لهم: ما فعل بنيامين؟ قالوا: أخلفناه عند أخيه صالحا، فحمد اللّه يعقوب و سجد لربّه شكرا، و رجع إليه بصره، و تقوّم ظهره، و قال لولده: تحوّلوا إلى مصر (3)بأجمعكم في يومكم هذا (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 97 الی 98

قالُوا يا أَبانَا اِسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا بما فعلنا بك و بيوسف و بنيامين خاطِئِينَ و متعمدين بالذنب و لو لا استغفارك لنا لكنّا هالكين قالَ أبوهم: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي البتّة فيغفر لكم إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ للذنوب اَلرَّحِيمُ بالتائبين.

قالُوا يا أَبانَا اِسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (98)عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خير وقت دعوتم اللّه عزّ و جل فيه الأسحار» و تلا هذه الآية في قول يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. و قال: «أخّرهم إلى السّحر» (5).

و في رواية عنه عليه السّلام: «أخّره إلى السحر ليلة الجمعة» (6).

و عنه عليه السّلام أيضا: «أخّرهم إلى السحر، و قال: يا ربّ إنما ذنبهم فيما بيني و بينهم. فأوحى اللّه [إنّي] قد غفرت لهم» (7).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل [عن يعقوب أنه]لمّا قال له بنوه: يا أَبانَا اِسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فأخّر الاستغفار لهم، و يوسف لمّا قالوا [له]: تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنّا لَخاطِئِينَ* قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (8)؟

قال: «لأنّ قلب الشاب أرقّ من قلب الشيخ، و كانت جناية ولد يعقوب على يوسف، و جنايتهم

ص: 441


1- . في تفسير العياشي: من حال.
2- . زاد في تفسير العياشي: و العزّ الذي صاروا إليه في سلطان يوسف.
3- . في تفسير العياشي: تحملوا إلى يوسف.
4- . تفسير العياشي 2:368/2152، تفسير الصافي 3:45.
5- . الكافي 2:346/6، تفسير الصافي 3:46.
6- . تفسير العياشي 2:369/2154، مجمع البيان 5:403، تفسير الصافي 3:46.
7- . تفسير العياشي 2:368/2153، تفسير الصافي 3:46.
8- . يوسف:12/91 و 92.

على يعقوب [إنّما]كانت بجنايتهم على يوسف، فبادر يوسف إلى العفو [عن حقّه]، و أخّر يعقوب العفو لأنّ عفوه [إنّما]كان عن حقّ غيره، فأخّرهم إلى السحر ليلة الجمعة» (1).

و عن الشّعبي، قال: «قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي قال: أسأل يوسف، فان عفا عنكم استغفر لكم، فأخّر الاستغفار إلى وقت الاجتماع بيوسف» (2).

ثمّ أنّهم خرجوا من كنعان متوجّهين إلى مصر، فلمّا دنوا منه أخبر بذلك يوسف، فاستقبلهم مع الملك الأكبر ريّان في أربعة آلاف من الجند، و قيل: في ثلاثمائة ألف فارس و العظماء و أهل مصر، و مع كلّ فارس جنّة من فضة و راية من ذهب، فتزينت الصحراء بهم، و اصطفوا صفوفا، و كان الكلّ غلمان يوسف و مراكبه، و صعد يعقوب و أولاده تلاّ نظروا إلى الصحراء مملوءة من الفرسان، مزينة بالألوان، فتعجّب من ذلك فقال له جبرئيل: انظروا إلى الهواء، فانّ الملائكة قد حضرت سرورا بحالكم، كما كانوا محزونين مدّة لأجلك، ثمّ نظر يعقوب إلى الفرسان فقال: إنّ فيهم ولدي يوسف: فقال جبرئيل: هو ذاك فوق رأسه الظّلّة، فلم يتمالك أن دفع نفسه عن البعير، فجعل يمشي متوكّأ على يهودا، فقال جبرئيل: يا يوسف، إنّ أباك يعقوب قد نزل لك فانزل له منزلا، فنزل من فرسه، و جعل كل واحد منهما يعدو إلى الآخر، فلمّا تقرّبا قصد يوسف أن يبدأ بالسلام، فقال جبرئيل: لا، حتى يبدأ يعقوب به لأنّه أفضل و أحقّ. فابتدأ يعقوب بالسلام، و قال: السّلام عليك يا مذهب الأحزان، فتعانقا و بكيا سرورا، و بكت ملائكة السماء، و ماج الفرسان بعضهم في بعض و صهلت الخيول و سبّحت الملائكة (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ يوسف لمّا قدم على (4)الشيخ يعقوب دخله عزّ الملك فلم ينزل إليه، فهبط عليه جبرئيل، فقال: يا يوسف، ابسط راحتك، فخرج منها نور ساطع، فصار في جوّ السماء» فقال يوسف: يا جبرئيل، ما هذا النور الذي خرج من راحتي فقال: نزعت النبوة من عقبك عقوبة لمّا لم تنزل إلى الشيخ يعقوب، فلا يكون في عقبك نبي» (5).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 99

فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اَللّهُ آمِنِينَ (99)

ص: 442


1- . علل الشرائع:54/1، تفسير الصافي 3:46.
2- . تفسير روح البيان 4:318.
3- . تفسير روح البيان 4:319.
4- . في الكافي و تفسير الصافي: عليه.
5- . الكافي 2:235/15، تفسير الصافي 3:47.

ثمّ قيل: إنّه هيأ بيتا في خارج مصر أو مضربة هناك قعد يوسف فيه (1)و قيل: كان له في خارج مصر قصر رفيع، فلمّا استقبل أبويه أنزلهم هناك أولا فَلَمّا جاء يعقوب و زوجته اسمها أليا أو ياميل، و كانت خالته و مربيته بعد امّه راحيل، و لعلّه كان يقول لها امّ و سائر إخوته دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ في القصر أو البيت أو المضربة آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ يعقوب و راحيل، أو خالته التي كانت بمنزلة امّه، و عانقهما ثمّ قام وَ قالَ لأبويه و إخوته و أقاربه (2): اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اَللّهُ حال كونكم آمِنِينَ من الجوع و إساءة الجبابرة إليكم و سائر المكارة.

قيل: إنّهم كانوا من قبل يخافون ملك مصر و جبابرته، و لا يدخلونها إلا باجازتهم، و كانوا اثنين و سبعين رجلا و امرأة، فدخلوا جميعا مصر (3). و [عن]القمي: لمّا وافى يعقوب و أهله و ولده مصر قعد يوسف على سريره، و وضع تاج الملك على رأسه، فأراد أن يراه أبوه على تلك الحالة، فلمّا دخل عليه أبواه لم يقم لهما (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 100

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ و أجلسهما على السرير المختصّ به إكراما لهما، بعد أن تواضع له أبواه و إخوته وَ خَرُّوا لَهُ على الأرض حال كونهم سُجَّداً له تحية و مكرمة.

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ (100)قيل: إنّ السجود كان في ذلك الزمان بمنزلة المصافحة و تقبيل اليد في هذا الزمان (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان سجودهم ذلك عبادة للّه» (6).

قيل: يعني لأجل وجدانه و لقائه سجدوا شكرا للّه، و جعلوا يوسف كالقبلة. و قيل: إنّه لم يسجد له أبواه بل إنّما سجد له إخوته (7)، و المراد في تعبير الرؤيا من سجود الأبوين تعظيمهما له.

و قيل: إنّما سجد يعقوب لأجل أن لا يستنكف من السجود له أنفة و استعلاء عليه. و قيل: إن اللّه أمر يعقوب بالسجود له لحكمة لا يعلمها غيره، كما أمر الملائكة بالسجود لآدم (8).

ص: 443


1- . تفسير روح البيان 4:320.
2- . تفسير روح البيان 4:320.
3- . تفسير روح البيان 4:320.
4- . تفسير القمي 1:356، تفسير الصافي 3:48.
5- . تفسير روح البيان 4:320.
6- . تفسير العياشي 2:370/2158، تفسير الصافي 3:48.
7- . تفسير الرازي 18:212.
8- . تفسير الرازي 18:213.

عن ابن عباس: أنّ يوسف لمّا رأى سجود أبويه و إخوته له، هاله ذلك، و اقشعرّ جلده منه وَ قالَ ليعقوب: يا أَبَتِ هذا السجود تَأْوِيلُ رُءْيايَ التي رأيتها مِنْ قَبْلُ و في زمن الصبى قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا و صدقا و مطابقة لما وقع الآن بعد أربعين سنة، أو ثمانين، أو عشرين.

و عن الباقر عليه السّلام: «لما دخلوا على يوسف في دار الملك، اعتنق أباه و بكى، [و رفعه]و رفع خالته على سرير الملك، و دخل منزله فادّهن و اكتحل، و لبس ثياب العزّ و الملك، ثمّ خرج إليهم، فلمّا رأوه سجدوا [جميعا]له إعظاما و شكرا للّه، فعند ذلك قال: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» (1).

وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي ربي صنيعه إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ و إنّما لم يذكر خروجه من الجبّ لأن لا يستحي إخوته، و لا يكون تثريبا عليهم، و لا يتألم قلب أبيه بتذكّر إلقائه في الجبّ، و لأنّه كان الإحسان بإخراجه من السجن أتمّ، لانّه كان في الجبّ مع جبرئيل، و في السجن مع الكفّار، و إنّه بعد الخروج من الجب صار عبدا، و بعد الخروج من السجن صار ملكا.

ثمّ ذكر الإحسان الثاني بقوله: وَ جاءَ بِكُمْ إليّ مِنَ اَلْبَدْوِ و الصحراء.

و قيل: إنّ البدو كان اسم موضع معمور من فلسطين قريبا من كنعان يسكنه يعقوب (2)، و كان ذلك الاحسان مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ و أفسد اَلشَّيْطانُ بتسويلاته بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي و في هذا التعبير مبالغة في الاحسان إلى إخوته حيث نسب ما فعله الإخوة به إلى الشيطان، و عبّر عنه بالنّزغ.

ثمّ اثنى على اللّه بقوله: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ و ذو إحسان خفيّ بعباده و مسبّب الأسباب لِما يَشاءُ وجوده بسهولة، و إن كان عند العقول في غاية البعد و الصعوبة.

ثمّ ذكر علّة لطف تدابيره بقوله: إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ بجميع الخصوصيات و خفايا الممكنات اَلْحَكِيمُ و متقن في أفعاله، آت بما هو الصواب و الصلاح لعباده.

عن الغزالي: لا يستحقّ اسم اللطيف إلاّ من يعلم دقائق المصالح و غوامضها، و ما دقّ منها و لطف، ثمّ يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف، و لا يتصوّر كمال ذلك في العلم و العقل إلاّ اللّه تعالى (3).

عن الهادي عليه السّلام: «قال يعقوب لابنه: أخبرني بما فعل إخوتك بك حين أخرجوك من عندي. قال: يا أبه، أعفني من ذلك. قال: فأخبرني ببعضه. قال: إنّهم لمّا أدنوني من الجبّ قالوا: انزع القميص.

ص: 444


1- . تفسير العياشي 2:369/2156، تفسير الصافي 3:48.
2- . تفسير روح البيان 4:322.
3- . تفسير روح البيان 4:323.

فقلت: يا إخوتي، اتّقوا اللّه و لا تجرّدوني، فسلّوا عليّ السكّين و قالوا: لئن لم تنزع لنذبحنّك، فنزعت القميص و ألقوني في الجبّ عريانا. قال: فشهق يعقوب شهقة و أغمي عليه، فلمّا أفاق قال: يا بنيّ حدّثني. قال: يا أبه أسألك بإله إبراهيم و إسحاق و يعقوب إلاّ أعفيتني، فأعفاه» (1).

و روي أنّ يوسف قال ليعقوب: [يا أبه]لا تسألني عن صنيع إخوتي، و اسألني عن صنيع اللّه بي (2).

روي أنّ يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله في خزائن الورق (3)و الذهب، و خزائن الحليّ، و خزائن الثياب، و خزائن السلاح و غير ذلك، فلمّا أدخله في خزائن القراطيس-و هو أول من عملها-قال يعقوب: يا بنيّ، ما أعقّك (4)! عندك هذه القراطيس و ما كتبت إليّ على ثماني مراحل؟ ! قال: أمرني جبرئيل. قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه منّي فاسأله. قال جبرئيل: اللّه أمرني بذلك لقولك: إني أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ قال: فهلا خفتني (5)؟

قيل: لمّا قدم يعقوب على يوسف و قد سأله أولاده أن يستغفر لهم قام في مصلاه إلى الصلاة في السحر ليلة الجمعة، و كانت ليلة عاشوراء، فلمّا فرغ رفع يديه و قال: اللهم اغفر جزعي على يوسف و قلّه صبري عنه و اغفر لولدي ما أتوا به أخاهم. و قام يوسف خلفه يؤمّن، و قام إخوته خلفهما خاشعين، فأوحى اللّه إليه: أنّ اللّه قد غفر لك و لهم أجمعين، ثمّ لم يزل يدعو لهم كلّ ليلة جمعة مائة و (6)نيف و عشرين سنة إلى أن حضرته الوفاة (7).

قيل: ولد ليوسف من راعيل الملقّبة بزليخا افرائيم و ميشا و حمة امرأة أيوب، و ولد لافرائيم نون، و لنون يوشع فتى موسى، فلمّا نزل يعقوب في قصر يوسف جاء أولاد يوسف فوقفوا بين يدي يعقوب، ففّرح بهم و قبّلهم، و حدّثه يوسف بحديثه مع زليخا، و ما كان بينه و بين زليخا (8)، و أخبره أنّ هؤلاء أولاده منها، فدعاها (9)يعقوب، فحضرت و قبّلت يده، و سالته زليخا أن ينزل عندها، فقال: لا أرضى بزينتكم هذه، و لكن اصنعوا لي عريشا من البردي و القصب مثل عريشي بأرض كنعان، فصنعوا له عريشا كما أراد و نزل فيه في أتمّ سرور (10).

و روي أن يعقوب أقام مع يوسف مائة و سبعا-أو أربعا-و عشرين سنة (11)، و أوصى أن يدفنه

ص: 445


1- . تفسير القمي 1:357، تفسير الصافي 3:49.
2- . مجمع البيان 5:407، تفسير الصافي 3:50.
3- . الورق: الفضّة.
4- . في تفسير الرازي: ما أغفلك.
5- . تفسير الرازي 18:216، تفسير روح البيان 4:323.
6- . في تفسير روح البيان: جمعة في.
7- . تفسير روح البيان 4:318.
8- . في تفسير روح البيان: كان منه و منها.
9- . في تفسير روح البيان: فاستدعاها.
10- . تفسير روح البيان 4:323.
11- . في تفسير الرازي 18:216: أقام معه أربعا و عشرين سنة.

بالشام إلى جنب أبيه إسحاق، فنقله يوسف بنفسه في تابوت من ساج فوافق يوم وفاة عيص فدفنا في قبر واحد، و كانا في بطن واحد، و كان عمرهما مائة و سبعا و أربعين سنة، ثمّ عاد إلى مصر، و عاش بعد أبيه ثلاثا و عشرين سنة، و كان عمره مائة و عشرين سنة (1).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «دخل يوسف في السجن و هو ابن اثنتي عشرة سنة، و مكث فيها ثماني عشر سنة، و بقي بعد خروجه ثمانين سنة، فذلك مائة سنة و عشر سنين» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر؟ قال: «عاش حولين» .

قيل: فمن كان الحجة للّه في الأرض، أيعقوب أم يوسف؟ قال: «كان يعقوب [الحجة]، و كان الملك ليوسف، فلمّا مات يعقوب حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام فدفن في بيت المقدس، فكان يوسف بعد يعقوب الحجة»

قلت: و كان [يوسف]رسولا نبيا؟ قال: «نعم، اما تسمع قول اللّه عز و جل: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ» (3).

أقول: لعلّ الرواية محمولة على أنّ يوسف لم يكن حجّة على جميع الناس، بل على غير يعقوب، و إنّما صار حجّة على الجميع بعد موت يعقوب لوضوح أنّه عليه السّلام كان يوحى إليه، و ينزل عليه جبرئيل، و يكلّمه و يؤنسه، و لا يكون ذلك إلاّ النبيّ و الرسول.

قيل: إنّه عليه السّلام لمّا جمع اللّه شمله، و بلغ ملكه و أمره إلى الكمال، علم أنه أشرف إلى الزوال فسأل اللّه الموت (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 101

و قيل: إنّه رأى أبيه في المنام، فقال: يا يوسف، إنّي مشتاق إلى لقائك فأسرع إليّ إلى ثلاثة أيام. ثمّ انتبه من نومه و دعا إخوته، و أوصى بوصاياه، و ولي يهودا ملكه، و أوصى إليه في حقّ أولاده، ثمّ ناجى ربه و قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي (5)مقدارا و قليلا مِنَ اَلْمُلْكِ و السلطنة الدنيوية، و هو ملك مصر وَ عَلَّمْتَنِي بالالهام و الوحي شيئا مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ و تعبير الرؤى، أو قليلا من العلم

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ (101)

ص: 446


1- . تفسير روح البيان 4:324.
2- . مجمع البيان 5:407، تفسير الصافي 3:50.
3- . مجمع البيان 5:407، تفسير الصافي 3:50. (4 و 5) . تفسير روح البيان 4:324.

بحقائق الأشياء و الامور، يا فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خالقهما بقدرتك و حكمتك أَنْتَ مع كمال الصفات وَلِيِّي و الناظر في صلاحي و مدبّر اموري فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ إذن تَوَفَّنِي و اقبض روحي، و أخرجني من الدنيا حال كوني مُسْلِماً و موحّدا و مطيعا لأحكامك، مهذّب الأخلاق، كريم الصفات، كاملا من جميع الجهات وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ و الكمّلين في صفات العبودية، و الراقين في أعلى درجات المعرفة و الانسانية من آبائي العظام، و أوليائك الكرام، و اجعلني في زمرتهم و رفقائهم.

قيل: إنّ الصلاح مرتبة عظيمة جامعة لجميع المراتب الكمالية (1).

قيل: ما تمنّى الموت نبي غير يوسف (2).

و قيل: إنّه عليه السّلام ناجى ربّه بعد ملاقاة أبيه بتلك الكلمات تشكرا لنعم اللّه عليه (3).

و في رواية عن الهادي عليه السّلام: «فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا للّه لاجتماع شملهم، أ لم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ» الآية (1).

قيل: إنّ يوسف ذكر رؤياه الناعية لزليخا، و دعا بالدعاء، فعلمت أنّ اللّه يقبل دعاءه، و أن الأمر يصير إلى الفرقة، دعت اللّه أن يعجّل وفاتها قبل وفاة يوسف (2).

و قيل: ماتت زليخا قبل وفاة يوسف مدة مديدة، فحزن عليها، و لم يتزوج، و لمّا قربت وفاة يوسف أوصى إلى ولده افرائيم أن يسوس الناس (3).

و قيل: إنّ يوسف خرج بأهله و ولده و جميع من آمن معه من مصر، و نزل عليه جبرئيل، فخرق له من النيل خليجا إلى الفيّوم (4)، و لحق به كثير من الناس، و بنوا هناك مدينتين، و سمّوهما الحرمين، و كان يوسف هناك سنين إلى أن مات، فتخاصم المصريون في مدفنه من جانبي النيل كلّ طائفة أرادوا أن يدفن يوسف في جانبهم تبرّكا بقبره الشريف، و جلبا للخصب حتّى همّوا بالقتال، ثمّ تصالحوا على أن يدفن سنة في جانب مصر، و سنة اخرى في جانب آخر من البدو، فدفن في الجانب المصري فأخصب ذلك الجانب و أجدب الجانب الآخر من البدو، ثمّ نقل إلى الجانب البدوي فأخصب ذلك الجانب و أجدب الجانب الآخر المصري، ثمّ اتفقوا على دفنه في وسط النيل، و قدّروا ذلك بسلسلة، و عملوا له صندوقا من مرمر (5).

ص: 447


1- . تفسير القمي 1:356، تفسير الصافي 3:49.
2- . تفسير روح البيان 4:326.
3- . تفسير روح البيان 4:327.
4- . الفيّوم: موضع في مصر، بينها و بين الفسطاط أربعة أيام.
5- . تفسير روح البيان 4:327.

قيل: إنّ اللّه تعالى حين أمر موسى بالسير ببني إسرائيل، أمره أن يحمل عظام يوسف معه حتى يضعها في الأرض المقدّسة (1).

قيل: إنّه عليه السّلام لمّا أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك، و كان نقل موسى عظامه للوفاء بما أوصى به فسأل موسى عمن يعرف موضع قبره، فما وجد أحدا يعرفه إلاّ عجوزا في بني إسرائيل، فقالت له: يا نبي اللّه، أنا أعرف مكانه و أدلّك عليه إن أنت تخرجني معك و لم تخلّفني بأرض مصر. قال: أفعل ذلك.

و قيل: إنّها قالت: أكون معك في الجنّة، فكأنّه ثقل عليه ذلك فقيل له: أعطها طلبتها فأعطاها، و قد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر، فدعا ربّه أن يؤخّر طلوع القمر حتى يفرغ من أمر يوسف ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل-و قيل: في مستنقع ماء في ناحية [من]النيل، فقالت لهم: أنضبوا و ارفعوا عنها الماء ففعلوا، فقالت: احفروا فحفروا [و أخرجوه].

و قيل: ذهبت بموسى إلى عمود في شاطىء النيل في أصله سكّة من حديد فيها سلسلة مربوطة بصندوق من حديد في وسط النيل، فاستخرجه موسى و فتح الصندوق، فوجد صندوقا من مرمر داخلا في ذلك الصندوق الذي من الحديد فأخرجه (2).

و قيل: إنّه جاء موسى شيخ له ثلاثماثة سنة، فقال له: يا نبي اللّه، ما يعرف قبر يوسف إلاّ والدتي. فقال له موسى: قم معي إلى والدتك، فقام الرجل و دخل منزله، و أتى بقفّة فيها والدته، فقال لها موسى: ألك علم بقبر يوسف؟ قالت: نعم، و لا أدلّك على قبره، إلا إن دعوت اللّه أن يردّ عليّ شبابي إلى سبع عشرة سنة، و يزيد في عمري مثل ما مضى، فدعا لها موسى و قال لها: كم عمرك؟ قالت: تسعة مائة سنة، فعاشت ألفا و ثمانمائة سنة، فأدّته إلى (3)قبر يوسف، و كان في وسط النيل ليمرّ النيل عليه فيصل إلى جميع مصر، فيكونوا شركاء في بركته، فأخصب الجانبان، و كان بين دخول يوسف مصر إلى يوم خروج موسى أربعمائة سنة (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه أوحى إلى موسى بن عمران، أن أخرج عظام يوسف من مصر، فاستخرجه من شاطئ النيل، و كان في صندوق مرمر، فحمله إلى الشام، فلذلك يحمل أهل الكتاب

ص: 448


1- . تفسير روح البيان 4:327.
2- . في تفسير روح البيان: فاحتمله.
3- . في تفسير روح البيان: فأرته.
4- . تفسير روح البيان 4:328.

موتاهم إلى الشام، و هو يوسف بن يعقوب، و ما ذكر اللّه يوسف في القرآن غيره» (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 102 الی 103

ثمّ لمّا كان الأخبار المغيبات من أعظم المعجزات، استدلّ سبحانه بأخبار النبيّ الامي الذي لم يجالس عالما و لم يقرأ كتابا على صدق نبوته بقوله: ذلِكَ المذكور من قصة يوسف مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ و الأخبار التي لا يطّلع مثلك يا محمد عليها بالأسباب العادية، بل نحن نُوحِيهِ إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل، لأنّها منحصرة في السماع من المطّلعين، و مطالعة الكتب، و هما منتفيان في حقّك بتسليم المخالف و الموالف، و في الحضور عند وقوع القضية، و هذا أيضا منتف بالضرورة لوضوح أنّك ما كنت في ذلك الزمان في العالم وَ ما كُنْتَ عند إخوة يوسف، و حاضرا لَدَيْهِمْ لا سيما إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ و حين عزموا على ما رأوا من إلقاء يوسف في الجبّ، أو حين اتّفقوا عليه مع كونهم في غاية التستّر فيه وَ هُمْ يَمْكُرُونَ به بترغيبه في الخروج معهم إلى التفرّج، و بأبيه بترضيته خاطره في إرساله معهم، فمع انتفاء الحضور عندهم، و عدم كونك قارئا للكتب، و متعلما من العلماء، ثبت كونك عالما بها بالايحاء إليك من اللّه، و نبيا صادقا في دعوى نبوتك، و مع ذلك وَ ما أَكْثَرُ اَلنّاسِ من اليهود و النصارى و المشركين وَ لَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم، و بالغت في دعوتهم و إظهار المعجزات لهم بِمُؤْمِنِينَ بك لعنادهم و شدّة لجاجهم و إصرارهم على إنكار نبوتك.

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَ ما أَكْثَرُ اَلنّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)روي أنّ كفّار قريش و جماعة من اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قصة يوسف على سبيل التعنّت، فلمّا أخبرهم على طبق التوراة لم يسلموا، فحزن النبي صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت الآية تسلية له (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 104 الی 106

ثمّ لمّا كان من دواعي التكذيب توهّم طمع المال في المبلّغ، دفع اللّه هذا التوهم بقوله: وَ ما تَسْئَلُهُمْ يا محمد، عند تبليغ المعارف و الأحكام عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و مال يعطونك ما يسأله

وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (106)

ص: 449


1- . من لا يحضره الفقيه 1:123/594، تفسير الصافي 3:51.
2- . تفسير روح البيان 4:328.

أهل الطمع على تعليماتهم إِنْ القرآن و ما هُوَ أو ما تبليغك إِلاّ ذِكْرٌ و عظة لِلْعالَمِينَ عامة، و بعثا لهم على سلوك سبيل النجاة، و إنّما هو لي و عليّ أجره لا على الناس، فلا مجال لتوهّم شوب غرضك في تبليغك بالدنيا.

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيه صلّى اللّه عليه و آله في إعراض الكفار عنه و عدم اعتنائهم بمعجزاته بقوله: وَ كَأَيِّنْ و كثير مِنْ آيَةٍ و كم من دليل واضح على وجود الصانع الحكيم و توحيده فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و هؤلاء الكافرون المعاندون يَمُرُّونَ عَلَيْها و يشاهدونها وَ هُمْ لا يلتفتون إليها، بل هم عَنْها مُعْرِضُونَ و بها لا يعتنون، و فيها لا يتفكّرون، و لا يعتبرون بها.

قيل: لمّا سمع المشركون تلك الآية قالوا: إنا نؤمن باللّه الذي خلق الأشياء، فردّهم اللّه بقوله: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ (1)و لا يعترفون بألوهيّته إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ به في العبوديّة و الطاعة.

عن ابن عباس، أنّه قال: نزلت في تنبيه المشركين (2)، لأنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه و ما ملك.

و عنه أيضا: هم الذين يشبّهون اللّه بخلقه.

و عنه أيضا: أنّ أهل مكة قالوا: اللّه ربنا وحده لا شريك له، و الملائكة بناته، فلم يوحّدوه، بل أشركوا و قال عبدة الأصنام: ربّنا اللّه وحده، و الأصنام شفعاؤنا عنده، و قالت اليهود: ربنا اللّه وحده و عزير ابن اللّه، و قالت النصارى: ربنا اللّه وحده لا شريك له و المسيح ابن اللّه، و قال عبدة الشمس و القمر: ربنا اللّه وحده، و هؤلاء أربابنا، و قال المهاجرون و الأنصار: ربّنا اللّه وحده لا شريك معه (3).

عن الباقر عليه السّلام: «شرك طاعة و ليس شرك [عبادة]» (4).

و زاد القمي رحمه اللّه: و المعاصي التي يرتكبون، فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا باللّه في الطاعة لغيره، و ليس باشراك عبادة (5).

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «يطيع الشيطان من حيث لا يعلم فيشرك» (6).

و عنه عليه السّلام: «هم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها» (7).

و عنه عليه السّلام أيضا: «هو الرجل يقول: لو لا فلان لهلكت، و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا، و لو لا فلان

ص: 450


1- . تفسير روح البيان 4:329.
2- . في تفسير الرازي: تلبية مشركي العرب.
3- . تفسير الرازي 18:224.
4- . تفسير العياشي 2:373/2168، تفسير القمي 1:358، تفسير الصافي 3:52.
5- . تفسير القمي 1:358، تفسير الصافي 3:52.
6- . الكافي 2:292/3، تفسير الصافي 3:53.
7- . التوحيد:324/1، تفسير الصافي 3:53.

لضاع عيالي، ألا ترى أنّه قد جعل للّه شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه» .

قيل: فيقول لو لا أن منّ اللّه عليّ بفلان لهلكت؟ قال: «نعم، لا بأس بهذا» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «من ذلك قول الرجل: لا و حياتك» (2).

و عنهما عليهما السّلام: «هو شرك النّعم» (3).

و عن الرضا عليه السّلام: «شرك لا يبلغ به الكفر» (4).

أقول: الوجه هو حمل الروايات على بيان عدم انحصار مدلول الآية بالشّرك في العبادة، و إنّ المراد منها جميع مراتب الشّرك و لو بأن يرى مع اللّه غيره بقوله لغيره: و حياتك، مع أنّ هذا الكلام ليس من الشّرك في الطاعة.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 107

ثمّ هدّد اللّه سبحانه المشركين و الكافرين بنبوة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: أَ فَأَمِنُوا مع كفرهم و شركهم من أَنْ تَأْتِيَهُمْ و تنزل عليهم بسبب مشاقّتهم اللّه و رسوله عقوبة غاشِيَةٌ لهم منبسطة عليهم مِنْ عَذابِ اَللّهِ بحيث لا ينجو منها أحد منهم، كالصّاعقة و الخسف و الطّوفان أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسّاعَةُ و أهوال القيامة بَغْتَةً و فجأة، و في حال عدم كونهم متوقّعين لها، و غير محتملين إتيانها وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمجيئها، و لاشتغالهم بالدنيا لا يلتفتون إليها، و فيه تأكيد معنى البغتة.

أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اَللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 108

ثمّ أنّه تعالى بعد تسليه نبيه صلّى اللّه عليه و آله و ذمّ المشركين بإعراضهم عن الآيات الدالّة على توحيده و كمال صفاته، و تهديدهم عليه، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالثبات على الدعوة إلى توحيده رغما لانوفهم و عدم المبالاة بجحدوهم بقوله: و قُلْ يا محمد للمشركين و المكذّبين لك هذِهِ السبيل التي أسلكها، و الطريق التي أنا فيها سَبِيلِي التي لا انحراف لي منها أبدا ما دمت حيا، و هي أنّي أَدْعُوا جميع

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اَللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (108)

ص: 451


1- . تفسير العياشي 2:374/2169، تفسير الصافي 3:53.
2- . تفسير العياشي 2:372/2163، تفسير الصافي 3:53.
3- . تفسير العياشي 2:374/2170، تفسير الصافي 3:53.
4- . تفسير العياشي 2:373/2165، تفسير الصافي 3:53.

أهل العالم من الأبيض و الأسود و العرب و العجم إِلَى توحيد اَللّهِ ذاتا و صفاة و أفعالا، و إلى دينه و طاعته، حال كوني عَلى بَصِيرَةٍ كاملة، و حجّة قاطعة، و برهانا واضحا، بل على تنوّر القلب و شهود به لما اعتقده و أدعو إليه، و لا أكون متفرّدا بهذه الطريقة، بل أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي من الأنبياء السابقين و الأولياء اللاحقين و المؤمنين الكمّلين عليها.

روى العلامة في (نهج الحق) عن العامة قوله تعالى: أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي هو علي (1).

عن الباقر عليه السّلام: «ذاك رسول اللّه و أمير المؤمنين و الأوصياء من بعدهما» (2).

و عنه عليه السّلام: «عليّ اتّبعه» (3).

و عن الجواد عليه السّلام حين أنكروا عليه حداثة سنّة قال: «و ما تنكرون؟ قال اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي الآية، فو اللّه ما تبعه إلاّ عليّ و له تسع سنين، و أنا ابن تسع سنين» (4).

ثمّ بالغ في الاعلان بتوحيد اللّه بتنزيهه عن الشرك بقوله: وَ سُبْحانَ اَللّهِ عمّا يقول الظالمون من الإشراك، ثمّ بالتبرّي منه بقوله: وَ ما أَنَا أيها الناس مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ الذين اتّخذوا للّه ضدّا و ندّا و ولدا.

و في رواية عن الصادق عليه السّلام في تفسير سُبْحانَ اَللّهِ قال: «تنزيهه» (5).

و في رواية اخرى، قال: «أنفة اللّه، أما ترى الرجل إذا عجب من الشيء قال: سبحان اللّه» (6).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 109 الی 110

ثمّ لمّا كان من شبهات المشركين في نبوته صلّى اللّه عليه و آله أنّ اللّه لو أراد أن يرسل رسولا لأرسل ملكا، فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا إلى الناس مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السابقة على إرسالك لتبليغ التوحيد و المعارف و الأحكام و هداية البشر إِلاّ رِجالاً مثل سائر الرجال يأكلون و يشربون و يمشون في الأسواق، و إنّما كانوا يمتازون من غيرهم بأنّا كنّا نُوحِي إِلَيْهِمْ العلوم و المعارف

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ (110)

ص: 452


1- . نهج الحق و كشف الصدق:196.
2- . الكافي 1:352/66، مناقب ابن شهر آشوب 4:378، تفسير الصافي 3:53.
3- . روضه الواعظين:105، تفسير الصافي 3:53.
4- . الكافي 1:315/8، تفسير الصافي 3:53.
5- . الكافي 1:92/11، تفسير الصافي 3:54.
6- . الكافي 3:329/5، تفسير الصافي 3:53.

و الأحكام لامتيازهم بكمال العقل و نزاهة النفس من الراذئل، و تزيّنهم بالصفات الحميدة و الأخلاق الكريمة، و كانوا مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى من الأمصار و الرساتيق، لا البوادي، و لا الملائكة، و لا الجنّة (1)و لا النساء، و مع ذلك كيف يتعجّب هؤلاء المشركون من إرسالك رسولا إليهم.

ثمّ استدلّ سبحانه على رسالة هؤلاء الرجال بتعذيب مكذّيبهم بقوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا هؤلاء المشركون فِي اَلْأَرْضِ و لم يسافروا إلى البلاد فَيَنْظُرُوا بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الامم المكذّبة اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ بتكذيبهم اولئك الرجال المرسلين إليهم، فانّ آثار نزول عذاب الاستئصال عليهم باقية إلى الآن في محالّهم و أماكنهم، و فيه تهديد مكذّبي النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ لمّا كان عمدة الباعت على تكذيب الرسل حبّ الدنيا و زخارفها، و عظهم اللّه تعالى و رغّبهم في الآخرة بقوله: وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ و نعمها (2)الباقية خَيْرٌ و أفضل ما حسن من الدنيا و نعيمها لو كان فيها حسن و فضيلة، و إنّما هي لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا الشرك و المعاصي، و احترزوا من مخالفة اللّه و أحكامه أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها المشركون الذين تدعون لأنفسكم العقل هذه الافضلية مع كمال وضوحها، و لا تدركون هذه الخيرية مع بداهتها، لأنّ العقل يحكم بالبديهة بأنّ الباقي و إن كان فى غاية القلّة خير من الزائل و إن كان في غاية الكثرة، مع أنّ نعم الآخرة أكثر و أهنأ من نعم الدنيا.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بالعذاب بقوله: أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اَللّهِ و قوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ و قد كانوا في أرغد عيش و طول عمر، نبّه سبحانه على أنّ الحكمة مقتضية لتأخيره عنهم، كما أخّر نزوله على الامم السابقة المهلكة.

حَتّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ الذين كانوا قبلك من إيمان قومهم، و انقطع رجاؤهم من قبولهم التوحيد و دخولهم في دين الحقّ، و قومهم قد تجرأوا في تكذيبهم وَ ظَنُّوا و توهّموا أَنَّهُمْ فيما أخبروا به على لسان رسلهم من نصر لرسلهم و هلاك أنفسهم العذاب الاستئصال قَدْ كُذِبُوا و اجترأوا بما هو خلاف الواقع جاءَهُمْ و نزل على اولئك الرسل نَصْرُنا و إعانتنا لهم بنزول العذاب على قومهم فَنُجِّيَ من ذلك العذاب مَنْ نَشاءُ نجاته و هم الرسل و أتباعهم المؤمنون بهم، و هلك به غيرهم ممّن خالفهم و كذّبهم وَ لا يُرَدُّ و لا يصرف بَأْسُنا و عذابنا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ و العاصين لنا بانكار التوحيد و تكذيب الرسل.

و اعلم أنّ تفسير الآية المباركة بالوجه الذي ذكرنا بناء على القراءة المعروفة-و هي قراءة كذّبوا بالتخفيف-سليم من الاشكال. و أمّا سائر التفسيرات التي ذكرها المفسّرون-و إن كان بعضها منقولا

ص: 453


1- . في النسخة: الأجنة.
2- . في النسخة: و نعيمها.

عن ابن عباس، و بعضها مرويا عن أئمتنا عليهم السّلام-ففيها إشكالات عظيمة لا يمكن دفعها، فلذا أعرضنا عن ذكرها، و أطرحنا تلك الروايات لعدم صحّتها و اعتبارها.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 111

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر قصة يعقوب و يوسف مفصّلا في هذه السورة المباركة، و ذكر قصص سائر الأنبياء فيها مجملا و في غيرها مفصلا، بيّن الغرض من ذكرها بقوله: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ و بيان أحوالهم، و كيفية دعوتهم و معاملتهم مع اممهم، و معارضة اممهم لهم، و ابتلاء المعارضين لهم بالعذاب عِبْرَةٌ و عظة و فائدة عظيمة من معرفة اللّه بالقدرة الكاملة و الحكمة البالغة، و غاية لطفه بعباده الصالحين، و شدّة قهره على الكفّار و المجرمين لِأُولِي اَلْأَلْبابِ و ذوي العقول السليمة، فانّهم الذين يعتبرون بها و يستفيدون منها.

لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)ثمّ مدح سبحانه كتابه المجيد المشتمل على تلك القصص بالصدق لتوقّف الاعتبار بها على العلم به بقوله: و ما كانَ حَدِيثاً و قولا صادرا من البشر يُفْتَرى على اللّه و ينسب إليه كذبا وَ لكِنْ كان تَصْدِيقَ مطلق الكتاب اَلَّذِي نزل من السماء بَيْنَ يَدَيْهِ و من قبل نزوله، و مطابقا له، أو سببا لكون الأخبار التي في الكتاب بنزول هذا القرآن في آخر الزمان صدقا، لأنّه لو لم ينزل لكان جميع تلك الأخبار كذبا، أو سببا لتصديق الناس نزول الكتب السابقة من اللّه لثبوت صحّة هذا القرآن المخبر بنزول التوراة و الانجيل و الزّبور و صحف إبراهيم من السماء، لاشتمال هذا القرآن على الاعجاز بجهات عديدة دون سائر الكتب، و انقطاع تواتر كون سائر الكتب نازلا من اللّه، فلولا تصديق القرآن المشتمل على الاعجاز لها، لم يكن لأحد طريق إلى تصديقها و أنّها ممّا أتى بها الرسل.

وَ في القرآن يكون تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ من امور الدين، بل تبين جميع ما يحتاج إليه البشر من العلوم و الآداب، لأنّه ما من علم إلاّ و فيه أصله، بل فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و إنّما يختصّ استفادتها عنه بالراسخين في العلم، بل لا يعلمون شيئا إلاّ من القرآن وَ يكون هو هُدىً و رشادا من الضلال لمن استهدى به، و دلالة إلى جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية لمن تدبّر فيه و استدلّ به وَ رَحْمَةً و سببا للفوز بالمراتب العالية من الكمالات الانسانية و بالدرجات الرفيعة من القرب، و بالنّعم الدائمة و الراحة الأبدية لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به، العاملون بما فيه، فالكتاب الذي له هذه الصفات الجليلة و الآثار الكريمة و البركات العظيمة، لا يمكن أن يكون

ص: 454

باختلاق البشر و من مفترياتهم على اللّه، سيما إذا جاء به الامّي الذي لم يقرأ كتابا و لم يجالس عالما، و لم يتلمذ عند أحد باتفاق من أهل الانصاف من الأحبّاء و الأعداء.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم، أو في كلّ ليلة، بعثه اللّه يوم القيامة و جماله على جمال (1)يوسف، و لا يصيبه فزع يوم القيامة، و كان من خيار عباد اللّه الصالحين» (2). و زاد العياشي: «و اومن في الدنيا أن يكون زانيا أو فحّاشا» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تعلّموا نساءكم سورة يوسف و لا تقرئوهنّ إياها، فانّ فيها الفتن، و علّموهن سورة النّور، فان فيها المواعظ» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «يكره لهنّ تعلّم سورة يوسف» (5).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسيرها.

ص: 455


1- . في تفسير العياشي: كجمال، و في ثواب الأعمال: مثل جمال.
2- . ثواب الأعمال:106، تفسير الصافي 3:55.
3- . تفسير العياشي 2:321/2073، تفسير الصافي 3:55.
4- . الكافي 5:216/2، تفسير الصافي 3:55.
5- . الخصال:586/12، تفسير الصافي 3:55.

ص: 456

في تفسير سورة الرعد

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 1

ثمّ لمّا نبّه سبحانه إجمالا بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ (1)إلى آخره، على أن العالم مملوء من آيات توحيده و قدرته و حكمته و كمال صفاته، ثمّ وصف في آخر السورة كتابه العزيز بأنّه تفصيل كلّ شيء، و كانت آيات أوائل سورة الرعد تفصيل الآيات السماوية و الأرضية، أردف سورة يوسف بها، فابتدأها تيمّنا و تبرّكا بذكر أسمائه المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ أفتتحها بالحروف المقطّعات من قوله: المر و قد مرّ تأويلها و بيان حكمة الابتداء بها (2).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)عن الصادق عليه السّلام: «معناه أنا المحيي المميت الرازق» (3).

و عن ابن عبّاس: أي أنا اللّه أعلم و أرى (4).

و في نقل آخر: أنا اللّه الملك الرحمن (5).

ثمّ أنه تعالى بعد جلب القلوب بذكر الحروف إلى الاستماع، شرع في بيان أهمّ المطالب، و هو عظمة الكتاب المجيد، الدالّ على صحّة نبوة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و صحّة دين الاسلام بقوله: تِلْكَ الآيات المرتّبة في هذه السورة المباركة آياتُ اَلْكِتابِ المنزل عليك يا محمّد، ليكون معجزة باقية لك إلى آخر الدهر، أو آيات الكتاب المنير الذي هو اللوح، أو الذي بشّر اللّه الأنبياء بنزوله في آخر الزمان وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في ذلك الكتاب من المعارف و الأحكام و القصص و المواعظ هو اَلْحَقُّ الثابت الذي يجب على الناس التمسّك به و الاتّباع له وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ و أغلبهم، و هم

ص: 457


1- . يوسف:12/105.
2- . راجع الطرفة (18) من مقدمة المفسّر.
3- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 3:56.
4- . تفسير الرازي 18:230، تفسير روح البيان 4:334.
5- . تفسير الرازي 18:230.

المتّبعون للشهوات لا يُؤْمِنُونَ به بغيا و حسدا و استكبارا و عنادا.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 2

ثمّ أنه تعالى بعد ذمّ الأكثر بعدم الايمان بالكتاب و ما فيه، و كان أهمّ ما فيه الدعوة إلى التوحيد و المعاد، [شرع]في الاستدلال عليهما بقوله: اَللّهُ و المعبود بالاستحقاق هو القادر اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّماواتِ على الأرض مسيرة خمسمائة عام على ما قيل (1)، بقدرته القاهرة بِغَيْرِ عَمَدٍ و اسطوانة مع غاية عظمة أجرامها، و أنتم تَرَوْنَها مرفوعة بلا عمد، فلولا قدرة اللّه القاهرة لا ستحال رفعها و إبقاؤها مرفوعة بلا عمد.

اَللّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)و قيل: إنّ تَرَوْنَها صفة للعمد، و الضمير راجع إليها، و المعنى أنّه تعالى رفع السماوات بغير عمد مرئية (2).

و عن الرضا عليه السّلام «فثمّ عمد، و لكن لا ترونها» (3).

و يمكن أنّ يراد بالعمد غير المرئية قدرة اللّه تعالى. و قيل: إنّها معتمدة على جبل قاف، و هو جبل من زبرجد محيط بالدنيا و لا يراه أحد (4)، و عليه يكون الاستدلال برفعه و وضعه على الجبل لوضوح عدم اقتضاء طبيعتها الرفع و الوضع، و إلاّ لاشتركت الأجسام فيها لاشتراك جميعها في مقتضيات الطبيعة، و يمكن أن يكون عمدها كونها كروية، فإنّ كلّ جزء من الكرة معتمد على الأجزاء الاخر.

ثُمَّ اِسْتَوى سبحانه عَلَى اَلْعَرْشِ و استولى على عالم الوجود بالقدرة و القهر و العلم و التدبير و الحفظ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ مع عظم جرمهما تحت قدرته بأن سيّرهما بكيفية خاصة بارادته، فلولا كونهما مقهورين تحت إرادة القادر لا متنع اختصاصهما بالحركة دون السكون، و اختصاص كُلٌّ منهما بحركة خاصة، و كلّ منهما يَجْرِي و يسير لِأَجَلٍ مُسَمًّى و إلى مدّة معينة، تتمّ فيها أدوارهما.

قيل: هي القيامة التي تكوّر فيها الشمس، و تتكدّر فيها النجوم (5)، و حينئذ تنقطع حركتهما، و ينقضي سيرهما.

ص: 458


1- . تفسير روح البيان 4:335.
2- . تفسير الرازي 18:232.
3- . تفسير العياشي 2:378/2182، تفسير القمي 2:328، تفسير الصافي 3:56.
4- . تفسير الرازي 18:232.
5- . مجمع البيان 6:421.

عن ابن عبّاس: للشمس مائة و ثمانون منزلا (1)، فالمراد ب كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هذا.

يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ في عالم الوجود و ينظّمه، بأن يعطي كلّ موجود من المجرّدات و الماديات و الروحانيات و الجسمانيات ما يحتاج إليه في بقائه و كماله، و يخصّص كلا منهما بوضع و موضع و صفة و حلية مناسبة له، و ينظّم الدنيا بالايجاد و الاعدام، و الإمانة و الإحياء، و الإغناء و الإفقار و غيرها، و لا يشغله شأن عن شأن، فانظروا-أيّها العقلاء-كيف بلطفه يُفَصِّلُ اَلْآياتِ و يبيّن الدلائل على وحدانيته و كمال قدرته و حكمته و سائر صفاته لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ و الحضور في القيامة عند مدبّر اموركم تُوقِنُونَ فانّ اليقين بكمال قدرته و حكمته الموجبة لتنزّهه عن اللغو و العبث، مستلزم لليقين بإعادة الخلق للحساب و جزاء الأعمال.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات السماوية، استدلّ بالآيات الأرضية بقوله: وَ هُوَ الواحد القادر اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ و بسطها من تحت الكعبة يوم دحو الأرض على الماء، لتثبت عليها الأقدام، و يعيش عليها الانسان، و ينقلب فيها الحيوان. ثمّ كانت تكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة، فأثقلها بأن خلق وَ جَعَلَ فِيها بقدرته جبالا رَواسِيَ و ثوابت كالأوتاد لها، تمنعها عن الاضطراب و الانكفاء.

وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2)و قيل: كان اضطرابها من مهابة اللّه و عظمته (3).

قيل: إنّ اللّه خلق الماء، فأرسل عليه ريحا هفّافة، فصفقت الريح الماء، و ضرب بعضه ببعض، فأبرز منه حجارة في موضع الكعبة كأنّها قبّة، فبسط سبحانه من ذلك الموضع جميع الأرض طولا و عرضا (3).

و عن ابن عباس: أوّل جبل وضع على الأرض أبو قبيس (4).

و قيل: أفضل الجبال جبل أحد، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «احد يحبّنا و نحبّه» (5).

ثمّ لمّا كانت الأنهار متولدة من الجبال، أردفها بذكرها بقوله: وَ أَنْهاراً جارية كثيرة لحياة الأرض

ص: 459


1- . تفسير الرازي 18:233.
2- . تفسير روح البيان 4:337.
3- . تفسير روح البيان 4:338.
4- . تفسير روح البيان 4:338، و أبو قبيس: جبل مشرف على مسجد مكة.
5- . تفسير روح البيان 4:338.

و من عليها.

قيل: إنّ الأبخرة تتصاعد من قعر الأرض فتقبل إلى الجبل فتحتبس، فلا تزال تتناسب فتقلب ماء حتّى تحصل مياه عظيمة، ثمّ لكثرتها و قوّتها تثقب الجبل، و تسيل على الأرض (1).

و قيل: إنّ اللّه ينزل الأمطار و الثلوج فتشربها الأرض، فتجتمع المياه الكثيرة في عروقها، ثمّ تنشقّ عنها في المكان الذي تؤمر بالانشقاق، فيه فتظهر على وجه الأرض (2).

و قيل: إنّ اللّه ينزل الأمطار و الثلوج لانتفاع الخلق، و الملك الموكّل بالمياه ميكائيل و أعوانه (3).

أقول: الظاهر أن تكوّن الماء في الأرض يكون بكلّ واحد من السببين، و لا ينحصر بأحدهما.

قيل: إنّ الأنهار العظيمة في الدنيا خمسة: الفرات، و دجلة، و سيحون بالهند، و جيحون ببلخ، و النيّل بمصر (4).

ثمّ استدلّ سبحانه بالنباتات المتولّدة من الأرض و الماء بقوله: وَ مِنْ كُلِّ نوع من اَلثَّمَراتِ كالتّمر و العنب و المشمش و الخوخ و نظائرها جَعَلَ سبحانه و خلق فِيها بفضله زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ و صنفين مختلفين بالطبع كالحارّ و البارد، أو بالطعم كالحلو و الحامض، أو باللون كالأبيض و الأحمر.

قيل: إنّ اللّه خلق من كلّ نوع في بدو الخلق اثنين لا أقلّ و لا أزيد، كما خلق من نوع الانسان اثنين آدم و حوّاء، فكذلك القول في جميع الأشجار و الزروع (2).

ثمّ لمّا كان الليل و النهار موجودين بحركة السماوات و الشّمس، و بهما و بتعاقبهما يتمّ النظام و يكمل الإنعام، استدلّ سبحانه بهما على قدرته و حكمته بقوله: يُغْشِي و يستر اللّه اَللَّيْلَ و ظلمته اَلنَّهارَ أو يلبس ظلمة الليل ضياء النهار فتذهب به.

ثمّ لمّا كان بعض الناس يسندون الحوادث إلى الاختلافات الحاصلة في أشكال الكواكب من غير تفكّر، نبّه سبحانه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الحوادث لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة على وحدانية الصانع و قدرته و حكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها حقّ التفكّر، لا لمن لا فكر له و لا تأمّل، و فيه دلالة على وجوب التفكّر فيها، فانّ من نظر إلى فوائدها و مصالحها و الحكم التي اعملت فيها، لا مناصّ له من الإذعان بوجود صانع قادر واحد حكيم.

أمّا الأرض فمن حيث امتدادها و رخاوتها و ملائمة طبعها لما عليها، و كونها كالبساط لساكنيها،

ص: 460


1- . تفسير روح البيان 4:338. (2 و 3 و 4) . تفسير روح البيان 4:338.
2- . تفسير الرازي 19:5.

و انشعاب المسالك و الفجاج للماشين في مناكبها و انفجار العيون، و تكوّن المعادن فيها، و خروج النباتات الكثيرة النافعة منها.

و أمّا الجبال فمن حيث رسوّها و علوّها، و خروج النباتات و المعادن و المياه الكثيرة منها، و غيرها من منافعها التي لا تحصى.

و أمّا الأنهار فمن حيث كثرة منافعها و حياة الأرض و ما عليها بها، و حصولها في بعض الأمكنة دون بعض.

و أمّا الثّمار فمن حيث كثرة أنواعها، و اختلاف مقاديرها و ألوانها و طعومها، و صلابتها و لطافتها، و منافعها و خواصها و روائحها، و اختلاف قشورها في الكثرة و القلّة و الغلظة و الرّقّة و الخاصية، و اختلاف طبائع أجزاء كلّ منها من قشره و لحمه و عجمه (1)و مائه، مع تكوّن مجموعها و مجموع شجرها من حبّة واحدة و ماء واحد و أرض واحدة و هواء واحد و إشراق شمس واحدة.

و أمّا الليل و النهار فمن حيث كثرة فوائدهما و كثرة اختلافهما في الفصول الأربعة في الطول و القصر.

و الحاصل أنّ الناظر في تلك الآيات بعين الاعتبار، يرى وحدة مدبّرها و قدرته و حكمته.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 4

ثمّ بالغ سبحانه في الاستدلال بالآيات الأرضية بقوله: وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ و بقاع متلاصقات مختلفات في الصلابة و الرّخاوة، و الارتفاع و الانخفاض، و كثرة النباتات (2)و قلّتها، و قابلية الزّرع و عدمها، و صلاحيتها العامة [لإنبات]الأشجار بعضها دون بعض و عدم صلوحها لها بالكلية، و أمثالها. و لو لم يكن ذلك الاختلاف بارادة القادر الحكيم، لامتنع تحقّقه لاشتراك القطعات في الجسمية و الأرضية.

وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)وَ فيها جَنّاتٌ و بساتين كثيرة مِنْ أَعْنابٍ مختلفة بالصّنف و اللّون وَ منها زَرْعٌ مختلف ألوانه و صنوفه وَ نَخِيلٌ مختلف بالصّنف بعضها صِنْوانٌ و نخل له ساقان أو أكثر على أصل واحد وَ بعضها غَيْرُ صِنْوانٍ و نخل له ساق واحد.

ص: 461


1- . العجم: جمع عجمة، و هو نوى كلّ شيء كالزّبيب و الرّمان و البلح و غيرها.
2- . في النسخة: النبات.

و قيل: يعني بعضها متشابه، و بعضها غير متشابه، مع أنّ جميع القطعات و الجنّات و الزّرع و النخيل يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ (1)و تنبت الزروع و الأشجار في أرض واحدة.

روى العلامة في (نهج الحق) عن جابر، و قال القاضي في (إحقاق الحق) : أنّ في (كشف الغمة) نقلا عن الحافظ أبي بكر بن مردويه، عن جابر، أنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: «النّاس من شجر شتّى، و أنا و أنت يا عليّ من شجرة واحدة» ثمّ قرأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الآية (2).

وَ بعد ذلك نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ آخر فِي اَلْأُكُلِ و الثمر من حيث المقدار و الشّكل و الطعم و اللون و الرائحة و الخواصّ إِنَّ فِي ذلِكَ الاختلاف بين القطع المتجاورة من الأرض و بين الأشجار المتّحدة في المنبت و الهواء و الماء و إشراق الشمس لَآياتٍ واضحة و أدلّة قاطعة على وجود الصانع القادر الحكيم لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ من غير حاجة إلى التفكّر.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 5

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات قدرته المستلزمة لعدم عجزه عن إعادة الخلق للحساب و حكمته الملازمة لتنزّهه عن العبث، أظهر غاية التعجّب من قول منكري المعاد بقوله: وَ إِنْ تَعْجَبْ يا محمّد، أو أيّها الانسان من شيء في العالم و من عجائب الدهر فَعَجَبٌ كلّ العجب قَوْلُهُمْ استبعادا للبعث: أَ إِذا كُنّا بعد الموت تُراباً نبعث؟ !

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ اَلْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)ثمّ أكّدوا الانكار و قالوا: أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و نحيى مرّة اخرى بعود أجسادنا و عود أرواحنا إليها، مع أنّ اللّه خلقهم أولا بلا مثال من تراب أو من نطفة، و من الواضح أنّ خلقهم ثانيا من التراب أهون أُولئِكَ المنكرون للمعاد هم اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ حيث أنكروا قدرته و حكمته و كذّبوا وعده وَ أُولئِكَ تجعل اَلْأَغْلالُ يوم القيامة فِي أَعْناقِهِمْ و يسحبون في السلاسل.

و قيل: إنّ المعنى أنّ الكفر كالاغلال التي في الأعناق ملازم لهم (3)وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

ص: 462


1- . تفسير روح البيان 4:342.
2- . نهج الحق و كشف الصدق:195، إحقاق الحق 3:360، كشف الغمة 1:316.
3- . مجمع البيان 6:426، تفسير روح البيان 4:343.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 6

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكارهم البعث حكى استهزاءهم بوعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعذاب الدنيوي بقوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ و يطالبونك أن تسرع إليهم بِالسَّيِّئَةِ و العذاب الدنيوي الذي تعدهم قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ و انقضاء مدّة العافية و الإمهال.

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقابِ (6)قيل: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كلّما هدّد المشركين بعذاب القيامة أنكروا البعث، و كلّما هدّدهم بعذاب الدنيا استعجلوه و قالوا: متى يجيئنا؟ استهزاء و سخرية، فيطلبون العذاب بدل العافية و الرحمة (1).

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: وَ قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِهِمُ و في الأزمنة السابقة على وجودهم اَلْمَثُلاتُ و العقوبات التي صارت مثلا، و نزلت على أمثالهم، و بقيت آثارها، فكيف لا يعتبرون بها مع اطّلاعهم عليها وَ إِنَّ رَبَّكَ لا يعاجل في إهلاكهم، لكونه تعالى و اللّه (2)لَذُو مَغْفِرَةٍ و تجاوز لِلنّاسِ مع إصرارهم عَلى ظُلْمِهِمْ و عصيانهم، و تماديهم في طغيانهم، و إلاّ لما بقي على ظهر الأرض من دابة وَ إِنَّ رَبَّكَ إذا حان حين العقوبة، و اقتضت حكمته تعذيبهم البتّة لَشَدِيدُ اَلْعِقابِ و العذاب.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 7

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكار المشركين البعث و نبوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استهزائهم به، حكى تعنّتهم عليه بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ اخرى و معجزة باهرة زائدة على ما أتى بها من القرآن، و نبوع الماء من أصابعه، و حنين الجذع لفراقه، و تسبيح الحصاة في كفّه و نظائرها مِنْ رَبِّهِ.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ و واعظ لهم و مبيّن لهم المعارف، من توحيد اللّه و قدرته و حكمته و كمال صفاته، و معلّم لهم أحكام الاسلام و شرائعه، و آت بما يثبت صدق دعواك من المعجزات وَ لِكُلِّ قَوْمٍ في الأعصار السابقة هادٍ من قبل اللّه و منذر لهم مثلك، و لم يأتوا من المعجزات إلاّ مقدارا كافيا في إثبات نبوّتهم، و إن كان قومهم تعنّتوا عليهم، و إنّما اللازم على اللّه إتمام الحجة و إعطاء النبيّ ما يثبت نبوّته، و لا يحسن منه إجابة المتعنّت لانجرارها إلى ما لا نهاية له، أو أخذهم بعذاب الاستئصال، و ليس عليك إلاّ البلاغ، فلا يضيق صدرك بما يقولون.

ص: 463


1- . تفسير روح البيان 4:344.
2- . كذا، و لا محلّ للقسم في الآية.

عن ابن عباس: الهادي هو اللّه (1).

و عنه أيضا: أنّ المراد بالهادي هو عليّ عليه السّلام، قال: وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده على صدره فقال: «أنا المنذر» ثمّ أومأ إلى منكب عليّ و قال: «أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدي المهتدون» رواه الفخر الرازي (2)و غيره من مفسري العامة (1).

و عن (المجمع) : لمّا نزلت الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنا المنذر، و عليّ الهادي من بعدي، يا علي بك يهتدي المهتدون» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنذر، و لكلّ زمان منّا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي اللّه، الهادي (3)من بعده عليّ ثمّ الأوصياء واحدا بعد واحد» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «كلّ إمام هاد للقرن الذي هو فيهم» (5).

و القمي رحمه اللّه: هو ردّ على من أنكر أنّ في كلّ عصر و زمان إماما، و أنّه لا تخلو الأرض من حجّة (8).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و حكمته، بيّن سعة علمه، لكمال مدخليته في البعث و جمع ذرات تراب كلّ جسد لاعادة خلقه، و غاية مدخليته في تهديد المعنّتين بقوله: اَللّهُ تعالى بصفة علمه يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من الذكر و الانثى، و الجميل و القبيح، و الطويل و القصير وَ ما تَغِيضُ اَلْأَرْحامُ و تنقصه من أعضاء الجنين و مدّة حمله التي أقلّها ستة أشهر، و عدده الذي أقلّه واحد وَ ما تَزْدادُ الأرحام في أعضاء الجنين و تماميتها، و في مدّة حمله التي أكثرها تسعة أشهر على ما هو المشهور المنصور (9). و قيل: عشرة أشهر (10). و قيل: سنة (11)، و عند الشافعي أربع سنين (12)، و عند مالك خمس سنين (13)، و في العدد (6): و هو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة على ما قيل (7).

اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ اَلْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعالِ (9)عن أحدهما عليهما السّلام: «ما تَغِيضُ كلّ حمل دون تسعة أشهر، وَ ما تَزْدادُ كلّ شيء يزداد على

ص: 464


1- . تفسير الطبري 14:72، تفسير النيسابوري 14:68(هامش الطبري) ، روح المعاني 13:108، و راجع: إحقاق الحق 3:88-92 و 532 و 14:166-171.
2- . مجمع البيان 6:427، تفسير الصافي 3:59.
3- . في الكافي: نبي اللّه، ثم الهداة.
4- . الكافي:1:148/2، تفسير الصافي 3:59.
5- . الكافي 1:147/1، تفسير الصافي 3:59.
6- . أي عدد الأولاد في البطن الواحد.
7- . تفسير الرازي 19:15، تفسير روح البيان 4:348.
8- . تفسير القمي 1:359، تفسير الصافي 3:59. (9 و 10 و 11) . تفسير روح البيان 4:347. (12 و 13) . تفسير روح البيان 4:347.

تسعة أشهر، فكلّما رأت المرأة الدم في حملها من الحيض فانّها تزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم» (1).

عن الصادق عليه السّلام: «ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الذكر و الانثى، وَ ما تَغِيضُ اَلْأَرْحامُ ما كان دون تسعة و هو غيض، وَ ما تَزْدادُ ما رأت الدم في حال حملها ازداد به على تسعة أشهر» (2).

و في رواية: «ما تَغِيضُ [ما]لم يكن حملا، وَ ما تَزْدادُ الذكر و الانثى جميعا» (3).

و عن القمي: ما تَغِيضُ ما تسقط من قبل التمام، وَ ما تَزْدادُ على تسعة أشهر (4).

و قيل: ما تَغِيضُ من دم الحيض، وَ ما تَزْدادُ فيه (5).

وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ و في علمه و حكمه محدود بِمِقْدارٍ و حدّ مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وجوده لا يجاوزه و لا ينقص عنه، و هو تعالى عالِمُ اَلْغَيْبِ و مطّلع على كلّ مستور عن الحواسّ كالضمائر و ما هو في ستر العدم وَ اَلشَّهادَةِ و الحاضر عند الحواسّ، و هو اَلْكَبِيرُ و العظيم الذي لا يعزب عن علمه شيء اَلْمُتَعالِ و المستعلي على جميع الممكنات بقدرته.

في تحقيق معنى

الكبير

قيل: إنّ الكبير هو ذو الكبرياء، و ذو الكبرياء عبارة عن كامل الذات، و هو عبارة عن كامل الوجود و كمال الوجود، و أنّه أزل و أبد (6)، فإن كلّ موجود محدود بالعدم السابق و اللاحق فهو ناقص، و لذا يقال لمن طالت مدّة وجوده: إنّه كبير، و لا يقال: إنّه عظيم، فالكبير أعظم من العظيم، فالدائم الأزلي الذي يستحيل عليه العدم أولى بأن يكون كبيرا، و أيضا نقول: إنّ وجوده تعالى هو الوجود الذي يصدر منه كلّ وجود و موجود، فان كان الذي تمّ وجوده في نفسه كاملا كبيرا، فالذي فاض منه الوجود لجميع الموجودات أولى بأن يكون كاملا كثيرا، و أمّا المتعال فهو المبالغة في العلى، و هو الذي لا رتبة فوق رتبته، فالعليّ المطلق هو الذي له الفوقية بحسب الوجوب لا بالاضافة، و بحسب الوجود الذي يقارنة إمكان النقص (7).

و قيل: إنّ المتعال هو الذي تنزّه عن كلّ ما لا ينبغي، فيدلّ على كونه تعالى قادرا على البعث الذي أنكروه، و على إتيان الآيات [التي]اقترحوها، و على العذاب الذي استعجلوه، و إنّما يوخّره لأجل

ص: 465


1- . تفسير العياشي 2:380/2189، تفسير الصافي 3:59.
2- . تفسير العياشي 2:381/2193، تفسير الصافي 3:59.
3- . تفسير العياشي 2:381/2192، تفسير الصافي 3:59.
4- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:59.
5- . تفسير البيضاوي 1:502.
6- . في النسخة: أزلا و أبدا.
7- . تفسير روح البيان 4:349.

معدود (1).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 10

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير سعة علمه بقوله: سَواءٌ عليكم و مستوفى علمه إن كان مِنْكُمْ أيها النّاس مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ و أضمره وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ و أظهره.

سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ (10)عن ابن عباس: سواء ما أضمرته القلوب، و أجهرت به (2)الألسنة (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «يعني السّر و العلانية عنده سواء» (4). و كلّ من أسرّ و جهر وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ و مستتر بِاللَّيْلِ و في الظلمات وَ من هو سارِبٌ و بارز بِالنَّهارِ و ظاهر في الطرقات.

و قيل: المستخفي: الظاهر، و السارب: المتواري (5).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 11

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع علمه بذاته بأعمال العباد و أحوالهم و قدرته على حفظهم لَهُ ملائكة مُعَقِّباتٌ من قبله تعالى يتعاقبون في حفظه و كلاءته و يحيطون به مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ في الليل و النهار، يعدّون عليه أعماله و أقواله، و يطلّعون على أحواله و يَحْفَظُونَهُ من الآفات و المهالك، و يكون حفظهم له مِنْ أجل أَمْرِ اَللّهِ و حكمه به و ممّا أراده منهم.

لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اَللّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)و قيل: إنّ معنى (من) بمعنى باء، و المعنى: يحفظونه بأمر اللّه (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «يحفظونه بأمر اللّه، و من ذا الذي [يقدر أن]يحفظ الشيء من أمر اللّه» (7).

و عن الباقر عليه السّلام: «مِنْ أَمْرِ اَللّهِ، يقول: بأمر اللّه من أن يقع في ركيّ (8)أو يقع عليه حائط، أو يصيبه شيء، حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه و بينه، و يدفعونه إلى المقادير» (9).

ص: 466


1- . تفسير الرازي 19:17.
2- . في تفسير الرازي: و أضهرته.
3- . تفسير الرازي 19:17.
4- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:60.
5- . تفسير الرازي 19:17.
6- . تفسير الرازي 19:19.
7- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:60.
8- . الرّكيّ: جنس للرّكيّة، و هي البئر، و جمعها: ركايا.
9- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:60.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتّى ينتهوا به إلى المقادير، فيخلّون (1)بينه و بين المقادير» (2).

و عن عمرو بن جندب، قال: كنا جلوسا عند سعيد بن قيس بصفين إذ أقبل عليّ عليه السّلام يتوكأ على عنزة (3)له بعد ما اختلط الظلام، فقال سعيد: أأمير المؤمنين. قال: «نعم» قال: أما تخاف أن يغتالك أحد؟ قال: «إنّه ليس من أحد إلاّ و معه من اللّه حفظة من أن يتردّى في بئر، أو يخرّ من جبل، أو يصيبه حجر، أو تصيبه دابة، فإذا جاء القدر خلّوا بينه و بين القدر» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «هما ملكان يحفظانه بالليل و النهار (5)يتعاقبانه» (6).

و عن عثمان أنّه قال: يا رسول اللّه، أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال: «ملك عن يمينك يكتب الحسنات، و هو أمين على الذي على الشمال، فاذا عملت حسنة كتب عشرا و إذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين: اكتب، فيقول: لا، لعلّه يتوب، فاذا قال ثلاثا قال: نعم اكتب أراحنا اللّه منه، فبئس القرين، ما أقلّ مراقبته للّه تعالى و استحياءه منّا! و ملكان من بين يديك و من خلفك، فهو قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ و ملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت للّه رفعك، و إذا تجبّرت قصمك، و ملكان على شفتيك يحفظان عليك صلاتك عليّ، و ملك على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك، و ملكان على عينيك، فهؤلاء عشرة أملاك على كلّ آدمي، تبدّل ملائكة الليل بملائكة النّهار، فهم عشرون ملكا على كلّ آدمي» (7).

و عنه عليه السّلام: «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل، و ملائكة بالنهار، و يجتمعون في صلاة الصبح و صلاة العصر» (8).

قيل: فائدة كون الملائكة في جوانبه لحفظه، و معه لاحصاء أعماله و كتبها، أنّ الانسان إذا علم به و علم جلالة الملك و علوّ مقامه، كان إلى الحذر من المعاصي أقرب، و كذا يكون عظمة الربّ في نظره أجلى، و في قلبه أظهر (9).

و قيل: إنّ الملائكة يحفظونه من بأس اللّه و نقمته إذا أذنب بدعائهم له، و مسألتهم ربّهم أن يمهله

ص: 467


1- . في مجمع البيان: فيحيلون.
2- . مجمع البيان 6:431، تفسير الصافي 3:61.
3- . العنزة: أطول من العصا و أقصر من الرمح، في أسفلها زجّ كزجّ الرمح، يتوكّأ عليها.
4- . تفسير روح البيان 4:350.
5- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: بالليل و ملكان بالنهار.
6- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:60.
7- . تفسير الرازي 19:18.
8- . تفسير الرازي 19:19.
9- . تفسير الرازي 19:20.

رجاء أن يتوب (1).

و نسب إلى ابن عباس أنه قال: إنّ المراد من المعقّبات الحرس و الأعوان الذين يكونون حول الملوك و الأمراء ليحفظونهم من أمر اللّه، و المقصود بعثهم إلى أن يطلبوا الحفظ من اللّه، و لا يعوّلوا في دفع البلايا على الأعوان و الأنصار (2).

ثمّ ذكر سبحانه علّة اخرى لتأخير العذاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية و النّعم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الشكر و الأخلاق الحسنة و الأحوال الحميدة بالإصرار على الكفر و الصفات الرذيلة و الأعمال القبيحة.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه قضى قضاء حتما لا ينعم على عبده نعمة فيسلبها إيّاه قبل أن يحدث العبد ذنبا يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النّعمة، و ذلك قول اللّه: إِنَّ اَللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ» إلى آخره (3).

و عن السجاد عليه السّلام: «الذنوب التي تغيّر النّعم البغي على الناس، و الزوال عن المعاودة (4)في الخير و اصطناع المعروف [و كفران النعم]و ترك الشّكر» ثمّ تلا الآية (5).

وَ إِذا أَرادَ اَللّهُ بِقَوْمٍ بسبب سوء عقائدهم و قباحة أعمالهم (6)سُوْءاً و عذابا فَلا مَرَدَّ لَهُ و لا دافع عنه وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ على أمرهم يدفع عنهم ضرّهم و عذابهم المستحقّ.

عن ابن عباس: لم تغن المعقّبات شيئا (7).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 12

ثمّ أنّه تعالى بعد التخويف بأنّه لا مردّ لعذابه، ذكر الآيات الدالة على كمال قدرته الجامعة لجهتي النّعمة و النّقمة بقوله: هُوَ القادر الحكيم اَلَّذِي يُرِيكُمُ و يظهر لكم اَلْبَرْقَ و اللّمعة الحاصلة من السّحاب، ليحدث في قلوبكم خَوْفاً من نزول الصاعقة عليكم وَ طَمَعاً في نزول المطر النافع لكم.

هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ اَلسَّحابَ اَلثِّقالَ (12)قيل: إنّ المراد حال كونهم خائفين منه و طامعين فيه (8).

ص: 468


1- . تفسير روح البيان 4:350.
2- . تفسير الرازي 19:21 و 22.
3- . تفسير العياشي 2:382/2198، تفسير الصافي 3:61.
4- . في معاني الأخبار و تفسير الصافي: عن العادة.
5- . معاني الأخبار:270/2، تفسير الصافي 3:61.
6- . في النسخة: عقائده و قباحة أعماله.
7- . تفسير الرازي 19:23.
8- . تفسير الرازي 19:23.

قيل: يخاف منه من له فيه ضرر كالمسافر، و من في خزانه (1)التمر و الزّبيب، و يطمع [فيه]من له نفع فيه (2).

و عن الرضا عليه السّلام: «خوفا للمسافر، و طمعا للمقيم» (3).

قيل: إنّ البرق مركّب من أجزاء مائية، و أجزاء هوائية و نارية، و الغالب عليه هو الأجزاء المائية، و من الواضح أنّ الماء و النار ضدّان لا يمكن الجمع بينهما إلاّ بقدرة اللّه القادر الحكيم (4).

وَ هو يُنْشِئُ و يخلق اَلسَّحابَ اَلثِّقالَ بالماء. القمي: يعني يرفعها من الأرض (5).

قيل: إنّ السّحاب جسم مركّب من الأجزاء المائية و أجزاء هوائية، و إنّما يحدث هذا المركّب في الجوّ بقدرة اللّه (6).

و قيل: إنّه أجزاء لطيفة مائية تتصاعد مع الأبخرة إلى الطبقة الباردة من الهواء، فاذا وصلت إليها بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض (7).

أقول: قد مرّ بعض الكلام فيه، و ظاهر كثير من الروايات أنّه جسم غير سائر الأجسام، يحمل الماء من الأرض أو من السماء، و على أي تقدير فهو دالّ على قدرة اللّه تعالى، فانّه تعالى جعل لكلّ شيء سببا طبيعيا لتمييز التابع للعقل الناظر إلى ما وراء الطبيعة عمّن قصر نظره إلى الأسباب و المحسوسات، و لا يتجاوز فكره عنها، و ممّا يدلّ على كونه بقدرة اللّه تأثير الدعاء في وجوده على ما شوهد بالتجربة.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 13

ثمّ بيّن سبحانه عظمته و كبرياءه بقوله: وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ مقرونا بِحَمْدِهِ و ثنائه وَ تسبّح اَلْمَلائِكَةُ له، خاضعين له مِنْ خِيفَتِهِ و خشيته لظهور أثر مهابته.

وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ اَلصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اَللّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحالِ (13)قيل: إنّ الرعد اسم ملك خلق من نور مهابته، و يطلق على صوته الشديد، يسوق السّحاب به كما يسوق الحادي الإبل لحدائه، فاذا سبّح أوقع الهيبة على الخلق كلّهم حتّى الملائكة (6).

عن ابن عباس: أنّ اليهود سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الرّعد ما هو؟ فقال: «ملك من الملائكة موكّل

ص: 469


1- . في تفسير الرازي: و كمن في جرابه.
2- . تفسير الرازي 19:24، تفسير روح البيان 4:352.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:294/51، تفسير الصافي 3:61.
4- . تفسير الرازي 19:24.
5- . تفسير القمي 1:361، تفسير الصافي 3:61. (6 و 7) . تفسير روح البيان 4:352.
6- . تفسير روح البيان 4:352.

بالسّحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السّحاب حيث شاء اللّه» . قالوا: فما الصوت الذي يسمع؟ قال: «زجره السّحاب» (1).

و في (الفقيه) : روي «أنّ الرّعد صوت ملك أكبر من الذّباب و أصغر من الزّنبور» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه بمنزلة الرجل يكون في الإبل فيزجرها: هاي هاي، كهيئة ذلك» (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه إذا سمع صوت الرعد قال: «سبحان من يسبح الرعد بحمده» (4).

و عن ابن عبّاس: من سمع [صوت]الرّعد فقال: سبحان الذي يسبح الرّعد بحمده و الملائكة من خيفته و هو على كلّ شيء قدير؛ فأصابته (5)صاعقة فعليّ ديته (6).

قيل: إذا سبّح الرّعد-و تسبيحه ما يسمع من صوته-لم يبق ملك إلاّ رفع صوته بالتسبيح، فينزل القطر و الملائكة خائفون من اللّه (7).

و في الحديث: «البرق و الرّعد و عيد لأهل الأرض، فإذا رأيتموه فكفّوا عن الحديث و عليكم بالاستغفار» ، و إذا اشتدّ الرّعد قال صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ لا تقتلنا بغضبك، و لا تهلكنا بعذابك، و عافنا قبل ذلك» (8).

و قيل: إنّ الرّعد هو نفس الصوت، و ليس بملك، و معنى تسبيحه دلالة هذا الصوت على وجود موجود متعال عن النقص و الامكان، كما هو معنى قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (9).

و قيل: إنّ المراد من كون الرّعد مسبّحا أنّ كلّ من يسمع الرعد [فإنّه]يسبّح اللّه تعالى (10).

وَ هو تعالى يُرْسِلُ اَلصَّواعِقَ من السماء إلى هذا العالم فَيُصِيبُ اللّه و يهلك بِها مَنْ يَشاءُ إصابته و إهلاكه.

قيل: إنّ الصّاعقة نار لا دخان لها، تسقط من السماء، و تتولّد من (11)السّحاب، و هي أقوى نيران [هذا العالم]، فإنّها إذا نزلت من السّحاب فربما غاصت في البحر فأحرقت الحيتان تحت البحر (12).

و في [الحديث]النبوي السابق في بيان الرّعد و أنّه ملك قال: «و إذا اشتدّ غضبه طارت من فيه نار

ص: 470


1- . تفسير الرازي 19:25.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:334/1501، تفسير الصافي 3:61.
3- . تفسير العياشي 2:384/2202، تفسير الصافي 3:61.
4- . مجمع البيان 6:434، تفسير الصافي 3:61.
5- . في مجمع البيان: فأن أصابته.
6- . مجمع البيان 6:435.
7- . تفسير روح البيان 4:353.
8- . تفسير روح البيان 4:353.
9- . تفسير الرازي 19:26، و الآية من سورة الإسراء:17/44.
10- . تفسير الرازي 19:26.
11- . في تفسير روح البيان: في.
12- . تفسير روح البيان 4:353.

هي الصاعقة» (1).

قيل في شأن نزول الآية: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث رجلا إلى واحد (2)من فراعنة العرب، قال: «فاذهب و ادعه لي» فقال: يا رسول اللّه، إنّه أعتى من ذلك. قال: «فاذهب فادعه لي» قال: فذهبت إليه فقلت: يدعوك رسول اللّه، فقال: و ما اللّه؟ أ ذهب هو، أم فضّة، أم من نحاس؟ قال الراوي-و هو أنس-: فرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره و قال: قد أخبرتك أنّه أعتى من ذلك، قال لي كذا و كذا قال: «فارجع إليه الثانية فادعه» فرجع إليه فأعاد عليه مثل الكلام الأول، فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره، فقال: «ارجع إليه» فرجع إليه الثالثة فأعاد عليه مثل ذلك الكلام، فبينما هو يكلّمه إذ بعث اللّه سحابه حيال رأسه فرعدت، فوقع منها صاعقة فذهبت بقحفة رأسه، فأنزل اللّه وَ يُرْسِلُ اَلصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ (3).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الصواعق لا تصيب ذاكرا» . قيل: من الذاكر؟ قال: «من قرأ مائة آية» (4).

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين بقوله: وَ هُمْ مع تلك الآيات الباهرة الدالة على توحيد اللّه و قدرته يُجادِلُونَ و يشدّدون الخصومة فِي توحيد اَللّهِ و يكذّبون الرسول الداعي إليه الواصف له بالعظمة و القدرة وَ هُوَ تعالى شَدِيدُ اَلْمِحالِ و عظيم الكيد لأعدائه، فانّه يهلكهم من حيث لا يشعرون.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «شديد الأخذ» (5). و عن القمي: شديد الغضب (6). عن ابن عباس: شديد الحول (7). و قيل: شديد العقوبة (8). و قيل: شديد الفقار، و هو مثل في القوة (7).

عن ابن عباس: نزلت هذه الآية و التي قبلها في عامر بن الطفيل و إربد بن قيس-و هو أخو لبيد (8)بن ربيعة الشاعر لأمّه-و ذلك أنّهما أقبلا يريدان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللّه، هذا عامر بن الطّفيل قد أقبل نحوك. قال: «دعه، فان يرد اللّه به خيرا يهده» . فأقبل حتّى قام عليه فقال: يا محمد، مالي إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين، و عليك ما عليهم» قال: أ تجعل لي الأمر بعدك؟ قال: لا، ليس ذلك إليّ، إنّما ذلك إلى اللّه تعالى يجعله حيث يشاء» . قال: أسلم على أن لك المدر، و لي الوبر؟ يعني لك ولاية القرى، و لي ولاية البوادي. قال: «لا» . قال: فماذا تجعل لي؟ قال: «أجعل

ص: 471


1- . تفسير روح البيان 4:353.
2- . في تفسير روح البيان: رجل.
3- . تفسير روح البيان 4:353.
4- . الكافي 2:363/2، تفسير الصافي 3:62.
5- . مجمع البيان 6:435، تفسير الصافي 3:62.
6- . تفسير القمي 1:361، تفسير الصافي 3:62. (7 و 8) . تفسير الرازي 19:28.
7- . تفسير أبي السعود 5:11.
8- . في النسخة: يعبد.

لك أعنّة الخيل تغزو عليها» قال: أو ليس ذلك إليّ اليوم؟ و كان أوصى إلى إربد إذا رأيتني أكلّمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يراجعه، فدار إربد خلفه ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا ثمّ حبسه اللّه، فلم يقدر على سلّه، و جعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرأى إربد و ما يصنع بسيفه، فقال: «اللهم اكفنيهما بما شئت» فأرسل اللّه على إربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، و ولّى عامر هاربا، فقال: يا محمّد، دعوت ربّك فقتل إربد، و اللّه لا ملأنّ عليك الأرض رجالا؛ ألفا أشعر و ألفا أمرد. فقال: «يمنعك اللّه من ذلك، و أبناء قيلة (1)» يريد الأوس و الخزرج.

فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلمّا أصبح ضمّ إليه سلاحه، و خرج و هو يقول: و اللات لئن أصحر محمّد إليّ و صاحبه-يعني ملك الموت-لأنفذنّهما (2)برمحي، فلمّا رأى اللّه ذلك منه أرسل ملكا فلطمه بجناحه، فأذراه بالتراب، و خرجت على ركبته غدّة عظيمة في الوقت، فعاد إلى بيت السّلولية و هو يقول: غدّة كغدّة البعير، و موت في بيت سلولية، ثمّ مات على ظهر فرسه (3).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية مجادلة المشركين في اللّه و إصرارهم على عبادة الأصنام، خصّ العبادة و الدعوة الحقّة المفيدة بنفسه بقوله: لَهُ تعالى خاصة دَعْوَةُ اَلْحَقِّ التي لا مجال لتوهّم بطلانها، كما أنّ وجوده هو الحقّ في الموجودات، و اعتقاد وجوده و وحدانيته هو الحقّ في الاعتقادات، و عبادته هي الحقّ في العبادات.

لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (14) وَ لِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ (15)و عن ابن عبّاس: الدعوة الحقّ قول لا إله إلاّ اللّه (4).

و قيل: يعني الدعوة المجابة غير الضائعة (5). و قيل: يعني له دعوة المدعو إلى الحق الذي سمع (6)فيجيب (7).

ص: 472


1- . في النسخة و تفسير روح البيان: قبيلة، تصحيف، و قيلة: اسم أمّ للأوس و الخزرج قديمة، و هي قيلة بنت كاهل.
2- . في النسخة: لأنقذتهما، و التصويب من روح البيان.
3- . تفسير روح البيان 4:354.
4- . تفسير الرازي 19:28.
5- . تفسير روح البيان 4:355.
6- . في تفسير الرازي: المدعو الحق الذي يسمع.
7- . تفسير الرازي 19:29.

وَ أمّا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون شيئا، أو الأصنام الذين يدعون هؤلاء المشركون باللّه مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه لا يَسْتَجِيبُونَ دعاء الذين دعوهم، و لا يقضون لَهُمْ بِشَيْءٍ من حوائجهم، و لا يكون دعاؤهم و عبادتهم لهم إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ و مادّ يديه إِلَى اَلْماءِ الذي في قعر البئر لِيَبْلُغَ ذلك الماء فاهُ من دون أن يخرجه بدلو و حبل، و من الواضح أنّ ذلك الماء لا يكون و اصلا إلى فيه بنفسه وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ بصرف بسط اليد إليه و استدعائه أن يخرج من البئر و يبلغ فاه؛ لأنّه جماد لا يسمع الدعاء، و لا يتحرّك من محلّه بغير محرّك شاعر، فكذا ما يدعو المشركون من الجمادات لا يسمعون دعاءهم، و لا يستطيعون إجابتهم، و لا يقدرون على نفعهم.

عن الباقر عليه السّلام: «هذا مثل ضربه اللّه للذين يعبدون الأصنام و الذين يعبدون الآلهة من دون اللّه فلا يستجيبون لهم بشيء، و لا ينفعهم إلاّ كباسط كفّيه إلى الماء ليتناوله من بعيد و لا يناله» (1).

ثمّ بيّن عدم انتفاع المشركين بدعوتهم و عبادتهم بقوله: وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ و عبادتهم إِلاّ فِي ضَلالٍ و ضياع لا ينتفعون بها أبدا، ثمّ أنّه تعالى بعد تخصيص الدعوة الحقّة بذاته المقدسة، خصّ الخضوع و الانقياد أيضا بنفسه بقوله: وَ لِلّهِ وحده يَسْجُدُ و يخضع مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الملائكة و الجن و الانس لظهور عظمته للكلّ، و نفوذ إرادته في الكلّ، و مقهورية الجميع تحت قدرته، فان كانت إرادته موافقة لاشتياقهم كالايجاد و الاغناء و الصحة، كان انقيادهم له طَوْعاً و رغبة و نشاطا، و إن كانت مخالفة له كالاعدام و الإفقار و الإسقام، كان انقيادهم له اضطرارا وَ كَرْهاً .

و الحاصل أنّ السجود على ما قيل هو الانقياد التكويني، فان كانت التغييرات الحاصلة في الأشياء بارادته تعالى موافقة لطباعها يكون انقيادها لها بالطوع، و إن كانت مخالفة لها يكون انقيادها بالكره.

وَ ظِلالُهُمْ يسجدون بهذا المعنى للّه بِالْغُدُوِّ و الصباح وَ اَلْآصالِ و الأعصار، في أول النهار و آخره، و هما كناية عن جميع الأوقات من النهار، و إنما خصّهما بالذّكر لكثرة ميلانها فيهما.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و سجدت له بالغدوّ و الآصال الأشجار» (2).

و عن القمي: ظلّ المؤمن يسجد طوعا، و ظلّ الكافر يسجد كرها، و هو نموهم و حركتهم (3).

و عنه أيضا: تحويل كلّ ظلّ خلقه اللّه هو سجوده للّه؛ لأنّه ليس شيء إلاّ له ظلّ يتحرّك بتحريكه، و تحويله (4)سجوده (5).

ص: 473


1- . تفسير القمي 1:361، تفسير الصافي 3:62.
2- . نهج البلاغة:191/الخطبة 133، تفسير الصافي 3:63.
3- . تفسير القمي 1:362، تفسير الصافي 3:63.
4- . في المصدر: و تحريكه.
5- . تفسير القمي 1:386، تفسير الصافي 3:63.

و قيل: إنّ المراد بالسجود السجود المعهود اختيارا، و العموم مخصوص بالمؤمنين (1).

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا من يسجد من أهل السماوات طوعا فالملائكة يسجدون للّه طوعا، و من يسجد من أهل الأرض فمن ولد في الاسلام و هو يسجد طوعا، و أمّا من يسجد له كرها فمن اجبر على الاسلام، و أمّا من لم يسجد فظلّه يسجد بالغداة و العشيّ» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في (نهج البلاغة) : «فتبارك اللّه الذي يسجد له من في السماوات و الأرض طوعا و كرها، و يعفّر له خدّا و وجها، و يلقي بالطاعة إليه سلما و ضعفا، و يعطي العباد (3)رهبة و خوفا» (4).

و قيل: إنّ المراد بالظلّ الجسد، لأنّه عنه الظّلّ، أو لأنّه ظلّ للروح لأنّه ظلماني، و الروح نوراني، و هو تابع له يتحرّك بحركته النفسانية، و يسكن بسكونه (5).

و قيل: لا يبعد أن يخلق اللّه للظلال عقولا و أفهاما تسجد و تخشع بها، كما جعل للجبال أفهاما حتّى اشتغلت بتسبيح اللّه و [حتى]ظهر آثار التجلّي فيها كما قال: فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا (6).

أقول: قد حقّقنا فيما سبق غير مرة أنّ الوجود ملازم للشعور، و كلّما كمل الوجود كمل الشعور، و كلّما ضعف ضعف، و عليه نقول: إنّ لكلّ شيء سجودا و خشوعا و تسبيحا (7)للّه بحسب حاله، فجسم الكافر و روحه من حيث إنّه موجود لهما سجود و تسبيح للّه، و لا يدركهما الكافر لفقد بصيرته و عمى قلبه.

قال الزجاج: جاء في التفسير أنّ الكافر يسجد لغير اللّه، و ظلّه يسجد للّه (8).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 16

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة البراهين الكثيرة على توحيده و كمال ذاته و صفاته و غاية عظمته و تخصيص الدعوة الحقّ و الخضوع لها (9)، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأن يلزم المشركين بما هو بديهي العقل و الفطرة بقوله:

قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُماتُ وَ اَلنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (16)

ص: 474


1- . تفسير الرازي 19:29.
2- . تفسير القمي 1:362، تفسير الصافي 3:63.
3- . في المصدر: له القياد.
4- . نهج البلاغة:272/الخطبة 185، تفسير الصافي 3:63.
5- . تفسير الصافي 3:63.
6- . تفسير الرازي 19:30، و الآية من سورة الأعراف:7/143.
7- . في النسخة: سجود و خشوع و تسبيح.
8- . تفسير الرازي 19:30.
9- . في النسخة: به.

قُلْ يا محمّد للمشركين مَنْ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خالقهما و مالكهما و مدبّر امورهما؟ . ثمّ لمّا كان الجواب من الوضوح بمثابة [ما]لا يليق التأمّل فيه، و كانوا أيضا معترفين به، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالسرعة في الجواب بقوله: قُلْ من غير ريث و انتظار لجوابهم: هو اَللّهُ وحده لا شريك له.

ثمّ أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتوبيخهم على الشرك بقوله: قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ و اخترتم مع ذلك مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه من مخلوقاته لأنفسكم أَوْلِياءَ و نظّارا في مصالحكم، و وكلاء في أموركم مع كونهم جمادات لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً يستجلبونه وَ لا ضَرًّا يدفعونه لغاية عجزهم و عدم شعورهم، فاذا عجزوا عن تحصيل النفع لأنفسهم و دفع الضرر عنهم، كانوا من تحصيل نفعكم و دفع الضرر عنكم أعجز، فاذن كانت عبادتهم و الخضوع لهم عين السّفه و العبث.

ثمّ لمّا كان المشركون يمتنعون من اتّباع النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يدّعون تساويهم معه في البشرية و عدم فضيلة له عليهم، و كان ذلك من عمى قلوبهم، أمر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالزامهم بما هو البديهي عند جميع العقلاء من عدم التساوي بين العالم و الجاهل بقوله: قُلْ يا محمّد، لمن يقدح في نبوتك بكونك بشرا مثلهم: هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى الواقعي الذي لا بصيرة له وَ اَلْبَصِيرُ بجميع المعارف و العلوم الحقيقية؟ فأنتم ذلك الأعمى، و أنا ذلك البصير، فكيف أكون مثلكم؟ ثم تدّعون أنّ الشرك أفضل من التوحيد، و أنا أسألكم أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُماتُ و هي شعب الشرك و أنواعه التي أنتم فيها وَ اَلنُّورُ الذي هو التوحيد الخالص الذي أنا فيه.

و يحتمل أن يكون المقصود من الجملتين ترغيبهم إلى الإيمان، كما عن القمّي حيث قال في تفسير الأعمى و البصير: يعني الكافر و المؤمن. و في تفسير الظلمات و النور: يعني الكفر و الايمان (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غاية خطأ المشركين في اتخاذ الأصنام أولياء، أكّد ذلك ببيان عدم علّة لخطئهم ذلك إلاّ ما هو أوضح في البطلان ممّا ادّعوه بقوله: أَمْ جَعَلُوا قيل: يعني بل جعلوا (2)لِلّهِ شُرَكاءَ و لا وجه لذلك إلاّ أنهم رأوا أصنامهم خَلَقُوا أشياء كَخَلْقِهِ تعالى فَتَشابَهَ و التبس اَلْخَلْقُ و الخالق عَلَيْهِمْ بسبب ذلك، و قالوا: إنّ الأصنام لمّا تشارك اللّه في الخلق، وجب أن تشاركه في الالوهية و العبادة، مع وضوح أنّهم لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له.

إذن قُلْ لهم-يا محمّد-إرشادا لهم إلى الخلق، و إعلانا بما في قلوبهم: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الأرواح و الأجسام و الجواهر و الأعراض، لا خالق غيره حتى يشاركه في استحقاق العبادة وَ هُوَ تعالى اَلْواحِدُ بلا شبيه، المتوحّد بالألوهية اَلْقَهّارُ لكلّ شيء الغالب على جميع الممكنات،

ص: 475


1- . تفسير القمي 1:362، تفسير الصافي 3:64.
2- . تفسير روح البيان 4:358، تفسير الصافي 3:64.

و منها آلهتكم و أصنامكم، فكيف يمكن أن يكون أولياؤكم شركاءه تعالى في الالوهية و العبادة؟ !

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 17

ثمّ أنّه تعالى بعد ضرب المثل لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و للمشركين و للشرك و التوحيد، أو للكافر و المؤمن، و للايمان و الكفر، بالأعمى و البصير، و الظلمات و النور، ضرب مثلين للحقّ و الباطل توضيحا للحق بقوله: أَنْزَلَ اللّه مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ (1)، أو من جهة العلوّ ماءً مباركا إلى الأرض فَسالَتْ من ذلك الماء المنزل أَوْدِيَةٌ و أراض منخفضة عن الجبال و التلال، و جرى الماء فيها بِقَدَرِها و حدّ سعتها، أو بمقدارها الذي علم اللّه أنّها النافع للناس، فيسيل ذلك الماء فَاحْتَمَلَ ذلك اَلسَّيْلُ و الماء الكثير الجاري في تلك الأودية لشدّة جريانه زَبَداً و رغوا رابِياً و مرتفعا عليه، أو طافيا فوقه.

أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنّارِ اِبْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْباطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما يَنْفَعُ اَلنّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ (17)ثمّ بعد ضرب المثل للباطل بالزّبد الحاصل من الماء، ذكر الزّبد الحاصل من النار بقوله: وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ و يذوّبه الناس فِي اَلنّارِ من الفلزّات السبعة: الذّهب، و الفضّة، و النّحاس، و الرّصاص، و الصّفر، و الحديد، و الزّئبق اِبْتِغاءَ حِلْيَةٍ و طلبا للزّينة كالقرط و السّوار و الخلخال و غيرها أَوْ طلب مَتاعٍ من أثاث و آلات ينتفع بها كالأواني و أسلحة الحرب و أدوات الحرث، فانّه بعد ذوبه ينشأ عليه زَبَدٌ مِثْلُهُ كزبد الماء، يقال له الخبث كَذلِكَ المثل البديع المطابق للممثّل له يَضْرِبُ اَللّهُ العالم بحقائق الأشياء ليبيّن اَلْحَقَّ وَ اَلْباطِلَ فانّ الحقّ كالماء الصافي و مذابّ الفلزّ الخالص، و الباطل كالزّبد و الخبث.

ثمّ بيّن سبحانه وجه الشّبه بقوله: فَأَمَّا اَلزَّبَدُ الذي للماء و مذابّ الفلزّ فَيَذْهَبُ و يعدم من بين النّاس حال كونه جُفاءً و غير منتفع به، و إن كان على الماء و الفلزّ المذابّ في بدو حدوثه وَ أَمّا ما يَنْفَعُ اَلنّاسَ في معاشهم و معادهم كالماء الصافي الذي به حياة كلّ شيء، و الفلزّ الخالص الذي صار زينة و متاعا لهم فَيَمْكُثُ و يبقى فِي وجه اَلْأَرْضِ ينتفع به أهلها، فإنّ الماء ينفذ في عروق الأرض، ثمّ ينبع من العيون و الآبار و القنوات، و الفلزّ الخالص يدوم سنين متطاولة

ص: 476


1- . السماء مؤنث، و قد يذكّر.

كَذلِكَ المثل الذي هو في غاية المطابقة للممثّل له يَضْرِبُ اَللّهُ و يبيّن اَلْأَمْثالَ الاخر التي يأتي بها في كتابه الكريم لإيضاح المطالب العالية للذين لا يدركونها إلاّ بذكر ما يشابهها من المحسوسات.

قيل: إنّ الماء الذي به حياة الأشياء مثل للقرآن الذي به حياة القلوب، و الأودية مثل للقلوب، فانّ كلاّ منهما يستفيض من القرآن بقدر استعداده و ظرفيته، و الزّبد مثل الهواجس النفسانيّة و الوساوس الشيطانية، و كما أنّ الزّبد لا وزن له و لا نفع، كذلك الباطل لا قدر له و لا ثواب عليه، و الحقّ و الايمان ينتفع به في الدنيا و الآخرة، كما ينتفع بالماء في الدنيا غاية الانتفاع، و الكفر و الباطل لا ينتفع بهما لا في الدنيا و لا في الآخرة (1).

عن القمي رحمه اللّه يقول: أنزل اللّه الحقّ من السماء فاحتملته القلوب بأهوائها؛ ذو اليقين على قدر يقينه، و ذو الشكّ على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلا كثيرا و جفاء، فالماء هو الحقّ، و الأودية هي القلوب، و السيل هو الهوى، و الزّبد و خبث الحلية هو الباطل (2)، و المتاع هو الحقّ، من أصاب الحلية و المتاع في الدين انتفع به، و كذلك صاحب الحقّ يوم القيامة ينفعه، و من أصاب الزّبد و خبث الحلية لم ينتفع، و كذلك صاحب الباطل يوم القيامة لا ينتفع به (3).

و في (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قد بيّن اللّه تعالى قصص المغيّرين، فضرب مثلهم بقوله: فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما يَنْفَعُ اَلنّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ فالزّبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن، و هو يضمحلّ و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الذي ينفع الناس منه فالتنزيل الحقيقي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا و من خلفه، و القلوب تقبله، و الأرض في هذا الموضع هي محلّ العلم و قراره» الحديث (4).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 18

ثمّ بيّن سبحانه فائدة الحقّ و الخلوص في عبادته بقوله: لِلَّذِينَ اختاروا دين الحقّ و اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ دعوته الحقّ بأن آمنوا بتوحيده و رسالة رسوله و عملوا بمرضاته الاستجابة اَلْحُسْنى من

لِلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنى وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ (18)

ص: 477


1- . تفسير روح البيان 4:360.
2- . في المصدر: و الزبد هو الباطل و الحلية.
3- . تفسير القمي 1:362، تفسير الصافي 3:64.
4- . الاحتجاج:249، تفسير الصافي 3:65.

اللّه أو المثوبة الحسنى و هي الجنّة و النّعم الدائمة، أو الحالة الحسنى في مدّة عمرهم و هي الإعراض عن الدنيا و فراغة القلب من همّها، و الانس مع اللّه و الالتذاذ بمناجاته، و إقبال القلب إلى الآخرة، و الاشتغال بما يوجب الفوز بنعمها.

وَ أمّا اَلَّذِينَ سمعوا دعوة ربّهم و لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ و لم يقبلوا دين الحق و اتّبعوا الباطل لَوْ فرض أَنَّ لَهُمْ في القيامة ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً من النقود و الأمتعة و الضّياع و العقار و غيرها وَ أن مِثْلَهُ مَعَهُ و كان لهم ضعف ما في الدنيا لاَفْتَدَوْا بِهِ أنفسهم من العذاب، و بذلوه لتخليص أنفسهم منه، ما تقبّل منهم أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسابِ.

عن عائشة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلاّ هلك» قلت: أو ليس يقول اللّه: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ (1)فقال: «إنّما ذلك العرض، و لكن من نوقش في الحساب يهلك» (2).

عن الصادق عليه السّلام-في تفسير سوء الحساب-قال: «هو أن لا يقبل منهم حسنة، و لا يغفر لهم سيئة» (3).

ثمّ بيّن اللّه ما يترتّب على سوء الحساب و المناقشة فيه بقوله: وَ مَأْواهُمْ و مرجعهم بعد المناقشة في الحساب جَهَنَّمُ وَ هي بِئْسَ اَلْمِهادُ و المستقرّ الذي مهّدوه لأنفسهم.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ أنّه تعالى بعد إنكاره التساوي بين الأعمى و البصير، بيّن المراد منهما بقوله: أَ فَمَنْ يَعْلَمُ ببصارة قلبه و تنوّر ضميره أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن و ما فيه من المعارف و الأحكام هو اَلْحَقُّ و الثابت في الواقع كَمَنْ هُوَ لظلمة باطنه و خبث ذاته و الختم على قلبه أَعْمى فاقد البصيرة بحيث لا يرى المهلكة و المأمن، و لا يميز الضارّ و النافع، لا و اللّه ليس أحدهما كالآخر و إِنَّما يَتَذَكَّرُ التباين بينهما، أو نفع هذه الأمثلة، أو نصائح القرآن أُولُوا اَلْأَلْبابِ و أصحاب العقول السليمة عن شوائب الأوهام.

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (19) اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ اَلْمِيثاقَ (20)قال العلامة في (نهج الحق) : أَ فَمَنْ يَعْلَمُ هو عليّ عليه السّلام (4).

ثمّ وصف اللّه العالمين بحقّانية ما أنزل، أو اولوا الألباب بقوله: اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ الذي اخذ منهم على الايمان بتوحيده و رسالة رسله و العمل بأحكامه وَ لا يَنْقُضُونَ ذلك اَلْمِيثاقَ الذي

ص: 478


1- . الانشقاق:84/8.
2- . تفسير روح البيان 4:361.
3- . مجمع البيان 6:442، تفسير الصافي 3:65.
4- . نهج الحق و كشف الصدق:197.

و اثقهم به بالشّرك و ارتكاب المعاصي.

عن ابن عباس: يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم و أشهدهم على أنفسهم أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ (1).

و قيل: إنّ الميثاق ما واثقه (2)المكلّف على نفسه و التزم به بنذر و شبهه (3).

عن الكاظم عليه السّلام: «نزلت هذه الآية في آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ما عاهدهم عليه، و ما أخذ عليهم من الميثاق في الذرّ من ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة عليهم السّلام بعده» (4).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 21 الی 24

ثمّ وصفهم بالعمل بأهمّ التكاليف بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من رحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و رحم نفسه. عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في رحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و قد تكون في قرابتك» الخبر (5).

وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ اَلْحِسابِ (21) وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدّارِ (22) جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ (24)و عنه عليه السّلام: «الرحم معلّقة بالعرش تقول: اللهمّ صل من وصلني و اقطع من قطعني. و هي رحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ و رحم كلّ ذي رحم» (6).

و قيل: إنّ المراد رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه [صلة الرّحم و]صلة القرابة الثابتة بسبب إخوّة الإيمان، و من صلتهم إمدادهم بايصال الخيرات إليهم، و دفع المكارة و الآفات عنهم (7).

وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ و عذابه، أو مهابته وَ يَخافُونَ سُوءَ اَلْحِسابِ بالخصوص، فلذا يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

ص: 479


1- . تفسير الرازي 19:40، و الآية من سورة الأعراف:7/172.
2- . في تفسير الرازي: ما وثقه.
3- . تفسير الرازي 19:41.
4- . تفسير القمي 1:363، تفسير الصافي 3:66.
5- . الكافي 2:125/28، تفسير الصافي 3:66.
6- . الكافي 2:121/7، تفسير الصافي 3:66.
7- . تفسير الرازي 19:41.

عن الصادق عليه السّلام: «هو أن تحسب عليهم السيئات، و لا تحسب لهم الحسنات، و هو الاستقصاء» (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه تلا هذه الآية حين رأى رجلا استقصى حقّه من أخيه، و قال: «أتراهم يخافون أن يظلمهم أو يجور عليهم؟ لا و لكنّهم خافوا الاستقصاء و المداقّة، فسمّاه اللّه سوء الحساب، فمن استقصى فقد أساء» (2).

و عنه عليه السّلام: «لو لم يكن للحساب مهولة إلاّ حياء العرض على اللّه، و فضيحة هتك الستر على المخفيات، لحقّ للمرء أن لا يهبط من روؤس الجبال، و لا يأوي إلى عمران، و لا يأكل و لا يشرب و لا ينام إلاّ عن اضطرار متّصل بالتّلف» (3).

وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا على طاعة اللّه و ترك المشتهيات و مصائب الدهر اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ و طلبا لمرضاته و مثوباته، و استغراقا في محبّته (4).

ثمّ لمّا كانت الصلاة و الزكاة أهم العبادات، خصّهما بالذكر بقوله: وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ الواجبة وَ أَنْفَقُوا على الفقراء و المحتاجين و وجوه البرّ بعضا مِمّا رَزَقْناهُمْ و أنعمنا عليهم من الأموال الزكوية بقصد الزكاة و القربة سِرًّا إذا لكم يكن في معرض الاتهام بترك أداء الزكاة وَ عَلانِيَةً و جهرا إذا كان في معرضه.

و قيل: إن المراد الصدقات المندوبة، فانّها تنفق سرّا، أو الزكاة الواجبة فانّها تودّى علانية (5).

و قيل: إنّ المراد الإنفاق من جميع ما أعطاه اللّه من المال و العلم و الجاه و القوى.

وَ يَدْرَؤُنَ و يدفعون بِالْحَسَنَةِ و الأعمال الخيرية، أو بالتوبة اَلسَّيِّئَةَ من المعاصي و الخطايا.

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، ما من دار فيها فرحة إلاّ تتبعها ترحة، و ما من همّ إلاّ و له فرج إلاّ همّ أهل النار. يا علي، إذا عملت سيئة فاتبعها بحسنة تمحها سريعا، و عليك بصنائع الخير فإنّها تدفع مصارع السوء» (6).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال لمعاذ بن جبل: «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها» (7).

و قيل: إنّ المعنى يجازون الإساءة بالاحسان، و الظلم بالعفو، و المنع بالعطاء، و القطع بالصلة (8).

ص: 480


1- . تفسير العياشي 2:388/2217، مجمع البيان 6:444، تفسير الصافي 3:67.
2- . تفسير العياشي 2:388/2218، تفسير القمي 1:364، تفسير الصافي 3:66.
3- . مصباح الشريعة:85، تفسير الصافي 3:67.
4- . في النسخة: محبة.
5- . تفسير الرازي 19:43.
6- . تفسير القمي 1:364، تفسير الصافي 3:67.
7- . مجمع البيان 6:444، تفسير الرازي 19:43.
8- . تفسير روح البيان 4:366.

أُولئِكَ الكاملون المتّصفون بتلك الصفات الحميدة لَهُمْ عُقْبَى حسنة محمودة لهذه اَلدّارِ الفانية، و تلك العاقبة جَنّاتُ عَدْنٍ و بساتين إقامة. و قيل: جنّات عدن هي جنات في وسط الجنان (1)، هم يَدْخُلُونَها في الآخرة وَ معهم مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ قيل: المراد بالآباء أعمّ من الأمهات، و إنّما الصلاح بالايمان و العمل (2).

عن ابن عباس: يريد من صدّق بما صدّقوا به، و إن لم يعملوا مثل عملهم (3).

وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ و أولادهم و أولاد أولادهم و إن نزلوا، تبعا لهم، و تعظيما لشأنهم، و ليكونوا مسرورين بهم، آنسين بصحبتهم و إن لم يبلغوا في الفضل مبلغهم، كما عن ابن عباس (4).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن المؤمن له امرأة مؤمنة يدخلان الجنة، يتزوج أحدها الآخر؟ فقال: «إنّ اللّه حكم عدل، إذا كان أفضل منها خيّره، فان اختارها كانت من أزواجه، و إن كانت هي خير منه خيّرها، فان اختارته كان زوجا لها» (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ أمّ سلمة قالت له: بأبي أنت و أمّي، المرأة يكون لها زوجان فيموتان، لأيّهما تكون؟ فقال: «يا أمّ سلّمة، تخيّر أحسنهما خلقا، و خيرهما لأهله. يا امّ سلمة، إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا و الآخرة» (3).

ثمّ روي عن ابن عباس: أنّ لهم خيمة من درّة مجوّفة، طولها فرسخ، و عرضها فرسخ، لها ألف باب، مصاريعها من ذهب (4).

وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ و قيل: يدخلون من كلّ باب من أبواب البرّ، كباب الصلاة، و باب الزكاة، و باب الصوم، و باب الصبر (5). أو من أبواب غرفهم و قصورهم، و هم مع غاية جلالتهم و عظمة منزلتهم يقولون لهم تحية و إكراما و بشارة بدوام سلامتهم من المكاره: أيها المؤمنون سَلامٌ عَلَيْكُمْ و إنّما يكون ذلك السّلام و التكريم لكم بِما صَبَرْتُمْ في الدنيا على طاعة اللّه و شدائد الدهر، و أبشروا بأنّ مصيركم إلى الجنة و نعيمها، فتلك عاقبة أمركم فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ التي كنتم فيها.

روى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يأتي قبور الشهداء رأس كلّ حول، فيقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ (6).

ص: 481


1- . تفسير روح البيان 4:367. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 19:44.
2- . مجمع البيان 9:318، تفسير العياشي 3:154/61، تفسير الصافي 3:68.
3- . الخصال:42/34، تفسير الصافي 3:68.
4- . تفسير الرازي 19:45.
5- . تفسير الرازي 19:45.
6- . تفسير الرازي 19:45، تفسير أبي السعود 5:18.

القمي: نزلت في الأئمّة عليهم السّلام و شيعتهم الذين صبروا (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «نحن الصبّر، و شيعتنا أصبر منّا، لأنّا صبرنا على ما نعلم، و هم صبروا على ما لا يعلمون» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-في حديث يصف فيه حال المؤمن إذا دخل الجنان و الغرف- [قال:] «ثمّ يبعث اللّه له ألف ملك يهنّئونه بالجنّة، و يزوّجونه بالحوراء، فينتهون إلى أول باب من جنانه، فيقولون للملك الموكّل بأبواب الجنان: استاذن لنا على وليّ اللّه، فانّ اللّه قد بعثنا مهنّئين. فيقول الملك: حتّى أقول للحاجب، فيعلمه مكانكم. فيدخل الملك إلى الحاجب، و بينه و بين الحاجب ثلاث جنان، حتّى ينتهي إلى أول باب فيقول للحاجب: إنّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم اللّه ربّ العالمين يهنّئون وليّ اللّه [و قد سألوني أن آذن لهم عليه، فيقول الحاجب: إنّه ليعظم عليّ أن أستأذن لأحد على وليّ اللّه و هو مع زوجته الحوراء. قال: و بين الحاجب و بين وليّ اللّه جنّتان، قال: فيدخل الحاجب إلى القيّم فيقول له: إنّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم ربّ العزّة يهنّئون وليّ اللّه]فاستاذن [لهم]. فيقوم القيّم إلى الخدّام فيقول لهم: إنّ رسل الجبّار على باب العرصة، و هم ألف ملك يهنّئون ولي اللّه، فأعلموه مكانهم، فيعلمه الخدّام مكانهم، فيؤذن لهم فيدخلون على وليّ اللّه و هو في الغرفة، و لها ألف باب، و على كلّ باب من أبوابها ملك موكّل به، فاذا أذن للملائكة بالدخول على وليّ اللّه، فتح كلّ ملك بابه الذي وكّل به، فيدخل [القيّم]كلّ ملك من باب من أبواب الغرفة، فيبلّغونه رسالة الجبّار، و ذلك قول اللّه تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ يعني من أبواب الغرفة سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ» (1).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 25

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف المؤمنين الذين هم أهل البصيرة و تنوّر القلب بالصفات الكريمة، و بيان ما يترتّب عليها من الكرامة و النّعم و حسن العاقبة، ذكر صفات الكفّار الذين هم عمي القلوب بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّهِ الذي أخذ عليهم بالإيمان و الطاعة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ و توكيده بالاقرار و القبول.

وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ (25)القمي: يعني في أمير المؤمنين عليه السّلام، و هو الذي أخذ اللّه عليهم في الذرّ، و أخذ عليهم رسول

ص: 482


1- . الكافي 8:98/69، تفسير الصافي 3:68.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غدير خمّ (1).

أقول: يعني هذا العهد من جملة العهود التي نقضوها.

وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من حبل ولاية اللّه و رسوله و الأئمة و المؤمنين و الأرحام وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ بالكفر و الطغيان و العصيان و الظلم على العباد و تهييج الفتن بين المسلمين.

ثمّ بيّن اللّه نتيجة تلك الرذائل بقوله: أُولئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ و البعد عن الرحمة في الآخرة وَ لَهُمْ سُوءُ العاقبة في هذه اَلدّارِ الدنيّة، و هي جهنم و بئس القرار.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 26 الی 27

ثمّ لمّا كان مجال توهّم المنافاة بين البعد عن الرحمة و وفور النعمة عليهم في الدنيا، دفعه اللّه سبحانه بقوله: اَللّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ و يوسّعه في الدنيا لِمَنْ يَشاءُ بسطه و توسيعه عليه وَ يَقْدِرُ و يضيّق على من يشاء تقديره و تضييقه عليه على حسب اقتضاء حكمته في نظام العالم و صلاح الأشخاص من غير مدخلية للايمان و الكفر فيه، بل كثيرا ما يكون صلاح المؤمن في الفقر و الشدّة؛ لأنّه موجب لإقبال قلبه إلى اللّه، و إعراضه عن الدنيا، و استحقاقه مثوبة الصبر، و الكفر يكون من عقوبته توفير النّعم الموجب لخذلان الكافر و بعده من اللّه و استغراقه في الدنيا.

اَللّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّ مَتاعٌ (26) وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27)ثمّ وبّخ الكفّار على حبّهم الدنيا و فرحهم بها بقوله: وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا و نعيمها و لذائذها وَ الحال أنّه مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و نعمها فِي جنب اَلْآخِرَةِ و نعهما إِلاّ مَتاعٌ قليل و نفع يسير في أيام قلائل، ثمّ يفنى و يزول، و لذا لا ينبغي للعاقل أن يفرح به، و عليه أن يهتمّ في تحصيل الآخرة و نعمها الدائمة التي لا انقطاع لها أبدا.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار بالصفات الرذيلة، ذمّهم باللّجاج و التعنّت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ و معجزة زائدة على ما أتى به، أو كمعجزات موسى و عيسى عليهما السّلام مِنْ رَبِّهِ الذي يدّعي رسالته من قبله قُلْ يا محمّد: قد أنزل اللّه عليّ من المعجزات زائدا على ما يكتفي به العاقل المنصف في الإيمان و التصديق، كما ترون أنّه اكتفى به جمع كثير، و إنّما لا تكتفون بما أتيت لعدم قابليتكم (2)للهداية إِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ و يحرف عن طريق

ص: 483


1- . تفسير القمي 1:363، تفسير الصافي 3:69.
2- . كذا، و لعلّه يريد استحقاقكم.

الحقّ مَنْ يَشاءُ ضلالته و انحرافه عنه بسبب خذلانه المترتّب على خبث ذاته و رذالة صفاته و سيئات أعماله وَ يَهْدِي إلى الحقّ، و يوصل إِلَيْهِ بلطفه و توفيقه مَنْ أَنابَ إلى الحقّ و طلبه و أعرض عن العناد و اللّجاج.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 28

ثمّ وصف سبحانه المهتدين بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته وَ تَطْمَئِنُّ و تسكن قُلُوبُهُمْ عند شدائد الدنيا و زلازلها بِذِكْرِ اَللّهِ و تذكّر ألطافه بالمؤمنين و رحمته بالذاكرين، و كونه وليا لهم، و ناظرا في صلاحهم، و محبّا لهم بحيث لا يرضى بمساءتهم.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّهِ أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ (28)عن ابن عباس: يريد أنّهم إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم و اطمأنّت. و قيل: إنّ علمهم بكون القرآن معجزا، يوجب الطّمأنينة لهم بكون محمّد صلّى اللّه عليه و آله نبيا حقّا من عند اللّه. و قيل: إنّه اطمأنّت قلوبهم بصدق اللّه في وعده و وعيده (1).

أَلا تنبهّوا أيها النّاس أنّه بِذِكْرِ اَللّهِ و التفكّر في عظمته و قدرته و كرمه و لطفه و رأفته تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ و تستقرّ الأفئدة من الاضطراب و الشكّ بنور اليقين.

عن الصادق عليه السّلام: «بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله تطمئنّ» (2).

القمي: الذين آمنوا الشيعة، و ذكر اللّه أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام (3).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 29

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حسن حال المؤمنين في الدنيا، نبّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على حسن حالهم في الآخرة بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ طُوبى التي هي شجرة عظيمة في الجنّة لَهُمْ خاصة وَ حُسْنُ مَآبٍ و مرجع في الآخرة لهم.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (29)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «طوبى شجرة في الجنّة غرسها اللّه بيده، تنبت الحلي و الحلل، و إنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنّة» (4).

روي أن أصل هذه الشجرة في دار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في دار كلّ مؤمن منها غصن (5).

عن الصادق عليه السّلام: «طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ليس مؤمن إلاّ و في داره

ص: 484


1- . تفسير الرازي 19:49.
2- . تفسير العياشي 2:390/2223، تفسير الصافي 3:70.
3- . تفسير القمي 1:365، تفسير الصافي 3:70.
4- . تفسير الرازي 19:50.
5- . تفسير الرازي 19:50.

غصن منها، لا يخطر على قلبه شهوة شيء إلاّ أتاه به، و لو أن راكبا مجّدا سار في ظلّها مائة عام ما خرج منه، و لو طار من أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتّى يسقط هرما، ألا ففي هذا فارغبوا» (1).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام، قال: «أصلها في دار عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (2).

و عن الكاظم عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه سئل عن طوبى، قال: شجرة أصلها في داري، و فرعها على أهل الجنّة. ثمّ سئل عنها مرّة اخرى فقال صلّى اللّه عليه و آله: في دار عليّ. فقيل له في ذلك فقال: إنّ داري و دار عليّ في الجنّة بمكان واحد» (3).

أقول: يمكن أن يقال شجرة طوبى صورة مثالية لدين الإسلام، فانّ مبدأها و منشأها الرسول و أمير المؤمنين عليهما السّلام، ثمّ انبسط منهما في قلوب المؤمنين، و كان انتفاع المؤمنين و سعادتهم الأبدية و حظوظهم به.

و قيل: إنّ طوبى اسم الجنّة (4). و قيل: إنّ طوبى مشتقّ من طاب كبشرى (5).

عن ابن عباس: المعنى فرح و قرّة عين لهم. و عن عكرمة: نعم مالهم. و عن الضحّاك: غبطة لهم و قيل: يعني حسنى لهم (6).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 30

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان التوحيد و الفرق بين الحقّ و الباطل و سائر المطالب العالية التي [هي]دليل صدق نبوة النبيّ الامّي صلّى اللّه عليه و آله، دفع سبحانه استبعاد المشركين نبوته بقوله: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ و التقدير: كما أرسلنا إلى الامم الكثيرة رسلا كثيرة ليتلوا عليهم الكتب المنزلة، كذلك أرسلناك إرسالا له شأن و فضل فِي أُمَّةٍ هي آخر الامم، كما أنت آخر الرسل قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ كثيرة لتهدي تلك الامّة و لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الكتاب العظيم اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل وَ الحال أنّ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ و اللّه الواسع الرحمة بحيث وسعت رحمته كلّ شيء.

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ (30)قيل: كانوا يقولون: إنّ محمدا يدعو إلهين، يدعو اللّه و يدعو آخر يسمّى بالرحمن، و لا نعرف

ص: 485


1- . الكافي 2:187/30، تفسير الصافي 3:70.
2- . إكمال الدين:358/55، تفسير الصافي 3:70.
3- . مجمع البيان 6:448، تفسير الصافي 3:70.
4- . تفسير الرازي 19:51.
5- . تفسير الرازي 19:50.
6- . تفسير الرازي 19:50.

الرحمن إلاّ رحمن اليمامة، يريدون مسيلمة الكذّاب (1). فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ لهم هُوَ رَبِّي و خالقي و متولّي اموري لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود سواه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في جميع اموري، و به اعتمدت في العصمة من شركم و النّصرة عليكم وَ إِلَيْهِ لا إلى غيره مَتابِ و مرجع، فيرحمني و ينتقم لي منكم، و يثبّتني على مصابرتكم و أذاكم.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 31 الی 32

ثم بيّن اللّه سبحانه عظمة شأن القرآن و الكتاب الذي أنزله عليه و أوحاه إليه بقوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً كانت له الآثار العظيمة في العالم حتّى أنّه سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبالُ بعد ما قلعت به من أماكنها أَوْ قُطِّعَتْ و انشقّت بِهِ اَلْأَرْضُ فجعلت أنهارا و عيونا، أو تطوى به الأرض، و يسار به إلى البلدان أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى بعد إحيائهم به، لكان ذلك هذا القرآن، لوجود تلك الآثار العظيمة له، أو لما آمنوا به، و لا استبعاد لوجود هذه الآثار لكلام اللّه، فانه قادر على هذه الامور و ترتيبها على كلامه.

وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى بَلْ لِلّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لَهَدَى اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ (31) وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)بَلْ لِلّهِ الخالق لجميع الأشياء اَلْأَمْرُ من التصرّف و التغيير في الموجودات و القدرة على ما أراد جَمِيعاً إن شاء فعل، و إن لم يشأ لم يفعل.

روي أنّ أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة، فأتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عرض عليهم الإسلام، فقال له عبد اللّه بن امية المخزومي: سيّر لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا، و اجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها، أواحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحقّ ما تقول أم باطل، فقد كان عيسى يحيي الأموات، أو سخّر لنا الريح حتى نركبها و نسير في البلاد، فقد كانت الريح مسخّرة لسليمان، فلست بأهون على ربّك من سليمان، فنزلت هذه الآية (2).

عن الكاظم عليه السّلام: «قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي (3)تسيّر به الجبال، و تقطع به البلدان، و تحيى به الموتى» (4).

ص: 486


1- . تفسير الرازي 19:52، تفسير روح البيان 4:375.
2- . تفسير الرازي 19:52.
3- . زاد في الكافي: فيه ما.
4- . الكافي 1:176/7، تفسير الصافي 3:71.

ثمّ روي أنّ طائفة من المؤمنين قالوا: يا رسول اللّه، أجب هؤلاء الكفّار إلى ما اقترحوه من الآيات، فعسى أن يؤمنوا (1)، فأظهر اللّه سبحانه التعجّب من توقّع المؤمنين إيمان هؤلاء المقترحين و رجائهم فيه بقوله: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا و لم ينقطع رجاءهم من إيمان هؤلاء، و ليعلموا أَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ الإجبار على الهداية و الإيمان لَهَدَى اَلنّاسَ جَمِيعاً حتى هؤلاء المصرّين على الكفر، و لكن إجبارهم على الهداية و الايمان خلاف الحكمة، و لذا لم يشأ ذلك، و هم باختيارهم لا يؤمنون أبدا لشدّة لجاجهم و عنادهم للرسول و دين الحقّ.

و قيل: إنّ ييئس بمعنى يعلم حقيقة على لغة النّخع (2)، أو مجازا بعلاقة أنّ العلم بأنّ الشيء لا يكون يوجب اليأس من كونه، و عليه يكون المعنى أ فلم يعلم المؤمنون أن لو يشاء اللّه، الى آخره.

و روي أنه قرأ أمير المؤمنين و السجّاد و جعفر بن محمد عليهم السّلام (أ فلم يتبين) و نسبت تلك القراءة إلى جماعة من الصحابة و التابعين (3). و لا بدّ من حمل القراءة في الروايات على التفسير.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان لجاج الكفّار و اقتراحهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سلّى قلبه الشريف بقوله: وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على كفرهم و عنادهم تُصِيبُهُمْ و تنزل عليهم جزاء بِما صَنَعُوا من الكفر و الاقتراح عليك و استهزائهم بك قارِعَةٌ و داهيّة عظيمة تفزعهم و تفجأهم من البلايا و المصائب الشديدة أَوْ تَحُلُّ و تنزل الداهية قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ و بلدهم و هو مكة، و يفزعون و يضطربون، و تصل إليهم شرارها، و يتعدّى إليهم شرورها حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللّهِ من الموت أو القيامة.

و قيل: إنّ المعنى لا يزال كفّار مكّة تصيبهم بما صنعوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من العداوة و التكذيب قارعة؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة، و تختطف منهم، و تصيب من مواشيهم، أو تحلّ أنت-يا محمّد-قريبا من دارهم بجيشك، كما حلّ بالحديبية حتى يأتي وعد اللّه، و هو فتح مكة، و قد كان اللّه وعده ذلك (4)إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ.

عن الباقر عليه السّلام: «و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة، و هي النّقمة، أو تحلّ قريبا من دارهم، فتحلّ بقوم غيرهم فيرون ذلك و يسمعون به، و الذين حلّت بهم عصاة كفّار مثلهم و لا يتّعظ بعضهم ببعض، و لا يزالون كذلك حتى يأتي وعد اللّه الذي وعد المؤمنين من النصر» الخبر (5).

ص: 487


1- . تفسير روح البيان 4:377.
2- . تفسير الرازي 19:53.
3- . مجمع البيان 6:449، تفسير الصافي 3:71.
4- . تفسير الرازي 19:54.
5- . تفسير القمي 1:365، تفسير الصافي 3:71.

ثمّ لمّا كان اقتراح الكفّار على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مقرونا باستهزائه، بالغ سبحانه في تسليته بقوله: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزأ قومك بك فَأَمْلَيْتُ و أمهلت لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الأخذ و العقوبة ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بغتة بالعقاب فَكَيْفَ كانَ عِقابِ النازل على هؤلاء الأقوام، و كيف رأيت و سمعت معاملتي معهم؟ ! و في الاستفهام التعجّبي (1)إشارة إلى غاية شدّة عقوبتهم.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 33

ثمّ وبّخ اللّه المشركين على ضعف عقولهم بإظهار التعجّب من سوء عقيدتهم بقوله: أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ و قاهر عَلى كُلِّ نَفْسٍ من النفوس، مؤمنة كانت أو كافرة، و قيّم عليها، و عالم بِما كَسَبَتْ من الطاعات و السيئات و جازيها حسب استحقاقها من الثواب و العقاب، كيف يمكن أن يكون كالأصنام التي لا قدرة و لا علم و لا شعور لها، فما أعجب كفر هؤلاء إذ سوّوا بين الكامل القادر على كلّ شيء و العالم بكلّ شيء، و بين الجمادات وَ جَعَلُوا تلك الأصنام لِلّهِ العظيم المتعال شُرَكاءَ في الالوهية و العبادة مع علمهم بعدم التساوي بينهما.

أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)و قيل: إنّ المعنى أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت لم يوحّدوه و لم يمجّدوه، و جعلوا للّه شركاء (2).

ثمّ أمر نبيه بإقامة الحجّة على بطلان شركهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء المشركين ما هذه الأصنام التي تعبدونها؟ سَمُّوهُمْ و بيّنوا ما يقال لهم وصفوهم بأوصافهم، فانظروا هل لهم صفة يستحقّون بها العبادة، فان لم يكن لهم اسم يشير إلى تلك الصفة، فكيف تشركون بهم مع الذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية المعطي لكلّ شيء ما به كماله؟

و قيل: إنّ كلمة (سمّوهم) كناية عن غاية حقارة الأصنام، فانّ العرب تقول للشيء المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يكون قابلا للذكر و تسميته باسم لا اسم له (3): سمّه بما شئت، يعني أنّه أخسّ من أن يسمّى و يذكّر، و لكنّك إنّ شئت أن تضع له اسما فافعل، فإنّه في الحقارة إلى حدّ لا يستحقّ أن يلتفت إليه عاقل (4).

ص: 488


1- . في النسخة: التعجيبي.
2- . تفسير الرازي 19:56.
3- . في تفسير الرازي: الحقارة إلى أن لا يذكر و لا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال:
4- . تفسير الرازي 19:56.

ثمّ زاد سبحانه في الاحتجاج بقوله: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ قيل: إنّ المعنى بل أتخبرون اللّه (1)و تنبّئونه بِما لا يَعْلَمُ وجوده فِي اَلْأَرْضِ مع أنّه عالم و محيط بما في السماوات و الأرض لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة، فإذا علمتم بالوهية الأصنام فقد علمتم بما لا يعلمه اللّه، و هو محال، فعدم علمه تعالى بالوهية هذه الأصنام و إله آخر غير ذاته المقدّسة، إنّما هو دليل قاطع على عدم الوهية كلّ ما يدّعون الوهيته في الأرض أَمْ يتفوّهون بِظاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ و صورة لفظ لا معنى و لا واقع لها و لا حقيقة، فيكون من قبيل لقلقة اللسان، أو يريدون من تسمية الأصنام باسم الإله ما يكون بذاته و صفاته في غاية البينونة مع الالوهية، فيكون من قبيل تسمية الزنجيّ بالكافور.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ عقيدة الشّرك ليس ممّا يكون نظر صاحبه إلى الدليل حتى يتكلّف ببيان بطلانه أو إقامه الدليل العقلي على خلافة بَلْ زُيِّنَ بتسويلات الشيطان و اقتضاء الأهواء الرائعة لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ و اعتقادهم الفاسد و تخيّلهم الباطل، فلا تكلّف نفسك باقامة الحجّة العقلية على بطلان اعتقادهم، لأنّهم لا ينتفعون بها وَ صُدُّوا و منعوا عَنِ طريق الحقّ و اَلسَّبِيلِ المستقيم بسلب توفيق سلوكها عنهم، فأضلّهم اللّه وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ عن الهدى بالخذلان فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى الحقّ، و يوصله إلى السعادة و الخير.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 34

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة ضلالهم و عاقبته بقوله: لَهُمْ عَذابٌ شاقّ شديد فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعمارهم فيها بالقتل و الأسر و الخزي و سائر المصائب وَ و اللّه (2)لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ المعدّ لهم فيها أَشَقُّ و أصعب و أخزى لغاية شدّته و دوامه وَ ما لَهُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ و قهره مِنْ واقٍ و حافظ يقيهم و يحفظهم منه.

لَهُمْ عَذابٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ واقٍ (34)في حديث المعراج: ثمّ أتى صلّى اللّه عليه و آله على واد، فسمع صوتا منكرا، فقال: «يا جبرئيل، ما هذا الصوت؟» قال: صوت جهنّم تقول: يا ربّ إئتني بأهلي و بما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي و أغلالي و سعيري و حميمي و غسّاقي و غسليني، و قد بعد قعري، و اشتدّ حرّي، ائتني بما وعدتني. قال: لك كلّ مشرك و مشركة و خبيث و خبيثة و كلّ جبّار لا يؤمن بيوم الحساب. قالت: رضيت (3).

ص: 489


1- . تفسير روح البيان 4:379.
2- . كذا، و لا موضع للقسم في الآية.
3- . تفسير روح البيان 4:380.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 35

ثمّ أنّه تعالى بعد توعيد المشركين بالعذاب الدنيوي و الاخروي و إظهار غضبه عليهم، وعد الموحّدين بالجنة الموصوفة بالصفات العالية، و أعلن برحمته و لطفه بهم بقوله: مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ عن الشرك و المعاصي و صفتها العجيبة أنّ فيها قصورا و غرفا و أشجارا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة من الماء و اللّبن و الخمر و العسل و أُكُلُها و ثمراتها دائِمٌ لا انقطاع لها و لا نفاد وَ ظِلُّها أيضا دائم لا زوال له كما يزول في الدنيا بالشمس.

مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكافِرِينَ اَلنّارُ (35)و قيل: إنّ لفظ الظلّ كناية عن الاستراحة؛ لأنّ الظلّ عند العرب ممّا يعظم فيه استراحتهم (1).

تِلْكَ الجنّة الموصوفة بالأوصاف عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا و ما لهم و نتيجة أعمالهم وَ عُقْبَى اَلْكافِرِينَ و مآل أمرهم في الآخرة اَلنّارُ التي سخّرها الجبّار بغضبه.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 36

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده، و بيان كثير من المطالب العالية الموافقة لما في الكتب السماوية، استدلّ على صحّتها بتصديق أهل الكتاب و علمائهم لها بقوله: وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ من التوراة و الانجيل و غيرهما من الكتب يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن؛ لأنّهم يجدونه موافقا لما في كتبهم، و مصدّقا له.

وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ اَلْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ (36)عن الباقر عليه السّلام: «أي يفرحون بكتاب اللّه إذا تلي عليهم، و إذا تلوه تفيض أعينهم دمعا من الفزع و الحزن» (2).

و عن ابن عباس: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ هم الذين آمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلاّم و كعب و أصحابهما، و من أسلم من النصارى و هم ثمانون رجلا، أربعون بنجران، و ثمانية باليمن، و اثنان و ثلاثون بالحبشة، فهم فرحوا بالقرآن كلّه لأنّهم آمنوا به و صدّقوه (3).

وَ مِنَ اَلْأَحْزابِ و هم بقية أهل الكتاب و كفرتهم الذين تحزبّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالعداوة، ككعب بن الأشرف و أتباعه و السيد و العاقب أسقفي نجران و أتباعهما مِنَ إذا سمع القرآن يُنْكِرُ

ص: 490


1- . تفسير روح البيان 4:381.
2- . تفسير القمي 1:366، تفسير الصافي 3:73.
3- . تفسير الرازي 19:60.

بَعْضَهُ المخالف لشرائعهم.

عن ابن عباس: آمن اليهود بسورة يوسف، و كفر المشركون بجميعه (1).

و قيل: إنّ المراد من الكتاب القرآن، فالمعنى أنّ أهل القرآن يفرحون بما انزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله من التوحيد و العدل و النبوة و البعث و الأحكام و القصص، و من الأحزاب: الجماعات [من]اليهود و النصارى (2)، و المشركين فانّهم يؤمنون ببعض القرآن من إثبات اللّه و إثبات علمه و قدرته و قصص الأنبياء، و ينكرون بعضه من توحيده و عدم الولد له و غيرهما ممّا يخالف عقائدهم و أحكامهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات المبدأ و توحيده، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة إليه، و صرف الناس عن مطلق الشرك بقوله: قُلْ يا محمّد للناس إِنَّما أُمِرْتُ من قبل ربّي أَنْ أَعْبُدَ اَللّهَ و اطيعه في أحكامه وَ لا أُشْرِكَ بِهِ شيئا من خلقه من الشمس و القمر و الكواكب و الأصنام و غيرها من الموجودات، و أنا على حسب وظيفة رسالتي إِلَيْهِ تعالى خاصة أَدْعُوا الناس كلّهم، أو المراد أخصّه بالدعاء إليه، و لا أدعو معه غيره وَ إِلَيْهِ مَآبِ كلّ أحد منّي و منكم للحساب و الجزاء.

و قيل: إنّ المراد إنّما امرت فيما انزل إليّ بأن أعبد اللّه و أوحّده، و هو العمدة في الدين، و لا سبيل لكم إلى إنكاره، و أمّا ما تنكرونه من الأحكام المخالفة لشرائعكم، فليس ببدع مخالفة الشرائع و الكتب الإلهية في جزئيات الأحكام، و أنا إلى توحيده أدعو العباد و أقول: إِلَيْهِ مَآبِ و هذا هو المتّفق عليه بين الأنبياء، و أما ما عدا ذلك من الفروع فمما يختلف بالأعصار و الامم، فلا معنى لإنكار المخالف فيه (3).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 37

ثمّ قرّر هذا المعنى و أوضحه بقوله: وَ كَذلِكَ و المراد كما أنزلنا على الرسل الذين كانوا قبلك كتابا بلسان اممهم فيه جميع أحكام شريعتهم، كذلك آتيناك القرآن و أَنْزَلْناهُ عليك حال كونه محتويا (4)لجميع الأحكام التي يحتاج إليها الناس، صحّ أن يقال: إنّ هذا الكتاب بنفسه يكون حُكْماً في كلّ شيء.

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ (37)و قيل: إنّ المعنى أنّه محكم لا يقبل النسخ و التغيير (5).

ص: 491


1- . تفسير روح البيان 4:382.
2- . تفسير الرازي 19:60.
3- . تفسير روح البيان 4:382.
4- . في النسخة: لا حتوائه.
5- . تفسير روح البيان 4:383.

و لمّا كان قومك عربا جعلناه عَرَبِيًّا ليسهل عليهم فهمه و حفظه، إذن فاتّبعه و أعمل به وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ بدع المشركين و أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها، و سلكت طريقتهم الباطلة التي مالت إليها طباعهم بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ قبل اللّه اَلْعِلْمِ بصحّة دينك و استقامة طريقتك بالآيات الباهرة و البراهين المتقنة ما لَكَ مِنَ عذاب اَللّهِ و نقمته مِنْ وَلِيٍّ و ناصر يدفعه عنك وَ لا واقٍ و حافظ يحفظك منه.

روي أنّ المشركين كانو يدعونه عليه السّلام إلى [اتباع ملّة آبائهم المشركين، و كان اليهود يدعونه إلى] الصلاة إلى قبلتهم [أي بيت المقدس]بعد ما حوّل عنها (1)، فتوعّده اللّه على متابعتهم.

قيل: إنّ الغرض [منه]حثّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله على القيام بحقّ الرسالة و تحذيره من خلافها، و فيه تحذير عامة المكلفين (2).

عن ابن عباس: الخطاب مع النبي صلّى اللّه عليه و آله، و المراد امّته (3).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ لمّا كان من شبهاتهم في نبوته أنّه بشر، و لا يكون النبي إلاّ ملكا، فدفعه اللّه بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً كثيرة عظيمة الشأن مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السابقة على عصرك، كلّهم كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ (39)و منها أنّ محمّدا لو كان نبيا لما كان مشتغلا بالنساء، بل كان معرضا عنهنّ مشتغلا بالعبادة، فردّهم اللّه بقوله: وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً فقد كان لداود مائة امرأة و لسليمان ثلاثمائة مهيرة و سبعمائة سرّية (2).

و منها أنّ محمّدا لو كان رسولا صادقا، لكان يأتي بما طلبنا منه من المعجزات، فأجاب اللّه تعالى عنها بقوله: وَ ما كانَ و ما صحّ لِرَسُولٍ من الرسل أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ و معجزة إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ و مشيئته التي يدور عليها أمر الكائنات.

و من المعلوم أنّه لا يجب على اللّه أن يأذن في إتيان المعجزة إلاّ بمقدار كاف في إثبات الرسالة

ص: 492


1- . تفسير روح البيان 4:383. (2 و 3) . تفسير الرازي 19:62.
2- . المهيرة: الغالية المهر، و السّرّيّة: الأمّة التي أنزلتها بيتا.

حتى لا يبقى لأحد مجال الشكّ و الترديد فيها، و أمّا الزائد عليه فليس على اللّه بحتم، بل إن شاء أذن و إن لم يشأ لم يأذن.

و منها أنّ محمّدا لو كان نبيا لأنزل علينا بالعذاب الذي أو عدنا به على إنكار التوحيد و رسالته، فأبطلها سبحانه بقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ و حادث قضاه اللّه، أو لكل أجل من آجال الناس، أو لكلّ وقت من الأوقات كِتابٌ و وقت معين مثبوت عند اللّه في اللوح المحفوظ لا يزاد و لا ينقص، و لا يتقدّم و لا يتأخّر، و لا يطّلع عليه أحد غيره، فنزول العذاب على الكفّار و نصرة الأنبياء، و إن كانا ممّا قضاه اللّه، و لكن لهما وقت معين مكتوب، فلا يدلّ تأخيرهما على كون المخبر بهما كاذبا.

و منها أن محمّدا لو كان رسولا صادقا لما نسخ الأحكام التي أنزل اللّه بها في الكتب السماوية كالتوراة و الانجيل، فأزاحها اللّه بقوله: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ محوه من الأحكام، و ينسخ ما يريد نسخه وَ يُثْبِتُ بدله ما يشاء إثباته من الأحكام على حسب اقتضاء المصلحة في الأزمنة المختلفة و الامم المتغايرة.

و قيل: إنّ قوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ كالمقدمة لتقرير دفع الشّبهة، إمّا بالقول بأنّ الكلام مقلوب، و المعنى لكلّ كتاب من الكتب السماوية أجل ينزله فيه وقت يعمل به، فوقت العمل بسائر الكتب قد انقضى و حضر وقت العمل بالقرآن، أو المراد لكلّ حادث وقت معين قضى اللّه حصوله و بقاءه فيه كالحياة و الموت، و الغنى و الفقر، و غير ذلك (1). فاذا لم يمتنع أن يحيي أولا ثم يميت ثانيا، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات ثمّ ينسخه في بعض آخر منها؟

ثمّ أنّه تعالى بعد تقرير هذه المقدمة قال: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ و المعنى أنّه يوجد تارة و يعدم تارة اخرى، و يحيي تارة و يميت اخرى، و كذلك يشرّع الحكم و ينسخه حسب ما اقتضته الحكمة و المصلحة.

و قيل: يمحو من ديوان الحفظة الذين شغلهم كتب كلّ قول و عمل ما يترتّب عليه الجزاء و يثبت الباقي. أو يمحو سيئات التائب و يثبت مكانها الحسنات. أو يمحو قرنا و يثبت آخرين. أو يمحو الفاسدات من العالم الجسماني، و يثبت الكائنات. أو يمحو الرزق، و يثبت و يزيد فيه. أو يمحو الأجل أو السعادة و الشقاوة (2). و روى [هذا] (3)عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الظاهر تعميم المحو و الاثبات للكلّ (4).

ص: 493


1- . تفسير الرازي 19:64.
2- . تفسير أبي السعود 5:27.
3- . في تفسير أبي السعود: و هذا رواه.
4- . تفسير أبي السعود 5:27.

وَ عِنْدَهُ تعالى أُمُّ اَلْكِتابِ و أصل الكتب المحفوظه من المحو و التغيير، إذ ما من الممحوّ و الثابت إلاّ فيه، و لذا يسمّى باللوح المحفوظ.

عن الصادق، عن أبيه عليهما السّلام، قال «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ المرء ليصل رحمه و ما بقي من عمره إلاّ ثلاث سنين، فيمدّه اللّه إلى ثلاث و ثلاثين سنة، و إن المرء ليقطع رحمه و قد بقي من عمره ثلاث و ثلاثون سنه، فينقصه اللّه إلى ثلاث سنين أو أدنى» و كان الصادق عليه السّلام يتلو هذه الآية (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو اللّه فيه ما يشاء و يثبت، فمن ذلك الذي يردّ الدعاء القضاء، و ذلك الدعاء مكتوب عليه: الذي يردّ به القضاء، حتى إذا صار إلى امّ الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا» (2).

أقول: هكذا الرواية في النسخة. و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن قول اللّه تعالى: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ (3)قال: «كتبها لهم ثمّ محاها، ثمّ كتبها لأبنائهم فدخلوها، و اللّه يمحو ما يشاء و يثبت و عنده امّ الكتاب» (4).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء و يثبت، و امّ الكتاب لا يغيّر منه شيء» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأمر (6)أمران: موقوف و محتوم، فما كان من محتوم أمضاه، ما كان من موقوف فله فيه المشيئة يقضي فيه ما يشاء» (7).

و عنه عليه السّلام: «إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة و الروح و الكتبة إلى سماء الدنيا، فكتبوا ما يكون من قضاء اللّه تبارك و تعالى [في]تلك السنة، فإذا أراد اللّه أن يقدّم شيئا أو يؤخّره أو ينقص شيئا [أو يزيد]أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثمّ أثبت الذي أراد» (8).

و عنه عليه السّلام: «هل يمحو إلاّ ما كان ثابتا، و هل يثبت إلاّ ما لم يكن» (9).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان عليّ بن الحسين عليه السّلام يقول: لو لا آية في كتاب اللّه لحدّثتكم بما يكون

ص: 494


1- . تفسير العياشي 2:400/2254، تفسير الصافي 3:74.
2- . تفسير العياشي 2:400/2253، تفسير الصافي 3:75.
3- . المائدة:5/21.
4- . تفسير العياشي 2:26/1232، تفسير الصافي 3:74.
5- . مجمع البيان 6:458، تفسير الصافي 3:75.
6- . في مجمع البيان: هما.
7- . مجمع البيان 6:458، تفسير الصافي 3:75.
8- . تفسير العياشي 2:395/2241، تفسير القمي 1:366، تفسير الصافي 3:74.
9- . تفسير العياشي 2:395/2239، تفسير الصافي 3:74.

إلى يوم القيامة. فقلت له: أية آية؟ قال: قول اللّه: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ» (1).

و عنه عليه السّلام: «العلم علمان؛ فعلم عند اللّه مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، و علم علّمه ملائكته و رسله، فما علّمه ملائكته و رسله فانّه سيكون، لا يكذب نفسه و لا ملائكته و لا رسله، و علم عنده مخزون يقدّم منه ما يشاء و يوخّر ما يشاء [و يمحو ما يشاء]و يثبت ما يشاء» (2).

أقول: لا منافاة بين تلك الروايات إلاّ الأخيرتين، و لا يهمّنا الجمع بينهما لعدم حجّيتهما.

ثمّ العجب من الفخر الرازي حيث إنّه ينسب القول بالبداء الحقيقي إلى الشيعة. قال في تفسيره: قالت الرافضة: البداء جائز على اللّه تعالى، و هو أن يعتقد شيئا ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، و تمسّكوا فيه بقوله: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ.

ثمّ قال: و اعلم أنّ هذا باطل؛ لأنّ علم اللّه من لوازم ذاته المخصوصة، و ما كان كذلك كان دخول التغيّر و التبدّل فيه محالا (3)، انتهى.

فانّ أحدا من الشيعة لم يجوّز البداء الحقيقي عليه تعالى، و قوله: يكون العلم من لوازم ذاته تعالى، في غاية الفساد؛ لأنّ اللازم مغاير في الوجود مع ملزومه، و تلك الغايرة مقتضية لكون العلم عارضا لذاته المقدّسة، و هو محال، فان الواجب لا يمكن أن يكون معروضا لعارض أبدا، فلا بدّ من كون العلم عين ذاته، بمعنى أنّه ينتزع من إحاطته على الموجودات-و قيّوميته عليها، و حضورها عنده نحو حضور المعلول عند العلة-مفهوم العلم له، مع أنّه ليس لهذا المفهوم خارج إلاّ ذاته البحت البسيط على الاطلاق، و عليه فلا يمكن القول بالبداء الحقيقي؛ لأنّه مستلزم للعلم بعد الجهل، بل مرادهم أنّ اللّه تعالى يظهر ما هو في صورة البداء مع أنّه ليس ببداء في الواقع كالنّسخ في الأحكام، مع أنّه ليس بنسخ في الحقيقة، بل هو إظهار غاية الحكم مع توهّم الناس إطلاقه و أبديته من إطلاق الخطاب، بل القائل بالبداء الحقيقي هو و أصحابه الذين يروون عن أبي الدرداء عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أن اللّه سبحانه و تعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء» (4)و هذا الكتاب الذي في الرواية هو اللوح المحفوظ، و من المعلوم من مذهبنا أنّه محفوظ من التغيير.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 40 الی 41

ص: 495


1- . تفسير العياشي 2:394/2238، تفسير الصافي 3:75.
2- . تفسير العياشي 2:396/2246، تفسير الصافي 3:75.
3- . تفسير الرازي 19:66.
4- . تفسير الرازي 19:66.

ثمّ أنه تعالى بعد رفع شبهات الكفّار في نبوة نبيه صلّى اللّه عليه و آله، هدّدهم بالعذاب، و أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالثبات على التبليغ، و عدم الاعتناء بترّهاتهم بقوله: وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ يا محمّد بَعْضَ العذاب اَلَّذِي نَعِدُهُمْ نزوله عليهم في الدنيا أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل تعذيبهم، و نعذّبهم بعد وفاتك، و على أيّ تقدير لا تعتن بمقالاتهم، و اشتغل بما هو وظيفتك فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ و بيان ما انزل عليك و إتمام الحجّة عليهم وَ عَلَيْنَا اَلْحِسابُ و مجازاة العصاة و الطغاة في الدنيا و الآخرة، لا عليك.

ثمّ أنهم كيف ينكرون نزول العذاب عليهم مع أنّهم يرون أمارات صدق وعدنا أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ التي سكنوها (1)نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها و جوانبها باستيلاء المسلمين عليها و إلحاقها بدار الاسلام، و إهلاك أهلها بالقتل، و إذلالهم بالأسر، و إجلائهم منها بالإلجاء، و ذلك من أعظم الأمارات و أقوى الدلالات على أنّ اللّه ينجز وعده.

عن ابن عباس: المراد من نقص أطرافها موت أشرافها و كبرائها و علمائها، و ذهاب الصّلحاء و الأخيار (2).

و قيل: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني بموت أهلها، و تخريب ديارهم و بلادهم (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني بذلك ما يهلك من القرون، فسمّاه إتيانا» (2).

أقول: فيكون المراد أنّهم كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال تلك الوقائع.

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله: وَ اَللّهُ يَحْكُمُ بما يشاء، و قد حكم بنزول الدواهي و البلايا على الكفّار، و بنصرة المسلمين عليهم لا مُعَقِّبَ و لا رادّ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ بل هو نافذ في كلّ شيء.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 42

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد وعده بقوله: وَ قَدْ مَكَرَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ بأنبيائهم (3)و سعوا في الاضرار بهم، كما مكر كفّار قومك بك و دبّروا في قتلك، و صرف الناس عنك، و في إبطال

وَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفّارُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدّارِ (42)

ص: 496


1- . في النسخة: سكونها. (2 و 3) . تفسير الرازي 19:67.
2- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 3:76.
3- . كذا أثبتناها، و هي في النسخة غير مقروءة.

دعوتك و تكذيب نبوّتك فَلِلّهِ اَلْمَكْرُ بهم بأنواعه جَمِيعاً فانّه يبطل سعيهم و يعذّبهم بأنواع العذاب من حيث لا يشعرون.

القمي: المكر من اللّه هو العذاب (1). و قيل: يعني بيده أسباب المكر و جزاؤه (2).

و من مكره أنّه يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ و تعمل كُلُّ نَفْسٍ من النفوس من خير أو شرّ و يهيّء جزاءه وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفّارُ البتة، حين يعمل بمقتضى علمه و يوفّي جزاء كلّ نفس على ما كسبت أنّه لِمَنْ يكون من الفريقين عُقْبَى محمودة لهذه اَلدّارِ الفانية.

قيل: إنّ المراد سيعلم الكفار من يملك الدنيا (3).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر في غزوة بدر أن تطرح جيف الكفّار في القليب، و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال إلى أن قال الراوي: ثمّ مشى صلّى اللّه عليه و آله و تبعه أصحابه حتى وقف على شفير القليب، و جعل يقول: «يا فلان يا فلان، هل وجدتم ما وعد اللّه و رسوله حقا، فاني وجدت ما وعدني حقا» (4)الخبر.

روي أنّ أبا لهب قد تأخّر في مكه، و عاش بعد أن جاء الخبر عن مصائب (5)قريش ببدر أياما قليلة، ثمّ رمي بالعدسة-و هي بثرة تشبه [العدسة، من جنس]الطاعون-فقتلته، فلم يحفروا له حفرة، بل أسندوه إلى حائط، و قدفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتّى واروه، لأنّ العرب كانت تتشأم بالعدسة، و يرون أنّها تعدي أشدّ العدوى (6).

و في رواية: حفروا له ثمّ دفعوه بعود في حفرته، و قذفوه بالحجارة [من بعيد]حتّى واروه (7).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 43

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية استهزاء الكفّار بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و مكرهم به، حكى تصريحهم بانكار رسالته بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من المشركين و اليهود لك: لَسْتَ يا محمّد مُرْسَلاً من قبل اللّه قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً على رسالتي و حاكما بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ بصدق دعواي، فانّ إظهاره المعجزات الدالة على رسالتي شهادة قاطعة منه عليها، وَ كذا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتابِ و إحاطة كاملة بجهات إعجاز القرآن، و هم المؤمنون المصدّقون به المتدبّرون فيه.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتابِ (43)

ص: 497


1- . تفسير القمي 1:367، تفسير الصافي 3:76.
2- . تفسير روح البيان 4:389.
3- . تفسير روح البيان 4:390.
4- . تفسير روح البيان 4:390.
5- . في تفسير روح البيان: مصاب. (6 و 7) . تفسير روح البيان 4:390.

روى العلامة في (نهج الحق) عن العامة، عن ابن عباس، قال: هو علي عليه السّلام (1).

و في (المجالس) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن هذه الآية قال: «ذاك أخي علي بن أبي طالب» (2).

و عن (الاحتجاج) : سأل رجل علي بن أبي طالب عليه السّلام عن أفضل منقبة له فقرأ الآية و قال: «إيّانا (3)عنى بمن عنده علم الكتاب» (4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «إيانا عنى، و عليّ أولنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله» (5).

و عنه عليه السّلام: «نزلت في عليّ عليه السّلام، إنه عالم هذه الأمّة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله» (6).

عن الصادق عليه السّلام: «هو أمير المؤمنين عليه السّلام» (7).

و قيل: إنّ المراد به عبد اللّه بن سلاّم (8). و روى بعض العامّة عن عبد اللّه بن سلاّم: أنّ هذه الآية نزلت فيّ (9).

و قال الفخر: روي عن سعيد بن جبير أنه يبطل هذه الوجه، و يقول: إن السورة مكيّة، و إسلام عبد اللّه كان في المدينة (10).

و قال القاضي في (إحقاق الحق) : قد علمت فيما مرّ أنّ رواية نزول الآية في عبد اللّه بن سلاّم موضوعة، و أنّ عبد اللّه بن سلاّم نفسه روى ذلك في شأن عليّ عليه السّلام (11).

و العياشي: عن الباقر عليه السّلام أنّه قيل له: هذا ابن عبد اللّه بن سلاّم يزعم أنّ أباه الذي يقول اللّه: قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتابِ؟ قال: «كذّب، هو علي بن أبي طالب عليه السّلام» (12).

أقول: يؤيده جميع الروايات الواردة بطرق الخاصة و العامة في أنّ المراد بالشاهد في قوله تعالى: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ (13)عليّ بن أبي طالب عليه السّلام (14).

ص: 498


1- . نهج الحق:188.
2- . أمالي الصدوق:659/892، تفسير الصافي 3:77.
3- . في المصدر: إياي.
4- . الاحتجاج:159، تفسير الصافي 3:77.
5- . تفسير العياشي 2:401/2255، الكافي 1:179/6، الخرائج و الجرائح 2:799/8، تفسير الصافي 3:77.
6- . تفسير العياشي 2:401/2258، تفسير الصافي 3:77.
7- . تفسير القمي 1:367، تفسير الصافي 3:77.
8- . تفسير الرازي 19:69.
9- . تفسير روح البيان 4:391.
10- . تفسير الرازي 19:69.
11- . احقاق الحق 3:280-285 و 452.
12- . تفسير العياشي 2:401/2256، تفسير الصافي 3:77.
13- . هود:11/17.
14- . انظر: بحار الأنوار 35:386-394، و إحقاق الحق 3:352 و 14:309-314 و 20:33-36.

في تفسير سورة إبراهيم

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 0

قد تمّ تفسير سورة الرعد بتوفيق اللّه و منّه، و يتلوها سورة إبراهيم بمناسبة تضمّن الاولى أدلة المبدأ و المعاد، و ضرب مثلين للحقّ الذي هو التوحيد، و الباطل الذي هو الشرك، و حكاية استهزاء الامم السابقة برسلهم و مكر الكفار بهم، و وعيد المتمرّدين بالعقوبة، و اختتامها بحكاية إنكار كفّار مكّة رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و استدلال اللّه عليها بمعاجزه و إعجاز كتابه، و افتتاح الثانية بالاستدلال على رسالته بالقرآن المجيد، و تضمّنها حكاية معارضة الامم رسلهم، و تهديد المعارضين بالعذاب، و ضرب المثل للتوحيد و الشرك، و ذكر مكر كفّار مكّة لابطال الحقّ و تشييد الباطل، فابتدأ سبحانه فيها بذكر أسمائه الحسنى بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتابِ (43)ثمّ افتتحها بقوله: الر و قد مرّ تأويلها و بيان الحكمة في الافتتاح بها.

ثمّ استدلّ سبحانه بكتابه الكريم على رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله: كِتابٌ عظيم الشأن، مشتمل على المعجزات الدالة على رسالتك أَنْزَلْناهُ من اللوح المحفوظ إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل لِتُخْرِجَ اَلنّاسَ كافه بتلاوته عليهم، و دعائك إياهم إلى التدبّر فيه و العمل به مِنَ أنواع الكفر و الضلال التي هي مثل اَلظُّلُماتِ في كونها موجبة لنهاية التحيّر إِلَى الإيمان و الهدى الذي هو مثل اَلنُّورِ في إضاءة طريق الحقّ و كمال إيضاحه بِإِذْنِ رَبِّهِمْ اللطيف بهم و توفيقه و حوله.

ثمّ أوضح المراد من النور بأبداله بقوله: إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ القادر اَلْحَمِيدِ في فعاله و أنعامه، و هو دين الاسلام. قيل: هو استئناف، كأنّه قيل: إلى أي نور؟ فقال: إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ (1). و في ذكر الوصفين إشعار بكون سالكه آمن محمود العاقبة.

ص: 499


1- . تفسير أبي السعود 5:30.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ بالغ سبحانه في تفخيم شأن الصراط باضافته إلى ذاته المقدسة، بذكر اسم الجلالة بيانا للوصفين بقوله: اَللّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [من]

الموجودات الجسمانية و الروحانية و الجوهرية و العرضية بالملكية الاشراقية.

اَللّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (1) اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (2)و قيل: إنّ المشركين كانوا يصفون الوثن بالعزيز الحميد (3)، فلذا كان مجال توهّم إرادة الوثن من الوصفين، فرفع الابهام بقول له: اَللّهِ. . . .

ثمّ هدّد سبحانه المنكرين للكتاب الممتنعين من الخروج من الظلمات بقوله: وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ بكتاب اللّه مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ في الآخرة.

ثمّ عرّف الكافرين بقوله: اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ و يختارون اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا و لذائذها و يؤثرونها عَلَى اَلْآخِرَةِ و نعمها الدائمة.

عن ابن عبّاس: يأخذون ما تعجّل فيها تهاونا بأمر الآخرة (2). و لا يقنعون بضلالة أنفسهم، بل يمنعون وَ يَصُدُّونَ النّاس عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و الدخول في دين الحقّ، و يطلبون لتلك السبيل وَ يَبْغُونَها بشبهاتهم عِوَجاً و انحرافا.

قيل: كانوا يقولون: إنّ دين الاسلام سبيل معوجّة منحرفة عن الحقّ، لا توصل إلى المقصود (3).

أُولئِكَ الضالون المضلّون منغمرون فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن طريق الحقّ غاية البعد بحيث لا يمكن ردّهم إليه.

و قيل: إنّ المعنى اولئك في هلاك طويل لا زوال له أبدا (4).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 4

ثمّ أنّه تعالى بعد المنّة على الناس بإنزال الكتاب، ذكر منّته الاخرى عليهم بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا إلى النّاس مِنْ رَسُولٍ لهدايتهم إِلاّ رسولا متكلّما بِلِسانِ قَوْمِهِ الذين هو فيهم و بلغتهم إن

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (4)

ص: 500


1- . تفسير روح البيان 4:394.
2- . تفسير روح البيان 4:395.
3- . تفسير الرازي 19:77.
4- . تفسير الرازي 19:79.

كانت رسالته عامّة، أو بلغة الطائفة الذين ارسل إليهم إن كانت خاصة لِيُبَيِّنَ و يوضّح العلوم و المعارف و الأحكام لَهُمْ بلسانهم حتى يكون فهمهم لها أسهل، و وقوفهم على مقاصدها أكمل.

قيل في قوله تعالى: لِتُخْرِجَ اَلنّاسَ (1)و قوله: إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ دلالة على أنّ رسالة رسولنا عامّة، و رسالة غيره من الرسل خاصة بقوم معينين (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-: «و منّ عليّ ربّي، و قال: يا محمّد، قد أرسلت كلّ رسول إلى امته بلسانها، و أرسلتك إلى كلّ أحمر و أسود من خلقي» (3).

أقول: لا بدّ من حمل عموم كلّ رسول على غير اولى العزم، لوضوح كون رسالتهم عامّة أيضا.

ثمّ نبّه سبحانه على أنه مع ذلك تكون الضلالة بخذلانة و الهداية بتوفيقه بقوله: فَيُضِلُّ اَللّهُ عن الحقّ مَنْ يَشاءُ ضلالته بسلب التوفيق عنه المترتّب على خبث ذاته و سوء أخلاقه و أعماله وَ يَهْدِي إلى الحقّ مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه المترتّب على طيب طينته و حسن أخلاقه و أعماله وَ هُوَ تعالى اَلْعَزِيزُ الغالب على أمره، القادر على إنفاذ مشيئته اَلْحَكِيمُ في أفعاله، لا يصدر منه إلاّ ما هو الأصلح و الأصوب.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 5

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حكمة إرسال النبيّ و إنزال الكتاب إليه، و هو إخراج النّاس من الظلمات إلى النور، بيّن أنّ إرسال موسى عليه السّلام أيضا كان لذلك بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى إلى بني إسرائيل متلبسا بِآياتِنا الدالة على رسالته من المعجزات التسع، و قلنا له: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ و خلّصهم من الكفر و الضلال، و اهدهم إلى الايمان و المعرفة و اليقين.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اَللّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (4)قيل: إنّ المراد باخراج بني إسرائيل من الظلمات، إخراجهم بعد إهلاك فرعون من الجهالة التي أدّتهم إلى عبادّة العجل (5).

و قيل: إنّ المراد القبط (5).

ثمّ أمر موسى عليه السّلام بوعظهم بقوله: وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اَللّهِ و الوقائع التي وقعت للامم السابقة من العقوبات النازلة عليهم بالكفر و معارضة الرسل.

ص: 501


1- . إبراهيم:14/1.
2- . تفسير الرازي 19:79، و في النسخة: معين، بدل: معينين.
3- . الخصال:425/1، تفسير الصافي 3:79.
4- . تفسير روح البيان 4:398.
5- . تفسير روح البيان 4:397.

و قيل: أيام اللّه: نعمائه و بلاياه (1)، و المعنى: رغّبهم في الطاعة بتذكيرهم النّعم التي أنعم اللّه عليهم و على من قبلهم من مصدّقي الرسل، و حذّرهم عن التكذيب و المخالفة بالبلايا النازلة على مكذّبي الرسل.

عن الصادق عليه السّلام: «بنعم اللّه و آلائه» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أيام اللّه عزّ و جلّ [ثلاثة]: يوم قيام القائم، و يوم الكرّة، و يوم القيامة» (3).

ثمّ نبّه سبحانه على علّة التّذكار بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الأيام و الوقائع و اللّه (4)لَآياتٍ و علامات لتوحيد اللّه و قدرته و عظمته، و لكن الانتفاع بها لِكُلِّ مؤمن صَبّارٍ على لا الشدائد و الطاعات و كلّ شَكُورٍ لنعم اللّه.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 6

ثمّ أمر سبحانه بتذكّر قيام موسى عليه السّلام بأداء وظيفته بقوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا بني إسرائيل اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ و خلّصكم بلطفه مِنْ أيدي آلِ فِرْعَوْنَ و قومه فانّهم كانوا يَسُومُونَكُمْ و يذوقونكم أو يكلّفونكم سُوءَ اَلْعَذابِ و شديده من استعبادكم و تحميل الأعمال الشاقة عليكم و الإهانة لكم (5)، وَ كانوا يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ المولودين لكم، و يكثرون القتل فيهم وَ يَسْتَحْيُونَ و يستبقون نِساءَكُمْ من الأزواج و البنات، ليكن إماءهم وَ فِي ذلِكُمْ المذكور من الأعمال الفظيعة أو الانجاء بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ شأنه.

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ أنّه تعالى بعد تذكيرهم نعمة ربهم، حثّهم على الشكر بقوله: وَ إِذْ تَأَذَّنَ و أوجب رَبُّكُمْ على نفسه، أو المراد: و اذكروا حين نادى بلسان رسله فيكم، أيّها الناس و اللّه لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمي

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)

ص: 502


1- . تفسير البيضاوي 1:513، تفسير أبي السعود 5:33.
2- . تفسير العياشي 2:403/2260، مجمع البيان 6:467، تفسير الصافي 3:80.
3- . الخصال:108/75، تفسير الصافي 3:80.
4- . كذا، و لا موضع للقسم في الآية.
5- . في النسخة: بكم.

لَأَزِيدَنَّكُمْ و لاضاعفنّها لكم وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمة من نعمائي بترك شكرها أو صرفها في معصيتي، لأسلبّنها منكم، و لاعذبنّكم على الكفران، و إنّما أشار إلى هذا التهديد بقوله: إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ لأنّ دأب الكرام-على ما قيل-عدم التصريح بالوعيد، فكيف بأكرم الأكرمين (1).

عن الصادق عليه السّلام: «ما أنعم اللّه على عبد من نعمة فعرفها بقلبه و حمد اللّه ظاهرا بلسانه فتمّ كلامه حتى يؤمر له بالمزيد» (2).

و عنه عليه السّلام: «من عرف نعمة اللّه بقلبه استوجب المزيد من اللّه قبل أن يظهر شكرها على لسانه» (3)

و عنه عليه السّلام: «ما أنعم اللّه على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد للّه، إلاّ أدّى شكرها» (4).

و في رواية: «و كان الحمد أفضل من تلك النعمة» (5).

و عنه عليه السّلام في تفسير وجوه الكفر «الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» (6).

وَ قالَ مُوسى زجرا عن الكفران: يا بني إسرائيل إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس جَمِيعاً نعم اللّه فلن تضرّوا اللّه شيئا فَإِنَّ اَللّهَ لَغَنِيٌّ عنكم و عن شكركم حَمِيدٌ في ذاته مستحقّ للحمد بإنعامه، و إن لم يحمده حامد، مع أنّ جميع الموجودات يسبّحه و يحمده، و إنّما يريد شكركم لاحتياجكم إلى منافعه.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 9 الی 12

ص: 503


1- . تفسير روح البيان 4:400.
2- . الكافي 2:78/9، تفسير الصافي 3:80.
3- . الكافي 8:128/98، تفسير الصافي 3:80.
4- . الكافي 2:79/14، تفسير الصافي 3:81.
5- . الكافي 7:78/13، تفسير الصافي 3:81.
6- . الكافي 2:287/1، تفسير الصافي 3:81.

ثمّ بالغ عليه السّلام في وعظهم بتذكيرهم الوقائع العظيمة و البلايا النازلة على مكذبي الرسل بقوله: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ و لم يبلغكم يا قوم نَبَؤُا الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ و في الأعصار السابقة على عصركم من قَوْمِ نُوحٍ كيف اهلكوا بالطوفان وَ قوم عادٍ كيف اهلكوا بريح صرصر عاتية وَ قوم ثَمُودَ كيف اهلكوا بالرجفة وَ اَلَّذِينَ كانوا مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم إبراهيم و قوم لوط و أصحاب مدين و غيرهم من الأقوام الذين لا يَعْلَمُهُمْ عددا و حالا إِلاَّ اَللّهُ لكثرتهم و قطع الأخبار عنهم.

ثمّ كأنه قيل: ما كان إجمال قصّتهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: جاءَتْهُمْ من قبل اللّه رُسُلُهُمْ المبعوثون لهدايتهم مستدلّين بِالْبَيِّناتِ الباهرات على صدق نبوتهم، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور و ينجوهم من الكفر و الجهالة و يهدوهم إلى الحقّ، فلمّا دعوا أقوامهم إليه فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ليعضّوها تضجّرا من مقالة الرسل، كما عن ابن عباس و ابن مسعود (1).

و قيل: وضعوها عليها تعجّبا من قولهم و استهزاء بهم، أو أمرا لهم بالكفّ و بإطباق أفواههم (2)، أو إشارة إلى ما يصدر من ألسنتهم من المقالة اعتناء بشأنها، و تنبيها للرسل على تلقّيها و المحافظة عليها، و إقناطا لهم عن تصديقهم و الإيمان بهم.

و قيل: يعني ردّ الأقوام أيديهم في أفواه الرسل ليمنعوهم من التكلّم بالدعوة (3).

و قيل: يعني ردّ الرسل أيديهم في أفواههم تعجّبا من عتوّهم و عنادهم (4)وَ قالُوا إِنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بزعمكم من وجوب عبادة إله السماء و توحيده، أو من المعجزات التي أتيتم بها و أنكرناها وَ إِنّا لَفِي شَكٍّ عظيم مِمّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من التوحيد و الرسالة مُرِيبٍ ذلك الشكّ، و موقع قلوبنا في القلق و الاضطراب بحيث لا يطمئنّ بشيء قالَتْ رُسُلُهُمْ إنكارا عليهم و تعجّبا من مقالتهم الحمقاء: أَ فِي شأن اَللّهِ من وجوده و توحيده و وجوب الايمان به شَكٌّ ما، مع أنّه أظهر من كلّ شيء، لكونه فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مبدعهما، لوضوح كونهما حادثين معروضين للحركة و التغيير، و كونهما حتمين مقدرين محدودين، فاذا ثبت حدوثهما فلا بدّ من انتهاء وجودهما إلى موجد واجب، فمن كان العالم من السماوات و الأرض و ما فيهما شاهدا على وجوده يكون أظهر من كلّ ظاهر.

ص: 504


1- . مجمع البيان 6:469، تفسير الرازي 19:89.
2- . تفسير أبي السعود 5:36.
3- . تفسير الرازي 19:89، تفسير أبي السعود 5:36.
4- . تفسير أبي السعود 5:36.

ثمّ لمّا نسب الكفّار الدعوة إليهم نفوها عن أنفسهم و نسبوها إلى اللّه بقولهم: يَدْعُوكُمْ اللّه إليه و إلى توحيده بألسنتنا لِيَغْفِرَ لَكُمْ ما كان بينكم و بينه مِنْ ذُنُوبِكُمْ لا ما كان بينكم و بين النّاس من المظالم.

و قيل: إن كلمة (من) زائدة (1)، و المراد ليغفر لكم جميع ذنوبكم، و فيه بشارتكم بغاية الرحمة و الكرم.

ثمّ بشروهم بجزائهم في الدنيا بقولهم: وَ يُؤَخِّرَكُمْ و يؤجّل موتكم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و أخّر أعماركم التي قدّر لكم فيها بأن لا ينزل عليكم العقوبة و الهلاك.

عن ابن عبّاس، قال: المعنى يمتّعكم في الدنيا بالطيبات و اللذات إلى الموت (2).

ثمّ استدلّ الكفّار على بطلان دعوى الرسل و قالُوا أولا: إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا و يمتنع أن يكون الرسول من البشر، بل لا بدّ أن يكون ملكا، أو المراد لا فضيلة لكم علينا، فإرسالكم ترجيح بلا مرجّح.

و ثانيا: أن آباءنا الأقدمين مع وفور عقلهم كانوا يعبدون الأصنام في أعمارهم المتطاولة، فلا بدّ لنا من أن نتّبعهم و نلتزم بما التزموا به، و أنتم تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا و تصرفونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام إلى عبادة اللّه.

و ثالثا: يجب عليكم أن تاتونا بالدليل القاطع على دعواكم و ما اتيتم به و سمّيتموه معجزة، و حسبتموه دليلا على صدق دعواكم، فما علمنا بكونه إعجازا و خارجا عن طوق البشر، فان كنتم صادقين في دعوى الرسالة فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ و معجزة لا يشكّ في كونها معجزة حتى نصدّقكم في دعوى رسالتكم، و ننصرف عما كنا ثابتين عليه من عبادة الأصنام قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إلزاما لهم و إبطالا لقولهم: نعم إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصورة، و لا مجال لانكاره وَ لكِنَّ اَللّهَ يَمُنُّ و ينعم بالنبوة و الوحي عَلى مَنْ يَشاءُ نبوته مِنْ عِبادِهِ نظرا إلى طيب طينته و وفور عقله، و قوه نفسه، و كمال صفاته، و تنوّر قلبه، و شرح صدره، فانّ النبوة منصب يعطيه اللّه من يراه قابلا له من جهة كمال نفسه و صلوحه للوساطة بينه و بين خلقه فيوحي إليه.

ثمّ لمّا كان دليل التقليد أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الجواب، أعرضوا عنه و لم يتعرضوا لدفعه، و أجابوا عن اعتراضهم الثالث، و حاصله: إنّا عبيد مربوبون وَ ما كانَ يصحّ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ و معجزة جزئية إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ و مشيئته فضلا عن السلطان المبين و المعجزة العظيمة

ص: 505


1- . تفسير الرازي 19:93.
2- . تفسير الرازي 19:95.

القاهرة التي تعنّتونها علينا، و إنّما اللازم على اللّه أن يأذن في إتيان ما هو حجّة ظاهرة على رسالتنا من المعجزات، و قد أتينا بها و أتممنا عليكم الحجّة بها، و أما ما تطلبونه تعنّتا و لجاجا، فهي امور زائدة و الحكم فيها للّه إن شاء أذن لنا في إتيانها، و إن لم يشاء لم يأذن.

ثمّ قيل: إن الرسل لمّا أجابوا عن شبهات المعترضين، هدّدوهم و خوّفوهم بالقتل و الضرب، فأجابهم الرسل بأنّا لا نخاف من وعيدكم، فإنا توكّلنا على اللّه الذي هو حافظنا و ناصرنا (1). وَ عَلَى اَللّهِ وحده فَلْيَتَوَكَّلِ و إليه فليفوّض الأمر اَلْمُؤْمِنُونَ به، فكيف بنا و نحن أنبياء وَ ما لَنا و ليس يليق بنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللّهِ و لا نفوّض أمورنا من الحفظ و النصر و غيرهما إليه مع أنّا نرى غاية لطفه بنا، حيث إنّه قد عرّفنا نفسه و اصطفانا بالرسالة وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا و أرشدنا إلى المنهج الذي شرّع لنا وَ و اللّه لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا به من المكابرة و التكذيب و المعاداة، ثمّ أعلنوا بأنّ وظيفة كلّ من اتّبعهم التوكّل بقولهم: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ لمّا ألان الرسل في القول مع الأقوام، حكى اللّه مبالغتهم في السّفة بقوله: وَ قالَ عتاة اَلَّذِينَ كَفَرُوا من الأقوام لِرُسُلِهِمْ باللات و العزّى، أو بالأصنام التي نعبدها لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا و ديارنا أَوْ لَتَعُودُنَّ و لترجعنّ فِي مِلَّتِنا و إنّما أمروهم بالعود مع أنّهم لم يكونوا على ملّتهم أصلا لاعتقادهم أنّهم كانوا قبل ادّعاء الرسالة على ملّتهم، أو لتغليب أتباعهم عليهم في الخطاب، أو لإرادة الصيرورة من العود.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ (14)ثمّ لمّا بلغ عناد الكفّار بالرسل إلى هذا الحدّ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اللطيف بهم: بعزّتنا لَنُهْلِكَنَّ بعذاب الاستئصال هؤلاء اَلظّالِمِينَ جميعا وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ التي سكنوها، و لنمكننكم في البلاد التي تمكنّوا فيها مِنْ بَعْدِهِمْ و بعد هلاكتهم ذلِكَ النصر على الأعداء باهلاكهم و توريث أرضهم حقّ ثابت عليّ لِمَنْ خافَ مَقامِي و محلّي من العظمة و الجلال و القهر، أو خاف موقفي عند الحساب في القيامة، أو خاف مقامي و مراقبتي إياه، أو المراد خافني وَ خافَ وَعِيدِ.

عن ابن عباس، قال: خاف ما أوعدت من العذاب (2).

ص: 506


1- . تفسير الرازي 19:97.
2- . تفسير الرازي 19:101.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 15 الی 17

ثمّ إنّ الرسل بعد يأسهم من إيمان أقوامهم تضرّعوا إلى اللّه وَ اِسْتَفْتَحُوا و سألوا الفتح و النّصرة عليهم، ففازوا بمقصودهم من النصر فنزل العذاب، أو سألوا من اللّه القضاء بينهم و بين أعدائهم فقضى لهم وَ خابَ و حرم من كلّ خير، أو خسر أو هلك كُلُّ جَبّارٍ و متكبّر عَنِيدٍ شديد العداوة.

وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يعني من أبى أن يقول لا إله إلاّ اللّه» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «العنيد: المعرض عن الحقّ» (2).

و قيل: المستفتحون هم الكفّار، فانّهم سألوا النصر على الرسل و خابوا و ابتلوا بالعذاب.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عاقبة الجبار في الدنيا، بيّن سوء حاله في الآخرة بقوله: مِنْ وَرائِهِ و خلفه، أو من قدّامه جَهَنَّمُ فإنّها منزله في الآخرة وَ يُسْقى كلّما عطش فيها مِنْ ماءٍ مخصوص، و هو القيح المختلط بالدم، أو ما يسيل من أجساد أهل النار و فروج الزواني على ما قيل (3)، سمّي باسم صَدِيدٍ لصدّ كراهته عن تناوله.

عن الصادق عليه السّلام-في تفسير صديد-قال: «يسقى ممّا يسيل من الدم و القيح من فروج الزواني [في النار» (4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «يقرّب إليه]فيكرهه، فإذا ادني منه شوى جهه و وقعت فروة رأسه، فإذا شرب قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره» (5)الخبر.

يَتَجَرَّعُهُ و يشربه قليلا قليلا بتكلّف وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ و لا يمكنه أن يبتلعه بسهولة، بل يغصّ به فيشربه شيئا فشيئا بعسرة شديدة، فيطول بشربه عذابه بالحرارة تارة و بالعطش اخرى، فمعنى وَ لا يَكادُ ليس عدم الامكان، بل معناه الإبطاء.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان غاية شدّة عذابه بقوله: وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ و تحيط به أسبابه مِنْ كُلِّ مَكانٍ وجهة. و قيل: يعني من كلّ جزء من أجزاء جسده (6)، حتى اصول شعره و إبهام رجله وَ ما هُوَ

ص: 507


1- . التوحيد:20/9، تفسير الصافي 3:82.
2- . تفسير القمي 1:368، تفسير الصافي 3:82.
3- . تفسير روح البيان 4:406.
4- . مجمع البيان 6:474، تفسير الصافي 3:82.
5- . مجمع البيان 6:474، تفسير الصافي 3:82.
6- . تفسير الرازي 19:104.

بِمَيِّتٍ في الحقيقة وَ مِنْ وَرائِهِ و عقبه عَذابٌ غَلِيظٌ و شديد غايته.

قيل: إنّ في كلّ وقت يرد عليه عذاب أشدّ ممّا قبله. و قيل: العذاب الغليظ: قطع الأنفاس و حبسها في الأجساد (1). و قيل: إنّه الخلود (1).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 18

ثمّ بيّن سبحانه غاية خسرانهم بسبب ضياع أعمالهم الخيرية و عدم انتفاعهم بها بقوله: و مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ و حالهم الغريبة التي هي كالمثل في الغرابة أَعْمالُهُمْ و قيل: إنّ المراد مثلهم فيما يتلى عليكم.

مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ اَلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ اَلضَّلالُ اَلْبَعِيدُ (18)ثمّ كأنّه قيل: كيف يكون مثلهم؟ أو ما بال أعمالهم التي عملوها في وجوه البرّ من صلة الأرحام، و إعتاق الرقاب، و إغاثة الملهوفين و أمثالها؟ فاجيب بأنّ تلك الأعمال كَرَمادٍ اِشْتَدَّتْ (2)و مرّت بِهِ اَلرِّيحُ الشديدة بقوة و سرعة فِي يَوْمٍ عاصِفٍ و زمان شديد الريح، فحملته و ذهبت به، فكما لا يوجد من الرماد في [ذلك]الوقت شيء، و لا يرى له أثر، فكذلك الكفّار لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمّا كَسَبُوا و علموا من الخيرات عَلى تحصيل شَيْءٍ يسير منه، و لا يرون له أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب، لكونه مع الكفر.

و قيل: إنّ المراد بأعمالهم عبادتهم الأصنام، و ما تكلّفوه لهم دهرا طويلا باعتقاد الانتفاع به (3).

و قيل: إنّ المراد كلا القسمين (4).

ذلِكَ الكفر الموجب لهذا الخسران هُوَ بالخصوص اَلضَّلالُ اَلْبَعِيدُ و الانحراف غير المتناهي عن طريق الصواب و الخسران العظيم الذي لا يتصوّر له حدّ.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ لمّا بيّن سبحانه شدّة عذاب الآخرة، و كان المشركون منكرين للمعاد، استدلّ سبحانه عليه بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد، أو يا عاقل ببصيرة قلبك و حكم عقلك أَنَّ اَللّهَ خَلَقَ بقدرته اَلسَّماواتِ

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَ ما ذلِكَ عَلَى اَللّهِ بِعَزِيزٍ (20)

ص: 508


1- . تفسير أبي السعود 5:40.
2- . تفسير الرازي 19:105، تفسير روح البيان 4:408.
3- . تفسير الرازي 19:105.
4- . تفسير الرازي 19:105.

وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة و الغرض الصحيح من معرفته بالوحدانية و الحكمة، لتنالوا بها الدرجات و المقامات العالية و النّعم الدائمة في الآخرة، و من المعلوم أنّ الذي له هذه القدرة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ و يعدّمكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ و يخلق قوما آخرين بدلا منكم.

عن ابن عبّاس: هذا الخطاب مع كفار مكة، يريد اميتكم يا معشر الكفار و أخلق قوما خيرا منكم و أطوع (1).

وَ ما ذلِكَ الإذهاب و الإتيان عَلَى اَللّهِ الخالق للعالم بِعَزِيزٍ و صعب أو ممتنع، فانّ من كان قادرا على إيجاد العالم و إفنائه، قادر على إعدام الأشخاص المعينين و إيجاد أمثالهم، بل أقدر.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 21

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و حكمته الدالتين على المعاد، بيّن سوء حال المشركين فيه، و افتضاح رؤسائهم، و حسرة أتباعهم على متابعتهم بقوله: وَ بَرَزُوا من القبور بعد إحيائهم فيها، و ظهروا لِلّهِ و لأمره و خرجوا منها للمحاسبة [مع]قادتهم و أتباعهم جَمِيعاً لا يشذّ منهم أحد، و إنّما عبّر بصيغة الماضي للإشعار بتحقّق الوقوع، أو بتساوي الماضي و المستقبل إليه تعالى فَقالَ السّفلة اَلضُّعَفاءُ العقول و الآراء لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا في الأرض و ترأسوا عليهم، و استتبعوهم في الكفر: أيّها الروساء إِنّا كُنّا في الدنيا لَكُمْ تَبَعاً في عبادة الأصنام و تكذيب الرسل و إيذائهم فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم مُغْنُونَ و كافّون و دافعون عَنّا بحقّ تبعيّتنا لكم مِنْ عَذابِ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ قليل؟ فلمّا سمع الرؤساء التوبيخ من أتباعهم اعتذارا عن إغوائهم قالُوا لَوْ هَدانَا اَللّهُ في الدنيا بتوفيقه إلى دينه الحقّ و اللّه (2)لَهَدَيْناكُمْ إليه، و لكن أضلّنا بخذلانه عن سبيله، فلذا أضللناكم و اخترنا لكم ما أخترناه لأنفسنا.

وَ بَرَزُوا لِلّهِ جَمِيعاً فَقالَ اَلضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذابِ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اَللّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)و قيل: إنّ المراد لو هدانا اللّه إلى طريق من طرق النجاة لهديناكم إليه، و أغنينا عنكم [العذاب]كما عرّضناكم له، و لكن سدّ علينا جميع طرق النجاة (3). إذن سَواءٌ عَلَيْنا و عليكم في عدم النجاة أَ جَزِعْنا من العذاب أَمْ صَبَرْنا عليه، على أي تقدير ما لَنا من العذاب مِنْ مَحِيصٍ

ص: 509


1- . تفسير الرازي 19:106.
2- . كذا، و لا موضع للقسم في الآية.
3- . تفسير روح البيان 4:411.

و مخلص أو مهرب.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 22

ثمّ لمّا حكى سبحانه اعتذار رؤساء الكفر من أتباعهم، حكى اعتذار الشيطان الذي كان إغواء الجميع بوسوسته و تسويلاته بقوله: وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لأهل النار لَمّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ و تمّت المحاسبة، و استقرّ أهل الجنة في الجنة، و أهل النار في النار.

وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)قيل: عند ذلك يأخذ أهل النار في لوم إبليس، فيقوم خطيبا بينهم، و يقول: يا أهل النار إِنَّ اَللّهَ وَعَدَكُمْ (1)في الدنيا في كتابه و على لسان رسله على الإيمان و الطاعة وَعْدَ اَلْحَقِّ بالثواب.

قيل: إنّ إضافة الوعد إلى الحقّ إضافة الشيء إلى نفسه (2).

و قيل: إنّ المعنى وعد اليوم الحقّ، أو الأمر الحقّ من البعث و الجزاء على الأعمال فصدقكم (3). كما تشاهدون وَ وَعَدْتُكُمْ على الكفر و المعاصي النّعم الدنيوية.

و قيل: يعني وعدتكم أن لا جنة و لا نار و لا حشر و لا حساب (4)فَأَخْلَفْتُكُمْ موعدي، و ظهر لكم كذبي وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ شيء مِنْ سُلْطانٍ و قدرة و قهر حتى الجئكم إلى الكفر و العصيان، و لم يكن منّي في حقّكم عمل إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلى طاعتي بتزيين القبائح في نظركم، و ترغيبكم بالتسويل إليها فَاسْتَجَبْتُمْ لِي و وافقتموني طوعا و اختيارا فَلا تَلُومُونِي فيما دعوتكم إليه بالكذب و الباطل؛ لأنّي كنت لكم عدوا، فعلت بمقتضى عداوتي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث اخترتم طاعتي لحبّكم لها و اشتهائكم إياها، مع علمكم بأنّي عدوّ لكم لا اريد خيركم، فصدّقتموني فيما كذّبتكم، لكون أمري ملائما لهواكم، و كذبتم اللّه فيما صدقكم لكون قوله مخالفا لطباعكم، فأنتم أحقّ باللوم مني، فاليوم ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ و مغيثكم ممّا أنتم فيه وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ و مغيثي ممّا أنا فيه.

ثمّ قطع طمع أوليائه في إغاثته لهم بقوله: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ باللّه في الطاعة، و جعلتموني عدلا له في العبادة مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا.

ص: 510


1- . تفسير روح البيان 4:412، تفسير الرازي 19:110. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 19:110.

قيل: إنّ المراد أنّ إشراككم لي باللّه هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم، لأنّكم تخيّلتم أنّ لكم عليّ حقّ حيث جعلتموني معبودا، و كنت احبّ ذلك و أرغب فيه، فاليوم تبرّأت منه و منكم، فليس بيني و بينكم علاقة (1).

أو المراد أنّي كفرت باللّه الذي جعلتموني شريكا له في العبادة من قبل، و حين خلق آدم، و أبيت عن السجود له، أو من قبل كفركم، فلا يمكنني أن اصرخكم لأنّ الكافر بمعزل عن الإغاثة و الاعانة بالشفاعة (2).

ثمّ بالغ في قطع أطماعهم عن إغاثته بقوله: إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

و قيل: إنّه قول اللّه تعالى بعد حكاية كلام إبليس (3).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 23

ثمّ أنّه تعالى بعد شرح سوء حال الأشقياء في الآخرة شرح حسن حال السعداء و الأتقياء فيها بقوله: وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيته و رسله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كان المدخل هو اللّه أو الملائكة جَنّاتٍ بساتين ذات أشجار و قصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف بهم مكرمين و معظّمين بحيث يحيّون من قبل ربّهم، أو من قبل الملائكة، و تكون تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ كما قال اللّه: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (3)و قال في السور السابقة: وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ «2(4)» سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ (5).

وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)و في هذه التحية بشارة بالسلامة الأبدية من جميع آفات الدنيا و خسرانها، و فنون آلامها و أسقامها، و أنواع همومها و غمومها، و من عذاب الآخرة و مكارهها، و في ذكر عاقبة الفريقين إيقاظ للمؤمنين حتى يتدبّروا في عواقبهم، و يحاسبوا أنفسهم.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 24 الی 25

ص: 511


1- . تفسير روح البيان 4:413.
2- . تفسير أبي السعود 5:43.
3- . يس:36/58.
4- . تفسير الرازي 19:115، تفسير روح البيان 4:413.
5- . الرعد:13/23 و 24.

ثمّ لمّا كانت السعادة الأبدية بالإيمان باللّه و توحيده و الاقرار به، أوضح سبحانه بقاء كلمة التوحيد و كثرة فوائدها بضرب المثل بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد، ببصيرة قلبك و نور نبوتك و قوة نظرك كَيْفَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً بديعا معجبا تامّ المطابقة للممثّل له، فتتعجّب منه، و هو الكلمة الطيبة.

قيل: إنّها كلمة (لا إله إلاّ اللّه) كما عن ابن عبّاس (1). أو هي و سائر الأذكار كالتسبيح و التحميد، و التكبير و الاستغفار، و القرآن و الدعاء و غيرها من الكلمات الحسنة الصادرة عن المؤمن عن المعرفة و خلوص النية، كما عن آخر (2).

و ذلك المثل أنّه تعالى جعل كَلِمَةً طَيِّبَةً صادرة من المؤمن في الطيب و اللذة و الحسن، و الثبات في النفس، و الرّسوخ في القلب، و البقاء في العوالم الالهية من عالم الأجسام و الأرواح و المثل، و الملكوت و الجبروت، و في ارتفاعها إلى العرش و فضاء عالم القرب، و في حسن الثمر و طيبه و كثرته و دوامه، و كثرة الانتفاع به، و هو محبّة اللّه و التوحيد و التفويض إليه، و التوكّل عليه و التسليم لأمره، و الرضا بقضائه، و الصبر على طاعته و بلائه، و الاعراض عن غيره، و الشوق إلى لقائه، و في كون جميع هذه الثمار بتوفيقه و تأييده كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ حسنة الصورة و المنظر و الريح، و النفع و الثمر أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض، و عروقها راسخة فيها بحيث لا يحتمل انقلاعها و انقطاعها وَ فَرْعُها و غصنها متصاعد فِي اَلسَّماءِ المطّل (3)أو جهة العلوّ تُؤْتِي أُكُلَها و تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ من الأحيان، و كلّ وقت من الأوقات بِإِذْنِ رَبِّها و إرادة خالقها و تدبير مدبّرها.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ هذه الشجرة الطيبة النّخلة» (4)و هو مروي عن ابن عبّاس. و عنه: أنّ الحين ستة أشهر. و قيل: إنّه شهران. و قيل: سنة (5)؛ لأنّه إذا ترك عليها الثمر انتفع به في جميع أوقات السنة (6).

و قيل: إنّ المراد بالشجرة شجرة تكون لها هذه الأوصاف التي يجب على العاقل تحصيلها و السعي في حفظها و ادّخارها لنفسه، و إن لم يكن لها وجود في العالم و كان فرضيا (7).

ثمّ نبّه سبحانه على حكمة ضرب المثل بقوله: وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ بتصوّر المحسوسات يَتَذَكَّرُونَ و يفهمون المعقولات و يتصوّرون المعاني العالية عن الأفهام بتطبيقها على المشهودات.

ص: 512


1- . تفسير الرازي 19:120.
2- . تفسير أبي السعود 5:43، تفسير روح البيان 4:414.
3- . لفظ السماء مؤنث و قد يذكّر.
4- . مجمع البيان 6:480، تفسير الصافي 3:85.
5- . مجمع البيان 6:480، تفسير الرازي 19:120. (6 و 7) . تفسير الرازي 19:120.

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن الشجرة في هذه الآية، فقال: «رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصلها، و أمير المؤمنين فرعها، و الأئمة من ذريتهما أغصانها، و علم الأئمة ثمرتها، و شيعتهم المؤمنون ورقها، و اللّه إنّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، و إن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها» (1).

و في رواية (الاكمال) : «و الحسن و الحسين ثمرها، و التسعة من ولد الحسين أغصانها» (2).

و في رواية (المعاني) : «و غصن الشجرة فاطمة، و ثمرها أولادها، و ورقها شيعتها» (3). و زاد في (الاكمال) : «تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ما يخرج من علم الامام إليكم في كلّ سنة من كلّ فجّ عميق» (4).

أقول: هذه الروايات في بيان تأويل الآية، فلا منافاة بينها.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 26

ثمّ أنه تعالى بعد ضرب المثل للقول الحقّ و كلمة التوحيد ضرب مثلا للقول الباطل و كلمة الشرك و الكفر بقوله: وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ قبيحة باطلة تصدر من الشقي، و هي كلمة الشرك و الكفر في قباحة الصورة، و سوء المنظر، و نتن الرائحة، و كثرة الضرر، و سرعة الزوال كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ قبيحة الصورة و المنظر، كريهة الرائحة، ضارة الثمرة كالحنظل، غير ضاربة بعروقها في الأرض بحيث اُجْتُثَّتْ و انقلعت مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ لعدم رسوخ عروقها فيها، فلذا ما لَها شيء مِنْ قَرارٍ و ثبات فيها بحيث تقلع و تزول من محلّها بأخفّ تحريك.

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)قيل: إنّ اللّه شبّه الايمان بالشجر؛ لأنّ الشجر لا بدّ له من أصل ثابت و فرع قائم و رأس عال، فكذا الايمان لا بدّ له من تصديق في القلب، و إقرار (5)باللسان، و عمل بالاركان (6). و شبّه الكفر و عبادة الأصنام التي لا حجّة عليها و لا ينتفع بها بشجرة الحنظل التي لا أصل لها حتّى يكون لها قرار و لا نفع معتدّ به لها.

عن الباقر عليه السّلام: «كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى السماء» (7)الخبر.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 27

يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّابِتِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللّهُ اَلظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللّهُ ما يَشاءُ (27)

ص: 513


1- . الكافي 1:355/80، تفسير الصافي 3:85.
2- . إكمال الدين:345/30، تفسير الصافي 3:85.
3- . معاني الأخبار:400/61، و فيه: و ورقها شيعتنا، تفسير الصافي 3:85.
4- . إكمال الدين:345/30، و فيه: من حج و عمرة، تفسير الصافي 3:85.
5- . في تفسير روح البيان: قول.
6- . تفسير روح البيان 4:415، و فيه: و عمل بالابدان.
7- . تفسير القمي 1:369، تفسير الصافي 3:86.

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه ثبات كلمة التوحيد في القلوب، بيّن ثباتها في الدارين بقوله: يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بلطفه و توفيقه بِالْقَوْلِ اَلثّابِتِ و هو كلمة التوحيد الراسخة في نفوسهم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فلا يزولون عنها و لو قطّعوا إربا إربا وَ فِي اَلْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عنها في القبر و في الموقف.

عن ابن عبّاس: من داوم على الشهادة في [الحياة]الدنيا يثبّته اللّه عليها في قبره و يلقّنه إياها (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أنّه ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثمّ تعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان [له]: من ربك، و ما دينك، و من نبيك؟ فيقول: ربّي اللّه، و ديني الاسلام، و نبيي محمد صلّى اللّه عليه و آله، فينادي مناد من السماء أنّه صدّق عبدي. فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اَللّهُ» (2)الآية.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه و عن شماله ليضلّه (3)عما هو عليه، فيأبى اللّه عزّ و جلّ له ذلك، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» (4).

و قيل: إنّ المراد يثبّت اللّه الذين [آمنوا]على الثواب و الكرامة بسبب القول الثابت الذي يصدر عنهم في الدنيا و الآخرة (5). و على أيّ تقدير هو بيان لقوله: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه معاملته مع أصحاب الكلمة الطيبة، بيّن معاملته مع أصحاب الكلمة الخبيثة بقوله: وَ يُضِلُّ اَللّهُ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الكفر عن كرامته، و يمنعهم عن الفوز بالثواب.

عن الصادق عليه السّلام: «يعني يضلّهم [يوم القيامة]عن دار كرامته (6)» و عن الحقّ الذي ثبّت المؤمنين عليه، فلا يثبتوا في الدنيا في مواقف الفتن، و إذا سئلوا عن دينهم في قبورهم قالوا: لا ندري، و تدهشهم أهوال القيامة فلا يقدرون على الجواب في الموقف وَ يَفْعَلُ اَللّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض و إضلال آخرين حسبما تقتضيه مشيئته التي هي عين حكمته البالغة و لا اعتراض عليه.

عن الصادق عليه السّلام في سؤال القبر: «و إن كان كافرا-إلى أن قال-: و يسلّط اللّه عليه في قبره الحيّات تنهشه نهشا، و الشيطان يغمّه غمّا-إلى أن قال-: و هو قول اللّه عزّ و جل: يُثَبِّتُ اَللّهُ إلى قوله: وَ يَفْعَلُ اَللّهُ ما يَشاءُ» (7).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 28 الی 29

ص: 514


1- . تفسير الرازي 19:122.
2- . تفسير البيضاوي 1:518.
3- . في تفسير العياشي: يساره ليصده.
4- . تفسير العياشي 2:407/2273، تفسير الصافي 3:86.
5- . تفسير الرازي 19:122.
6- . التوحيد:241/1، تفسير الصافي 3:86.
7- . الكافي 3:239 و 240/12، تفسير الصافي 3:86.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فوائد كلمة التوحيد و ضرر كملة الشرك بضرب المثل، أظهر التعجّب من الذين هيّأ لهم أسباب الهداية إلى التوحيد و دين الحقّ و مع ذلك اختاروا الكفر و الشّرك بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد، و لم تنظر إِلَى المشركين اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللّهِ التي أنعمها عليهم و الهداية التي رزقهم، ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيهم بالرسالة، و إنزال القرآن عليهم، فأبوا عن قبولها، و اختاروا مكانها كُفْراً باللّه و وحدانيته.

و قيل: يعني بدّلوا شكر نعمة اللّه كفرا بأن وضعوه مكانه، أو بدّلوا نفس النعمة كفرا، فانّهم لمّا كفروها سلبت منهم، فصاروا فاقدين لها، و واجدين للكفر بدلها (1).

قيل: نزلت في أهل مكة حيث أسكنهم اللّه حرمه، و جعلهم قوّام بيته، و وسّع عليهم أبواب رزقه، و شرّفهم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله فكفروا ذلك و قحطوا سبع سنين، و قتلوا و اسروا يوم بدر، فصاروا أذلاء مسلوبي النعمة (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هم الأفجران: بنو المغيرة، و بنو امية، أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أمّا بنو امية فمتّعوا إلى حين» (3).

و في (المجمع) : سأل رجل أمير المؤمنين عليه السّلام عن هذه الآية فقال: «هما الأفجران من قريش: بنو امية، و بنو المغيرة، فأمّا بنو امية فمتعّوا الى حين، و أمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في الأفجرين من قريش: بنو المغيرة، و بنو اميّة، فأمّا بنو المغيرة فقطع اللّه دابرهم [يوم بدر]، و أمّا بنو اميّة فمتّعوا إلى حين» (5).

وَ أَحَلُّوا و أنزلوا قَوْمَهُمْ باضلالهم عن الحقّ دارَ اَلْبَوارِ و الهلاك، و هي جَهَنَّمَ و هم يَصْلَوْنَها و يدخلون فيها مقاسين لحرّها وَ بِئْسَ اَلْقَرارُ و المستقرّ جهنّم.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «ما يقولون في ذلك؟» قيل: يقولون: هما الأفجران من قريش: بنو اميّة، و بنو المغيرة. فقال: «هي و اللّه قريش قاطبة، إنّ اللّه تعالى خاطب به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّي فضلت قريشا على العرب، و أتممت عليهم نعمتي، و بعثت إليهم رسولي، فبدّلوا نعمتي كفرا، و أحلّوا قومهم دار البوار» (6).

ص: 515


1- . تفسير روح البيان 4:418.
2- . تفسير روح البيان 4:418.
3- . تفسير روح البيان 4:418.
4- . مجمع البيان 6:483، تفسير الصافي 3:87.
5- . تفسير القمي 1:371، تفسير الصافي 3:87.
6- . الكافي 8:103/77، تفسير الصافي 3:87.

و عن الصادق عليه السّلام: «عنى بها قريشا قاطبة الذين عادوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نصبوا له الحرب» ، و جحدوا الوصية» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّهم كفار قريش، كذّبوا نبيهم، و نصبوا له الحرب و العداوة» (2).

و يمكن الجمع بين الروايات بأن النزول و إن كان في قريش قاطبة، و لكن لمّا كان الأفجران أكفرهم للنعمة صحّ أن يقال نزلت فيهما.

و عن الصادق عليه السّلام-في رواية- «و نحن نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، و بنا يفوز من فاز» (3).

و عن (الكافي) و (القمي) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عدلوا عن وصيه، ألا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب» ثمّ تلا هذه الآية، ثم قال: «نحن النعمة التي أنعم اللّه بها على عباده، و بنا يفوز من فاز يوم القيامة» (4).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 30

ثمّ فسّر اللّه كفرانهم بقوله: وَ جَعَلُوا من الأصنام لِلّهِ أَنْداداً و شركاء في العبادة و النّعم التي أنعم بها عليهم بأن صرفوها فيها، و قالوا: هذا للّه، و هذا لشركائنا لِيُضِلُّوا و يحرفوا عباد اللّه عَنْ سلوك سَبِيلِهِ و قبول دينه الحقّ.

وَ جَعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّارِ (30)ثمّ أمر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء المشركين المضلّين: أنتم لا تتأهّلون للوعظ و النّصح و الهداية، فأنتم مخلّون و أنفسكم، إذن تَمَتَّعُوا و انتفعوا بالنّعم الدنيوية قليلا، و كلوا منها كما تأكل الأنعام، لا حظّ لكم في نعم الآخرة فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ بعد خروجكم من الدنيا إِلَى اَلنّارِ التي سجّرها القهّار بغضبه.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 31

ثمّ لمّا أمر سبحانه الكفّار بالتمتّع بالنّعم الدنيوية تهديدا، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأن يأمر المؤمنين بالإعراض عن الدنيا و الاقبال إلى العبادات لطفا بقوله: قُلْ يا محمّد لِعِبادِيَ اَلَّذِينَ عرفوني و آمَنُوا بوحدانيتي و دار جزائي، ليعرضوا عن التمتّع بالمشتهيات النفسانية و اللذائذ الدنيوية، و يقبلوا الى

قُلْ لِعِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ (31)

ص: 516


1- . الكافي 1:169/4، تفسير الصافي 3:87.
2- . مجمع البيان 6:483، تفسير الصافي 3:87.
3- . تفسير القمي 1:371، تفسير الصافي 3:87.
4- . الكافي 1:169/1، تفسير الصافي 3:87.

العبادات البدنية و المالية بأن يُقِيمُوا اَلصَّلاةَ التي هي عمود دينهم، و معراجهم إلى مقام قرب ربّهم وَ يُنْفِقُوا بعضا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً و أنعمنا عليهم في سبيلنا و تحصيل مرضاتنا مِنْ قَبْلِ أَنْ تنقضي مدد أعمارهم في الدنيا و يَأْتِيَ يَوْمٌ عظيم لا بَيْعٌ و معاوضة فِيهِ حتّى يبتاع المجرم نفسه بالمال و يفتدي به عنها من العذاب وَ لا خِلالٌ و صداقة حتى يشفّعه خليله و صديقه، أو يبذل عنه مالا ليخلّصه من العقوبة، فعلى العاقل أن يهيّأ أسباب خلاصة من العذاب في الدنيا بالقيام بوظائف العبودية و بذل الأموال في سبيله.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 32 الی 34

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال السعداء، و ترغيبهم في القيام بوظائف العبودية، و بيان حال الأشقياء، و ترهيبهم من الشرك، نبّه على كمال قدرته و حكمته و وفور نعمته، ازديادا لترغيب الأولين و ترهيب الآخرين بقوله: اَللّهُ هو اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بقدرته وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا بحكمته فَأَخْرَجَ بِهِ من الأرض كثيرا مِنَ أنواع اَلثَّمَراتِ ليكون رِزْقاً و معايش لَكُمْ بجوده وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ و سلّطكم على صنعها و استعمالها لِتَجْرِيَ و تسير الفلك المصنوعة فِي اَلْبَحْرِ إلى حيث توجّهتم بها بِأَمْرِهِ و إرادته وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهارَ بأن جعلها سهلة الانتفاع بها باتحاد الجداول منها تسقي زروعكم و بساتينكم.

اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهارَ (32) وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ (33) وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ (34)قيل: لمّا لم ينتفع بماء البحر في الزراعات، أنعم اللّه على الخلق بتفجير الأنهار و العيون (1).

و قيل: زروعكم و بساتينكم (2).

و قيل: إنّ المراد بالأنهار الأنهار العظيمة الخمسة: سيحون و جيحون و الفرات و دجلة و النّيل، أنزلها اللّه من عين واحدة من عيون الجنة، فاستودعها الجبال، و أجراها، و سخّرها للناس، و جعل فيها منافع لهم في أصناف معائشهم، و سائر الأنهار تبع لها (3).

ص: 517


1- . تفسير الرازي 19:128.
2- . تفسير روح البيان 4:421.
3- . تفسير روح البيان 4:422.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ حال كونهما دائِبَيْنِ و دائمين في سيرهما بحيث لا ينقطع سيرهما إلى يوم القيامة، و لا يفتران لا صلاح ما يصلحان من الأرض و النبات و الأبدان و المعادن و غيرها وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لتسكنوا فيه وَ اَلنَّهارَ لتبتغوا من فضله وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ بجوده بعضا ما سَأَلْتُمُوهُ ممّا تحتاجون إليه ممّا لم يكن منافيا لحكمته، أو كلّ ما سألتموه بلسان الحال أو المقال على أنّ كلمة (من) تبيينية.

ثمّ نبّه على أنّ نعمة ليست منحصرة بالمذكورات بقوله: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللّهِ التي أنعمها عليكم جسمانية و روحانية لا تُحْصُوها و لا تقدرون على عدّها و حصرها لكثرتها و عدم إحاطة عقولكم بجميعها.

ثمّ إِنَّ اَلْإِنْسانَ المستغرق في تلك النّعم و اللّه لَظَلُومٌ و كثير العصيان لمنعمه مع أنّ حقّ نعمه الطاعة و صرف العمر في الشكر و كَفّارٌ لتلك النعم، و مبالغ في كفرانها بأن صرفها في ما يغضب المنعم و يجعل له أندادا.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 35

ثمّ لمّا كانت قريش مفتخرين بانتسابهم إلى إبراهيم، حكى سبحانه شدّة إنكاره عبادة الأصنام بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ حبّا لأولاده الساكنين في مكة من بني إسماعيل رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ الذي يسكنه (1)ذرّيتي آمِناً و محفوظا من ورود المكاره العمومية (2)على أهله، و قد مرّ في سورة البقرة تفصيل المراد من جعله آمنا (3)وَ اُجْنُبْنِي و بعّدني وَ بَنِيَّ من أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ بأن تثبّتنا على ما نكون عليه من التوحيد و دين الاسلام.

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ (35)قيل: إنّه عليه السّلام لمّا رأى القوم يعبدون الأصنام، فخاف على بنيه، فدعا لهم (4)، و إنّما أدخل نفسه الشريفة في الدعاء إمّا لإظهار هضمها، و إمّا لإظهار أنّ عصمته من العقائد الفاسدة و الزلاّت بعناية اللّه و لطفه لا بنفسه، و قد استجاب اللّه دعاءه، فجعل البلد آمنا بالمعاني التي سبق ذكرها، و جنّب كثيرا من ذراريه من عبادة الصنم، و كانت كلمة التوحيد باقية في عقبه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قد حظر على من مسّه الكفر تقلّد ما فوّضه إلى أنبيائه و أوليائه بقوله

ص: 518


1- . في النسخة: يسكنها.
2- . في النسخة: العمومي.
3- . تقدم في سورة البقرة:2/126.
4- . تفسير روح البيان 4:424.

لابراهيم عليه السّلام: لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ (1)أي المشركين، لأنّه سمّى الشرك ظلما بقوله: إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (2)فلمّا علم إبراهيم عليه السّلام أنّ عهد اللّه تبارك و تعالى اسمه بالإمامة لا ينال عبدة الأصنام قال: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ» (3).

و في رواية (الأمالي) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي عليّ لم يسجد أحد منّا لصنم قطّ، فاتّخذني نبيا و عليا وصيا» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه أتاه رجل فسأله عن شيء فلم يجبه، فقال له الرجل: فان كنت ابن أبيك فانّك من أبناء عبدة الأصنام. فقال له: «كذبت إن اللّه أمر إبراهيم أن ينزل إسماعيل بمكّة ففعل، فقال إبراهيم: رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ فلم يعبد أحد من ولد إسماعيل صنما، و لكن العرب عبدة الأصنام، و قالت بنو إسماعيل: هؤلاء شفعائنا عند اللّه فكفرت و لم تعبد الأصنام» (5).

و قيل: إن دعاءه كان لأولاده من صلبه، و هم إسماعيل و إسحاق (6).

و قيل: لأولاده الذين كانوا في عصره (7).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 36

ثمّ بين عليه السّلام أنّ علة سؤال عصمة أولاده من عبادة الأصنام، شيوع الشرك بين الناس بقوله: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ و صرن أسبابا لبعد غالب الخلق عن الحقّ، ثمّ أظهر غاية حبّه للموحّدين المطيعين للّه ترغيبا للنّاس إلى التوحيد و طاعة اللّه، و إظهارا لتبعية حبّه لحبّ اللّه بقوله: فَمَنْ تَبِعَنِي من الناس كان من أولادي أو غيرهم في ديني من عقائدي و أعمالي فَإِنَّهُ مِنِّي و بمنزلة عضو من أعضائي لفرط اختصاصه بي و حبّي إياه.

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)ثمّ أظهر عطوفته بعامة الناس بشفاعته في أهل الكبائر منهم بقوله: وَ مَنْ عَصانِي و خالف أحكامك التي بلغتها إليه، فاغفر له فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالمؤمنين العصاة فلا تحرمه من غفرانك و رحمتك.

عن الصادق عليه السّلام: «من اتّقى اللّه منكم و أصلح فانه منّا أهل البيت» [قيل: منكم أهل البيت؟ قال: «منا

ص: 519


1- . البقرة:2/124.
2- . لقمان:31/13.
3- . الاحتجاج:251، تفسير الصافي 3:89.
4- . أمالي الطوسي:379/811، تفسير الصافي 3:89.
5- . تفسير العياشي 2:414/2287، تفسير الصافي 3:89.
6- . تفسير الرازي 19:132.
7- . تفسير الرازي 19:133.

أهل البيت]قال [فيها]إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «من أحبّنا فهو منّا أهل البيت» قيل: منكم؟ قال: «منّا و اللّه، أما سمعت قول إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال: «تقدر أن تغفر له و ترحمه» (3).

قيل: إنّ المراد من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم، يعني أنك قادر على أن تغفر له و ترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإيمان (4).

و قيل: إنّ المراد من هذه المغفرة عدم التعجيل في عقوبته و إمهاله حتى يتوب، أو عدم التعجيل في موته فتفوته التوبة (5).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 37

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد طلب الأمن و الايمان اللذين هما أجلّ النّعم الدنيوية و الاخروية و أعلاها لأولاده، سأل و جاهتهم و محبوبيتهم عند الناس و السّعة في رزقهم بقوله: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ بعضا مِنْ ذُرِّيَّتِي و أولادي و هم إسماعيل و نسله بِوادٍ و صحراء غَيْرِ ذِي زَرْعٍ و هو وادي مكّة، فانّها حجرية لا ينبت فيها شيء من الزرع عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ و الكعبة العظيمة التي لا يحلّ انتهاكها، و إنّما كان إسكاني لهم فيه رَبَّنا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاةَ عند البيت، و يشتغلوا بعبادتك حوله، لا لغرض دنيوي، فاذا كان غرضي ذلك فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً كثيرة مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي و تشتاق إِلَيْهِمْ و تسرع إلى لقائهم محبّة لهم.

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)عن الباقر عليه السّلام: «نحن هم، و نحن بقيّة تلك الذرّية» (6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و الأفئدة من الناس تهوي إلينا، و ذلك دعوة إبراهيم حيث قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (7).

ص: 520


1- . تفسير العياشي 2:414/2289، تفسير الصافي 3:90.
2- . تفسير العياشي 2:414/2288، تفسير الصافي 3:90.
3- . تفسير الصافي 3:90.
4- . تفسير الرازي 19:134، و فيه: إلى الإسلام.
5- . تفسير الرازي 19:134.
6- . تفسير العياشي 2:415/2291، تفسير الصافي 3:90.
7- . الاحتجاج:160، تفسير الصافي 3:91.

و عن الباقر عليه السّلام في رواية: «فنحن دعوة إبراهيم عليه السّلام» (1).

و عنه عليه السّلام-في رواية اخرى-: «و كانت دعوة إبراهيم لنا خاصة» (2).

و عنه عليه السّلام، أنّه نظر إلى النّاس يطوفون حول الكعبة فقال: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، إنّما أمروا أن يطوفوا بها ثمّ ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم و مودّتهم، و يعرضوا علينا نصرتهم» ثمّ قرأ هذه الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (3).

وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ أنواع اَلثَّمَراتِ و الفواكه و الأطعمة، بأن يجيء إليهم من البلاد البعيدة أو القرى القريبة لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ نعمك.

قيل: إنّه يجتمع في مكّة بدعائه عليه السّلام الفواكه الربيعية و الصيفية و الخريفية و الشتوية في يوم واحد (4).

و عن ابن عباس: أنّ الطائف التي على ثلاث مراحل من مكة، كانت من أرض فلسطين، فلمّا دعا إبراهيم بهذه الدعوة رفعها اللّه و وضعها قريبا من الحرم (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الثمرات تحمل إليهم من الآفاق، و قد استجاب اللّه له حتى لا يوجد في بلاد المشرق و المغرب ثمرة لا (6)توجد فيها» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني من ثمرات القلوب» (8)أي حبّبهم إلى الناس ليأتوا إليهم و يعودوا.

روي من طريق عامي: أنّ هاجر كانت أمة لسارة، فوهبتها لإبراهيم عليه السّلام، فولدت [له]إسماعيل، فقالت سارة: كنت أرجو أن يهب اللّه [لي]ولدا من خليله فمنعته (9)و رزقه خادمتي. و قالت لابراهيم بعّدهما عنّي. فنقلهما إلى مكة و إسماعيل رضيع، ثمّ رجع، فقالت هاجر: إلى من تكلنا؟ فقال: إلى اللّه، ثمّ دعا اللّه تعالى بقوله: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ الآية. ثمّ أنّها عطشت و عطش الصبيّ، فانتهت بالصبيّ إلى موضع زمزم، فضرب بقدمه، ففارت عينا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «رحم اللّه امّ إسماعيل، لو لا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا» (10).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ ابراهيم عليه السّلام كان نازلا في بلاد (11)الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمّت سارة من ذلك غما شديدا؛ لأنّه لم يكن له منها ولد، و كانت تؤذي إبراهيم عليه السّلام في هاجر،

ص: 521


1- . الكافي 8:312/485، تفسير الصافي 3:91.
2- . مجمع البيان 6:489، تفسير الصافي 3:90.
3- . تفسير العياشي 2:418/2299، الكافي 1:322/1، تفسير الصافي 3:94.
4- . تفسير البيضاوي 1:521، تفسير روح البيان 4:427.
5- . تفسير روح البيان 4:427، و فيه: و وضعها رزقا للحرم.
6- . في عوالي اللآلي: إلاّ.
7- . عوالي اللآلي 2:96/258، تفسير الصافي 3:91.
8- . تفسير القمي 1:371، تفسير الصافي 3:91.
9- . في تفسير الرازي: فمنعنيه.
10- . تفسير الرازي 19:136.
11- . في تفسيري القمي و الصافي: بادية.

و تغمه، فشكا إبراهيم عليه السّلام ذلك إلى اللّه عزّ و جلّ، فأوحى اللّه إليه: إنّما مثل المرأة مثل الضّلع العوجاء إن تركتها استمتعت بها، و إن أقمتها كسرتها. ثمّ أمره أن يبعد إسماعيل و أمّه عنها فقال: يا رب إلى أي مكان؟ قال: إلى حرمي و أمني و أول بقعة خلقتها من الأرض، و هي مكة.

فأنزل اللّه عليه جبرئيل بالبراق، فحمل هاجر و إسماعيل و إبراهيم، و كان إبراهيم عليه السّلام لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر و نخل و زرع إلاّ و قال: يا جبرئيل، إلى هاهنا؟ فيقول جبرئيل: لا امض، حتى وافى مكة، فوضعه في موضع البيت.

و قد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلّوا تحته، فلمّا سرّحهم إبراهيم عليه السّلام و وضعهم و أراد الانصراف عنهم الى سارة، قالت هاجر: لم تدعنا في موضع ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع؟ فقال إبراهيم عليه السّلام: اللّه الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان حاضر عليكم.

ثمّ انصرف عنهم، فلمّا بلغ كداء-و هو جبل بذي طوى-التفت إليهم إبراهيم، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي الآية. ثم مضى و بقيت هاجر، فلمّا أرتفع النهار عطش إسماعيل و طلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع المسعى، فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب إسماعيل عنها، فصعدت على الصّفا و لمع لها السّراب في الوادي، و ظنّت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت، فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل، ثمّ لمع [لها]السراب في ناحية الصفا، فهبطت إلى الوادي تطلب الماء، فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلمّا كانت في الشوط السابع و هي على المروة و نظرت إلى إسماعيل، و قد ظهر الماء من تحت رجله، قعدت حتى جمعت حوله رملا، فانّه كان سائلا فزمّته بما جعلته حوله، فلذلك سمّي زمزم.

و كانت جرهم (1)نازلة بذي المجاز و عرفات، فلمّا ظهر الماء [بمكة]عكفت الطير و الوحش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير في ذلك المكان اتّبعوها حتّى نظروا إلى امرأة و صبيّ نازلين في ذلك الموضع، قد استظلا بشجرة، و قد ظهر الماء لهما، فقالوا لهاجر: من أنت و ما شأنك و شأن هذا الصبيّ؟ قالت: أنا أمّ ولد إبراهيم خليل الرحمن، و هذا ابنه، أمره اللّه أن ينزلنا هاهنا، فقالوا لها: أتأذنين أن نكون بالقرب منكما؟ [فقالت: حتى يأتي إبراهيم]فلما زارهم إبراهيم عليه السّلام يوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الرحمن، إنّ هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب

ص: 522


1- . اسم قبيلة.

منّا، أفتأذن لهم في ذلك؟ فقال إبراهيم عليه السّلام: نعم، فأذنت هاجر لجرهم، فنزلوا بالقرب منهم، و ضربوا خيامهم، فأنست هاجر و إسماعيل بهم، فلمّا زارهم إبراهيم في المرة الثالثة، نظر إلى كثرة الناس [حولهم]، فسرّ بذلك سرورا شديدا» (1).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 38

ثمّ أظهر عليه السّلام ذلّته و علمه تعالى بحاجته تقريبا لإجابة دعائه بقوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي في صدورنا من الحاجة وَ ما نُعْلِنُ و نظهر بألسنتنا من مطلوبنا لاظهار العبودية و المسكنة و الافتقار إلى رحمتك، و استعجالا بنيل أياديك، لا لأن تعلم حاجاتنا.

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ (38)قيل: إنّ المراد ما نخفي في قلوبنا من الحزن بسب الفرقة بيني و بين ابني إسماعيل (2)، أو ما نخفي من الحزن على ما جرى (3)بيني و بين هاجر حيث قالت: حين الوداع: إلى من تكلنا؟ و ما نعلن من البكاء، أو من جوابها بأنّي أكلكم إلى اللّه (4).

ثمّ أنه عليه السّلام لمّا أضاف علمه تعالى بالأمرين الخاصين، دفع توّهم الاختصاص بقوله: وَ ما يَخْفى عَلَى اَللّهِ الخالق لجميع الأشياء العالم بحقائقها و دقائقها مِنْ شَيْءٍ حقير أو كبير يكون فِي اَلْأَرْضِ و تخومها وَ لا فِي اَلسَّماءِ لأنّ علمه عين ذاته، و الكلّ معلول لارادته. و قيل: إن الذيل كلام اللّه عزّ و جلّ تصديقا لابراهيم عليه السّلام (5)لا من تتمّة كلام إبراهيم عليه السّلام.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 39

ثمّ أنّه عليه السّلام أعلن بالشكر على نعمة اللّه عليه طلبا لا بقائها و ازديادها بقوله: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي بكرمه وجوده و أنا عَلَى حال اَلْكِبَرِ و الهرم الذي يقتضي العقم و الحرمان عن الولد إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ بدعائي.

اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعاءِ (39)ثمّ لمّا كان الثناء على اللّه من كمال الدعاء، أثنى عليه بقوله: إِنَّ رَبِّي و اللّه لَسَمِيعُ اَلدُّعاءِ و مجيبه، و في نسبة الهبة بحال الكبر إظهارا لكونها من الآيات و خوارق العادات.

ص: 523


1- . تفسير القمي 1:60، تفسير الصافي 3:91.
2- . تفسير الرازي 19:137.
3- . في تفسير الرازي: من الحزن المتمكّن في القلب، و ما نعلن يريد ما جرى.
4- . تفسير الرازي 19:137.
5- . تفسير الرازي 19:138.

قيل: ولد [اسماعيل]و لإبراهيم أربع و ستون. و قيل: تسع و تسعون سنة (1).

و عن سعيد بن جبير: أنّه لم يولد لابراهيم إلاّ بعد مائة و سبع عشرة سنه (2).

قيل: إنّما سمّاه إسماعيل لأنّه دعا اللّه أن يرزقه ولدا، و قال في داعائه: اسمع يا إيل، و إيل اسم اللّه، فلمّا ولد سمّاه به. و قيل: معناه بالعبرانية مطيع (1).

و في ذكر إسحاق دلالة على أنّ هذا الشكر و الثناء لم يكن في زمان إسكان إسماعيل في مكة، بل كان بعد كبره و ولادة إسحاق، و إنّما حكى اللّه هذا الحمد هنا بمناسبة ذكر إسماعيل لا لكونه في زمان سائر الأدعية.

قيل: ولد له إسحاق و له تسعون (2). و قيل: مائة و اثنتا عشرة سنة (3).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ لمّا ذكر أنّ غرضه من إسكان إسماعيل في محلّ البيت إقامة الصلاة عنده، سأل توفيقه و توفيق بعض ذرّيته لاقامة الصلاة بقوله: رَبِّ اِجْعَلْنِي بتوفيقك مُقِيمَ اَلصَّلاةِ و مواظبا عليها وَ بعضا مِنْ ذُرِّيَّتِي.

رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسابُ (41)و قيل: لمّا أخبره اللّه بأنّ بعض ذرّيته يكون كفّارا، خصّ هذا الدعاء ببعضهم (4).

ثمّ سأل استجابة دعائه بقوله: رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ و استجب دُعاءِ ثمّ ختم الدعاء بطلب المغفرة التي هي أهم المقاصد الاخروية بقوله: رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي ما صدر منّي من ترك الأولى وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسابُ و يتحقق فيه جزاء الأعمال.

قيل: إنّ المراد بوالديه آدم و حواء (5). و قيل: إنّ المراد والداه بلا واسطة (6)، و كان الدعاء قبل النهي عن الاستغفار للمشركين.

أقول: الحقّ أنّ المراد بوالديه تارخ و زوجته امّ إبراهيم، و هما كانا مسلمين، و كان آذر عمّه، أو أبا امّه، أو زوج امّه، و أمّا بعض الروايات المروية عن أئمتنا المعصومين عليهم السّلام بطرق أصحابنا الدالة على وقوع التحريف في الآية، و كان المنزل (ولولدي) (7)فمطروح غير معتبر، و لذا أعرضنا عنها.

ص: 524


1- . تفسير روح البيان 4:429.
2- . تفسير الرازي 19:138.
3- . تفسير الرازي 19:138، تفسير روح البيان 4:429.
4- . تفسير الرازي 19:139، تفسير أبي السعود 5:54.
5- . تفسير الرازي 19:140، تفسير أبي السعود 5:54.
6- . تفسير روح البيان 4:429.
7- . راجع: تفسير العياشي 2:419/2301 و 2303.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 42 الی 43

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد بالبراهين، و كونه ملة إبراهيم، و كون الشرك عصيانه، و خوف إبراهيم من عذاب اللّه يوم الحساب، هدّد اللّه المشركين بأهوال ذلك اليوم بقوله: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ يا محمد، و لا تحتمل أن يكون غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ اَلظّالِمُونَ و المشركون من العصيان و الطّغيان و عبادة الأوثان.

وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ اَلظّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)قيل: إن المراد دم يا محمّد على ما أنت عليه من عدم حسبان الغفلة في حقّه تعالى (1).

و يحتمل أن يكون المقصود نهي المؤمنين، و المعنى: لا تحسبوا-أيّها المؤمنون-أنّ تأخير العذاب عن الظالمين لغفلته تعالى عن أعمالهم، بل إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ و يمهلهم لِيَوْمٍ عظيم تَشْخَصُ و ترتفع فِيهِ اَلْأَبْصارُ و تبقى مفتوحة، لا يقدرون على تحريكها من الدهشة، و هم مع شخوص أعينهم المقتضي لوقوفهم في أماكنهم يكونون مُهْطِعِينَ و مسرعين لاجابة الداعي، أو نحو البلاء و العذاب كإسراع الأسير الخائف، أو مقبلين إلى الحساب، أو المراد ناظرين في ذلّ و خشوع حال كونهم مُقْنِعِي و رافعي رُؤُسِهِمْ مع أنّ حقّ المشاهد للبلاء أطراق رأسه كي لا يراه.

ثمّ بيّن دوام شخوصهم بحيث لا يَرْتَدُّ و لا يرجع إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ و لا تحرّك أجفانهم، بل تبقى مفتوحة أبدا دائما لدوام حيرتهم و دهشتهم وَ أَفْئِدَتُهُمْ و قلوبهم هَواءٌ و خالية من العقل و القوة و الأفكار و الآمال، لعظم ما ينالهم من الوحشة و الدهشة و الحزن.

القميّ قال: تتصدّع قلوبهم من الخفقان (2). قيل: ذلك عند القيام من القبور. و قيل: عند قيام الحساب. و قيل: عند تميّز الأشقياء من السّعداء (3).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 44 الی 45

ص: 525


1- . تفسير روح البيان 4:431.
2- . تفسير القمي 1:372، تفسير الصافي 3:95.
3- . تفسير الرازي 19:142.

ثمّ أنّه تعالى بعد تخويف المشركين بأهوال القيامة، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتخويفهم من عذابه بقوله: وَ أَنْذِرِ اَلنّاسَ يا نذير البشر يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذابُ المعهود، و هو عذاب يوم القيامة فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم باختيار و عمل المعاصي و تكذيب الرسل عند رؤيتهم العذاب: رَبَّنا ردّنا إلى الدنيا و أَخِّرْنا و أمهلنا فيها إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ و أمد قليل نُجِبْ إذن دَعْوَتَكَ إلى توحيدك و طاعتك وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ و نعمل بقولهم، و نتدارك ما فرّطنا فيه، فيقال لهم توبيخا و تبكيتا: هيهات ألم نمهلكم فيها أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ و حلفتم بألسنتكم، أو بلسان حالكم مِنْ قَبْلُ و في زمان حياتكم حيث بنيتم شديدا و أمّلتم (1)بعيدا غرورا و استكبارا على أنّه ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ و انصراف عن التمتّع بالمشتهيات و الشرك و تكذيب الرسل، أو من زوال من هذه الدنيا و خروج منها و رجوع إلى دار الجزاء، مع أنّه قد تمّت عليكم الحجّة.

وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و الطّغيان كعاد و ثمود وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ بمشاهدة الآثار و تواتر الأخبار أنا كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ و عاملنا معهم من الإهلاك و العقوبة بسيئاتهم وَ ضَرَبْنا لَكُمُ في هذا القرآن العظيم اَلْأَمْثالَ و بيّنا لكم ممّا فعلوا و فعل بهم ما يكون فيه غاية الاعتبار، و مع ذلك لم تحدّثوا أنفسكم (2)أنّ أعمالكم كأعمالهم و مالكم كمالهم فترتدعوا عمّا كنتم فيه من الكفر و الطّغيان (3)و تكذيب الرسل، فلو رجعتم إلى الدنيا بعد هذا اليوم لترجعنّ إلى ما كنتم عليه، و لا ينفعكم النّصح و الموعظة.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 46

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين المكذّبين للرسول بأهوال القيامة و شدائدها و عذابها، بيّن شدّة سعيهم و مكرهم في إطفاء نور النبي صلّى اللّه عليه و آله و إبطال الحقّ، و وبخهم عليه بقوله وَ قَدْ مَكَرُوا و سعوا بتدبيراتهم في إخلال أمر النبوة و إطفاء نور الرسالة مَكْرَهُمْ العظيم المقدور لهم، و جهدهم البليغ الميسور لهم، بحيث لا يمكنهم فوقه وَ عِنْدَ اَللّهِ محفوظ و مكتوب مَكْرَهُمْ ليجازيهم بما هو أعظم من مكرهم وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ في العظم و الشدّة لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ من أماكنها و مقارّها.

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اَللّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ (46)قيل: يعني مساو في العظم لازالتها من محالّها (4)، و قوله: لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ كناية عن غاية المتانة

ص: 526


1- . في النسخة: و أمنتم، و ما أثبتناه من روح البيان 4:433.
2- . في النسخة: لأنفسكم.
3- . في النسخة: و الطاغين.
4- . تفسير البيضاوي 1:522، تفسير روح البيان 4:435.

و الشدّة لكونه مثلا في ذلك.

و قيل: إنّ كلمة (إن) نافية (1)، و المعنى: و ما كان مكرهم في القوة و التأثير بحدّ تزول الجبال بسببه، يعني يزول به دين محمّد و حجتّه و دلائله، بل هو أوهن و أضعف من ذلك.

و قيل: إنّ المراد أنّ كفّار هذا العصر مكروا مكر كفّار الأعصار السابقة، كنمرود و من حذا حذوه، و عند اللّه جزاء مكرهم (2).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 47

ثم نبّه سبحانه على أنّ مكر الماكرين بالرسل لا يمكن أن يكون مخلا بأمر الرسل بقوله: فَلا تَحْسَبَنَّ و لا تتوهمنّ يا محمّد أن اَللّهَ الحكيم القادر مُخْلِفَ وَعْدِهِ الذي وعده رُسُلَهُ من تعذيب أعدائهم و نصرتهم على معارضيهم إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و غالب على أمره، و قاهر على خلقه ذُو اِنتِقامٍ من أعدائه و أعداء رسله.

فَلا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقامٍ (47)قيل: إن اللّه قال: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ اَلظّالِمُونَ (3)و قال هنا: فَلا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، فنبّه بتلك القضيتين على أنّه إن لم تقم القيامة، و لم ينتقم للمظلوم من الظالم، يلزم إما كونه غافلا، أو مخلفا لوعده رسله، و كلاهما محال، فالقول بعدم قيام القيامة في غاية البطلان (4).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 48

ثمّ عيّن سبحانه يوم إتيانهم العذاب أو وقت الانتقام بقوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ و تغيّر هذه اَلْأَرْضُ و تكون صفتها غَيْرَ صفة تلك اَلْأَرْضُ.

يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ (48)عن ابن عبّاس: هي تلك الأرض، إلاّ أنها تغيّرت في صفاتها، فتسيّر عن الأرض جبالها، و تفجّر بحارها و تسوّى، فلا يرى فيها عوج و لا أمّت (5).

و عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «يبدّل اللّه الأرض غير الأرض (6)، فيبسطها و يمدّها مدّ الأديم العكاظي، فلا ترى فيها عوجا و لا أمتا، ثم يزجر اللّه الخلق زجرة فاذا هم في [هذه المبدّلة في]مثل

ص: 527


1- . تفسير البيضاوي 1:522، تفسير أبي السعود 5:58.
2- . تفسير أبي السعود 5:59، تفسير الرازي 19:144.
3- . إبراهيم 14:42.
4- . تفسير الرازي 19:145.
5- . تفسير الرازي 19:146.
6- . زاد في مجمع البيان: و السماوات.

مواضعهم من الاولى، ما كان في بطنها كان في بطنها، و ما كان على ظهرها كان على ظهرها» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النّقي (2)، ليس فيها معلم لأحد» (3).

و في (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «تبدّل الأرض خبزة نقيّة، يأكل الناس منها حتّى يفرغوا من الحساب» .

قيل: إنّ الناس لفي شغل يومئذ عن الأكل و الشرب؟ فقال: «إنّهم في النار لا يشتغلون عن أكل الضّريع و شرب الحميم و هم في العذاب، فكيف يشتغلون عنه في الحساب؟» (4).

و في رواية اخرى: «أن اللّه عزّ و جلّ خلق ابن آدم أجوف، و لا بدّ له من الطعام و الشراب، أهم أشدّ شغلا يومئذ أم من في النّار؟ فقد استغاثوا و اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ بِئْسَ اَلشَّرابُ» (5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أرض القيامة من نار ما خلا ظلّ المؤمن، فان صدقته تظلّه» (6).

عن الباقر-في رواية-أنّه قال: «لعلّكم ترون أنّه إذا كان يوم القيامة، و صيّر اللّه أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة، و صيّر أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار، أنّ اللّه تبارك و تعالى لا يعبد في بلاده، و لا يخلق خلقا يعبدونه و يوحّدونه و يعظّمونه، بلى [و اللّه]و ليخلقن خلقا من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحّدونه و يعظّمونه، و يخلق لهم أرضا تحملهم و سماء تظلّهم، أ ليس اللّه يقول: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّماواتُ و قال اللّه: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» (7).

أقول: ليس في الرواية دلالة على تغيير أرض المحشر.

و عن ابن مسعود: تبدّل بأرض كالفضّة البيضاء النقية لم يسفك فيها (8)دم، و لم تعمل عليها خطيئة (9).

و عن السجاد عليه السّلام: «و تبدّل الأرض غير الأرض، يعني بأرض لم تكتسب عليها الذنوب، بارزة ليس عليها جبال و لا نبات، كما دحاها أوّل مرّة» (10).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: المتحابون في اللّه عزّ و جل يوم القيامة على أرض من

ص: 528


1- . مجمع البيان 6:498، تفسير الصافي 3:97.
2- . العفراء: الأرض البيضاء التي لم توطأ، و قرصة النّقي: القرصة المتّخذة من خالص الدقيق و لبابه.
3- . مجمع البيان 6:499، تفسير الصافي 3:97.
4- . الكافي 6:286/1، تفسير الصافي 3:96.
5- . الكافي 6:287/4، تفسير الصافي 3:96، و الآية من سورة الكهف:18/29.
6- . ثواب الأعمال:140، بحار الأنوار 7:120/57.
7- . تفسير العياشي 2:423/2313، الخصال:359/45، تفسير الصافي 3:97، و الآية من سورة ق:50/15.
8- . في تفسير الرازي: عليها.
9- . تفسير الرازي 19:147.
10- . تفسير العياشي 2:421/2308، تفسير الصافي 3:96.

زبرجدة خضراء في ظلّ عرشه عن يمينه، و كلتا يديه يمين» (1).

أقول: لا منافاة بين الأخبار، لاحتمال اختلاف الأرض باختلاف الأصناف من المؤمنين على اختلاف مراتبهم و الكافرين، فبالنسبة إلى بعض المؤمنين كالفضة، و بالنسبة إلى بعض من الزبرجدة، و إلى بعض خبزة نقية، و هكذا بالنسبة إلى الكافر نار، و على أي تقدير وَ اَلسَّماواتُ أيضا تبدّل غير السماوات بانفطارها، و انتثار كواكبها، و تكوير شمسها، و خسوف قمرها، و كونها أبوابا، و تكون كالمهل تارة، و كالدّهان اخرى.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام بطريق عامي: «و سماوات من ذهب» (2).

وَ بَرَزُوا و ظهروا من قبورهم حين التبدّل أو بعده لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ ليحاسبهم و يجازيهم، فاذا كان الأمر إلى الغالب الذي لا يغالب و القهّار الذي لا يقهر فلا مغيث لأحد غيره و لا مستجار، و كلّ مقهور تحت قدرته، و منقلب في قبضته، و مسخّر لقضائه.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 49 الی 52

ثمّ أنه تعالى بعد بيان قهّاريته بيّن مقهورية الكفار له و عجزهم و ذلتهم لديه بقوله: وَ تَرَى يا محمّد، أو أيّها الرائي اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ و مشدّدين مع أقرانهم من الكفّار المشاركين معهم في العقائد و الأعمال، أو مع الشياطين المغوين لهم إلى الضلال، أو مع عقائدهم و أعمالهم المجسّمة المصوّرة بأقبح الصّور المتشكّلة بأسوأ الأشكال فِي اَلْأَصْفادِ و القيود و الأغلال.

وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ اَلنّارُ (50) لِيَجْزِيَ اَللّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (52)و قيل: إنّ المراد من مُقَرَّنِينَ قرنت أيديهم و أرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد (3)و سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ قيل: هو شيء يتحلّب من شجر يسمّى الأبهل (4).

و قيل: يتّخذ من حمل شجر العرعر، فيطبخ و تطلى به الإبل التي فيها الجرب، فيحرق بحدّته و حرارته الجرب، و قد يصل حرّه إلى داخل الجوف و يتسارع فيه اشتغال النّار، و لونه أسود، و ريحه

ص: 529


1- . الكافي 2:102/7، تفسير الصافي 3:97.
2- . تفسير روح البيان 4:436، تفسير الصافي 3:96.
3- . تفسير الرازي 19:148، و فيه: رقابهم بالأغلال.
4- . تفسير الرازي 19:148، و الأبهل: شجر كبير، ورقه كالطّرفاء، و ثمره كالنّبق.

نتنة، فيطلى به جلود أهل النار، فيصير كالسّربال و القميص، ليجتمع عليهم ألوان العذاب: لذع القطران و حرقته، و إسراع النار في جلودهم، و اللون الموحش، و نتن الريح (1)، فتشمئزّ عنهم النفوس، لأنّهم كانوا يستكبرون عن عبادة اللّه، فألبسهم بذلك الخزي و الهوان.

و قيل: إن القطران ما يسيل من أبدان أهل النار (2). و قيل: إنّه نحاس انتهى حرّه (3). و قيل: إنّه الحديد المذاب (4).

عن الباقر: «هو الصّفر الحارّ المذاب» (5).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال جبرئيل: لو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علّق بين السماء و الأرض، لمات أهل الأرض من ريحه و وهجه» (6).

وَ تَغْشى و يغطّي وُجُوهَهُمُ التي هي أعزّ أعضائهم و أشرفها في الظاهر اَلنّارَ التي تمسّ جلودهم المسربلة بالقطران؛ لأنّها ما أقبلت إلى الحقّ.

و قيل: إنّ الوجوه كناية عن الأبدان، و المعنى تشملهم النار لأنّ خطاياهم شملتها (7). و إنّما يفعل ذلك بهم لِيَجْزِيَ اَللّهُ في الآخرة كُلَّ نَفْسٍ مجرمة ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر و المعاصي إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب، فيتمّه في أعجل وقت، و يوفي الجزاء على حسب الاستحقاق.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أدلّة التوحيد و المعاد، و التهديد على إنكارهما، أعلن بإتمام الحجّة علىّ كلّ أحد بقوله. هذَا القرآن، أو السورة، أو التذكير و المواعظ بَلاغٌ و كفاية لِلنّاسِ لينصحوا وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا بالبراهين المذكورة أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ و معبود متفرّد وَ لِيَذَّكَّرَ و يتّعظ و يسترشد أُولُوا اَلْأَلْبابِ و ذوو العقول السليمة و الأذهان المستقيمة.

في (ثواب الأعمال) : من قرأ سورة إبراهيم و الحجر في ركعتين جميعا في كلّ جمعة لم يصبه فقر و لا جنون و لا بلوى (8).

الحمد للّه الذي وفّقني لاتمام تفسير سورة إبراهيم بمنّه و لطفه.

ص: 530


1- . تفسير الرازي 19:148، تفسير البيضاوي 1:523، تفسير روح البيان 4:437.
2- . تفسير روح البيان 4:437.
3- . تفسير أبي السعود 5:61، تفسير روح البيان 4:437.
4- . مجمع البحرين 3:1493، مادة «قطر» .
5- . تفسير القمي 1:372، تفسير الصافي 3:98.
6- . تفسير القمي 2:81، تفسير الصافي 3:98.
7- . تفسير روح البيان 4:437.
8- . تفسير العياشي 2:403/2259، ثواب الأعمال:107، تفسير الصافي 3:99.

في تفسير سورة الحجر

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت سورة إبراهيم التي فيها إثبات النبوة و التوحيد و المعاد، و الإشارة إلى شبهات المشركين في النبوّة و رفعها، و مكرهم في إطفاء نور الحقّ، و حكاية ابتلاء الامم السابقة بالعذاب على معارضة الرسل، و بيان حكمة تأخير العذاب عن هذه الأمّة، و تهديدهم بعذاب الآخرة، و حكاية دعاء إبراهيم عليه السّلام لأولاده، و شكره على نعمة ولادة إسماعيل و إسحاق له، أردفت بسورة الحجر التي فيها إثبات النبوة، و تهديد منكريها بالعذاب الاخروي، و بيان حكمة تأخير العذاب الدنيوي عن الأمم، و ذكر شبهات المشركين في نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و دفعها، و حكاية بشارة إبراهيم عليه السّلام بولادة إسحاق، و تفصيل مكر اللّه في حقّ بعض الامم بتعذيبهم كقوم لوط و أصحاب الأيكة و الحجر إلى غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأ بذكر أسمائه المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعات بقوله: الر و قد مرّ تأويلها و حكمة الافتتاح بها.

ثمّ بيّن عظمة القرآن بقوله: تِلْكَ السورة العظيمة الشأن، أو الآيات المباركات التي نزل بها جبرئيل هي آياتُ اَلْكِتابِ الذي وعدنا محمدا صلّى اللّه عليه و آله بنزوله عليه، أو بشّر الأنبياء السالفة بنزوله في آخر الزمان، أو آيات اللّوح الحفوظ، أو آيات الكتاب الكامل الحقيق باختصاص اسم الكتاب به وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ و موضح لمجملات الكتب السماوية، أو مبين للحقّ و جميع الأحكام، أو مفهم الناس جميع ما يحتاجون إليه و لو بتشريح الراسخين في العلم مبهماته و تبيينهم مجملاته.

ثمّ أنه تعالى بعد تعظيم كتابه و توصيفه بالصفات الجليلة الموجبة لتوجّه القلوب إلى حسن تلقّيه، و كمال التدبّر فيه، و التصديق بنبوة النبي المتحدّي به، و الاعتقاد بصحّة دينه-و هو الإسلام-هدّد

ص: 531

منكريه بقوله: رُبَما و كثيرا ما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دين الاسلام لَوْ كانُوا في الدنيا مُسْلِمِينَ و منقادين للّه و رسوله، و مطيعين لدين الإسلام و أحكامه.

روي أنّه لا يزال الربّ يرحم و يشفع إليه حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فعند ذلك يتمنّون الإسلام (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند اللّه لا يدخل الجنّة إلاّ مسلم، فيومئذ يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» (2).

و عن أبي موسى الأشعري، أنّه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة، و اجتمع أهل النار في النار و معهم من شاء اللّه من أهل القبلة، قال لهم الكفّار: أ لستم مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم و قد صرتم معنا إلى النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيغضب اللّه سبحانه لهم بفضله و رحمته، فيأمر بكلّ من كان من أهل القبلة في النّار فيخرجون منها، فحينئذ يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» (3).

و قيل: إنّ تمنّيهم عند الموت (4).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 3

ثمّ أعلن سبحانه بغضبه عليهم بقوله: ذَرْهُمْ و دعهم الآن يا محمّد يَأْكُلُوا كما تأكل الأنعام وَ يَتَمَتَّعُوا بالمشتهيات الدنيوية، و يستلذوا بلذائذها كما تتمتّع البهائم وَ يُلْهِهِمُ و يشغلهم عن ذكر اللّه و الدار الآخرة اَلْأَمَلُ الطويل في الدنيا، و توقّع بقائهم فيها، و توغّلهم في تعميرها و تحصيل مشتهياتها من الجاه و الأموال، و ما يوجب استقامة الأحوال فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعنا بهم، و وخامة عاقبتهم، و ضرر غفلتهم عن الاستعداد للآخرة، إذا خرجوا من الدنيا، و عاينوا ما أعدّ لهم في دار الجزاء من العذاب و النّكال.

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ بيّن سبحانه علّة تأخير عذاب الكفّار مع شدّة استحقاقهم له، و حكم إمهالهم و التخلية بينهم

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (5)

ص: 532


1- . تفسير روح البيان 4:440.
2- . تفسير القمي 1:372، تفسير الصافي 3:100.
3- . تفسير أبي السعود 5:64، تفسير روح البيان 4:440 مرسلا.
4- . تفسير الرازي 19:154.

و بين تمتّعاتهم بقوله: وَ ما أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال مِنْ قَرْيَةٍ من القرى و بلدة من البلدان إِلاّ وَ لَها في الهلاك بالعذاب كِتابٌ مَعْلُومٌ و حكمة و أجل معيّن مثبوت في اللوح المحفوظ- من حكمة بالغة-لا يصحّ تغييره، و لا ينسى و لا يغفل عنه حتّى يتصوّر التخلّف و التقدّم و التأخّر فيه، و لذا ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من الامم المهلكة أَجَلَها و غاية المدّة المضروبة لهلاكها أو موتها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ عن ذلك الأجل و تلك الغاية بأن تموت أو تهلك بعد مدّة من انقضائها.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عظمة القرآن الدالّة على صحّة نبوة نبيه صلّى اللّه عليه و آله، حكى سوء أدب المشركين و استهزائهم بالنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ قالُوا عنادا و تجرّيا على اللّه و رسوله و استهزاء به: يا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ من ربّه اَلذِّكْرُ و القرآن، و تدّعى هذا الأمر الخارق للعادة إِنَّكَ و اللات و العزّى لَمَجْنُونٌ مختلّ العقل، حيث إنّ مقالتك لا تشبه مقالات العقلاء، لأنّ النبي لا بدّ أن يكون ملكا و أنت بشر مثلنا، و على فرض أنّ اللّه جعلك نبيا لَوْ ما تَأْتِينا و هلاّ تجيئنا بِالْمَلائِكَةِ حتى يشهدوا بصدقك في دعوى الرسالة، أو يعاونوك في الانذار و التبليغ، أو يعاقبونا على تكذيبك إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعواك، فانّ اللّه قادر على إنزالهم و تأييدك بهم، و أنت في نهاية الاحتياج إليهم في تمشية أمرك.

وَ قالُوا يا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (7)

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: ما نُنَزِّلُ اَلْمَلائِكَةَ بسبب من الأسباب إِلاّ بِالْحَقِّ و حكمة مقتضية لانزالهم، و هو استئصالهم بالعذاب وَ ما كانُوا إِذاً و عند ذلك مُنْظَرِينَ و ممهلين طرفة عين، كما لم نمهل سائر الامم المكذّبة للرسل المستهزئة بهم بعد نزول الملائكة لتعذيبهم، و إنما أخرّنا تعذيب هؤلاء مع غاية استحقاقهم له لما جرى قلم القضاء بإمهالهم، لازياد خبثهم، و اشتداد استحقاقهم، و خروج ما في أصلابهم من ذراري المؤمنين.

ما نُنَزِّلُ اَلْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)القمي: لو أنزلنا الملائكة لم ينظروا و هلكوا (1).

ص: 533


1- . تفسير القمي 1:373، تفسير الصافي 3:102.

ثمّ أنّه تعالى بعد ردّ اقتراحهم و إبطال شبهتهم في نبوة نبيه صلّى اللّه عليه و آله، أجاب عن مقالتهم الباطلة و استهزائهم بالقرآن بقوله: إِنّا نَحْنُ مع عظم شأننا، و كمال شرفنا، و علوّ جنابنا نَزَّلْنَا هذا اَلذِّكْرَ الذي أنكروه و القرآن الذي جحدوا نزوله عليك، و نسبوك بسبب تلك الدعوى إلى الجنون، ليكون لك معجزة باقية وَ إِنّا لَهُ و اللّه لَحافِظُونَ من التغيير و الطعن و التحريف إلى الأبد دون سائر الكتب السماويّة، و لذا (1)تطّرق إليها الخلل.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 10 الی 13

ثمّ أنّه تعالى بعد الجواب عن اقتراح المشركين و شبهاتهم و استهزائهم بالنبي صلّى اللّه عليه و آله، أخذ في تسليته بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا كثيرة مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ و الفرق السابقين، و كان من دأب تلك الفرق أنّه ما يبعث فيهم وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ خاصّ بهم أو عام إِلاّ أنّهم كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و يسخرون كَذلِكَ الاستهزاء الذي سلكناه و أدخلناه في قلوب الامم السابقة لرسلهم، ندخل الاستهزاء و نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ من قومك، فيستهزئون بك ليظهر غاية خبث ذواتهم و رذالة أخلاقهم.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ (10) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ (13)و قيل: إنّ المراد كذلك الوحي المنزل على الأنبياء مقرونا بالاستهزاء (2). أو مثل المسلك الذي سلكناه في قلوب الامم المستهزئين برسلهم، نسلك الذكر في قلوب المجرمين من أهل مكّة أو عموم المجرمين (3)، و هم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ و لا يصدّقون بأنّه كلام اللّه المنزل.

قيل: كانوا يسمعون القرآن بقراءة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيدخل في قلوبهم و مع ذلك لا يؤمنون به (2)، لعدم استعدادهم لقبول الحقّ، و كونهم من أهل الخذلان (3).

ثمّ هدّد سبحانه المجرمين بقوله: وَ قَدْ خَلَتْ و مضت سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ و طريقتهم التي سلكوا فيها حتّى أهلكوا بالعذاب، أو مضت سنّة اللّه و طريقة معاملته معهم حيث خذلهم و سلك الكفر في قلوبهم، ثمّ أهلكهم بعذاب الاستئصال، أو أهلكهم حين فعلوا ما فعلوا من تكذيب الرسل و الاستهزاء بهم.

ص: 534


1- . زاد في النسخة: لا. (2 و 3) . تفسير روح البيان 4:445.
2- . (به) ليس في تفسير روح البيان.
3- . تفسير روح البيان 4:446.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان استهزائهم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نسبته إلى ما لا يليق بة، و اقتراحهم عليه، و تهديدهم على الاصرار على الكفر، بيّن غاية عنادهم و لجاجهم بقوله: وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ اَلسَّماءِ و يسّرنا لهم الصعود إليها فَظَلُّوا و صاروا فِيهِ يَعْرُجُونَ و إليه يصعدون بآلة أو بغيرها، و يرون ما فيها من العجائب بأعينهم.

وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ اَلسَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)و قيل: يعني فظلّ الملائكة يصعدون في ذلك الباب، و هم يشاهدونهم طول نهارهم (1)، و اللّه لَقالُوا عنادا و لجاجا و تشكيكا في الحقّ: ليس الأمر في الواقع ما نرى بأعيننا، بل إِنَّما سُكِّرَتْ و سدّت عن النظر، أو حيّرت، أو غطّيت أَبْصارُنا بالشعبذة، و خيّل إلينا ما لا حقيقة له بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا محمد، كما قالوه عند ظهور سائر المعجزات الباهرة، فلا فائدة في إجابة مسؤولهم فيما اقترحوه عليك.

قيل: إنّ في كلمة الحصر و إسناد الاسكار إلى الأبصار دلالة على أنّ المقصود عدم سراية الاسكار إلى عقولهم، كأنهم قالوا: نحن نتحايل هذه الأشياء بأبصارنا، و لكن نعلم بعقولنا أنّ الواقع بخلافه، ثمّ أضربوا عن الحصر في الأبصار، و قالوا: بل جاوز ذلك إلى عقولنا بسحر سحره لنا (2).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 16 الی 18

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته لئلا يتوهّم فيه العجز عن إتيان ما أقترحوه بقوله: وَ لَقَدْ جَعَلْنا و خلقنا فِي اَلسَّماءِ بُرُوجاً و قصورا تنزلها السيارات السبع، و رتّبنا تلك البروج و الكواكب وَ زَيَّنّاها بتلك البروج و الكواكب المختلفة الأشكال و الكواكب المنيرة لِلنّاظِرِينَ إليها، أو للمتفكّرين في بديع صنيعها، المستدلّين بما فيها و في كواكبها من حسن التدبير و كمال النظام المستتبع للآثار العجيبة على قدرة صانعها و حكمة مبدعها و مدبّرها وَ حَفِظْناها مِنْ اقتراب كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ و جنّ عاص مطرود من الرحمة، أو من القرب من السماء، برميه بالنجوم، كما يحفظ المنازل عن دخول من يخشى منه الفساد.

وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي اَلسَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ (16) وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18)عن ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات، فكانوا يدخلونها و يسمعون أخبار

ص: 535


1- . تفسير روح البيان 4:446.
2- . تفسير روح البيان 4:446.

الغيوب من الملائكة، فيلقونها إلى الكهنة، فلمّا ولد عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث سماوات، فلمّا ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منعوا من السماوات كلّها (1).

و عن الصادق عليه السّلام ما يقرّب منه إلى أن قال: «و رميت الشياطين بالنجوم، و قالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتاب يذكرونه، و قال عمرو ابن امية و كان أزجر (2)أهل الجاهلية: انظروا إلى هذه النجوم التي يهتدى بها و تعرف بها أزمان الشتاء و الصيف، فان كان رمى بها فهو هلاك كلّ شيء، و إن كانت ثبتت و رمى بغيرها فهو أمر حدث» (3).

و عن القمي ما يقرب منه، ثمّ قال: و كان بمكة يهودي يقال له يوسف، فلمّا رأى النجوم تتحرّك و تسير في السماء خرج و نادى (4)قريش فقال: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقالوا: لا. فقال: أخطأتم و التوراة، قد ولد في هذه الليلة آخر الأنبياء و أفضلهم، و هو الذي نجده في كتبنا أنّه إذا ولد ذلك النبيّ رجمت الشياطين، و حجبوا من السماء. فرجع كلّ أحد إلى منزله فسأل أهله، فقالوا: قد ولد لعبد اللّه بن عبد المطلب، الخبر (5).

فتحصّل أنّ أحدا من الشياطين لا يقدر أن يصعد إلى السماء و يطّلع على أحوالها إِلاّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ و اختلسه سرّا.

عن ابن عبّاس، قال: يريد الخطفة اليسيرة (6).

و قيل: إنّ المعنى و لكن من استرق السمع من مردة الشياطين (7)فَأَتْبَعَهُ و لحقه شِهابٌ مُبِينٌ و نجم كشعلة نار ساطع.

عن ابن عبّاس: أنّ المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيقتله (8).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 19 الی 22

ص: 536


1- . تفسير الرازي 19:169.
2- . الزجر: إثارة الطير للتيمّن بسنوحها أو التشاؤم ببروحها.
3- . أمالي الصدوق:360/444، تفسير الصافي 3:103.
4- . في المصد: خرج إلى نادي.
5- . تفسير القمي 1:373، تفسير الصافي 3:104.
6- . تفسير الرازي 19:169.
7- . تفسير الرازي 19:169.
8- . تفسير الرازي 19:169، و فيه: بالشهاب فيحرقه و لا يقتله.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان بدائع صنعه في السماوات، بيّن سعة قدرته في الأرض بقوله: وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْناها و بسطناها على وجه الماء، كما عن ابن عبّاس (1)وَ أَلْقَيْنا و أوجدنا فِيها جبالا رَواسِيَ و ثوابت وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من نبات و ثمار مَوْزُونٍ و متقدّر بقدر خاصّ.

و قيل: يعني موزون بميزان الحكمة و العقل، و متناسب بحكم العقل السليم بحسنه و مطابقته للمصلحة (2).

و قيل: يعني المقدّر بالميزان، فإنّ المعادن و النباتات كلّها كذلك (3).

و عن القمي: لكلّ ضرب من الحيوان قدّرنا شيئا موزونا (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «أن اللّه تعالى أنبت (5)في الجبال الذّهب و الفضة و الجوهر و الصّفر و النّحاس و الحديد و الرّصاص و الكحل و الزرنيخ، و أشباه ذلك لاتباع إلاّ وزنا» (6).

أقول: على هذا التفسير يكون الإنبات بمعنى الإيجاد، و مرجع ضمير فِيها [إلى]الرواسي، كما عليه بعض مفسري العامة (7).

ثمّ إنه تعالى بعد ذكر بسط الأرض، و إلقاء الجبال فيها، و إنبات الثّمار فيها، ذكر خلق ما يعيش به الخلق في الأرض دليلا على قدرته بقوله: وَ جَعَلْنا و خلقنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ و ما به قوام الحياة من الأطعمة و الأشربة و الألبسة وَ جعلنا لكم مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ من العيال و العبيد و الخدم و الدوابّ، فانّ نفعهم لكم و رزقهم علينا.

و قيل: إنّ المعنى و جعلنا لكم و لمن لستم برازقيه من المذكورين معايش (8).

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح سعة قدرته بقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ و ما من موجود إِلاّ عِنْدَنا و تحت قدرتنا خَزائِنُهُ شبّه سبحانه مقدوراته و ما يكون وجوده بإفاضة في الكثرة، و الستر عن الخلق، و الصّون من وصول الأيدي إليه مع شدّة الحاجة إليه و كمال الرغبة فيه بنفائس الأموال التي يجعلها السلطان في خزائنه.

قيل: إنّ الخزائن كناية عن الأعيان الثابتة (9)، و الماهيات المتقرّرة.

عن السجاد عليه السّلام: «أنّ في العرش تمثال جميع ما خلق اللّه من البّر و البحر» قال: «و هذا تأويل قوله:

ص: 537


1- . تفسير الرازي 19:170.
2- . تفسير الرازي 19:172.
3- . تفسير الرازي 19:172.
4- . تفسير القمي 1:374، تفسير الصافي 3:104.
5- . في النسخة: أثبت.
6- . تفسير القمي 1:374، تفسير الصافي 3:104.
7- . تفسير الرازي 19:171.
8- . تفسير روح البيان 4:452.
9- . تفسير روح البيان 4:452.

وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ» (1) .

وَ ما نُنَزِّلُهُ و لا نوجده إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ و حدّ معين تقتضيه الحكمة. و قيل: إنّ المراد بالخزائن المطر (2)، حيث إنّه تعالى بعد بيان إعطائه المعاش ذكر المطر الذي هو سببه و أنّه عنده، أي بأمره و تدبيره و حكمته، و ما ينزّله إلاّ بحدّ معين.

القمي: الخزائن الماء الذي ينزل من السماء، فينبت لكلّ ضرب من الحيوان ما قدّر اللّه له من الغذاء (3).

عن ابن عباس: يريد قدر الكفاية (4).

قيل: إنّ اللّه ينزل المطر كلّ عام بقدر معلوم غير أنّه يصرفه إلى من شاء كما شاء حيث شاء (5).

أقول: يبعد كون المراد لذكره تعالى الرياح و المطر بقوله: وَ أَرْسَلْنَا إليكم اَلرِّياحَ التي تكون لَواقِحَ و محبلات للشجر و للسحاب (4)، كما عن ابن عبّاس (5).

و عن ابن مسعود-في تفسير الآية-: يبعث اللّه الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء، و تمجّه في السّحاب، ثمّ أنّه يعصر السّحاب و يدرّه كما تدرّ اللّقحة (6).

القمي: تلقح الأشجار (7).

و قيل: إنّ اللواقح بمعنى الحاملات، فانّ الريح تحمل السّحاب و الماء (10).

و قيل: إنّه بمعنى آتيان بالخير، كما يقال لما لا خير له عقيم (11).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تسبّوا الرياح فإنّها بشر، و إنّها نذر، و إنها لواقح، فاسألوا اللّه من خيرها، و تعوّذوا به من شرها» (8).

فَأَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ بعد إنشاء السّحاب الماطر بالرياح ماءً مباركا نافعا فَأَسْقَيْناكُمُوهُ و أشربناكموه، و أشربناه مواشيكم و ضياعكم. قيل: هو أفصح (9)من «سقيناكموه» لدلالته على جعل الماء [معدّا]لهم ينتفعون (10)به متى شاءوا (11).

ص: 538


1- . روضة الواعظين:47، تفسير الصافي 3:105.
2- . تفسير الرازي 19:174، تفسير الصافي 4:453.
3- . تفسير القمي 1:375، تفسير الصافي 3:105. (4 و 5) . تفسير الرازي 19:174.
4- . في تفسير الرازي: عن ابن عباس: الرياح لواقح للشجر و للسحاب.
5- . تفسير الرازي 19:175.
6- . تفسير الرازي 19:175، و اللّقحة: الناقة الحلوب الغزيرة اللبن، و اللّقحة: المرأة المرضعة.
7- . تفسير القمي 1:375، تفسير الصافي 3:105. (10 و 11) . تفسير الرازي 19:176.
8- . تفسير العياشي 2:426/2317، تفسير الصافي 3:105.
9- . في تفسير روح البيان: أبلغ.
10- . في تفسير روح البيان: يرتفقون.
11- . تفسير روح البيان 4:454.

وَ ما تقدرون أَنْتُمْ على أن تكونوا لَهُ بِخازِنِينَ في السّحاب أو الغدران و الآبار و العيون، بل نحن نخزنه فيها ليكون سقيا لكم، مع أنّ الماء غائر بالطبيعة، فنفى عن الناس ما أثبته لجنابه.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ استدلّ على قدرته بظهورها في أنفسهم بقوله: وَ إِنّا و اللّه لَنَحْنُ نُحْيِي بالإحياء له وَ نُمِيتُ ماله الحياة من الحيوان و النبات وَ نَحْنُ الباقون بعد فناء الخلق اَلْوارِثُونَ للدنيا و ما فيها.

وَ إِنّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ اَلْوارِثُونَ (23) وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ (24)ثمّ بيّن سعة علمه بقوله: وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ و المتقدّمين مِنْكُمْ خروجا من الأصلاب و ولادة و موتا، أو دخولا في الاسلام، أو في صفّ الجهاد، أو في الطاعة كما عن ابن عباس (1)وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ في ذلك.

عن الباقر عليه السّلام: «هم المؤمنون من هذه الامّة» (2).

و في تكرير قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْنَا تأكيد بليغ.

عن ابن عبّاس-في رواية-قال: كانت تصلّي خلف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله امرأة حسناء في آخر النساء، فكان بعضهم يتقدّم في الصفّ الأول لئلا يراها و تأخّر آخرون ليروها، فاذا ركع نظر من تحت إبطيه إليها فنزلت (3).

و قيل: كانت النساء يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال، فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة يتأخّر إلى آخر صف الرجال، و من النساء من في قلبها ريبة تتقدّم إلى أول صفّ النساء لتقرب من الرجال، فنزلت (4).

و قيل: رغب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الصّف الأول، فازدحموا عليه فنزلت (5).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 25

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه مبدأ الخلق و مماتهم، و أعلن بقدرته عليهما، بيّن قدرته على حشرهم من القبور للحساب و الجزاء بقوله: وَ إِنَّ رَبَّكَ القادر على الإحياء و الاماتة هُوَ يَحْشُرُهُمْ من القبور

وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

ص: 539


1- . تفسير الرازي 19:177.
2- . تفسير العياشي 2:426/2319، تفسير الصافي 3:106.
3- . تفسير الرازي 19:178، تفسير أبي السعود 5:73، تفسير روح البيان 4:455.
4- . تفسير روح البيان 4:455.
5- . تفسير روح البيان 4:456.

جميعا إلى المحشر دفعة واحدة لجزاء الأعمال بلا تقدّم و تأخّر إِنَّهُ تعالى حَكِيمٌ و محيط بحقائق الأشياء و مصالحها و مفاسدها، متقن في فعاله، فلا يخلق الخلق لعبا و عبثا عَلِيمٌ بخفيّات السماوات و الأرض، لا يعزب عن علمه شيء، فيعلم ذرات تراب كلّ جسد فيجمعه و يخلقه ثانيا بصورته الأولى، و في تقدّم صفة الحكمة دلالة على اقتضائها الحشر للجزاء، و في الآية ردّ على منكريه.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 26 الی 27

ثمّ استدلّ على الحشر ببدو خلق الانسان بغير مثال سابق من تراب بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ الأول و هو آدم مِنْ صَلْصالٍ و طين يابس غير مطبوخ، إذا نقر كان له صوت مع الترجيع كما قيل (1)، و كان ذلك الصلصال مِنْ حَمَإٍ و طين أسود متغير بطول مجاورة الماء مَسْنُونٍ و منتن على قول (2)، أو مصوّر على قول (3)، أو مصبوب و مفرغ على هيئة الانسان، كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب (4)و لعله المراد من قول ابن عباس المسنون: الطين الرطب (5)، فكأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصوّر تمثال الانسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوّت.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَ اَلْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ اَلسَّمُومِ (27)قيل: لمّا صوّره اللّه تركه في الشمس أربعين سنة، فصار صلصالا كالخزف، و لا يدري أحد ما يراد به، و لم ير شيئا يشبهه، فكانت الريح إذا مرّت به سمع له صلصلة، فلذلك سمّاه اللّه صلصالا (6).

وَ اَلْجَانَّ الأول، و هو إبليس على قول (7)، أو غيره خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ عن ابن عبّاس: من قبل خلق آدم (8)مِنْ نارِ اَلسَّمُومِ و الشديدة الحرّ، أو لا دخان له، أو نافذة بلطافتها في مسامّ البدن.

عن ابن مسعود: هذه السّموم جزء من سبعين جزءا من السّموم التي خلق اللّه منها الجنّ (9).

و قيل: لم تكن قبل آدم خلق من تراب، و إنّما خلقه اللّه منه ليكون عبدا خضوعا وضوعا ذلولا مائلا إلى السجود لأنّه إظهار كمال العبودية، و لمّا كان كلّ جنس مائلا إلى جنسه و ظاهرا فيه آثار مبدئه، تواضع آدم للّه، و استكبر إبليس من التواضع (8).

ص: 540


1- . تفسير الرازي 19:179، تفسير روح البيان 4:457.
2- . تفسير روح البيان 4:457.
3- . مجمع البيان 6:516، تفسير الصافي 4:457.
4- . تفسير روح البيان 4:457.
5- . مجمع البيان 6:516، تفسير الرازي 19:180.
6- . تفسير الرازي 19:179.
7- . تفسير الرازي 19:180، تفسير روح البيان 4:458. (8 و 9) . تفسير الرازي 19:180.
8- . تفسير روح البيان 4:458.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه خساسة مبدأ خلق الانسان، بيّن غاية شرفه الدالة على كمال قدرة اللّه و حكمته بقوله: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ من بعد بَشَراً و إنسانا أو خلقا مجسّما يلاقي و يباشر، أو بادي البشرة؛ لأنّه لا صوف له و لا شعر، يكون خلقه مِنْ صَلْصالٍ كائن مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ و أكملت خلقة جسده بأن خلقت أجزاء بدنه و صورته بصورة إنسانية و عدّلت طبائعه وَ نَفَخْتُ فِيهِ و أفضت عليه مِنْ رُوحِي الجوهرة التي هي من أمري فَقَعُوا و اسقطوا لَهُ حال كونكم ساجِدِينَ.

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29)قيل: يعني اسجدوا تعظيما و خضوعا للّه، و جعلوا آدم بمنزلة القبلة لظهور تعاجيب آثار قدرته تعالى و حكمته فيه (1).

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن قوله تعالى: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فقال: «روح اختاره اللّه و اصطفاه و خلقه و أضافه إلى نفسه، و فضّله على جميع الأرواح، [فأمر]فنفخ منه في آدم» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عنه، فقال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق خلقا، و خلق روحا، ثمّ أمر ملكا فنفخ فيه، فليست بالتي نقصت من (3)اللّه شيئا، هي من قدرته» (4).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل: كيف هذا النفخ؟ فقال: «إنّ الروح متحرّك كالريح، و إنّما سمّي روحا لأنّه اشتق اسمه من الريح، و إنّما اخرجت (5)على لفظة الروح، لأنّ الروح مجانس للريح، و إنما أضافه إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر الأرواح، كما اصطفى بيتا من البيوت. فقال: بيتي، و قال لرسول من الرسل: خليلي و أشباه ذلك، فهو مخلوق (6)مصنوع محدّث مربوب مدبّر» (7).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 30 الی 38

ص: 541


1- . تفسير روح البيان 4:461.
2- . التوحيد:170/1، تفسير الصافي 3:108.
3- . زاد في التوحيد: قدرة.
4- . تفسير العياشي 2:427/2323، التوحيد:172/6، تفسير الصافي 3:108.
5- . في التوحيد: أخرجه.
6- . في التوحيد: ذلك، و كل ذلك مخلوق.
7- . التوحيد:171/3، تفسير الصافي 3:108.

ثمّ خلقه اللّه و سوّاه، و نفخ فيه الروح فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ بحيث لم يشذّ منهم أحد و أَجْمَعُونَ بحيث لم يتأخّر أحد في امتثال الأمر من أحد، أو المراد المبالغة في التأكيد و التعميم إِلاّ إِبْلِيسَ و إنّما الاستثناء مع كونه من الجنّ لكونه مغمورا بالوف من الملائكة.

و قيل: لأنّه كان من جنس الملائكة الذين يتوالدون (1)، و الحقّ هو الأول، و على أي تقدير لا شبهة أنّه كان مأمورا بالسجود، و مع ذلك أَبى و أمتنع من أَنْ يَكُونَ مَعَ اَلسّاجِدِينَ و موافقا لهم في الطاعة، فعاتبه اللّه عند ذلك و قالَ عتابا و توبيخا له: يا إِبْلِيسُ ما كان لَكَ من العذر في أَلاّ تَكُونَ موافقا مَعَ الملائكة اَلسّاجِدِينَ لآدم من عرفانك بشرفهم و منزلتهم لدي؟

قالَ إبليس: عذري في الامتناع من السجود له، أنّي علمت أنّك خلقتني من النار التي هي أشرف العناصر و أعلاها و لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ و مخلوق كثيف خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ كائن من حَمَإٍ مَسْنُونٍ مع شرفي و فضيلتي عليه، فانّه لا يصحّ تواضع الأشرف و الأفضل للأدنى و المفضول.

قالَ اللّه: إذن لا يجوز إقامتك في الجنّة، أو في السماوات، أو في المنزلة [التي]كانت لك، أو في زمرة الملائكة فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ قايست و عصيت، و كلّ من قاس و عصى فهو رَجِيمٌ و مطرود من دار كرامتي و من كلّ خير وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ و الدعاء بالشرّ من الملائكة و النّاس، أو الابعاد من الرحمة من الآن إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ و وقت جزاء الأعمال، و أمّا بعد ذلك فعليك العذاب الذي لا يقادر قدره.

قيل: إنّ التوقيت بيوم الدين كناية عن الدوام (2).

ثمّ قالَ إبليس: رَبِّ إذ جعلتني رجيما و ملعونا فَأَنْظِرْنِي و أمهلني في الدنيا، و لا تمتني إِلى يَوْمِ القيامة الذي فيه يحشر (3)الناس و يُبْعَثُونَ يوم البعث من القبور للحساب، و إنّما سأل ذلك ليكون له فسحة في إغواء بني آدم و أخذه الثأر، لا للنجاة من الموت لاستحالتها قالَ سبحانه: فَإِنَّكَ مِنَ جملة اَلْمُنْظَرِينَ و الممهلين، و لكن لا إلى يوم البعث، بل إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ و هو النفخة الاولى التي يصعق فيها من في السماوات و الأرض.

روي أنّ بين موته و بعثة أربعين سنة من سنيّ الدنيا، و هو ما بين النفختين (4).

ص: 542


1- . تفسير أبي السعود 5:75.
2- . تفسير روح البيان 4:465.
3- . في النسخة: يحشرون.
4- . تفسير أبي السعود 5:77.

عن كعب: لمّا حضر آدم الوفاة قال: يا ربّ سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا و هو منظر إلى يوم القيامة. فاجيب: أن يا آدم إنّك سترد الجنة و يؤخّر اللعين إلى النّظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين و الآخرين.

ثمّ قال آدم لملك الموت: صف لي كيف تذيقه الموت؟ فلمّا وصفه قال: حسبي. فقال الناس: يا أبا إسحاق، كيف ذلك؟ فأبى الجواب فألحّوا فقال: يقول اللّه لملك الموت بعد النفخة الاولى: قد جعلت لك قوة أهل السماوات و الأرضين، و ألبستك اليوم أثواب الغضب كلّها، فانزل بغضبي على إبليس و أذقه الموت، و احمل عليه أضعاف مرارة الأولين و الآخرين، و ليكن معك من الزّبانية سبعون ألفا قد امتلأوا غيظا، مع كلّ منهم سلسلة من سلاسل جهنم، و غلّ من أغلالها، و انزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاّب من كلاليبها، و ناد مالكا ليفتح أبواب النيران، فينزل ملك الموت بصورة لو نظر إليها أهل السماوات و الأرضين لماتوا من هولها.

فينتهي إلى إبليس فيقول: قف يا خبيث لأذيقنّك الموت، كم من عمر أدركت و قرون أضللت، و هذا هو الوقت المعلوم. فيهرب اللعين إلى المشرق، فاذا هو بملك الموت بين عينيه، فيهرب إلى المغرب، فاذا هو به بين عينيه، فيغوص البحار، فترميه البحار و لا تقبله، فلا يزال يهرب في الأرض و لا محيص له و لا ملاذ، ثمّ يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم، و يتمرّغ في التراب من المشرق إلى المغرب، و من المغرب إلى المشرق، حتى إذا كان في الموضع الذي اهبط آدم فيه و قد نصبت له الزبانية الكلاليب، و صارت الأرض كالجمرة، أحتوشته الزبانية، و طعنوه بالكلاليب، و يبقى في النّزع و العذاب إلى حيث يشاء اللّه (1).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن الوقت المعلوم، فقال: «يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصّور نفخة واحدة، فيموت إبليس ما بين النفخة الاولى و الثانية» (2).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عنه فقال: «أتحسب أنّه يوم يبعث فيه الناس؟ إن اللّه أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا، فاذا بعث اللّه قائمنا كان في مسجد الكوفة، و جاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول: يا ويله من هذا اليوم، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه، فذلك يوم الوقت المعلوم» (3).

و القمي: عنه عليه السّلام، قال: «يوم الوقت [المعلوم]يوم يذبحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الصخرة التي في

ص: 543


1- . تفسير أبي السعود 5:77، تفسير روح البيان 4:466.
2- . علل الشرائع:402/2، تفسير الصافي 3:112.
3- . تفسير العياشي 2:428/2327، تفسير الصافي 3:112.

بيت المقدس» (1). قال الفيض رحمه اللّه: أقول: يعني عند الرجعة (2).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 39 الی 41

ثمّ لمّا أمهل اللّه اللعين للحكم البالغة التي منها امتحان بني آدم قالَ إبليس: رَبِّ اقسم بِما أَغْوَيْتَنِي من التكليف بالسجود لآدم، و قد كنت تعلم أنّي أعصيك فيه، أو قال: ربّ بسبب إغوائك إياي و التكليف الذي صار سببا لعصياني، اقسم بعزّتك لاعادي بني آدم و لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ عصيانك فِي اَلْأَرْضِ و دار الغرور، و ارغّبنهم في مخالفتك، أو لأزينّن لهم المقام في الأرض كي يطمئنوا بها وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ و أبعثهم أَجْمَعِينَ إلى الضلالة بوسوستي و تسويلي و بما هيّأت من سبب عصيانهم بحيث لا ينجو أحد منهم من كيدي و إغوائي إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ و لكن لا عمومهم، بل أعني اَلْمُخْلَصِينَ الذين خصصتهم بعبوديتك و طاعتك، و طهّرتهم من الرذائل و الشهوات، فانّهم لا يؤثّر فيهم كيدي، و لا يتّبعون و ساوسي (3)قالَ سبحانه: هذا التخلّص من كيدك المخصوص بالمخلصين صِراطٌ و طريق حقيقي عَلَيَّ رعايته و تقريره، و هو مُسْتَقِيمٌ لا عوج فيه.

قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)و قيل: إنّ المراد أنّ هذا الإخلاص طريق من مرّ عليه فكأنّما مرّ عليّ و على رضواني و كرامتي.

و قيل: كلمة (عليّ) بمعنى إليّ، و المراد هذا الاخلاص طريق إليّ و هو مستقيم يؤدّيه إلى كرامتي و قربي. و قيل: إنّ المشار إليه بكلمة (هذا) هو الصراط، و المعنى هذا الطريق في العبودية طريق عليّ مستقيم (4).

و قيل: إنّ المشار إليه التفويض إلى مشيئة اللّه المستفاد من قول إبليس: إلاّ عبادك منهم المخلصين، و حاصله أنّي أغوي بني آدم إلاّ من عصمه اللّه بتوفيقه، يدلّ ذلك على أنّ المخلصين يفوّضون امورهم إلى اللّه، فقال اللّه: هذا التفويض إليّ و إلى مشيئتي طريق عليّ مستقيم (5).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 42

ثمّ لمّا كان في كلام إبليس إيهام سلطنته على غير المخلصين، نفى سبحانه سلطنته على العباد عموما بقوله: إِنَّ عِبادِي [سواءأ]كانوا مخلصين، أو غير مخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ بوجه من

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغاوِينَ (42)

ص: 544


1- . تفسير القمي 2:245، تفسير الصافي 3:113.
2- . تفسير الصافي 3:113.
3- . في النسخة: بوساوسي
4- . تفسير الرازي 19:189.
5- . تفسير الرازي 19:189.

الوجوه سُلْطانٌ و استيلاء و قهر إِلاّ مَنِ اِتَّبَعَكَ و أطاعك باختياره مِنَ اَلْغاوِينَ و الضالّين بسبب خبث ذاتهم من غير قهر منك.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن تفسيره فقال: «قال اللّه: إنك لا تملك أن تدخلهم جنة و لا نارا» (1).

و قيل: إنّ المراد بالعباد في الآية خصوص المخلصين، و المقصود تحقيق ما قاله اللعين، و تفخيم شأن المخلصين، و تأكيد لانقطاع مخالبه عنهم، و أن إغواءه الغاوين ليس بطريق القهر و السلطان، بل بطريق الاتباع بسوء الاختيار (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «و اللّه ما أراد بهذا إلاّ الأئمة و شيعتهم» (3).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ هدّد سبحانه الغاوين ببيان نتيجة اتّباع الشيطان بقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ و اللّه لَمَوْعِدُهُمْ و موقفهم أَجْمَعِينَ في القيامة لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ بعدد أقسام الغاوين لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ و قسمة معينة و فرقة خاصة.

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)قيل: إنّ قرار جهنم مقسوم سبعة أقسام، و لكلّ قسم باب معين: القسم الأول جهنم، و الثاني لظى، و الثالث الحطمة، و الرابع سعير، و الخامس سقر، و السادس الجحيم، و السابع الهاوية (4).

و قيل: إنّ المراد بسبعة أبواب سبع طبقات بعضها فوق بعض، و تسمّى تلك الطبقات بالدّركات، الطبقة الاولى لأهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم ثمّ يخرجون، و الثانية لليهود، و الثالثة للنصارى، و الرابعة للصابئين، و الخامسة للمجوس، و السادسة للمشركين، و السابعة للمنافقين (5).

و هذا الاختلاف في الدّركات و العذاب لاختلاف مراتب الكفر بالغلظة و الخفّة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سبعة أبواب النار متطابقات» (6).

و عنه عليه السّلام: «أنّ جهنم لها سبعة أبواب، أطباقها بعضها فوق بعض-و وضع إحدى يديه على الاخرى، فقال: هكذا-و إنّ اللّه وضع الجنان على العرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحيم، و فوقها السعير، و فوقها الهاوية» (7)

ص: 545


1- . تفسير العياشي 2:429/2329، تفسير الصافي 3:113.
2- . تفسير أبي السعود 5:79.
3- . الكافي 8:35/6، تفسير الصافي 3:113.
4- . تفسير الرازي 19:190.
5- . تفسير الرازي 19:190.
6- . الخصال:597/1، تفسير الصافي 3:114.
7- . مجمع البيان 6:519، تفسير الصافي 3:114.

و في رواية: «أسفلها الهاوية» (1).

و عن الصادق، عن أبيه، عن جده عليهم السّلام: «أنّ للنار سبعة أبواب، باب يدخل منه فرعون و هامان و قارون، و باب يدخل منه المشركون و الكفّار و من (2)لم يؤمن باللّه طرفه عين، و باب يدخل منه بنو امية هو لهم خاصّة لا يزاحمهم فيه أحد، و هو باب لظى، و هو باب سعير (3)و هو باب الهاوية، تهوى بهم سبعين خريفا، فكلما هوى بهم سبعين خريفا فار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفا، ثمّ تهوي بهم [كذلك سبعين خريفا، فلا يزالون]هكذا أبدا خالدين مخلّدين، و باب يدخل منه مبغضونا و محاربونا و خاذلونا، و إنّه لأعظم الأبواب و أشدّها حرّا» .

ثمّ قال: «و الباب الذي يدخل منه بنو امية هو لأبي سفيان و معاوية و آل مراوان خاصة، يدخلون من ذلك الباب فتحطمهم النار فيه حطما، لا تسمع لهم واعية و لا يحيون فيها و لا يموتون» (4).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 45 الی 48

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نتيجة إغواء الشيطان، بيّن نتيجة أحكام عبادته بقوله: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ و العباد المخلصين مستقرّون فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ لكلّ منهم بساتين متعدّدة و عيون متعدّدة، و واحد منهما يقول-اللّه أو الملائكة-لهم عند دخولها، أو حين الانتقال من جنّة إلى جنّة: اُدْخُلُوها متلبّسين (5)بِسَلامٍ من جميع الآفات و المكاره و المخوفات، أو بتحية من اللّه و الملائكة حال كونكم آمِنِينَ غير خائفين من زوال النعم و انقطاع الفيوضات، أو من موانع الدخول، أو من الآفات و الأسقام، فيكون تأكيدا لقوله: بِسَلامٍ على التفسير الأوّل.

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)وَ نَزَعْنا و أخرجنا ما فِي صُدُورِهِمْ و قلوبهم مِنْ غِلٍّ و حقد يسير كامن كان بينهم في الدنيا، و طيّبنا نفوسهم من الرذائل.

روي أنّ المؤمنين يحبسون على باب الجنة، فيقتصّ بعضهم (6)من بعض، فيؤمر (7)بهم إلى الجنّة و قد نقّى اللّه قلوبهم من الغل و الغشّ و الحقد و الحسد (8)، فيكونون إِخْواناً في المودّة و المخالصة

ص: 546


1- . مجمع البيان 6:519، تفسير الصافي 3:114.
2- . في الخصال: ممّن.
3- . في الخصال: سقر.
4- . الخصال:361/51، تفسير الصافي 3:114.
5- . في النسخة: متلبسا.
6- . في تفسير الرازي: لبعضهم.
7- . في تفسير الرازي: ثمّ يؤمر.
8- . تفسير الرازي 19:193.

و المخالطة، كما قال تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ (1)و هم جالسون عَلى سُرُرٍ مرفوعة حال كونهم مُتَقابِلِينَ و مواجهين.

عن ابن عبّاس: يريد على سرر من ذهب مكلّلة بالزّبرجد و الدّرّ و الياقوت، و السرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية (2).

و قيل: إنّ المراد من السرير: هو المجلس الرفيع المهيّا للسرور (3)، و المستقرّ الذي اطمئنّ إليه في حال الفرح لا يَمَسُّهُمْ في الجنّة و لا ينالهم فِيها من حين دخولها نَصَبٌ و عناء و تعب إلى الأبد وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فيكون لهم بقاء لا فناء له، و نعمة لا زوال لها، و فوز لا حرمان معه.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حسن حال عباده المخلصين أعلن بشمول عفوه و رحمته لكلّ من اعترف بعبوديته و توحيده بقوله: نَبِّئْ يا محمّد، و اخبر عِبادِي المؤمنين مطيعيهم و عصاتهم أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ للذنوب اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين حتّى لا ييأسوا من غفراني و رحمتي.

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ اَلْعَذابُ اَلْأَلِيمُ (50)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه مرّ بنفر من أصحابه و هم يضحكون، فقال: «أتضحكون و النار بين أيديكم؟» (4)فنزل قوله: نَبِّئْ عبادي إلى آخره.

ثمّ أعلن بغضبه على العصاة بقوله: وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ اَلْعَذابُ اَلْأَلِيمُ و في تقديم الاعلان بالرحمة، و إضافة العباد إلى نفسه، و تأكيد الوعد بكلمة (إنّي) و (أنا) و تغيير اسلوب الإخبار بالوعيد، حيث لم يقل: أنا المعذّب، بل أخبر بكون عذابه أليما، دلالة واضحة على سبق رحمته و غلبتها على غضبه، و إن كان على المؤمنين التسوية بين الخوف و الرجاء بحيث لا يترجّح أحدهما على الآخر.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 51 الی 55

ثمّ لمّا كان في قصص الأنبياء و اممهم شهادة على رحمته بأوليائه و غضبه على أعدائه، شرع في

وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ (55)

ص: 547


1- . الزخرف:43/67.
2- . تفسير الرازي 19:193، و الجابية: قرية من أعمال دمشق.
3- . تفسير الرازي 19:193.
4- . تفسير الرازي 19:195.

بيانها، و بدأ بقصة إبراهيم عليه السّلام الذي هو أعظم منزلة بقوله: وَ نَبِّئْهُمْ و أخبرهم يا محمّد عَنْ قصّة ضَيْفِ إِبْراهِيمَ و هم الملائكة الذين جاءوا بالرحمة و السلامة على إبراهيم و لوط، و بالعذاب على قوم لوط.

قيل: كانوا اثني عشر أحدهم جبرئيل، و لم يعرفهم إبراهيم، و حسب أنّهم أضيافه (1).

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بصورة البشر فَقالُوا حين الدخول: سلام اللّه عليك، أو نسلّم عليك يا إبراهيم سَلاماً و كان إبراهيم عليه السّلام شديد الحبّ للضيافة، فما لبث حتى جاءهم بعجل مشويّ، فلمّا رأى أنّهم لم يمدّوا أيديهم إليه خاف منهم؛ لأنّ المعتاد عندهم أنّ الضيف إذا امتنع من الأكل ظنّوا أنّه عدوّ.

و قيل: إنّ سبب خوفه أنّهم دخلوا عليه بغير إذن و في غير وقت (2)، و لذا قالَ لهم: إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ و خائفون، فلمّا سمعت الملائكة منه ذلك قالُوا تأمينا لخاطرة: يا إبراهيم لا تَوْجَلْ و لا تخف منا إِنّا نُبَشِّرُكَ و نخبرك بما فيه سرور قلبك، و هو أنّ اللّه يريد أن يمنّ عليك بِغُلامٍ و ولد ذكر (3)عَلِيمٍ بالمعارف و الأحكام، أو بعلم النبوة، فتعجّب إبراهيم عليه السّلام من مقالتهم، و قالَ لهم: أَ بَشَّرْتُمُونِي بأن يولد لي ولد و أنا عَلى حال بعيد عادة من ذلك، و هو أَنْ مَسَّنِيَ و أصابني اَلْكِبَرُ و الهرم الذي لا يكون معه الولد.

قيل: إنّ (على) بمعنى مع، أو بمعنى بعد (4).

ثمّ بالغ في إظهار التعجّب بقوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ من الأعجوبة، فلمّا رأوا استبعاد إبراهيم عليه السّلام ما بشّروه به قالُوا له تأكيدا لقولهم: إنّا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ و الصدق، و بما هو كائن لا محالة، أو باليقين الذي لا شبهة فيه، أو بطريق حقّ و هو إخبار اللّه به فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ من رحمة اللّه عليك، و الآيسين من أن تلد و أنت شيخ كبير.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 56 الی 60

فلمّا سمع إبراهيم عليه السّلام كلامهم الموهم لنسبته إلى اليأس من رحمة اللّه قالَ تحاشيا منها و إنكارا عليهم: وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ اللطيف به إِلاَّ اَلضّالُّونَ و المخطئون طريق المعرفة

قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاّ آلَ لُوطٍ إِنّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ اَلْغابِرِينَ (60)

ص: 548


1- . تفسير روح البيان 4:474.
2- . تفسير الرازي 19:196.
3- . في النسخة: ذكور.
4- . تفسير روح البيان 4:474.

و الصواب، فانّهم الذين لا يعرفون سعة رحمة اللّه و كمال قدرته و حكمته و لطفه بعباده، فنفي عن نفسه القنوط بأبلغ وجه، و بيّن أنّ مقاله كان استعظاما لهذه النعمة الخارقة للعادة، ثمّ لمّا عرف إبراهيم عليه السّلام أنّهم ملائكة أرسلوا لأمر عظيم قالَ فَما خَطْبُكُمْ و ما شأنكم أَيُّهَا الملائكة اَلْمُرْسَلُونَ؟

قيل: إنّه علم من كثرتهم و بشارتهم لرفع خوفه أنّهم ارسلوا لأمر آخر غير البشارة (1)قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا من قبل اللّه إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ كي نهلكهم بالعذاب لتناهيهم في الإجرام و الطّغيان إِلاّ آلَ لُوطٍ و أهله المؤمنين إِنّا و اللّه لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ممّا يصيب قومه من العذاب إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ [و اسمها]واهلة-كما قيل (2)-فانّ ربّك قال: إنّا قَدَّرْنا و قضينا إِنَّها لَمِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في المدينة مع الكفار، فيصيبها ما يصيبهم من العذاب لشركتها معهم في الكفر و إيذاء لوط.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 61 الی 65

فَلَمّا جاءَ لوطا و آلَ لُوطٍ الملائكة اَلْمُرْسَلُونَ بالعذاب قالَ لهم لوط إِنَّكُمْ في هذه البلدان قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لا يعرفكم أحد.

فَلَمّا جاءَ آلَ لُوطٍ اَلْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ اِتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ اُمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)قيل: يعني أنكم لا في زيّ السفر، و لا من أهل الحضر، فأخاف أن تطرقوني بشرّ (3).

قالُوا ما جئناك بما تنكرنا لأجله بَلْ جِئْناكَ بِما فيه سرورك و يشفي (4)قلبك، و هو العذاب الذي تتوعّد به قومك و هم كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ و في وقوعه يشكّون وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ و اليقين الذي لا مجال للريب فيه وَ إِنّا

و اللّه لَصادِقُونَ في ما نخبرك به من العذاب.

قيل: إنّ المراد بالحقّ الإخبار بالعذاب، و ما بعده تأكيد له (5)، إذن فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ معدّ من المدينة بِقِطْعٍ و طائفة مِنَ اَللَّيْلِ و في بعض منه وَ اِتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ و كن من ورائهم لتسوقهم و تطلّع عليهم وَ لا يَلْتَفِتْ و لا ينظر مِنْكُمْ إلى الوراء أَحَدٌ.

ص: 549


1- . تفسير البيضاوي 1:532، تفسير روح البيان 4:475.
2- . تفسير روح البيان 4:476.
3- . تفسير روح البيان 4:476.
4- . في النسخة: و تشقي.
5- . تفسير أبي السعود 5:84.

قيل: إنّ النهي عن الالتفات كناية عن سرعة السير لاستلزام الالتفات الوقوف أو التواني (1)، أو عن إيجاب التوطين على الهجرة، أو عن قطع العلاقة عمّا خلّفوه، أو عن الانصراف و التخلّف.

وَ اُمْضُوا و اذهبوا إلى حَيْثُ تُؤْمَرُونَ من جانب اللّه بالمضيّ و الذّهاب إليه.

عن ابن عباس: يعني الشام (2). و قيل: يعني مصر (3). و قيل: يعني حيث يقول لكم جبرئيل، فانّه أمرهم ان يمضوا الى قرية قريبة لم يعمل أهلها مثل عمل أولئك القوم (4).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 66 الی 71

ثمّ أخبر اللّه تعالى بأنّه بعد إخبار الملائكة لوطا بإهلاك قومه، أوحى سبحانه إليه بلا واسطة الملك بتعذيب قومه بقوله: وَ قَضَيْنا و أوحينا إِلَيْهِ بنحو البتّ ذلِكَ اَلْأَمْرَ الذي أخبرته الرسل به في شأن قومه، و هو أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ الكفرة و عقبهم مَقْطُوعٌ بحيث لا يبقى منهم أحد بعذاب الاستئصال حال كونهم مُصْبِحِينَ و وقت دخول الصبح عليهم.

وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَ جاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)ثمّ قيل: إنّ امرأة لوط أخبرت أهل سدوم (5)بقدوم أضياف على لوط جرد مرد في غاية الحسن و الجمال (6)وَ لذا جاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ إلى باب منزل لوط و هم يَسْتَبْشِرُونَ و يخبر بعضهم بعضا بأنّه نزل على لوط أضياف مرد و ضاء الوجوه، فلمّا أتوه و سألوه أن يسلّم إليهم أضيافه ليرتكبوا الفاحشة قالَ لوط: يا قوم إِنَّ هؤُلاءِ الشباب ضَيْفِي و النازلون عليّ في بيتي فَلا تَفْضَحُونِ بتفضيحهم، و لا تبتلوني بالعار بالاساءة إليهم، و عمل الفاحشة بهم، فانّ من أهين ضيفه فقد اهينت نفسه.

وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و خافوه في الاساءة إليّ و الى ضيفي، و في ارتكاب الفحشاء بهم وَ لا تُخْزُونِ و لا تذللوني و لا تخجلوني عندهم بارتكاب الفعلة الشّنيعة بهم قالُوا يا لوط أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ أن

ص: 550


1- . تفسير أبي السعود 5:84، تفسير روح البيان 4:476.
2- . تفسير الرازي 19:201، تفسير روح البيان 4:476.
3- . تفسير البيضاوي 1:533، تفسير روح البيان 4:476.
4- . تفسير الرازي 19:201.
5- . سدوم: مدينة من مدائن قوم لوط، كان قاضيها يقال له سدوم.
6- . تفسير روح البيان 4:477.

تحامي أحدا من اَلْعالَمِينَ.

قيل: إنّ التقدير ألم نقدم إليك و لم ننهك عن أن تمنع الغرباء عن تعرّضنا لهم (1). قالَ لوط: هؤُلاءِ النسوة بَناتِي فتزوّجوهنّ و انصرفوا عن التعرّض لأضيافي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ و طالبين لقضاء الشهوة، فاقضوها فيما أحلّ اللّه لكم دون ما حرّم.

قيل: إنّ القوم كانوا يخطبون بناته و لا يجيبهم لخبثهم و عدم كفايتهم (2).

و قيل: إنّ المراد بنات القوم، و أضافهنّ إلى نفسه لكون بنات الامّة بمنزلة بنات نبيها (3).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 72 الی 75

ثمّ بيّن اللّه غاية شقاوتهم بقوله: لَعَمْرُكَ و حياتك يا حبيبي محمّد قسمي إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ و شدّة شهوتهم التي أزالت عقولهم، و في غاية شقاوتهم و غوايتهم التي أعمتهم عن رؤية طريقة الرشد و الصلاح يَعْمَهُونَ و يتحيّرون، فلم يؤثّر فيهم النّصح و الارشاد إلى البنات أطيب من البنين فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ التي صاح بها جبرئيل حال كونهم مُشْرِقِينَ و داخلين في وقت طلوع الشمس.

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)قيل: كان ابتداء العذاب-و هو قلع جبرئيل الأرض بهم و رفعها إلى السماء-أول الصبح، ثمّ هوى بها إلى الأرض، و كان ختمه-و هو الصيحة-أول طلوع الشمس (4).

فَجَعَلْنا بعد قلع البلاد الخمسة أو السبعة و رفعها إلى قريب من السماء على جناح جبرئيل و قلبها عليهم عالِيَها سافِلَها و سافلها عاليها، لكون هذا النحو من القلب أدخل في الهول و الفضاعة وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ من حين الرفع إلى تمام الانقلاب حِجارَةً كائنة مِنْ سِجِّيلٍ و طين متحجّر عليه اسم من رمى به على ما قيل (5). فهلكوا بأنواع من العذاب: الخسف و الامطار بالحجارة و الصيحة، و قيل: إنّ مطر الحجارة كان على الغائبين من تلك البلاد (6)إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من عصيان القوم لوطا و طغيانهم على اللّه و هلاكهم بعذاب الاستئصال و إنجاء لوط و أهله و اللّه لَآياتٍ و أدلّة واضحة على وحدانية اللّه و كمال قدرته و عظمته، و قهره على أعدائه، و لطفه

ص: 551


1- . تفسير أبي السعود 5:85، تفسير روح البيان 4:477.
2- . تفسير أبي السعود 5:86، تفسير روح البيان 4:478.
3- . تفسير الرازي 19:202، تفسير أبي السعود 5:86.
4- . تفسير روح البيان 4:479. (5 و 6) . تفسير روح البيان 4:480.

بأوليائه، و إنما الانتفاع لِلْمُتَوَسِّمِينَ و المتفرّسين، و من له ذكاء وجودة ذهن، فانّهم يستنبطون كثيرا من العلوم و المعاني الدقيقة من المحسوسات و الماديات (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اتقوا فراسة المؤمن، فانّه ينظر بنور اللّه، و ينطق بتوفيق اللّه» (2).

و عنه عليه السّلام-في رواية- «أنّ للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسّم» ثمّ قرأ هذه الآية (3).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الآية: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتوسّم، و أنا من بعده، و الأئمّة من ذريّتي المتوسّمون» (4).

و عنه أيضا، في هذه الآية: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتقّوا فراسة المؤمن» (5).

و عنه عليه السّلام: «ليس مخلوق إلاّ و بين عينية مكتوب، [أنّه]مؤمن أو كافر، و ذلك محجوب عنكم، و ليس محجوبا عن الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام» (6).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 76 الی 79

ثمّ استشهد سبحانه بوجود بلادهم و آثارهم بقوله: وَ إِنَّها و اللّه لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ و طريق ثابت يسلكه النّاس في مسافرتهم من مكة إلى الشام، و يرون آثار تلك البلاد، فانّها لم تندرس بعد إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من وجود آثارها و اللّه لَآيَةً و عظة و هداية لِلْمُؤْمِنِينَ باللّه و رسوله، فانّهم الذين يعرفون أنّ ما حاق (7)بهم من العذاب الذي ترك ديارهم بلاقع (8)، إنّما كان لسوء صنيعهم و طغيانهم على اللّه و رسوله.

وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)ثمّ ذكر سبحانه قصة هلاك قوم شعيب بقوله: وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و تكذيب الرسول.

قيل: إنّ الأيكة و مدين واحد (9)، فانّ أطراف مدين كانت أرض ذات أشجار كثيرة ملتفّة بعضها ببعض، و كانت عامة شجرهم المقل (10).

ص: 552


1- . في النسخة: العاديات.
2- . تفسير روح البيان 4:481.
3- . مجمع البيان 6:528، تفسير الصافي 3:118.
4- . الكافي 1:170/5، تفسير الصافي 3:118.
5- . تفسير العياشي 2:435/2341، الكافي 1:170/3، تفسير روح البيان 4:481، تفسير الصافي 3:118.
6- . بصائر الدرجات:374/1، تفسير الصافي 3:118.
7- . في النسخة: حلق، و الذي أثبتناه من روح البيان 4:480.
8- . أي خالية من كلّ شيء.
9- . تفسير روح البيان 4:481.
10- . المقل: حمل الدّوم، و هو يشبه النّخل.

عن ابن عباس: الأيكة شجر المقل (1).

و قيل: إنّ الأيكة اسم مكان آخر غير مدين كثير الأشجار، كانوا يسكنونها، فبعث اللّه إليهم شعيب كما بعثه إلى مدين فكذّبوه (2)فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ و عاقبناهم على تكذيبهم شعيبا.

قيل: أهلك اللّه أهل مدين بالصيحة، و أهل الأيكة بالنّار، و ذلك أنّ اللّه أرسل عليهم حرّا شديدا سبعة أيام، فخرجوا ليستظلّوا بالشجر من شدّة الحرّ، فجاءت ريح سموم بنار فأحرقتهم (3).

و قيل: بعث اللّه سحابة فالتجأوا إليها يلتمسون الرّوح، فبعث اللّه عليهم منها نارا فأحرقتهم، فهو عذاب يوم الظلّة (4).

و قيل: لمّا ذكر اللّه الأيكة، دلّ بذكرها على مدين، فجاء بضميرهما (2)بقوله: وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ و طريق واضح لكم و للناس، تمرون عليهما و ترون آثار العذاب فيهما. و قيل: إنّ ضمير التثنية راجع إلى سدوم و الأيكة (3).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 80 الی 84

[ثمّ]

ذكر اللّه قصّة قوم صالح بقوله: وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ اَلْحِجْرِ و هم قوم ثمود اَلْمُرْسَلِينَ.

وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ اَلْحِجْرِ اَلْمُرْسَلِينَ (80) وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)قيل: الحجر اسم واد كانوا يسكنونه (4). و إنّما نسب سبحانه إليهم تكذيب جميع المرسلين؛ لأنّ تكذيبهم صالحا تكذيب لجميع الرسل، و لأنّهم كانوا من البراهمة المنكرين لجميع الرسل، أو لأنّ المراد بالمرسلين جنس الرسل لا جميع أفرادهم، كما يقال لمن أهان عالما: إنك موهن العلماء.

ثمّ ذمّهم سبحانه بذنب أعظم من تكذيب الرسل بقوله: وَ آتَيْناهُمْ و أريناهم آياتِنا الكثيرة التي كانت في الناقة من خروجها من الصخرة، و عظم جثّتها و ظهور فصيلها عند خروجها، و كثرة شربها و لبنها فَكانُوا عَنْها و عن النظر و التفكّر في جهات إعجازها مُعْرِضِينَ و بها غير معتنين.

وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً و مساكن لأنفسهم حال كونهم آمِنِينَ من العذاب لغاية غفلتهم و اغترارهم، أو من الانهدام و نقب اللصوص و تخريب الأعداء لغاية استحكامها فَأَخَذَتْهُمُ

ص: 553


1- . تفسير الرازي 19:204. (2 و 3 و 4) . تفسير روح البيان 4:481.
2- . تفسير الرازي 19:204.
3- . تفسير أبي السعود 5:87.
4- . تفسير الرازي 19:205، تفسير أبي السعود 5:87.

مع ذلك اَلصَّيْحَةُ التي صاح بها جبرئيل حال كونهم مُصْبِحِينَ بسبب تكذيبهم صالحا، و إعراضهم عن الآيات فَما أَغْنى و لم ينفع في دفع العذاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ و يحصّلون من البيوت الوثيقة و الأموال الوفيرة و العدد المتكاثرة.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 85 الی 86

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ابتلاء الامم الماضية بالعذاب، نبّه على المعاد الذي عذاب الكفار فيه أشدّ مع الدليل القاطع بقوله: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ خلقا متلبّسا بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة المستلزمة للمعاد، و إلاّ كان خلقهما عبثا و لعبا وَ إِنَّ اَلسّاعَةَ و القيامة التي تجزى فيها الناس على قدر أعمالهم، و اللّه (1)لَآتِيَةٌ فلا ينحصر عذاب العصاة بما ينزل بهم في الدنيا، فإنّه بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في القيامة كنسبة لا شيء إلى كلّ شيء، فاذا كان كذلك فلا تحزن يا محمّد بتأخير العذاب عن قومك مع كونهم مكذّبيك، فانّ اللّه سينتقم من أعدائك و يجازيهم أسوأ الجزاء على إساءتهم إليك فَاصْفَحِ و أعرض عنهم اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ و الإعراض المقرون بالحلم و احتمال آذاهم و لا تعجل في الانتقام منهم إِنَّ رَبَّكَ اللطيف بك هُوَ اَلْخَلاّقُ لك و لأعدائك و لسائر الموجودات اَلْعَلِيمُ بأحوالهم و أعمالهم و أحوالك و معاملتك معهم من مكابدتهم، و الصبر على إساءتهم، و الصّفح عنهم، فيجازيهم بأشدّ العذاب، و يكرمك بأعلى الكرامات و يفضّلك على العالمين بأفضل المثوبات، كما أكرمك في الدنيا بالنبوة، و فضلك على العالمين بأن ختم بك الرسالة.

وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاّقُ اَلْعَلِيمُ (86)

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 87

ثم نبّه سبحانه بأفضل مننه عليه بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ يا محمّد، و أنزلنا عليك سَبْعاً مِنَ الآيات اَلْمَثانِي و هي فاتحة الكتاب وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ الشأن.

وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ (87)عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ اللّه قال لي: يا محمّد، وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ، فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب، و جعلها بإزاء القرآن العظيم» (2).

ص: 554


1- . لا موضع للقسم في الآية.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:302/60، تفسير الصافي 3:120.

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هي سورة الحمد، و هي سبع آيات منها بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ» (1).

و عن أحدهما عليهما السّلام أنّه سئل عنها فقال: «فاتحة الكتاب» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث- «زاد اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله السبع الطوال و فاتحة الكتاب، و هي السبع المثاني» (3).

قيل: سمّيت بالمثاني لأنّها تقرأ بعدها السورة في الصلاة و يثنّى بها (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما سميّت مثاني لأنّها تثنّى في الرّكعتين» (5).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «يثنّى فيها القول» (6). و لعلّ المراد منه ما قيل من أنّ كلماتها مثنّاة مثل اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ* إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ* اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ اَلَّذِينَ (7).

و قيل: لأنّ الفاتحة قسمت نصفين نصفها للّه، و نصفها للعبد، فانّ نصفها ثناء العبد للربّ، و نصفها عطاء الربّ للعبد (8).

و قيل: لأنّها نزلت مرتين: مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن، و مرّة بالمدينة (9).

و قيل: إنّ المثاني جميع القرآن و صفته، لأنّه كرّر فيه الوعد و الوعيد، و الأمر و النهي، و الثواب و العقاب و القصص (10)، و الفاتحة بعض منه.

أقول: هذا القول أظهر.

و قيل: إنّ المثاني مأخوذ من الثناء، سميّت به الفاتحة لاشتمالها على الثناء على اللّه، و هو حمده و توحيده و ملكه (11).

و عن الباقر عليه السّلام: «نحن المثاني الذي أعطاه اللّه نبينا» (12).

و قال الصدوق رحمه اللّه: أي نحن الذين قرننا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى القرآن، و أوصى بالتمسّك بالقرآن و بنا،

ص: 555


1- . تفسير العياشي 1:99/76، تفسير الصافي 3:120.
2- . تفسير العياشي 2:437/2347، تفسير الصافي 3:120.
3- . الاحتجاج:215، تفسير الصافي 3:120.
4- . تفسير روح البيان 4:486.
5- . تفسير العياشي 1:100/76، تفسير الصافي 3:120.
6- . تفسير العياشي 2:437/2347، تفسير الصافي 3:120.
7- . تفسير الرازي 19:207.
8- . تفسير روح البيان 4:486.
9- . تفسير الرازي 19:207.
10- . تفسير روح البيان 4:486.
11- . تفسير الرازي 19:207.
12- . تفسير القمي 1:377، تفسير العياشي 2:437/2346، التوحيد:150/6، تفسير الصافي 3:120.

و أخبر أمّته أنّا لا نفترق حتّى نرد [عليه]حوضه (1).

روي أنّ سبع قوافل وافت من بصرى و أذرعات-ليهود قريظة و أذرعات (2)و النّضير-في يوم واحد مكة، فيها أنواع من البزّ و أفاويه (3)الطّيب و الجوهر و أمتعه البحر. فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها و أنفقناها في سبيل اللّه، فنزلت. و قال: قد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع قوافل (4).

و قيل: لمّا وردت قوافل قريش بمكة، و كانت فيها مطاعم و ملابس كثيرة، خطر في قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ المؤمنين جياع عراة و يكون للمشركين هذه الأموال الكثيرة فنزلت (5).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 88 الی 91

ثمّ لمّا عرّف اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله أعظم نعمه عليه، نهاه عن الرغبة فيما بأيدي الناس من الأمتعة الدنيوية الفانية بقوله: و لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ و لا تلتفت بقلبك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا و حطامها أصنافا من الكفّار و أَزْواجاً مِنْهُمْ كاليهود و النصارى و المجوس و المشركين بعد ما أنعمنا عليك بالرسالة و العلم و الحمكة و القرآن من النّعم التي عندها يستحقر جميع عالم الوجود.

لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ (90) اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ (91)عن ابن عباس: أي لا تتمنّ ما فضّلنا به أحدا من متاع الدنيا (6).

روي أنه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى نعم بني المصطلق و قد عبست في أبوالها و أبعارها فتقنّع و قرأ هذه الآية (7).

قيل: معنى عبست [في أبوالها و أبعارها: هو]أن تجفّ أبوالها و أبعارها على أفخادها إذا تركت من العمل [أيام الربيع، فتكثر]شحومها و لحومها (8).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لا ينظر إلى ما يستحسن من [متاع]الدنيا (9).

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الالتفات إلى أموال الكفّار، نهاه عن الالتفات إلى أنفسهم بقوله: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إذا لم يؤمنوا، و لا يكن لهم في قلبك قدر و منزلة.

ص: 556


1- . التوحيد:151/6، تفسير الصافي 3:120.
2- . (و أذرعات) ليست في المصادر.
3- . البزّ: نوع من الثياب، و الأفاويه: نوافج الطيب، و النوافج: الأوعية التي يوضع فيها الطيب. و قيل: الأفاويه: تطلق على ما يعالج به الطيب، كما أن التوابل ما يعالج به الأطعمة.
4- . تفسير الرازي 19:210، تفسير البيضاوي 1:535، تفسير روح البيان 4:486.
5- . تفسير روح البيان 4:486. (6 و 7 و 8 و 9) . تفسير الرازي 19:210.

و قيل: إنّ المراد لا تحزن على أتباعك و مصدّقيك لفقرهم (1)وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ و تواضع بنفسك لِلْمُؤْمِنِينَ بك المطيعين لأحكام ربك، و إن كانوا أفقر الناس، فانّ تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما يحبّون من الدنيا وَ قُلْ للناس: إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ من عذاب اللّه ببيان أحكامه و شدّة عقابه على عصيانه اَلْمُبِينُ و الموضّح لكم جميع ما أبلغكم، و ما يتعلّق بالمبدأ و المعاد، و قل للمشركين: إنا ننزّل عليكم العذاب كَما أَنْزَلْنا من العذاب عَلَى اليهود اَلْمُقْتَسِمِينَ للقرآن بجعل ما وافق التوراة منه حقا، و ما لم يوافقه باطلا، كما عن ابن عبّاس (2).

و قيل: اقتسامه بأن قال بعضهم استهزاء بالقرآن: هذه السورة لي، و قال الآخر: هذه السورة لي، أو قال بعضهم: إنّه سحر. و قال آخر: إنّه شعر، و قال ثالث: إنّه كذب، و قال رابع: إنّه أساطير. و قيل: إن المقتسمين قوم ثمود، فانّهم تقاسموا لنبيّتنّه و أهله (3).

و عن ابن عباس بنقل آخر: هم الذين اقتسموا طريق مكّة يصدّون الناس عن الإيمان، و يقرب عددهم من أربعين (4).

و قيل: كانوا ستة عشر [رجلا]بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة و طرقها، و يقولون لمن يسلكها: لا تغترّوا بالخارج منّا و المدّعي للنبوة فانه مجنون، و كانو ينفّرون الناس عنه صلّى اللّه عليه و آله بأنّه ساحر أو كاهن أو شاعر، و المعنى أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين (5)؛ و هم اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ و جزّءوه إلى سحر و شعر و كهانة و أساطير.

و عنهما عليهما السّلام، قالا: «هم قريش» (6). و قيل: يعني مفترى (7).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 92 الی 96

ثمّ هدّدهم بقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ سؤال توبيخ و تقريع عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ من تكذيب الرسول و الاستهزاء بكتابه.

فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ (94) إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ (95) اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)ثمّ أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بترك المبالاة بالكفّار بقوله: فَاصْدَعْ و اشتغل بِما تُؤْمَرُ من التبليغ جهارا،

ص: 557


1- . تفسير روح البيان 4:487.
2- . تفسير الرازي 19:212، تفسير روح البيان 4:489.
3- . تفسير الرازي 19:212.
4- . تفسير الرازي 19:211.
5- . تفسير الرازي 19:211.
6- . تفسير العياشي 2:439/2357، تفسير الصافي 3:122.
7- . تفسير الرازي 19:213.

و لا تبال بكيد الأعداء وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ و لا تعتن بهم إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ بك و بكتابك اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء عاقبة شركهم في الدارين.

قيل: كان المستهزئون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله خمسة نفر من المشركين: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و عديّ بن قيس، و الأسود بن المطّلب، و الأسود بن عبد يغوث. قال جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى عقب الوليد فمرّ بنبّال فتعلّق بثوبه سهم، فلم ينعطف تعظّما لأخذه، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات، و أومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة، فقال: لذغت لدغت، فانتفخت رجله حتّى صارت كالرّحا و مات، و أشار إلى عيني الأسود بن المطّلب فعمي، و أشار إلى أنف عديّ بن قيس فأمتخط قيحا فمات، و أشار إلى الأسود بن عبد يغوث و هو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة و يضرب وجهه بالشوك حتى مات (1).

و قال بعض العامة: إنّ الآيات نزلت في خمسة نفر ذوي شأن و خطر، كانوا يبالغون في إيذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاستهزاء به، فأهلكهم اللّه في يوم واحد، و كان إهلاكهم قبل بدر: منهم العاص بن وائل السّهمي والد عمرو بن العاص، كان يخلج (2)خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأنفه و فمه و يسخر به، فخرج في يوم مطير على راحلته مع ابنين له، فنزل شعبا من تلك الشّعاب، فلمّا وضع قدمه على الأرض قال: لدغت، فطلبوا فلم يجدوا شيئا، فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه، و منهم الحارث بن قيس، أكل حوتا مالحا فأصابه العطش الشديد، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدّ-أي انشقّ-بطنه، فمات في مكانه، و منهم الأسود بن المطلب، خرج مع غلام له فأتاه جبرئيل و هو قاعد في أصل شجرة، فجعل جبرئيل ينطح رأسه على الشجرة، و كان يستغيث بغلامه، فقال غلامه: لا أرى أحد يصنع بك شيئا غير نفسك، فمات مكانه، و كان هو و أصحابه يتغامزون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اصحابه و يصغرون إذا رأوه، و منهم الأسود بن عبد يغوث خرج من أهله فأصابه السّموم (3)[فاسودّ]حتى صار كالفحم، فأتى أهله فلم يعرفوه، فأغلقوا دونه الباب و لم يدخلوه دارهم حتى مات (4).

قيل: إنّه كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى و قيصر؛ و ذلك لأنّ ثيابهم رثّه و عيشهم خشن. و منهم الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد [و عم أبي جهل]خرج يتبختر في مشيته حتى وقف على رجل يعمل السّهام، فتعلق سهم في ثوبه، فلم ينقلب لينحيّه تعظّما، فأخذ طرف ردائه ليجعله على كتفه فأصاب السهم أكحله (5)فقطعه، ثمّ

ص: 558


1- . تفسير الرازي 19:215.
2- . خلج الشيء: حرّكه.
3- . السموم: الريح الحارة.
4- . تفسير روح البيان 4:491.
5- . الأكحل: وريد في وسط الذراع.

لم ينقطع الدم عنه حتى مات (1)، و كان جميع ذلك في يوم واحد.

القمي رحمه اللّه، قال: نزلت بمكة بعد أن نبّئ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بثلاث سنين، و كان المستهزئون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسة: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و الأسود بن المطّلب، و الأسود بن عبد يغوث، و الحارث بن طلاطلة الخزاعي (2).

عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام: «فأمّا المستهزئون فقال اللّه: إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ فقتل اللّه خمستهم، كلّ واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد، فأمّا الوليد بن المغيرة فمرّ بنبل لرجل من خزاعة قد راشه (3)و وضعه في الطريق، فأصابته [شظية]منه فانقطع أكحله حتى أدماه، فمات و هو يقول: قتلني رب محمّد، و أمّا العاص بن وائل السّهمي فانّه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده تحته حجر فسقط، فتقطّع قطعة قطعة، فمات و هو يقول: قتلني ربّ محمّد، و أمّا الأسود بن عبد يغوث فانّه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظلّ بشجرة، فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: امنع هذا مني، فقال: ما أرى أحدا يصنع شيئا إلاّ نفسك، فقتله و هو يقول: قتلني ربّ محمّد، و أمّا الأسود بن المطّلب (4)فانّ النبي صلّى اللّه عليه و آله دعا عليه أن يعمي [اللّه]بصره و أن يثكله ولده، فلمّا كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع، فأتاه جبرئيل بورقة خضراء، فضرب بها وجهه فعمي، و بقي حتى أثكله اللّه ولده، و أمّا الحارث بن طلاطلة (5)فإنّه خرج من بيته في السّموم فتحوّل حبشيا، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحارث، فغضبوا عليه فقتلوه و هو يقول: قتلني ربّ محمّد» (6).

و روي «أنّ الأسود بن عبد يغوث (7)أكل حوتا مالحا فأصابه العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انشقّ بطنه، فمات و هو يقول: قتلني ربّ محمّد. كل ذلك في ساعة واحدة، و ذلك أنّهم كانوا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: يا محمّد، ننتظر بك إلى الظهر، فان رجعت عن قولك و إلاّ قتلناك، فدخل النبي صلّى اللّه عليه و آله منزله فأغلق عليه بابه مغتمّا لقولهم، فأتاه جبرئيل عن اللّه في ساعته فقال: يا محمّد، السّلام يقرئك السّلام، و هو يقول: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ يعني أظهر أمرك لأهل مكّة و ادعهم إلى الإيمان. فقال: يا جبرئيل، كيف أصنع بالمستهزئين و ما أوعدوني؟ قال: إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ قال: يا جبرئيل، كانوا الساعة بين يدي؟ قال: كفيتهم، فأظهر أمره عند ذلك» (8).

و في رواية: «فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقام على حجر فقال: يا معشر قريش، يا معشر العرب، أدعوكم إلى

ص: 559


1- . تفسير روح البيان 4:492.
2- . تفسير القمي 1:378، تفسير الصافي 3:123.
3- . راش النبل: ركب عليه الريش.
4- . في الاحتجاج: الأسود بن الحارث.
5- . في الاحتجاج: الحارث بن أبي الطلالة.
6- . الاحتجاج:216، تفسير الصافي 3:123.
7- . في الاحتجاج: الأسود بن الحارث.
8- . الاحتجاج:217، تفسير الصافي 3:123.

شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه، و آمركم بخلع الأنداد و الأصنام، فأجيبوني تملكوا بها العرب، و تدين لكم العجم، و تكونوا ملوكا في الجنّة، فاستهزءوا منه، و قالوا: جنّ محمّد بن عبد اللّه، و لم يجسروا عليه لموضع أبي طالب» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «اكتتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [بمكة]مختفيا خائفا خمس سنين لم يظهر أمره و عليّ عليه السّلام معه و خديجة، ثمّ أمره اللّه أن يصدع بما أمر [به]فظهر و أظهر أمره» (2).

و في رواية: «ثمّ أمره اللّه أن يصدع بما يؤمر، فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب، فإذا أتاهم قالوا: كذّاب امض عنّا» (3).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 97 الی 99

ثمّ لمّا أشار اللّه سبحانه إلى جسارة القوم على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله (4)و حبيبه و ضيق صدره بمقتضى الطبيعة البشرية، سلاّه بقوله: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ و يحزن قلبك بِما يَقُولُونَ من التكذيب و الاستهزاء و الإهانه، فانّ الالتفات الى أن المصائب بعين اللّه و مرآه من أقوى التسليات للمؤمن.

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسّاجِدِينَ (98) وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ (99)عن الصادق عليه السّلام: «عليك بالصبر في جميع امورك، فانّ اللّه عز و جل بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فأمره بالصبر و الرّفق. . . فصبر حتى نالوه بالعظائم و رموه بها، فضاق صدره، فأنزل اللّه عزّ و جلّ [عليه]: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ» (5).

ثمّ أمره اللّه بذكره الموجب لاطمئنان القلب، و الاستغراق في أنوار الربوبية، و الانصراف عن الدنيا و مصائبها بقوله: فَسَبِّحْ اللّه مقرنا له بِحَمْدِ رَبِّكَ و ثنائه وَ كُنْ مِنَ جملة اَلسّاجِدِينَ و المبالغين في الخضوع له، أو من المصلين، فانّ الفزع إلى اللّه بالسجود و الصلاة يقرع الهمّ و يكشف الكرب وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ على أيّ حال كنت حَتّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ و الموت، عن ابن عبّاس (6)، و لا تكن في آن من آنات عمرك متوانيا في القيام بوظائف العبودية.

الحمد للّه الذي وفّقني لإتمام تفسير [سورة]الحجر.

ص: 560


1- . تفسير القمي 1:379، تفسير الصافي 3:124.
2- . كمال الدين:344/28، تفسير الصافي 3:122.
3- . تفسير العياشي 2:440/2360، تفسير الصافي 3:122.
4- . في النسخة: جسارة القوم بنبيّه.
5- . الكافي 2:72/3، تفسير الصافي 3:124.
6- . مجمع البيان 6:534، تفسير الرازي 19:216.

في تفسير سورة النحل

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 16 (النحل): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفار بالعذاب و تهديد المستهزئين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله باستعجال العذاب، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالاعلان برسالته و دعوته و عدم المبالاة بمعارضيه، و تسليته بعلمه بضيق صدره، و أمره بالتوجّه إليه و اشتغاله بعبادته، و كان أوّل سورة النحل تأكيد الوعيد بنزول العذاب و النهي عن الاستعجال فيه، و بيان ما يجب الانذار به، و ختمه أمر النبيّ بالدعوة و الصبر على أذى الكفّار و عدم الاعتناء بهم، و عدم ضيق صدره من مكرهم، و اهتمامه بالعبادة و الأعمال الحسنة، و أهم المطالب المذكورة فيها و هو التوحيد و المعاد و النبوة موافقا لما في الحجر، أردفها بالنحل و نظمها بعدها (1)، فابتدأ سبحانه تبركا و تعليما للعباد بذكر أسمائه الحسنى حسب رسمه و دأبه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اَللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (1)ثمّ شرع فيها بتأكيده وعيد المشركين بالعذاب بقوله: أَتى أَمْرُ اَللّهِ و عذابه الموعود به فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ و لا تطلبوا سرعة نزوله، فانّه لا خير لكم فيه و لا خلاص لكم منه.

عن ابن عبّاس: لمّا نزل قوله تعالى: اِقْتَرَبَتِ اَلسّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ (2)قال الكفار فيما بينهم: إنّ هذا يزعم أنّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن [بعض]ما تعملون حتّى ننظر ما هو كائن. فلمّا تأخّرت قالوا: ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به؟ فنزل قوله تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ (3)فأشفقوا و انتظروا يومها، فلمّا امتدّت الأيام قالوا: يا محمّد، ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به. فنزل قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اَللّهِ فوثب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رفع النّاس رؤوسهم، فنزل قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ (4)فيكون المعنى أنّ أمر القيامة و عذاب الكفار محقّق الوقوع يجب أن ينزل منزلة الواقع.

ص: 561


1- . في النسخة: أردف بالنحل و نظم بعده.
2- . القمر:54/1.
3- . الأنبياء:21/1.
4- . تفسير روح البيان 5:2، تفسير الرازي 19:218، و لم ينسبه إلى ابن عباس.

روي أنّه لمّا نزلت قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت أنا و الساعة كهاتين» (1)و جمع بين الوسطى و السبابة.

و في حديث آخر: «مثلي و مثل الساعة كفرسي الرّهان» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا أخبر اللّه شيئا أنّه كائن، فكأنّه قد كان» (1).

و قيل: إنّ المراد أنّ حكمة [اللّه]تعالى بوقوع العذاب قد أتى و تحقّق، و إنّما لم يتحقّق المحكوم به لاقتضاء الحكمة وقوعه في وقت معين لم يجئ بعد (2).

و روي أيضا أنّ كفّار قريش كانوا يستبطئون نزول العذاب الموعود لهم سخرية بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و تكذيبا لوعده، و كانوا يقولون: إن صحّ ما تقول من مجيء العذاب، فالأصنام تشفع لنا و تخلّصنا منه، فنزلت (3).

ثمّ نزّه اللّه تعالى ذاته عن الشريك الدافع لمراده بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ فيدفع ما أراد بهم من العذاب عنهم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 2

ثمّ لمّا كان عمدة شبهة المشركين في نبوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنكارهم إمكان نبوة البشر مع قدرة اللّه على إرسال الملك، دفع اللّه تعالى هذه الشّبهة بقوله: يُنَزِّلُ اَلْمَلائِكَةَ.

يُنَزِّلُ اَلْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)عن ابن عباس: يريد جبرئيل (4)وحده بِالرُّوحِ و الوحي الذي به حياة القلوب.

و عن الباقر عليه السّلام: «يقول بالكتاب و النبوة» (7). و القمي رحمه اللّه: بالقوة التي جعلها فيهم (8). و قيل: المراد بالرّوح جبرئيل، و الباء بمعنى مع، و المعنى ينزّل الملائكة مع جبرئيل (5)، و يكون نزولهم صادرا مِنْ أَمْرِهِ و إذنه عَلى مَنْ يَشاءُ نزولهم عليه مِنْ عِبادِهِ الأنبياء الذين خصّهم اللّه برسالته.

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «جبرئيل الذي نزل على الأنبياء، و الرّوح يكون معهم و مع الأوصياء لا يفارقهم، يفقّههم و يسدّدهم من عند اللّه» (6).

و قال بعض مفسري العامّة: ما ينزل ملك إلاّ و معه الرّوح، يكون الرّوح رقيبا عليه كما يكون

ص: 562


1- . تفسير العياشي 3:3/2362، تفسير الصافي 3:126.
2- . تفسير الرازي 19:218.
3- . تفسير روح البيان 5:2.
4- . تفسير الرازي 19:219. (7 و 8) . تفسير القمي 1:382، تفسير الصافي 3:127.
5- . تفسير الرازي 19:220.
6- . بصائر الدرجات:483/1، تفسير الصافي 3:127.

الملائكة الحفظة رقباء على بني آدم (1). و على أيّ تقدير يكون وحيهم إلى الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا و خوّفوا قومكم، و اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا و لا معبود سواي، و أنا اعاقبهم على القول بالاشراك بي في الالوهية و العبادة، و قولوا لهم: إذا كان الأمر كذلك فَاتَّقُونِ و خافوني و لا تشركوا بي غيري.

و قيل: إن الخطاب للمستعجلين على طريقة الالتفات (2)من الغيبة إلى الخطاب، و المراد أنّه إذا كان الأمر كما ذكر من أنّ اللّه يوحي إلى الأنبياء بتوسّط الملائكة توحيده، فاتّقوني في الاشراك بي و فروعه التي منها الاستهزاء برسولي و استعجال عذابي.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 3 الی 4

ثمّ لمّا أعلن سبحانه بتوحيده، أخذ في الاستدلال عليه بكمال قدرته و حكمته بقوله: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ خلقا مقرونا بِالْحَقِّ و الحكمة و الصواب، و الوجه الفائق، و النّمط اللائق، فمن قدر على هذا الخلق العظيم؟ تَعالى و تقدّس بذاته و صفاته عَمّا يُشْرِكُونَ به، و تنزّه عن أن يجعل له عبيده و غيره عدلا في الالوهية و استحقاق العبادة.

خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بخلق السماوات و الأرض، استدلّ بخلق ما فيهما من البدائع، و لمّا كان الانسان أكمل الكلّ و الآية العظمى، ابتدأ سبحانه بالاستدلال بخلقه بقوله: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ الذي انطوى فيه العالم الأكبر مِنْ نُطْفَةٍ قذرة منتنة متولّدة من الأغذية المتشابهة الأجزاء في الصورة بعد خلق أوّل فرد منه من تراب فَإِذا هُوَ بعد خلقه و تربيته و تكميله في الجسم و القوى خَصِيمٌ و معارض لخالقه مُبِينٌ و متجاهر في خصومته.

روي أن أبي بن خلف الجمحي أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعظم رميم فقال: يا محمّد، أترى اللّه يحيي هذا بعد ما رمّ (3)؟ ! فنزلت (4)و قيل: يعني منطيقا مجادلا عن نفسه، مكافحا للخصوم، مبينا لحجّته لقنا بها بعد أن كان نطفة لا حسّ لها و لا حراك، فانتقاله من أخسّ الأحوال إلى أشرفها دليل على وجود مدبّر قدير حكيم (5).

القمي رحمه اللّه، قال: خلقه من قطرة ماء منتن فيكون خصيما متكلما بليغا (6).

ص: 563


1- . تفسير روح البيان 5:4.
2- . تفسير أبي السعود 5:96.
3- . رمّ العظم: بلى.
4- . تفسير روح البيان 5:6.
5- . تفسير الرازي 19:226.
6- . تفسير القمي 1:382، تفسير الصافي 3:127.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 5 الی 7

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بخلق الانسان، استدلّ بخلق الحيوانات النافعة له، فابتدأ بخلق أنفعها بقوله: وَ اَلْأَنْعامَ الأربعة من الإبل و البقر و الضأن و المعز خَلَقَها نفعا لَكُمْ و أهمّ نفعها أن لكم فِيها دِفْءٌ و حافظ من البرد كاللباس المعمول من الشعر و الصوف و الوبر وَ لكم مَنافِعُ اخر منها كالنسل و اللبن و الركوب و الحرث وَ مِنْها تَأْكُلُونَ كاللحوم و الشحوم و سائر ما يؤكل منها.

وَ اَلْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)ثمّ نبّه سبحانه على منافعها غير الضرورية بقوله: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ و وجاهة عند الناس حِينَ تُرِيحُونَ تلك الأنعام و تردونها من مراعيها إلى محالّ راحتها بالعشيّ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ تلك و ترسلونها من مراحها إلى مراعيها بالغداة، فانّ الفضاء أمام الدور يتزيّن بها في الوقتين، و يعظم أهلها في أعين النّاس.

و إنّما قدّم الاراحة لأنّ الجمال عند عودها من مراعيها أظهر، لأنّها حينئذ ملأى البطون، حافلة الضّروع، مجتمعة في الحضائر، حاضرة لأهلها، و أمّا عند خروجها إلى المراعي فكلّها جائعة عادمة اللبن، ثمّ تأخذ في التفرّق و الانتشار وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ و أمتعتكم التي لا تقدرون على حملها إِلى بَلَدٍ بعيد لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ و لم تتمكنّوا أن تصلوا إليه مجرّدين عن الأثقال إِلاّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ و التعب الذي يصعب تحمّله، فكيف مع استصحابها؟

عن ابن عباس: يريد من مكة إلى المدينة، أو إلى اليمن، أو إلى الشام، أو إلى مصر (1).

أقول: هذا التخصيص لأنّ متاجر قريش كانت في زمان النزول إلى تلك البلاد (2).

ثمّ بيّن سبحانه علّة هذه الإنعامات على الإنسان بقوله: إِنَّ رَبَّكُمْ و اللّه لَرَؤُفٌ و كثير الوداد بكم رَحِيمٌ و عطوف على خلقه، و لذا أراد توسعة المعاش و تيسير الأمر عليكم بخلق الأنعام.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 8

16\ ثمّ استدلّ سبحانه بخلق الحيوانات التي نفعها دون الأنعام بقوله: وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغالَ وَ اَلْحَمِيرَ خلقها لِتَرْكَبُوها وَ لتكون زِينَةً لكم، أو لتتزينوا زينة و تتعظّموا بتملّكها و ركوبها عند الناس

وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغالَ وَ اَلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)

ص: 564


1- . تفسير الرازي 19:228.
2- . تفسير الرازي 19:228.

وَ يَخْلُقُ لانتفاعكم في الدنيا ما لا تَعْلَمُونَ خلقه و عدده و منافعه و كيفية الانتفاع به من أصناف النّعم، و إنّما أتى سبحانه بصيغه المضارع للدلالة على التجدّد و الحدوث.

القمي رحمه اللّه، قال: العجائب التي خلقها [اللّه]في البرّ و البحر (1).

و قيل: هذا إخبار بأنه سبحانه يخلق من الخلائق ما لا علم لنا به، مما فيه دلالة على قدرته الباهرة الموجبة لتوحيده كنعمته الباطنة و الظاهرة (2).

عن ابن عبّاس: أنّ عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع و الأرضين السبع و البحار السبعة، يدخل فيه جبرئيل كلّ سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نور، و جمالا إلى جمال، و عظما إلى عظم، ثمّ ينتفض فيخلق اللّه من كلّ قطرة تقع من ريشه كذا و كذا ألف ملك، فيدخل منهم كلّ يوم سبعون ألف [ملك]البيت المعمور، و سبعون ألف ملك الكعبة، لا يعودون إليه أبدا إلى يوم القيامة (3).

و قيل: يعني يخلق اللّه لكم في الجنة غير ما ذكر من النّعم الدنيوية ما لا يمكنكم أن تعلموه في الدنيا من النّعم التي لم ترها عين و ما سمعتها اذن، و ما خطرت (4)على قلب بشر (5).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 9

م ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الأدلة القاطعة على توحيده و صفاته الكمالية، بيّن غاية لطفه بعباده بقوله: وَ عَلَى اَللّهِ واجب بمقتضى لطفه الهداية إلى توحيده و معارفه، بنصب الأدلّة القاطعه الواضحة حتى يتبين للناس قَصْدُ اَلسَّبِيلِ و الطريق المستقيم الموصل إلى كلّ حقّ و إلى كلّ خير، و يمتاز من سائر السبل، فانّ منها مستقيما وَ مِنْها جائِرٌ و منحرف عن الحقّ و مؤدّ إلى الهلاك، و لا يحصى عددها المندرج كلّها تحت الجائر.

وَ عَلَى اَللّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)و قد أدّى سبحانه ما عليه حيث أبدع هذه البدائع التي كلّ واحد منها نور يهتدى به، و أرسل رسلا و أنزل كتبا و أرشد إلى الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى، المنجية من مهاوي الرّدى، ألا ترى كيف بيّن في هذه السورة أولا تنزّهه تعالى عن توهّم الاشراك.

ثمّ بيّن سرّ إيحاء الوحي إلى الرسل، و كيفية أمرهم بانذار الناس، و دعوتهم إلى التوحيد، و تخويفهم من الشرك و زجرهم عنه، ثمّ عاد إلى بيان تعاليه عن الشرك بدلالة أفعاله و صنائعه، فبدأ بذكر صنعه

ص: 565


1- . تفسير القمي 1:382، تفسير الصافي 3:128.
2- . تفسير أبي السعود 5:98.
3- . تفسير الرازي 19:231، تفسير أبي السعود 5:98، تفسير روح البيان 5:12.
4- . في النسخة: تره عين، و ما سمعته اذن، و ما خطر.
5- . تفسير أبي السعود 5:98.

المتعلّق بمحيط العالم بقوله: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ (1). ثمّ بيّن صنعه المتعلّق بما بينهما، فبدأ بما يتعلّق بأنفس المخاطبين، ثمّ أردفه بما يتعلّق بما فيه ضرورة معايشهم، ثمّ بما يتعلّق بمنافعهم غير الضرورية، ثمّ بيّن قدرته على ما لا يحيط به علم البشر، و هذه غاية اللطف و نهاية الرحمة.

ثمّ نبّه على قدرته على إلجاء الناس إلى معرفته و توحيده و سلطنته على قلوبهم بقوله: وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ إلى توحيده و معارفه بالالجاء و الاضطرار كما تكونون مضطرين إليه في الآخرة.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ استدلّ على توحيده و قدرته بانزال المطر و إنبات النباتات بقوله: هُوَ اَلَّذِي بقدرته و حكمته أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ (2)، أو من جانب العلوّ، أو من السّحاب ماءً نافعا بالأمطار، فيحصل لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ تشربون وَ يتكوّن مِنْهُ بغير صنعكم شَجَرٌ و نبات ذو ساق أو غير ذي ساق في البراري و الجبال، و أنتم فِيهِ تُسِيمُونَ و ترعون مواشيكم، و من منافع المطر أنّ اللّه يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ من الأرض اَلزَّرْعَ الذي هو أصل أغذيتكم و عمود معاشكم وَ اَلزَّيْتُونَ الذي هو أشرف الأشجار من حيث كون ثمره إداما من وجه و فاكهة من وجه وَ اَلنَّخِيلَ الذي روي أنّها خلقت من فضل طينة آدم، و أنّها أكرم الأشجار على اللّه (3)وَ اَلْأَعْنابَ التي هي بعد النخل أنفع الأشجار، و إنما جمع الأعناب للاشارة إلى (4)كثرة أصنافها، و خصّ تلك الأنواع بالذكر للاشعار بفضلها.

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)ثمّ ذكر سائر الثّمار بنحو العموم بقوله: وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ قيل: إنّما قدّم ما هو غذاء الأنعام في الذّكر لحصوله بغير صنع البشر، أو للاشعار بفضيلة اغتداء الإنسان به رياضة للنفس، أو لكون أكثر المخاطبين أصحاب المواشي دون الزرع و البستان، أو للارشاد إلى اهتمام الناس بأمر ما تحت أيديهم أزيد من الاهتمام بأمر نفسه.

ثمّ أنّه تعالى بعد تعداد آيات وحدانيته، حثّ الناس إلى التفكّر فيها بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنزال المطر و إنبات النباتات المفصّلة و اللّه لَآيَةً عظيمة و دلالات واضحة على وجود صانع

ص: 566


1- . النحل:16/3.
2- . السماء مؤنث، و قد تذكّر.
3- . تفسير روح البيان 5:15.
4- . في النسخة: أن.

قدير و مدبّر حكيم لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و يتعقّلون غرائب الصنع و الحكم البالغة فيها، فانّ من تفكّر في أنّ الحبّة أو النواة تقع في الأرض و تصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشقّ أسفلها فتخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض، و ينشقّ أعلاها و إن كانت متنكّسة في الوقوع، و يخرج منها ساق فيسمو، و تخرج منه الأوراق و الأزهار و الحبوب و الثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال و الألوان و الطّباع و الخواصّ، و على نواة قابلة لتوليد الأمثال على النّمط المحرّر إلى غير نهاية مع اتحاد المولود و استواء نسبة الطبائع السفلية و التأثرات العلوية بالنسبة إلى الكلّ، يستدلّ على أنّ خالقها موجود لا يشبهه شيء في شيء من صفاته و كمالاته، فضلا عن أن يشاركه الجماد الذي هو أخسّ الأشياء في الوهيته و استحقاقه العبادة الذي هو أخصّ صفاته، و لمّا كان الاستدلال بتلك الأشياء محتاجا إلى ترتيب مقدّمات فكرية خصّ الاستدلال بها بأهل الفكر و التدبّر.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 12

ثمّ لمّا كان مجال توهّم استناد نزول الأمطار و نبت الزروع و الأشجار و أثمارها إلى الحركات الفلكية و اتصالات الكواكب، دفع سبحانه التوهّم بقوله: وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ و جعلهما متعاقبين لإنضاج ثماركم، و تنظيم معاشكم و غير ذلك من منافعكم و مصالحكم، كأنّهما يختلفان على حسب إرادتكم وَ سخّر اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ و جعلهما يد أبان في سيرهما و إنارتهما، و إصلاح ما يناط (1)بهما صلاحه من الموجودات التي منها بأفضل و أجمل وَ اَلنُّجُومُ في حركاتها و أوضاعها من التثليث و التربيع و الارتفاع و الانخفاض و غيرها مُسَخَّراتٌ لكم و دائرات في مصالحكم بِأَمْرِهِ تعالى و إرادته.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)و حاصل الدفع أنّ الحوادث السفلية لو كانت مستندة إلى الحركات الفلكية و الكوكبية، فلا بدّ أن تكون تلك الحركات مستندة إلى محرّك، لعدم اقتضاء الجسمية للحركة، و إلاّ لتحرّك كلّ جسم، و لا يمكن أن يكون فلك آخر، للزوم التسلسل المحال، فوجب أن تكون مستندة إلى إرادة قادر مدبر حكيم و هو اللّه تعالى.

ثمّ لمّا كانت تمامية هذا الدليل بمقدّمات عقلية، ختم سبحانه الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور و اللّه لَآياتٍ و أنواع دلالات على توحيد اللّه و عظمته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

ص: 567


1- . في النسخة: ينط.

و قيل: إنّه استدلال مستقلّ على توحيده، و ليس متمّما للدليل السابق؛ لأنّ المشركين لم يكونوا شاكّين في استناد الحوادث الأرضية من نزول الأمطار و إنبات النباتات إلى اللّه، كما قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اَللّهُ (1)و إنّما المقصود من ذكر هذا الدليل أنّ من هذا شأنه لا يجوز أن يتوهّم له شريك من الموجودات.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 13

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال بالآيات الأرضية بقوله: وَ ما ذَرَأَ و خلق لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ من الحيوانات و النباتات مسخرة لكم، أو مسخّر للّه تعالى حال كونه مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و أصنافه أو تراه مختلفا إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير و اللّه لَآيَةً و دلالة واضحة على توحيد المسخّر له لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ و يلتفتون إلى ذلك بأدنى التفات، و لا يغفلون عمّا علموا بالضرورة من العقل، فانّا نرى في حبّة من العنب طبائع مختلفة؛ لقشره طبيعة، و لعجمه طبيعة، و للحمه طبيعة، و لمائه طبيعة، بل نرى في ورقه من الورد ألوانا مختلفة مع كونها في غاية اللطافة و كون تأثير الأنجم و الأفلاك و الهواء و الماء و الشراب فيها واحدا، و الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تؤثر إلاّ أثرا واحدا، فنعلم أنّ المؤثّر في هذا الاختلاف ليس إلاّ الفاعل القادر الحكيم المختار.

وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 14

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بعجائب البحر بقوله: وَ هُوَ القادر اَلَّذِي سَخَّرَ لكم اَلْبَحْرَ و جعله تحت تصرّفكم و محلّ انتفاعكم باصطيادكم منه السمك لِتَأْكُلُوا مِنْهُ باصطياده لَحْماً طَرِيًّا و عذبا لطيفا مع كون مائه مالحا زعاقا (2)، و بالغوص فيه لأجل أن تغوصوا فيه وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً و زينة مثل اللؤلؤ و المرجان، فتخيطونها (3)بالثياب، ثمّ تَلْبَسُونَها فكأنها كانت زينة و لباسا، و محلّ انتفاعكم بالركوب و حمل الأمتعة وَ كذا تَرَى اَلْفُلْكَ و السفن مَواخِرَ و جاريات فِيهِ لتركبوها وَ لِتَبْتَغُوا من رزق اللّه، و تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ و إنعامه بالتجارة و حمل الأمتعة إلى البلدان و القرى البعيدة وَ لَعَلَّكُمْ تعرفون نعم اللّه و تَشْكُرُونَ أفضاله بالاعتراف بتوحيده و القيام بعبادته.

وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)

ص: 568


1- . العنكبوت:29/63.
2- . الزّعاق من الماء: المرّ الغليظ لا يطاق شربه.
3- . في النسخة: فتخوطونهما.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ استدلّ سبحانه بخلق الجبال و فوائدها و خلق الأنهار و السبل بقوله: وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ و جعل عليها جبالا رَواسِيَ و ثوابت كراهة أَنْ تَمِيدَ و تميل الأرض بِكُمْ و تضطرب بحيث لا تستقرّون عليها، أو التقدير لئلاّ تميد بكم وَ جعل أَنْهاراً كثيرة وَ سُبُلاً مختلفة إلى البلدان و القرى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بها إلى مقاصدكم، أو إلى توحيد جاعلها وَ جعل عَلاماتٍ و أمارات لتعيين الطرق بالنهار من جبل و منهل.

وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)و قيل: إنّ جماعة كانوا يشمّون التراب و يتعرّفون السبل (1).

وَ بِالنَّجْمِ في الليل هُمْ يَهْتَدُونَ في البراري و البحار إلى مقاصدهم. قيل: إنّ المراد جنس النجم (2)، و قيل: إنّه الثّريا و الفرقدان و بنات النعش و الجدي (3).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ الأرض فخرت و قالت: أيّ شيء يغلبني؟ فخلق اللّه الجبال فأثبتها في ظهرها أوتادا، منعتها من أن تميد بما عليها، فذلّت الأرض و أستقرّت» (2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه جعل الأئمة أركان الأرض أن تميد بأهلها» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «لو أنّ الامام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ هو الجدي لأنّه نجم لا يزول، و عليه بناء القبلة، و به يهتدي أهل البرّ و البحر» (5).

و عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «لها ظاهر و باطن، الجدي تبنى عليه القبلة، و به يهتدي أهل البرّ و البحر» (6).

و عنهم عليهم السّلام: «نحن العلامات، و النجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (7).

أقول: هذا هو الباطن.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 17 الی 21

ص: 569


1- . تفسير روح البيان 5:21. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:21.
2- . الخصال:442/34، تفسير الصافي 3:129.
3- . الكافي 1:152/1، تفسير الصافي 3:129.
4- . إكمال الدين:203/9، تفسير الصافي 3:129.
5- . تفسير العياشي 3:5/2371، تفسير الصافي 3:129.
6- . تفسير العياشي 3:6/2372، تفسير الصافي 3:129.
7- . تفسير العياشي 3:5/2369، الكافي 1:161/3، تفسير القمي 1:383، مجمع البيان 6:545، تفسير الصافي 3: 129.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال ببادئع صنعه على توحيده، أنكر على من أشرك به الأصنام بقوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ هذه المخلوقات العظيمة النافعة، أو يخلق كلّ شيء يمكن أن يكون كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا؟ لا و اللّه لا يمكن أن يتوهّم العاقل تشابها بينهما أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و لا تلتفتون إلى عدم التشابه الذي هو أوضح من كلّ واضح.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر بعض نعمه، أشار إلى عموم نعمه بقوله: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّهِ عليكم لا تُحْصُوها و لا تقدرون على تعدادها؛ لعدم إمكان إحاطتكم بجميعها لكثرتها، فانّ كلّ عرق أو عصب في-البدن و إن كان في غاية الصغر-نعمة عظيمة، بحيث لو اختّل أحدها ليتمنّى أن ينفق جميع الدنيا لإزالة ذلك الخلل، مع أنّ الشّظاظ (1)و العروق الصغار في البدن لا يمكن إحصاؤها فكيف بالنّعم الخارجية، فانّ جميع ذرات الموجودات دخيل في مصالحه من غذائه و لباسه و صحته و تكميل نفسه، و أنتم تكفرون بتلك النّعم و إِنَّ اَللّهَ مع ذلك و اللّه لَغَفُورٌ لكفرانكم و رَحِيمٌ بإدامة نعمه عليكم و عدم قطع فضله و إحسانه عنكم.

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ من كفران نعمه من توطنتكم على توهين رسوله صلّى اللّه عليه و آله و تخريب دينه و الاستهزاء بكتابه وَ ما تُعْلِنُونَ و تجهرون من عبادتكم الأصنام، و إيذاء الرسول، و صدّكم الناس عن دين الحقّ.

و قيل: إنّ وجه النّظم أنّه تعالى أثبت وحدانيته في الآيات السابقة بإثبات قدرته الكاملة، و في هذه الآية بسعة علمه.

ثمّ استدلّ على عدم قابلية الأصنام للعبادة بعجزهم و عدم شعورهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون الأصنام مِنْ دُونِ اَللّهِ و متجاوزين عنه لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً و لا يقدرون على إيجاد شيء وَ هُمْ مع ذلك يَخْلُقُونَ بتخليق الغير.

و لو تنزّلنا عن لزوم كون الإله قادرا غير عاجز، و خالقا غير مخلوق، فلا مناصّ من القول بلزوم كون الإله حيا غير ميت، و من الواضح أنّ هؤلاء الأصنام أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ قيل: إنّ المراد أنّهم أموات

ص: 570


1- . كذا، و الظاهر: الشظايا.

لا يكون عقيب موتهم حياة (1). و أيضا لا بدّ من كونه شاعرا لعبادة عابديه عالما بأحوالهم، و هؤلاء الأصنام لا يعلمون بأحوال أنفسهم وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ و في أيّ وقت يحيون و يحشرون.

و إنّما ذكر سبحانه عدم شعورهم بوقت بعثهم مع أنّهم لا يشعرون شيئا، للاشعار بأنّهم يحشرون لازدياد حسرة عابديهم على عبادتهم.

عن ابن عبّاس: أنّ اللّه يبعث الأصنام و لها أرواح و معها شياطينها، فيؤمر بها إلى النار (2).

أقول: إلقاؤها في النّار ليس لتعذيبها، لأنّه لا معصية لها، بل لتعذيب عابديها.

قيل: إنّ اللّه وصف الأصنام بالموت و عدم الشعور مع أنّ الجماد لا يوصف بهما؛ لأنّ المشركين وصفوهم بالالوهية (3)، فحسن أن يقال: ليس الأمر كذلك، بل هي أموات لا شعور لها.

و قيل: إنّ المراد أنّهم لا يشعرون أنّ عبدتهم أيّان يبعثون (4)، فكيف يكون لهم شعور بوقت جزائهم على عبادتهم؟ !

سوره 16 (النحل): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و تزييف عبادة الأصنام، أكّد توحيده في الالوهية بقوله: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إله إلاّ هو بالبراهين الساطعة و الحجج الباهرة، و إذا كان الأمر كذلك فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بوحدانية اللّه مع كمال وضوحها، إنّما هو لكونهم لا يؤمنون بِالْآخِرَةِ و لا يرجون ثواب اللّه على التوحيد، و لا يخافون عقابه على الشرك، و لذا قُلُوبُهُمْ تابعة لهوى أنفسهم، مصرّة على تقليد أسلافهم و نصرة أباطيلهم مُنْكِرَةٌ لكلّ حقّ يخالفه وَ هُمْ مع ذلك مُسْتَكْبِرُونَ عن قبول قول الغير، و مترفّعون عن طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ (23)ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: لا جَرَمَ و حقا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ و يخفون من الكيد برسوله صلّى اللّه عليه و آله، و يضمرون من التصميم على إهانة أوليائه وَ ما يُعْلِنُونَ و يظهرون من تحزيب الأحزاب و إلقاء الشّبهات في القلوب و غيرهما، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ و لا يريد لهم خيرا، و لا يدفع عنهم شرا، بل يكلهم إلى أنفسهم، ليظهر خبث ذواتهم، و يتناهى طغيانهم و كفرهم.

عن الباقر عليه السّلام، في تأويل الآية: «لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني الرجعة قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ يعني

ص: 571


1- . تفسير الرازي 20:16. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 20:16.

كافرة وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يعني عن ولاية عليّ عليه السّلام إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ يعني عن ولاية علي عليه السّلام» (1).

العياشي: مرّ الحسين بن علي عليهما السّلام على مساكين قد بسطوا كساء لهم، و ألقوا [عليه]كسرا، فقالوا له: هلمّ يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فثنى وركه فأكل معهم، ثمّ تلا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من يرى أنّ له على الآخر فضلا فهو من المستكبرين» فقيل: إنّما يرى أنّ له فضلا عليه بالعافيّة إذا رآه مرتكبا للمعاصي؟ فقال: «هيهات هيهات، فلعلّه أن يكون قد غفر له ما أتى و هو موقوف يحاسب، أما تلوت قصة سحرة موسى؟» (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 24 الی 25

ثمّ حكى سبحانه بعض شبهات المشركين بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ استهزاء بالقرآن ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ و أيّ شيء هذا القرآن الذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و تحدّى به، و جعله دليلا على رسالته، و القائل بعض المشركين. و قيل: إنّه بعض المسلمين (4). و قيل: إنّه بعض الوفد من الحاجّ، قالوا للمقتسمين الذين قعدوا في طرق مكّة لينفّروا الناس عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله (5). و المراد أنّه ما هذا الذي يقال إنّه أنزله ربكم؟

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)قالُوا إضلالا لهم: ليس هو ممّا أنزله اللّه، و لا من المعجزات، بل هو أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و أقاصيص السابقين و أباطيلهم، و إنما قالوا ذلك القول الشنيع لِيَحْمِلُوا على ظهورهم أَوْزارَهُمْ و أثقال معاصيهم كامِلَةً و بلا نقص يَوْمَ اَلْقِيامَةِ.

قيل: إنّ المعنى أنّه يكون عاقبة إضلالهم الناس أنّهم يحملون جميع أوزار أنفسهم وَ بعضا مِنْ أَوْزارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (4)لأنّ وزر مطاوعته كان عليه، فانّ الجاهل لا يعذر فيه لتقصيره في البحث و الفحص.

ثمّ ذمّ سبحانه ما يحمله بقوله: أَلا ساءَ و بئس وزرا و حملا ما يَزِرُونَ و ما يتحمّلون من الأثقال، و فيه غاية الزجر عنه.

ص: 572


1- . تفسير القمي 1:383، تفسير العياشي 3:6/2373، تفسير الصافي 3:130.
2- . تفسير العياشي 3:7/2374، تفسير الصافي 3:131.
3- . الكافي 8:128/98، تفسير الصافي 3:131. (4 و 5) . تفسير الرازي 20:18، تفسير أبي السعود 5:107.
4- . تفسير روح البيان 5:26.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ في عليّ؟ قالُوا أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ سجع أهل الجاهلية في جاهليتهم [فذلك قوله أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و أما قوله] لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ليستكملوا الكفر يوم القيامة وَ مِنْ أَوْزارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ يعني [يتحمّلون]كفر الذين يتولّونهم» (1).

و القمي رحمه اللّه: يحملون آثامهم-يعني الذين غضبوا أمير المؤمنين عليه السّلام-و آثام كلّ من اقتدى بهم (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أيّما داع دعا إلى الهدى فاتّبع، فله مثل اجورهم من غير أن ينقص من اجورهم شيء، و إيّما داع دعا إلى ضلالة فاتّبع عليه، فانّ عليه مثل أوزار من أتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم [شيء]» (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 26

ثمّ هدّد سبحانه الماكرين برسوله صلّى اللّه عليه و آله بمثل ما نزل على الامم السابقة الذين مكروا برسلهم من العذاب الدنيوي بقوله: قَدْ مَكَرَ الكفّار اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ في الدنيا برسلهم فَأَتَى اَللّهُ بزلازل شديدة بُنْيانَهُمْ الذي بنوه ليمكروا به أنبياءهم فقلعه مِنَ اَلْقَواعِدِ و الأساطين فَخَرَّ و سقط عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ الذي كان لذلك البنيان مِنْ فَوْقِهِمْ فلهكوا جميعا بحيث لم ينج منهم أحد وَ أَتاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ و من وجه لا يتوقّعون.

قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اَللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)قيل: إنّ المراد نمرود، فإنّه بنى صرحا و قصرا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع، و عرضه فرسخان، ليقابل (4)عليه من في السماء و يطّلع على إله إبراهيم، فهبّت عليه ريح هائلة فألقت رأسه في البحر، و خرّ الباقي عليهم، فلمّا سقط الصّرح تبلبلت الألسن من الفزع يومئذ، يعني اختلفت اللغات فلم يفهم أحد لسان الآخر (5).

و قيل: إنّ اللّه شبّه حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكائد و المنصوبات التي أرادوا بها الايقاع بالرسل، و في إبطاله تعالى تلك الحيل و المكائد، و جعله إيّاها سببا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانا و عمّدوه بالأساطين، فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف فهلكوا (6)،

ص: 573


1- . تفسير العياشي 3:7/2377، تفسير الصافي 3:131.
2- . تفسير القمي 1:383، تفسير الصافي 3:131.
3- . مجمع البيان 6:549، تفسير الصافي 3:131.
4- . في تفسير روح البيان: ليقاتل.
5- . تفسير روح البيان 5:27.
6- . تفسير أبي السعود 5:108.

فخوّف اللّه الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطير بأنّه سيأتيهم من العذاب مثل ما أتاهم و هم لا يحتسبون إتيانه، بل يتوقّعون ما يشتهون.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 27

ثمّ هدّدهم بالعذاب الاخروي بقوله: ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ و يذلّهم بالعذاب، أو يفضحهم على رؤوس الأشهاد بأن يخاطبهم وَ يَقُولُ لهم تفضيحا و تقريعا و استهزاء: أَيْنَ الذين هم شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ في الدنيا تُشَاقُّونَ و تخاصمون أنبيائي و أوليائي فِيهِمْ و في الوهيتهم مع أنّهم أقاموا البراهين على عدم جواز عبادتهم، فاليوم أدعوهم ليشفعوا لكم (1)، و يدفعوا العذاب عنكم؟ فلم يقدروا على الجواب، فعند ذلك قالَ الملائكة كما عن ابن عبّاس، أو المؤمنون أو الأنبياء (2)اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ بالتوحيد و المعارف في الدنيا بالبراهين و المكاشفة توبيخا عليهم و شماتة لهم و تقريرا لما كانوا يهدّدونهم به: إِنَّ اَلْخِزْيَ و الفضيحة و الهوان اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ و العذاب عَلَى اَلْكافِرِينَ باللّه و بآياته و رسله.

ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ عَلَى اَلْكافِرِينَ (27)القميّ: الذين اوتوا العلم الأئمة عليهم السّلام، يقولون لأعدائهم: أين شركاؤكم و من أطعتموهم في الدنيا (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ خصّ سبحانه المستحقّين للخزي و العذاب بالذين يموتون على الكفر بقوله: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ و تقبض أرواحهم اَلْمَلائِكَةُ الموكلون على قبض الأرواح، أو على تعذيب العصاة حال كونهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ باختيار الكفر و تعريضها للعذاب فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ و أظهروا الانقياد و أقرّوا للّه بالعبودية و قالوا كذبا و تخليصا لأنفسهم: ما كُنّا في الدنيا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ و نقول بالشرك. فقال اللّه، أو الملائكة ردّا عليهم: بَلى قلتم بالشرك و إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الشرك و تكذيب الرسل، فيجازيكم عليه أشدّ الجزاء، و لا ينفعكم هذا الكذب.

اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ (29)

ص: 574


1- . في النسخة: ليشفعوكم.
2- . تفسير الرازي 20:21.
3- . تفسير القمي 1:384، تفسير الصافي 3:132.

ثمّ يقال لهم: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي باب منها شئتم، أو كلّ فرقة منكم من باب حال كونكم خالِدِينَ فِيها غير خارجين منها أبدا فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ عن قبول التوحيد و تبعية الأنبياء.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 30

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء مقال الكفّار و سوء عاقبتهم، بيّن حسن مقال المؤمنين و حسن عاقبتهم بقوله: وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا الشرك و عصيان الرسول تفتيشا عن دين الاسلام، و تحقيقا عن حال القرآن ما ذا القرآن الذي أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على نبيّكم؟

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ (30)روي أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أمام موسم الحجّ من يأتيهم بخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فاذا جاء الوفد لقيه (1)المقتسمون الذين اقتسموا طرق مكة، و أمروه بالانصراف و قالوا: إن لم تلقه كان خيرا لك، فانّه ساحر كاهن كذاب [مجنون]. فيقول: أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن استطلع أمر محمد و أراه. فيلقى أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيخبرونه بصدقه، فذلك قوله: وَ قِيلَ أي من طرف الوافدين للذين آمنوا: ماذا أنزل ربكم؟ قالُوا: أنزل ربنا خَيْراً و كتابا حقا (2).

و يحتمل أن يكون المراد بالخير المعارف و الأحكام المؤدية إلى كلّ خير في الدنيا و الآخرة، فيكون من إطلاق المسبّب على سببه، أو من باب المبالغة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «عليكم بتقوى اللّه فانّها تجمع الخير و لا خير غيرها، و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدنيا و الآخرة [قال اللّه عزّ و جلّ] وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا إلى آخره» (3).

ثمّ بيّنوا وجه الخيرية بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في العقائد و الأعمال فِي هذِهِ اَلدُّنْيا تكون حَسَنَةٌ في الآخرة من الجنة و النعم الدائمة و الراحة الأبدية، أو المراد أنّه يكون لهم في هذه الدنيا حسنة من المدح و الثناء و التعظيم و الغلبة على الأعداء بالحجّة و الألطاف الخاصّة الإلهية و الانس باللّه و الانقطاع عمّا سواه وَ باللّه لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ و أفضل من دار الدنيا، وَ باللّه لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ دار الآخرة.

و عن الباقر عليه السّلام: «وَ لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ الدنيا» (4).

ص: 575


1- . في تفسير روح البيان: الوافد كفه.
2- . تفسير روح البيان 5:29.
3- . أمالي الطوسي:25/31، تفسير الصافي 3:133.
4- . تفسير العياشي 3:8/2383، تفسير الصافي 3:133.

و قيل: إنّ قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الى آخره، هو كلام اللّه تقريرا لقول المتقين خيرا (1).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 31 الی 32

ثمّ شرح سبحانه دار المتقين و بيّنها، قيل: كأنّه قيل: أي دار هذه الدار الممدوحة؟ فأجاب سبحانه بأنّها جنات خاصة تسمّى جَنّاتُ عَدْنٍ (2)هي وسط الجنان. و قيل: يعني جنّات إقامة و خلود (3)يَدْخُلُونَها لها قصور مرتفعة و أشجار مثمرة كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة المذكورة في سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله (4)، و لَهُمْ خاصة فِيها ما يَشاؤُنَ من المشتهيات النفسانية و الروحانية كَذلِكَ الجزاء الجزيل يَجْزِي اَللّهُ الكريم اَلْمُتَّقِينَ في الآخرة على إيمانهم و تقواهم.

جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اَللّهُ اَلْمُتَّقِينَ (31) اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)ثمّ بيّن سبحانه أنّ المراد بالمتقين هم الذين استمرّوا على التقوى إلى الموت بقوله: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ و تقبض أرواحهم اَلْمَلائِكَةُ الموكلون بقبض أرواح المؤمنين، و هم ملائكة الرحمة، حال كونهم طَيِّبِينَ و طاهرين من دنس الشرك و المعاصي، أو طيبة (5)أنفسهم بالموت، مشتاقين إلى لقاء اللّه و رضوانه، أو ببشارة الملائكة إياهم بالجنة.

و القمي قال: هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم (6)، فاذا كانوا كذلك فالملائكة يَقُولُونَ لهم تعظيما و تبشيرا: سَلامٌ من اللّه، أو منّا عَلَيْكُمْ أيّها المؤمنون، لا خوف عليكم بعد هذا اليوم من مكروه.

و قيل: إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السّلام عليك يا وليّ اللّه، اللّه يقرئك السّلام (7)، و قالت لهم [الملائكة]: إذا بعثتم في القيامة اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ فانّها معدّة لكم مشتاقة إليكم، أو قالت لهم: ادخلوا الجنة الآن بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من طاعة اللّه و ترك المعاصي.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أيّ المنزلين يصير؛ إلى الجنة أم النار، أعدوّ هو للّه أو وليّ، فان كان وليا للّه فتحت له أبواب الجنة، و شرعت له طرقها، و نظر إلى ما أعدّ اللّه [له فيها]ففزع من كلّ شغل، و وضع عنه كلّ ثقل، و إن كان عدوا للّه فتحت

ص: 576


1- . تفسير الرازي 20:24.
2- . تفسير الرازي 20:25.
3- . تفسير الصافي 3:133.
4- . سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله:47/15.
5- . في النسخة: طيبين.
6- . في تفسير القمي 1:385، تفسير الصافي 3:133.
7- . تفسير روح البيان 5:31.

له أبواب النار، و شرعت له طرقها، و نظر إلى ما اعدّ اللّه له فيها، فاستقبل كلّ مكروه و نزل كلّ شرور، و كلّ (1)هذا يكون عند الموت، و عنده يكون اليقين (2)، قال اللّه: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ الى آخره، و قال: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية» (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 33 الی 34

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية طعن المشركين في القرآن الذي هو أعظم المعجزات، و تهديدهم بالعذاب، بيّن إصرارهم على الشرك و الكفر مع عدم العذر لهم في ترك الايمان بقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ و يتوقّعون في ترك الايمان بالنبي و كتابه شيئا إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون بقبض أرواحهم، أو ليشهدوا بصدقهما أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ و عذابه، أو حكمه بنزول العذاب، مع أنّ عند أحد الأمرين لا ينفع الايمان كَذلِكَ الإصرار على الكفر و معارضة الرسول فَعَلَ الامم الكافرة اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ فابتلوا بالعذاب وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ بتعذيبهم، لأنه كان حقّهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإصرارهم على الكفر و الطغيان الموجب لنهاية استحقاقهم له فَأَصابَهُمْ و وصل إليهم سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا و جزاء ما فعلوا وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الموعود.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 35

ثمّ أنه تعالى بعد حكاية شبهتهم في النبوة و طعنهم في القرآن، حكى استدلالهم على صحة شركهم و بدعهم بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا نحن مجبورون من قبل اللّه في عقائدنا و أعمالنا، فلا يصدر منا إلاّ ما أراد اللّه و لَوْ شاءَ اَللّهُ أن لا نعبد الأصنام، و لا نحرّم السائبة و أخواتها ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فلمّا عبدنا الأصنام

وَ قالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اَللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (35)

ص: 577


1- . في أمالي الطوسي: و ترك كل سرور، كل.
2- . في النسخة: بيقين.
3- . أمالي الطوسي:27/31، تفسير الصافي 3:133، و الآية من سورة النحل:16/28.

و حرّمنا ما حرّمنا علينا، إنّه تعالى أراد منّا تلك العبادة و الحرمة.

ثمّ أبطل اللّه دليلهم بقوله: كَذلِكَ الاستدلال الذي فعل هؤلاء المشركون فَعَلَ المشركون اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ فابتلوا بالعذاب الذي هو أدلّ الدلائل على عدم رضائه تعالى بفعلهم، و قد بلّغهم الرسل ذلك فَهَلْ الواجب عَلَى اَلرُّسُلِ شيء إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و البيان الموضح للحقّ، و قد أدوا ما عليهم، و لم يكن لهم و عليهم إجبار الناس على قبول قولهم.

و اعلم أنّ الآية و أضربها أدلّ دليل على بطلان القول بالجبر كما عليه الأشاعرة، و العجب من بعضهم أنّه قال: هذا الكلام، صدر عنهم استهزاء، و لو قالوه اعتقادا لكان صوابا (1). و قال آخر منهم: لو قالوه معرفة باللّه و تعظيما له، لما كان فيه عيب (2).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 36

ثمّ أنّه تعالى بعد الاشارة إلى تبليغ الرسل بطلان الشرك و عدم رضا اللّه به، و تعذيب القائلين به، صرّح بالأمرين بقوله: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الامم رَسُولاً خاصا بهم أو عاما، كما بعثنا في هذه الامّة، و كانت رسالتهم أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده و لا تشركوا به شيئا وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ و ما يبعثكم إلى الطغيان من الشيطان، و الدّعاة إلى الشرك، و أمّا اممهم فتفرّقوا فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّهُ و وفّقهم لقبول دعوة الرسل و الإقرار بالتوحيد و نفي الأنداد وَ مِنْهُمْ مَنْ شمله الخذلان و حَقَّتْ و ثبتت عَلَيْهِ اَلضَّلالَةُ.

وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (36)عن القمي: و رسخ في قلبه الشرك فلم يتّعظ بمواعظ الرسول إلى الموت، و ابتلى كثير منهم بالعذاب (3).

فان لم تصدّقوني فَسِيرُوا أيّها الناس فِي اَلْأَرْضِ و سافروا في أطرافها فَانْظُرُوا بعين الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ للرسل و كتبهم، كي تعتبروا من مشاهدة آثار العذاب في ديارهم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 37

ص: 578


1- . تفسير روح البيان 5:32.
2- . تفسير روح البيان 5:32.
3- . لم نجده في تفسير القمي.

ثمّ بيّن سبحانه رسوخ الشرك في قلوب مشركي عصر النبيّ بقوله: إِنْ تَحْرِصْ يا محمّد عَلى هُداهُمْ و تجتهد كلّ الجهد في إيمانهم و هدايتهم، لم يفد شيئا فَإِنَّ الهداية و الضلالة بيد اللّه و اَللّهَ لا يَهْدِي إلى الحقّ مَنْ يُضِلُّ عنه بخذلانه، فيبتلون بالعذاب في الآخرة، أو فيها و في الدنيا وَ ما لَهُمْ أحد مِنْ ناصِرِينَ يدافع عنهم بشفاعة أو قوة قهرية.

ثم أنّه تعالى بعد حكاية إنكارهم التوحيد، حكى إنكارهم البعث مقسمين عليه بقوله: وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ و أغلظها، على أنّه لا يَبْعَثُ اَللّهُ من في القبور للحساب و الجزاء مَنْ يَمُوتُ في الدنيا.

قيل: إنّهم أنكروا النبوة لا دعائهم لغويّته إذا لم يكن دار جزاء، و لمّا لا تكون دار جزاء فلا يكون نبوّة (1)، فردّ اللّه عليهم بقوله: بَلى يكون دار جزاء، و يبعث اللّه من يموت البتة، لأنّه تعالى حسب حكمته وعد به وَعْداً ثابتا عَلَيْهِ إنجازه، لامتناع الخلف في وعده، و حقّ البعث عليه حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ بالبعث لجهلهم بقدرة اللّه و حكمته المقتضية لوجوبه عليه لِيُبَيِّنَ و يميّز لَهُمُ المطيع و العاصي، و المحقّ و المبطل، و الظالم و المظلوم و غيرها من الحق اَلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ و يتنازعون في شأنه وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بإنكار التوحيد و النبوة و البعث و تكذيب وعد اللّه و رسله أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كاذِبِينَ في جميع (2)ما يقولون، و في حلفهم باللّه على عدم البعث.

ثمّ استدلّ سبحانه بكمال قدرته على إمكان البعث بقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ جليل أو حقير أو عزيز أو هيّن إِذا اقتضى الصلاح وجوده و أَرَدْناهُ هو أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ و نفيض عليه الوجود فَيَكُونُ و يوجد بلا حاجة إلى مادة و مدّة و معين و آلة و دفع مانع و معارض، فمن كان نفاذ إرادته بهذه المثابة، كيف يمتنع عليه إعادة الخلق بعد إيجادهم أولا بغير مثال مع أنّ الاعادة أهون؟ .

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام أنّه قال لأبي بصير: «ما تقول في هذه الآية وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ

ص: 579


1- . تفسير الرازي 20:31.
2- . في النسخة: جمع.

أَيْمانِهِمْ قال: إنّ المشركين يزعمون و يحلفون باللّه أنّ اللّه لا يبعث الموتى. فقال: «تبا لمن قال هذا، سلهم هل كان المشركون يحلفون باللّه أم باللات و العزّى؟» .

قال: قلت: جعلت فداك، فأوجدنيه. فقال: «يا أبا بصير، لو قد قام قائمنا بعث اللّه قوما من شيعتنا (1)، سيوفهم على عواتقهم، فيبلغ [ذلك]قوما من شيعتنا لم يموتوا و يقولون: بعث فلان و فلان من قبورهم و هم مع القائم، فيبلغ ذلك قوما من عدوّنا فيقولون: يا معشر الشيعة، ما أكذبكم! هذه دولتكم و أنتم تقولون فيها الكذب؟ لا و اللّه ما عاش هؤلاء و لا يعيشون إلى يوم القيامة. [قال:]فحكى اللّه قولهم فقال: وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اَللّهُ مَنْ يَمُوتُ» (2)

و في رواية العياشي عنه عليه السّلام ما يقرب من ذلك (3).

و القمي عنه عليه السّلام أنّه قال: «ما يقول هؤلاء في هذه الآية» ؟ قيل: يقولون نزلت في الكفّار. قال: «إنّ الكفار لا يحلفون باللّه، و إنّما انزلت في قوم من أمّة محمّد قيل لهم: ترجعون بعد الموت قيل يوم القيامة، فيحلفون أنّهم لا يرجعون، فردّ اللّه عليهم فقال: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ يعني في الرجعة يردّهم فيقتلهم و يشفي صدور قوم مؤمنين» (4).

أقول: الظاهر أنّ المراد في الروايات بيان تأويل الآية، و المراد من قوله: «تبا لمن قال هذا» يعني قال بانحصار المراد فيه.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 41

ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء عقائد المشركين، أشار إلى سوء معاشرتهم للمسلمين و إيذائهم لهم، و رغّبهم في الهجرة من بلادهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا من مكة و أوطان المشركين من المسلمين فِي سبيل اَللّهِ و طلبا لرضاه، و حفظا لدينه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا و اوذوا في سبيلي لَنُبَوِّئَنَّهُمْ و لننزلنّهم فِي اَلدُّنْيا مباءة (5)و منزلة حَسَنَةً مرضيّة. قيل: هي المدينه المنورة حيث آواهم أهلها و نصروهم (6).

وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا فِي اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)روي عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في ستة نفر من الصحابة: صهيب، و بلال، و عمّار، و خبّاب،

ص: 580


1- . زاد في الكافي: قباع، و في الصافي: قبايع، و المراد جمع قبيعة: و هي ما على طرف مقبض السيف من فضّة أو ذهب.
2- . الكافي 8:50/14، تفسير الصافي 3:135.
3- . تفسير العياشي 3:9/2385.
4- . تفسير القمي 1:385، تفسير الصافي 3:135.
5- . في النسخة: مبواتا.
6- . تفسير الرازي 20:34، تفسير روح البيان 5:36.

و عابس و جبير موليين لقريش، فجعلوا يعذّبونهم ليردوهم عن الاسلام، أمّا صهيب فقال لهم: إني رجل كبير، إن كنت لكم لم أنفعكم و إن كنت عليكم لم أضرّكم، فافتدى منهم بماله، فلمّا رآه أبو بكر قال: ربح البيع يا صهيب، و أمّا سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر و الرجوع عن الاسلام، فتركوا عذابهم، ثمّ هاجروا (1).

و قيل: نزلت في المهاجرين إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة، فجمعوا بين الهجرتين (2).

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا رأى ما نزل بالمسلمين من توالي العذاب عليهم من كفّار قريش، قال لهم: «تفرّقوا في الأرض، فانّ اللّه سيجمعكم» . قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: «اخرجوا إلى الحبشة، فان بها ملكا عظيما لا يظلم عنده أحد، و هي أرض صدق، حتّى يجعل اللّه لكم فرجا ممّا أنتم فيه» . فهاجر إليها ناس ذو عدد، قيل: كانوا فوق ثمانين، مخافة الفتنة و فرارا إلى اللّه تعالى بدينهم (3).

ثمّ وعدهم بالأجر الاخروي بقوله: وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ المعدّ لهم بإزاء الهجرة أَكْبَرُ و أعظم ممّا يعجّل لهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ عظم قدر أجر الآخرة لازدادوا في الصبر و المجاهدة.

و قيل: إنّ ضمائر الجمع راجعة إلى الكفار، و المعنى: لو علم الكفّار أنّ اللّه تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدار لكفّوا عن أذاهم و وافقوهم في الدين (4).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 42 الی 44

ثمّ وصف اللّه المهاجرين و مدحهم بقوله: اَلَّذِينَ صَبَرُوا على أذى المشركين و مفارقة الوطن الذي هو حرم اللّه، و المجاهدة ببذل الأموال و الأنفس و سائر الشدائد في سبيل اللّه وَ عَلى رَبِّهِمْ اللطيف بهم خاصّة يَتَوَكَّلُونَ في جميع امورهم.

اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)ثمّ لمّا كان من شبهات المشركين في النبوة أنّ اللّه أعلى و أجلّ من أن يكون رسوله بشيرا، بل لو أراد إرسال رسول لأرسل ملكا من الملائكة، لأنّهم أشرف من البشر و إخباره أقرب إلى القبول، فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا إلى سائر الامم مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السابقة على بعثتك رسلا إِلاّ كانوا رِجالاً من البشر يأكلون و يشربون و ينكحون، و المائز بينهم و بين غيرهم أنّا نُوحِي

ص: 581


1- . تفسير الرازي 20:34.
2- . تفسير روح البيان 5:35.
3- . تفسير روح البيان 5:36.
4- . تفسير الرازي 20:34، تفسير البيضاوي 1:545، تفسير أبي السعود 5:115، تفسير روح البيان 5:36.

إِلَيْهِمْ بواسطة الملك، و قل يا محمّد لهم: إن لم تصدّقوا ذلك فَسْئَلُوا عن صدق ما أخبركم أَهْلَ اَلذِّكْرِ و العلم بأحوال الرسل الماضية و الكتب السماوية حتى تعلموا صدق ما أخبركم به إِنْ كُنْتُمْ في الواقع لا تَعْلَمُونَ بذلك.

ثمّ كأنّ قائلا قال: بما أرسل الرجال الموحى إليهم؟ فأجاب سبحانه: بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات وَ اَلزُّبُرِ و الكتب.

و قيل: إنّ الجار و المجرور متعلّقان ب(نوحي) و المعنى: نوحي إليهم بالبينات (1)من العلوم و المعارف و الأخلاق و الأحكام، و بالزّبر و الكتب السماوية. أو متعلّقان ب(تعلمون) و المعنى: إن كنتم لا تعلمون بالكتب السماوية و الدفاتر المعروفة المتضمّنة لذكر أحوال الأنبياء السابقة.

قيل: إنّهما متعلّقان ب(الذكر) و المعنى: فأسألوا أهل الذكر بالبينات و الزّبر، إن كنتم لا تعلمون بها (2).

عن الباقر عليه السّلام، قيل له: إن من عندنا يزعمون أنّ قول اللّه: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ أنّهم اليهود و النصارى؟ قال: «اذا يدعوكم (1)إلى دينهم» ثمّ أومأ إلى صدره و قال: «نحن أهل الذكر و نحن المسؤولون» (2).

و عن السجاد عليه السّلام: «على الائمة [من]الفرض ما ليس على شيعتهم، و على شيعتنا ما ليس علينا، أمرهم اللّه أن يسألونا، قال: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فأمرهم أن يسألونا، و ليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا، و إن شئنا أمسكنا» (3).

أقول: لا شبهة أنّ الآية في المحاجّة مع المشركين و إلزامهم على ما هو طريقة العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم، و المراد بالعلماء في عصر النزول هم المطّلعون على أحوال الرسل، فلا بدّ من حمل الروايتين على بيان عدم اختصاص أهل الذكر بعلماء أهل الكتاب، بل المراد عموم العلماء، و وجوب السؤال عنهم عن جميع المطالب، فلو وجب الرجوع إلى أهل الكتاب في جميع المطالب حتى الأحكام لأجابوا بأحكام دينهم و دعوكم إلى العمل بها، فالمؤمنون مأمورون بالسؤال من علماء الاسلام، و الأئمّة أظهر مصاديقهم، بل هم المتعيّنون من بينهم؛ لأنّ علمهم مأخوذ من الرسول و القرآن، و علم غيرهم مأخوذ من أفواه الرجال.

عن الرضا عليه السّلام: «قال اللّه تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اَللّهِ (4)فالذكر

ص: 582


1- . في البصائر: يدعونهم.
2- . تفسير العياشي 3:11/2391، بصائر الدرجات:61/17، تفسير الصافي 3:137.
3- . الكافي 1:165/8، تفسير الصافي 3:137.
4- . الطلاق:65/10 و 11.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نحن أهله» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «الذكر القرآن، و أهله آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (2).

أقول: يحتمل أن يكون المراد بيان شرفهم لا تفسير هذه الآية.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الرسول نفسه أهل الذكر بقوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ و القرآن الذي هو تذكرة و تنبيه للغافلين لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ كافة من العرب و العجم، و الأسود و الأبيض ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من ربّهم من العلوم و المعارف و الأحكام و أحوال الماضين، و هلاك كثير منهم بالعذاب، بتلاوة هذا الكتاب عليهم، وَ توضيحك، لمعانيه لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في مطالبه العالية من المعارف و المواعظ و العبر، و ما فيه من وجوه الإعجاز حتّى يرتدعوا عمّا هم عليه من الكفر و اللّجاج و اتّباع الشهوات، و يؤمنوا بتوحيد اللّه و صحّة نبوتك و صدق كتابك.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 45 الی 47

ثمّ هدّد المشركين الماكرين بالرسول صلّى اللّه عليه و آله الساعين في الفساد بين المسلمين بقوله: أَ فَأَمِنَ المشركون اَلَّذِينَ مَكَرُوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله المكر اَلسَّيِّئاتِ و سعوا خفية في إيذائه و إطفاء نوره من أَنْ يَخْسِفَ اَللّهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ كما خسفها بقارون لا يذائه موسى عليه السّلام أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذابُ كالصيحة و الصاعقة من السماء مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ به و لا يترقبون له أَوْ يَأْخُذَهُمْ اللّه و يأتيهم بالعذاب و هم فِي حال تَقَلُّبِهِمْ و ذهابهم و إيابهم في الأسفار و التجارة و تنظيم امور الدنيا.

أَ فَأَمِنَ اَلَّذِينَ مَكَرُوا اَلسَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اَللّهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)و قيل: يعني في حال تفكّرهم في طرق المكر و وجوه الكيد بك (3).

فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ اللّه من تعذيبهم بالهرب منه، أو التحصّن بحصن منيع، أو معارضتة بالأنصار أَوْ يَأْخُذَهُمْ بالعقوبة، و هو عَلى حال تَخَوُّفٍ و تحذّر من العذاب الذي رأوا ابتلاء قوم به فصاروا وجلين من ابتلائهم به، أو على أن ينتقصوا في أنفسهم و أموالهم شيئا فشيئا حتّى يهلكوا، و المراد من ذكر الوجوه المذكورة بيان قدرته تعالى على إهلاكهم بأيّ وجه، و لمّا كان حال التقلّب

ص: 583


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:239/1، تفسير الصافي 3:137.
2- . تفسير الصافي 3:137.
3- . تفسير الرازي 20:38.

و التخوّف معرضا للفرار، عبّر عن إصابتهم بالعذاب بالأخذ، و في غيرهما بالاتيان.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة إمهالهم و تأخير عذابهم بقوله: فَإِنَّ رَبَّكُمْ أيّها المشركون و اللّه لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة، و يمهلكم مع كمال الاستحقاق لها.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 48

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بأنواع العذاب، و كان الخوف متوقّفا على العلم بكمال القدرة، بيّن سعة قدرته، و يحتمل أن يكون وجه النظم أنّه تعالى بعد تهديد المشركين بيّن كمال قدرته و نهاية عظمته و مهابته، ازديادا للرعب في القلوب بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و التقدير على الأول: ألم يتبيّن لهم كمال قدرة اللّه و لم يروا، و على الثاني: ألم يخافوا اللّه، و لم ينظروا إِلى ما خَلَقَ اَللّهُ مِنْ شَيْءٍ له ظلّ كيف يَتَفَيَّؤُا و يرجع ظِلالُهُ و فيؤه شيئا فشيئا عَنِ اَلْيَمِينِ إلى الشمائل وَ عن اَلشَّمائِلِ حال كونهم (1)سُجَّداً و منقادين و خاضعين لِلّهِ مقهورين لإرادته وَ هُمْ داخِرُونَ و صاغرون و مذلّلون تحت مشيئته، و إنّما أضاف سبحانه الظلال إلى ضمير المفرد مع أنّ المراد ذوي الظلّ و هي كثيرة اعتبارا بلفظ الشي، كما أنّ توصيف الظلال بالجمع و إرجاع ضمير الجمع إليه اعتبارا بمعنى الظلال، و هو كثير.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اَللّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ (48)و قيل: إنّ المراد باليمين يمين الفلك، و هو المشرق، لكونه أقوى الجانبين (2)منه؛ لأنّ منه تظهر الحركة القوية للفلك، فاذا طلعت الشمس حدث لكلّ شيء قائم على وجه الأرض ظلّ في طرف المغرب، و هو شمال الفلك، فكأنّه رجع من اليمين الى الشمال، فكلّما ارتفعت الشمس ينقص ذلك الظلّ و يرجع شيئا فشيئا إلى أن تبلغ وسط الفلك، فحينئذ ينعدم من الطرف، و يحدث أو يرجع في طرف المشرق، و هو معنى (عن الشّمائل) ثمّ يزداد شيئا فشيئا، فالرجوع من طرف اليمين واحد، و هو حدوث الظلّ في أوّل طلوع الشمس أو أوّل الزوال، و من طرف الشمال كثير باعتبار نقاط الأرض حين النقص، و لذا أفرد لفظ اليمين و جمع الشمال، و لعلّ إلى ما ذكرنا يرجع ما قيل من أنّ إفراد لفظ اليمين لأنّ نقطة مشرق الشمس واحدة، و أمّا الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على وجه الأرض، و هي كثيرة (3).

و قيل: إنّ لكلّ شيء يمينا و شمالا، و هما جانباه، استعارة من يمين الانسان و شماله، و ذكر اليمين

ص: 584


1- . في النسخة: كونها.
2- . تفسير الرازي 20:41.
3- . تفسير الرازي 20:42.

مفردا و الشمال جمعا، لأنّ العرب إذا ذكرت صيغتي الجمع عبّرت عن أحدهما بلفظ المفرد (1).

و أمّا سجود الأظلال فهو انقيادها و استسلامها لإرادة اللّه المتعلّقة بحركات الشمس موافقة للحكمة و حسن النظام. و قيل: إنّه انبساطها على وجه الأرض ملتصقة بها كهيئة الساجد (2). و لذا قيل: ظلّك يسجد اللّه و أنت لا تسجد له (3).

و أمّا إرجاع ضمير العقلاء إليها مثل: (هم) و (الواو و النون) فلاسناد فعل العقلاء إليها، و يمكن أن يكون بلحاظ أنّ جميع الموجودات في نظره تعالى شاعرون عاقلون، و إن كانوا في نظر الظاهر غير شاعرين.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر سجود الظلال لعظمته، ذكر سجود الحيوانات و الملائكة له بقوله: وَ لِلّهِ العظيم وحده يَسْجُدُ و يخضع ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ.

وَ لِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)ثمّ بيّن أنّ المراد بما في الأرض بقوله: مِنْ دابَّةٍ و كلّ ما يتحرّك على وجه الأرض، كما عن ابن عبّاس (4).

ثمّ بيّن المراد بما في السماوات بقوله: وَ اَلْمَلائِكَةُ.

و قيل: إنّ المراد من الدابة كلّ ما يتحرّك بالإرادة (5)فيشمل الملائكة.

و قيل: إنّ المراد بما في السماوات جميع ما خلق فيها. و على القولين يكون ذكر الملائكة من باب ذكر الخاص بعد العام إظهارا لشرفهم و فضلهم.

و قيل: إنّ المراد بما في السماوات الخلق الذي يقال له الروح، و المراد من الملائكة جميعهم (6).

و قيل: إنّ المراد من ما فِي اَلسَّماواتِ ملائكة السماوات، و من اَلْمَلائِكَةُ المذكور في الآية ملائكة الأرض كالحفظة و غيرهم (7).

وَ هُمْ مع عظم خلقهم و علوّ شأنهم و رفعة مقامهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن السجود للّه و غاية الخضوع له و يَخافُونَ رَبَّهُمْ و مليكهم الذي هو مِنْ فَوْقِهِمْ بالقهر و الغلبة خوف المهابة و الإجلال.

ص: 585


1- . تفسير روح البيان 5:40.
2- . تفسير الرازي 20:43، تفسير أبي السعود 5:118.
3- . تفسير الرازي 20:43.
4- . تفسير الرازي 20:44.
5- . تفسير روح البيان 5:41. (6 و 7) . تفسير أبي السعود 5:119.

و قيل: يعني يخافون ربّهم من أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم (1). و على التقديرين هو تقرير لقوله: من يخاف اللّه لا يستكبر عن عبادته.

وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ به من الطاعات و التدبيرات، و إنما لم يذكر الآمر و هو اللّه لمعلوميته، و لإظهار العظمة و الجلالة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ للّه ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم اللّه إلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة اللّه، لا تقطر من دموعهم قطرة إلاّ صارت ملكا، فاذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم و قالوا: ما عبدناك حقّ عبادتك» (2).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 51

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده، و بيان عظمته و قدرته و مهابته، نهى عن الشرك بقوله: وَ قالَ اَللّهُ لجميع العقلاء بلسان جميع رسله و دلالة آيات توحيده لا تَتَّخِذُوا مع اللّه إلها آخر، فيكون مختاركم في العبادة إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ بداهة كون التعدّد و التثنّي منافيا للالوهية التي لا تكون إلا لواجب الوجود الذي يمتنع أن يجامع الحدود التي هي تلازم الاثنينية، فإذا ثبت ذلك فالهكم و معبودكم بالاستحقاق إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له و لا ندّ، فاذا علمتم أيّها الناس توحيدي و قدرتي و عظمتي و عدم رضاي بالاشتراك، إن كنتم راهبين من شيء فَإِيّايَ خاصة فَارْهَبُونِ لعدم قدرة أحد على الاضرار على أحد مع سلطنتي في عالم الوجود و قاهريّتي على جميع الممكنات، و إنما عدل سبحانه من الغيبة إلى الحضور لتربيتة المهابة في القلوب.

وَ قالَ اَللّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ (51)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 52 الی 55

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير الوهيّته و عظمته بقوله: وَ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ خلقا و تدبيرا و سلطانا وَ لَهُ اَلدِّينُ و الطاعة و الانقياد واصِباً و واجبا كما عن الصادق عليه السّلام (3)، أو دائما أو ثابتا (4).

وَ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلدِّينُ واصِباً أَ فَغَيْرَ اَللّهِ تَتَّقُونَ (52) وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

ص: 586


1- . تفسير الرازي 20:45، تفسير البيضاوي 1:546، تفسير أبي السعود 5:119.
2- . مجمع البيان 6:562، تفسير الصافي 3:139.
3- . تفسير العياشي 3:13/2396، تفسير الصافي 3:140.
4- . تفسير الرازي 20:49، تفسير أبي السعود 5:120، تفسير روح البيان 5:42، و فيه: واجبا ثابتا.

و قيل: إنّ له الدين ذا كلفة، أو له الجزاء الذي لا انقطاع له (1)أَ فَغَيْرَ اَللّهِ بعد تقرير الشؤون المذكورة له تَتَّقُونَ و تطيعون.

ثمّ أكدّ استحقاقه الطاعة و العبادة بقوله: وَ ما أحاط بِكُمْ أو يكون لكم شيء مِنْ نِعْمَةٍ أيّ نعمة كانت فَمِنَ فضل اَللّهِ هي لا من غيره.

عن الصادق عليه السّلام: «من لم يعلم أنّ للّه عليه من نعمة [إلاّ]في مطعم أو ملبس، فقد قصر عمله و دنا عذابه» (2).

ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ أقل مساس فَإِلَيْهِ تعالى خاصه تَجْئَرُونَ و تتضرعون في كشفه عنكم، و به تستغيثون بصوت عال لخلاصكم منه.

ثُمَّ إِذا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ بعد تضرّعكم إليه إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ و مالكهم اللطيف بهم يُشْرِكُونَ مع أنّ ترتيب الشرك الذي هو أبغض عنده من كلّ سوء على إنعامه عليهم بالنّعم الكثيرة و إعانتهم في كشف الضرّ غاية الكفران و نهاية القباحة، بل كأنّهم لشقاقهم معنا اختاروا الشرك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النّعم و كشف الضرّ.

ثمّ هدّدهم على كفرانهم بقوله: فَتَمَتَّعُوا أيّها الفرقة الكافرة، و انتفعوا باللذائذ الدنيوية أياما قليلة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ سوء عاقبة كفرانكم، و هو ابتلاؤكم بأشدّ العذاب، و في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب أذان بغاية السّخط، و تأكّد الوعيد المنبئ عن الأخذ الشديد.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 56 الی 57

ثمّ ذمّهم على كفرانهم الآخر المشعر بغاية سفههم بقوله: وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ حقيقته و قدره الخسيس من الجمادات التي اتّخذوها شركاء للّه، أو لا يعلمون الوهيته، أو لا يعلمون في عبادته نفعا و لا ضرا، أو لا يعلمون له حقا نَصِيباً و سهما مِمّا رَزَقْناهُمْ و أنعمنا عليهم من الزرع و الأنعام تقربا إليه تَاللّهِ لَتُسْئَلُنَّ أيّها السّفهاء يوم القيامة سؤال توبيخ و تقريع عَمّا كُنْتُمْ في الدنيا تَفْتَرُونَ على اللّه من قولكم بأنّه اتّخذ الأصنام شركاء لنفسه، و رضي بالتقرب إليها.

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ اَلْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57)ثمّ ذكر سبحانه كفرانهم الآخر بقوله: وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ اَلْبَناتِ و يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه، و هم

ص: 587


1- . تفسير البيضاوي 1:547، تفسير أبي السعود 5:119 و 120.
2- . تفسير القمي 1:381، تفسير الصافي 3:140.

خزاعة و كنانة على ما قيل (1). و القمي: هم قريش (2).

ثمّ نزّه سبحانه ذاته المقدسة عن ذلك بقوله: سُبْحانَهُ و تقدّس من تلك النسبة، و قيل: إنّ المراد منه إظهار التعجّب من هذا القول الشنيع (3).

ثمّ كأنّه قال سبحانه: كيف يجعلون للّه البنات اللاتي هم يكرهونهنّ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ من البنين؟ !

سوره 16 (النحل): آیه شماره 58 الی 59

ثمّ بيّن سبحانه شدّة كراهتهم لهنّ بقوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى و أخبر بولادتها له ظَلَّ و صار أو دام نهاره كلّه وَجْهُهُ مُسْوَدًّا من شدّة الغمّ و تشويش الخاطر و الحياء من النّاس وَ هُوَ كَظِيمٌ و مملوء غيظا على امرأته لأجل ولادتها، هذا حاله، و أمّا عمله فهو أنّه يَتَوارى و يختفي مِنَ اَلْقَوْمِ الذي هو فيهم مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ.

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)قيل: كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطّلق بامرأته توارى و اختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرا ابتهج به، و إن كان انثى حزن و لم يظهر للناس أياما، يدبّر فيها أنه ما يصنع بما ولد له (4)أَ يُمْسِكُهُ و يبقيه عَلى هُونٍ و إذلال له.

عن ابن عبّاس: معناه أنّه يمسكها مع الرضا بهوان نفسه و على رغم أنفه (5).

أَمْ يَدُسُّهُ و يستره فِي اَلتُّرابِ قيل: إنّ العرب (4)كانوا يحفرون حفيرة و يجعلونها فيها حتى تموت (7).

و روي أن قيس بن عاصم قال: يا رسول اللّه، إنّي واريت ثماني بنات في الجاهلية؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أعتق عن كلّ واحدة منهنّ رقبة» (8).

ثمّ أعلن سبحانه نسبة البنات إليه مع أبائهم عن نسبتها إلى أنفسهم بقوله: أَلا تنبهوا أيّها العقلاء

ص: 588


1- . تفسير الرازي 20:54، تفسير أبي السعود 5:121، تفسير روح البيان 5:43.
2- . تفسير القمي 1:386، تفسير الصافي 3:140.
3- . تفسير أبي السعود 5:131. (4 و 5) . تفسير الرازي 20:55.
4- . و أد البنات ليست من العادات المتفشية عند جميع عرب الجاهلية، بل هي خاصة بمضر و خزاعة و تميم دون باقي القبائل. راجع: تفسير القرطبي 10:117. (7 و 8) . تفسير الرازي 20:55.

أنه ساءَ ما يَحْكُمُونَ به من أنّ للّه البنات اللاتي هذا محلهنّ عندهم، و اختيار البنين لأنفسهم.

[سوره 16 (النحل): آیه شماره 60]

ثمّ لمّا كان الاحتياج إلى الولد من صفات الممكنات، نبّه على مباينة صفاته تعالى لصفات خلقه بقوله: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ و الصفات الامكانية الذميمة من الحاجة إلى الولد و الفرح بالذكور و كراهة البنات وَ لِلّهِ الواجب الوجود اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى من مثل الممكنات و الصفة الفائقة على صفات الكائنات من وجوب الوجود الملازم للكمال من جميع الجهات و التنزّه عن الحاجة إلى الولد و عن سائر النقائص وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء، القادر على إنفاذ إرادته اَلْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلاّ ما هو الأصلح، فيجازيهم على أحكامهم السيئة و أعمالهم القبيحة حسب استحقاقهم و شناعة أعمالهم.

لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ وَ لِلّهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (60)

[سوره 16 (النحل): آیه شماره 61]

ثمّ بيّن اللّه تعالى تفضّله عليهم بتأخير عذابهم مع غاية استحقاقهم له بقوله: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِظُلْمِهِمْ و يعاقبهم على كفرانهم و عصيانهم في الأرض ما تَرَكَ عَلَيْها شيئا مِنْ دَابَّةٍ و متحرّك بالإرادة، أمّا الانسان فبظلمه (1)، و أمّا سائر الحيوانات فلأنّها خلقت للانسان، فإذا هلك الانسان فلا فائدة في وجود الحيوانات، أو لأنّ الانسان إذا هلك انقطع المطر و النبت.

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (61)عن أبي هريرة: أنّه سمع رجلا يقول: الظالم لا يضرّ إلاّ نفسه فقال: لا و اللّه، بل إنّ الحبارى (2)لتموت في وكرها بظلم الظالم (3).

و عن ابن مسعود: أنّه قال: كاد الجعل (4)يهلك في جحره بذنب ابن آدم (5). وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ و يمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و انقضاء العمر المقدّر لهم، ليتوالدوا و يخرج من أصلابهم الذراري

ص: 589


1- . في النسخة: فيظلمهم.
2- . الحبارى: طائر طويل العنق رمادي اللون على شكل الإوزة.
3- . تفسير الرازي 20:59، تفسير أبي السعود 5:122، تفسير روح البيان 5:45.
4- . الجعل: حشرة كالخنفساء تكثر في المواضع الندية.
5- . تفسير الرازي 20:59، تفسير أبي السعود 5:122، تفسير روح البيان 5:45.

الذين اقتضت الحكمة وجودهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمّى، و انقضاء عمرهم المقدّر، و بلغ وقت هلاكهم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً، و دقيقة وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أكّد سبحانه ذمّهم بقوله: وَ يَجْعَلُونَ و يثبتون لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم من الشريك و البنات وَ مع ذلك تَصِفُ و تقول أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ و هو قولهم: أَنَّ لَهُمُ العاقبة اَلْحُسْنى من الجنّة و النّعم، إن كان حشر في الآخرة. و قيل: هذا قول المقرّين بالبعث (1).

وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ اَلْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)ثمّ ردّهم اللّه بقوله: لا جَرَمَ و حقا أَنَّ لَهُمُ في الآخرة اَلنّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ و متروكون أو منسيون فيها، أو معجّلون إليها.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غاية جهل هذه الامّة، أخذ في تسليّة نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا كثيرة إِلى أُمَمٍ كثيرة مِنْ قَبْلِكَ كما أرسلناك إلى هذه الامّة، فدعوهم إلى دين الحقّ كما دعوتهم إليه فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة من إنكار التوحيد و النبوة و المعاد و تكذيب الرسل و الاستهزاء بهم، و لذا لم يجيبوا الرسل، و ثبتوا على ما هم عليه بتسويل الشيطان فَهُوَ وَلِيُّهُمُ و قرينهم أو مطاعهم اَلْيَوْمَ الذي يكذّبون الرسل أو يدعوهم النبيّ إلى دينه، و المعنى: زيّن الشيطان أعمال الكفّار في الأعصار السابقة في نظرهم، و هو وليّ الكفّار في عصرك، أو المراد من اليوم الدنيا أو القيامة وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 64 الی 65

ثمّ أنه تعالى بعد تهديد الكفّار بيّن تمامية الحجّة عليهم بإنزال القرآن بقوله: وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ العظيم لغرض من الأغراض إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد و النبوة و المعاد و الحلال و الحرام وَ ليكون هُدىً لهم من الضلالة وَ رَحْمَةً و سببا للفوز بالمقامات

وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَ اَللّهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

ص: 590


1- . تفسير الرازي 20:60.

العالية الانسانية و الدرجات الرفيعة في الجنّة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ القرآن العظيم رافع للاختلاف، و كان من أعظم ما أختلف فيه هو التوحيد، شرع في الاستدلال عليه بقوله: وَ اَللّهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها و أنبت به فيها أنواع النبات بعد يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنزال المطر و إحياء الأرض و اللّه لَآيَةً و دلائل واضحة لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ تلك الدلائل سماع تدبّر و إنصاف.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 66

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بعجائب أحوال الحيوانات بقوله: وَ إِنَّ لَكُمْ أيها الناس فِي اَلْأَنْعامِ الثلاثة (1)و اللّه لَعِبْرَةً و دلالة مؤدّية إلى العلم بالحقّ، و هي أنّا نُسْقِيكُمْ و نشربكم مِمّا فِي بُطُونِهِ و بعض ما في أجوافه مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ و سرجين وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً صافيا من أجزائهما و أوصافهما و سائِغاً و سهل المرور في الحلق لِلشّارِبِينَ قيل: خلق اللّه اللّبن في مكان وسط بين مكان الفرث و مكان الدم (2).

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ (66)و عن ابن عبّاس: إذا استقرّ العلف في الكرش صار أسفله فرثا، و أعلاه دما، و أوسطه لبنا، فيجري الدم في العروق، و اللّبن في الضّرع، و يبقى الفرث كما هو، و ذلك هو قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً لا يشوبه الدم و لا الفرث (3).

قيل في توجيهه: إنّ اللّبن يكون من صافي الغذاء و العلف المنجذب إلى الكبد، فبعد تصرّف الكبد فيه يجري إلى الضّرع مقدار منه فيصير لبنا، و الزائد عليه يجري في الأوردة (4).

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ليس أحد يغصّ بشرب اللّبن؛ لأنّ اللّه عز و جلّ يقول: لَبَناً خالِصاً سائِغاً» (5).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهمّ بارك لنا فيه، و أطعمنا خيرا منه. و إذا شرب لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه و زدنا منه، فانّي لا أعلم شيئا أنفع في الطعام و الشراب منه» (6).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 67

وَ مِنْ ثَمَراتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

ص: 591


1- . و هي الإبل و البقر و الضأن.
2- . تفسير روح البيان 5:48.
3- . تفسير الرازي 20:64/المسألة الثالثة.
4- . تفسير البيضاوي 1:549.
5- . الكافي 6:336/5، تفسير الصافي 3:142.
6- . تفسير روح البيان 5:48.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بعجائب حالات النباتات و منافعها بقوله: وَ مِنْ ثَمَراتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنابِ نسقيكم و نطعمكم، حيث إنّكم تَتَّخِذُونَ مِنْهُ لانتفاعكم سَكَراً و خمرا.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّها نزلت قبل آية التحريم فنسخت بها (1)» . و قيل: إنّها لا تدلّ على حلّيته، لأنّ الخطاب للمشركين، و كان الخمر من أشربتهم (2)، بل أشار سبحانه إلى حرمته بقوله: وَ رِزْقاً و طعاما حَسَناً من الربّ (3)و الخلّ و الدّبس و غيرها، فإنّ توصيف الرزق بالحسن في مقابل السّكر مع كونه حسنا عند العرب بمقتضى الشهوة، يدلّ على عدم كون السّكر حسنا بحسب الشرع.

و قيل: إنّ المراد بالسّكر الخلّ، و عليه القمّي (4)و قيل: إنّ المراد به مطلق الطعام (5).

ثمّ لمّا ذكر تلك النّعم التي يكون كلّ واحد منها دليلا قاطعا على توحيده، حثّ العقلاء على التفكّر فيها بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً عظيمة و دلالة واضحة على التوحيد لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنّهم إذا التفتوا إليها، علموا بالضّرورة أنّ المدبّر ليس إلاّ الواحد الحكيم القدير.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 68 الی 69

ثمّ استدلّ سبحانه بعجائب حالات النحل و إخراج العسل منها، و هو مركّب من عجائب الحيوان و النبات بقوله: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ و زنبور العسل، بأن ألهمها و علّمها و قرّر في نفسها أَنِ اِتَّخِذِي لنفسك مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً و مساكن تأوي إليها وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ و يرفعونه من الأرض من كرم أو سقف أو جدار.

وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)و قيل: كلّ ذباب في النّار إلاّ ذباب العسل (6). و إنّما سمّيت نحلا لأنّ اللّه تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج منها، و من عجائبها أنّها تبني بيوتا مسدّسة متساوية الأضلاع لا يزيد بعضها على بعض بحيث لا يبقى بينها فرج خالية، و لو كانت مشكّلة بغيرها لبقيت بينها بالضّرورة فرج خالية ضائعة.

ص: 592


1- . تفسير العياشي 3:14/2399، تفسير الصافي 3:142.
2- . تفسير الرازي 20:68.
3- . الربّ: عصارة التمر و العنب المطبوخة.
4- . تفسير القمي 1:387، تفسير الصافي 3:142.
5- . تفسير الرازي 20:68، تفسير البيضاوي 1:550، تفسير أبي السعود 5:125.
6- . تفسير روح البيان 5:50.

ثمّ أنه تعالى بعد بيان مسكنها بيّن مأكولها بقوله: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ التي عندك من الحلو و الحامض، فتأكل الأجزاء اللطيفة الحلوة الواقعة على أوراق الأشجار و الأزهار، و تمصّ الثمرات الرطبة و الأشياء العطرة، فيوحي إليها أنّك إذا أكلت الثّمار في المواضع البعيدة من بيوتك فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ و الطّرق التي ألهمك الرجوع فيها إلى بيوتك التي في الجبال و الشجر و غيرهما، حال كون تلك السّبل ذُلُلاً و سهلة السلوك فيها بلا اشتباه و لا انحراف، و في ذكر ربك و إضافة السّبل إليه إشعار بأنّه لو لا تربيته تعالى لما اهتديت إليها.

ثمّ بيّن اللّه تعالى نتيجة الالهامات بقوله: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها بالقئ شَرابٌ و عسل مائع مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ حسب الاختلاف بين النحل كما قيل، فالشابّ منها يقيء الأبيض، و كهلها يقيء الأصفر، و شيبها تقيء الأحمر (1)، و قد يكون الاختلاف بسبب اختلاف لون مأكولها، و خاصيّته أن فِيهِ شِفاءٌ عظيم لِلنّاسِ و برء من الأوجاع التي يعرف شفاؤها منه.

و قيل: هو إما شفاء بنفسه كالأمراض البلغمية، و إما مع غيره كما في سائر الأمراض، إذ قلما معجون إلاّ و العسل جزء منه (2).

و قيل: إنّه بنفسه أو مع الخلط بالأدوية الحارة شفاء للأمراض البلغمية، و مع الخلط بالحوامض شفاء للأمراض الصفراوية، و مع الخلط بالأدهان شفاء للأمراض السوداوية، و عن (اعتقادات الصدوق) اعتقادنا في العسل أنّه يشفي الأمراض البلغمية (3).

أقول: عليه يكون تنوين الشّفاء للتنكير، و فيه أنّ الظاهر من كونه تعالى في مقام مدحه أنّه تعالى جعله بالخاصية شفاء لجميع الأمراض كالتربة الحسينية، و لا ينافي ذلك عدم ظهور هذا الأثر منه كثيرا؛ لأنّه من باب المقتضي الذي يجتمع مع ألف مانع، كما لا يحصل الشفاء من التربة المباركة في بعض الموارد.

روي أنّ رجلا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ أخي قد اشتكى بطنه؟ فقال: «اسقه عسلا» فسقاه [عسلا]فما زاده إلاّ استطلاقا، فعاد إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فذكر له ذلك، فقال: «اسقه عسلا» فسقاه ثانيا فما زاده إلاّ استطلاقا، فرجع فقال: يا رسول اللّه، [سقيته]فما نفع؟ فقال: «اذهب فاسقه عسلا، فقد صدق اللّه و كذب بطن أخيك» فسقاه فشفاه اللّه (4)، الخبر.

ص: 593


1- . تفسير روح البيان 5:52.
2- . تفسير البيضاوي 1:550، تفسير أبي السعود 5:126، تفسير روح البيان 5:52.
3- . باب 44 من اعتقاداته و الاحاديث الواردة في الطب.
4- . تفسير الرازي 20:73، تفسير روح البيان 5:53.

و في الحديث: «أنّ اللّه جعل الشفاء في أربعة: الحبّة السوداء، و الحجامة، و العسل، و ماء السماء» (1).

و جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و شكا إليه سوء الحفظ، فقال: «أترجع إلى أهل؟» قال: نعم. فقال: «قل لها تعطيك من مهرها درهمين عن طيب نفس، فاشتربهما لبنا و عسلا، و اشربهما مع شربة من ماء المطر على الرّيق ترزق حفظا» (2).

و عنه عليه السّلام: «لعق العسل شفاء من كلّ داء، ثمّ تلا هذه الآية، و قال: «هو مع قراءة القرآن و مضغ اللّبان -و هو الكندر-يذيب البلغم» (1).

و عنه عليه السّلام: «ثلاثة يزدن في الحفظ، و يذهبن بالبلغم» و ذكر هذه الثلاثة (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إن يكن في شيء شفاء، ففي شرطة الحجّام، أو في شربة عسل» (3).

و القمي: عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآية: «نحن و اللّه النّحل الذي أوحى اللّه إليه (4)أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً أمرنا أن نتّخذ من العرب شيعة وَ مِنَ اَلشَّجَرِ يقول من العجم وَ مِمّا يَعْرِشُونَ يقول من الموالي و الذي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي العلم الذي يخرج منّا إليكم» (5).

و عنه عليه السّلام أيضا: «النّحل: الأئمّة، و الجبال: العرب، و الشجر: الموالي عتاقة (6)، و مما يعرشون: الأولاد و العبيد ممّن لم يعتق و هو يتولّى اللّه و رسوله و الأئمّة، و الشراب المختلف ألوانه: فنون العلم الذي قد يعلّم الأئمة شيعتهم، فيه شفاء للنّاس [يقول: في العلم شفاء للناس]و الشيعة هم النّاس، و غيرهم اللّه أعلم بهم ما هم، و لو كان كما يزعم أنّه العسل الذي يأكله الناس، إذا ما أكل منه و ما شرب ذو عاهة إلاّ شفي، لقول اللّه تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ و لا خلف لقول اللّه، و إنّما الشفاء في علم القرآن لقوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ [لِلْمُؤْمِنِينَ (7)فهو شفاء و رحمة]لأهله لا شكّ فيه و لا مرية، و أهله أئمّة الهدى الذين قال اللّه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» (8).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من أمر النحل لَآيَةً و حجّة واضحة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في دقائق صنعه.

ص: 594


1- . الخصال:623/10، الكافي 6:332/2، تفسير الصافي 3:143.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:38/111، تفسير الصافي 3:143.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:35/83، تفسير الصافي 3:143.
4- . في المصدر: التي أوحى اللّه إليها.
5- . تفسير القمي 1:387، تفسير الصافي 3:144.
6- . المولى عتاقة: الذي اعتق من الرقّ.
7- . سورة الاسراء 17:82.
8- . تفسير العياشي 3:15/2402، تفسير الصافي 3:144، و الآية من سورة فاطر 35:32.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 70

ثمّ استدلّ بخلقة الانسان بقوله: وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ و أوجدكم ثُمَّ بعد مدّة من التعيّش يَتَوَفّاكُمْ و يميتكم على اختلاف أعماركم، فمنكم من يموت في الصّغر وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ و أخسّه و هو الهرم الذي يعود الانسان فيه إلى حال الصّغر من ضعف البدن و القوى و العقل و الفهم.

قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعالَمِينَ (70)عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال: «أرذل العمر خمس و سبعون سنة» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام: «إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر» (2).

أقول: لعلّ الاختلاف من جهة اختلاف الأشخاص.

لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ كثير شَيْئاً من العلم أو المعلومات، و قيل: يعني لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا (3).

عن القمي: إذا كبر لا يعلم ما علمه قبل ذلك (4)إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعماركم قَدِيرٌ على إبقاء الهرم الفاني و إماتة الشابّ القويّ النّشط، و لو كان ذلك بمقتضى الطبائع لما بلغ التفاوت هذا المبلغ.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 71

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر تفاوت الآجال ذكر كثرة تفاوت أرزاق الناس بقوله: وَ اَللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ آخر فِي اَلرِّزْقِ و النّعم الدنيوية، حيث إنّكم ترون العاقل الكيّس الفطن في جميع الامور يجتهد مدّة عمره، و يدبّر في طلب القليل من الدنيا، و لا يتيسّر له، بل يعيش في غاية العسرة، و الجاهل الغبيّ تقبل عليه النّعم و تنفتح عليه أبوابها، و يحصل له كلّما أراد في الحال بأيسر وجه، و لو كان المؤثّر في ازدياد الرزق العقل و التدبير و الجهد، لكان الأمر بالعكس.

وَ اَللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي اَلرِّزْقِ فَمَا اَلَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اَللّهِ يَجْحَدُونَ (71)فعلم أنّ التفاوت بتقدير العزيز العليم، كما قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا (5)فاذا علم أنّ الرازق هو اللّه فَمَا اَلَّذِينَ فُضِّلُوا في الرزق على غيرهم بِرَادِّي معطي رِزْقِهِمْ و ما أعطاهم اللّه من النّعم عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من العبيد و الإماء، بل كلّ من المالك

ص: 595


1- . مجمع البيان 6:574، تفسير الصافي 3:144.
2- . تفسير القمي 2:79، تفسير الصافي 3:144.
3- . تفسير أبي السعود 5:127.
4- . تفسير القمي 1:387، تفسير الصافي 3:145.
5- . الزخرف 43:32.

و المملوك يرتزقون من رزق اللّه فَهُمْ جميعا من المالك و المملوك في الارتزاق برزق اللّه و تقديره فِيهِ سَواءٌ كلّ يرزق رزقه المقدّر له، و إنّما الفرق في مجراه؛ فمجرى رزق المالك ملكه، و مجرى رزق المملوك يد مالكه، فلا يحسبنّ الملاّك أنّهم رزاق مماليكهم.

و قيل: إنّ المقصود توبيخ الملاّك، و المعنى فلم لا يردّ الموالي فضل رزقهم على مماليكهم حتى يتساووا في المطعم و الملبس.

عن أبي ذرّ، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تكتسون (1)، و أطعموهم ممّا تطعمون» قال: فما رأى بعد ذلك عبد أحد إلاّ ورداءه كردائه و إزاره كإزاره (2).

و قيل: إنّ الآية ردّ على عبدة الأصنام (3)، حيث جعلوها شركاء للّه و سوّوا بينه و بينها، و تقريره أنّ اللّه فضّل الملاك على مماليكهم، بحيث لا يقدر المملوك على ملك مع مولاه، و لا تجعلون عبيدكم معكم سواء في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات مع اللّه سواء في العبودية، فالمعنى فما الذين فضّلوا بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكونوا مع عبيدهم في الملك و الرزق سواء.

عن ابن عباس: نزلت في نصارى نجران حيث قالوا: عيسى ابن اللّه، فالمعنى أنّكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولدا لي و شريكا في الالوهية؟ ! (4)

ثمّ لمّا كان الشرك يلازم إسناد النّعم إلى ما أشركوه من عيسى أو الأصنام، أنكر عليهم ذلك بقوله: أَ فَبِنِعْمَةِ اَللّهِ يَجْحَدُونَ و يكفرون.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 72

ثمّ استدلّ سبحانه بخلق الأزواج و الأولاد بقوله: وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ و من جنسكم أَزْواجاً لتسكنوا إليها، و تأنسوا بها.

وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اَللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)عن القميّ: يعني خلق حوّاء من آدم (5).

وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً قيل: هم الأختان (6). و قيل: هم أولاد الأولاد (7). و قيل: هم الأعوان و الخدم من قبل الزوجة فيشمل الكلّ (6).

ص: 596


1- . في جوامع الجامع: تلبسون.
2- . جوامع الجامع:246، تفسير الصافي 3:145.
3- . تفسير الرازي 20:79/القول الثاني.
4- . تفسير الرازي 20:79.
5- . تفسير القمي 1:387، تفسير الصافي 3:146. (6 و 7) . تفسير أبي السعود 5:128.
6- . تفسير الرازي 20:81.

و عن الصادق عليه السّلام: بَنِينَ وَ حَفَدَةً قال: «هم الحفدة، و هم العون [منهم]يعني البنين» (1).

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى قال: «الحفدة بنو البنت، و نحن حفدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (2).

و عنه أيضا: «هم أختان الرجل على بناته» (3).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه التفضيل في الرزق و لم يبين فضله و صفه هنا بقوله: وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ و اللذائذ كالثمار و الفواكه و الحبوب و الحيوات و الأشربة كالعسل و أمثاله.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم الشرك مع ظهور دلائل التوحيد بقوله: أَ فَبِالْباطِلِ الذي أظهره الأصنام و الشرك يُؤْمِنُونَ مع تلك الحجج الباهرة على التوحيد وَ بِنِعْمَتِ اَللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ بنسبتها إلى غيره من الأصنام و الأنداد التي زعموها آلهة.

و قيل: كفرانهم النّعم تحريمهم البحيرة (4)و أخواتها (5).

و قيل: نعمة اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كتابه و دينه، و كفرهم بها إنكارها (6).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 73 الی 74

ثمّ لمّا ذكر سبحانه الدلائل على التوحيد، و نبّههم على ما رزقهم من العمر و المال و الأزواج و الأولاد و الطيبات من المأكولات و المشروبات، ذمّ المشركين و وبّخهم بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ مع وفور رزقه عليهم ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ شَيْئاً يسيرا من المطر و النبات وَ لا يَسْتَطِيعُونَ أن يملكوه.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ اَلْأَمْثالَ إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)و قيل: إنّ ضمير الجمع راجع إلى المشركين، و المعنى أنّ المشركين مع حياتهم و شعورهم لا يقدرون على تملّك الرزق، فكيف بالجمادات؟ (7).

ثمّ قيل: إنّ المشركين كأنّهم قالوا: كما أنّ الأصاغر يخدمون الأكابر، و الأكابر يخدمون الملوك، كذلك نحن نعبد الأصنام و الأصنام يعبدون اللّه، لأنّه تعالى أجلّ و أعظم من أن نعبده (8)، فردّ اللّه عليهم

ص: 597


1- . تفسير العياشي 3:16/2406، تفسير الصافي 3:146.
2- . تفسير العياشي 3:16/2405، تفسير الصافي 3:146.
3- . مجمع البيان 6:576، تفسير الصافي 3:146.
4- . البحيرة: الناقة كانت في الجاهلية إذا ولدت خمسة أبطن شقّوا اذنها، و أعفوها من أن ينتفع بها، و لم يمنعوها من مرعى.
5- . تفسير الرازي 20:81.
6- . جوامع الجامع:247، تفسير الصافي 3:146.
7- . تفسير البيضاوي 1:551، تفسير أبي السعود 5:128.
8- . تفسير الرازي 20:83.

بقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ اَلْأَمْثالَ و لا تشبّهوه بخلقه، و قيل: يعني لا تجعلوا للّه مثلا، لأنّه واحد لا مثل له (1)إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ فساد مذهب الشرك و بطلان دليله و عظم عقوبة القائلين به، و لذا ينهاكم عنه وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئا من الامور المذكورة، و لو علمتموه لتركتموه، أو المراد أنّ اللّه يعلم ضرب الأمثال و أنتم لا تعلمونه.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 75 الی 76

ثمّ ضرب سبحانه المثل لتوضيح التباين بينه و بين ما أشركوه به بقوله: ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً بديعا، و هو أن تفرضوا عَبْداً مَمْلُوكاً لا شيء له و لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرّفات وَ مَنْ كان حرّا كريما رَزَقْناهُ مِنّا بإنعامنا و كرّمناه بطريق الملك رِزْقاً حَسَناً واسعا حلالا طيبا مرضيا عنده و عند كلّ أحد فَهُوَ بكرمه و سلطنته في التصرّف في رزقه يُنْفِقُ مِنْهُ على الغنيّ و الفقير تفضّلا و كرما سِرًّا وَ جَهْراً و خفية و علانية كيفما أراد، و أيّ قدر أراد بلا مانع و حاجز، فبعد فرض هذا المملوك العاجز، و هذا الحرّ الغنيّ الكريم، أنصفوا أيها العقلاء هَلْ يَسْتَوُونَ لا و اللّه لا تساوي بينهما أبدا، إذن فكيف تسوّون بين الأصنام التي هي أعجز و أفقد من كلّ شيء، و بين اللّه القادر الغنيّ بالذات الكريم الذي لا تناهي لكرمه، حيث إنّه يرزق من يشاء ما يشاء كيف يشاء بغير حساب.

ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)اَلْحَمْدُ لِلّهِ على نعمه غير المتناهية لا يشركه فيها غيره، و لا يليق بالحمد من سواه بَلْ أَكْثَرُهُمْ و هم المشركون لا يَعْلَمُونَ عدم التساوي بينهما، و لذا يعبدون الجمادات و يسوّون بينها و بين خالق الموجودات، و يحمدون الأصنام، و يكفّرون وليّ الأنعام.

ثمّ اعلم أنّ هذا المثل منطبق على الكافر المحروم عن عبادة اللّه و طاعته، و المؤمن المطيع للّه القائم بعبوديته المشفق على خلقه المنفق عليهم، و كذا على الجاهل الفاقد للعلم، و العالم العارف باللّه و أحكامه، فالأولان كالعبد الذليل الفاقد لكلّ شيء، و الثانيان كالحرّ الواجد المنفق.

وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً آخر أدلّ على المقصود، و هو أن تفرضوا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا قوة له

ص: 598


1- . تفسير الرازي 20:83.

على التكلّم من حين ولادته و لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ و أمره متعلق بنفسه أو بغيره وَ هُوَ لعجزه في جميع الامور كَلٌّ و ثقل عَلى مَوْلاهُ في ما يحتاج إليه و أَيْنَما يُوَجِّهْهُ مولاه، و حيثما يرسله لكفاية أمر و لو كان غير مهمّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ و لا يفعل ما فيه صلاح، إذن قولوا و أنصفوا هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يكون منطيقا ذكيا ذا رأي و كفاية و عقل و رشد بحيث يَأْمُرُ غيره بِالْعَدْلِ و حسن الأخلاق و الأعمال، و ما فيه صلاح الحال و المال وَ هُوَ بنفسه مضافا إلى نفعه العام مقيم عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و المنهج القويم من صحة العقائد و حسن الأخلاق و الأعمال، لا و اللّه لا يمكن تساويهما.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 77

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غاية البينونة بيّن الجاهل العاجز و العالم القادر على كلّ شيء بضرب المثلين، بيّن كمال علمه و قدرته بقوله: وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و كان يختصّ به العلم بخفياتهما وَ ما أَمْرُ إيجاد اَلسّاعَةِ و القيامة أو جميع شؤونها بدوا و ختما عنده تعالى: إِلاّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ و حركة خفيفة للعين أو حركة الحدقة من الفوق إلى التحت، أو طرف العين في السهولة و السرعة أَوْ هُوَ أَقْرَبُ و أسرع و أسهل لاحتياج حركة العين إلى آنات متعاقبة، و توجد القيامة بأمره في آن واحد، و كلمة (أو) للابهام على المخاطبين، أو بمعنى بل، ثمّ قرّر قدرته بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من ابتداء الخلق و إعادته.

وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ اَلسّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 78

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده و قدرته و حكمته بقوله: وَ اَللّهُ أَخْرَجَكُمْ بقدرته مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ بالولادة حال كونكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً من البديهيات و النظريات و الحسيّات و العقليات من امور الدنيا و الآخرة وَ جَعَلَ و أنشأ لَكُمُ في الأرحام اَلسَّمْعَ لاستماع مواعظ اللّه و العلوم النافعة وَ اَلْأَبْصارَ لرؤية آيات اللّه و معاجز الأنبياء و قراءة الكتب وَ اَلْأَفْئِدَةَ لفهم معارف اللّه و درك العلوم العقلية لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الولادة و تركيب الأعضاء و القوى فيكم بأن تستعملوها فيما خلقت له.

وَ اَللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

ص: 599

قيل: أول ما يبدو في الجنين حسّ السمع ثمّ البصر (1).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 79

ثمّ استدلّ سبحانه بعجائب أحوال الطيور بقوله: أَ و لَمْ يَرَوْا هؤلاء المشركون و لم ينظروا إِلَى اَلطَّيْرِ حال كونها مُسَخَّراتٍ و مذللات للطيران فِي جَوِّ اَلسَّماءِ و فضائها أو هوائها بأجنحتها و أسباب طيرانها التي خلقها لها، و مع ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ و يحفظهنّ من السقوط حين قبض أجنحتهن و بسطها و وقوفهنّ شيء إِلاَّ اَللّهُ القادر الحكيم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من تسخير الطير للطيران و إمساكها في الجوّ على خلاف طبع الجسم لَآياتٍ و حجج باهرة على قدرة خالقها و تدبيره و حكمته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانهم المنتفعون بها بالتفكّر فيها.

أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ اَلسَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 80

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بالنعم الداخلية على الانسان، استدلّ بالنعم الخارجية بقوله: وَ اَللّهُ جَعَلَ و خلق نفعا لَكُمْ و صلاحا لحالكم بعضا مِنْ بُيُوتِكُمْ و هي البيوت المبنية من الأحجار و الطين و الأخشاب سَكَناً و مأوى تستريحون فيه و تطمئنون به وقت إقامتكم لعدم إمكان نقلها من مواضعها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعامِ و الأدم المعمولة منها بُيُوتاً اخرى كالخيام و الأخبية و الفساطيط التي تَسْتَخِفُّونَها و تستسهلون حملها و نقلها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ و سيركم في البوادي و الأسفار وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ و وقت حضوركم في البلد، توقّفكم في مكان تريدون الوقوف فيه وَ جعل مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً و لوازم البيت من الفرش و الملاحف و أمثالهما. عن ابن عباس: يريد طنافسا (2)و بسطا و ثيابا و كسوة (3)وَ مَتاعاً و أشياء اخر، فينتفع بها إِلى حِينٍ قضاء الوطر، أو حين البلى، أو حين الموت، أو حين بعد حين، أو حين القيامة.

وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (80)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 81 الی 83

ص: 600


1- . تفسير روح البيان 5:63.
2- . الطّنافس: جمع طنفسة: البساط و النّمرقة فوق الرّحل.
3- . تفسير الرازي 20:92.

ثمّ لمّا كانت أرض الحجاز شديدة الحرّ، استدلّ على توحيده بخلق ما يحفظ به من الحرّ بقوله: وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ من الأشجار و الجبال و الغمام ظِلالاً يتّقون به حرّ الشمس. القمي، قال: ما يستظلّ به (1). وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْجِبالِ أَكْناناً و محافظ من الحرّ كالكهوف و الغيران و السّروب (2)وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ و ثيابا من القطن و الصوف و غيرهما تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ و تحفظكم منه وَ سَرابِيلَ كالدّروع و الجواشن (3)تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ و تحفظكم من الطّعن و الضرب و نحوهما ممّا يضرّكم في الحروب.

قيل: إنّ اللّه تعالى ذكر نعمه الفائضة على جميع الطوائف، فبدأ بما يخصّ المقيمين حيث قال: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً (4)ثمّ بما يختصّ بالمسافرين ممّن لهم قدرة على الخيام و أضرابها حيث قال: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعامِ بُيُوتاً (5)، ثمّ بما يعمّ من لا يقدر على ذلك و لا بما دونه (4)إلاّ الظّلال حيث قال: وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً ثمّ بما لا بدّ منه لأحد حيث قال: وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ ثمّ بما لا مناصّ عنه في الحرب حيث قال: وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ (5).

ثمّ قال: كَذلِكَ الإتمام البالغ لنعمه الجسمانية يُتِمُّ نِعْمَتَهُ الدنيوية و الدينيّة عَلَيْكُمْ لتنظروا إليها و تتفكّروا فيها لَعَلَّكُمْ تعرفون حقّ منعمها و تُسْلِمُونَ و تنقادون لربوبيته و أحكامه، أو تسلمون من الشرك.

عن ابن عباس: لعلّكم يا أهل [مكة]تخلصون للّه الربوبية، و تعلمون أنّه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه (6).

و قيل: يعني أعطيتكم هذه النّعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب اللّه (7).

فَإِنْ تَوَلَّوْا يا محمّد، و أعرضوا عن التفكّر في الآيات و النّعم، و لم يقبلوا قولك، و آثروا الدنيا و متابعة الآباء فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و التبليغ الموضح للحقّ لا إجبارهم على القبول، و قد

ص: 601


1- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:148.
2- . السّروب: جمع سرب، الحفير تحت الأرض لا منفذ له.
3- . الجوشن: الدّرع. (4 و 5) . النحل 16:80.
4- . في تفسير أبي السعود: و لا يأويه.
5- . تفسير أبي السعود 5:133.
6- . تفسير الرازي 20:94.
7- . تفسير الرازي 20:94.

فعلت ما عليك، و بقي ما علينا من تعذيبهم على العناد و الإصرار على الكفر.

ثمّ ذمّهم سبحانه بغاية الكفران بقوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللّهِ عليهم من جميع الوجوه ثُمَّ يُنْكِرُونَها و يكفرونها بنسبتها إلى الأصنام و عبادتها، مع أنّ حقّ معرفة النّعم أن يقرّوا بها و يشكروها بتخليص العبادة للّه و صرفها فيما فيه رضاه، و قيل: نعمة اللّه نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله (1)وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكافِرُونَ لتلك النعمة و الجاحدون لها.

قيل: نسبة الكفر الى الأكثر لكون بعضهم جاهلين بصدق النبي صلّى اللّه عليه و آله غير معاندين للحق (2). و قيل: إنّ المراد بالأكثر الجميع (3).

عن الصادق عليه السّلام: «نحن و اللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، و بنا فاز من فاز» (2).

و في رواية عنه عليه السّلام: «يعني يعرفون ولاية علي عليه السّلام» (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 84 الی 87

ثمّ هدّد الكافرين بنعمته بأهوال القيامة بقوله: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ و نحشر مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ و جماعة شَهِيداً يشهد بإيمان مؤمنيهم و كفر كافريهم ثُمَّ بعد الشهادة لا يُؤْذَنُ من قبل اللّه لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار عن كفرهم و عصيانهم، لكذبهم و تمامية الحجّة عليهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و لا يطلب منهم عمل موجب لرضا ربّهم عنهم و إصلاح ما فسد من أعمالهم، لكون ذلك اليوم يوم الجزاء لا العمل، بل يؤمرون بالدخول في النّار وَ إِذا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و الطغيان اَلْعَذابَ الشديد ضجّوا و سألوا تخفيفه فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ثقل العذاب و شدّته وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و لا يمهلون ساعة ليستريحوا، بل يزيد عذابهم مع أصنامهم وَ إِذا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه الشياطين و الأصنام التي جعلوها شُرَكاءَهُمْ و آلهتهم قالُوا إحالة لعذابهم إليها، أو تعجّبا من حضورها، أو إظهارا لخطابهم في عبادتها رَبَّنا هؤُلاءِ الأصنام شُرَكاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنّا في الدنيا

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَ إِذا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَ إِذا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)

ص: 602


1- . تفسير البيضاوي 1:554، تفسير أبي السعود 5:134. (2 و 3) . تفسير الرازي 20:95.
2- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:149.
3- . الكافي 1:354/77، تفسير الصافي 3:149.

نَدْعُوا هم و نعبدهم مِنْ دُونِكَ و ممّا سواك، فأنطق اللّه الأصنام فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ و أجابوهم بالكلام، و قالوا: إِنَّكُمْ في دعوى عبادتكم إيانا و اللّه لَكاذِبُونَ بل عبدتم أهواءكم، أو لكاذبون في دعوى أننا شركاء اللّه في المعبودية و استحقاق العبادة وَ أَلْقَوْا اولئك المشركون إِلَى اَللّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ و الانقياد لربوبيته و أمره و أحكامه بعد ما كانوا في الدنيا مستكبرين و مستنكفين عنه وَ ضَلَّ و ضاع عَنْهُمْ ما كانُوا في الدنيا يَفْتَرُونَ على اللّه من أنه راض بعبادة الأصنام، و أنّه يقبل شفاعتهم في حقّ عبادهم و قيل: يعني ذهب [عنهم]ما زيّن لهم الشيطان من أنّ للّه شريكا و صاحبة و ولدا (1).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 88

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المشركين، هدّد الصادّين منهم عن سبيل اللّه بقوله: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا الناس و منعوهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و الدخول في دين الاسلام زِدْناهُمْ في جهنم عَذاباً فَوْقَ اَلْعَذابِ لأنّهم زادوا على ضلال أنفسهم إضلال غيرهم، فعليهم مثل عذاب أتباعهم بِما كانُوا يُفْسِدُونَ في الأرض بترويج الباطل و تشييد الكفر و دعوة الناس إليه.

اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ اَلْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)القمي، قال: كفروا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صدّوا عن أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

أقول: هذا تأويل لا تفسير.

عن ابن عبّاس، قال: المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذّبون بها ثلاثة على مقدار الليل، و اثنان على مقدار النهار (3).

و قيل: زدناهم عذابا بحيّات و عقارب كأمثال البخت (4)لكلّ عقرب ثلاثمائة فقرة، في كلّ فقرة ثلاثمائة قلّة (5)من سمّ، و لها انياب كالنّخل الطّوال، فيستغيثون بالهرب منها إلى النار (6).

و عن ابن جبير، قال: زيادة عذابهم هي عقارب أمثال البغال، و حيّات أمثال البخت، تلسع إحداهنّ اللّسعة فيجد صاحبها حمتها (7)أربعين خريفا (8)

ص: 603


1- . تفسير الرازي 20:97.
2- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:150.
3- . تفسير الرازي 20:98، تفسير روح البيان 5:69.
4- . البخت: الإبل الخراسانية.
5- . القلّة: إناء من الفخّار يشرب منه.
6- . تفسير الرازي 20:98.
7- . الحمة: سمّ كلّ شيء يلدغ أو يلسع، و الإبرة التي تضرب بها العقرب و الزّنبور و نحوهما.
8- . تفسير روح البيان 5:69، تفسير أبي السعود 5:135، و لم ينسبه إلى ابن جبير.

و قيل: يسألون اللّه تعالى ألف سنة المطر ليسكن ما بهم من شدّة الحرّ، فتظهر لهم سحابة، فيظنّون أنها تمطر، فجعلت السّحابة تمطر عليهم بالحيّات و العقارب، فيشتد ألمهم لانّه إذا جاء الشرّ من حيث يؤمل الخير كان أغمّ (1).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 89

ثمّ بالغ سبحانه بتهديد المشركين بأهوال القيامة بقوله: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ و نحشر فيه فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الامم و جماعة من جماعات الناس شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ و جنسهم، ليكون أقطع لعذرهم لكونه بينهم وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ الامم و شهدائهم.

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

نقل كلام الفخر

الرازي في المراد

من الشهيد

قال الفخر الرازي: إن كلّ جمع و قرن يحصل في الدنيا، فلا بدّ أن يحصل فيهم واحد يكون شهيدا عليهم، أمّا الشهيد على الذين كانوا في عصر الرسول فهو الرسول صلّى اللّه عليه و آله بدليل قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (2)، و ثبت أيضا أنه لا بدّ في كلّ زمان بعد زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الشهيد، فتحصّل من هذا أن عصرا من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، و ذلك الشهيد لا بدّ و أن يكون غير جائز الخطأ، و إلا لافتقر إلى شهيد آخر، و يمتدّ ذلك إلى غير النهاية، و ذلك باطل، فثبت أنه لا بدّ في كلّ عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم، و ذلك يقتضى أن [يكون]إجماع الامّة حجّة (3).

أقول: هذا عين ما قاله أصحابنا الامامية، فانهم يقولون: إنّه لا بدّ في كلّ عصر من وجود حجّة معصوم، إما ظاهر مشهود، أو غائب مستور، و لو لا ذلك لساخت الأرض بأهلها، و لا حجّية للاجماع إلاّ إذا علم موافقة رأيهم لرأي المعصوم، و ذلك المعصوم هو الشهيد، و إنّما الفرق بيننا و بين هذا القائل أنّا نعرفه باسمه و نسبه، و هو يجحده لعصبيّته.

القمي في تفسير شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ قال: يعني على الأئمة عليهم السّلام، فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شهيد على الأئمة عليهم السّلام، و هم شهداء على الناس (4).

و قال بعض العامة: المراد بذلك الشهيد هو أنّه تعالى ينطق عشرة [من]أعضاء الانسان حتّى تشهد عليه، و هي: الأذنان و العينان و اليدان و الرجلان و الجلد و اللسان، قال: و الدليل عليه أنّه تعالى قال في

ص: 604


1- . تفسير روح البيان 5:69.
2- . البقرة:2/143.
3- . تفسير الرازي 20:98.
4- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:150.

صفة الشهيد أنّه من أنفسهم (1). و فيه أنّه خلاف للظاهر الذي هو كالصريح في الآية خصوصا مع قوله: وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ.

ثمّ بيّن سبحانه عظمة شأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله الذي هو الشهيد عليهم بنزول القرآن عليه بقوله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ العظيم الكامل في الكتابية بحيث يحقّ أن يخصّ به اسم الكتاب لكونه تِبْياناً و إيضاحا وافيا لِكُلِّ شَيْءٍ من امور الدين، أو لكلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، أو لكلّ شيء من امور الدين و الدنيا و الآخرة، و ما كان و ما يكون و ما هو كائن، كما هو الحقّ، و إنّما يستفيد منه الراسخون في العلم الذين نزل في بيوتهم و هم النبيّ و المعصومون عليهم السّلام من ولده.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال اللّه لموسى عليه السّلام: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (2)فعلمنا أنّه لم يكتب له الشيء كلّه، و قال اللّه لعيسى: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ (3). و قال لمحمد صلّى اللّه عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (4).

و عنه عليه السّلام: «أنّي لأعلم ما في السماوات و ما في الأرض، و أعلم ما في الجنّة، و أعلم ما في النار، و أعلم ما كان و ما يكون» ثمّ سكت هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عز و جل، إن اللّه يقول: «فيه تبيان كل شيء» (5).

و عنه عليه السّلام: «نحن و اللّه نعلم ما في السماوات و ما في الأرض، و ما في الجنة و ما في النار، و ما بين ذلك» ثمّ قال: «إنّ ذلك في كتاب اللّه» ثمّ تلا هذه الآية (6).

و عنه عليه السّلام: «أن اللّه أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتى و اللّه ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا [انزل]في القرآن إلا [و قد]أنزله اللّه فيه» (7). إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على أنّ في القرآن بيان كلّ شيء.

ثمّ لمّا كان أهمّ الامور فائدة الهداية إلى الحقّ بالغ في توصيفه بها بحيث جعله عينها بقوله: وَ هُدىً من الضلالة إلى الحقّ، لاشتماله على المعارف الالهية بأكمل وجه، و على الأحكام الأخلاقية و العملية بأتمّ التفصيل، وَ ليكون رَحْمَةً للعالمين و فضلا على الخلق أجمعين، و إنما يكون حرمان الكفار بسبب تفريطهم و تقصيرهم، وَ ليكون بُشْرى بالفيوضات الدنيوية

ص: 605


1- . تفسير الرازي 20:99.
2- . الأعراف:7/145.
3- . الزخرف:43/63.
4- . تفسير العياشي 3:19/2417، تفسير الصافي 3:151.
5- . الكافي 1:204/2، تفسير الصافي 3:151، في المصحف: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:16/89]و لعله نقل بالمعنى.
6- . تفسير العياشي 3:18/2416، تفسير الصافي 3:151.
7- . الكافي 1:48/1، تفسير الصافي 3:151.

و الاخروية لِلْمُسْلِمِينَ و المؤمنين، أو المنقادين لأحكامه خاصّة.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 90

ثمّ لمّا وصف سبحانه الكتاب بكونه تبيانا و هدى، ذكر علم الأخلاق و الأحكام فيه بكلمات موجزة جامعة لجميعها بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ في الكتاب الذي هو تبيان و هدى بِالْعَدْلِ و التوسط في الأخلاق و سائر الامور، و التسوية بين الناس في الحقوق و بين أنفسكم و غيركم في الرعاية وَ اَلْإِحْسانِ إلى أنفسكم بحفظها عن ارتكاب القبائح و الموبقات، و السعي في تكميلها و تعليتها إلى المراتب العالية الانسانية، و إلى غيركم بتعليمهم العلوم الدينية، و إرشادهم إلى السعادات الدنيوية و الاخروية، و مساعدتهم في امور معاشهم و معادهم وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى و الأرحام و إعطائهم جميع ما يحتاجون إليه من العلم و المال، و كل ما يؤهّلون له من الكمال، و إنّما خصّه بالذّكر مع دخوله في عموم الاحسان تنبيها على أهمية صلة الرّحم و فضلها وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ و الامور الشديدة القباحة كالشّرك و الزّنا و غيرهما من الكبائر وَ اَلْمُنْكَرِ و ما ينتفّر منه العقل السليم و يستقبحه ممّا لا يبلغ في القبح درجة الفحش وَ اَلْبَغْيِ و الظلم على الناس، و التعدّي في أموالهم و نفوسهم و أعراضهم و توهينهم و تضييع حقوقهم.

إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)ثمّ حثّهم سبحانه على العمل بما في الآية بقوله: يَعِظُكُمْ اللّه بأمره و نهيه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ و تتعظون.

عن ابن مسعود، أنه قال: هي أجمع آية في القرآن للخير و الشرّ، و لو لم يكون فيه غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكلّ شيء و هدى (1).

و عن ابن عباس: أنّ عثمان بن مظعون الجمحي قال: ما أسلمت أولا إلاّ حياء من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لم يتقرّر الإسلام في قلبي، فحضرت عنده ذات يوم، فبينما هو يحدّثني إذا رأيت بصره شخص إلى السماء ثمّ خفضه عن يمينه، ثمّ عاد لمثل ذلك فسألته، فقال: «بينما أنا احدثك إذا بجبرئيل نزل عن يميني فقال: يا محمّد إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ العدل: شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و الاحسان: القيام بالفرائض وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى [أي]صلة ذي القرابة وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ الزنا وَ اَلْمُنْكَرِ ما لا يعرف في شريعة و لا سنّة وَ اَلْبَغْيِ الاستطالة» .

ص: 606


1- . تفسير أبي السعود 5:136.

قال عثمان: فوقع الايمان في قلبي، فأتيت أبا طالب فأخبرته، فقال: يا معشر قريش، اتّبعوا ابن أخي ترشدوا، و لئن كان صادقا أو كاذبا، فانّه لا يأمر إلاّ بمكارم الاخلاق. فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من عمّه اللين، قال: «يا عمّ، أتأمر الناس أن يتّبعوني و تدع نفسك، و جهد عليه فأبى أن يسلم» (1).

أقول: يعني في الظاهر نظرا إلى صلاح حفظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إلاّ فانّه كان من أول المسلمين و أفضلهم، لوضوح أنّ هذا الكلام لا يصدر إلاّ ممّن كان مسلما عن صميم القلب موقنا بصدق الرسول، و لذا قدّم التصديق بقوله: و لئن كان صادقا أو كاذبا.

و عن ابن عباس: العدل: شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و الاحسان: أداء الفرائض (2).

و في رواية اخرى عنه: العدل: خلع الأنداد، و الاحسان: أن تعبد اللّه كأنّك تراه، و أن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك، فإن كان مؤمنا أحببت أن يزداد إيمانا، و إن كان كافرا أحببت أن يصير أخاك في الاسلام (3).

و في رواية ثالثة، قال: العدل: هو التوحيد، و [الاحسان:]الاخلاص فيه (2).

و قيل: العدل في الأفعال، و الإحسان في الأقوال، فلا تفعل إلاّ ما هو عدل، و لا تقل إلاّ ما هو إحسان (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام «العدل: الانصاف، و الاحسان: التفضل» (3).

و عن القمي: العدل شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه، و الاحسان: أمير المؤمنين عليه السّلام (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «العدل: محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فمن أطاعه فقد عدل، و الاحسان: عليّ عليه السّلام، فمن تولاّه فقد أحسن، و المحسن في الجنّة» (5).

و عن ابن عباس: وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى يريد صلة الرّحم بالمال، فان لم يكن فبالدعاء (6).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم، إنّ أهل البيت ليكونون فقراء (7)فتمنى أموالهم و يكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم» (8).

ص: 607


1- . تفسير الرازي 20:100. (2 و 3 و 5) . تفسير الرازي 20:101.
2- . تفسير الرازي 20:101.
3- . تفسير العياشي 3:20/2420، معاني الأخبار:257/1، تفسير الصافي 3:151.
4- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:151.
5- . تفسير العياشي 3:21/2422، تفسير الصافي 3:151.
6- . تفسير الرازي 20:101.
7- . في تفسير الرازي: فجارا.
8- . تفسير الرازي 20:101.

و عن الباقر عليه السّلام: «إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى قرابتنا، أمر اللّه العباد بمودّتنا و إيتائنا» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه قرأ عنده هذه الآية، فقال: «اقرأ كما أقول إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى حقّه» إلى أن قال الراوي: قيل: فما يعني بايتاء ذي القربى حقّه؟ قال: «أداء إمام إلى إمام بعد إمام» (2)

و قيل: إن المراد بالفحشاء الزنا (3)، كما في الرواية السابقة. و قيل: البخل (4). و قيل: كل الذنوب، سواء كانت في القول أو في الفعل، أو كبيرة أو صغيرة (5). و المراد بالمنكر هو الكفر باللّه (6). و قيل: ما لا يعرف في شريعة و لا سنّة (7)، كما في الرواية السابقة.

و قيل: المراد بالبغي الكبر و الظلم (8).

و عن القمي، في تأويله الفحشاء و المنكر و البغي: فلان و فلان و فلان (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «الفحشاء الأول، و المنكر الثاني، و البغي الثالث» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ قال: «ولاية فلان [و فلان]» (6).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 91

ثمّ لمّا جمع اللّه جميع المأمورات و المنهيات التي كلّها عهود اللّه في الآية السابقة، بالغ في التأكيد في العمل بها بقوله: وَ أَوْفُوا أيّها المؤمنون بِعَهْدِ اَللّهِ و اعملوا بأحكامه إِذا عاهَدْتُمْ معه حين آمنتم به و سلّمتم له و بايعتم رسوله.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)و قيل: المراد بالعهد خصوص بيعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله (7). و قيل: هو كلّ ما يلزمه الانسان على نفسه بالنّذر و شبهه (13). و قيل: هو اليمين (14). و على التفسير الأوّل خصّ سبحانه حكم نقض اليمين بالذّكر اهتماما به بقوله: وَ لا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ باللّه التي تحلفون بها عند المعاهدات، و لا تحنثوا (8)فيها بَعْدَ تَوْكِيدِها و إحكامها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّهَ عَلَيْكُمْ بالوفاء بها كَفِيلاً و رقيبا، فإنّ من حلف باللّه جعله

ص: 608


1- . تفسير العياشي 3:21/2422، تفسير الصافي 3:152.
2- . تفسير العياشي 3:19/2419، تفسير الصافي 3:152.
3- . تفسير الرازي 20:100. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 20:101. (7 و 8) . تفسير الرازي 20:101.
4- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:151.
5- . تفسير العياشي 3:20/2421، تفسير الصافي 3:151.
6- . تفسير العياشي 3:20/2419، تفسير الصافي 3:152.
7- . تفسير الرازي 20:106، تفسير روح البيان 5:73. (13 و 14) . تفسير الرازي 20:107.
8- . حنث في اليمين: لم يبرّ فيها و أثم.

كفيلا بالوفاء به.

ثمّ رغّب في الوفاء و رهّب عن الحنث بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من الوفاء و الحنث، فيجازيكم على الأول بالثواب، و على الثاني بالعقاب.

قيل: نزلت في جماعة أسلموا بمكة، و عاهدوا الرسول، فلمّا رأوا غلبة قريش و ضعف المسلمين جزعوا و اضطربوا، و همّوا بنقض العهد بتسويل الشيطان، فثبّتهم اللّه بهذه الآية على عهدهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله (1).

و القميّ عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت ولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام، و كان من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، فكان ممّا أكّد اللّه عليهم في ذلك اليوم، و قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهما: قوما فسلّما عليه بإمرة المؤمنين. فقالا: أمن اللّه أو من رسوله؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من اللّه و من رسوله. فأنزل اللّه وَ لا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ يعني به قول رسول اللّه لهما، و قولهما: أمن اللّه أو من رسوله؟» (2).

أقول: يمكن تكرّر نزول الآية.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 92

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الوفاء بالعهود و حرمة نقضها بقوله: وَ لا تَكُونُوا أيّها المؤمنون في عهودكم و أيمانكم و نقضها بلا مجوّز شرعي و عقلائي كَالَّتِي غزلت الشعر و الصوف و فتلت الحبل كلّ يوم ثمّ نَقَضَتْ غَزْلَها و فتلها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ و إبرام و إحكام له حتى جعلته أَنْكاثاً و خيوطا، أو اجزاء متفرقة كالصوف المنفوش، ثمّ غزلت مرة ثانية، ثمّ فعلت ما فعلت بالغزل الأول.

وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اَللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)قيل: هي امرأة من قريش يقال لها رايطة أو ريطة (3)أو خطيئة بنت سعد بن تميم، تلقّب بالجعراء (4)، أو خضراء، أو خرقاء (5)، و كانت حمقاء (6)، و كانت أعدّت مغزلا قدر ذراع في رأسه حديدة مثل إصبع، و فلكة عظيمة على قدرها، و كانت هي و جواريها تغزل من الصبح إلى نصف النهار، ثمّ تأمرهنّ

ص: 609


1- . تفسير روح البيان 5:73.
2- . الكافي 1:231/1، تفسير الصافي 3:152، تفسير القمي 1:389 «نحوه» .
3- . تفسير الرازي 20:108، تفسير القمي 1:389.
4- . تفسير الرازي 20:108.
5- . مجمع البيان 6:590، تفسير البيضاوي 1:555.
6- . تفسير الرازي 20:108، تفسير الصافي 3:153.

بنقض جميع ما غزلت (1).

عن الباقر عليه السّلام: «التي نقضت غزلها امرأة من بني تيم بن مرّة يقال: له ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم بن لؤي بن غالب، كانت حمقاء تغزل الشعر، فإذا غزلته نقضته، ثمّ عادت تغزله، فقال اللّه: كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها الآية» قال: «إنّ اللّه أمر بالوفاء، و نهى عن نقض العهد، و ضرب لهم مثلا» (2).

و عن الصادق عليه السّلام في تأويلها «أنّ عائشة هي نكثت أيمانها» (3).

و قيل: إنّ المقصود تصوّر مثل المرأة التي تكون صفتها كذلك (4)، و لا يلزم وجودها في الخارج، و المراد لا تكونوا مثل هذه الامرأة حال كونكم تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً و خديعة و غشّا بَيْنَكُمْ لأجل أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ و جماعة هِيَ أَرْبى و أكثر مِنْ أُمَّةٍ و جماعة اخرى عددا و مالا و قوة و شرفا.

و قيل: إنّ الجملة استفهامية إنكارية (5)، و المعنى أتتّخذون؟ ! إلى آخره.

قيل: كانوا يحالفون الحلفاء ثمّ يجدون من كان أعزّ منهم و أشرف، فينقضون حلف الأولين و يحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك (6).

و قيل: إنّ الأربى كفرة قريش، و الامّة الاخرى جماعة المؤمنين (5)، و على أيّ تقدير إِنَّما الغرض من جعل بعض الامم أربى، أو من الأمر و النهي أن يَبْلُوكُمُ اَللّهُ و يختبركم بِهِ بأن يظهر أنّكم تمسّكون بحبل الوفاء بعهد اللّه و بيعة رسوله، أم تغترّون بكثرة قريش و شوكتهم و ضعف المسلمين، أو تطيعون اللّه و رسوله، أو تتّبعون خطوات الشيطان و تسويلاته.

و القمي: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اَللّهُ بِهِ يعني يختبركم بعلي عليه السّلام (6).

وَ لَيُبَيِّنَنَّ اللّه لَكُمْ البتة يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و وقت جزاء الأعمال ما كُنْتُمْ في الدنيا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من صحّة دين الاسلام، و أنّه دين الحقّ المؤدّيّ إلى الثواب، و بطلان غيره و أنّه مؤدّ إلى العقاب.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 93

وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

ص: 610


1- . تفسير أبي السعود 5:137، تفسير روح البيان 5:75.
2- . تفسير القمي 1:389، تفسير الصافي 3:153.
3- . تفسير العياشي 3:22/2424، تفسير الصافي 3:153.
4- . تفسير روح البيان 5:75. (5 و 6) . تفسير الرازي 20:109.
5- . تفسير الصافي 3:153، تفسير روح البيان 5:75.
6- . تفسير القمي 1:389، الكافي 1:232/1، تفسير الصافي 3:154.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه اختلاف الناس في دينه، نبّه على قدرته على إلجائهم على الاتفاق على دين الاسلام، و إنّما الحكمة اقتضت إيكالهم إلى اختيارهم و حصول الاختلاف بينهم حسب اختلاف طينتهم بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ بالمشيئة التكوينية اتفاق الناس، و اللّه لَجَعَلَكُمْ بالقهر و الجبر أُمَّةً واحِدَةً متّفقة على دين الاسلام بقدرته القاهرة وَ لكِنْ لم يشأ ذلك لمنافاته الحكمة البالغة، بل يُضِلُّ عن الحقّ مَنْ يَشاءُ إضلاله بخذلانه و إيكاله إلى نفسه و مقتضى طينته لعدم قابليته للهداية و التوفيق وَ يَهْدِي إلى الحقّ مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه و طيب طينته و قابليتة للهداية وَ باللّه لَتُسْئَلُنَّ جميعا البتة يوم القيامة سؤال تبكيت و تقريع عَمّا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الوفاء بالعهد و الأيمان و نقضها و حنثها، فتجزون بما صدر عنكم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 94 الی 95

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن نقض العهد و اتّخاذه دخلا و خديعة بقوله: وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ و نكرا فَتَزِلَّ قَدَمٌ منكم أيّها المؤمنون عن محجّة الحقّ و الصراط المستقيم بَعْدَ ثُبُوتِها و استقرارها عليها، و إنّما أفرد لفظ القدم و نكّره إشعارا بأنّ زلة القدم الواحدة إذا كانت مستتبعة لهذا المحذور العظيم، فكيف بزلّة الأقدام الكثيرة.

وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اَللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)و قيل: إنّ هذا الكلام مثل يضرب لكلّ من وقع في الشدّة بعد الرخاء و ابتلي بالمحنة بعد النّعمة (1).

و قال القمي في تأويله: بَعْدَ ثُبُوتِها يعني بعد مقالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عليّ عليه السّلام (2).

و قيل: إنّ الآية السابقة في النهي عن نقض مطلق العهد و اليمين، و هذه الآية في النهي عن نقض عهد الرسول (3)و بيعته؛ لأنّ زلّة القدم بعد ثبوتها مناسبة لنقض هذا العهد الموجب لسقوط الانسان عن درجة الايمان في مهاوي الضلال و الهلاك، و لذا هدّدهم بقوله: وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ و العذاب الدنيوي بِما صَدَدْتُمْ و منعتم أنفسكم أو غيركم عَنْ السلوك في سَبِيلِ اَللّهِ و الالتزام بالاسلام، أو الدخول فيه، فان ارتدادهم يكون مانعا عن إيمان غيرهم وَ لَكُمْ في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ

ص: 611


1- . تفسير الرازي 20:110.
2- . تفسير القمي 1:390، الكافي 1:232/1، تفسير الصافي 3:154.
3- . تفسير الرازي 20:110.

و عقاب شديد.

ثمّ قيل: إنّ المشركين كانوا يعدون ضعفاء المسلمين و يشترطون لهم الحطام الدنيوية عن ارتدادهم (1)، فنهى اللّه المسلمين عن الرغبة في أموال المشركين بقوله: وَ لا تَشْتَرُوا أيّها المؤمنون بِعَهْدِ اَللّهِ و لا تأخذوا بمقابلتة و مقابلة بيعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ثَمَناً و عوضا من أموال المشركين، فانّه و إن كان بقدر الدنيا يكون قَلِيلاً و يسيرا إِنَّما عِنْدَ اَللّهِ من الأجر على الوفاء بالعهد من النصر و العزّ في الدنيا و الثواب في الآخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ممّا يعدونكم من الأموال إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ عاقبة الايمان، و تميّزون الخير من الشرّ.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 96 الی 97

ثمّ بيّن سبحانه أظهر وجوه الخيرية بقوله: ما عِنْدَكُمْ من الحطام الدنيوية يَنْفَدُ و يفنى و ينقضي وَ ما اعدّ لكم من النّعم عِنْدَ اَللّهِ و في خزائن رحمته باقٍ و دائم لا نفاد له، و من الواضح أنّ النعمة الباقية و إن كانت قليلة خير و أفضل من النعم الزائلة و إن كانت في غاية الكثرة.

ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)ثمّ لمّا كان الوفاء بالعهد و الثبات على الايمان موقوفا على الصبر على الفقر و الشدائد، وعد الصابرين بقوله: وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بالعهد و بيعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما التزموه من شرائع الاسلام أَجْرَهُمْ و ثوابهم الخاصّ بهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الواجبات و المندوبات.

و قيل: يعني بما عملوا من الصبر على المذكورات، و إنّما أضاف إليه الأحسن للايذان بغاية حسنه (2).

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين على الأعمال الصالحة بقوله: مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً خالصا لوجه اللّه، أيّ عمل كان، و أيّ عامل كان مَنْ صنف ذَكَرٍ أو صنف أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ بتوحيد اللّه و رسالة رسوله و صدق ما جاء به فَلَنُحْيِيَنَّهُ و نعيشنّه حَياةً و عيشة طَيِّبَةً مرضية حسنة، و إن كان معسرا مبتلى بالأمراض و المصائب، فانّه يكون قانعا راضيا بالقسمة، متوكّلا على اللّه، راجيا أجره العظيم في الآخرة، فلا يحزن على ما فاته، و لا يفرح بما آتاه اللّه من الدنيا.

ص: 612


1- . تفسير روح البيان 5:76، و فيه: على الارتداد.
2- . تفسير روح البيان 5:78.

و قيل: إنّ الحياة الطيبة هو الرزق الحلال (1). و قيل: هي عبادة اللّه و الرزق الحلال (2). و قيل: هي حياة البرزخ (1). و قيل: حياة الآخرة (2).

ثمّ وعدهم الأجر العظيم فيها بقوله: وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من العبادات الخالصة عن شوب الرياء و العجب و الهوى.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 98

ثمّ لمّا كانت تلاوة القرآن من أحسن الأعمال، إذا كانت خالصة من الرياء و العجب الحاصلين بوساوس الشيطان، بيّن اللّه طريق الخلاص منها بقوله: فَإِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ يا محمّد، أو يا إنسان فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ و التجأ إليه مِنَ وساوس اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ و المطرود من الرحمة.

فَإِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ (98)روت العامة عن ابن مسعود، قال قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: أعوذ باللّه السميع (3)العليم من الشيطان الرجيم. فقال: «قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، هكذا أقرانيه جبرئيل عن القلم عن اللوح المحفوظ» (4).

و عن الصادق عليه السّلام [قيل له:]كيف أقول؟ قال: «تقول: أعوذ (5)باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم» و قال: «الرجيم أخبث الشياطين» (6).

و عن [حنان بن]سدير قال: صلّيت خلف أبي عبد اللّه [المغرب]فتعوّذ بإجهار: «أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، و أعوذ باللّه أن يحضرون» ثمّ جهر ب (بسم اللّه الرحمن الرحيم) (7).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 99 الی 100

ثمّ نبّه سبحانه على فائدة الاستعاذة بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ بالولاية و الأمر عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد اللّه وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فانّهم لا يؤثّر فيهم أمره و تسويله، و فيه إشعار بعدم فائدة الاستعاذة القولية ما لم يكن معها استعاذة (8)قلبية إِنَّما سُلْطانُهُ و استيلاؤه بالتسويل و الدعوة المؤثرة

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

ص: 613


1- . تفسير الرازي 20:113.
2- . تفسير الرازي 20:113، تفسير البيضاوي 1:556.
3- . في تفسير البيضاوي و أبي السعود: أعوذ بالسميع.
4- . تفسير البيضاوي 1:557، تفسير أبي السعود 5:140، تفسير الصافي 3:155.
5- . في تفسير العياشي: استعيذ.
6- . تفسير العياشي 3:23/2426، تفسير الصافي 3:155.
7- . قرب الاسناد:124/436، تفسير الصافي 3:155.
8- . في النسخة: استفادة.

في القلب عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ و يحبّونه و يطيعونه وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ تعالى، أو بسبب الشيطان مُشْرِكُونَ في الاولوهية و العبادة.

عن الباقر عليه السّلام: «يسلّط و اللّه من المؤمن على بدنه و لا يسلّط على دينه، قد سلّط على أيوب فشوّه خلقه، و لم يسلّط على دينه» . [قلت: قوله تعالى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ]قال: «الذين هم باللّه مشركون: يسلّط على أديانهم و على أبدانهم» (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ليس له أن يزيلهم عن الولاية، فأما الذنوب و أشباه ذلك، فانّه ينال منهم كما ينال من غيرهم» (2).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 101

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر القرآن، ذكر طعن المشركين فيه بقوله: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ عن ابن عباس: أنّه كان إذا نزلت آية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها شدّة، أخذ الناس بها و عملوا ما شاء اللّه أن يعملوا، فيشقّ ذلك عليهم، فينسخ اللّه هذه الشدّة و يأتيهم بما هو ألين منها و أهون عليهم رحمة من اللّه تعالى، فيقول لهم كفّار قريش: إنّ محمّدا يسخر بكم، يأمركم اليوم بأمر و ينهاكم عنه غدا، و يأتيكم بما هو أهون عليكم، و ما هو إلاّ مفتر يقوله من تلقاء نفسه، و المعنى: إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه و جعلناها بدلا منها بأن نسخناها (3).

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)ثمّ أنّه تعالى قبل نقل كلامهم بادر في الجواب عنه بقوله: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من الناسخ و المنسوخ، و التغليظ و التخفيف، و ما هو مصالح العباد، فما بال هؤلاء المشركين حيث قالُوا إذا رأوا التبديل إِنَّما أَنْتَ يا محمّد مُفْتَرٍ على اللّه بدعوى نزوله منه، و كاذب في هذه النسبة، فانّ بعضهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة القرآن و حقانيته و فائدة نسخ الأحكام و تبديلها، و إنّه لمصالح العباد التي تتغيّر بتغيّر الزمان، و أمّا القليل الذي يعلمه فانّما يجحده لعناده و لجاجه.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 102 الی 104

ص: 614


1- . تفسير العياشي 3:23/2425، و الكافي 8:288/433، و تفسير الصافي 3:155، عن الصادق عليه السّلام.
2- . تفسير العياشي 3:24/2428، تفسير الصافي 3:155.
3- . تفسير روح البيان 5:81.

ثمّ بالغ سبحانه في ردّهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: ليس القرآن ممّا تقوّلته، بل نَزَّلَهُ تدريجا جبرئيل الذي لقبه رُوحُ اَلْقُدُسِ و أمين الوحي مِنْ قبل رَبِّكَ مقرونا بِالْحَقِّ و دلائل الصدق من إعجاز البيان و اشتماله على العلوم الوفيرة و الأخبار الغيبية، أو متلبّسا بالحكمة البالغة لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا على الايمان بأنّه كلام اللّه المنزل على رسوله، فانّهم إذا سمعوا الناسخ و تفكّروا فيما فيه من المصالح و الحكم، رسخت عقائدهم و طمأنّت قلوبهم وَ ليكون هُدىً و رشادا إلى كلّ حقّ و خير وَ بُشْرى بالثواب لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لأحكامه.

ثمّ حكى اللّه تعالى طعنهم الآخر في القرآن بقوله: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أنّ محمّدا كاذب في دعوى نزول القرآن من اللّه، بل إِنَّما يُعَلِّمُهُ القصص و التواريخ التي فيه بَشَرٌ قيل: اريد به سلمان الفارسي (1). و قيل: عبد لبني عامر بن لؤي (2)، و كان يقرأ الكتب (3)و قيل: عدّاس غلام عتبة بن ربيعة (4). و قيل: عبد لبني الحضرمي [صاحب]كتب و اسمه جبر، و كانت قريش تقول: إنّ عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة، و خديجة تعلّم محمّدا (5). و قيل: كان بمكّة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام. و كنيته أبو ميسرة، و كان يتكلّم بالرّومية (6).

ثمّ ردّهم اللّه تعالى بقوله: لِسانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ و ينسبون القرآن إِلَيْهِ أو يميلون قولهم عن الاستقامة بادّعاء أنّ القرآن بتعليمه أَعْجَمِيٌّ غير فصيح و غير مبين، أو غير عارف بلغة العرب وَ هذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ بالغ في الفصاحة إلى حدّ الإعجاز، ثمّ أتبع ردّهم بتهديدهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اَللّهِ و دلائل توحيده و كمال صفاته، و رسالة رسوله و معجزاته التي منها فصاحة القرآن و علومه المنطوية فيه، مع عدم اطّلاع الذي حسبوه معلّما له على أقل قليل منها لا يَهْدِيهِمُ اَللّهُ إلى الحقّ و طريق الجنّة، بل يسوقهم إلى النار وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 105 الی 106

ص: 615


1- . تفسير الرازي 20:117، تفسير البيضاوي 1:557، تفسير أبي السعود 5:141.
2- . زاد في تفسير الرازي: يقال له: يعيش. (3 و 4) . تفسير الرازي 20:117. (5 و 6) . تفسير الرازي 20:117.

ثمّ نفى سبحانه الكذب عن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أثبته للمشركين بقوله: إِنَّما يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ و يقول ما هو خلاف الواقع عن علم و عمد اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اَللّهِ و لا يصدّقونها عنادا و لجاجا، و يدّعون أنّ الآيات افتراء و كذب، فانّهم اللائقون بالكذب وَ أُولئِكَ المتّصفون بأخبث الصفات هُمُ اَلْكاذِبُونَ في الحقيقة المبالغون في الكذب لعدم خوفهم من عقاب اللّه، لا النبيّ الصادق المصدّق الذي هو أخوف الخائفين و رأس المؤمنين.

ثمّ لمّا حكى اللّه سبحانه شبهات المشركين في صدق القرآن و نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طمعا في ارتداد المسلمين، هدّد المرتدّين بقوله: مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ بسبب شبهات المشركين مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ و وضوح الحقّ عنده، كان من كان إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ على إظهار الكفر باللسان وَ الحال أنه قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ و موقن بِالْإِيمانِ و مستقرّ على التوحيد و نبوّة النبيّ و صدق القرآن.

قيل: إنّ قوله: مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ بدل من قوله: اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اَللّهِ و المعنى إنّما يفتري الكذب من كفر باللّه، و قوله: أُولئِكَ هُمُ اَلْكاذِبُونَ اعتراض بين المبدل و بدله (1)و قيل: بدل من اَلْكاذِبُونَ و المعنى اولئك هم من كفر باللّه (2). و قيل: إنّه منصوب على الذمّ، و المعنى اولئك هم الكاذبون، أعني من كفر باللّه (3).

ثمّ أنه تعالى بعد استثناء المكرهين بيّن الكافر المذموم بقوله: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً و طاب به نفسا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ عظيم مِنَ اَللّهِ في الدنيا وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.

عن ابن عبّاس: نزلت الآية في عمّار، و ذلك أنّ كفّار قريش أخذوه و أبويه ياسر و سميّة و صهيبا و بلالا و خبّابا و سالما فعذّبوهم ليرتدّوا، فأبى أبوا عمّار، فربطوا سميّة بين بعيرين و ضربت بحربة في قلبها، و قالوا: إنّما أسلمت من أجل الرجال و التعشّق بهم فقتلوها، و قتلوا ياسرا، و هما أول قتيلين في الاسلام، و أمّا عمّار فكان ضعيف البدن فلم يطق لعذابهم، فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، و هو سبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذكر الأصنام بخير، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ عمّارا كفر. فقال: «كلا، إنّ عمّارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدميه، و اختلط الايمان بلحمه و دمه» فأتى عمّار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يبكي، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمسح عينيه، و قال: «مالك، إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» (1).

القمي: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فهو عمّار بن ياسر، أخذته قريش بمكة فعذّبوه بالنار حتّى أعطاهم بلسانه ما أرادوا و قلبه مطمئن و مقرّ بالايمان وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً

ص: 616


1- . تفسير روح البيان 5:84، تفسير الرازي 20:121، تفسير أبي السعود 5:143.

فهو عبد اللّه [بن سعد]بن أبي سرح بن الحارث بن لؤي (1)، و كان عاملا لعثمان بن عفّان على مصر (2).

و عن (الكافي) : قيل للصادق عليه السّلام: إنّ الناس يروون أن عليا عليه السّلام قال على منبر الكوفة: «أيّها الناس، إنّكم ستدعون إلى سبيّ فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرءوا منّي» .

فقال عليه السّلام: «ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه السّلام!» ثمّ قال: إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي و أنا لعلى دين محمّد، و لم يقل: فلا تبرءوا منّي» .

فقال له السائل: [أ رأيت]إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: «و اللّه ما ذاك عليه و ما له إلاّ ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث اكره و قلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل اللّه فيه إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله عندها: يا عمّار، إن عادوا فعد فقد أنزل اللّه عندك، و أمرك أن تعود إن عادوا» (3).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل: مدّ الرقاب أحبّ إليك أم البراءة من عليّ؟ فقال: «الرّخصة أحب إليّ، أما سمعت قول اللّه في عمّار: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» (4).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 107 الی 109

ثمّ ذكر اللّه علّة الارتداد مع وضوح الحقّ بقوله: ذلِكَ الارتداد بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا و شهواتها و آثروها عَلَى نعم اَلْآخِرَةِ و الجنة الباقية وَ أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يوفّق اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ للتديّن بدين الحقّ، لخبث ذاتهم، و رسوخ حبّ الدنيا في قلوبهم.

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (109)ثمّ بيّن أنّه تعالى لا يكتفي في حقّهم بالكفّ عن توفيقهم للثبات على الايمان، بل يخذلهم و يميت قلوبهم [الموت]الملازم لعدم العقل و الصّمم و العمى بقوله: أُولئِكَ المحبّون للدنيا و مؤثورها على الآخرة هم اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ و ختم عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ فلا يعقلون شيئا من الحقّ، و لا يسمعون النّصح و الوعد و الوعيد، و لا يبصرون الآيات و المعجزات.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعو أصحابه، فمن أراد اللّه به خيرا سمع و عرف ما يدعوه إليه، و من أراد به شرّا طبع على قلبه فلا يسمع و لا يعقل، و هو قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ

ص: 617


1- . تفسير القمي 1:390، تفسير الصافي 3:157.
2- . تفسير القمي 1:391، تفسير الصافي 3:157.
3- . الكافي 2:173/10، تفسير الصافي 3:157.
4- . تفسير العياشي 3:25/2433، تفسير الصافي 3:158.

طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ (1) عن وخامة عاقبتهم، و عمّا يراد بهم من العذاب الدائم لا جَرَمَ و حقّا أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْخاسِرُونَ حيث ضيّعوا فطرتهم و أعمارهم و صرفوها في تحصيل العذاب الدائم مع تمكّنهم من صرفها في تحصيل النّعم الدائمة و الراحة الأبدية، فلا أخسر منهم، بل لعظم خسرانهم كأنّه لا خاسر غيرهم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 110 الی 111

ثمّ بيّن سبحانه غاية لطفه بالذين عذّبهم الكفار و أكرهوهم على الكفر بقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا من أوطانهم حفظا لدينهم و نصرة لنبيهم مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا و عذّبوا بجور المشركين و اكرهوا على كلمة الكفر ثُمَّ جاهَدُوا في سبيل اللّه وَ صَبَرُوا على فتنة الكفّار و متاعب الهجرة و مشاقّ المجاهدة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها بلطفه و كرمة لَغَفُورٌ لما صدر عنهم من كلمة الكفر و سائر الزلاّت رَحِيمٌ بهم و منعم عليهم بالجنّة و سائر الخيرات.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)ثمّ بيّن سبحانه أنّ غفرانه لهم و رحمته عليهم يكونان في وقت غاية الحاجة إليهما بقوله: يَوْمَ و قيل: إنّ التقدير اذكر يا محمّد (2)أو ذكّرهم يوم تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ مؤمنة أو كافرة برّة أو فاجرة تُجادِلُ و تخاصم دفاعا عَنْ نَفْسِها و شخصها.

عن ابن عبّاس: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتّى يخاصم الروح الجسد، يقول الروح: يا ربّ، لم يكن لي يد أبطش بها و لا رجل أمشي بها، و لا عين أبصر بها. و يقول الجسد: خلقتني كالخشب، ليست لي يد أبطش [بها]، و لا رجل أمشي بها، و لا عين أبصر بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني، و أبصرت عيني، و مشت رجلي. قال: فيضرب لهما مثلا؛ مثل الأعمى و المقعد دخلا حائطا و فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثّمار، و المقعد لا ينالها، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثّمر، فعليهما العذاب (3).

و قيل: إنّ المعنى أنّ كلّ نفس تجادل نفسه، فيقول المطيع: لم لم اكثر من طاعة ربّي؟ و يقول العاصي لنفسه: لم عصيت ربّي.

ص: 618


1- . تفسير العياشي 3:26/2436، تفسير الصافي 3:158.
2- . تفسير روح البيان 5:87.
3- . تفسير روح البيان 5:88.

وَ تُوَفّى و تعطى كاملا كُلُّ نَفْسٍ من النفوس جزاء ما عَمِلَتْ من الطاعة و المعصية و الخير و الشرّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بتنقيص الثواب أو زيادة العقاب.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 112

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بالعذاب الاخروي، هدّدهم بالعذاب الدنيوي بقوله: وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً بديعا لتبيين حال الكفّار و المرتدين عن دين الحقّ، و ذكر لهم شبيها، و هو أنّ قَرْيَةً من القرى، قيل: هي مكة (1)، و قيل: هي أيلة، كانت بين ينبع و مصر (2)كانَتْ آمِنَةً من تعديّات القياصرة و ظلم الجبابرة و سائر المخوفات، و كانت مُطْمَئِنَّةً ساكنة أهلها، لا ينتقلون منها إلى غيرها لحسنها، و عذوبة مائها، و لطافة هوائها، و وفور نعمها، فانّه كان يَأْتِيها رِزْقُها و ما يحتاج إليه أهلها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ كان في نواحيها من البرّ و البحر فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّهِ بأن صرفها أهلها في عصيان ربّهم الذي تفضّل عليهم بتلك النّعم التي منها صحّة أمزجتهم، وسعة أرزاقهم، و أمنهم من المخوفات فَأَذاقَهَا اَللّهُ و ألبس أهلها لِباسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بسبب القحط و تهاجم الأعداء عليهم بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من كفران النعم.

وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّهِ فَأَذاقَهَا اَللّهُ لِباسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)روى بعض العامة: أنّ أهل أيلة كانوا يستنجون بالخبز (3).

و القمي رحمه اللّه، قال: نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له البليان (4)، و كانت بلادهم خصبة كثيرة الخير، و كانوا يستنجون بالعجين، و يقولون: هو ألين لنا، فكفروا بأنعم اللّه و استخفوا بنعمة اللّه، فحبس اللّه عليهم البليان، فجدبوا حتّى أحوجهم اللّه إلى [أكل]ما كانوا يستنجون به، حتّى كانوا يتقاسمون عليه (5).

و العياشي عن الصادق عليه السّلام: «كان أبي يكره أن يمسح يده بالمنديل و فيه شيء من الطعام تعظيما له، إلاّ أن يمصّها، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها له. قال: و إنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقّده، فيضحك الخادم» .

ثمّ قال: «إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم، كان اللّه قد وسع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إلى شيء من هذا النّقي (6)فجعلناه نستنجي به، كان ألين علينا من الحجارة» قال: «فلمّا فعلوا ذلك بعث اللّه إلى أرضهم دوابا أصغر من الجراد، فلم يدع لهم شيئا خلقه اللّه [يقدر عليه]إلاّ أكله من

ص: 619


1- . تفسير الرازي 20:127.
2- . تفسير روح البيان 5:88.
3- . تفسير روح البيان 5:89.
4- . في تفسير القمي الثلثان (الثرثار خ ل) .
5- . تفسير القمي 1:391، تفسير الصافي 3:159.
6- . النقيّ: الدقيق الجيد الأبيض.

شجر و غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا إلى الذي كانوا يستنجون به [فأكلوه]، و هي القرية التي قال اللّه: ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً إلى قوله: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (1).

قيل: وجه استعارة اللباس للجوع و الخوف إحاطتهما به من جميع الجهات (2).

و قيل: تأثيرهما في الهزال و شحوب اللون المشتملين على البدن كاللباس (3)، و قيل: إنّ اللباس هنا بمعنى الامساس (4).

و قيل: إنّ الإذاقة بمعنى التّعرّف (5). و قيل: استعير لفظ الإذاقة للاصابة لما فيها من اجتماع إدراكي اللاّمسة و الذائقة (4).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 113

ثمّ أنه تعالى بعد بيان سلب النعم عنهم بكفرانهم، بيّن ابتلاءهم بعذاب الاستئصال بتكذيبهم الرسول بقوله: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ من جانب اللّه رَسُولٌ مِنْهُمْ يعرفونه بأصله و نسبه و أخلاقه، لهدايتهم إلى الحقّ، و إرشادهم إلى وجوب شكر النعم و حرمة الكفران، و إخبارهم بسوء عاقبته فَكَذَّبُوهُ فيما أخبرهم به من رسالته من اللّه، و وجوب طاعته و طاعة أحكام اللّه التي منها وجوب شكر النعم فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذابُ المستأصل و أهلكهم به وَ هُمْ ظالِمُونَ على أنفسهم بكفران النعم و الكفر باللّه و برسوله.

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (113)عن ابن عبّاس، قال: هذا المثل لأهل مكة، فانّهم كانوا في حرم آمن و يتخّطف النّاس من حولهم، و ما يمرّ ببالهم طيف من الخوف، و كانت تجبى إليه ثمرات كلّ شيء، و لقد جاءهم رسول منهم، فكفروا بأنعم اللّه، و كذّبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأصابهم بدعائه-بقوله: «اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف» -ما أصابهم من القحط و الجدب حتى أكلوا الجيف و الكلاب الميتة و الجلود و العظام المحرّقة و العلهز-و هو الوبر و الدم-يعني كانوا يخلطون الدم بأوبار الإبل و يشوونه على النار، و صار الواحد منهم يرى ما بينه و بين السماء كالدّخان من الجوع، و قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد الهجرة، حيث كانوا يغيرون على مواشيهم و عيرهم، فوقعوا في خوف عظيم من أهل الاسلام حتى تركوا سفر الشام و التردّد إليه، ثمّ أخذهم يوم بدر ما أخذهم [من العذاب] (5).

ص: 620


1- . تفسير العياشي 3:27/2438، تفسير الصافي 3:159.
2- . تفسير الرازي 20:129.
3- . تفسير روح البيان 5:89. (4 و 5) . تفسير الرازي 20:129.
4- . تفسير أبي السعود 5:145.
5- . تفسير روح البيان 5:89.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 114

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء عاقبة الكفران، أمر عموم النّاس بشكر نعمه بقوله: فَكُلُوا أيّها الناس مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ و أنعم عليكم من النّعم حال كونها حَلالاً لكم من قبل اللّه طَيِّباً و لذيذا عندكم.

فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (114)قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطع الميرة عن أهل مكّة، فكلّم رسلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين جهدوا (1)، و قالوا: عاديت الرجال فما بال النسوة و الصبيان؟ فأذن صلّى اللّه عليه و آله في حمل الطعام إليهم، فلّما حمل خاطبهم اللّه بقوله: فَكُلُوا (2)يا أهل مكّة مِمّا رَزَقَكُمُ.

و قيل: كأنه قال تعالى: لمّا تبين لكم يا أهل مكه حال من كفر بأنعم اللّه و كذّب رسوله و ما حلّ بهم (3)فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حَلالاً طَيِّباً و لا تحرّموا بأهوائكم ما أحلّ اللّه لكم وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ و أحكامه تطيعون، و رضاه تطلبون.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 115

ثمّ أعلمهم بما حرّم عليهم بقوله: إِنَّما حَرَّمَ اللّه عَلَيْكُمُ في دين الاسلام اَلْمَيْتَةَ و ما زهق روحه بغير التذكية من كلّ حيوان برّي وَ اَلدَّمَ مسفوحا كان أو غيره إلاّ المتخلّف في المذكّى وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ و سائر ما يؤكل منه وَ ما أُهِلَّ و رفع الصوت لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ بأن يقال عند ذبحة باللات أو العزى، أو بغيرهما من أسماء الأصنام، هذه هي المحرّمات عند اللّه دون ما تزعمون من البحيرة و أخواتها، و تلك المحرّمات أيضا لا تحرّم مطلقا، بل يجوز أكلها عند الضّرورة فَمَنِ اُضْطُرَّ و الجئ إلى أكل أحد من الامور المحرّمة إذا كان غَيْرَ باغٍ و غير متعدّ على مضطرّ آخر، أو غير طالب للّذة، أو غير باغ على إمام زمانه وَ لا عادٍ و متجاوز في أكله عن قدر الضّرورة و سدّ الرّمق فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لا يؤاخذه بذلك رَحِيمٌ لا يرضى بمشقّتهم و التضييق عليهم، بل يرخّص لهم في رفع اضطرارهم بأكل ما حرّم عليهم.

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 116 الی 117

ص: 621


1- . جهد الناس: أجدبوا.
2- . تفسير الرازي 20:130.
3- . تفسير روح البيان 5:90.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حصر محرّماته في شرع الاسلام في الأشياء الأربعة، نهى المشركين عن بدعتهم و تحريم ما أحلّه اللّه عليهم بهوى أنفسهم بقوله: وَ لا تَقُولُوا أيّها المشركون لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ من الأنعام المحلّلة عند اللّه بالحلّ تارة و بالحرمة اخرى بهوى أنفسكم، بلا إسناد إلى الوحي من اللّه اَلْكَذِبَ على اللّه، و ذلك الكذب هو قولكم: هذا الحيوان الذي زهق روحه بغير التذكية، أو هذا الخنزير، أو هذا الدم المشوي حَلالٌ لنا من قبل اللّه و في حكمه وَ هذا الحيوان الحامي أو البحيرة أو السائبة حَرامٌ علينا، و هذا الذي في بطون الأنعام حرام على أزواجنا، فانّ جميع ذلك مجرّد الوصف و القول بالأنواه بلا حجة و دليل من اللّه.

و قيل: إنّ المعنى: لا يقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال و هذا حرام (1). و قيل: جملة تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ من أفصح الكلام و أبلغه (2). و قيل: إنّ اَلْكَذِبَ هو المقول (3).

ثمّ بيّن سبحانه ذلك الكذب بقوله: هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ ثمّ لمّا لم يصرّح سبحانه يكون كذبهم على اللّه صرّح به بقوله: لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ و لام (لتفتروا) لام العاقبة، و قيل: إنّ هذه الجملة بدل من قوله: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ لأنّ وصفهم الكذب هو عين الافتراء على اللّه (4).

ثمّ هدّد سبحانه المفترين عليه بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ و لا ينجون من العذاب، أو لا يفوزون بخير و مطلوب، ثمّ لمّا كان مجال توهّم أنّ لهم الفوز بنعم الدنيا، دفعه اللّه سبحانه بقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ تلك النّعم، و منفعة سريعة الزوال، بحيث لا يصحّ أن يقال لوجدانها فوز و فلاح، و لذا لا يعتني بها عاقل.

عن ابن عباس: بل متاع كلّ الدنيا [متاع]قليل (5). ثمّ يردّون بالموت و الخروج من الدنيا إلى نار جهنم وَ لَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 118

وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

ص: 622


1- . تفسير الرازي 20:132، تفسير أبي السعود 5:147، تفسير روح البيان 5:92.
2- . تفسير الرازي 20:132.
3- . تفسير روح البيان 5:92، جوامع الجامع:250.
4- . تفسير الرازي 20:132.
5- . تفسير الرازي 20:132.

ثمّ لمّا حصر سبحانه المحرّمات في الأربع و نهى عن تحريم غيرها، كان مجال توهّم أنّ المحرّمات التي في دين اليهود زائدة على الأربع مع كونها من اللّه، فدفعه بقوله: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ في سورة الأنعام التي أنزلناها عليك مِنْ قَبْلُ حيث قلنا فيها: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (1)إلى آخره، و إنما كان ذلك عقوبة لهم وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتحريمها عليهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بنقضهم الميثاق و بغيهم و ارتكابهم الذنوب الموبقة.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 119

ثمّ لمّا ذكر اللّه تعالى المعاصي العظام من الافتراء على اللّه، و البدعة في الدين و أمثالهما تصريحا و تلويحا، نبّه على علاجها و السبب المنجي من العذاب عليها بقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ و ارتكبوا المعصية بِجَهالَةٍ و سفاهة و عدم التدبّر في سوء العاقبة كأنّه تعالى قال: إنا قد بالغنا في تهديد الكفار و المفترين و مكذّبي الرسول.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)ثمّ بعد ذلك نقول: إنّ الناس إذا ارتكبوا جميع المعاصي بسبب الغفلة و الجهل أمدا بعيدا و دهرا دهيرا ثُمَّ تابُوا عن معاصيهم و ندموا على ما صدر منم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الذي علموا وَ أَصْلَحُوا عقائدهم و أعمالهم بأن صاروا مؤمنين بما يجب الايمان به مطيعين للّه و لرسوله، فاذا صدرت منهم التوبة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها و اللّه لَغَفُورٌ للمعاصي كلّها رَحِيمٌ بالعصاة التائبين مثيب لهم على توبتهم و إنابتهم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 120 الی 121

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب الشرك و شبهات المشركين في النبوة و بدعهم في الأحكام و كفرانهم نعم اللّه، ذكر توحيد إبراهيم الذي كانوا مفتخرين بالانتساب إليه (2)، متّفقين على حسن عقيدته و سيرته، و ذكر انقياده و طاعته للّه و شكره لنعمه بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ وحده أُمَّةً من الامم واحدا كالالوف، لكمال توحيده و إيمانه و صفاته، و معارضته مع جميع الناس بالحجج.

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اِجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)

ص: 623


1- . الأنعام:6/146.
2- . في النسخة: بالانتساب به.

عن الباقر عليه السّلام: «و ذلك أنّه كان على دين لم يكن عليه غيره، فكأنّه امّة واحدة» (1).

و قيل: إنّه امّه لكونه سببا لوجود الامّة الموحّدة (2).

و قيل: إنّ الامّة بمعنى المقتدى، و اطلق عليه لأنّه كان إماما يؤتمّ به (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «شيء فضله اللّه به» (2).

و كان قانِتاً لِلّهِ قائما بما أمره. عن الباقر عليه السّلام و ابن عبّاس: «يعني مطيعا للّه» (3)و كان عليه السّلام حَنِيفاً و مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى ملّة الاسلام ثابتا عليه.

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا الحنيف فالمسلم» (4).

و عن ابن عباس: أنّه أول من اختتن، و أقام مناسك الحج و ضحّى، و هذه صفة الحنيفية (5).

وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ بل كان رأس الموحّدين صغيرا و كبيرا شاكِراً للّه و لِأَنْعُمِهِ معترفا بها.

روي أنّه عليه السّلام كان لا يتغدّى إلاّ مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداءه، فجاء فوج من الملائكة في زيّ البشر، فقدّم له الطعام، فخيّلوا إليه أنّ بهم جذاما، فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم، شكرا للّه على أن عافاني و ابتلاكم (6).

اِجْتَباهُ اللّه و اختاره للرسالة و الخلّة و الإمامة وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الطريق الواضح الموصل إلى كلّ خير و سعادة، و في التوصيفات المذكورة تكذيب لقريش فيما كانوا يزعمون من أنّهم على ملّة إبراهيم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 122 الی 123

ثمّ بيّن سبحانه تشريفاته عنده بقوله: وَ آتَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا مثوبة حَسَنَةً من الذكر الجميل، و الثناء بين الناس، و العمر الطويل، و كثرة النّسل، و كون الأنبياء من ذرّيته، و كون خاتم الأنبياء و أوصيائه الطيبين من نسله وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ و ذوي الدرجات العالية في أعلى

وَ آتَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (123)

ص: 624


1- . تفسير القمي 1:392، تفسير الصافي 3:161. (2 و 3) . تفسير الرازي 20:134.
2- . تفسير العياشي 3:28/2440، تفسير الصافي 3:161.
3- . تفسير القمي 1:392، تفسير الرازي 20:135، تفسير الصافي 3:161.
4- . تفسير القمي 1:392، تفسير الصافي 3:161.
5- . تفسير الرازي 20:135.
6- . تفسير الرازي 20:135، تفسير روح البيان 5:94.

علّيين.

ثمّ بيّن اللّه تعالى أجلّ ما اوتي عليه السّلام بقوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ و دينه-فانّه كان حَنِيفاً و مائلا عن كلّ دين باطل-و هو دين الاسلام و الصراط المستقيم الذي هداه إليه.

ثمّ أكّد تنزيهه عن الشرك بقوله: وَ ما كانَ إبراهيم مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ مبالغة في إبطال مذهب الشرك، و إنّما أمره عليه السّلام بالاتّباع لأنّه عليه السّلام كان بعده، و إلاّ فهو عليه السّلام في عالم الأنوار و الأنوار و الأشباح كان متبوعا لما سوى اللّه من الملائكة و الأنبياء أجمعين.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 124

ثمّ لمّا أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله باتباع إبراهيم، كان مجال توهّم أنه خالفه في دينه بجعل الجمعة عيدا لامّته، فدفعه سبحانه بقوله: إِنَّما جُعِلَ اَلسَّبْتُ عيدا و فرض تعظيمه عَلَى بني إسرائيل اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لا على إبراهيم و أتباعه.

إِنَّما جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)قيل: إنّ موسى أمر اليهود أن يجعلوا يوما واحدا في الاسبوع للعبادة، و أن يكون ذلك يوم الجمعة، فأبوا عليه، و قالوا: نريد اليوم الذي فرغ اللّه فيه من خلق السماوات و الأرض، و هو السبت، إلاّ شرذمة منهم قد رضوا بيوم الجمعة، فأذن اللّه لهم في السبت، و ابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر اللّه الذين رضوا بالجمعة، فكانوا لا يصيدون، و أمّا غيرهم فلم يصبروا عن الصيد، فمسخهم اللّه قردة دون اولئك المطيعين (1).

و عن ابن عباس: أمرهم موسى بالجمعة، و قال: تفرّغوا للّه في كلّ سبعة أيام يوما واحدا، و هو يوم الجمعة، لا تعملوا فيه شيئا من أعمالكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك، و قالوا: لا نريد إلاّ اليوم الذي فرغ اللّه فيه من الخلق، و هو يوم السبت، فجعل اللّه السبت لهم، و شدّد عليهم فيه، ثمّ جاء عيسى أيضا بالجمعة، فقالت: النصارى: لا نريد إلاّ أن يكون عيدنا بعد عيدهم (2)، فاتخذوا الأحد (3).

و عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «إنّ اللّه كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا، فاختلفوا فيه و هدانا اللّه له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، و النصارى بعد غد» (4).

ص: 625


1- . تفسير أبي السعود 5:150، تفسير روح البيان 5:96.
2- . في تفسير الرازي: عيدهم بعد عيدنا. (3 و 4) . تفسير الرازي 20:137.

القمي، قال: إنّ موسى أمر قومه أن يتفرّغوا إلى اللّه في كلّ سبعة أيام يوما يجعله اللّه عليهم، و هم الذين اختلفوا فيه (1).

و قيل: معنى اختلافهم أنّهم اختلفوا على نبيّهم في ذلك اليوم، لا أنهم اختلفوا فيما بينهم (2).

قيل: إنّ الجمعة أفضل الأيام، لأنّ السبت كان يوم الفراغ، و الأحد يوم الشروع، و الجمعة يوم الكمال و التمام، و هو أولى بالفرح الكامل و السرور العظيم (3).

و قيل: إنّ المراد من اختلاف بني إسرائيل في السبت أنّهم أحلّوا الصيد فيه تارة و حرّموه اخرى، و كان عليهم أن يتّفقوا في تحريمه على كلمة واحدة (4).

ثمّ وعد اللّه المحقّين، و أوعد المبطلين بقوله: وَ إِنَّ رَبَّكَ و اللّه لَيَحْكُمُ في شأن المختلفين، و يقضي بَيْنَهُمْ بالحقّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و الحكومة و القضاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بأن يثيب المحقّين و يعاقب المبطلين.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 125

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله باتّباع إبراهيم في الملّة و الدين، أمره باتّباعه في الدعوة إلى اللّه و توحيده و في كيفيتها بقوله: اُدْعُ يا محمّد إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ و دينه المرضيّ عند خواصّ امّتك بِالْحِكْمَةِ و الحجّة القاطعة، و عوامّهم بالدلائل الاقناعية وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ و النصائح الوافية و البيانات المؤثّرة الكافية و الحكايات النافعة، و أمّا المعاندون منهم الذين لا تؤثّر فيهم الدعوة، و كان غرضهم المجادلة فناجزهم وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من طرق المناظرة و المجادلة، و هو على ما قيل: اللين في الكلام، و اختيار ما هو أقرب إلى الإفحام، و أيسر في الإلزام، كما فعله الخليل عليه السّلام (5).

اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)عن الصادق عليه السّلام، أنّه ذكر عنده الجدال في الدين، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة [قد]نهوا عنه، فقال الصادق عليه السّلام: «لم ينه عنه مطلقا، و لكنّه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، [أما تسمعون قوله تعالى: وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (6)و قوله تعالى: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فالجدال بالتي هي أحسن]قد أمر به العلماء بالدين، و الجدال بغير التي هي أحسن محرّم حرّمه اللّه على شيعتنا، و كيف يحرّم اللّه الجدال

ص: 626


1- . تفسير القمي 1:392، تفسير الصافي 3:162.
2- . تفسير الرازي 20:137.
3- . تفسير الرازي 20:137 و 138.
4- . تفسير الرازي 20:138.
5- . تفسير أبي السعود 5:151، تفسير روح البيان 5:97.
6- . العنكبوت:29/46.

جملة و هو يقول: وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1)فجعل علم الصدق و الايمان بالبرهان، و هل يؤتى بالبرهان إلاّ في الجدال بالتي هي أحسن» .

قيل: يا بن رسول اللّه، فما الجدال بالتي هي أحسن، و التي ليست بأحسن؟ قال: «أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل مبطلا، فيورد عليك باطلا، فلا تردّه بحجّة قد نصبها اللّه، و لكن تجحد [قوله أو تجحد]حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحقّ مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة؛ لأنّك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أنّ يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم و على المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته و ضعف [ما] في يده حجّة له على باطله، و أمّا الضعفاء فتغتمّ قلوبهم لما يرون من ضعف المحقّ في يد المبطل.

و أمّا الجدال بالتي هي أحسن، فهو ما أمر اللّه به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت، و إحياء اللّه تعالى له، فقال اللّه له حاكيا عنه: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ و قال اللّه في الرّد عليه: قُلْ يا محمّد يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً (2)إلى آخر السورة، فأراد اللّه من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام و هي رميم؟ فقال اللّه: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أفيعجز من ابتدأه لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى، بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته.

ثمّ قال: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي إذا أكمن (3)النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب [ثمّ]يستخرجها، فعرفكم أنّه على إعادة ما بلي أقدر، ثمّ قال: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ اَلْخَلاّقُ اَلْعَلِيمُ (4)أي إذا كان خلق السماوات و الأرض أعظم و أبعد في أذهانكم (5)و قدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوّزتم من اللّه خلق هذا الأعجب عندكم و الأصعب لديكم، و لم تجوّزوا ما هو الاسهل عندكم من إعادة البالي؟» .

قال الصادق عليه السّلام: «فهذا الجدال بالتي هي أحسن؛ لأنّ فيها قطع عذر الكافرين، و إزالة شبهتهم» (6).

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة، وعد المجيبين له و المهتدين بهداه بالثواب، و أوعد

ص: 627


1- . البقرة:2/111.
2- . يس:36/78-80.
3- . في النسخة: كمن، و ما أثبتناه من الاحتجاج.
4- . يس:36/81.
5- . في الاحتجاج و تفسير الامام العسكري: في أوهامكم.
6- . الاحتجاج:21، تفسير الامام العسكري عليه السّلام:527/322، و فيهما: و إزالة شبههم، تفسير الصافي 3:163.

الضالين الذين لم يجيبوه و لم يهتدوا به بالعقاب بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ و انحرف عَنْ سَبِيلِهِ و دينه بعد دعوته إليه بالحكمة و الموعظة و العبر، فيعاقبه أشدّ العقاب وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى الحقّ الذي هو دين الاسلام، فيجازيهم بالثواب العظيم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 126 الی 127

ثمّ لمّا كانت الدعوة ملازمة لايذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين المستعقبة لإقدام المؤمنين على مكافاة الأعداء، أمرهم سبحانه بالعدل و الانصاف في مكافاتهم بقوله: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ أيّها المؤمنون و كافيتم الأعداء على إيذائهم بكم و ظلمهم عليكم فَعاقِبُوا هم و كافوهم على ظلمهم بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ و بما يساوي (1)ما تعدّوا عليكم، و لا تزيدوا على ما تعدّوا عليكم، و لا تزيدوا على ما فعلوا بكم غيظا و تشفّيا، و إطلاق العقاب على الأذى البدوي من باب مجاز المشاكلة و الازدواج.

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ (126) وَ اِصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ (127)ثمّ لمّا كان الصبر على الأذى أولى و أفضل عند اللّه من الانتقام، حثّهم سبحانه عليه بقوله: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ أيّها المؤمنون على ما نزل بكم من الأذى، و تركتم الانتقام و العقوبة باللّه لَهُوَ خَيْرٌ و أفضل عند اللّه، و أكثر ثوابا لِلصّابِرِينَ على المصائب و الشدائد.

ثمّ أنّه تعالى بعد التنبيه على فضيلة الصبر و حثّ المؤمنين عليه، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله الذي هو أفضل خلقه بالصبر الذي هو أفضل الأعمال و أحمزها (2)بقوله: وَ اِصْبِرْ يا محمّد على ما أصابك من أذى الكفّار وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ و بتوفيقه و إعانته لك عليه.

روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «أمر اللّه أنبياءه بالصبر، و جعل الحظّ الأعلى منه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث جعل صبره باللّه لا بنفسه، و قال وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ» (3).

أقول: و فيه تسلية له عليه السّلام.

ثمّ بالغ في تسليته في اغتمامه في مشاقّة الكفار و إصرارهم على معارضته بقوله: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ و لا يتألّم قلبك من حرمانهم عن فيض الهداية و الإيمان و فوائد متابعتك، و سعيهم في تخريب أمرك و إيذائك وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ و غمّ شديد مِمّا يَمْكُرُونَ بك و يدبّرون في إطفاء نورك و إبطال دعوتك و الإضرار بنفسك.

ص: 628


1- . في النسخة: يسوى.
2- . أي أشدّها.
3- . تفسير روح البيان 5:101.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 128

ثمّ قوّى سبحانه قلبه الشريف و آمنه من إضرارهم عليه بقوله: إِنَّ اَللّهَ بالولاية و التفضّل مَعَ المؤمنين و اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا و تحرّزوا عن المعاصي و ما يخالف رضاه وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم و مؤدّون ما عليهم من تكاليف ربّهم، أو المراد مع الذين اتّقوا مكافاة المسيء إليهم، و الذين هم محسنون إلى من عاداهم و أساء إليهم.

إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رأى حمزة و قد مثّلوا به قال: «و اللّه لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك» فنزل جبرئيل بخواتيم سورة النحل، فكفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمسك عمّا أراد (1).

و في رواية اخرى قال: «أما و اللّه لئن أظفرني اللّه بهم لأمثّلنّ بسعبين مكانك» (2). و قال الؤمنون: إن أظهرنا اللّه عليهم لنزيدنّ على صنعهم و لنمثّلنّ مثلة لم يمثّلها أحد من العرب بأحد قطّ (3).

و عن القمي، قال: إنّ المشركين مثّلوا بأصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله الذين استشهدوا يوم احد، و فيهم حمزة، فقال المسلمون: أما و اللّه لئن أدالنا اللّه عليهم لنمثّلنّ بأخيارهم، و ذلك قول اللّه تعالى: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ (4)يعني بالأموات (5).

قيل: إنّ الكفار مثلّوا بجميع المقتولين من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في احد إلاّ بحنظلة الملقّب بغسيل الملائكة بن أبي عامر الراهب لمكان كفر أبيه (6).

و عن العياشي، عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما صنع بحمزة بن عبد المطلب قال: اللهم لك الحمد و إليك المشتكى و أنت المستعان على ما رأى، ثمّ قال: لئن ظفرت لأمثّلنّ و أمثّلنّ.

قال: فأنزل اللّه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ الآية. فقال رسول اللّه: أصبر أصبر» (7).

قيل: إنّ سورة النّحل كلّها مكيّة إلاّ هذه الآيات الثلاث (8).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة النحل في كلّ شهر دفع اللّه عنه المعرّة (9)في الدنيا و سبعين نوعا من أنواع البلاء أهونه الجنون و الجذام و البرص، و كان مسكنه في جنة عدن و هي وسط الجنان» (10).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسير سورة النحل، و له المنّة.

ص: 629


1- . تفسير الرازي 20:141، تفسير البيضاوي 1:561.
2- . تفسير البيضاوي 1:561، تفسير أبي السعود 5:152.
3- . تفسير روح البيان 5:100.
4- . النحل:16/126.
5- . تفسير القمي 1:392، تفسير الصافي 3:164.
6- . تفسير روح البيان 5:99.
7- . تفسير العياشي 3:29/2444، تفسير الصافي 3:165.
8- . مجمع البيان 5:535.
9- . في النسخة: شهر كفى العزم.
10- . تفسير العياشي 3:3/2361، تفسير الصافي 3:165.

ص: 630

الفهرس

اشارة

[145] و كتبنا له فى الألواح من كل شىء موعظة و تفصيلا لكل شىء فخذها بقوة 5

[146] سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية 6

[147] و الذين كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا 7

[148] و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ا لم يروا أنه 7

[149-151] و لما سقط فى أيديهم و رأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا و يغفر 8

[152] إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم و ذلة فى الحياة الدنيا 10

[153 و 154] و الذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها و آمنوا إن ربك من بعدها لغفور 11

[155] و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب 11

[156] و اكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة و فى الآخرة إنا هدانا إليك قال عذابى 13

[157] الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم في 13

[158] قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السماوات 16

[159] و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون 17

[160] و قطعناهم اثنتى عشرة أسباطا أمما و أوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه 19

[161 و 162] أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس 20

[163] و سئلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون فى السبت إذ 21

[164-166] و إذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا 21

[167] و إذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن 25

[168] و قطعناهم فى الأرض أمما منهم الصالحون و منهم دون ذلك و بلوناهم 25

[169] فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى 26

[170] و الذين يمسكون بالكتاب و أقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر 27

[171] و إذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة و ظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة 27

ص: 631

[172-174] و إذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم 28

[175] و اتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من 31

[176 و 177] و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فمثله كمثل 34

[178] من يهد الله فهو المهتدى و من يضلل فأولئك هم الخاسرون 35

[179] و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم 35

[180] و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون فى أسمائه 36

[181] و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون 38

[182] و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون 39

[183] و أملى لهم إن كيدى متين 39

[184] أ و لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين 40

[185] أ و لم ينظروا فى ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله من شىء و أن 40

[186] من يضلل الله فلا هادى له و يذرهم فى طغيانهم يعمهون 41

[187] يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها 41

[188] قل لا أملك لنفسى نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله و لو كنت أعلم الغيب 43

[189 و 190] هو الذى خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها ليسكن إليها فلما 44

[191] أ يشركون ما لا يخلق شيئا و هم يخلقون 46

[192 و 193] و لا يستطيعون لهم نصرا و لا أنفسهم ينصرون*و إن تدعوهم إلى الهدى 46

[194] إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن 47

[195 و 196] أ لهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها 47

[197 و 198] و الذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم و لا أنفسهم ينصرون*و إن 48

[199] خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين 49

[200] و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم 50

[201 و 202] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون 50

[203] و إذا لم تأتهم بآية قالوا لو لا اجتبيتها قل إنما اتبع ما يوحى إلى من ربى 51

[204] و إذا قرئ القرآن فاستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون 51

[205 و 206] و اذكر ربك فى نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو 53

في تفسير سورة الأنفال 55

ص: 632

[1] بسم الله الرحمن الرحيم يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول فاتقوا الله 55

[2 و 3] إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته 57

[4-6] أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم و مغفرة و رزق كريم*كما 58

[7 و 9] و إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم و تودون أن غير ذات الشوكة 64

[10 و 11] و ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله إن 66

[12-14] إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى فى 72

[15 و 16] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار*و من 75

[17 و 18] فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رمت و لكن الله رمى و ليبلى 76

[19] إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح و إن تنتهوا فهو خير لكم و إن تعودوا نعد 77

[20-23] يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله و رسوله و لا تولوا عنه و أنتم تسمعون*و لا 77

[24] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم و اعلموا 78

[25] و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة و اعلموا أن الله شديد 80

[26] و اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض تخافون أن يتخطفكم 80

[27] يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله و الرسول و تخونوا أماناتكم و أنتم 81

[28 و 29] و اعلموا أنما أموالكم و أولادكم فتنة و أن الله عنده أجر عظيم*يا أيها 82

[30] و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون 83

[31 و 32] و إذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا 87

[33] و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون 89

[34] و ما لهم ألا يعذبهم الله و هم يصدون عن المسجد الحرام و ما كانوا أولياءه 90

[35] و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية فذوقوا العذاب بما كنتم 90

[36 و 37] إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم 91

[38] قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف و إن يعودوا فقد مضت 93

[39 و 40] و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما 93

[41 و 42] و اعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه و للرسول و لذى القربى 94

[43] إذ يريكهم الله فى منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم فى 97

[44] و إذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا و يقللكم فى أعينهم ليقضى الله 97

[45-47] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 98

ص: 633

[48 و 49] و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم من الناس و إنى 99

[50 و 51] و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم 102

[52] كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم 102

[53] ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم 103

[54-56] كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم 103

[57 و 58] فإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون*و إما 104

[59] و لا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون 105

[60] و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله 105

[61] و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم 106

[62 و 63] و بالمؤمنين*و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت 107

[64] يا أيها النبى حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين 108

[65] يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون 108

[66] الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة 109

[67] ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض 110

[68-71] لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم*فكلوا مما 111

[72] إن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم فى سبيل الله و الذين 114

[73] و الذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض و فساد 115

[74 و 75] و الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا فى سبيل الله و الذين آووا و نصروا أولئك 115

في تفسير سورة براءة 119

[1] براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين 119

[2] فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر و اعلموا أنكم غير معجزى الله و أن الله 120

[3] و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برىء من 124

[4] إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا و لم يظاهروا عليكم 125

[5] فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم 126

[6] و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه 126

[7] كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند 127

[8] كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا و لا ذمة يرضونكم بأفواههم 127

ص: 634

[9] اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون 127

[10-12] لا يرقبون فى مؤمن إلا و لا ذمة و أولئك هم المعتدون*فإن تابوا و أقاموا 128

[13] ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدؤكم أول 129

[14 و 15] قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم 130

[16] أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و لم يتخذوا من 131

[17 و 18] ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر 131

[19] أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم 132

[20 و 22] الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم و أنفسهم أعظم 134

[23 و 24] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم و إخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر 134

[25 و 26] لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن 136

[27] ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم 141

[28] يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد 141

[29] قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله 142

[30] و قالت اليهود عزيز ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم 144

[31] اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما 145

[32] يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره 145

[33] هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره 146

[34 و 35] يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس 148

[36] إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السماوات 150

[37] إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه 151

[38 و 39] يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى 152

[40] إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى 153

[41] انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم فى سبيل الله ذلكم خير 159

[42] لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك و لكن بعدت عليهم الشقة 160

[43] عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم 161

[44] لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم 161

[45] إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و ارتابت قلوبهم فهم فى 161

ص: 635

[46] و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل 162

[47] لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة 162

[48] لقد ابتغوا الفتنة من قبل و قلبوا لك الأمور حتى جاء الحق و ظهر أمر الله 162

[49] و منهم من يقول ائذن لى و لا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا و إن جهنم 163

[50] إن تصبك حسنة تسؤهم و إن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل 164

[51 و 52] قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون 164

[53] قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين 165

[54] و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله و برسوله و لا يأتون 166

[55] فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها فى الحياة 166

[56 و 57] و يحلفون بالله إنهم لمنكم و ما هم منكم و لكنهم قوم يفرقون*لو يجدون 167

[58] و منهم من يلمزك فى الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا 167

[59] و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله 169

[60] إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و فى 169

[61 و 62] و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله 171

[63-65] ا لم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك 173

[66] لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة 175

[67] المنافقون و المنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر و ينهون عن 175

[68] وعد الله المنافقين و المنافقات و الكفار نار جهنم خالدين فيها هي 176

[69] كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة و أكثر أموالا و أولادا فاستمتعوا 176

[70] أ لم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح و عاد و ثمود و قوم إبراهيم 177

[71] و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون 178

[72] وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين 179

[73] يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنم 179

[74] يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما 180

[75 و 76] و منهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين 183

[77 و 78] فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه و بما 184

[79 و 80] الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين فى الصدقات و الذين لا يجدون 185

ص: 636

[81] فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم 186

[82] فليضحكوا قليلا و ليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون 187

[83] فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي 187

[84] و لا تصل على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره إنهم كفروا بالله 188

[85] و لا تعجبك أموالهم و أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فى الدنيا 190

[86] و إذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله و جاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول 191

[87 و 88] رضوا بأن يكونوا مع الخوالف و طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون*لكن 191

[89 و 90] أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز 192

[91 و 92] ليس على الضعفاء و لا على المرضى و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون 192

[93 و 94] إنما السبيل على الذين يستأذنونك و هم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع 194

[95] سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم 195

[96] يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم 196

[97 و 98] الأعراب أشد كفرا و نفاقا و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله 196

[99] و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله 197

[100] و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان 197

[101] و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النفاق 200

[102] و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن 200

[103] خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم إن صلاتك سكن 201

[104] ا لم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات و أن الله هو 201

[105] و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون و ستردون إلى عالم 203

[106] و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم 204

[107 و 108] و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و إرصادا لمن 204

[109] ا فمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير أم من أسس بنيانه 210

[110] لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم و الله عليم 210

[111] إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى 211

[112] التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون 212

[113-115] ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولى قربى من 213

ص: 637

[116] إن الله له ملك السماوات و الأرض يحيى و يميت و ما لكم من دون الله من 216

[117] لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه فى ساعة 216

[118] و على الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت 219

[119] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين 221

[120 و 121] ما كان لأهل المدينة و من حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله 223

[122] و ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا 224

[123] يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار و ليجدوا فيكم غلظة 226

[124 و 125] أن و إذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما 226

[126] أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون و لا هم 227

[127] و إذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا 227

[128 و 129] لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم 228

في تفسير سورة يونس 231

[1] بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب الحكيم 231

[2] أ كان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس و بشر الذين 231

[3] إن ربكم الله الذى خلق السماوات و الأرض فى ستة أيام ثم استوى على 232

[4] إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين 233

[5] هو الذى جعل الشمس ضياء و القمر نورا و قدره منازل لتعلموا عدد 234

[6] إن فى اختلاف الليل و النهار و ما خلق الله فى السماوات و الأرض لآيات 234

[7 و 8] إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم 235

[9 و 10] إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من 235

[11] و لو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر 236

[12] و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره 237

[13 و 14] و لقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا و جاءتهم رسلهم بالبينات و ما 237

[15] و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير 238

[16] قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله 239

[17] فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح 240

[18] و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا 240

ص: 638

[19] و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي 242

[20] و يقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم 243

[21] و إذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر فى آياتنا قل الله 243

[22 و 23] هو الذى يسيركم فى البر و البحر حتى إذا كنتم فى الفلك و جرين بهم 244

[24] إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض 245

[25] و الله يدعوا إلى دار السلام و يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم 246

[26] للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة أولئك 247

[27] و الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها و ترهقهم ذلة ما لهم من الله من 248

[28] و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم 249

[29 و 30] فكفى بالله شهيدا بيننا و بينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين*هنالك تبلوا 249

[31-33] قل من يرزقكم من السماء و الأرض أمن يملك السمع و الأبصار و من 249

[34 و 35] قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم 251

[36 و 37] و ما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما 251

[38] أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله إن 252

[39] بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من 253

[40] و منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و ربك أعلم بالمفسدين 253

[41] و إن كذبوك فقل لى عملى و لكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل و أنا برىء 253

[42 و 43] و منهم من يستمعون إليك أ فأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون*و منهم 254

[44 و 45] إن الله لا يظلم الناس شيئا و لكن الناس أنفسهم يظلمون*و يوم يحشرهم 255

[46 و 47] و إما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد 255

[48 و 49] و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين*قل لا أملك لنفسى ضرا و لا 256

[50-53] قل أ رأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون 257

[54] و لو أن لكل نفس ظلمت ما فى الأرض لافتدت به و أسروا الندامة لما رأوا 258

[55 و 56] ألا إن لله ما فى السماوات و الأرض ألا إن وعد الله حق و لكن أكثرهم لا 259

[57] يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم و شفاء لما فى الصدور و هدى 259

[58] قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون 260

[59] قل أ رأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل الله أذن 260

ص: 639

[60] و ما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على 261

[61] و ما تكون فى شأن و ما تتلوا منه من قرآن و لا تعملون من عمل إلا كنا 262

[62] ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون 262

[63 و 64] الذين آمنوا و كانوا يتقون*لهم البشرى فى الحياة الدنيا و فى الآخرة لا 263

[65] و لا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم 264

[66] ألا إن لله من فى السماوات و من فى الأرض و ما يتبع الذين يدعون من 265

[67 و 68] دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن و إن هم إلا يخرصون 265

[69 و 70] قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون*متاع فى الدنيا ثم إلينا 266

[71] و اتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى و تذكيرى 267

[72-74] فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله و أمرت أن أكون من 268

[75-77] ثم بعثنا من بعدهم موسى و هارون إلى فرعون و ملئه بآياتنا فاستكبروا 269

[78-82] قالوا أ جئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا و تكون لكما الكبرياء فى 269

[83-86] فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون و ملائهم أن يفتنهم 270

[87] و أوحينا إلى موسى و أخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا و اجعلوا بيوتكم 271

[88-89] و قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة و أموالا فى الحياة الدنيا 272

[90] و جاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون و جنوده بغيا و عدوا حتى إذا 273

[91-92] آلآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين*فاليوم ننجيك ببدنك لتكون 274

[93] و لقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق و رزقناهم من الطيبات فما اختلفوا 276

[94 و 95] فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك 276

[96 و 97] إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون*و لو جاءتهم كل آية حتى 277

[98] فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم 277

[99] و لو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أ فأنت تكره الناس حتى 285

[100] و ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله و يجعل الرجس على الذين لا 285

[101] قل انظروا ما ذا فى السماوات و الأرض و ما تغنى الآيات و النذر عن قوم 286

[102] فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من 287

[103] ثم ننجى رسلنا و الذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجى المؤمنين 287

[104-106] قل يا أيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من 288

ص: 640

[107] و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو و إن يردك بخير فلا راد لفضله 289

[108] قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى 289

[109] و اتبع ما يوحى إليك و اصبر حتى يحكم الله و هو خير الحاكمين 290

في تفسير سورة هود 291

[1] بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير 291

[2-4] ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير و بشير*و أن استغفروا ربكم ثم توبوا 292

[5] ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما 292

[6] و ما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كل 293

[7] و هو الذى خلق السماوات و الأرض فى ستة أيام و كان عرشه على الماء 294

[8] و لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم 296

[9 و 10] و لئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور*و لئن 297

[11 و 12] إلا الذين صبروا و عملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة و أجر كبير*فلعلك 298

[13] أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم 299

[14] فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله و أن لا إله إلا هو فهل أنتم 300

[15 و 16] من كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا 300

[17] ا فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسى إماما 301

[18] و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم و يقول 304

[19] الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة هم كافرون 305

[20 و 21] أولئك لم يكونوا معجزين فى الأرض و ما كان لهم من دون الله من أولياء 305

[22 و 23] لا جرم أنهم فى الآخرة هم الأخسرون*إن الذين آمنوا و عملوا 306

[24] مثل الفريقين كالأعمى و الأصم و البصير و السميع هل يستويان مثلا ا فلا 306

[25-28] و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين*أن لا تعبدوا إلا الله إنى 307

[29] و يا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله و ما أنا بطارد الذين 308

[30 و 31] و يا قوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أ فلا تذكرون*و لا أقول لكم 309

[32 و 33] قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من 309

[34] و لا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو 310

[35] أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى و أنا برىء مما تجرمون 310

ص: 641

[36] و أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا 311

[37 و 38] و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا و لا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون 311

[39] فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم 312

[40] حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين 313

[41-43] و قال اركبوا فيها بسم الله مجراها و مرساها إن ربى لغفور رحيم*و هى 316

[44] و قيل يا أرض ابلعى ماءك و يا سماء أقلعى و غيض الماء و قضى الأمر 319

[45-47] و نادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى و إن وعدك الحق و أنت أحكم 320

[48] قيل يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك و على أمم ممن معك و أمم 321

[49] تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل 323

[50 و 51] و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا 324

[52] و يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا و يزدكم 324

[53] قالوا يا هود ما جئتنا ببينة و ما نحن بتاركى آلهتنا عن قولك و ما نحن لك 325

[54-56] إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إنى أشهد الله و اشهدوا أنى برىء 325

[57] فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم و يستخلف ربى قوما غيركم و لا 326

[58] و لما جاء أمرنا نجينا هودا و الذين آمنوا معه برحمة منا و نجيناهم من 327

[59 و 60] و تلك عاد جحدوا بآيات ربهم و عصوا رسله و اتبعوا أمر كل جبار عنيد 328

[61] و إلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو 329

[62-64] قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا 329

[65 و 66] فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب*فلما 332

[67 و 68] و أخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين*كأن لم يغنوا 332

[69-71] و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء 333

[72-74] قالت يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلى شيخا إن هذا لشىء عجيب 335

[75-81] إن إبراهيم لحليم أواه منيب*يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر 336

[82 و 83] فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجيل 339

[84] و إلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره و لا 343

[85] و يا قوم أوفوا المكيال و الميزان بالقسط و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لا 344

[86] بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين و ما أنا عليكم بحفيظ 344

ص: 642

[87 و 88] قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل فى 345

[89-93] و يا قوم لا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم 346

[94 و 95] و لما جاء أمرنا نجينا شعيبا و الذين آمنوا معه برحمة منا و أخذت الذين 348

[96-99] و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين*إلى فرعون و ملئه فاتبعوا أمر 348

[100] ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم و حصيد 349

[101-103] و ما ظلمناهم و لكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التى يدعون من 349

[104-107] و ما نؤخره إلا لأجل معدود*يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي 351

[108] و أما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض 353

[109] فلا تك فى مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل 353

[110] و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي 354

[111] و إن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير 355

[112 و 113] فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه بما تعملون بصير*و لا 355

[114] و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات 356

[115 و 116] و اصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين*فلو لا كان من القرون من 358

[117] و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون 359

[118 و 119] و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين*إلا من رحم 359

[120-122] و كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك و جاءك فى هذه الحق 361

[123] و لله غيب السماوات و الأرض و إليه يرجع الأمر كله فاعبده و توكل عليه 361

في تفسير سورة يوسف 363

[1] بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب المبين 363

[2 و 3] إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون*نحن نقص عليك أحسن القصص 363

[4] إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر 364

[5] قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان 365

[6] و كذلك يجتبيك ربك و يعلمك من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليك 36

[7] لقد كان فى يوسف و إخوته آيات للسائلين 368

[8] إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفى ضلال 368

[9] اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده 369

ص: 643

[10] قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف و ألقوه فى غيابت الجب يلتقطه بعض 369

[11 و 12] قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون*أرسله معنا غدا 370

[13-15] قال إنى ليحزننى أن تذهبوا به و أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون 370

[16-18] و جاؤ أباهم عشاء يبكون*قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف 374

[19 و 20] و جاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام و أسروه 376

[21] و قال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو 379

[22-24] و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما و كذلك نجزى المحسنين*و راودته 380

[25-29] و استبقا الباب و قدت قميصه من دبر و ألفيا سيدها لدى الباب قالت ما 385

[30-32] و قال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا 388

[33-36] قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عنى كيدهن 391

[37 و 38] قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما 396

[39] يا صاحبي السجن أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار 398

[40] ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من 398

[41] يا صاحبى السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا و أما الآخر فيصلب 399

[42] و قال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه 400

[43] و قال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع 401

[44-48] قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين*و قال الذى نجا 402

[49] ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون 404

[50] و قال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسأله ما بال 405

[51] قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من 406

[52] ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدى كيد الخائنين 406

[53] و ما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور 407

[54] و قال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا 408

[55] قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم 409

[56] و كذلك مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا 410

[57] و لأجر الآخرة خير للذين آمنوا و كانوا يتقون 410

[58] و جاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم و هم له منكرون 415

ص: 644

[59] و لما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوفى 416

[60-62] فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى و لا تقربون*قالوا سنراود عنه أباه 416

[63 و 64] فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل 417

[65 و 66] و لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغى هذه 418

[67] و قال يا بني لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة و ما أغنى 419

[68] و لما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء إلا حاجة 420

[69] و لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما 421

[70] فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها 423

[71-75] قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون*قالوا نفقد صواع الملك و لمن جاء به 424

[76] فبدأ بأوعيتهم قبل و عاأ أخيه ثم استخرجها من و عاأ أخيه كذلك كدنا 425

[77] قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه و لم يبدها 426

[78] قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من 428

[79-81] قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون*فلما 428

[82] و اسأل القرية التى كنا فيها و العير التى أقبلنا فيها و إنا لصادقون 430

[83 و 84] قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم 431

[85 و 86] قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين 432

[87] يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه و لا تيأسوا من روح الله إنه لا 433

[88] فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة 435

[89] قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون 436

[90 و 91] قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف و هذا أخى قد من الله علينا إنه من 436

[92] قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين 437

[93] اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا و أتونى بأهلكم 438

[94] و لما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون 439

[95 و 96] قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم*فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه 439

[97 و 98] قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين*قال سوف استغفر لكم 441

[99] فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه و قال ادخلوا مصر إن شاء الله 442

[100] و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياى 443

ص: 645

[101] رب قد آتيتنى من الملك و علمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السماوات 446

[102 و 103] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم 448

[104-106] و ما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين*و كأين من آية فى 449

[107] أ فأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة و هم لا 451

[108] قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعنى و سبحان الله و ما 451

[109 و 110] و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى أ فلم يسيروا فى 465

[111] لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا يفترى و لكن 454

في تفسير سورة الرعد 457

[1] بسم الله الرحمن الرحيم المر تلك آيات الكتاب و الذى أنزل إليك من ربك الحق 457

[2] الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش و سخر 468

[3] و هو الذى مد الأرض و جعل فيها رواسى و أنهارا و من كل الثمرات جعل 459

[4] و فى الأرض قطع متجاورات و جنات من أعناب و زرع و نخيل صنوان 461

[5] و إن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولئك الذين 462

[6] و يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة و قد خلت من قبلهم المثلات و إن ربك 463

[7] و يقول الذين كفروا لو لا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر و لكل قوم 463

[8 و 9] الله يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد و كل شىء عنده 464

[10] سواء منكم من أسر القول و من جهر به و من هو مستخف بالليل و سارب 466

[11] له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما 466

[12] هو الذى يريكم البرق خوفا و طمعا و ينشئ السحاب الثقال 468

[13] و يسبح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته و يرسل الصواعق فيصيب بها 469

[14 و 15] له دعوة الحق و الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشىء إلا كباسط 472

[16] قل من رب السماوات و الأرض قل الله قل أ فاتخذتم من دونه أولياء لا 474

[17] أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما 476

[18] للذين استجابوا لربهم الحسنى و الذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما فى 477

[19 و 20] ا فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا 478

[21-24] و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء 479

[25] و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل 482

ص: 646

[26 و 27] الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و فرحوا بالحياة الدنيا و ما الحياة الدنيا 483

[28] الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب 484

[29] الذين آمنوا و عملوا الصالحات طوبى لهم و حسن مآب 484

[30] كذلك أرسلناك فى أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذى أوحينا 485

[31 و 32] و لو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله 486

[33] ا فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت و جعلوا لله شركاء قل سموهم أم 488

[34] لهم عذاب في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أشق و ما لهم من الله من 489

[35] مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم و ظلها 490

[36] و الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك و من الأحزاب من ينكر 490

[37] و كذلك أنزلناه حكما عربيا و لئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم 491

[38 و 39] و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية و ما كان لرسول أن 492

[40 و 41] و إن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ و علينا 495

[42] و قد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس 496

[43] و يقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بينى و بينكم و من 497

في تفسير سورة إبراهيم 499

[1] بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات 499

[2 و 3] الله الذى له ما فى السماوات و ما فى الأرض و ويل للكافرين من عذاب 500

[4] و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء و يهدى 500

[5] و لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور 501

[6] و إذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون 502

[7 و 8] و إذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابى لشديد*و قال 502

[9-12] أ لم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم 503

[13 و 14] و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا 506

[15-17] و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد*من و رآئه جهنم و يسقى من ماء 507

[18] مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف 508

[19 و 20] أ لم تر أن الله خلق السماوات و الأرض بالحق إن يشأ يذهبكم و يأت 508

[21] و برزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم 509

ص: 647

[22] و قال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم 510

[23] و أدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار 511

[24 و 25] أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها 511

[26] و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من 513

[27] يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا و فى الآخرة و يضل 513

[28 و 29] أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار*جهنم 514

[30] و جعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار 516

[31] قل لعبادى الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سرا و علانية 519

[32-34] الله الذى خلق السماوات و الأرض و أنزل من السماء ماء فأخرج به من 517

[35] و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا و اجنبنى و بنى أن نعبد 518

[36] رب إنهن أضللئن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى و من عصانى فإنك 519

[37] ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا 520

[38] ربنا إنك تعلم ما نخفى و ما نعلن و ما يخفى على الله من شىء فى الأرض 523

[39] الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل و إسحاق إن ربى لسميع 523

[40 و 41] رب اجعلنى مقيم الصلاة و من ذريتى ربنا و تقبل دعاء*ربنا اغفر لى 524

[42 و 43] و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه 525

[44 و 45] و أنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل 525

[46] و قد مكروا مكرهم و عند الله مكرهم و إن كان مكرهم لتزول منه 526

[47] فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام 527

[48] يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار 527

[49-52] و ترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الأصفاد*سرابيلهم من قطران 529

في تفسير سورة الحجر 531

[1 و 2] بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب و قرآن مبين*ربما يود الذين 531

[3] ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل فسوف يعلمون 532

[4 و 5] و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم*ما تسبق من أمة أجلها و ما 532

[6 و 7] و قالوا يا أيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون*لو ما تأتينا بالملائكة 533

[8 و 9] ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين*إنا نحن نزلنا الذكر و إنا 533

ص: 648

[10-13] و لقد أرسلنا من قبلك فى شيع الأولين*و ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به 534

[14 و 15] و لو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون*لقالوا إنما سكرت 535

[16-18] و لقد جعلنا فى السماء بروجا و زيناها للناظرين*و حفظناها من كل 535

[19-22] و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسى و أنبتنا فيها من كل شىء موزون 536

[23 و 24] و إنا لنحن نحيى و نميت و نحن الوارثون*و لقد علمنا المستقدمين منكم 539

[25] و إن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم 539

[26 و 27] و لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون*و الجان خلقناه من 540

[28 و 29] و إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون*فإذا 541

[30-38] فسجد الملائكة كلهم أجمعون*إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين 541

[39-41] قال رب بما أغويتنى لأزينن لهم فى الأرض و لأغوينهم أجمعين*إلا 544

[42] إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين 544

[43 و 44] و إن جهنم لموعدهم أجمعين*لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء 545

[45-48] إن المتقين فى جنات و عيون*ادخلوها بسلام آمنين*و نزعنا ما فى 546

[49 و 50] نبئ عبادى أنى أنا الغفور الرحيم*و أن عذابى هو العذاب 547

[51-55] و نبئهم عن ضيف إبراهيم*إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم 547

[56-60] قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون*قال فما خطبكم أيها 548

[61-65] فلما جاء آل لوط المرسلون*قال إنكم قوم منكرون*قالوا بل جئناك بما 549

[66-71] و قضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين*و جاء أهل 550

[72-75] لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون*فأخذتهم الصيحة مشرقين*فجعلنا 551

[76-79] و إنها لبسبيل مقيم*إن فى ذلك لآية للمؤمنين*و إن كان أصحاب 552

[80-84] و لقد كذب أصحاب الحجر المرسلين*و آتيناهم آياتنا فكانوا عنها 553

[85 و 86] و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و إن الساعة لآتية 554

[87] و لقد آتيناك سبعا من المثانى و القرآن العظيم 554

[88-91] لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم و لا تحزن عليهم و اخفض 556

[92-96] فو ربك لنسئلنهم أجمعين*عما كانوا يعملون*فاصدع بما تؤمر 557

[97-99] و لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون*فسبح بحمد ربك و كن من 560

في تفسير سورة النحل 561

ص: 649

[1] بسم الله الرحمن الرحيم أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه و تعالى عما يشركون 561

[2] ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا 562

[3 و 4] خلق السماوات و الأرض بالحق تعالى عما يشركون*خلق الإنسان من 563

[5-7] و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع و منها تأكلون*و لكم فيها جمال 564

[8] و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة و يخلق ما لا تعلمون 564

[9] و على الله قصد السبيل و منها جائر و لو شاء لهداكم أجمعين 565

[10 و 11] هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب و منه شجر فيه تسيمون 566

[12] و سخر لكم الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره إن فى 567

[13] و ما ذرأ لكم فى الأرض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون 568

[14] و هو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا و تستخرجوا منه حلية 568

[15 و 16] و ألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم و أنهارا و سبلا لعلكم تهتدون 569

[17-21] ا فمن يخلق كمن لا يخلق أ فلا تذكرون*و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 569

[22 و 23] إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة و هم مستكبرون 571

[24 و 25] و إذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين*ليحملوا أوزارهم 572

[26] قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف 573

[27] ثم يوم القيامة يخزيهم و يقول أين شركائى الذين كنتم تشاقون فيهم قال 574

[28 و 29] الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من 574

[30] و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا فى هذه الدنيا 575

[31 و 32] جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك 576

[33 و 34] هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى أمر ربك كذلك فعل الذين 577

[35] و قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن و لا آباؤنا 577

[36] و لقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت فمنهم من 578

[37-40] إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل و ما لهم من ناصرين 578

[41] و الذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة و لأجر 580

[42-44] الذين صبروا و على ربهم يتوكلون*و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى 581

[45-47] أ فأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم 583

[48] أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شىء يتفيؤا ظلاله عن اليمين و الشمائل 584

ص: 650

[49 و 50] و لله يسجد ما فى السماوات و ما فى الأرض من دابة و الملائكة و هم لا 585

[51] و قال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياى فارهبون 586

[52-55] و له ما فى السماوات و الأرض و له الدين واصبا أ فغير الله تتقون*و ما 586

[56 و 57] و يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون 587

[58 و 59] و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا و هو كظيم*يتوارى من القوم 588

[60] للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و لله المثل الأعلى و هو العزيز 589

[61] و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة و لكن يؤخرهم إلى 589

[62 و 63] و يجعلون لله ما يكرهون و تصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم 590

[64 و 65] و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه و هدى و رحمة 590

[66] و إن لكم فى الأنعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث و دم لبنا 591

[67] و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا إن فى ذلك 591

[68 و 69] و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا و من الشجر و مما 592

[70] و الله خلقكم ثم يتوفاكم و منكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد 595

[71] و الله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برادى رزقهم 595

[72] و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجا و جعل لكم من أزواجكم بنين و حفدة 596

[73 و 74] و يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات و الأرض شيئا 597

[75 و 76] ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء و من رزقناه منا رزقا حسنا 598

[77] و لله غيب السماوات و الأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب 599

[78] و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع 599

[79] ا لم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن فى 600

[80] و الله جعل لكم من بيوتكم سكنا و جعل لكم من جلود الأنعام بيوتا 600

[81-83] و الله جعل لكم مما خلق ظلالا و جعل لكم من الجبال أكنانا و جعل لكم 600

[84-87] و يوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا و لا هم يستعتبون 602

[88] الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا 603

[89] و يوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم و جئنا بك شهيدا على 604

[90] إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذى القربى و ينهى عن الفحشاء 606

[91] و أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها و قد جعلتم 608

ص: 651

[92] و لا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا 609

[93] و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن يضل من يشاء و يهدى من يشاء 610

[94 و 95] و لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فنزل قدم بعد ثبوتها و تذوقوا السوء بما 611

[96 و 97] ما عندكم ينفد و ما عند الله باق و لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما 612

[98] فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم 613

[99 و 100] إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون*إنما سلطانه 613

[101] و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم 614

[102-104] قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا و هدى و بشرى 614

[105 و 106] إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون 615

[107-109] ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة و أن الله لا يهدى القوم 617

[110 و 111] ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من 618

[112] و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان 619

[113] و لقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب و هم ظالمون 620

[114] فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا و اشكروا نعمت الله إن كنتم إياه 621

[115] إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به فمن 621

[116 و 117] و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا 621

[118] و على الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل و ما ظلمناهم و لكن 622

[119] ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا إن 623

[120 و 121] إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين*شاكرا لأنعمه 623

[122 و 123] و آتيناه فى الدنيا حسنة و إنه فى الآخرة لمن الصالحين*ثم أوحينا إليك 624

[124] إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه و إن ربك ليحكم بينهم يوم 625

[125] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتى هى 626

[126 و 127] و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين 628

[128] إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون 659

الفهرس 631

ص: 652

المجلد 4

هویة الکتاب

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الرابع

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 3

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 4

في تفسير سورة الإسراء

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم اللّه تعالى سورة النحل المحتوية لاثبات التوحيد بالبراهين القاطعة، و ردّ شبهات المشركين فيه و في صدق القرآن العظيم و نبوة خاتم النبيين، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله باتّباع إبراهيم عليه السّلام، أردفها بسورة الاسراء المشتملة على جلّ تلك المطالب العالية و إظهار شرف نبيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله على إبراهيم عليه السّلام، حيث بيّن فيها أنّه تعالى أسرى بحبيبه و عبده إلى قاب قوسين أو أدنى ليريه من آياته الكبرى، و إنما أرى خليله ملكوت السماوات و الأرض و هو في مكانه من الأرض، إلى غير ذلك من المناسبات التي توجب تعاقبهما، فابتدأ فيها بذكر أسمائه الحسنى على حسب دأبه تعالى و رسمه تعليما للعباد بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (1)ثمّ شرع فيه بتنزيه ذاته المقدّسة من الشرك و المعجز بقوله: سُبْحانَ اَلَّذِي فعل بقدرته الكاملة أعجب العجائب و أبدع البدائع، و هو أنّه أَسْرى بِعَبْدِهِ و حبيبه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أعرج به (1)لَيْلاً.

قيل: ذكر الليل و تنكيره للدلالة على قلّة مدّة الإسراء، و هو بعض الليل (2).

و قيل: لما وصل النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الدرجات العالية و المراتب الرفيعة في معراجه، أوحى اللّه إليه: يا محمّد، بم أشرّفك؟ قال: «يا ربّ بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية» فأنزل اللّه فيه (3): سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و مكة المعظّمة إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى قيل: هو بيت المقدس (4)اَلَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالثّمار و الأزهار و قرار الأنبياء و هبوط الملائكة فيه لِنُرِيَهُ بعضا مِنْ آياتِنا العظام التي لم نره غيره من الأنبياء إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقواله اَلْبَصِيرُ بنورانيته و مسانحته لعالم الأنوار و بأحواله و أخلاقه و أعماله.

ص: 5


1- . في النسخة: و أعرجه.
2- . تفسير الرازي 20:146، تفسير روح البيان 5:103.
3- . تفسير الرازي 20:146.
4- . تفسير الرازي 20:146.

و قيل: إنّ المراد السميع لما يقولون للرسول عند دعواه المعراج، البصير بما يعملون في هذه الواقعة (1).

روى بعض العامة أنّه بات ليلة الاثنين السابع و العشرين من رجب في بيت امّ هانئ بنت أبي طالب، و نام بعد أن صلّى الركعتين اللتين كان يصليهما في وقت العشاء، ففرج عن سقف بيتها و نزل جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل، و مع كلّ واحد منهم سبعون ألف ملك فأيقظه جبرئيل بجناحه، قال عليه السّلام: «فقمت إلى جبرئيل، فقلت: أخي جبرئيل ما لك؟ فقال: يا محمّد، إنّ ربّي تعالى بعثني إليك، و أمرني بأن آتيه بك في هذه الليلة بكرامة لم يكرم بها أحد قبلك و لا يكرم بها أحد بعدك، فانّك تريد أن تكلّم ربّك و تنظر إليه و ترى في هذه الليلة من عجائب ربّك و عظمته و قدرته» قال: «فتوضّأت و صليت ركعتين» .

قال الراوي: و شقّ جبرئيل صدره الشريف من الموضع المنخفض بين التّرقوتين إلى أسفل بطنه، فجاء بطشت من ماء زمزم، و استخرج قلبه فغسله ثلاث مرات، و نزع ما كان فيه من أذى، ثمّ جاء بطشت من ذهب يمتلئ إيمانا و حكمة، فأفرغ فيه، ثمّ أعاد القلب إلى مكانه، و التأم صدره الشريف، فكانوا يرون أثرا كأثر الخيط (2)في صدره.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «ثمّ جاء جبرئيل بدابة بيضاء، فقلت: يا جبرئيل، ما هذه الدابة؟ فقال: هذا البراق فاركب عليه حتى تمضي إلى دعوة ربّك، فأخذ جبرئيل بلجامها و ميكائيل بركابها و إسرافيل من خلفها، فقصدت أن أركبها فجمحت الدابة و أبت، فوضع جبرئيل يده على وركها، و قال لها: ألا تستحين ممّا فعلت؟ ! فو اللّه ما ركبك أحد أكرم على اللّه من محمّد، فرشحت عرقا من الحياء، فقالت: يا جبرئيل، لم أستصعب منه إلاّ ليضمن أن يشفع لي يوم القيامة، لأنّه أكرم الخلائق على اللّه، فضمن لها ذلك» (3).

روي أنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «لمّا عرج بي إلى السماء، بكت الأرض من بعدي، فنبت الأصفر من نباتها، فلمّا رجعت قطر عرقي على الأرض، فنبت ورد أحمر، ألا من أراد أن يشمّ رائحتي فليشمّ الورد الأحمر» .

قال: فركبه (4)، فانطلق البراق يهوي به يضع حافره حيث أدرك طرفه، حتى بلغ أرضا، فقال له جبرئيل: انزل فصلّ ركعتين هاهنا. ففعل، ثمّ ركب فقال له جبرئيل: أتدري أين صلّيت؟ قال: «لا» . قال: صلّيت بمدين، فانطلق البراق يهوي به، فقال له جبرئيل: انزل فصلّ ففعل، ثم ركب، فقال: أتدري أين صلّيت؟ قال: «لا» . قال: صلّيت ببيت لحم، و هي قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد

ص: 6


1- . تفسير الرازي 20:147.
2- . في تفسير روح البيان: المخيط.
3- . تفسير روح البيان 5:106.
4- . في النسخة: فركبتها.

عيسى عليه السّلام.

و بينا هو على البراق إذ رأى عفريتا من الجنّ يطلبه بثعلة من نار، كلّما التفت رآه، فقال له جبرئيل: ألا اعلّمك كلمات تقولهنّ، إذا أنت قلتهنّ طفئت شعلته و خرّ لفيه؟ فقال: «بلى» . فقال جبرئيل: قل أعوذ بوجه اللّه الكريم، و بكلمات اللّه التامّات اللاّتي لا يجاوزهنّ برّ و لا فاجر، من شرّ ما ينزل من السماء، و من شرّ ما يعرج فيها، و من شرّ ما ذرأ في الأرض، و من شرّ ما يخرج منها، و من فتن الليل و النهار، و من طوارق الليل و النهار، إلاّ طارقا يطرق بخير يا رحمن.

فقال صلّى اللّه عليه و آله ذلك، فانكبّ لفيه، و طفئت شعلته، فرآى صلّى اللّه عليه و آله قوما يزرعون و يحصدون من ساعته، و كلّما حصدوا عاد كما كان، فقال: «يا جبرئيل، ما هذا؟» قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل اللّه، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة، و ما انفقوا من خير فهو يخلفه.

فنادى مناد عن يمينه: يا محمّد، انظرني اسألك، فلم يجبه، فقال: «ما هذا يا جبرئيل؟» قال: هذا داعي اليهود، أما إنّك لو أجبته لتهوّدت امّتك، و نادى مناد عن يساره كذلك، فلم يجبه، فقال: «ما هذا يا جبرئيل؟» فقال: هذا داعي النصارى، أما إنّك لو أجبته لتنصّرت امّتك، فرأى امرأة حاسرة عن ذراعها، فقالت: يا محمّد، انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: «من هذه يا جبرئيل؟» فقال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها لاختارت امّتك الدنيا على الآخرة.

إلى أن قال: و مضى صلّى اللّه عليه و آله حتى أتى إيليا من أرض الشام، فاستقبله من الملائكة جمّ غفير لا يحصى عددهم، فدخلها من الباب [اليماني]الذي فيه مثال الشمس و القمر، ثمّ انتهى إلى بيت المقدس، و كان بباب المسجد حجر، فأدخل جبرئيل يده فيه فخرقه، فكان فيه كهيئة الحلقة و ربط به البراق.

ثمّ دخل عليه السّلام المسجد، و نزلت الملائكة، و أحيا اللّه له آدم و من دونه من الأنبياء، فسلّموا عليه و هنّأوه بما أعطاه اللّه من الكرامة، و قالوا: الحمد للّه الذي جعلك خاتم الأنبياء، فنعم النبيّ أنت، و نعم الأخ أنت، و امّتك خير الامم. ثمّ قال جبرئيل: تقدّم يا محمّد و صلّ باخوانك من الأنبياء ركعتين، فصلّى بهم ركعتين، و كان خلف ظهره إبراهيم، و عن يمينه إسماعيل، و عن يساره إسحاق، و كانوا سبعة صفوف؛ ثلاثة [صفوف]من الأنبياء المرسلين، و أربعة من سائر الأنبياء.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا وصلت إلى بيت المقدس و صلّيت فيه ركعتين، أخذني العطش أشدّ ما أخذني، فأتيت بإناءين؛ في أحدهما لبن، و في الآخر خمر، فأخذت الذي فيه اللبن-و كان ذلك بتوفيق ربّي- فشّربته إلاّ قليلا منه، و تركت الخمر، فقال جبرئيل: أصبت الفطرة يا محمد، أما إنّك لو شربت الخمر لغوت امّتك كلّها، و لو شربت اللبن كلّه لما ضلّ أحد من امّتك بعدك. فقلت: يا جبرئيل: اردد عليّ

ص: 7

اللبن حتى أشربه كلّه. فقال جبرئيل: قضي الأمر ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة، و يحيى من حيي عن بيّنة.

ثمّ قال جبرئيل: قم يا محمّد، فقمت فاذا بسلّم من ذهب قوائمه من فضّة، مركّب من اللؤلؤ و الياقوت، يتلألأ نوره، و أسفله على صخرة بيت المقدس، و رأسه في السماء، فقيل لي: يا محمّد، اصعد. فصعدت فانتهيت إلى بحر أخضر عظيم أعظم ما يكون من البحار، فقلت: يا جبرئيل، ما هذا البحر؟ فقال: يا محمّد، هذا بحر في الهواء لا شيء فوقه يتعلّق به، و لا شيء تحته يقرّ فيه، و لا يدري قعره و عظمته إلاّ اللّه، و لو لا أنّ هذا البحر كان حائلا لاحترق ما في الدنيا من حرّ الشمس» .

قال: «ثمّ انتهيت إلى سماء الدنيا، و اسمها رقيع، فأخذ جبرئيل بعضدي، و ضرب بابها به (1)، و قال: افتح الباب. قال الحارس: من أنت؟ قال: جبرئيل. قال: و من معك؟ قال: محمّد. قال: أو قد بعث محمّد؟ قال: نعم. قال: الحمد للّه. ففتح [لنا]الباب و دخلنا، فلمّا نظر إليّ قال: مرحبا بك يا محمّد، و لنعم المجيء مجيئك. فقلت: يا جبرئيل، من هذا؟ قال: هذا إسماعيل خازن سماء الدنيا، و هو ينتظر قدومك، فادن و سلّم عليه، فدنوت و سلّمت، فردّ عليّ السّلام و هنّأني، فلمّا صرت إليه قال: أبشر يا محمّد، فإنّ الخير كلّه فيك و في امّتك. قال: و إذا جنوده قائمون صفوفا، و لهم زجل بالتسبيح يقولون: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الرّوح، قدّوس قدّوس لربّ الأرباب، سبحان العظيم الأعظم» .

قال: «ثمّ انتهيت إلى آدم، فاذا هو كهيئته يوم خلقه اللّه، و كان تسبيحه: سبحان الجليل الأجلّ، سبحان الواسع الغنيّ، سبحان [اللّه]العظيم و بحمده، فاذا هو تعرض عليه أرواح ذريّته المؤمنين، فيقول: روح طيبة و نفس طيبة خرجت من جسد طيب، اجعلوها في علّيين، و تعرض عليه أرواح ذرّيته الكفّار، فيقول: روح خبيثة و نفس خبيثة خرجت من جسد خبيث، اجعلوها في سجّين» قال صلّى اللّه عليه و آله: «فتقدّمت إليه و سلّمت عليه، فقال: مرحبا بالابن الصالح و النبيّ الصالح» .

قال صلّى اللّه عليه و آله: «و رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل (2)، في أيديهم قطع من نار كالأفهار-أي الحجارة التي [كلّ]واحد منها ملء الكفّ-يقذفونها في أفواههم ثمّ تخرج من أدبارهم، قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: أكلة أموال اليتامى ظلما.

ثمّ رأيت رجالا لهم بطون أمثال البيوت، فيها حيّات ترى من خارج البطون بطريق آل فرعون يمرّون عليهم كالابل المهيومة (3)حين يعرضون على النّار، لا يقدرون أن يتحوّلوا من مكانهم ذلك-

ص: 8


1- . في النسخة: و ضرب بابه.
2- . مشفر الإبل: بمثابة الشفة للانسان.
3- . أي العطشى.

و في رواية: كلّما نهض أحدهم خرّ-قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.

ثمّ رأيت أخونة (1)عليها لحم طيب، ليس عليها أحد، و اخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون منه. قلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تركوا الحلال و يأكلون الحرام.

ثمّ رأيت نساء معلّقات بثديهنّ، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن [على] الرجال ما ليس من أولادهم.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبرئيل، قال الحارس: من أنت؟ قال: جبرئيل. قال: و من معك؟ قال: محمد. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، ففتح لنا، فاذا أنا بابني الخالة؛ عيسى بن مريم، و يحيى بن زكريا، و معهما نفر من قومهما، فرحّبا بي و دعوا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبرئيل، فقيل: من أنت؟ قال: جبرئيل. قيل: و من معك؟ قال: محمّد. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف و معه نفر من قومه، و إذا هو أعطي شطر الحسن، فرحّب بي، و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبرئيل قيل: من هذا؟ قال: جبرئيل قيل: و من معك؟ قال: محمّد. قيل: و قد بعث؟ قال. نعم، ففتح لنا، فاذا أنا بإدريس، فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبرئيل، قيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: أو قد بعث؟ قال: نعم، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون و نصف لحيته بيضاء و نصف لحيته سوداء، تكاد تضرب إلى سرّته من طولها، و حوله قوم من بني إسرائيل، و هو يقصّ عليهم، فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبرئيل، قيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل: و من معك؟ قال: محمّد. قيل: أو قد بعث؟ قال: نعم، ففتح لنا، فاذا أنا بموسى، فرحّب بي و دعا لي بخير، فلمّا جاوزت بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنّ غلاما بعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممّن يدخل الجنّة من امّتي.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرئيل، قيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل: و من معك؟ قال: محمّد. قيل: أو قد بعث؟ قال: نعم. ففتح لنا، فاذا أنا بابراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلّم عليه و سلّمت عليه، فردّ السّلام ثمّ قال: مرحبا بالابن الصالح، و النبي الصالح، و إذا إبراهيم رجل أشمط (2)

ص: 9


1- . جمع خوان: ما يؤكل عليه.
2- . في النسخة: أمشط، و الأشمط: الذي يختلط سواد شعره ببياض.

جالس عند باب الجنّة على كرسيّ، مسندا ظهره إلى البيت المعمور، و هو من عقيق محاذ للكعبة بحيث لو سقط سقط عليها، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون، و إذا أنا بامّتي شطرين: شطر عليهم ثياب بيض كأنّها القراطيس، و شطر عليهم ثياب رمدة (1). فدخلت البيت المعمور، و دخل معي الذين عليهم الثياب البيض، و حجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرّمدة، فصليت أنا و من معي في البيت المعمور» .

و في رواية: «أنّ أطفال المؤمنين و الكافرين في كفالة إبراهيم، فلمّا رآهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع إبراهيم، قال: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا. قال له: و أولاد الكافرين؟ قال: و أولاد الكافرين» .

و قال إبراهيم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقرأ امّتك منّي السّلام، و أخبرهم أنّ الجنّة طيبة التربة عذبة الماء، و أن غرسها: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «استقبلتني جارية لعساء (2)، قد أعجبتني، فقلت لها: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة» .

قال: «و رأيت فوجا من الملائكة نصف أبدانهم [من]النار، و نصفها من الثلج، فلا النار تذيب الثلج، و لا الثلج يطفئ النار، و هم يقولون: اللهمّ كما ألّفت بين النار الثلج ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين» .

قال: صلّى اللّه عليه و آله: «ثمّ ذهب بي جبرئيل إلى سدرة المنتهى، و هي شجرة فوق السماء السابعة في أقصى الجنّة، إليها ينتهي الملائكة بأعمال أهل الأرض من السعداء، و إليها تنزل الأحكام، و إذا أرواقها كآذان الفيلة» (3).

قيل: إنّه عرج من السماء السابعة إلى السّدرة على جناح جبرئيل (4)، و إنّه عليه السّلام رأى جبرئيل عند السّدرة على الصورة التي خلقه اللّه عليها (5)، ثمّ عرج منها على الرّفرف-و هو بساط عظيم على قول، أو هو كالمحفّة (6)-و رأى أنّ جبرئيل لمّا وصل إلى السّدرة التي هي مقامه تأخّر فلم يتجاوز، قال صلّى اللّه عليه و آله: «أفي مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ !» فقال: لو تجاوزت لأحترقت بالنور (7). و في رواية قال: لو دنوت أنملة لاحترقت (8).

فقال: «يا جبرئيل، هل لك [من]حاجة إلى ربّي؟ قال: يا محمّد، سل اللّه لي أنّ أبسط جناحي على

ص: 10


1- . الرّمد: الكدر الذي صار على لون الرماد.
2- . جارية لعساء: في لونها أدنى سواد مشربة من الحمرة.
3- . تفسير روح البيان 5:108-120.
4- . تفسير روح البيان 5:121.
5- . تفسير روح البيان 5:120.
6- . تفسير روح البيان 5:121، و المحفّة: هودج لا قبّة له، تركب فيه المرأة. (7 و 8) . تفسير روح البيان 5:120.

الصراط لامّتك حتّى يجوزوا عليه (1).

قال صلّى اللّه عليه و آله: «ثمّ زجّ بي في النور، فخرق بي سبعون ألف حجاب، ليس [فيها]حجاب يشبه حجابا، غلظ كلّ حجاب خمسمائة عام، و انقطع عنّي حسّ كلّ ملك، فلحقني عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادى مناد بلغة أبي بكر: قف فانّ ربك يصلّي (2)» ، أي يقول: سبحاني سبحاني، سبقت رحمتي غضبي.

أقول: العجب كلّ العجب أنّ المنادي في ذلك المقام لم يجد لغة و لسانا لم ينطق بالشرك، و اختار لغة و لسانا نطق بالشّرك دهرا دهيرا.

«و جاء نداء من العليّ الأعلى: ادن يا خير البرية، ادن يا أحمد ادن يا محمد، فأدناني ربيّ حتى كنت كما قال: ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (3)و نادى جبرئيل من خلفه: يا محمّد، إنّ اللّه يثني عليك، فاسمع و أطع، و لا يهولنّك كلامه. فبدأ بالثناء و هو قوله: التحيات للّه و الصلوات و الطيّبات» . فقال تعالى: السّلام عليك أيّها النبي و رحمة اللّه و بركاته. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «السّلام علينا و على عباد اللّه الصالحين» . فقال جبرئيل: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و تابعه جميع الملائكة (4).

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «سألني ربّي فلم أستطع أن اجيبه، فوضع يده بين كتفي بلا تكييف و لا تحديد، فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين و الآخرين، و علّمني علوما شتّى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنّه لا يقدر على حمله غيري، و علم خيّرني فيه، و علم أمرني بتبليغه إلى العامّ و الخاصّ من امّتي» (5).

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «فرض اللّه عليّ خمسين صلاة في كلّ يوم و ليلة، فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئا، ثمّ أتيت موسى فقال: ما فرض ربك على امّتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فانّ امّتك لا تطيق ذلك، فانّي و اللّه قد جرّبت الناس قبلك، و عالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، و لقيت الشدّة في ما أردت فيهم من الطاعة» .

قال صلّى اللّه عليه و آله: «فرجعت إلى ربّي، فخررت له ساجدا، فقلت: أي ربّي، خفّف عن امّتي، فحطّ عنّي خمسا، فرجعت إلى موسى و أخبرته، فقال: إنّ امّتك لا تطيق ذلك، قال: فلم أزل اراجع بين ربي و موسى و يحطّ خمسا خمسا حتّى قال موسى: بم أمرت؟ قلت بخمس صلوات كلّ يوم. قال: ارجع

ص: 11


1- . تفسير روح البيان 5:121.
2- . تفسير روح البيان 5:121.
3- . النجم:53/8 و 9.
4- . تفسير روح البيان 5:121.
5- . تفسير روح البيان 5:122.

إلى ربك فاسأله التخفيف. فقلت: قد راجعت ربّي حتّى استحييت، و لكن أرضى و اسلّم، فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي يا محمّد، و هي خمس صلوات في كلّ يوم و ليلة بكلّ صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، و من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، و من علمها كتبت له عشر، و من همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيء، و إن عملها كتبت سيئة واحدة» (1).

و روي أنّه كانت الصلاة خمسين، و الغسل من الجنابة سبع مرات، و غسل البول من الثوب سبع مرات، و لم يزل صلّى اللّه عليه و آله يسأل ربه حتى جعلت الصلاة خمسا، و غسل الجنابة مرة واحدة، و غسل البول من الثوب مرّة (2).

و عن أنس، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «رأيت ليلة اسري بي إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة، كلّ مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة، مملوءة من الملائكة، يسبّحون اللّه و يقدّسونه، و يقولون في تسبيحهم: اللهمّ اغفر لمن شهد الجمعة، اللهمّ اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة.

و رأيت ليلة اسري بي إلى السماء مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، و القرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبرئيل، ما بال القرض أفضل من الصدقة. قال: لأنّ السائل يسأل و عنده شيء، و المستقرض لا يستقرض إلاّ من حاجة.

و رأيت رضوان خازن الجنة، فلمّا رآني فرح بي و رحّب بي، و أدخلني الجنة، و أراني فيها من العجائب ما وعد اللّه فيها لأوليائه ممّا لا عين رأت و لا اذن سمعت، و رأيت فيها درجات أصحابي، و رأيت فيها الأنهار و العيون، و سمعت فيها صوتا و هو يقول: آمنّا بربّ العالمين. فقلت: ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال: هم سحرة فرعون و أزواجهم.

و سمعت آخر يقول: لبّيك اللهمّ لبّيك فقلت: من هو؟ قال: أرواح الحجّاج، و سمعت التكبير، فقال: هؤلاء الغزاة. و سمعت التسبيح، فقال: هؤلاء الأنبياء. و رأيت قصور الصالحين.

و عرضت النار عليّ، و إن كانت في الأرض السابعة، فاذا على بابها مكتوب: و إنّ جهنم لموعدهم أجمعين. قال: و أبصرت ملكا لم يضحك في وجهي، فقلت: يا أخي جبرئيل، من هذا؟ قال: مالك خازن النار، لم يضحك منذ خلقه اللّه، و لو ضحك إلى أحد لضحك إليك، فقال له جبرئيل: يا مالك، هذا محمّد فسلّم عليه. فسلّم عليّ و هنّأني بما صرت إليه من الكرامة و الشرف.

قال: فسألته أن يعرض عليّ النار بدركاتها، فعرضها عليّ بما فيها، و إذا فيها غضب اللّه، لو طرحت فيها الحجارة و الحديد لأكلتها، و إذا قوم يأكلون الجيف، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء

ص: 12


1- . تفسير روح البيان 5:123.
2- . تفسير روح البيان 5:123.

الذين يأكلون لحوم الناس-أقول: يعني يغتابونهم-و رأيت قوما تنزع ألسنتهم من أقفيتهم، فقلت: من هم؟ قال: هم الذين يحلفون باللّه كاذبين. و رأيت جماعة من النساء علّقن بشعورهنّ، فقلت: من هنّ؟ قال: هنّ اللاتي لا يستترن من غير محارمهنّ. و رأيت جماعة منهنّ لباسهنّ [من]القطران. فقلت: من هنّ؟ قال: نائحات» .

فلمّا نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه، فاذا هو بهرج و دخّان و أصوات، فقال: «ما هذه يا جبرئيل؟» قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم حتى لا ينظروا إلى العلامات، و لا يتفكّروا في ملكوت السماوات، و لو لا ذلك لرأوا العجائب. و نزل صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت المقدس، و توجّه إلى مكّة و هو على البراق حتّى وصل إلى بيته، أو إلى بيت امّ هانئ (1).

قيل: كان ذهابه و إيابه ثلاث ساعات، أو أربع ساعات (2). و قيل: إنّه كان قدر لحظة (3).

القمي، عن الباقر عليه السّلام: أنه كان جالسا في المسجد الحرام، فنظر إلى السماء مرّة، و إلى الكعبة مرّة، ثم قال: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى و كرّر ذلك ثلاث مرات، ثمّ التفت إلى إسماعيل الجعفي، فقال: «أيّ شيء يقول أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟» قال: يقولون اسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس.

فقال: «ليس كما يقولون، و لكنّه أسرى به من هذه إلى هذه» و إشار بيده إلى السماء، و قال: «ما بينهما حرم» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن المساجد التي لها فضل، فقال: «المسجد الحرام، و مسجد الرسول» قيل: و المسجد الاقصى؟ فقال: «ذاك في السماء، إليه أسرى رسول اللّه» .

فقيل: إنّ الناس يقولون إنّه بيت المقدس؟ فقال: «مسجد الكوفة أفضل منه» (5).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل كم عرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «مرتين» (6).

و عن الباقر صلّى اللّه عليه و آله: «أتى جبرئيل بالبراق أصغر من البغل و أكبر الحمار، مضطرب الاذنين عيناه في حافره و خطامه مدّ بصره» (7).

و زاد في (الكافي) : «أنّه إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه و طالت رجلاه، فاذا هبط طالت يداه

ص: 13


1- . تفسير روح البيان 5:123.
2- . تفسير روح البيان 5:125.
3- . تفسير روح البيان 5:125.
4- . تفسير القمي 2:243، تفسير الصافي 3:166.
5- . تفسير العياشي 3:35/2457، تفسير الصافي 3:166.
6- . الكافي 1:367/13، تفسير الصافي 3:167.
7- . تفسير العياشي 3:31/2447، تفسير الصافي 3:167، و في تفسير العياشي: في حوافره، خطوه مدّ بصر.

و قصرت رجلاه، أهدب العرف (1)الأيمن، له جناحان من خلفه» (2).

و عن (العيون) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ [اللّه]سخّر لي البراق، و هي دابة من دوابّ الجنّة ليست بالقصير و لا بالطويل، فلو أنّ اللّه أذن لها لجالت الدنيا و الآخرة في جرية واحدة، و هي أحسن الدوابّ لونا» (3).

القمي عن الصادق عليه السّلام: «جاء جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالبراق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأخذ واحد باللّجام، و واحد بالرّكاب، و سوّى الآخر عليه ثيابه، فتضعضعت البراق، فلطمها جبرئيل، ثمّ قال [لها]: اسكني يا براق، فما ركبك نبي قبله، و لا يركبك بعده مثله» قال: «فترقّت (4)فرفعته ارتفاعا ليس بالكثير، و معه جبرئيل يريه الآيات من السماء و الأرض. قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: [فبينا]أنا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني: يا محمّد، فلم أجبه، و لم ألتفت إليه، ثمّ نادى مناد عن يساري: يا محمّد، فلم أجبه، و لم التفت إليه، ثمّ استقبلتني امرة كاشفة عن ذراعيها و عليها من كلّ زينة الدنيا، فقالت: يا محمّد، انظرني حتّى اكلّمك فلم التفت إليها.

ثمّ سرت فسمعت صوتا أفزعني [فجاوزت به]، فنزل بي جبرئيل فقال: صلّ، فنزلت و صليت، فقال لي: تدري أين صليت؟ فقلت: لا. فقال: صلّيت بطيبه و إليها مهاجرك. ثمّ ركبت و مضينا ما شاء اللّه، ثمّ قال لي: إنزل فصلّ، فنزلت و صليت، فقال لي: تدري أين صليت؟ فقلت: لا. قال: صليت [بطور سيناء حيث كلم اللّه موسى تكليما، ثمّ ركبت فمضينا ما شاء اللّه، ثمّ قال لي: انزل فصلّ، فنزلت و صليت، فقال لي: تدري أين صليت؟ فقلت: لا، قال: صليت في]بيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.

ثمّ ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء يربطون بها، فدخلت المسجد و معي جبرئيل إلى جنبي، فوجدنا إبراهيم و موسى و عيسى في من شاء اللّه من أنبياء اللّه قد جمعوا إليّ، و أقمت الصلاة، و لا أشكّ أن جبرئيل يستقدمنا (5)، فلمّا استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدّمني و أممتهم و لا فخر، ثمّ أتاني الخازن بثلاث أوان: إناء فيه لبن، و إناء فيه ماء، و إناء فيه خمر، و سمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق و غرقت امّته، و إنّ أخذ الخمر غوى و غوت امّته، و إن أخذ اللّبن هدي و هديت امّته. قال: فأخذت اللّبن و شربت منه، فقال لي جبرئيل: هديت و هديت امّتك.

ص: 14


1- . أي طويل العرف.
2- . الكافي 8:376/567، تفسير الصافي 3:167.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:32/49، تفسير الصافي 3:167.
4- . في المصدر: فرقت به.
5- . في المصدر: و لا أشك إلا و جبرئيل استقدمنا.

ثمّ قال لي: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلت: ناداني مناد عن يميني. فقال لي: أو أجبته. قلت: لا و لم التفت إليه. قال: ذلك داعي اليهود، و لو أجبته لتهوّدت امّتك من بعدك. ثمّ قال: ماذا رأيت؟ فقلت: ناداني مناد عن يساري. فقال لي: أو أجبته؟ فقلت: لا، و لم التفت إليه. فقال: ذاك داعي النصارى، و لو أجبته لتنصّرت امتك من بعدك. ثمّ قال: ماذا استقبلك؟ فقلت: لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا. فقالت: يا محمّد، انظرني حتّى اكلّمك. فقال لي: أفكلّمتها؟ فقلت: لم اكلّمها و لم التفت إليها. فقال: تلك الدنيا، و لو كلّمتها لاختارت امّتك الدنيا على الآخرة.

ثمّ سمعت صوتا أفزعني، فقال لي [جبرئيل:]تسمع يا محمّد؟ قلت: نعم. قال: هذه صخرة قذفتها على شفير جهنّم منذ سبعين عاما، فهذا حين استقرّت. قالوا: فما ضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى قبض.

قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى سماء الدنيا و عليها ملك يقال له إسماعيل، و هو صاحب الخطفة التي قال اللّه تعالى: إِلاّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (1)و تحته سبعون ألف ملك، تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك: فقال: يا جبرئيل، من معك؟ فقال: محمّد. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، ثمّ فتح الباب، فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالأخ الناصح و النبيّ الصالح، و تلقّتني الملائكة حتى دخلت سماء الدنيا، فما لقيني ملك إلاّ كان ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر خلقا أعظم منه، كريه المنظر، ظاهر الغضب. فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلاّ أنّه لم يضحك، و لم أر فيه [من]الاستبشار ما رأيت ممّن ضحك من الملائكة.

فقلت: من هذا يا جبرئيل، فإنيّ قد فزعت منه؟ فقال: يحقّ أن تفزع منه، و كلّنا نفزع منه، إن هذا مالك خازن النار، لم يضحك قطّ، و لم يزل منذ ولاّه اللّه جهنّم يزداد غضبا و غيظا على أعداء اللّه و أهل معصيته، فينتقم اللّه به منهم، و لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك، لضحك إليك، و لكنّه لا يضحك. فسلّمت عليه فردّ السّلام عليّ، و بشّرني بالجنة.

فقلت لجبرئيل و هو بالمكان الذي وصفه اللّه: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (2): ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك، أر محمّدا النار. فكشف عنها غطاءها، و فتح بابا منها، [فخرج]لهيب ساطع في السماوات، و فارت و ارتفعت حتى ظننت ليتناولني ممّا رأيت. فقلت: يا جبرئيل، قل له فليردّ عليها غطاءها، فأمرها و قال: ارجعي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه.

ثمّ مضيت فرأيت رجلا آدما (3)جسيما فقالت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم. فاذا هو

ص: 15


1- . الصافات:37/10.
2- . التكوير:81/21.
3- . الآدم من الناس: الأسمر.

تعرض عليه ذرّيته فيقول: روح طيب و ريح طيبة من جسد طيّب ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1): إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ (2)إلى آخرها. قال: فسلّمت على أبي آدم و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالابن الصالح، و النبي الصالح، و المبعوث في الزمن الصالح.

ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس (3)، و إذا جميع الدنيا بين ركبتيه، و إذا بيده لوح من نور ينظر إليه مكتوب فيه، كتاب ينظر فيه و لا يلتفت يمينا و لا شمالا إلا و هو مقبل عليه كهيئة الحزين، فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح. فقلت: يا جبرئيل ادنني منه حتّى اكلّمه، فأدناني منه فلّسمت عليه، فقال له جبرئيل: هذا نبي الرحمة الذي أرسله اللّه إلى العباد، فرحّب بي و حيّاني بالسلام، و قال: أبشر يا محمّد، فإنّي أرى الخير في امتك. فقلت: الحمد للّه المنّان ذي النّعم على عباده، ذلك من فضل رّبي و رحمته عليّ.

فقال جبرئيل: هو أشدّ الملائكة عملا. فقلت: أكلّ من مات أو هو ميت فيما بعد هذا يقبض روحه؟ فقال: نعم: قلت: و يراهم حيث كانوا و يشهدهم بنفسه؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلّها عندي فيما سخّرها اللّه لي و مكّنني منها إلاّ كالدرهم في كفّ الرجل يقلّبه كيف يشاء، و ما من دار إلاّ و أنا أتصفّحها كلّ يوم خمس مرات، و أقول إذا بكى أهل الميت على ميتهم: لا تبكوا عليه، فانّ لي فيكم عودة و عودة حتى لا يبقى منكم أحد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كفى بالموت طامّة يا جبرئيل. فقال جبرئيل: إنّ ما بعد الموت أطمّ و أطمّ من الموت.

قال: ثمّ مضيت فاذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب و لحم خبيث يأكلون الخبيث و يدعون الطيب، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال، و هم من امّتك يا محمد.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ثمّ رأيت ملكا من الملائكة جعل اللّه أمره عجبا، نصف جسده نار، و النصف الأخر ثلج، فلا النار تذيب الثلج، و لا الثلج يطفىء النار، و هو ينادي بصوت رفيع يقول: سبحان الذي كفّ حرّ هذه النار فلا تذيب الثلج، و كفّ برد [هذا]الثلج فلا يطفئ حرّ هذه النار، اللهمّ يا مؤلّف بين الثلج و النار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك وكّله اللّه بأكناف السماوات و أطراف الأرضين، و هو أنصح ملائكة اللّه لأهل الأرضين من عباده المؤمنين،

ص: 16


1- . زاد في المصدر: سورة المطففين على رأس سبعة عشر آية.
2- . المطففين:83/18-21.
3- . في المصدر: الملائكة و هو جالس.

يدعو لهم بما تسمع منه منذ خلقه، و ملكان يناديان في السماء؛ أحدهما يقول: اللهمّ أعط كلّ منفق خلفا، و الآخر يقول: اللهمّ أعط كلّ ممسك تلفا.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل (1)، يقرض اللحم من جنوبهم و يلقى في أفواههم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رؤوسهم بالصخر، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم و تخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، إنّما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا.

ثمّ مضيت فاذا أنا باقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، فإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّا و عشيّا، و يقولون: ربّنا متى تقوم الساعة؟

قال: ثمّ مضيت فإذا أنا بنسوان معلّقات بثديهنّ، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهنّ أولاد غيرهم. ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اشتدّ غضب اللّه على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم، فاطّلع على عوراتهم و أكل خزائنهم.

قال: ثم مررت بملائكة من ملائكة اللّه عزّ و جلّ خلقهم كيف شاء، و وضع وجوههم كيف شاء، ليس شيء من أطباق أجسادهم إلاّ و هو يسبّح اللّه و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة، أصواتهم مرتفعة بالتحميد و البكاء من خشية اللّه، فسألت جبرئيل عنهم، فقال: كما ترى خلقوا، إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه قطّ، و ما رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها، و لا خفضوها إلى ما تحتها خوفا من اللّه و خشوعا، فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برؤوسهم لا ينظرون إليّ من الخشوع. فقال لهم جبرئيل، هذا محمّد نبي الرحمة، أرسله اللّه إلى عباده رسولا نبيا، و هو خاتم الأنبياء و سيّدهم، أفلا تكلّمونه [قال:]فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام، و أكرموني، و بشّروني بالخير لي و لامّتي.

قال: ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية، فاذا فيها رجلان متشابهان، فقلت: من هذان يا جبرئيل؟ قال: أبنا الخالة يحيى و عيسى، فسلّمت عليهما و سلّما عليّ، و استغفرت لهما و استغفرا لي، و قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح، و إذا فيها من الملائكة [مثل ما في السماء الاولى]و عليهم الخشوع، و قد

ص: 17


1- . المشفر للبعير بمثابة الشّفة للانسان.

وضع اللّه وجوههم كيف شاء، ليس منهم ملك إلاّ يسبّح اللّه و يحمده بأصوات مختلفة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثالثة، فإذا [فيها رجل]فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف، فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي. و قال: مرحبا بالأخ الصالح، و النبيّ الصالح، و المبعوث في الزمان الصالح. و إذا فيها ملائكة [عليهم]من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاولى و السماء الثانية، فقال له جبرئيل في أمري ما قال للآخرين، و صنعوا مثل ما صنع الآخرون.

ثمّ صعدنا إلى السماء الرابعة، و إذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا إدريس رفعه اللّه مكانا عليا، فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات، فبشّروني بالخير لي و لامتّي.

ثمّ رأيت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون ألف ألف (1)ملك، تحت كلّ ملك سبعون ألف ألف (2)ملك، فوقع في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه هو، فصاح به جبرئيل، فقال: قم، فهو قائم إلى يوم القيامة.

ثمّ صعدنا الى السماء الخامسة، فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أكهل (1)منه، حوله ثلّة من امّته، فأعجبتني كثرتهم، فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا المجيب لقومه (2)هارون بن عمران. فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة، و إذا فيها رجل آدم كأنّه من شعره لو (3)أنّ عليه قميصين لنفذ شعره فيهما، و سمعته يقول: زعم بنو إسرائيل أنّي أكرم ولد آدم على اللّه، و هذا رجل أكرم على اللّه منّي. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: [هذا]أخوك موسى بن عمران. فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السابعة، فما مررت بملك من الملائكة إلاّ قالوا: يا محمد، احتجم و أمر أمّتك بالحجامة، و إذا فيها رجل أشمط (4)الرأس و اللّحية جالس على كرسيّ، فقلت: يا جبرئيل، من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار اللّه؟ فقال: هذا يا محمد أبوك إبراهيم،

ص: 18


1- . في المصدر: أعظم.
2- . في المصدر: المحبب في قومه.
3- . في المصدر: آدم طويل عليه سمرة و لو لا.
4- . الشّمط: بياض يخالطه سواد في الشعر.

و هذا محلّك و محلّ من اتّقى من امّتك، ثمّ قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ (1)فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و قال: مرحبا بالنبي الصالح، و الابن الصالح، و المبعوث في الزمن الصالح. و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات، فبشّروني بالخير لي و لامّتي.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و رأيت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألأ يكاد تلألؤها يخطف بالابصار، و فيها بحار مظلمة و بحار ثلج ترعد (2)، فلمّا فزعت و رأيت هؤلاء سألت جبرئيل، فقال: أبشر يا محمد، و اشكر كرامة ربك، و اشكر اللّه ما صنع إليك [قال:]فثبّتني اللّه بقوّته و عونه حتى كثر قولي لجبرئيل و تعجّبي، فقال جبرئيل: يا محمّد أتعظّم ما ترى؟ إنّما هذا خلق من خلق ربك، فكيف بالخالق الذي خلق ما ترى و ما لا ترى من خلق ربك أعظم من هذا؟ إنّ بين اللّه و بين خلقه تسعين (3)ألف حجاب، و أقرب الخلق إلى اللّه أنا و إسرافيل، و بيننا و بينه أربعة [حجب]: حجاب من نور، و حجاب من ظلمة، و حجاب من غمام، و حجاب من ماء.

قال: و رأيت من العجائب التي خلق اللّه و سخّره على ما أراد ديكا رجلاه في تخوم الأرضين السابعة، و رأسه عند العرش، و ملكا من ملائكة اللّه خلقه اللّه كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة، ثمّ أقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة، و انتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش و هو يقول: سبحان ربي حيث ما كنت، لا تدري أين ربّك من عظم شأنه، و له جناحان في منكبيه إذا نشرهما جاوزوا المشرق و المغرب، فاذا كان في السّحر (4)نشر جناحيه و خفق بهما، و صرخ بالتسبيح، يقول: سبحان اللّه الملك القدّوس، سبحان اللّه الكبير المتعال، لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم. فاذا قال ذلك سبّحت ديوك الأرض كلّها، و خفقت بأجنحتها، و أخذت بالصّراخ، فاذا سكت ذلك الديك في السماء سكتت ديوك الأرض كلّها، و لذلك الدّيك زغب أخضر و ريش أبيض كأشدّ بياضا ما رأيته قطّ، و له زغب أخضر أيضا تحت ريشه الأبيض كأشدّ خضرة ما رأيتها قطّ.

قال: ثمّ مضيت مع جبرئيل، فدخلت البيت المعمور فصلّيت فيه ركعتين و معي اناس من أصحابي عليهم ثياب جدد، و آخرون عليهم ثياب خلقان (5)، فدخل أصحاب الجدد، و حبس أصحاب الخلقان.

ثمّ خرجت فانقاد لي نهران: نهر يسمّى الكوثر، و نهر يسمّى الرحمة، فشربت [من]الكوثر، و اغتسلت من الرحمة، ثمّ انقادا إليّ حتى دخلت الجنة، فإذا على حافتيها بيوتي و بيوت أزواجي، و إذا

ص: 19


1- . آل عمران:3/68.
2- . في المصدر: ثلج و رعد.
3- . في المصدر: سبعون.
4- . زاد في المصدر: ذلك الديك.
5- . الخلقان: جمع خلق، أي بال.

ترابها كالمسك، و إذا جارية تنغمس في أنهار الجنة، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشّرته بها حين أصبحت، و إذا بطيرها كالبخت (1)، و إذا رمّانها مثل الدّلاء العظام، و إذا شجرة لو ارسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة (2)سنة، و ليس في الجنة منزل إلاّ و فيه فرع منها، فقلت: ما هذه يا جبرئيل. فقال: هذه شجرة طوبى، قال اللّه تعالى: طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (3).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فلما دخلت الجنّة، رجعت إلى نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار و هولها و أعاجيبها، فقال: هي سرادقات الحجب التي احتجب اللّه تبارك و تعالى بها، و لو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كلّ شيء فيه.

فانهيت إلى سدرة المنتهى، فاذا الورقة منها تظلّ أمّة من الامم، فكنت [منها]كما قال اللّه تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (4)فناداني آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ (5)و قد سبق ذلك في آخر سورة البقرة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا ربّ، أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني. فقال: قد أعطيتك في ما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي: لا حول و لا قوة إلاّ باللّه، و لا منجى منك إلاّ إليك.

قال: و علّمتني الملائكة قولا أقوله إذا أصبحت و أمسيت: اللهم إن ظلمي أصبح مستجيرا بعفوك، و ذنبي أصبح مستجيرا بمغفرتك، و ذلّي أصبح مستجيرا بعزّك، و فقري أصبح مستجيرا بغناك، و وجهي [الفاني]البالي أصبح مستجيرا بوجهك الباقي (6)الذي لا يفنى.

ثمّ سمعت الأذان، فإذا ملك يؤذّن لم ير في السماء قبل تلك الليلة، فقال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، فقال اللّه: صدق عبدي، أنا أكبر. فقال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه. فقال اللّه: صدق عبدي أنا اللّه لا إله غيري. فقال: أشهد أن محمّدا رسول اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه. فقال اللّه: صدق عبدي إنّ محمّدا عبدي و رسولي. أنا بعثته و أنا انتجبته. فقال: حيّ على الصلاة، [حيّ على الصلاة]فقال: صدق عبدي، و دعا إلى فريضتي، فمن مشى [إليها]راغبا فيها محتسبا، كانت كفارة لما مضى من ذنوبه. فقال: حيّ على الفلاح، [حيّ على الفلاح.]فقال اللّه: هي الصلاح و النجاح و الفلاح، ثمّ أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدس.

قال: ثمّ غشيتني ضبابة، فخررت ساجدا، فناداني ربّي: إنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة، و فرضتها عليك و على أمّتك، فقم بها أنت في أمّتك فقال: رسول اللّه: فانحدرت حتّى مررت بابراهيم فلم يسألني عن شيء، ثمّ انتهيت إلى موسى، فقال: ما صنعت يا محمّد؟ فقلت:

ص: 20


1- . البخت: الإبل الخراسانية.
2- . في المصدر: تسعمائة.
3- . الرعد:13/29.
4- . النجم:53/9.
5- . البقرة:2/285.
6- . في المصدر: الدائم.

قال ربّي: فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة، و فرضتها عليك و على أمّتك. فقال: [موسى]يا محمّد، إنّ امتّك آخر الامم و أضعفها، و إن ربّك لا يردّ عليك شيئا، و إنّ امّتك لا تستطيع أن تقوم بها، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامّتك. فرجعت إلى ربي فانتهيت إلى سدرة المنتهى، فخررت ساجدا، ثمّ قلت: فرضت عليّ و على امّتي خمسين صلاة، و لا اطيق ذلك و لا امّتي، فخفّف عني. فوضع عنّي عشرا، فرجعت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع لا تطيق. فرجعت، فوضع عنّي عشرا، فرجعت إلى موسى فأخبرته، فقال: لا تطيق ارجع، و في كلّ رجعة أرجع إليه أخرّ ساجدا حتى رجع إلى عشر صلوات، فرجعت إلى موسى و أخبرته، فقال لا تطيق. فرجعت إلى ربّي فوضع عني خمسا، فرجعت إلى موسى و أخبرته، فقال: لا تطيق. فقلت: قد استحييت من ربّي، و لكن أصبر عليها. فناداني [مناد:]كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين، كلّ صلاة بعشر، و من همّ من امّتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا، و إنّ لم يعمل كتبت له واحدة، و من همّ من امّتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة، و إن لم يعملها لم أكتب عليه [شيئا]، فقال الصادق عليه السّلام: جزى اللّه موسى عن هذه الامة [خيرا]فهذا تفسير قوله تعالى: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الآية» (1).

و عن (كشف الغمة) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه سئل بأيّ لغة خاطبك ربّك ليلة المعراج؟ فقال «خاطبني بلغة علي بن أبي طالب، فألهمت أن قلت: يا ربّ [أنت]خاطبتني أم عليّ؟ فقال: يا محمّد (2)، أنا شيء ليس كالأشياء، و لا اقاس بالناس، و لا أوصف بالأشياء، خلقتك من نوري، و خلقت عليا من نورك، فأطلعت على سرائر قلبك، فلم أجد إلى قلبك أحبّ من علي بن أبي طالب، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئنّ قلبك» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق، فأتيا بيت المقدس، و عرض عليه محاريب الأنبياء، و صلّى بها، و ردّه فمرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رجوعه بعير لقريش، و إذا لهم ماء في آنية، و قد أضلّوا بعيرا لهم، و كانوا يطلبونه، فشرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك الماء، و أهريق باقيه.

فلمّا أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لقريش: إن اللّه تعالى قد أسرى بي إلى بيت المقدس، و أراني آثار الأنبياء و منازلهم، و إنّي مررت بعير في موضع كذا و كذا، و قد أضلّوا بعيرا لهم، فشربت من مائهم، و أهرقت باقيه. فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة [منه]، فاسألوه كم الأساطين فيها و القناديل؟

ص: 21


1- . تفسير القمي 2:3، تفسير الصافي 3:167.
2- . في المصدر: يا أحمد.
3- . كشف الغمة 1:106، تفسير الصافي 3:177.

فقالوا: يا محمّد، إنّ هاهنا من دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه و قناديله و محاريبه، فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه، فلمّا أخبرهم قالوا: حتى تجيء العير و نسألهم عمّا قلت، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق (1)فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة، و يقولون: هذه الشمس تطلع الساعة، فبيناهم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق، فسألوهم عمّا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: لقد كان هذا ضلّ جمل لنا في موضع كذا و كذا، و وضعنا ماء فأصبحنا و قد اهريق الماء، فلم يزدهم إلاّ عتوّا» (2).

روت العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع من ليلته قصّ القصّة على امّ هانئ، و قال: «إنّي اريد أن أخرج إلى قريش و اخبرهم بذلك» . فقالت: أنشدك باللّه يابن عمّ أن لا تحدّث بهذا قريشا فيكذّبك من صدّقك. فلمّا كان الغداة تعلّقت بردائه، فضرب يده على ردائه فانتزعه من يدها، و انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم و هو ما بين باب الكعبة و الحجر الأسود، و اولئك النفر: مطعم بن عديّ، و أبو جهل بن هشام، و الوليد بن المغيرة. فقال: «إنّي صلّيت العشاء في هذا المسجد، و صلّيت به الغداة، و أتيت فيما بين ذلك بيت المقدس» و أخبرهم عمّا رأى في السماء من العجائب، و أنّه لقي الأنبياء، و بلغ البيت المعمور و سدرة المنتهى (3).

و روي أنه لمّا دخل المسجد الحرام، و عرف أنّ الناس يكذّبونه، و ما أحبّ أن يكتم ما هو دليل على قدرة اللّه، و علوّ مقامه الباعث على اتّباعه، قعد حزينا، فمرّ به أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه صلّى اللّه عليه و آله، فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال: «نعم اسري بي الليلة» . قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» قال: ثمّ أصبحت بين ظهرانينا؟ ! قال: «نعم» . قال: أ رأيت أن دعوت قومك تحدّثهم بما حدّثتني؟ قال: «نعم» . قال: يا معشر كعب بن لؤي، فانفضّت إليه المجالس و جاءوا حتّى جلسوا إليهما، فقال: «إنّي اسري بي» . قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس، فنشر لي الأنبياء و صلّيت به و كلّمتهم» .

فقال أبو جهل كالمستهزئ: صفهم لنا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أمّا عيسى ففوق الرّبعة (4)دون الطويل عريض الصدر جاعد الشعر» [أي في شعره تثنّي و تكسّر] «تعلوه صهبة» أي [يعلو شعره شقرة «ظاهر الدم» أي يعلوه]حمرة «كأنّما خرج من ديماس» أي حمام «أمّا موسى فضخم آدم» أي أسمر طويل «كأنّه رجال شنوءة» و هم طائفة من اليمن معروفون بالطول «كثير الشعر، غائر العينين، متراكم الاسنان،

ص: 22


1- . الأورق من الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد.
2- . أمالي الصدوق:533/719، تفسير الصافي 3:176.
3- . تفسير روح البيان 5:125.
4- . الرّبعة: الوسيط القامة.

متقلّص الشفتين، خارج اللّثة، عابس. و أمّا إبراهيم فو اللّه إنّه لأشبه الناس بي خلقا و خلقا» .

فضجّوا و عظموا ذلك، و صار بعضهم يصفّق، و بعضهم يضع يده على رأسه متعجّبا و منكرا، قالوا: نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا و منحدرا شهرا، أتزعم أنّك أتيته في ليلة واحدة، و اللات و العزّى لا نصدّقك. و ارتدّ ناس ممّن كان آمن به، و سعى رجال إلى أبي بكر، فقال: إن كان قد قال ذلك فلقد صدق. قالوا: أتصدّقه على ذلك؟ قال: إنّي أصدّقه على أبعد من ذلك، فإنّي أصدّقه في خبر السماء في غدوة و روحة.

و كان فيهم من يعرف بيت المقدس، فقالوا: صف لنا بيت المقدس، كم له [من]باب؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله [قطّ]، لأنّهم سألوني عن أشياء لم أثبتها، و كنت دخلته ليلا و خرجت منه ليلا، فقمت في الحجر، فجلّى اللّه لي بيت المقدس، فطفقت اخبرهم عن آياته و أنا أنظر إليه» ، فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب. فقالوا: ما آية ذلك يا محمّد؟ فقال عليه السّلام: «[آية ذلك]إنّي مررت بعير بني فلان بوادي الروحاء» و هو محلّ قريب من المدينة «قد أضلّوا ناقة لهم، و انتهيت إلى رحالهم، و إذا قدح ماء فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك» . قالوا: فأخبرنا عن عيرنا. قال: «مررت بها في التنعيم» و هو محلّ قريب من مكة «فأخبرهم بعدد جمالها و أحوالها، و أنها تقدم مع طلوع الشمس، يتقدّمها جمل أورق عليه غرارتان» أي جوالقان (1)«أحداهما سوداء، و الاخرى برقاء (2)» فابتدر القوم الثنية، فقال قائل منهم: هذه و اللّه الشمس قد أشرقت. فقال آخر: هذه و اللّه العير قد أقبلت، يتقدّمها جمل أورق، كما قال محمد، عليه غرارتان، فتاب المرتدّون و أصرّ المشركون، و قالوا: إنّه ساحر (3).

ثمّ اعلم أنّ معراج النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّة ببدنه العنصري من ضروريات دين الاسلام، و الأخبار به متواترة، و إن كان تفصيل خصوصياته و قضاياه منقول بخبر الواحد، فلا شبهة في أنّ إنكار أصله-كما نسب إلى عائشة و معاوية-كفر و خروج عن ربقة الاسلام، و التشكيك فيه بأن صعود الجسم الثقيل إلى السماوات و سرعة حركته إلى هذا الحدّ و خرق الأفلاك غير معقول، إنّما نشأ عن الجهل بقدرة اللّه تعالى الكاملة. و أمّا في بعض الروايات من الامور البعيدة عن الأنظار فمطروح أو موجّه بوجوه قريبة إلى الاعتبار.

ص: 23


1- . الجوالق: وعاء من صوف أو شعر أو غيرهما.
2- . برقاء: لعلّه يريد بيضاء مشرقة كالبرق، و في روح البيان: أي فيها بياض و سواد، أي جوالق مخطط ببياض.
3- . تفسير روح البيان 5:126.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إكرام نبيه صلّى اللّه عليه و آله بإسرائه إلى السماوات، بيّن إكرام موسى بإسرائه إلى الطور و إيتائه التوراة بقوله: وَ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ المعهود-و هو التوراة-بعد إسرائه إلى الطور، و كان من فضائل ذلك الكتاب أنّا قرّرناه وَ جَعَلْناهُ هُدىً و رشادا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إلى كلّ حقّ و خير، لاحتوائه للعلوم الكثيرة و الأحكام الوفيرة، و كان أهمّ ما فيه أنّا كتبنا فيه أَلاّ تَتَّخِذُوا يا بني إسرائيل لأنفسكم مِنْ دُونِي و ممّا سواي وَكِيلاً و إلها تفوّضون إليه الامور،

و ترجعون إليه في الحوائج يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا ه مَعَ نُوحٍ في السفينة يوم الطّوفان، و أنعمنا عليه بالنجاة حين هلاك جميع ما في الأرض من الحيوان و النبات، فانّ نجاة آبائكم من أعظم النّعماء عليكم؛ لأنّه لو لم يكونوا لم تكونوا، فيجب أن يقابلوه بالشكر كما شكر نوح إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً مبالغا في أداء حقّ (1)النعمة، و مجدّا إلى القيام بوظائف العبودية.

وَ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)روي أنّه عليه السّلام كان إذا أكل قال: «الحمد للّه الذي أطعمني، و لو شاء أجاعني» . و إذا شرب قال: «الحمد للّه الذي سقاني، و لو شاء أظمأني» و إذا اكتسى قال: «الحمد للّه الذي كساني، و لو شاء جرّدني» . و إذا تغوّط قال: «الحمد للّه الذي أخرج عنّي أذاه في عافية، و لو شاء حبسه» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، أنه سئل ما عنى بقوله في نوح: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً؟ فقال: «كلمات بالغ فيهنّ» قيل: و ما هنّ؟ قال: «كان إذا أصبح قال: أصبحت اشهدك ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فانّها منك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد على ذلك، و لك الشكر كثيرا. كان يقولها إذا أصبح ثلاثا، و إذا أمسى ثلاثا» (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 4 الی 6

وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي اَلْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ اَلدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)

ص: 24


1- . في النسخة: حقه.
2- . تفسير روح البيان 5:131.
3- . تفسير العياشي 3:36/2463، الكافي 2:388/38، تفسير الصافي 3:177.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أن إيتاء التوراة كان لهداية بني إسرائيل، بيّن عدم هدايتهم بها بقوله: وَ قَضَيْنا و حكمنا حكما مبتوتا مرسلا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ بكتبه فِي ذلك اَلْكِتابِ المنزل على موسى عليه السّلام أنّكم يا بني إسرائيل و اللّه لَتُفْسِدُنَّ بالكفر و قتل الأنبياء فِي اَلْأَرْضِ المقدسة و البيت المقدّس و حواليه مَرَّتَيْنِ أولاهما: مخالفتهم، التوراة و قتل أشعيا (1)، و حبس أرميا وَ لَتَعْلُنَّ و تستكبرنّ عن طاعة اللّه عُلُوًّا و استكبارا كَبِيراً و طغيانا عظيما فَإِذا جاءَ وَعْدُ العقوبة على المرة السابقة من الإفسادتين، و حان (2)حين المجازاة على أُولاهُما بَعَثْنا و سلّطنا عَلَيْكُمْ لعقوبتكم على معاصيكم عِباداً و ناسا مخلوقين لَنا حال كونهم أُولِي بَأْسٍ و ذوي بطش شَدِيدٍ فقتلوكم و نهبوا أموالكم، فلمّا لم يجدوا من تظاهر منكم و ما ظهر من أموالكم فَجاسُوا و فتّشوا خِلالَ اَلدِّيارِ و فرج البيوت و ما بين جدرها ليقتلوا من استخفى منكم، و ينهبوا ما سترتم من أموالكم وَ كانَ وعد تعذيبكم وَعْداً لا بدّ من كونه مَفْعُولاً و منجزا غير مخلف.

قيل: إنّ المراد من العباد المبعوثين جالوت و جنوده (3). و قيل: بخت نصّر المجوسي ملك بابل، حارب بني إسرائيل و غلب عليهم و أكثر القتل فيهم، حتى قتل أربعين ألفا من علمائهم، و أسر سبعين ألفا منهم، و غنم أموالهم، و أحرق التوراة، و خرّب المسجد، فبقوا في الذلّ و الشدّة إلى قريب من مائة سنة، فضجّوا و تابوا من عصيانهم و إفسادهم و عتوّهم (4).

ثُمَّ رَدَدْنا و أعدنا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ و الدولة و الغلبة عَلَيْهِمْ بعد كونكم مقهورين مغلوبين تحت سلطنتهم و سطوتهم وَ أَمْدَدْناكُمْ و قوّيناكم بِأَمْوالٍ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وَ بَنِينَ و أولاد بعد ما سبوا وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً و عددا مما كنتم، أو من أعدائكم.

قيل: إنّ كورش الهمداني غزا أهل بابل، فظهر عليهم، و سكن ديارهم، ثمّ تزوجّ امرأة من بني إسرائيل، فطلبت من زوجها أن يردّ بني إسرائيل إلى أرضهم، فردّهم كورش إلى بيت المقدس و قتل بخت نصّر، و خرج بنو إسرائيل من الأسر، و رجع إليهم الملك، و صاروا إلى أحسن ممّا كانوا عليه (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 7

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)

ص: 25


1- . في روح البيان 5:132: شعيا.
2- . في النسخة: و أحان.
3- . تفسير الرازي 20:156.
4- . تفسير الرازي 20:155، تفسير روح البيان 5:132.
5- . تفسير روح البيان 5:133.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية شدّة بلائهم بعد عصيانهم، و حسن حالهم بعد توبتهم و إنابتهم، نبّه على أن نفع الإيمان و الطاعة عائد إليهم، و ضرر الكفر و العصيان وارد عليهم لا يتعدّاهم بقوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ يا بني إسرائيل في العقائد و الأعمال، فقد تبيّن لكم أنّكم أَحْسَنْتُمْ و حصّلتم الخير و الثواب الدنيوي و الاخروي لِأَنْفُسِكُمْ و استفتحتم أبواب البركات على ذواتكم وَ إِنْ أَسَأْتُمْ بالكفر و الطّغيان فَلَها ضررها من الذّلّ و الشدّة في الدنيا و العذاب في الآخرة، و في ذكر فعل الاحسان مرتين دون الاساءة، إشارة بغلبة رحمته تعالى على غضبه فَإِذا جاءَ وَعْدُ العقوبة على المرّة اَلْآخِرَةِ من طغيانكم كقتل يحيى و زكريا و الاجتماع لقتل عيسى، بعثنا عليكم جمعا آخر لِيَسُوؤُا و يغيّروا وُجُوهَكُمْ من شدّة الحزن و الكآبة فتسودّ أو تتغيّر وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ الأقصى و يخرّبوه كَما أنّ أعداءكم دَخَلُوهُ و خرّبوه أَوَّلَ مَرَّةٍ عقوبة على طغيانكم الأول وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا و استولوا عليه من النفوس و الأموال تَتْبِيراً و إهلاكا فظيعا لا يوصف.

قيل: إنّ الذين بعثهم اللّه لعقوبة بني إسرائيل ططوس النصراني (1)، حاصر بلادهم، و قتل نفوسهم، و نهب أموالهم، و خرّب بيت المقدس (2).

و قيل: إنّ هردوس ملك بابل غزا بني إسرائيل، و قال لرئيس جنده: كنت حلفت بالهي لأن ظفرت بأهل بيت المقدس لأقتلنّهم حتى تسيل دماؤهم وسط عسكري، فاقتلهم أنت. فدخل بيت المقدس، و قام في البقعة التي كانوا يقرّبون فيها القربان، فوجد فيها دما يغلي فسألهم عنه فقالوا: دم قربان لم يقبل منّا. فقال: ما صدقتموني. فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من رؤسائهم و علمائهم (3)و أزواجهم، فلم يسكن الدم.

ثمّ قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا: إنّه دم نبي [كان]ينهانا عن المعاصي، و يخبرنا بأمركم، فلم نصدّقه فقتلناه، فهذا دمه. فقال: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا. قال: الآن صدقتموني، لمثل هذا ينتقم ربّكم منكم.

و كان قتل يحيى بيد ملك من بني إسرائيل يقال له لاحت (4)حمله على قتله امرأة اسمها إربيل، و كانت قتلت سبعة من الأنبياء، و قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، فلمّا رأى أنهم صدقوا خرّ ساجدا، ثمّ قال: يا يحيى، قد علم ربّي و ربّك ما أصاب قومك من أجلك و ما قتل منهم، فاهدأ باذن اللّه قبل أن لا أبقي أحدا منهم، فهدأ فرفع عنهم القتل، و قال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، و أيقنت أنه لا ربّ

ص: 26


1- . في روح البيان: طرطوس الرومي.
2- . تفسير روح البيان:5:133.
3- . في تفسير روح البيان: و غلمانهم.
4- . في تفسير روح البيان: لاخت.

غيره.

و قال لبني إسرائيل: إن هردوس أمرني أن اقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، و لست أستطيع أن أعصيه. قالوا: أفعل ما امرت، فأمر أن يحفر خندقا و يذبحوا دوابّهم حتى سال الدم في العسكر، فلمّا رأى هردوس ذلك أرسل إليه أن ارفع عنهم القتل، فسلب عنهم الملك و الرئاسة، و ضربت عليهم الذلة و المسكنة، ثمّ أنصرف إلى بابل (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 8

ثمّ رغّبهم اللّه تعالى في الإيمان و الطاعة و الأعمال الصالحة، و رهّبهم عن الفساد و الطّغيان بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد الانتقام منكم إن بقيتم على الايمان و الأعمال الصالحة، أو إن تبتم توبة اخرى و كففتم عن العصيان و الطّغيان وَ إِنْ عُدْتُمْ مرة ثالثة إلى ما كنتم عليه من العصيان عُدْنا إلى الانتقام منكم بالقتل و الأسر في الدنيا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً و محبسا، أو مقرّا و مهادا في الآخرة، و لا يمكنهم الخروج منها أبدا، و كان من خبث ذاتهم أنّهم بعد ما رأوا من العقوبات و سمعوا من التهديد، عادوا إلى العصيان بتكذيب النبي و كتمان علائمه و نعوته المذكورة في التوراة و الانجيل و تحريفهما، فعاد اللّه عليهم بالتعذيب على أيدي المسلمين، فقتلوا كثيرا منهم، و أجلوا كثيرا، و ضرب اللّه على سائرهم الجزية و الذلة إلى يوم القيامة.

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)و القمّي قال: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي اَلْكِتابِ أي أعلمناهم، ثمّ انقطعت مخاطبة بني إسرائيل، و خاطب اللّه امة محمّد فقال: لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ يعني فلانا و فلانا و أصحابهما، و نقضهم العهد وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً يعني ما ادّعوه من الخلافة فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني يوم الجمل بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني أمير المؤمنين و أصحابه فَجاسُوا خِلالَ اَلدِّيارِ أي طلبوكم و قتلوكم وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً يعني يتمّ و يكون ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ يعني لبني أمية على آل محمد وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً من الحسن و الحسين ابني علي عليه السّلام و أصحابهما [فقتلوا الحسين بن عليّ]و سبوا نساء آل محمّد فَإِذا جاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ يعني القائم و أصحابه لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ يعني تسوّد وجوهكم وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه و أمير المؤمنين عليه السّلام وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (2)أي يعلو عليكم فيقتلوكم.

ص: 27


1- . تفسير روح البيان 5:134.
2- . الإسراء:17/4-7.

ثمّ عطف على آل محمّد فقال: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي ينصركم على عدوكم. ثمّ خاطب بني امية فقال: وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا يعني إن عدتم بالسفياني عدنا بالقائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً [أي]حبسا يحصرون فيها (1).

عن (الكافي) و (العياشي) عن الصادق عليه السّلام في تأويل الإفسادتين بقتل عليّ عليه السّلام و طعن الحسن عليه السّلام، و العلوّ الكبير بقتل الحسين عليه السّلام، و العباد اولى البأس بقوم يبعثهم اللّه قبل خروج القائم، فلا يدعون واترا لآل محمّد إلاّ قتلوه، و وعد اللّه بخروج القائم عليه السّلام و الكرّة عليهم بخروج الحسين عليه السّلام في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهّب حين كان الحجّة القائم (2)بين أظهرهم (3).

و عن (العياشي) : «ثمّ يملكهم الحسين عليه السّلام حتى يقع حاجباه على عينيه» (4).

و عنه عليه السّلام: «أول من يكرّ إلى الدنيا الحسين بن علي عليه السّلام [و أصحابه]و يزيد بن معاوية و أصحابه، فيقتلهم حذو القذّة (5)بالقذّة» ثمّ تلا هذه الآية (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ العباد أولي بأس شديد هم القائم عليه السّلام و أصحابه» (7).

أقول: الظاهر أنّ المراد من الروايات تطبيق ما يقع في هذه الامّة على ما وقع في بني إسرائيل حذو النّعل بالنّعل، لا صرف الآية عن ظاهرها و حصر المراد منها فيما وقع بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 9

ثمّ لمّا وصف اللّه التوراة بكونها هدى لبني إسرائيل، وصف القرآن بكونه هدى لكافّة الناس إلى أحسن الأديان بقوله: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ الذي انزل إليك يا محمّد يَهْدِي الناس كافة إلى يوم القيامة لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ من سائر الملل، و إلى الشريعة التي هي أسدّ و أتقن من سائر الشرائع بحيث لا يمكن أن تساويها ملّة و شريعة في الاستقامة و الاتقان.

إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)

ص: 28


1- . تفسير القمي 2:14، تفسير الصافي 3:179.
2- . هذه عبارة تفسير الصافي، و في الكافي: «المذهّب لكل بيضة و جهان، المؤدّون إلى الناس أنّ هذا الحسين قد خرج حتى لا يشكّ المؤمنون فيه، و أنه ليس بدجال و لا شيطان و الحجة القائم. . .» و في تفسير العياشي نحوه.
3- . تفسير العياشي 3:37/2464، الكافي 8:206/250، تفسير الصافي 3:179.
4- . تفسير العياشي 3:37/2464، تفسير الصافي 3:179.
5- . القذّة: ريشة الطائر بعد تسويتها و إعداها لتركّب في السّهم، و القول يضرب مثلا للشيئين يستويان و لا يتفاوتان.
6- . تفسير العياشي 3:39/2467، تفسير الصافي 3:179.
7- . تفسير العياشي 3:38/2465، تفسير الصافي 3:179.

و عن الصادق: «يدعو إلى الإمام» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «يهدي إلى الولاية» (2).

و عن السجاد عليه السّلام: «الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوما، و ليست العصمة في ظاهر الخلقة [فيعرف بها،] و لذلك لا يكون إلاّ منصوصا» فقيل: ما معنى العصمة؟ قال: هو الاعتصام (3)بحبل اللّه، و حبل اللّه هو القرآن، و القرآن يهدي إلى الإمام، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (4).

ثمّ أخبر سبحانه بأتمّ النفع الذي يكون للعمل بالشريعة الاقوم بقوله: وَ يُبَشِّرُ هذا القرآن اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ آمنوا به و يَعْمَلُونَ بما فيه من الأعمال اَلصّالِحاتِ من أداء الواجبات و ترك المحرّمات أَنَّ لَهُمْ في الدنيا و الآخرة أَجْراً كَبِيراً و ثوابا عظيما.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ أخبر سبحانه بأعظم الضرر على مخالفته بقوله: وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كأغلب المشركين و اليهود على ما قيل من أنّهم منكرون للمعاد الجسماني (5)أَعْتَدْنا و هيّئنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً في الآخرة، و جعل الإخبار بالعذاب من البشارة إمّا من باب التهكّم، أو الازدواج، أو لأنّ تعذيب أعداء المؤمنين ممّا تسرّ به قلوبهم.

وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَ يَدْعُ اَلْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ اَلْإِنْسانُ عَجُولاً (11)

ثمّ ذمّ سبحانه من لا يعرف قدر القرآن و عظمة هذه النعمة بكونه غير مميّز بين الخير و الشرّ بقوله: وَ يَدْعُ اَلْإِنْسانُ لنفسه بِالشَّرِّ و يبالغ في طلبه بلسانه باعتقاد أنّه خيره و صلاحه، أو يطلب الأعمال السيئة المفضية إلى الشرّ بنحو يشابه دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ لغاية جهله و عدم تميّزه نفعه عن ضرّه، و ما يصلحه عمّا يفسده، و كون نظرة إلى العاجل وَ كانَ اَلْإِنْسانُ جنسه بالطبع عَجُولاً و مسارعا في الامور بلا تأنّ فيها و تدبّر في عواقبها.

عن الصادق عليه السّلام: «و اعرف طريق نجاتك و هلاكك، كيلا تدعو اللّه بشيء عسى أن يكون فيه هلاكك و أنت تظنّ أنّ فيه نجاتك، قال اللّه تعالى: وَ يَدْعُ اَلْإِنْسانُ الآية» (6).

قيل: إنّ المراد بالانسان الداعي بالشرّ النّضر بن الحارث القائل: اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من

ص: 29


1- . الكافي 1:169/2، تفسير الصافي 3:180.
2- . تفسير العياشي 3:39/2469، تفسير الصافي 3:180.
3- . في معاني الأخبار: فقيل له: يا ابن رسول اللّه، فما معنى المعصوم؟ فقال: «هو المعتصم. . .» .
4- . معاني الأخبار:132/1، تفسير الصافي 3:180.
5- . تفسير الرازي 20:162.
6- . مصباح الشريعة:132، تفسير الصافي 3:181.

عندك فأمطر علينا حجارة، فضربت عنقه بدعائه، و القائلون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: آتنا بعذاب اللّه، أو متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ (1)

و قيل: هو الذي يلعن نفسه و أهله و ولده عند الغضب (2).

و روت العامة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا، فأقبل يئنّ بالليل، فقالت له سودة: مالك تئنّ؟ فشكا ألم القيد، فأرخت له من كتافه، فلمّا نامت أخرج يده و هرب، فلمّا أصبح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا به، فاعلم بشأنه، فقال: «اللهمّ اقطع يدها» ، فرفعت سودة يدها تتوقّع أن يقطع اللّه يدها بدعائه صلّى اللّه عليه و آله، فقال النبيّ: «إنّي سألت اللّه أن يجعل دعائي على من لا يستحقّ عذابا من أهلي رحمة، لأنّي بشر أغضب كما تغضبون، فلتردّ سودة يدها» (3). هذا ما رواه بعض المفسرين، و فيه ما لا يخفى من منافاته لغاية حلمه و عصمته.

و قيل: إنّ المراد بالانسان العجول هو آدم (4). روى بعض العامة أنّه لمّا انتهت الروح إلى سرّة آدم، نظر إلى جسده فأعجبه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قوله: وَ كانَ اَلْإِنْسانُ عَجُولاً (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «قال: لمّا خلق اللّه آدم و نفخ فيه من روحه، وثب ليقوم قبل أن يستتمّ خلقه فسقط، فقال اللّه عز و جل: وَ كانَ اَلْإِنْسانُ عَجُولاً» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 12

ثمّ لمّا مدح اللّه التوراة و القرآن بكونهما هدى شبّههما في تعاقبهما و أفضلية القرآن على التوراة و أنفعيته منها، و كونه ناسخا لها بالليل و النهار، بقوله: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ بسبب تعاقبهما و اختلافهما طولا و قصرا آيَتَيْنِ و دليلين على وجود الصانع القادر الحكيم للعالم، يهتدي المتأمّل فيهما إلى معارف اللّه و كمال قدرته و حكمته، فكأنّه سبحانه قال: جعلنا التوراة و القرآن آيتين على الحقّ و الصواب، ثمّ نسخنا التوراة بالقرآن الذي هو أفضل و أنفع، كما جعلنا الليل و النهار آيتين على وجود الصانع الواحد القديم فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ و أذهبناها بضوء النهار، كما نسخنا التوراة بنزول القرآن الذي هو كضوء النهار وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً و مضيئة يرى بضوئها كلّ شيء

وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)

ص: 30


1- . تفسير العياشي 3:40/2471، تفسير الصافي 3:181.

لِتَبْتَغُوا و تطلبوا في ضوئها فَضْلاً و رزقا مقدّرا مِنْ رَبِّكُمْ بمقتضى ربوبيته لكم وَ لِتَعْلَمُوا بتعاقبهما عَدَدَ اَلسِّنِينَ المتوقّف عليه صلاحكم وَ اَلْحِسابَ الراجع إلى الدقائق و الساعات و الأيام و الشهور، كما جعل القرآن مبصرا، يرى بنوره كلّ ما تحتاجون إليه من مصالح الدين و الدنيا، لتبتغوا فضلا كثيرا من ربّكم في الدنيا و الآخرة وَ كُلَّ شَيْءٍ ممّا تحتاجون إليه في المعاش و المعاد فَصَّلْناهُ و بيّناه في القرآن تَفْصِيلاً و أضحا و تبيينا بليغا وافيا.

و قيل: إنّ وجه النّظم أنّ هذا القرآن سبب هداية جميع الناس إلى أحسن الأديان، و كان التوحيد من أهمّ العقائد، شرع في الاستدلال عليه بقوله: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ الآية.

و قيل: إن الوجه أنه تعالى بعد ذكر منّته على الخلق بإعطائهم نعمة القرآن الذي هو أتمّ النعم الدينية، ذكر منّته عليهم بإعطائهم النعمة العظيمة الدنيوية، و هي اختلاف الليل و النهار، لتشابه النّعمتين، أو أنّ القرآن كما هو مركّب من المحكم و المتشابه، كذلك الدهر مركّب من الليل و النهار، فالمتشابه هو الليل، و المحكم هو النهار، و كما أنّ الغرض من التكليف لا يتمّ إلاّ بوجود المحكم و المتشابه، كذلك الانتفاع بالوقت و الزمان لا يكمل إلاّ بوجود الليل و النهار (1).

و قيل: إنّ المراد بآية الليل القمر، و بآية النهار الشمس، و محو القمر انتقاصه قليلا قليلا إلى المحاق (2).

و قيل: محوه: الكلف: الذي يظهر في وجهه (3). روت العامة أنّ الشمس و القمر كانا سواء في النور و الضوء، فأرسل اللّه جبرئيل فأمرّ جناحه على وجه القمر، فطمس عنه الضوء (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في (النهج) : «و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة من ليلها، و أجراهما و قدّر مسيرهما في تدرّج مدرجهما (2)، ليميّز بين الليل و النهار بهما، و ليعلم عدد السنين و الحساب بمقاديرهما» (3).

و في (العلل) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: ما بال الشمس و القمر لا يستويان في الضوء و النور؟ قال: «لمّا خلقهما اللّه عز و جل أطاعا و لم يعصيا شيئا، فأمر اللّه جبرئيل أن يمحو ضوء القمر، فمحاه فأثر المحو في القمر خطوطا سوداء، و لو أنّ القمر ترك على حاله بمنزلة الشمس و لم يمح، لما عرف الليل من النهار، و لا النهار من الليل، و لا علم الصائم كم يصوم، و لا عرف الناس عدد السنين، و ذلك

ص: 31


1- . تفسير الرازي 20:163. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 20:164.
2- . في المصدر: و أجراهما في مناقل مجراهما، و قدر سيرهما في مدارج درجهما.
3- . نهج البلاغة:128-الخطبة 91، تفسير الصافي 3:181.

قول اللّه تعالى: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية» (1).

و عن (الاحتجاج) : قال ابن الكوّاء لأمير المؤمنين عليه السّلام: أخبرني عن المحو الذي يكون في القمر. فقال: «اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، رجل أعمى يسأل عن مسألة عمياء! أما سمعت اللّه يقول: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا خلق اللّه القمر كتب عليه: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، عليّ أمير المؤمنين، و هو السواد الذي ترونه» (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ وصف اللّه القرآن بكونه هاديا للملّة الأقوم، و نهارا مبصرا و مفصّلا لكلّ شيء و متمّما للحجّة، هدّد المخالفين له بقوله: وَ كُلَّ فرد من أفراد إِنسانٍ مكلّف من العرب و العجم و الأسود و الأحمر أَلْزَمْناهُ و قلّدناه طائِرَهُ و عمله، خيرا أو شرّا فِي عُنُقِهِ فان كان خيرا يكون له زينة، و إن كان شرا كان غلاّ و شينا على رقبته.

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)عن الباقر عليه السّلام: «خيره و شرّه معه حيث كان لا يستطيع فراقه» (4).

وَ نُخْرِجُ لَهُ من قبره، أو نظهر له من ستر الخفاء و من مكتب الآخرة يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و وقت المحاسبة كِتاباً مسطورا فيه عمله من النّقير و القطمير بيد الرقيب و العتيد و هو يَلْقاهُ و يجده مَنْشُوراً و مبسوطا،

و حينئذ يقول اللّه بلسان الملائكة: يا فلان اِقْرَأْ كِتابَكَ.

قيل: إنّ الكافر يقول: يا ربّ إنك [قضيت أنك]لست بظلام للعبيد، فاجعلني احاسب نفسي. فيقال له: اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (5)و محاسبا.

و قال بعض العامة: إنّ الكتاب هي النفس التي انتقشت فيها الأحوال و الأعمال الدنيوية و الاخروية، فما دامت الروح مشغولة بتدبير البدن، كانت تلك الآثار مخفية عنها، فكأنه كان ذلك الكتاب مطويا، فبعد انقطاع علاقة الروح من الجسد، و قيامها من مكانها، و صعودها إلى العالم العلوي، تشاهد القوة العاقلة تلك الآثار المكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح و النفس، فكأنّ الكتاب صار منشورا بعد ما كان مطويا، فقال للانسان في تلك الحالة: اِقْرَأْ كِتابَكَ (6).

ص: 32


1- . علل الشرائع:470/33، تفسير الصافي 3:181.
2- . الاحتجاج:260، تفسير الصافي 3:181.
3- . الاحتجاج:158، تفسير الصافي 3:181.
4- . تفسير القمي 2:17، تفسير الصافي 3:182.
5- . تفسير الرازي 20:169.
6- . تفسير الرازي 20:170.

أقول: لا مجال للشكّ في ما دلّت عليه الآيات و الروايات من وجود كتاب مكتوب فيه الأعمال يؤتى كّل نفس من المؤمن و الفاسق يوم القيامة بيمينها أو شمالها، و يقول: ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها، و لا منافاة بينها و بين وجود الكتاب النفساني الذي ذكر، فيجب الالتزام بظاهر الآية و تفسيرها بما كتبه الملكان.

عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «يذكّر العبد جميع ما عمل و كتب (1)عليه حتى كأنّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا اَلْكِتابِ الآية» (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 15

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم انفكاك الانسان عن عمله، بيّن اختصاص نتائجه بعامله بقوله: مَنِ اِهْتَدى إلى الحقّ و الصواب بهداية القرآن و عمل بما فيه فَإِنَّما يَهْتَدِي و يكون نفع هدايته و عمله لِنَفْسِهِ و عائدا إلى شخصه لا يتعدّى إلى غيره وَ مَنْ ضَلَّ عن الحقّ و انحرف عن طريق الصواب، و لم يؤمن بالقرآن، و لم يعمل بأحكامه فَإِنَّما يَضِلُّ و ضرر ضلاله عَلَيْها و تبعاته راجعة إليها لا تتجاوز إلى غيرها، ثمّ قرر ذلك بقوله: وَ لا تَزِرُ و لا تحمل نفس وازِرَةٌ و حاملة للوزر و الثقل أو للإثم وِزْرَ نفس أُخْرى و إثمها كي تتخلّص النفس الاخرى من الإثم، أو يخفّف عنها، و حاصل المراد عدم مؤاخذة أحد بذنب غيره.

مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الظلم عن نفسه بأحد بذنب غيره، أثبت لنفسه اللّطف بعباده بقوله: وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ أحدا من الناس، و ما صحّ لنا بمقتضى اللطف عقوبة أحد منهم حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً من البشر يبلّغهم أحكامنا و يبيّن لهم تكاليفنا.

و اعلم أنّ هذا التفسير مبنيّ على القول بصحة العقوبة على مخالفة الأحكام العقلية، إلاّ أنّ مقتضى اللطف تأييدها بالأحكام الشرعية، كما ذهب إليه بعض.

و أما إذا قلنا بترتّب العقوبة على مخالفة الأحكام العقلية، فلا بدّ إما من القول بكون المراد من الرسول في الآية مطلق البيان، سواء كان بتوسّط الرسول الظاهر أو الرسول الباطن، و إنّما عبّر [عن] مطلق البيان ببعث الرسول لأنّ الغالب تحقّق البيان به، أو المراد من الرسول مطلقه سواء أكان عقلا أو

ص: 33


1- . في مجمع البيان: جميع أعماله و ما كتب.
2- . تفسير العياشي 3:41/2477، مجمع البيان 6:622، تفسير الصافي 3:182، و الآية من سورة الكهف:18/49.

بشرا، أو خصوص الرسول الظاهر، و تخصيص عموم النفي بالأدلة الدالة على حجيّة الأحكام العقلية بما إذا لم يحكم العقل بالوجوب أو الحرمة. و على هذه الوجوه الثلاثة يكون مدلول الآية نفي الظلم عن ذاته المقدسة، و قبح العقاب بلا بيان، فيكون دليلا على البراءة عند الشكّ في التكليف و عدم وجدان الحجّة عليه.

و ما قيل: من أنّ المراد بالعذاب في الآية العذاب الدنيوي، و المقصود من قاعدة البراءة نفي العذاب مطلقا دنيويا كان أم اخرويا، و نفي العذاب الدنيوي لا يدلّ على نفي العذاب الاخروي منه إلاّ بالفحوى، و هو ممنوع. فيه: أن قوله تعالى: ما كُنّا دالّ على تنزيه ذاته المقدسة من ارتكاب هذا الفعل لقبحه و عدم لياقته بمقام حكمته و الوهيته، و لا يتفاوت في ذلك بين كون العذاب دنيويا أو اخرويا.

ثمّ لا يخفى أنّ نفي العذاب إلى الغاية لا يدلّ على وقوعه بعدها و إن لم يتحقّق عصيان كما توهّم، بل الظاهر أنّه بيان كون البعث من شرائط صحة العذاب إذا وجد مقتضية و ارتفعت موانعه من التوبة و الشفاعة و أمثالهما.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ بيّن اللّه أنّ العذاب الدنيوي لا يكون إلاّ بعد كمال الاستحقاق بالطغيان بقوله: وَ إِذا أَرَدْنا و عزمنا على أَنْ نُهْلِكَ و نعدم قَرْيَةً من القرى و نعذّب أهلها بعذاب الاستئصال، لخبث ذاتهم و سوء أخلاقهم أَمَرْنا بتوسط الرسول مُتْرَفِيها و جبابرتها و المتنعّمين من أهلها و رؤوسها المتّبعين فيهم بالطاعة و التسليم لأحكامنا.

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)و قيل: إنّ المراد أكثرنا مترفيها و فسّاقها و طغاتها (1)، أو المراد: إذا أردنا أن نهلك قرية بسبب عصيان أهلها، لا نعاجلهم بالعقوبة، بل أمرناهم بالرجوع عن العصيان و التوبة عن السيئات (2)، أو المراد من الأمر تسبيب أسباب الفسق من توفير النعم و تهيئة المرغّبات إلى العصيان و ما يفضيهم إليه (3).

فَفَسَقُوا و تمرّدوا و خرجوا عن طاعتنا فِيها و تبعهم سائر أهلها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ و ثبتت

ص: 34


1- . تفسير الرازي 20:175.
2- . تفسير الرازي 20:176.
3- . تفسير الرازي 20:175،176.

عليهم كلمة العذاب بسبب كمال استحقاقهم له فَدَمَّرْناها و أفنينا أهلها و دورها، و محونا آثارها بالعذاب تَدْمِيراً و فناء عجيبا بديعا.

ثم بيّن سبحانه أنّ عادته من أول الخلقة أخذ المتمردين بالعذاب بقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا و كثيرا ما عذّبنا مِنَ اَلْقُرُونِ و الامم المتمرّدة مِنْ بَعْدِ عصر نُوحٍ و إهلاك امّته بالطّوفان كعاد و ثمود و قوم لوط و أضرابهم، و إنّما خصّ إكثار العذاب بمن بعد نوح؛ لأنّه أوّل نبي بالغ قومه في تكذيبه.

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار قدرته على التعذيب، بيّن كمال علمه بالمعاصي الباطنية و الظاهرية بقوله: وَ كَفى يا محمّد بِرَبِّكَ اللطيف بك بِذُنُوبِ عِبادِهِ الخفية و الجلية و الباطنية و الظاهرية خَبِيراً بَصِيراً فيعاقب عليها، فليحذر مكذّبوك من المشركين و أهل الكتاب من أن يبتلوا بمثل ما ابتلي به الامم الماضية المهلكة بتكذيبهم الرسل.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 18 الی 21

ثمّ لما هدّد اللّه الكفار بالعذاب، و كان كثير منهم متنعّمين في الدنيا مستدلّين بتنعّمهم على كرامتهم على اللّه، ردّهم سبحانه بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ النّعم اَلْعاجِلَةَ و اللّذات الدنيوية السريعة الزوال بأعماله الحسنة كإعانة الضعفاء و إغاثة الملهوفين و نظائرهما عَجَّلْنا لَهُ في إعطاء النعم الدنيوية، و أسرعنا فِيها و لكن لا نعطي الكلّ للكلّ، بل نعطي ما نَشاءُ إعطاءه منها لِمَنْ نُرِيدُ أن نعطيه منها، فلا يفوز كلّهم بكلّ مطالبهم، بل كثير منهم محرومون عن الدنيا، فمن فاز منهم بها أخذناها منه سريعا ثُمَّ جَعَلْنا بدل النعم التي عجّلناها لَهُ جَهَنَّمَ و فنون العذاب الذي فيها.

مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)ثمّ إن كان أشدّ العذاب هو الآلام المقرونة بالذلّ و البعد، بيّن غاية ذلّ الكافر المتنعّم المتكبّر و بعده بقوله: يَصْلاها ذلك المترف المتكبّر، و يدخلها حال كونه مَذْمُوماً و مهانا باللوم و مَدْحُوراً و مطرودا من ساحة رحمة اللّه.

ثمّ قيل: إنّ هذه الآية تقرير لقوله: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (1)و المقصود أنّ من يريد

ص: 35


1- . الإسراء:17/13.

بعمله الدنيا و الرئاسة و يستنكف من طاعة الأنبياء تكبّرا و خوفا من زوال رئاسته، جعل طائره شؤما (1)سائقا له إلى أشدّ العذاب وَ مَنْ أَرادَ بعمله اَلْآخِرَةَ و ثوابها الدائم وَ سَعى لَها في مدّة عمره سَعْيَها الائق بها، و اجتهد في الأعمال المفيدة فيها من أداء الواجبات الالهية و ترك المحرّمات الاسلامية بنيّة التقرّب إلى اللّه وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و رسوله إيمانا لا شرك معه و لا تكذيب فَأُولئِكَ المؤمنون العاملون المخلصون كانَ سَعْيُهُمْ و جهدهم في طاعة اللّه مَشْكُوراً و مثابا عليه عند اللّه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أراد الآخرة فليترك زينة الحياة الدنيا» (2).

كُلاًّ من الفريقين: المريدين للدنيا، و المريدين للآخرة نُمِدُّ هم و نزيدهم من النّعم سواء هؤُلاءِ المعجّل لهم وَ هَؤُلاءِ المشكورون سعيهم، و نوسّع في أرزاقهم و نكثّر أموالهم و أولادهم بالقدر الذي يقتضيه الصلاح، و إنّما يكون ذلك الامداد و الزيادة مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ و فضله الذي لا تناهي له حسب ما اقتضته الحكمة البالغة وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ و تفضّله على عباده بالنعم الدنيوية و الاخروية مَحْظُوراً و ممنوعا عن أحد من قبله، و إنما يمنع العصاة النّعم الاخروية عن أنفسهم بعصيانهم و سوء اختيارهم.

اُنْظُرْ يا محمّد، أو أيّها الناطر بنظر الاعتبار الى الفريقين، إنّا كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الأمداد و العطايا الدنيوية، فترى مؤّمنا موسرا و مؤمنا معسرا، و مؤمنا مالكا و مؤمنا مملوكا، و كذلك الكفّار، فاذا كان مراتب التفاضل في متاع الدنيا و حظوظها بهذه الكثرة التي تكون فوق حدّ الإحصاء، و تفاوت درجات الخلق فيه أكثر من أن تدرى، فكيف بدرجات الآخرة؟ وَ و اللّه لَلْآخِرَةُ و نعمها و حظوظها أَكْبَرُ دَرَجاتٍ من الدنيا وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً و أعظم تفاوتا، فانّ نسبة عظم درجاتها و كثرة تفاضلها و تفاوتها إلى درجات الدنيا و التفاضّل فيها، كنسبة الدنيا و الآخرة، فمن كان راغبا في فضيلة الدنيا و علوّ الدرجة فيها، فلتكن رغبته في تحصيل فضيلة الآخرة و علوّ الدرجة أزيد و أكثر.

روي أنّ ما بين أعلى درجات الجنّة و أسفلها مثل ما بين السماء و الأرض (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا تقولنّ الجنة واحدة، إنّ اللّه يقول: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (4)و لا تقولن درجة واحدة، إنّ اللّه يقول: (درجات بعضها فوق بعض) إنّما تفاضل القوم بالأعمال» .

قيل له: إنّ المؤمنين يدخلان الجنّة، فيكون أحدهما أرفع مكانا من الآخر، فيشتهي أن يلقى

ص: 36


1- . تفسير الرازي 20:178.
2- . روضة الواعظين:434، تفسير الصافي 3:183.
3- . مجمع البيان 6:628، تفسير الصافي 3:184.
4- . الرحمن:55/62.

صاحبه؟ قال: «من كان فوقه فله أن يهبط، و [من]كان تحته لم يكن له أن يصعد؛ لأنّه لم يبلغ ذلك المكان، و لكنّهم إذا أحبّوا ذلك و استهووه التقوا على الأسرّة» (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنما يرتفع العباد غدا في الدرجات، و ينالون الزّلفى من ربّهم على قدر عقولهم» (2).

و عن ابن عبّاس: يرفع درجة العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كلّ درجتين، كما بين السماء و الأرض (3).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أن في الجنة مدينة من نور، لم ينظر إليها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، جميع ما فيها من القصور و الغرف و الأزواج و الخدم من النور، أعدّها اللّه للعاقلين، فاذا ميّز اللّه أهل الجنّة من أهل النار، ميّز أهل العقل فجعلهم في تلك المدينة، فيجزي كلّ قوم على قدر عقولهم، فيتفاوتون في الدرجات، كما بين المشارق و المغارب بألف ضعف» (4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أن في الجنة درجة لا ينالها إلاّ أصحاب الهموم» (5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ في الجنّة درجة لا ينالها إلاّ ثلاثة أقسام: عادل، و ذو رحم واصل، و ذو عيال صبور» فقال [علي عليه السّلام: «ما صبر ذي العيال؟» قال:] «لا يمنّ على أهله ما ينفق عليهم» (6).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 22

ثمّ لمّا بين اللّه سبحانه أنّ شرط فائدة الأعمال في الآخرة هو الإيمان، بيّن أنّ أهمّ ما يجب الإيمان به التوحيد بقوله مخاطبا لنبيه صلّى اللّه عليه و آله لاظهار غاية الاهتمام به: لا تَجْعَلْ و لا تختر يا محمّد بهوى نفسك، أو لا تعتقد أنّ مَعَ اَللّهِ الواجب الوجود إِلهاً آخَرَ مشاركا في الالوهية و العبادة فَتَقْعُدَ و تصير، أو تمكث في العالم، أو في جهنّم حال كونك مَذْمُوماً و ملاما عند العارفين باللّه من العقلاء و المؤمنين و الأنبياء و الملائكة و مَخْذُولاً عند اللّه، ممنوعا عنك ألطافه، فلا ينصرك أحد بدفع العذاب عنك، و إنّما عبّر سبحانه عن الصيرورة أو المكث بالقعود؛ لأنّ فيه معنى الذلّ و الهوان و العجز، أو لأنّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد في ناحية متفكّرا نادما على ما فرّط، أو لأنّ من لا يقدر على طلب خير يقعد آيسا منه.

لا تَجْعَلْ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)

ص: 37


1- . تفسير العياشي 3:155/61، تفسير الصافي 3:184.
2- . تفسير الصافي 3:184.
3- . تفسير روح البيان 5:145.
4- . تفسير روح البيان 5:145.
5- . تفسير روح البيان 5:146.
6- . تفسير روح البيان 5:146.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن اعتقاد الوهية غيره، أمر بتخصيص العبادة به بقوله: وَ قَضى رَبُّكَ و حكم حكما بتيّا أَلاّ تَعْبُدُوا أيّها الناس شيئا إِلاّ إِيّاهُ لاختصاص استحقاق العبادة به ذاتا و نعمة وَ بأن تحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كاملا لكونهما بعد اللّه سبحانه أعظم إحسانا إليكم، و أكثر حقّا عليكم، حيث إنّهما من مبادئ وجودكم، و متكفّل تربيتكم و حفظكم و معاشكم بلا توقّع عوض منكم.

وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالاحسان إليهما، نهى عن الإساءة إليهما بقوله: إِمّا يَبْلُغَنَّ و إن يصلن عِنْدَكَ و في كنفك و كفالتك اَلْكِبَرَ في السّنّ و الضّعف في القوى الموجبين لضيق صدرهما و ثقل مؤنتهما و كثرة زحماتهما أَحَدُهُما أبا أم أمّا أَوْ كِلاهُما و إن أضجراك بما تستقذر منهما و تشتغل من مؤنتهما و خدمتهما فَلا تَقُلْ لَهُما في حال الاجتماع، أو لأحدهما حال الانفراد أُفٍّ و لا تظهر عندهما الانضجار من نفسك.

عن الصادق عليه السّلام: «إن أضجراك فلا تقل لهما أفّ» (1).

و عنه عليه السّلام: «لو علم اللّه شيئا أدنى من الافّ لنهى عنه، و هو من أدنى العقوق» (2).

قيل: يعني لا تتقذّر منهما شيئا، كما لم يتقذّرا منك حين كنت تخرأ و تبول في حجرهما (3).

و قال مجاهد: يعني إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أفّ (4).

وَ لا تَنْهَرْهُما و لا تضجر قلوبهما بكلمة غير ملائمة لطبعهما من ردّ أو تكذيب. عن الصادق عليه السّلام: «و لا تنهرهما، إن ضرباك» (5).

و قيل: إنّ المعنى لا تنههما من شيء أراداه (6).

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن استقبالهما بكلمة مؤذية لهما، أمر بأن يواجههما بالكلام الطيب بقوله:

ص: 38


1- . تفسير العياشي 3:42/2483، الكافي 2:126/1، تفسير الصافي 3:185.
2- . تفسير العياشي 3:42/2482، الكافي 2:261/7، تفسير الصافي 3:185.
3- . تفسير الرازي 20:189.
4- . تفسير الرازي 20:189.
5- . تفسير العياشي 3:42/2483، الكافي 2:126/1، تفسير الصافي 3:185.
6- . مجمع البيان 6:631، جوامع الجامع:254، و فيهما: لا تمتنع من شيء أراداه منك.

وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً و كلاما حسنا جميلا.

سئل [سعيد]بن المسيب عن القول الكريم فقال: «هو قول العبد المذنب للسيد الفظّ» .

و عن عطاء: هو أن تتكلّم معهما، و لا ترفع عليهما صوتك، و لا تشدّ إليهما نظرك (1).

ثمّ بعد الأمر بتكريمهما قولا، أمر سبحانه بالتواضع لهما في الفعل بقوله: وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ و أظهر لهما غاية التواضع مِنَ فرط اَلرَّحْمَةِ عليهما، و الرأفة بهما، لافتقارهما إليك بعد ما كنت أفقر الخلق إليهما.

عن ابن عبّاس: كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل الضعيف للسيد الفظّ الغليظ (2).

قيل: ينظر إليهما بنظر المحبّة [و الشّفقة]و الترحّم (3).

و في الحديث: «ما من ولد ينظر إلى الوالد و إلى والدته نظر رحمة إلاّ كان له بها حجّة و عمرة» . قيل: و إن نظر في اليوم ألف مرّة؟ قال: «نعم، و إن نظر في اليوم مائة ألف» (4).

عن الصادق عليه السّلام: «لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة و رقّة، و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما، و لا يديك فوق أيديهما، و لا تقدّم قدّامهما» (5).

و عنه عليه السّلام: «من العقوق أن ينظر الرجل [إلى]والديه، فيحدّ النظر إليهما» (6).

و عن الكاظم عليه السّلام: «سأل رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما حقّ الوالد على ولده؟ قال: لا يسمّيه باسمه، و لا يمشي بين يديه، و لا يجلس قبله، و لا يستسبّ له» (7).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «رغم أنفه» ثلاث مرات، قالوا: من يا رسول اللّه؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر-أحدهما أو كلاهما-و لم يدخل الجنّة» (8).

ثمّ أضاف سبحانه إلى ما ذكر الأمر بالدعاء لهما بقوله: وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما و اشمل رحمتك الواسعة لهما في الدنيا و الآخرة كَما رحماني و رَبَّيانِي حين كنت صَغِيراً.

روي أنّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن أبويّ بلغا من الكبر أنّي ألي منهما ما وليا مّني في الصغر، فهل قضيت حقّهما؟ قال: «لا، فانّهما كانا يفعلان ذلك و هما يحبّان بقاءك، و أنت تفعل ذلك و أنت

ص: 39


1- . تفسير الرازي 20:190.
2- . تفسير روح البيان 5:147.
3- . تفسير روح البيان 5:148.
4- . تفسير روح البيان 5:148.
5- . تفسير العياشي 3:43/2483، الكافي 2:126/1، تفسير الصافي 3:185.
6- . الكافي 2:261/7، تفسير الصافي 3:185.
7- . الكافي 2:127/5، تفسير الصافي 3:185، و استسبّ له: عرّضه للسبّ، يقال: استسبّ لأبيه: إذا سبّ أبا غيره فجلب بذلك السبّ إلى أبيه.
8- . جوامع الجامع:254، تفسير الصافي 3:185.

تريد موتهما» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 25 الی 26

ثمّ أنّه تعالى بعد الامر بإخلاص العبادة و عدم التضجّر من الوالدين، حذّر الناس من المخالفة بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ منكم بِما فِي نُفُوسِكُمْ و ضمائركم من الاخلاص في العبادة و عدمه، و التضجّر من الوالدين و عدمه.

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوّابِينَ غَفُوراً (25) وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)ثمّ رغّبهم في تزكية أنفسهم بقوله: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ و منزّهين عن رذائل الأخلاق و سيئات الأعمال، تكونوا من الأوابين و الراجعين إلى اللّه في ما فرط منكم من خطور غير اللّه في قلوبكم، أو صدور أذيّة قولية أو عملية منكم، و التائبين إليه من زلاتكم، و اعلموا أنّ اللّه يغفر لكم فَإِنَّهُ تعالى كانَ لِلْأَوّابِينَ و التائبين-كما عن الصادق عليه السّلام (2)- غَفُوراً لا يؤاخذهم بما صدر منهم من الهفوات و الزلاّت التي لا يخلو منها البشر،

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من حقوق الوالدين، بيّن حقّ الأرحام و غيرهم من الناس بقوله: وَ آتِ يا محمّد ذَا اَلْقُرْبى و صاحب الرّحم حَقَّهُ المقرّر من اللّه. قيل: هو النفقة إذا كانوا فقراء (3). و قيل: هو المودّة و الزيارة و حسن العشرة و المساعدة في حوائجهم (4).

وَ آت اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ حقّهم. عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أنزل اللّه وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، [قد]عرفت المسكين، فمن ذو القربى؟ قال: هم أقاربك، فدعا حسنا و حسينا و فاطمة، فقال: إنّ ربّي أمرني أن أعطيكم مّما أفاء عليّ. قال: أعطيتكم فدك» (5).

و عن السجاد عليه السّلام: أنّه قال لبعض الشاميين: «أما قرأت هذه الآية وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ؟» قال: نعم. قال: «فنحن اولئك الذين أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يعطيهم حقّهم» (6).

و عن الرضا عليه السّلام-في حديث له مع المأمون-: «و الآية الخامسة: وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ خصوصية خصّهم اللّه صلّى اللّه عليه و آله العزيز الجبار بها، و اصطفاهم على الامّة، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول

ص: 40


1- . تفسير روح البيان 5:148.
2- . تفسير العياشي 3:44/2486، تفسير الصافي 3:186.
3- . تفسير روح البيان 5:150.
4- . تفسير روح البيان 5:150.
5- . تفسير العياشي 3:45/2490، تفسير الصافي 3:187.
6- . الاحتجاج:307، تفسير الصافي 3:187.

اللّه قال: ادعوا لي فاطمة فدعيت له، فقال يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول اللّه. فقال: هذه فدك، و هي ممّا لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، و هي لي خاصّة دون المسلمين، فقد جعلتها لك لما أمرني اللّه به، فخذيها لك و لولدك» (1).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى لمّا فتح على نبيّة صلّى اللّه عليه و آله فدك و ما والاها لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، فأنزل اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه و آله وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ فلم يدر رسول اللّه من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، و راجع جبرئيل ربّه، فأوحى اللّه إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة، فدعاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال [لها:]يا فاطمة، إنّ اللّه أمرني أن أدفع إليك فدك. فقالت: قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه و منك» (2).

و قال العلاّمة في (نهج الحق) : روى الواقدي و غيره من نقلة الأخبار و ذكروه في أخبارهم الصحيحة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح خيبر اصطفى قرى من قرى اليهود، فنزل جبرئيل بهذه الآية وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ فقال محمّد صلّى اللّه عليه و آله: و من ذو القربى، و ما حقّه؟ قال: فاطمة، فدفع (3)إليها فدك و العوالي، فاستغلّتها حتى توفّي أبوها، فلمّا بويع أبو بكر منعها، فكلّمته في ردّها عليها، و قالت: إنّهما لي [و إنّ أبي دفعهما لي]فأبى عمر دفعهما إليها، فقال أبو بكر: لا أمنعك ما دفع إليك أبوك. فأراد أن يكتب [لها]كتابا، فاستوقفه عمر بن الخطاب، و قال: إنّها امرأة، فطالبها بالبيّة علىّ عليه السّلام ما ادّعت، فأمرها بها أبو بكر، فجاءت بامّ أيمن و أسماء بنت عميس مع علي، فشهدوا بذلك، فكتب لها أبو بكر فبلغ ذلك عمر، فأخذ الصحيفة (4)فمحاها، فحلفت أن لا تكلمهما، و ماتت ساخطة عليهما» (5). انتهى.

و نسب السيد الأجلّ القاضي نور اللّه هذه الرواية إلى ابن مردويه (6)و صدر الأئمّة أيضا.

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث- «ثمّ قال جلّ ذكره: وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ و كان عليّ عليه السّلام، و كان حقّه الوصية التي جعلت له و الاسم الأكبر و ميراث العلم و آثار (7)النبوة» (8).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر ببذل المال للأقارب، نهى عن التبذير و إفساد المال و صرفه في المصارف السفهية بقوله: وَ لا تُبَذِّرْ و لا تفسد المال بصرفه فيما لا ينبغي تَبْذِيراً يسيرا، فكيف بالكثير.

روي عن ابن عمر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لسعد و هو يتوضأ: «ما هذا أتسرف يا سعد؟» فقال: أو في الوضوء سرف؟ قال: «نعم، و إن كنت على نهر جار» (9).

ص: 41


1- . أمالي الصدوق:619/843، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:233/1، تفسير الصافي 3:186.
2- . الكافي 1:456/5، تفسير الصافي 3:186.
3- . في المصدر: تدفع.
4- . زاد في المصدر: و مزقها.
5- . نهج الحق:357.
6- . إحقاق الحق 3:549.
7- . زاد في الكافي و تفسير الصافي: علم.
8- . الكافي 1:233/3، تفسير الصافي 3:187.
9- . تفسير الرازي 20:193.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال لرجل: «اتق اللّه و لا تسرف و لا تقتّر، و كن بين ذلك قواما، إنّ التبذير من الأسراف، قال [اللّه]: وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» (1).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «من أنفق شيئا في غير طاعة اللّه فهو مبذّر، و من أنفق في سبيل اللّه فهو مقتصد» (2).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل أفيكون تبذير في حلال؟ قال: «نعم» (3).

و عنه عليه السّلام: أنّه دعا برطب فأقبل بعضهم يرمي بالنّوى، فقال: «لا تفعل، إن هذا من التبذير، و إن اللّه لا يحبّ الفساد» (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ ذمّ سبحانه المبذّرين بقوله: إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ و الموافقين له في الصفة و العمل، أو أعوانهم في إهلاك أنفسهم تابعين لهم في كفران النعمة وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغا في صرف نعم اللّه من عقله و حياته و قواه في المعصية.

إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)و عن مجاهد: أنّه رفع رأسه إلى أبي قبيس و قال: لو أنّ رجلا أنفق مثل هذا في طاعة اللّه لم يكن من المسرفين، و لو أنفق درهما واحدا في معصية اللّه كان من المسرفين (5).

ثمّ أمر سبحانه بمواجهة الأقارب و المساكين بالبشر و جميل القول إذا لم يتمكّن الانسان من مساعدتهم بالمال بقوله: وَ إِمّا تُعْرِضَنَّ و صرفت وجهك عَنْهُمُ حياء من التصريح بردّهم بسبب كونك صفر اليد عديم المال اِبْتِغاءَ رَحْمَةٍ و طلب السعة مِنْ رَبِّكَ إذا كنت تَرْجُوها منه تعالى فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً و كلاما لينا جميلا، كأن تعدهم بوعد يودع قلوبهم راحة و سرورا.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا سئل شيئا و ليس عنده سكت حياء، و أمر بالقول الجميل لئلا يعتريهم الوحشة بسكوته (6).

و قيل: القول الميسور الدعاء لهم باليسر (7).

ص: 42


1- . تفسير العياشي 3:47/2499، الكافي 3:501/14، تفسير الصافي 3:188.
2- . تفسير العياشي 3:46/2497، تفسير الصافي 3:188.
3- . تفسير العياشي 3:46/2498، تفسير الصافي 3:188.
4- . تفسير العياشي 3:47/2502، تفسير الصافي 3:188.
5- . تفسير الرازي 20:193.
6- . تفسير أبي السعود 5:168، تفسير روح البيان 5:151.
7- . تفسير البيضاوي 1:569، تفسير أبي السعود 5:168، تفسير روح البيان 5:151.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان لمّا نزلت [هذه]الآية إذا سئل و لم يكن عنده ما يعطي قال: «يرزقنا اللّه و إياكم من فضله» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 29

ثمّ علّمه اللّه تعالى أدب الانفاق بقوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ منقبضة و ممسكة عن الانفاق، كأنّها تكون مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ لا تقدر على مدّها و إعطاء شيء بها وَ لا تَبْسُطْها و لا توسعها كُلَّ اَلْبَسْطِ و كمال السعة بحيث لا يستقرّ فيها شيء فَتَقْعُدَ و تمكث بين أهلك و معارفك مَلُوماً يلومونك (2)بسوء التدبير و إضاعة المال و إلقاء الأهل و الأولاد في المحنة و المشقّة و مَحْسُوراً و منقطعا عن الحيل و التدابير في تنظيم أمورك و أمور عيالك.

وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يسألة احد من الدنيا شيئا إلا أعطاه، فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت: انطلق إليه فاسأله فان قال [لك:]ليس عندنا شيء، فقل: أعطني قميصك. قال: فأخذ قميصه و أعطاه، فأدّبه اللّه على القصد» (3).

و القمي، قال: كان سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يردّ أحدا يسأله شيئا عنده، فجاءه رجل فسأله فلم يحضره شيء، فقال: «يكون إن شاء اللّه» . فقال: يا رسول اللّه، أعطني قميصك، فأعطاه قميصه، فأنزل اللّه: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ نهاه اللّه أن يبخل أو يسرف و يقعد محسورا من الثياب. فقال الصادق عليه السّلام: «المحسور: العريان» (4).

و عنه عليه السّلام-في حديث- «علّم اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله كيف ينفق، و ذلك أنّه كان عنده اوقية من ذهب، فكره أن تبيت عنده فتصدّق بها، فأصبح و ليس عنده شيء، و جاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل، و اغتمّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه، و كان رحيما رفيقا (5)، فأدّب اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأمره فقال: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ الآية. يقول: [إنّ النّاس]قد يسألونك و لا يعذرونك، فاذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال» (6).

و عنه عليه السّلام: «الإحسار: الفاقة» (7).

ص: 43


1- . مجمع البيان 6:634، تفسير الصافي 3:188.
2- . في النسخة: يلامونك.
3- . تفسير العياشي 3:48/2503، الكافي 4:55/7، تفسير الصافي 3:189.
4- . تفسير القمي 2:18، تفسير الصافي 3:189.
5- . في الكافي و تفسير الصافي: رقيقا.
6- . الكافي 5:67/1، تفسير الصافي 3:189.
7- . الكافي 4:55/6، تفسير الصافي 3:189.

و عنه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية: الإحسار، الإقتار» (1).

و عنه عليه السّلام، في قوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قال: ضمّ يده فقال: «هكذا» وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ، قال: و بسط راحته و قال: «هكذا» (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 30

ثمّ بيّن سبحانه أن مقتضى ربوبيته رعاية صلاح العباد في توسعة المعاش و تضييقه تسكينا لقلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ توسعة رزقه وَ يَقْدِرُ و يضيق على من يشاء التضييق عليه على حسب اختلاف مصالح الأشخاص و نظام العالم إِنَّهُ تعالى كانَ بِعِبادِهِ و مصالحهم خَبِيراً بَصِيراً فالتفاوت بينهم في الغنى و الفقر إنّما هو لاختلافهم في الأحوال و المصلحة، و اللّه العالم بها، فلا تغتمّ لفقر أحد.

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)في الحديث القدسي: «أنّ من عبادي من لا يصلحه إلاّ الفقر، و لو أغنيته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلاّ الغنى، و لو أفقرته لأفسده ذلك» و قال: «و إنّي لأعلم بمصالح عبادي» (3).

و في (نهج البلاغة) : «و قدّر الأرزاق، فكثّرها و قلّلها، و قسّمها على الضيق و السّعة، فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها و معسورها، و ليختبر بذلك الشّكر و الصبر من غنيّها و فقيرها» (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 31

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الرزق و التوسعة و التضييق فيه بتقدير اللّه، و كان العرب على ما قيل يقتلون أولادهم خوفا من الفقر (5)، نهاهم عن ذلك بقوله: وَ لا تَقْتُلُوا أيّها العرب أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ و لمخافة الفقر، فانّ رزقهم ليس عليكم حتى تخافوا منه، بل نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّاكُمْ لا غيرنا إِنَّ قَتْلَهُمْ لأيّ داع كانَ خِطْأً كَبِيراً و ذنبا عظيما.

وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)قيل: إنّ هرم بن حيّان قال لأويس: أين تأمرني أن أكون؟ فأومأ إلى الشام، فقال هرم كيف المعيشة

ص: 44


1- . تفسير العياشي 3:48/2505، تفسير الصافي 3:189.
2- . تفسير العياشي 3:48/2504، التهذيب 7:236/1031، تفسير الصافي 3:189.
3- . الكافي 2:263/8 «نحوه» ، تفسير الصافي 3:189.
4- . نهج البلاغة:134/91، تفسير الصافي 3:190.
5- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:190، تفسير روح البيان 5:153.

بها؟ فقال أويس: افّ لهذه القلوب التي قد خالطها الشكّ فما تنفعها العظة (1).

قيل: إنّ العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن التكسّب، و لأنّ فقرها ينفّر أكفاءها عن تزويجها، فيحتاجون إلى تزويجها بغير أكفائها، و هو عار شديد (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 32

ثمّ لمّا وصف سبحانه قتل الأولاد بالذنب الكبير، أردفه بذكر بعض الكبائر التي منها الزنا بقوله: وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى و لا ترتكبوه أبدا إِنَّهُ كانَ فعله فاحِشَةً شديدة القباحة وَ ساءَ سَبِيلاً سبيله، و بئس طريقا طريقه، فانّه موجب لاختلال الأنساب و هيجان الفتن و شيوع الفساد.

وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32)و عن الباقر عليه السّلام-في حديث-قال: «وَ ساءَ سَبِيلاً و هو أشدّ الناس عذابا، و الزنا من أكبر الكبائر» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، عن جدّه، عن علي عليهم السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في وصيته له: «يا علي، في الزنا ست خصال؛ ثلاث منها في الدنيا، و ثلاث في الآخرة، فأمّا التي في الدنيا: فيذهب بالبهاء، و يعجّل الفناء، و يقطع الرزق. و أمّا التي في الآخرة: فسوء الحساب، و سخط الرحمن، و الخلود في النّار» (4).

و روى بعض العامة عن بعض الصحابة: «إياكم و الزنا، فانّ فيه ستّ خصال؛ ثلاث في الدنيا، و ثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فنقصان الرزق، و نقصان العمر، و البغض في قلوب الناس. و أما الثلاث التي في الآخرة: فغضب الربّ، و شدّة الحساب، و الدخول في النّار» (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 33

ثمّ ذكر سبحانه قتل النفس المحترمة التي هي أكبر الكبائر العملية بقوله: وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ قتلها بوجه من الوجوه إِلاّ بِالْحَقِّ المقرّر في الشرع المطهّر من القصاص و الحدّ و الدفاع.

وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)

ص: 45


1- . تفسير روح البيان 5:154.
2- . تفسير الرازي 20:196-197.
3- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:190.
4- . الخصال:321/3، من لا يحضره الفقيه 4:266/824، تفسير الصافي 3:190.
5- . تفسير أبي السعود 5:170، تفسير روح البيان 5:154.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إني امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فاذا قالوا عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها، و حسابهم على اللّه» (1).

قيل: و ما حقّها، يا رسول اللّه؟ قال: «زنا بعد إحصان، و كفر بعد إيمان، و قتل نفس فيقتل بها» (2).

ثمّ ذكر حكم القصاص بقوله: وَ مَنْ قُتِلَ من المؤمنين حال كونه مَظْلُوماً و محترما دمه بأن لم يصدر منه ما يجوّز قتله فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ و وارث دمه من ورّاث ماله إن كانوا، و من الإمام الذي هو وارث من لا وارث له سُلْطاناً و استيلاء على القاتل إن شاء قتله، و إن شاء أخذ الدّية، فان اختار القتل فَلا يُسْرِفْ و لا يتجاوز الحدّ المقرّر فِي اَلْقَتْلِ بأن يقتل غير القاتل مع القاتل، أو يمثّل بالمقتصّ منه، أو يقتل عوض القاتل أشراف قومه، و ليس لأحد مزاحمة القاتل في استيفاء حقّه إِنَّهُ في شرع الاسلام كانَ مَنْصُوراً من قبل اللّه.

القمي: يعني ينصر ولد المقتول على القاتل (3).

عن الكاظم عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، و قيل له: فما هذا الاسراف الذي نهى اللّه [عنه؟]قال: «نهى أن يقتل غير قاتله، أو يمثّل بالقاتل» .

قيل: فما معنى قوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً؟ قال: «و أيّ نصرة أعظم من أن يدفع القاتل [إلى]أولياء المقتول فيقتله، و لا تبعة تلزمه من قتله في دين أو دنيا» (4).

عن العياشي [عن أبي عبد اللّه عليه السّلام]: «إذا اجتمع العدّة على قتل رجل واحد، حكم الوالي أن يقتل أيّهم شاءوا، و ليس لهم أن يقتلوا أكثر من واحد، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً إلى قوله: فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في الحسين عليه السّلام، لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفا» (6).

و قيل: إنّ الاسراف في القتل ترجيحه على أخذ الدّية، و المراد بالنهي النهي عن اختيار القتل (7)، و إنّما قدّم النهي عن الزنا على النهي عن القتل، مع أنّ القتل أكبر الكبائر العملية؛ لأنّ الجماع مقدّمة وجود الانسان، و القتل إعدامه بعد الوجود، و بيان حكم مقدمة وجود الانسان مقدّم بالطبع على حكم مترتّب

ص: 46


1- . سنن الترمذي 5:439/3341، مسند أحمد 4:8.
2- . تفسير الرازي 20:200، تفسير روح البيان 5:155.
3- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:191.
4- . الكافي 7:370/7، تفسير الصافي 3:191، و فيهما: و لا دنيا.
5- . تفسير العياشي 3:49/2510، الكافي 7:284/9، تفسير الصافي 3:191.
6- . الكافي 8:255/364، تفسير الصافي 3:191.
7- . تفسير الرازي 20:202.

على وجوده، كذا قيل (1).

ثمّ أعلم أنّ بالتفسير الذي ذكرنا للمظلوم، يندفع الاعتراض على الآية بأنّها تدل على أن موجب جواز القتل منحصر في كون المقتول مظلوما، مع أنّ سببه غير منحصر فيه، بل له أسباب كثيرة كالكفر بعد الايمان و كثير من المعاصي التي حدّها (2)القتل.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 34

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن إتلاف النفوس نهى عن إتلاف مال اليتامى الذين هم أضعف الضعفاء بقوله: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ و لا تتصرّفوا فيه بطريقة من الطرق و خصلة من الخصال إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الطّرق و الخصال، و هو التصرّف الذي لا يكون فيه إفساد و الذي تكون فيه الغبطة، و كونوا مستمرّين على ذلك حَتّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ و كمال قواه و عقله و رشده.

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)ثمّ أكّد العمل بالأحكام المذكورة التي هي عهود اللّه بقوله: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ الذي بينكم و بين ربّكم من العمل بأحكامه و النّذر و اليمين، أو بينكم و بين الناس كالبيوع و غيرها من المعاملات.

ثمّ هدّد سبحانه على مخالفته بقوله: إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ يوم القيامة عنه مَسْؤُلاً حين المحاسبة قيل: إنّه بتقدير المضاف، و المعنى أنّ صاحب العهد (3).

و قيل: المسؤول بمعنى المطلوب، و المراد أنّه يطلب من المعاهد أن يفي به (4). و قيل: إنّه فرض العهد شخصا عاقلا يسأل عنه، و يقال له: لم يوف بك، تبكيتا للناكث (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 35 الی 36

ثمّ بعد إيجاب الوفاء بالعهد، أوجب سبحانه إيفاء الحقوق بقوله: وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ و أتمّوه إِذا كِلْتُمْ لمستحقّه و لا تخسروه حين عاملتم بالكيل وَ زِنُوا ما عاملتموه بالوزن بِالْقِسْطاسِ و الميزان اَلْمُسْتَقِيمِ و العدل السويّ.

وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)

ص: 47


1- . تفسير الرازي 20:199.
2- . في النسخة: حدّه. (3 و 4) . تفسير الرازي 20:206.
3- . تفسير الرازي 20:206.

عن الباقر عليه السّلام: «هو الميزان الذي له لسان» (1). ذلِكَ الايفاء بالكيل و الوزن خَيْرٌ لكم في الدنيا؛ لأنّه موجب لرغبة الناس في معاملتكم، و لذكركم بالجميل في الناس وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً و عاقبة في الآخرة.

ثمّ لمّا نهى سبحانه عن قتل النفوس و إتلاف أموال اليتيم، و أمر بتأدية حقوق الناس، نهى عن إتلاف نفوسهم و أموالهم و أعراضهم بالقول بقوله: وَ لا تَقْفُ و لا تقل، كما عن القمي (2)ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عن محمد ابن الحنفية: يعني شهادة الزور (3). و عن ابن عباس: يعني لا تشهد إلاّ بما رأته عيناك و سمعته اذناك، و وعاه قلبك (4).

و قيل: إن المراد [منه: النهي عن]القذف و رمي المحصنين و المحصنات بالأكاذيب (5).

و قيل: المراد النهي عن الكذب. و قيل: إنّ المراد النهي عن البهتان (6).

و عن القمي: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم، قال رسول اللّه: «من بهت مؤمنا أو مؤمنة أقيم في طينة خبال، أو يخرج ممّا قال» (7). قيل: إنّ طينة خبال صديد جهنّم.

و قيل: إنّ المراد مطلق القول بما لا علم به، سواء أكان على اللّه، أو على الناس. و قيل: إنّ المعنى لا تتبع ما لا تعلم.

و استدلّ جماعة بهذه الآية بناء على حرمة العمل بالظنّ و الخبر غير العلمي في الأحكام الشرعية، و فيه أنّه صحيح لو لم يكن على حجيتهما دليل قطعي، و إلاّ كان العمل بهما عملا بالعلم، أو كان عموم النهي مخصصا به.

ثمّ هدّد اللّه على القول أو العمل بغير العلم بقوله: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ واحد من أُولئِكَ الأعضاء التي رئيسها الفؤاد كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً في القيامة، فيشهد بأعمالكم و معاصيكم، فلا تستطيعون ردّها، فانّ جميع الأعضاء في الآخرة حيّة بحياة مستقلة شاعرة ناطقة، كما قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (8).

عن الصادق عليه السّلام: في هذه الآية: «يسأل السمع عمّا سمع، و البصر عمّا نظر إليه، و الفؤاد عمّا عقد عليه» (9).

و عنه عليه السّلام، قال له رجل: إنّ لي جيرانا و لهم جوار يتغنّين و يضربن بالعود، فربما دخلت المخرج

ص: 48


1- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:192.
2- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:192.
3- . تفسير الرازي 20:207.
4- . تفسير الرازي 20:207.
5- . تفسير الرازي 20:207.
6- . تفسير الرازي 20:208.
7- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:192.
8- . النور:24/24.
9- . تفسير العياشي 3:75/2519، الكافي 2:31/2، تفسير الصافي 3:192.

فاطيل الجلوس استماعا منّي لهن؟ قال عليه السّلام: «لا تفعل» .

فقال: و اللّه ما هو شيء آتيه برجلي، إنما هو سماع أسمعه باذني؟ فقال عليه السّلام: «تاللّه كذبت (1)، أما سمعت اللّه يقول: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً» (2)الخبر.

و عن السجاد عليه السّلام: «ليس لك أن تتكلّم بما شئت؛ لأنّ اللّه يقول: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: رحم اللّه عبدا قال خيرا فغنم، أو صمت فسلم، و ليس لك أن تسمع ما شئت؛ لأنّ اللّه يقول: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً» (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 37 الی 38

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الكبائر الموبقة، و الأمر بالوفاء بالعهد و إيفاء الحقوق، و كلّها من وظائف اليد و اللسان و القلب، و بيان مسؤولية الأعضاء و الجوارح، نهى عن مشي الخيلاء (4)و التكبّر الذي هو وظيفة الرّجلين بقوله: وَ لا تَمْشِ أيّها الانسان فِي وجه اَلْأَرْضِ مَرَحاً و تكبّرا، أو فخرا، أو بطرا، أو فرحا، كما عن القمي رحمه اللّه (5).

وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)ثمّ نبّه سبحانه على عدم لياقته للتعظّم و التكبّر بقوله: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ و لن تنقب حال انخفاضك في المشي اَلْأَرْضِ بقوة قدميك و شدّة وطئك وَ لَنْ تَبْلُغَ حال ارتفاعك اَلْجِبالَ و لن تصل إلى رؤوسها طُولاً و بتطاولك، فمع هذا العجز يكون التكبّر عين الحماقة، إذ التكبّر إنّما يكون بكثرة القوة و عظم الجثّة، و كلاهما مفقودان فيك.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لمحمّد بن الحنفية: «و فرض على الرّجلين أن تنقلهما في طاعته، و أن لا تمشي بهما مشية عاص، فقال عزّ و جلّ: وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً (6)» .

ثمّ بيّن سبحانه علّة النهي عن الخصال الاثني عشر بقوله: كُلُّ ذلِكَ المذكور في تضاعيف الآيات المشتملة على الأوامر و النواهي من الخصال الخمس و العشرين كانَ سَيِّئُهُ و قبيحه، و هو الذي نهى عنه، و هي اثنتا عشرة خصلة عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً و مبغوضا.

ص: 49


1- . في الكافي و العياشي: للّه أنت، و في من لا يحضره الفقيه و التهذيب: ياللّه أنت. و في الصافي: تاللّه أنت.
2- . تفسير العياشي 3:52/2520، من لا يحضره الفقيه 1:45/177، التهذيب 1:116/304، الكافي 6:432/10، تفسير الصافي 3:192.
3- . علل الشرائع:606/80، تفسير الصافي 3:192.
4- . في النسخة: المشي عن الخيلاء.
5- . تفسير القمي 2:20، تفسير الصافي 3:193.
6- . من لا يحضره الفقيه 2:383/1627، تفسير الصافي 3:193.

قيل: إنّما وصف المنهيات بمطلق الكراهة مع كون جميعها أو جلّها من أكبر الكبائر، إيذانا بكفاية مجرّد كراهة اللّه تعالى لشيء في وجوب الالتزام بتركه (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 39

ثمّ حثّ سبحانه في العمل بالتكاليف المفصّلة بقوله: ذلِكَ المذكور من التكاليف مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ و ما يستقلّ بحسنه و صلاحة العقل السليم، أو من الأحكام المحكمة التي لا تقبل النّسخ، أو من الأحكام التي كانت في ألواح موسى، كما عن بن عباس (2).

ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)و لمّا كانت دليلا على الوحدانية، ختم سبحانه الأحكام بما بدأها بقوله: وَ لا تَجْعَلْ أيّها الانسان مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ تنبيها على أنّ التوحيد أول المقاصد و آخرها، و أنّ عمدة الغرض منها تكميله.

ثمّ أنّه تعالى بعد التهديد أولا على الشّرك بالعذاب الدنيوي، هدّد عليه آخرا بالعذاب الاخروي بقوله: فَتُلْقى في الآخرة فِي جَهَنَّمَ حال كونك مَلُوماً عند نفسك و غيرك على ما كنت عليه من الشّرك مَدْحُوراً و مطرودا من رحمة اللّه.

عن القمي: المخاطبة للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى للناس (3).

عن الباقر عليه السّلام-في حديث- «ثم بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكة عشر سنين، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه إلا أدخله اللّه الجنة بإقراره، و هو إيمان التصديق، و لم يعذّب اللّه أحدا ممن مات و هو متّبع لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله على ذلك إلاّ من أشرك بالرحمن، و تصديق ذلك أنّ اللّه عز و جل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل آية (4)وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إلى قوله: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (5)أدب و عظة و تعلّم و نهي خفيف، و لم يعد عليه، و لم يتواعد على اجتراح شيء ممّا نهى عنه، و أنزل نهيا عن أشياء حذّر عليها و لم يغلظ فيها، و لم يتواعد عليها، و قال: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ و تلا الآيات إلى قوله: مَلُوماً مَدْحُوراً (6).

ص: 50


1- . تفسير أبي السعود 5:172، تفسير روح البيان 5:159.
2- . تفسير الرازي 20:214، تفسير أبي السعود 5:173، تفسير الصافي 3:193.
3- . تفسير القمي 2:20، تفسير الصافي 3:193.
4- . في الكافي و تفسير الصافي: بمكة.
5- . الإسراء:17/23-30.
6- . الكافي 2:25/1، تفسير الصافي 3:194، و الآيات من سورة الإسراء:17/31-39.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الاشراك، ذمّ المشركين القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه على هذا القول الفضيع، و أنكر عليهم بقوله: أَ فَأَصْفاكُمْ و خصّكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ و فضّلكم على نفسه بأفضل الأولاد في اعتقادكم وَ اِتَّخَذَ لنفسه مِنَ اَلْمَلائِكَةِ أولادا إِناثاً و بنات مع اعتقادكم بأنهنّ أخسّ الأولاد، و هذا ممّا تنكره العقول، فانّ الموالي لا يختارون لأنفسهم الأردأ و يعطون الأجود الأصفى للعبيد إِنَّكُمْ أيّها الجهّال الحمقاء، و اللّه لَتَقُولُونَ بقولكم: إنّ اللّه اتّخذ لنفسه ولدا، و هو إناث قَوْلاً عَظِيماً و كلاما شنيعا في الغاية، بحيث لا يقول به من له أدنى مسكة، لبداهة أن الولادة من خصائص الجسم، و اللّه تعالى مجسّم الأجسام و خالق الوالد و الولد، و لا يعقل أن يكون جسما، و من لوازم الحاجة، و هو تعالى غني بالذات. و على فرض المحال لا يمكن أن يختار لنفسه أخسّ الأولاد، و هو موجد لهم، فيالها من ضلالة، و ما أقبحها!

أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاّ نُفُوراً (41)

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا و بيّنا أو كررنا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ الحجج و الحكم و العبر لِيَذَّكَّرُوا و ليتنبّهوا و يتدبّروا وَ ما يَزِيدُهُمْ هذا القرآن و تصريف البراهين و المواعظ التي منه إِلاّ نُفُوراً و اشمئزازا منه و من الحقّ.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 42 الی 43

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الشرك، استدلّ على بطلانه بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين لَوْ كانَ مَعَهُ تعالى آلِهَةٌ اخرى من الأصنام و الكواكب و غيرها كَما هم يَقُولُونَ: إنّ للّه شركاء في الالوهية إِذاً البتة لاَبْتَغَوْا و لطلبوا إِلى معارضة ذِي اَلْعَرْشِ و خالق الموجودات و الغلبة عليه في الالوهية و الايجاد و التدبير في العالم سَبِيلاً و وسيلة، كما هو دأب الملوك بعضهم مع بعض، و لو طلبوا لفسد نظام العالم. و قيل: يعني لطلبوا لأنفسهم إلى التقرّب إليه تعالى سبيلا بتحصيل الكمالات الفائقة و المراتب العالية، حتى يمكنهم أن يقرّبوكم إليه و يشفعوكم لديه (1).

قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)

ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الشرك بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى و تنزّه و ارتفع بذاته عَمّا يَقُولُونَ من وجود الشريك و الولد له عُلُوًّا كَبِيراً و ارتفاعا عظيما لا غاية له، لأنّ المنافاة بين وجوب الوجود

ص: 51


1- . تفسير الرازي 20:217.

لذاته و القديم و الحادث و الباقي و الفاني و الغني المطلق و المحتاج المطلق بحدّ لا تعقل الزيادة عليه.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 44

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ تسبيحه لا ينحصر بذاته المقدسة بل تُسَبِّحُ لَهُ ما في اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ من الملائكة و الأرواح المقدّسة، و تنزّهه عن جميع النقائص الامكانية و الضدّ و الندّ و الولد، ثمّ عمّم تسبيحه لجميع الموجودات بقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ من الأشياء، و ما من موجود من الموجودات إِلاّ و هو يُسَبِّحُ ربّه ملابسا بِحَمْدِهِ على نعمه وَ لكِنْ أنتم لا تَفْقَهُونَ و لا تفهمون تَسْبِيحَهُمْ لقصور فهمكم و احتجاب أسماعكم و عدم التدبّر في آيات حدوثهم و إمكانهم.

تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)عن الصادق عليه السّلام: «تنقّض الجدر تسبيحها» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: سئل هل تسبّح الشجرة اليابسة؟ فقال: «نعم، أما سمعت خشب البيت كيف ينقض، و ذلك تسبيحه للّه، فسبحان اللّه على كلّ حال» (2).

أقول: ظاهر الروايتين أنّ طروّ النقص على الموجودات، و ظهور التغيير فيها، دالّ على تنزّه خالقها من النقص و التغيير، و كون جميعها تحت قدرة موجدها و تدبيره و إرادته، و لمّا لم يتدبّر المشركون في تلك الآيات لغفلتهم و جهلهم و انهماكهم في الشهوات، صاروا مستحقّين للعذاب، و لكن لا يعاجلهم اللّه به إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غير عجول في تعذيب العصاة غير الأهلين للغفران غَفُوراً لذنوب الأهلين له.

و قيل: إن التسبيح في الآية على معناه الحقيقي، و هو قول: سبحان اللّه، كما عن ابن مسعود، قال: لقد كنّا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل (3).

و عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: إِنّا سَخَّرْنَا اَلْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْراقِ (4)كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح (5).

و عن مجاهد: كلّ الأشياء تسبح اللّه، حيّا كان أو جمادا، و تسبيحها: سبحان اللّه و بحمده (6).

ص: 52


1- . تفسير العياشي 3:54/2523، الكافي 6:531/4، تفسير الصافي 3:195.
2- . تفسير العياشي 3:54/2528، تفسير الصافي 3:195.
3- . تفسير روح البيان 5:163.
4- . سورة ص:38/18.
5- . تفسير روح البيان 5:163.
6- . تفسير روح البيان 5:163.

و روي أنّ الحصاة سبّحت في كفّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1). و في الحديث: «ما من طير يصاد إلاّ بتضييعه التسبيح» (2).

أقول: الحقّ أنّ جميع الموجودات لها تسبيح تكويني و تسبيح اختياري، و إنّما يسمعه من له اذن سامعة كالنبيّ و الكمّلين من المؤمنين.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «إنّي لأعرف حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن ابعث» (3).

و يمكن أن يكون المراد من الآية المباركة كلا التسبيحين بإرادة القدر المشترك، أو عموم المجاز.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ لمّا بيّن سبحانه آيات توحيده و كمال ذاته، و ذمّ المشركين بعدم فهمهم و تفقّههم لها، ذمّهم بإعراضهم عن القرآن المبين لمعارفه و للبراهين الدالة على توحيدة، و تنزّهه عما لا يليق بوجوب وجوده و كمال ذاته، و عدم فهمهم و تفقّههم ما فيه، و معاداتهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذا قَرَأْتَ يا محمّد اَلْقُرْآنَ الحاوي للحكم و المعارف جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ المشركين اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و البعث بعد الموت حِجاباً و سترا يسترك عنهم حتّى لا يؤذونك، و كان ذلك الحجاب أيضا مَسْتُوراً عن أعينهم، أو المراد حجابا ذا ستر يسترك عنهم وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً و أغطية كراهة أَنْ يفهموا القرآن و يَفْقَهُوهُ حقّ فهمه و فقهه، و يعرفوا جهات إعجازه و دلائل صدقه وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً و ثقلا عن سماعة اللائق به، قيل: إنّ الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا قرأ القرآن على الناس (4).

وَ إِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان كلّما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان، و عن يساره آخران من ولد قصيّ، يصفّقون و يصفرون و يخلّطون عليه بالأشعار (5).

و عن أسماء: أنه صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا و معه أبو بكر، إذ أقبلت امرأة أبي لهب و معها فهر (6)تريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي تقول:

مذمّما أتينا *** و دينه قلينا

ص: 53


1- . تفسير روح البيان 5:164.
2- . تفسير العياشي 3:54/2527، تفسير الصافي 3:195.
3- . تفسير روح البيان 5:163.
4- . تفسير الرازي 20:220.
5- . تفسير الرازي 20:220، تفسير أبي السعود 5:176.
6- . الفهر: الحجر.

و امره عصينا

فقال أبو بكر، يا رسول اللّه، معها فهر، أخشاها عليك: فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، هذه الآية، فجاءت فما رأت رسول اللّه، و قالت: إنّ قريشا [قد]علمت أنّي ابنة سيّدها، و أنّ صاحبك هجاني (1).

و روي أنّها نزلت في أبي سفيان و النضير (2)و أبي جهل و امّ جميل امرأة أبي لهب، كانوا يؤذون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا قرأ القرآن، فحجب اللّه أبصارهم إذا قرأ، و كانوا يمرّون به و لا يرونه (3).

و قيل: إنّ المشركين كانوا يطلبون موضع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الليالي، لينتهوا إليه و يؤذونه، و يستدلّون على موضعه باستماع قراءته، فآمنه اللّه من شرّهم، و ذكر له أنّه جعل بينه و بينهم حجابا لا يمكنهم الوصول إليه معه، و بيّن أنّه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن، و في آذانهم ما يمنع من سماع صوته. و يجوز أن يكون ذلك مرضا شاغلا يمنعهم عن المصير إليه (4).

و قيل: إنّ القوم لشدّة امتناعهم عن قبول دلائل نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، صاروا كأنّه حصل بينهم و بين تلك الدلائل حجاب و ساتر، و إنّما نسب [اللّه]سبحانه ذلك الحجاب إلى نفسه؛ لأنّه لمّا خلاّهم مع أنفسهم و ما منعهم عن ذلك الاعراض، صارت تلك التخلية كأنّها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة (5).

و قيل: إنّ المراد من القرآن هو الصلاة، تسمية للكلّ باسم جزئه (6).

روي أنّ المشركين كانوا يؤذون النبي عليه السّلام مصلّيا، و جاءت امّ جميل امرأة أبي لهب بحجر لترضخه فنزلت (7).

ثمّ ذمّهم اللّه بالنّفر عن ذكر اللّه وحده بقوله: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ بأن سمعوا منك آية فيها ذكر اللّه و ذمّ الشرك، أو لم تذكر مع اسم اللّه اسم آلهتهم وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ و هربوا و نفروا من استماعه نُفُوراً و اشمئزازا، و قيل: إنّ المراد أعرضوا عنك حال كونهم نافرين (4).

عن الصادق عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا دخل إلى منزله، و اجتمعت عليه قريش، يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم و يرفع بها صوته، فتولّي قريش فرارا، فأنزل اللّه في ذلك: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ الآية» (5).

و القمي، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا تهجّد بالقرآن تسمع له قريش لحسن صوته، فكان إذا قرأ

ص: 54


1- . تفسير الرازي 20:221، تفسير أبي السعود 5:175.
2- . كذا في المصدر أيضا، و لعلّه النّضر بن الحارث.
3- . تفسير روح البيان 5:167. (4 و 5) . تفسير الرازي 20:222. (6 و 7) . تفسير روح البيان 5:167.
4- . تفسير روح البيان 5:168.
5- . الكافي 8:266/387، تفسير الصافي 3:195.

(بسم اللّه الرحمن الرحيم) فروا عنه (1).

و عن العياشي، عنه عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا صلّى بالناس جهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، فتخلّف من خلفه من المنافقين عن الصفوف، فاذا جازها في السورة عادوا إلى مواضعهم، و قال بعضهم لبعض: إنّه ليرّدد اسم ربّه تردادا، إنّه ليحبّ ربّه، فأنزل اللّه وَ إِذا ذَكَرْتَ الآية» (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ هدّد اللّه المستهزئين بالقرآن بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ و بالوجه الذي يصغون بِهِ من الاستهزاء و التكذيب إِذْ يَسْتَمِعُونَ و حين يصغون إِلَيْكَ و أنت تتلو القرآن وَ إِذْ هُمْ نَجْوى و حين يسارّون في شأنك إِذْ يَقُولُ اَلظّالِمُونَ و المتجاوزون عن حدّ العقل في نجواهم و مسارّتهم: إنكم إن اتّبعتم محمّدا فيما يدعوكم إليه إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً و مجنونا أو مخدوعا خدعه الذين علّموه، أو خدعه الشيطان، فأوهمه أنّه ملك.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ اَلظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)

ثمّ أظهر التعجّب من مقالاتهم الواهية بقوله: اُنْظُرْ يا محمّد نظر التعجّب إلى هؤلاء الحمقاء كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ و قالوا فيك ما لا يجوز أن يقال من قولهم: هو شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو ساحر فَضَلُّوا عن منهاج الحقّ أو الحجاج فَلا يَسْتَطِيعُونَ أن يجدوا سَبِيلاً إليه، و لا يمكنهم الطعن فيك بما يقبله العقل.

نقل الفخر الرازي عن المفسّرين أنّه أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام أن يتّخذ طعاما و يدعو إليه أشراف قريش، ففعل و دخل عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قرأ عليهم القرآن، و دعاهم إلى التوحيد، و قال: «قولوا لا اله إلاّ اللّه حتى تطيعكم العرب، و تدين لكم العجم» ، فأبوا ذلك عليه، و كانوا عند استماعهم القرآن و الدعوة إلى اللّه يقولون بينهم متناجين: هو ساحر، أو هو مسحور، و ما أشبه ذلك، فنزلت الآية (3).

و عن ابن عبّاس: أنّ أبا سفيان و النّضر بن الحارث و أبا جهل و غيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى اللّه عليه و آله و يستمعون إلى حديثه، فقال النّضر يوما: ما أدري ما يقول محمّد، غير أنّي أرى شفتيه تتحرّك بشيء.

ص: 55


1- . تفسير القمي 2:20، تفسير الصافي 3:195.
2- . تفسير العياشي 3:55/2531، تفسير الصافي 3:196.
3- . تفسير الرازي 20:223.

و قال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقا. و قال أبو جهل: هو مجنون. و قال أبو لهب: هو كاهن. و قال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 49 الی 51

ثمّ لمّا وصف اللّه المشركين بأنّهم لا يؤمنون بالآخرة، حكى شبهتهم في المعاد بقوله: وَ قالُوا إنكارا للبعث، و تقريرا لكون النبي فاسد العقل: يا محمّد أَ إِذا متنا و كُنّا عِظاماً بالية وَ رُفاتاً و أجزاء متفتّته أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ من القبور حال كوننا مخلوقين خَلْقاً جَدِيداً و محيين بحياة ثانية مع تفّرق تراب أجسادنا في العالم و اختلاطه بغيره و عدم تميّزه؟ هيهات، لا يمكن ذلك أبدا، فردّهم اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: كُونُوا في المثل حِجارَةً صلبة أَوْ حَدِيداً الذي هو أصلب منها أَوْ خَلْقاً آخر مِمّا يَكْبُرُ و يعظم فِي صُدُورِكُمْ قبوله للحياة لغاية بعده عنها في نظركم، فانّكم تحيون و تبعثون لا محالة.

وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)قيل: إنّ المراد ممّا يكبر في صدورهم السماوات و الجبال (2). و قيل: إنّه الموت، و نسب إلى جمهور المفسرين، إذ ليس في النفس شيء أكبر من الموت (3).

و القمي عن الباقر عليه السّلام: «الخلق الذي يكبر في صدوركم الموت» (2). و المعنى لو كنتم عين الموت لأميتكم و احييكم لا محالة، لإمكانه و عدم القصور في القدرة، و اقتضاء الحكمة البالغة وجوبه، إذ لو لا البعث لكان الخلق الأول عبثا، و تعالى اللّه من العبث علوا كبيرا، فإذا أجبتهم عن شبهتهم تلك (3)فَسَيَقُولُونَ إنكارا و استبعادا: مَنْ يُعِيدُنا و يبعثنا مع كمال المباينة بين ترابنا و بين الإعادة و البعث قُلِ يا محمّد، يعيدكم القادر اَلَّذِي فَطَرَكُمْ و اخترع خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ و في بدو خلقكم في هذا العالم من غير مثال يحتذيه من تراب لم يشمّ رائحة الحياة، فإذا أجبتهم و عيّنت معادهم (4)فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ و يحرّكون نحوك رُؤُسَهُمْ تعجبا و انكارا وَ يَقُولُونَ استهزاء مَتى البعث، و في أي وقت هُوَ قُلْ لهم عَسى و أرجو أَنْ يَكُونَ ذلك الوقت قَرِيباً

ص: 56


1- . تفسير الرازي 20:221. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:170.
2- . تفسير القمي 2:21، تفسير الصافي 3:196.
3- . في النسخة: ذلك.
4- . في النسخة: معيدهم.

لأنّ كلّ آت قريب، أو لأنه مضى أكثر الزمان و بقي أقلّه.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 52

ثمّ عيّن اللّه وقت الاعادة و سهولتها بقوله: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ اللّه ببعثكم من القبور أو إسرافيل بنفخه الأخير في الصّور فَتَسْتَجِيبُونَ الدعوة، و تمتثلون [أمر]

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً (52)الداعي [سواءأ]كان هو اللّه أو إسرافيل فيما دعاكم إليه، و تخرجون من الأجداث سراعا منقادين للّه رافعين أصواتكم بِحَمْدِهِ على قدرته على إعادتكم.

عن سعيد بن جبير: أنّهم ينفضون التراب عن رؤوسهم و يقولون: سبحانك اللهم و بحمدك، و يقدّسونه و يحمدونه حين لا ينفعهم ذلك (1)، أو تستجيبون بأمره على القول بمجئ الحمد بمعنى الأمر، أو منقادين لاسرافيل حامدين لما فعل بكم غير مستعصين وَ تَظُنُّونَ بعد البعث و رؤية الأهوال إِنْ لَبِثْتُمْ و ما مكثتم في الدنيا، أو في القبور إِلاّ قَلِيلاً اقتصارا للمدّة الماضية، أو تقريبا لوقت البعث.

عن ابن عبّاس: يريد ما بين النفختين الأولى و الثانية، فإنّه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، قال: و الدليل عليه قوله في سورة يس: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا (2)فظنّهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين (3)الأولى و الثانية.

و قيل: يوم يدعوكم خطاب للمؤمنين، فانّهم يحمدون اللّه على إحسانه إليهم (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 53 الی 55

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة الحجّة على التوحيد و المعاد و بيان معارضة المشركين للرسول و شدّة عداوتهم للحق، أمر المؤمنين بمداراتهم و مجادلتهم بالتي هي أحسن صونا من الفساد (5)بقوله: وَ قُلْ

وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)

ص: 57


1- . تفسير الرازي 20:227، تفسير روح البيان 5:170.
2- . يس:36/52.
3- . تفسير الرازي 20:227.
4- . تفسير الرازي 20:228.
5- . في النسخة: صونا للفساد، و يريد صونا من الفساد المترتّب على المخاشنة في القول و السبّ و الشتم لأنّ المشركين سيقابلونهم بمثله.

لِعِبادِي المؤمنين الذين يجادلون المشركين يَقُولُوا عند محاورتهم معهم الكلمة اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الكلم و لا يخاشنونهم في القول، و لا يخلطون حجّتهم بالشّتم و السّبّ.

ثمّ نبّه سبحانه على فائدة تحسين الكلام بقوله: إِنَّ اَلشَّيْطانَ يَنْزَغُ و يثير الفتن بَيْنَهُمْ و بين المشركين، و يغري بعضهم على بعض، و تشتدّ العداوة بينهم، و يزداد الغضب و التنافر فيهم، فيمتنع حصول المقصود، و هو هدايتهم إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ من بدو خلقتهم عَدُوًّا مُبِيناً في عداواته، و مبغضا متجاهرا ببغضه.

ثمّ علّم سبحانه المؤمنين تحسين الكلام مع المشركين بقوله: رَبُّكُمْ أيّها المشركون أَعْلَمُ بِكُمْ و أخبر بعقائدكم و أعمالكم إِنْ يَشَأْ الرحمة عليكم بالتوفيق للايمان و العمل الصالح يَرْحَمْكُمْ بلا مزاحم و لا رادّ أَوْ إِنْ يَشَأْ تعذيبكم باماتتكم على الكفر يميتكم و يُعَذِّبْكُمْ بلا عجز و لا دافع، و لا تصرّحوا لهم بأنّكم أهل النار، فانّه يهيجهم على الشرّ مع أنّه لا يعلم عاقبة أحد إلاّ اللّه وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً نكل إليك امورهم من الرحمة و التعذيب، فتجبرهم على الايمان، و إنّما أرسلناك بشيرا و نذيرا، فدارهم و مر أصحابك بالمداراة و ترك المخاصمة.

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه أمرني بمداراة الناس، كما أمرني باقامة الفرائض» (1).

و قيل: إنّ المراد من العباد في الآية الكفّار، عبّر عنهم به جذبا لقلوبهم و ميلا لطباعهم إلى دين الاسلام (2)، و المعنى: قل-يا محمّد-للذين يقرّون بكونهم عبادا لي يعتقدوا بالعقائد التي هي أحسن من التوحيد و المعاد، و لا يصرّوا على العقائد الباطلة، فانّ الشيطان يحملهم على التعصّب، و الشيطان عدوّ لهم، فلا ينبغي أن يلتفتوا إلى قوله و تسويلاته، و قل لهم: ربّكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم بأن يوفقكم للايمان و الهداية، و إن يشأ يميتكم على الكفر، و أنتم لا تطّلعون على تلك المشيئة، فاجتهدوا أنتم في طلب الحقّ، و لا تقيموا على الباطل، لئلا تحرموا من السعادات الأبدية، ثمّ قال: وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً حتّى تشدّد عليهم و تغلظ لهم في القول، فانّ اللّين و الرّفق آثر في قلوبهم، و أفيد في حصول المقصود من هدايتهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد قوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ بيّن سعة علمه، و عدم قصره بأحوال المشركين، بل محيط بأحوال جميع أهل العالم بقوله: وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و أحوالهم و خصالهم و ما يليق بكلّ واحد منهم وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى بالكتاب و الشرع و عموم الرسالة و كثرة المعجزات عَلى بَعْضٍ آخر لعلمنا بتفاوت مراتبهم في

ص: 58


1- . تفسير روح البيان 5:172.
2- . تفسير الرازي 20:229.

الفضائل النفسانيّة و الكمالات الروحانيّة.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ التفضيل إنّما هو بالفيوضات المعنوية من العلم و الكتاب لا بالسلطنة بقوله: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً و فضلّناه به لا بالملك و السلطنة، فاذا كان كذلك فلا بعد في أن نفضّل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على جميع الخلق من الأولين و الآخرين بإتيانه القرآن الذي هو أفضل الكتب السماوية، و تعميم رسالته إلى يوم القيامة.

و قيل: إن وجه تخصيص داود و كتابه بالذكر أنّ في الزّبور أنّ محمّدا خاتم الأنبياء، و أن امّته خير الامم (1).

و قيل: إنّ وجهه أنّ اليهود كانوا يقولون: إنّه لا نبيّ بعد موسى، و لا كتاب بعد التوراة. فنقض اللّه كلامهم بإنزال الزبور على داود (2).

أقول: الظاهر أنّ اليهود ينكرون بعث رسول بعد موسى له شرع غير شرعه، و نزول كتاب ناسخ لكتابه، لا بعث مطلق الرسول و نزول مطلق الكتاب.

عن الصادق عليه السّلام: «سادة النبيين و المرسلين خمسة، و هم اولو العزم من الرسل، و عليهم دارت الرحى: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد، و فضله على جميع الأنبياء» (3).

و في (العلل) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تعالى فضّل الأنبياء المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلني على جميع النبيين و المرسلين، و الفضل بعدي لك يا عليّ و للأئمّة من ولدك، و إنّ الملائكة لخدّامنا و خدّام محبّينا» (4).

و عن ابن عباس: أنّه جلس ناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتذاكرون، و هم ينتظرون خروجه، فخرج حتى دنا منهم، فسمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم فقال بعضهم: عجبا إنّ اللّه اتّخذ إبراهيم من خلقه خليلا! و قال آخر: ماذا بأعجب من أنّ اللّه كلّم موسى تكليما؟ و قال آخر: ماذا بأعجب من جعل عيسى كلمة اللّه و روحه؟ فقال آخر: ماذا بأعجب من آدم اصطفاه اللّه عليهم؟ فسلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أصحابه، و قال: «قد سمعت كلامكم و عجبكم من أنّ ابراهيم خليل اللّه و هو كذلك، و أن موسى كليم اللّه و هو كذلك، و أن عيسى روح اللّه و كلمته و هو كذلك، و أنّ آدم اصطفاه اللّه و هو كذلك، ألا و أنا حبيب اللّه و لا فخر، و أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة و لا فخر، و أنا أكرم الأولين و الآخرين على

ص: 59


1- . تفسير الرازي 20:230.
2- . تفسير الرازي 20:230.
3- . الكافي 1:134/3، تفسير الصافي 3:198.
4- . علل الشرائع:5/1، تفسير الصافي 3:198.

اللّه و لا فخر، و أنا أوّل من يحرّك حلقة الجنّة فيفتح اللّه لي فأدخلها و معي فقراء المهاجرين [و لا فخر]» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 56

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب عبدة الأصنام و قولهم بانكار المعاد، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّ قول عبدة الملائكة و الجنّ و المسيح و العزير بقوله: قُلِ يا محمّد، للذين يعبدون الملائكة و الجنّ و المسيح و العزير اُدْعُوا أيّها المشركون اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ و تخيّلتم بأهوائكم أنّهم آلهتكم مِنْ دُونِهِ تعالى و ممّا سواه لحوائجكم، فانّ المعبود لابّد أن يكون قادرا على إزالة الضرر من عابديه، و إيصال النفع إليهم، و أما آلهتكم فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ من المرض و الفقر و غيرهما، و لا يقدرون على إزالته عَنْكُمْ بوجه من الوجوه وَ لا تَحْوِيلاً و نقلا له منكم إلى غيركم.

قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلاً (56)قيل: إنّها نزلت في الذين كانوا يعبدون الملائكة (2). و قيل: في الذين عبدوا المسيح (3). و قيل: في الذين عبدوا نفرا من الجّن، فأسلم النفر، و بقي اولئك متمسّكين بعبادتهم (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 57

ثمّ بيّن سبحانه عجز آلهتهم و احتياجهم إلى اللّه بقوله: أُولئِكَ الآلهة اَلَّذِينَ يَدْعُونَ هم يَبْتَغُونَ و يطلبون إِلى رَبِّهِمُ و مالك أمورهم اَلْوَسِيلَةَ و القربة بالطاعة و العبادة له أَيُّهُمْ و كلّ واحد منهم فرض أنّه أَقْرَبُ إليه تعالى بكون (3)شغله ذلك الابتغاء و الطلب وَ هم يَرْجُونَ و يأملون رَحْمَتَهُ تعالى بالوسيلة وَ يَخافُونَ عَذابَهُ بتركها كدأب سائر العباد، فكيف بمن دونهم؟ فأين هم من كشف الضرّ فضلا عن الالوهية إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً و حقيقا بأن يحترز منه كلّ أحد حتى الرسل و الملائكة، و إن لم يحذره المشركون لغاية غفلتهم و انهماكهم في الشهوات، و إنّما استدلّ سبحانه بعجز الملائكة و غيرهم ممّن ادّعوا ألوهيتهم عن كشف الضرّ و بابتغائهم الوسيلة لتسليم المشركين كونهم عبادا للّه مخلوقين بقدرته مربوبين بتربيته.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 58

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي اَلْكِتابِ مَسْطُوراً (58)

ص: 60


1- . تفسير روح البيان 5:174.
2- . تفسير الرازي 20:231. (3 و 4) . تفسير الرازي 20:231.
3- . في النسخة: يكون.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كون عذابه حقيقا بأن يحذر منه، بيّن ابتلاء الكفّار في الدنيا بشديد عذابه بقوله: وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ من قرى المشركين، و ما من بلدة من بلادهم إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها بعذاب الاستئصال المفني لجميع أهلها قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً دون عذاب الاستئصال من قبل أكابرهم و تسليط المسلمين عليهم بالسبي و اغتنام الأموال و أخذ الجزية كانَ ذلِكَ الحكم و الدأب الالهي فِي اَلْكِتابِ المبين و اللوح المحفوظ مَسْطُوراً و مكتوبا لا يتطرّق إليه التغيير.

و قيل: إنّ المراد به القرية (1)الصالحة و الطالحة، أما الصالحة فتهلك بالموت، و أما الطالحة فبالعذاب (2).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «بالقتل أو الموت و غيره» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هو الفناء بالموت» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «إنّما امّة محمد من الامم، فمن مات فقد هلك» (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 59

ثمّ لمّا ذكر سبحانه ابتلاء بعض القرى بعذاب الاستئصال لتكذيبهم الرسل مع ظهور المعجزات القاهرة، أظهر منّته على هذه الامّة بعدم تعذيبهم بقوله: وَ ما مَنَعَنا من أَنْ نُرْسِلَ و ننزل بِالْآياتِ القاهرة و المعجزات المقترحة من المشركين شيئا إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا العتاة اَلْأَوَّلُونَ و الكفّار السابقون، كقوم عاد و ثمود و أضرابهما، فاستحقّوا لذلك عذاب الاستئصال، فلو أرسلنا المعجزات التي اقترحها المشركون و كذّبوا بها، لاستوجبوا عذاب الاستئصال كسابقيهم، فمننّا على هذه الامة ببركة نبي الرحمة بأن لا نستأصلهم بالعذاب، ألم يسمعوا أنّا أرسلنا صالحا بالنبوة، و اقترح قومه عليه و سألوه معجزة قاهرة فأجبناهم وَ آتَيْنا ثَمُودَ اَلنّاقَةَ بأن أخرجناها من الصخرة لتكون لهم معجزة مُبْصِرَةً و موجبة لليقين بصدق صالح و صحّة دينه بحيث لم يبق معها لأحد مجال الشكّ في كونها معجزة، و في صدق نبوة صالح فَظَلَمُوا الناقة بأن عقروها و كذّبوا بِهَا و عرّضوا

وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ اَلنّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً (59)

ص: 61


1- . في النسخة: المراد بالقرية.
2- . تفسير الرازي 20:233.
3- . تفسير العياشي 3:57/2536، و فيه: و الموت أو غيره، تفسير الصافي 3:198.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:118/562، تفسير الصافي 3:198.
5- . تفسير العياشي 3:56/2534، تفسير الصافي 3:198.

أنفسهم للهلاك، و إنما ذكر سبحانه من الامم المهلكة خصوص ثمود لأنّهم كانوا من العرب مثلهم، و كانوا عالمين بحالهم و مشاهدين آثار هلاكهم.

عن القمي، عن الباقر عليه السّلام: «أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله سأله قومه أن يأتيهم بآية، فنزل جبرئيل و قال: إنّ اللّه يقول: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ و كنّا إذا أرسلنا إلى قرية آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم، فلذلك أخّرنا عن قومك الآيات» (1).

وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ غير المقترحة من القرآن و سائر المعجزات إِلاّ لتكون تَخْوِيفاً و إنذارا لهم بعذاب الآخرة، فإنّ أمر أمّتك التي بعثت إليهم مؤخّر إلى يوم القيامة كرامة لك.

عن سعيد بن جبير: أنّ القوم قالوا: يا محمّد، إنّك تزعم أنّه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سخّرت له الريح، و منهم من كان يحيي الموتى، فأتنا بشيء من هذه المعجزات، فأجاب اللّه عن هذه الشبهة بقوله: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ الآية (2).

و عن ابن عباس: أنّ أهل مكة سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله أن يجعل لهم الصفا ذهبا، و أن يزيل الجبال لهم حتى يزرعوا [تلك]الأراضي التي تحتها، فطلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله ذلك من اللّه تعالى، فقال اللّه تعالى: إن شئت فعلت ذلك، لكن بشرط أنّهم إن كفروا أهلكتهم. فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله: «لا اريد ذلك بل نتأنّى (3)بهم» ، فنزلت (4).

و قيل: إنّ وجه الجواب أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات، و كذّبوا بها، فعلم اللّه منكم أنّكم لو شاهدتموها لكذّبتم، فكان إظهارها عبثا (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 60

ثمّ لمّا صار عدم إجابة الرسول مسألة المشركين في ما اقترحوه من الآيات سببا لجرأتهم عليه و طعنهم في رسالته، قوّى سبحانه قلبه الشريف بوعده النصر عليهم بقوله: وَ إِذْ قُلْنا لَكَ بتوسّط جبرئيل: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ قدرة و علما، فلا يقدر أحد على أمر إلاّ بقضائه و إرادته، فلا تنال بهم و لا تخف منهم فانّهم لن يضرّوك شيئا، و إنّ ربك سينصرك عليهم، و يؤيّدك حتى يظهر دينك

وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

ص: 62


1- . تفسير القمي 2:21، تفسير الصافي 3:199.
2- . تفسير الرازي 20:234.
3- . في تفسير الرازي: تتأنّى.
4- . تفسير الرازي 20:234.
5- . تفسير الرازي 20:234.

على سائر الأديان.

و قيل: إنّ المراد من الناس أهل مكّة، و المعنى: و إذ بشّرناك بأنّ اللّه أحاط بأهل مكة بالقهر و الغلبة، و يظهر دولتك عليهم، فهو نظير قوله: سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ (1).

روي أنّه لمّا تزاحف الفريقان يوم بدر، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العريش، كان يدعو و يقول: اللهم إنّي أسألك عهدك و وعدك لي، ثمّ خرج و عليه الدرع يحرّض الناس و يقول: سيهزم الجمع و يولّون الدّبر (2).

في ذكر رؤيا

النبي صلّى اللّه عليه و آله

ثمّ قيل: إنّ اللّه أرى النبي صلّى اللّه عليه و آله فى المنام مصارع الكفّار، فأخبرهم بها فكذّبوه، فذكّره اللّه تلك الرؤيا (3)بقوله: وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ لغرض من الأغراض إِلاّ لتكون فِتْنَةً و ابتلاء لِلنّاسِ و سببا لتكذيبهم.

و قيل: إنّ المراد بالرؤيا الرؤيا التي رآها أنه يدخل مكة، و أخبر بذلك أصحابه، فلمّا منع [عن البيت الحرام]عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم، و قال عمر لأبي بكر: أ ليس قد أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّا ندخل البيت و نطوف به؟ فقال أبو بكر: [إنّه]لم يخبر أنّا نفعل ذلك في هذه السنة، فسنفعل ذلك في سنة اخرى، رواها الفخر الرازي (4).

و قيل: المراد رؤياه المعراج (5)، فإنّه كما كان له معراج في اليقظة كان له معراج في النوم.

و عن سعيد بن المسيب: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني امية ينزون على منبرة نزو القردة، فساءه ذلك، قال الفخر: هذا قول ابن عباس في رواية عطاء. ثمّ قال: و اعترضوا على هذين القولين، بأن هذه السورة مكية، و هاتان الواقعتان مدنيتان، ثمّ ردّه بأنّ الواقعتين مدنيتان، أمّا رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولهما في مكّة (6).

و عن ابن عباس: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره (7).

و عن العياشي، عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الرؤيا. فقال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اري أن رجالا من بني تيم و عديّ على المنابر يردّون الناس عن الصراط القهقرى» (8).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد رأى رجالا من نار على منابر من نار، يردّون الناس

ص: 63


1- . تفسير الرازي 20:235، و الآية من سورة القمر:54/45.
2- . تفسير الرازي 20:235.
3- . تفسير الرازي 20:236، تفسير أبي السعود 5:182.
4- . تفسير الرازي 20:236.
5- . تفسير الرازي 20:236، تفسير أبي السعود 5:181، تفسير روح البيان 5:178.
6- . تفسير الرازي 20:236، و فيه: حصولها في مكة.
7- . تفسير الرازي 20:237.
8- . تفسير العياشي 3:58/2544، تفسير الصافي 3:199.

على أعقابهم القهقرى، قال: و لسنا نسمّي أحدا» (1).

و في رواية اخرى: «إنّا لا نسمّي الرجال، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأى قوما على منبره يضلّون الناس بعده عن الصراط القهقرى» (2).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «رأيت الليلة صبيان بني امية يرقون على منبري هذا، فقلت: يا ربّ معي؟ فقال: لا و لكن بعدك» (3).

و عن (الكافي) عن أحدهما عليه السّلام: «أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كئيبا حزينا، فقال له علي عليه السّلام: ما لي أراك يا رسول اللّه كئيبا حزينا؟ فقال: و كيف لا أكون و قد رأيت في ليلتي هذه أنّ بني تيم و بني عديّ و بني امية يصعدون منبري هذا، يردّون الناس عن الاسلام القهقرى. فقلت: يا ربّ في حياتي أو بعد موتي؟ فقال: بعد موتك» (4).

و في رواية مضمرة أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نام فرأى أنّ بني اميّة يصعدون المنابر، فكلما صعد منهم رجل رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذلّة و المسكنة، فاستيقظ جزوعا من ذلك، فكان الذين رآهم اثني عشر رجلا من بني اميّة، فأتاه جبرئيل بهذه الآية، ثمّ قال جبرئيل: [إنّ بني امية] لا يملكون شيئا إلاّ ملك أهل البيت [ضعفيه]» (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث-قال: «أمّا معاوية و ابنه سيليانها بعد عثمان، ثمّ يليها سبعة من ولد الحكم بن أبي العاص واحدا بعد واحد تكملة اثني عشر إمام ضلالة، و هم الذين رآهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على منبره يردّون الناس على أدبارهم القهقرى، عشرة منهم من بني اميّة، و رجلان أسّسا ذلك لهم، و عليهما (6)أوزار هذه الأمّة إلى يوم القيامة» (7).

إلى غير ذلك من الروايات الخاصة المتوافقة على أنّ الرؤيا كانت نزو بني امية على منبر النبي صلّى اللّه عليه و آله، وَ ذكرنا اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ لذلك، قيل: هي شجرة الزّقّوم، و سمّيت ملعونة لأنّها في أصل الجحيم، و هو أبعد الأمكنة من رحمة اللّه (8). أو لأنها طعام الكفّار الملعونين، أو لأنّها مكروهة مبغوضة، كما يقال: طعام ملعون، أي ضارّ مكروه. قيل: انّ أبا جهل قال: إنّ صاحبكم يزعم أنّ نار

ص: 64


1- . تفسير العياشي 3:57/2540، تفسير الصافي 3:199.
2- . تفسير العياشي 3:58/2541، تفسير الصافي 3:200.
3- . تفسير العياشي 3:58/2542، تفسير الصافي 3:200.
4- . الكافي 8:345/543، تفسير الصافي 3:200.
5- . تفسير العياشي 3:59/2545، تفسير الصافي 3:200.
6- . زاد في الاحتجاج: مثل جميع.
7- . الاحتجاج:155، تفسير الصافي 3:200.
8- . تفسير روح البيان 5:178.

جهنم تحرق الحجر حيث قال: وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ (1)ثمّ يقول: إنّ في النار شجرا، و النار تأكل الشجر، فكيف تولّد فيها الشجر؟ (2).

و قال ابن الزّبعري: ما نعلم الزّقوم إلاّ التمر و الزّبد، فتزقّموا منه، فأنزل اللّه إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ (3).

و قيل: إنّ المراد بها أبو جهل أو [الحكم بن أبي]العاص (4). و قيل: إنّها شجرة اليهود (5).

و عن ابن عباس: الشجرة الملعونة: بنو اميّة (6).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية-قيل: وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ؟ قال: «هم بنو اميّة» (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان افتتان الناس بهما (6)، بيّن أنه يخوّف الناس بالمعجزات و الآيات بقوله: وَ نُخَوِّفُهُمْ بالعذاب الدنيوي و الآخروي فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً و عتوا عظيما و تماديا في الكفر و الضلال.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 61 الی 64

ثمّ لمّا كان سبب عتوّ المشركين و معارضتهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و إيذائه الكبر و الحسد، بيّن أنّ هاتين الرذيلتين أوّل ما عصي اللّه به، و أقوى الأسباب للكفر في بدو الخلقة بقوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ قالَ تكبرا و تعجبا من أمره بالسجود له: أَ أَسْجُدُ يا رب، و أنا مخلوق من نار لِمَنْ خَلَقْتَ و كان مبدأ خلقته طِيناً قيل: إن طِيناً منصوب بنزع الخافض، و المعنى لمن خلقته من طين (7).

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً (62) قالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (64)

ثمّ لمّا رأى اللعين تبعيده و طرده من الرحمة و تقريب آدم و تكريمه قالَ حسدا و عدوانا لآدم:

ص: 65


1- . البقرة:2/24.
2- . تفسير الرازي 20:237.
3- . تفسير الرازي 20:237، و الآية من سورة الصافات:37/63.
4- . تفسير البيضاوي 1:575. (5 و 6) . تفسير الرازي 20:237.
5- . تفسير العياشي 3:57/2537، تفسير الصافي 3:199.
6- . كذا، و لعلّ المراد الرؤيا و الشجرة الملعونة.
7- . تفسير أبي السعود 5:183.

يا رب أَ رَأَيْتَكَ و أخبرني عن هذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ و فضلّته عَلَيَّ بأن أمرتني بالسجود له مع ملائكتك، لم كرّمته عليّ و شرّفته بالخلافة و أنا خير منه بعزّتك؟ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ حيا و أنظرتني إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ، و قيل: يعني إن أبقيتني على صفة الإغواء و الضلالة (1)لَأَحْتَنِكَنَّ و لأستأصلنّ ذُرِّيَّتَهُ بالعذاب، أو لأستولينّ عليهم بالإغواء إِلاّ قَلِيلاً منهم، و هم المخلصون الذين عصمتهم من اتّباع الشهوات و الخطايا و الزلات.

قالَ اللّه تعالى تبعيدا و إهانة أو تهديدا له: اِذْهَبْ يا ملعون و افعل ما شئت فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ على الضلالة و العصيان و أطاعك في الكفر و الطغيان فَإِنَّ جَهَنَّمَ يا إبليس و يا أتباع إبليس جَزاؤُكُمْ على مخالفتي حال كونها جَزاءً مَوْفُوراً كاملا تاما وَ اِسْتَفْزِزْ و حرّك إلى المعصية، أو استزلّ مَنِ اِسْتَطَعْتَ أن تستفزّه أو تزلّه من ذرية آدم و قدرت أن تهيجه لمخالفتي مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ و دعائك و وسوستك.

و قيل: إنّ المراد بصوته: الغناء و المزامير (2). و قيل: الأصوات التي ليس فيها رضا اللّه. وَ أَجْلِبْ و صح، أو اجمع، أو استعن عَلَيْهِمْ و على إغوائهم بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ و فرسانك و مشاتك. و قيل: بجميع جندك. و قيل: بجميع قواك و غاية جهدك (3).

عن ابن عباس: كلّ راكب أو راجل في معصية اللّه فهو من خيل إبليس و جنوده (4). وَ شارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوالِ بترغيبهم إلى تحصيلها من الوجه المحرّم، أو إلى التصرّفات المحرّمة فيها، أو إلى جعل البحيرة و السائبة و أخواتهما، أو إلى أن يجعلوا فيها نصيبا لغير اللّه وَ في اَلْأَوْلادِ بتهييجهم إلى الزنا، أو تسميتهم بعبد اللات، أو عبد العزّى، أو الى دعوة أولادهم إلى اليهودية أو النصرانية أو سائر الأديان الباطلة، أو إلى الاقدام في قتلهم، أو إلى ترغيبهم في الفحش أو القتل و القتال و الحرف الخبيثة.

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه قرئت عليه هذه الآية ثمّ قال: «إنّ الشيطان ليجيئ حتى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها، و يحدث كما يحدث، و ينكح كما ينكح» قيل: بأيّ شيء يعرف؟ قال: «بحبنّا و بغضنا، فمن أحبنا كان نطفة العبد، و من أبغضنا كان نطفة الشيطان» (5).

و عنه عليه السّلام: «إذا ذكر اسم اللّه تنحّى الشيطان، و إن فعل و لم يسمّ أدخل ذكره، و كان العمل منهما

ص: 66


1- . تفسير روح البيان 5:180، و فيه: و الإضلال.
2- . تفسير روح البيان 5:181.
3- . تفسير روح البيان 5:181.
4- . تفسير الرازي 21:6، تفسير أبي السعود 5:184.
5- . الكافي 5:502/2، تفسير الصافي 3:203.

[جميعا]و النطفة واحدة» (1).

و القمي قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان، فاذا اشترى به الإماء و نكحهنّ و ولد له فهو شرك الشيطان، كلّما (2)تلد [يلزمه]منه، و يكون مع الرجل إذا جامع فيكون الولد من نطفته و نطفة الرجل (3). و الأخبار في هذا المعنى كثيرة.

وَ عِدْهُمْ يا إبليس بالمنافع الدنيوية، و الأمن من الضرر بها، بأن ينكر المعاد و الجنّة و النار، أو وعدهم بتسويف التوبة، أو بالأماني الباطلة، أو بشفاعة الأصنام عند اللّه، أو بالأنساب الشريفة، ثم زجر عن قبول وعده بقوله: وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً و كذبا مزينا في قلوبهم متعقّبا بالندامة و الخسران.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 65

ثمّ عيّن اللّه القليل الذي استثناه الشيطان من عموم إغوائه بقوله: إِنَّ عِبادِي المخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ من حيث الإغواء سُلْطانٌ و استيلاء، لعدم تأثير دعوتك و تسويلك في قلوبهم، لأنّهم يتوكّلون على ربّهم وَ كَفى بِرَبِّكَ لهم وَكِيلاً و حافظا من كيد الشيطان، و مدبّرا امورهم على وفق الصلاح، و مسببا لأسباب سعادتهم و موفّقا لهم لجميع الخيرات.

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)و قيل: لمّا أخبر سبحانه باستيلاء الشيطان على من سوى المخلصين خاف المؤمنون منه خوفا عظيما، فأخبرهم عن كمال قدرته و لطفه بهم بقوله: وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً و المعنى: أنّ الشيطان، و إن كان قادرا على الاضلال، و لكنّ اللّه أقدر و أرحم بعباده من الكلّ، فهو يدفع كيد الشيطان و يعصمهم من إغوائه (4)إذا توكّلوا عليه.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ استشهد سبحانه على لطفه الخاص بعباده بلطفه العام لجميع الناس بقوله: رَبُّكُمُ هو القادر اللطيف اَلَّذِي يُزْجِي و يسيّر أو يسوق نفعا لَكُمُ و لطفا بكم اَلْفُلْكَ و السّفن فِي اَلْبَحْرِ

رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَ إِذا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ اَلْإِنْسانُ كَفُوراً (67)

ص: 67


1- . الكافي 5:501/3، تفسير الصافي 3:203.
2- . في تفسير القمي: كما.
3- . تفسير القمي 2:22، تفسير الصافي 3:204.
4- . تفسير الرازي 21:9.

بقدرته الكاملة لِتَبْتَغُوا و تطلبوا لأنفسكم بعضا مِنْ فَضْلِهِ و نعمه بالتجارة إِنَّهُ كانَ من بدو خلقكم بِكُمْ رَحِيماً و عطوفا حيث هيّأ لكم جميع ما تحتاجون إليه، و سهّل عليكم أسباب معيشتكم، و حفظكم من خطرات البحر و مهالكه.

ثمّ استدلّ على توحيده بقوله: وَ إِذا مَسَّكُمُ و أصابكم اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ و ظهرت لكم أمارات الغرق من تلاطم البحر و تراكم الأمواج من كلّ مكان و ضَلَّ و ذهب من خواطركم مَنْ تَدْعُونَ و تلتجئون إليه في حوائجكم إِلاّ إِيّاهُ تعالى وحده لارتكاز التوحيد و انحصار القدرة و التصّرف في عالم الوجود في اللّه الذي هو خالق جميع الموجودات في فطرة الانسان.

روي أن رجلا قال للصادق عليه السّلام: يابن رسول اللّه، دلّني على اللّه، فقد أكثر عليّ المجادلون و حيّروني. فقال [له:] «يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟» قال: بلى. قال: «فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك؟» قال. بلى: قال: «فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟» قال: بلى. قال عليه السّلام: «فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لا منجي» (1).

فَلَمّا نَجّاكُمْ من الغرق و أوصلكم إِلَى اَلْبَرِّ و الساحل سالمين (2)أَعْرَضْتُمْ عنه تعالى و كفرتم تلك النّعمة و سائر نعمه باشراككم له في العبادة غيره وَ كانَ اَلْإِنْسانُ بجنسه و طبعه كَفُوراً لنعم ربّه، و مبالغا في مقابلتها بالعصيان، و إنّما يصير شاكرا بتوفيق اللّه و هدايته.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 68 الی 69

ثمّ هدّدهم على الكفران بقوله: أَ فَأَمِنْتُمْ من أن يهلككم اللّه بسبب أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ اَلْبَرِّ و قطعته التي تحتكم، و حسبتم أنّها المأمن لكم مثل قارون أَوْ يُرْسِلَ في البرّ عَلَيْكُمْ من فوقكم ريحا حاصِباً مراميا بالأحجار الصغار، فيكون أشدّ من الغرق، كما أرسل على قوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا أحدا يكون لَكُمْ وَكِيلاً و حافظا و منجيا منه.

أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)و حاصل المراد كما تحتاجون إليه تعالى في أن يحفظكم من الغرق و أنتم في البحر، كذلك تحتاجون إليه في أن يحفظكم من الهلاك و أنتم في البرّ، إذ كما أنّه قادر على أن يغرقكم في الماء

ص: 68


1- . التوحيد:231/5، و فيه: حيث لا منجي، تفسير الصافي 1:68.
2- . في النسخة: سالما.

قادر على أن يهلككم من جانب التحت، بأن يغيّبكم في التراب، أو من جانب الفوق بأن يمطر عليكم الحجارة.

أَمْ أَمِنْتُمْ بعد خروجكم و نجاتكم من البحر من أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ بسبب إيجاد الحوائج المهمّة التي لا يمكنكم صرف النظر عنها تارَةً و مرّة أُخْرى بعد المرّة الاولى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ و أنتم في البحر قاصِفاً و شديدا مِنَ اَلرِّيحِ فيكسر فلككم فَيُغْرِقَكُمْ في البحر جزاء بِما كَفَرْتُمْ باللّه و بنعمة إنجائه الأول، و أشركتم به غيره في العبادة ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ بسبب إغراقكم، و لا تألفوا عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً و حاميا يتبعنا بمطالبة العلّة و السبب.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 70

ثمّ أنّه تعالى بعد المنّة بتسهيل سير الانسان في البحر، و حفظه من المهالك، و كفرانهم تلك النعمة، بالغ في إظهار منّته عليهم بعد إهانة عدوهم إبليس بإكرامهم و تفضيلهم بالنّعم بقوله: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ و أعلينا شأنهم كرامة و تعلية شأن شاملة لجميع أفرادهم برّهم و فاجرهم، حيث خصصناهم بأحسن الصّور، و أشرف الأرواح، و اعتدال القامة، و الأخذ باليدين، و الأكل بالأصابع، و زينة اللحى و الذوائب، و قابلية الكتابة، و التكلّم باللسان، و تعلّم الصنائع و الحرف و العلوم، و وجدان العقل المدرك للكليات، و المميّز بين الخير و الشرّ، و ملاحظة عواقب الامور، و غير ذلك من الخصائص.

وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ على الحيوانات الحمولة وَ في اَلْبَحْرِ على السّفن و الزوارق وَ رَزَقْناهُمْ و أطعمناهم مِنَ أنواع النّعم اَلطَّيِّباتِ و المستلذّات ممّا يوجد بصنعهم و بغير صنعهم وَ فَضَّلْناهُمْ بالمعارف الالهية و الأخلاق النفسانية عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا في عالم الوجود، و هم ما عدا الملائكة، كما عن ابن عبّاس (1). أو ماعدا العقول المجرّدة و الأنوار الاسفهبدية (2)، أو ما عدا آدم و حواء تَفْضِيلاً عظيما ظاهرا.

عن الصادق عليه السّلام: «يقول فضلّنا بني آدم على سائر الخلق وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ يقول: على الرّطب و اليابس وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ يقول: من طيّبات الثّمار كلّها وَ فَضَّلْناهُمْ يقول: ما من دابة و لا طائر إلاّ و هي تأكل و تشرب بفمها، لا ترفع بيدها إلى فيها طعاما و لا شرابا، إلاّ ابن آدم

ص: 69


1- . تفسير الرازي 21:16.
2- . الاسفهبد: معرب كلمة (اسپهبد) فارسية، لها معان عدة، و لعلّ المراد هنا النفس الناطقة، أو القوة المتكلمة في الإنسان، كما عرّفها الفلاسفة الاشراقيون من الفرس. راجع: لغت نامة دهخدا 6:2083 و 2331.

فانّه يرفع إلى فيه بيده طعامه» (1).

عن الباقر عليه السّلام: وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ قال: «خلق كلّ شيء منكبّا غير الانسان، فانّه خلق منتصبا» (2).

و قيل: إنّ المراد ببني آدم خصوص المؤمنين (3).

القمي عنه عليه السّلام (4): «أنّ اللّه لا يكرم روح الكافر، و لكن اللّه أكرم (5)أرواح المؤمنين» إلى أن قال: «و الرزق الطيب: هو العلم» (6).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 71

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كرامة الإنسان في الدنيا ردعا لهم من الشرك، بيّن درجاتهم في الآخرة تهديدا لهم على العصيان بقوله: يَوْمَ و التقدير: اذكروا يوم القيامة فانّه يوم نَدْعُوا فيه كُلَّ أُناسٍ و امّة و أهل عصر من بني آدم الذين أكرمناهم و فضّلناهم في الدنيا و نضمّهم في الدعوة بِإِمامِهِمْ و مقتداهم و خليفته. و قيل: يعني ندعوهم باسم إمامهم (7). فيقال: يا امّة إبراهيم، و يا امّة موسى، و يا امّة عيسى، و يا امّة محمّد، و يا شيعة عليّ و المعصومين من ذرّيته.

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)عن الصادق عليه السّلام، قال: «بامامهم الذي بين أظهرهم، و هو قائم أهل زمانه» (8).

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية، قال: «يجيء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قومه (9)، و عليّ عليه السّلام في قومه، و الحسن عليه السّلام في قومه، و الحسين عليه السّلام في قومه، و كلّ من مات بين أظهر (10)قوم جاءوا معه» (11).

و عنه عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية قال المسلمون: يا رسول اللّه، أ لست إمام [الناس]كلهم أجمعين؟ فقال: أنّا رسول اللّه إلى الناس أجمعين، و لكن سيكون بعدي أئمة على الناس (12)من أهل بيتي يقومون في الناس فيكذّبون و يظلمهم أئمة الكفر و الضلال و أشياعهم، فمن والاهم و اتّبعهم

ص: 70


1- . أمالي الطوسي:489/1072، عن زيد بن علي، عن أبيه عليه السّلام، تفسير الصافي 3:205.
2- . تفسير العياشي 3:63/2557، تفسير الصافي 3:206.
3- . تفسير روح البيان 5:185.
4- . أي عن الباقر عليه السّلام.
5- . في المصدر: و لكن يكرم.
6- . تفسير القمي 2:22، تفسير الصافي 3:206.
7- . مجمع البيان 6:663.
8- . الكافي 1:451/3، تفسير الصافي 3:206.
9- . في تفسير القمي: في فرقة، و كذا ما بعدها.
10- . في تفسير القمي: ظهراني.
11- . تفسير القمي 2:23، تفسير الصافي 3:206.
12- . زاد في تفسير العياشي و الكافي: من اللّه.

و صدّقهم فهو مني و معي و سيلقاني، ألا و من ظلمهم و كذّبهم فليس منّي و لا معي و أنا منه برئ» (1).

و عن الحسين عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «إمام دعا إلى الهدى فأجابوه إليه، و إمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، و هؤلاء في النار، و هو قوله: فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «سيدعى كلّ اناس بإمامهم، أصحاب الشمس بالشمس، و أصحاب القمر بالقمر، و أصحاب النار بالنار، و أصحاب الحجارة بالحجارة» (3).

و عنه عليه السّلام: «أنتم و اللّه على دين اللّه» ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال: «عليّ إمامنا، و رسول اللّه إمامنا، و كم من إمام يجيئ يوم القيامة يلعن أصحابه و يلعنونه» (4).

و عن (المجمع) عنه عليه السّلام: «ألا تحمدون اللّه، إذا كان يوم القيامة يدعى (5)كلّ قوم إلى من يتولّونه، و فزعنا (6)إلى رسول اللّه، و فزعتم إلينا، فإلى أين ترون أن يذهب بكم؟ إلى الجنّة و ربّ الكعبة» قالها ثلاثا (7).

و قيل: إنّ المراد بالإمام الكتاب، فيدعى: يا أهل التوراة، و يا أهل الانجيل، و يا أهل القرآن (8).

و قيل: إنّ المراد بالامام هو الدّين، فيقال يا يهود، يا نصارى، يا أهل الاسلام (9).

و قيل: إنّ الامام جمع امّ، كخفاف جمع خفّ، فيقال: يابن فلانة، إجلالا لبعض الناس كعيسى و الحسنين، و سترا على أولاد الزنا (10).

عن ابن عباس و عائشة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إن اللّه يدعو الناس يوم القيامة بامهاتهم سترا منه على عباده» (11).

و على أي تقدير فَمَنْ أُوتِيَ و اعطي كِتابَهُ و صحيفة أعماله من السّعداء و الصّلحاء بِيَمِينِهِ تشريفا و تبشيرا له فَأُولئِكَ السعداء يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ مسرورين بما فيه من الحسنات وَ لا يُظْلَمُونَ و لا ينقصون من أجور أعمالهم المكتوبة فيه فَتِيلاً و قدرا قليلا.

ص: 71


1- . تفسير العياشي 3:65/2564، الكافي 1:168/1، تفسير الصافي 3:206.
2- . أمالي الصدوق:217/239، تفسير الصافي 3:206، و الآية من سورة الشورى:42/7.
3- . تفسير العياشي 3:64/2561، تفسير الصافي 3:206.
4- . تفسير العياشي 3:64/2563، تفسير الصافي 3:207.
5- . في المصدر: فدعا.
6- . في المصدر: و دعانا.
7- . مجمع البيان 6:663، تفسير الصافي 3:207.
8- . تفسير الرازي 21:17، تفسير روح البيان 5:187.
9- . تفسير روح البيان 5:187.
10- . تفسير أبي السعود 5:187، تفسير روح البيان 5:187.
11- . تفسير روح البيان 5:187.

عن ابن عباس الفتيل: هو الوسخ الذي يظهر بفتل الانسان إبهامه بسبابته (1).

قيل: إنّما خصّ أصحاب اليمين بالقراءة؛ لأنّ أصحاب الشمال إذا أطّلعوا على ما في كتابهم أخذهم الحياء و الخجل و العجز عن إقامة حروف الكتاب، أو يستولى الخوف و الوحشة على قلوبهم، و يثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة، و أمّا أصحاب اليمين فهم يقرأون كتابهم على أحسن الوجوه، ثمّ لا يكتفون بقراءتهم وحدهم، بل يقولون لأهل المحشر: هاؤُمُ اِقْرَؤُا كِتابِيَهْ (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعمته العظيمة على الإنسان في الدنيا و إحسانه إليه (3)في الآخرة، هدّد الكافرين لنعمه بقوله: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ النعم الجسيمة الدنيوية، أو في هذه الدنيا أَعْمى القلب عن معرفة منعمه و رؤية نعمه عليه، أو بطريق تقربّه إليه فَهُوَ فِي أمر اَلْآخِرَةِ و معرفة أحوالها و طريق السلامة فيها، أولى بأن يكون أَعْمى القلب و فاقد البصيرة.

وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (72)عن عكرمة، قال: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس، فسأله رجل عن هذه الآية، فقال: اقرأ ما قبلها، فقرأ رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ إلى قوله: تَفْضِيلاً (4)قال ابن عباس: من كان في هذه النّعم التي قد رأى و عاين أعمى، فهو في أمر الآخرة التي لم ير و لم يعاين أعمى (5). وَ أَضَلُّ سَبِيلاً.

و في نقل آخر عنه قال: من كان في الدنيا أعمى عمّا يرى من قدرة اللّه في خلق السماوات و الأرض، و البحار و الجبال، و الناس و الدوابّ، فهو عن أمر الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا، و أبعد عن تحصيل العلم به (6).

و قيل: يعني من كان في الدنيا ضالا كافرا، فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا، لأنّه في الدنيا يهتدي إلى التخلّص من أنواع الآفات، و في الآخرة لا يهتدي إلى ذلك، و في الدنيا تقبل توبته، و في الآخرة لا تقبل (7).

و قيل: يعني من كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة اللّه، فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنّة (6).

و قيل: يعني من كان في هذه الدنيا منهمكا في الشهوات، و منغمرا في ظلمات الجهل، فهو في الآخرة أعمى ليس معه شيء من أنوار معرفة اللّه، فيكون منغمرا في ظلمات شديدة و حسرة

ص: 72


1- . تفسير الرازي 21:18.
2- . تفسير الرازي 21:18، و الآية من سورة الحاقة:69/19.
3- . في النسخة: إليهم.
4- . الإسراء:17/66-70.
5- . تفسير الرازي 21:18. (6 و 7) . تفسير الرازي 21:19.
6- . تفسير الرازي 21:19.

عظيمة.

و قيل: يعني من كان في هذه الدنيا أعمى القلب، حشر يوم القيامة أعمى العين و البصر، فيقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ (1)

و عن الباقر عليه السّلام: «من لم يدلّه خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و دوران الشمس و القمر و الآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمرا أعظم منه، فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا» (2).

و عن الرضا عليه السّلام: «إياك و قول الجهّال [من]أهل العمى و الضلال الذين يزعمون أنّ اللّه جلّ و تقدّس موجود في الآخرة للحساب و الثواب و العقاب، و ليس بموجود في الدنيا للطاعة و الرجاء، و لو كان في الوجود للّه عزّ و جلّ نقص و اهتضام لم يوجد في الآخرة أبدا، و لكن القوم تاهوا و عموا و صمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً يعني أعمى عن الحقائق الموجودة» (3).

و عن (الخصال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أشدّ العمى من عمي عن فضلنا و ناصبنا العداوة بلا ذنب سبق إليه منّا، إلاّ أن دعوناه إلى الحقّ، و دعاه من سوانا إلى الفتنة في الدنيا فأتاها، و نصب البراءة منّا و العداوة [لنا]» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ذلك الذي يسوّف نفسه الحجّ-يعني حجّة الاسلام-حتى يأتيه الموت» (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 73 الی 74

ثمّ لمّا كان من لوازم عمى القلب الاغترار بوساوس أهل الضلال، نهى المؤمنين عنه بتهديد نبيه المعصوم من كلّ زلل عليه بقوله: وَ إِنْ كادُوا و المعنى و إن الشأن أنّ المشركين قربوا لَيَفْتِنُونَكَ و يصرفونك بخدعهم و مكرهم عَنِ تبليغ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأحكام و الوعد و الوعيد لِتَفْتَرِيَ و تختلق عَلَيْنا غَيْرَهُ ممّا يلقونه إليك وَ إِذاً و اللّه لاَتَّخَذُوكَ و اختاروك لأنفسهم

وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)

ص: 73


1- . تفسير الرازي 21:19، و الآية من سورة طه:20/125.
2- . التوحيد:455/6، تفسير الصافي 3:207.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:175/1، التوحيد:438/1، تفسير الصافي 3:207.
4- . الخصال:633/10، تفسير الصافي 3:207.
5- . تفسير القمي 2:24، تفسير العياشي 3:66/2570، الكافي 4:268/2، تفسير الصافي 3:207.

خَلِيلاً و صديقا مع أنّك تكون لنا حبيبا وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحقّ و عصمناك من الزلل بالملكة القدسية و تأييدك بروح القدس لَقَدْ كِدْتَ و قربت من أنّه تَرْكَنُ و تميل إِلَيْهِمْ و تعزم على موافقة مرادهم بمقتضى الطبيعة البشرية شَيْئاً قَلِيلاً و ركونا يسيرا لقوّة مقتضياته من كثرة خدعهم و شدّة احتيالهم.

عن ابن عبّاس: نزلت في وفد ثقيف، أتو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه شططا، و قالوا: متّعنا باللات سنة، و حرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها و طيرها و وحشها، فأبى ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يجبهم، فكرّروا ذلك الالتماس، و قالوا: إنا نحبّ أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول و خشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا. فقل: اللّه أمرني بذلك، فأمسك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهم، و داخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر، و قال: أما ترون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [قد]أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

و روي أنّهم جاءوا بكتابهم فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم . هذا كتاب [من]محمّد رسول اللّه إلى ثقيف لا يعشّرون و لا يحشرون. فقالوا: و لا يجبون. فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قالوا للكاتب: اكتب و لا يجبون، و الكاتب ينظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقام عمر و سلّ سيفه، و قال: أسعرتم قلب نبينا أسعر اللّه قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلّمك، إنّما نكلّم محمّدا، فنزلت (2).

و روي أنّ قريشا قالوا له: اجعل آية العذاب آية رحمة (1). حتى نؤمن بك، فنزلت (4).

و قيل: إنّ كفّار مكّة أخذوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة بمكة قبل الهجرة، فقالوا: كف يا محمّد عن ذمّ آلهتنا و شتمها، فلو كان ذلك حقّا كان فلان و فلان بهذا الأمر أحقّ منك. فوقع في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ يكفّ عن شتم آلهتهم، فنزلت (5).

و عن سعيد بن جبير أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يستلم الحجر، فمنعه قريش و قالوا: لا ندعك حتى تستلم آلهتنا، فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية، فنزلت (6).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «لمّا كان يوم الفتح، أخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصناما من المسجد، و كان منها صنم على المروة، و طلبت قريش أن يتركه، و كان صلّى اللّه عليه و آله مستحييا، فهمّ بتركه، ثمّ أمر بكسره، فنزلت» (2).

ص: 74


1- . في تفسير الرازي: اجعل آية رحمة آية عذاب، و آية عذاب آية رحمة. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 21:20.
2- . تفسير العياشي 3:68/2574، تفسير الصافي 3:208.

عن الصادق عليه السّلام: «ما عاتب اللّه نبيّه فهو يعني به من قد مضى في القرآن، مثل قوله: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ إلى أن قال: عنى بذلك غيره» (1).

و عن الرضا عليه السّلام، في حديث المأمون في عصمة الأنبياء حيث سأله عن قوله: عَفَا اَللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (2)قال: «هذا ممّا نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة، خاطب اللّه بذلك نبيه صلّى اللّه عليه و آله و المراد به امّته، و كذلك قوله عزّ و جلّ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (3)و قوله: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ الآية» (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ هدّد على الركون إلى الكفار بقوله: إِذاً و اللّه لَأَذَقْناكَ عذابا يكون ضِعْفَ العذاب الذي يكون لغيرك و مثليه بهذا العمل في اَلْحَياةِ الدنيا وَ ضِعْفَ ذلك في اَلْمَماتِ لكونك أعرف الخلق بعظمة اللّه و حقوقه ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً و مدافعا عنك.

إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ اَلْحَياةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)روى الثعلبي: أنّه لمّا نزلت الآية قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ لا تكلني إلى نفسي و لو طرفة عين» (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حيل المشركين في افتتان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن تبليغ الوحي و الاضرار به في دينه، ذكر همّهم باخراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مكة و الاضرار به في دنياه بقوله: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ و ليزعجونك و لينزعونك سريعا مِنَ اَلْأَرْضِ التي هي وطنك، و هي مكة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها.

قيل: إنّ أهل مكة شاوروا في إخراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منها، فاتّفق رأيهم على أن يفرطوا في إظهار عداوته و إيذائه حتى يضطرّ إلى الخروج، فنزلت (6).

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ و لا يمكثون و لا يحيون خِلافَكَ و بعد خروجك في الدنيا إِلاّ زمانا قَلِيلاً و مدّة يسيرة، و قد كان كذلك،

فانّ الذين توافقوا على إخراجه من مكة و اضطرّوه إلى المهاجرة إلى المدينة، اهلكوا ببدر بعد مدة قليلة، و ذلك الاهلاك كان سُنَّةَ اللّه و دأبه على قانون الحكمة البالغة لأجل مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا مع أعدائهم الذين أخرجوهم من بين أظهرهم وَ لا تَجِدُ يا محمّد، في شأنك و شأن مخرجيك من أعدائك لِسُنَّتِنا و عادتنا القديمة من إهلاكهم تَحْوِيلاً و تغييرا.

ص: 75


1- . تفسير العياشي 1:84/29، الكافي 2:461/14، تفسير الصافي 3:209.
2- . التوبة:9/43.
3- . الزمر:39/65.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:202/1، تفسير الصافي 3:208. (5 و 6) . تفسير روح البيان 5:190.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 78

ثمّ لمّا ذكر سبحانه منّته على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بحفظه من كيد أعدائه و فتنتهم، و وعده باهلاك مخرجيه من مكة و نصرته عليهم، أمره بالاقبال إليه و القيام بوظائف العبوديّة التي أهمّها الصلاة بقوله: أَقِمِ اَلصَّلاةَ و أدمها كما قيل لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ و زوالها عن خطّ نصف النهار إلى غسق الليل و ظلمته الشديدة الحاصلة بعد زوال الحمرة المغربية.

أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)عن جابر، قال: طعم عندي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، ثمّ خرجوا حين زالت الشمس، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «هذا حين دلكت الشمس» (1).

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أتاني جبرئيل لدلوك الشمس، حين زالت الشمس، فصلى بي الظهر» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عمّا فرض اللّه من الصلاة؟ فقال: «خمس صلوات في الليل و النهار» فقيل: هل سمّاهنّ و بينهنّ في كتابه؟ فقال: «نعم، قال اللّه تعالى لنبيه: أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ و دلوكها زوالها، ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سمّاهن اللّه و بينهنّ و وقتهنّ، و غسق الليل: انتصافه، ثمّ قال: وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً فهذه الخامسة» (3).

و العياشي عنهما عليهما السّلام، في هذه الآية، قال: «جمعت الصلوات كلّهن، و دلوك الشمس: زوالها، و غسق الليل: انتصافه» و قال: «إنّه ينادي مناد من السماء كلّ ليلة إذا انتصف [الليل]: من رقد عن صلاة العشاء إلى هذه الساعة فلا نامت عيناه وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ قال: صلاة الصبح. و أمّا قوله: كانَ مَشْهُوداً قال: تحضره ملائكة الليل و النهار» (4).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر، فقال: «مع طلوع الفجر، إنّ اللّه يقول: وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يعني صلاة الفجر يشهدها ملائكة الليل و ملائكة النهار، فاذا صلّى العبد الصبح مع طلوع الفجر أثبتت له مرّتين؛ أثبتتها ملائكة الليل و ملائكة النهار» (5).

ص: 76


1- . تفسير الرازي 21:25.
2- . تفسير الرازي 21:25.
3- . تفسير العياشي 3:70/2578، الكافي 3:271/1، من لا يحضره الفقيه 1:124/600، التهذيب 2:241/954، تفسير الصافي 3:210.
4- . تفسير العياشي 3:72/2583، تفسير الصافي 3:210.
5- . الكافي 3:283/2، تفسير الصافي 3:210.

و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ دلوك الشمس غروبها» (1). و رووه أيضا عن ابن عباس و ابن مسعود و ابن جبير (2)، و رووا عن ابن عباس: أنّ غسق الليل: دخوله بظلمته (1).

أقول: على هذين القولين يكون المراد من الصلاة صلاة المغرب، أو هي مع العشاء، و قيل: إنّ تسمية صلاة الفجر بقرآن الفجر تدلّ على استحباب إكثار تلاوة القرآن فيها (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 79

ثمّ خصّ سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بفريضة زائدة بقوله: وَ مِنَ اَللَّيْلِ و في بعض منه فَتَهَجَّدْ بالقرآن و أترك النوم مشتغلا بصلاة الليل المصحوبة أو المقرونة بِهِ و اعلم أنّ هذه الصلاة تكون فريضة نافِلَةً و زائدة على الصلوات الخمس لَكَ خاصة لا يشاركك في وجوبها أحد من امّتك.

وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن النوافل فقال: «فريضة» ففزع السامعون، فقال: «إنّما أعني صلاة الليل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنّ اللّه يقول: وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ» الخبر (3).

ثمّ حثّ نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: عَسى و يرجى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ من قبرك و يقيمك أو يعطيك مَقاماً مَحْمُوداً عند جميع الأولين و الآخرين من الأنبياء و غيرهم، و هو مقام الشفاعة. و في الدعاء المشهور: و ابعثه المقام المحمود الذي وعدته (4)، يغبطه به الأولون و الآخرون (5).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في هذه الآية: «هو المقام الذي أشفع [فيه]لأمّتي» (6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من امّتي، فيشفّعني اللّه فيهم، و اللّه لا تشفّعت فيمن آذى ذرّيتي» (7).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في أبي و أمّي (8)و أخ لي كان في الجاهلية» (9).

و عن أحدهما عليهما السّلام في هذه الآية، قال: «هي الشفاعة» (10).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن شفاعة النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم القيامة، فقال: «يلجم الناس يوم القيامة العرق،

ص: 77


1- . تفسير الرازي 21:27.
2- . تفسير الرازي 21:27، تفسير أبي السعود 5:189.
3- . التهذيب 2:242/959، تفسير الصافي 3:210.
4- . زاد في مصباح المتهجد: مقاما.
5- . مصباح المتهجد:446.
6- . روضة الواعظين:500، تفسير الصافي 3:211، تفسير الرازي 21:31.
7- . روضة الواعظين:273، تفسير الصافي 3:211.
8- . زاد في تفسيري القمي و الصافي: و عمي.
9- . تفسير القمي 2:25، تفسير الصافي 3:211.
10- . تفسير العياشي 3:78/2590، تفسير الصافي 3:211.

فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا، فيأتون آدم، فيقولون: [يا آدم]اشفع لنا عند ربّك. فيقول: إنّ لي ذنبا و خطيئة، فعليكم بنوح فيأتون نوحا فيردّهم إلى من يليه، و يردّهم كلّ نبي إلى من يليه حتى ينتهوا إلى عيسى، فيقول: عليكم بمحمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فيعرضون أنفسهم عليه و يسألونه فيقول: أن انطلقوا، فينطلق بهم إلى باب الجنة، و يستقبل باب الرحمن و يخرّ ساجدا، فيمكث ما شاء اللّه، فيقول اللّه: ارفع رأسك و اشفع تشفّع و سل تعط، و ذلك قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (1).

و بهذا المعنى روايات كثيرة، و ادّعى بعض العامة إجماع المفسرين عليه، و ادّعى الفخر الرازي اتّفاق الناس عليه (2).

و قيل: إنّه مقام القرب من اللّه، عن حذيفة: يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلّم نفس، فأوّل مدعوّ محمد صلّى اللّه عليه و آله، فيقول: «لبيك و سعديك، و الشرّ ليس إليك، و المهدي من هديت، و عبدك بين يديك، و بك و إليك، لا ملجأ و لا منجى منك إلاّ إليك، تباركت و تعاليت سبحانك ربّ البيت» . فهذا هو المراد من قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلى آخره (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث يذكر أهل المحشر: «ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد، و هو المقام المحمود، فيثني على اللّه بما لم يثن عليه أحد من قبله، ثمّ يثني على كلّ مؤمن و مؤمنة، يبدأ بالصديقين و الشهداء ثمّ الصالحين، فيحمده أهل السماوات و الأرض، فذلك قوله عزّ و جلّ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلى آخره، فطوبى لمن كان له في ذلك اليوم (2)حظّ و نصيب، و ويل لمن لم يكن له في ذلك اليوم حظّ و [لا]نصيب» (3).

أقول: لا منافاة بين الروايات، فانّ مقام القرب و المقام الذي يحمده جميع الخلق هو مقام الشفاعة، كما يشعر به قوله: «طوبى لمن كان له» إلى آخره.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 80

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره باقامة الصلاة، أمره بالتوجّة و التوسّل إليه في حفظه عن التوجه إلى غيره و عن شرّ الأعداء بقوله: وَ قُلْ حين إرادتك الدخول في الصلاة رَبِّ أَدْخِلْنِي فيها مُدْخَلَ

وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)

ص: 78


1- . تفسير القمي 2:25، تفسير الصافي 3:211. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:32.
2- . في التوحيد: المقام، و كذا التي بعدها.
3- . التوحيد:261/5، تفسير الصافي 3:211.

صِدْقٍ و إدخالا حسنا ممدوحا وَ أَخْرِجْنِي من الصلاة مُخْرَجَ صِدْقٍ و إخراجا حسنا ممدوحا وَ اِجْعَلْ لِي في دعوتي إلى دينك و عبادتك مِنْ لَدُنْكَ و برحمتك سُلْطاناً نَصِيراً و بيّنة قاهرة تغلبني بها على من خالفني.

و قيل: إنّه تعالى لمّا بشّره بالبعث للمقام المحمود، أمره بأن يسأل حسن الحال عند دخوله في القبر و خروجه منه (1).

و قيل: إنّه لمّا أخبره بتصميم المشركين بإخراجه من مكة بقوله: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ (2)أمره بالهجرة، و أن يسأله أن يجعل دخوله في المدينة و خروجه من مكة، أو دخوله في مكة بعد الهجرة و العود إليها بعد فتحها، و خروجه منها و رجوعه إلى المدينة، دخولا و خروجا مرضيا، ملقى بالكرامة، و آمنا من كلّ مكروه (3).

القمي: قال: نزلت يوم فتح مكة، لمّا أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخولها أنزل اللّه: قُلْ يا محمّد أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الآية (4).

أقول: الأقوى نزولها قبل الهجرة، و لا يبعد النزول ثانيا حين دخوله مكة و فتحها.

و قيل: إن المراد ربّ ادخلني في القيام بمهمات أداء دينك و شريعتك، و أخرجني (5)منها إخراجا لا يبقى عليّ منها تبعة و بقيّة (6).

و قيل: يعني ربّ أدخلني في بحار دلائل توحيدك و تنزيهك و تقديسك (7)، ثمّ أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفتك. (8)

أقول: لا يناسب هذا المعنى مقام خاتميته.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 81

ثمّ لمّا سأل اللّه النّصرة على الأديان الباطلة، أمره سبحانه بالاعلان بدينه الحقّ و اضمحلال الأديان الباطلة، تبشيرا باستجابة دعائه بقوله: وَ قُلْ يا محمّد، للناس و كافّة أهل الأديان الباطلة جاءَ الدين اَلْحَقُّ و ملّة التوحيد و شريعة الاسلام من جانب اللّه وَ زَهَقَ و اضمحلّ الدين اَلْباطِلُ

وَ قُلْ جاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ إِنَّ اَلْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)

ص: 79


1- . تفسير الرازي 21:33، تفسير أبي السعود 5:190.
2- . الإسراء:17/76.
3- . تفسير الرازي 21:32 و 33 تفسير أبي السعود 5:190.
4- . تفسير القمي 2:26، تفسير الصافي 3:212.
5- . زاد في تفسير الرازي: منها بعد الفراغ.
6- . تفسير الرازي 21:33.
7- . في تفسير الرازي: و قدسك.
8- . تفسير الرازي 21:33.

و مذهب الشرك و البدع المخترعة بالأهواء الزائغة إِنَّ اَلْباطِلَ كائنا ما كان كانَ زَهُوقاً و مضمحلاّ.

روى الفخر الرازي و غيره من العامة عن ابن مسعود: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله دخل مكة يوم الفتح، و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما، فجعل ينكت بمخصرة كانت بيده [في]عين واحد واحد و يقول: جاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ فينكبّ لوجهه حتّى ألقى جميعها، و بقي صنم خزاعة فوق الكعبة، و كان من صفر، فقال: يا علي ارم به، فصعد فرمى به فكسره (1).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة و الأصنام حول الكعبة، و كانت ثلاثمائة و ستين صنما، فجعل يطعنها (2)بمخصرة في يده و يقول: جاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ إِنَّ اَلْباطِلَ كانَ زَهُوقاً و ما يبدي و ما يعيد، فجعلت تنكبّ لوجهها» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل» (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 82

ثمّ لمّا أمر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتلاوة القرآن و التهجّد به، بيّن فضيلة القرآن و فوائده بقوله: وَ نُنَزِّلُ السور و الآيات التي مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من الأمراض الجسمانية و الروحانية، كالشكّ و الزّيغ و الأخلاق الرذيلة وَ ما هو رَحْمَةٌ و هداية و رشاد إلى العقائد الحقّة و الأخلاق الفاضلة و الأعمال المحمودة لِلْمُؤْمِنِينَ به و المتمسّكين بما فيه و العاملين بأحكامه.

وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ اَلظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً (82)عن الصادق عليه السّلام-في حديث- «إنما الشّفاء في علم القرآن، لقوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لأهله لا شكّ فيه و لا مرية، و أهله أئمة الهدى» (5).

و عنه عليه السّلام: «ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاية (6)قطّ و قال بإخلاص نيّة و مسح موضع العلّة: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ اَلظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً إلاّ عوفي من تلك العلّة أية علّة كانت، و مصداق ذلك في الآية حيث يقول: شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (7).

و عنه عليه السّلام: «لا بأس بالّرقية و العوذة و النّشرة إذا كانت من القرآن، و من لم يشفه القرآن فلا شفاه اللّه،

ص: 80


1- . تفسير الرازي 21:33، تفسير روح البيان 5:194، تفسير أبي السعود 5:191.
2- . في أمالي الطوسي: يطفّها.
3- . أمالي الطوسي:336/683، تفسير الصافي 3:212.
4- . الكافي 8:287/432، تفسير الصافي 3:212.
5- . تفسير العياشي 3:79/2596، تفسير الصافي 3:213.
6- . في طب الأئمة عليهم السّلام: شكاة.
7- . طب الأئمة عليهم السّلام:28، تفسير الصافي 3:213.

و هل شيء أبلغ من هذه الأشياء من القرآن؟ ! أ ليس اللّه يقول: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» الخبر (1).

وَ لا يَزِيدُ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالشرك و الكفر به إِلاّ خَساراً و هلاكا و كفرا باصرارهم على تكذيبه و الطعن فيه.

و عن الباقر عليه السّلام: «نزل جبرئيل عليه السّلام على محمّد صلّى اللّه عليه و آله [بهذه الآية]و لا يزيد الظالمين آل محمّد حقّهم إلاّ خسارا» (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 83

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الظلم إنّما هو بكفران النعم بقوله: وَ إِذا أَنْعَمْنا النّعم الدنيوية من الصحّة و المال و الجاه عَلَى نوع اَلْإِنْسانِ و بني آدم أَعْرَضَ و حوّل وجهه عن الحقّ، و لم يعتن بدعوة الرسول، و لم يقبل دين اللّه وَ نَأى و تباعد من الهدى بِجانِبِهِ و نفسه، أو لوى عنه عطفه و ولاّه ظهره استكبارا و تعظّما، و امتنع عن طاعة اللّه و رسوله حبا للدنيا و غفلة عن العقبى وَ إِذا مَسَّهُ و أصابه اَلشَّرُّ من المرض و الفقر و سائر الشدائد كانَ يَؤُساً و منقطع الرجاء من رحمة اللّه جهلا بسعة كرمه و فضله، فلا يذكر اللّه و لا يقبل إليه، و لا يقبل دعوة الرسول، و لا يطيعه في حال من الأحوال، و هذا غاية من هو في الضلال، و دونه من إذا مسّه الشّر فذو دعاء عريض.

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى اَلْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)و في إسناد الإنعام إلى نفسه دون الشرّ إيذان بأنّ النعمة من فضله، دون الشرّ فانّه بذنوب الخلق، أو بأنّ الأول هو المقصود بالذات، و الثاني مقصود بالتّبع.

عن ابن عباس: أنّ المقصود بالانسان هنا الوليد بن المغيرة (3).

قال الفخر الرازي: هذا بعيد، بل المراد أنّ نوع الانسان [من]شأنه ذلك (4).

أقول: فيه أنّ المراد أنّ مورده خاص، و إن كان موضوع الحكم عاما، كما في قوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 84 الی 85

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (85)

ص: 81


1- . طب الأئمة عليهم السّلام:48، تفسير الصافي 3:213.
2- . تفسير العياشي 3:79/2597، تفسير الصافي 3:213. (3 و 4) . تفسير الرازي 21:35.
3- . الحجرات:49/6.

ثمّ بيّن سبحانه أن اختلاف النفوس ناشيء عن اختلاف طيناتهم و قلوبهم المستلزمة لاختلاف نياتهم و قصورهم بقوله: قُلْ يا محمّد كُلٌّ من المؤمن و الكافر يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ و سجيته و جبلته (1)التي اختلافها يلازم اختلاف النية و الطريقة، فاستعمل اللازم في الملزوم.

عن الصادق عليه السّلام: «النية أفضل من العمل، ألا و إن النيّة هي العمل، ثمّ تلا: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ يعني على نيّته» (2).

و عنه عليه السّلام: «إنّما خلّد أهل النار في النار، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا، و إنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبدا، فبالنيّات خلّد هؤلاء و هؤلاء» ثمّ تلا: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ (3).

و عنه عليه السّلام أنه سئل عن الصلاة في البيع و الكنائس، فقال: «صلّ فيها» قلت: اصلّي فيها و إن كانوا يصلّون فيها؟ قال: «نعم، أما تقرأ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ» (4).

ثمّ بشّر سبحانه المهتدين و هدّد الضالين بقوله: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً و أصوب طريقا، و بمن هو أضلّ سبيلا و أسوء منهجا، فيجازي كلا بطريقته و سيرته،

ثمّ لمّا كان اختلاف الطينات ملازما لاختلاف الأرواح المتعلّقة بها، حكى سبحانه سؤال الناس عن الروح بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ جوهرة شريفة قدسية مخلوقة مِنْ أَمْرِ رَبِّي و قدرته في عالم الملكوت، لا مادّة لها و لا مدّة، بل هي من الابداعيات الموجودة بصرف الإرادة المعبرة عنها بلفظ (كن) كسائر المجرّدات البسيطة، و يعبّر عن عالمها بعالم الأمر و البقاء، كما يعبّر عن عالم الماديات و الأجسام بعالم الخلق و الفناء، و عليه يكون الجواب بينا و مفصلا لا إبهام فيه.

في بيان الروح

و تجرده

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الروح، فقال: «هي من قدرته من الملكوت» (5).

و عنه عليه السّلام: «مثل روح المؤمن و بدنه كجوهرة في صندوق، إذا أخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق و لم يعبأ به» . و قال: «إنّ الأرواح لا تمازج البدن و لا تداخله، إنّما هي كالكلل للبدن محيطة به» (6).

أقول: أي متعلّقة به تعلّق التدبير و التصرّف.

ص: 82


1- . الجبلة: الخلقة و الطبيعة.
2- . الكافي 2:13/4، تفسير الصافي 3:214.
3- . تفسير العياشي 3:80/2600، الكافي 2:69/5، تفسير الصافي 3:214.
4- . تفسير العياشي 3:80/2599، من لا يحضره الفقيه 1:157/731، التهذيب 2:222/876، تفسير الصافي 3:214.
5- . تفسير العياشي 2:428/2324، تفسير الصافي 3:108.
6- . بصائر الدرجات:483/13، تفسير الصافي 3:108.

[في (الاحتجاج) عن الصادق عليه السّلام: «الروح لا يوصف بثقل و لا خفّة، و هي جسم رقيق ألبس قالبا كثيفا]فهي بمنزلة الريح في الزّق (1)، فاذا نفخت فيه امتلأ الزّقّ منها، فلا يزيد في وزن الزّق ولوجها، و لا ينقصه خروجها، و كذلك الروح ليس لها ثقل و لا وزن» .

قيل: افيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال: «بل هو باق إلى يوم ينفخ في الصّور، فعند ذلك تبطل الأشياء و تفنى، فلا حسّ و لا محسوس، ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها، و ذلك أربعمائة سنة يسبت (2)فيها الخلق، و ذلك بين النّفختين» .

و قال: «إنّ الروح مقيمة في مكانها؛ روح المؤمن (3)في ضياء و فسحة، و روح المسيء في ضيق و ظلمة، و البدن يصير ترابا» (4).

و عن كميل بن زياد، قال: سألت مولانا أمير المؤمنين عليا عليه السّلام، فقلت: يا أمير المؤمنين، اريد أن تعرّفني نفسي. قال: «يا كميل، و أيّ الأنفس تريد أن اعرّفك؟» قلت: يا مولاي، هل هي إلاّ نفس واحدة؟ قال: «يا كميل، إنّما هي أربعة: النامية النباتية، و الحسية الحيوانية، و الناطقة القدسية، و الكلية الالهية-إلى أن قال: -و الناطقة القدسية لها خمس قوى: فكر، و ذكر، و علم، و حلم، و نباهة، و ليس لها انبعاث، و هي أشبه الأشياء بالنفوس الفلكية، و لها خاصيتان: النزاهة و الحكمة.

و الكلية الالهية لها خمس قوى: بقاء في فناء، و نعيم في شقاء، و عزّ في ذلّ، و فقر في غناء، و صبر في بلاء، و لها خاصيتان: الرضا، و التسليم، و هذه هي التي مبدؤها من اللّه، و إليه تعود، قال اللّه: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (5)و قال تعالى: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ* اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (6)و العقل [في]وسط الكلّ» (7).

و عن أحدهما عليهما السّلام في هذه الآية، سئل ما الروح؟ قال: «التي في الدوابّ و الناس» ؟ قيل: و ما هي؟ قال: «هي من الملكوت و القدرة» (8)

و قيل: إنّ المراد أن الروح و حقيقته من الأسرار الخفية التي استأثر اللّه بعلمه لا يكاد يحوم حولها عقول البشر (9).

وَ ما أُوتِيتُمْ أيها الناس مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً في جنب علم اللّه، و إن كان كثيرا بالنسبة إليكم،

ص: 83


1- . الزّقّ: وعاء من جلد يجزّ شعره و لا ينتف.
2- . سبت: نام و استراح و سكن.
3- . في المصدر: المحسن.
4- . الاحتجاج:350، تفسير الصافي 3:109.
5- . الحجر:15/29.
6- . الفجر:89/27 و 28.
7- . بحار الأنوار 61:85، تفسير الصافي 3:111.
8- . تفسير العياشي 3:81/2605، تفسير الصافي 3:214، و فيهما: من القدرة.
9- . تفسير أبي السعود 5:192.

فانّ كثيرا من الامور لا يمكنكم العلم بحقيقته و حدوده، و منها الروح، فانّه لا يعرف إلاّ بآثاره و عوارضه الخاصة به.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قال ذلك قالوا: نحن مختصّون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال: «بل نحن و أنتم لم نؤت من العلم إلاّ قليلا» فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (1)و ساعة تقول: هذا؟ ! فنزلت وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية» (2).

القمي، قال: إنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الروح، فقال: اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً قالوا: نحن خاصة؟ قال: بل النّاس [عامّة]قالوا: فكيف يجتمع هذان يا محمّد؛ تزعم أنّك لم تؤت [من]العلم إلاّ قليلا، و قد اوتيت القرآن، و أوتينا التوراة، و قد قرأت وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فأنزل اللّه: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إلى آخره (3). يقول: علم اللّه أكبر من ذلك، و ما أوتيتم كثير فيكم قليل عند اللّه (4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «تفسيرها في الباطن أنه لم يؤت العلم إلا اناس يسير فقال: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً منكم» .

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث- «و وصف الذين لم يؤتوا من اللّه فوائد العلم، فوصفوا ربّهم بأدنى الأمثال، و شبّهوه بالمتشابه منهم فيما جهلوا به، فلذلك قال: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً فليس له شبه و لا مثل و لا عدل» (5).

و قيل: إنّ نظر السائلين إلى السؤال عن حقيقة الروح و قدمه و حدوثه، فأجاب عن كليهما بكون الروح خالية عن العلوم، ثمّ تحدث فيها العلوم قليلا قليلا، فلا تزال في التغيير من حال إلى حال، و من النقص إلى الكمال، و هو آية الحدوث (6).

و قيل: إن المراد بالروح هنا هو القرآن، حيث إنه تعالى سمّاه في آيات عديدة روحا، لأنّ به تحصل حياة القلوب، و هو المناسب لما قبل الآية من قوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ (7)الآية، و لما بعده من قوله: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ (8)الآية، و قوله: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ (9)الآية، فيكون المراد أنّ القرآن هل هو سحر أو كهانة أو شعر أو نازل من اللّه؟ (10)

ص: 84


1- . البقرة:2/269.
2- . تفسير الرازي 21:53، و الآية من سورة لقمان:31/27.
3- . تفسير القمي 2:166، تفسير الصافي 4:150.
4- . تفسير العياشي 3:82/2606، تفسير الصافي 3:215.
5- . التوحيد:324/1، تفسير الصافي 3:215.
6- . تفسير الرازي 21:38.
7- . الإسراء:17/82.
8- . الإسراء:17/86.
9- . الإسراء:17/88.
10- . تفسير الرازي 21:38.

في وصف الملك

المسمى بالروح

و قيل: إنّ المراد به جبرئيل (1)، و قيل: إنّ المراد به الملك الذي هو أعظم من سائر الملائكة قدرا و قوة (2).

و روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال: «هو ملك له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة، يسبّح اللّه بتلك اللغات كلّها، و يخلق اللّه من كلّ تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة» .

قال (3): و لم يخلق اللّه خلقا أعظم من الروح غير العرش، و لو شاء أن يبتلع السماوات السبع و الأرضين السبع و من فيهنّ بلقمة واحدة لفعل (4).

ثمّ اعترض الناصب عليه بوجوه لا يليق بالمؤمن العاقل نقلها و الجواب عنها.

القمي عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «خلق (5)أعظم من جبرئيل و ميكائيل، كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو مع الأئمة، و هو من الملكوت» (6).

و عنه عليه السّلام أيضا أنّه سئل عنه فقال: «خلق عظيم، أعظم من جبرئيل و ميكائيل، لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد و [هو]مع الأئمة يسدّدهم، و ليس كلّما طلب وجد» (7).

و عنهما عليهما السّلام: «إنّما الروح خلق من خلقه، له بصر و قوة و تأييد يجعله في قلوب المؤمنين و الرّسل» (8).

أقول: يحتمل أن يكون المراد بذلك الملك النفس الكلية التي تتحرّك بها المتحرّكات من الأفلاك و الملائكة و الكواكب و الحيوانات، و المراد من رؤوسها الموجودات التي تعلّق بها، و من تكلّمه باللغات الكثيرة، نطق تلك الموجودات بالتسبيح و غيره، و من كونها مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام قوة ظهورها فيهم بحيث لم يكن في غيرهم هذا الظهور و الآثار.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 86 الی 87

ثمّ لمّا ذكر سبحانه قلّه علم الناس بالنسبة إلى علمه، نبّه على أنّ هذا القليل بفضل منه تعالى و إنعامه

وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)

ص: 85


1- . تفسير الرازي 21:39.
2- . تفسير الرازي 21:39.
3- . في المصدر: قالوا.
4- . تفسير الرازي 21:39.
5- . في المصدر: ملك.
6- . تفسير القمي 2:26، الكافي 1:215/3، تفسير الصافي 3:214.
7- . تفسير العياشي 3:81/2603، الكافي 1:215/4، تفسير الصافي 3:214.
8- . تفسير العياشي 3:81/2602، تفسير الصافي 3:214.

بتوسط إنزاله القرآن، و لو شاء لسلبه عنهم بقوله: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن العظيم الذي فيه تبيان كلّ شيء و نمحوه من صدورهم و صحفهم بحيث لا يبقى منه في العالم أثر ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بعد ذهاب القرآن بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً و وليا يردّه إليك و يعيده في الصدور و الدفاتر إِلاّ رَحْمَةً كائنة مِنْ رَبِّكَ فانّها هي التي تردّه إليك، كما أنّها هي التي أبقته في حفظك و حفظ غيرك إِنَّ فَضْلَهُ و إحسانه كانَ عَلَيْكَ من بدو خلقك في العوالم إلى الآن كَبِيراً و عظيما حيث ختم بك الرسل، و أتاك بالقرآن، و أعطاك أفضل الأوصياء في الدنيا، و المقام المحمود في الآخرة.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 88

ثمّ لمّا بيّن تفضّله على النبي صلّى اللّه عليه و آله بإنزاله القرآن عليه، أمره بالتحدّي به بقوله: قُلْ يا محمّد للذين يقولون إنّه كلام البشرك و اللّه: لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ و اتّفقوا عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ في الفصاحة و البلاغة، و جزالة المعنى، و بداعة الاسلوب و كثرة العلوم لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ و لا يقدرون على ترتيب مشابه وَ لَوْ فرض أنه كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ آخر منهم ظَهِيراً و معاضدا و معاونا في الاتيان بمثله مع أنّ فيهم الفصحاء و مهرة البيان و الخطباء و الشعراء.

قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)عن (العيون) عن أمير المؤمنين عليه السّلام «أنّ اللّه تعالى نزّل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب» ثمّ قال: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ الآية» (1).

و روي أن ابن أبي العوجاء و ثلاثة نفر من الدهرية (2)اتفّقوا على أن يعارض كلّ واحد منهم ربع القرآن، و كانوا بمكة، و عاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل، فلمّا حال الحول و اجتمعوا في مقام إبراهيم، قال أحدهم: إني لمّا رأيت قوله: يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي (3)الآية، كففت عن المعارضة. و قال الآخر: و كذا أنا لمّا وجدت قوله فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (4)

أيست عن المعارضة. و كانوا يسرّون ذلك، إذ مرّ عليهم الصادق عليه السّلام و قرأ عليهم قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ الآية، فبهتوا (5).

إن قيل: إنّه ظهر عجز الإنس عن الاتيان بمثله، فمن أين يعلم عجز الجنّ عنه مع احتمال أن يكون

ص: 86


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:130/26، تفسير الصافي 3:216.
2- . الدّهرية: قوم يقولون: لا ربّ و لا جنّة و لا نار، و يقولون: ما يهلكنا إلاّ الدهر.
3- . هود:11/44.
4- . يوسف:12/80.
5- . الخرائج و الجرائح 2:710/5، تفسير الصافي 3:216.

القرآن من كلام الجنّ و نظمهم، و إنّما ألقوه إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله لإضلال الناس، و إن قلنا: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخبر بعجزهم يلزم الدور.

قلنا: إنّ قاعدة اللّطف مقتضية لاظهار معارضه بنحو من الانحاء، فلمّا لم يظهر علمنا أنّهم أيضا عاجزون عن إتيان مثله و أنّه من اللّه تعالى.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 89

ثمّ وصف سبحانه القرآن بجامعية العلوم بقوله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا و كرّرنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ نحو من أنحاء التحدّي، و برهان من براهين المبدأ و المعاد و صحّة النبوة و ردّ شبهات المشركين فيها، و كلّ صنف من أصناف العلوم و الأحكام و الوعد و الوعيد، و أحوال الأنبياء، و كيفية دعواهم و بيان معاجزهم، و معارضة اممهم و إصرارهم على التمرّد و العناد، و ابتلائهم بالعذاب، و ذكر الوعظ و النّصح و غيرها ممّا يحتاج إليه الناس ببيان يكون بمنزلة مَثَلٍ في الغرابة و الوقع في النفس فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ من مشركي مكة إِلاّ كُفُوراً و جحودا للحقّ و إنكارا للنعمة العظيمة من القرآن و رسالة الرسول.

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ إِلاّ كُفُوراً (89)عن الباقر عليه السّلام: «نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ -بولاية علي- إِلاّ كُفُوراً» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 90 الی 93

ثمّ بيّن اللّه سبحانه كفران المشركين نعمة القرآن بعدم اكتفائهم به في الاعجاز و التماسهم المعجزات الاخر تعنّتا و لجاجا بقوله: وَ قالُوا يا محمّد لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ و لا نعترف بنبوتك أبدا حَتّى تَفْجُرَ و تخرج لَنا مِنَ هذه اَلْأَرْضِ التي نسكنها يَنْبُوعاً و عينا كثيرة الماء أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ و بستان كثير الأشجار، و كانت أشجارها مِنْ جنس نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً (93)

ص: 87


1- . تفسير العياشي 3:82/2608، الكافي 1:351/64، تفسير الصافي 3:216.

و تجري اَلْأَنْهارَ العديدة (خلالها) و فيما بين أشجارها (تفجيرا) و إجراء كثيرا أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّماءَ كَما زَعَمْتَ و مثلما توهّمت أنك نبيّ ذو معجزة، أو أن اللّه يفعل ما يشاء عَلَيْنا كِسَفاً و قطعا، أو كما قلت، أو يسقط عليهم كسفا من السماء فيقولون: سحاب مركوم أَوْ تَأْتِيَ إلينا بِاللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ قَبِيلاً و مقابلا لنا بحيث نراهم، أو فوجا كما عن ابن عباس (1)، أو ضامنا أو كفيلا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ و ذهب تسكن فيه و تخلص من الفقراء أَوْ تَرْقى و تصعد فِي معارج اَلسَّماءِ و مدارجها و نحن ننظر إليك وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ و لا نصدّق نبوتك أبدا لأجل عروجك في السماء حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا من السماء كِتاباً فيه تصديق نبوتك و نحن نَقْرَؤُهُ كي لا يبقى لنا فيه شبهة السحر.

قُلْ يا محمد، لهؤلاء المقترحين تعجبا من اقتراحهم، أو تنزيها لساحة الربوبية من أن يكون محكوما بحكمهم، أو من ما لا يفيد في إيمانهم: سُبْحانَ رَبِّي و تنزّه عمّا لا ينبغي له من إجابتكم فيما تسألونه تعنّتا و لجاجا، و إن تسألوني أن أفعل تلك الامور بقوّة نفسي و قدرتي، فأخبروني هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً عاجزا مثلكم؟ و إنّما أكون رَسُولاً و الرسول ليس فاعلا لما يشاء، و لا حاكما على اللّه، و إنّما عليه أن يأتي معجزة كافية في إثبات نبوته، و قد أتيتكم فوق ما فيه الكفاية.

عن ابن عباس: أنّ عتبة و شيبة و أبا سفيان و النّضر بن الحارث و أبا البختري و الوليد بن المغيرة و أبا جهل و عبد اللّه بن أبي امية [و امية]بن خلف و رؤساء قريش، اجتمعوا عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد فكلّموه و خاصموه حتّى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك اجتمعوا لك ليكلّموك، فجاءهم سريعا و هو يظنّ أنّه بدا لهم في أمره بداء، و كان عليهم حريصا يحبّ رشدهم و يعزّ عليه عتبهم، حتّى جلس إليهم فقالوا: يا محمّد، إنا لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، و عبت الدين، و سفّهت الأحلام، و شتمت الآلهة، و فرّقت الجماعة، و ما بقي أمر قبيح إلاّ و قد جئته فيما بيننا و بينك، فإن كنت إنّما جئت بهذا تطلب به مالا جعلنا لك من الأموال ما تكون به أكثرنا مالا، و إن كنت إنّما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، و إن [كنت] تريد ملكا ملّكناك علينا، و إن كان هذا الرّئيّ (2)الذي يأتيك قد غلب عليك-و كانوا يسمّون التابع من الجنّ الرأي-بذلنا أموالنا في طلب الطبّ لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، و لا للشرف فيكم،

ص: 88


1- . تفسير الرازي 21:57.
2- . الرّئيّ: الجنّي يعرض للانسان و يطلعه على ما يزعم من الغيب. و يقال: به رئيّ من الجنّ: أي مسّ.

و لا للملك عليكم، و لكنّ اللّه بعثني إليكم رسولا، و أنزل عليّ كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا، فبلّغتكم رسالة ربي و نصحت لكم، فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردّوه عليّ أصبر لأمر اللّه حتّى يحكم اللّه بيني و بينكم» .

قالوا: يا محمّد، فان كنت غير قابل منّا ما عرضناه، فقد علمت أنه ليس من النّاس أحد أضيق بلادا و لا أقلّ مالا و لا أشدّ عيشا منّا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك، فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت [علينا]، أو يبسط [لنا]بلادنا، و ليجر فيها أنهارا كأنهار الشام و العراق، و ليبعث لنا من مضى من آبائنا، و ليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنّه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عمّا تقول أحقّ هو أم باطل، فإن فعلت ما سألناك صدّقناك و عرفنا به منزلتك عند اللّه و أنّه بعثك رسولا كما تقول.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «ما بهذا بعثت، و إنّما جئتكم من عند اللّه بما بعثني به، فقد بلّغتكم ما ارسلت به، فإن تقبلوه فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردّوه أصبر لأمر اللّه» .

قالوا: فإن لم تفعل هذا، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك، و سله أن يجعل لك جنّات و كنوزا و قصورا من ذهب و فضّة، و يغنيك بها عمّن سواك، فانك تقوم في الأسواق، و تلتمس المعاش.

فقال: «ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا، و لكن اللّه بعثني بشيرا و نذيرا» .

قالوا: سله أن يسقط علينا السماء، كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل. فقال عليه السّلام: «ذلك إلى اللّه، إن شاء فعل» و قال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا باللّه و الملائكة قبيلا.

و قام عبد اللّه بن أبي امية بن المغيرة المخزومي، [و هو]ابن عاتكة بنت عبد المطلب، ابن عمّة النبي، ثمّ أسلم بعد و حسن إسلامه، فقال: لا اؤمن بك أبدا حتى تتّخذ إلى السماء سلّما و ترقى فيه، و أنا أنظر حتى تأتينا و تأتي بنسخة منشورة معك و نفر من الملائكة يشهدون لك أنّك كما تقول. فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أهله حزينا لما فاته من متابعة قومه، و لما رأى من مباعدتهم عنه، فأنزل اللّه الآيات (1).

و عن تفسير الإمام عليه السّلام، عن أبيه: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش، منهم: الوليد بن المغيرة المخزومي، و أبو البختري بن هشام، و أبو جهل بن هشام، و العاص بن وائل السّهمي، و عبد اللّه بن أبي امية المخزومي، و كان معهم جمع ممّن يليهم كثير، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب اللّه، و يؤدّي إليهم من اللّه أمره

ص: 89


1- . تفسير روح البيان 5:202، أسباب النزول للواحدي:166.

و نهيه. فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمّد، و عظم خطبه، فتعالوا نبدأ بتقريعه و تبكيته و توبيخه، و الاحتجاج عليه، و إبطال ما جاء به، ليهون خطبه على أصحابه، و يصغر قدره عندهم، و لعله ينزع عمّا هو فيه من غيّه و باطله و تمرّده و طغيانه، فإن انتهى و إلاّ عاملناه بالسيف الباتر.

قال أبو جهل: فمن الذي يلي كلامه و مجادلته؟ قال عبد اللّه بن أبي امية: أنا إلى ذلك، أفما ترضاني له قرنا حسيبا و مجادلا كفيا؟ قال أبو جهل: بلى. فأتوه بأجمعهم، فابتدأ عبد اللّه بالكلام، فقال: يا محمّد، لقد ادّعيت دعوى عظيمة، و قلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول رب العالمين، و ما ينبغي لربّ العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسولا [له]، و أنت بشر مثلنا تأكل كما نأكل و تمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا ملك الرّوم، و هذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلاّ كثير المال عظيم الخطر (1)له قصور و دور و فساطيط و خيام و عبيد و خدّام، و ربّ العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده، و لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدّقك و نشاهده، بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا نبيا، لكان يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، ما أنت يا محمّد إلاّ مسحور و لست بنبي.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هل بقي [من كلامك]شيء؟ فقال: بلى، لو أراد اللّه أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجلّ من [فيما]بيننا مالا و أحسنه حالا، فهلاّ نزل القرآن الذي تزعم أنّ اللّه أنزله عليك و بعثك به رسولا على رجل من القريتين عظيم؛ إمّا الوليد بن المغيرة بمكة، و إما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هل بقي من كلامك شيء؟ فقال: بلى، لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه، فإنّها ذات حجارة و عرة و جبال، تكسح أرضها و تحفرها و تجري فيها العيون، فإننا إلى ذلك محتاجون، أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتأكل منهما و تطعمنا، فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فانّك قلت لنا: وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ اَلسَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (2)فلعلنا نقول ذلك، و قال: أو تأتي باللّه و الملائكة قبيلا، تأتي به و بهم و هم لنا مقابلون، أو يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه و تغنينا به، فلعلنا نطغى، فأنّك قلت لنا: إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنى (3).

ثمّ قال: أو ترقى في السماء، أي تصعد في السماء، و لن نؤمن لرقيك، أي لصعودك، حتى تنزل علينا كتابا نقرأه فيه: من اللّه العزيز الحكيم إلى عبد اللّه بن أبي امية المخزومي و من معه، أن آمنوا بمحمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب فانه رسولي و صدّقوه في مقاله فانه من عندي، ثمّ لا أدري يا

ص: 90


1- . في المصدر: عظيم الحال.
2- . الطور:52/44.
3- . العلق:96/6 و 7.

محمّد إذا فعلت هذا كلّه أؤمن بك أم لا أؤمن بك، و لو رفعتنا إلى السماء و فتحت أبوابها و أدخلتناها لقلنا: إنّما سكّرت أبصارنا و سحرتنا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أبقي شيء من كلامك يا عبد اللّه؟ قال: أو ليس فيما أوردته عليك كفاية و بلاغ؟ ! ما بقي شيء، فقل ما بدا لك، و أفصح عن نفسك إن كانت لك حجّة، و آتنا بما سألناك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ أنت السامع لكلّ صوت، و العالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل عليه وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ الآية إلى قوله: قُصُوراً (1)، و انزل عليه فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ (2)الآية، و أنزل عليه وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً (3)الآية.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما ما ذكرت من أنّي آكل الطعام، إلى أن قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و أما قولك لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، إلى آخر ما قلت، فانّك اقترحت على محمّد رسول ربّ العالمين أشياء منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا على نبوته، و رسول اللّه يرتفع من أن يغتنم جهل الجاهلين و يحتجّ عليهم بما لا حجة فيه.

و منها ما لو جاءك به لكان فيه هلاكك، و إنّما يؤتى بالحجج و البراهين ليلزم عباد اللّه الايمان لا بما يهلكون به، و إنّما اقترحت هلاكك، و ربّ العالمين أرحم بعباده و أعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما يقترحون.

و منها المحال الذي لا يصحّ و لا يجوز كونه، و رسول اللّه يعرّفك ذلك، و يقطع معاذيرك، و يضيّق عليك سبيل مخالفته، و يلجئك بحجج اللّه إلى تصديقه حتى لا يكون لك عنه محيد و لا محيص.

و منها ما قد اعترفت على نفسك أنّك فيه معاند متمرد، لا تقبل حجة، و لا تصغي إلى برهان، و من كان كذلك فداؤه عذاب النار النازل من سمائه أو في جحيمه، أو سيوف أوليائه.

و أمّا قولك يا عبد اللّه لن نؤمن لك حتى تفجر [لنا]من الأرض ينبوعا بمكة هذه، فانّها ذات أحجار و صخور و جبال تكسح أرضها و تحفرها و تجري فيها العيون، فانّنا إلى ذلك محتاجون، فانّك سألت هذا و أنت جاهل بدلائل اللّه. يا عبد اللّه، أ رأيت لو فعلت كنت من أجل ذلك نبيا، أ رأيت الطائف التي [لك]فيها بساتين، أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها و ذلّلتها و كسحتها و أجريت فيها عيونا استنبطتها؟ قال: بلى. قال: و هل لك في هذا نظراء؟ قال: بلى، قال: أفصرت بذلك أنت و هم أنبياء! قال: لا. قال: فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمّد لو فعله على نبوته، فما هو إلاّ كقولك لن نؤمن لك

ص: 91


1- . الفرقان:25/7-10.
2- . هود:11/12.
3- . الأنعام:6/8.

حتى تقوم و تمشي على الأرض، أو حتى تأكل الطعام كما ياكل الناس.

و أما قولك يا عبد اللّه: أو تكون لك جنّة من نخيل و عنب فتأكل منها و تطعمنا، فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو ليس لك و لأصحابك جنان من نخيل و عنب بالطائف تأكلون و تطعمون منها، و تفجّر الأنهار خلالها تفجيرا، أفصرتم بهذا أنبياء؟ قال: لا. قال: فما بال اقتراحكم على رسول اللّه أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلّت على صدقه، بل لو تعاطاها لدلّ تعاطيه على كذبه؛ لأنّه حينئذ يحتجّ بما لا حجّة فيه، و يخدع الضعفاء عن عقولهم و أديانهم، و رسول ربّ العالمين يجلّ و يرتفع عن هذا.

ثمّ قال عليه السّلام: يا عبد اللّه، و أمّا قولك: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فانّك قلت: وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ اَلسَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ فإنّ في سقوط السماء عليكم هلاككم و موتكم، و إنما تريد بهذا أن تهلك، و رسول رب العالمين أرحم بك من ذلك و لا يهلكك، و لكنّه يقيم عليك حجج اللّه، و ليس حجج اللّه لنبيه على حسب اقتراح عباده؛ لأنّ العباد جهّال بما يجوز من الصلاح و بما لا يجوز منه من الفساد (1)، و قد يختلف اقتراحهم و يتضادّ حتى يستحيل وقوعه، فإنّه لو كان إلى اقتراحاتهم [واقعة]لجاز أن تقترح أنت أن تسقط السماء عليكم، و يقترح غيرك أن لا تسقط السماء عليكم، بل أن ترتفع الأرض إلى السماء و تقع [السماء]عليها، و كان ذلك تضادّ و تنافي و يستحيل وقوعه، و اللّه لا يجري تدبيره على ما يلزمه المحال.

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: و هل رأيت يا عبد اللّه طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحاتهم، و إنّما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه أحبّه العليل أو كرهه، فأنتم المرضى و اللّه طبيبكم، فان انقدتم لدوائه شفاكم، و إن تمردّتم عليه أسقمكم، و بعد فمتى رأيت يا عبد اللّه مدّعي حقّ من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكّامهم فيما مضى بيّنة [على]دعواه على حسب اقتراح المدّعى [عليه]إذن ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى و لا حقّ، و لا كان بين ظالم و مظلوم، و لا صادق و لا كاذب فرق.

ثمّ قال: يا عبد اللّه، و أمّا قولك: أو تأت باللّه و الملائكة قبيلا يقابلوننا و نعاينهم. فانّ هذا من المحال الذي لا خفاء به، إنّ ربي عز و جل ليس كالمخلوقين يجيئ و يذهب و يتحرّك و يقابل شيئا حتى يؤتى به، فقد سألتم بهذا المحال، و إنّما هذا الذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع و لا تبصر، و لا تعلم و لا تغني عنك شيئا و لا عن أحد.

يا عبد اللّه، أو ليس لك جنان و ضياع بالطائف و عقار بمكة و قوّام عليها؟ قال: بلى. قال: أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك و بين معامليك؟ قال: بسفراء، قال: أ رأيت لو قال معاملوك

ص: 92


1- . في المصدر: و بالفساد.

و أكرتك و خدمك لسفرائك: لا نصدّقكم في هذه السفارة إلاّ أن تأتونا بعبد اللّه بن أبي امية لنشاهده و نسمع ما تقولون عنه شفاها، أكنت تسوّغهم هذا، أو كان يجوز لهم عندك ذلك؟ قال: لا. قال: فما الذي يجب على سفرائك؛ أ ليس عليهم أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلّهم على صدقهم؟ قال: بلى. قال: يا عبد اللّه، أ رايت سفيرك لو أنّه لمّا سمع منهم هذا، عاد إليك فقال: قم معي، فإنّهم قد اقترحوا عليّ مجيئك، أ ليس يكون هذا لك مخالفا، و تقول لهم: إنّما أنت رسول لا مشير و لا آمر؟ قال: بلى.

قال: فكيف صرت تقترح على رسول ربّ العالمين ما لا تسوّغ لأكرتك و معامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم، فكيف أردت من رسول ربّ العالمين أن يستذمّ (1)إلى ربّه بأن يأمر عليه و ينهى، و أنت لا تسوّغ مثل ذلك لرسول لك إلى أكرتك و قوّامك؟ ! هذه حجّة قاطعة لابطال جميع ما ذكرت في كلّ ما اقترحته [يا عبد اللّه].

و أمّا قولك يا عبد اللّه: أو يكون لك بيت من زخرف-و هو الذّهب-أما بلغك أن لعزيز مصر بيوتا من زخرف؟ قال: بلى. قال: أفصار بذلك نبيا؟ قال: لا. قال: فكذلك لا يوجب لمحمّد لو كان له نبوة، و محمّد لا يغتنم جهلك بحجج اللّه.

و أمّا قولك: يا عبد اللّه، أو ترقى في السماء، ثمّ قلت: و لن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه [يا عبد اللّه الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها، و إذا اعترفت على نفسك بأنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول.

ثمّ قلت: «حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه]، و من بعد ذلك لا أدري اؤمن بك أو لا أؤمن بك. فأنت يا عبد اللّه مقر بأنّك تعاند بعد حجّة اللّه عليك، فلا دواء لك إلاّ تأديبه على يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية، و قد أنزل اللّه عليّ كلمة (2)جامعة لبطلان كلّ ما اقترحته.

فقال اللّه تعالى: قل يا محمّد سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً ما أبعد ربّي من أن يفعل الأشياء على قدر ما يقترحه الجهّال بما يجوز و بما لا يجوز! و هل كنت إلاّ بشرا رسولا، لا يلزمني إلاّ إقامة حجّة اللّه التي أعطاني، و ليس لي أن آمر على ربّي و لا أنهى و لا اشير، فأكون كالرسول الذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه، فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما أقترحوه عليه» (3).

أقول: لا شبهة في أنّ عبارة عبد اللّه من مقترحاته لم تكن عبارة الآيات؛ لأنّه لو كانت عين عبارات

ص: 93


1- . استذمّ إليه: فعل ما يذّمه عليه.
2- . في المصدر: حكمة.
3- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:501/314، الاحتجاج:29، تفسير الصافي 3:217.

الآيات لزم أنهم أتوا بمثل بعض القرآن، بل إنّما عبّر الامام عن مطالبهم بعبارات القرآن، و القول بأنّ العبارات قليلة، و القليل لا ينافي التحدّي، ضعيف غايته.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 94 الی 96

ثمّ لمّا حكى سبحانه اقتراحات البشر على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، حكى بعض شبهاتهم في نبوته بقوله: وَ ما مَنَعَ اَلنّاسَ من أَنْ يُؤْمِنُوا بالحقّ إِذْ جاءَهُمُ سبب اَلْهُدى و الرّشاد إليه من النبي و الكتاب، أو ما منعهم من الايمان بالرسول بعد ظهور دلائل صدقه و وفور معجزاته مانع إِلاّ أَنْ قالُوا تعجّبا و إنكارا: أَ بَعَثَ اَللّهُ بَشَراً فينا رَسُولاً إلينا مع قدرته على بعث الملك، و كونه أقرب قبولا؟

وَ ما مَنَعَ اَلنّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اَللّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)

قُلْ يا محمّد في جوابهم: لمّا كنتم بشرا لا تقدرون على رؤية الملك على صورته، و لا تستأنسون به، وجب على اللّه بمقتضى حكمته البالغة أن يبعث الرسول إليكم من البشر حتى يمكنكم مجالسته و الاستفادة منه و لَوْ كانَ فِي اَلْأَرْضِ مكان البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ على أقدامهم و لا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء، فيسمعوا من أهلها و يتعلّموا منهم ما يجب عليهم علمه، و كانوا مُطْمَئِنِّينَ و مستقرّين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ مَلَكاً ليكون رَسُولاً منّا إليهم يبلّغهم المعارف و الأحكام، و يهديهم إلى وظائف العبودية.

و قُلْ لهم: إن تريدوا الشاهد و الدليل على صدق دعواي كَفى بِاللّهِ شَهِيداً و مصدّقا لدعواي بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ حيث أظهر المعجزات القاهرات الدالة على صدقي، بحيث لم يبق لأحد مجال الشكّ فيه إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ ظواهرهم و بواطنهم خَبِيراً بَصِيراً فيجازي من صدقني و أطاعني بقلبه و لسانه و ظاهره و باطنه بأفضل الجزاء، و يعاقب من أنكرني أشدّ العقاب.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 97 الی 98

ص: 94

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ وفور الدلائل لا يوجب الايمان إلاّ مع توفيقه بقوله: وَ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ و يوفّقه لتبعية الرسول فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ بالخصوص وَ مَنْ يُضْلِلْ اللّه بسلب التوفيق منه و يخذله و يكله إلى نفسه فَلَنْ تَجِدَ يا محمّد لَهُمْ في الدنيا أَوْلِياءَ و أحبّاء مِنْ دُونِهِ تعالى يهدونهم إلى الحقّ.

وَ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)في الحديث: «إنّما أنا رسول، و ليس إليّ من الهداية شيء، و لو كانت الهداية إليّ لآمن كلّ من في الأرض، و إنّما إبليس مزيّن و ليس له من الضلالة شيء، و لو كانت الضلالة إليه لأضلّ كلّ من في الأرض، و لكن اللّه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء» (1).

ثمّ هدّد الضالين بقوله: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ماشين عَلى وُجُوهِهِمْ بدلا من أقدامهم.

عن أبي هريرة: أنّ رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله: يا نبي اللّه، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «إنّ الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه» (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام: عَلى وُجُوهِهِمْ قال: «على جباههم» (3)حال كونهم عُمْياً مكفوفي الأبصار وَ بُكْماً خرس الألسن وَ صُمًّا مسدودي الآذان، لأنّهم غضّوا أعينهم في الدنيا عن النظر في الآيات، و تصامموا عن استماع الحقّ و النّصح، و أبوا عن النّطق بما فيه رضا اللّه.

عن ابن عباس قال: لا يرون ما يسرّهم، و لا ينطقون بما يقبل منهم، و لا يستمعون ما يلذّ مسامعهم (4). نقل أنّ رجلا قال لابن عباس: أ ليس أنّه تعالى يقول: وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنّارَ (5)و قال: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (6)و قال: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (7)و قال: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها (8)و قال حكاية عن الكفار: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (9)فثبت بهذه الآيات أنهم يرون و يسمعون و يتكلّمون، فكيف قال هاهنا: عميا و بكما و صما؟

قال ابن عباس: عميا عن النظر إلى ما جعله اللّه لأوليائه، بكما عن مخاطبه اللّه و مخاطبة الملائكة المقربين، صمّا عن سماع ثناء اللّه تعالى على أوليائه (10).

ص: 95


1- . تفسير روح البيان 5:205.
2- . تفسير الرازي 21:60، مجمع البيان 6:682، عن أنس بن مالك.
3- . تفسير العياشي 3:82/2610، تفسير الصافي 3:224.
4- . تفسير روح البيان 5:206.
5- . الكهف:18/53.
6- . الفرقان:25/12.
7- . الفرقان:25/13.
8- . النحل:16/111.
9- . الأنعام:6/23.
10- . تفسير الرازي 21:61.

و قال مقاتل: إنّه حين يقال لهم: اِخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (1)يصيرون عميا و بكما و صمّا، أمّا قبل ذلك فهم يرون و يسمعون و ينطقون (2).

و قيل: إنّهم راؤون سامعون ناطقون في الموقف، فاذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار، جعلهم اللّه عميا و بكما و صمّا (3).

و يمكن القول بأنهم حال حشرهم عمي و بكم و صمّ، ثمّ عند ظهور أهوال القيامة من ظهور لهب النار و تغيّظ جهنم و زفيرها، و عتاب اللّه لهم، يصيرون رائين سامعين ناطقين.

ثمّ يكون مَأْواهُمْ و منزلهم جَهَنَّمُ فيستقرّون فيها أبدا كُلَّما خَبَتْ و سكنت بسكون لهبها، و هو حين أكلت جلودهم و لحومهم بحيث لم يبق ما تتعلق به النار زِدْناهُمْ سَعِيراً و لهيبا بتبديل جلودهم بجلود غيرها ذلِكَ العذاب ليس بسبب التشفّي بل جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا و براهين توحيدنا و معجزات نبينا، وَ بأنهم قالُوا إنكارا للمعاد أَ إِذا متنا و كُنّا عِظاماً نخرة بالية وَ رُفاتاً و أجزاء متفرّقة أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ من القبور إلى المحشر حال كوننا مخلوقين خَلْقاً جَدِيداً و محيون حياة ثانية.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 99 الی 100

ثمّ لمّا كان منشأ استبعادهم المعاد الجهل بقدرة اللّه، أنكر عليهم ترك التفكّر فيها بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا قيل: إنّ التقدير ألم يتفكّروا، و لم يعلموا (4)أَنَّ اَللّهَ القادر اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ مع غاية عظمهما، و كون خلقهما أعجب من خلق الكفّار البتة قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ و يوجدهم ثانيا بصورتهم الاولى بعد صيرورتهم رمما و رفاتا وَ لكن جَعَلَ اللّه بحكمته البالغة لا عادته لَهُمْ و بعثه إياهم أَجَلاً معينا و وقتا محققا لا رَيْبَ للعقلاء فِيهِ أنّه آت، و هو يوم القيامة.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى اَلظّالِمُونَ إِلاّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفاقِ وَ كانَ اَلْإِنْسانُ قَتُوراً (100)و قيل: إنّ المراد بالأجل وقت الموت (5)فَأَبَى اَلظّالِمُونَ و امتنع الكافرون عن الانقياد للحقّ، و لم يرضوا لأنفسهم إِلاّ كُفُوراً و نفورا عنه و جحودا به.

ص: 96


1- . المؤمنون:23/108.
2- . تفسير الرازي 21:61، تفسير روح البيان 5:206.
3- . تفسير الرازي 21:61.
4- . تفسير أبي السعود:5:197، تفسير روح البيان 5:206.
5- . تفسير البيضاوي 1:583، تفسير الصافي 3:224.

ثمّ لمّا سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله تفجير العيون لهم و تكثير أموالهم، ذمّهم سبحانه بأن كثرة الأموال لا تزيدهم إلاّ بخلا بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء المقترحين عليك المنكرين للمعاد: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ على سبيل الفرض خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي و رزقه الذي يقسمه بين الموجودات إِذاً و اللّه لَأَمْسَكْتُمْ عن بذل شيء منه و بخلتم خَشْيَةَ اَلْإِنْفاقِ و مخافة النّفاد لطول أملكم، و توهّم بقائكم و خلودكم في الدنيا و غفلتكم عن الموت وَ كانَ اَلْإِنْسانُ لجهله بفنائه و توهّم دوام حاجته قَتُوراً و مبالغا في البخل و الضّنّة.

القمي في هذه الآية، قال: لو كانت الامور (1)بيد الناس، لما أعطوا شيئا مخافة الفناء (2)وَ كانَ اَلْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 101 الی 104

ثمّ لما سأل المشركون من النبي صلّى اللّه عليه و آله معجزات عديدة اقتراحا و تعنّتا، سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و بالغ في ردّ المشركين ببيان عدم إيمان معاندي موسى مع رؤيتهم المعجزات العظيمة منه بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ و معجزات قاهرات فَسْئَلْ يا محمّد في حضور المشركين بَنِي إِسْرائِيلَ عن ذلك حتى يصدّقوك، و يعلم المشركون صدق قولك بتصديقهم إياك، و شهادتهم بصحة خبرك إِذْ من المعلوم أن موسى جاءَهُمْ بتلك الآيات و هم مطّلعون عليها.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)و قيل: يعني سل مؤمني بني إسرائيل كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه لتزداد [يقينا و طمأنينة، أو ليظهر صدقك] (4)، أو المراد فقلنا لموسى اسأل من فرعون أن يرسل معك بني إسرائيل (5)، أو المراد فأسأل يا محمّد من بني إسرائيل عمّا جرى بين موسى و فرعون.

قيل: إنها صيرورة العصا ثعبانا، و اليد البيضاء، و الطوفان، و الضّفادع، و الجراد، و القمّل، و الدم، و الطّمس (6).

ص: 97


1- . في المصدر: الأموال.
2- . في المصدر: النفاد.
3- . تفسير القمي 2:29، تفسير الصافي 3:224.
4- . أثبتناه من تفسير أبي السعود 5:198.
5- . تفسير روح البيان 5:208.
6- . تفسير الرازي 21:64، تفسير البيضاوي 1:583، تفسير أبي السعود 5:198، تفسير روح البيان 5:208، و قد ذكر في المتن ثمان آيات.

و عن الصادق عليه السّلام: «هي: الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و الطّوفان، و البحر، و الحجر، و العصا و يده» (1).

و عن الكاظم عليه السّلام و قد سأله يهودي عنها، فقال: «العصا، و إخراج يده من جيبه بيضاء و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و رفع الطّور، و المنّ و السّلوى آية واحدة [و فلق البحر]» (2).

روى الفخر الرازي عن صفوان بن عسال أنه قال: إنّ يهوديا قال لصاحبه: أذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات، فذهبا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فسألاه عنها، فقال: «هنّ أن لا يشركوا باللّه شيئا، و لا يسرفوا، و لا يزنوا، و لا يقتلوا، و لا يسحروا، و لا يأكلوا الرّبا، و لا يقذفوا المحصنة، و لا يولّوا الفرار يوم الزحف، و عليكم يا يهود أن لا تعدوا في السبت» . فقام اليهوديان فقبّلا يديه و رجليه، و قالوا: نشهد أنّك نبي، و لو لا نخاف القتل لاتبعناك، الخبر (3).

فلم ينفع في إيمان المعاندين، فانّه عليه السّلام لما أظهرها فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ عنادا و لجاجا و استكبارا: إِنِّي لَأَظُنُّكَ و اتخيّل يا مُوسى أنّك صرت مَسْحُوراً و مجنونا، أو مختلّ العقل بسحر السّحرة، و لذا تتكلّم بمثل هذه الكلمات.

و قيل: يعني أتوهّم أنك ذو السّحر (4)، و إنّما تفعل هذه الأفاعيل بالسّحر قالَ له موسى: و اللّه لَقَدْ عَلِمْتَ أنّه ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات التي أظهرتها إِلاّ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مدبّرهما حال كونها، أو لتكون للناس بَصائِرَ و دلائل واضحّة على صدقي فيما أقول، و إنّما أنت معاند و مكابر وَ إِنِّي و اللّه لَأَظُنُّكَ و أعتقد أنّك يا فِرْعَوْنُ تصير مَثْبُوراً و هالكا،

أو تكون مصروفا من كلّ خير مطبوعا على الشرّ، أو غير بصير و ناقص العقل فَأَرادَ فرعون على حسب ظنّه الكاذب في حقّ موسى عليه السّلام و أتباعه من بني إسرائيل أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ و يزعجهم مِنَ وجه اَلْأَرْضِ بالقتل، أو يخرجهم من أرض مصر، كما أرادت قريش أن يخرجوك من مكة فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ و اتّبعه من القبط جَمِيعاً في البحر، و نجّينا موسى عليه السّلام و من معه جميعا منه.

عن الباقر عليه السّلام: «أراد فرعون أن يخرجهم من الأرض، و قد علم فرعون و قومه ما أنزل تلك الآيات إلاّ اللّه» (5).

وَ قُلْنا غب (6)إغراق فرعون و قومه و إهلاكهم مِنْ بَعْدِهِ بتوسّط موسى لِبَنِي إِسْرائِيلَ التابعين لموسى اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ التي أراد أعداءكم أن يخرجوكم منها و تعيشوا فيها برفاه و سعة

ص: 98


1- . تفسير القمي 2:29، الخصال:423/24، تفسير الصافي 3:225.
2- . قرب الإسناد:318/1228، تفسير الصافي 3:225.
3- . تفسير الرازي 21:64.
4- . تفسير روح البيان 5:208.
5- . تفسير القمي 2:29، تفسير الصافي 3:226.
6- . أي بعد.

مدّة أعماركم في الدنيا فَإِذا جاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ و وقت قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ في عرصة القيامة أنتم و أعداؤكم حال كونكم لَفِيفاً و مختلطا بعضكم ببعض، ثمّ يمتاز المؤمن من الكافر، فنحكم بينهم بما يستحقّون.

عن الباقر عليه السّلام: «لَفِيفاً يقول، جميعا» . و في رواية «أي من كلّ ناحية» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 105 الی 106

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر معجزات موسى عليه السّلام و امتناع قومه من الايمان به، بيّن عظم شأن القرآن الذي هو أعظم معجزات حبيبه بقوله: وَ بِالْحَقِّ و معه، أو بغرض إظهار الحقّ محضا أَنْزَلْناهُ عليك وَ بِالْحَقِّ و معه، أو على النبي الحقّ نَزَلَ من عندنا، و إنّ اقترح الكفّار المعاندين عليك غيره و تمرّدوا من الايمان بك، فليس عليك شيء، فانّما بعثناك وَ ما أَرْسَلْناكَ إلى الناس إِلاّ لتكون مُبَشِّراً للمؤمنين بالثواب وَ نَذِيراً للكافرين، و مخوفا لهم من العقاب وَ أنزلنا قُرْآناً عظيم الشان، و إنّما فَرَقْناهُ و جعلناه مميزا للحق عن الباطل، أو أقساما من الخبر و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و الأمثال و العبر، أو متفرّقا و متدرّجا في النزول لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّاسِ عَلى مُكْثٍ و مهل و تأنّ حتى يكون أيسر للحفظ و أعون للفهم وَ نَزَّلْناهُ عليك تَنْزِيلاً خاصا موافقا للحكمة و مناسبا للمقامات.

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105) وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106)

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 107 الی 109

ثمّ هدّد سبحانه المنكرين بقوله: قُلْ يا محمّد، للجاحدين للقرآن المقترحين عليك غيره من المعجزات: إنّ اللّه قد أتمّ عليكم بنزوله الحجّة إن شئتم آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا به لا يتفاوت في علوّ شأنه و عظم قدره و تمامية الحجّة به.

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ و المعرفة بمعنى النبوة و دلائلها (2)بقرائتهم الكتب السماوية، و تمكّنوا من التمييز بين الحقّ و الباطل، و المعجز و السحر، و بشّروا ببعثة محمّد و نزول القرآن مِنْ قَبْلِهِ و هم

ص: 99


1- . تفسير القمي 2:29، تفسير الصافي 3:226.
2- . في النسخة: و دلائله.

الخصيصون من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلاّم و ورقة بن نوفل و أضرابهما إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ هذا القرآن الذي تستهزئون به و تقولون إنّه كلام البشر و أساطير الأولين يَخِرُّونَ على الأرض لِلْأَذْقانِ و يسقطون على الوجوه حال كونهم سُجَّداً للّه تشكّرا على إنجاز وعده و إتمام نعمته

وَ يَقُولُونَ في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا و تنزّه إلهنا اللطيف بنا عن الخلف في الوعد إِنْ الشأن كانَ وَعْدُ رَبِّنا ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله في آخر الزمان، و إنزال الكتاب الذي هو أفضل الكتب عليه، أو وعده بالمعاد و الحشر للحساب كما قيل لَمَفْعُولاً و منجزا البتة و واقعا لا محالة، لاستحالة الخلف منه (1)

وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ عند استماع القرآن و هم يَبْكُونَ من خشية اللّه و مواعظه، وَ يَزِيدُهُمْ سماع القرآن خُشُوعاً و ضراعة، كما يزيدهم علما و عرفانا باللّه، و يقينا بصدق نبيه و جلالة كتابه، فاذا كان حال العلماء عند استماع القرآن و تلاوته هذا، فأيّ اعتناء بتكذيب هؤلاء السّفلة الحمقاء؟

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 110

ثمّ لمّا ذكر سبحانه خضوع العلماء و تضرّعهم إليه، بيّن كيفية الدعاء و تسميته بقوله: قُلِ يا محمّد، لمن يدعو اللّه اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ لا تفاوت بين الاسمين أَيًّا من الاسمين ما تَدْعُوا و تقولوا في دعائكم كان حسنا مرضيا عند اللّه، بل عليكم أن تخصّوه بهذين الاسمين فَلَهُ بالخصوص اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى لأنّ له الصفات العليا.

قُلِ اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)روي أنّ اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّك لتقلّ ذكر الرحمن، و قد أكثره اللّه في التوراة، فنزلت (2).

و قيل: إنها نزلت حين سمع المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «يا اللّه، يا رحمن» فقالوا: إنّه ينهانا أن نعبد إلهين و هو يدعو إلها آخر (3).

ثمّ أنه تعالى بعد تعليم كيفية دعائه و تسميته، بيّن كيفية قراءة القرآن بقوله: وَ لا تَجْهَرْ و لا تعل بصوتك بِصَلاتِكَ و قراءتك فيها وَ لا تُخافِتْ بِها بحيث لا تسمع نفسك وَ اِبْتَغِ و اطلب في كيفية القراءة بَيْنَ ذلِكَ المذكور من النحوين سَبِيلاً و طريقة.

عن ابن عبّاس، في هذه الآية، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يرفع صوته بالقرآن (4)، فاذا سمعه المشركون

ص: 100


1- . تفسير روح البيان 5:211.
2- . تفسير روح البيان 5:212.
3- . تفسير الصافي 3:227، تفسير روح البيان 5:212.
4- . في تفسير الرازي: بالقراءة.

سبّوه و سبّوا من جاء به، فأوحى اللّه إليه وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون فيسبّوا اللّه عدوا بغير علم وَ لا تُخافِتْ بِها فلا تسمع أصحابك وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (1).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله طاف بالليل على دور الصحابة، و كان أبو بكر يخفي صوته بالقرآن (2)في صلاته، و كان عمر يرفع صوته، فلمّا جاء النهار و جاء أبو بكر و عمر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبي بكر: «لم تخفي صوتك؟» فقال: اناجي ربي، و قد علم حاجتي. و قال لعمر: «لم ترفع صوتك؟» فقال: أزجر الشيطان، و اوقظ الوسنان، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، و أمر عمر أن يخفض صوته قليلا (3).

و عنهما عليهما السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا كان بمكة جهر بصوته، فيعلم بمكانه المشركون، فكانوا يؤذونه، فأنزل اللّه الآية عند ذلك» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «نسختها فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (5).

و عن الباقر عليه السّلام، أنه قال للصادق عليه السّلام: «يا بني عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوهما. قال: و كيف ذلك يا أبه؟ قال: مثل قول: اللّه: وَ لا تَجْهَرْ الآية، و مثل قوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً (6)الآية» الخبر (7).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل: أعلى الامام أن يسمع من خلفه و إن كثروا؟ قال: «ليقرأ (8)وسطا» ثمّ تلا هذه الآية (9).

و قيل: إنّ المعنى و لا تجهر بصلواتك كلّها، و لا تخافت بها كلّها، و ابتغ بين ذلك سبيلا، بأن تجهر بصلاة الليل و لا تخافت بصلاة النهار (10).

و قيل: إنّ المراد بالصلاة الدعاء، روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه قال في هذه الآية: «إنّما ذلك في الدعاء و المسألة، لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعيّر بها» (11).

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «الجهر بها: رفع الصوت، و المخافتة: ما لا تسمع نفسك (12)، و اقرأ ما بين ذلك» (13).

و عن الباقر عليه السّلام: «الاجهار: أن ترفع صوتك تسمعه من بعد عنك، و الاخفات أن لا تسمع [من]

ص: 101


1- . تفسير الرازي 21:70.
2- . في تفسير الرازي: بالقراءة.
3- . تفسير الرازي 21:70، تفسير روح البيان 5:213.
4- . تفسير العياشي 3:84/2617، تفسير الصافي 3:228.
5- . تفسير العياشي 2:439/2358، تفسير الصافي 3:228 و الآية من سورة الحجر:15/94.
6- . الإسراء:17/29.
7- . تفسير العياشي 3:84/2621، تفسير الصافي 3:228.
8- . في تفسير العياشي: يقرأ قراءة.
9- . تفسير العياشي 3:83/2614، تفسير الصافي 3:228.
10- . تفسير الرازي 21:70.
11- . تفسير الرازي 21:71.
12- . في تفسير القمي: بإذنك.
13- . تفسير القمي 2:30، تفسير الصافي 3:227.

معك إلاّ يسيرا» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «الجهر بها: رفع الصوت، و الاخفات: ما لم تسمع اذناك، و ما بين ذلك: قدر ما تسمع اذنيك» (2).

و عنه عليه السّلام: «المخافتة: ما دون سمعك، و الجهر: أن ترفع صوتك شديدا» (3).

و عنه عليه السّلام: «تفسيرها لا تجهر بولاية علي و ما أكرمته به حتى آمرك بذلك وَ لا تُخافِتْ بِها يعني لا تكتمها عليا، و أعلمه بما أكرمته به وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً يعني سلني أن آذن لك أن تجهر بأمر علي و بولايته، فأذن له باظهار ولايته يوم غدير خمّ» (4).

أقول: المراد بالتفسير هنا هو التأويل.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 111

ثمّ أنّه تعالى بعد تعليم كيفية الدعاء و قراءة القرآن، علّم كيفية تحميده بقوله: وَ قُلِ يا محمّد، إذا أردت تحميد ربك على نعمه و إفضاله، فاحمده بصفاته التي فيها تنزيهه عن أعظم النقائص بأن تقول: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ و لم يختر لنفسه (5)وَلَداً ذكورا أو إناثا، لأنّ إيجاد الولد من صفات الأجسام و من شؤون الحاجة، و هو تعالى خالق الاجسام و غنيّ بالذات، و فيه ردّ على اليهود القائلين بأن العزيز ابن اللّه، و على النصارى القائلين بأنّ المسيح ابن اللّه، على بني مدلج القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه.

وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)وَ لَمْ يَكُنْ في الأزل، و لا يكون إلى الأبد لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ و السلطنة في عالم الوجود، لاستلزام وجود الشريك التعدّد و التحدّد في الذات، و يمتنع التعدّد و التحدّد في واجب الوجود، و فيه ردّ على النصارى القائلين بأنّ اللّه ثالث ثلاثة، و على عبدة الكواكب و الأصنام.

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ و صديق و معاون مِنَ أجل دفع اَلذُّلِّ عن نفسه بموالاته، لأنّ له العزّة جميعا، و فيه ردّ على الصابئين القائلين بأنه لو لا أولياء اللّه لذلّ، فلمّا عرفته بكمال الذات و الصفات فعظّمه وَ كَبِّرْهُ من جميع النقائص تعظيما و تَكْبِيراً كثيرا.

ص: 102


1- . تفسير القمي 2:30، تفسير الصافي 3:227.
2- . تفسير العياشي 3:84/2619، تفسير الصافي 3:227.
3- . تفسير العياشي 3:83/2615، تفسير الصافي 3:228.
4- . تفسير العياشي 3:85/2622، تفسير الصافي 3:228.
5- . في النسخة: يختار نفسه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه أمر من قرأ هذه الآية أن يكبّر ثلاثا (1).

و عنه عليه السّلام قال رجل عنده: (اللّه أكبر) فقال: «اللّه أكبر من أيّ شيء؟» فقال: من كلّ شيء. فقال: «حدّدته» فقال الرجل: كيف أقول؟ قال: «قل اللّه أكبر من أن يوصف» (2).

و في رواية أخرى قال: «أو كان شيء فيكون أكبر منه؟» فقيل: و ما هو؟ قال: «أكبر من أن يوصف» (3).

و روى بعض العامة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية، و يسمّيها آية العزّة (4).

و عن معاذ بن جبل: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «عليكم بآية العزّة» . قيل: يا رسول اللّه، ما هي؟ قال: قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي إلى أخرها (5).

و في (الفقيه) في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: «أمان لامّتى من السّرق قُلِ اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ (6)» إلى أخر السورة (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة، لم يمت حتى يدرك القائم عجّل اللّه فرجه الشريف [و يكون من أصحابه]» (8).

الحمد للّه الذي منّ عليّ بالتوفيق لاتمام تفسير سورة الاسراء المباركة و أسأله أن يديمه عليّ.

ص: 103


1- . التهذيب 2:297/1195، تفسير الصافي 3:229.
2- . الكافي 1:91/8، تفسير الصافي 3:228.
3- . الكافي 1:91/9، تفسير الصافي 3:228.
4- . تفسير البيضاوي 1:586، تفسير روح البيان 5:213.
5- . تفسير روح البيان 5:213، الجامع للقرطبي 10:345.
6- . الإسراء:17/110.
7- . من لا يحضره الفقيه 4:268/824، تفسير الصافي 3:229.
8- . ثواب الاعمال:107، تفسير الصافي 3:229.

ص: 104

في تفسير سورة الكهف

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة المبتدأة بثناء ذاته بقدرته على تكميل محمد صلّى اللّه عليه و آله و أسرائه إلى أعلى مراتب العبودية، و رفعه إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، المختومة بحمد نفسه و ثنائها بالصفات الكمالية، و نزاهته من اتخاذ الولد و الشريك و الولي، أردفها بسورة الكهف المبدوءة. بحمد ذاته المقدسة على أعظم نعمائه، و هو بعث خاتم الانبياء صلّى اللّه عليه و آله لهداية الناس و إنزال أعظم الكتب إليه المختومة بأمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بدعوة الناس إلى توحيده و تنزيهه من الشريك، و القيام بوظائف العبودية و الأعمال الصالحة، فابتدأ فيها على حسب دأبه في الكتاب العزيز بذكر اسمائه المباركة، بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ اَلَّذِينَ قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً (5)

ثمّ افتتحها بحمد ذاته على أعظم النّعم بقوله: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمّد صلّى اللّه عليه و آله، بتوسّط جبرئيل اَلْكِتابَ الّذي هو أفضل الكتب وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً و اختلالا في اللّفظ، و تناقضا في الآيات، و اختلافا في المطالب، و انحرافا عن الحقّ،

و جعله قَيِّماً و مستقيما، كما عن ابن عبّاس (1)، أو كافلا لمصالح الخلق إلى يوم القيامة.

و عن القمي، قال: هذا مقدّم و مؤخّر، لأنّ معناه: الذي أنزل على عبده الكتاب قيّما و لم يجعل له عوجا (2).

ص: 105


1- . تفسير الرازي 21:75.
2- . تفسير القمي 2:30، تفسير الصافي 3:230.

أقول: نسب الواحدي هذا القول إلى جميع المفسّرين (1).

و قيل: إنّ المقصود من قوله: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أنّه كامل في نفسه، و من قوله: قَيِّماً أنّه قائم بامور غيره و مكمّل للناس، و من المعلوم أنّ كماله في نفسه مقدّم بالطبع على مكمّليته لغيره، فالترتيب المذكورة موافق للعقل (2).

و قيل: إنّ المعنى: و لم يجعل لعبده عوجا و توجّها إلى غير ذاته المقدّسة، بل جعله مستقيما في جميع أحواله (3).

ثمّ بيّن سبحانه الغرض من إنزاله بقوله: لِيُنْذِرَ الذّين كفروا و عملوا السيّئات بَأْساً و عذابا شَدِيداً صادرا مِنْ لَدُنْهُ تعالى من عذاب الاستئصال في الدنيا، أو العقوبة بالنّار في الآخرة وَ يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ بوحدانيّة اللّه و رسالة رسوله و صدق كتابه اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال اَلصّالِحاتِ و العبادات الخالصات لوجه اللّه أَنَّ لَهُمْ في مقابل إيمانهم و أعمالهم أَجْراً حَسَناً من الجنّة و النّعيم الدّائمة حال كونهم مقيمين في ذلك الأجر

ماكِثِينَ و باقين فِيهِ أَبَداً لا زوال له و لا نفاد له

وَ يُنْذِرَ بالخصوص، أكفر الكفرة و أجهلهم؛ و هم المشركون اَلَّذِينَ قالُوا و اعتقدوا أنّه اِتَّخَذَ اَللّهُ و اختار لنفسه وَلَداً ذكورا، كاليهود القائلين بأنّ العزيز ابن اللّه، و النّصارى القائلين بأنّ المسيح ابن اللّه، أو إناثا، كبني مدلج القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه.

و الحال أنّ القائلين بهذا القول السخيف ما لَهُمْ بِهِ أقلّ مرتبة مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ الذين قلّدوهم في ذلك، بل قالوا به بمحض الجهل، و هوى النفس، و عدم التفكّر في كونه ما لا يحتمله العاقل كَبُرَتْ و عظمت تلك المقالة من حيث كونها كَلِمَةً باطلة و مقالة فاسدة في غاية القباحة و الشّناعة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ جرأة على اللّه.

و قيل: إنّ فيه معنى التعجّب، و المراد: ما أكبرها كلمة (4)و مقالة! إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً فظيعا.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 6 الی 8

ثمّ لمّا بيّن سبحانه فضيلة القرآن، و غاية جهل المشركين و شدّة حمقهم الموجبة لتأثّر قلب

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)

ص: 106


1- . تفسير الرازي 21:75.
2- . تفسير الرازي 21:75.
3- . تفسير روح البيان 5:215.
4- . تفسير الرازي 21:78.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حزنه، سلاّه سبحانه بقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ و قاتل أو متعب نَفْسَكَ الشريفة عَلى آثارِهِمْ و مفارقتهم حين فارقوك، أو للتحسّر عليهم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا القرآن الّذي هو أحسن اَلْحَدِيثِ و أفضل الكتب، لأجل أنّك تأسف أَسَفاً و تحزن حزنا شديدا.

و حاصل المراد أنّه تعالى شبّه حال نبيه صلّى اللّه عليه و آله في شفقته و رحمته على الأمّة بمن يتوقّع منه إهلاك نفسه من شدّة الحزن على مفارقة الأحبّة، فسلاّه بأنّه لا يعظم حزنك بسبب كفرهم، فإنّه ليس عليك إلاّ الإنذار و التبشير، لا إيجاد الإيمان في قلوبهم، و إنّما المقصود من إرسال الرسل، و جعل التكاليف، و الإنذار و التبشير، امتحان الخلق و تميّز النفوس الطيّبة من النفوس الخبيثة، فعامل معهم بالمداراة و الإمتحان كما نعامل معهم (1).

إِنّا جَعَلْنا و خلقنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ من المعادن، و النباتات، و الحيوانات، لأجل أن يكون زِينَةً لَها و لأهلها لِنَبْلُوَهُمْ و نمتحنهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً و أخلص عبادة، و أزهد في الدنيا، و أقنع بالكفاف منها، و أيّهم أقبح عملا، و أرغب في الدنيا، و أحرص على جمع زخارفها.

ثمّ أنّهم يكفرون و يتمرّدون، و مع ذلك لا أقطع عنهم النّعم، و أداري بهم (2)، فأنت يا محمّد أيضا دار بهم و لا تترك-لحزنك على كفرهم و لجاجهم-دعوتهم إلى الحقّ وَ إِنّا بعد انقضاء الدنيا و اللّه لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً و أرضا بلا نبات، كما عن الباقر عليه السّلام، أو خرابا، كما عن القمي (3).

و عن السجّاد عليه السّلام: «أنّ اللّه لم يحبّ زهرة الدنيا و عاجلها لأحد من أوليائه، و لم يرغّبهم فيها و في عاجل زهرتها و ظاهر بهجتها، و إنّما خلق الدنيا و أهلها ليبلوهم أيّهم أحسن عملا» (4).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 9

ذكر أصحاب الرقيم

ثمّ استشهد على غاية لطفه بالمؤمنين المعرضين عن الدنيا طلبا للآخرة بقصّة أصحاب الكهف فقال: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ اَلْكَهْفِ و ساكني الغار الواسع في الجبل وَ اَلرَّقِيمِ قيل: هو اسم كلبهم، أو اسم قريتهم، أو جبلهم، أو الوادي الذي كان الجبل فيه، أو اللّوح الذي كتب فيه أسماؤهم و نسبهم و ترجمة أحوالهم (5).

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ اَلْكَهْفِ وَ اَلرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)و عن الصادق عليه السّلام «هم قوم فقدوا، و كتب ملك تلك الديار بأسمائهم و أسماء آبائهم و عشائرهم في

ص: 107


1- . كذا، و الظاهر: فعاملهم بالمداراة و الامتحان كما نعاملهم.
2- . كذا، و الظاهر: و أداريهم.
3- . تفسير القمي 2:31، تفسير الصافي 3:231.
4- . الكافي 8:75/29، تفسير الصافي 3:231.
5- . تفسير البيضاوي 2:4، تفسير أبي السعود 5:206، تفسير روح البيان 5:218.

صحف من رصاص» (1).

و روي أنّ أصحاب الرّقيم كانوا ثلاثة نفر غير أصحاب الكهف، خرجوا من بلدهم لحاجة فأخذهم المطر، فالتجأوا إلى غار، فلمّا دخلوا فيه سقط حجر عظيم من الجبل، فسّد باب الغار بحيث لم يمكنهم الخروج منه، فيأسوا من الحياة، فتضرّعوا إلى اللّه، فتوسّل كلّ منهم إلى عمل خالص للّه صدر منه، فشفّعوه عند اللّه فنجّاهم اللّه به (2).

و على أيّ تقدير كانُوا مِنْ آياتِنا أمرا عَجَباً لا تحسب ذلك، فإنّ واقعتهم في جنب عجائب آياتنا-من خلق السماوات و الأرض و تزيينها بالمعادن و النباتات و الحيوانات-لا عجب فيها.

القمي: يقول قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب [منه] (3).

قيل: إنّ أهل مكّة تعجبوا من قصة أصحاب الكهف فسألوا عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امتحانا، فنزلت (4).

و قيل: إنّ النّضر بن الحارث كان من شياطين قريش، و كان يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ينصب له العداوة، و كان قد قدم الحيرة و تعلّم بها أحاديث رستم و إسفنديار، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا جلس مجلسا ذكر فيه اللّه و حدّث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، و كان النّضر يخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا و اللّه-يا معشر قريش-أحسن حديثا منه، فهلمّوا فأنا احدّثكم بأحسن من حديثه؛ ثمّ يحدّثهم عن ملوك فارس.

ثمّ أنّ قريشا بعثوه و بعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، و قالوا لهما: سلوهم عن محمّد و صفته، فأخبروهم بقوله، فإنّهم من أهل الكتاب الأول، و عندهم [من]العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما إلى المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقال أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدّهر الأوّل، ما كان من أمرهم؟ فإنّ حديثهم عجيب. و عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان نبؤه؟ و سلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم فهو نبيّ، و إلاّ فهو متقوّل.

فلمّا قدم النّضر و صاحبه مكّة قالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا و بين محمّد، و أخبروا بما قاله اليهود، فجاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سألوه. فقال رسول اللّه: «أخبركم بما شئتم غدا» و لم يستثن (5)، فانصرفوا. و مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكّة به و قالوا: وعدنا محمّد

ص: 108


1- . تفسير العياشي 3:88/2629، تفسير الصافي 3:232.
2- . مجمع البيان 6:697.
3- . تفسير القمي 2:31، تفسير الصافي 3:231.
4- . تفسير الرازي 21:81.
5- . أي لم يقل: إن شاء اللّه تعالى.

غدا، و اليوم خمس عشرة ليلة، فشقّ ذلك عليه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ جاء جبرئيل من عند اللّه بسورة أصحاب الكهف، و فيها معاتبة اللّه إيّاه على حزنه عليهم، و خبر أولئك الفتية، و خبر الرجل الطوّاف (1).

و القمي عن الصادق عليه السّلام: «كان سبب نزول سورة كهف أنّ قريشا بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضّر بن الحارث بن كلدة، و عقبة بن أبي معيط، و العاص بن وائل السّهمي، ليتعلّموا من اليهود و النصارى مسائل يسألونها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فخرجوا إلى نجران، إلى علماء اليهود، فسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل، فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق.

ثمّ سلوه عن مسألة واحدة، فإن ادّعى علمها فهو كاذب، قالوا: و ما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزّمن الأوّل، فخرجوا و غابوا و ناموا، كم بقوا في نومهم حتى انتبهوا؟ و كم كان عددهم؟ و أيّ شيء كان معهم من غيرهم؟ و ما كان قصّتهم؟ و اسألوه عن موسى حين أمره اللّه تعالى أن يتّبع العالم و يتعلّم منه من هو؟ و كيف تبعه؟ و ما كان قصّته معه؟ و اسألوه عن طائف طاف مغرب الشّمس و مطلعها حتى بلغ سدّ يأجوج و مأجوج، من هو؟ و كيف كان قصّته؟ ثمّ أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل، و قالوا لهم: إن أجابكم بما أملينا عليكم فهو صادق، و إن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدّقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة؟ فإن ادّعى علمها فهو كاذب، فإنّ قيام الساعة لا يعلمه إلاّ اللّه تبارك و تعالى.

فرجعوا إلى مكة، و اجتمعوا إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك يدّعي أنّ خبر السماء يأتيه، و نحن نسأله عن مسائل، فإن أجابنا عنها علمنا أنّه صادق، و أن لم يخبرنا علمنا أنّه كاذب، فقال أبو طالب: سلوه عمّا بدا لكم. فسألوه عن الثلاث مسائل.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: غدا أخبركم، و لم يستثن، فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما حتى اغتمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و شكّ أصحابه الذين كانوا آمنوا به، و فرحت قريش و استزؤوا به و آذوه، و حزن أبو طالب، فلمّا كان بعد أربعين يوما نزل عليه جبرئيل بسورة الكهف.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، لقد أبطأت؟ فقال: إنّا لا نقدر أن ننزل إلاّ بإذن اللّه تعالى، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ اَلْكَهْفِ وَ اَلرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» الخبر (2).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 10 الی 13

إِذْ أَوَى اَلْفِتْيَةُ إِلَى اَلْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي اَلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13)

ص: 109


1- . تفسير الرازي 21:82.
2- . تفسير القمي 2:31، تفسير الصافي 3:232.

قصة أصحاب

الكهف

ثمّ حكى سبحانه قصّتهم بقوله: إِذْ أَوَى و التقدير: أذكر إذ أوى و التجأ اَلْفِتْيَةُ الذين كانوا من أشراف بلدة أفسوس (من بلاد الروم) و أبناء أشرافها بعدما أكرههم دقيانوس أو طغيانوس (ملك الروم) على الشّرك و عبادة الأصنام، فأبوا عن ذلك و هربوا منه إِلَى اَلْكَهْفِ و الغار الواسع الذي كان في جبل كان بنواحي بلدتهم يقال له: ينجلوس (1)على ما قيل (2)، فاختفوا من خوف القتل فيه، فاشتغلوا فيه بالعبادة و المناجاة فَقالُوا تضرّعا إلى اللّه: رَبَّنا أي مليك أمرنا آتِنا و أعطنا مِنْ لَدُنْكَ و من خزائن رحمتك الواسعة العامة رَحْمَةً خاصّة من المغفرة، و الأمن من الأعداء، و السلامة في الدين، و السّعة في الرّزق وَ هَيِّئْ و أصلح و أتمم لَنا بلطفك مِنْ أَمْرِنا الذي نحن فيه من هجر الوطن المألوف، و الفرار من الكفّار، و القيام لطاعتك، و الاهتمام بتحصيل رضاك رَشَداً و وصولا إلى أعلى المقاصد، من الاهتداء إليك و التقرّب لديك، فاستجبنا دعاءهم فَضَرَبْنا حجابا من النوم عَلَى آذانِهِمْ يمنعها من سماع الأصوات: فناموا جميعا فِي ذلك اَلْكَهْفِ و استراحوا فيه سِنِينَ كثيرة، كانت تعدّ عَدَداً معينا ثُمَّ بَعَثْناهُمْ و أيقظناهم من نومهم المشابه للموت لِنَعْلَمَ و نختبر أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ و الفريقين المختلفين في مدّة لبثهم في النوم أَحْصى و أضبط لِما لَبِثُوا و بقوا في النوم أَمَداً و زمانا، أو غاية لزمان بعثهم.

عن ابن عبّاس: المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك، فالملوك حزب، و أصحاب الكهف حزب (3).

و قيل: الحزبان من الفتية، لأنهم اختلفوا بعد انتباههم في أنّهم كم ناموا؟ (4)

و قيل: إنّهما المسلمون، فإنّهم اختلفوا (3)في مدّة لبث أصحاب الكهف (4).

ثمّ بيّن سبحانه سبب التجائهم إلى الكهف، و سؤالهم الرشد بقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ و نبيّن لك خبر أصحاب الكهف و نَبَأَهُمْ حال كون ذلك النبأ مقرونا بِالْحَقِّ و دلائل الصدق، من إعجاز البيان، و مطابقته للكتب، أو متلبّسا بالمطابقة للواقع من غير زيادة و نقصان إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ و شبّان

ص: 110


1- . ينجلوس: اسم الجبل الذي فيه أصحاب الكهف.
2- . بحار الأنوار 14:432. (3 و 4) . تفسير الرازي 21:84.
3- . في تفسير الرازي: قال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا.
4- . تفسير الرازي 21:84.

آمَنُوا بِرَبِّهِمْ و رفضوا عبادة الأصنام، و اهتدوا إلى الحقّ بالنظر و الاستدلال وَ زِدْناهُمْ هُدىً على هدى و يقينا على يقين، و نورا في القلب على نور، و ثباتا على ثبات، برؤية آثار توحيد اللّه و قدرته، و العلم بنتائج الإيمان و حسن عاقبته.

قيل: إنّ سبب إيمانهم أنّ حواريّا من حواريي عيسى أراد أن يدخل مدينتهم، فقيل له: إنّ على بابها صنما لا يدخلها أحد إلاّ سجد له، فامتنع من خولها، و أتى حمّاما كان قريبا من المدينة، فآجر نفسه فيه، فكان يعمل فيه، فتعلّق به فتية من أهل المدينة، فجعل يخبر خبر السّماء و خبر الآخرة حتى آمنوا به و صدّقوه.

ثمّ إن ابن الملك أراد دخول الحمّام بامرأة، فنهاه الحواري فانتهره ابن الملك، فلمّا دخل مع المرأة ماتا في الحمّام، فقيل للملك: إنّ العامل في الحمّام قتله، فهرب الحواري فطلبه الملك و لم يجده، فقال: من كان يصحبه؟ فسمّوا الفتية، فهربوا إلى الكهف (1).

و قيل: إنّ دقيانوس سخّر ممالك الرّوم، ثمّ جاء إلى بلد يقال له أفسوس فاتّخذه دار سلطنته و بنى فيه مذبحا للأصنام، و أمر أهل البلد بعبادتها، و كان يقتل كلّ من تمرّد عن طاعته، و كان في المدينة ستّة شبّان كلّهم من عظماء البلد و من أولاد العظماء، و كانوا مؤمنين باللّه، فاعتزلوا عن الناس، و اشتغلوا بعبادة اللّه، و سألوا اللّه أن يحفظهم من فتنة الملك الجبّار و أن يأمنهم من شرّه، فأخبر دقيانوس بدينهم و اعتزالهم، فأمر بإحضارهم و أصرّ في انصرافهم عن التوحيد و التزامهم بعبادة الأصنام، فامتنعوا عن طاعته (2).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 14 الی 16

فأخبر اللّه عن تأييده لهم بقوله: وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ و ثبّتناهم على الدين و ألهمناهم الصبر، و شرحنا صدورهم للإيمان حتى اقتحموا مضايق الصبر على القتل، أو هجر الأقارب و الأهل، و تركوا

وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ فَأْوُوا إِلَى اَلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

ص: 111


1- . تفسير روح البيان 5:221.
2- . تفسير روح البيان 5:219.

الجاه و النّعم، و اجترأوا على الصدع بالحقّ من غير خوف و حذر (1)من بأس دقيانوس الجبّار إِذْ قامُوا بين يديه فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وحده لَنْ نَدْعُوَا أو لا نعبد أبدا مِنْ دُونِهِ إِلهاً و معبودا آخر، لا استقلالا و لا اشتراكا، فأمّا إن قلنا بألوهية غيره لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً و قولا متجاوزا عن حدود العقل.

قيل: إنّ دقيانوس لمّا رأى تمرّدهم أمر أن ينزع منهم الحلل و قال: أنتم شبّان ليس لكم كثير سنّ و لا تجربة، و إنّي أمهلكم أيّاما قلائل لكي تتفكّروا في صلاحكم من طاعتي و مخالفتي، فخرج الملك من البلد فاغتنم الفتية الفرصة (2)، و قالوا: هؤُلاءِ قَوْمُنَا و أهل بلدنا أعرضوا عن اللّه و اِتَّخَذُوا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ آلِهَةً و عبدوا الأصنام لفرط جهلهم و غاية ضلالهم، مع أنّ الألوهيّة لا بدّ لها من دليل قاطع، و هؤلاء القوم الذين يعبدون الأصنام لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ و لم لا يقيمون على صحّة عبادتهم حجّة واضحة؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً بنسبة الشّرك إليه.

عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: قامُوا قال: إنّهم كانوا عظماء مدينتهم، فخرجو فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم أكبر القوم: إنّي لأجد في نفسي شيئا ما أظنّ أحدا يجده. قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أنّ ربّي ربّ السماوات و الأرض (3).

و قيل: إنّهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم في الكهف (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أصحاب الكهف و الرّقيم كانوا في زمان ملك جبّار عات، و كان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام، و كانوا هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون اللّه عزّ و جلّ و وكّل الملك بباب المدينة وكلاء، و لم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بعلّة الصيد» (5).

و عنه عليه السّلام أيضا: «خرج أصحاب الكهف على غير معرفة و لا ميعاد، فلمّا صاروا في الصحراء أخذ بعضهم على بعض العهود و المواثيق، فأخذ هذا على هذا، و هذا على هذا، ثمّ قالوا: أظهروا أمركم، فأظهروه فإذا هم على أمر واحد» (6).

و عنه: «ما بلغت تقيّة أحد تقيّة أصحاب الكهف، إنّهم كانوا يشهدون الأعياد، و يشدو الزنانير (7)، فأعطاهم اللّه أجرهم مّرتين» (8).

ص: 112


1- . في النسخة: و حذار.
2- . تفسير روح البيان 5:219.
3- . تفسير الرازي 21:97.
4- . تفسير الرازي 21:98.
5- . تفسير القمي 2:32، تفسير الصافي 3:232.
6- . تفسير العياشي 3:88/2630، تفسير الصافي 3:235.
7- . الزّنانير: جمع زنّار، و هو شيء يشدّه الذمّي على وسطه.
8- . تفسير العياشي 3:89/2633، تفسير الصافي 3:234.

و عنه عليه السّلام أنّه ذكر أصحاب الكهف فقال: «لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم!» فقيل: ما كلّفهم قومهم؟ فقال: «كلّفوهم الشّرك باللّه العظيم، فأظهروا لهم الشّرك و أسروّا الإيمان حتى جاءهم الفرج» (1).

و عنه: «أنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف: أسرّوا الإيمان و أظهروا الشّرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين» (2).

أقول: مقتضى هذه الروايات أنّهم لم يظهروا إيمانهم في بلدهم، لا عند دقيانوس و لا عند القوم، فلا بدّ من كون المراد من (قيامهم) إقدامهم على إظهار التّوحيد بعضهم لبعض.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّهم مرّوا في طريقهم براع، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، [و كان مع الرّاعي كلب]فأجابهم الكلب و خرج معهم» (3).

و روى بعض العامّة أنّ الراعي قال لهم: لا تخافوا منّي فإنّي أحبّ اللّه، فوافقهم و صاحبهم في الطّريق مع كلبه، فذهبوا حتى قربوا من جبل قريب من بلدهم يقال له ينجلوس، فقال له تمليخا كبيرهم حين أمنوا من كيد قومهم (4): وَ إِذِ فارقتم قومكم و اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ و جانبتموهم و اعتزلتم وَ ما يَعْبُدُونَ من الأصنام إِلاَّ اَللّهَ فَأْوُوا و التجأوا إِلَى اَلْكَهْفِ الذي يكون في هذا الجبل، و اتّخذوه مأوى و مسكنا، و اعبدوا ربّكم فيه يَنْشُرْ و يبسط لَكُمْ و يوسّع عليكم رَبُّكُمْ و مالك أمركم اللطيف بكم بعضا مِنْ رَحْمَتِهِ الواسعة في الدارين، وَ يُهَيِّئْ و يسهّل لَكُمْ موافقا لصلاحكم مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم عليه من الفرار بدينكم مِرفَقاً و مستراحا.

قيل: إنّهم لمّا قربوا من الجبل قال لهم الرّاعي: إنّ في هذا الجبل كهفا فأووا إليه، فتوجّهوا الى الغار، و لمّا سكنوا فيه أنطق اللّه الكلب فقال لهم بلسان فصيح: إنّي احبّ من أحبّ اللّه، فناموا أنتم و أنا أحرسكم، فسلّط اللّه عليهم النّوم فناموا (5).

قيل: إنّ دقيانوس رجع إلى بلد أفسوس بعد أيّام، فسأل عن الشّبّان فأخبروه بفرارهم، فأحضر آباءهم و كلّفهم أن يحضروا أبناءهم، فقالوا: إنّهم أخذوا أموالنا و هربوا (6).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 17

وَ تَرَى اَلشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَّزوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ اَلْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ اَلشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اَللّهِ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)

ص: 113


1- . تفسير العياشي 3:88/2632، تفسير الصافي 3:234.
2- . الكافي 1:373/28، تفسير الصافي 3:234.
3- . تفسير القمي 2:32، تفسير الصافي 3:233.
4- . تفسير روح البيان 5:219.
5- . تفسير روح البيان 5:219.
6- . تفسير روح البيان 5:224.

ثمّ بيّن اللّه كيفية حفظهم أحياء (1)في الغار مدّة طويلة بقوله: وَ تَرَى اَلشَّمْسَ يا محمّد لو رأيتهم إِذا طَلَعَتْ من افق المشرق تَتَزاوَرُ و تميل عَنْ كَهْفِهِمْ الذي يكونون فيه ذاتَ اَلْيَمِينِ و جهته من الكهف، فلا يقع عليهم شعاعها فيؤذيهم وَ إِذا غَرَبَتْ الشّمس و مالت إلى افق المغرب تراها تَقْرِضُهُمْ و تعدل من سمت رؤوسهم ذاتَ اَلشِّمالِ و جانبه من الكهف وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ و متّسع مِنْهُ، فصان اللّه أجسادهم من الفساد بعدم وصول حرّ الشّمس إليهم في حال من الأحوال، و وصول الهواء الطيّب و النّسيم إليهم.

قيل: إنّ ذلك كان لأجل أنّ باب الكهف كان في طرف الجنوب (2). و قيل: إنّه كان بقدرة اللّه و خرقه للعادة كرامة لهم (3)، و إليه أشار سبحانه بقوله: ذلِكَ الصّنع الذي صنع اللّه بهم من تزاور الشّمس و قرضها حالتي الطّلوع و الغروب مع كونهم في معرض شعاعها آية مِنْ آياتِ اَللّهِ العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى و قدرته و إكرامه المؤمنين به الموحّدين له.

ثمّ بيّن سبحانه حسن نتائج التوحيد و الإيمان ترغيبا إليه، و سوء تبعات الشّرك زجرا عنه بقوله: مَنْ يَهْدِ اَللّهُ و يوفّقه لقبول توحيده و معارفه فَهُوَ بالخصوص اَلْمُهْتَدِ إلى كلّ فلاح و نجاح و خير و سعادة في الدارين وَ مَنْ يُضْلِلْ عن الحقّ و يحرفه إلى الطريق الباطل بخذلانه فَلَنْ تَجِدَ يا محمّد لَهُ أبدا وَلِيًّا و ناصرا و مُرْشِداً و هاديا يهديه إلى الحقّ و طريق الصّواب. و فيه التّنبيه على أنّ إيمانهم حدوثا و بقاء بلطف اللّه و توفيقه.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «أنّ اللّه تبارك و تعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته و يهدي أهل الإيمان و العمل الصالح إلى جنّته» . الخبر (4).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 18 الی 20

وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ اَلْيَمِينِ وَ ذاتَ اَلشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اِطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)

ص: 114


1- . في النسخة: حيّا.
2- . تفسير روح البيان 5:224.
3- . تفسير روح البيان 5:225.
4- . معاني الأخبار:20/1، التوحيد:241/1، تفسير الصافي 3:235.

ثمّ بعد بيان كيفيّة حفظهم بيّن سبحانه حالهم في الكهف بقوله: وَ تَحْسَبُهُمْ لو رأيتهم يا محمّد فيه أَيْقاظاً منتبهين لانفتاح عيونهم كأنّهم ناضرين وَ هُمْ رُقُودٌ و نيام وَ نُقَلِّبُهُمْ و نحوّل أجسادهم ذاتَ اَلْيَمِينِ و جانبه تارة وَ ذاتَ اَلشِّمالِ و ناحيته اخرى في كلّ سنة، كما قال أبو هريرة (1). أو في كلّ تسع سنين، كما عن مجاهد (2). لئلاّ تأكل الأرض لحومهم و لا تبليهم، كما عن ابن عباس (3). وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ و مفترش ذِراعَيْهِ و يديه بِالْوَصِيدِ و فناء الكهف، أو بابه كأنّه يحرسهم.

قد سبق القول بأنّه كلب الرّاعي، و قيل: إنّه كلب صيدهم (4)، و قيل: إنّه كلب نبح عليهم في الطريق فطردوه مرارا، فقال لهم الكلب: لا تخشوا منّي فإنّي احبّ أحبّاء اللّه، فناموا حتى أحرسكم. (5)و روى بعض العامة أنّه كان أسدا (1).

عن الصادق عليه السّلام: «لا يدخل الجنّة من البهائم إلاّ ثلاثة: حمار بلعم بن باعورا، و ذئب يوسف، و كلب أصحاب الكهف» (2).

و روى بعض العامّة أنّه يدخل مع المؤمنين في الجنّة عشرة من الحيوانات: ناقة صالح، و عجل إبراهيم، و كبش إسماعيل، و بقرة موسى، و حوت يونس، و حمار عزير، و نملة سليمان، و هدهد بلقيس، و كلب أصحاب الكهف، و ناقة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فكلّهم يصيرون على صورة كبش و يدخلون الجنّة (8).

و روى الثعلبي أنّ من سلّم على نوح كلّ يوم و ليلة أمن من لدغ العقرب، و من كتب: وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ و جعله معه، أمن من ضرر الكلب (9).

ثمّ بيّن سبحانه هيبتهم الحافظة لهم بقوله: لَوِ اِطَّلَعْتَ يا محمّد و أشرفت عَلَيْهِمْ بالمعاينة لَوَلَّيْتَ و فررت مِنْهُمْ فِراراً من هيبة صورتهم وَ لَمُلِئْتَ و امتلأ صدرك مِنْهُمْ رُعْباً و خوفا، لطول شعورهم و أظفارهم، و فتح أعينهم كاليقظان الذي يريد أن يتكلّم، كما قيل (3).

ص: 115


1- . تفسير روح البيان 5:226.
2- . تفسير القمي 2:33، تفسير الصافي 3:233. (8 و 9) . تفسير روح البيان 5:226.
3- . تفسير الرازي 21:101، تفسير روح البيان 5:227.

نقل أنّ معاويّة مرّ بالكهف فقال: لو كشف عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عبّاس له: ليس لك ذلك، قد منع اللّه من هو خير منك. فقال: لَوِ اِطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ الآية، فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم. فبعث أناسا و قال لهم: اذهبوا فانظروا، فلمّا دخلوا الكهف جاءت ريح فأخرجتهم (1).

ثمّ قيل: إنّه مات دقيانوس و انقضى ملكه، و تعاقبت ملوك كثيرة بعده إلى أن وصل الملك إلى رجل يقال له تندروس، و كان مؤمنا صالحا، و اختلف أهل مملكته في صحة الحشر، و أنكره أكثرهم، كلّما نصحهم الملك لم يقبلوا. فأراد اللّه أن يقيم لهم دليلا على الحشر، فايقظ أصحاب الكهف (2).

فحكى اللّه سبحانه ذلك لأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله تأكيدا للحجّة عليهم بقوله: وَ كَذلِكَ الإنامة لأصحاب الكهف في المدّة الطويلة، مع حفظ أجساهدهم و ثيابهم من البلى بَعَثْناهُمْ و أيقظناهم من نومهم لِيَتَسائَلُوا فيما بَيْنَهُمْ و كان تساؤلهم أن قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ و هو رئيسهم يقال له مكشلينا أو مكسلمينا، أو تمليخا، كما عن ابن عباس (3)للفتية لما رأى من طول شعورهم و أظفارهم: كَمْ لَبِثْتُمْ في النوم يا أصحابي؟ فأجاب الآخرون و قالُوا نظرا إلى أنّ دخولهم في الكهف كان أوّل النّهار و حسبانهم الوقت آخره: لَبِثْنا يَوْماً فلمّا رأوا أنّ الشمس لم تغرب بعد قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ و قيل: إنّهم انتبهوا حين ارتفاع الشمس فقالوا: إن نمنا أمس كانت مدّة نومنا يوما، و إن نمنا في اليوم كانت مدّته بعض يوم، فلمّا رأى بعضهم أمارات طول المدّة، من طول الشعر و الأظفار و لا يمكنهم تعيينها (4)قالُوا أعرضوا عن البحث رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ و اشتغلوا بما يهمّكم، فإن تريدون قوت اليوم فَابْعَثُوا و أرسلوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ و الفضّة المضروبة هذِهِ التي عندكم إِلَى اَلْمَدِينَةِ التي كنّا فيها فَلْيَنْظُرْ المبعوث في أهل المدينة من بائعي الطّعام أَيُّها و من يكون فيها أَزْكى و أطيب و أجلّ طَعاماً و مأكولا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ و قوت تقومون به مِنْهُ.

قيل: كان في زمان كون الفتية في المدينة جماعة مؤمنون يكتمون إيمانهم، و كانت ذبيحتهم محلّلة (5)، و كان غرضهم الشراء منهم.

وَ لْيَتَلَطَّفْ و ليبالغ في الاختفاء و عدم التعرّف، من حين الدخول في المدينة إلى الخروج منها وَ لا يُشْعِرَنَّ البتة بِكُمْ ذلك المبعوث أَحَداً من أهل المدينة؛ لأنّه إن عرفكم واحد منهم شاع خبركم فيها.

ص: 116


1- . تفسير البيضاوي 2:7، تفسير روح البيان 5:227، و فيهما: ريح فأحرقتهم.
2- . تفسير روح البيان 5:228.
3- . تفسير الرازي 21:103، و فيه: يمليخا.
4- . تفسير البيضاوي 2:7.
5- . تفسير روح البيان 5:229.

ثمّ حكى سبحانه مبالغتهم في الاختفاء بذكر علّته بقوله: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا و يطّلعوا عَلَيْكُمْ و يظفروا بكم يَرْجُمُوكُمْ و يقتلوكم بالرّمي بالأحجار إن ثبتّم على دينكم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ من عبادة الأصنام، و يدخلوكم فيها إن لم توطّنوا أنفسكم على القتل وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً لا في الدنيا و لا في الآخرة. فإنّ الإجابة الظّاهريّة قد تؤدّى إلى الإجابة الحقيقيّة الواقعيّة.

ثمّ قيل: إنّهم بعثوا تمليخا-و كان له كمال عقل و فطانة-إلى المدينة، فلمّا وصل إليها رأى بابها متغيّرا، فلمّا دخلها رأى أسواقها و سككها و أوضاع أهلها على غير النحو الذي رآها سابقا، فغلبت الحيرة عليه، فجاء إلى دكّة الخبّاز فأعطاه درهما ليشتري به الخبز، و كان عليه اسم دقيانوس أو صورته، فتخيّل أنّه وجد كنزا فأراه أهل السوق، فانتشر الخبر فيه حتى اتّصل الخبر بحاكم المدينة، فطلب تمليخا و هدّده و قال: جئني ببقيّة الكنز، فقال تمليخا: إنّا ما وجدنا كنزا، إنّما أخذت هذا الدّرهم من دار أبي بالأمس، و جئت اليوم لأشتري به من السوق طعاما. فسألوه عن اسم أبيه و حليته فأخبرهم، فلم يعرفه أحد فكذّبوه، فأخذته الدهشة. فقال: أذهبوا بي إلى دقيانوس الملك. فإنّه عارف بي و بأبي فاستهزءوا به (1)و قالوا: إنّ دقيانوس مات قريبا من ثلاثمائة سنة، فقال تمليخا: أنا و جماعة من أصحابي فررنا منه بالأمس إلى جبل قريب من هذا البلد، و اليوم بعثني أصحابي لأشتري لهم الطعام، لا أعلم غير هذا الذي أقول.

فذهب الحاكم به إلى الملك، فاستخبره الحال، فأخبره تمليخا بمثل ما أخبر به غيره، فتوجّه الملك و أشراف البلد مع تمليخا إلى الغار، فتقدّمهم تمليخا، و أخبر أصحابه بالقضيّة، فلمّا وصل الملك إلى الكهف رأى لوحا منصوبا على بابه، مكتوب فيه أسامي أصحاب الكهف و قصّتهم، فقرءوه و أطّلعوا على أحوالهم (2).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 21

ثمّ بيّن سبحانه علّة إطّلاع النّاس عليهم بقوله: وَ كَذلِكَ الإنامة، و البعث الدالّين على كمال قدرتنا و حكمتنا أَعْثَرْنا النّاس و اطّلعناهم عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا بتلك الإنامة و البعث أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالإحياء بعد الموت للحساب حَقٌّ و صدق، لا خلف فيه لوقوع نظيره في الفتية وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ

وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا اِبْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ اَلَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)

ص: 117


1- . في النسخة: فاستهزؤه.
2- . تفسير روح البيان 5:230.

و القيامة آتية لا رَيْبَ فِيها و لا مجال للشّك في وقوعها، اذكر يا محمّد إِذْ الناس يَتَنازَعُونَ فيما بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ و في تدبير إخفاء مكانهم فَقالُوا اِبْنُوا عَلَيْهِمْ و على باب كهفهم بُنْياناً و جدارا يمنع من تطرّق الناس إليهم، و من إطّلاع النّاس على مكانهم رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ و بشأنهم، لا حاجة إلى إطّلاع الغير بمكانهم.

و قيل: إنّ الكفار قالوا: إنّهم منّا فابنوا عليهم صومعة (1). ثمّ قال سبحانه: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ منهم، فتكون الجملة معترضة.

قالَ الملك و المؤمنون اَلَّذِينَ غَلَبُوا و اطّلعوا عَلى أَمْرِهِمْ و حالهم: و اللّه لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ و نبنينّ على باب كهفهم مَسْجِداً يصلّي فيه المسلمون، و يتبرّكون بمكانهم. و قيل: إنّ كلمة (إذ) متعلّقة بأعثرنا، و المعنى: أعثرنا عليهم حين يتنازعون في أمر البعث (2).

روي أنّ ملك ذلك الوقت كان ينكر البعث إلاّ أنّه مع كفره كان منصفا، فجعل اللّه أمر الفتية دليلا للملك (3). و قيل: بل اختلفت الأمّة في ذلك الزمان، فقال بعضهم: الجسد و الروح يبعثان، و قال آخرون: الروح تبعث، و أمّا الجسد فتأكله الأرض (4).

و روي أنّ قوم تندروس لمّا اختلفوا في البعث مقرّين و جاحدين، دخل الملك بيته و أغلق بابه، و لبس مسحا (1)، و جلس على رماد، و سأل ربّه أن يظهر الحقّ، فألقى اللّه في قلب رجل من الرّعاة، فهدّ السدّ الذي بناه دقيانوس على باب الكهف لإهلاك الفتية ليتّخذ حظيرة لغنمه، فعند ذلك بعثهم اللّه تعالى. فلمّا انتشر خبرهم و اطّلع عليهم الملك و أهل المدينة مسلمهم و كافرهم، كلّموهم و حمدوا اللّه على الآية الدالّة على البعث.

ثم قالت الفتية للملك: نستودعك اللّه و نعيذك به من شرّ الجن و الإنس، ثمّ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا و ماتوا، فألقى الملك عليهم ثيابه، و أمر فجعل لكلّ واحد تابوتا من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذّهب فجعلها من الساج، و بنى على باب الكهف مسجدا (2).

و قيل: إنّهم كانوا يتنازعون في أنّ أصحاب الكهف ماتوا بعد العود إلى الكهف، أو ناموا كنومهم السابق؟ (3)و قيل: يتنازعون في أنّهم على أيّ دين؟ قال الكفّار: إنّهم كانوا على ديننا، فنبني عليهم بنيانا، و قال المؤمنون: إنّهم على ديننا و نتّخذ عليهم مسجدا. و قيل: إنّ التنازع كان في مدّة لبثهم. و قيل: في عددهم، و أسمائهم، و أحوالهم، و مدّة لبثهم، فلمّا لم يهتدوا إلى شيء منه قالوا: ربّهم أعلم بهم. و قيل:

ص: 118


1- . المسح: الكساء من شعر.
2- . تفسير روح البيان 5:232.
3- . تفسير الرازي 21:105.

إنّ هذا اعتراض و كلام من اللّه، ردّا للخائضين في حديثهم (1).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 22

ثمّ حكى سبحانه التنازع في عددهم بقوله: سَيَقُولُونَ إنّ أصحاب الكهف عددهم ثَلاثَةٌ لا أزيد و رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ و ظاهر الآية أنّ هذا التنازع كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما روي أنّ السيّد و العاقب و أصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيّد- و كان يعقوبيّا-: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، و قال العاقب-و كان نسطوريّا-: كانوا خمسة سادسهم كلبهم، و قال المسلمون: كانوا سبعة و ثامنهم كلبهم (2)، فنزل: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ و هذان القولان يكونان رَجْماً بِالْغَيْبِ و رميا بما يخفى على الناس، و كلاما من غير دليل، أو ظنّا به وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاّ مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)قيل: في تعقيب القولين الأوّلين بقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ دلالة على أنّ القول الثالث ليس كذلك (1).

و قيل: إنّ ذكر الواو هنا دالّ على إثبات هذا القول و تصحيحه (2).

عن ابن عباس قال: حين وقعت الواو انقطعت العدّة، يعني لم يبق بعدها عدّة عادّ يعتدّ بها، و ثبت أنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم قطعا و جزما (3).

قُلْ يا محمّد تحقيقا للحقّ و ردّا على القولين الأوّلين: رَبِّي أَعْلَمُ من أهل الكتاب، من اليهود و النصارى بِعِدَّتِهِمْ و عددهم، و بعده تعالى ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ من النّاس كالنبيّ و الوصيّ و الذين وفّقهم اللّه للاستشهاد بالقرائن على الحقّ. قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل (4).

روى الفخر الرازي و بعض العامة عن علي عليه السّلام: «أنّهم سبعة نفر و أسماؤهم هذا: يمليخا، و مكسلمينا، و مسلثينا، و هؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك، و كان عن يساره مرنوس، و دبرنوس، و سادنوس، و كان الملك يستشير هؤلاء الستّة في مهمّاته، و السابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم، و اسمه كفشططيوش أو كفيشيططيوش، و اسم كلبهم قطمير (5).

ص: 119


1- . تفسير الرازي 21:106.
2- . تفسير الرازي 21:106.
3- . جوامع الجامع:264، تفسير روح البيان 5:233.
4- . جوامع الجامع:264، تفسير الرازي 21:106، تفسير روح البيان 5:233.
5- . تفسير الرازي 21:106، تفسير أبي السعود 5:216، تفسير روح البيان 5:233.

و عن (المجمع) : أسماؤهم: مكسلمينا، تمليخا، و مرطولس، و نينونس، و سارينونس، و دربرنس، و كشوطبنونس (1).

و قيل: مكشلينا، و تمليخا، و مثلنيا، و دبرنوش، و مرنوش، و شادنوش، و مرطونس (2).

و قيل: مكشلينا، و نملسا، و تمليخا، و مرطونس، أوبسوطولس، و نيورس أوبسرطوس، و بكريوس، و بطيوس (3).

عن ابن عبّاس: أنّ أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب، و الهرب، و إطفاء الحريق، تكتب في خرقة و يرمى بها في وسط النار، و لبكاء الطفل تكتب و توضع تحت رأسه في المهد، و للحرث تكتب في قرطاس و ترفع على خشب منصوب في وسط الزرع، و للضربان و للحمّى المثلّثة (2)، و الصّداع، و الغنى، و الجاه، و الدخول على السلاطين تشدّ على الفخذ اليمنى، و لعسر الولادة تشدّ على الفخذ اليسرى، و لحفظ المال، و الركوب في البحر، و النجاة من القتل (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه يخرج مع القائم عليه السّلام من ظهر الكعبة سبعة و عشرون رجلا، خمسة عشر من قوم موسى الذين كانوا يهدون بالحقّ و به يعدلون، و سبعة من أهل الكهف، و يوشع بن نون، و سلمان، و أبو دجانة الأنصاري، و المقداد، و مالك الاشتر، فيكونون بين يديه أنصارا و حكّاما» (4).

ثمّ لمّا أخبر اللّه نبيّه بعدد أصحاب الكهف، نهاه عن مناظرة أهل الكتاب فيهم بقوله: فَلا تُمارِ و لا تجادل يا محمّد أهل الكتاب فِيهِمْ و في شأنهم إِلاّ مِراءً و جدالا ظاهِراً غير متعمّق فيه، بأن تخبرهم بما اوحي إليك من غير تجهيل لهم و الردّ عليهم، لظهور جهلهم به، فإنّ الجدال مع وضوح بطلان قول الخصم مناف لمكارم الأخلاق وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ و لا تسأل شأنهم مِنْهُمْ و من غيرهم من الخائضين فيه أَحَداً بعد ما علّمك اللّه أحوالهم بالوحي، فلا حاجة لك إلى الاستفتاء و السؤال، خصوصا مع جهل غيرك.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 23 الی 26

وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ اِزْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)

ص: 120


1- . مجمع البيان 6:710. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:233.
2- . التي تعاود المريض كل ثلاثة أيام مرّة.
3- . تفسير روح البيان 5:233.
4- . روضة الواعظين:266، تفسير الصافي 3:237.

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار لطفه بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بنهيه عن المجادله و السؤال، نهاه عن الاعتماد على نفسه في الامور المستلزمة لأمره بالاعتماد على مشيئته تعالى بقوله: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ من الأشياء و أمر من الامور إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً اعتمادا على استقلالك في فعله في حال من الأحوال إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ ذلك الشّيء و الأمر. و عن الصادق عليه السّلام قال: «ما لم ينقطع الكلام» . (1)

و قد مرّت رواية العامة و الخاصة في أنّه احتبس الوحي عنه صلّى اللّه عليه و آله لعدم تعليقه الوعد بالجواب على مشيئة اللّه (2). تفسير العياشي 3:90/2639، تفسير الصافي 3:239.(3).

و في رواية عن الباقر عليه السّلام: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاه ناس من اليهود فسألوه عن أشياء فقال لهم: تعالوا غدا احدّثكم، و لم يستثن، فاحتبس جبرئيل أربعين يوما، ثمّ أتاه فقال: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ الآية» (4).

ثمّ أمره اللّه بذكره بقوله: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ بقول: إن شاء اللّه إِذا نَسِيتَ و تركت ذكره. و في رواية عن الصادق عليه السّلام قال: «ذلك في اليمين، إذ قلت و اللّه لأفعل كذا، فإذا ذكرت أنّك لم تستثن فقل: إن شاء اللّه» (5).

و عنه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الاستثناء في اليمين متى ما ذكر، و إن كان بعد أربعين صباحا، ثمّ تلا هذه الآية» (6).

و عنه عليه السّلام: «للعبد أن يستثن ما بينه و بين أربعين يوما إذا نسي» (7).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية-قال: «و قد قال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله في الكتاب: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ أن لا أفعله، فان سبقت (8)مشيئة اللّه في أن لا افعله فلا أقدر على أن أفعله، فلذلك قال عزّ و جلّ: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أي استثن مشيئة اللّه في فعلك» (9).

و عنه عليه السّلام: «إنّ آدم لمّا أسكنه اللّه الجنّه فقال له: يا آدم. لا تقرب هذه الشجرة. فقال: نعم، و لم يستثن، فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إلى قوله: إِذا نَسِيتَ و لو بعد سنة» (9).

ص: 121


1- . جوامع الجامع:264، تفسير الصافي 3:238.
2- . مرّت الرواية في تفسير الآية
3- من هذه السورة.
4- . من لا يحضره الفقيه 3:229/1081، و تفسير الصافي 3:238، عن الصادق عليه السّلام.
5- . الكافي 7:448/3، تفسير الصافي 3:238.
6- . تفسير العياشي 3:92/2646، الكافي 7:448/6، تفسير الصافي 3:238.
7- . من لا يحضره الفقيه 3:229/1081، تفسير الصافي 3:238.
8- . في الكافي: أفعله، فتسبق.
9- . الكافي 7:448/2، تفسير الصافي 3:239.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه أمر بكتاب في حاجة فكتب، ثمّ عرض عليه و لم يكن فيه استثناء فقال: كيف رجوتم أن يتمّ هذا و ليس فيه استثناء؟ انظروا كلّ موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه» (1).

و قيل: إنّ المراد اذكر ربّك بالتسبيح و الاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء (2).

و قيل: يعني اذكر ربّك إذا نسيت شيئا، فإنّ ذكر اللّه يذكّر المنسي (3).

و يحتمل أن يكون المراد: إذا نسيت شيئا فلا تنسينّ ذكر اللّه، بل اذكره في كلّ حال.

و قيل: إنّ المراد من ذكر اللّه الصلاة: و المعنى صلّ الصلاة المنسيّة إذا ذكرتها (4).

ثمّ لمّا أعطاه اللّه آية عظيمة دالة على نبوّته، و هو إخباره بقصة أصحاب الكهف، أمره سبحانه بسؤال (2)آيات أعظم منها بقوله: وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا النبأ المعجب، من الآيات الدالّة على نبوّتي رَشَداً و دلالة للنّاس على صدقي، و قد فعل ذلك سبحانه حيث أعطاه من الآيات ما هو أعظم من ذلك كإخباره بقصص الأنبياء المتباعدة أيّامهم، و الحوادث النازلة في الأعصار الآتية إلى يوم القيامة.

و قيل: لمّا جعل اليهود حكاية أصحاب الكهف دليلا على نبوّته، هوّن اللّه أمره و قال: قُلْ عَسى الآية، كما هوّن أمر أصحاب الكهف بقوله: أَمْ حَسِبْتَ الآية (3).

و قيل: إنّ المعنى إذا وعدت بشيء قل: إن شاء اللّه، و قل: عسى أن يهديني ربّي لشيء أحسن و أكمل ممّا وعدتكم به (4).

و قيل: إنّ المراد أنّ ذكر ربّك عند نسيان شيء أن تقول: عسى ربّي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشدا أو أدنى خيرا و منفعة (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بعدد الفتية أخبر بمدّة لبثهم في الكهف بقوله: وَ لَبِثُوا في النوم فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ كانت من سِنِينَ شمسيّة وَ العرب اِزْدَادُوا عليها تِسْعاً لأنّ سنتهم قمريّة، و كلّ مائة سنة قمريّة تزيد على مائة سنة شمسيّة بثلاث سنين.

هذا هو الواقع في مدّة لبثهم، فإن نازعوك فيها فلا تجادلهم و قُلِ اَللّهُ أَعْلَمُ منكم و من كلّ أحد بِما لَبِثُوا من المدّة إذ لَهُ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و العلم بخفياتهما لا يشركه فيه أحد من الملائكة و الرسل فضلا عن غيرهم.

ص: 122


1- . الكافي 2:494/7، تفسير الصافي 3:239. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 21:111، تفسير أبي السعود 5:217.
2- . في النسخة: لسؤال.
3- . تفسير روح البيان 5:234، و الآية 9 من هذه السورة.
4- . تفسير الرازي 21:111.
5- . تفسير روح البيان 5:235.

روي أنّ يهوديّا سأل عليّا عليه السّلام عن مدّة لبثهم، فأخبره بما في القرآن فقال: إنّا نجد في كتابنا ثلاثمائة، فقال عليه السّلام: «ذلك بسنيّ الشمس، و هذا بسنيّ القمر» (1).

و قال القميّ و بعض العامّة: قوله تعالى: وَ لَبِثُوا من قول القائلين بأنّهم ثلاثة أو خمسة، و المعنى: و قالوا لبثوا في كهفهم، فردّ اللّه عليهم بقوله: قُلِ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا الآية (2). لأنّه محيط بجميع الموجودات، و مدبّر للعالم، فاذا كان كذلك كان عالما بهذه الواقعة لا محالة (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إحاطته على الخلق علما، بيّن إحاطته على الناس قدرة و تدبيرا بقوله: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ و مدبّر أمر. و قيل: إنّ المعنى ما لأصحاب الكهف [من دون اللّه]من وليّ (4). و على كلّ تقدير لا يعلم أحد واقعتهم إلاّ بإعلامه، فاذا حكم بأنّ مدّة لبثهم مقدارا معيّنا، فإنّه مستقلّ في الحكم وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً فليس لغيره الحكم بخلافه.

قيل: اختلف النّاس في زمان أصحاب الكهف، قيل: إنّهم كانوا قبل موسى لذكر خبرهم في التوراة، و لذا سأل اليهود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قصّتهم. و قيل: إنّهم دخلوا الكهف قبل المسيح، و أخبر المسيح بهم. ثمّ بعثوا بعد رفع المسيح. و قيل: إنّهم دخلوا الكهف بعد المسيح (5).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 27

ثمّ أنّه تعالى بعد الجواب عن سؤال قريش و اليهود عنهم امتحانا و اقتراحا، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتلاوة كتابه المتضمّن لكلّ شيء و عدم الاعتناء باقتراحات القوم بقوله: وَ اُتْلُ يا محمّد ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ الذي هو أحسن الحديث و أفضل الكتب، و أستأنس به، و لا تلتفت إلى اقتراحات المشركين و ترّهاتهم من قولهم: إئت بقرآن غير هذا أو بدّله، فإنّه لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ و لا مغيّر لآياته من الجنّ و الإنس، و إن تظاهروا على ذلك، لأنّا له لحافظون وَ لَنْ تَجِدَ أبدا و إن أجهدت نفسك في الطلب أحدا مِنْ دُونِهِ تعالى يكون لك مُلْتَحَداً و ملجأ يلتجئ إليه في مهمّاتك، و في البليّات التي تنزل عليك.

وَ اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)

ص: 123


1- . مجمع البيان 6:715، تفسير الصافي 3:239.
2- . نحوه في: تفسير القمي 2:34، و تفسير الصافي 3:240، و تفسير الرازي 21:111.
3- . لم يذكر تفسير قوله تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ.
4- . تفسير الرازي 21:112.
5- . تفسير الرازي 21:113.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 28

ثمّ لمّا كان من أباطيل الكفّار و ترّهاتهم التماسهم من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طرد المؤمنين الخلّصين من مجلسه، أمره سبحانه بمجالستهم و صحبتهم و عدم الاعتناء بقول أعدائهم بقوله: وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ و احبسها على المجالسة و المصاحبة مَعَ المؤمنين اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ و يتضرّعون إليه بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ و أوّل النهار و آخره لطلب التوفيق و التيسير و العفو عن التقصير.

وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اِتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)و قيل: و الغداة و العشيّ كناية عن جميع الأوقات و المداومة على العبادة (1). و قيل: إنّ المراد بالدعاء في الغداة صلاة الصبح، و بالدعاء بالعشيّ صلاة العصر (2).

و عنهما عليهما السّلام: «إنّما عنى بهما الصلاة» (1).

حال كونهم يُرِيدُونَ بدعائهم أو صلاتهم وَجْهَهُ تعالى و رضاه وَ لا تَعْدُ و لا تجاوز عَيْناكَ عَنْهُمْ إلى غيرهم من أهل الدنيا و طالبي زخارفها حال كونك تُرِيدُ من النظر إلى غيرهم من المترفين و المجالسة معهم زِينَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و حطامها وَ لا تُطِعْ في طرد الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا بالخذلان و الطّبع وَ اِتَّبَعَ هَواهُ و أطاع تسويلات نفسه و انهمك في شهواته وَ كانَ أَمْرُهُ و فعله أو شأنه فُرُطاً و ظلما على النفس و تجاوزا عن الحدّ و نبذا للحقّ.

روي أنّ رؤساء الكفّار طلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طرد فقراء المسلمين من مجلسه، كعمّار، و صهيب، و خبّاب و غيرهم، و قالوا: اطرد هؤلاء الذين ريحهم ريح الصّنان حتى نجالسك، فإن أسلمنا أسلم النّاس، و ما يمنعنا من اتّباعك إلاّ هؤلاء، فإنّهم قوم أرذلون (2).

القمي: نزلت في سلمان الفارسي، كان عليه كساء من صوف، فدخل عيينة بن حصين على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلمان عنده، فتأذّى عيينة بريح كساء سلمان، و كان عرق فيه، و كان يوم شديد الحرّ، فعرق في الكساء، فقال: يا رسول اللّه، إذا نحن دخلنا عليك فاخرج هذا و أضرابه من عندك، فإذا نحن خرجنا فادخل من شئت، فأنزل اللّه وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا الآية. و هو عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري (3).

و عن (المجمع) : نزلت في سلمان و أبي ذرّ و صهيب و خبّاب و غيرهم من فقراء أصحاب

ص: 124


1- . تفسير العياشي 3:93/2649، تفسير الصافي 3:240.
2- . تفسير روح البيان 5:238.
3- . تفسير القمي 2:34، تفسير الصافي 3:240.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ عيينة بن حصين و الأقرع بن حابس و ذووهم، فقالوا: يا رسول اللّه، إن جلست في صدر المجلس و نحّيت عنّا هؤلاء و روائح صنانهم (1)-و كانت عليهم جباب الصّوف-جلسنا نحن إليك، و أخذنا عنك، و لا يمنعنا من الدخول عليك إلاّ هؤلاء. فلمّا نزلت الآية قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، يلتمسهم، فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللّه عزّ و جلّ فقال: الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معهم المحيا و معهم الممات (2).

عن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين، و إنّ بعضهم ليستر بعضا من العري، و قارئ يقرأ القرآن، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ماذا كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول اللّه، كان واحد يقرأ من كتاب اللّه و نحن نستمع، فقال: الحمد للّه الذي جعل من أمّتي من امرت أن أصبر نفسي معهم. ثمّ جلس وسطنا و قال: أبشروا يا صعاليك (3)المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة، تدخلون الجنّة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة (4).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 29

ثمّ لمّا علّق الكفّار إيمانهم على طرد فقراء المسلمين، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإعلان بعدم اعتنائه بإيمانهم بقوله: وَ قُلِ يا محمّد لهؤلاء المتكبّرين الغافلين اَلْحَقُّ الذي جئتكم به يكون مِنْ رَبِّكُمْ لا منّي، و نفعه و ضرره راجع إليكم، لا إليّ و لا إلى آخر، و أنا لا أدعوكم إليه لأنتفع من إيمانكم حتى اطيعكم فيما تحبّون فَمَنْ كان من أهل السّعادة و شاءَ الإيمان و خير الدّارين فَلْيُؤْمِنْ بالدّين الحقّ، لتماميّة الحجّة، و وضوح البراهين وَ مَنْ كان من أهل الشّقاوة و شاءَ الكفر و الضّرر على نفسه فَلْيَكْفُرْ فإنّي لا ابالي بإيمان من آمن، و كفر من كفر، و لا أطلب إيمانكم بطرد أولياء اللّه من مجلسي.

وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ بِئْسَ اَلشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)ثمّ هدّدهم اللّه بضرر كفرهم و وخامة عاقبتهم بقوله: إِنّا أَعْتَدْنا و هيّئنا لِلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر في الآخرة ناراً خارجة [في]حرّها عن الوصف، مشتملة عليهم و محيطة بهم

ص: 125


1- . الصّنان: النّتن، الريح الكريهة.
2- . مجمع البيان 6:717، تفسير الصافي 3:240.
3- . الصعلوك: الفقير، و جمعه: صعاليك.
4- . تفسير الرازي 21:118.

كأنها سرادق و أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها و فساطيطها. قيل: إن سرادق ستر يدار به حول الخيمة (1).

عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «سرادق النار أربعة جدر كثف، كلّ جدار مسيرة أربعين سنة» (2).

و عن ابن عبّاس: هو الدّخان الذي قال اللّه: اِنْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (1).

وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا و يطلبوا الماء من العطش يُغاثُوا و يؤتوا بعد استغاثتهم بِماءٍ جار كَالْمُهْلِ و الحديد المذاب، أو النحاس، أو الذهب المذاب، أو الصّديد و قيح أهل جهنّم، أو القطران، أو درديّ (2)الزيت المغلي، يعني يجعل المهل لهم مكان الماء الذي طلبوه، و إطلاق الماء عليه من باب التهكّم، فإذا قدّم إليهم ليشربوه يَشْوِي و يحرق اَلْوُجُوهَ من فرط حرارته. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه» (3). بِئْسَ اَلشَّرابُ ذلك الماء المحرق وَ ساءَتْ النّار من حيث كونها مُرْتَفَقاً و متّكأ، أو منزلا، أو مستراحا.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بسوء عاقبة الكفر بشّر المؤمنين بحسن عاقبة الإيمان بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و الدّار الآخرة وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و فعلوا العبادات الخالصات، نؤتيهم أجرا عظيما إِنّا لا نُضِيعُ و لا نبطل أَجْرَ كلّ مَنْ أَحْسَنَ و أخلص عَمَلاً لمنافاته الحكمة المقتضية لإعطاء كلّ مستحقّ حقّه.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى اَلْأَرائِكِ نِعْمَ اَلثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

ثمّ شرح الأجر بقوله: أُولئِكَ المؤمنون الصالحون لَهُمْ بالاستحقاق جَنّاتُ عَدْنٍ و خلد تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ و تحت غرفهم و قصورهم اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة المعهودة يُحَلَّوْنَ و يزيّنون فِيها بأنواع مِنْ أَساوِرَ جنسها مِنْ ذَهَبٍ عن سعيد بن جبير: يحلّى

ص: 126


1- . مجمع البيان 6:719، تفسير الرازي 21:120، و نسبه إلى بعضهم، و الآية من سورة المرسلات:77/30.
2- . الدرديّ: ما رسب أسفل الزيت أو نحوه من كل شيء مائع.
3- . تفسير أبي السعود 5:220، تفسير روح البيان 5:241، و الفروة: الجلدة ذات الشعر.

كلّ واحد منهم ثلاثة أساور (1).

أقول: لعلّ كلّ سوار له شكل خاصّ، و هو ما يلبس في الذّراع وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً لأنّ الخضرة-على ما قيل-أحسن الألوان و أكثرها طراوة (2)، و جنس الثياب مِنْ سُنْدُسٍ و حرير رقيق وَ من إِسْتَبْرَقٍ و ديباج غليظ حال كونهم مُتَّكِئِينَ كالملوك فِيها عَلَى اَلْأَرائِكِ و السّرر الموضوعة في البيوت المزيّنة.

عن الباقر عليه السّلام: «الأرائك، السّرر، عليها الحجال» (3).

ثمّ مدح سبحانه ذلك الأجر العظيم بقوله: نِعْمَ اَلثَّوابُ تلك الجنّات و نعمها وَ حَسُنَتْ تلك الأرائك من حيث كونها مُرْتَفَقاً و متّكأ، أو مقرّا للاستراحة، و قد قال سبحانه ما قال في حقّ الكفّار من قوله: بِئْسَ اَلشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً بهذا التذييل. و إنّما أتى (يحلّون) بصيغة المبنّي للمفعول، و (يلبسون) بصيغة المبني للفاعل؛ لأنّ العروس يلبس ثيابه بنفسه، و أمّا تحليته فغالبا [ما] يكون بيد الغير، أو للاشارة إلى أنّ لبس الثياب يكون بسبب أعمالهم، و أمّا التّحلية فإنّها من كرامات اللّه الزائدة تفضّلا به.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 32 الی 33

ثمّ لمّا كان الكفار المتنفّرون من فقراء المؤمنين مفتخرين عليهم بكثرة أموالهم و أتباعهم، بيّن اللّه سبحانه زوال الغنى و الثروة في الدنيا و دوام المعارف و الأعمال الصالحة للمؤمنين في الدّارين، للكافر الغنيّ و المؤمن الفقير بقوله: وَ اِضْرِبْ يا محمّد لَهُمْ مَثَلاً بديعا، و بيّن لهم بهذا المثل حالهم بيانا واضحا، و هو أنّ رَجُلَيْنِ كان واحد منهما مؤمنا و الآخر كافرا و جَعَلْنا لِأَحَدِهِما الكافر جَنَّتَيْنِ و بستانين كانت أشجارهما مِنْ أَعْنابٍ متنوّعة و كروم مختلفة و أحطنا بالجنّتين وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ.

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا اَلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33)قيل: هذه الصفة ممّا يؤثرها الدهاقين في كرومهم، فإنّهم يجعلونها محفوفة بالأشجار المثمرة (4).

وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كثيرا من أنواع الحبوبات، و في ذكر الصفات دلالة على اتّساعها

ص: 127


1- . مجمع البيان 6:720، تفسير روح البيان 5:243.
2- . تفسير روح البيان 5:243.
3- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 3:242، و الحجال: جمع حجلة: ساتر كالقبّة يزيّن بالثياب و السّتور للعروس.
4- . تفسير الرازي 21:124.

و استجماعها لأنواع الأقوات و الفواكة الفائقة كِلْتَا اَلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها و ثمرها المترقّب منها في جميع الأوقات وَ لَمْ تَظْلِمْ و لم تنقص مِنْهُ شَيْئاً و لو يسيرا، مع أنّ المعهود من سائر البساتين إتمام الثمر في عام و تنقيصه في عام وَ فَجَّرْنا و شققنا، أو أجرينا فيما بين كلّ من الجنّتين و خِلالَهُما نَهَراً على حدة، ليدوم شربهما و يكثر بهاؤهما.

قيل: إنّما قدّم إيتاء الأكل على تفجير النهر للدّلالة على استقلال كلّ منهما في حسن الجنّتين، و للدّلالة على أنّ إتيان الأكل لم يكن متوقّفا على السقي، كقوله يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (1).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 34 الی 38

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف الجنّتين ذكر حال الكافر بقوله: وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ و مال كثير غير الجنّتين، من الذّهب و الفضّة، أو فواكه اخر غير العنب و الرّطب.

وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34) وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ ما أَظُنُّ اَلسّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اَللّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)عن تفسير الجلالين: أنّ الرّجلين كانا ابني ملك في بني إسرائيل، اسم أحدهما يهودا و كان مؤمنا، و اسم الآخر قطروس و كان كافرا، مات أبوهما فورثا منه ثمانية آلاف دينارا، فتقاسماها بينهما، فاشترى الكافر أرضا بألف دينار و بنى دارا بألف دينار، و تزوّج امرأة بألف دينار، و اشترى خدما و متاعا بألف دينار، فقال المؤمن: اللّهم إنّ أخي اشترى أرضا بألف دينار، و أنا اشتري منك أرضا في الجنّة، فتصدّق بألف دينار، و إنّ أخي بنى دارا بألف دينار، و أنا أشترى منك دارا في الجنّة فتصدّق به، و إنّ أخي تزوّج امرأة بألف دينار و أنا أجعل ألفا صداقا للحور، فتصدّق به، و إنّ أخي اشترى خدما و متاعا بألف دينار، و أنا أشتري منك ولدانا مخلّدين بألف، فتصدّق به. ثمّ أصابته الحاجة، فجلس لأخيه على طريقه، فمرّ به أخوه في حشمه، فقام إليه فنظر أخوه إليه و قال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني حاجة، فأتيت لتصيبني بخير. فقال: و ما فعلت بمالك و قد اقتسمنا مالا و أخذت شطره؟ فقصّ عليه

ص: 128


1- . تفسير أبي السعود 5:221، و الآية من سورة النور:24/35.

القصّة، قال: إنّك إذا لمن المتصدّقين بهذا، إذهب لا أعطيك شيئا، فطرده و وبّخه (1).

فَقالَ الكافر لِصاحِبِهِ و أخيه وَ هُوَ يُحاوِرُهُ و يكالمه مفتخرا عليه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً و ثروة وَ أَعَزُّ نَفَراً من البنين و الخدم و الأعوان وَ دَخَلَ يوما جَنَّتَهُ مع أخيه المؤمن وَ هُوَ بكفره ظالِمٌ و ضارّ لِنَفْسِهِ و معجب بماله قالَ ما أَظُنُّ و لا احتمل أَنْ تَبِيدَ و تفنى هذِهِ الجنّة أَبَداً و ما دمت حيّا وَ ما أَظُنُّ اَلسّاعَةَ التي يبعث من في القبور قائِمَةً و آتية فيما بعد وَ لَئِنْ رُدِدْتُ و رجعت بعد الموت إِلى رَبِّي بالبعث على الفرض و زعمك، و اللّه لَأَجِدَنَّ يومئذ بعد انقطاعي من هذه الجنّة خَيْراً مِنْها في الآخرة مُنْقَلَباً و مرجعا قالَ لَهُ صاحِبُهُ و أخوه المؤمن وَ هُوَ يُحاوِرُهُ و يكالمه و يجادله منكرا عليه، و متعجّبا من مقالاته الفاسدة أَ كَفَرْتَ يا أخي بِالَّذِي خَلَقَكَ من أصل مخلوق مِنْ تُرابٍ بقدرته الكاملة و حكمته البالغة ثُمَّ بعد خلق أصلك منه خلقك مِنْ نُطْفَةٍ أمشاج و منيّ دافق في الرّحم ثُمَّ سَوّاكَ و خلقك معتدلا في الخلق و القامة، و جعلك رَجُلاً و إنسانا ذكرا بالغا، فمن كان له القدرة و الحكمة و النّعمة هل يساويه غيره في الصفات؟ و هل يعجز عن إعادة خلقك مع اقتضائها الحكمة؟ حاشا وكلاّ لكِنَّا قالوا: أصله لكن أنا (2)مؤمن موحّد معتقد و قائل بأنّه هُوَ اَللّهُ تعالى رَبِّي و مالك أمري وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي في الألوهيّة و الربوبيّة أَحَداً من خلقه.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 39 الی 41

ثمّ لامه على كفرانه النعمة بقوله: وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ و هلاّ حين وردت في بستانك قُلْتَ ما شاءَ اَللّهُ -من إبقاء الجنّة و إفنائها-كان، و هلاّ قلت حين رأيت جنّتك في غاية الحسن و البهاء و كثرة المنفعة اعترافا بعجزك عن تعميرها و أنّه بقدرة اللّه و معونته، و أنّ ما فيها من الأشجار و الثّمار و العمارة بمشيّة اللّه لا قُوَّةَ بشيء من الحيوانات و النباتات إِلاّ بِاللّهِ.

وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اَللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ اَلسَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)في الحديث: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه، لم تضرّه العين» (3).

و في حديث آخر: «من رأى أحدا اعطي خيرا من أهل أو مال، فقال عنده: ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه،

ص: 129


1- . تفسير روح البيان 5:245.
2- . تفسير أبي السعود 5:222، تفسير روح البيان 5:247.
3- . تفسير روح البيان 5:247.

لم ير فيه مكروها» . و روي أنّها دواء من تسعة و تسعين داء أيسرها الهمّ (1).

ثمّ أنّ المؤمن بعد إنكاره على الكفر و لومه على كفرانه النعمة، أجابه عن فخره عليه بالمال و النّفر بقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً الآن، فلا تغترّ بحسن حالك و كثرة مالك و لا تشمت (2)بسوء حالي و شدّة فقري فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ و يعطيني في الدنيا أو في الآخرة جنّة خَيْراً و أفضل مِنْ جَنَّتِكَ التي تفتخر بها وَ يُرْسِلَ عَلَيْها عقوبة على كفرك و كفرانك حُسْباناً و عذابا مِنَ اَلسَّماءِ من برد أو صاعقة فَتُصْبِحَ و تصير جنّتك بذلك البلاء صَعِيداً زَلَقاً و أرضا لا نبات فيها أَوْ يُصْبِحَ و يصير ماؤُها الذي يجري فيها غَوْراً و ذاهبا في الأرض بحيث لا تناله الأيدي و الدلاء، بل لا يبقى منه أثر فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً بوجه من الوجوه فضلا عن وجدانه و ردّه.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 42 الی 44

ثمّ أخبر سبحانه بوقوع بعض ما توقّعه المؤمن في أموال الكافر بقوله: وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ و أهلك أمواله بأن أرسل اللّه عليها النار فأهلكتها و غار ماؤها كما عن (المجمع) (3)فَأَصْبَحَ الكافر و صار يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرا لبطن تأسّفا و تحسّرا عَلى ما أَنْفَقَ و صرف فِيها و في تعميرها من الأموال حيث رأى الجنّة وَ هِيَ خاوِيَةٌ و ساقطة عَلى عُرُوشِها و دعائمها المصنوعة لكرومها، لمّا رأى الكافر صدق أخيه فيما هدّده على شركه و غروره، و كان يتمنّى التوحيد وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً و لم ينفعه النّدم و التمنّي.

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ اَلْوَلايَةُ لِلّهِ اَلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

ثمّ لمّا كان كثرة أعوانه بسبب كثرة ماله، تفرّق عنه أعوانه و خدمه وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ و جماعة يَنْصُرُونَهُ بدفع الهلاك عن ماله، أو إعطائه مثله مِنْ دُونِ اَللّهِ لأنّه القادر على نصره، و هو لم ينصره لاستحقاقه العذاب و الخذلان وَ ما كانَ بنفسه مُنْتَصِراً و مدافعا عن ماله بقدرته و قوّته.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه نصرته للمؤمن على أخيه الكافر المفتخر عليه، بيّن أنّ دأبه تعالى كذلك في كلّ مورد يكون الكافر بصدد إذلال المؤمن بقوله: هُنالِكَ و في ذلك الوقت الذي يكون الكافر بصدد

ص: 130


1- . تفسير روح البيان 5:247.
2- . في النسخة: و لا تشمتني.
3- . مجمع البيان 6:728، تفسير الصافي 3:243.

إذلال المؤمن تكون اَلْوَلايَةُ و نصرة المؤمن لِلّهِ اَلْحَقِّ و المعبود الصدق، فيوالي أولياءه و يغلبهم على أعدائة في الدنيا، و أمّا في الآخرة هُوَ تعالى خَيْرٌ ثَواباً و أفضل أجرا لأوليائه وَ خَيْرٌ عُقْباً و مآلا لهم، و أسوأ عقوبة و عاقبة لأعدائه و أعدائهم.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ ضرب اللّه مثلا آخر لحقارة الدنيا و سرعة زوالها بقوله: وَ اِضْرِبْ يا محمّد، لقومك و اذكر لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و نظيرها في زهرتها و نضارتها و سرعة زوالها لئلاّ يطمئنّوا بها، و لا يعكفوا عليها، فإنّها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بسبب ذلك الماء، و التفّ و تكاثف بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ من رياحينها، و زرعها، و غيرهما فَأَصْبَحَ ذلك النبات، و صار بعد غاية بهجته و نضارته هَشِيماً و مكسورا ليبسه، بحيث تَذْرُوهُ و تفرّقه اَلرِّياحُ الخفيفة حتّى لا يبقى منه أثر. كذلك الإنسان ينمو و يشبّ و يقوى، فإذا انقضى أجله أتاه صرصر الموت، فجعله كأن لم يكن شيئا مذكورا وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإيجاد و الإبقاء و الإفناء مُقْتَدِراً

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اَلْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان زوال حياة الدنيا، بيّن زوال المال و الأولاد الذين هما أعظم زينتها بقوله: اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ اللّذان يفتخرون بهما ممّا به زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ينقطعان عنكم بانقضائها وَ اَلْباقِياتُ معكم في جميع العوالم من البرزخ و المعاد، هي الأعمال اَلصّالِحاتُ و العبادات الخالصات من الصّوم و الحجّ و الصلاة و غيرهما خَيْرٌ من الفانيات الفاسدات التي منها المال و الأولاد عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً و أجرا و عائدة وَ خَيْرٌ أَمَلاً و مأمولا؛ لأنّ صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل في الدنيا.

عن الصادق عليه السّلام: «إن كان اللّه عزّ و جلّ قال: اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا إنّ الثماني ركعات يصلّيها العبد آخر اللّيل زينة الآخرة» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنّ من الباقيات [الصالحات]القيام لصلاة الليل» (2). و قيل: هنّ الصلوات الخمس (3).

ص: 131


1- . تفسير العياشي 3:95/2657، التهذيب 2:120/455، تفسير الصافي 3:244.
2- . مجمع البيان 6:731، تفسير الصافي 3:244.
3- . تفسير الرازي 21:131، تفسير أبي السعود 5:225.

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ الباقيات الصالحات هي الصلوات، فحافظوا عليها» (1).

و عنه عليه السّلام: «هي الصلوات الخمس» (2).

و قال جمع من العامة: هي التسبيحات الأربع (3).

و عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خذوا جنّتكم (4)، قالوا: يا رسول اللّه عدّو حضر؟ قال: لا، و لكن خذوا جنّتكم من النار، قالوا: فبم نأخذ جنّتنا، يا رسول اللّه؟ قال: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر، فإنّهنّ يأتين يوم القيامة و لهنّ مقدّمات و مؤخّرات، و هنّ الباقيات الصالحات» (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برجل يغرس غرسا في حائط له، فوقف عليه و قال: ألا أدلّك على غرس أثبت أصلا، و أسرع إيناعا، و أطيب ثمرا و أبقى؟ قال: بلى، فدلّني يا رسول اللّه، فقال: إذا أصبحت و أمسيت فقل: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر، فإنّ لك إن قلته بكلّ تسبيحة عشر شجرات في الجنّة من أنواع الفاكهة، و هنّ من الباقيات الصالحات» (6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال للحصين بن عبد الرحمن: «لا تستصغر مودّتنا، فإنّها من الباقيات الصالحات» (7).

أقول: الجمع بين الأخبار أنّ كلّ عمل و اعتقاد فيه رضا اللّه، فهو من الباقيات الصالحات.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خساسة الدنيا، و ذكر ما يوجب التزهيد منها و ترغيبهم في الصالحات، ذكر بعض أهوال القيامة تنبيها على كثرة الحاجة بها فيها بقوله: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ اَلْجِبالَ في الهواء و الجوّ على هيئتها بعد قلعها من الأرض، أو [نسيّر]

أجزاءها بعد جعلها هباء منبثّا وَ تَرَى اَلْأَرْضَ يا محمّد بارِزَةً و ظاهرة من تحت الجبال، و العمارات، و الأشجار. أو بارزة الجوف لا يبقى في بطنها شيء من الموتى و الكنوز، و بعثنا الناس من القبور وَ حَشَرْناهُمْ و جمعناهم إلى عرصة القيامة و موقف الحساب، مؤمنيهم و كفّارهم فَلَمْ نُغادِرْ و لم نترك مِنْهُمْ تحت الأرض أَحَداً.

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ اَلْجِبالَ وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)

ص: 132


1- . تفسير العياشي 3:94/2655، تفسير الصافي 3:244.
2- . مجمع البيان 6:731، تفسير الصافي 3:244.
3- . تفسير أبي السعود 5:225، تفسير روح البيان 5:251.
4- . في تفسير العياشي: جننكم، و كذا ما بعدها.
5- . تفسير العياشي 3:94/2656، تفسير الصافي 3:244.
6- . الكافي 2:367/4، تفسير الصافي 3:245.
7- . مجمع البيان 6:731، تفسير الصافي 3:244.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة حشر الخلق بقوله: وَ عُرِضُوا بعد حشرهم عَلى رَبِّكَ كما يعرض الجند على الملك حال كونهم صَفًّا صفّا، و مجتمعين غير متفرّقين و لا مختلطين يرى جميعهم كما يرى واحدهم.

عن الصادق عليه السّلام: «هم يومئذ عشرون و مائة ألف صفّ في عرض الأرض» (1).

فيقول اللّه لهم: لَقَدْ جِئْتُمُونا من الدنيا بلا مال و أولاد و أعوان حفاة عراة كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

عن عائشة قلت: يا رسول اللّه، كيف يحشر النّاس يوم القيامة؟ قال: «عراة حفاة» قلت: و النساء؟ ! قال: «نعم» قلت: يا رسول اللّه، نستحيي! قال: «يا عائشة، الأمر أشدّ من ذلك، لن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض» (2).

ثمّ يخاطب المنكرين للبعث و يقول سبحانه لهم توبيخا و تقريعا: بَلْ زَعَمْتُمْ و ادّعيتهم بالكذب في الدنيا أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ أبدا مَوْعِداً و وقتا ننجز فيه ما وعدناه على ألسنة الرّسل من البعث و تبعاته، فاليوم قد تعيّن لكم صدق ما أخبروكم، و شاهدتم أنّ السّاعة حقّ، و البعث صدق، و تركتم في الدنيا ما كنتم تفتخرون به من الأموال و الأولاد و الأعوان.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 49

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة المحاسبة بقوله: وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ الذي فيه أعمال الخلق في أيديهم فَتَرَى يا محمّد، أو أيّها الرائي اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة مُشْفِقِينَ و خائفين مِمّا هو مكتوب فِيهِ من العقائد الفاسدة، و الأعمال السيّئة، و الذنوب الصغيرة و الكبيرة، فينادون وَ يَقُولُونَ حين اطّلاعهم على أعمالهم المكتوبة فيه نقيرها (3)و قطميرها (4)تعجّبا و تحسّرا: يا وَيْلَتَنا و هلكتنا احضري فهذا أوانك ما لِهذَا اَلْكِتابِ و أيّ شيء له، فإنّه لا يُغادِرُ و لا يترك فعلة صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها و ضبطها وَ وَجَدُوا جميع ما عَمِلُوا في الدنيا حاضِراً و مثبوتا فيه، و إنّما يعترفون به لأنّهم يجدونه مطابقا لما كتبوه في صحائف نفوسهم بقلم

وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ فَتَرَى اَلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا اَلْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

ص: 133


1- . الاحتجاج:350، تفسير الصافي 3:245.
2- . تفسير روح البيان 5:252.
3- . النّقير: النّكتة في ظهر النّواة.
4- . القطمير: القشرة الرقيقة بين النّواة و التمر.

أعمالهم.

قيل: إنّما قدّم ذكر الصغيرة لكونها جارّة إلى الكبيرة (1)، و يحتمل أن يكون [المراد]من حضور الأعمال تجسّمها في نظرهم مضافا إلى رؤيتها في كتابها. أو يكون المراد رؤية جزائها و شهوده وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً بكتابة ما لم يعمل، أو العقوبة زائدا على الاستحقاق.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 50 الی 51

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر افتخار المشركين على فقراء المؤمنين و تكبّرهم عليهم، ذكر تكبّر إبليس عن السجود لآدم ردعا لهم و بيانا لسوء عاقبة الكبر بقوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا له إِلاّ إِبْلِيسَ فانّه أبى و استكبر؛ لأنّه كانَ مِنَ اَلْجِنِّ المخلوق من النار المجبول على الترفّع، و لم يكن من الملائكة المخلوقين من النّور فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (2).

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)ثمّ وبّخ اللّه سبحانه المتكبّرين على اتّباعه ما غاية عداوته لآدم و ذريّته بقوله: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ لأنفسكم أَوْلِياءَ و أحبّاء متبوعين مِنْ دُونِي و بدلا منّي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ مبغض، و حقّهم أن تعادوهم و تبغضوهم لا أن توالوهم، و أن تخالفوهم لا أن تطيعوهم بِئْسَ لِلظّالِمِينَ و الكافرين المتكبّرين بَدَلاً من اللّه إبليس و ذريّته.

ثمّ بيّن سبحانه تعالى فقدانهم لما يوجب التكبّر على غيرهم، و هو كونهم أعوان اللّه و شركاءه في الخلق بقوله: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و ما أحضرتهم حينئذ لأستعين بهم في خلقهما، أو أشاورهم في إيجادهما وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ مع كمال حقارتهم بأن يعيننا بعضهم في خلق بعض آخر، و ما شاورتهم في تدبير العالم وَ ما كُنْتُ من قبل خلق الموجودات إلى الأبد مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ من الشيطان و ذرّيته و أتباعه من الجنّ و الإنس لنفسي في الخلق و التدبير عَضُداً و عونا.

قيل: إنّ المراد ما أشهدت الذين اتّخذتموهم أولياء خلق السماوات و الأرض، و لا أشهدت بعضهم

ص: 134


1- . تفسير الرازي 21:134.
2- . لم يرد تفسيرها عن المصنف.

خلق بعض (1). و قيل: إنّ المراد أنّه ليس لهم العلم بالمغيبات و لا بخلق أنفسهم، فكيف تعبدونهم و تدّعون أنّهم شركائي في العبادة (2)؟

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 52 الی 53

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخ المشركين المتكبّرين على اتّباعهم الشيطان و نفي أهليّة التكبّر عنهم، عاد إلى تهويلهم بأهوال القيامة و تقريعهم على الشّرك فيها بقوله: وَ يَوْمَ يَقُولُ اللّه للمشركين تقريعا و تهكّما: أيّها المشركون نادُوا شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّهم شركائي في الالوهيّة و العبادة، و أنّهم شفعاؤكم في هذا اليوم، كي ينجوكم من العذاب بالقهر، أو يشفعوا لكم (3)فَدَعَوْهُمْ و نادوهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ و استغاثوا بهم فلم يغيثوهم وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ من الداعين و المدعوّين مَوْبِقاً و مهلكا و هو النار، أو واديا من جهنّم، أو برزخا بعيدا يهلك فيه السائر، أو عداوة شديدة مهلكة.

وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)و قيل: إنّ البين بمعنى المواصلة، و المعنى: جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكهم في الآخرة (4).

وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ و المشركون بعد يأسهم من آلهتهم اَلنّارَ التي اعدّت لهم فَظَنُّوا و أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها و مخالطوها.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام «يعني: أيقنوا أنّهم داخلوها» (5).

و عنه عليه السّلام: «و قد يكون بعض ظنّ الكافر يقينا، و ذلك قوله تعالى: وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنّارَ الآية، أي: أيقنوا أنّهم مواقعوها» (6).

وَ لَمْ يَجِدُوا لأنفسهم عَنْها مَصْرِفاً و معدلا إلى غيرها أو مهربا؛ لأنّ الملائكة يسوقونهم إليها، أو لأنّها محيطة بهم من كلّ جانب.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 54

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ اَلْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)

ص: 135


1- . تفسير الرازي 21:138.
2- . مجمع البيان 6:735، تفسير روح البيان 5:256.
3- . في النسخة: يشفعوكم.
4- . تفسير روح البيان 5:258.
5- . التوحيد:267/5، تفسير الصافي 3:247.
6- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 3:247.

ثمّ أنّه تعالى بعد ردع الكفّار المفتخرين على فقراء المؤمنين بكثرة المال و الولد بالبيانات التي كلّها كالمثل في الغرابة و الحسن، و ذكر المثلين المتقدّمين، بيّن سبحانه شدّة شقاوتهم و قساوتهم و عدم تأثّرهم بها بقوله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا و كرّرنا أو أوردنا على وجوه كثيرة من النظم فِي هذَا اَلْقُرْآنِ صلاحا و نفعا لِلنّاسِ كافة الى يوم القيامة مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بديع و معنى عجيب و شبيه و نظير و عبر و دلائل على الحقّ وَ مع ذلك كانَ اَلْإِنْسانُ بجنسه و طبعه أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً و أشدّه خصومة بالباطل.

قيل: من طبيعة الإنسان المجادلة و المخاصمة، و بها يقطعون الطريق على أنفسهم، فتارة يجادلون الأنبياء و لا يقبلون النبوّة و الرسالة حتى يقاتلوهم، و تارة يجادلون في الكتب المنزلة و يقولون: ما أنزل اللّه على بشر من شيء، و تارة يجادلون في محكماتها، و تارة يجادلون في متشابهاتها، و تارة يجادلون في ناسخها و منسوخها، و تارة يجادلون في تفسيرها و تأويلها، و تارة يجادلون في أسباب نزولها، و تارة يجادلون في قراءتها، و تارة يجادلون في قدمها و حدوثها، إلى غير ذلك حتى لم يفرغوا من المجادلة إلى المجاهدة، و من المخاصمة إلى المعاملة، و من المنازعة إلى المطاوعة، فلهذا قال تعالى: وَ كانَ اَلْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (1).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 55 الی 56

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ القرآن جامع لجميع الدلائل و العبر و العلوم، بيّن تمامية الحجّة على النّاس به، و عدم تصوّر العذر لهم في ترك الإيمان بقوله: وَ ما مَنَعَ اَلنّاسَ من أَنْ يُؤْمِنُوا باللّه و رسوله و دينه الحقّ إِذْ جاءَهُمُ اَلْهُدى و حين أتاهم الرسول، و قرّر لهم دلائل التوحيد و رسالته، و جميع ما يجب الإيمان به بما لا مزيد عليه وَ من أن يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ و يتوبوا إليه من شركهم و معاصيهم إِلاّ انتظار أَنْ تَأْتِيَهُمْ العقوبة الدنيويّة التي هي سُنَّةُ اللّه و دأبه في القرون اَلْأَوَّلِينَ و الامم الماضين الجاحدين لكلّ حقّ، المعارضين للرسل أَوْ أن يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذابُ الاخروي قُبُلاً و عيانا، أو أنواعا.

وَ ما مَنَعَ اَلنّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ اَلْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذابُ قُبُلاً (55) وَ ما نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ وَ اِتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)

ص: 136


1- . تفسير روح البيان 5:259.

و حاصل المعنى-و اللّه أعلم-أنّهم لا يؤمنون إلاّ عند نزول عذاب الاستئصال، أو حين تواصل عذاب الدنيا عليهم بعذاب الآخرة، و حينئذ لا ينفعهم الإيمان.

ثمّ لمّا بيّن اللّه أنّ جبلّة الإنسان على الجدال بيّن أنّهم يجادلون و يقترحون على الرسل مع أنّ وظيفتهم التبشير و الإنذار بقوله: وَ ما نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إلى الناس لغرض من الأغراض إِلاّ لغرض واحد و هو أن يكونوا مُبَشِّرِينَ للمؤمنين المطيعين بالثواب وَ مُنْذِرِينَ للكافرين و العصاة بالعذاب، لا لموافقتهم أهواء النّاس و إتيانهم بمقترحاتهم و عملهم بمتوقّعاتهم، من طرد الفقراء، و مجالسة المتكبّرين وَ يُجادِلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رسلهم بِالْباطِلِ كقولهم: لا يكون الرسول إلاّ ملكا، أو من يكون له بيت من زخرف، إلى غير ذلك لِيُدْحِضُوا بجدالهم و يزيلوا بِهِ اَلْحَقَّ الذي جاءهم به الرسول عن مقرّه و يبطلوه و يطفئوا نوره وَ اِتَّخَذُوا آياتِي الدالّة على الحقّ و معجزات الرسول وَ ما أُنْذِرُوا و خوّفوا به من العذاب على الكفر هُزُواً و سخريّة.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 57

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ و هل يكون أحد، أكثر إساءة على نفسه مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ و تليت عليه حجج اللّه و مواعظه بالعبارات التي تكون في أعلى درجة الإعجاز فَأَعْرَضَ و لوى رأسه عَنْها و ألقاها وراء ظهره و لم يتدبّرها و لم يتفكّر فيها وَ مع ذلك نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ و تغافل عمّا أرتكبه من السيّئات و عن سوء عاقبتها.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى اَلْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)ثمّ بيّن سبحانه علّة إعراضهم و تناسيهم بقوله: إِنّا جَعَلْنا بسبب كفرهم و عصيانهم عَلى قُلُوبِهِمْ الخبيثة المظلمة أَكِنَّةً و أغطية حين تلاوة القرآن عليهم كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ و يفهموا ما فيه من الأعجاز و الحكم و المعارف و الأحكام وَ جعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً و ثقلا و صمما وَ كراهة أن يستمعوه حقّ الاستماع وَ لذا إِنْ تَدْعُهُمْ يا محمّد إِلَى اَلْهُدى الذي هو دين الإسلام فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً لعدم تأثّر قلوبهم بقولك، كعدم تأثّرهم بالقرآن، فلا تتعب في دعوتهم و لا تحزن على ضلالتهم.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 58 الی 59

ص: 137

ثمّ ذكر سبحانه علّة إمهالهم بقوله: وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ للذّنوب و ذُو اَلرَّحْمَةِ على العباد يحلم و يرحم و لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا و لا يحلم عنهم لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذابَ بالصّاعقة، أو الخسف، أو غيرهما ممّا يهلكهم بالاستئصال في الدنيا، أو بإماتتهم و إحراقهم بالنّار في الآخرة بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ و وقت معيّن لمؤاخذتهم فيه لَنْ يَجِدُوا حين مجيئ ذلك الموعد مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه تعالى مَوْئِلاً و ملجأ يلتجئون إليه.

وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَ تِلْكَ اَلْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

ثمّ استشهد على إمهاله الكفّار و أخذهم في موعده بالقرى المهلكة بقوله: وَ تِلْكَ اَلْقُرى المهلكة من قرى عاد و ثمود و أضرابهما أَهْلَكْناهُمْ بعذاب الاستئصال لَمّا ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و الطغيان و تكذيب الرسل و الإعراض عن الآيات، و لكن لم نعاجلهم، بل قرّرنا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ و إنزال العذاب عليهم مَوْعِداً و وقتا معيّنا ممتدّا لم يتقدّم إهلاكهم عليه و لم يتأخّر عنه.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 60 الی 61

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الفخر و الكبر خلق الشّيطان، بيّن أنّ صفة التواضع و تبعيّة العالم من كرائم أوليائه و رسله، بذكر قصّة موسى عليه السّلام و تبيعته الخضر بقوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى بن عمران بن يصهر لِفَتاهُ و خادمه يوشع بن نون، أو أخي يوشع، أو عبده لا أَبْرَحُ و لا أزال أسير و أذهب حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ بحر فارس و بحر روم و ملتقاهما على ما قيل (1)، و هو الموضع الذي وعده اللّه بلقاء الخضر فيه. أو مجمع موسى و الخضر، فإنّ موسى بحر العلم الظاهر، و الخضر بحر العلم الباطن أَوْ أَمْضِيَ و أسير في الأرض حُقُباً و مدّة طويلة، أو ثمانون سنة على ما قيل (2)، و رواه القمي عن الباقر عليه السّلام (3).

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً (61)و قال القمي: لمّا أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قريشا بخبر أصحاب الكهف قالوا: أخبرنا عن العالم الذي أمر اللّه موسى أن يتّبعه و ما قصّته؟ فأنزل اللّه: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ (4).

ص: 138


1- . تفسير الرازي 21:145، تفسير روح البيان 5:263.
2- . تفسير الرازي 21:146، تفسير روح البيان 5:264.
3- . تفسير القمي 2:40، تفسير الصافي 3:248.
4- . تفسير القمي 2:37، تفسير الصافي 3:248.

في قصة موسى

و الخضر

و روى بعض العامة أنّه لمّا ظهر موسى عليه السّلام على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط، أمره اللّه أن يذكّر قومه أنعام اللّه عليهم، فخطب خطبة بليغة رقّت بها القلوب، و ذرفت العيون، فقال واحد من علماء بني إسرائيل: يا موسى، من أعلم؟ قال: أنا، فعتب اللّه عليه إذ لم يردّ العلم إلى اللّه تعالى، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين، و هو الخضر، و كان في أيّام أفريدون الملك العادل العاقل قبل موسى عليه السّلام، و كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر، و بقي إلى أيّام موسى عليه السّلام، و قد بعث هو في أيّام كشتاسب بن لهراسب-على ما قيل- فقال موسى عليه السّلام: يا ربّ، أين أطلبه، و كيف يتيسّر لي الظّفر به و الاجتماع معه؟ قال: اطلبه على ساحل البحر عند الصخرة، و خذ حوتا مملوحا في مكتل يكون زادا لك، فحيث فقدته فهو هناك. فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني. قال: و زعم أهل التوراة أنّ موسى هذا هو موسى بن ميشاء بن يوسف، و كان نبيّا قبل موسى بن عمران (1).

و قال بعضهم: إنّ موسى عليه السّلام لمّا أعطى الألواح و كلّمة اللّه قال: من الذي أفضل منّي و أعلم؟ فقيل: عبد للّه يسكن جزائر البحر (2).

و في رواية عامية أخرى: أنّ موسى عليه السّلام لمّا اوتي من العلم ما اوتي، ظنّ أنّه لا أحد مثله، فأتاه جبرئيل و هو بساحل البحر فقال: يا موسى، انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثمّ يرتفع، فأنت فيما اوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر (3).

و في رواية عامية: أنّ موسى عليه السّلام سأل ربه أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الذي يذكرني و لا ينساني. قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحقّ و لا يتّبع الهوى. قال: فأيّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى، أو تردّه عن ردى. فقال موسى عليه السّلام: إن كان في عبادك أعلم منّي فادللني عليه، فقال: أعلم منك الخضر. قال: فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا ربّ، كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني (2).

و القمي رحمه اللّه لمّا كلّم اللّه موسى عليه السّلام تكليما، فأنزل اللّه الألواح عليه، و فيها كما قال اللّه تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (3)رجع موسى عليه السّلام إلى بني إسرائيل، فصعد المنبر، فأخبرهم أنّ اللّه قد أنزل عليه التوراة و كلّمه، قال في نفسه: ما خلق اللّه خلقا أعلم منّي. فأوحى اللّه إلى جبرئيل:

ص: 139


1- . تفسير روح البيان 5:262. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:144.
2- . تفسير الرازي 21:145.
3- . الاعراف:7/145.

أدرك موسى فقد هلك، و أعلمه أنّ عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجل أعلم منك، فسر إليه و تعلّم من علمه. فنزل جبرئيل إلى موسى فأخبره، و ذلّ موسى في نفسه، و علم أنّه أخطأ و دخله الرّعب، و قال لوصيّه يوشع: إنّ اللّه قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين و أتعلّم منه، فتزوّد يوشع حوتا مملوحا (1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «بينا موسى عليه السّلام قاعد في ملأ من بني إسرائيل، إذ قال له رجل: ما أرى [أحدا]أعلم باللّه منك، قال موسى عليه السّلام: ما أرى. فأوحى اللّه إليه: بل عبدي الخضر. فسأل السبيل إليه، فكان له آية الحوت إن افتقده، و كان من شأنه ما قصّ اللّه» (2).

فذهب موسى و يوشع عليهما السّلام حتى بلغا مجمع البحرين فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما و مكانا يلتقي وسط ما امتدّ من البحرين، أو الموضع الذي يجتمع فيه موسى و الخضر الذي كان في طلبه، جلس هو و فتاه على الصخرة التي كانت قريبة من عين الحياة.

ثمّ نام موسى عليه السّلام، و توضّأ يوشع من العين، فوقعت قطرة من ماء العين على الحوت المملوح فحيي، فذهب في البحر، فتحيّر يوشع من هذا الأمر، فقام موسى عليه السّلام من النوم، و توجّه إلى الطريق، و أسرع في السير و تبعه يوشع و نَسِيا حُوتَهُما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب، أمّا موسى عليه السّلام فنسى تذكّر الحوت لصاحبه، و أمّا صاحبه فنسي الإخبار بأمر الحوت فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً و مسلكا.

القمي: فلمّا خرجا و بلغا ذلك المكان، وجدا رجلا مستلقيا على قفاه فلم يعرفاه، فأخرج وصيّ موسى الحوت و غسله بالماء، و وضعه على الصخرة و مضيا و نسيا الحوت، و كان ذلك الماء ماء الحيوان، فحيي الحوت و دخل في الماء، فمضى موسى و يوشع معه حتى عييا (3).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه قال لبعض اليهود و قد سأله عن مسأئل: «أمّا قولك أوّل عين نبعت على وجه الأرض، فإنّ اليهود يزعمون أنّها العين التي ببيت المقدس تحت الحجر و كذبوا، هي عين الحيوان التي انتهى موسى عليه السّلام و فتاه إليها، فغسل فيها السمكة المالحة فحييت، و ليس من ميت يصيبه ذلك الماء إلاّ حيي، و كان الخضر في مقدّمة ذي القرنين يطلب عين الحياة فوجدها و شرب منها، و لم يجدها ذو القرنين» (4).

و في رواية: أنّ موسى و يوشع عليهما السّلام انطلقا يمشيان، فانتهيا إلى شيخ مستلق معه عصاه موضوعة إلى

ص: 140


1- . تفسير القمي 2:37، تفسير الصافي 3:248.
2- . تفسير العياشي 3:103/2672، تفسير الصافي 3:249.
3- . تفسير القمي 2:37، تفسير الصافي 3:249.
4- . إكمال الدين:298/5، تفسير الصافي 3:250.

جانبه عليه كساء، إذا قنّع رأسه خرجت رجلاه، و إذا غطّى رجليه خرج رأسه، فقام موسى يصلّي و قال ليوشع: احفظه (1)عليّ، قال: فقطرت قطرة من السماء في المكتل فاضطرب الحوت، ثمّ جعل يثب من المكتل إلى البحر، و هو قوله تعالى: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً ثمّ جاء طير فوقع في (2)ساحل البحر، ثمّ أدخل منقاره في البحر فقال: يا موسى، ما أخذت من علم ربّك ما حمل [ظهر] منقاري من جميع ماء البحر (3).

و في رواية عنهما عليهما السّلام: «لمّا كان من أمر موسى عليه السّلام ما كان، اعطي مكتلا فيه حوت مملّح، و قيل له: هذا يدلّك على صاحبك عند مجمع البحرين صخرة عندها عين (4)لا يصيب منها شيء ميّتا إلاّ حيي، يقال لها عين الحياة، فانطلقا حتى بلغا الصخرة، فانطلق الفتى يغسل الحوت في العين، فاضطرب في يده فخدشه و تفلّت منه و نسيه الفتى» (5).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 62 الی 65

فَلَمّا جاوَزا مجمع البحرين قالَ موسى لِفَتاهُ يوشع: آتِنا غَداءَنا و الحوت الذي أعددناه لأكلنا أوّل النهار، باللّه لَقَدْ لَقِينا و أصبنا مِنْ سَفَرِنا هذا الذي نحن فيه نَصَباً و تعبا شديدا و عيّا كثيرا.

فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اِتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً (65)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لم يجد موسى النّصب حتى جاوزا (6)المكان الذي أمره به» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما أعيى حيث جاوزا (8)الوقت» (9).

فلمّا جاء يوشع بالسفرة تذكّر قصّة الحوت و قالَ: يا موسى أَ رَأَيْتَ و هل اطّلعت على الأمر العجيب، فإنّا إِذْ أَوَيْنا و وصلنا إِلَى اَلصَّخْرَةِ و نزلنا عندها فَإِنِّي نَسِيتُ و تركت

ص: 141


1- . في تفسير العياشي: احفظ.
2- . في تفسير العياشي: فوقع على.
3- . تفسير العياشي 3:101/2671، تفسير الصافي 3:249.
4- . في تفسير العياشي: عين مجمع البحرين.
5- . تفسير العياشي 3:97/2665، تفسير الصافي 3:250.
6- . في تفسير روح البيان: جاوز.
7- . تفسير روح البيان 5:265.
8- . في تفسير العياشي: جاوز.
9- . تفسير العياشي 3:101/2671، تفسير الصافي 3:250.

اَلْحُوتَ على الصخرة، أو نسيت أن أذكر لك أمره و ما شاهدت من العجب، و هو أنّه حيي و اضطرب و وقع في الماء.

قيل: إنّ علّة نسيانه-و إن كان أمره من شدّة غرابته ممّا لا ينسى اعتياده مشاهدة أمثال ذلك من موسى عليه السّلام، فقلّ اهتمامه به، أو استغراقه في أنوار جمال الالوهيّة و انجذاب شراشره (1)إلى جناب قدس الربوبية (2).

ثمّ لمّا كان نسيانه ذلك سببا لتجاوز موسى عليه السّلام من ذلك المكان و ارتفاعه في التعب، اعتذر إليه بقوله: وَ ما أَنْسانِيهُ شيء إِلاَّ اَلشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ لك و اخبرك به وَ اِتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سبيلا أو اتخاذا عَجَباً.

قيل: إنّ وجه التعجّب حياته بعد الموت و التّشويه، و انقلابه من المكتل، و إلقاء نفسه في البحر، و جعل اللّه تعالى الماء على الحوت كالطاق و السّرب (3). و إنّما نسب يوشع النسيان إلى الشيطان لكونه نقصا أو لإظهار هضم النفس.

و قيل: إنّ بعد إخبار يوشع بأمر الحوت قالَ موسى: عجبا ذلِكَ الذي ذكرت من أمر الحوت (4)ما كُنّا نَبْغِ و نطلب لكونه أمارة الفوز بالمقصود من لقاء الخضر فَارْتَدّا و رجعا من مكانهما إلى مكان الصخرة عَلى آثارِهِما و طريقهما الذي جاءا منه، و هما يقصّان قَصَصاً و يتفحّصان تفحّصا عن أثرهما و طريقهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت،

فأتيا الصخرة فَوَجَدا عندها عَبْداً عظيم الشّأن مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ الوحي و النبوّة اللّتين تكونان رَحْمَةً و تفضّلا مِنْ عِنْدِنا.

و قيل: إنّ الصوفية قالوا: إنّ المراد من الرحمة طول العمر لا النبوّة (5). و قيل: إنّه كان نبيّا و لم يكن مرسلا (6)وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً خاصّا بنا و هو علم الغيب.

أقول: ذهب الأكثرون إلى أنّه الخضر، كما في الروايات السابقة؛ و إنّما سمّي خضرا لأنّه لا يقف موقفا إلاّ اخضرّ ذلك الموضع (7).

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ الخضر كان نبيّا مرسلا، بعثه اللّه إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده، و الإقرار

ص: 142


1- . الشّراشر: النفس، و المحبّة، و قيل: جميع الجسد، يقال: ألقى عليه شراشره، أي نفسه حرصا و محبّة.
2- . تفسير البيضاوي 2:17، تفسير روح البيان 5:266.
3- . تفسير الرازي 21:147، و السّرب: الطريق. و السّرب: حفير تحت الأرض لا منفذ له، و القناة الجوفاء.
4- . تفسير روح البيان 5:267.
5- . تفسير روح البيان 5:270.
6- . تفسير روح البيان 5:268.
7- . تفسير الرازي 21:149.

بأنبيائه و رسله و كتبه، و كانت آيته أنّه كان لا يجلس على خشبة يابسة و لا أرض بيضاء إلاّ اهتزّت خضراء، و إنّما سمّي الخضر لذلك، و كان اسمه بليا بن ملكا بن عامر (1)بن أرفخشد بن سام بن نوح (2). و قال بعض العامّة: إنّه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالح (3)بن أرفخشد بن سام بن نوح (4).

و روى أبو الليث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «أنّه كان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فلم يقبل و هرب منه، و لحق بجزائر البحر» (5).

و قيل: إنّ أباه كان ملكا، و أمّه كانت بنت فارس، و اسمها الها، و أنّها ولدته في مغارة، و أنّه ترك هنالك و شاة ترضعه في كلّ يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فربّاه، فلمّا شبّ طلب الملك أبوه كاتبا، فجمع أهل المعرفة و النبالة ليكتب الصحف التي نزلت على إبراهيم و شيث. فدخل الخضر فيمن قدم عليه من الكتّاب، فلمّا استحسن خطّه و معرفته و نجابته سأله عن جليّة أمره، فعرف أنّه ابنه، فضمّه لنفسه و ولاّه أمر الناس. ثمّ فرّ الخضر من الملك و زهد في الدنيا، و سار إلى أن وجد عين ماء الحياة فشرب منها (6).

و عن ابن عبّاس: أنّ الخضر بن آدم لصلبه، و نسئ له في أجله حتّى يكذّب الدجّال (7).

و عن ابن العساكر: أنّ آدم لمّا حضره الموت أوصى بنيه أن يكون جسده معهم في غار، فكان جسده في مغارة معهم، فلمّا بعث اللّه نوحا ضمّ ذلك الجسد في السفينة بوصيّة آدم، فلمّا خرج منها قال لبنيه: إنّ آدم دعا بطول العمر لمن يدفنه من أولاده إلى يوم القيامة، فذهب أولاده إلى الغار ليدفنوه، و كان فيهم الخضر، فكان هو الذي تولّى دفن آدم، فأنجز اللّه ما وعده (8).

و قيل: إنّه ابن خالة ذي القرنين، و كان في سفره معه، و شرب من ماء الحياة، فمدّ اللّه عمره (9).

و قيل: إنّه كان من ذريّة إسحاق (10).

و عن البغوي: أربعة من الأنبياء أحياء إلى يوم القيامة، اثنان في الأرض و هما الخضر و إلياس عليهما السّلام، [و إثنان في السماء إدريس و عيسى عليهما السّلام] (11).

و قال بعض العامة: أنّ أبا عمر إمام الحديث في وقته روى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين غسّل و كفّن سمعوا قائلا يقول: السّلام عليكم يا أهل البيت، إنّ في اللّه خلفا من كلّ هالك، و عوضا من كلّ تالف، و عزاء من كلّ مصيبة، فعليكم بالصّبر فاصبروا و احتسبوا. ثمّ دعا لهم، و لا يرون شخصه، فكانوا يرون

ص: 143


1- . في علل الشرائع: باليا بن ملكا بن عابر.
2- . علل الشرائع:59/1، تفسير الصافي 3:251.
3- . في تفسير روح البيان: شالخ.
4- . تفسير روح البيان 5:267.
5- . تفسير روح البيان 5:267.
6- . تفسير روح البيان 5:267.
7- . تفسير روح البيان 5:268.
8- . تفسير روح البيان 5:268.
9- . تفسير روح البيان 5:268.
10- . تفسير روح البيان 5:268.
11- . تفسير روح البيان 5:268.

أنّه الخضر (1).

و عن كتاب (الهواتف) لبعض العامّة: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لقي الخضر و علّمه الدعاء، و ذكر فيه ثوابا عظيما، و مغفرة لمن قاله في أثر كلّ صلاة و هو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، و يا من لا تغلّطه المسائل، و يا من لا يتبرّم من إلحاح الملحّين، أذقني برد عفوك و حلاوة مغفرتك (2).

و روى بعض أكابر العامة أنّ الخضر يظهر مع أصحاب الكهف عند ظهور المهدي عليه السّلام و يستشهد، و يكون من أفضل شهداء عسكر المهدي عليه السّلام (1).

و عن الصادق عليه السّلام في الحديث السابق: «فرجع موسى عليه السّلام فقصّ أثره حتى انتهى إليه و هو على حاله مستلق، فقال له موسى عليه السّلام: السّلام عليك، [فقال: و عليك السّلام]يا عالم بني إسرائيل. قال: ثمّ وثب فأخذ عصاه بيده» الخبر (2).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 66 الی 70

قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى شرط، أو بانيا على أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ علما يكون هو رُشْداً لي في ديني، و دلالة لي إلى خيري، أو علّمت و ارشدت به قالَ الخضر: يا موسى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً لأنّي وكّلت بأمر (5)لا تطيقه، و وكّلت بأمر (6)لا اطيقه. كما عن الصادق عليه السّلام (3).

قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)ثمّ بالغ في صرفه عن مصاحبته باستبعاد الصّبر على ما يرى بقوله: وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً و علما، و لم تقف على حقيقته قالَ موسى عليه السّلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ صابِراً معك غير معترض عليك وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً و لا اخالفك فيما تطلب منّي.

عن الصادق عليه السّلام «فلمّا استثنى المشيئة قبله» (4).

و في حديث عن أحدهما عليهما السّلام: «فلمّا سأل العالم علم العالم أنّ موسى عليه السّلام لا يستطيع صحبته و لا

ص: 144


1- . تفسير روح البيان 5:269.
2- . تفسير العياشي 3:102/2671، تفسير الصافي 3:251. (5 و 6) . في علل الشرائع: بعلم.
3- . تفسير العياشي 3:98/2665، علل الشرائع:60/1، تفسير الصافي 3:252.
4- . علل الشرائع:60/1، تفسير الصافي 3:252.

يحتمل علمه و لا يصبر معه، فعند ذلك قال: فكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟ فقال له موسى عليه السّلام و هو خاضع يستلطفه (1)على نفسه كي يقبله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ صابِراً (2).

عن الصادق عليه السّلام: «كان موسى عليه السّلام أعلم من الخضر» (3).

ثمّ قالَ الخضر إيذانا للرّضا بصحبته: فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي و صحبتني فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ حكمة شَيْءٍ و فعل تشاهده من أفعالي و تنكره في نفسك منّي حَتّى أُحْدِثَ لَكَ و أبتدؤك مِنْهُ ذِكْراً و بيانا، فإنّ كلّما أفعله له مصلحة تامّة و غاية حميدة أطلعك عليها.

عن الرضا عليه السّلام: «يقول: لا تسألني عن شيء أفعله و لا تنكره عليّ حتى اخبرك بخبره، قال: نعم» (4).

قيل: إنّ موسى عليه السّلام صرف يوشع إلى بني إسرائيل، و بقي هو مع الخضر (5).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 71 الی 77

فَانْطَلَقا و ذهبا: قيل: و تبعهما يوشع (6)حَتّى إِذا رَكِبا البحر فِي اَلسَّفِينَةِ روي أنّهما مرّا بالسفينة فاستحملا ملاحيّها، فعرفوا الخضر، فحملوهما بغير أجرة (7). فبينما تسير السفينة قام الخضر و خَرَقَها و شقّها لمّا بلغوا وسط البحر.

فَانْطَلَقا حَتّى إِذا رَكِبا فِي اَلسَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اِسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)عن الرضا عليه السّلام في حديث: «فمرّوا ثلاثتهم حتّى انتهوا إلى ساحل البحر، و قد شحنت سفينة و هي تريد أن تعبر: فقال أرباب السفينة: نحمل هؤلاء الثلاثة نفر فإنّهم قوم صالحون فحملوهم، فلمّا

ص: 145


1- . في تفسير العياشي: يستعطفه.
2- . تفسير العياشي 3:100/2670 عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 3:252.
3- . تفسير العياشي 3:98/2667، تفسير الصافي 3:252.
4- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:253.
5- . تفسير أبي السعود 5:235، تفسير روح البيان 5:277. (6 و 7) . تفسير روح البيان 5:277.

جنحت السفينة في البحر قام الخضر إلى جوانب السفينة فكسرها فحشاها بالخرق (1)و الطين، فغضب موسى عليه السّلام غضبا شديدا و قالَ للخضر معترضا عليه: أَ خَرَقْتَها و شققتها لِتُغْرِقَ أَهْلَها (2)مع أنّهم محسنون بنا حيث حملونا بلا اجرة؟ ! باللّه لَقَدْ جِئْتَ و فعلت شَيْئاً و فعلا إِمْراً و شنيعا، أو عظيما، أو عجيبا.

القمي: هو المنكر، و كان موسى ينكر الظلم فأعظم ما رأى (3)قالَ الخضر لموسى عليه السّلام إنكارا عليه، أو تقريرا: أَ لَمْ أَقُلْ لك إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً و أنت وعدتني الصبر، فلم خالفت؟

قالَ موسى معتذرا إلى الخضر: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وصيّتك بترك السؤال من شدّة الغضب، و لا مؤاخذة على الناسي وَ لا تُرْهِقْنِي و لا تعنتني مِنْ أَمْرِي الذي أنا عليه من متابعتك عُسْراً و مشقّة، بل يسّر متابعتك عليّ بالإغضاء و ترك المناقشة، فإنّي مشتاق إلى صحبتك، و لا يمكنني ذلك إلاّ بأن ترفق بي و تسامحني فيما يصدر منّي.

فقبل الخضر عذر موسى، و خرجا من السفينة فَانْطَلَقا و ذهبا معا حَتّى إِذا مرّا بقرية و لَقِيا في خارجها-على ما قيل (4)- غُلاماً صبيحا، فأخذه الخضر و ذهب به خلف الجدار فَقَتَلَهُ.

و عن ابيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّهما خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده» (5).

و عن الرضا عليه السّلام في الحديث السابق: «فخرجوا من السفينة، فنظر الخضر إلى غلام يلعب بين الصبيان حسن الوجه، كأنّه قطعة قمر، و في اذنيه درّتان، فتأمّله الخضر ثمّ أخذه و قتله، فوثب موسى عليه السّلام على الخضر و جلد به الأرض» (6). قالَ انكارا لفعله أَ قَتَلْتَ يا خضر نَفْساً زَكِيَّةً طاهرة من الذنوب بِغَيْرِ قتل نَفْسٍ محترمة يوجب القصاص؟ !

قيل: إنّ الغلام كان بالغا، لأنّ الصغير لو قتل أحدا لا يقتصّ منه (7). و فيه: لعلّ المراد بيان إنحصار مجوّز القتل في الحدود و القصاص، و إن لم يكن في الصغير أحد موجباته.

و قيل: لعلّ الصغير كان يقاد في شرع موسى، كما أنّ الصغار كانوا مكلّفين قبل الهجرة، و في عام

ص: 146


1- . في النسخة: بالخزف.
2- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:254.
3- . تفسير القمي 2:40، تفسير الصافي 3:253.
4- . تفسير روح البيان 5:279.
5- . تفسير روح البيان 5:279.
6- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:254، و جلد به الأرض: صرعه.
7- . تفسير روح البيان 5:279.

خيبر رفع القلم عنهم (1).

و روت العامّة أنّ عليا عليه السّلام أسلم و هو ابن ثماني سنين، و قد أجمعوا على صحّة إسلامه (2).

ثمّ بالغ موسى عليه السّلام في توبيخ الخضر بقوله: لَقَدْ جِئْتَ و فعلت يا خضر شَيْئاً و فعلا نُكْراً و قبيحا غايته، و منكرا أنكر من الفعل الأوّل، لأنّ خرق السفينة و إن كان تعريضا للتلف إلاّ أنّه قابل للتّدارك، بخلاف قتل الغلام فإنّه إتلاف غير قابل للتدارك.

قالَ الخضر توبيخا لموسى على عدم وفائه بالعهد و تركه العمل بالوصيّة: يا موسى أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ مرارا إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.

عن الصادق عليه السّلام: «قال الخضر: إنّ العقول لا تحكم على أمر اللّه، بل أمر اللّه يحكم عليها، فسلّم لما ترى منّي و اصبر عليه، فقد كنت علمت أنّك لن تستطيع معي صبرا» (3)قالَ موسى: اعف يا خضر عن خطئي في هذه المرّة إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها و خالفتك مّرة ثالثة فَلا تُصاحِبْنِي و إن سألت صحبتك، و أبعدني و إن التمست قربك قَدْ بَلَغْتَ و وجدت في تبعيدي و عدم قبول التماسي مِنْ لَدُنِّي و من قبلي عُذْراً مقبولا لا أقدر [على]

ردّه. و في الحديث: «رحم اللّه أخي موسى استحيا فقال ذلك، و لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» (4).

فَانْطَلَقا و ذهبا معا بعد ما شرطا ذلك حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ يقال لها أنطاكية، و كانت ذات أعين و سور عظيم من صخر داخلة خمسة أجبل، و دورها اثنا عشر ميلا. كذا قيل (5). و قيل: إنّها أيلة (6). و قيل: البصرة (7). و قيل: جردان من أرمينية (8). و قيل: برقة من الروم (9). و عن الصادق و الرضا عليهما السّلام: «هي الناصرة، و إليها تنسب النصارى» (10).

قيل: كانت عادة أهل البلد أنهم يسدّون أبوابها في أوّل الليل و لا يفتحونها لأحد، فجاء موسى و الخضر حتّى وصلا إلى القرية عند العشاء، فوجدا أبوابها مسدودة، فسألوا أهلها أن يفتحوا لهما الباب فأبوا ذلك (11)، و لمّا كانا جائعين اِسْتَطْعَما أَهْلَها و طلبا منهم الضيافة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما

ص: 147


1- . تفسير روح البيان 5:279-280.
2- . تفسير روح البيان 5:280.
3- . علل الشرائع:61/1، تفسير الصافي 3:253.
4- . تفسير الصافي 3:254، تفسير روح البيان 5:280.
5- . تفسير روح البيان 5:281.
6- . تفسير الرازي 21:156، تفسير أبي السعود 5:237.
7- . تفسير البيضاوي 2:19.
8- . تفسير البيضاوي 2:19، و فيه: باجروان، و في مراصد الاطلاع 1:60، و في معجم البلدان 1:192: جرزان.
9- . تفسير أبي السعود:5:237.
10- . تفسير العياشي 3:102/2671، علل الشرائع:61/1، تفسير الصافي 3:254.
11- . تفسير روح البيان 5:281.

و يطعموهما.

قيل: ذكر أهلها في موضع ضمير الجمع، للدلالة على التأكيد و زيادة التشنيع على سوء صنيعهم، فإنّ الإباء عن الإطعام و الضيافة مع كونهم أهل القرية و قادرين عليها أقبح و أشنع (1).

و قيل: إنّهما لم يسألا، و إنّما كان نزولهما عليهم بمنزلة السؤال (2).

ثمّ قيل: إنّهم باتو خارج القرية إلى الصباح، فلمّا فتحوا في النهار أبوابها، دخلوها و ساروا في سككها (3)فَوَجَدا فيها جِداراً يُرِيدُ و يشرف أَنْ يَنْقَضَّ و يسقط لزيادة ميله فَأَقامَهُ الخضر و سوّاه بالاشارة بيده، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله (2). أو بوضع يده عليه، كما عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا. و عن الصادق عليه السّلام في (العلل) (3).

قيل: كان طول الجدار في السماء مائة ذراع (4)، فلمّا رأى موسى عليه السّلام هذا الإحسان من الخضر إلى أهل القرية مع غاية لآمتهم و شدّة ضرورتهما إلى الطعام، اعترض على الخضر و قالَ له: لم عملت هذا العمل مجانا؟ إنّك لَوْ شِئْتَ و اللّه لاَتَّخَذْتَ من أهل القرية عَلَيْهِ أَجْراً حتى نشتري به طعاما نسدّ به الرمق.

عن الرضا عليه السّلام في الحديث السابق: «حتى إذا أتيا بالعشيّ قرية تسمّى الناصرة، و لم يضيّفوا أحدا قطّ، و لم يطعموا غريبا، فاستطعموهم فلم يطعموهم و لم يضيّفوهم» (5).

و في رواية: «و لم يضيّفوا أحدا بعدهما حتى تقوم الساعة» (6).

فنظر الخضر إلى حائط قد مال (7)لينهدم، فوضع يده عليه و قال: قم بإذن اللّه فقام، فقال موسى عليه السّلام: لم ينبغ أن تقيم الجدار حتى يطعمونا و يأوونا، و هو قوله: لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (8).

قيل: لمّا قال موسى عليه السّلام أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها (9)قال: أ ليس كنت في البحر و لم تغرق من غير سفينة؟ و لمّا قال: أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ (10)قال الخضر: أ ليس قتلت القبطيّ بغير ذنب؟ و لمّا قال: لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال: أنسيت سقياك لبنات شعيب من غير اجرة؟ (11)

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 78 الی 79

قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا اَلسَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي اَلْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)

ص: 148


1- . تفسير أبي السعود 5:237، تفسير روح البيان 5:282. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:281.
2- . تفسير روح البيان 5:282.
3- . علل الشرائع:61/1، تفسير الصافي 3:254.
4- . تفسير روح البيان 5:282.
5- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:255.
6- . تفسير العياشي 3:102/2671، تفسير الصافي 3:255.
7- . في تفسير القمي: زال.
8- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:255.
9- . الكهف:18/71.
10- . الكهف:18/74.
11- . تفسير روح البيان 5:282.

ثمّ لمّا خالف موسى عليه السّلام العهد مرّة ثالثة قالَ الخضر: هذا الفراق فِراقُ أو هذا السؤال موجب للفراق بَيْنِي وَ بَيْنِكَ و سبب انقطاع وصلي و وصلك سَأُنَبِّئُكَ و اخبرك بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً و حكمة الامور المسؤول عنها.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «[وددنا]أنّ موسى كان صبر حتى يقصّ علينا من خبرهما» (1).

ثمّ شرع الخضر في بيان الحكم بقوله: أَمَّا اَلسَّفِينَةُ التي خرقتها فَكانَتْ ملكا لِمَساكِينَ و عدّة ضعفاء عجزة عن دفع الظلم عن أنفسهم.

قيل: كانوا عشرة إخوة، خمسة منهم زمنى (2)، و خمسة منهم يَعْمَلُونَ بها فِي اَلْبَحْرِ مؤاجرة، للكسب (3)و المعيشة فَأَرَدْتُ بأمر اللّه أَنْ أَعِيبَها و أنقضها (4)بالكسر وَ كانَ وَراءَهُمْ و خلفهم، أو أمامهم مَلِكٌ كافر يقال له جلندى: بجزيرة الأندلس ببلدة قرطبة على ما قيل (5). و هو يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صحيحة جيّدة وجد غَصْباً و ظلما، من أربابها. فكان الخرق بقصد التعييب لتسلم السفينة من الغصب لا بقصد الإغراق.

قيل: إنّ الملك كان من وراء الموضع الذي ركبوا في السفينة (6). و روي أنّ الخضر اعتذر إلى القوم، و ذكر لهم شأن الملك، و لم يكونوا يعلمون بخبره (7).

قيل: فبينما هم كذلك استقبلتهم سفينة فيها جنود الملك، و قالوا: إنّ الملك يريد أن يأخذ سفينتكم إن لم يكن بها عيب، ثمّ صعدوا إليها و كشفوها، فوجدوا موضع اللّوح مفتوحا فانصرفوا، فلمّا بعدوا عنهم أخذ الخضر ذلك اللّوح و ردّه إلى مكانه (8).

أقول: كلّ ذلك مناف لما ذكره اللّه من إطّلاع موسى عليه السّلام على الحكمة حين إرادة الخضر مفارقته.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 80 الی 82

وَ أَمَّا اَلْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا اَلْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

ص: 149


1- . تفسير الصافي 3:255، تفسير روح البيان 5:283.
2- . أي مرضى.
3- . تفسير أبي السعود 5:237، تفسير روح البيان 5:283.
4- . نقض الشيء: أفسده بعد إحكامه.
5- . تفسير روح البيان 5:284.
6- . تفسير الرازي 21:160.
7- . تفسير روح البيان 5:284.
8- . تفسير روح البيان 5:284.

ثمّ قال: وَ أَمَّا اَلْغُلامُ الذي قتلته فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ موحّدين فَخَشِينا و خفنا من أَنْ يُرْهِقَهُما و يغشيهما أو يكلّفهما طُغْياناً على اللّه وَ كُفْراً بوحدانيّته فيتّبعانه فيكفران و يطغيان لشدّة حبّهما إيّاه فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما اللّه و يعوّضهما عنه ولدا خَيْراً مِنْهُ زَكاةً و طهارة من الذّنوب، و دينا و صلاحا-و إنّما قال ذلك في مقابل قول موسى عليه السّلام، قتلت نفسا زكيّة- وَ أَقْرَبَ منه رُحْماً و أكثر عطفا و أوصل بولديه و أبويهما.

عن ابن عباس: أبدلهما [اللّه]

جارية، تزوّجها نبيّ من الأنبياء، فولدت سبعين نبيّا (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّهما ابدلا بالغلام المقتول ابنة، فولد منها سبعون نبيّا» (2).

وَ أَمَّا اَلْجِدارُ المائل الذي أقمته فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ اسمهما أصرم و صريم على ما قيل (3). وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما من الذهب و الفضّة على قول، و قيل: كان لوحا من ذهب أو من رخام مكتوب فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، و عجبت لمن يؤمن بالرّزق كيف ينصب، و عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، و عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، و عجبت لمن يعرف الدنيا و تقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها. لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، و عجبت لم يؤمن بالنار كيف يضحك. و في الجانب الآخر مكتوب: أنا اللّه لا إله إلاّ أنا، وحدي لا شريك لي، خلقت الخير و الشرّ، فطوبى لمن خلقته للخير و أجريته على يديه، و الويل لمن خلقته للشرّ و أجريته على يديه (4).

و عن أمير المؤمنين و الصادق عليهما السّلام: «كان ذلك الكنز لوحا من ذهب فيه مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه، عجبت لمن يعلم أنّ الموت حقّ كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يذكر النار كيف يضحك، عجبت لم يرى الدنيا و تصرّف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئنّ إليها» (5).

ص: 150


1- . تفسير روح البيان 5:285.
2- . الكافي 6:7/11، من لا يحضره الفقيه 3:317/1542، تفسير الصافي 3:256.
3- . تفسير أبي السعود 5:238، تفسير روح البيان 5:286.
4- . تفسير روح البيان 5:286.
5- . معاني الأخبار:200/1، تفسير القمي 2:40، تفسير الصافي 3:257.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذا الكنز فقال: «أما إنّه ما كان ذهبا و لا فضّة، و إنّما كان أربع كلمات: لا إله إلاّ أنا، من أيقن بالموت لم يضحك سنّه، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، و من أيقن بالقدر لم يخش إلاّ اللّه» (1).

و عن الرضا عليه السّلام: «كان [في الكنز الذي قال اللّه: وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما لوح من ذهب]فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم [محمّد رسول اللّه،]عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح قلبه، و عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، و عجبت لمن رأى الدنيا و تقلّبها بأهلها كيف يركن إليها. و ينبغي لمن عقل عن اللّه [أن]لا يتّهم اللّه في قضائه و لا يستبطئه في زرقه» (2).

وَ كانَ أَبُوهُما المسمّى بكاشح-على ما قيل (3)- صالِحاً تقيّا أمينا، يضع الناس ودائعهم عنده فيردّها إليهم سالمة-كما قيل (4)-فحفظا بصلاح أبيهما في أنفسهما و مالهما.

عن ابن عبّاس قال: حفظا بصلاح أبيهما (5)و ما ذكر منهما صلاح. روت العامّة عن الصادق عليه السّلام: «كان بينهما و بين الأب الصالح سبعة آباء» (6).

و العياشي عنه عليه السّلام: «إنّ اللّه ليحفظ ولد المؤمن [لأبيه]إلى ألف سنة، و إنّ الغلامين كان بينهما و بين أبيهما سبعمائة سنة» (7).

و عنه عليه السّلام: «إنّ اللّه ليصلح بصلاح الرّجل المؤمن ولده و ولد ولده، و يحفظه في دويرته و دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ اللّه؛ لكرامته على اللّه» ثمّ ذكر الغلامين و قال: «أ لم تر أنّ اللّه شكر صلاح أبويهما لهما» (8).

قال بعض العامّة: فما بالك بسيّد الأنبياء بالنسبة إلى قرابته الطّاهرة الطيّبة المطهّرة؟ (9).

أقول: ويل لم غصب فدك، الذي كان كنزا لهم، و لم يرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيهم.

نقل بعضهم: أنّ هارون همّ بقتل بعض العلوية، فلمّا دخل عليه العلوي أكرمه و خلّى سبيله، فقيل له: بماذا دعوت حتى أنجاك اللّه منه؟ قال: قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيّين بصلاح أبيهما، احفظني لصلاح آبائي (10).

ص: 151


1- . تفسير العياشي 3:108/2690، الكافي 2:48/6، تفسير الصافي 3:256.
2- . تفسير العياشي 3:108/2691، الكافي 2:48/9، تفسير الصافي 3:257.
3- . تفسير روح البيان 5:286.
4- . تفسير روح البيان 5:287.
5- . تفسير روح البيان 5:288.
6- . تفسير الرازي 21:162، تفسير روح البيان 5:287.
7- . تفسير العياشي 3:109/2694، تفسير الصافي 3:257.
8- . تفسير العياشي 3:106/2687، تفسير الصافي 3:257.
9- . تفسير روح البيان 5:288.
10- . تفسير روح البيان 5:289.

فَأَرادَ رَبُّكَ بأمره بتسوية جدار الغلامين أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما و يصلا إلى حدّ كمالهما من البلوغ و كمال العقل و حسن التدبير في المال وَ يَسْتَخْرِجا من تحت الجدار كَنزَهُما بسهولة، و لو لا إقامته لخرب و خرج الكنز و ظهر قبل اقتدارهما عليه وضاع بالكليّة، و إنّما كانت تلك الإرادة منه تعالى رَحْمَةً عظيمة لهما مِنْ رَبِّكَ و لذا فعلت ما رأيت وَ ما فَعَلْتُهُ أو ما فعلت جميع ما رأيت من خرق السفينة و غيره عَنْ أَمْرِي و رأيي، بل فعلته بأمر اللّه تعالى و وحيه ذلِكَ المذكور تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

قيل: إنّ الخضر في تأويل خرق السفينة نسب إرادة التعييب إلى نفسه، لكون التعييب ظاهر القبح، و في تأويل القتل إلى ضمير «نا» لكون الكفر ممّا يجب أن يخشاه كلّ أحد، و في تأويل إقامة الجدار إلى الربّ لكون بلوغ الأشدّ ليس إلاّ بإرادته تعالى وحده (1).

قيل: لمّا أسند الخضر الإرادة إلى نفسه أوّلا، ألهم بأنّه من أنت حتى تكون لك الإرادة؟ ثمّ جمع في الثانية حيث قال: فأردنا، فألهم بأنّه من أنت و موسى حتى تكون لكما الإرادة؟ فخصّ في الثالثة الإرادة باللّه (2).

و قيل: إنّه في خرق السفينة ذكر العيب فأضافه إلى نفسه، و في قتل الغلام عبّر عن نفسه بضمير الجمع تنبيها على عظمته في العلم و الحكمة، و لذا لم يقدم على القتل إلاّ لحكمة بالغة، و لمّا ذكر في الغلامين رعاية صلاحهما أضاف الإرادة إلى اللّه تنبيها على أنّ المراعي لصلاح الخلق هو اللّه (1).

و عن الصادق عليه السّلام في قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها (2): «نسب الإرادة إلى نفسه لعلّة ذكر العيب» (3)إلى أن قال: «و في قوله: فَخَشِينا إنّما اشترك في الأنانيّة، لأنّه خشي و اللّه لا يخشى؛ لأنّه لا يفوته شيء، و لا يمتنع عليه أمر أراده. و إنّما خشي الخضر من أن يحال بينه و بين ما أمر به، فلا يدرك ثواب الإمضاء فيه، و وقع في نفسه أنّ اللّه جعله سببا لرحمة أبوي الغلام، فعمل فيه وسط الأمرين من البشرية مثل ما كان عمل في موسى عليه السّلام لأنّه صار في الوقت مخبرا، و كليم اللّه مخبرا» (4).

أقول: لمّا كان فهم الرواية في غاية الإشكال تركت نقل بقيّتها.

روي أنّ موسى عليه السّلام لمّا أراد أن يفارق الخضر قال له الخضر: لو صبرت لأتيت ألف عجيبة، كلّ عجيبة أعجب ممّا رأيت. فبكى موسى عليه السّلام على فراقه و قال له: أوصني يا نبيّ اللّه. قال: لا تطلب

ص: 152


1- . تفسير الرازي 21:162.
2- . الكهف:18/79.
3- . في علل الشرائع: التعييب.
4- . علل الشرائع:61/1، تفسير الصافي 3:257.

العلم لتحدّث به الناس و اطلبه لتعمل به، و كن نفّاعا و لا تكن ضرّارا، و كن بشّاشا و لا تكن عبوسا غضابا، و إيّاك و اللّجاجة، و لا تمش في غير حاجة، و لا تضحك من غير عجب، و لا تعيّر المذنبين لعلّ اللّه يغفر خطاياهم بعد الندم، وابك على خطيئتك ما دمت حيّا، و لا تؤخّر عمل اليوم إلى الغد، و اجعل همّك في معادك، و لا تخض في ما لا يعنيك، و تدبّر الأمور في علانيتك، و لا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له موسى عليه السّلام: قد أبلغت في الوصيّة.

إلى أن قال: فقال له الخضر: أوصني أنت يا موسى. فقال موسى عليه السّلام له: إيّاك و الغضب إلاّ في اللّه، و لا تحبّ الدنيا، فإنّها تخرجك من الإيمان إلى الكفر. فقال الخضر: قد أبلغت في الوصيّة، الخبر (1).

أقول: في هذه القصّة فوائد من شرف العلم و حسن طلبه، و تبعيّة العالم و التذلّل له و عدم المبادرة في الاعتراض عليه، و معرفة لطف اللّه بعباده، و رعايته تعالى حقوقهم في ذريّتهم و أموالهم، و حسن الاعتذار من المقصّر و قبول عذره، و مداراة المعلّم مع المتعلّم، إلى غير ذلك ممّا يعرفه المتأمّل فيها.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 83

ثمّ ذكر سبحانه القصّة الثالثة التي سأل اليهود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها امتحانا لنبوّته بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ الأكبر الذي ملك الدنيا بأسرها. و اسمه إسكندر بن فيلقوس اليوناني قُلْ يا محمّد سَأَتْلُوا و أقرأ من القرآن عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً و خبرا، أو المعنى سأتلو ما في شأنه من قبل اللّه قرآنا عليكم. قيل: كان بعد نمرود في عهد إبراهيم، و عاش ألفا و ستّمائة سنة (2).

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83)و عن العيّاشي، عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ اسمه عيّاش، اختاره اللّه و بعثه إلى قرن من قرون الأولى في ناحية المغرب، و ذلك بعد طوفان نوح» (3).

و عن ابن عبّاس: أنّه في زمان إبراهيم (4).

و عنه: أنّ إبراهيم كان بمكّة، فأقبل إليها ذو القرنين، فلمّا كان بالأبطح قيل له: في هذا البلد إبراهيم خليل الرحمن، فقال ذو القرنين: ما كان ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم. فنزل و مشى إليه، فسلّم عليه إبراهيم و اعتنقه، و هو أوّل من عانق بعد السّلام (5).

و قيل: إنّه إسكندر الرومي، و كان وزيره و استاذه أرسطاطاليس، و كان بعد إسكندر إبراهيم بأكثر من

ص: 153


1- . تفسير روح البيان 5:287.
2- . تفسير روح البيان 5:290.
3- . تفسير العياشي 3:112/2703، تفسير الصافي 3:260.
4- . تفسير روح البيان 5:291.
5- . تفسير روح البيان 5:291، و فيه: عند السّلام.

ألفي سنة، و قبل المسيح بما يقرب من ثلاثمائة سنة (1).

عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ نفرا من اليهود أتوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا لأبي الحسن جدّي: إستأذن على ابن عمّك نسأله، إلى أن قال: فدخلوا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: أتسألوني عمّا جئتم له، أم أنبّئكم؟ قالوا: أنبئنا، قال: قد جئتم تسألوني عن ذى القرنين. قالوا: نعم، قال: كان غلاما من أهل الروم، ثمّ ملك و أتى مطلع الشمس و مغربها» الخبر (2).

قيل: كان بعد ثمود، و كان الخضر على مقدّمة جيشه و وزيره (3).

في نكتة تسمية

إسكندر بذي

القرنين

و إنّما لقّب بذي القرنين؛ لأنّه بلغ قرني الشمس و جانبيها: مشرقها و مغربها. و هو مرويّ عن النبي (4).

أو لأنّه رأى في المنام كأنّه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها و غربها، فقصّ رؤياه على قومه فلقّبوه به. و هو مرويّ عن الباقر عليه السّلام (5).

أو لأنّه كان في رأسه قرنان كالظّلفين يتحرّكان، فلبس العمامة لذلك، و هو أوّل من لبسها (6). أو لأنّه انقرض في زمانة قرنان (7). أو لأنّه كان لتاجه قرنان (8). أو لأنّ اللّه سخّر له النور و الظلمة، فكان إذا سرى يهديه النور من أمامه، و تمدّه الظلمة من ورائه (9). أو لأنّه دخل في النور و الظلمة (10). أو لأنّه جمع بين علم الظاهر و علم الباطن (11). أو كان له ذؤابتان (12)من يمين رأسه و يساره. أو لأنّه كان كريم الطرفين (13). أو كان يقاتل بيده و ركابه (14). أو لأنّه ضرب على قرنه الأيمن في طاعة اللّه فمات، ثمّ بعثه اللّه بعد مائة عام. ثمّ بعثه اللّه إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المشرق، فضربوه ضربة على قرنه الأيسر فمات، ثمّ أحياه اللّه بعد مائة عام. كما عن أمير المؤمنين (15).

و في رواية عنه عليه السّلام: «أنّ قومه ضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم ما شاء اللّه أن يغيب، ثمّ بعثه اللّه الثانية فضربوه على قرنه الأيسر، فغاب عنهم ما شاء اللّه أن يغيب، ثمّ بعثه اللّه الثالثة» إلى أن قال:

ص: 154


1- . تفسير روح البيان 5:290.
2- . قرب الاسناد:321/1228، تفسير الصافي 3:258.
3- . تفسير روح البيان 5:290.
4- . تفسير الرازي 21:164.
5- . الخرائج و الجرائح 3:1175/68، و تفسير الصافي 3:261، عن أمير المؤمنين عليه السّلام.
6- . تفسير روح البيان 5:290.
7- . تفسير أبي السعود 5:241.
8- . تفسير أبي السعود 5:240.
9- . تفسير الرازي 21:164، تفسير أبي السعود 5:241.
10- . تفسير الرازي 21:165.
11- . جامع الاحكام 11:48.
12- . تفسير أبي السعود 5:240.
13- . مجمع البيان 6:756، جامع الاحكام 11:48.
14- . جامع الاحكام 11:48.
15- . تفسير العياشي 3:112/2703، تفسير الرازي 21:164، تفسير الصافي 3:260.

«و فيكم مثله» أو قال: «لو فيكم مثله» و أراد نفسه (1).

و قالت العامة: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لقّب بذي القرنين لما كانت شجّتان في رأسه، أحدهما عن عمرو بن عبدودّ لعنه اللّه، و الآخر من ابن ملجم لعنه اللّه (2).

و قالوا: إنّه ملك الدنيا (3).

قيل: إنّه لمّا مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف، ثمّ جمع ملوك المغرب و قهرهم، و أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثمّ عاد إلى مصر، فبنى الإسكندرية، و سمّاها باسم نفسه، ثمّ دخل الشام، و قصد بني إسرائيل، و ورد بيت المقدس، و ذبح في مذبحه، ثمّ انعطف إلى أرمينية، و باب الأبواب (4)، و دانت له العراقيون و القبط و البربر، ثمّ توجّه إلى دار ابن دارا و هزمه مرّات إلى أن قتله صاحب حرسه، فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس، ثمّ قصد الهند و الصين، و غزا الامم البعيدة، و رجع إلى خراسان، و بنى المدن الكثيرة، و رجع إلى العراق، و مرض بشهرزور و مات بها (5). و قيل: إنّه كان نبيّا (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه لم يبعث أنبياء ملوكا إلاّ أربعة بعد نوح؛ أوّلهم ذو القرنين، و اسمه عيّاش» إلى أن قال: «فأمّا عيّاش فإنّه ملك ما بين المشرق و المغرب» (7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية: «و عوّضه [اللّه]من الضربتين اللتين على رأسه قرنين في موضع الضّربتين أجوفين، فجعل عزّ ملكه و آيه نبوّته في قرنه» (8).

و قيل: إنّه لم يكن نبيّا (9).

و عن الباقر عليه السّلام «أنّه لم يكن نبيّا، و لكنّه كان عبدا صالحا أحبّ اللّه فأحبّه» (10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه سئل عن ذي القرنين، أ نبيّا كان، أم ملكا؟ فقال: «لا نبيّ و لا ملك، بل عبد أحبّ اللّه فأحبّه» (11).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 84 الی 90

إِنّا مَكَّنّا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ اَلشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَ أَمّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً اَلْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90)

ص: 155


1- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:259.
2- . تفسير روح البيان 5:290.
3- . جوامع الجامع:270.
4- . باب الأبواب: مدينة على بحر طبرستان، و هو بحر الخزر.
5- . تفسير الرازي 21:163، تفسير أبي السعود 5:240.
6- . تفسير الرازي 21:165.
7- . تفسير العياشي 3:110/2699، تفسير الصافي 3:259.
8- . تفسير العياشي 3:112/2703، تفسير الصافي 3:260.
9- . تفسير أبي السعود 5:240، تفسير روح البيان 5:290.
10- . كمال الدين:393/1، تفسير الصافي 3:259.
11- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:259.

ثمّ شرع سبحانه في ذكر قصته بقوله: إِنّا مَكَّنّا و أقدرنا لَهُ من حيث القوى و الأسباب فِي اَلْأَرْضِ كلّها مشرقها و مغربها وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و كلّ أمر من الأمور التيّ لها دخل في قدرته و سلطانه سَبَباً و وسيلة توصله إليه من العلم و التدبير و الرأي و المال و الجند،

فإذا أراد شيئا فَأَتْبَعَ و اتّخذ له سَبَباً و طريقا يوصله إليه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: ثمّ رفعه اللّه إلى السماء الدنيا، فكشط له عن الأرض كلّها جبالها و سهولها و فجاجها حتى أبصر ما بين المشرق و المغرب، و آتاه اللّه من كلّ شيء فعرف به الحقّ و الباطل، و أيّده في قرنه بكسف من السماء فيه ظلمات و رعد و برق، ثمّ أهبطه إلى الأرض، و أوحى إليه: أن سر في ناحية غرب الأرض و شرقها، فقد طويت لك البلاد، و ذلّلت لك العباد، فأرهبتهم منك. فسار إلى ناحية المغرب، فكان إذا مرّ بقرية يزأر فيها كما يزأر الأسد المغضب، فينبعث من قرنيه ظلمات و رعد و برق و صواعق تهلك من ناواه و خالفه» (1).

و عن ابن عبّاس: أنّه عند ما تواضع لإبراهيم و عانقه، سخّر له السّحاب (2).

قيل: كانت السّحاب تحمله و عساكره و جميع آلاتهم إذا أرادوا غزوة قوم (3).

و قال بعض العامة: أنّه سخّر له السّحاب، و بسط له النور، و كان الليل و النهار عليه سواء (4). و قد مرّ أنّهم قالوا: سخّر له النور و الظلمة، فكان إذا سرى يهديه النّور من أمامه، و تمدّه الظلمة من ورائه (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن ذي القرنين، فقال: «سخّر له السّحاب، و قرّبت له الأسباب، و بسط له النور، و قال: كان يضيء (6)[بالليل كما يضيء]بالنهار» الخبر (7).

فسار طلبا لماء الحياة حَتّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ اَلشَّمْسِ و منتهى الأرض من جهتها المتّصلة (8)بالبحر المحيط بحيث إذا نظر إلى

ص: 156


1- . تفسير العياشي 3:112/2703، تفسير الصافي 3:260.
2- . تفسير روح البيان 5:291.
3- . تفسير روح البيان 5:291.
4- . تفسير روح البيان 5:291.
5- . تفسير الرازي 21:164، تفسير أبي السعود 5:241 و قد تقدّم آنفا في تفسير الآية (83) من هذه السورة.
6- . في تفسير العياشي: يبصر، و كذا التي بعدها.
7- . تفسير العياشي 3:112/2702، تفسير الصافي 3:260.
8- . في النسخة: من جهته المتّصل.

الشمس وَجَدَها حين غروبها تَغْرُبُ و تغيب فِي عَيْنٍ ذات حَمِئَةٍ و طين أسود و ماء كدر.

قيل: لمّا بلغ موضعا لم يبق بعده عمارة في جانب المغرب، وجد الشّمس كأنّها تغرب في وهدة مظلمة، كما أنّ الراكب في البحر يراها كأنّها تغرب في البحر إذا لم ير الساحل، و في الحقيقة تغرب وراء البحر، و إلاّ فإنّه كان من علماء النّجوم، و كان معلوما عنده أنّ الأرض كرويّة، و السماء محيطة بها، و الشمس في الفلك الرّابع، و لا يمكن جلوس قوم عند الشّمس كما حكاه اللّه بقوله: وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً مع أنّ الشّمس أعظم من الأرض مرّات كثيرة، فكيف يمكن دخولها في عين من الأرض؟ ! (1)

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «في عين حامية، في بحر دون المدينة التي تلي المغرب» يعني جابلقا (2).

و عنه عليه السّلام: «لمّا انتهى مع الشّمس إلى العين الحامية، وجدها تغرب فيها، و معها سبعون ألف ملك يجرّونها بسلاسل الحديد و الكلاليب، يجرّونها من (3)قعر البحر في قطر الأرض الأيمن، كما تجري السفينة على ظهر الماء» (4).

قال الفخر الرازي: قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة، قال ابن جريج: هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لو لا أصوات أهلها سمع النّاس وجبة الشّمس حين تغيب (5).

أقول: و قال بعض العامة: هم أهل جابلص، و هي مدينة يقال لها بالسريانية جرجليسا (6)، لها عشرة آلاف باب، بين كلّ بابين فرسخ، يسكنها قوم من بقية ثمود الذين آمنوا بصالح و آمنوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا مرّ بهم في ليلة الاسراء (7).

و قال بعض علمائهم: حديث جابلصا و جابلقا، و إيمان أهاليهما ليلة المعراج، و أنّهما من الإنسان الأوّل، فمشهور (8).

و قيل: إنّ القوم الذين وجدهم ذو القرنين كانوا عبدة الأصنام، لهم أعين خضر و شعور حمر، يلبسون جلود الحيوانات، و يأكلون لحوم البحر (9).

قُلْنا بطريق الإلهام: يا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ هم بالقتل على كفرهم وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ

ص: 157


1- . تفسير روح البيان 5:292.
2- . تفسير العياشي 3:123/2707، تفسير الصافي 3:261، و في معجم البلدان عن ابن عباس: أن جابلقا مدينة بأقصى المغرب، و أهلها من ولد عاد. معجم البلدان 2:105.
3- . في النسخة: في.
4- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:261.
5- . تفسير الرازي 21:167.
6- . في تفسير روح البيان: جرجيسا. و الذي في معجم البلدان: جابرس: مدينة بأقصى المشرق، و أن بها بقايا المؤمنين من ثمود، و في مادة (جابلق) عن ابن عباس: أن أهل جابرس من ولد ثمود. معجم البلدان 2:105.
7- . تفسير روح البيان 5:293.
8- . تفسير روح البيان 5:293.
9- . تفسير روح البيان 5:293.

فِيهِمْ و تسلك معهم طريقا حُسْناً.

أقول: هو مبالغة في (ذي حسن) . أو محذوف المضاف، و المعنى أمرا ذا حسن، بإبقائهم أحياء (1)، و إرشادهم إلى التوحيد، و تعليمهم الشرائع، فاختر ما تراه الأصلح من الأمرين فيهم قالَ ذو القرنين: أدعوهم إلى التوحيد و العمل الصالح أَمّا مَنْ ظَلَمَ على نفسه بالإصرار على الكفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل، قيل: كان يطبخ الكافر في القدر (2)ثُمَّ يُرَدُّ في الآخرة إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً و منكرا و شديدا لا يتصوّره أحد.

عن الصادق عليه السّلام: «أي في النّار» (3). وَ أَمّا مَنْ أجاب دعوتي و آمَنَ باللّه وَ عَمِلَ عملا صالِحاً و خالصا للّه و مرضيّا عنده فَلَهُ منّي في الدنيا و من اللّه في الدّارين جَزاءً و مثوبة اَلْحُسْنى أو جزاء عظيما على فعلته الحسنى.

قيل: كان يعطي المؤمن و يكسيه (4)وَ سَنَقُولُ لَهُ بعضا مِنْ أَمْرِنا و حكمنا ما يراه يُسْراً و سهلا عليه لا مشقّة فيه في أمر الخراج و الزكاة.

ثُمَّ أَتْبَعَ و سلك بعد الفراغ من بلاد المغرب سَبَباً و طريقا موصلا له إلى بلاد المشرق،

فسار بجنده حَتّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ و منتهى الأرض من جهته.

قيل: بلغه في اثنتي عشرة سنة (5). و قيل: أقلّ من ذلك (6). فرأى الشّمس في ذلك الموضع و وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً و حجابا من النبات و الأبنية و الأشجار و الجبال، فكانوا عراة لا يستظلّون بشيء.

عن الباقر عليه السّلام: «لم يعلموا صنعة البيوت» (5).

و القمي: لم يعلموا صنعة الثّياب (6).

قيل: كانوا إذا طلعت الشّمس دخلوا في الأسراب أو البحر من شدّة الحرّ، فإذا غربت أو زالت عن سمت رؤوسهم خرجوا و اصطادوا السّمك و الحيوانات البحريّة لمعيشتهم (9).

و قيل: لم يكن على رؤوسهم و أجسادهم شعر، كأنّما سلخت من شدّة الحرّ (10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّه ورد على قوم قد أحرقتهم الشمس و غيّرت أجسادهم و ألوانهم حتى

ص: 158


1- . في النسخة: حيّا.
2- . تفسير روح البيان 5:293.
3- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:262.
4- . تفسير روح البيان 5:293. (5 و 6) . تفسير أبي السعود 5:243، تفسير روح البيان 5:294.
5- . تفسير العياشي 3:123/2708، مجمع البيان 6:758، تفسير الصافي 3:262.
6- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:262. (9 و 10) . تفسير روح البيان 5:294.

صيّرتهم كالظلمة» (1).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 91 الی 98

كَذلِكَ السّلوك الذي كان لذي القرنين مع أهل المغرب، سلك مع هؤلاء القوم الذّين كانوا في جهة المشرق، أو كذلك السلطان و الاقتدار الذي كان له في ناحية المغرب كان له في ناحية المشرق وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من أمر القوم، أو بما عنده من الصلاحيّة للملك العظيم و الاستقلال، أو بما عنده من الأسباب و العدّة و العدد و القدرة خُبْراً و علما،

بحيث لا يخفى علينا شيء من أمره ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين و أخذ بعد الفراغ من اولئك القوم سَبَباً و طريقا ثالثا إلى ناحية الشّمال كما قيل (2).

كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ اَلسَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ اَلْحَدِيدِ حَتّى إِذا ساوى بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ قالَ اُنْفُخُوا حَتّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اِسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اِسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سببا في ناحية الظلمة» (3). فسار بأسبابه حَتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ اَلسَّدَّيْنِ و الجبلين العاليين اللذين كانا في منقطع أرض التّرك ممّا يلي المشرق، على قول (4). أو في ما بين أرمينية و أذربيجان على آخر (5).

و قيل: إنّ موضع السدّين في الرّبع الشّمالي (6)إلى الغربي من المعمورة.

إذن وَجَدَ ذو القرنين مِنْ دُونِهِما و عندهما، أو من ورائهما قَوْماً و جماعة من النّاس و كانوا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ و لا يقربون أن يفهموا قَوْلاً و كلاما من غيرهم إلاّ بمشقّة من إشارة

ص: 159


1- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:262.
2- . تفسير الصافي 3:262، تفسير روح البيان 5:296.
3- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:262.
4- . تفسير الرازي 21:169، تفسير أبي السعود 5:244. (5 و 6) . تفسير الرازي 21:169.

و نحوها.

قالُوا بلسان ترجمانهم أو بإلهامهم لغة اسكندر، أو بإلهامه لغتهم. قيل: كان ذو القرنين ملهما باللّغات (1)يا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ بالقتل و الغارة و إتلاف الزّروع و الثّمار. و هما قبيلتان من التّرك على قول (2). أو يأجوج من التّرك، و مأجوج من الجبل و الدّيلم على آخر (3).

و قيل: إنّ المؤرّخين قالوا إنّه كان لنوح ثلاثة أولاد: بسام، و حام، و يافث، فسام أبو العرب و العجم و الروم، و حام أبو الحبش و الزّنج و النّوبة (2)، و يافث أبو التّرك و الخزر و الصّقالبة و يأجوج و مأجوج (3).

و عن الهادي عليه السّلام: «جميع الترك و الصقالب و يأجوج و مأجوج و الصين من يافث حيث كانوا» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قالوا: يا ذا القرنين، إنّ يأجوج و مأجوج خلف هذين الجبلين، و هم يفسدون في الأرض، إذا كان إبّان زروعنا و ثمارنا خرجوا علينا، فرعوا في ثمارنا و في زروعنا حتى لا يبقوا منها شيئا» (5)فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً و مقدارا من أموالنا عَلى شرط أَنْ تَجْعَلَ بتلك الأموال التي نعطيك بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا و حاجزا يمنعهم من الخروج علينا قالَ ذو القرنين: لا حاجة لي إلى أموالكم، فإنّ ما مَكَّنِّي فِيهِ و أقدرني عليه رَبِّي من المال

و الأسباب و الملك خَيْرٌ ممّا عندكم من الأموال و [ما]تبذلونه من الخرج، فإن تريدوا (6)السدّ فَأَعِينُونِي و ساعدوني عليه بِقُوَّةٍ من العمّال و الصنّاع لا بالأموال أَجْعَلْ إذن بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً و حاجزا عظيما، أكبر و أوثق من السدّ.

ثمّ كأنّهم قالوا: فأمرنا بما تريد قال آتُونِي بعوض ما أعطيكم من المال زُبَرَ اَلْحَدِيدِ و قطعات عظيمة منه.

قيل: إنّهم قالوا ليس لنا من الحديد ما يسع هذا العمل، فدلّهم على معدن الحديد و النّحاس (9)، ثمّ قاس ما بين الصدفين فوجده ثلاثة أميال (10). و قيل: مائة فرسخ (11).

ثمّ أمر بحفر ما بين السدّين فحفروه حتى بلغ الماء، ثمّ جعل الأساس من الصخر و النّحاس المذاب بدل الطين، و جعل البنيان من زبر الحديد، بين كلّ زبرتين الحطب و الفحم (12)حَتّى إِذا ساوى بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ و جانبي الجبلين بتنضيد الزبر بعضها فوق بعض، أمر بوضع المنافخ حوله فوضعوها، ثمّ قالَ للعملة: اُنْفُخُوا على زبر الحديد، فنفخوا في السدّ المنضود من الحديد

ص: 160


1- . تفسير روح البيان 5:297. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:170.
2- . النّوبة: جيل من الناس، موطنهم جنوب مصر.
3- . تفسير روح البيان 5:297.
4- . علل الشرائع:32/1، تفسير الصافي 3:263.
5- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:263.
6- . في النسخة: تريدون. (9 و 10 و 11 و 12) . تفسير روح البيان 5:298.

و الحطب حَتّى إِذا جَعَلَهُ محمى كأنّه صار ناراً قالَ للذين أذابوا النّحاس: آتُونِي النحاس المذاب أُفْرِغْ على السدّ و أصبّ عَلَيْهِ قِطْراً و نحاسا مذابا.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فاحتفروا له جبل حديد، فقطعوا له أمثال اللّبن، فطرح بعضه على بعض في ما بين الصّدفين، ثمّ جعل عليه الحطب، و ألهب فيه النار، و وضع عليه المنافخ فنفخوا عليه، فلمّا ذاب قال: ائتوني بقطر، فاحتفروا جبلا من نحاس، فطرحوه على الحديد، فذاب معه و اختلط به» (1).

فلمّا تمّ السدّ جاء يأجوج و مأجوج فَمَا اِسْطاعُوا و ما قدروا أَنْ يَظْهَرُوهُ و يعلوه لارتفاعه و ملاسته وَ مَا اِسْتَطاعُوا أن يجعلوا لَهُ نَقْباً و خرقا من أسفله لثخانته و صلابته قالَ ذو القرنين: هذا السدّ و الاقتدار على تسويته رَحْمَةٌ و نعمة عظيمة مِنْ رَبِّي على عباده فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي بقيام الساعة و قرب يوم القيامة و ظهرت مباديه من خروج الدجّال، و نزول عيسى، هدم اللّه السدّ و جَعَلَهُ دَكّاءَ و أرضا مستوية وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي بقيام الساعة، أو بغيره حَقًّا و صدقا البتّة، لا خلف فيه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه عدّ من الآيات التي تكون قبل الساعة خروج يأجوج و مأجوج (2).

و عن القمي: إذا كان قبل يوم القيامة انهدم السدّ، و خرج يأجوج و مأجوج إلى الدنيا و أكلوا الناس (3).

أقول: في كيفيّة خلق يأجوج و مأجوج و طول أعمارهم و كثرة عددهم و تخريبهم السدّ و أعمالهم بعد الخروج، روايات كثيرة من طرق الخاصة و العامة، أعرضنا عن نقلها لطولها و بعدها عن الأذهان.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 99 الی 100

ثمّ بيّن سبحانه حال يأجوج و مأجوج بعد إندكاك السدّ و خروجهم منه بقوله: وَ تَرَكْنا و خلّينا، أو جعلنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ و يختلط أو يضطرب فِي بَعْضٍ كأمواج البحر، لا يمرّون على إنسان إلاّ قتلوه، و لا على شيء إلاّ أكلوه، و لا على ماء إلاّ شربوه، ثمّ يرسل اللّه عليهم دودا بعد نزول عيسى فيقتلهم دفعة كنفس واحدة، على ما في الروايات (4).

وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100)و قيل: إنّ المراد باليوم في الآية يوم السدّ و منعهم من الخروج (5).

ص: 161


1- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:264.
2- . الخصال:447/46، تفسير الصافي 3:264.
3- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:264.
4- . تفسير روح البيان 5:299 و 300.
5- . تفسير الرازي 21:172.

و قيل: يوم القيامة، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (1).

و قيل: إنّ ضمير الجمع في بعضهم راجع إلى جميع الخلق (2).

ثمّ ذكر سبحانه الآية الثانية بقوله: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ النفخة الثانية التي عندها الحشر فَجَمَعْناهُمْ في صعيد واحد بعد تفتّت أعضائهم جَمْعاً عجيبا للحساب و الجزاء وَ عَرَضْنا و أبرزنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ بحيث تكون مكشوفة بأهوالها لِلْكافِرِينَ منهم عَرْضاً و إبرازا هائلا، حيث يرون لهبها، و يسمعون تغيّظها و زفيرها.

في الحديث: «يؤتى بجهنّم يومئذ و لها سبعون ألف زمام، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» (3).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 101 الی 102

ثمّ وصف الكفّار بأذمّ صفاتهم بقوله: اَلَّذِينَ كانَتْ في الدنيا أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ و حجاب غليظ مانع عَنْ رؤية الآيات المؤدّية بالتفكّر فيها إلى ذِكْرِي بالتوحيد و التمجيد وَ كانُوا مع ذلك لا يَسْتَطِيعُونَ لفرط إعراضهم عن الحقّ و عداوتهم للرّسول سَمْعاً لذكري و استماعا لكلامي، و فيه دلالة على أنّهم أسوء حالا من الأصمّ، حيث إنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به، و هؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة.

اَلَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102)

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: أتستطيع النفس المعرفة؟ فقال: «لا» . [فقيل:]يقول اللّه اَلَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ الآية؟ قال: «هو كقوله: و ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (4)» . قيل: فعابهم؟ قال: «لم يعبهم بما صنع هو بهم، [و لكن]

عابهم بما صنعوا، و لو لم يتكلّفوا لم يكن عليهم شيء» (5).

و عن الرضا عليه السّلام: «أنّ غطاء العين لا يمنع من الذّكر، و الذّكر لا يرى بالعين، و لكن اللّه شبّه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب بالعميان؛ لأنّهم كانوا يستثقلون قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيه، و لا يستطيعون له سمعا» (6).

ص: 162


1- . تفسير العياشي 3:114/2703، تفسير الصافي 3:266.
2- . مجمع البيان 6:766.
3- . تفسير روح البيان 5:302.
4- . هود:11/20.
5- . تفسير العياشي 3:123/2712، تفسير الصافي 3:266.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:136/33، تفسير الصافي 3:266.

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «يعني بالذّكر ولاية أمير المؤمنين» قال: «كانوا لا يستطيعون إذا ذكر عندهم عليّ عليه السّلام أن يسمعوا ذكره، لشدّة بغضهم له، و عداوة منهم له و لأهل بيته» (1).

ثمّ وبّخ اللّه الكافرين المعرضين عن آيات التوحيد على شركهم بقوله: أَ فَحَسِبَ و التقدير لا شرك (2)اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أشركوا بي أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي كالملائكة و عيسى و عزير و الأصنام و الشياطين و يختاروهم لأنفسهم مِنْ دُونِي و ممّا سواي، أو متجاوزين إيّاي أَوْلِياءَ و معبودين، أو ناصرين لهم، و منجيهم من عذابي، فقد ضلّوا و أخطأوا في حسبانهم و توهّمهم إِنّا أَعْتَدْنا و هيّئنا جَهَنَّمَ و ما فيها منن أنواع العذاب لِلْكافِرِينَ بوحدانيّتي، و رسالة رسولي، و الدّار الآخرة نُزُلاً و مأوى، أو تشريفا لورودهم عليّ، كما تعدّ التشريفات لورود الضّيف ذي الشأن (3)، و فيه غاية التهكّم.

و عن ابن عباس: أنّه موضع النزول و المأوى (4).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 103 الی 106

ثمّ بيّن اللّه غاية جهلهم و خسرانهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ و أخبركم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً و بالأقوام الذين هم أشدّ الخلق ضررا على أنفسهم من جهة أعمالهم.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اِتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106)

ثمّ كأنّه قيل: من هم؟ (5)بيّنهم لنا، فأجابهم بقوله: اَلَّذِينَ ضَلَّ و بطل سَعْيُهُمْ و اهتمامهم في الأعمال التي هي في أنفسها حسنة فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعمارهم فيها وَ هُمْ يَحْسَبُونَ و يتوهّمون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً و يعملون صالحا ينفعهم في الآخرة، بجهلهم بشرائط صحّة العمل و اعتقادهم أنّهم على الحقّ مع عدم النظر في دلائله، و تقصيرهم فيه.

قيل: اريد بهم الرّهبان (6). و عن مجاهد: هم أهل الكتاب (7).

ص: 163


1- . تفسير القمي 2:47، تفسير الصافي 3:266.
2- . كذا.
3- . في النسخة: الضيف الشئون.
4- . تفسير روح البيان 5:303.
5- . تفسير روح البيان 5:304. (6 و 7) . تفسير الرازي 21:174.

و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سأله ابن الكوّاء عنهم فقال: «هم أهل حروراء» أي الخوارج.

و عن القمي: نزلت في اليهود، و جرت في الخوارج (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هم النصارى و القسّيسون و الرّهبان، و أهل الشبهات و الأهواء من أهل القبلة، و الحروريّة و أهل البدع» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «كفرة أهل الكتاب: اليهود و النصارى، و قد كانوا على الحقّ فابتدعوا في أديانهم، و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا» . ثمّ قال: «و ما أهل النّهروان منهم ببعيد» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ضلالتهم في الأعمال و غاية خسرانهم فيها، بيّن سبحانه سوء عقائدهم الذي كان سببا لخسرانهم فيها بقوله: أُولئِكَ الخاسرون هم اَلَّذِينَ كَفَرُوا و جحدوا بِآياتِ وحدانيّة رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ بعد الموت و الحضور في محضر عدله في الآخرة للحساب و جزاء الأعمال فَحَبِطَتْ و ضاعت بسبب ذلك أَعْمالُهُمْ التي عملوها في الدنيا باعتقاد انتفاعهم بها في الآخرة فَلا نُقِيمُ و لا ننصب لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَزْناً و ميزانا، لعدم ترتّب الثواب عليها حتى يحتاج إلى تعيين مقداره، أو ترجيحها على سيّئاتهم.

و قيل: إنّ المراد لا نجعل لأنفسهم مقدارا أو اعتبارا (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه ليأتي الرجل السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث يذكر فيه أهل الموقف و أحوالهم-: «و منهم أئمّة الكفر و قادة الضّلالة، فاولئك لا يقيم لهم وونا، و لا يعبأ بهم، لأنّهم لم يعبؤوا بأمره تعالى و نهيه يوم القيامة، فهم في جهنّم خالدون، تلفح وجوههم النّار و هم فيها كالحون» (4).

و عن القمي: وزنا، أي حسنة (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خسرانهم و عدم الاعتناء بشأنهم في الآخرة، بيّن جزاءهم على كفرهم و أعمالهم الباطلة السيّئة بقوله: ذلِكَ الجزاء الذي نذكر جَزاؤُهُمْ في الآخرة، و هو جَهَنَّمُ فإنّا ندخلهم فيها بِما كَفَرُوا بتوحيدي وَ اِتَّخَذُوا آياتِي من القرآن و معجزات الرسول صلّى اللّه عليه و آله

ص: 164


1- . الاحتجاج:261، تفسير الصافي 3:267.
2- . تفسير الصافي 3:267، تفسير روح البيان 5:305.
3- . مجمع البيان 6:767، تفسير الصافي 3:267.
4- . الاحتجاج:244، تفسير الصافي 3:267.
5- . تفسير القمي 2:46، تفسير الصافي 3:268.

وَ رُسُلِي جميعا هُزُواً و سخرية.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 107 الی 108

ثمّ لمّا ذكر سبحانه وعيد الكفّار بإعداد جهنّم نزلا، أتبعه بوعد المؤمنين الصّالحين بجعل الفردوس نزلا لهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه و رسالة رسوله وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ التي هي من لوازم الإيمان و دليل صدقه في الدنيا كانَتْ لَهُمْ في الآخرة جَنّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ التي هي أفضل الجنّات نُزُلاً و مأوى، أو تشريفا،

حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا لا يَبْغُونَ و لا يطلبون عَنْها حِوَلاً و انتقالا إلى أحسن و أعلى منها، إذ لا مزيد عليها و لا ملالة من الإقامة فيها.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)قيل: إنّ الفردوس ربوة خضراء في الجنّة أعلاها و أحسنها، و يقال لها سرّة الجنّة (1).

و في الحديث: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء و الأرض، و الفردوس أعلاها، فيها تتفجّر الأنهار الأربعة، و فوقها عرش الرحمن، فإذا سألتم اللّه فأسألوا الفردوس» (2).

و في حديث آخر: «جنّات الفردوس أربع؛ جنّتان من فضّة، أبنيتهما (3)و ما فيهما من فضّة، و جنّتان من ذهب، أبنيتهما و ما فيهما من ذهب» (4).

و عن كعب: ليس في الجنان أعلى من جنّة الفردوس، و فيها الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر (5).

القمي رحمه اللّه: هذه الآية نزلت في أبي ذرّ، و المقداد، و سلمان الفارسي، و عمّار بن ياسر، جعل اللّه عزّ و جلّ لهم جنّات الفردوس نزلا، أي: مأوى و منزلا (6).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 109 الی 110

قُلْ لَوْ كانَ اَلْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

ص: 165


1- . مجمع البيان 6:769، تفسير الصافي 3:268، تفسير روح البيان 5:306.
2- . تفسير الرازي 21:175، تفسير روح البيان 5:306.
3- . في تفسير روح البيان: آنيتها، و كذا التي بعدها.
4- . تفسير روح البيان 5:306.
5- . تفسير أبي السعود 5:250.
6- . تفسير القمي 2:46، تفسير الصافي 3:268.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه في السورة المباركة دلائل التوحيد و الرسالة و الأمثال العالية و المواعظ الشافية و قصص الأوّلين، نبّه على كمال القرآن و فضله بقوله: قُلْ يا محمّد، لقومك لَوْ كانَ اَلْبَحْرُ الذي في الدنيا و ماؤه مِداداً و حبرا لِكَلِماتِ علم رَبِّي و حكمته، و اللّه لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ و فني ماؤه بحيث لم يبق منه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي و تفنى معلوماته و حكمه وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ و خلقنا ضعفه كي يكون البحر الموجود في العالم مَدَداً و معونة لنفد أيضا، و لا تنفد الكلمات، لأنّ كلّما وجد و يوجد من البحر يكون محدودا و متناه، و هنا علم اللّه تعالى غير محدود و لا متناه.

قيل: نزلت حين قال حيي بن أخطب: في كتابكم وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (1)ثمّ تقرأون وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (2)[فنزلت هذه الآية]، و المراد: و ما اوتيتم و إن كان كثيرا و لكنّه قطرة من بحار كلمات اللّه (3).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كمال كلامه الموحى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، أمره بالتّواضع و الإعلان بأنّ كلّما علمه إنّما هو بفضل اللّه و وحيه بقوله: قُلْ يا محمّد، لقومك إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أحتاج إلى ما تحتاجون إليه، و أتضرّر بما تضرّرون به، لا ميز بيني و بينكم في لوازم الجسمانية، و إنّما الميز في الكلمات الروحانية و الفضائل المعنوية التي أهّلتني لأن يُوحى إِلَيَّ من قبل ربّي العلوم الكثيرة و المعارف الوفيرة التي أهمّها أَنَّما إِلهُكُمْ و معبودكم إِلهٌ و معبود واحِدٌ يستحقّ العبادة، و لا يأهل غيره لها.

عن العسكري عليه السّلام قال: «يعني قل لهم أنّا في البشريّة مثلكم، و لكن ربّي خصّني بالنبوة دونكم، كما يخصّ بعض البشر بالغنى و الجمال دون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصّني أيضا بالنبوّة» (4).

فَمَنْ كانَ يؤمن باللّه و رسوله و يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ و ثوابه و كرامته فَلْيَعْمَلْ لذلك المطلوب عَمَلاً صالِحاً و مرضيّا عند اللّه، و ليعبده عبادة خالصة من الشرك الجليّ و الخفيّ و الأغراض النفسانية وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً من خلقه.

عن الباقر عليه السّلام: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير هذه الآية فقال: من صلّى مراءاة النّاس فهو مشرك، و من زكّى مراءاة النّاس فهو مشرك، و من صام مراءاة النّاس فهو مشرك، و من حجّ مراءاة النّاس فهو

ص: 166


1- . البقرة:2/269.
2- . الاسراء:17/85.
3- . تفسير الرازي 21:176.
4- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:504، الإحتجاج:31، تفسير الصافي 3:269.

مشرك، و من عمل عملا ممّا أمر اللّه به مراءاة النّاس فهو مشرك، و لا يقبل اللّه عمل مرّاء» (1).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسّره ذلك؟ قال: «لا بأس، ما من أحد إلاّ و يحبّ أن يظهر له في النّاس الخير، إذا لم يصنع ذلك لذلك» (2).

و عن الرضا عليه السّلام: إنّه كان يتوضّأ للصّلاة، فأراد رجل أن يصبّ الماء على يديه، فأبى و قرأ هذه الآية، و قال: «و ها أنا ذا أتوضّأ للصّلاة و هي العبادة، فأكره أن يشركني فيها أحد» (3).

أقول: هذه الرواية تدلّ على أنّ المراد بالإشراك في الآية مطلق الإشراك سواء أشرك الغير في نيّته أو في نفس عمله.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «العمل الصالح المعرفة بالأئمّة وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً التسليم لعلي عليه السّلام، لا يشرك معه في الخلافة من ليس ذلك له، و لا هو أهله» (4).

و القمي عنه عليه السّلام وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، قال: «لا يتّخذ مع ولاية آل محمّد غيرهم، و ولايتهم العمل الصالح، من أشرك بعبادة ربّه فقد أشرك بولايتنا و كفر بها، و جحد أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه و ولايته» (5).

و في (الفقيه) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ هذه الآية عند منامه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلى آخرها، سطع له نور إلى (6)المسجد الحرام، حشو ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتى يصبح» (7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما من عبد يقرأ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلى آخر السورة، إلاّ كان له نور من مضجعه إلى بيت اللّه الحرام، فإن كان من أهل بيت اللّه الحرام كان له نور إلى بيت المقدس» (8).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «ما من عبد يقرأ آخر الكهف عند نومه إلاّ تيقّظ في الساعة التي يريد» (9).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة، كانت كفّارة ما بين الجمعة إلى الجمعة» .

قال: و روي في من قرأها يوم الجمعة بعد الظهر و العصر مثل ذلك (10).

و في (المجمع) عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة لم يمت إلاّ شهيدا، و بعثه اللّه

ص: 167


1- . تفسير القمي 2:47، تفسير الصافي 3:269.
2- . الكافي 2:225/18، تفسير الصافي 3:269.
3- . الكافي 3:69/1، تفسير الصافي 3:269.
4- . تفسير العياشي 3:126/2722، تفسير الصافي 3:270.
5- . تفسير القمي 2:47، تفسير الصافي 3:270.
6- . في النسخة و تفسير الصافي: من.
7- . من لا يحضره الفقيه 1:297/1358، تفسير الصافي 3:270.
8- . ثواب الاعمال:107، تفسير الصافي 3:270.
9- . الكافي 2:462/21، تفسير الصافي 3:270.
10- . الكافي 3:429/7، تفسير الصافي 3:270.

مع (1)الشّهداء، و وقف يوم القيامة مع الشّهداء» (2).

اللّهم لك الحمد و المنّة على توفيقك إيّاي لإتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 168


1- . في النسخة: و يبعثه اللّه من.
2- . مجمع البيان 6:691، ثواب الأعمال:107، تفسير الصافي 3:270.

في تفسير سورة مريم

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 19 (مريم): آیه شماره 1 الی 6

ثمّ لمّا ختمت سورة الكهف التي فيها بيان الرحمة الخاصّة على أصحاب الكهف بقوله: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ و على الخضر بقوله: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا و على ذي القرنين بقوله: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي و إظهار قدرته الكاملة في قصّة أصحاب الكهف و سائر القصص، و فيها إثبات النبوّة و المعاد، ثمّ ختمها بتهديد المشركين و تبشير المؤمنين، أردفت بسورة مريم التي فيها بيان رحمته الخاصّة على زكريا و مريم و كثير من الأنبياء، و إظهار قدرته الكاملة في ولادة يحيى و عيسى و إثبات النبوّة و المعاد، ثمّ ختمها بما ختم به السورة السابقة، فابتدأها بذكر أسمائه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله: كهيعص جلبا لتوجّه الناس إلى المطالب التّي بعدها، و قد سبق تأويلها في طرفة بيان المتشابهات (1).

و قيل: إنّها اسم هذه السورة (2)التي فيها ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا بن أرزين (3)بن رجعيم بن سليمان بن داود، من سبط يهودا، على ما قيل (4).

و قيل: إنّه من ولد هارون أخي موسى، و هما من سبط لاوي (5).

ص: 169


1- . راجع: الطرفة (18) من مقدمة المؤلف.
2- . تفسير روح البيان 5:312.
3- . في تفسير روح البيان: آزر. (4 و 5) . تفسير روح البيان 5:313.

قيل: إنّ التقدير هذا المتلوّ عليك ذكر رحمة ربّك التي رحم بها عبده زكريّا (1).

و قيل: إنّ التقدير أعني عبده (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا فرحمه» (3)،

إِذْ نادى رَبَّهُ و دعاه نِداءً و دعاء خَفِيًّا في محراب بيت المقدس من بعد تقريب القربان، على ما قيل (4).

و إنّما أخفى دعاءه؛ لأنّه أقرب إلى الإخلاص و الإجابة. كما في الحديث: «خير الدّعاء ما خفي» (5).

أو لخوفه من اطّلاع مواليه الذين كان يخافهم (6). أو لكونه في الصلاة (7). أو لئلاّ يلام على طلب الولد في الشيخوخة. أو لضعفه و هرمه (8).

و قالَ في دعائه: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ و ضعف اَلْعَظْمُ مِنِّي.

قيل: اشتكى سقوط أضراسه (9)وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً و ابيضّ شعوره هرما وَ لَمْ أَكُنْ من بدو عمري إلى الآن بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا و خائبا، بل كلّما دعوتك استجبت لي، فعوّدتني إنجاح مسألتي حين كنت قويّا، فكيف تردّني عن بابك مع كمال رجائي بكرمك و نهاية ضعفي و شدّة حاجتي إلى رحمتك؟ فتوسّل برحمته السابقة عليه بعد ذكر ما يستدعي الإجابة و الرأفة من كبر السنّ و ضعف الحال.

ثمّ ذكر ارتباط حاجته بأمر الدّين المقتضي لقضائها بقوله: وَ إِنِّي أرى نفسي مشرفة على الموت و خِفْتُ اَلْمَوالِيَ و بني العمومة مِنْ وَرائِي و بعد موتي أن لا يحسنوا خلافتي على بني إسرائيل، فيغيّروا دينهم. قيل: كان بنو عمّه شرار بني إسرائيل (10).

و عن الباقر عليه السّلام في تفسير الموالي قال: «هم العمومة و بنو العمّ» (11).

و القمي يقول: خفت الورثة بعدي (12)وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي و زوجتي إيشاع بنت فاقوذ على قول (13). أو بنت عمران على آخر (14)عاقِراً لم تلد أبدا فَهَبْ لِي و أعطني مِنْ لَدُنْكَ و من محض رحمتك و فضلك و سعة قدرتك بطريق الإختراع و خرق العادة وَلِيًّا و ولدا من صلبي يَرِثُنِي جميع تركتي من المال و العلم و الدين و النبوّة، كما رواه الفخر الرازي عن ابن عباس و الحسن

ص: 170


1- . تفسير الرازي 21:180.
2- . تفسير الرازي 21:179.
3- . تفسير القمي 2:48، تفسير الصافي 3:273.
4- . تفسير روح البيان 5:313.
5- . مجمع البيان 6:776، تفسير الصافي 3:273.
6- . تفسير الرازي 21:180، تفسير روح البيان 5:313.
7- . تفسير الرازي 21:180.
8- . تفسير الرازي 21:180، تفسير البيضاوي 2:27.
9- . تفسير روح البيان 5:313.
10- . تفسير روح البيان 5:314.
11- . مجمع البيان 6:776، تفسير الصافي 3:273.
12- . تفسير القمي 2:48، تفسير الصافي 3:273. (13 و 14) . تفسير روح البيان 5:314.

و الضحّاك (1).

وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ بن إسحاق، أو يعقوب بن ماثان أخي عمران بن ماثان أبي مريم الملك، كما عن الكلبي و مقاتل (2)وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا و مرضيّا عندك قولا و فعلا.

في أن الانبياء

يورثون المال خلافا

للعامة

و العجب من بعض العامة أنّهم خصّوا الإرث في الآية بالعلم و النبوّة و الدّين، للرواية المجعولة عندنا المقبولة عندهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة» (3). مع أنّ الفخر الرازي روى عن ابن عبّاس و الحسن و الضحّاك أنّهم خصّوا الإرث في الموضعين بالمال (4).

و عن ابن عباس و السّدي و مجاهد و الشّعبي و الحسن و الضحّاك أنّ الميراث في يَرِثُنِي المال، و في وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النبوّة (5).

و لا يخفى أنّ قول هؤلاء الأعاظم ينافي الرواية التي رواها أبو بكر و تفرّد بنقلها، مضافا إلى أنّ فاطمة عليها السّلام استدلّت بهذه الآية و نظائرها ممّا تدلّ على أنّ الأنبياء يورّثون المال على كذب الرواية (4)، و قرّرها أمير المؤمنين (5)، و لا يمكن القول بكونهما جاهلين بتفسير الآية، مع أنّ الرسول زقّهما العلم زقّا، خصوصا علم القرآن، مع أنّ زكريّا جعل وجود الولد له مأمنا من خوفه من مواليه، و لا يكون ذلك الأمر إذا كان خوفه من أن يكون بنو عمّه وارثين لماله، فيصرفوه في الصرف عن الحقّ و تغيير الدّين، و إلاّ فكم من نبيّ كان مغلوبا للأشرار و مغموما و خائفا من الكفّار.

و دعوى أنّه لو كان المراد من الإرث إرث المال، لزم القول بعدم استجابة دعاء زكريّا؛ لأنّ يحيى قتل في حياة زكريّا و لم يرث ماله، فباطل جدّا. للمنع من قتله في حياة أبيه، بتصريح جمع من الأعاظم كالزمخشري و محمّد بن جرير الطبري و غيرهما بخلافه (6). مع أنّ الاعتراض مشترك الورود؛ لأنّ إرث العلم و النبوّة أيضا لا يكون إلاّ بعد موت المورّث. و على ما ذكره المدّعي لم يصر يحيى وارثا لنبوّة زكريّا أيضا، مع أنّ النبوة لم يمكن أن يرثها الأشرار، و أن تنقطع من وجه الأرض، فكان لزكريّا ورثة النبوّة، و إن لم يكن له ولد من صلبه. مع أنّه روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «رحم اللّه زكريّا،

ص: 171


1- . تفسير الرازي 21:184.
2- . تفسير الرازي 21:185.
3- . تفسير الرازي 21:184، تفسير أبي السعود 5:255. (4 و 5) . تفسير الرازي 21:184.
4- . الاحتجاج 1:102.
5- . كشف الغمة 1:477.
6- . ذكر الطبري في تفسيره 16:37 أنّ معنى الآية: يرثني بعد وفاتي مالي، و يرث من آل يعقوب النبوة. ثمّ عدّد جمعا من المفسرين القائلين بهذا، و هو صريح في الدلالة على بقاء يحيى بعد وفاة زكريا عليه السّلام.

لم يكن له من ورثة» (1)يعني ورثة المال.

مضافا إلى أنّه سأل اللّه أن يجعل وارثه مرضيا، و لو كان المراد من الأرث إرث النبوّة، كان هذا السؤال مستدركا و لغوا؛ لأنّ النبيّ لا يكون إلاّ مرضيّا، و القول بأنّ الأنبياء و إن كانوا مرضيّين إلاّ أنّ الرضا منهم مفضل عليهم. أو أنّ المراد بالمرضيّ المرضيّ لأمّته لا يتلقّى بالتكذيب و الردّ، أو أنّ المراد أن لا يكون متّهما في شيء، و لا يوجد فيه مطعن، و لا ينسب إليه شيء من المعاصي. أو أنّ المراد ثبّته على كونه مرضيّا، كما قال إبراهيم و إسماعيل: رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ (2)أي ثبّتنا (3)على إسلامنا، فكلّها خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلاّ بدليل معتبر. و ليست الرواية المجعولة أو الظنّية على قول العامة قابلة لصرف الآية عن ظاهرها.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 7 الی 9

ثمّ أخبر سبحانه باستجابة دعائه و قال بالإلهام، أو بتوسّط الملك: يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ و ولد ذكر (4)يكون من كرامته عليّ أن سمّيناه قبل ولادته اِسْمُهُ يَحْيى لأنّه أحيا به عقر امّه، كما عن ابن عبّاس (5). أو لأنّه أحيا قلبه بالإيمان و الطاعة (6). أو لأنّه استشهد و الشّهداء أحياء (7). أو لأنّ الدين به يحيا (8). أو لأنّه ذابح الكبش الأملح الذي هو صورة الموت في القيامة فيذبحه فيحيا الفريقان (9). أو لجميع الوجوه و لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ و لا في الأزمنة السابقة سَمِيًّا و موافقا في الاسم، كما عن ابن عبّاس (10). عن القمي: لم يسمّ باسمه أحد قبله (11).

يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9)

قالَ زكريّا استعظاما لقدرة اللّه و استعجابا من وقوع الخارق للعادة: رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي و كيف يتولّد منّي غُلامٌ وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً لم تلد في شبابها! فكيف و هي الآن عجوز وَ قَدْ بَلَغْتُ أنا مِنَ أجل اَلْكِبَرِ في السنّ عِتِيًّا و منتهاه.

و إنّما ذكر ذلك للاعتراف بأنّ وجود الولد منه مع كونه شيخا فانيا، و من امرأته مع كونها عجوزا

ص: 172


1- . تفسير الرازي 21:184.
2- . البقرة:2/128.
3- . تفسير الرازي 21:185.
4- . في النسخة: ذكور.
5- . تفسير الرازي 21:186.
6- . تفسير الرازي 21:186.
7- . تفسير الرازي 21:186.
8- . تفسير الرازي 21:187.
9- . لم نجد رواية في هذا المعنى في تفسير هذه الآية أو في سبب تسمية يحيى عليه السّلام، لكن وردت عدة روايات و بنفس المضمون دون ذكر اسم يحيى في تفسير الآية 39 من هذه السورة، و سيأتي بعضها في هذا التفسير، راجع: تفسير أبي السعود 5:266، تفسير روح البيان 5:335، تفسير الرازي 21:221.
10- . تفسير الرازي 21:186.
11- . تفسير القمي 2:48، تفسير الصافي 3:274.

عاقرا، لا يكون إلاّ بقدرته القاهرة و إلغاء الأسباب الظاهرة.

و قيل: إنّ المقصود من السؤال عن وجود الغلام منهما أنّه يكون بردّهما إلى الشّباب؟ أو مع إبقائهما على حال الهرم؟ (1)

قالَ سبحانه بالإلهام، أو بتوسّط الملك: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ لا خلف فيه و لا غلط. قيل: إنّ المعنى: الأمر كذلك، تصديقا له. ثمّ ابتدء بقوله: قالَ رَبُّكَ (2)هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ و سهل. و قيل: ذلك إشارة إلى مبهم يفسّره بقوله: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (3).

قيل: إنّ معنى قوله: أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ هو أنّك تعطيني الغلام على حالنا من الشيخوخة؟ قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ يعني نعم يهب لك الغلام، و انتما على تلك الحالة (4).

ثمّ استدلّ على قدرته بقوله: وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً مذكورا، فمن كان قادرا على خلقك من العدم قادر على خلق الولد من الشيخ و الشيخة بطريق أولى.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ لمّا لم يبيّن سبحانه وقت الولادة، سأل اللّه آية تدلّ على وقتها بقوله: قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً و دلالة تدلّ على تحقّق الولد لأتلقّى نعمتك بالشّكر بدو حدوثها قالَ اللّه تعالى: آيَتُكَ و دليلك على ذلك أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ بكلام دنيوي، و لا تقدر على التنطّق بغير ذكر اللّه ثَلاثَ لَيالٍ بأيامها مع كونك سَوِيًّا و سالما من الأمراض و الآفات الموجبة لاعتقال اللّسان.

قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (11)

قيل: إنّه رجع تلك الليلة إلى امرأته فقربها، فانعقدت النّطفة في رحمها، ثمّ اشتغل بالعبادة و الصلاة في محرابه المختصّ به، فلمّا أصبح امتنع عليه التكلّم مع الناس (5)فَخَرَجَ في صبيحة ليلة، حملت فيها امرأته عَلى قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرابِ و المصلّى.

قيل: إنّ القوم كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوا و يصلّوا، إذ خرج زكريا عليهم متغيّر اللّون صامتا فأنكروه و قالوا: مالك يا زكريا (6)فَأَوْحى و أشار إِلَيْهِمْ بيده أو بغيرها أَنْ سَبِّحُوا للّه و صلّوا بُكْرَةً و بين الطّلوعين وَ عَشِيًّا و بين الزوال و المغرب، على ما قيل (7).

ص: 173


1- . تفسير الرازي 21:188، تفسير روح البيان 5:317.
2- . تفسير الرازي 21:188.
3- . تفسير الرازي 21:188.
4- . تفسير الرازي 21:189.
5- . تفسير روح البيان 5:318.
6- . تفسير أبي السعود 5:258، تفسير روح البيان 5:318.
7- . تفسير روح البيان 5:318.

و قيل: كان القوم يصلّون في الوقتين بإذنه (1). ثمّ مضى الحال على زكريّا كذلك ثلاثة أيّام بلياليها، ثمّ عاد إلى حالته الأولى.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ تولّد يحيى عليه السّلام بعد مضيّ مدّة حمله و نما، و كان في صغره يلبس الصوف و يوافق الأخيار في الرياضة و العبادة، حتى نزل عليه الوحي، و خاطبه اللّه إلهاما بقوله: يا يَحْيى خُذِ اَلْكِتابَ المنزّل على موسى و اعمل به بِقُوَّةٍ و جدّ و استظهار بالتوفيق و التأييد، و اصبر على مشاقّ النبوّة و تحمّل أعباء الرسالة.

يا يَحْيى خُذِ اَلْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا (13) وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا (14)

في ذكر صفات

يحيى و فضائله

ثمّ أخبر سبحانه بجلالة شأنه في الصبى بقوله: وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ من العقل الكامل و فهم حقائق التوراة و الفقه في الدين و النبوّة و الرسالة في وقت كونه صَبِيًّا غير بالغ الحلم وَ آتيناه حَناناً و عطوفة عظيمة و رحمة خاصّة مِنْ لَدُنّا و بسعة فضلنا وَ زَكاةً و طهارة من كلّ ذنب و نقص وَ كانَ تَقِيًّا و خائفا من ربّه، أو محترزا من كلّ ما لا يليق بمقامه، وَ كان بَرًّا و رحيما بِوالِدَيْهِ و محسنا إليهما وَ لَمْ يَكُنْ في آن من أوان عمره جَبّاراً و متكبّرا عليهما، أو على أحد من النّاس، أو مسيئا إليهما، أو إلى أحد و عَصِيًّا و عاقا لهما، أو عاصيا لربّه.

و عن تفسير الإمام عليه السّلام: «ما ألحق اللّه صبيّا برجال كاملي العقول إلاّ هؤلاء الأربعة: عيسى بن مريم، و يحيى بن زكريّا، و الحسن، و الحسين» .

ثمّ ذكر قصّتهم، و ذكر في قصّة يحيى قوله تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا قال: «و من ذلك الحكم أنّه كان صبيّا فقال له الصبيان: هل تلعب؟ قال: و اللّه ما للّعب خلقنا، و إنّما خلقنا للجدّ لأمر عظيم. ثمّ قال: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا يعني تحنّنا و رحمة على والديه و سائر عبادنا وَ زَكاةً يعني طهارة لمن آمن به و صدّقه وَ كانَ تَقِيًّا يتّقي الشّرور و المعاصي وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ محسنا إليهما مطيعا لهما وَ لَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا يقتل على الغضب، و يضرب على الغضب، [لكنّه]ما من عبد للّه تعالى إلاّ و قد أخطأ أو همّ بخطيئة إلاّ يحيى بن زكريّا فلم يذنب و لم يهمّ بالذّنب (2).

ص: 174


1- . تفسير الرازي 21:191.
2- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:659، تفسير الصافي 3:275.

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل ما عنى بقوله: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا؟ قال: «تحنّن اللّه» ثمّ سئل فما بلغ من تحنّن اللّه عليه؟ قال: «كان إذا قال: يا ربّ، قال اللّه عزّ و جلّ: لبيك يا يحيى» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه كان إذا قال في دعائه: يا ربّ يا اللّه، ناده اللّه من السماء: لبّيك يا يحيى سل حاجتك» (2).

و عن (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «مات زكريّا فورثه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبيّ صغير» ثمّ تلا هذه الآية (3).

و عن الجواد عليه السّلام: «أنّ اللّه احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النبوّة فقال: «وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا» (4).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 15

ثمّ أخبر اللّه بإكرامه و تعطّفه عليه في جميع الأحوال بقوله: وَ سَلامٌ و أمان من اللّه عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ من أن يناله من الشّيطان ما ينال سائر بني آدم وَ يَوْمَ يَمُوتُ من عذاب القبر وَ يَوْمَ يُبْعَثُ من القبر حَيًّا إلى المحشر من عذاب القيامة و أهوالها.

وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)روى بعض العامة: «أنّ أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا ممّا كان فيه، و يوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قطّ، و يوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. فأكرم اللّه يحيى فحيّاه (5)بالسّلام عليه في هذه المواطن الثلاثة» (6).

و عن الرضا عليه السّلام: «أنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد و يخرج من بطن امّه فيرى الدنيا، و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها، و يوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في الدنيا، و قد سلّم اللّه عزّ و جلّ على يحيى في هذه الثلاثة المواطن و آمن روعته» و تلا الآية (7).

ثمّ اعلم أنّ في ذكر القصّة فوائد كثيرة: منها تعليم آداب الدعاء، أوّلها: الإخفاء فيه، كما قال تعالى: اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً (8)، الثاني: ذكر عجز النفس و ضعفها قبل سؤال الحاجة، الثالث: ذكره كثرة نعم اللّه عليه، الرابع: نداء اللّه بوصف الربوبيّة، الخامس: إظهار عدم كون قصده بالدعاء محض الدنيا بل صلاح الدين.

ص: 175


1- . الكافي 2:389/38، تفسير الصافي 3:275.
2- . المحاسن:35/30، تفسير الصافي 3:275.
3- . الكافي 1:313/1، تفسير الصافي 3:275.
4- . الكافي 1:315/7، تفسير الصافي 3:275.
5- . في تفسير الرازي: فخصّه.
6- . تفسير الرازي 21:193.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:257/11، تفسير الصافي 3:276.
8- . الأعراف:7/55.

و منها: بيان رفعة مقام زكريّا و يحيى عليهما السّلام، و كونهما نبيّين مع كونهما من البشر. و منها: بيان كمال قدرته تعالى. و منها: بيان غاية لطفه بأوليائه. و منها: وجوب البرّ بالوالدين، إلى غير ذلك.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 16 الی 28

ثمّ أنّه تعالى بيّن (1)كمال قدرته على خلق الولد من غير فحل بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد للنّاس فِي هذا اَلْكِتابِ العظيم مَرْيَمَ بنت عمران بن ماثان و قصّة احتبالها بعيسى و وقته بقوله: إِذِ اِنْتَبَذَتْ و تنحّت مِنْ أَهْلِها و أقاربها و أتت مَكاناً شَرْقِيًّا من بنت خالتها، أو اختها ابشاع زوجة زكريّا.

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا اَلْمَخاضُ إِلى جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)

قيل: احتاجت يوما إلى الغسل، و كان وقت الشّتاء، فجاءت إلى ناحية شرقيّة من الدّار مقابل للشمس (2)فَاتَّخَذَتْ و أرخت للستر من أهلها مِنْ دُونِهِمْ و أدنى مكان منهم حِجاباً و سترا يسترها منهم إذا تعرّت.

و قيل: إنّها طلبت خلوة للعبادة لئلاّ تشتغل عنها (3).

و القمي: خرجت إلى النّخلة اليابسة (4)فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا جبرئيل فَتَمَثَّلَ و تصوّر لَها

ص: 176


1- . في النسخة: بعد بيان.
2- . تفسير روح البيان 5:321.
3- . تفسير الرازي 21:196.
4- . تفسير القمي 2:48، تفسير الصافي 3:276.

بصورة البشر فرأته بَشَراً شابّا أمرد حسن الوجه سَوِيًّا و معتدلا في الخلقة و القامة.

و قيل: كان لها في منزل زكريّا محراب مخصوص تسكنه، و كان إذا خرج أغلق عليها بابه، فتمنّت أن تتّخذ خلوة في الجبل لتفلّي (1)رأسها، فانفرج (2)السقف فخرجت إلى المفازة، فجلست في المشرفة. وراء الجبل، فأتاها الملك (3)في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشّعر.

و قيل: إنّه ظهر لها في صورة يوسف أحد خدّام بيت المقدس (4)، فلمّا رأته قالَتْ تعفّفا و تورّعا: يا شابّ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ و ألتجأ إليه برحمته الواسعة مِنْكَ و من سوء قصدك و صنيعك إِنْ كُنْتَ مؤمنا تَقِيًّا تبالي بالاستعاذة بالرحمن،

فلا تتعرّض لي و اتّعظ بتعويذي قالَ جبرئيل: لا تخافي (5)منّي و لا تتوهّمي (6)السّوء في حقّي إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الذي استعذت به جئتك لِأَهَبَ لَكِ و أعطيك بالنّفخ في روعك غُلاماً زَكِيًّا طاهرا من كلّ لوث و دنس، و مبرّءا من كلّ نقص و شين،

فلمّا سمعت ذلك قالَتْ تعجّبا من وقوع الأمر الخارق للعادة، لا استبعادا من قدرة اللّه: أَنّى يَكُونُ لِي و كيف يتولّد منّي غُلامٌ وَ الحال أنّه لَمْ يَمْسَسْنِي و لم يباشرني بَشَرٌ بالنّكاح لَمْ أَكُ بَغِيًّا و فاجرة!

قالَ جبرئيل: كَذلِكِ الذي قلت قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. قد مرّت الوجوه في كَذلِكِ و ما بعده.

ثمّ ذكر سبحانه علّة خرق العادة بوهب الغلام بغير فحل بقوله: وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً و برهانا قاطعا للنّاس على قدرتنا و رسالة هذا الغلام.

قيل: إنّ التقدير لنبيّن به قدرتنا (7)لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً عظيمة مِنّا عليهم، هداية لهم بهدايته وَ كانَ ذلك الخلق العجيب أَمْراً مَقْضِيًّا و مقدّرا في علمي السابق لا بدّ من وقوعه.

ثمّ قيل: إنّ جبرئيل نفخ في جيبها (8)، أو ذيلها (9)، أو أخذ بكمّها و نفخ في درعها (10).

عن ابن عباس: فاطمأنّت مريم إلى قول جبرئيل، فدنا منها فنفخ في جيب درعها (11)فَحَمَلَتْهُ عقيب نفخ جبرئيل.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّه تناول جيب درعها (12)فنفخ فيه نفخة، فكمل الولد في الرّحم في ساعته، كما يكمل في أرحام النساء في تسعة أشهر، فخرجت من المستحمّ و هي حامل فحجج (13)مثقل، فنظرت

ص: 177


1- . في النسخة: لتضل.
2- . في النسخة: فانفجر.
3- . تفسير الرازي 21:196.
4- . تفسير الرازي 21:196.
5- . في النسخة: تخف.
6- . في النسخة: و لا تتوهم.
7- . تفسير أبي السعود 5:261.
8- . تفسير الرازي 21:201.
9- . تفسير الرازي 21:201.
10- . تفسير الرازي 21:201.
11- . تفسير روح البيان 5:324.
12- . في مجمع البيان: مدرعتها.
13- . كذا، و في مجمع البيان: محج، و في الصافي: محج، و لعلها تصحيف: تفحج، أي تباعد بين رجليها، كما هو شأن النساء المثقلات بالحمل.

إليها خالتها فانكرتها، و مضت مريم على وجهها مستحيية من خالتها و من زكريّا» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنّ مريم حملت بعيسى تسع ساعات» (2).

فَانْتَبَذَتْ مريم و اعتزلت من أهلها و عيسى في بطنها و تباعدت بِهِ مَكاناً قَصِيًّا و موضعا بعيدا من قومها.

روى بعض العامة عن وهب: أنّ مريم لمّا حملت بعيسى عليه السّلام كان معها ابن عمّ لها يقال له يوسف النجّار، و كانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، و كانا يخدمان ذلك المسجد، و لا يعلم في زمانهما أحد أشدّ اجتهادا و عبادة منهما، و أوّل من عرف حمل مريم يوسف، فتحيّر في أمرها، فكلّما أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها و عبادتها و أنّها لم تغب عنه ساعة قطّ، و إذا أراد أن يبرّءها رأى الذي ظهر منها من الحمل، فأوّل ما تلكّم أن قال: إنّه وقع في قلبي من أمرك شيء، و قد حرصت على كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت أنّ الكلام فيه أشفى لصدري. فقالت: قل قولا جميلا. قال: أخبريني-يا مريم-هل ينبت زرع بغير بذر؟ و هل تنبت شجرة بغير غرس؟ و هل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أنّ اللّه أنبت الزّرع يوم خلقه من غير بذر، و هذا البذر إنّما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر. ألم تعلم أنّ اللّه تعالى أنبت الشجر من غير غيث، و بالقدرة جعل الغيث حياة الشّجر بعدما خلق كلّ واحد منهما على حدة؟ أو تقول أنّ اللّه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، و لو لا ذلك لم يقدر على إنباتها؟

فقال يوسف: لا أقول هذا، و لكنّي أقول: إنّ اللّه قادر على ما يشاء، فيقول له كن فيكون. فقالت له مريم: ألم تعلم أنّ اللّه خلق آدم و امرأته من غير ذكر و لا انثى؟ فعند ذلك زالت التّهمة عن قلبه، و كان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضّعف عليها بسبب الحمل و ضيق القلب، فلمّا دنا نفاسها أوحى اللّه إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلاّ يقتلوا ولدك، فاحتملها يوسف إلى أرض [مصر] على حمار له، فلمّا بلغت تلك البلاد أدركها النّفاس، فألجأها إلى أصل نخلة، و ذلك في زمان برد، فاحتضنتها فوضعت عندها (3).

و قيل: إنّها استحيت من زكريّا، فذهبت إلى مكان بعيد، لا يعلم بها زكريا (4).

و قيل: إنّها خافت من قومها على ولدها (5). و على أيّ تقدير خرجت من بين قومها، أو من منزل

ص: 178


1- . مجمع البيان 6:789، تفسير الصافي 3:277.
2- . الكافي 8:332/516، تفسير الصافي 3:277.
3- . تفسير الرازي 21:201. (4 و 5) . تفسير الرازي 21:202.

زكريّا في جوف اللّيل إلى خارج بيت المقدس على ما قيل (1). أو من دمشق إلى كربلاء، كما عن السجّاد عليه السّلام (2).

فأخذها الطّلق فَأَجاءَهَا و ألجأها اَلْمَخاضُ و وقع الولادة إِلى جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ اليابسة لتستتر بها و تعتمد عليها عند الولادة، إذ لم يكن لها قابلة تعينها، أو لإظهار المعجزة في الجذع، و هو ما بين العرق و الغصن، و كان مجيئها إلى الجذع بإلهام اللّه.

القمي: كان ذلك اليوم سوق، فاستقبلها الحاكة، و كانت الحياكة أنبل صناعة في ذلك الزمان، فاقبلوا على بغال شهب، فقالت لهم مريم: أين النّخلة اليابسة؟ فاستهزءوا بها و زجروها. فقالت لهم: جعل اللّه كسبكم بورا، و جعلكم في النّاس عارا؛ ثمّ استقبلها قوم من التجّار فدلّوها على النخلة اليابسة، فقالت لهم: جعل اللّه البركة في كسبكم، و أحوج النّاس إليكم؛ فلمّا بلغت النّخلة أخذها المخاض فوضعت بعيسى، فلمّا نظرت إليه قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا (3)الأمر، أو هذا اليوم، أو هذا الحمل وَ كُنْتُ نَسْياً و شيئا من حقّه أن يطرح لحقارته و دناءته كخرقة الطمث و مَنْسِيًّا عند النّاس لا يذكرني أحد.

قيل: إنّما قالت ذلك كي لا يقع أحد في المعصية، للتكلّم فيها، و إلاّ فإنّها كانت راضية مسرورة بوقوع ما بشّرت به (4).

و القمي: قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ماذا أقول لخالتي (5)، و لبني إسرائيل (6)؟

فَناداها عيسى مِنْ تَحْتِها و من مكان أسفل منها، أو من تحت النّخلة تطييبا لقلبها و إزالة للوحشة عنها: أَلاّ تَحْزَنِي بسبب ولادتي و قحط الطعام و الشراب قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ و في مكان أسفل منك سَرِيًّا و نهرا صغيرا جاريا.

عن ابن عبّاس: أنّ جبرئيل ضرب برجله الأرض، فظهرت عين ماء عذب، فجرى جدولا (7).

و قيل: إنّ السريّ سيّد القوم و شريفهم (8)وَ هُزِّي و اجذبي إِلَيْكِ و نحوك بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ التي فوق رأسك تُساقِطْ عَلَيْكِ إسقاطا متواترا رُطَباً جَنِيًّا طريّا، أو صالحا للاجتناء.

قيل: كان من العجوة، و هي أفضل التمر (9)فَكُلِي يا مريم من الرّطب وَ اِشْرَبِي من ماء السّريّ وَ قَرِّي عَيْناً و طيبي نفسا، و ارفضي عنك ما أحزنك و أهمّك، فإنّ اللّه نزّه ساحتك بالخوارق: من جري

ص: 179


1- . تفسير روح البيان 5:326.
2- . التهذيب 6:73/139، تفسير الصافي 3:277.
3- . تفسير القمي 2:49، تفسير الصافي 3:278.
4- . تفسير الرازي 21:203.
5- . في المصدر: لخالي.
6- . تفسير القمي 3:49، تفسير الصافي 3:278.
7- . تفسير أبي السعود 5:262، تفسير روح البيان 5:327.
8- . تفسير أبي السعود 5:262، جوامع الجامع:273.
9- . تفسير روح البيان 5:328.

النّهر، و اخضرار النّخلة اليابسة، و إثمارها قبل وقتها.

قيل: إنّ المنادي كان جبرئيل (1)، فإنّه كان لها كالقابلة.

قيل: إنّما قدّم الأكل لكون حاجتها إليه أشدّ (2)، و أخّر تأمينه عن الخوف لقلّته ببشارة جبرئيل، و إنّما جاء رزقها في المحراب من الجنّة حال طفوليّتها لعدم تعلّق قلبها بشيء هنالك، و امرت بهزّ النخلة هنا لعلاقتها بالولد، و إنّما امرت بهزّ النخلة لأنّها تعجّبت من وجود الولد بلا فحل، فأراها اللّه الرّطب من النخلة اليابسة لأنّها لا تثمر إلاّ بالتّأبير (3)من لقاح الذّكر.

في الحديث: «إذا ولدت امرأة فليكن أوّل ما تأكل الرّطب، فإن لم يكن رطب فتمر، فإنّه لو كان شيء أفضل منه لأطعمه اللّه تعالى مريم بنت عمران حين ولدت عيسى» (4).

قيل: إنّ اللّه أرسل الملائكة ليكونوا عند مريم حين ولادة عيسى عليه السّلام، فلمّا تولّد حفّوا به و قمّطوه في حرير الجنّة، و وضعوه عند مريم (5).

ثمّ علّمها عيسى عليه السّلام طريق التخلّص من اعتراض بني إسرائيل عليها بقوله: فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً و إن رأيت من الآدميّين شخصا اعترض عليك فَقُولِي في جوابه بالاشارة: إِنِّي لا أتكلّم و لا اجيبك لأنّي نَذَرْتُ و جعلت على نفسي أن أصوم لِلرَّحْمنِ صَوْماً و إمساكا من الكلام، أو منه و من غيره من المفطرات فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا قيل: كان صيام عبّاد بني إسرائيل الإمساك من الطعام و الكلام، و قد نسخ في هذه الأمّة (6).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده» ثمّ قال: «قالت مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم، و غضّوا أبصاركم» (7). ثمّ احتضنت مريم ولدها، و رجعت إلى بيت المقدس.

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها عن ابن عبّاس: أنّ مريم خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، و جاءتهم عند الظهر و معها صبيّ (8)تَحْمِلُهُ روي أنّ زكريّا افتقد مريم، فلم يجدها في محرابها، فاغتمّ غمّا شديدا، و قال لابن خالها يوسف: اخرج في طلبها، فخرج يقتصّ أثرها حتى لقيها تحت النخلة، فلمّا رجعت إلى قومها، و هم أهل بيت صالحون، و زكريّا جالس معهم، بكوا و حزنوا (9)و قالُوا توبيخا

ص: 180


1- . تفسير الرازي 21:204.
2- . تفسير الرازي 21:206.
3- . أبّر النخل: لقحه و أصلحه.
4- . تفسير روح البيان 5:328.
5- . تفسير روح البيان 5:328.
6- . تفسير روح البيان 5:328.
7- . الكافي 4:87/3، تفسير الصافي 3:279.
8- . تفسير روح البيان 5:329.
9- . تفسير روح البيان 5:329.

لها: يا مَرْيَمُ و اللّه لَقَدْ جِئْتِ و فعلت شَيْئاً و فعلا فَرِيًّا و عظيما،

أو منكرا عجيبا يا أُخْتَ هارُونَ الصالح و نظيره في العبادة و التقوى، و قيل: كان لها أخ صالح اسمه هارون (1)، و قيل: إنّ المراد هارون أخو موسى (2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما عنوا هارون النبيّ، و كانت من أعقابه، و إنّما قيل يا اخت هارون كما يقال يا أخا همدان، أي يا واحدا منهم» (3).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: أنّه بعث المغيرة بن شعبة إلى نجران، فقالوا: أ لستم تقرءون: يا أُخْتَ هارُونَ و بينهما كذا و كذا، فذكر ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «ألا قلت: إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم (4)و الصّالحين منهم» (5).

قال بعض العامّة: إنّ هارون كان رجلا معلنا بالفسق فشبّهوها به (6).

و عن القمي: أنّ هارون كان رجلا فاسقا زانيا، فشبّهوها به (7).

ثمّ بالغوا في توبيخها بقولهم: ما كانَ أَبُوكِ عمران اِمْرَأَ سَوْءٍ و رجلا فاسقا زانيا، كما عن ابن عبّاس (8). قيل: كان أشرف الأحبار (9)وَ ما كانَتْ أُمُّكِ حنة بَغِيًّا و زانية، فلم كنت سيئة العمل، و من أين جئت بهذا الولد؟

سوره 19 (مريم): آیه شماره 29 الی 34

فلمّا بالغ القوم في توبيخها، بل قيل إنّهم همّوا برجمها، و كان عيسى عليه السّلام في حجرها يرتضع (10)فَأَشارَتْ مريم إِلَيْهِ و أجابتهم بالإيماء: أنّ هذا الرضيع في حجرى يجيبكم و أنا صائمة لا أتكلّم، فغضبوا غضبا شديدا و قالُوا: لسخريّتها بنا أشدّ من زناها كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ شأنه أن يكون فِي اَلْمَهْدِ أو من كان في حجر امّه يرتضع حال كونه صَبِيًّا لا يفهم السؤال و لا يقدر

فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا (32) وَ اَلسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)

ص: 181


1- . تفسير الرازي 21:208.
2- . تفسير الرازي 21:208.
3- . تفسير الرازي 21:208.
4- . في النسخة: بآبائهم.
5- . سعد السعود:221، تفسير الصافي 3:279.
6- . تفسير الرازي 21:208.
7- . تفسير القمي 2:50، تفسير الصافي 3:279.
8- . تفسير روح البيان 5:330.
9- . تفسير روح البيان 5:330.
10- . تفسير الرازي 21:208.

على الجواب؟ فلمّا سمع عيسى عليه السّلام منهم ذلك ترك الرّضاع، و اتّكا على يساره، و أشار إلى نفسه بسبّابته.

و قيل: إنّ زكريّا عليه السّلام أتى مريم عند ذلك، و قال لعيسى عليه السّلام: انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها (1). فعند ذلك قالَ عيسى: إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ ردّا على من يقول إنّه اللّه أو شريكه أو ولده آتانِيَ اَلْكِتابَ المسمّى بالإنجيل وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا في الصبى، كما هو قول بعض العامّة، و مدلول بعض رواياتنا (2).

و عن ابن عباس أنّه قال: المراد أنّه حكم و قضى بأنّه سيبعثني من بعد، ثمّ سكت عيسى و عاد إلى الصّغر، و لمّا بلغ ثلاثين سنة بعثه اللّه (3)، ثمّ قال: وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً و نفّاعا كما عن القمي، و جمع من العامة (4)، أو ثابتا على الحقّ و الدّين (5). أو مستعليا بالحجّة و غالبا مفلحا (6)، أو معلّما للبشر دينهم (7)و جميع ما فيه خيرهم أَيْنَ ما كُنْتُ في برّ أو بحر أو سهل أو جبل وَ أَوْصانِي و أمرني أمرا مؤكّدا بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ.

عن الصادق عليه السّلام قال: «زكاة الرؤوس، لأنّ كلّ الناس ليست لهم أموال، و إنّما الفطرة على الغني و الفقير و الصغير و الكبير» (8). ما دُمْتُ حَيًّا في الدنيا وَ جعلني بَرًّا و محسنا بِوالِدَتِي مريم وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً و متكبّرا و شَقِيًّا و عاصيا بالعقوق و غيره.

عن الصادق عليه السّلام: أنّه عدّ من الكبائر العقوق قال: «لأنّ اللّه جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السّلام: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي» الآية (9)، أعلن فيه بتبرئة امّه، و أنّه ولد بغير أب، ثمّ سأل السّلامة التي بشّر اللّه بها يحيى عليه السّلام بقوله: وَ اَلسَّلامُ و الأمان الذي بشّر اللّه به يحيى عليه السّلام يكون عَلَيَّ أيضا يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا و قد مرّ تفسيره (10).

و قيل: إنّ اللاّم في (السّلام) للاستغراق، و المعنى: كلّ السّلام عليّ، و لا يكون لأعدائي الّذين اتّهموا مريم، بل عليهم اللّعن (11).

روي أنّ عيسى عليه السّلام قال ليحيى: أنت خير منّي، سلّم اللّه عليك، و سلّمت على نفسي (12). و قيل: إنّ تسليمه على نفسه بتسليم اللّه عليه (13).

ص: 182


1- . تفسير الرازي 21:208.
2- . راجع: تفسير روح البيان 5:331، الكافي 1:313-314/1 و 2.
3- . تفسير الرازي 21:213.
4- . تفسير القمي 2:50، تفسير الصافي 3:280، تفسير البيضاوي 2:30، تفسير أبي السعود 5:264.
5- . تفسير الرازي 21:214.
6- . تفسير الرازي 21:214.
7- . تفسير الرازي 21:214.
8- . تفسير القمي 2:50، تفسير الصافي 3:280.
9- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:286/33، تفسير الصافي 3:281.
10- . في الآية (15) من هذه السورة.
11- . تفسير الرازي 21:216.
12- . تفسير الرازي 21:216.
13- . تفسير الرازي 21:216.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ولادة عيسى عليه السّلام و حكاية اعترافه بالعبوديّة للّه، بيّن بطلان قول النصارى بأنّه ابن اللّه بقوله: ذلِكَ المتولّد من مريم بنفخ جبرئيل المعترف بالعبوديّة للّه و رسالته هو عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ لا الذي قالت النصارى بألوهيّته، أو إنّه ابن اللّه، قلنا لكم قَوْلَ اَلْحَقِّ و الصدق. و قيل: إنّ المعنى أنّ عيسى كان قول الحقّ (1)و كلمة اللّه و روحه اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ و في شأنه يشكّون و يختلفون.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 35 الی 39

ثمّ بيّن امتناع كونه ولدا للّه بقوله: ما كانَ و ما صحّ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ لنفسه مِنْ وَلَدٍ لأنّ الولد لا بدّ أن يكون مسانخا لوالده، و لا تعدّد لواجب الوجود سُبْحانَهُ و تنزّه من أن يكون له جنس و جسم و حاجة إلى الولد، لأنّه إِذا قَضى و أراد أَمْراً من الامور و شيئا من الأشياء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ و يشاءه بالمشيئة التكوينيّة فَيَكُونُ ذلك الأمر و يوجد ذلك الشيء بصرف إرادته و مشيئته بلا ريث، كالمأمور المطيع للآمر المطاع.

ما كانَ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَ إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ اَلظّالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39)

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان بقيّة ما قال عيسى عليه السّلام في المهد، أو بعد بعثته، بقوله: وَ إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فإذا كان كذلك فَاعْبُدُوهُ وحده و لا تشركوا به شيئا من خلقه في الالوهيّة و العبادة، و اعلموا أنّ هذا التوحيد الذي دعوتكم إليه و أمرتكم به صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل لكم إلى كلّ خير و سعادة،

لا يضلّ و لا يشقى سالكه فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزابُ و الجماعات الكثيرة من النّاس المتحزّبين مِنْ بَيْنِهِمْ فقال حزب: إنّه اللّه، و حزب: إنّه ابن اللّه، و حزب: إنّه شريك اللّه و ثالث ثلاثة، و حزب: إنّه عبد اللّه و نبيّه فَوَيْلٌ ثابت و هلاك دائم لِلَّذِينَ كَفَرُوا من المختلفين مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ و معاينة أهوال القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ و ما أسمعهم للهدى! وَ أَبْصِرْ و ما أبصرهم بالحقّ! يَوْمَ هم يَأْتُونَنا فيه للحساب و جزاء الأعمال، فيصير الحقّ عندهم أبين من الشّمس.

و قيل: إنّ المعنى أسمع يا محمّد بهم و أبصرهم و عرّفهم حالهم في اليوم الذي يأتوننا (2)فيه و لكِنِ

ص: 183


1- . تفسير الرازي 21:217.
2- . تفسير الرازي 21:221.

اَلظّالِمُونَ اَلْيَوْمَ الذي تنفعهم البصيرة و تمييز الحقّ من الباطل-و هو الدنيا-مستقرّون فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و مصرّون على الخطأ الواضح،

و يكون عليهم حسرة وَ أَنْذِرْهُمْ يا محمّد و خوّفهم من يوم القيامة الذي يكون لهم يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ و وقت الندامة على الضلالة في الدنيا، و ذلك الوقت إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ و حتم عليهم العذاب، و لم يبق لهم مجال التدارك.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن قوله تعالى: إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح، فيذبح و الفريقان ينظران، فيزداد أهل الجنّة فرحا على فرح، و أهل النّار غمّا على غمّ» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ينادي مناد من عند اللّه عزّ و جلّ، و ذلك بعد ما صار أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار: يا أهل الجنّة و أهل النار، هل تعرفون الموت في صورة من الصّور؟ فيقولون: لا، فيؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنّة و النار، ثمّ ينادون جميعا: أشرفوا و انظروا إلى الموت، فيشرفون، ثمّ يأمر اللّه عزّ و جلّ به فيذبح، ثمّ قال: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، و يا أهل النار خلود فلا موت أبدا، و هو قوله تعالى: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ أي قضي على أهل الجنّة بالخلود فيها، و قضي على أهل النّار بالخلود فيها» (2).

و في رواية: «فيفرح أهل الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتا لماتوا» (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بإنذارهم من ذلك اليوم ذمّهم بقوله: وَ هُمْ اليوم فِي غَفْلَةٍ من ذلك، و من شدّة حسراته، و ممّا يفعل بهم فيه وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ بذلك اليوم حتى يرونه، أو لا يؤمنون بك حتى يقبلوا إنذارك.

و قيل: إنّ الجملتين حاليتين من الضمير المستتر في قوله: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و المعنى هم مستقرّون في ضلال، و هم في غفلة، و هم لا يؤمنون، و ما بين الحال و ذي الحال اعتراض (4).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 40 الی 43

إِنّا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43)

ص: 184


1- . تفسير الرازي 21:221، تفسير روح البيان 5:335.
2- . تفسير القمي 2:50، تفسير الصافي 3:282.
3- . مجمع البيان 6:795، تفسير الصافي 3:282.
4- . تفسير أبي السعود 5:266، تفسير روح البيان 5:335.

ثمّ بالغ سبحانه في إرعاب القلوب ببيان كمال قدرته و عظمته بقوله: إِنّا نَحْنُ خاصّة لا غيرنا نَرِثُ و نملك اَلْأَرْضَ كلّها وَ مَنْ عَلَيْها و ما فيها، فلا يبقى لأحد ملك و سلطان غيرنا بعد النّفخة الاولى في الصّور وَ إِلَيْنا و إلى حكمنا يُرْجَعُونَ و يردّون، فنحاسب أعمالهم و نجزيهم حسب استحقاقهم، و فيه تخويف عظيم و إنذار بليغ.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نبوة عيسى عليه السّلام و دعوته إلى التوحيد، ذكر نبوّة إبراهيم عليه السّلام و دعوته إليه بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد فِي هذا اَلْكِتابِ الكريم لقومك جدّك إِبْراهِيمَ و اتل عليهم نبأه، فإنّهم مفتخرون بالانتساب إليه، مقرّون بفضله و حسن طريقته، و قل لهم: إِنَّهُ عليه السّلام كانَ موحّدا أو صِدِّيقاً و ملازما للحقّ و مبالغا في تصديق الأنبياء، و كتبهم و دينهم، و كان هو أيضا نَبِيًّا عظيم الشّأن رفيع المنزلة.

و اذكر إِذْ قالَ لِأَبِيهِ آزر بلين و لطف و أدب يا أَبَتِ لا بدّ في حكم العقل من كون المعبود قادرا على كلّ شيء، سميعا لدعاء الداعين و مسألة المحتاجين، بصيرا بأحوال عباده و أفعالهم و عباداتهم، مغنيا عنهم، و نافعا لهم حتى تكون عبادته جالبة للنفع، و لا يكون لغوا و لا عبثا، فإذا كان كذلك لِمَ تَعْبُدُ أنت ما لا يَسْمَعُ دعاءك و تضرّعك وَ لا يُبْصِرُ عبادتك و خضوعك وَ لا يُغْنِي عَنْكَ و لا ينفعك في حوائجك شَيْئاً يسيرا لا في الدنيا و لا في الآخرة

يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي من قبل ربّي بالوحي و الإلهام مِنَ اَلْعِلْمِ بالواقعيات و حقائق الامور ما لَمْ يَأْتِكَ إذن فَاتَّبِعْنِي و وافقني في العقائد و الأعمال، و اقبل نصحي، و لا تستنكف عن التّعلّم منّي، فإن فعلت ذلك أَهْدِكَ و ارشدك صِراطاً سَوِيًّا و طريقا مستقيما، يوصلك إلى السعادة الأبديّة و خير الدنيا و الآخرة، و فيه من حسن الدعوة ما لا يخفى، حيث لم يدّع لنفسه العلم الفائق و لأبيه الجهل المفرط، و إن كانا كذلك، بل ادّعى لنفسه زيادة العلم بالنسبة إليه، و سأله الرّفاقة في مسلك يكون أعرف به.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 44 الی 50

ص: 185

ثمّ بعد توبيخ أبيه على عبادة الأوثان زجره عنها بقوله: يا أَبَتِ إنّ عبادة الأصنام في الحقيقة عبادة الشيطان لكونها بتسويله، و لا تَعْبُدِ اَلشَّيْطانَ و لا تتّبع خطواته و تسويلاته إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ في بدو خلقة أبيك آدم لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا حيث أمره بالسجود له فأبى و استكبر، ثمّ أعلن بعداوته لذرّيته، و من الواضح أنّ طاعة العاصي مع شدّة عداوته تورث النقم و تزيل النعم.

يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ اَلشَّيْطانَ إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ اَلرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

ثمّ خوّفه مع إظهار المودّة له (1)بقوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ إن متّ على ما أنت عليه من عبادة الأصنام من أَنْ يَمَسَّكَ و يصيبك عَذابٌ عظيم مِنَ اَلرَّحْمنِ مع سعة رحمته فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ بسبب طاعتك له وَلِيًّا و قرينا في العذاب الدّائم، أو قريبا يليك و تليه.

فلمّا سمع أبوه منه عليه السّلام هذه النصائح، غضب و أنكر عليه اعتزاله عبادة الأصنام بقوله: قالَ أَ راغِبٌ و معرض أَنْتَ عَنْ عبادة آلِهَتِي و الأصنام التي أعبدها يا إِبْراهِيمُ فإنّ الإعراض عن عبادتها لا ينبغي من عاقل فضلا عن أن يقدم أحد على صرف الغير عنها، فباللات و العزّى لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ و لم تنصرف من هذا القول الذي نهيتك عنه و عن إعراضك عن عبادة الأصنام الذي أزجرك عنها لَأَرْجُمَنَّكَ و لأقتلنّك برمي الأحجار، و قيل: يعني لأشتمنّك (2)، إذن فاحذرني وَ اُهْجُرْنِي و تباعد منّي مَلِيًّا و زمانا طويلا، لتسلم من بأسي، و لا تنطق عندي بهذه الخرافات.

فلمّا رأى إبراهيم عليه السّلام شدّة غضب آزر عليه، و عدم قبوله الهداية و النّصح قالَ: يا أبت سَلامٌ منّي عَلَيْكَ لا اصيبك بمكروه، و لا اقابلك بما يؤذيك، بل أحسن إليك في مقابل إساءتك. و قيل: إنّه سلام توديع و متاركة (3)، و المعنى أنا الآن أهجرك و افارقك، و لكن سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي و أسأله أن يوفّقك للهداية و قبول الحقّ، و أرجو أن يجيب دعائي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا و لطيفا في الغاية و بليغا في البرّ و العناية

وَ أَعْتَزِلُكُمْ و أتباعد عنكم يا عبدة الأصنام لمّا لا تقبلون نصحي و لا تهتدون بقولي وَ أعتزل ما تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه وَ أَدْعُوا رَبِّي وحده و أعبده عَسى أَلاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي اللّطيف بي شَقِيًّا و خائبا، كما أنتم أشقياء خائبون في دعائكم الأصنام، و في إظهار الرجاء باستجابة دعائه إظهار للتّواضع و الأدب، و أنّ الاجابة بالتفضّل و الكرم لا بالاستحقاق.

فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ و فارقهم في المكان بعد اليأس من اجتماعهم معه في الدين و تركهم وَ ما

ص: 186


1- . في النسخة: به.
2- . تفسير الرازي 21:228، تفسير روح البيان 5:337.
3- . جوامع الجامع:275، تفسير الرازي 21:228، تفسير روح البيان 5:337.

يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و لم يعارضهم، بل هاجر من بلدهم و ذهب إلى الأرض المقدّسة وَهَبْنا لَهُ بدل أقربائه الكفرة إِسْحاقَ من صلبه بعد إسماعيل وَ يَعْقُوبَ من إسحاق وَ كُلاًّ من إبراهيم و إسحاق و يعقوب جَعَلْنا نَبِيًّا و هذا من أفضل المواهب و أعظم النّعم

وَ وَهَبْنا لَهُمْ مع منصب النبوّة كلّ خير مِنْ رَحْمَتِنا و فضلنا.

و عن العسكري عليه السّلام: «و وهبنا لهم-يعني لإبراهيم و إسحاق و يعقوب-من رحمتنا رسول اللّه» وَ جَعَلْنا لَهُمْ في النّاس إلى آخر الدهر لِسانَ صِدْقٍ و ثناء جميلا عَلِيًّا و رفيعا. عن العسكري عليه السّلام: «يعني أمير المؤمنين عليه السّلام» (1).

فلم يتضرّر إبراهيم عليه السّلام من هجر الأقارب في اللّه، بل انتفع به أعلى المنافع الدنيويّة و الاخروية.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 51 الی 53

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مواهبه لابراهيم عليه السّلام و إلطافه به، ذكر مواهبه لموسى عليه السّلام بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد لقومك، و اتل عليهم فِي اَلْكِتابِ الكريم مُوسى بن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً أخلصه اللّه للعبوديّة و برّأة من الشرك و الأخلاق الرّذيلة و النقائص الخلقيّة و الخلقية وَ كانَ رَسُولاً من اللّه إلى عباده و نَبِيًّا ينبّئهم بما اوحي إليه، و إنّما أخّر ذكر نبوّته عن ذكر رسالته مع كونها أخصّ و أرفع؛ لأنّ الإنباء بما اوحي إليه بعد إرساله، و لرعاية الفواصل.

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية: ما الرسول و ما النبيّ؟ فقال: «النبيّ الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يرى الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و يرى في المنام و يعاين الملك» (2).

وَ نادَيْناهُ حين رجوعه من مدين يريد مصر، و كلّمناه بصوت عال مِنْ جانِبِ اَلطُّورِ و ناحيته التي كانت في الطّرف اَلْأَيْمَنِ منه، أو من موسى عليه السّلام وَ قَرَّبْناهُ إلينا تقريب تشريف حيث اخترناه لرفعة مقامه و علوّ منزلته عندنا نَجِيًّا و مخاطبا بنحو المناجاة و المسارّة، فشبّه سبحانه حال موسى عليه السّلام بحال من قرّبه الملك لمناجاته و اصطفاه لمصاحبته.

و قيل: إنّ المنجي من النّجاة، و المعنى قرّبناه حال كونه نجيّا من أعدائه (3)، مستخلصا من مكائدهم

ص: 187


1- . تفسير القمي 2:51، تفسير الصافي 3:284.
2- . الكافي 1:134/1، تفسير الصافي 3:284.
3- . تفسير الرازي 21:231.

وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا و بتفضّلنا عليه و رأفتنا به أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا حيث قال: وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (1).

عن ابن عبّاس: كان هارون أكبر من موسى عليه السّلام، و إنّما وهب اللّه له نبوّته لا شخصه و اخوّته (2).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 54 الی 55

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر إسحاق و يعقوب اللذين كانا شجرة الانبياء، و ذكر موسى عليه السّلام الذي كان أفضل فرعهما، ذكر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد فِي هذا اَلْكِتابِ إِسْماعِيلَ قيل: إنّما فصل ذكره عن ذكر أبيه و أخيه إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه (3)، و المعنى اتل يا محمّد على قومك قصّة جدّك إسماعيل عليه السّلام، و بيّن لهم علوّ مقامه إِنَّهُ كانَ صادِقَ اَلْوَعْدِ فيما بينه و بين اللّه، لم يخالف شيئا ممّا أمر به، و فيما بينه و بين النّاس.

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)عن ابن عبّاس: إنّ إسماعيل عليه السّلام وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره [سنة] (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما سمّي صادق الوعد لأنّه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه اللّه عزّ و جلّ صادق الوعد، ثمّ إنّ الرجل أتاه بعد ذلك، فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك» (5).

و قيل: إنّه وعد نفسه الصبر على الذبح، فوفى به (6).

وَ كانَ مع ذلك رَسُولاً و مبلّغا من اللّه إلى جرهم و العماليق و قبائل اليمن على ما قيل (7). و نَبِيًّا القمي: [و هو إسماعيل بن حزقيل (8). و في المجمع:]قال: هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام، كان إذا وعد لم يخلف، و كان مع ذلك رسولا نبيّا إلى جرهم، قال: و قيل: إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه، و أنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل (9).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ إسماعيل الذي قال اللّه في كتابه: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِسْماعِيلَ الآية، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيّا من الأنبياء بعثه اللّه إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه،

ص: 188


1- . طه:20/29-32.
2- . تفسير الرازي 21:231.
3- . تفسير روح البيان 5:340.
4- . تفسير الرازي 21:232، تفسير روح البيان 5:340.
5- . الكافي 2:86/7، تفسير الصافي 3:285.
6- . تفسير الرازي 21:232، تفسير روح البيان 5:340.
7- . تفسير روح البيان 5:341.
8- . تفسير القمي 2:51، و تفسير الصافي 3:285.
9- . مجمع البيان 6:800، تفسير الصافي 3:285.

فأتاه ملك فقال: إنّ اللّه بعثني إليك فمرني بما شئت، فقال: لي اسوة بما صنع بالأنبياء» (1).

وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ و أقاربه بِالصَّلاةِ التي هي أفضل العبادات البدنيّة وَ اَلزَّكاةِ التي هي أفضل العبادات المالية وَ كانَ هو عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا و محبوبا لنيله بأعلى درجات العبودية و الطاعة و الانقياد.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 56 الی 58

في ذكر ترجمة

إدريس النبي عليه السّلام

ثمّ لمّا كان إدريس-على ما قيل-أوّل من تظاهر بالنبوّة، ذكره اللّه بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد فِي هذا اَلْكِتابِ لقومك إِدْرِيسَ و إنّما لقّب به لكثرة دراسته، نزل عليه ثلاثون صحيفة، و كان اسمه اخنوخ، و ولد قبل موت آدم عليه السّلام بمائة سنة، أو بعد موته بمأئة سنة، و كان جدّ أبي نوح، و هو أوّل من وضع الميزان و المكيال، و اتّخذ السّلاح و جاهد في سبيل اللّه، و سبى و استرقّ بني قابيل، و خطّ بالقلم، و نظر في علم الحساب و النّجوم، و خاط الثياب، و لبس القطن و كانوا يلبسون الجلود (2).

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اِجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ اَلرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا (58)

وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا رفيعا. عن ابن عبّاس: إنّه رفع إلى السّماء حيّا، ثمّ قبض روحه فيها (3). و قيل: إنّه بقي حيّا في السماء الرابعة (4).

و قيل: إنّ أربعة من الأنبياء في الأحياء؛ اثنان في الأرض: الخضر و إلياس، و اثنان في السماء: إدريس و عيسى (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح كلّ واحد من الأعاظم المذكورين بالتفصيل، جمعهم في الثناء و التجليل بقوله: أُولئِكَ الأعاظم المذكورون بعض من اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النّعم الدينيّة و الدنيويّة و أصناف المواهب الصورية و المعنوية مِنَ بين اَلنَّبِيِّينَ الذين هم مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ و نسله كإدريس و من قبله في الذّكر وَ مِمَّنْ كان في أصلاب من حَمَلْنا هم في السفينة مَعَ

ص: 189


1- . علل الشرائع:77/2، تفسير الصافي 3:285.
2- . لم يذكر المصنف تفسير قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا و قد تقدّم القول فيه عند الآية (41) من هذه السورة.
3- . تفسير روح البيان 5:342.
4- . تفسير روح البيان 5:342.
5- . تفسير روح البيان 5:342.

نُوحٍ كمن عدا إدريس وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ كإسحاق و من بعده وَ ذريّة إِسْرائِيلَ كموسى و هارون و زكريا و يحيى و عيسى. و فيه دلالة على أنّ ولد البنت كعيسى من الذّرية وَ هم مِمَّنْ هَدَيْنا هم إلى الحقّ و الحقيقة و الدين وَ اِجْتَبَيْنا هم للرّسالة، و اصطفيناهم لأنواع الكرامة، و هم كانوا في العبودية و الخضوع للّه بحيث إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ اَلرَّحْمنِ المنزلة في بيان عظمته و البشارة بثوابه و التهديد بعقابه خَرُّوا و سقطوا على الأرض سُجَّداً و واضعين جباههم عليها خشوعا للّه وَ بُكِيًّا مسبلي الدموع من الرّهبة و الخوف و الشوق، فإذا كانوا مع علوّ مقامهم و رفعة منزلتهم و قربهم من اللّه، و كونهم من ذراري النبيّين و من أعظام المرسلين عند سماع الآيات بتلك المثابة، فغيرهم أولى بأن يكونوا كذلك.

قيل: إنّ المراد بالسجود هو الصلاة (1). و قيل: هو سجود التلاوة (2). و قيل: هو كناية عن غاية الخضوع و الخشوع (3)، و فيه دلالة على كون البكاء من آداب التّلاوة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اتلوا القرآن و ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» (4).

و عن ابن عبّاس: إذا قرأتم (5)سجدة سبحان فلا تعجّلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه (6).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 59 الی 60

ثمّ لمّا مدح اللّه سبحانه أنبياءه بالقيام بالعبوديّة و غاية الخضوع للّه، ذمّ أعقابهم من اليهود و النصارى الذين هم من بني إسرائيل و مشركي العرب، الذين هم من ولد إسماعيل بقوله: فَخَلَفَ الأنبياء المذكورون و عقّبوا مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ و عقب سوء أَضاعُوا اَلصَّلاةَ و تركوها و أخّروها عن وقتها المقرّر لها، أو أضاعوا ثوابها بالمعاصي وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ و سعوا في استعمال اللّذات النفسانيّة كشرب الخمر و الزنا و نظائرهما.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)عن ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة، و شربوا الخمر، و استحلّوا نكاح الاخت من الأب (7).

و عن الصادق عليه السّلام في تفسير إضاعة الصلاة قال: أضاعوها بتأخيرها عن وقتها من غير أن تركوها (8).

ص: 190


1- . تفسير الرازي 21:234.
2- . تفسير الرازي 21:234.
3- . تفسير الرازي 21:234.
4- . تفسير الرازي 21:234، تفسير روح البيان 5:343.
5- . في النسخة: قرء.
6- . تفسير الرازي 21:234.
7- . تفسير الرازي 21:235.
8- . مجمع البيان 6:802، تفسير الصافي 3:287.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير اتّباع الشهوات: «من بنى المشد، و ركب المنظور، و لبس المشهور» (1)فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ في القيامة غَيًّا و شرّا.

و قيل: إنّ غيّا اسم واد في جهنم يستعيذ من حرّه أوديتها، أعدّ للزاني، و شارب الخمر، و آكل الربا، و شاهد الزّور، و لأهل العقوق، و تارك الصلاة (2).

إِلاّ مَنْ تابَ من الشّرك و المعاصي إلى اللّه وَ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَ عَمِلَ صالِحاً بعد التوبة و الإيمان فَأُولئِكَ التّائبون المؤمنون الصّالحون يَدْخُلُونَ في الآخرة اَلْجَنَّةَ الموعودة وَ لا يُظْلَمُونَ و لا ينقصون من جزاء إيمانهم و أعمالهم شَيْئاً و قليلا، و في إطلاق الظّلم على تنقيص الجزاء دلالة على أنّه بالاستحقاق.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 61 الی 63

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الجنّة لا تكون واحدة موقّتة بقوله: جَنّاتِ عَدْنٍ و بساتين دائمة لا خروج منها، و قد سبق القول بأنّ عدن اسم تلك الجنّات اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمنُ عِبادَهُ بها و هي بِالْغَيْبِ عنهم لم يروها في الدنيا إِنَّهُ تعالى كانَ ما تعلّق وَعْدُهُ به مَأْتِيًّا و جائيا لا يمكن الخلف فيه،

و من صفات الجنّات أنّ المؤمنين لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً و كلاما باطلا لا فائدة فيه إِلاّ سَلاماً قيل: يعني لكن يسمعون تسليم الملائكة، أو تسليم بعضهم على بعض (3)وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ و غذاؤهم فِيها بُكْرَةً و أوّل النّهار وَ عَشِيًّا و آخره.

جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (62) تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)قيل: إنّ البكرة و العشّي كناية عن الدوام، أو المراد مقدار البكرة و العشيّ، إذ لا ليل فيها و لا صباح، بل هم في النّور أبدا، و إنّما وصف الجنّة بذلك لأنّ العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق في الوقتين (4).

ثمّ بيّن عظمة شأن الجنّة بقوله: تِلْكَ اَلْجَنَّةُ الموصوفة بالصفات الفائقة اَلَّتِي نُورِثُ و نملّك بعضا مِنْ عِبادِنا و هو مَنْ كانَ في الدّنيا تَقِيًّا و محترزا من الشّرك و العقائد الفاسدة و الأعمال السيئة، فالتقوى سبب لصيرورة المتّقي مالكا للجنّة، كما أنّ موت المورّث سبب لصيرورة

ص: 191


1- . تفسير روح البيان 5:344.
2- . تفسير روح البيان 5:345.
3- . تفسير أبي السعود 5:273، تفسير روح البيان 5:345.
4- . تفسير روح البيان 5:345.

وارثه مالكا لما تركه.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 64 الی 65

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان المطالب العالية و الأخبار الغيبيّة، بيّن أنّ جميعها كلامه المنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوسط الملائكة بحكاية اعتذار الملك من تأخير نزوله على نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ ما نَتَنَزَّلُ عليك يا محمّد إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ و إذنه.

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)قيل: إنّ المعنى قال اللّه لجبرئيل: قل لمحمّد ما نتنزّل وقتا من الأوقات إلاّ بأمر اللّه على ما تقتضيه حكمته (1)، و ليس لنا استقلال في أمر من الامور، لأنّنا تحت قدرته و سلطانه حيث إنّ لَهُ تعالى ما بَيْنَ أَيْدِينا و كلّ شيء يكون قدّامنا وَ ما خَلْفَنا و وراءنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الجهتين، فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة و من مكان إلى مكان إلاّ بإذنه و إرادته.

و قيل: إنّ المراد من ما بَيْنَ أَيْدِينا ما قبل وجودهم، و من ما خَلْفَنا ما بعد فنائهم (2)، وَ من ما بَيْنَ ذلِكَ زمان وجودهم و بقائهم.

و قيل: إنّ المعنى ما مضى من أعمارنا و ما بقي منها و ما نحن فيه (3).

و قيل: يعني له تعالى الأرض التي بين أيدينا، و السماء التي وراءنا و ما بين السماء و الأرض (4).

و على أي تقدير المقصود أنّ اللّه محيط بنا و بكلّ شيء بحيث لا تخفى عليه خافية وَ ما كانَ رَبُّكَ حين عدم إذنه لنا بالنّزول إليك نَسِيًّا و تاركا لك، أو غافلا عنك.

قيل: إنّه أبطأ جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: ما حبسك يا جبرئيل؟ فنزلت (5).

و قيل: إنّه أبطأ عليه لتركه الاستثناء في الوعد بجواب اليهود عن المسائل الثلاث التي مرّ ذكرها في سورة الكهف (6)، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أبطأت عليّ حتى ساء ظنّي، و اشتقت إليك» فقال جبرئيل: إنّي كنت أشوق، و لكنّي عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، و إذا حبست احتبست (7). فأنزل اللّه هذه، فعلى هذا يكون ذلك من وجوه النّظم.

ص: 192


1- . تفسير أبي السعود 5:273، تفسير روح البيان 5:347.
2- . تفسير الرازي 21:239.
3- . تفسير الرازي 21:239.
4- . تفسير الرازي 21:239.
5- . تفسير روح البيان 5:346.
6- . في تفسير الآية (9) من سورة الكهف.
7- . تفسير الرازي 21:238، تفسير روح البيان 5:347.

و عن (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لجبرئيل: «ما منعك أن تزورنا؟» فنزلت (1).

و قيل: يجوز كون الآية من كلام أهل الجنّة بعضهم مع بعض، و المعنى: وَ ما نَتَنَزَّلُ الجنّة إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا أي في الجنّة مستقبلا وَ ما خَلْفَنا ممّا كان في الدنيا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ [أي ما بين]الوقتين، وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا لشيء ممّا خلق فيترك إعادته؛ لأنّه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرّة (2).

و قيل: إنّ قوله: ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول تقريرا لكلام أهل الجنّة،

و يتّصل به قوله: رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ (3)و الحقّ أنّ الكلّ كلام الملك، و كأنّه قال: و ما كان ربّك يا محمّد نسيّا لك، و جائزا عليه الغفلة و السهو، حتى يضرّك إبطاؤنا بالنزول عليك، و إنّما لا يجوز عليه النسيان لأنّه رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما و خالقهما و مدبّرهما، و لو كان نسيّا لاختلّ نظام العالم و تدبيره لامور الموجودات، فإذا كان ربّك كذلك فَاعْبُدْهُ و اجتهد في طاعته وَ اِصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ و احبس نفسك على مشاقّها، و لا تحزن بإبطاء الوحي و نزولنا عليك، و باستهزاء الكفرة و شماتة الأعداء بك، فإنّه تعالى يراقبك و يراعيك و يلطف بك في جميع الأحوال و العوالم هَلْ تَعْلَمُ أحدا يكون ربّا للموجودات و رحمانا في الدنيا و الآخرة حتى يكون لَهُ تعالى سَمِيًّا و مشاركا في الأسماء و الصفات.

عن ابن عبّاس: لا يسمّى بالرحمن غيره (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تأويله هل تعلم أحدا اسمه اللّه غير اللّه» (3).

قيل: إنّ المشركين كانوا يطلقون اسم الإله على الصنم و الوثن، و لا يطلقون اسم اللّه على غيره تعالى (4).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ لمّا ذكر اللّه كمال قدرته و حكمته و تدبيره في الموجودات، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بعبادته، و لا فائدة في العبادة إذا لم يعتقد العابد بالحشر و الحساب، مع كونهما من لوازم حكمته بحكم العقل، وبّخ المشركين المنكرين للحشر المستبعدين له بقوله: وَ يَقُولُ اَلْإِنْسانُ الذي ينكر الحشر و المعاد استبعادا له و تعجّبا من مدّعيه: أَ إِذا ما مِتُّ و أدخلت في القبر و صرت ترابا و رفاتا لَسَوْفَ

وَ يَقُولُ اَلْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَ وَ لا يَذْكُرُ اَلْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67)

ص: 193


1- . مجمع البيان 6:805، تفسير الصافي 3:288. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:239.
2- . تفسير الرازي 21:240.
3- . التوحيد:288/5، تفسير الصافي 3:288.
4- . تفسير البيضاوي 2:36.

أُخْرَجُ من القبر حال كوني حَيًّا سويّا و إنسانا كاملا؟

ثمّ أنكر سبحانه عليهم القول بقوله: أَ وَ لا يَذْكُرُ اَلْإِنْسانُ مع عقله و فطنته، و لا يتفكّر أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ و في بدو وجوده في هذا العالم وَ الحال أنّه لَمْ يَكُ شَيْئاً مذكورا، بل كان عدما صرفا؟

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام قال «لا مقدّرا و لا مكونا» (1).

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى: «لم يكن شيئا في كتاب و لا علم» (2).

و عن القمي: أي لم يكن ثمّة ذكره (3).

و من الواضح أنّ القادر على خلقه أوّلا بلا مثال قادر على خلقه ثانيا بتلك الصورة، بل يكون خلقه أهون و أسهل عند العاقل.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 68 الی 72

ثمّ أنّه تعالى بعد نقل إنكار منكري الحشر، و استبعاد إمكانه، و استدلاله تعالى على إمكانه، أخبر بوقوعه، و هدّد منكرية بتعذيبهم بقوله: فَوَ رَبِّكَ لنحيينّهم في القبور ثمّ لَنَحْشُرَنَّهُمْ منها، و لنسوقنّهم إلى عرصة القيامة وَ اَلشَّياطِينَ المغوين لهم معهم ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ البتّة حَوْلَ جَهَنَّمَ و في أطرافها حال كونهم جِثِيًّا و جلوسا على ركبهم لشدّة هولهم بحيث لا يمكنهم القيام على أرجلهم.

فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)قيل: إنّ عادة النّاس أنّهم في مواقف المطالبات من الملوك يجلسون على ركبهم، لما في ذلك من الاستظهار و القلق (4)و غاية التذلّل.

و عن ابن عباس «جثيّا» يعني: جماعات (5).

قيل: إنّ الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، كل مع شيطانه في سلسلة (6)ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ و نجذبنّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ و فرقة من الفرق الذين تابعوا (7)غاويا من الغواة الذين يقال فيهم:

ص: 194


1- . الكافي 1:114/5، تفسير الصافي 3:288.
2- . المحاسن:243/234، تفسير الصافي 3:288.
3- . تفسير القمي 2:52، تفسير الصافي 3:288.
4- . تفسير الرازي 21:241 و 242.
5- . تفسير روح البيان 5:349.
6- . تفسير أبي السعود 5:275.
7- . في النسخة: تابعت.

أَيُّهُمْ أَشَدُّ.

و قيل: إنّ التقدير أيّهم هو اشد و أزيد عَلَى اَلرَّحْمنِ و خالق الموجودات برحمته العامة عِتِيًّا و تمرّدا و ظغيانا، ليعلم أنّ عذابه أشدّ حتى يخصّه به.

و حاصل المراد-و اللّه العالم-أنّه تعالى يحضر جميع الفرق الضالّة أوّلا حول جهنّم، ثمّ يميّز بعضهم من بعض، فمن كان أزيد منهم تمرّدا و أصرّ على الكفر، يلقى أوّلا في جهنّم، و يخصّ بأشدّ العذاب، ثمّ تميّز من دونهم في التمرّد و هكذا.

و الحاصل أنّه يبدأ بالأعصى فالأعصى على الترتيب إلى آخرهم، كما قال: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بجهنّم و أحقّ بِها صِلِيًّا و إلقاء أو دخولا وَ إِنْ مِنْكُمْ أيّها النّاس مؤمنكم و كافركم إِلاّ وارِدُها كانَ إنجاز ذلك الوعد عَلى رَبِّكَ أمرا حَتْماً و واجبا و مَقْضِيًّا و محكوما به بحكم مبرم،

لا يمكن عدم نفوذه ثُمَّ نُنَجِّي و نخلّص من النّار المؤمنين اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا الشّرك و المعاصي وَ نَذَرُ و نترك اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و العتوّ فِيها حال كونهم جِثِيًّا و جميعا، أو جالسين على ركبهم، للعجز عن القيام و الحراك.

قال بعض العامة: المراد بالورود الحضور حولها، مستدلا بما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أنّه قال: «لا يدخل النار أحد شهد بدرا و الحديبيّة» فقالت حفصة: أ ليس اللّه يقول: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها فقال صلّى اللّه عليه و آله: «[فمه؟] ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا» (1). فعلم أنّ المراد من الورود القرب منها، و إلاّ لم يكن ما قاله صلّى اللّه عليه و آله جوابا عن سؤال حفصة، و هذا كقول العرب: وردت بلد كذا و ماء كذا، يعني أشرفت عليه، دخلت فيه أو لم تدخله، و كقوله تعالى: وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أما تسمع الرّجل يقول: وردنا ماء بني فلان، فهو الورود و لم يدخل» (3)و أستدل بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (4).

و قيل: إنّ المراد منه الدخول فيها (5)، ثمّ يبعد المؤمنين منها و يذر الظّالمين فيها.

روي أنّ عبد اللّه بن رواحة قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أخبر اللّه عن الورود، و لم يخبر عن الصدور؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «يابن رواحة، اقرأ ما بعدها: ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا» (6).

و عن جابر بن عبد اللّه، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: الورود الدخول،

ص: 195


1- . تفسير الرازي 21:243.
2- . القصص:28/23.
3- . تفسير القمي 2:52، تفسير الصافي 3:289.
4- . تفسير القمي 2:52، و الآية من سورة الأنبياء:21/101.
5- . تفسير الرازي 21:243.
6- . تفسير الرازي 21:243.

لا يبقى برّ و لا فاجر إلاّ دخلها، فتكون على المؤمنين بردا و سلاما، حتى إنّ للنّاس ضجيجا من بردها» (1).

و عن (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «يرد النّاس النّار ثمّ يصدرون بأعمالهم، فأوّلهم كلمع البرق، ثمّ كمرّ الريح، ثمّ كحضر الفرس، ثمّ كالرّاكب، ثمّ كشدّ الرّجل، ثمّ كمشيه» (2)

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي» (3)

و روي أنّ اللّه يجعل النار كالسّمن الجامد، و يجمع عليها الخلق، ثمّ ينادي المنادي: خذي أصحابك و ذري أصحابي، قال: و الذي نفسي بيده، لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها (4).

قيل: حكمة ورود المؤمنين في النّار أنّهم إذا علموا الخلاص منها زادهم سرورا و زاد الكفّار غمّا، حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين، و أنّه إذا كان المؤمنين مع العصاة في النّار يقرعونهم و يبكّتونهم فيزيد ذلك غمّا للكفّار و سرورا للمؤمنين، و أنّ المؤمنين يظهرون للكفّار صدق قولهم في الحشر و التعذيب و كذب الكفّار في الإنكار، و أنّ المؤمنين إذا شاهدوا العذاب صار سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنّة (5).

و عن الصدوق: أنّه لا يصيب أحدا من أهل التوحيد ألم في النّار إذا دخلوها، و إنّما يصيبهم الألم عند الخروج منها، فتكون تلك الآلام جزاء بما كسبت أيديهم و ما اللّه بظلاّم للعبيد (6).

أقول: إنّما التألّم عند الخروج يكون للذين اكتسبوا السيّئات، و لم يغفر لهم دون المؤمنين الذين شملتهم المغفرة و الشّفاعة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد وردتموها و هي خامدة» (7).

و عن ابن مسعود: ورودها الجواز على الصراط الممدود عليها، و ذلك لأنّه لا طريق إلى الجنّة سوى الصّراط، فالمرور في حكم الورود (8)، و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها (9)فالمراد البعد من عذابها، و لا يسمعون حسيسها لأنّ حسيسها كسائر أهوال القيامة محجوب عنهم.

و عن ابن عبّاس: إنّ الآية مختصّة بالكفّار كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ

ص: 196


1- . مجمع البيان 6:812، تفسير الصافي 3:289.
2- . مجمع البيان 6:812، تفسير الصافي 3:289.
3- . مجمع البيان 6:812، تفسير الصافي 3:289.
4- . مجمع البيان 6:812، تفسير الصافي 3:289.
5- . تفسير الرازي 21:244.
6- . اعتقادات الصدوق:77/29، تفسير الصافي 3:290.
7- . تفسير الرازي 21:244.
8- . تفسير روح البيان 5:350.
9- . الأنبياء:21/101 و 102.

جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (1) .

و عن مجاهد، قال: ورود المؤمن في النّار [هو]مسّ الحمّى جسده في الدنيا، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «الحمّى من فيح (2)جهنم، فأبردوها بالماء» (3).

و في الحديث: «الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النار» (4).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 73 الی 74

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات بطلان الشرك و وعيد المشركين بالعذاب عليه، حكى استدلالهم على صحّة قولهم بحسن مآلهم في الدنيا و سوء حال المؤمنين الموحّدين فيها بقوله: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية الدالة على التوحيد و الوعد و الوعيد مع كونها معجزات بَيِّناتٍ من حيث العبارات و المعاني قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على الشّرك و العناد كالنّضر بن الحارث و أضرابه لِلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية اللّه الفقراء منهم انظروا أيّها المؤمنون أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ منّا و منكم خَيْرٌ و أفضل مَقاماً و مسكنا وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا و مجلسا من حيث اجتماع الأشراف و وجوه قريش فيه.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً (74)روي أنّ المشركين كانوا يرجّلون (3)شعورهم و يدهنونها و يتطيّبون و يتزيّنون بالزّينة الفاخرة، فإذا سمعوا الآيات الواضحات و عجزوا عن معارضتها أو الطعن فيها، قالوا مفتخرين بالحظوظ الدنيويّة على فقراء المؤمنين: لو كنتم على الحقّ و كنّا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن، لأنّ الحكيم لا ينبغي له أن يوقع أولياءه في العذاب و الذلّ، و أعداءه في العزّ و الرّاحة، و لكن الأمر بالعكس (4).

ثمّ ردّ عليهم سبحانه بقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال بسبب الكفر و الشّرك من قَبْلَهُمْ كثيرا مِنْ أهل قَرْنٍ و أهل عصر كانوا هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً و متاعا يزيّنون به بيوتهم وَ أحسن رِءْياً و منظرا منكم.

عن الباقر عليه السّلام: «الأثاث المتاع، و رئيا الجمال و المنظر الحسن» (5). فلو كانت الأمتعة الدنيويّة و حظوظها التي تفتخرون بها دليلا على الكرامة عند اللّه لم يهلكوا بالعذاب.

ص: 197


1- . تفسير الرازي 21:243، تفسير الجامع 11:138، و الآية من سورة الأنبياء:21/98.
2- . الفيح: سطوع الحر و فورانه، و في النسخة: قيح. (3 و 4) . تفسير روح البيان 5:351.
3- . رجّل الشعر: سرّحه.
4- . تفسير روح البيان 5:351.
5- . تفسير القمي 2:52، تفسير الصافي 3:291.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 75 الی 76

ثمّ بيّن سبحانه أنّ النّعم الدنيوية خذلان من اللّه و استدراج لا لطف و كرامة بقوله: قُلْ يا محمّد، لقريش المفتخرين بالحطام الدنيوية مَنْ كانَ مستقرا فِي اَلضَّلالَةِ و الشّرك و البعد عن الحقّ فَلْيَمْدُدْ و ليمهل لَهُ اَلرَّحْمنُ و ليعينه على ما هو فيه بطول العمر و كثرة المال و النّعم مَدًّا و إمهالا كثيرا مستمرّا حَتّى إِذا رَأَوْا و عاينوا ما يُوعَدُونَ بلسان الأنبياء، و ذلك الموعود إِمَّا اَلْعَذابَ الدنيوي وَ إِمَّا اَلسّاعَةَ و القيامة و ما فيها من الأهوال و النّكال فَسَيَعْلَمُونَ حين وقوع أحدهما مَنْ هُوَ من الفريقين شَرٌّ مَكاناً و من هو خير مقاما وَ من أَضْعَفُ جُنْداً و أقلّ أنصارا و أقوى أعوانا، هم أم المؤمنون، فإن قتلوا و غلب المسلمون عليهم علموا أنّهم أضعف جندا.

قُلْ مَنْ كانَ فِي اَلضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمنُ مَدًّا حَتّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذابَ وَ إِمَّا اَلسّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75) وَ يَزِيدُ اَللّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً وَ اَلْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا (76)القمي: العذاب: القتل، و الساعة: الموت (1).

و قيل: إنّ العذاب عذاب اللّه عند الموت (2). و قيل: عذاب القبر (3). و قيل: تغيّر حالهم في الدنيا من الغنى إلى الفقر، و من العزّ إلى الذّلّ، و من الأمن إلى الخوف (4).

ثمّ بيّن سبحانه معاملته مع المؤمنين بقوله: وَ يَزِيدُ اَللّهُ المؤمنين اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا بهدايته إلى التوحيد و دين الحقّ هُدىً و إيمانا و يقينا. و قيل: يعني ثوابا (5).

و عن الصادق عليه السّلام: وَ يَزِيدُ اَللّهُ، قال: «يزيدهم يوم خروج القائم هدى على هدى بإتّباعهم القائم حيث لا يجحدونه و لا ينكرونه» (6).

وَ اَلْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ التي مرّ تفسيرها في سورة الكهف (7)خَيْرٌ و أفضل عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً و أجرا في الدنيا و الآخرة ممّا يفتخر به المشركون من الحطام و الحظوظ العاجلة وَ خَيْرٌ مَرَدًّا و مآلا؛ لأنّ مآلها النّعم الدائمة، و مآل حظوظ الكفّار العذاب الأبديّ (8).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 77 الی 80

أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذابِ مَدًّا (79) وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (80)

ص: 198


1- . تفسير القمي 2:52، تفسير الصافي 3:291.
2- . تفسير الرازي 21:247.
3- . تفسير الرازي 21:247.
4- . تفسير الرازي 21:247.
5- . تفسير الرازي 21:248.
6- . الكافي 1:357/90، تفسير الصافي 3:292.
7- . في الآية (46) من سورة الكهف.
8- . في النسخة: الأبدية.

ثمّ بيّن اللّه غاية غرور المشركين بمآلهم عند اللّه بقوله: أَ فَرَأَيْتَ يا محمّد اَلَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا الدالّة على التوحيد في الالوهية و رسالة رسولنا و يوم جزائنا وَ قالَ غرورا: و اللّه لَأُوتَيَنَّ في القيامة مالاً كثيرا وَ وَلَداً كما اوتيتهما في الدنيا حتى تتعجّب من غاية حمقه و جهالته.

روي أنّ الآية نزلت في العاص بن وائل. و قيل: في الوليد بن المغيرة، فإنّه كان لخبّاب بن الأرتّ دين عليه فاقتضاه فقال: لا و اللّه حتى تكفر بمحمّد. فقال خبّاب: لا و اللّه لا أكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، لا حيّا و لا ميّتا و لا حين نبعث، فقال العاص أو الوليد: فإنّي إذا متّ بعثت؟ ! قال خبّاب: نعم، قال: إذا بعثت و جئتني فسيكون لي ثمّة مال و ولد فأعطيك.

و قيل: صاغ خبّاب له حليّا فاقتضاه، فطلب الأجرة منه، فقال: إنّكم تزعمون أنّكم تبعثون، و أنّ في الجنّة ذهبا و فضّة و حريرا، فأنّا أقضيك ثمّ، فإنّي اوتى مالا و ولدا حينئذ (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ العاص بن وائل بن هشام القرشي ثمّ السّهمي، و هو أحد المستهزئين، و كان لخبّاب بن الأرتّ عليه حقّ فأتاه يتقاضاه، فقال له العاص: أ لستم تزعمون أنّ في الجنّة الذهب و الفضّة و الحرير؟ قال: بلى، قال: فموعد [ما]بيني و بينك الجنّة، فواللّه لاوتينّ فيها خيرا ممّا اوتيت في الدنيا» (2).

فردّ اللّه عليه بقوله: أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ و هل بلغ من القرب عند اللّه إلى أن اوتي العلم الذي لا يعلمه إلاّ اللّه أَمِ اِتَّخَذَ من اللّه العالم بالمغيبات، و كان له عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً و ميثاقا على أن يعطيه ما يقول

كَلاّ ليس شيء من الأمرين بل سَنَكْتُبُ عليه و نثبّت و نحفظ ما يَقُولُ من الكذب وَ نَمُدُّ لَهُ بدل ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال و الولد، و نعطيه أو نطوّل له مِنَ اَلْعَذابِ في الآخرة مَدًّا و عطاء و طولا لا نهاية له

وَ نَرِثُهُ و نأخذ منه بموته ما يَقُولُ من المال و الولد الذي يكون له في الدنيا وَ يَأْتِينا فَرْداً و واحدا لا يكون معه شيء ممّا يفتخر به في الدنيا.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 81 الی 82

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)

ص: 199


1- . تفسير الرازي 21:249.
2- . تفسير القمي 2:54، تفسير الصافي 3:292.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اغترارهم بالنّعم الآخرة، أو استهزائهم بها، بيّن غرورهم بالأصنام و غاية حمقهم بقوله: وَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ و من مخلوقاته آلِهَةً و معبودين لِيَكُونُوا تلك الآلهة لَهُمْ في الدنيا و الآخرة عِزًّا و سببا للنيل بالمقاصد، أمّا في الدنيا فبإنجاح حوائجهم، و أمّا في الآخرة فبشفاعتهم عند اللّه، و نصرتهم لهم، و إنجائهم إيّاهم من العذاب،

فردعهم اللّه عن هذا التوهّم الفاسد بقوله: كَلاّ ليس كما توهّموه، بل سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ و ينكرون ولايتهم حين يرون سوء عاقبتهم، و يقولون: ما كنّا مشركين وَ يَكُونُونَ حين مشاهدة أصنامهم عَلَيْهِمْ ضِدًّا و أعداء بعد أن كانوا لهم محبّين كحبّ اللّه.

قيل: إنّ ضمائر الصّيغ كلّها راجعة إلى الأصنام، و المعنى ستكفر الأصنام، و يجحدون عبادتهم، لأنّهم كانوا جمادات لم يشعروا بعبادتهم، و يكونون أعوانا على ضررهم، و ذلك أنّ اللّه تعالى يركّب فيهم العقول فينطقهم فيقولون: يا ربّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا (1).

و قيل: إنّ المراد من الضدّ ضدّ العز [و هو الذّلّ و الهوان] (2)، و المعنى: يكونون عليهم ذلا و هوانا، و إنّما أفرد الضدّ لفرض وحدة الكلّ.

و قيل: إنّ المراد بالآلهة الملائكة، لأنّهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم (3)، و يقولون: سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجنّ.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «أي يكونون هؤلاء الّذين اتّخذوا آلهة من دون اللّه ضدّا يوم القيامة، و يتبرؤون منهم و من عبادتهم» ثمّ قال: «ليس العبادة هي السجود و الرّكوع، و إنّما هي طاعة الرجال، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده» (2).

أقول: يعني ليس العبادة منحصرة في الرّكوع و السّجود، فالآية تعمّ عبادة الأصنام و طاعة رؤساء الضلال.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 83 الی 84

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ استيلاء الشياطين عليهم بعثهم إلى عبادة الأصنام بقوله: أَ لَمْ تَرَ و لم تعلم يا محمّد أَنّا أَرْسَلْنَا و سلّطنا اَلشَّياطِينَ عَلَى اَلْكافِرِينَ بسبب خبث ذاتهم و سوء اختيارهم، و خلّينا بينهم و بينهم تَؤُزُّهُمْ و تغريهم و تهيّجهم على المعاصي و الشّرور و عبادة الأصنام أَزًّا

أَ لَمْ تَرَ أَنّا أَرْسَلْنَا اَلشَّياطِينَ عَلَى اَلْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

ص: 200


1- . تفسير روح البيان 5:355. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:250.
2- . تفسير القمي 2:55، تفسير الصافي 3:292.

و تهييجا شديدا بأنواع الوساوس و التسويلات.

و عن القمي: نزلت في مانعي الخمس و الزكاة و المعروف، يبعث اللّه عليهم شيطانا، فينفق ما يجب عليه من الزكاة في غير طاعة اللّه، ثمّ يعذّبه على ذلك (1).

فَلا تَعْجَلْ في نزول العذاب عَلَيْهِمْ و هلاكهم حتى تستريح أنت و المؤمنون من شرّهم، و تطهّر الأرض من لوث وجودهم، و تأمنها من فسادهم إِنَّما نَعُدُّ أيّام آجالهم و أنفاسهم لَهُمْ عَدًّا فإنّه لم يبق من عمرهم إلاّ أيّام قليلة و أنفاس محصورة.

روي أن ابن عباس إذا قرأها بكى، و قال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك (2).

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن قول اللّه تعالى: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا قال: «ما هو عندك؟» قال السائل: عدد الأيّام، قال: «إنّ الآباء و الامّهات يحصون ذلك، [لا]و لكنّه عدد الأنفاس» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نفس المرء خطاه إلى أجله» (4).

و قيل: إنّ المعنى إنّما نعدّ [أنفاسهم و]أعمالهم عدّا، فنجازيهم على قليلها و كثيرها (5).

و قيل: يعني إنّما نعدّ الأوقات إلى وقت الأجل المقدّر لكلّ منهم (6)، ثمّ نعذّبهم على أعمالهم.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 85 الی 87

ثمّ عيّن سبحانه وقت كفرهم بعبادة الأصنام و ابتلائهم بالعذاب بقوله: يَوْمَ نَحْشُرُ فيه اَلْمُتَّقِينَ و المحترزين من الشّرك و العصيان، و نخرجهم من قبورهم أحياء، أو نجمعهم إِلَى محلّ كرامة اَلرَّحْمنِ و ربّهم الرّحيم بهم حال كونهم وَفْداً و قادمين عليه راجين لثوابه و إنعامه، كما ينزل المحتاجون على الملوك طامعين لجوائزهم.

يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً (87)و قيل: إنّ المعنى أذكر يا محمّد اليوم الذي نميّز بين المتّقين و المجرمين، بأن نحشر أهل الإيمان و الطاعة إلى رحمة الرّحمن كالأضياف النّازلين على الملك الكريم.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: قال: «ما يحشرون و اللّه على أرجلهم، و لكن على نوق رحالها ذهب، و على نجائب سرجها ياقوت، و أزمّتها زبرجد، ثمّ ينطلق بهم حتى يقرعوا باب

ص: 201


1- . تفسير القمي 2:53.
2- . تفسير روح البيان 5:355.
3- . الكافي 3:259/33، تفسير الصافي 3:293.
4- . نهج البلاغة:480 الحكمة 74، تفسير الصافي 3:293. (5 و 6) . تفسير الرازي 21:252.

الجنّة» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «سأل علي عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير هذه الآية، قال: يا علي، إنّ الوفد لا يكونون إلاّ ركبانا، اولئك رجال اتقوا اللّه، فأحبّهم اللّه و اختصّهم و رضى أعمالهم فسمّاهم المتّقين، ثم قال: يا علي، أما و الّذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، إنّهم ليخرجون من قبورهم و إنّ الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق العزّ عليها رحال الذّهب مكلّلة بالدّر و الياقوت، و جلالها الاستبرق و السّندس، و خطامها جدل الأرجوان، و زمامها من زبرجد، فتطير بهم إلى المحشر، مع كلّ رجل منهم ألف ملك من قدّامة و عن يمينه و عن شماله، يزفّونهم زفّا حتى ينتهوا بهم إلى باب الجنّة الأعظم.

و على باب الجنّة شجرة، الورقة منها يستظلّ تحتها مائة ألف من النّاس، و عن يمين الشجرة عين مطهّرة مزكّية، يسقون منها شربة شربة، فيطهّر اللّه بها قلوبهم من الحسد، و يسقط عن أبشارهم الشّعر، و ذلك قوله: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (2)من تلك العين المطهّرة، ثمّ ينصرفون إلى عين اخرى عن يسار الشجرة فيغتسلون فيها، و هي عين الحياة فلا يموتون أبدا.

ثمّ يوقف بهم قدّام العرش، و قد سلموا من الآفات و الأسقام و الحرّ و البرد أبدا، فيقول الجبّار للملائكة الذين معهم: احشروا أوليائي إلى الجنّة فلا توقفوهم مع الخلائق فقد سبق رضائي عنهم، و وجبت رحمتي لهم، فكيف اريد أن أوقفهم مع أصحاب الحسنات و السيّئات، فتسوقهم الملائكة إلى الجنّة، فإذا انتهوا إلى باب الجنّة الأعظم ضرب الملائكة الحلقة ضربة فتصرّ صريرا، فيبلغ صوت صريرها كلّ حوراء خلقها اللّه و أعدّها لأوليائه، فيتباشرن إذا سمعن (3)صرير الحلقة، و تقول بعضهنّ لبعض: قد جاءنا أولياء اللّه، فيفتح لهم الباب، فيدخلون الجنّة، فيشرف عليهم أزواجهم من الحور العين و الآدميين، فيقلن: مرحبا بكم، فما أشوقنا إليكم! و يقول لهنّ أولياء اللّه مثل ذلك» (4).

و عن القمي-في رواية-فقال علي عليه السّلام: «من هؤلاء يا رسول اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: هؤلاء شيعتك يا علي، و أنت إمامهم، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمنِ وَفْداً (5)على الرحائل وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة كما تساق البهائم بإهانة و استخفاف إِلى جَهَنَّمَ حال كونهم وِرْداً و مشاة عطاشا، و عباد اللّه لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ لأحد و لا يقدرون عليها إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً و إذنا، فكيف بالأصنام التي لا قدر لها عند اللّه حتى تقبل شفاعتها، و يأذن لها

ص: 202


1- . تفسير روح البيان 5:356.
2- . الانسان:76/21.
3- . في النسخة: فيتباشرون بهم إذا سمعوا.
4- . تفسير القمي 2:53، تفسير الصافي 3:294.
5- . تفسير القمي 2:54، تفسير الصافي 3:295.

فيها في حقّ أحد.

و قيل: يعني لا يملك المشركون الشّفاعة لأحد، و لكنّ الشفاعة لمن اتّخذ عند الرحمن عهدا، و هو الإيمان، فإنّ المؤمنين هم الشّفعاء فيشفعون (1).

عن ابن مسعود: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا؟» . قالوا: و كيف ذلك؟ قال: «يقول كلّ صباح و مساء: اللّهم فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلاّ أنت، وحدك لا شريك [لك]، و أنّ محمّدا عبدك و رسولك، و أنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ، و تباعدني من الخير، و إنّي لأثق برحمتك، فاجعل لي عهدا توفّينيه يوم القيامة، إنّك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع [اللّه]عليه بطابع، و وضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد؟ فيدخلون الجنّة» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا يشفع لهم و لا يشفعون إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً يعني إلاّ من أذن له بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة عليهم السّلام من بعده، فهو العهد عند اللّه» (3).

و عنه عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته. قيل: يا رسول اللّه، كيف يوصي عند الموت؟ قال: إذا حضرته الوفاة و اجتمع الناس إليه قال: اللّهم فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، الرحمن الرحيم، إنّي أعهد في دار الدنيا، أنّي أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، و أنّ محمدا عبدك و رسولك، و أنّ الجنّة حقّ، و أنّ النار حقّ، و أنّ البعث حقّ، و الحساب حقّ، [و القدر]و الميزان حقّ، و أنّ الدّين كما وصفت، و أنّ الإسلام كما شرّعت، و أنّ القول كما حدّثت، و أن القرآن كما أنزلت، و أنّك أنت اللّه [الملك]الحقّ المبين، جزى اللّه محمّدا خير الجزاء، و حيّى اللّه محمّدا و آل محمّد بالسّلام.

اللّهمّ يا عدّتي عند كربتي، و يا صاحبي عند شدّتي، و يا وليي في نعمتي، إلهي و إله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا، فإنّك إن تكلني إلى نفسي طرفة عين كنت أقرب من الشرّ و أبعد من الخير، فآنس في القبر وحشتي، و اجعل لي عهدا يوم القاك منشورا.

ثمّ يوصي بحاجته، و تصديق هذه الوصيّة في سورة مريم، في قوله عزّ و جلّ: لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ

ص: 203


1- . تفسير روح البيان 5:356، تفسير أبي السعود 5:282، و فيهما لا يملك المجرمون بدل المشركون.
2- . تفسير الرازي 21:253، تفسير روح البيان 5:356.
3- . تفسير القمي 2:57، تفسير الصافي 3:295.

إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً فهذا عهد الميت، و الوصيّة حقّ على كلّ مسلم، و حقّ عليه أن يحفظ هذه الوصيّة و يتعلّمها، و قال علي عليه السّلام: علّمنيها رسول اللّه، و قال: علّمنيها جبرئيل» (1).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 88 الی 95

ثمّ أنّه تعالى بعد ردّ عبدة الأصنام، ردّ القائلين بأنّ للّه ولدا من اليهود و النصارى و طائفة من قريش بقوله: وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ وَلَداً.

وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ اَلسَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّ آتِي اَلرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَرْداً (95)عن الصادق عليه السّلام: «هذا حيث قالت [قريش]: إنّ اللّه عزّ و جلّ اتّخذ ولدا من الملائكة إناثا» (2).

ثمّ وجّه الخطاب إليهم توبيخا لهم بقوله: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا و أدّعيتهم ادّعاء عجيبا، و قلتم قولا منكرا فظيعا تَكادُ و تقرب من فظاعة هذا القول اَلسَّماواتُ من أن يَتَفَطَّرْنَ و ينقطعن مِنْهُ من فوقكم وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ و تنصدع أجزاؤها من تحتكم وَ تَخِرُّ و تنهدّ اَلْجِبالُ الرواسي هَدًّا و تنهدم هدما شديدا.

و المعنى أنّ عظم تلك الكلمة بحيث لو تصوّرت بصورة محسوسة جسمانية لا تتحمّلها هاتيك الأجرام العظام، بل لتفتّتت (3)من ثقلها، أو المراد أنّ فظاعتها في استجلاب الغضب و استيجاب السّخط بحيث لو لا حلم اللّه تعالى لخرب العالم و بدّد قوائمه (4)غضبا على المتفوّهين بها لأجل أَنْ دَعَوْا و سمّوا لِلرَّحْمنِ الخالق لكلّ شيء وَلَداً من ذكر أو إناث وَ الحال أنّه ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ و ما يليق به أَنْ يَتَّخِذَ لنفسه مع كمال قدرته و غناه وَلَداً لاستحالته كاستحالة أخذ الشريك، لوضوح أنّه

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الملائكة و الأنبياء و غيرهما، و ما أحد منهم إِلاّ أنّه آتِي اَلرَّحْمنِ و ملتجئ إليه حال كونه عَبْداً مملوكا منقادا خاضعا، راجيا منه الإنعام و التفضّل، و لا يكون الولد عبدا لوالده، و كلّهم محاطون بعلمه و قدرته، بحيث إنّه تعالى

لَقَدْ أَحْصاهُمْ و حصرهم وَ عَدَّهُمْ بالأشخاص و الأنفاس و الآجال عَدًّا بالغا وَ كُلُّهُمْ

ص: 204


1- . تفسير القمي 2:55، من لا يحضره الفقيه 4:138/482، الكافي 1:2/1، التهذيب 9:174/711، تفسير الصافي 3: 295.
2- . تفسير القمي 2:57، تفسير الصافي 3:296.
3- . في النسخة: تفتتت.
4- . في النسخة: قوائمها.

آتِيهِ واحدا بعد واحد، كما عن الصادق عليه السّلام (1)يَوْمَ اَلْقِيامَةِ للعرض عليه فَرْداً وحيدا، لا ناصر لهم و لا تابع.

في الحديث القدسي: «كذّبني ابن آدم و لم يكن له ذلك، و شتمني و لم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، و أمّا شتمه إيّاي فقوله: إتّخذ اللّه ولدا» (2).

أقول: إنّما يكون شتما لأنّ فيه نسبة الاحتياج.

و عن أمير المؤمنين: «أنّ الشجر لم يزل حصيدا كلّه حتى دعا للرحمن ولدا» إلى أن قال: «فعند ذلك اقشعرّ الشّجر، و صار له شوك حداد» (3).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 96

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء عقائد المشركين و سوء حالهم و عداوتهم للمؤمنين، ذكر حسن حال المؤمنين و محبوبيّتهم عند اللّه و عند خلقه بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه و رسالة رسوله و دار جزائه وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ و المرضيّات عند اللّه سَيَجْعَلُ و يحدث البتّة لَهُمُ اَلرَّحْمنُ برحمته الواسعة وُدًّا في القلوب و حبّا في الصدور بلا سبب ظاهر سوى الإيمان و العمل الصالح، كما جعل في قلوب أعدائهم الرّعب و الهيبة منهم.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا (96)قيل: كان المؤمنون ممقوتين في مكّة عند المشركين، فوعدهم اللّه ذلك بعد قوّة الإسلام (4).

و قيل: إنّ ذلك في القيامة، فإنّه تعالى يحبّبهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم (5)، و ينشر من ديوان أعمالهم.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية: «إذا أحبّ اللّه عبدا نادى جبرئيل: قد أحببت فلانا فأحبّوه، فينادي جبرئيل بذلك في السماء و الأرض، و إذا أبغض فمثل ذلك» (6).

و عن كعب الأحبار قال: مكتوب في التوراة و الإنجيل: لا محبّة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من اللّه تعالى، ينزّلها على أهل السماء، ثمّ على أهل الأرض، و تصديق ذلك في القرآن قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا (7).

و قال العلامة رضوان اللّه عليه في (نهج الحقّ) : روى الجمهور عن ابن عباس، قال: نزلت في أمير

ص: 205


1- . تفسير القمي 2:57، تفسير الصافي 3:297.
2- . تفسير روح البيان 5:358.
3- . تفسير القمي 1:85 و 86، تفسير الصافي 3:297، و فيهما زيادة: حذار أن ينزل به العذاب.
4- . تفسير الرازي 21:255، تفسير روح البيان 5:359.
5- . تفسير الرازي 21:255.
6- . تفسير الرازي 21:255.
7- . تفسير الرازي 21:255.

المؤمنين عليّ عليه السّلام، قال: الودّ المحبّة في قلوب المؤمنين (1).

و قال القاضي في (إحقاق الحقّ) : الرواية مذكورة في (تفسير الرازي و النيشابوري) و كتاب (الصواعق المحرقة) لابن حجر، و نقل عنه أنّه قال: و صحّ أنّ العبّاس شكا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يلقون من قريش [من]تعبيسهم وجوههم، و قطعهم حديثهم عند لقائهم، فغضب صلّى اللّه عليه و آله غضبا شديدا حتى احمرّ وجهه و درّ عرق بين عينيه، و قال: «و الّذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبّكم (2)للّه و رسوله» (3).

عن الصادق عليه السّلام قال: «سبب نزول هذه الآية أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان جالسا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: قل يا عليّ: اللهمّ اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا، فأنزل اللّه [الآية]» (4).

و عنه عليه السّلام: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام في آخر صلاته، رافعا به صوته، يسمع الناس، يقول: اللهمّ هب لعليّ المودّة في صدور المؤمنين، و الهيبة و العظمة في صدور المنافقين، فأنزل اللّه إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا الآية» (5).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية، قال: «ولاية أمير المؤمنين هي الودّ الذي قال اللّه» (6).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام قل: اللّهمّ اجعل لي عندك عهدا، و اجعل [لي] في قلوب المؤمنين ودّا، فقالهما، فنزلت الآية» (7).

و قيل: إنّ المراد سيجعل لهم الرحمن ودّهم، أي محبوبهم في الجنّة (8).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 97 الی 98

ثمّ أنّه تعالى بعد وعيد المشركين على الشّرك و العصيان، و وعد المؤمنين على الإيمان و العمل الصالح، بيّن أنّهما الغرض من إنزال القرآن بلغة العرب بقوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ و سهّلنا عليك فهمه و تلاوته بأن جعلناه بِلِسانِكَ و لغتك.

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)و قيل: إنّ باء (بلسانك) بمعنى على، و التيسير متضمّن معنى الإنزال، و الفاء في (إنّما) فاء التعليل، و المعنى بلّغ يا محمّد هذا المنزل، أو بشّر به و أنذر، لأنّا يسّرناه منزّلين له بلسانك و لغتك (9)لِتُبَشِّرَ بِهِ

ص: 206


1- . نهج الحق:180.
2- . في النسخة: يحبهم.
3- . إحقاق الحق 3:87.
4- . تفسير القمي 2:56، تفسير الصافي 3:297.
5- . تفسير العياشي 2:302/1997، تفسير الصافي 3:297.
6- . الكافي 1:358/90.
7- . مجمع البيان 6:822، تفسير الصافي 3:297.
8- . تفسير الرازي 21:256.
9- . تفسير أبي السعود 5:284.

اَلْمُتَّقِينَ من الشّرك و العصيان بما أعدّ لهم في الآخرة من الثواب العظيم وَ تُنْذِرَ و تخوّف بِهِ قَوْماً لُدًّا و جمعا لجوجا عنودا أو أشدّاء الخصومة، و في الحديث: «أبغض الرّجال الألدّ الخصم» (1).

عن الصادق عليه السّلام: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ يعني القرآن، و قَوْماً لُدًّا يعني أصحاب الكلام و الخصومة» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا قال: «هو عليّ و قَوْماً لُدًّا قال: بنو اميّة قوما ظلمة» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «فإنّما يسّره اللّه على لسانه حين أقام أمير المؤمنين علما، فبشّر به المؤمنين، و أنذر به الكافرين، و هم الذين ذكرهم اللّه في كتابه لدّا أي كفّارا» (4).

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر لجاج القوم، هدّدهم و وعظهم بحال الامم الماضية المهلكة بقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا بالعذاب أو بالموت قَبْلَهُمْ و في الأزمنة السابقة على زمانهم مِنْ قَرْنٍ و أهل عصر من المكابرين للرّسل بحيث لم يبق منهم عين و لا أثر، فانظر يا محمّد هَلْ تُحِسُّ و تدرك بحواسّك مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ من أولئك القرون أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً و صوتا خفيّا.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية، قال: «أهلك اللّه من الامم ما لا تحصون، فقال: يا محمّد هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي ذكرا» (5).

عنه عليه السّلام: «من أدمن قراءة سورة مريم، لم يمت حتى يصيب ما يغنيه (6)في نفسه و ماله و ولده، و كان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم، و اعطي (7)من الأجر مثل ملك سليمان في الدنيا» (8).

ص: 207


1- . تفسير روح البيان 5:360.
2- . تفسير القمي 2:56، تفسير الصافي 3:298.
3- . روضة الواعظين:106، تفسير الصافي 3:298.
4- . الكافي 1:358/90، تفسير الصافي 3:298.
5- . تفسير القمي 2:57، تفسير الصافي 3:298.
6- . في النسخة: يغنيه ما يصيب.
7- . زاد في ثواب الأعمال: في الآخرة.
8- . ثواب الأعمال:108، تفسير الصافي 3:298.

ص: 208

في تفسير سورة طه

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 20 (طه): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة ببيان تيسير القرآن على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله للتّبشير و الإنذار، و هدّد معارضيه بذكر إهلاكه الامم الماضية بالشرك و الطغيان، أردفها بسورة طه المبتدئة بالتّأكيد في بيان غرض إنزال القرآن، المتضمّنة لذكر هلاك فرعون و قومه و غيره من المطالب المناسبة للسّورة السابقة المختتمة بتهديد المشركين، فابتدء فيها بذكر أسمائه المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّماواتِ اَلْعُلى (4) اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى (5)

ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله: طه و قد مرّ في الطرفة الثامنة عشرة تأويلها، و ذكر أنّها من أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما روي أنّه قال: «أنا محمّد، و أنا أحمد، و الفاتح، و القاسم، و الحاشر، و العاقب، و الماحي، و طه، و يس» (1).

و عن بعض العامة: أنّ الصادق عليه السّلام قال: «إنّه قسم بطهارة أهل البيت و هدايتهم» (2).

و قيل: إنّه قسم بطوبى و الهاوية. و قيل: بطيبة و مكّة. و قيل غير ذلك (3).

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ يا محمّد لِتَشْقى و تقع في تعب الأسف و الحزن على كفر قومك، أو في تعب الجهد في إيمانهم، أو في تعب العبادة بحيث تشرف على الهلاك.

روت العامة أنّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى باللّيل حتى تورّمت قدماه فقال له جبرئيل: أبق على نفسك، فإنّ لها عليك حقّا (4).

و رووا أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قام في (5)اللّيل، ربط صدره بحبل حتى لا ينام (6).

ص: 209


1- . تفسير روح البيان 5:361.
2- . تفسير الرازي 23:3، تفسير روح البيان 5:361.
3- . تفسير روح البيان 5:361.
4- . تفسير الرازي 22:4.
5- . في تفسير الرازي: من.
6- . تفسير الرازي 22:4.

و قيل: كان يقوم على رجل واحدة. و قيل: كان يسهر طول الليل (1).

و القمي عنهما عليهما السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا صلّى قام على أصابع رجليه [حتى تورّمت]فأنزل اللّه طه بلغة طي يا محمّد ما أَنْزَلْنا الآية» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول اللّه، لم تتعب نفسك و قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ فقال: أ فلا أكون عبدا شكورا؟»

قال: «و كان صلّى اللّه عليه و آله يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل اللّه: طه ما أَنْزَلْنا الآية» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «لقد قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه و اصفرّ وجهه، يقوم الليل [أجمع]حتى عوتب عليه في ذلك، فقال اللّه عزّ و جلّ: طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقى بل لتسعد به» (4).

و قيل: إنّ السورة من أوائل ما نزل بمكّة، و كان صلّى اللّه عليه و آله حينئذ مقهورا لأعدائه، فأنزلت تسلية له، و المراد أنّك لا تبقى على هذه الحالة من التعب و المشقّة من مكابدة الأعداء، فإنّا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيّا و موهونا بينهم، بل لتصير معظّما مكرّما (5).

و قيل: إنّ جماعة من قريش قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك لتشقى حيث تركت دين آبائك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل بعثت رحمة للعالمين» قالوا: بل أنت تشقى. فنزلت الآية ردّا عليهم، و تعريفا لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بأنّ دين الإسلام هو السّلام، و القرآن سبب لكلّ سعادة، و الكفر هو الشقاء (6).

ثمّ بيّن سبحانه حكمة إنزال القرآن بقوله: إِلاّ ليكون تَذْكِرَةً و عظة لِمَنْ يَخْشى سوء العاقبة، و يتأثّر بالآيات و النّذر، فإنّه المنتفع بها.

و قيل: إنّ (إلاّ) بمعنى (لكنّ) (7).

ثمّ بيّن عظم شأن القرآن بقوله: تَنْزِيلاً قيل: أي نزّل تنزيلا (8)متدرّجا بديعا مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّماواتِ اَلْعُلى و المرفوعات،

و هو اَلرَّحْمنُ الّذي عَلَى اَلْعَرْشِ و سرير الملك، أو عالم الوجود اِسْتَوى و استولى بقدرته، أو بعلمه و تدبيره، أو بفيضه المنبسط على جميع الذرّات.

عن الصادق عليه السّلام يقول: «على الملك احتوى» (9).

ص: 210


1- . تفسير الرازي 22:4.
2- . تفسير القمي 2:58، تفسير الصافي 3:299.
3- . الكافي 2:77/6، تفسير الصافي 3:299.
4- . الاحتجاج:219، تفسير الصافي 3:299.
5- . تفسير الرازي 22:4.
6- . تفسير الرازي 22:3.
7- . تفسير الرازي 22:4.
8- . تفسير الرازي 22:4.
9- . التوحيد:321/1، تفسير الصافي:3:300.

سوره 20 (طه): آیه شماره 6 الی 7

و إنّما وصف ذاته بالرحمانيّة إشعارا بأنّ مبدأ خلق الموجودات رحمته الواسعة لَهُ تعالى ما فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة و الكواكب و غيرهما وَ ما فِي اَلْأَرْضِ من الحيوان و النبات و غيرهما، وَ ما بَيْنَهُما من المخلوقات في الجوّ كالهواء و السّحاب و غيرهما وَ ما تَحْتَ اَلثَّرى قيل: إنّه ما تحت الأرضين السبع (1). و قيل: ما تحت الصخرة التي عليها الأرض [السابعة]

(2).

لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ اَلثَّرى (1) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى (7)عن الصادق عليه السّلام: «الأرض على الحوت، و الحوت على الماء، و الماء على الصخرة التي عليها، و الصخرة على قرن ثور أملس، و الثور على الثّرى، و عند ذلك ضلّ علم العلماء» (2).

أقول: الرواية من المتشابهات المفوّض علمها إليهم عليهم السّلام.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «كلّ شيء على الثرى، و الثرى على القدرة، و القدرة تحمل كلّ شيء» (3).

ثمّ بيّن سبحانه سعة علمه بقوله: وَ إِنْ تَجْهَرْ و تعلن بِالْقَوْلِ من الذّكر و الدعاء، فاعلم أنّه تعالى غني عن الجهر فَإِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ اَلسِّرَّ و المكتوم وَ أَخْفى منه.

عن الصادق عليه السّلام: «السرّ: ما أكننته في نفسك، و أخفى: ما خطر ببالك ثمّ نسيته» (4).

و قيل: إنّ الأخفى ما ستسرّه فيما بعد و لا تعلمه (6).

سوره 20 (طه): آیه شماره 8 الی 12

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كماله في الذات و الصفات، أعلن بتوحيده في الألوهيّة بقوله: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لا تنحصر أسماؤه و صفاته فيما ذكر، بل لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى و الصفات العليا كلّها، و في الإتيان بضمير الغائب مع حضوره عند كلّ شيء، إشعار بغيبة ذاته و حقيقته عن درك الحواسّ

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى (8) وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنّارِ هُدىً (10) فَلَمّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً (12)

ص: 211


1- . تفسير روح البيان 5:366، و فيه: ما ستسرّه فيما سيأتي، أي ما يلقيه اللّه في قلبك من بعد، و لا تعلم أنك ستحدّث به نفسك.
2- . تفسير القمي 2:59، تفسير الصافي 3:300.
3- . الخصال:597/1، تفسير الصافي 3:300.
4- . معاني الأخبار:143/1، تفسير الصافي 3:300.

و العقول.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر لطفه بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله ذكر ألطافه بموسى بن عمران الذي هو دونه في القرب منه، تقوية لقلبه الشريف، و تحريضا له على تحمّل أعباء الرسالة، و تقريرا لأمر التوحيد بقوله: وَ هَلْ أَتاكَ و بلغك حَدِيثُ مُوسى عن ابن عباس: أ ليس قد أتاك خبره؟ (1)و في هذا الاستفهام المبالغة في إعجاب قصّته إِذْ رَأى ناراً روي أنّ موسى عليه السّلام تزوّج صفوراء بنت شعيب، ثمّ أستأذن منه في الخروج من مدين لزيارة امّه و أخيه هارون في مصر، فخرج بأهله، و أخذ على غير طريق خوفا من ملوك الشام، فلمّا أتى وادي طوى، و هو بالجانب الغربي من الطّور، ولد له ولد في ليلة مظلمة ذات برد و شتاء و ثلج، و كانت ليلة الجمعة، فقدح زنده، فلم تخرج منه نار (2).

و قيل: كان موسى عليه السّلام غيورا يصحب الناس بالليل و يفارقهم بالنهار، لئلاّ يروا امرأته، فلذا أخطأ الرّفقة و الطّريق، فبينما هو في ذلك، إذ رأى نارا من بعيد على يسار الطريق من جانب الطّور، فظنّ أنّها من نيران الرّعاة (3)فَقالَ لِأَهْلِهِ و صحبه من امرأته و ولده و خدمه: اُمْكُثُوا و توقّفوا في مكانكم، و لا تتّبعوني إِنِّي آنَسْتُ و شاهدت من البعيد ناراً فأذهب إليها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ و شعلة أو جذوة أَوْ أَجِدُ بالسّؤال من القاعدين و المشرفين عَلَى اَلنّارِ عن الطريق هُدىً و رشادا إليه،

أو ما اهتدي به من دليل و علامة فَلَمّا فارق أهله، و أسرع إلى النار و أَتاها و انتهى سيره إليها.

عن ابن عبّاس: رأى شجرة خضراء، أحاطت بها من أسفلها و أعلاها نار بيضاء تتّقد كأضوء ما يكون، و لم ير هناك أحدا، فوقف متعجّبا من شدّة ضوء تلك النار، و شدّة خضرة تلك الشجرة، فلا النّار تغيّر خضرتها، و لا كثرة ماء الشجرة تغيّر ضوء النار، فسمع تسبيح الملائكة، و رأى نورا عظيما تكلّ الأبصار عنه، فوضع يديه على عينيه، و خاف و بهت، فالقيت عليه السكينة و الطّمأنينة (2)، فعند ذلك نُودِيَ و قيل: يا مُوسى لا تخف و لا تحزن و ليطمئنّ قلبك إِنِّي أَنَا رَبُّكَ اللّطيف بك.

و عن وهب: ظنّ موسى عليه السّلام أنّها نار أوقدت، فأخذ من دقائق الحطب ليقتبس من لهبها، فمالت إليه كأنّها تريده، فتأخّر عنها وهابها، ثمّ لم تزل تطمعه و يطمع فيها، ثم لم يكن أسرع من خمودها كأنّها لم تكن، ثمّ رمى موسى عليه السّلام بنظره إلى فرعها، فإذا خضرتها ساطعة في السّماء، و إذا نور بين السماء و الأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار، فلمّا رأى موسى عليه السّلام ذلك وضع يده على عينيه، فنودي:

ص: 212


1- . تفسير الرازي 22:14. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:369.
2- . تفسير روح البيان 5:369.

يا موسى (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «فأقبل نحو النار يقتبس، فإذا شجرة و نار تلتهب عليها، فلمّا ذهب نحو النار يقتبس منها أهوت إليه ففزع [منها]وعدا، و رجعت النّار إلى الشجرة، فالتفت إليها و قد رجعت إلى الشجرة، فرجع الثانية ليقتبس، فأهوت إليه فعدا و تركها، ثمّ التفت و قد رجعت إلى الشجرة، فرجع إليها الثالثة فأهوت إليه فعدا و لم يعقّب، أي لم يرجع، فناداه اللّه عزّ و جلّ» الخبر (2).

روي أنّه لمّا نودي موسى عليه السّلام قال عليه السّلام: من المتكلّم؟ فقال اللّه عزّ و جلّ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فوسوس إليه إبليس: لعلّك تسمع كلام الشيطان، فقال عليه السّلام: أنا عرفت أنّه كلام اللّه تعالى بأنّي أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء (3).

قيل: تلقّى موسى عليه السّلام كلام ربّه تلقّيا روحانيا، ثمّ تمثّل ذلك الكلام لبدنه، و انتقل إلى الحسّ المشترك، فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة (4).

ثمّ قال: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ من رجليك إِنَّكَ تكون بِالْوادِ اَلْمُقَدَّسِ المطهّر من كلّ دنس و سوء، اسمه طُوىً و قيل: طوى كثنى لفظا و معنا، و المعنى نودي مرّتين، أو المقدّس قدّس مرّة بعد اخرى (3).

و عن ابن عبّاس: يعني الوادي المقدّس الذي طويته (4).

في تأويل قوله

تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ

روي أنّه عليه السّلام خلعهما و ألقاهما وراء الوادي (5). و إنّما أمر بالحفوة لأنّها ادخل في التواضع و حسن الأدب، أو لتعظيم الوادي، أو ليباشر الوادي بقدميه تبرّكا به.

و قيل: لكون نعليه من جلد حمار غير مذبوح، روته العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام و جمع من المفسّرين (6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّه امر بخلعهما لأنّهما كانتا من جلد حمار ميّت» (7).

و قيل: خلع النعلين كناية عن تفريغ القلب من حبّ الأهل و المال (8).

و عن القائم عليه السّلام-في حديث-قيل له: أخبرني يا [ابن]رسول اللّه عن أمر اللّه لنبيّه موسى عليه السّلام فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً فإنّ فقهاء الفريقين يزعمون أنّها كانت من إهاب الميتة؟

ص: 213


1- . تفسير الرازي 22:16.
2- . تفسير القمي 2:140، تفسير الصافي 3:301. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 6:7.
3- . تفسير الرازي 22:18، تفسير أبي السعود 6:7.
4- . تفسير الرازي 22:18.
5- . تفسير أبي السعود 6:7، تفسير روح البيان 5:371.
6- . مجمع البيان 7:10، جوامع الجامع:280، تفسير الرازي 22:17، تفسير ابن كثير 3:151، الدر المنثور 5:558.
7- . تفسير القمي 2:60، علل الشرائع:66/1، تفسير الصافي 3:301.
8- . تفسير أبي السعود:6:7.

قال عليه السّلام: «من قال ذلك فقد افترى على موسى عليه السّلام و استجهله في نبوّته؛ لأنّه ما خلا الأمر فيها من خصلتين (1): إمّا أن تكون صلاته فيها جائزة [أو غير جائزة]، فان كانت صلاته جائزة جاز له لبسها في تلك البقعة إذا لم تكن مقدّسة، و إن كانت مقدّسة مطهّرة فليست بأقدس و أطهر من الصلاة. و إن كانت صلاته [غير]جائزة فيها، فقد أوجب على موسى أنّه لا يعرف الحلال من الحرام، و لم يعلم ما جاز فيه الصلاة و ما لم يجز، و هذا كفر» .

قيل: فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيها. قال (صلوات اللّه عليه) : «إنّ موسى ناجى ربّه بالوادي المقدّس فقال: يا ربّ إنّي [قد]أخلصت لك المحبّة منّي، و غسلت قلبي عمّن سواك، و كان شديد الحبّ لأهله، فقال اللّه: اخلع نعليك، أي انزع حبّ أهلك من قلبك إن كانت محبّتك لي خالصة، و قلبك من الميل إلى سواي مغسولا» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني ارفع خوفيك؛ يعني خوفه من ضياع أهله و قد خلّفها تمخض، و خوفه من فرعون» (3).

و قيل: يعني فاترك الالتفات إلى الدنيا و الآخرة، و كن مستغرقا في محبّة اللّه، و يكون المراد بالواد المقدّس قدس اللّه تعالى (4).

و قيل: إنّ موسى كان يلبس النّعلين لحفظ رجليه عن النّجاسة و عن هوامّ الأرض، فقال سبحانه: اخلع نعليك فإنّ هذا الوادي مقدّس و مطهّر من النجاسات، و آمن من لدغ الهوام (5).

سوره 20 (طه): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ نصبه اللّه سبحانه للرسالة بقوله: وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ و اصطفيتك لرسالتي و لمناجاتي فَاسْتَمِعْ يا موسى لِما يُوحى إليك من قبلي.

وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)قيل: في قوله: وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ إظهار لغاية لطفه، و في قوله: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إظهار لغاية مهابته، فكأنّه قال: قد جاءك أمر عظيم من قبلنا، فتأهّب له و اصرف جميع قواك و جوارحك إليه (6).

و يحتمل تعلّق قوله: لِما يُوحى بقوله: وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ و كون (ما) مصدريّة، و المعنى: أنا اخترتك لوحيي،

و أهمّه إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ و لا معبود بالاستحقاق في عالم الوجود إِلاّ أَنَا

ص: 214


1- . في كمال الدين: خطيئتين.
2- . كمال الدين:460/21، تفسير الصافي 3:302.
3- . علل الشرائع:66/2، تفسير الصافي 3:302.
4- . تفسير الرازي 22:17، تفسير روح البيان 5:370.
5- . مجمع البيان 7:10.
6- . تفسير الرازي 22:19.

وحدي لا شريك لي في العبادة، فإذا كان كذلك فَاعْبُدْنِي و خصّني بالعبادة وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ خصوصا لِذِكْرِي و توجّه بقلبك (1)إليّ في الأوقات، فإنّها أهمّ العبادات، فإنّها ذكر و دعاء و ركوع و سجود.

و قيل: يعني لأنّي ذكرتها في الكتب السماوية و أمرت بها (2). و قيل: يعني لإخلاص ذكري و طلب وجهي، لا تراني بها و لا تقصد غرضا آخر بفعلها (3).

و قيل: يعني لأن أذكرك بالمدح و الثناء (4). و قيل: لأوقات ذكري، و هي مواقيت الصلاة (5). و قيل: يعني أقم الصّلاة حين تذكرها (6).

عن أنس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها، لا كفّارة لها إلاّ ذلك» (7).

أقول: و عليه يكون في الكلام حذف، و التقدير: لذكر صلاتي.

عن الباقر عليه السّلام: «إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت اخرى، فإن كنت تعلم [أنّك]إذا صلّيت التي فاتتك كنت من الاخرى في وقت، فابدأ بالتي فاتتك فإنّ اللّه يقول: أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِذِكْرِي» (8).

و عنه عليه السّلام: «معناه أقم الصّلاة متى ذكرت أنّ عليك صلاة، كنت في وقتها أو لم تكن» (9).

سوره 20 (طه): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ نبّه سبحانه على علّة وجوب العبادة و الصلاة بقوله: إِنَّ اَلسّاعَةَ و القيامة آتِيَةٌ و كائنة لا محالة، و هي لكثرة أهوالها و غاية عظمها أَكادُ أُخْفِيها و استرها عن كلّ أحد، و لكنّ اللّطف و لزوم قطع الأعذار اقتضى إظهارها.

إِنَّ اَلسّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)و قيل: يعني اريد أخفي وقتها، ليكون الناس على حذر منها في جميع الأوقات (10).

و قيل: يعني لو صحّ إخفاؤها من نفسي لأخفيتها عنّي، فكيف اظهرها لكم؟ و فيه غاية المبالغة في لزوم إخفائها عن النّاس (11).

و قيل: يعني أكاد اظهرها (12)بإتيانها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ في تلك الساعة بِما تَسْعى و تعمل إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

ص: 215


1- . في النسخة: قلبك.
2- . تفسير الرازي 22:19.
3- . تفسير الرازي 22:19.
4- . تفسير الرازي 22:19.
5- . تفسير الرازي 22:20.
6- . تفسير الرازي 22:20.
7- . تفسير الرازي 22:20.
8- . الكافي 3:293/4، تفسير الصافي 3:302.
9- . مجمع البيان 7:10، تفسير الصافي 3:303.
10- . تفسير روح البيان 5:371.
11- . تفسير الرازي 22:22.
12- . تفسير الرازي 22:22.

و قيل: يعني لتجزي كلّ نفس بسعيها في الامور ألمأمور بها (1).

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها و لا يمنعك عن تذكّرها و التهيئة لها، أو لا يمنعك عن الصلاة مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ و سعى في موافقة ميل نفسه فَتَرْدى و تهلك، إذن فإنّ الغفلة عن تحصيل ما ينجى من أهوال الساعة، أو عن الصلاة و القيام بوظيفة العبوديّة، موجبة للهلاك في الآخرة.

و قيل: إنّ المخاطب من قوله: وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ إلى هنا هو خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله (2).

سوره 20 (طه): آیه شماره 17 الی 21

ثمّ قيل: إنّ المهابة لمّا عظمت في قلب موسى عليه السّلام، أراد سبحانه استئناسه (3)بقوله: وَ ما تِلْكَ مأخوذة بِيَمِينِكَ و يدك، و في السؤال تنبيه له على ما سيبدو له من التعاجيب (4).

وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا اَلْأُولى (21)ثمّ كرّر الخطاب بقوله: يا مُوسى ازديادا للتأنيس و إظهارا لغاية اللطف قالَ موسى: يا ربّ هِيَ عَصايَ و فائدتها إنّي أَتَوَكَّؤُا و أعتمد عَلَيْها و عند الإعياء، أو حين الوقوف على رأس القطيع وَ أَهُشُّ و أسقط بِها الورق من الأشجار عَلى غَنَمِي لتأكل منه.

القميّ: ثمّ من الفرق لم يستطع الكلام فجمع كلامه (5)و قال: وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ و حوائج و منافع أُخْرى غير ذلك.

و قيل: إنّه عليه السّلام أجمل في الجواب رجاء أن يسأله ربّه عن تلك المآرب فيسمع كلام اللّه مرّة اخرى (6).

و قيل: إنّه قال موسى عليه السّلام: إلهي ما هذه العصا إلاّ كغيرها لكنّك لمّا سألت عنها عرفت أنّ لي فيها مآرب اخرى منها: أنّك كلّمتني بسببها (7).

روي أنّه كان إذا سار وضعها على عاتقه فعلّق بها أدواته، و إذا أقام في البريّة ركزها و عرض الزّندين على شعبتيها فاشتعلتا، و ألقى عليها كساءه و استظلّ به، و إذا تعرّضت السباع لغنمه قاتلها بها (6).

قيل: إنّه فهم من السؤال بيان حقيقتها و تفصيل منافعها، حتى إذا ظهرت على خلاف تلك الحقيقة،

ص: 216


1- . تفسير أبي السعود 6:8.
2- . تفسير أبي السعود 6:8.
3- . تفسير روح البيان 5:374.
4- . أي العجائب، و في النسخة: التعاجب.
5- . تفسير القمي 2:60، تفسير الصافي 3:304. (6 و 7) . تفسير الرازي 22:27.
6- . تفسير أبي السعود 6:10.

و بدت منها خواص بديعة، علم أنّها آيات باهرة (1). أو كان المقصود إزالة الرهبة و المهابة من قلب موسى عليه السّلام و الاستئناس به.

ثمّ كأنّه قيل: ماذا قال اللّه إذن؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالَ اللّه أَلْقِها من يدك يا مُوسى على الأرض، لترى منها ما لم يخطر بقلبك

فَأَلْقاها من غير ريث فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ عظيمة و ثعبان جسيم، و هي مع غاية عظم جثّتها تَسْعى و تمشي على الأرض بسرعة و جلادة كالحيّة الصغيرة.

و في رواية: أنّه عليه السّلام لمّا ألقاها انقلبت حيّة صفراء في غلظ العصا، ثمّ انتفخت و عظمت، فلذلك سمّيت بالجانّ تارة، و بالثعبان اخرى (2).

قيل: كان لها عرف كعرف الفرس، و كان بين لحييها أربعون ذراعا، و ابتلعت كلّما مرّت به من الصخور و الأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها و جوفها (3)، فخافها و ولّى مدبرا، فناداه ربّه و

قالَ : يا موسى خُذْها بيدك وَ لا تَخَفْ منها إنّا سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا و حالتها اَلْأُولى التي كانت عليها.

قيل: لمّا قال اللّه: لا تَخَفْ بلغ اطمئنان موسى إلى أن أدخل يده في فمها و أخذ بلحييها (4).

و في رواية: أنه أدخل يده بين أسنانها، فانقلبت خشبة (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «ففزع منها موسى وعدا، فناداه اللّه عزّ و جلّ: خُذْها وَ لا تَخَفْ الآية» (6).

قيل: إنّ حكمة قلب العصا حيّة في ذلك الوقت معرفة موسى نبوّة نفسه بها (7)، لاحتمال كون النداء من باب إظهار غاية اللّطف و عدم خوفه بعد مشاهدة ذلك الأمر من وقوعه عند فرعون و قوّة قلبه في الدعوة، و علمه بأنّ اللّه القادر على قلب العصا ثعبانا، قادر على نصرته في إظهار الدين و إعلاء كلمة الحقّ.

سوره 20 (طه): آیه شماره 22 الی 28

ثمّ أراه اللّه آية اخرى على نبوّته بقوله: وَ اُضْمُمْ و مدّ يَدَكَ اليمنى إِلى جَناحِكَ و إبطك و أدخلها في جيبك تَخْرُجْ يدك إذن منه حال كونها بَيْضاءَ بقدرة اللّه مِنْ غَيْرِ سُوءٍ

وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا اَلْكُبْرى (23) اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)

ص: 217


1- . تفسير أبي السعود 6:10.
2- . تفسير أبي السعود 6:10.
3- . تفسير الرازي 22:28.
4- . تفسير الرازي 22:29.
5- . تفسير الرازي 22:29.
6- . تفسير القمي 2:140، تفسير الصافي 3:304.
7- . تفسير الرازي 22:28.

و مرض برص تكون هذه آيَةً أُخْرى على قدرتي، و نبوّتك، و معجزة قاهرة غير انقلاب العصا حيّة.

روي أنّه عليه السّلام كان شديد الادمة، فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه و تحت إبطه الأيسر و أخرجها كانت تبرق مثل البرق-و قيل: مثل الشمس-من غير برص، ثمّ إذا ردّها عادت إلى لونها الأول بلا نور (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير علّة، و ذلك أنّ موسى عليه السّلام كان شديد السّمرة، فأخرج يده من جيبه، فأضاءت له الدنيا» (2).

و إنّما فعلنا ما فعلنا من إظهار الآيتين لِنُرِيَكَ بها بعضا مِنْ آياتِنَا اَلْكُبْرى قيل: إنّ المعنى لنريك الكبرى من آياتنا (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد إعطائه الآيتين أمره بالرّسالة بقوله: اِذْهَبْ يا موسى، للدعوة إلى التوحيد و التحذير من الطّغيان إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر بهاتين الآيتين إِنَّهُ طَغى و تجاوز عن الحدّ في الكفر و الطغيان.

عن وهب، أنّه قال: قال اللّه تعالى لموسى: إسمع كلامي، و احفظ وصيّتي، و انطلق برسالتي، فإنّك بعيني و سمعي، و إنّ معك يدي و نصري (4)، و إنّي ألبستك جنّة من سلطاني (5)لتستكمل بها القوّة في أمري، أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر بنعمتي، و أمن مكري، و غرّته الدنيا حتى جحد حقّي، و أنكر ربوبيتي، و سقط عن عيني، فبلّغه عنّي رسالتي، و ادعه إلى عبادتي، و حذّره نقمتي، إلى أن قال: فسكت موسى سبعة أيّام لا يتكلّم، ثمّ جاءه ملك فقال: أجب ربّك في ما أمرك (6).

فلمّا كلّف موسى عليه السّلام بهذا التكليف الشاقّ قالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي و وسّع قلبي بحيث لا يضيق بسفاهة المعاندين و لجاج العاتين، أو زد حفظي و ذكائي و جودة ذهني حتى أحفظ ما تنزل من الوحي و أفهمه، أو قوّ قلبي حتى أجترئ على مخاطبة فرعون و قومه و معارضتهم.

وَ يَسِّرْ لِي و سهّل عليّ أَمْرِي من الدعوة و التبليغ بتهيئة الأسباب و رفع الموانع وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً قليلة، و أزل لكنة يسيرة مِنْ لِسانِي كي يَفْقَهُوا و يفهموا قَوْلِي و كلامي عند تبليغ الرسالة، و لا يشقّ عليّ مكالمة فرعون و ملئه.

ص: 218


1- . تفسير الرازي 22:30.
2- . تفسير القمي 2:140، تفسير الصافي 3:304.
3- . جوامع الجامع:280.
4- . في تفسير الرازي: و بصري.
5- . في النسخة: جبّة سلطاني.
6- . تفسير الرازي 22:30.

قيل: كانت اللّكنة بخلقة اللّه تعالى (1). و قيل: كانت من جمرة أدخلها فاه (2).

روي أنّ فرعون حمله يوما، فأخذ لحيته و نتفها، لمّا كانت مرصّعة بالجواهر، فغضب و قال: إنّ هذا عدوّي المطلوب، و أمر بقتله، فقالت آسية زوجته: أيّها الملك، إنّه صبيّ لا يفرّق بين الجمر و الياقوت، فأحضرا بين يدي موسى، بأن جعل الجمر في طشت و الياقوت في آخر، فقصد إلى أخذ الجوهر، فأمال جبرئيل يده إلى الجمر، فرفعه إلى فيه، فاحترق لسانه، فكانت منه لكنة و عجمة (1).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية-: «و لمّا درج موسى عليه السّلام كان يوما عند فرعون فعطس فقال: الحمد للّه ربّ العالمين، فأنكر فرعون ذلك عليه و لطمه، و قال: ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى عليه السّلام على لحيته عليه السّلام و كان طويل اللحية، فهلبها-أي قلعها-فآلمه ألما شديدا، فهمّ فرعون بقتله، فقالت له امرأته: هذا غلام حدث ما يدري ما يقول. فقال فرعون: بل يدري. فقالت له: ضع بين يديك تمرا و جمرا، فإن ميّز بين الجمر و التّمر فهو الذي تقول، فوضع بين يديه تمرا و جمرا و قال له: كل، فمدّ يده إلى التّمر فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر، فأخذ الجمر في فيه فاحترق لسانه، و صاح و بكى. فقالت آسية: ألم أقل لك أنّه لم يعقل؟ فعفا عنه» (2).

ثمّ أنّ بعض العامة قال: لم يحترق بيده و لا لسانه، لكون يده آلة أخذ العصا، و لسانه آلة ذكر اللّه، و منهم من قال: احترقت يده و لم يحترق لسانه، و منهم من قال بالعكس، و منهم من قال احترقا معا (3).

أقول: الأظهر من الروايتين هو القول الثالث.

سوره 20 (طه): آیه شماره 29 الی 36

ثمّ أنّه تعالى بعد سؤال قوّة قلبه و لسانه، سأل تقويته في تحمّل أعباء الرسالة بجعل المعين له بقوله: وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً و معينا كائنا مِنْ أَهْلِي و أقربائي و خواصّي المنتسبين إليّ في تحمّل أعباء الرسالة،

و لمّا كان التعاون في أمر دينك درجة عظيمة يكون الأحقّ به هارُونَ الذي يكون أَخِي من أبي و امّي اُشْدُدْ و احكم بِهِ أَزْرِي و قوّتي على التبليغ، أو قوّ به ظهري وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و منصبي و شغلي من الرسالة و التبليغ كَيْ نُسَبِّحَكَ و ننزّهك عمّا لا يليق بك تسبيحا

وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36)

ص: 219


1- . تفسير روح البيان 5:379.
2- . تفسير القمي 2:136، تفسير الصافي 3:305.
3- . تفسير الرازي 22:47.

و تنزيها كَثِيراً دائما وَ نَذْكُرَكَ بصفات الجلال و الجمال ذكرا كَثِيراً فإنّ التعاون يهيّج الرّغبات و يؤثّر في تكاثر الخيرات إِنَّكَ يا مولاي كُنْتَ بِنا و بمصالحنا، أو بما في قلوبنا من الخلوص في الطاعة، أو بغرضنا من الاستعانة بَصِيراً و عليما.

قال العلامة (رضوان اللّه عليه) في (نهج الحق) : و في (مسند أحمد) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اللّهم إنّي أقول كما قال أخي موسى: إجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري» (1).

في ردّ بعض روايات

العامة و إبطالها

أقول: و قد اشتهر بين العامّة و الخاصّة قوله صلّى اللّه عليه و آله لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» (2)و من العجب أنّه مع ذلك روى بعض العامّة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ لي في السّماء وزيرين، و في الأرض وزيرين، فاللّذان في السّماء: جبرئيل و ميكائيل، و اللّذان في الأرض: أبو بكر و عمر» (3)،

فإنّ هذه الرواية تنافي الخبرين المعتبرين السابقين المعتضدين بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله» (4)و قوله في حديث الطائر: «اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك» (5).

و الحاصل: أنّه لا شبهة أنّ عليا عليه السّلام كان أخا الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و أخصّ أهله، و أحبّ الخلق إليه، لكونه أحبّ الخلق إليه تعالى، و وصيّة كما كان يوشع بن نون وصيّ موسى، و كانا من شجرة واحدة، و كان نورهما واحدا، و كان أعلم الصحابة و أعقلهم و أقضاهم بحيث قال عمر: «لا قضيّة لا يكون فيها أبو الحسن» «و لو لا عليّ لهلك عمر» (6)، و كان من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة هارون من موسى، و لم يكفر باللّه طرفة عين، و قال: «سلوني» (7)و لم يسأل هو عن أحد غير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان حامل لوائه و مبلّغ براءة عنه، و لم يخالفه في شيء، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى من محامده، و مع ذلك كيف يمكن أن تكون وزارته

ص: 220


1- . نهج الحق:229، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2:678/1158.
2- . صحيح البخاري 5:89/202، صحيح مسلم 4:1870/2404، سنن الترمذي كتاب المناقب 5/3730، مستدرك الحاكم 3:337، مسند احمد 1:173،175،182،184،331، مصابيح السنة 4:70/4762، جامع الأصول 9: 468/6477، أمالي المفيد:57/2، أمالي الطوسي:253/453، الكافي 8:107/80.
3- . تفسير الرازي 22:48، تفسير روح البيان 5:380.
4- . صحيح البخاري 5:87/197 و 198، و ص 279/231، صحيح مسلم 4:1871/32-34، سنن الترمذي 5: 638/3724، سنن ابن ماجة 1:43/117، مسند أحمد 1:185 و 5:358 و غيرها.
5- . سنن الترمذي 5:636/3721، خصائص النسائي:5، فضائل الصحابة لأحمد 2:560/945، مستدرك الحاكم 3:130-132، مصابيح السنّة 4:173/4770، أسد الغابة 4:30.
6- . الاستيعاب بهامش الاصابة 3:39.
7- . نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح:280 الخطبة 189، الاستيعاب 3:43.

للأبعدين الأجهلين، اللذين عبد الصّنم في أكثر عمرهما، و كانا يتعلّمان من كعب الأخبار و أبي هريرة و أضرابهما، و كانت النساء أفقه منهما (1)، إلى غير ذلك من مثالبهما، ثمّ كيف كان أبو بكر معينا له في التبليغ مع عدم أهليّته لتبليغ براءة؟

ثمّ قالَ اللّه إجابة لدعائه: قَدْ أُوتِيتَ و اعطيت من قبلنا سُؤْلَكَ و مطلوبك يا مُوسى قيل: أزال اللّه لكنة لسانه بالكليّة (2)، و قيل: أزال أكثرها (3)، و جعل له هارون وزيرا، و كان أكبر سنّا و أفصح لسانا منه.

سوره 20 (طه): آیه شماره 37 الی 39

ثمّ قوّى سبحانه قلبه و هيّجه على القيام بوظيفته بقوله: وَ لَقَدْ مَنَنّا و أنعمنا عَلَيْكَ لطفا و تفضّلا بالنعم الكثيرة مَرَّةً أُخْرى في بدو ولادتك إِذْ أَوْحَيْنا بعد ولادتك إِلى أُمِّكَ و ألهمناها، أو قلنا لها في الرؤيا، أو بتوسّط الملك الذي تمثّل لها كما تمثّل لمريم ما يجب أن يُوحى و ينبّه من الأمر العظيم اللازم الوقوع، أو ما لا يمكن أن تعلم به إلاّ بالوحي، و هو أنّه لمّا خافت امّك عليك من فرعون،

أوحينا إليها أَنِ اِقْذِفِيهِ وضعيه فِي اَلتّابُوتِ و الصّندوق فَاقْذِفِيهِ و ألقيه مع التّابوت فِي اَلْيَمِّ و نهر النّيل فَلْيُلْقِهِ بعد ذلك اَلْيَمِّ و النهر بموجه بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عند ذلك فرعون الذي هو عَدُوٌّ لِي لكفره و طغيانه وَ عَدُوٌّ لَهُ لكونه من الخوف منه بصدد قتله.

وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)روي أنّ امّ موسى جعلت في التابوت قطنا، و وضعت موسى فيه، ثمّ أحكمته بالقير لئلاّ يدخل فيه الماء، و ألقته في اليمّ، و كان يدخل منه إلى بستان فرعون نهر، فدفعه الماء إليه، فأتى به إلى بركة في البستان، و كان فرعون جالسا ثمّة مع آسية بنت مزاحم، فأمر به فاخرج، ففتح فإذا هو صبيّ أصبح الناس وجها، و سمّاه موسى لمّا وجده في الماء عند الشجرة، فإنّ كلمة (مو) على ما قيل بالقبطيّة الماء، و كلمة (سا) هو الشجر (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ موسى عليه السّلام لمّا حملته امّه لم يظهر حملها إلاّ عند وضعه، و كان فرعون قد

ص: 221


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1:182، و 12:208، و 17:171. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:48.
2- . تفسير روح البيان 5:283.

وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط تحفظهنّ، و ذلك لمّا كان بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون إنّه يولد فينا رجل يقال له موسى يكون هلاك فرعون و أصحابه على يديه، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلنّ ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون، و فرّق بين الرجال و النساء، و حبس الرجال في المحابس، فلمّا وضعت امّ موسى بموسى نظرت إليه فحزنت و اغتمّت و بكت، و قالت: يذبح الساعة، فعطف اللّه قلب الموكّلة بها عليه، فقالت لامّه: مالك قد اصفر لونك؟ قالت: أخاف أن يذبح ولدي، قالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلاّ أحبّه» .

إلى أن قال: «و أنزل اللّه على امّ موسى التابوت، و نوديت: ضعيه فِي اَلتّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ و هو البحر وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (1)فوضعته في التابوت، و أطبقت عليه، و ألقته في النيل، و كان لفرعون قصور على شطّ النّيل متنزّهات، فنظر من قصره-و معه آسية امرأته-إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرّياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون، فأمر فرعون بأخذه، فاخذ التابوت و رفع إليه، فلما فتحه وجد فيه صبيّا فقال: هذا إسرائيلي» (2). قيل: كما أنجاه اللّه من البحر في الابتداء، أنجاه منه في الانتهاء بغرق فرعون (3).

ثمّ ذكر منتّه الاخرى بقوله: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً عظيمة كائنة مِنِّي و بقدرتي، قد زرعتها في القلوب، ليتعطّف عليك كلّ من نظر إليك وَ لِتُصْنَعَ و تربّى حال كونك عَلى عَيْنِي و حفظي و حراستي، أو على علمي بحالك.

روي أنّه كان على وجهه مسحة جمال، و في عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان موسى لا يراه أحدا إلاّ أحبّه، و هو قوله: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي فأحّبته القبطيّة الموكلة به» إلى أن قال: «فألقى اللّه في قلب فرعون لموسى محبة شديدة، و كذلك في قلب آسية، و أراد فرعون قتله فقالت آسية: لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (5)أنّه موسى، و لم يكن لفرعون ولد فقال: أن آتوا له ظئرا (6)لتربيته، فجاءوا بعدّة نساء قد قتل أولادهنّ فلم يشرب لبن أحد من النساء، و هو قوله: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ (7)و بلغ امّه أنّ فرعون قد أخذه فحزنت و بكت كما قال اللّه: وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ (8)» .

قال عليه السّلام: «كادت أن تخبر بخبره أو تموت، ثمّ حفظت نفسها، فكانت كما قال اللّه: لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا

ص: 222


1- . القصص:28/7.
2- . تفسير القمي 2:135، تفسير الصافي 3:306.
3- . تفسير روح البيان 5:382.
4- . تفسير روح البيان 5:383.
5- . القصص:28/9.
6- . الظّئر: المرضعة لغير ولدها.
7- . القصص:28/12.
8- . القصص:28/10.

عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (1) ثمّ قالت لأخته: قُصِّيهِ أي أتبعيه (2)، فجاءت أخته إليه فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي بعد وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (3)فلمّا لم يقبل موسى بأخذ ثدي أحد من النساء اغتمّ فرعون غمّا شديدا» (4)الخبر.

سوره 20 (طه): آیه شماره 40

ثمّ ذكر منّته عليه بردّه إلى امّه بقوله: إِذْ تَمْشِي و تذهب أُخْتُكَ مريم إلى بيت فرعون فَتَقُولُ لفرعون و امرأته حين رأتهما يطلبان له مرضعة يقبل ثديها: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ و يحضنه و يربّيه من المرضعات؟

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ اَلْغَمِّ وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)روي أنّه فشا الخبر بمصر أنّ آل فرعون أخذوا غلاما من النّيل لا يرضع من ثدي امرأة، و اضطرّوا إلى تتبّع النساء، فخرجت مريم لتعرف [خبره]فجاءتهم منكّرة فقالت ما قالت، فقالوا: من هي؟ قالت: امّي، قالوا: لها لبن؟ قالت: نعم لبن أخي هارون، فجاءت بها فقبل ثديها (5)، فحكى اللّه ذلك بقوله: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وفاء بالوعد حيث قلنا: إنّا رادّوه إليك كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها و يسرّ قلبها بلقائك وَ لا تَحْزَنَ بفراقك و بار تضاعك من ثدي غيرها.

عن الباقر عليه السّلام-في رواية- «فلمّا أخذته بحجرها و ألقمته ثديها، التقمه و شرب، ففرح فرعون و أهله، و أكرموا امّه، فقال لها: ربّيه لنا، فإنّا نفعل بك ما نفعل» (6). فسأله الراوي: كم كان موسى غائبا عن امّه حتى ردّه اللّه عليها؟ قال: «ثلاثة أيّام» (7).

ثمّ ذكر اللّه منّته الاخرى بقوله: وَ قَتَلْتَ نَفْساً من القبط بوكزه حين استغاث بك الإسرائيلي عليه، فاغتممت لذلك خوفا من تظاهر القبط عليك، و اقتصاص فرعون منك فَنَجَّيْناكَ مِنَ ذلك اَلْغَمِّ بالهجرة إلى مدين وَ فَتَنّاكَ و امتحنّاك بهذه المذكورات و المتاعب التي صبرت عليها في طريق مدين فُتُوناً و امتحانا تامّا، أو امتحانات عديدة، أو المعنى أخلصناك من الأخلاق الرّذيلة تخليصا كاملا فَلَبِثْتَ و أقمت سِنِينَ كثيرة فِي أَهْلِ مَدْيَنَ عند شعيب تخدمه و ترعى أغنامه ثُمَّ جِئْتَ الوادي المقدّس لاكلّمك و أريك الآيات عَلى قَدَرٍ قدّرته و قضاء قضيته، أو

ص: 223


1- . القصص:28/10.
2- . في النسخة: ابتغيه.
3- . القصص:28/11.
4- . تفسير القمي 2:135، تفسير الصافي 3:306.
5- . تفسير روح البيان 5:384.
6- . في النسخة: و نفعل.
7- . تفسير القمي 2:136، تفسير الصافي 3:306.

على وقت معيّن، أو على مقدار معيّن من عمرك، و هو أربعون سنة يا مُوسى و إنّما كرّر نداءه لإظهار غاية لطفه به، و انتهاء ذكر منّته في المرّة الاخرى.

سوره 20 (طه): آیه شماره 41 الی 44

ثمّ صرّح بإجابة مسؤوله الأهمّ بقوله: وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي و اصطفيتك على النّاس برسالاتي و بكلامي، و أكرمتك بأعظم كراماتي، أو اخترتك لتتصرّف على عادتي، و تشتغل بأمري من تبليغ الرسالة، و تتقلّب لوجهي لا لنفسك و لا لغيري

اِذْهَبْ يا موسى أَنْتَ وَ أَخُوكَ معا حسب استدعائك إلى فرعون متمسّكين بِآياتِي و المعجزات التي أعطيتك بقدرتي وَ لا تَنِيا و لا تفترا فِي ذِكْرِي و ثنائي بما يليق بعظمتي و جلالي في حال و وقت، فإنّه بذكر اللّه تطمئنّ القلوب.

وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)و قيل: يعني لا تفترا في تبليغ رسالتي (1)، أو لا تنسياني حيثما تقلّبتما، و استمدّا بذكري و اسألاني به العون و التأييد (2).

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بذهابهما و قيامها بوظيفة الرسالة بقوله: اِذْهَبا معا إِلى فِرْعَوْنَ و ادعواه إلى توحيدي و عبادتي إِنَّهُ طَغى و تجاوز عن حدّ العبوديّة بدعوى الالوهيّة.

قيل: إنّ الخطاب مع غيبة هارون على التغليب (3)، أو كان بعد اجتماعهما (4).

روي أنّه تعالى لمّا نادى موسى عليه السّلام بالواد المقدّس، و أرسله إلى فرعون، و أعطاه سؤله، انطلق من ذلك الموضع إلى فرعون، و شيّعته الملائكة يصافحونه، و خلّف أهله في الموضع الذي تركهم فيه، فبقوا فيه ينتظرونه ليلا و نهارا، فلم يجدوا منه خبرا، فلم يزالوا مقيمين متحيّرين حتى مرّ بهم راع من أهل مدين فعرفهم، فحملهم إلى شعيب، فمكثوا عنده حتى بلغهم خبر موسى بعد ما جاوز بنو إسرائيل البحر و غرق فرعون و قومه، فبعث بهم شعيب إلى موسى عليه السّلام (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بذهابهما إلى فرعون، و بيان شدّة طغيانه، علّمهما كيفيّة دعوته ليسلما من شرّه بقوله: فَقُولا لَهُ بعد ملاقاته قَوْلاً لَيِّناً و كلاما رقيقا لا خشونة فيه و لا تعنيف، كقوله: هل لك أن تزكّى، و أهديك إلى ربّك، فإنّه دعوة بصورة المشورة، أو كلاما فيه حسن الأدب كالخطاب بالكنى و الألقاب دون الاسم، و قيل: يعني عداه شبابا لا هرم له، و بقاء لذّة المطعم و المشرب و النّكاح،

ص: 224


1- . تفسير روح البيان 5:387.

و دوام السّلطنة إلى الموت (1)لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ و يتنبّه على ما يحكم به عقله أَوْ يَخْشى من عذابي و نكالي.

عن الكاظم عليه السّلام قال: «أمّا قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً أي ليّناه في القول، أو قولا له (2): يا أبا مصعب، و كان [اسم]فرعون أبا مصعب، و أمّا قوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فإنّما قال ذلك ليكون أحرص لموسى على الذّهاب، و قد علم اللّه عزّ و جلّ أنّه لا يتذكّر و لا يخشى إلاّ عند رؤية البأس» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما يقرب منه (4).

سوره 20 (طه): آیه شماره 45 الی 47

روي أنّه أوحي إلى هارون و هو بمصر أن يتلقّى موسى عليه السّلام (5). و قيل: سمع بإقباله فتلقّاه (6)، فلمّا أخبره موسى عليه السّلام بالأمر قالا عند ذلك: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ من أَنْ يَفْرُطَ و يعجّل عَلَيْنا بالعقوبة، و لا يصبر إلى تمام الدعوة و إظهار المعجزة أَوْ أَنْ يَطْغى زيادة على طغيانه السابق إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جرأته و قساوته.

قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ اَلسَّلامُ عَلى مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدى (47)

قالَ اللّه تسلية لهما: لا تَخافا منه إِنَّنِي بحفظي و نصرتي مَعَكُما و إنّي أَسْمَعُ كلامكم وَ أَرى عملكم فَأْتِياهُ و احضرا عنده فَقُولا له بدو الملاقاة: إِنّا رَسُولا رَبِّكَ إليك ليعرف شأنكما، ثمّ قولا له: إذا عرفتنا بالرسالة فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ و أطلقهم من قيد الأسر و العبوديّة حتى نذهب بهم إلى الأرض المقدّسة التي كانت موطن آبائهم وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بتذليلهم و تبعيدهم و تحميل المشاقّ عليهم، فإن تكن في شكّ من رسالتنا فإنّا قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ عظيمة و معجزة قاهرة مِنْ رَبِّكَ للدّلالة على صدقنا في ادّعائنا، ثمّ رغّبوه في الإيمان بقولهم: وَ اَلسَّلامُ و التحيّة المستتبعة بسلامة الدارين و العافية الأبديّة من اللّه تعالى عَلى مَنِ استسلم لما جاءنا و اِتَّبَعَ اَلْهُدى و الرّشاد الذي جاءه من ربّه.

روي أنّ موسى عليه السّلام وعده على قبول الإيمان شبابا لا يهرم، و ملكا لا ينزع منه إلاّ بالموت، و بقاء لذّة المطعم و المشرب و المنكح عليه إلى انقضاء أجله، فإذا مات دخل الجنّة، فأعجبه ذلك، و كان

ص: 225


1- . تفسير الرازي 22:58، تفسير أبي السعود 6:18.
2- . في العلل: أي كنّياه و قولا له.
3- . علل الشرائع:67/1، تفسير الصافي 3:308.
4- . الكافي 7:460/1، تفسير الصافي 3:308. (5 و 6) . تفسير أبي السعود 6:17.

هامان غائبا، و كان لا يقطع أمرا بدونه، فلمّا قدم أخبره بمقالة موسى عليه السّلام و إرادته الإيمان به، فقال له هامان: كنت أرى أنّ لك عقلا و رأيا، أنت الآن ربّ، و تريد أن تكون مربوبا؟ ! فأبى عن الإيمان (1).

سوره 20 (طه): آیه شماره 48 الی 52

ثمّ هدّده موسى عليه السّلام بترك الإيمان بقوله: إِنّا قَدْ أُوحِيَ من قبل ربّنا إِلَيْنا بتوسط جبرئيل أَنَّ اَلْعَذابَ الشديد الدائم عَلى مَنْ كَذَّبَ بآيات ربّه و بما جاء به أنبياؤه وَ تَوَلّى و أعرض عن قبول دعوة رسله و تصديق الحقّ

قالَ فرعون: إن كنتما رسولي ربّكما فَمَنْ رَبُّكُما الذي أرسلكما يا مُوسى و إنّما خصّ النداء بموسى عليه السّلام لكونه أصلا و هارون تابعه، أو لعلمه برثّة في لسانه، فأراد استنطاقه لتوهينه دون هارون لعلمه بفصاحته، أو لكون موسى عليه السّلام في تربيته، فتعجّب من دعوى كونه مربوبا لغيره، فكأنّه قال: أنا ربّك، فلم تدعو ربّا غيري، و إضافة الربّ إليهما لغاية عتوّه.

إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ اَلْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (52)

قالَ موسى عليه السّلام في جوابه: رَبُّنَا هو اللّه القادر اَلَّذِي بقدرته و رحمته أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء خَلْقَهُ و الصورة المناسبة له و الشكل اللائق به، الموافق لما يترتّب عليه من الخواصّ و المنافع ثُمَّ هَدى كلّ واحد إلى ما يصدر و ما ينبغي له، طبعا كما في الجمادات و النباتات، و اختيارا كما في الحيوانات.

و قيل: إنّ الخلق عبارة عن تركيب الأجزاء و تسوية القوالب، و الهداية عبارة عن إبداع القوى المحرّكة و المدركة فيها، و لذا قدّم الخلق (2)و عطف عليه الهداية بكلمة (ثمّ) الدالة على التراخي.

و يحتمل أن يكون المراد بالهداية الهداية إلى معرفته بقدر إدراكه و استعداده، فإنّ لكلّ شيء حياة و شعورا على حدّ وجوده من الضّعف و القوّة، كما مرّ بيانه غير مرّة، أو المراد أنّه تعالى هداه إلى مصالح نفسه و لوازم معيشته، و عرّفه الضار و النافع، كما ألهم النّحل تركيب البيوت المسدّسة، و معرفة ما يضرّه و ما ينفعه من النباتات، و ألهم الحيوانات ما به قوامها من المطعوم و المشروب و الملبوس و المنكوح، و كيفيّة الانتفاع بها، و عرّف الذكر الانثى و بالعكس، و هداه إلى كيفيّة المقاربة ليدوم النسل، و هدى الأولاد إلى أخذ الثّدي و مصّ اللبن منها.

ص: 226


1- . تفسير روح البيان 5:389.
2- . تفسير الرازي 22:64.

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «ليس شيء من خلق اللّه إلاّ و هو يعرف من شكله الذّكر و الانثى» . و سئل ما معنى ثُمَّ هَدى قال: «هداه للنّكاح و السّفاح من شكله» (1).

ثمّ قال فرعون: إن كان ربوبيّة ربّك بهذا الحدّ من الظهور فَما بالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولى و الامم الكثيرة في الأعصار السابقة أنّهم لم يعترفوا بربوبيته و عبدوا غيره؟ فقدح اللّعين في الحجّة القاطعة التي أقامها موسى عليه السّلام بغفلة الناس عنها و عملهم بخلافها.

و قيل: إنّه عليه السّلام لمّا هدّده بالعذاب على الشّرك و تكذيب الرّسل، قال: فما بال الأمم الماضية أنّهم أشركوا و كذّبوا و لم يعذّبوا؟ (2)

و قيل: إنّ الخبيث لمّا رأى إتقان حجّة موسى عليه السّلام على التوحيد، خاف أن يزيد في تقريرها فيظهر للناس صدقه و فساد مذهب نفسه، أراد أن يصرفه عن ذلك الكلام و يشغله بذكر قضايا الامم الماضية كعاد و ثمود و أضرابهما، فلم يلتفت موسى عليه السّلام إلى سؤاله (3)،

بل قالَ: إنّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لأنّه من الغيوب التي تختص به تعالى، و لا أعلم إلاّ ما علّمنيه من الامور المتعلّقة بما ارسلت به، و إنّما أحوالهم مثبتة فِي كِتابٍ و لوح محفوظ، بل لا يحتاج إلى كتاب لأنّه لا يَضِلُّ رَبِّي و لا يخطئ في علمه، بل يعلم كلّ شيء على ما هو في الواقع وَ لا يَنْسى و لا يغفل عن شيء بعد العلم به.

سوره 20 (طه): آیه شماره 53 الی 54

ثمّ عاد إلى بيان شؤونه تعالى بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ بقدرته و تفضّله اَلْأَرْضَ مَهْداً و معدّا للسّكونة و الراحة وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها من جبالها و أوديتها و براريها سُبُلاً و طرقا تسلكونها من قطر إلى قطر و بلد لحوائجكم و قضاء مآربكم وَ أَنْزَلَ برحمته مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ أو جهة العلوّ ماءً نافعا بطريق الإمطار.

اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتّى (53) كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي اَلنُّهى (54)ثمّ نبّه عليه السّلام على زيادة اختصاص الإنبات بذاته القادرة، و كون النباتات طائعات له بأن قال: يقول اللّه: فَأَخْرَجْنا بِهِ و أنبتنا بسببه أَزْواجاً و أصنافا مِنْ نَباتٍ و ناميات شَتّى و متفرّقات في الطعوم و الألوان و الروائح و الأشكال، أو متفرّقات في وجه الأرض ممّا يأكل الناس و الأنعام، و قلنا:

ص: 227


1- . الكافي 5:567/49، تفسير الصافي 3:309.
2- . تفسير الرازي 22:66.
3- . تفسير الرازي 22:66-67.

كُلُوا أيّها الناس منها و من ثمارها وَ اِرْعَوْا فيها أَنْعامَكُمْ فإنّها مباحة لكم مخلوقات لانتفاعكم إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات و جعل الاختلافات الكثيرة فيها مع وحدة الأرض و الماء و الهواء، أو في تلك (1)النّعم الجسيمة و الموجودات البديعة و اللّه لَآياتٍ عظيمة و براهين واضحة على وجود الصانع القادر الحكيم لِأُولِي اَلنُّهى و ذوي العقول السليمة الرادعة عن القبائح.

و قيل: إنّ كلام موسى عليه السّلام قد انقطع عند قوله: وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً ثمّ أخبر سبحانه عن صفة نفسه (2).

و قيل: إنّ المراد من ضمير المتكلّم في (أخرجنا) موسى عليه السّلام و غيره من الناس، و المعنى فأخرجنا معاشر العباد بذلك الماء المنزل و بالحراثة أزواجا (3).

و الحقّ هو الوجه الذي فسّرنا، لعدم مناسبة الوجه الآخر لقوله: كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعامَكُمْ و الوجه الأوّل أيضا غير صحيح لدلالة (الفاء) في قوله فَأَخْرَجْنا على ارتباطه بالسابق. نعم يمكن أن يقال إنّ كلام موسى قد تمّ عند قوله: لا يَنْسى.

عن الباقر عليه السّلام: قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ خياركم اولو النّهى. قيل: يا رسول اللّه، من اولوا النهي؟ قال: هم أولوا الأخلاق الحسنة، و الأحلام الرّزينة، و صلة الأرحام، و البررة بالامّهات و الآباء، و المتعاهدون للفقراء و الجيران و اليتامى، و يطعمون الطّعام، و يفشون السّلام في العالم، و يصلّون و الناس نيام غافلون» (2).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «نحن و اللّه أولوا النّهى» (3).

سوره 20 (طه): آیه شماره 55 الی 57

ثمّ لمّا كان فرعون في غاية التكبّر و التجبّر حتى ادّعى الربوبيّة، بين مبتدئه و منتهاه، إظهارا لغاية ذلّته بقوله: مِنْها خَلَقْناكُمْ بخلق آدم الذّي هو أبو البشر من تراب، أو بخلق الأغذية التي تتولّد النّطف منها من الأرض وَ فِيها بعد الموت نُعِيدُكُمْ بالدّفن و الإقبار وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ بالخلق و الإحياء تارَةً أُخْرى و مرّة ثانية بعد خلقكم في هذا العالم، و نبعثكم إلى المحشر للحساب و جزاء الأعمال.

مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (56) قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57)

ص: 228


1- . في النسخة: ذلك. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:68.
2- . الكافي 2:188/32، تفسير الصافي 3:310.
3- . تفسير القمي 2:61، تفسير الصافي 3:310.

عن ابن مسعود: أنّ اللّه يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل و الرّزق و الأرض التي يدفن فيها، و أنّه يأخذ من تراب تلك البقعة، و يذرّه على النّطفة، ثمّ يدخلها في الرّحم (1).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النطفة إذا وقعت في الرّحم، بعث اللّه عزّ و جلّ ملكا يأخذ من التّربة التي يدفن فيها فماثّها (2)في النّطفة، فلا يزال قلبه يحنّ إليها حتى يدفن فيها» (3).

ثمّ بيّن اللّه شدّة لجاج فرعون بقوله: وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ و بصّرناه آياتِنا الدالّة على التوحيد و النبوّة كُلَّها من البراهين العقلية و المعجزات الباهرة كالعصا و اليد البيضاء و غيرها فَكَذَّبَ بها و نسبها إلى السّحر من فرط عناده و لجاجه وَ أَبى و امتنع من قبولها و الإيمان بها،

و كان من إبائه أنّه قالَ إنكارا على موسى عليه السّلام و تقبيحا لدعوته: أَ جِئْتَنا بعد غيابك عنّا، و رجعت إلينا بعد هجرتك من بلدنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا و سلطاننا، و تستولى على مملكتنا بِسِحْرِكَ و شعبذتك و تخييلات لا واقع و لا حقيقة لها يا مُوسى فإنّ العاقل لا يتخيّل ذلك فضلا عن أن يقصده.

قيل: كان غرضه من هذا القول حمل القبط على غاية مقته، و بعثهم على معارضته حيث أظهر لهم أنّه ليس غرض موسى عليه السّلام إنجاء بني إسرائيل، بل إخراج القبط من وطنهم و حيازة أموالهم و أملاكهم (4)، و هذا أصعب عليهم من القتل.

سوره 20 (طه): آیه شماره 58 الی 64

ثمّ لمّا نسب معجزات موسى عليه السّلام إلى السحر قال: فَلَنَأْتِيَنَّكَ و نعارضنّ سحرك بِسِحْرٍ مِثْلِهِ حتى يتّضح للنّاس أنّك ساحر، إذن فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً و وقتا معيّنا، أو مكانا معلوما نحضر فيه للمعارضة لا نُخْلِفُهُ و لا نتخلّف عنه نَحْنُ وَ لا أَنْتَ و ليكن الموعد مَكاناً سُوىً

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اَلزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ اِفْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلى (64)

ص: 229


1- . تفسير الرازي 22:70.
2- . أي خلطها.
3- . الكافي 3:203/2، تفسير الصافي 3:310.
4- . تفسير روح البيان 5:398.

متوسّطا بيننا و بينك مسطّحا مستويا لا يحجب العين ارتفاعه و انخفاضه

قالَ موسى: نعم مَوْعِدُكُمْ و زمان اجتماعكم معنا للمعارضة يَوْمُ العيد الذي هو يوم اَلزِّينَةِ لقومك، قيل: هو يوم النّيروز (1). و قيل: يوم سوق لهم (2). و عن ابن عباس: يوم عاشوراء (3).

وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنّاسُ و يجتمعون من كلّ مكان في ضُحًى و حين ارتفاع الشمس، ليشهد عموم الناس تلك الوقعة، و لا يمكن إنكار ما وقع فيها من الغلبة،

و ينسدّ باب الرّيبة فَتَوَلّى و أعرض فِرْعَوْنُ عن موسى عليه السّلام، و خرج من المجلس، و أرسل إلى البلاد و المدائن، و أمر بحضور من كان فيها من السّحرة في الموعد فَجَمَعَ كَيْدَهُ و ما يحتال به في إبطال دعوى موسى عليه السّلام من السّحرة و الآلات و الأدوات ثُمَّ أَتى الموعد هو مع ملئه،

و أتى موسى أيضا و قالَ لَهُمْ مُوسى نصحا و زجرا عن معارضتهم الحقّ: وَيْلَكُمْ يا قوم، ارتدعوا عمّا أنتم فيه من الكفر و العناد مع الحقّ و لا تَفْتَرُوا و لا تكذّبوا عَلَى اَللّهِ كَذِباً بيّنا بنسبة الشريك إليه و السّحر إليّ فَيُسْحِتَكُمْ و يهلككم اللّه و يستأصلكم بِعَذابٍ عظيم لا يقادر قدره وَ قَدْ خابَ و حرم من كلّ خير مرجوّ مَنِ اِفْتَرى و بهت على اللّه كان من كان.

قيل: أثّر قول موسى عليه السّلام في بعض السّحرة دون بعض (2)فَتَنازَعُوا و اختلفوا في معارضته.

و قيل: إنّ قول موسى عليه السّلام غاظ السّحرة، فتنازعوا (3)أَمْرَهُمْ الذي أرادوه من معارضة موسى عليه السّلام و تشاوروا بَيْنَهُمْ في كيفيّتها، و أطالوا القول في ذلك وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوى و بالغوا في إخفاء مذاكراتهم، لئلاّ يقف عليها موسى عليه السّلام فيدفعها،

و كان من نجواهم أنّهم قالُوا أيّها الرّفقة إِنْ هذانِ الرجلان لَساحِرانِ.

و قيل: إنّ كلمة (إن) نافية، و اللام في (لساحران) بمعنى (إلاّ) ، و المعنى: ما هذان إلاّ ساحران (4)، يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ و أوطانكم، و يستوليا على مملكتكم بِسِحْرِهِما الذي أظهراه من قبل وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى و مذهبكم الذي هو أفضل المذاهب، و هو مذهب فرعون، و يشيعا دينهما بينكم.

و قيل: إنّ الطريقة اسم لوجوه القوم و أشرافهم، لكونهم قدوة لغيرهم (5).

ثمّ أنّهم بعد ذكر مضارّ غلبة موسى عليه السّلام كأنّهم قالوا: إذا علمتم ذلك فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ و آراءكم،

ص: 230


1- . تفسير الرازي 22:73، تفسير أبي السعود 6:24. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:73.
2- . مجمع البيان 7:30.
3- . تفسير أبي السعود 6:25، تفسير روح البيان 5:400.
4- . تفسير الرازي 22:75، مجمع البيان 7:28.
5- . تفسير الرازي 22:80، تفسير أبي السعود 6:25.

و أجعلوها واحدا لا يخالف فيه أحد، أو أدوات سحركم و رتّبوها كما ينبغي ثُمَّ اِئْتُوا في الموعد حال كونكم صَفًّا واحدا، فإنّ إتيانكم مجتمعين في الموعد أشدّ مهابة في نظر الخصم وَ قَدْ أَفْلَحَ و فاز اَلْيَوْمَ المقصد الأعلى، و هو القرب من فرعون و الشرف بين الناس مَنِ اِسْتَعْلى منكم و غلب على موسى.

قيل: كان الموعد مكانا متّسعا، و خاطبهم موسى عليه السّلام في قطر منه، و تنازعوا أمرهم في قطر آخر، ثمّ امروا بأن يأتوا وسطه على الوجه المذكور (1).

قيل: كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه السّلام: ما هذا ساحر، و إن غلبنا اتّبعناه، أو قالوا: إن كان ساحرا غلبناه، و إن كان من السماء فله أمر. ثمّ رجعوا بعد تلك المقالات و الاختلافات إلى الإتّفاق على المعارضة (2).

قيل: كانوا سبعين ألفا مع كلّ منهم حبل و عصا، و أقبلوا على موسى عليه السّلام إقبالة واحدة في سبعين صفّا كلّ صفّ ألف (3).

و قيل: كانوا بضعة و ثلاثين ألفا (4). و قيل: خمسة عشر ألفا (5). و قيل: تسعمائة؛ ثلاثمائة من الفرس، و ثلاثمائة من الروم، و ثلاثمائة من الإسكندريّة (6). و قيل: كانوا اثنين و سبعين؛ اثنان من القبط، و الباقي من بني إسرائيل (7).

و قيل: إنّ المراد بالصفّ المصلّى لاجتماع الناس فيه في الأعياد للصلاة (3).

سوره 20 (طه): آیه شماره 65 الی 68

ثمّ أنّهم بعد اجتماعهم و حضورهم قالُوا تأدّبا و إظهارا لعدم المبالاة بموسى عليه السّلام و صنيعه: يا مُوسى لك الخيار إِمّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك على الأرض أوّلا وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما نلقيه

قالَ موسى عليه السّلام مقابلة لأدبهم بأدب، أو إظهارا للجلادة و عدم الاعتناء بسحرهم، أو علما بأنّ إلقاءهم أوّلا أدخل في عظمة إعجازه حيث إنّ عصاه تلقف ما ألقوه: بَلْ أَلْقُوا أنتم أوّلا ما تلقون، فبادروا في الإلقاء فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ لتلطّخها بالزّئبق و إشراق الشّمس عليها، اضطربت

قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى (68)

ص: 231


1- . تفسير روح البيان 5:400.
2- . تفسير أبي السعود 6:26. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 22:83، تفسير أبي السعود 6:26. (6 و 7) . تفسير الرازي 22:83، تفسير أبي السعود 6:26.
3- . تفسير الرازي 22:81، تفسير أبي السعود 6:26.

و اهتزّت بحيث كان موسى عليه السّلام يُخَيَّلُ إِلَيْهِ و يتوهّم مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها حيّات تَسْعى و تمشي بسرعة على الأرض فَأَوْجَسَ و أضمر فِي نَفْسِهِ بمقتضى البشرية خِيفَةً مُوسى من مفاجأة رؤية الحيّات المخيّلة و ضررها.

فلمّا خاف قُلْنا له: لا تَخَفْ ممّا رأيت من السّحر إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى منهم و الغالب القاهر عليهم.

و قيل: إنّ موسى عليه السّلام خاف من أن يظنّ الناس أنّ السّحرة ساووا موسى عليه السّلام (1)، فينصرفوا قبل أن يشاهدوا معجزته، فيدوموا على باطلهم.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لم يوجس موسى خيفة على نفسه، و إنّما أشفق من غلبة الجهّال و دول الضّلال» (2).

سوره 20 (طه): آیه شماره 69 الی 73

ثمّ أمر اللّه موسى عليه السّلام بمعارضة السّحرة بقوله: وَ أَلْقِ أنت أيضا ما فِي يَمِينِكَ من الخشب اليابس الصغير، فإنّها بقدرة اللّه تَلْقَفْ و تبتلع بسرعة ما صَنَعُوا ه و موّهوه من الحبال المحشوّة بالزّئبق و العصيّ المربوطة بها إِنَّما أصنع معجزة باهرة، و ما صَنَعُوا ه و موّهوه و زوّروه (3)كَيْدُ ساحِرٍ و حيلته التي لا حقيقة لها وَ لا يُفْلِحُ و لا يفوز اَلسّاحِرُ بمطلوبه و لا يدرك بغيته حَيْثُ أَتى من الأرض و عمل فيها بالسّحر، أو حيث أتى مصنوعي و كيدي؛ لأنّ صنعي حقّ و كيدي متين.

وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ اَلسّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا (72) إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَ اَللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73)عن ابن عبّاس: ألقوا حبالهم و عصيّهم ميلا من هذا الجانب، و ميلا من هذا الجانب، فخيّل إلى

ص: 232


1- . تفسير الرازي 22:84.
2- . نهج البلاغة:51 الخطبة 4، تفسير الصافي 3:311، و في النسخة: و ذوي الضلال.
3- . في النسخة: و رودوه، راجع: تفسير روح البيان 5:403.

موسى عليه السّلام أنّ الأرض كلّها حيّات، و أنّها تسعى فخاف، فلمّا قيل له: أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ ألقى موسى عصاه، فإذا هي حيّة أعظم من حيّاتهم، ثمّ أخذت تزداد عظما حتى ملأت الوادي، ثمّ صعدت و علت حتى علّقت ذنبها بطرف القبّة، ثمّ هبطت فأكلت كلّ ما عملوا في الميلين، و النّاس ينظرون إليها لا يحسبون إلاّ أنّه سحر، ثمّ أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعا، فصاح بموسى فأخذها و هي عصا [كما]كانت، و نظرت السّحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم و عصيّهم شيئا إلاّ أكلته، فعرفت السّحرة أنّه ليس بسحر، و قالوا: أين حبالنا و عصيّنا؟ لو لم تكن (1)سحرا لبقيت (2)

فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ و خرّوا على الأرض بسرعة و شدّة، كأنّه ألقاهم غيرهم حال كونهم سُجَّداً للّه خاضعين لعظمته و قدرته بعد ما رأوا من إعجاز العصا.

قيل: ما أعجب [أمر]هم ألقوا حبالهم للكفر و الجحود، و ألقوا نفوسهم للتّعظيم و السّجود (3)بعد ساعة، فما أعظم الفرق بين القائلين! و قالُوا في سجودهم بصوت عال: آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى.

قيل: إنّما لم يقولوا بربّ العالمين، لأنّ موسى و هارون دعياهم إلى الإيمان به، و كيلا يتوهّم أنّ مرادهم فرعون، لأنّه كان مربّي موسى عليه السّلام (4).

روي أنّهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنّة و النّار (5).

و عن عكرمة: لمّا خرّوا سجّدا أراهم اللّه منازلهم التي يصيرون إليها في الجنّة (6).

ثمّ قيل: لمّا شاهد فرعون إيمانهم بموسى عليه السّلام، خاف من أن يقتدي بهم سائر الناس (5)، فادّعى أنّ إيمانهم كان للتّباني مع موسى عليه السّلام، و لذا قالَ توبيخا لهم آمَنْتُمْ لَهُ و اتّبعتموه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في الإيمان له، مع أنّي ربّكم و أميركم، و إنّما كان إيمانكم لأنّكم تلامذته و إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ و استاذكم اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فواطأتم معه على أن يظهروا العجز من أنفسكم عن معارضته ترويجا لأمره، و تعظّما لشأنه، و أداء لحقّ تعليمه.

ثمّ هدّدهم بقوله فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ بأن أقطع من شقّ يدا، و من شقّ رجلا وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ و أعلّقنّكم فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ و على اصوله، لتكونوا عبرة لغيركم وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى و أدوم نكالا أنا أو موسى، أو أنا أو ربّه، و في كلامه هذا إيماء إلى أنّ إيمانهم لم

ص: 233


1- . في النسخة: لو كانت.
2- . تفسير الرازي 22:82.
3- . تفسير روح البيان 5:405.
4- . تفسير الرازي 22:87، تفسير أبي السعود 6:28. (5 و 6) . تفسير الرازي 22:86.
5- . تفسير الرازي 22:87.

يكن على بصيرة، بل كان عن خوف من قهر موسى و سلطانه، و إظهارا للجلادة و الوقاحة مع غاية خوفه من موسى عليه السّلام حفظا لناموسه و ترويجا لأمره، فتجلّد السّحرة في الجواب عن تهديده و

قالُوا غير مكترثين بوعيده: إنّا لَنْ نُؤْثِرَكَ و لا نختارك بالإيمان و الاتّباع أبدا عَلى ما جاءَنا من اللّه على يد موسى مِنَ المعجزات اَلْبَيِّناتِ و البراهين الواضحات التي لا ريب في حقّانيّتها وَ حقّ اَلَّذِي فَطَرَنا و خلقنا لا نؤثرك.

و قيل: إنّ (الواو) في وَ اَلَّذِي عاطفة، و المعنى: لن نؤثرك على ما جاءنا و على الّذي فطرنا و خلقنا و خلق سائر المخلوقات (1)فَاقْضِ يا فرعون في حقّنا ما أَنْتَ قاضٍ و احكم فيه ما أنت حاكم، أو افعل بنا ما أنت فاعله، فإنّا لا نخاف و لا نبالي، و كيف نخاف منك و لا نخاف من اللّه؟ أو كيف نؤثرك و لا نؤثر اللّه؟ و الحال أنّه إِنَّما تَقْضِي و تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذِهِ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا التي تزول بسرعة، و إن لم تقض، و ليس لك علينا بعد انقضائها قضاء، فاللّه يقضي في الدنيا و الآخرة، و قضاء اللّه و عذابه أشدّ و أبقى، بل لا انقضاء له و لا نجاة منه.

و أمّا ما نبّهت عليه و أشرت إليه من أنّ إيماننا كان للمواطأة مع موسى أو للخوف منه، فليس كذلك، بل إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا و ذنوبنا التي سلفت منّا قبل إيماننا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ عمل اَلسِّحْرِ و معارضة الرسول، أو تعلّمه و تعليمه، كما عن ابن عباس (2)، لا للأغراض الدنيويّة حتى يصرفنا عنه وعيدك بالقطع و الصّلب وَ اَللّهُ خَيْرٌ و أنفع لنا منك و من كلّ أحد وَ أَبْقى جزاء، ثوابا كان أو عقابا، أو خير منك ثوابا إن آمنّا به و أطعناه، و أبقى منك عذابا إن كفرنا به و عصيناه.

و إنّما خصّوا السّحر الذي أكرههم عليه فرعون بالذّكر-مع كونه داخلا في عموم الخطايا-لإظهار غاية نفرتهم منه، و للإيذان بأنّ معارضة الرسول-و إن كان بالإكراه-ممّا يجب أن يفرد بالاستغفار.

روى بعض العامة أنّ رؤساء السّحرة كانوا اثنين و سبعين؛ اثنان منهم من القبط، و الباقي من بني إسرائيل، و كان فرعون أكرههم على تعلّم السّحر (3). و قيل: أكرههم على معارضة موسى (4).

و روي أنّهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر، فإنّ الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى فرعون إلاّ أن يعارضوه (5).

سوره 20 (طه): آیه شماره 74 الی 76

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجاتُ اَلْعُلى (75) جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى (76)

ص: 234


1- . تفسير روح البيان 5:406.
2- . تفسير الرازي 22:89.
3- . تفسير الرازي 22:89، تفسير أبي السعود 6:30.
4- . تفسير الرازي 22:89، تفسير أبي السعود 6:30.
5- . تفسير الرازي 22:89، تفسير أبي السعود 6:30.

ثمّ بيّنوا كون عذاب اللّه أشدّ و أبقى، ردّا على قول فرعون: أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى بقولهم: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ يوم القيامة حال كونه مُجْرِماً و عاصيا له بالكفر و الطغيان فَإِنَّ لَهُ بالاستحقاق جَهَنَّمَ و هو لا يَمُوتُ فِيها فيستريح من العذاب وَ لا يَحْيى حياة منتفعا بها، بل في كلّ آن يتمنّى الموت من شدّة العذاب و النّكال و لا يتيسّر له.

ثمّ بيّنوا حسن حال المؤمنين بقولهم: وَ مَنْ يَأْتِهِ و يلقاه في المحشر حال كونه مُؤْمِناً بوحدانيّته و برسوله و بآياته التي منها ما شاهدناه و قَدْ عَمِلَ الأعمال اَلصّالِحاتِ و أتى بما كلّف به من الواجبات، و احترز المحرّمات فَأُولئِكَ المؤمنون الصّالحون لَهُمُ جزاء على إيمانهم و طاعتهم اَلدَّرَجاتُ اَلْعُلى و المنازل الرفيعة،

و هي جَنّاتُ عَدْنٍ و بساتين دائمة لا فناء لها و لا خراب لها، قصور و أشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ و يكون المؤمنون خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا وَ ذلِكَ المذكور من الدّرجات العالية في تلك الجنان جَزاءُ مَنْ تَزَكّى و طهّر (1)نفسه من دنس الكفر و العصيان بالإيمان و التوبة و الطاعة.

عن ابن عباس: كانوا [في]أوّل النهار سحرة و [في]آخره شهداء (2).

و قال بعض العامة: إنّ كلام السّحرة ختم بقوله: خَيْرٌ وَ أَبْقى و الآيات الثلاث ابتداء كلام اللّه تعالى (3).

سوره 20 (طه): آیه شماره 77 الی 79

ثمّ أنّه تعالى بعد طي ذكر ما جرى على فرعون و ملئه من الآيات المفصّلات الظاهرة على يد موسى في نحو من عشرين أو أربعين سنة من قتله السّحرة، بيّن ما انتهى إليه أمر فرعون و نجاة بني إسرائيل من ظلمه بقوله: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى و قلنا له بتوسّط جبرئيل: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي الّذين استعبدهم فرعون، و استذلّهم بالأسر، و استضعفهم بتحميل المشاقّ، و سر بهم ليلا من مصر فَاضْرِبْ و اتّخذ لَهُمْ أو اضرب بعصاك، و اجعل لهم بعد الخروج من مصر طَرِيقاً كائنا

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اَلْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79)

ص: 235


1- . في النسخة: تطهّر.
2- . تفسير الرازي 22:88.
3- . تفسير أبي السعود 6:31.

فِي اَلْبَحْرِ القلزم (1)على قول، أو الأصاف (2)على آخر، يكون يَبَساً و جافّا لا وحل فيه و لا نداوة فضلا عن الماء، و جز منه آمنا بحيث لا تَخافُ دَرَكاً من العدوّ و وصولهم إليك وَ لا تَخْشى الغرق.

روي أنّ موسى عليه السّلام خرج بهم أوّل اللّيل، و كانوا ستمائة و سبعين ألفا، فاخبر فرعون بذلك (3)فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ و عساكره، و كانت مقدّمته سبعمائة ألف، فقصّ أثرهم فلحقهم بحيث تراءى الجمعان، فعند ذلك ضرب موسى عليه السّلام بعصاة البحر، فانفلق على اثني عشر فرقا كلّ فرق كالطّود العظيم، و بقي الماء قائما بين الطرق، فعبر موسى بمن معه من الأسباط سالمين، و تبعهم فرعون بجنوده فَغَشِيَهُمْ و سترهم مِنَ اَلْيَمِّ و البحر ما غَشِيَهُمْ و ما علاهم من الأمواج الهائلة التي لا يعلمها إلاّ اللّه.

عن ابن عبّاس قال: خرج فرعون في طلب موسى عليه السّلام، و على مقدّمته ألف ألف و خمسمائة ألف سوى الجنبين و القلب، فلمّا انتهى موسى عليه السّلام إلى البحر قال: ها هنا امرت، ثمّ قال موسى عليه السّلام للبحر: انفرق فأبى، فأوحى اللّه إليه: أن اضرب بعصاك البحر، فضرب فانفلق فقال لهم موسى عليه السّلام: ادخلوا فيه، فقالوا: كيف و أرضه رطبة؟ فدعا اللّه فهبّت عليه الصّبا (4)فجفّت، فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا، فدخلوا حتى جاوزوا البحر، فأقبل فرعون إلى تلك الطّرق، فقال قومه له: إنّ موسى سحر البحر فصار كما ترى، و كان على فرس حصان، و أقبل جبرئيل على فرس انثى في ثلاثة و ثلاثين من الملائكة، فصار جبرئيل بين يدي فرعون، و أبصر الحصان الفرس الحجر (5)، فاقتحم بفرعون على أثرها، و صاحت الملائكة في الناس: ألحقوا الملك، حتى إذا دخل آخرهم و كاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا، فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم فقالوا: ما هذا يا موسى؟ قال: قد أغرق اللّه فرعون و قومه، فرجعوا لينظروا إليهم، فقالوا: يا موسى، ادع اللّه أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل، و أصابوا سلاحهم (6).

قال ابن عبّاس: إنّ جبرئيل قال: يا محمّد، لو رأيتني و أنا أدسّ فرعون في الماء و الطّين مخافة أن يتوب (7).

وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ و سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الخيبة و الخسران في الدّين و الدنيا حيث

ص: 236


1- . بحر القلزم: البحر الأحمر.
2- . كذا.
3- . تفسير أبي السعود 6:31، تفسير روح البيان 5:409.
4- . الصّبا: ريح مهبّها من مشرق الشمس إذا استوى الليل و النهار.
5- . الحجر: أنثى الخيل.
6- . تفسير الرازي 22:93.
7- . تفسير الرازي 22:94.

ماتوا على الكفر و الطّغيان بالعذاب الهائل الدنيوي المتّصل بالعذاب الشّديد الدّائم الاخروي وَ ما هَدى و ما أرشد إلى مطلوب و خير أبدا. و فيه تأكيد لغاية إضلاله و ردّ لقوله: وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ اَلرَّشادِ (1).

روى أنّ موسى لمّا ضرب بعصاه البحر حصل اثنى عشر طريقا يابسا، يتهيّأ طروقه، و بقي الماء قائما بين الطريق و الطريق كالطّود العظيم، فأخذ كلّ سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق (2). و قيل: بل حصل طريق واحد (3).

و قيل: إن فرعون لمّا خاف من دخول البحر، أمر مقدّمته بالدخول فيه، فلمّا دخلوا و ساروا فيه و ما غرقوا، غلب على ظنّه السلامة فدخل، فلمّا دخل الكلّ أغرقهم اللّه (4).

أقول: لا تنافي بين هذا و بين ما روي من تقدّم جبرئيل عليه و هو على رمكة (5)؛ لأنّه و إن كان ظنّ السلامة و لكن يمكن أنّه لو لم يجمح فرسه لكان يحتاط، و لمّا جمح فرسه و كان له ظن السلامة لم يبالغ في إمساك فرسه، فلا يرد على الرواية أنّ فرعون مع عقله و دهائه كيف ألقى نفسه في التّهلكة.

سوره 20 (طه): آیه شماره 80 الی 81

ثمّ رغّب اللّه سبحانه بني إسرائيل في طاعته بتذكريهم النّعم التي أنعم عليهم، مقدّما لنعمة دفع الضّرر عنهم على إيصال النفع إليهم، مخاطبا لهم بلسان موسى بعد إغراق فرعون و ابتلائهم بالتّيه بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون و قومه و خلّصناكم من ظلمهم.

يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)ثمّ ثنّاها بالنّعمة الدّينيّة التي هي أهمّ من النّعم الدّنيويّة بقوله: وَ واعَدْناكُمْ و دعوناكم بوساطة نبيّكم موسى عليه السّلام أن تأتوا جانِبَ اَلطُّورِ يعني جانبه اَلْأَيْمَنَ من السالك من مصر إلى الشام على ما قيل (6).

و إنّما أضاف الدّعوة إلى جميعهم مع كون المدعوّ خصوص موسى، أو هو مع السبعين المختارة، لكونهم منهم، و نفعها من المناجاة و أخذ التوراة عائدا إلى جميعهم.

ثمّ ثلّثهما بذكر النعمة العظيمة الدنيوية بقوله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى و قد مرّ تفسيرهما

ص: 237


1- . غافر:40/29.
2- . تفسير الرازي 22:94.
3- . تفسير الرازي 22:94.
4- . تفسير الرازي 22:94.
5- . الرّمكة: الفرس البرذونة تتّخذ للنسل.
6- . تفسير الرازي 22:96.

و تفصيل نزولهما في سورة البقرة،

و قلنا لكم بلسان الرّسول أو بدلالة الفعل: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و لذائذ ما أنعمنا عليكم من الطعام، أو من حلاله وَ لا تَطْغَوْا و لا تجاوزوا الحدّ فِيهِ بالسّرف و البطر، و المنع من المستحقّ، و الإدّخار منه لأكثر ممّا يحتاج إليه في اليوم و اللّيلة، و الإخلال بالشّكر فَيَحِلَّ عند تلك الامور عَلَيْكُمْ غَضَبِي و يلزمكم عقابي، و يجب لكم انتقامي.

ثمّ بالغ في تهديدهم ببيان شدّة غضبه و عظمة انتقامه بقوله: وَ مَنْ يَحْلِلْ و ينزل عَلَيْهِ غَضَبِي و عذابي فَقَدْ هَوى و هلك إلى الأبد، أو هوى في جهنّم و سقط فيها.

عن الباقر عليه السّلام سئل ما ذلك الغضب؟ فقال: «هو العقاب» (1).

سوره 20 (طه): آیه شماره 82

ثمّ بشّر سبحانه العصاة بقبول توبتهم بقوله: وَ إِنِّي و اللّه لَغَفّارٌ و ستار للذّنوب لِمَنْ تابَ و رجع عن الشّرك و الكفر، و ندم على العصيان الذي منه الطّغيان في ما رزق وَ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَ عَمِلَ صالِحاً و عملا مستقيما عند العقل و الشّرع ثُمَّ اِهْتَدى و ثبت على الحقّ في العقائد و الأعمال إلى الخروج من الدّنيا، كما قيل عن ابن عبّاس: ثُمَّ اِهْتَدى أي علم أنّ ذلك بهداية اللّه و توفيقه، و بقي مستعينا باللّه في إدامة ذلك من غير تقصير (2).

وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى (82)و قيل: هذه الخطابات لبني إسرائيل الّذين كانوا في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على معنى أنّه تعالى قد منّ عليهم بما فعل بآبائهم أصالة و بهم تبعا، فإنّه لو لا تلك النّعم على آبائهم لم يبق منهم نسل و لم يوجد من كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قال المولى أبو السعود: و يردّه ما سيأتي من قوله تعالى: وَ ما أَعْجَلَكَ الآية ضرورة استحالة حمله على الإنشاء (3). و فيه: أنّه يمكن أن يكون قوله تعالى: وَ ما أَعْجَلَكَ رجوعا إلى القصّة بعد موعظة أهل عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «ألا ترى كيف اشترط و لم تنفعه التوبة و الإيمان و العمل الصالح حتى (4)اهتدى، و اللّه لو جهد أن يعمل [بعمل]ما قبل منه حتى يهتدي» . قيل: إلى من جعلني اللّه فداك؟ قال: «إلينا» (5).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في حديث لعلي عليه السّلام: «و لقد ضلّ من ضلّ عنك، و لن يهتديّ إلى اللّه من لم

ص: 238


1- . التوحيد:168/1، تفسير الصافي 3:314.
2- . تفسير الرازي 22:97.
3- . تفسير أبي السعود 6:32.
4- . في النسخة: الصالح و قال ثم.
5- . تفسير القمي 2:61، تفسير الصافي 3:314.

يهتد إليك و إلى ولايتك، و هو قول ربّي عزّ و جلّ: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ الآية، يعني: إلى ولايتك» (1).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ثمّ اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت، فو اللّه لو أنّ رجلا عبد اللّه عمره ما بين الرّكن و المقام، ثمّ مات و لم يجئ بولايتنا، لأكبّه اللّه في النار على وجهه» (2).

و عنه عليه السّلام قال و هو مستقبل البيت: «إنّما أمر النّاس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثمّ يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، و هو قول اللّه تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى ثمّ أومأ إلى صدره و قال: «إلى ولايتنا» (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لهذه الآية تفسير يدلّ ذلك التفسير، على أنّ اللّه لا يقبل من أحد عملا إلاّ ممّن لقاه بالوفاء منه بذلك التفسير، و ما اشترط فيه على المؤمنين» (4).

و عنه عليه السّلام قال: «إنّكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا، و لا تعرفون حتى تصدّقوا، و لا تصدّقون حتى تسلّموا أبوابا أربعة لا يصلح أوّلها إلاّ بآخرها، ضلّ أصحاب الثّلاثة و تاهو تيها عظيما (5)، إنّ اللّه لا يقبل إلاّ العمل الصّالح، و لا يقبل اللّه إلاّ الوفاء بالشّروط و العهود، فمن وفى للّه تعالى بشرطه، و استعمل ما وصف في عهده، نال ما عنده، و استكمل وعده، إنّ اللّه تعالى أخبر العباد بطرق الهدى، و شرع لهم فيها المنار، و أخبرهم كيف يسلكون، فقال: إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى و قال: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (6)فمن اتّقى اللّه في ما أمره، لقي [اللّه]مؤمنا بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله. هيهات هيهات فات قوم و ماتوا قبل أن يهتدوا، و ظنّوا أنّهم آمنوا و أشركوا من حيث لا يعلمون» (7).

سوره 20 (طه): آیه شماره 83 الی 85

ثمّ روي أنّ بني إسرائيل سألوا موسى عليه السّلام أن يأتيهم بشريعة و أحكام يعملون بها، فناجى موسى عليه السّلام ربّه في ذلك، فأوحى إليه: أن ائت الطّور مع أشراف بني إسرائيل حتى أعطيك كتابا فيه جميع أحكام شريعتك، فجاء موسى عليه السّلام إلى قومه و اختار منهم سبعين رجلا من أشرافهم و خيارهم،

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسّامِرِيُّ (85)

ص: 239


1- . أمالي الصدوق:583/803، تفسير الصافي 3:314.
2- . مجمع البيان 7:39، تفسير الصافي 3:314.
3- . الكافي 1:323/3، تفسير الصافي 3:315.
4- . تفسير العياشي 1:377/904، تفسير الصافي 3:315.
5- . في الكافي: بعيدا.
6- . المائدة:5/27.
7- . الكافي 1:139/6 و 2:39/3، تفسير الصافي 3:315.

و خلّف أخيه هارون فيهم، فلمّا ذهب بمن معه و قرب من الطّور، أسرع في المشي، و سبقهم في الصّعود على الطّور شوقا إلى كلام ربّه، و أمرهم أن يتّبعوه، فخاطبه اللّه بقوله: وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ و دعاك إلى الإسراع إلى الصّعود على الطّور، و أن تخلّف النّقباء الّذين امرت أن تكون معهم يا مُوسى (1).

و قيل: إنّ المراد بقومه جملة بني إسرائيل الذين خلّف هارون فيهم (2)، فلمّا رأى موسى عليه السّلام إنكاره تعالى عليه تقدّمه على قومه و حضوره منفردا في الميقات، مع كونه مأمورا باستصحابهم و إحضارهم معه، و كون تعجيله منافيا للحزم اللائق باولي العزم، أخذته الهيبة،

فأخذ بالاعتذار و قالَ: ربّ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي و من ورائي، و إنّما سبقتهم بخطى يسيرة لا تخلّ بالمعيّة التي أمرتني بها وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ و سبقتهم يسيرا إلى الصعود على الطّور رَبِّ لِتَرْضى بمسارعتي إلى امتثال أمرك، و اهتمامي بالوفاء بوعدك، و اشتياقي إلى استماع كلامك.

عن الصادق عليه السّلام قال: «المشتاق لا يشتهي طعاما، و لا يلتذّ بشراب، و لا يستطيب رقادا، و لا يأنس حميما، و لا يأوي دارا، و لا يسكن عمرانا، و لا يلبس لباسا، و لا يقرّ قرارا، و يعبد اللّه ليلا و نهارا، راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه، و يناجيه بلسان شوقه، معبّرا عمّا في سريرته، كما أخبر اللّه عن موسى بن عمران عليه السّلام في ميعاد ربّه بقوله: وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى و فسّر النبي صلّى اللّه عليه و آله عن حاله أنّه ما أكل و لا شرب و لا نام و لا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه و مجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربّه» (3).

و إنّما ذكر اللّه بصفة الربوبيّة، لزيادة التضرّع و الابتهال رغبة في قبول عذره.

ثمّ أخبره اللّه بافتتان قومه بعد خروجه من بينهم، لتعجيلهم و عدم صبرهم لرجوع موسى عليه السّلام حيث قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا و ابتلينا قَوْمَكَ بني إسرائيل مع إخلافك هارون فيهم مِنْ بَعْدِكَ و زمان غيابك عنهم بعبادة العجل.

روى أنّهم أقاموا على ما وصّى به موسى عليه السّلام عشرين ليلة بعد ذهابه، فحسبوها مع أيّامها أربعين، و قالوا: قد أكملنا العدّة و ليس من موسى عليه السّلام عين و لا أثر (4)، وَ أَضَلَّهُمُ عند ذلك اَلسّامِرِيُّ بتدبيره و حيلته.

روي أنّ السّامري كان من بني إسرائيل، و تولّد في زمان كان فرعون يقتل أبناءهم، فألقته أمّه في جزيرة في النّيل، فأمر اللّه جبرئيل أن يربّيه و يحفظه، و يأتي بمأكوله و مشروبه، ثمّ جاء في قومه، و كان

ص: 240


1- . تفسير روح البيان 5:412.
2- . تفسير الرازي 22:99.
3- . مصباح الشريعة:196، تفسير الصافي 3:316.
4- . تفسير الرازي 22:101، تفسير روح البيان 5:414.

صائغا، فلمّا ذهب موسى عليه السّلام إلى الطّور جاء إلى هارون و قال: إنّ عند بني إسرائيل من زينة القبط حيث استعاروها منهم و لم يردّوها و يتصرّفون فيها، و هو حرام عليهم، فأمرهم أن يأتوا بها و أحرقها، فأمر هارون بني إسرائيل بأن يأتوا بما عندهم من زينة القبط، فأتوا بها، فحفر هارون حفرة فألقاها فيها، فأوقد عليها النّار، فلمّا رأى السامريّ أنّها ذابت، أتى بقالب فصبّ فيه ذلك الذّهب المذاب، فأخرج منه صورة عجل، ثمّ ذرّ فيه من تراب أخذه من تحت حافر رمكة جبرئيل، فحيي العجل و خار، ثمّ قال لبني إسرائيل: هذا إلهكم و إله موسى (1).

و عن ابن عباس: كان السامريّ علجا من أهل كرمان وقع إلى مصر، و كان من قوم يعبدون البقر (2).

و في رواية اخرى عنه: أنّه كان رجلا من القبط جارا لموسى عليه السّلام ثمّ آمن به (3). و الأكثرون على أنّه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة (4).

سوره 20 (طه): آیه شماره 86 الی 87

قيل: إنّ اللّه أخبر موسى عليه السّلام عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة [الكائنة]

على عادته (5)فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد استيفائه الأربعين و أخذه التوراة حال كونه غَضْبانَ عليهم أَسِفاً شديد الحزن على عصيانهم.

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى اَلسّامِرِيُّ (87)قيل: رآهم مجتمعين على العجل يضربون الدّفوف و يرقصون حوله فعاتبهم (6)و قالَ توبيخا: يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً و صدقا نافعا بأن يعطيكم التوراة التي فيها هدى و نور، و لا وعد أحسن من ذلك.

و قيل: إنّه الوعد بالثواب على الطاعة (7).

و قيل: إنّه العهد على أن لا يطغوا فيما رزقهم (8).

أَ فَطالَ قيل: أن أوعدكم فطال عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ و زمان الإنجاز فأخطأتم بسببه؟ (9)أو العهد بنعم

ص: 241


1- . تفسير روح البيان 5:414.
2- . تفسير الرازي 22:101.
3- . تفسير الرازي 22:101.
4- . تفسير الرازي 22:101.
5- . تفسير الرازي 22:101.
6- . تفسير روح البيان 5:415.
7- . تفسير الرازي 22:102.
8- . تفسير الرازي 22:102.
9- . تفسير أبي السعود 6:35، تفسير روح البيان 5:415.

اللّه من الإنجاء من فرعون و الغرق و غيرهما، و طوله كناية عن نسيانه أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ و ينزل، أو يجب عَلَيْكُمْ غَضَبٌ شديد و عذاب عظيم مِنْ رَبِّكُمْ و مالك أمركم اللّطيف بكم؟ فَأَخْلَفْتُمْ لذلك مَوْعِدِي و عهدي عليكم بالثّبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من ميقات ربّي.

قال العلماء: إنّ الغضب من صفات أفعاله تعالى، لا من صفات ذاته؛ لأنّ صفات الذات لا تحلل و لا تنزل في الأجسام (1).

عن الباقر عليه السّلام، قال في تفسير الغضب: «من زعم أنّ اللّه عزّ و جلّ زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، إنّ اللّه عزّ و جلّ لا يستفزّه شيء و لا يغيّره شيء» (2).

ثمّ أنّ الّذين عبدوا العجل من بني إسرائيل اعتذروا إلى موسى عليه السّلام من فعلهم الشنيع و قالُوا: يا موسى ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ و ما نقضنا عهدك علينا بالثبات على ما أمرتنا به بِمَلْكِنا و اختيارنا و ميل قلوبنا وَ لكِنّا غلبنا من كيد السامرىّ إذ حُمِّلْنا أَوْزاراً و أحمالا ثقيلة مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ و حليّ القبط التي استعرناها منهم بأن جعلها في عهدتنا إلى أن نؤدّيها إلى حيث تأمرنا، أو بأن ألزمنا فيه حكم الغنيمة فَقَذَفْناها و طرحناها في الحفيرة و في النار تخلّصا من ذنبها فَكَذلِكَ القذف و الإلقاء أَلْقَى اَلسّامِرِيُّ ما معه من الحليّ فيها.

سوره 20 (طه): آیه شماره 88 الی 90

ثمّ حكى سبحانه فتنة السّامري لزيادة تقريرها و ترتيب الإنكار و التوبيخ عليها بقوله: فَأَخْرَجَ السّامريّ من ذلك الحليّ الّذي جمعه بنو إسرائيل لَهُمْ عِجْلاً و ولد بقرة، و كان جَسَداً ذا دم و لحم و عظم، أو جسدا من ذهب لَهُ خُوارٌ و صوت عجل.

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90)عن ابن عبّاس: أنّ هارون مرّ بالسّامريّ و هو يصنع العجل فقال له: ما تصنع؟ قال: أصنع ما ينفع و لا يضرّ فادع لي، فقال: اللّهمّ أعطه ما سأل. فلمّا مضى هارون قال السامريّ: اللّهمّ إنّي أسألك أن يخور، فخار (3). فسجد له السامريّ و المفتتنون به فَقالُوا لغاية بلادتهم، أو اعتقادهم حلول اللّه فيه لغاية

ص: 242


1- . تفسير الرازي 22:102.
2- . التوحيد:168/1، تفسير الصافي 3:314.
3- . تفسير الرازي 22:104.

حمقهم: هذا العجل إِلهُكُمْ يا بني إسرائيل وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ موسى عليه السّلام أنّ هذا إلهه فذهب يطلبه في الطّور. و قيل: إنّه ردّ على السامريّ، و أنّ الإله لا يحلّ في شيء و لا يحلّ فيه شيء.

ثمّ استدلّ سبحانه على بطلان دعوى المفتتنين به بقوله: أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ هذا العجل إِلَيْهِمْ قَوْلاً و لا يردّ عليهم جوابا إذا سألوه وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إذا طلبوا منه دفع ضرر أو جلب نفع، و من المعلوم أنّ من لا يمكنه التكلّم و لا يقدر على الضرّ و النفع، لا يمكن أن يكون إلها.

ثمّ حكى سبحانه نصح هارون لهم في بدو ضلالتهم و عبادتهم العجل توضيحا لعتوّهم و حمقهم بقوله: وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ نصحا و شفقة عليهم، و تنبيها لهم على خطئهم مِنْ قَبْلُ و في بدو إقامتهم على عبادة العجل، أو قبل رجوع موسى عليه السّلام إليهم، أو قبل قول السامريّ: هذا إلهكم.

قيل: إنّه عليه السّلام لمّا رأى العجل خطر في قلبه افتتان القوم به، فبادر في تحذيرهم (1)عن عبادته، و قال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ و أضللتم، أو امتحنتم من قبل اللّه بِهِ و بسببه وَ إِنَّ رَبَّكُمُ و الإله المنعم عليكم هو اَلرَّحْمنُ برحمته الواسعة لا العجل الّذي لا يضرّ و لا ينفع، فإذا كان الأمر كذلك فَاتَّبِعُونِي في الثّبات على التّوحيد و دين الحقّ وَ أَطِيعُوا أَمْرِي هذا و اتركوا عبادة من عرفتم شأنه.

نقل كلام للفخر

الرازي وردّه

قال الفخر الرازي: و اعلم أنّ هارون سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه، لأنّه زجرهم عن الباطل أوّلا بقوله: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، ثمّ دعاهم إلى معرفة اللّه ثانيا بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمنُ ثمّ دعاهم إلى معرفة النبيّ ثالثا بقوله: فَاتَّبِعُونِي ثمّ دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وَ أَطِيعُوا أَمْرِي.

أقول: لا يخفى ما في كلامه من الوهن. ثمّ قال: هاهنا دقيقة، و هي أنّ الرّافضة تمسّكوا بقوله صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» .

ثمّ أنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر، و صرّح بالحقّ، و دعا النّاس إلى متابعة نفسه و المنع من متابعة غيره، فلو كانت أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الخطأ، لكان يجب على علي أن يفعل ما فعله هارون، و أن يصعد المنبر من غير تقية و لا خوف، و أن يقول: فاتّبعوني و أطيعوا أمري، فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّ الامّة كانوا على الصّواب (2)، انتهى كلامه السخيف بطوله.

و فيه من الفساد ما لا يخفى، فإنّ بين النبيّ المؤسّس للشّرع و الإمام الحافظ له المجري لقوانينه

ص: 243


1- . تفسير البيضاوي 2:56، تفسير أبي السعود 6:37.
2- . تفسير الرازي 22:106.

فرق واضح لا يخفى على ذي مسكة (1)، فإنّ النبيّ المؤسس لا يجوز له التقيّة، لأنّ تقيّته موجبة لاختلال الغرض من بعثته، و لذا يجب على اللّه حفظه حتى يتمّ رسالته و تبليغه و لو بالأسباب الخارقة للعادة، كما حفظ نوح من القتل مع تفرّده و عداوة أهل الأرض له، و إبراهيم من نار نمرود و جعلها له بردا و سلاما، و حفظه نبيّنا من شرّ الكفّار مع انفراده في أوّل الدعوة، لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل، فأمره اللّه بالتّبليغ بقوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ (2)و آمنه بقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّهُ (3)و إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا (4)و وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ (5)فكان ينادي بين الأشرار مع غاية تعصّبهم و لجاجهم و عنادهم بقوله: «قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا» و لم يقدروا على قتله، و نصره اللّه بالرّعب و بجنود من الملائكة، و الرّيح، و بمن اتّبعه من المؤمنين.

و أمّا الإمام فوظيفته وظيفة العلماء، و هي حفظ الدين، و تعليم الأحكام الواقعيّة عن علم لا خطأ فيه، و إجراء السياسات الشرعيّة، و تربية النفوس القابلة، و رفع الاختلاف بين الناس، و كونه مرجعا في جميع المنازعات بعد إتمام الحجّة على النّاس بتبليغ الدين، و نصبه على رؤوس الأشهاد، بحيث لا يبقى لأحد عذر في عدم معرفته، كما نصب موسى هارون عليهما السّلام، و نبيّنا عليّا عليه السّلام يوم الغدير، فمن حيث إنّ هارون كان شريكا لموسى عليه السّلام في الرسالة لم يجز له التقيّة، و من حيث أنّه كان خليفته في غيبته جاز له التقيّة، و لذا أعلن بالحقّ، و لكن لم يشدّد على بني إسرائيل كما شدّد موسى عليه السّلام عليهم بعد رجوعه من الميقات، و اعتذر إلى موسى عليه السّلام من تركه التشدّد و عمله بالتقيّة بقوله: إِنَّ اَلْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فظهر أنّ هارون اتّقى من قومه حيث لم يقاتلهم على عباده العجل، و لم يخرج من بينهم، مع أنّه كان أنصاره اثني عشر ألفا، كما أنّ عليّا عليه السّلام أظهر خلافته عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في محافل كثيرة، و احتجّ على إمامته بالحجج القاطعة، مع أنّه لم يكن له ناصر إلاّ ثلاثة أو خمسة أو سبعة (6)، و لذا لم يقاتلهم على عبادتهم عجل هذه الامّة، و لو كان معه أربعون لقاتلهم و ردّهم عن ضلالتهم (7).

و أمّا قوله: إنّ هارون صعد على المنبر و أظهر الحقّ، فهو تخرّص بالغيب، لعدم دلالة آية أو رواية على صعوده على المنبر، مع أنّ عجل بني إسرائيل لم يشغل المنبر، و لذا تمكّن هارون من الصعود عليه، و أمّا عجل هذه الامّة فإنّه كان جالسا على منبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و شاغلا له، و لذا لم يتمكّن

ص: 244


1- . المسكة: العقل الوافر و الرأي.
2- . الحجر:15/94.
3- . البقرة:2/137.
4- . غافر:40/51.
5- . المائدة:5/67.
6- . راجع: تفسير العياشي 1:341/787 و 788، الكافي 8:245/241، رجال الكشي:6/12 و:8/17 و:11/24.
7- . الاحتجاج:191، كتاب سليم بن قيس:93.

عليّ عليه السّلام من الصّعود عليه.

و الحاصل أنّه كما أظهر هارون الحقّ مرّة مع إشراك أغلب بني إسرائيل بالشّرك الجليّ، أظهر عليّ عليه السّلام حقّه في المحافل الكثيرة، و أعلن بافتتان الامّة مرّات عديدة إلى أن استشهد كما تشهد بذلك احتجاجاته المرويّة بالتّضافر (1)، و خطبته الشّقشقية التي أذعن ابن أبي الحديد بصحتها (2)، مع إشراك هذه الامّة بالشّرك الخفيّ.

و كما لم يقاتل هارون قومه مع كثرة أنصاره، بل اكتفى بالنّصح و الموعظة، كذلك لم يقاتل عليّ عليه السّلام أهل المدينة لقلّة أنصاره، بل لكون الرّوم مع كمال قوّته و عظمته بصدد إذهاب الإسلام بعد غزوة مؤتة و تبوك.

و لذا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله في مرض موته مصرّا على بعث اسامة و جيشه إلى تبوك خوفا من تهاجم عسكر الرّوم على أرض المسلمين إن بلغهم خبر موته صلّى اللّه عليه و آله، فلو وقعت المقاتلة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله بين المسلمين ما كان يبقى من الإسلام أثر على وجه الأرض، و لذا اعتذر أمير المؤمنين عليه السّلام إلى فاطمة عليها السّلام حين شكت إليه غصب فدك من عدم معارضة الغاصبين و مقاتلتهم بأنّه لو قاتلهم لم يبق اسم الرّسول في وجه الأرض (3).

و قال في الخطبة الشّقشقيّة: «فطفقت (4)أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصّغير، و يهرم فيها الكبير، و يكدح فيها مؤمن، حتى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصّبر [على هاتا]أحجى، فصبرت و في العين قذى، و في الحلق شجى» (5).

و ممّا يدلّ على إظهار عليّ عليه السّلام حقّه، و مخالفته للأوّلين، و لجمع من الامّة في الخلافة، ما رواه هذا

ص: 245


1- . احتج عليه السّلام على أبي بكر في أمر البيعة في مناسبات عدة، كما ناشد أهل الشورى و اجتج عليهم بجملة فضائله و بين حقه في الخلافة، راجع: بحار الأنوار 29:3-67 و 77-79، ترجمة الامام عليّ عليه السّلام من تاريخ دمشق 3:113، المناقب للخوارزمي:221-224، مناقب ابن المغازلي:112، الاستيعاب 3:35. و في خلافته عليه السّلام جمع الناس في رحبة الكوفة و استشهدهم على حديث الغدير الذي هو نص على خلافته، فشهد أثنا عشر بدريا، راجع مسند أحمد 1:88،118/119، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2:585/991 و 992 و:682/1167، اسد الغابة 2:233 و 3:93 و 4:28، خصائص النسائي:22-25، الاصابة 4:182/5189(ترجمة عبد الرحمن بن مدلج) ، مجمع الزوائد 9:104- 105.
2- . نقل ابن أبي الحديد شيخة أبى الخير الواسطي أنه قرأ الخطبة الشقشقية على ابن الخشاب، و ذكر ابن الخشاب أنها من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و أنه وقف عليها في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة و أنها كتبت بخطوط لعلماء كانوا قبل أن يخلق النقيب والد الرضي، راجع شرح ابن أبي الحديد 1:205، مصادر نهج البلاغة- عبد الزهراء الخطيب 1:315.
3- . راجع: شرح ابن أبي الحديد 20:326/735.
4- . في النسخة: فجعلت.
5- . نهج البلاغة:48 الخطبة 3.

الناصب في تفسيره قبل هذه الآية قال: قال بعض اليهود لعلي عليه السّلام: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم، فقال عليه السّلام: «إنّما اختلفنا عنه، و ما اختلفنا فيه، و أنتم ما جفّت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيّكم: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (1).

فإنّ معنى اختلفنا عنه الاختلاف في الرواية عنه، و لم تكن الرواية المختلف فيها في ذلك الوقت إلاّ الرواية الناصّة على الخلافة، و لم يكن أحد يدّعى النصّ على خلافته إلاّ عليّ عليه السّلام و الخلّصون من المؤمنين، و لم يخالفهم في ذلك إلاّ سامريّ هذه الامّة و المفتتنون بالعجل.

سوره 20 (طه): آیه شماره 91 الی 94

ثمّ بيّن سبحانه عتوّ بني إسرائيل و عدم قبولهم النّصح بقوله: قالُوا في جواب هارون بعد إبلاغه في نصحهم تعلّلا و تسويفا لترك عبادة العجل: لَنْ نَبْرَحَ على القول بالوهيّة العجل، و لا نزال أبدا عَلَيْهِ عاكِفِينَ و مقيمين و بعبادته ملتزمين حَتّى يَرْجِعَ من الطّور إِلَيْنا مُوسى فإذا رجع نطيع أمره، فإن أمرنا بعبادته و وافقنا عليها نستمرّ عليها، و لا نقبل قولك، و إن نهانا عنها نتركها.

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)روي أنّهم لمّا قالوه اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الّذين لم يعبدوا العجل، فلمّا رجع موسى سمع الصيّاح و كانوا يرقصون حول العجل، فقال عليه السّلام للسّبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلمّا جاءهم قال لهم ما قال، و سمع منهم ما سمع (2).

ثمّ توجّه إلى هارون مغضبا و قالَ له مغتاظا: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ و أيّ عذر لك إِذْ رَأَيْتَهُمْ أنّهم ضَلُّوا و انحرفوا عن طريق التوحيد إلى الشرك،

و عن طاعتك إلى مكابرتك و عصيانك أَلاّ تَتَّبِعَنِ في الغضب للّه عليهم، و في قتالهم على إشراكهم؟ !

و قيل «لا» مزيدة، و المعنى ما منعك من أن تتّبعني في ما ذكر، أو من أن تلحقني و تخبرني بما صنع القوم، و تترك المقام بين أظهرهم، كما عن ابن عبّاس (3).

و قيل: يعني ما منعك من أن تتّبعني في وصيّتي إذ قلت لك: اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ

ص: 246


1- . تفسير الرازي 22:105، و الآية من سورة الأعراف:7/138.
2- . تفسير روح البيان 5:418.
3- . تفسير الرازي 22:108.

سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ (1) فلم تركت قتالهم و تأديبهم (2)، ثمّ وبّخه بقوله: أَ فَعَصَيْتَ و خالفت أَمْرِي إيّاك بالصّلابة في الدّين و المحاماة عليه.

روي أنّه عليه السّلام أخذ بشعر رأسة بيمينه و لحيته بشماله من شدّة غيظه [و غضبه]للّه، و كان عليه السّلام حديدا متصلّبا في كلّ شيء، ففعل ما فعل بمرأى من قومه حين رآهم يعبدون العجل (3)،

فلمّا رأى هارون غضبه عليه قالَ ترقيقا لقلبه: يَا بْنَ أُمَّ ارفق بي وراع حقّ امّك فيّ، و لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي و شعره إِنِّي خَشِيتُ إن قاتلت بعضهم ببعض و تفرّقوا من أَنْ تَقُولَ لي حين رجوعك أنت فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ.

و قيل: يعني أنّي خشيت إن فارقتهم و اتّبعتك من أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضا، فتقول لي: أنت أوقعت الفرقة في ما بينهم وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي و لم تحفظ بحسن الخلافة عليهم (4).

قيل: لعلّ موسى عليه السّلام [إنّما]أمره بالذّهاب إليه إذا لم يؤدّ ذهابه إلى فساد القوم، فقال: إنّما أمرتني باتّباعك إذا لم يحصل الفساد، فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقبا لقولك (3).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل لم أخذ موسى عليه السّلام برأس هارون يجرّه إليه و بلحيته، و لم يكن له في اتّخاذهم العجل و عبادتهم له ذنب؟ فقال: «إنّما فعل ذلك لأنّه لم يفارقهم لمّا فعلوا ذلك، و لم يلحق بموسى عليه السّلام، و كان إذا فارقهم ينزل عليهم العذاب، ألا ترى أنّه قال لهارون: ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي؟ قال هارون: لو فعلت ذلك لتفرّقوا» (4).

ثمّ اعلم أنّ منكري عصمة الأنبياء استدلّوا بهاتين الآيتين بوجوه عديدة على مذهبهم الفاسد، و أجاب القائلون بعصمتهم عنه بوجوه منها: أنّ بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظنّ بموسى عليه السّلام، حتى أنّ هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى: أنت قتلته؟ فلمّا رجع موسى عليه السّلام من الميقات، و رأى في قومه ما رأى، أخذ برأس أخيه ليدنيه و يتفحّص من كيفيّة الواقعة، فخاف هارون من أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له، فقال إشفاقا على موسى عليه السّلام: لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي لئلاّ يظنّ بك القوم ما لا يليق بك، و الحقّ أنّ موسى عليه السّلام أظهر الغضب على أخيه مع علمه بأنّه لم يفعل إلاّ ما هو تكليفه و صلاح دينه، إظهارا لشدّة غضبه من عمل قومه، و إعظاما له، و إعلانا بغاية قبحه و شناعته.

سوره 20 (طه): آیه شماره 95 الی 97

قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ اُنْظُرْ إِلى إِلهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً (97)

ص: 247


1- . الأعراف:7/142.
2- . تفسير الرازي 22:108. (3 و 4) . تفسير روح البيان 5:419.
3- . تفسير الرازي 22:109.
4- . علل الشرائع:68/1، تفسير الصافي 3:317.

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد قبول عذر هارون توجّه إلى السامري، و كان حاضرا، أو بعد إحضاره قالَ له: فَما خَطْبُكَ و ما شأنك، و أيّ شيء غرضك ممّا فعلت، أو ما الذي حملك عليه يا سامِرِيُّ؟

و كان غرضه من السؤال إثبات بطلان عمله و كيده باعترافه، قالَ السّامري لموسى عليه السّلام: بَصُرْتُ و أنا في القوم بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ و رأيت ما لم يروه، و هو أنّه رأى جبرئيل راكبا على فرس، و كان كلّما وضع فرسه يديه أو رجليه على الأرض اليابسة يخرج من تحته النبات في الحال فقال: فَقَبَضْتُ و أخذت قَبْضَةً و كفّا مِنْ تربة أَثَرِ فرس اَلرَّسُولِ و موضع حافره فَنَبَذْتُها و ألقيتها في فم العجل الذي صنعته من الحليّ، فكان ما كان وَ كَذلِكَ التّسويل من القبض و النبذ سَوَّلَتْ لِي أو مثل ذلك التّزيين زيّنت لي نَفْسِي في نظري، ففعلت ما فعلت بهواي، لا بحكم العقل،

و لا بأمر اللّه قالَ موسى عليه السّلام: إذن فَاذْهَبْ و اخرج من بين النّاس فَإِنَّ لَكَ فِي مدّة اَلْحَياةِ و زمان العمر أَنْ تَقُولَ للنّاس لا مِساسَ لأحد بي.

روي أنّه كان إذا ماسّ أحدا ذكرا كان أو انثى حمّ الماسّ و الممسوس جميعا حمى شديدة، فتحامى النّاس و تحاموه، و كان يصيح بأعلى صوته لا مساس، و حرّم عليهم ملاقاته و مكالمته و مواجهته، فصار وحيدا طريدا، يهيم في البريّة مع الوحش و السباع (1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ موسى عليه السّلام همّ بقتل السّامري، فأوحى اللّه إليه: لا تقتله فإنّه سخيّ» (2).

ثمّ أوعده موسى عليه السّلام بالعذاب في الآخرة بقوله: وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً و وعدا بالعذاب الشّديد في الآخرة على الضّلال و الإضلال لَنْ تُخْلَفَهُ من قبل اللّه، ينجز البتّة بعد عقوبتك في الدنيا وَ اُنْظُرْ إِلى إِلهِكَ و معبودك اَلَّذِي صنعته بيدك و ظَلْتَ و بقيت، أو صرت عَلَيْهِ عاكِفاً و على عبادته مقيما، و اللّه لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنّار بناء على كون العجل ذا لحم و عظم، أو لنبردنّه بالمبرد بناء على كونه ذهبا ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ و لنذرّينّه فِي اَلْيَمِّ و البحر رمادا و مبرودا (3)نَسْفاً و ذرّا [بحيث]لا يبقى منه عين و لا أثر، حتى يعلم أنّ ما يحرق و يعدم آثاره لا يكون قابلا للعبادة.

ص: 248


1- . تفسير روح البيان 5:422.
2- . مجمع البيان 7:47، تفسير الصافي 3:318.
3- . في النسخة: مبردا، و ما أثبتناه من روح البيان 5:422.

سوره 20 (طه): آیه شماره 98 الی 101

ثمّ عرّفهم إلههم بقوله: إِنَّما إِلهُكُمُ المستحقّ للعبادة و التّعظيم اَللّهُ اَلَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ بدليل أنّه وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً و أحاط بكلّ شيء خبرا، يعلم عابده و عبادته، و مطيعه و مقدار استحقاقه من الثّواب، و عاصيه و مقدار استحقاقه من العقاب.

إِنَّما إِلهُكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ حِمْلاً (101)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قصّة موسى عليه السّلام و فرعون و هارون و السامري، بيّن عظمة شأن النبيّ و كتابه و أنّ جميعه بوحي اللّه بقوله: كَذلِكَ الحديث الذي قصصناه، أو كذلك القصّ البديع نَقُصُّ و نتلو عَلَيْكَ يا محمّد بالوحي و بتوسّط جبرئيل بعضا مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ و الحوادث الواقعة على الامم السالفة وَ قَدْ آتَيْناكَ و أنزلنا إليك مِنْ لَدُنّا كتابا عظيم الشأن يكون ذِكْراً للعالمين و رشادا إلى مهامّ الدنيا و الدين، و تذكرة لنعم اللّه، و موعظة للمتّقين، أو يكون سببا لبقاء ذكرك إلى يوم الدين.

ثمّ هدّد سبحانه المعرضين عنه بقوله: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ و لم يؤمن به، و لم يهتد بهداه، و لم يتّعظ بمواعظه، و لم يعمل بأحكامه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وِزْراً و عقابا ثقيلا حال كون المعرضين

خالِدِينَ في العقاب و ماكثين فِيهِ أبدا وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ حِمْلاً وزرهم، و قيل: يعني ما أسوء هذا الوزر محمولا (1)! قيل: إعادة ذكر يوم القيامة لزيادة التقرير و التهويل (2).

سوره 20 (طه): آیه شماره 102 الی 104

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال القيامة بقوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ قيل: إنّ التقدير أذكر يا محمّد لقومك يوم ينفخ إسرافيل في الصّور (3)وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة المتوغّلين في العصيان يَوْمَئِذٍ من قبورهم زُرْقاً و عميا.

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً (104)و قيل: إنّ الزرقة أسوء ألوان العين و أبغضها عند العرب (4). و روي أنّ الزرقة و سواد الوجه سيماء

ص: 249


1- . تفسير الرازي 22:114.
2- . تفسير أبي السعود 6:41، تفسير روح البيان 5:424.
3- . تفسير روح البيان 5:425.
4- . تفسير الصافي 3:319، تفسير روح البيان 5:425.

أهل النار (1).

و قيل: إنّهم يخرجون من قبورهم بصراء زرقا أوّل مرّة، و يعمون في المحشر (2).

و قيل: إنّه يتغيّر سواد أعينهم من شدّة العطش حتى تزرقّ (3).

و قيل: إنّ الزّرق يعني الطامعين في ما لا ينالونه (2).

و القمي، قال: تكون أعينهم مزرقّة لا يقدرون أن يطرفوها (3).

يَتَخافَتُونَ و يتسارّون بالقول فيما بَيْنَهُمْ من شدّة الرّعب و الهول، أو من غاية الضّعف بحيث لا يمكنهم الإجهار في الصّوت، و يقول بعضهم لبعض في إسراره: إِنْ لَبِثْتُمْ و ما مكثتم في الدنيا، أو في القبر إِلاّ عَشْراً من الأيّام، أو الساعات استقصارا لمدّة لبثهم فيها، و تحسّرا على إضاعتها، مع إمكان تحصيل الرّاحة الأبديّة فيها.

و قيل: يريدون ما بين النّفختين، و هو أربعون سنة يرفع العذاب عن الكفّار في تلك المدّة، و يستقصرون تلك المدّة إذا عاينوا أهوال القيامة، كما عن ابن عباس (4).

و قيل: إنّهم لمّا علموا بعمر الآخرة، استقصروا عمرهم في الدنيا بالنسبة إليه (5).

و قيل: إنّهم لمّا رأوا انقضاء عمر الدنيا و إتيان عمر الآخرة، استقصروا عمر الدنيا، لأنّ الذاهب قليل بالنسبة إلى الآتي و إن قصرت مدّته (6).

ثمّ حكى سبحانه مبالغتهم في الاستقصار بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ فيما بينهم إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ و أفضلهم طَرِيقَةً و أكملهم عقلا. القمي: أعلمهم و أصلحهم (7): (إنّ لبثتم) و ما مكثتم في الدنيا إِلاّ يَوْماً.

سوره 20 (طه): آیه شماره 105 الی 107

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف القيامة و ذكر بعض أهوالها، حكى سؤال بعض منكري الحشر بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ حال اَلْجِبالِ في الحشر، قيل: نزلت في مشركي مكّة حين قالوا استهزاء: يا

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (107)

ص: 250


1- . تفسير روح البيان 5:425. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:114.
2- . تفسير الرازي 22:115.
3- . تفسير القمي 2:64، تفسير الصافي 3:319.
4- . تفسير روح البيان 5:425.
5- . تفسير الرازي 22:115.
6- . تفسير الرازي 22:115.
7- . تفسير القمي 2:64، تفسير الصافي 3:320.

محمّد، كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ (1)فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله: فَقُلْ في جوابهم يَنْسِفُها و يذرّها رَبِّي في ذلك اليوم نَسْفاً و ذرّا عجيبا بأن يجعلها هباء منثورا. و قيل: يعني يذهبها و يطيّرها (2)و يقلعها.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل كيف تكون الجبال مع عظمها يوم القيامة؟ فقال: «إنّ اللّه يسوقها بأن يجعلها كالرّمال، ثمّ يرسل عليها الرياح فتفرّقها» (1).

فَيَذَرُها و يترك مراكزها و محالّها حال كونها قاعاً و مكانا خاليا و صَفْصَفاً و مستويا بحيث

لا تَرى يا محمّد، مع قوة بصرك و بصيرتك، أو أيّها الرائي فِيها عِوَجاً و انخفاضا وَ لا أَمْتاً و ارتفاعا يسيرا، و هذا تأكيد غاية استواء الأرض، و دفع توّهم اجتماع فتاتها في موضع آخر.

و قيل: إنّ الأمت الانخفاض و الارتفاع (2).

القمي: القاع: الذي لا تراب فيه، و الصّفصف: الذي لا نبات له (3)، و العوج: الحزون، و الأمت: الإرتفاع (4).

و قيل: الأحوال الثلاثة مرتّبة، فالأوّلان باعتبار الإحساس، و الثالث باعتبار المقياس، و لذلك ذكر العوج بالكسر، و يخصّ المعاني (5)، فإنّ الاعوجاج الذي لا يدرك بالبصر و يدرك بالمقياس ملحق بالمعاني.

سوره 20 (طه): آیه شماره 108 الی 109

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان استواء الأرض بحيث لا يغيب أحد عن أحد، بيّن كيفيّة الحشر بقوله: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدّاعِيَ الّذي يدعوهم إلى المحشر، و هو إسرافيل بالنفخة الثانية، أو ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي و يقول: أيّتها العظام النّخرة و الأوصال المتفرّقة و اللحوم الممزّقة، قومى إلى ربّك للحساب و الجزاء، فيسمعون صوت الداعي، فيقبلون من كلّ جانب إلى جهته لا عِوَجَ لَهُ و لا عدول عنه، لعدم ما يوجب التعويج في الأرض، و لا ما يمنع النفوذ للصّوت على السواء، فيتّبعون الصوت من غير انحراف وَ خَشَعَتِ و خفظت اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ من شدّة الفزع مع سعة

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)

ص: 251


1- . مجمع البيان 7:48، تفسير الصافي 3:320.
2- . تفسير روح البيان 5:428.
3- . تفسير القمي 2:67، تفسير الصافي 3:320.
4- . تفسير القمي 2:64، تفسير الصافي 3:320.
5- . تفسير الصافي 3:320، و في النسخة: بالمعاني.

رحمته، و خفتت لهيبته فَلا تَسْمَعُ أصواتهم إِلاّ هَمْساً و خفيّا.

قيل: لا يسمع إلاّ صوت أقدامهم (1).

و عن بعض العامة: ينفخ في الصور النفخة الاولى، فتتطاير الجبال، و تتفجّر الأنهار بعضها في بعض، فيمتلئ الهواء ماء، و تنثر الكواكب، و تتغيّر الأرض و السماء، و يموت العالمون، فتخلو الأرض و السماء، ثمّ يكشف سبحانه عن بيت في سقر، فيخرج لهب من النار فيشتعل في البحور فتنشف، و يدع الأرض حمأة (2)سوداء، و السماوات كأنّها عكر (3)الزيت و النحاس المذاب.

ثمّ يفتح اللّه تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض، و هو كمنيّ الرجال، فتنبت الأجسام على هيئتها، الصبيّ صبيّ و الشيخ شيخ و ما بينهما، ثمّ تهبّ من تحت العرش ريح لطيفة، فتبرز الأرض ليس فيها جبل و لا عوج و لا أمت، ثمّ يحيي اللّه إسرافيل، فينفخ من صخرة بيت المقدس، فتخرج الأرواح من ثقب في الصّور بعددها، و يحلّ كلّ روح في جسده حتّى الوحش و الطير، فإذا هم بالسّاهرة، أي بوجه الأرض بعد أن كانوا في بطنها (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عزّ و جلّ الناس في صعيد واحد حفاة عراة، فيوقفون في المحشر حتى يعرقوا عرقا شديدا و تشتدّ أنفاسهم، فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما، و هو قول اللّه تعالى: وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً ثمّ ينادي مناد من تلقاء العرش: أين النبيّ الامّي؟ فيقول الناس: سمّ باسمه، فينادي أين نبيّ الرحمة؟ أين محمّد بن عبد اللّه الامّي؟

فيتقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمام الناس كلّهم حتى ينتهي إلى حوض طوله ما بين أيله و صنعاء، فيقف عليه فينادي بصاحبكم، فيتقدم عليّ عليه السّلام أمام الناس فيقف معه، ثمّ يؤذن للناس فيمرّون فبين وارد على الحوض و بين مصروف عنه.

فإذا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من يصرف عنه من محبّينا بكى فيقول: يا رب شيعة عليّ أراهم صرفوا تلقاء أصحاب النار، و منعوا عن ورود الحوض! فيبعث اللّه إليه ملكا فيقول له: ما يبكيك يا محمّد؟ فيقول: لاناس من شيعة علي، فيقول الملك: إنّ اللّه يقول: يا محمّد، إنّ شيعة عليّ قد وهبتهم لك، و صفحت عن ذنوبهم لحبّهم لك و لعترتك، و ألحقتهم بك، و جعلتم في زمرتك فأوردهم حوضك» .

ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: «فكم من باك يومئذ و باكيّة ينادون: يا محمّد [اه]إذا رأوا ذلك» الخبر (5).

ص: 252


1- . تفسير الرازي 22:118، تفسير روح البيان 5:428.
2- . الحمأ: الطين الأسود المنتن.
3- . العكر: الراسب من كل شيء.
4- . تفسير روح البيان 5:428.
5- . تفسير القمي 2:64، تفسير الصافي 3:320.

يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ من الشّفعاء واحدا إِلاّ مَنْ أَذِنَ في أن يشفع لَهُ اَلرَّحْمنُ و أجاز وَ رَضِيَ لَهُ و لأجله قَوْلاً من الشّفيع في حقّه، أو المراد إلاّ شفاعة من أذن [له]

اللّه في الشفاعة، و رضي للشّافع قولا لمكانته عند اللّه، فإنّ الشفاعة منصب عظيم لا يحصل إلاّ لمن كان مأذونا فيها و مرضيّا عند اللّه.

سوره 20 (طه): آیه شماره 110 الی 112

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اشتراط قبول شفاعة الشّافع بكونه مأذونا فيها، أو كون المشفوع له مرضيّا عند اللّه، بيّن إحاطة علمه تعالى بأحوال العباد بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و ما تقدّمهم من الأحوال، أو من امور الآخرة وَ ما خَلْفَهُمْ و ما بعدهم ممّا يستقبلونه، أو ما وراءهم من امور الدنيا.

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً (112)و قيل: ما بين أيديهم من أمر الدنيا، و ما خلفهم من أمر الآخرة و الثواب و العقاب (1).

و قيل: يعني يعلم ما مضى من امور الدنيا، و ما بقي منها، و متى تكون القيامة (2). وَ هم لا يُحِيطُونَ بِهِ تعالى، أو بما بين أيديهم و بما خلفهم عِلْماً.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يحيط الخلائق باللّه عزّ و جلّ علما، إذ هو تبارك و تعالى جعل على أبصار القلوب غطاء، فلا فهم يناله بالكيف، و لا قلب يثبته بالحدّ فلا نصفه إلاّ كما وصف نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (3)الأوّل، و الآخر، و الظّاهر، و الباطن، و الخالق، البارئ، المصوّر، خلق الأشياء و ليس من الأشياء شىء مثله (4).

وَ يومئذ عَنَتِ و ذلّت اَلْوُجُوهُ و صار النّاس كالأسارى (5)لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ و الموجد المؤثّر الدّائم، فلا يمكنهم الامتناع ممّا ينزل بهم من المجازاة، و لا يقدرون على معارضة خالقهم كما كانوا يتخيّلون لأنفسهم الاستقلال في الامور في الدنيا وَ قَدْ خابَ و حرم من الثواب و نيل النّعمة و الراحة مَنْ حَمَلَ و ارتكب ظُلْماً و عصيانا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اطلبوا اسم اللّه الأعظم في هذه السّور الثلاث: البقرة، و آل عمران، و طه» (6).

قال الرازي: فوجدنا المشترك في تلك السور اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (7).

ص: 253


1- . تفسير الرازي 22:119.
2- . تفسير الرازي 22:119.
3- . الشورى:42/11.
4- . التوحيد:263/5، تفسير الصافي 3:321.
5- . في النسخة: كالأسير.
6- . تفسير الرازي 22:120، تفسير روح البيان 5:431.
7- . تفسير الرازي 22:120.

ثمّ ختم اللّه تعالى بيان أحوال القيامة ببيان حسن حال المؤمنين بقوله: وَ مَنْ يَعْمَلْ في الدنيا شيئا مِنَ اَلصّالِحاتِ و الأعمال الحسنات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ بما يجب الإيمان به فَلا يَخافُ في الآخرة ظُلْماً و عقابا بلا جرم، أو منع ثواب من القيام بالطّاعة وَ لا هَضْماً و نقص ثواب بما يستحقّه.

و قيل: يعني لا يخاف نقص الثّواب، و لا عدم توفية الإعظام و الإكرام، أو الزيادة على سيّئاته، و التنقيص من حسناته (1).

عن الباقر عليه السّلام: «هَضْماً يعني لا ينقص من عمله شيء، و أمّا ظُلْماً يقول لن يذهب به» (2).

سوره 20 (طه): آیه شماره 113 الی 114

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كثير من المطالب العالية، كأهوال القيامة، و حال المجرمين و المؤمنين فيها، بيّن لطفه على الناس بإنزال القرآن بقوله: وَ كَذلِكَ الإنزال لما سبق من الآيات المتضمّنة للوعد و الوعيد في هذا الكتاب أَنْزَلْناهُ بتمامه حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا لتفهمه العرب، فيقفوا على إعجازه و حسن نظمه و اسلوبه و خروجه من سنخ كلام البشر وَ صَرَّفْنا و كرّرنا أو فصّلنا فِيهِ مقدارا كثيرا مِنَ اَلْوَعِيدِ و التّهديد على الكفر و العصيان بالعذاب الدنيوي كالطّوفان و الغرق و الخسف و الرّجفة و أمثالها، و العذاب الاخري كأهوال القيامة و أنواع عذاب النار لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و يحترزون من الكفر و العصيان أَوْ يُحْدِثُ و يوجد لَهُمْ ذِكْراً و انتباها تتمّ به الحجّة عليهم.

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اَللّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)و قيل: إنّ المعنى: ليتّقوا، فإن لم تحصل لهم التقوى، فلا أقلّ من أن يحدث القرآن لهم ذكرا و شرفا وصيتا حسنا (3).

ثمّ أعظم ذاته المقتضي لتعظيم ما نزل منه بقوله: فَتَعالَى اَللّهُ و ارتفع بذاته و صفاته عن مماثلة مخلوقاته، و هو اَلْمَلِكُ و السّلطان النافذ الأمر و النّهي، الحقيق بأن يرجى بوعده، و يخشى من وعيده، و اَلْحَقُّ الثابت في ملكوته و الوهيّته بحيث يمتنع زوال ملكه، و تغيّر سلطانه، و استعانته بخلقه، و حاجته إلى إيمانهم و طاعتهم، و إنّما أنزل الكتاب لنفعهم، و تكميل نقصهم، و تهذيب

ص: 254


1- . تفسير روح البيان 5:431.
2- . تفسير القمي 2:67، تفسير الصافي 3:322.
3- . تفسير الرازي 22:121.

نفوسهم، و حصول استعدادهم لنيل فيوضاته و رحمته، فمن كان بهذه المرتبة من القدرة و الرّحمة و الإحسان، [فهو]قادر على حفظك من السّهو في وحيه و النسيان في كلامه وَ لذا لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ و لا تسرع إلى قراءته و حفظه خوفا من النسيان و الانفلات مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى و يؤدّى إِلَيْكَ وَحْيُهُ و يتمّ جبرئيل قراءته عليك وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً بالقرآن، و فهما لحقائقه و تنوّرا بأنواره.

عن ابن عباس قال: كان صلّى اللّه عليه و آله يحرص على أخذ القرآن من جبرئيل، فيعجل بقراءته قبل إتمام (1)جبرئيل مخافة النسيان، فقال تعالى: لا تعجل به إلى أن نستتمّ (2)وحيه، فيكون أخذك إيّاه عن تثبّت و سكون، و اللّه تعالى يزيدك فهما و علما (3).

و عن مجاهد: أي لا تعجل بالقرآن فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحي إليك بيان معانيه (4).

و عن الضحاك: أنّ أهل مكّة و اسقف نجران قالوا: يا محمّد، أخبرنا عن كذا و كذا، و قد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه، و فشت المقالة بأنّ اليهود [قد]غلبوا محمّدا، فأنزل اللّه تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أي بنزوله من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللّوح المحفوظ إلى إسرافيل، و منه إلى جبرئيل، و منه إليك وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (5).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى اللّه، فلا بارك اللّه لي في طلوع شمسه» (6).

قيل: إنّ موسى عليه السّلام سأل اللّه تعالى زيادة العلم فأحاله اللّه إلى الخضر، و سأل نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله زيادة العلم و لم يحله إلى غيره، بل علّمه في مكتب (أدبنى ربى) و قال: عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (7).

سوره 20 (طه): آیه شماره 115

ثمّ لمّا أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بطلب ازدياد العلم المستلزم لحفظه من السهو و النسيان، ذكر سبحانه نسيان آدم و زلته، أو لمّا ذكر اهتمام النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتّحفظ في أمر الدين و حفظ القرآن، ذكر قلّة اهتمام آدم بالمحافظة لعهده بقوله: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ و وصّيناه بوصيّة لازمة الرّعاية، و هي النّهي عن الأكل من الشّجرة مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السابقة. و عن ابن عباس: من قبل أن يأكل من الشجرة (8)

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)

ص: 255


1- . في تفسير الرازي: استتمام.
2- . في تفسير الرازي: يستتم.
3- . تفسير الرازي 22:122.
4- . تفسير الرازي 22:122.
5- . تفسير الرازي 22:122.
6- . مجمع البيان 7:52، تفسير الصافي 3:322.
7- . تفسير روح البيان 5:432.
8- . تفسير الرازي 22:124.

فَنَسِيَ و ترك الاهتمام بالعمل بالعهد وَ لَمْ نَجِدْ و لم نعلم لَهُ عَزْماً و ثباتا على العهد، و تصلّبا في امتثال النهى، فأزلّه الشيطان و غرّه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه» و قد قال تعالى: وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً و المعنى أنّ آدم مع ذلك الحلم أثّرت فيه وسوسة الشيطان، فكيف في غيره؟ (1)

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلمّا بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها نسي فأكل منها» (2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه قال لآدم و زوجته لا تقرباها، يعني لا تأكلا منها فقالا: نعم، و لا يستثنيا في قولهما فوكّلهما إلى أنفسهما و إلى ذكرهما» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى، قال اللّه: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ» (4).

و عن أحدهما عليهما السّلام أنّه سئل: كيف أخذ اللّه آدم بالنسيان؟ فقال: «إنّه لم ينس، و كيف ينسى و هو يذكّره و يقول له إبليس: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ اَلشَّجَرَةِ إلى أخره» (5).

أقول: لا يمكن كون المراد بالنسيان ما يقابل الذّكر؛ لأنّه لا يجوز النسيان على النبيّ في وقت مع أنّ اللّه علّمه الأسماء كلّها، و أنّ الروايات الكثيرة دالة على تذكّره النّهي، فالأولى بل المتعيّن حمل النسيان على الترك.

عن الباقر عليه السّلام قال: «عهد اللّه إليه في محمّد و الأئمّة من بعده فترك، و لم يكن له عزم فيهم أنّهم هكذا، و إنّما سمّوا اولو العزم لأنّه عهد إليهم في محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الأوصياء من بعده و المهدي و سيرته، فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك و أقرّوا به» (6).

و عنه عليه السّلام-في حديث-قال: «و أخذ الميثاق على أولي العزم: أنّني ربّكم، و محمّد رسولي، و علي أمير المؤمنين و أوصياءه من بعده ولاة أمري و خزّان علمي، و أنّ المهديّ أنتصر به لديني، و أظهر به دولتي، و أنتقم به من أعدائي، و أعبد به طوعا و كرها. قالوا: أقررنا و شهدنا، و لم يجحد آدم و لم يقرّ، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي، و لم يكن لآدم عزم على الإقرار به، و هو قوله تعالى:

ص: 256


1- . تفسير روح البيان 5:434.
2- . الكافي 8:113/92، كمال الدين:213/2، تفسير الصافي 3:323.
3- . الكافي 7:448/2، تفسير الصافي 3:323.
4- . علل الشرائع:15/1، تفسير الصافي 3:323.
5- . تفسير العياشي 2:138/1551، تفسير الصافي 3:323.
6- . بصائر الدرجات:90/1، علل الشرائع:122/1، تفسير الصافي 3:323.

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قال: إنّما هو فترك» (1).

أقول: لا بدّ من إيكال العلم بالمراد من هذه الروايات إلى الراسخين فيه.

سوره 20 (طه): آیه شماره 116 الی 127

ثمّ بيّن سبحانه قضية ترك عمل آدم بالعهد بقوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى.

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (122) قالَ اِهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى (123) وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى (126) وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى (127)قيل: إنّ المراد اذكر يا محمّد حال آدم في ذلك الوقت ليتبيّن لك أنّه نسي و لم يكن من أولى العزم (2).

فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا الشيطان عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ حوّاء فَلا يُخْرِجَنَّكُما بتسويله مِنَ اَلْجَنَّةِ التي تسكنان فيها فَتَشْقى و تحرم عن نعمها و السّكونة فيها، و تبتليان بالمتاعب في الأرض، و إنّما أسند الشّقاء إلى آدم عليه السّلام مع أنّه و زوجته شريكان فيه، لاستلزام ابتلائه ابتلاءها من حيث كونه قيّما عليها، و كونها تابعة له.

ثمّ بيّن سبحانه السعادة التي يكون له فيها بقوله: إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ ما دمت فِيها لحضور أنواع المأكولات عندك وَ لا تَعْرى من الثّياب لكون الملبوسات موجودة لديك

وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا و لا تعطش فِيها لكون الأنهار جارية في أطرافك وَ لا تَضْحى و لا تصيبك حرارة

ص: 257


1- . بصائر الدرجات:90/2، تفسير الصافي 3:324.
2- . تفسير البيضاوي 2:59، تفسير روح البيان 5:434.

الشّمس؛ لأنّ الظلّ فيها ممدود

فَوَسْوَسَ مع ذلك إِلَيْهِ اَلشَّيْطانُ حيث قالَ بصورة النّصح: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ حتى تأكل منها فتدوم حياتك و راحتك وَ على مُلْكٍ و سلطنة لا يَبْلى و لا يزول، فيدوم انتظام معيشتك، فكأنّه قال آدم: نعم، فدلّه على الشجرة المنهيّة، فقرب هو و زوجته تلك الشجرة

فَأَكَلا مِنْها طمعا في ما وعدهما الشّيطان، فهبّت ريح فألقت التاج من رأسهما، و اختطفت الحلل من جسدهما فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما و ظهرت في نظرهما عوراتهما لعصيانهما نهي ربّهما وَ طَفِقا و شرعا يَخْصِفانِ و يلزقان عَلَيْهِما للسّتر مِنْ وَرَقِ تين اَلْجَنَّةِ.

قيل: كان ورق التّين مدوّرا، فصار بهذا الشكل من أصابعهما (1).

وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ و خالف عهده فَغَوى و ضلّ عن مطلوبه، و هو الخلود أو التّباعد من الشجرة المنهيّة

ثُمَّ اِجْتَباهُ و اصطفاه رَبُّهُ بالتّوفيق للتّوبة فَتابَ عَلَيْهِ و قبل توبته و توبة زوجته حين تابا إليه وَ هَدى هما إلى الثّبات على التوبة و التمسّك بالعصمة،

ثمّ عاتب سبحانه آدم عليه السّلام و الشيطان و قالَ لهما: اخرجا من الجنّة و اِهْبِطا و انزلا إلى الأرض مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.

ثمّ خاطب ذرّيّة آدم بقوله: فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً من رسول و كتاب فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدايَ و أطاع رسولي و عمل بديني و كتابي فَلا يَضِلُّ عن الصّراط و دين الحقّ أبدا وَ لا يَشْقى في الآخرة بالابتلاء بالعقوبة.

و قيل: إنّ الخطاب في قوله: اِهْبِطا لآدم و حوّاء و قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ و ما بعده لذريّتهما (2).

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي و الرسول المبعوث من قبلي، و الكتاب المنزل منّي فَإِنَّ لَهُ في الدنيا، أو في القبر، أو فيها و في الآخرة مَعِيشَةً ضَنْكاً و ضيقا و ذات شدّة، أمّا في الدنيا فإنّه-ولو كان ذا ثروة و مال-مشغول القلب بجمعه و حفظه، و متالم دائما ممّا يرد عليه، و حريص على ازدياده و خائف من نقصه، و أمّا في الآخرة فإنّ مأواهم جهنّم، طعامهم فيها زقّوم و ضريع، و شرابهم حميم و صديد.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «المعيشة الضّنك عذاب القبر و ضغطته» (3). و قيل: هو الكسب الحرام (4). و قيل: إنّه ضيق أبواب الخيرات عليه (3).

ص: 258


1- . تفسير روح البيان 5:437.
2- . تفسير الرازي 22:129. (3 و 4) . مجمع البيان 7:55.
3- . تفسير الرازي 22:131.

وَ نَحْشُرُهُ و نبعثه من قبره يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و هو أَعْمى و فاقد البصر لفقد بصيرته في الدنيا. و قيل: يعني أعمى عن طريق الخير، فيبقى متحيّرا (1).

قالَ ذلك المعرض عن الذّكر: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ في الدنيا بَصِيراً قالَ اللّه في جوابه: كَذلِكَ الجزاء كنت تستحقّه لأنّك أَتَتْكَ في الدنيا آياتُنا و الدلائل الدالّة على التوحيد و المعاد و رسالة الرّسل فَنَسِيتَها و تركت النّظر و التفكّر فيها و الإيمان بها.

و قيل: يعني مثل ذلك فعلت أنت (2)حيث إنّك أتتك آياتنا فنسيتها وَ كَذلِكَ النسيان الذي صدر منك في الدنيا اَلْيَوْمَ تُنْسى و تترك في العمى و العذاب

وَ كَذلِكَ الجزاء المناسب للعصيان نَجْزِي كلّ مَنْ أَسْرَفَ و أصرّ في إتيان القبائح و الآثام، و تجاوز عن الحدّ في العصيان، و كان من سرفه أنّه لم يصدّق وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ و براهين توحيد خالقه و منعمه وَ و اللّه لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ بالنّار و ما فيها من الشدائد، لغاية عظمته أَشَدُّ من عذاب الدنيا، و معيشة الضّنك وَ أَبْقى و أدوم منه لأنّه لا انقطاع له.

عن الصادق عليه السّلام: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قال: «هو و اللّه النّصّاب» قيل له: إنّا رأيناهم في دهرهم الأطول في الكفاية حتى ماتوا؟ قال: «ذلك في الرجعة، يأكلون العذرة» (3).

و عنه عليه السّلام في و قوله تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي قال: «ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام» أَعْمى قال: «يعني أعمى البصر في الآخرة، و أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و هو متحيّر في القيامة يقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى الآية» . قال: «الآيات الأئمّة فَنَسِيتَها تركتها وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى أي تترك في النّار كما تركت الأئمّة فلم تطع أمرهم و لم تسمع قولهم» (4).

و عنه عليه السّلام: سئل عن رجل لم يحجّ قطّ و له مال. فقال: «هو ممّن قال اللّه: وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى» قيل: سبحان اللّه أعمى؟ فقال: «أعماه اللّه عن طريق الخير» (5).

و عن القمي: «عن طريق الجنّة» (6).

و عنه عليه السّلام في قوله: وَ كَذلِكَ نَجْزِي الآية «يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام غيره وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ترك الأئمّة معاندة، فلم يتّبع آثارهم و لم يتولّهم» (7).

ص: 259


1- . مجمع البيان 7:56.
2- . تفسير أبي السعود 6:48.
3- . تفسير القمي 2:65، تفسير الصافي 3:325، و في النسخة: يأكلون الغدق.
4- . الكافي 1:361/92، تفسير الصافي 3:325.
5- . من لا يحضره الفقيه 2:273/1332، مجمع البيان 7:56، تفسير الصافي 3:325.
6- . تفسير القمي 2:66، تفسير الصافي 3:326.
7- . الكافي 1:361/92، تفسير الصافي 3:326.

أقول: هذه الروايات في تأويل الآيات لا تفسيرها.

سوره 20 (طه): آیه شماره 128 الی 129

ثمّ وبّخ سبحانه المعرضين عن الآيات بعدم اعتبارهم بما نزل على الامم الماضية من العذاب بقوله: أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ قيل: إنّ المعنى أغفلوا فلم يتبيّن لهم (1)أنّا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ و في الأعصار السّابقة على عصرهم مِنَ اَلْقُرُونِ و الامم المكذّبة لرسلهم المعرضة عن آيات ربّهم و هم يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ غافلين آمنين ممّا نزل بهم.

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي اَلنُّهى (128) وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129)و قيل: يعني و قريش المعرضون عن الآيات يمشون في مساكن اولئك الامم المهلكة و قراهم، كقرى ثمود، و قوم لوط، و أصحاب الحجر، حين مسافرتهم إلى الشّام، و يشاهدون الآثار الدالّة على ما كانوا عليه من النّعم، و ما حلّ بهم من أنواع العذاب و الهلاك (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب النازل على الامم السّابقة بتكذيبهم الرسل و إعراضهم عن معجزاتهم، و اللّه لَآياتٍ على توحيد اللّه و قهّاريته لِأُولِي اَلنُّهى و العقول السّليمة الناهية عن القبائح و الأعمال السيّئة.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تأخير العذاب عن المعرضين عن الرسول و معجزاته بقوله: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ وعدة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير عذاب هذه الامّة إلى القيامة ببركة الرسول لَكانَ العذاب في هذه الدنيا على كفرهم و عنادهم للحقّ لِزاماً و واجبا فوريّا بحيث لم يتأخّر عن جناياتهم ساعة، كما صار لازما للماضين من الامم المكذّبة وَ لولا أَجَلٌ مُسَمًّى لأعمارهم، أو لنزول العذاب عليهم، و هو يوم بدر أو القيامة، لما تأخّر عنهم أصلا.

قيل: الفصل بين المعطوف و هو أَجَلٌ مُسَمًّى و المعطوف عليه و هو لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ للدّلالة على استقلال كلّ واحد منهما في مانعيّة نزول العذاب (3).

القمي قال: اللّزام الهلاك، قال: يعني كان ينزل بهم العذاب، و لكن قد أخّرهم إلى أجل مسمّى (4).

سوره 20 (طه): آیه شماره 130

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ اَلنَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)

ص: 260


1- . تفسير أبي السعود 6:49، تفسير روح البيان 5:443.
2- . تفسير الرازي 22:132، تفسير أبي السعود 6:49، تفسير روح البيان 5:443.
3- . تفسير أبي السعود 6:49، تفسير روح البيان 5:443.
4- . تفسير القمي 2:66، تفسير الصافي 3:326.

ثمّ لمّا أخبر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتأخير عذاب قومه، أمره بالصبر على أذاهم بقوله: فَاصْبِرْ يا محمّد عَلى ما يَقُولُونَ من أنّك ساحر أو كاهن أو مجنون أو شاعر أو غيرها وَ سَبِّحْ و نزّه مقارنا بِحَمْدِ رَبِّكَ أو صلّ حامدا له تعالى على ما أنعم عليك من الرسالة و دين الحقّ و التّوفيق للقيام بوظيفة العبوديّة و قوّة الصبر قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها.

في فضيلة ذكر اللّه

قبل طلوع الشمس

و قبل الغروب

روي أنّ الذّكر و التسبيح إلى طلوع الشمس أفضل من إعتاق ثمانين رقبة من ولد إسماعيل (1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «فريضة على مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات و قبل غروبها عشر مرّات: لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت و يميت و يحيي و هو حيّ لا يموت، بيده الخير و هو على كلّ شيء قدير (2).

وَ بعضا مِنْ آناءِ اَللَّيْلِ و ساعاته فَسَبِّحْ اللّه و قدّسه وَ كذا أَطْرافَ اَلنَّهارِ فسبّحه، و إنّما قدّم الوقت للدّلالة على مزيد الفضل.

و قيل: إنّ المراد بالتّسبيح الصلاة التطوّعية (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «التطوّع بالنّهار» (4).

لَعَلَّكَ تنال عنده تعالى ما تَرْضى به من المقام المحمود، أو الشفاعة، أو النّعم العظيمة.

عن ابن عبّاس: دخلت الصّلوات الخمس فيه؛ فقبل طلوع الشمس: هو صلاة الفجر، و قبل غروبها: هو الظهر و العصر؛ لأنّهما جميعا قبل الغروب، و من آناء الليل فسبّح: المغرب و العشاء الآخرة (5).

و قيل: إنّ قوله: وَ أَطْرافَ اَلنَّهارِ يكون تأكيدا للصّلاتين (6)الواقعتين في طرفي النّهار، و هما صلاة الفجر و المغرب (7).

و إنّما أمره اللّه بعد الأمر بالصّبر بالتّسبيح و الصّلاة؛ لأنّ ذكر اللّه و التوجّه إليه يفيد السّكون و الراحة للقلوب، كما قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ (8).

سوره 20 (طه): آیه شماره 131

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى (131)

ص: 261


1- . تفسير روح البيان 5:444.
2- . الخصال:452/58، تفسير الصافي 3:326.
3- . تفسير الصافي 3:327.
4- . الكافي 3:444/11، تفسير الصافي 3:327.
5- . تفسير الرازي 22:133.
6- . في النسخة: للصلاة.
7- . تفسير الرازي 22:133.
8- . الرعد:13/28.

ثمّ نهى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن التوجّه إلى الزّخارف التي بيد المشركين و الرّغبة إلى دنياهم بقوله: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ و لا تطلن نظرك استحسانا و إعجابا إِلى ما مَتَّعْنا و نفعنا بِهِ من الزّخارف الدنيويّة أَزْواجاً من الكفّار و أصنافا مِنْهُمْ كالوثنيّ، و اليهود، و النصارى و غيرهم، إنّها تكون زَهْرَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و زينتها و بهجتها لِنَفْتِنَهُمْ و نختبرهم فِيهِ أو نعذّبهم به وَ رِزْقُ رَبِّكَ و عطاؤه من الكفاف في الدنيا و الثواب في الآخرة، أو الهدى و النبوّة خَيْرٌ و أفضل ممّا عند الكفرة من الأموال الوفيرة وَ أَبْقى و أدوم لعدم انقطاعه أبدا.

روي أنّه نزل ضيف بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال الراوي: فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف فقال: و اللّه لا أفعل ذلك إلاّ برهن، فأخبرته بقوله، فأمرني أن أذهب بدرعه إليه، فنزلت الآية (1).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم، و لا إلى أموالكم، و لكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت الآية استوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا ثمّ قال: من لم يتعزّ بعزاء اللّه تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات، و من اتّبع بصره ما في أيدي الناس طال همّه و لم يشف غيظه، و من لم يعرف أنّ للّه عليه نعمة إلاّ في مطعم أو مشرب قصر أجله و دنا عذابه» (3).

و عنه عليه السّلام: «إيّاك أن تطمح بصرك إلى من [هو]فوقك، و كفى بما قال اللّه عزّ و جلّ لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ (4)و قال: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية» (5).

سوره 20 (طه): آیه شماره 132

ثمّ بعد أمره تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتّسبيح و الصلاة، أمره أن يأمر أقاربه بها بقوله: وَ أْمُرْ يا محمّد أَهْلَكَ و خاصّة أقاربك بِالصَّلاةِ كما أمرناك بها وَ اِصْطَبِرْ و داوم أنت و هم عَلَيْها و اجتهدوا فيها، فإنّا بأمرنا هذا لا نَسْئَلُكَ و لا نطلب منك رِزْقاً و نفعا لنا فإنّا نَحْنُ نَرْزُقُكَ.

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)و قيل: يعني لا نكلّفك أن ترزق نفسك و أهلك، بل نحن نرزقك و نرزق أهلك في الدنيا بوجوه النّعم، و في الآخرة بعظائم الثّواب (6)، ففرّغ بالك للعبادة و أمر الآخرة وَ اَلْعاقِبَةُ المحمودة من الجنّة

ص: 262


1- . تفسير الرازي 22:135، تفسير روح البيان 5:446.
2- . تفسير الرازي 22:135.
3- . تفسير القمي 2:66، تفسير الصافي 3:327.
4- . التوبة:9/55.
5- . الكافي 8:168/189، تفسير الصافي 3:327.
6- . تفسير الرازي 22:137.

و النّعم الدّائمة لِلتَّقْوى و أهلها لا لأهل الدنيا.

روى الفخر الرازي و غيره من العامة أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان بعد نزول [هذه]الآية يذهب إلى باب فاطمة و علي عليهما السّلام كلّ صباح و يقول: «الصّلاة» ، [و]كان يفعل ذلك أشهرا (1).

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخصّ أهل بيته و نفسه دون الناس، ليعلم الناس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست لغيرهم، فأمرهم مع الناس عامة، ثمّ أمرهم خاصّة» (2).

و عن الرضا عليه السّلام قال: «خصّنا اللّه بهذه الخصوصية، إذ أمرنا مع الامّة بإقامة الصّلاة، ثمّ خصّنا من دون الامّة، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجيئ إلى باب علي و فاطمة عليهما السّلام بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كلّ يوم عند حضور كلّ صلاة خمس مرّات، فيقول: الصلاة رحمكم اللّه، و ما أكرم اللّه أحدا من ذراريّ الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا [بها]و خصّنا من دون جميع أهل بيتهم» (3).

سوره 20 (طه): آیه شماره 133 الی 135

ثمّ لمّا أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصبر على أقوال المشركين، حكى اعتراضهم على الرسول و شبهتهم في رسالته بقوله: وَ قالُوا إضلالا للنّاس و إلقاء للشّبهة في قلوبهم: لَوْ لا و هلاّ يَأْتِينا محمّد بِآيَةٍ و معجزة ممّا اقترحنا عليه مِنْ رَبِّهِ لتكون دليلا على صدقه في دعوى نبوّته؟ ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ قيل: إنّ التقدير: ألم تأتهم المعجزات الكثيرة؟ ! و لم تأتهم بَيِّنَةُ ما فِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولى و الكتب السماويّة السابقة من العقائد الحقّة و اصول الأحكام التي اجتمعت عليها كافّة الرسل و أخبار الامم السالفة، مع أنّه لم يشتغل بالدراسة و التعلّم، و لم يقرأ كتابا، و لم ير عالما، و هذا من أعظم المعجزات، لأنّه من الإخبار بالمغيبات (4).

وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولى (133) وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ اَلصِّراطِ اَلسَّوِيِّ وَ مَنِ اِهْتَدى (135)و قيل: إنّ المراد ب(بيّنة ما في الصّحف الاولى) ما فيها من البشارة ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نبوته (5).

و قيل: إنّها أخبار الامم الّذين أهلكهم اللّه بعد سؤالهم الآيات من رسلهم و كفرهم بها، و إنّه تعالى

ص: 263


1- . تفسير الرازي 22:137، تفسير روح البيان 5:448.
2- . مجمع البيان 7:60، عوالي اللآلي 2:22/49 تفسير الصافي 3:327.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:240/1، تفسير الصافي 3:327. (4 و 5) . تفسير الرازي 22:137.

كيف عاجلهم بالعقوبة، فماذا يؤمّنهم من أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال اولئك، و على أيّ تقدير لمّا كان كلّ من الامور المذكورة في القرآن شاهدا على صدق نبوّته، وصفه اللّه بكونه بيّنة. و تذكير الضّمير الراجع إلى (البيّنة) لأنّها في معنى الدليل البرهان (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أتمّ الحجّة على الكفّار و المشركين ببعثة خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ أيّ عذاب كان، أو بعذاب مستأصل في الدنيا سابقا على بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إتيان البيّنة و مِنْ قَبْلِهِ لكفرهم و شركهم، لكان العذاب قبل إتمام الحجّة و لَقالُوا يوم القيامة احتجاجا علينا: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا في الدنيا رَسُولاً يبلّغنا دينك، و يقرأ علينا كتابك، و يعلّمنا أحكامك فَنَتَّبِعَ بارشاده آياتِكَ المنزلة، و نطيع أحكامك المقرّرة المشروعة، و نكون من المؤمنين الصالحين مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بالضلال و القتل و الأسر في الدنيا وَ نَخْزى بالابتلاء بالعذاب الشّديد، و الدخول في النار في الآخرة، و أمّا اليوم فقد تمّت عليهم الحجّة، و انقطع عذرهم في الكفر و الضلال، و انسدّ باب حجّتهم علينا ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إنزال القرآن، إن عذّبناهم في الدنيا أو في الآخرة فليس لهم أن يأمنوا من نزول العذاب عليهم كما نزل على الامم السابقة مع كمال استحقاقهم له.

ثمّ هدّدهم بالعذاب بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: كُلٌّ منّا و منكم مُتَرَبِّصٌ و منتظر لعاقبة الأمر و آثار العقائد و الأعمال في الدنيا و قبل الموت، فترى لأيّنا الدولة و الشوكة و نفوذ الكلمة، و في الآخرة يكون لأيّنا الثواب و الكرامة عند اللّه و العقاب و أنواع الهوان.

روي أنّ المشركين قالوا: نتربّص بمحمّد حوادث الدّهر، فإذا مات تخلّصنا منه (2)، فأجابهم اللّه بقوله: فَتَرَبَّصُوا و انتظروا أيّها المشركون فَسَتَعْلَمُونَ عن قريب إذا جاء أمر اللّه تعالى مَنْ أَصْحابُ اَلصِّراطِ اَلسَّوِيِّ و الطريق المستقيم الموصل إلى كلّ خير دنيويّ و اخروي وَ مَنِ اِهْتَدى إلى دين الحقّ و طريق الصواب، أنحن أم أنتم؟ و فيه غاية التّهديد و الوعيد.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث «قيل: و من الوليّ يا رسول اللّه؟ قال: وليّكم في هذا الزمان أنا، و من بعدي وصيّي، و من بعد وصيّي لكلّ زمان حجج للّه، لكيلا يقولوا (3)كما قال الضّلاّل من قبلكم [حين]فارقهم نبيّهم: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً الآية، و إنّما كان تمام ضلالتهم جهالتهم بالآيات، و هم الأوصياء، فأجابهم اللّه بقوله: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ الآية، و إنّما كان

ص: 264


1- . تفسير الرازي 22:137.
2- . تفسير روح البيان 5:450.
3- . في كشف المحجة: كيما لا تقولون.

تربّصهم أن قالوا: نحن في سعة من معرفة الأوصياء حتى يعلن إمام علمه» (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «لا تدعوا قراءة سورة طه، فإنّ اللّه يحبّها [و يحبّ من قرأها]، و من أدمن قراءتها أعطاه اللّه يوم القيامة كتابه بيمينه، و لم يحاسبه بما عمل في الإسلام، و اعطي في الآخرة [من الأجر]حتى يرضى» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة طه اعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين و الأنصار» (3).

و قال: «ما يقرأ أهل الجنّة من القرآن إلاّ سورة طه و يس» (4).

وفقّنا اللّه لتلاوتها، و للّه الحمد و المنّة على توفيقنا لإتمام تفسيرها، و نسأله التوفيق لتفسير ما بعدها.

ص: 265


1- . كشف المحجة:273، تفسير الصافي 3:328.
2- . ثواب الأعمال:108، مجمع البيان 7:1، تفسير الصافي 3:329. (3 و 4) . مجمع البيان 7:1، تفسير أبي السعود 6:52.

ص: 266

في تفسير سورة الأنبياء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختم اللّه سورة طه بتهديد المعرضين عن القرآن بالعذاب الدنيوي و الاخروي، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصّبر على مقالات المشركين، و ذكر شبهتهم في الرسالة و الجواب عنها، و تنبيههم بتماميّة الحجّة عليهم ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و قطع عذرهم بما في الكتب السماوية، و تهديدهم بالعذاب بقوله: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ اَلصِّراطِ اَلسَّوِيِّ، أردفها بسورة الأنبياء المبدوءة بتهديد المعرضين عن التفكّر في أمر الآخرة، و غفلتهم عن قرب القيامة، و توبيخهم لإعراضهم عن الذّكر و القرآن، و استهزائهم به، و ذكر شبهتهم في رسالة الرسول بأنّه بشر، و نسبتهم معجزاته إلى السّحر، و طلبهم منه غير ما أتى به من المعجزات، و سائر أقاويلهم الباطلة التي لا تليق به، و تهديدهم بعذاب الاستئصال، و الاستدلال على التوحيد و البعث، و ذكر قصص الأنبياء الماضين و الامم المهلكة السابقة بقوله: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ (1)، إلى غير ذلك من المطالب المربوطة بالسورة السابقة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)فابتدء فيها بذكر الأسماء المباركات على حسب دأبه تعالى في كتابه المجيد بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ثمّ افتتحها بتهديد المشركين المعرضين عن الآخرة بقوله: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ و دنا منهم اليوم الذي فيه حِسابُهُمْ لجزاء أعمالهم؛ لأنّ كلّ آت قريب و إن طالت مدّة ترقّبه، أو لأنّ كلّ ساعة أقرب إليهم منه في الساعة السابقة، أو لأنّ بعثه من أشراط الساعة حيث قال صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت أنا و الساعة كهاتين» (2)و ضمّ بين إصبعيه وَ هُمْ مستقرّون فِي غَفْلَةٍ تامّة منه، ساهون بالكليّة عنه، منكرون له،

ص: 267


1- . طه:20/99.
2- . مجمع البيان 7:62، تفسير الصافي 3:330، تفسير الرازي 22:139.

مع حكم العقل بوجوب إتيانه مُعْرِضُونَ عن الآيات المنبّهة لهم عن غفلتهم.

و في إسناد الاقتراب إلى الحساب لا إلى النّاس، للدّلالة على أنّه مقبل إليهم، كأنّه يطلبهم و يصل إليهم لا محالة، و تقديم لِلنّاسِ على حِسابُهُمْ للمسارعة إلى إرعابهم.

ثمّ وبّخهم على إعراضهم عن الآيات القرآنية بقوله: و ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ و وعظ مِنْ رَبِّهِمْ في القرآن يذكّرهم الحساب أكمل تذكير مُحْدَثٍ وقتا بعد وقت إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ به و يسخرون منه،

و هم (1)لاهِيَةً و متشاغلة قُلُوبُهُمْ عمّا يهمّهم من عواقب أمرهم و حال ما بعد موتهم بما لا يفيدهم من أمر الدنيا و جمع زخارفها و الالتذاذ بشهواتها.

ثمّ بيّن سبحانه علّة استهزائهم بالقرآن أنّها إنكارهم الرسالة الذّي هو أثر جناياتهم بقوله: وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى و بالغوا في إخفاء ما تناجوا به، أو أسرّوا نفس تناجيهم حتى لا يشعر أحد به، و هم اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بأفحش الظّلم في ما أسرّوا به، و قالوا في نجواهم قدحا في رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله: هَلْ هذا الرجل إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يأكل و يمشي فلا مزيّة له عليكم حتى يكون رسولا، و ما أتى بمعجزة، بل ما أتى به فهو سحر أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ و تحضرونه و تقبلونه منه وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ و تعاينون أنّه سحر؟ و إنّما قالوا ذلك لاعتقادهم أنّه لا يكون الرسول إلاّ ملكا، و لا يكون ما يأتي البشر إلاّ سحرا.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 4 الی 8

ثمّ حكى سبحانه قول نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بعد إطّلاعه على سرّهم بالوحي بقوله: قالَ الرسول: إن كنتم أخفيتم قولكم منّي، و طعنكم في رسالتي، لا تقدرون على إخفائه من اللّه، لأنّ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ الّذي يكون فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ سرّا كان أو جهرا وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ للمسموعات من الأقوال

قالَ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ اِفْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ (8)

ص: 268


1- . لا يصحّ موقع (و هم) الإعرابي مع لفظ الآية إلاّ على رفع (لاهية) و الرفع قراءة. قال صاحب الكشاف: (و هم يلعبون لاهية قلوبهم) حالان مترادفان، أو متداخلان، و من قرأ (لاهية) بالرفع فالحال واحدة؛ لأن (لاهية قلوبهم) خبر بعد خبر لقوله (و هم) . الكشاف 3:102.

اَلْعَلِيمُ بجميع المعلومات من الأحوال.

ثمّ عاد سبحانه إلى حكاية بعض أقوالهم الاخر بقوله: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ يعني أنّهم لم يكتفوا بنسبة القرآن إلى السّحر، بل قالوا: إنّه أباطيل يراها في المنامات الكاذبة، فتخيّل أنّها من اللّه، فأسندها إليه بَلِ اِفْتَراهُ على اللّه من قبل نفسه من غير وحي أو رؤية في المنام بَلْ هُوَ شاعِرٌ لفّق الكلام الفصيح المقفّى، فخيّل إلى الناس أنّه من اللّه، و على أيّ تقدير ليس كتابه معجزة مثبتة للنبوّة، و لو فرض أنّه مع كونه بشرا يكون رسولا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ و معجزة قاهرة لا تتطرّق إليها الاحتمالات المذكورة كَما أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ و الأنبياء السّابقون بآيات قاهرة و معجزات عظيمة كالعصا و اليد البيضاء و إحياء الموتى حتى نؤمن به.

ثمّ كذّبهم اللّه في وعدهم الإيمان عند إجابتهم في مقترحاتهم بقوله: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ و بلدة كنّا أَهْلَكْناها بعذاب الاستئصال لعدم إيمانهم بعد إجابتهم في ما اقترحوه من الآيات أَ فَهُمْ مع شدّة لجاجهم و غاية عنادهم لك يا محمّد يُؤْمِنُونَ بك؟ كلاّ فإنّهم أعتى من الامم الماضية المهلكة.

ثمّ أجاب سبحانه عن شبهتهم في رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بكونه بشر بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا محمّد إلى قرية أو امّة إِلاّ رِجالاً ممتازين عن سائر الناس بالمعارف و كرامة الصفات، فخصّصناهم بأن نُوحِي إِلَيْهِمْ الشرائع و الأحكام بتوسّط الملك، كما نوحي إليك مع أنّك أوّل رجل في عالم الوجود، فإن لا يقبلوا قولك قل لهم: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ و العلماء بالكتب السماويّة و أحوال الرسل الماضيّة إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أحوالهم حتى تعلموا و تزول شبهتكم،

ثمّ أكّد كون عادته تعالى إرسال البشر دون الملك بقوله: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً ملكوتيّا لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ غنيّا عنه كالملائكة، بل جعلناهم محتاجين إليه كما تحتاجون وَ ما كانُوا خالِدِينَ في الدّنيا كالملائكة، بل كانوا ميّتين كما أنتم تموتون.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ أنّهم مع تفرّدهم و معارضة الناس وعدناهم النّصر على عموم الكفّار ثُمَّ صَدَقْناهُمُ اَلْوَعْدَ و وفينا بالعهد الذي عاهدناكم من نصرتهم و إهلاك أعدائهم فَأَنْجَيْناهُمْ من العذاب حين نزوله على مكذّبيهم وَ مَنْ نَشاءُ من المؤمنين بهم وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ المصرّين على الكفر

ص: 269

المجاوزين في الطّغيان بعذاب الاستئصال عقوبة لهم و عبرة لمن يأتي بعدهم و يسمع خبرهم.

ثُمَّ صَدَقْناهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (10)

ثمّ بيّن اللّه سبحانه عظيم نعمته على هذه الامّة بقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ أيّها النّاس بواسطة محمّد كِتاباً عظيم الشأن يكون فِيهِ ذِكْرُكُمْ و عظتكم، لتحذّروا من موجبات هلاككم، أو فيه ذكر دينكم و بيان ما يلزمكم و ما لا يلزم عليكم، كي تفوزوا بالعمل به بالجنّة، أو فيه شرفكم وصيتكم أَ فَلا تَعْقِلُونَ. قيل: إنّ التقدير: ألا تفكّرون فلا تعقلون أنّ الأمر كذلك (1)؟ فإنّ تعقّله لا يكون إلاّ بالتّدبّر فيه، أو المعنى: ألا يكون لكم عقل يبعثكم إلى التدبّر في القرآن و الإتّعاظ و العمل بما فيه؟

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 11 الی 15

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة هلاك المسرفين إرعابا للقلوب بقوله: وَ كَمْ قَصَمْنا و كثيرا كسرنا كسرا فظيعا بحيث تفتّتت الأجزاء مِنْ قَرْيَةٍ و أهالي مدينة كانَتْ ظالِمَةً على أنفسهم بالإعراض عن الآيات و تكذيب الرسل وَ أَنْشَأْنا و أوجدنا بَعْدَها و وراء إهلاكها قَوْماً آخَرِينَ لم يكونوا منهم نسبا و دينا

فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا و استشعروا بعذابنا المستأصل و هم في القرية إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ و يهربون و يسرعون في العدو للخروج منها خوفا من المهالك.

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (14) فَما زاَلَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)قيل: هي قرية حضور باليمن، بعث اللّه إليهم نبيّا فقتلوه، فسلّط اللّه عليهم بخت نصّر فاستأصلهم (2).

روي أنّه لمّا أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء: يالثارات الأنبياء (3).

فقيل لهم توبيخا و تهكّما: لا تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ و أبطرتم فِيهِ من النّعم و رفاه العيش وَ مَساكِنِكُمْ المرضيّة لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ غدا عمّا جرى عليكم و نزل بأموالكم و مساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم و مشاهدة، أو يسألكم النّاس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب، و يستشيرونكم في المهمّات، و يستعينون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم و الطّامعون فيكم.

فلمّا يأسوا من الخلاص بالهرب، و أيقنوا بهلاكهم بالعذاب قالُوا تأسّفا و تحسّرا و ندما: يا وَيْلَنا و يا هلاكنا احضر، فهذا أوانك إِنّا كُنّا بأعمالنا ظالِمِينَ على أنفسنا و مستحقّين لهذا

ص: 270


1- . تفسير أبي السعود 6:58، تفسير روح البيان 5:457. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:146.

العذاب،

و لكن لم ينفعهم الاعتراف بذنوبهم و النّدم عليها فَما زاَلَتْ تِلْكَ الكلمة و الدعوة بالويل دَعْواهُمْ و نداءهم حَتّى جَعَلْناهُمْ مثل الزّرع الذي صار حَصِيداً بالدّياس خامِدِينَ ميّتين لا حسّ لهم و لا حراك و لا أثر كالنّار الخامدة.

عن السجاد عليه السّلام: «لقذ أسمعكم اللّه في كتابه ما فعل بالقوم الظّالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، و إنّما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ فقال عزّ و جلّ: فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يعني يهربون، قال: فلما آتاهم العذاب قالُوا يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ قال: و أيم اللّه إنّ هذه عظة لكم و تخويف إن اتّعظتم و خفتم» (1).

و عن الباقر عليه السّلام في تأويله: «إذا قام القائم و بعث إلى بني اميّة بالشام، هربوا إلى الرّوم، فيقول لهم الرّوم: لا ندخلنّكم حتى تتنصّروا فيعلّقون في أعناقهم الصّلبان فيدخلونهم، فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان و الصّلح، فيقول أصحاب القائم: لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منّا، فيدفعونهم إليهم، فذلك قوله: لا تَرْكُضُوا إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قال: يسألهم الكنوز و هو أعلم بها، فيقولون: يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ إلى قوله: خامِدِينَ أي بالسّيف» (2).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 16 الی 19

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعذيبه الظّالمين بيّن أنّ حكمة خلق العالم إقامة العدل و مجازاة أهل الظّلم بقوله: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من عجائب المخلوقات حال كوننا لاعِبِينَ و عابثين بالخلق، بل خلقناها لمعرفة بني آدم ربّهم بالنظر إليها و التفكّر فيها، و لتكميل نفوسهم، و قيامهم بوظيفة عبوديّة خالقهم، و شكر المنعم عليهم، و فعليّة استعدادهم و قابليّتهم للنّعم الأبديّة المعدّة لهم في الآخرة، و لإقامة العدل و مجازاة الظّالمين، فعليهم التفكّر في المخلوقات و الاجتهاد في الطاعة و الشكر، لا الانهماك في الشّهوات، و معارضة الحقّ، و مشاقّة الرّسل، و الظلم على النفس و العباد.

وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ (18) وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19)

و لَوْ أَرَدْنا و أحببنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً و نشتغل بلعب لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا و من جهة قدرتنا

ص: 271


1- . الكافي 8:74/29، تفسير الصافي 3:332.
2- . الكافي 8:51/15، تفسير الصافي 3:332.

على ما نريد، أو من عندنا و ما يليق بشأننا من الرّوحانيات و المجرّدات إِنْ كُنّا فاعِلِينَ للّعب و اللّهو، لا من الأجسام المرفوعة كالسماوات و الأجرام الموضوعة كالأرضين مثل ديدن الجبابرة في رفع العروش و تحسينها و تسوية الفرش و تزيينها بغرض الالتذاذ و التشهّي، و لكنّا لا نريد اللّهو و اللّعب أبدا لمنافاته الحكمة البالغة التي تكون لنا.

و قيل: إنّ المراد باللّهو الولد أو الزّوجة (1).

و قيل: (إن) في قوله: إِنْ كُنّا فاعِلِينَ نافية، و المعنى ما كنّا فاعلين (2).

بَلْ نَقْذِفُ و نرمي بِالْحَقِّ الذي هو الجدّ و العدل و القرآن، كالحجر الصّلب عَلَى اَلْباطِلِ الذي من جملته اللّعب و الظّلم و الكفر و غيرها ممّا ينافي الحكمة، و لا ثبات له عند التحقيق فَيَدْمَغُهُ و يهلكه و يمحقه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ و ذاهب بالكلّية، و هالك بالفور، و إنّما استعار القذف الذي هو بمعنى الرمي الشديد البعيد المستلزم لصلابة المرميّ و إعدام ما وصل إليه و محوه، لتغليب الحقّ على الباطل، و استعارة الدّمغ الذي هو بمعنى كسر الدماغ بحيث يشقّ غشاؤه (3)المؤدّي إلى زهوق الروح، لمحق (4)الباطل، لغاية المبالغة و تمكين الهيئة المعقولة في ذهن السامع غاية التمكين.

عن الصادق عليه السّلام: «ليس من باطل يقوم بإزاء حقّ إلاّ غلب الحقّ الباطل، و ذلك قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ الآية» (5).

ثمّ هدّد قريشا بمثل ما لاولئك من العذاب بقوله: وَ لَكُمُ معشر قريش اَلْوَيْلُ و الهلاك (من) أجل ما تَصِفُونَ اللّه بما لا يليق بشأنه من اتخاذ الشريك و الولد،

ثمّ قرّر تفرّده منهما بقوله: وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ خلقا و ملكا و تصرّفا و تدبيرا، بلا دخل لغيره في شيء منها استقلالا و استتباعا وَ مَنْ عِنْدَهُ من الملائكة الّذين يزعمون أنّهم شركاؤه أو بناته، مع كمال شرفهم و عظمهم و قربهم و علوّ رتبتهم، كلّهم عبيده لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ و لا يتعظّمون عن طاعته وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ و لا يعيون عنها مع ثقلها و دوامها، و كانت عبادتهم أنّهم يُسَبِّحُونَ و ينزّهون اللّه اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ ممّا لا يليق به من الشريك و الولد و النقص و الحاجة و يعظّمونه على الدوام و لا يَفْتُرُونَ و لا يتوانون فيه طرفة عين، و لا يتخلّل تسبيحهم فراغ و لا شغل آخر.

قيل: إنّ التسبيح لهم كالتنفّس [لنا]فلا يمنعهم من عمل آخر، و إن كان لعن من استحقّ اللّعن (6).

ص: 272


1- . تفسير أبي السعود 6:60، تفسير روح البيان 5:460.
2- . تفسير أبي السعود 6:59.
3- . في النسخة: عصائه، راجع: تفسير روح البيان 5:461.
4- . في النسخة: تحق.
5- . المحاسن:226/152، تفسير الصافي 3:333.
6- . تفسير روح البيان 5:462.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 20 الی 23

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الملائكة أينامون؟ فقال: «ما من حيّ إلاّ و هو ينام ما خلا اللّه وحده، و الملائكة ينامون» فقيل: يقول اللّه تعالى: يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ قال: «أنفاسهم تسبيح» (1).

يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23)و في رواية اخرى: «ليس شيء من أطباق أجسادهم إلاّ و يسبّح اللّه عزّ و جلّ و يحمده من ناحيته بأصوات مختلفة» (2).

و قيل: يعني لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته لا دوام الاشتغال به (3). و فيه أنّه خلاف الظاهر.

ثمّ وبّخهم سبحانه على إشراكهم و ادّعائهم قدرة آلهتهم على إحياء الموتى بقوله: أَمِ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم آلِهَةً و معبودين مِنَ جنس ما في اَلْأَرْضِ كالخشب و الحجر و الذّهب و الفضّة و غيرها و قالوا: هُمْ يُنْشِرُونَ و يحيون الموتى مع كونهم في أنفسهم أموات لا يشعرون، و لا يقول به من له عقل و شعور.

و قيل: إنّ هذه الدعوى لازم قولهم بالوهيّتهم، لا أنّهم صرّحوا به؛ لأنّهم لا يثبتون الإنشار للّه، فكيف يثبتونه لالهتهم (4).

ثمّ أبطل قولهم الشنيع بقوله: لَوْ كانَ في السّماوات و الأرض و وجد فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ و غيره تعالى يكون كلّ واحد منهم متصرّفا فيها بالخلق و التدبير لَفَسَدَتا و خرجتا بما فيهما من الاعتدال و النّظام الأتمّ، سواء أكان اللّه معهم أو لا، أو المراد لبطلتا و تفطّرتا لأنّه مع فرض قدرة كلّ واحد منهم على الاستقلال في الخلق و التدبير و اتفاقهم في المراد و الإيجاد بالاستقلال، لزم توارد العلل على معلول واحد و هو محال، و مع تخالفهم في المراد و التزاحم يلزم التعاوق و عدم وجود موجود أصلا، و مع عدم التزاحم يلزم التعطيل في الواجب و الترجيح بلا مرجّح، و مع عجز كلّ واحد عن الاستقلال يلزم النقص في الواجب.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما الدّليل على أنّ اللّه واحد؟ قال: «إتّصال التدبير و كمال (5)الصّنع، كما قال

ص: 273


1- . كمال الدين:666/8، تفسير الصافي 3:334.
2- . التوحيد:280/6، تفسير الصافي 3:334.
3- . تفسير روح البيان 5:462.
4- . تفسير روح البيان 5:463.
5- . في التوحيد: و تمام.

اللّه عزّ و جلّ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا» (1).

ثمّ رتّب سبحانه على ذلك الدليل تنافي الالوهيّة للمشاركة فيها بقوله: فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ و نزّهوه تنزيها لا يقال إلاّ له [لأنه]المدبّر لجميع الموجودات لعلّة الوهيّته و ربوبيّته عَمّا يَصِفُونَ ذاته المقدّسة بما لا يليق به من النقائص التي من جملتها كون الشريك و الولد له.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات تفرّده في الالوهيّة بيّن كمال عظمته و قوّة سلطانه بقوله: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ و لا يناقشه أحد في ما يصدر منه من حكم و تقدير و إثابة و تعذيب وَ هُمْ لكونهم عبيده و تحت قدرته و سلطانه يُسْئَلُونَ عمّا يفعلون نقير أو قطمير، و فيه تهديد و وعيد للكفّار و المشركين.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني بذلك خلقه أنّهم يسألون» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل: و كيف لا يسأل عمّا يفعل؟ فقال: «لأنّه لا يفعل إلاّ ما كان حكمة و صوابا، و هو المتكبّر الجبّار و الواحد القهّار، فمن وجد في نفسه حرجا في شيء ممّا قضى [فقد]كفر، و من أنكر شيئا من أفعاله جحد» (3).

عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «قال اللّه تعالى: يابن آدم، بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويّا، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك، و ذلك أنّي أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيّئاتك منّي، و ذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل و هم يسألون (4)» .

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 24 الی 27

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الوهيّة غيره بالبرهان، أعاد التّوبيخ عليهم بإشراكهم بلا دليل بقوله: أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً مع عرائها من خصائص الالوهيّة قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين تبكيتا

أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)

ص: 274


1- . التوحيد:250/2، تفسير الصافي 3:334.
2- . علل الشرائع:106/1، تفسير الصافي 3:334.
3- . التوحيد:397/13، تفسير الصافي 3:334.
4- . التوحيد:338/6، تفسير الصافي 3:335.

و إلقاما للحجر (1): هاتُوا بُرْهانَكُمْ و آتو بحجّتكم على ما تدّعون من جهة العقل أو النقل، لعدم صحّة الدعوى بغير حجّة خصوصا في الامور الدينيّة.

ثمّ بيّن سبحانه توافق الكتب السماويّة على التّوحيد و نفي الشرك بقوله: هذا الموجود بأيدينا من الكتب الثّلاثة التي أحدها القرآن الذي هو ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين بي وعظتهم، وَ إثنان منها ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الامم، و هما: التوراة و الإنجيل، بين أيديكم فراجعوها و انظروا فيها، هل تجدون فيها غير الأمر بالتوحيد و النهي عن الإشراك؟

و قيل: إنّ المعنى: هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمّن للبرهان القاطع العقلي ذكر امّتي و عظتهم، و ذكر الامم السابقة قد أقمته أنا، و استدللت به، فأقيموا أنتم أيضا برهانكم (2).

ثمّ أضرب اللّه تعالى عن الأمر بمحاجّتهم إعلانا بعدم قابليّتهم للخطاب و المحاجّة بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ البديهيّات، و لا يميّزون من غاية جهلهم و حمقهم بين اَلْحَقَّ و الباطل، و الدّليل الصّحيح و الفاسد، فعندهم ما هو أصل الفساد و هو الجهل فَهُمْ لذلك مُعْرِضُونَ عن التوحيد و آياته و اتّباع الرسول و معجزاته، مستمرّون على الإعراض غير منصرفين عمّا هم عليه من الضّلال، و إن كرّرت عليهم الحجج و البيّنات.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على التوحيد بتوافق الكتب السماويّة عليه، استدلّ باتّفاق كلمة الأنبياء الّذين هم أعقل عقلاء العالم عليه بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلى النّاس مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فإذا علمتم ذلك فَاعْبُدُونِ خاصّة و لا تعبدوا غيري.

ثمّ بعد إبطال الشّرك أبطل القول باتّخاذه الملائكة بنات بقوله: وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ و الإله الواسع الرّحمة و النّعمة لنفسه وَلَداً مع غناه عن كلّ شيء. قيل: هم حيّ من خزاعة (3). و قيل: هم قريش و جهينة و بنو سلمة و بنو مليح و خزاعة (4).

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: سُبْحانَهُ من أن يكون الملائكة أولاده بَلْ هم عِبادٌ له و العباد لا يمكن أن يكونوا أولاد و هم مُكْرَمُونَ عنده مقرّبون لديه منقادون لإرادته بحيث إنّهم

لا يَسْبِقُونَهُ تعالى بِالْقَوْلِ.

قيل: نزّل سبحانه سبقهم بالقول لقوله تعالى منزلة سبقهم له، للإشعار بمزيد تنزّههم منه (5)وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ و لحكمه مطيعون.

ص: 275


1- . ألقمه الحجر: أسكته عند المخاصمة.
2- . تفسير أبي السعود 6:62، تفسير روح البيان 5:466.
3- . تفسير الرازي 22:159، تفسير أبي السعود 6:63. (4 و 5) . تفسير أبي السعود 6:63.

نقل معجزة لأمير

المؤمنين عليه السّلام

في (الخرائج) عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه اختصم رجل و امرأة إليه، فعلا صوت الرجل على المرأة، فقال له عليّ عليه السّلام «اخسأ» -و كان خارجيّا-فإذا رأسه رأس الكلب، فقيل له: يا أمير المؤمنين، صحت بهذا الخارجي فصار رأسه رأس الكلب، فما يمنعك عن معاوية؟ فقال: «ويحك لو أشاء أن آتي بمعاوية إلى هنا بسريره لدعوت اللّه حتى فعل، و لكنّا للّه خزّانا (1)لا على ذهب و لا فضّة، و لكن على أسرار (2)، هذا تأويل ما تقرء: عِبادٌ مُكْرَمُونَ الآية» (3).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 28

ثمّ نبّه سبحانه على سبب طاعتهم و غاية انقيادهم بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و ما قدّموا من أعمالهم وَ ما خَلْفَهُمْ و ما أخّروا، كما عن ابن عباس (4).

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)و قيل: يعني يعلم أحوال آخرتهم و دنياهم أو بالعكس (5).

و قيل: يعني يعلم ما قبل خلقهم و ما بعد خلقهم، فيكون المراد أنّهم يتقلّبون تحت قدرته و محاطون بعلمه (6)، و هذا العلم يدعوهم إلى غاية الخضوع و الانقياد.

وَ لا يَشْفَعُونَ عنده تعالى إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى اللّه أن يشفعوا له من أهل التوحيد مهابة منه وَ هُمْ مع ذلك مِنْ خَشْيَتِهِ و الخوف منه مُشْفِقُونَ وجلون، أو مرتعدون، أو من عظمته و مهابته خائفون.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية اللّه (5).

عن ابن عبّاس: إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى أي إلاّ لمن قال لا إله إلاّ اللّه (6).

و عن الرضا عليه السّلام: «الاّ لمن ارتضى [اللّه]دينه» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «أصحاب الحدود فسّاق لا مؤمنون و لا كافرون، و لا يخلّدون في النّار،

ص: 276


1- . في النسخة: و لكن للّه خزائن.
2- . في المصدر: و لا إنكار على أسرار تدبير اللّه.
3- . الخرائج و الجرائح 1:172/3، تفسير الصافي 3:335.
4- . تفسير الرازي 22:160. (5 و 6) . تفسير الرازي 22:160.
5- . تفسير الرازي 22:160، تفسير روح البيان 5:469. و الحلس: ما يبسط في البيت من حصير و نحوه.
6- . تفسير الرازي 22:160، تفسير روح البيان 5:468.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:136/35، تفسير الصافي 3:336.

و يخرجون منها يوما، و الشّفاعة جائزة لهم و للمستضعفين إذا ارتضى اللّه دينهم» (1).

و عن الكاظم، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّما الشّفاعة لأهل الكبائر من امّتي، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل» .

قيل: يا ابن رسول اللّه: كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه يقول: لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى و من يرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟

فقال: «ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلاّ ساءه ذلك و ندم عليه، و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: كفى بالندم توبة. و قال صلّى اللّه عليه و آله: من سرّته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، و لم تجب له الشفاعة، و كان ظالما، و اللّه يقول: ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» (2).

فقيل له: يا ابن رسول اللّه، و كيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه؟

فقال: «ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلاّ ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائبا مستحقّا للشّفاعة، و متى لم يندم عليها كان مصرّا، و المصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم، و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار.

و أمّا قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى فإنّهم لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى [اللّه] دينه، و الدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السّيّئات، فمن ارتضى [اللّه]دينه ندم على ما ارتكبه من الذّنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة» (3).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 29 الی 30

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار غضبه على الإشراك و قولهم: إنّ الملائكة آلهة بقوله: وَ مَنْ يَقُلْ من الملائكة و يدّعي مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ و متجاوزين إيّاه تعالى فَذلِكَ القائل بهذا القول منهم على فرض المحال نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كغيره من المجرمين، و لا يغني عنهم ما ذكر من صفاتهم السنيّة و أعمالهم المرضيّة، فكيف بغيرهم؟ كَذلِكَ الجزاء نَجْزِي اَلظّالِمِينَ على اللّه بتضييع حقّه

وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلظّالِمِينَ (29) أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (30)

ص: 277


1- . الخصال:608/9، تفسير الصافي 3:336.
2- . المؤمن:40/18.
3- . التوحيد:407/6، تفسير الصافي 3:336.

بالإشراك، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

في ذكر بدو خلق

السماوات و الأرض

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده و تنزيهه من الشّرك بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد اللّه و أشركوا به و لم يعلموا بالتّفكّر و الاستفسار من العلماء و مطالعة الكتب أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ في بدو خلقتهما كانَتا شيئا رَتْقاً و منضمّا لا فرجة بينهما و لا فضاء فَفَتَقْناهُما و فصلناهما و فرّقنا بينهم.

عن ابن عبّاس و جمع من المفسّرين: أن المعنى: كانتا شيئا واحدا ملتزقين، ففصل اللّه بينهما، فرفع السّماء إلى حيث هي، و أقرّ الأرض (1).

و عن كعب: خلق اللّه السماوات و الأرض ملتصقتين، ثمّ خلق ريحا توسّطتهما ففتقهما بها (2).

و قيل: إنّه جاء في التوراة: أنّ اللّه تعالى خلق جوهرة ثمّ نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثمّ خلق السّماوات و الأرض منها و فتق بينهما (1).

و عن مجاهد: أنّ السّماوات كانت مرتتقة و متّصلة، فجعلت سبع سماوات، و كذلك الأرضون (2).

و قيل: رتقهما: كونهما معدومين؛ لأنّه لا تمايز بين الإعدام، و فتقهما: إيجادهما.

و قيل: رتقهما: اتّصالهما بالظّلمة، و فتقهما: إظهار النّهار المبصر بينهما (3).

و عن ابن عباس و أكثر المفسّرين: أنّ السماوات و الأرض كانتا رتقا بالاستواء و الصلابة، ففتق اللّه السماء بالمطر، و الأرض بالنّبات (4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «لعلّك تزعم أنّهما كانتا رتقا ملتزقتين ملتصقتين، ففتقت إحداهما من الاخرى؟» فقال: نعم، فقال: «استغفر ربّك، فإنّ قول اللّه عزّ و جلّ كانَتا رَتْقاً يقول: كانت السّماء رتقا لا تنزل المطر، و كانت الأرض رتقا لا تنبت الحبّ، فلمّا خلق اللّه الخلق، و بثّ فيها من كلّ دابّة، فتق السماء بالمطر، و الأرض بنبات الحبّ» .

فقال السائل: أشهد أنّك من ولد الأنبياء، و علمك علمهم (5).

و في (الكافي) عنه عليه السّلام: أنّه سئل عنها، فقال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أهبط آدم عليه السّلام إلى الأرض، و كانت السماء رتقا لا تمطر، و كانت الأرض رتقا لا تنبت شيئا، فلمّا تاب اللّه عزّ و جلّ على آدم عليه السّلام

ص: 278


1- . تفسير الرازي 22:162، و فيه: و فتق بينها.
2- . تفسير الرازي 22:162، تفسير أبي السعود 6:64.
3- . تفسير الرازي 22:163.
4- . تفسير الرازي 22:163، تفسير أبي السعود 6:65.
5- . الكافي 8:95/67، تفسير الصافي 3:337.

أمر السّماء فتفطّرت بالغمام، ثمّ أمرها فأرخت عزاليها (1)، ثمّ أمر الأرض فأنبتت الأشجار و أثمرت الثّمار، و تفهّقت (2)بالأنهار، فكان ذلك رتقها، و هذا فتقها» (3).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: «هو كما وصف نفسه، كان عرشه على الماء، و الماء على الهواء، و الهواء لا يحدّ و لم يكن يومئذ خلق غيرهما، و الماء يومئذ عذب فرات، فلمّا أراد أن يخلق الأرض أمر الريّاح فضربت الماء حتى صار موجا، ثمّ أزبد و صار زبدا واحدا، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلا من زبد، ثم دحا الأرض من تحته، فقال اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً (4)ثمّ مكث الربّ تبارك و تعالى ما شاء، فلمّا أراد أن يخلق السماء أمر الرياح فضربت البحور حتى أزبدتها، فخرج من ذلك الموج و الزّبد دخان ساطع من غير نار، فخلق منه السماء، و جعل فيها البروج و النجوم و منازل الشمس و القمر، و أجراها في الفلك، و كانت السماء خضراء على لون الماء الأخضر، و كانت الأرض غبراء على لون الماء العذب، و كانتا مرتوقتين ليس لهما أبواب، و لم يكن للأرض أبواب، و هو النّبت، و لم تمطر السماء عليها فتنبت، ففتق السماء بالمطر، و فتق الأرض بالنّبات، و ذلك قوله: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا الآية» (5).

أقول: رجح القائلون بهذا القول قولهم بقوله تعالى بعد ذلك: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ و المعنى ففتقنا السماء لإنزال المطر، و جعلنا منه كلّ شيء في الأرض من النبات و غيره حيّا.

و قيل: إنّ المراد بالماء النّطفة (6): فيكون المراد من كلّ شيء خصوص الحيوان، لأنّ النبات لا يسمّى حيّا. و فيه منع لإطلاق الحيّ على الأرض، فضلا عن النّبات.

عن الباقر عليه السّلام: «نسب كلّ شيء إلى الماء، و لم يجعل للماء نسبا إلى غيره» (7).

و عن الصادق: أنّه سئل عن طعم الماء فقال: «طعم الماء طعم الحياة، قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (8).

ثمّ أنكر عليهم عدم الإيمان بالتّوحيد مع دلالة هذه الآية عليه بقوله: أَ فَلا يُؤْمِنُونَ بتوحيد اللّه.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 31 الی 33

وَ جَعَلْنا فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا اَلسَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

ص: 279


1- . العزالي: جمع عزلاء، و هو مصبّ الماء من القربة و نحوها، و يقال: أرسلت السماء عزاليها: انهمرت بالمطر.
2- . فهق الحوض: امتلأ حتى تصبّب.
3- . الكافي 8:121/93، تفسير الصافي 3:337.
4- . آل عمران:3/96.
5- . تفسير القمي 2:69، تفسير الصافي 3:338.
6- . تفسير روح البيان 5:471.
7- . الكافي 8:94/67، تفسير الصافي 3:338.
8- . مجمع البيان 7:72، تفسير الصافي 3:338.

ثمّ ذكر برهانا آخر بقوله: وَ جَعَلْنا فِي اَلْأَرْضِ و خلقنا فيها جبالا رَواسِيَ و ثوابت فيها، كراهة أَنْ تَمِيدَ و تميل بِهِمْ و تضطرب وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً و طرقا واسعة ليكون لهم سُبُلاً و مسالك إلى البلاد البعيدة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى مصالحهم و مهمّاتهم التي تكون في تلك البلاد، أو ليهتدوا إلى توحيد اللّه و معارفه.

و قيل: إنّ ضمير (فيها) راجع إلى الجبال، لأنّها المحتاجة إلى الطّرق (1).

ثمّ ذكر دليلا آخر بقوله: وَ جَعَلْنَا اَلسَّماءَ لهم سَقْفاً مَحْفُوظاً من الوقوع و السّقوط و الزوال و الانحلال إلى الوقت المعلوم بغير عمد، و من استراق السمع بالشّهب.

و القمي: يعني من الشياطين، أي لا يسترقون السّمع (2)وَ هُمْ عَنْ آياتِها و عجائبها الدالّة على كمال قدرته و عظمته و وحدانيّته و علمه و حكمته مُعْرِضُونَ لا يتدبّرون فيها حتى يقفوا على فساد ما هم عليه من الشّرك و الضّلال.

ثمّ نبّه سبحانه على بعض آياتها بقوله: وَ هُوَ و اللّه اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته و حكمته اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ مختلفين وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دائبين كُلٌّ منهما فِي فَلَكٍ على حدة يَسْبَحُونَ و يسرعون في السير، كما يسبح السّمك في الماء.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 34 الی 36

ثمّ لمّا بيّن سبحانه النّعم الدنيويّة، نبّه المشركين الظّانّين بقاءهم في الدنيا على فنائها و زوالها بقوله: وَ ما جَعَلْنا و ما قدّرنا لِبَشَرٍ و فرد من بني آدم الذين كانوا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد اَلْخُلْدَ و الحياة الدائمة في الدنيا أَ فَإِنْ مِتَّ يا محمّد، و أنت سيّد البشر، و خاتم الأنبياء، و أقرب الخلق إلينا فَهُمُ اَلْخالِدُونَ و الباقون فيها؟ ! كلاّ، لا يكون ذلك أبدا، بل أنت و هم على سنّتنا و مقتضى الحكمة البالغة التي تكون لنا ميّتون لا محالة.

وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَ إِذا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَ هذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)

ص: 280


1- . تفسير الرازي 22:164.
2- . تفسير القمي 2:70، تفسير الصافي 3:339.

قيل: إنّ أناسا كانوا يقولون: إنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله لا يموت، فنزلت (1).

و قيل: كانوا يقدّرون أنّه صلّى اللّه عليه و آله سيموت فيشمتون (2)بموته، فنفى اللّه عنه الشّماتة و بيّن أن حاله كحال الأنبياء قبله و حال سائر البشر، و المعنى: أفإن متّ فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك؟ ! (3)

و قيل: إنّها نزلت حين قال: المشركون: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ (4).

ثمّ أكّد سبحانه عموم الموت لكلّ أحد بقوله: كُلُّ نَفْسٍ من النفوس نبيّا كان أو وليّا، أو مؤمنا أو كافرا ذائِقَةُ و طاعمة طعم اَلْمَوْتِ و إنّما تكون حكمة تعيّشكم و حياتكم في الدنيا أن نختبركم وَ نَبْلُوكُمْ في مدّة حياتكم بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ و البلايا و النّعم فِتْنَةً و امتحانا ليتميّز الصابر و الشاكر من غيرهما وَ إِلَيْنا بعد الموت تُرْجَعُونَ لجزاء ما اختبرتم به من الأخلاق و الأعمال.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرض فعاده إخوانه، فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشرّ، قالوا: ما هذا كلام مثلك! قال: إنّ اللّه تعالى يقول: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً فالخير: الصحّة و الغنى، و الشرّ: المرض و الفقر» (5).

فحاصل الآية أنّ الغرض من حياة الدنيا الابتلاء، و التعريض للثواب و العقاب، و أنّ القول بنفي البعث و المعاد باطل مخالف للحكمة في خلق الإنسان.

ثمّ حكى سبحانه استهزاء المشركين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لقوله بالتوحيد و ذمّه الأصنام بقوله: وَ إِذا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد اللّه إِنْ يَتَّخِذُونَكَ و لا يفعلون بك إِلاّ هُزُواً و سخريّة لادّعائك النبوّة و دعوتك إلى التوحيد و ذمك الأصنام، و يقول بعضهم لبعض استهزاء: أَ هذَا الرجل الوحيد الفقير هو اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بالسّوء وَ هُمْ أحقّاء بالاستهزاء و التّعييب، لأنّهم بِذِكْرِ اَلرَّحْمنِ المنعم على عامّة الموجودات هُمْ كافِرُونَ و لحقوقه و صفاته الكماليّة من التوحيد و القدرة و الغناء عمّا سواه منكرون.

قيل: نزلت الآية في أبي جهل، مرّ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو مع أبي سفيان، فقال لأبي سفيان: هذا نبيّ بني عبد مناف؟ ! فقال أبو سفيان: ما تنكر أن يكون نبيّا في بني عبد مناف، فسمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قولهما، فقال لأبي جهل: «ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمّك الوليد بن المغيرة، و أمّا أنت يا أبا سفيان فإنّما

ص: 281


1- . تفسير الرازي 22:169.
2- . في النسخة: فيشمتونه.
3- . تفسير الرازي 22:169.
4- . تفسير روح البيان 5:475، و الآية من سورة الطور:52/30.
5- . مجمع البيان 7:74، تفسير الصافي 3:339.

قلت ما قلت حميّة» فنزلت (1).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 37 الی 38

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المشركين على استهزائهم بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذمّهم على تعجيلهم في العذاب الموعود استهزاء بقوله: خُلِقَ اَلْإِنْسانُ بنوعه مِنْ عَجَلٍ و السّرعة في طلب المطلوب، و قلّة الصّبر عليه، فنزّل سبحانه الخلق الذي طبع عليه منزلة مبدء خلقه إيذانا بعدم انفكاكه منه. و من عجلته استعجاله نزول العذاب الذي كان يعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إيّاه.

خُلِقَ اَلْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)روي أنّها نزلت في النّضر بن الحارث حين استعجل العذاب بقوله: اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو آئتنا بعذاب أليم (2).

و عن ابن عباس: أنّ المراد بالإنسان آدم عليه السّلام، فإنّه حين بلغ الرّوح صدره أراد أن يقوم (3).

أقول: لعلّ المراد أنّ العجلة أوّلا كانت خلقه عليه السّلام، ثمّ سرى هذا الخلق في أولاده و ذريّته.

و قيل: إنّ المراد بالعجل الطّين (4)، و المعنى: خلق الإنسان من طين، و هذا المعنى في غاية البعد.

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب إلى المستعجلين و هدّدهم بقوله: سَأُرِيكُمْ و أنزل عليكم عن قريب آياتِي و عقوباتي الدالّة على كمال قدرتي و قهّاريتي في الدنيا أو في الآخرة فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها، فإنّه استعجال في ما يضرّكم غاية الضّرر،

و هو خلاف العقل و عين السّفه وَ يَقُولُونَ استعجالا عن استهزاء بالنبيّ (5)و المؤمنين بعد وعدهم إيّاهم بالعذاب: مَتى يقع هذَا اَلْوَعْدُ الّذي تعدوننا به، فأتونا به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 39 الی 42

لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ مِنَ اَلرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)

ص: 282


1- . تفسير الرازي 22:170.
2- . تفسير أبي السعود 6:67.
3- . تفسير أبي السعود 6:67، تفسير روح البيان 5:480.
4- . تفسير أبي السعود 6:67.
5- . في النسخة: للنبيّ.

ثمّ أجابهم سبحانه بقوله: لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ و لا يقدرون أن يدفعوا عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ لإحاطتها بهم من كلّ جانب وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ من أحد في دفعها، و لا يعاونون من نفس عليها (1)لما استعجلوا به، أو يعلمون حقيقة الحال

بَلْ تَأْتِيهِمْ العدة أو النّار أو الساعة بَغْتَةً و غفلة عنه فَتَبْهَتُهُمْ و تحيّرهم أو تغلبهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ حين إتيانها رَدَّها و صرفها عن أنفسهم وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و يمهلون، كي يستريحوا منها طرفة عين، فإنّ الإمهال مختصّ بالدنيا، أو كي يعتذروا من معاصيهم، أو لا ينظر إليهم و إلى تضرّعهم.

ثمّ لمّا حكى سبحانه استهزاء المشركين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله سلاّه و وعده بالنّصر بقوله: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثيرة عظماء القدر كانوا مِنْ قَبْلِكَ كما استهزأ قومك بك فصبروا فَحاقَ و أحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ بعد سخريّتهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، فهلكوا جميعا، و كذلك حال المستهزئين بك.

ثمّ أنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تهديد المستهزئين به أمره بتقريعهم بقوله: قُلْ يا محمّد للمستهزئين: مَنْ الذي يَكْلَؤُكُمْ و يحفظكم بِاللَّيْلِ الذي هو أغلب مواقع البليّات وَ اَلنَّهارِ الذي يختصّ بالآفات مَنْ عذاب اَلرَّحْمنِ غيره برحمته الواسعة، فإنّه هو الذي يمهلكم مع شدّة استحقاقكم بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ بحيث لا يخطر ببالهم، فضلا عن أن يخافوا منه، و لا يعدّون ما هم عليه من الأمن و الدّعة حفظا و كلاءة حتى يسألوا عن الكالئ. و في إضافة الإعراض إلى الذّكر، و إضافة الذّكر إلى الربّ، تنبيه على كونهم في الغاية القصوى من الضّلال.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم بقوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ قيل: المعنى بل لهم (2)، أو ألهم (3)، أو بل ألهم (4)آلهة تَمْنَعُهُمْ و تحفظهم من العذاب و الآفات اللّيليّة و النّهاريّة التي تكون مِنْ دُونِنا و عندنا.

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ اَلْغالِبُونَ (44)و قيل: يعني تتجاوز منعنا (5)، أو آلهة يكونون من دوننا، و هم معوّلون عليها، مع أنّهم لغاية ضعفهم لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ و رفع الكسر و القطع و التّلويث عنها وَ لا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ بالنّصر،

ص: 283


1- . هكذا الظاهر، و في النسخة: عليه.
2- . تفسير روح البيان 5:483.
3- . تفسير الرازي 22:174.
4- . تفسير البيضاوي 2:71.
5- . تفسير أبي السعود 6:69.

أو يمنعون، كما عن ابن عبّاس (1).

و قيل: يعني لا يكون لهم من جهتنا ما يصحبهم من السّكينة و الرّوح و الرّفق و غير ذلك ممّا يصحب أولياءنا، فكيف يتوهّم أنّهم ينصرون غيرهم؟ (2)بَلْ مع أنّا حفظناهم من كلّ آفة مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ و أنعمنا عليهم بالنّعم الكثيرة الدنيويّة في المدّة الطويلة حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ في الغفلة فنسوا عهدنا، و جهلوا موقع نعمنا، و اغترّوا بها، مع أنّه لا وجه لاغترارهم بها مع أنّها تزول و تذهب بسرعة، و أنّهم مقهورون تحت قدرتنا، و يرون آثار عذابنا أَ فَلا يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ التي يسكنونها و نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها و جوانبها بتسليط المسلمين عليها، و فتحهم بلادها و قراها، و نزيدها في ملك محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: يعني: إنّما نميت رؤساءهم، أو ننقص من الشرّك بإهلاك أهله، فيعتبرون بما يرون. فيؤمنون بالرسول، و يعلمون أنّ نعمهم منّا و بقاءها و زوالها بيدنا، أو يعلمون أنّا قادرون على إنجاز وعدنا إيّاهم بالعذاب، و هم لا يقدرون على حفظه منه (3).

عن ابن عبّاس: تفسير نقص الأرض نقصها بفتح البلاد، أو نقصان أهلها و بركتها (4).

و قيل: تخريب قراها بموت أهلها (5).

و قيل: هو موت العلماء (6)، كما روي عن الصادق عليه السّلام (5)و اعترض عليه البعض بأنّ الآية نزلت في كفّار مكّة، فكيف يدخل فيها العلماء و الفقهاء؟

و فيه: أنّ المراد من الأرض على هذا التفسير مطلقها، و إن كان المقصود اعتبار أهل مكّة، و يمكن أن يكون المراد من النقص المعنى العامّ الشامل للجميع بإرادة عموم المجاز.

ثمّ أنكر سبحانه على المشركين توهّم غلبتهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين مع مشاهدتهم آثار قدرة اللّه عليهم بقوله: أَ فَهُمُ اَلْغالِبُونَ و القاهرون على نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و على المؤمنين به مع رؤيتهم آثار قدرتنا و نصرتنا إيّاهم، أم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و حزبه الذين هم حزب اللّه غالبون على اولئك الكفرة الطّغاة.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 45 الی 46

قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (46)

ص: 284


1- . تفسير روح البيان 5:483.
2- . تفسير روح البيان 5:483.
3- . تفسير الرازي 22:174.
4- . تفسير الرازي 22:175. (5 و 6) . مجمع البيان 7:79، تفسير الرازي 22:175.
5- . مجمع البيان 7:79، تفسير الصافي 3:341.

ثمّ أنّه تعالى بعد إكثار الأدلّة على بطلان الشّرك و تكرارها على التوحيد و عدم انتفاع المشركين بها، و الإبلاغ في وعدهم بالعذاب و عدم مبالاتهم به، و مبالغتهم في الاستعجال بوعد الرسول إستهزاء به، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتبليغ و الاهتمام بأداء وظيفة الرسالة، و عدم الاعتناء بترّهاتهم بقوله: قُلْ يا محمّد للمشركين المستهزئين بك إِنَّما أُنْذِرُكُمْ أيّها الطغاة على حسب وظيفتي من قبل ربّي بِالْوَحْيِ الذي جاءني بتوسّط جبرئيل، و بالقرآن الذي نزل إليّ، و ليس لي أن آتيكم بما انذركم به من العذاب، فإنّه بقدرة ربّي و مشيئته، و أنتم لعدم انتفاعكم بدعوتي و إنذاري كالصّمّ وَ لا يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعاءَ و نداء المنادي إِذا ما يُنْذَرُونَ و إنّما قيّد الدعاء بوقوعه وقت الإنذار؛ لأنّ المعتاد في إنذار الأصمّ الإفراط في رفع الصوت و تكريره و الإبلاغ في تفهيمه بالإشارة الدالّة عليه، فإذا لم يسمعوا مع ذلك يكون صممهم إلى حدّ لا وراء له.

ثمّ بيّن سبحانه أن تعجيلهم بالعذاب إنّما هو لجهلهم بشدّته و كيفيّته، و أنّهم إذا رأوه يعترفون على أنفسهم بالظّلم و يعتذرون من تصاممهم بقوله: وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ و واللّه إن أصابتهم أدنى مرتبة الاصابة نَفْحَةٌ و شيء يسير كالرائحة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لتنادوا بالويل و الثّبور و لَيَقُولُنَّ تذلّلا و تحسّرا و تندّما و اعترافا بفساد عقائدهم و أعمالهم: يا وَيْلَنا و هلاكنا إِنّا كُنّا في الدنيا ظالِمِينَ على اللّه بإثبات الشريك له، و على الرسول بالاستهزاء، و على أنفسنا بتعريضها للهلاك.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ بيّن سبحانه كمال العدل في تعذيبهم بقوله: وَ نَضَعُ و ننصب اَلْمَوازِينَ اَلْقِسْطَ و العدل لِيَوْمِ اَلْقِيامَةِ لوزن العقائد و الأعمال بها، ليعلم النّاس مقدار سيّئاتهم و حسناتهم، و ما يستحقّون من الثواب و العقاب، و قد مرّ تحقيق المراد من الموازين و ما يوزن بها في سورة الأعراف (1)فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ من النفوس شَيْئاً من حقّها، بل يوفّى حقّ كلّ ذي حقّ إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ وَ إِنْ كانَ عملها مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ و مقدارها في الصغر و الحقارة، أحضرنا ذلك العمل الّذي له وزن حبّة هي أصغر الحبوب و أَتَيْنا بِها للحساب، و نضعها في الموازين وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ للأعمال عادلين فيها.

وَ نَضَعُ اَلْمَوازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ اَلْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)

ص: 285


1- . تقدّم في تفسير الآية 8 و 9 من سورة الأعراف.

عن ابن عبّاس: يعني عالمين حافظين (1)، إذ لا أعلم و لا أحفظ منّا.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الشّرك، و إثبات التوحيد و المعاد بالأدلّة القاطعة، و دفع شبهة المشركين في الرسالة، شرع في بيان أحوال الأنبياء العظام الّذين كانوا من البشر و دعاة إلى التوحيد و المعاد بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ أخاه هارُونَ التّوراة الّتي تكون هي اَلْفُرْقانَ و المميّز بين الحقّ و الباطل وَ ضِياءً يستضاء بها في ظلمات الحيرة و الجهالة وَ ذِكْراً و عظة عظيمة لِلْمُتَّقِينَ و المحترزين من القبائح و سوء العواقب، فإنّهم المستضيئون بأنواره المغتنمون بغنائم آثاره.

و قيل: إنّ الفرقان هو النّصر على الأعداء (2).

و قيل: هو البرهان الذي فرّق به الدين الحقّ عن الأديان الباطلة (3).

و قيل: هو فلق البحر (4).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ وصف اللّه المتّقين بقوله: اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ و يخافون من عذابه الذي يكون بِالْغَيْبِ عنهم، و في السّتر عن أعينهم.

اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)و قيل: يعني يخشون ربّهم و هم غائبون عن الآخرة (5).

و قيل: يخشون ربّهم في الخلوات و الغياب عن الناس (6)وَ هُمْ مِنَ عذاب اَلسّاعَةِ و أهوالها مُشْفِقُونَ و وجلون، أو مرتعدون، فلذلك يحترزون عن اتّباع الشّهوات و ارتكاب السيّئات.

ثمّ لمّا مدح اللّه سبحانه التوراة، مدح القرآن بقوله: وَ هذا القرآن العظيم ذِكْرٌ و عظة للناس إلى يوم القيامة و مُبارَكٌ كثير الخير و النفع، أو ما يتبرّك به أَنْزَلْناهُ بتوسط جبرئيل كما أنزلنا التوراة من قبل أَ فَأَنْتُمْ يا معشر قريش لَهُ نزولا و بركة مُنْكِرُونَ مع عدم المجال لإنكاره لاشتماله على معجزات كثيرة.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 51 الی 58

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ اَلتَّماثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ (56) وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

ص: 286


1- . تفسير روح البيان 5:486.
2- . تفسير الرازي 22:178، تفسير أبي السعود 6:71.
3- . تفسير الرازي 22:179.
4- . تفسير الرازي 22:179، تفسير أبي السعود 6:71. (5 و 6) . تفسير الرازي 22:179.

ثمّ بيّن سبحانه عظم شأن إبراهيم عليه السّلام و رسالته و كيفيّة دعوته بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا إِبْراهِيمَ الخليل رُشْدَهُ و هدايته إلى الحقّ و مصالح الدين و الدنيا مِنْ قَبْلُ و في العصر السابق على عصر موسى عليه السّلام، كما عن ابن عباس (1). أو في عالم الذرّ حين أخذنا ميثاق النبيّين، كما عنه أيضا (2)وَ كُنّا بِهِ و بأهليّته لذلك العطاء عالِمِينَ و اذكر يا محمّد إِذْ قالَ حسب وظيفة الرسالة لِأَبِيهِ آزر وَ قَوْمِهِ قيل: هم أهل بابل (1): ما هذِهِ اَلتَّماثِيلُ و الصّور المجسّمة اَلَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ و إلى عبادتها مقبلون، و لخدمتها ملتزمون؟

قالُوا في و جوابه: إنّا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ و نحن لهم مقلّدون، و بهم مقتدون.

قالَ إبراهيم عليه السّلام: باللّه لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ أيّها المقلّدون وَ آباؤُكُمْ الّذين اقتديتم بهم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و خطأ ظاهر عظيم لا يخفى على ذي شعور

قالُوا تعجّبا و استبعادا منه لمخالفته أهل بلده: أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ و كلام صدق و عن جدّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّعِبِينَ و الهازلين بهذا القول المخالف للأكثرين و من المازحين معنا؟

قالَ إبراهيم: لست من اللاعبين و المازحين بَلْ أقول عن جدّ و حقيقة: رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ و خلقهنّ بقدرته و حكمته بلا مثال سابق، أو الذي خلق التماثيل وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ الذي ذكرته من كون الربّ و الإله ربّ جميع الموجودات وحده دون التماثيل و غيرها مِنَ اَلشّاهِدِينَ و العالمين به بالبراهين.

قيل: إنّ قومه كان لهم عيد يخرجون فيه من البلد إلى الصحراء للطّرب و البطر، ثمّ يعودون إلى بيوت أصنامهم و يزيّنونها و يعبدونها، فلمّا ناظر إبراهيم عليه السّلام بعضهم قالوا: غدا يوم العيد فاخرج معنا و انظر محاسن ديننا، فسكت إبراهيم عليه السّلام، فلمّا كان الغد جاءوا إليه و سألوه الخروج معهم، فاعتلّ و تمارض و قال: إِنِّي سَقِيمٌ يعني عن عبادة الأصنام (2)،

فلمّا ذهبوا قال إبراهيم في نفسه: وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ و احتالنّ و اجتهدنّ في كسرها، أو لأحتالنّ بكم في كسرها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا و ترجعوا مُدْبِرِينَ و ذاهبين من بيوتها إلى عيدكم.

ص: 287


1- . تفسير روح البيان 5:490.
2- . تفسير روح البيان 5:492.

و عن السّدّي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثمّ عادوا إلى منازلهم، فلمّا كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه السّلام: لو خرجت معنا؟ فخرج معهم، فلمّا كان ببعض الطريق ألقى نفسه و قال: إِنِّي سَقِيمٌ و اشتكى رجله، فلمّا مضوا و بقي الضعفاء نادى وَ قال: تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (1).

و عن الكلبي: كان إبراهيم من أهل بيت ينظر [ون]في النجوم، و كانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلاّ مريضا، فلمّا همّ إبراهيم بكسر الأصنام، نظر قبل يوم العيد إلى السماء، فقال لأصحابه: أراني أشتكي غدا، فأصبح من الغد معصوبا رأسه، فخرج القوم لعيدهم و لم يتخلّف أحد غيره، فقال: أما و اللّه لأكيدنّ أصنامكم، فسمع قوله رجل منهم، فأخبر به غيره فانتشر ذلك (2).

و روي أنّ آزر خرج به في عيد لهم، فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه، و سجدوا لها و وضعوا بينها طعاما و خبزا، و قالوا: الآن ترجع بركة الآلهة على طعامنا، فذهبوا و بقي إبراهيم عليه السّلام فنظر إلى الأصنام فقال مستهزئا بهم: ما لكم لا تنطقون، ما لكم لا تأكلون؟ !

ثمّ التفت إلى فأس معلّق فتناوله، و كان هناك سبعين صنما، و كان صنم عظيم مستقبل الباب، و كان من ذهب، و كان في عينيه جوهرتان تضيئان، فكسر الكلّ بالفأس فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً و قطعا متفرّقة إِلاّ كَبِيراً كان لَهُمْ فإنّه عليه السّلام لم يكسره و علّق الفأس في عنقه (3)لَعَلَّهُمْ بعد رجوعهم من عيدهم و رؤيتهم فعل إبراهيم عليه السّلام إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ في تعيين الكاسر لتسامعهم إنكاره لدينهم و سبّه آلهتهم، أو إلى مقالته من التوحيد يرجعون، و عن دينهم الباطل يعدلون، لرؤيتهم أنّ أصنامهم لم يقدروا على أن يدفعوا عن أنفسهم ضرّا و لم ينل من أهانهم (4)و كسرهم ضرر.

و قيل: يعني لعلّهم إلى الصنم الكبير يرجعون، و إنّما قال عليه السّلام ذلك استهزاء بهم (5).

و قيل: يعني يرجعون إليه في حلّ مشكلهم من تعيين الكاسر، و علّة إبقاء الكبير و تعليق الفأس في عنقه و كسر ما عداه (6)، حتّى يظهر غاية جهالتهم و حماقتهم.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 59 الی 65

قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ اَلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

ص: 288


1- . تفسير الرازي 22:182.
2- . تفسير الرازي 22:182.
3- . تفسير أبي السعود 6:73.
4- . في النسخة: أهان بهم. (5 و 6) . تفسير الرازي 22:183.

ثمّ لمّا رجع القوم من عيدهم و دخلوا بيت الأصنام ليسجدوا لهم، رأوا ما فعل إبراهيم عليه السّلام بهم قالُوا تشنيعا على كاسرهم و تهديدا له: مَنْ فَعَلَ هذا الفعل بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك، أو على الآلهة المستحقّة للتعظيم بجرأته على كسرهم و توهينهم، فلمّا سمع هذا الكلام الذين علموا أنّه قال إبراهيم عليه السّلام: تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (1)،

قالُوا: يا قوم إنّا سَمِعْنا من النّاس أنّ فَتًى و شابّا يعيب الآلهة و يَذْكُرُهُمْ بسوء يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ فلعلّه فعل ذلك بهم.

فلمّا سمع القوم ذلك قالُوا -و قيل: إنّ نمرود و أشراف قومه قالوا في ما بينهم-: فَأْتُوا بِهِ و أحضروه عَلى أَعْيُنِ اَلنّاسِ (2)و بمرأى منهم و منظر، و فيهم الذين عرفوه لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بأنّه فعل ذلك، أو قال ذلك القول لئلاّ يأخذه بلا بيّنة،

فلمّا أحضروا إبراهيم عليه السّلام قالُوا تقريرا له: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا الفعل بِآلِهَتِنا و أصنامنا يا إِبْراهِيمُ قالَ في جوابهم تهكّما: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا الذي لم يكسر، لغضبه على أن تعبد معه هذه الأصنام الصّغار، كما قيل (3)، فان لم تقبلوا قولي فَسْئَلُوهُمْ عمّن فعل بهم ذلك إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ حتى يصدّقوني في ما اخبركم به.

روت العامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه لم يكذب إبراهيم عليه السّلام إلاّ ثلاث كذبات؛ أحدها أنّه قال: إِنِّي سَقِيمٌ، و الثانية أنّه قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا و الثالثة أنه [قال لسارة: هي أختي]» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما قال ابراهيم عليه السّلام: إن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل، و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا، فما نطقوا، و ما كذب إبراهيم» (5).

و عنه عليه السّلام أيضا إنّما قال: «بل فعله كبيرهم، إرادة الإصلاح و دلالة على أنّهم لا يفعلون (6)» ، ثمّ قال: «و اللّه ما فعله و ما كذب» (7).

فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ و راجعوا إلى عقولهم، و تذكّروا أنّ ما لا يقدر على دفع الضّرر عن نفسه، و لا على الإضرار بمن كسره، يستحيل أن يقدر على دفع الضّرر عن غيره، و ما يكون كذلك لا يجوز عبادته.

ص: 289


1- . الأنبياء:21/57.
2- . تفسير روح البيان 5:494.
3- . تفسير روح البيان 5:494.
4- . تفسير الرازي 22:185، تفسير روح البيان 5:494.
5- . معاني الأخبار:210/1، تفسير الصافي 3:343.
6- . الكافي 2:256/17، تفسير الصافي 3:343.
7- . الكافي 2:256/22، تفسير الصافي 3:343.

و قيل: يعني رجعوا إلى أنفسهم فلاموها (1)فَقالُوا فيما بينهم: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّالِمُونَ على أنفسكم بعبادتهم لا من كسرهم، أو ظالمون على إبراهيم عليه السّلام حيث تزعمون أنّه كسرهم، مع أنّ الفأس عند الصنم الكبير، أو الظالمون على أنفسكم حيث سألتم إبراهيم عليه السّلام عن ذلك، فأخذ يستهزئ بكم في الجواب

ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ و عادوا إلى ما كانوا عليه من الحمق و المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة إلى عقولهم.

و قيل: يعني ثمّ قلبوا على رؤوسهم لفرط إطراقهم خجلا و انكسارا بما بهتهم به إبراهيم عليه السّلام، فما أحاروا جوابا (2)إلاّ أنّهم قالوا: و اللّه لَقَدْ عَلِمْتَ يا إبراهيم ما هؤُلاءِ الأصنام يَنْطِقُونَ فكيف تأمرنا بالسؤال، عنهم فاعترفوا بلزوم حجّة إبراهيم عليه السّلام عليهم.

و قيل: يعني قلبوا على رؤوسهم في الحجّة على إبراهيم عليه السّلام، و احتجّوا عليه بما هو الحجّة له، لغاية تحيّرهم، و المراد نكست حجّتهم، فأقاموا الحجّة عليهم مقام الحجّة لهم (3).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 66 الی 69

ثمّ قالَ إبراهيم عليه السّلام توبيخا عليهم و تبكيتا لهم: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً إن عبدتموه وَ لا يَضُرُّكُمْ إن لا تعبدوه، بل ولو أهنتموه؟ مع أنّ المعبود لا بدّ أن يكون قادرا على الإنفاع و الإضرار، كي لا تكون عبادته عبثا.

قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)

ثمّ لمّا رأى إصرارهم على باطلهم قال تضجّرا منهم: أُفٍّ لَكُمْ و قبحا وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ من الجمادات الخسيسة أَ فَلا تَعْقِلُونَ قبح صنيعكم و شناعة عملكم.

ثمّ لمّا عجزوا عن الغلبة عليه بالحجّة تشاوروا في إهلاكه و قالُوا: إن أردتم إهلاكه حَرِّقُوهُ بالنار، فإنّه أشدّ العقوبات وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ فعلا في نصرتهم و الانتقام لهم.

قيل: إنّ القائل نمرود (4). و قيل: إنّه رجل من الكرد، من أعراب فارس (5). و قيل: إنّه رجل اسمه هبرين، خسف اللّه به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (6).

ص: 290


1- . تفسير الرازي 22:186.
2- . تفسير الرازي 22:186.
3- . تفسير الرازي 22:186.
4- . تفسير الرازي 22:187.
5- . تفسير الرازي 22:187.
6- . تفسير الرازي 22:187.

قصة إلقاء

إبراهيم عليه السّلام في

النّار

ثم لمّا اتّفقوا على إحراقه، حبسه نمرود و بنى بنيانا كالحظيرة، و اهتمّ الناس بجمع الحطب، حتى إنّ المرأة لو مرضت نذرت إن عافاها اللّه منه جمعت الحطب لإبراهيم، و كانوا على ذلك أربعين يوما.

و روي أنّ الدوابّ امتنعت من حمل الحطب إلاّ البغال، فعاقبها اللّه بأن أعقمها (1).

قيل: صبّوا على الحطب دهنا كثيرا، ثمّ أضرموا فيه النّار، و أوقدوها سبعة أيّام، فلمّا اشتعلت النّار صار الهواء بحيث لو مرّ الطير في أقصى الجوّ لاحترق (2).

روي أنّهم لم يعلموا كيف يلقون إبراهيم عليه السّلام فيها لعدم إمكان قربهم منها، فجاء إبليس في صورة شيخ و علّمهم عمل المنجنيق (3).

و قيل: تمثّل لهم في صورة نجّار فصنعه لهم، ثمّ نصبوه على رأس الجبل، و وضعوا إبراهيم عليه السّلام فيه مقيّدا مغلولا، فصاحت الّسماء و الأرض و من فيهما إلاّ الثقلين صيحة واحدة: أي ربّنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم، و هو يحرق فيك! فأذن لنا في نصرته. فقال تعالى: إن استعان بأحد منكم لينصره، فقد أذنت له في ذلك، و إن لم يدع غيري فأنا أعلم به و أنا وليّه، فخلّوا بيني و بينه، فإنّه خليلي ليس لي خليل غيره، و أنا إلهه ليس له إله غيري.

فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن الرّياح فقال: إن شئت طيّرت النار في الهواء، و أتاه خازن المياه و قال: إن أردت أخمدت النار. فقال إبراهيم عليه السّلام: لا حاجة لي إليكم، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء فقال: أنت الواحد في السّماء و أنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض من يعبدك غيري، حسبي اللّه و نعم الوكيل.

و أقبلت الملائكة فلزموا كفّة المنجنيق، فرفعه أعوان نمرود، فلم يرتفع. فقال لهم إبليس: أتحبّون أن يرتفع؟ قالوا: نعم. قال: ائتوني بعشر نسوة، فأتوا بهنّ، إلى أن قال: فمدّت الأعوان المنجنيق، و ذهبت الملائكة، فلمّا القي في النار قال: لا إله إلاّ أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد و لك الملك لا شريك لك (4).

و روي أنّ جبرئيل أدركه في الهواء، و قال: هل لك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، فقال: سل ربّك حاجتك. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. فأخبر سبحانه عن إجابته له بقوله: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (5).

ص: 291


1- . تفسير روح البيان 5:497.
2- . تفسير روح البيان 5:497.
3- . تفسير روح البيان 5:497.
4- . تفسير روح البيان 5:497.
5- . تفسير روح البيان 5:498.

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا القي في النّار قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحق محمّد و آله لمّا أنجيتني منها، فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما» (1).

و عن ابن عبّاس: لو لم يتّبع بردا سلاما لمات إبراهيم عليه السّلام من بردها، و لم يبق يومئذ في الدنيا نار إلاّ طفئت (2).

قيل: فأخذت الملائكة بضبعي (3)إبراهيم عليه السّلام، و أقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب، و ورد أحمر و نرجس، و لم تحرق النار منه إلاّ وثاقه (4).

و قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا القي في النّار كان فيها أربعين يوما أو خمسين، و قال: ما كنت أيّاما أطيب عيشا منّي إذ كنت فيها (5).

و قيل: بعث اللّه ملك الظلّ في صورة إبراهيم عليه السّلام، فقعد إلى جنبه يؤنسه، و أتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة و قال: يا إبراهيم، إنّ ربّك يقول: أما علمت أنّ النّار لا تضرّ أحبّائي؟ ثمّ نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم عليه السّلام، فرآه جالسا في روضة، و رأى الملك قاعدا إلى جنبه، و حوله نار تحرق الحطب، فناداه: يا إبراهيم، هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: قم فاخرج منها، فقام يمشي حتى خرج منها.

قال له نمرود: من الرجل الذي رأيته معك في صورتك؟ قال: ذلك ملك الظلّ أرسله ربّي ليؤنسني فيها. فقال نمرود: إنّي مقرّب إلى ربّك قربانا لما رأيت من قدرته و عزّته في ما صنع بك، فإنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة.

فقال إبراهيم عليه السّلام: لا يقبل اللّه منك ما دمت على دينك. فقال نمرود: لا أستطيع أن أترك ملكي، و لكن سوف أذبحها له؛ ثمّ ذبحها له، ثمّ أوقدوا عليه النار سبعة أيّام، ثمّ أطبقوا عليه، ثمّ فتحوا عليه من الغد، فإذا هو [غير]محترق يعرق عرقا (6).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 70 الی 73

وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ (70) وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (73)

ص: 292


1- . الاحتجاج:48، تفسير الصافي 3:344.
2- . تفسير الرازي 22:188.
3- . الضّبع: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها، و هما ضبعان.
4- . تفسير الرازي 22:188، و الوثاق: ما يشدّ به، كالحبل و غيره.
5- . تفسير الرازي 22:188.
6- . تفسير الرازي 22:188.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إلقاءهم إبراهيم عليه السّلام في النّار صار معجزة قاهرة له بقوله: وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً و مكرا عظيما في الإضرار به و إهلاكه فَجَعَلْناهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ من كلّ خاسر حيث صار سعيهم في إهلاك إبراهيم عليه السّلام بالنار دليلا ظاهرا كالنّار على المنار على رسالته، و [صار]

اتّفاقهم على إطفاء نور الحقّ برهانا قاطعا على حقّانيّته.

و قيل: يعني جعلناهم الهالكين بتسليط البعوض عليهم و قتله إيّاهم مع كونه أضعف خلق اللّه تعالى، و ما برح نمرود حتى رأى أصحابه قد أكل البعوض لحومهم، و شرب دماءهم، و وقعت بعوضة في منخره، فلم تزل تأكل منه إلى أن وصلت إلى دماغه، و كان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة (1)من حديد، فأقام بهذا الحال نحوا من أربعمائة سنة ثمّ مات، كذا قيل (2).

ثمّ ذكر سبحانه سائر نعمه العظام على إبراهيم عليه السّلام بقوله: وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً الذي هو ابن أخيه، أو ابن خالته، من شرّ الكفّار و مجاورتهم مهاجرين من بابل و أرض العراق إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا و أكثرنا نعمنا فِيها لِلْعالَمِينَ من حيث إكثار المياه و الأشجار و الثّمار و الحطب، و طيب العيش للغنيّ و الفقير، و بعث الأنبياء و نشر الشّرائع، و هي أرض الشام.

و عن أبيّ بن كعب: سماها مباركة لأنّه ما من ماء عذب إلاّ و ينبع أصله من تحت الصّخرة التي ببيت المقدس (3).

قيل: خرج إبراهيم مع لوط و سارة من كوثى، و هو من بلاد أرض بابل، مهاجرا إلى ربّه، و فرارا بدينه، حتى نزل بحرّان، فمكث بها ما شاء اللّه، ثمّ ارتحل منها و نزل بفلسطين، ثمّ خرج منها مهاجرا حتى قدم مصرا، ثمّ خرج من مصر و عاد إلى أرض الشام، و نزل لوط بالمؤتفكة و بعثه اللّه نبيّا إلى أهلها (4).

و في الحديث: بيت المقدس أرض الحشر و النّشر، و الشام صفوة اللّه من بلاده يجيئ إليها صفوة خلقة (5).

و كان من المنن أنّا أنعمنا على إبراهيم عليه السّلام وَ وَهَبْنا لَهُ بعد هجرته إلى الأرض المباركة و نزوله فيها إِسْحاقَ من صلبه و رحم سارة وَ يَعْقُوبَ من صلب إسحاق عليه السّلام حال كونه نافِلَةً

ص: 293


1- . المرزبة: عصيّة من حديد، و مطرقة كبيرة تكسر بها الحجارة.
2- . تفسير روح البيان 5:500.
3- . تفسير روح البيان 5:501. (4 و 5) . تفسير روح البيان 5:501.

و عطيّة زائدة وَ كُلاًّ من الأربعة، أو من إسحاق و يعقوب عليهما السّلام جَعَلْنا هم بتوفيقنا صالِحِينَ و جامعين لخيرات الدّين و الدّنيا

وَ جَعَلْناهُمْ برحمتنا أَئِمَّةً للنّاس و مقتدين لهم في امور الدين، و هداة يَهْدُونَ الخلق إلى الحقّ بِأَمْرِنا لهم بذلك، و إرسالنا إيّاهم إليهم وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ ليحثّوا الناس عليها وَ كانُوا أنفسهم لَنا خاصّة عابِدِينَ و خاضعين و مطيعين.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 74 الی 77

ثمّ ذكر اللّه نعمته على لوط بإيمانه بإبراهيم عليه السّلام و تبعيّته له بقوله: وَ لُوطاً آتَيْناهُ من فضلنا حُكْماً و قضاء بين الناس، أو الحكمة التي هي أفضل النّعم، أو النبوّة التي هي أعلى المناصب وَ عِلْماً نافعا، و هو العلم بامور الدين و أحكام الشريعة وَ نَجَّيْناهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ جماعة سكّانها تَعْمَلُ اَلْخَبائِثَ و تفعل الفواحش من قطع الطريق، و إتيان المنكر في الأندية، و نكاح الرجال إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ لم تكن فيهم جهة حسن، و كانوا فاسِقِينَ و خارجين عن حدود العقل و الشرع، منهمكين في الكفر و الطّغيان

وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا الخاصة، و هي النبوّة، و الثّواب العظيم، كما عن ابن عبّاس (1). إنّه كان واحدا مِنَ اَلصّالِحِينَ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى.

وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْناهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ (75) وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ (76) وَ نَصَرْناهُ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على نوح عليه السّلام بقوله: وَ نُوحاً إِذْ نادى ربّه، و المعنى: اذكر نبأه الواقع حين دعائه على قومه بالهلاك مِنْ قَبْلُ و في الزمان السابق على إبراهيم فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه على قومه بقوله: «ربّ إنّي مغلوب فانتصر» فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ و أولاده و المؤمنين به مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ و الغمّ الشّديد،

من تكذيب القوم و إيذائهم، أو منه و من العذاب وَ نَصَرْناهُ نصرا مستتبعا للانتقام مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و دلائل توحيدنا، و رسالة رسلنا.

و قيل: يعني نصرناه من مكروه القوم (2)، أو عصمناه من مكرهم. و قيل: إنّ كلمة (من) بمعنى على (3)إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ و امّة رذيلة الأخلاق، و فاسدة العقائد و الأعمال فَأَغْرَقْناهُمْ بالطّوفان أَجْمَعِينَ بحيث لم ينفلت منهم أحد.

ص: 294


1- . تفسير الرازي 22:192. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:194.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 78 الی 80

وَ اذكر داوُدَ وَ سُلَيْمانَ، أو التقدير: و آتينا داود و سليمان رشدهما إِذْ يَحْكُمانِ فِي قضية اَلْحَرْثِ و الزّرع إِذْ نَفَشَتْ و تفرّقت فِيهِ باللّيل غَنَمُ اَلْقَوْمِ و قطيعهم وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ و قضائهم في تلك القضيّة شاهِدِينَ و حاضرين علما و إحاطة فَفَهَّمْناها و ألهمناها سُلَيْمانَ و هو ابن أحد عشر سنة، على ما روته العامة (1).

وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ اَلْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنّا فاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)ثمّ دفع سبحانه توهّم اختصاص العلم بالحكم بسليمان عليه السّلام بقوله: وَ كُلاًّ من داود و سليمان عليه السّلام آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً كثيرا، لا سليمان وحده.

روت العامة: أنّه دخل رجلان على داود عليه السّلام، أحدهما صاحب حرث، و الآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إنّ غنم هذا دخلت حرثي، فما أبقت منه شيئا. فقال داود عليه السّلام: إذهب فإنّ الغنم لك. فخرجا فمرّا بسليمان عليه السّلام، فقال: كيف قضى بينكما؟ فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا، فأخبر بذلك داود عليه السّلام فدعاه و قال: كيف قضيت بينهما؟ فقال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له منافعها من الدّرّ و النّسل و الوبر، حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئتة يوم أكل، دفعت الغنم إلى أهلها، و قبض صاحب الحرث حرثه (2).

و عن ابن مسعود: إنّ راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم و هو لا يشعر، فأكلت القضبان، و أفسدت الكرم، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السّلام، فقضى له بالغنم، لأنّه لم يكن بين ثمن الكرم و ثمن الغنم تفاوت، فخرجوا فمرّوا بسليمان عليه السّلام فقال لهم: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه به، فقال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر داود بذلك، فدعا سليمان و قال له: بحقّ الابوّة و النبوّة إلاّ أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين؟

فقال: هو ردّ الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق (3)بمنافعها، و يعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان، ثمّ تردّ الغنم إلى صاحبها. فقال داود عليه السّلام: إنّما القضاء ما قضيت، و حكم بذلك (4).

ص: 295


1- . تفسير روح البيان 5:505.
2- . تفسير الرازي 22:195، تفسير روح البيان 5:505.
3- . ارتفق بالشيء: انتفع و استعان.
4- . تفسير الرازي 22:195.

و رووا أنّ حكم داود عليه السّلام لم يكن على البتّ، و حملوا حكمهما على الاجتهاد (1). و لا يخفى ما في هذا الحمل من الفساد.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه كان أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى النبيّين قبل داود عليه السّلام إلى أن بعث اللّه داود عليه السّلام: أيّ غنم نفشت في الحرث فان لصاحب الحرث رقاب الغنم، و لا يكون النّفش إلاّ باللّيل، فإنّ على صاحب الزرع أن يحفظ زرعه بالنّهار، و على صاحب الغنم أن يحفظ غنمه باللّيل. فحكم داود عليه السّلام بما حكم به الأنبياء من قبل، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى سليمان عليه السّلام: أيّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلاّ ما خرج من بطونها، و كذلك جرت السنّة بعد سليمان عليه السّلام، و هو قول اللّه: وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً و حكم كلّ واحد بحكم اللّه عزّ و جلّ» (2).

و في رواية اخرى ما يقرب منه (3).

و عنه عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام أن اتّخذ وصيّا من أهلك، فإنّه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبيّا إلاّ و له وصيّ من أهله، و كان لداود عليه السّلام عدّة أولاد و فيهم غلام كانت أمّه عند داود عليه السّلام، و كان لها محبّا، فدخل عليها داود عليه السّلام حين أتاه الوحي فقال لها: إنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إليّ أن أتّخذ وصيّا من أهلي، فقالت له امرأته: فليكن ابني، قال: ذلك أريد، و كان السابق في علم اللّه المحتوم عنده أنّه سليمان عليه السّلام، فأوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري.

فلم يلبث داود عليه السّلام أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم و الكرم، و أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود عليه السّلام: أن اجمع ولدك، فمن قضى بهذه القضيّة فأصاب فهو وصيّك من بعدك، فجمع داود عليه السّلام ولده، فلمّا أن قصّ الخصمان قال سليمان عليه السّلام: يا صاحب الكرم، متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلا، قال: قد فضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك و أصوافها في عامك هذا.

ثمّ قال له داود عليه السّلام: فكيف لم تقض برقاب الغنم و قد قوّم ذلك علماء بني إسرائيل، فكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟ فقال سليمان عليه السّلام: إنّ الكرم لم يجتثّ من أصله، و إنّما أكل حمله و هو عائد من (4)قابل.

فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود عليه السّلام: إنّ القضاء في هذه القضيّة ما قضى سليمان عليه السّلام به، يا داود: أردت أمرا و أردنا أمرا غيره. فدخل داود عليه السّلام على امرأته فقال: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا غيره، و لم

ص: 296


1- . تفسير أبي السعود 6:79.
2- . الكافي 5:302/3، تفسير الصافي 3:348.
3- . الكافي 5:301/2، تفسير الصافي 3:348.
4- . في الكافي: في.

يكن إلاّ ما أراد اللّه، فقد رضينا بأمر اللّه عزّ و جل و سلّمنا. و كذلك الأوصياء ليس لهم أن يتعدّوا بهذا الأمر فيجاوزن صاحبه إلى غيره» (1).

و عنه عليه السّلام قال: «كان في بني إسرائيل رجل و كان له كرم، و نفشت فيه غنم لرجل [آخر]باللّيل، و قضمته و أفسدته، فجاء صاحب الكرم إلى داود عليه السّلام، فاستعدى على صاحب الغنم فقال داود عليه السّلام: إذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما. فذهبا إليه، فقال سليمان عليه السّلام: إن كانت الغنم أكلت الأصل و الفرع، فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم و ما في بطنها، و إن كانت ذهبت بالفرع و لم تذهب بالأصل، فإنّه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم، و كان هذا ما حكم داود عليه السّلام، و إنّما أراد أن يعرف بني إسرائيل أنّ سليمان عليه السّلام وصيّة بعده، و لم يختلفا في الحكم، و لو اختلف حكمهما لقال: كنّا لحكمهما شاهدين» (2).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لم يحكما، إنّما كانا يتناظران ففهّمناها سليمان» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «كان حكم داود رقاب الغنم، و الذي فهّم اللّه سليمان أنّ لصاحب الكرم اللّبن و الصّوف ذلك العام كلّه» (4).

أقول: هذه جملة الروايات الواردة، و تبيّن أنّ صريح جملة منها عدم صدور حكم من داود عليه السّلام كما عليه بعض مفسّري العامة، و من المعلوم أنّها مخالفة لظاهر الكتاب من قوله: إِذْ يَحْكُمانِ فِي اَلْحَرْثِ و قوله: وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ و ترتّب قوله: فَفَهَّمْناها على قوله: وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ و لازم التّرتّب سبق الحكم المخالف على التّفهيم، فلا بدّ من طرح الروايات المخالفة للكتاب، و حمل الموافقة له على حكم داود فيها بحكم سائر الأنبياء. ثمّ نسخه اللّه على لسان سليمان عليه السّلام إظهارا لعظمة شأنه و كونه نبيّا، أو بلسان داود عليه السّلام، و إنّما كان ما فهمه سليمان عليه السّلام حكمه الحكم الناسخ، و بيان أولويّته و أرجحيّته من الحكم المنسوخ، لوضوح عدم جواز الاجتهاد و الحكم بالظنّ و الاستحسان على الأنبياء، كما عليه العامة (5).

قال الفاضل المقداد في آيات أحكامه: هل كان حكمهما بوحي أو باجتهاد؟

الجواب: الوجه الحقّ عندنا أنّه بوحي، و الثاني ناسخ، كما هو قول الجبّائي (6).

ثمّ بيّن نعمته المختصّة بداود عليه السّلام بقوله: وَ سَخَّرْنا و دلّلنا مَعَ داوُدَ اَلْجِبالَ حال تسبيحه،

ص: 297


1- . الكافي 1:219/3، تفسير الصافي 3:348.
2- . تفسير القمي 2:73، تفسير الصافي 3:349.
3- . المحاسن:277/397، من لا يحضره الفقيه 3:57/198، تفسير الصافي 3:349.
4- . من لا يحضره الفقيه 3:57/199، تفسير الصافي 3:349.
5- . تفسير الرازي 22:196.
6- . كنز العرفان 2:379.

حيث إنّهنّ يُسَبِّحْنَ بتبعه. قيل: إنّ التقدير كيف سخّرها اللّه فقيل يسبّحن (1). وَ اَلطَّيْرَ بحيث يسمع كلّ أحد تسبيحها، و إنّما قدّم الجبال لكون تسبيحها أعجب.

قيل: كان داود عليه السّلام إذا وجد فترة سبّحت الجبال و الطّير بأمر اللّه ليزداد اشتياقا و نشاطا (2)وَ كُنّا بقدرتنا فاعِلِينَ ذلك الأمر العجيب.

و قيل: يعني كنّا فاعلين ذلك و أمثاله بالأنبياء، ليكون لهم معجزة (3).

عن ابن عبّاس: أنّ بني إسرائيل كانوا قد تفرّقوا قبل مبعث داود، و أقبلوا على ملاهي الشيطان، و هي العيدان و الطّنابير و المزامير و الصنوج (4)و ما أشبهها، فبعث اللّه داود عليه السّلام، و أعطاه من حسن الصّوت و نغمة الألحان حتى كان يتلو التّوراة بترجيع و خفض و رفع، فأذهل عقول بني إسرائيل، و شغلهم عن تلك الملاهي، و صاروا يجتمعون إلى داود عليه السّلام يستمعون ألحانه، و كان إذا سبّح تسبّح معه الجبال و الطّير و الوحش (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ داود خرج يقرأ الزّبور، و كان إذا قرأ الزّبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلاّ أجابه» (6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّ يهوديّا قال له: هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه. فقال: «إنّه كان كذلك» (7).

وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ و عمل دروع يكون ذلك التّعليم أو الدرع لَكُمْ أيّها الناس يعني لِتُحْصِنَكُمْ و تحفظكم اللّبوس و الدّروع مِنْ أن تصيبكم الجراحات في بَأْسِكُمْ و حربكم فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ لنعمة اللّه عليكم حيث سهّل عليكم المخرج من الشّدائد.

قيل: إنّ داود عليه السّلام خرج يوما متنكّرا ليطلب من يسأله عن سيرته في مملكته، فاستقبله جبرئيل على صورة آدمي و لم يعرفه داود عليه السّلام، فقال له: كيف ترى سيرة داود عليه السّلام في مملكته؟ فقال له جبرئيل: نعم الرجل هو لو لا أنّ فيه خصلة واحدة. قال: و ما هي؟ قال: بلغني أنّه يأكل من بيت المال، و ليس شيء أفضل من أن يأكل الرجل من كدّ يمينه، فرجع داود عليه السّلام و سأل اللّه أن يجعل رزقه من كدّ يمينه،

ص: 298


1- . الكشاف 3:129، تفسير الرازي 22:200.
2- . تفسير الرازي 22:199.
3- . تفسير الرازي 22:200.
4- . الطّنابير: جمع طنبور و هو آلة من آلات اللهو و اللعب و الطرب، ذات عنق و أوتار. و المزامير: جمع مزمار، و هو آلة من خشب أو معدن تنتهي قصبتها ببوق صغير. و الصّنوج: جمع صنج، و هو صفيحة مدورة من صفر يضرب بها على أخرى، و صفائح صغيرة مستديرة تثبت في أطراف الدفّ، أو في الأصابع ليدقّ بها عند الطرب.
5- . تفسير روح البيان 5:507.
6- . إكمال الدين:524/6، تفسير الصافي 3:349.
7- . الاحتجاج:219، تفسير الصافي 3:350.

فألان له الحديد، و كان يتّخذ الدّرع من الحديد و يبيعها، و يأكل من ذلك (1).

و عن الصادق عليه السّلام «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام: أنّك نعم العبد لو لا أنّك تأكل من بيت المال، و لا تعمل بيدك شيئا. قال: فبكى داود عليه السّلام أربعين صباحا، فأوحى اللّه إلى الحديد: أن لن لعبدي داود. فألان اللّه له الحديد، فكان يعمل في كلّ يوم درعا، فيبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة و ستّين درعا، فباعها بثلاثمائة و ستّين ألفا، و استغنى عن بيت المال» (2).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 81 الی 82

ثمّ بيّن سبحانه نعمه الخاصّة على سليمان عليه السّلام بقوله: وَ لِسُلَيْمانَ سخّرنا اَلرِّيحَ التي تكون عاصِفَةً شديدة الهبوب بحيث تقطع المسافة البعيدة في المدّة القليلة، و كانت تَجْرِي من كلّ جانب بِأَمْرِهِ و إرادته إِلى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا و أكثرنا النّعم الدنيويّة و الاخرويّة فِيها.

وَ لِسُلَيْمانَ اَلرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَ مِنَ اَلشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَ كُنّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)قيل: كانت تذهب به غدوة من الشام إلى ناحية من نواحي الأرض بينها و بين الشام مسيرة شهر إلى وقت الزّوال، ثمّ ترجع [به]منها إلى الشام بعد الزّوال عند الغروب (3).

قيل: عملت الشياطين لسليمان بساطا، فرسخا في فرسخ من ذهب و إبريسم، و كان يوضع له منبر في وسط البساط فيقعد عليه، و حوله كراسيّ من ذهب و فضّة، يقعد الأنبياء على كراسيّ الذهب، و العلماء على كراسيّ الفضّة، و حولهم الناس، و حول النّاس الجنّ و الشياطين، و تظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تطلع عليه الشمس، و ترفع ريح الصّبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرّواح، و من الرواح إلى الغروب، و كان عليه السّلام امرءا قلّما يقعد عن الغزو، و لا يسمع في ناحية من الأرض ملكا إلاّ أتاه و دعاه إلى الحقّ (4).

و قيل: جريانها بأمره كونها مطيعة له، إن أرادها عاصفة كانت عاصفة، و إن أرادها لينة كانت لينة (3). و كانت تسير من إصطخر إلى الشّام (4). و قيل: إلى بيت المقدس (5).

ثمّ بيّن سعة علمه بالمصالح بقوله: وَ كُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ و لذا صحّ منّا أن ندبّر هذا التدبير في رسلنا و خلقنا، و أن نعطي هذه المعجزات لمن نراه أهلا لها، أو لعلمنا بكلّ شيء نجريه على ما

ص: 299


1- . تفسير روح البيان 5:508.
2- . الكافي 5:74/5، تفسير الصافي 3:350. (3 و 4) . تفسير روح البيان 5:510.
3- . تفسير الرازي 22:201.
4- . تفسير الرازي 22:201، تفسير أبي السعود 6:80.
5- . تفسير القمي 2:74، تفسير الصافي 3:350.

تقتضيه الحكمة

وَ له مِنَ اَلشَّياطِينِ و كفرة الجنّ مَنْ يَغُوصُونَ و يدخلون لَهُ في البحار و يستخرجون له من نفائسها وَ يَعْمَلُونَ له بأمره عَمَلاً دُونَ ذلِكَ و صنعة غير ما ذكر من بناء المدن و القصور و المحاريب و تماثيل و مخترعات الصنائع الغريبة وَ كُنّا لَهُمْ حافِظِينَ من إفساد ما عملوا.

قيل: كان دأبهم أن يعملوا بالنّهار و يفسدوا باللّيل، أو من أن يزيغوا عن أمره (1)، و أن يتمرّدوا عليه.

و قيل: إنّ حفظ كفرة الجنّ من التمرّد و الإفساد، بإلقاء الخوف الشّديد من سليمان، و الحبّ المفرط لطاعته في قلوبهم، أو بتوكّل جمع من الملائكة، أو جمع من مؤمني الجنّ عليهم (2)، و كان ذلك من معجزاته المختصّة به، و أمّا مؤمنو الجنّ فلم يكونوا محتاجين إلى الحفظ لأنّهم بإيمانهم له كانوا مطيعين له، منقادين لأوامره و نواهيه.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 83

ثمّ ذكر اللّه سبحانه نعمته على أيّوب بقوله: وَ أَيُّوبَ و التقدير اذكر أمر أيّوب إِذْ نادى و دعا رَبَّهُ و قال: ربّ أَنِّي مَسَّنِيَ و أصابني الضّرّ و البلاء العظيم، ارحمني وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ.

وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (83)روي عن وهب بن منبّه: أنّ أيّوب عليه السّلام كان رجلا من الروم، و هو ابن أنوص، من ولد عيص (3)بن إسحاق، و كانت امّه من ولد لوط، و كان اللّه [قد]اصطفاه و جعله نبيّا، و كان مع ذلك [قد]أعطاه من الدّنيا حظّا وافرا من النّعم و الدوابّ و البساتين، و كان له خمسمائة زوج من البقر للزّرع، و خمسمائة مملوك، كلّ واحد موكّل على زوج منها، و كان له أربعمائة مملوك، كلّ منهم راعي قطيع من الغنم، و كان له أهل و ولد من رجال و نساء، و كان رحيما بالمساكين، و كان يكفل الأيتام و الأرامل، و يكرم الضّيف، و كان معه ثلاثة نفر آمنوا به و عرفوا فضله.

و إنّ لجبرئيل بين يدي اللّه تعالى مقاما ليس لأحد من الملائكة مثله في القرب و المنزلة، و هو الذي يتلقّى الكلام، فإذا ذكر اللّه عبدا بخير تلقّاه جبرئيل، ثمّ تلقّاه ميكائيل، ثمّ من حوله من الملائكة المقرّبين، فإذا شاع ذلك فيهم يصلّون عليه، ثمّ صلّت ملائكة السماوات ثمّ ملائكة الأرض.

و كان إبليس لم يحجب عن شيء من السماوات و الأرض، و كان يقف فيهنّ حيثما أراد، و من هناك

ص: 300


1- . تفسير أبي السعود 6:81.
2- . تفسير الرازي 22:202.
3- . في النسخة: عيصوا.

وصل إلى آدم عليه السّلام حتى أخرجه من الجنّة، و لم يزل على ذلك حتى رفع عيسى فحجب عن أربع سماوات، فكان بعد ذلك يصعد إلى ثلاث إلى زمان نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فحجب عند ذلك عن جميع السماوات إلاّ من استرق السّمع.

فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب عليه السّلام، فأدركه الحسد، فصعد سريعا حتى وقف من السّماء موقفا كان يقفه، فقال: يا ربّ، إنّك أنعمت على عبدك أيّوب فشكرك، و عافيته فحمدك، و أنت لم تجرّبه بشدّة و لا بلاء، و أنّا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك.

فقال اللّه تعالى: إنطلق فقد سلطّتك على ماله، فانقضّ الملعون حتى وقع على الأرض، و جمع عفاريت الشياطين، و قال: ماذا عندكم من القوّة، فإنّي سلّطت على مال أيوب؟ فقال عفريت: اعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كلّ شيء آتي عليه. فقال إبليس: فأت الإبل و رعاءها. فذهب و لم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها شيء إلاّ اخترق، فلم يزل يحرقها و رعاءها حتى أتى على آخرها.

فذهب إبليس على شكل بعض اولئك الرعاة إلى أيّوب عليه السّلام، فوجده قائما يصلّي، فلمّا فرغ من صلاته قال: يا أيّوب، هل تدري ما صنع ربّك الذي اخترته بإبلك و رعائها؟

فقال أيّوب: إنّها ماله أعارنيه، و هو أولى به إذا شاء نزعه.

قال إبليس: إنّ ربّك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت و رعاؤها كلّها، و تركت الناس مبهوتين متعجّبين منها، فمن قائل يقول: ما كان أيّوب يعبد شيئا، و ما كان إلاّ في غرور. و من قائل يقول: لو كان إله أيّوب يقدر على شيء لمنع من وليّه، و من قائل آخر يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت عدوّه به، و يفجع صديقه به.

فقال أيّوب: الحمد للّه حين أعطاني و حين نزع منّي، خرجت من بطن امّي عريانا، و أحشر إلى اللّه تعالى عريانا، و لو علم اللّه تعالى فيك خيرا أيّها العبد لنقل روحك مع تلك الأرواح، و صرت شهيدا و آجرني فيك، و لكنّ اللّه علم فيك شرّا فأخّرك.

فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا، فقال عفريت آخر: عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلاّ خرجت روحه. فقال إبليس: فأت الغنم و رعاءها، فانطلق فصاح بها، فماتت و مات رعاؤها، فخرج إبليس متمثّلا بقهرمان الرعاة إلى أيّوب عليه السّلام، فقال له القول الأوّل، و ردّ عليه أيّوب عليه السّلام الجواب الاوّل.

فرجع إبليس صاغرا، فقال عفريت آخر: عندي من القوّة ما إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفة أقلع كلّ

ص: 301

شيء أتيت عليه قال: فاذهب إلى الحرث و الثّيران، فأتاها و أهلكها، ثمّ رجع إبليس متمثّلا حتى جاء أيّوب عليه السّلام و هو يصلّي، فقال مثل القول الأوّل، فردّ عليه أيّوب عليه السّلام مثل الردّ الأوّل.

فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا، حتى أتى على جميعها، فلمّا رأى إبليس صبره على ذلك، وقف الموقف الذي كان يقفه عند اللّه، و قال: يا إلهي، هل أنت مسلّطي على ولده، فإنّها الفتنة المضلّة؟ فقال اللّه تعالى: إنطلق فقد سلّطتك على ولده.

فأتى أولاد أيّوب في قصرهم، فلم يزل يزلزله من قواعده حتى قلب القصر عليهم، ثمّ جاء إلى أيّوب عليه السّلام متمثّلا بالمعلّم و هو جريح مشدوخ (1)الرأس يسيل دمه و دماغه، فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطّع قلبك. فلم يزل يقول هذا و يرقّقه حتى رقّ أيّوب عليه السّلام و بكى، و قبض قبضة من التراب و وضعها على رأسه، فاغتنم ذلك إبليس، ثمّ لم يلبث أيّوب عليه السّلام حتى استغفر و استرجع، ثمّ صعد إبليس حتى وقف موقفه و قال: يا إلهي، إنّما يهون خطر المال و الولد على أيّوب لعلمه أنّك تعيدهما له، فهل أنت مسلّطي على جسده، و إنّي لك زعيم لوابتليته في جسده ليكفرنّ بك. فقال اللّه تعالى: إنطلق فقد سلّطتك على جسده، و ليس لك سلطان على عقله و قلبه و لسانه.

فانقضّ عدوّ اللّه سريعا، فوجد أيّوب عليه السّلام ساجدا للّه تعالى، فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، و خرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل، و وقعت فيه حكّة لا يملكها، و كان يحكّ بأظفاره حتى سقطت أظفاره، ثمّ حكّها بالمسوح الخشنة، ثمّ حكّها بالفخّار و الحجارة و لم يزل يحكّها حتى تقطّع لحمه و تغبّر و نتن، فأخرجه أهل القرية، و جعلوه على كناسة، و جعلوا له عريشا، و رفضه الناس كلّهم غير امرأته [فكانت]تصلح أموره.

ثمّ أطال وهب في الحكاية إلى أن قال: إنّ أيّوب عليه السّلام أقبل على اللّه مستغيثا متضرّعا إليه، فقال: يا ربّ، لأيّ شيء خلقتني؟ يا ليتني كنت حيضة ألقتني امّي، و يا ليتني عرفت الذّنب الذي أذنبته و العمل الذي عملته حتى صرفت وجهك الكريم عنّي؟ ألم أكن للغريب دارا، و للمسكين قرارا، و لليتيم وليّا، و للأرامل قيّما؟

إلهي، أنا عبدك الذّليل إن أحسنت إليّ فالمنّ لك، و إن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا، و للفتنه نصبا، سلّطت عليّ ما لو سلّطته على جبل لضعف من حمله.

إلهي، تقطّعت أصابعي، و تساقطت لهواتي، و تناثر شعري، و ذهب مالي، و صرت أسأل اللّقمة

ص: 302


1- . في النسخة: مخدوش.

فأطعمني من يمنّ بها عليّ، و يعيّرني بفقري و هلاك أولادي (1). و بقي في البلاء ثلاث سنين (2).

و عن الحسن: أنّه عليه السّلام مكث بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين و أشهرا (3).

و عن مقاتل: بقي أيّوب عليه السّلام في البلاء سبع سنين و سبعة أشهر و سبعة أيّام و سبع ساعات (4).

و عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب و البعيد إلاّ رجلين من إخوانه كانا يغدوان و يروحان إليه، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: و اللّه لقد أذنب أيّوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه: و ما ذاك؟ فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه تعالى و لم يكشف ما به.

فلمّا راحا إلى أيّوب، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيّوب، فقال أيوب عليه السّلام: ما أدري ما تقولان غير أنّ اللّه تعالى يعلم أنّي كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه عزّ و جلّ، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهيّة أن يذكر اللّه إلاّ في حقّ» (5).

و في رواية: أنّ الرجلين لمّا دخلا عليه وجدا ريحا فقالا: لو كان لأيّوب عند اللّه خير ما بلغ إلى هذه الحالة، قال: فما شقّ على أيّوب شيء ممّا ابتلي به أشدّ ممّا سمع منهما، فقال: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أبت شبعانا و أنا أعلم بمكان جائع فصدّقني. فصدّقه و هما يسمعان، ثمّ خرّ أيّوب، ساجدا. ثمّ قال: أللّهمّ إنّي لا أرفع رأسي حتى تكشف مابي (6).

و عن الحسن: أنّه لم يبق لأيّوب عليه السّلام مال و لا ولد و لا صديق إلاّ امرأته رحمة صبرت معه، و كانت تأتيه بالطّعام، و تحمد اللّه تعالى مع أيّوب عليه السّلام، و كان أيّوب مواظبا على حمد اللّه، و الثناء عليه، و الصبر على ما ابتلاه، فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيّوب، فاجتمع جنوده من أقطار الأرض، و قالوا له: ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت اللّه أن يسلّطني عليه و على ماله و ولده، فلم أدع له مالا و لا ولدا، و لم يزدد بذلك إلاّ صبرا و حمدا للّه تعالى، ثمّ سلّطت على جسده، فتركته ملقى على كناسة و ما يقربه إلاّ امرأته، و هو مع ذلك لا يفتر عن الذّكر و حمد اللّه، فاستعنت بكم لتعينونني عليه.

فقالوا له: أين مكرك؟ أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كلّه في أيّوب، فأشيروا عليّ.

ص: 303


1- . تفسير الرازي 22:203.
2- . تفسير الرازي 22:207.
3- . تفسير الرازي 22:206.
4- . تفسير الرازي 22:207.
5- . تفسير الرازي 22:205.
6- . تفسير الرازي 22:206.

قالوا: أدليت آدم حين أخرجته من الجنّة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: إئت أيّوب أيضا من قبل امرأته، قالوا: فإنّه لا يستطيع أن يعصيها لأنّه لا يقر به أحد غيرها. قال: أصبتم.

فانطلق حتى أتى امرأته، فتمثّل لها في صورة رجل، فقال لها: أين بعلك يا أمّة اللّه؟ قالت: هو هذا الذي يحكّ قروحه و يتردّد الدوابّ في جسده. فلمّا سمع منها ذلك طمع أن يكون ذلك كلّه جزعا، فوسوس إليها و ذكّرها ما كان من النّعم و المال، و ذكّرها جمال أيّوب و شبابه فصرخت، فلمّا صرخت علم أنّها [قد]جزعت فأتاها بسخلة و قال: قولي لأيّوب ليذبح هذه لي و يبرأ.

فجاءت تصرخ إلى أيّوب فقالت: يا أيّوب حتى يعذّبك ربّك؟ ألا يرحمك؟ ! أين المال، أين الماشية، أين الولد، أين الصديق، أين اللّون الحسن، أين جسمك الذي قد بلى و صار مثل الرّماد و تردّد فيه الدوابّ؟ إذبح هذه و استرح.

فقال أيّوب عليه السّلام: أتاك عدوّ اللّه و نفخ فيك فأجبتيه، ويلك أترين ما تبكين عليه من المال و الولد و الصّحة، من أعطانا ذلك؟ قالت: اللّه. قال: فكم متّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذكم ابتلانا اللّه بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين و أشهر،

قال: ويلك ما أنصفت ربّك، ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة، كما كنّا في الرّخاء ثمانين سنة؟ و اللّه لئن شفاني اللّه لأجلدنّك مائة جلدة، أمرتيني أن أذبح لغير اللّه؟ حرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك و شرابك الذي تأتيني به، فطردها فذهبت، فلمّا نظر أيّوب عليه السّلام في شأنه و ليس عنده طعام و لا شراب و لا صديق، و قد ذهبت امرأته خرّ ساجدا و قال: ربّ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (1).

و عن وهب: لمّا غلب أيّوب إبليس، ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم و الجسم و الجمال، على مركب ليس كمراكب الناس، و قال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: أنا إله الأرض، أنا صنعت بأيّوب ما صنعت، لأنّه عبد إله السّماء و تركني فأغضبني، و لو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك و عليه جميع مالكما من مال و ولد فإنّ ذلك عندي.

قال وهب: و سمعت أنّه قال: لو أنّ صاحبك أكل طعاما و لم يسمّ اللّه لعوفي ممّا هو فيه من البلاء، و قيل: إنّه قال لها: لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أردّ عليك المال و الولد و اعافي زوجك.

فرجعت إلى أيّوب، فأخبرته بما قال لها، فقال أيوب: أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك، ثمّ أقسم لئن

ص: 304


1- . تفسير الرازي 22:206.

عافاني اللّه لأجلدنّك مائة جلدة، و قال عند ذلك: ربّ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ يعني من طمع إبليس في سجودي له و سجود زوجتي و دعائه إيّاها و إيّايّ إلى الكفر (1).

و عنه أيضا: أنّ امرأة أيّوب كانت تعمل للنّاس و تأتيه بقوته، فلمّا طال عليه البلاء سئمها الناس و لم يستعملوها، فالتمست [ذات]يوم شيئا من الطّعام فلم تجد، فجزّت من رأسها قرنا فباعته برغيف فأتته به، فقال لها: أين قرنك؟ فأخبرته بذلك. فحينئذ قال: مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ (2).

و قيل: كان لها ثلاث ذوائب، فقطعت إحداهما، فباعتها بخبز و لحم، فجاءت إلى أيّوب عليه السّلام فقال: من أين هذا؟ فقالت: كل فإنّه حلال، فلمّا كان [من]الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية، و كذلك فعلت في اليوم الثالث، و قالت: كل، فقال: لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته، فبلغ ذلك من أيّوب ما اللّه أعلم به (3).

و قيل: إنّ إبليس تمثّل للقوم في صورة بشر و قال: لئن تركتم أيّوب في القرية تتعدّى إليكم علّته، فأخرجوه إلى باب القرية، ثمّ قال لهم: إنّ امرأته تدخل بيوتكم و هي تمسّ زوجها، فإن تعمل لكم تتعدّى إليكم علّته، و لذا لم يستعملها أحد، فباعت ضفيرتها (4).

و قيل: سقطت دودة من فخذ أيّوب، فرفعها و ردّها إلى موضعها، و قال: جعلني اللّه طعمة لك، فعضّته عضّة شديدة فقال: أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ فأوحى اللّه إليه: لو لا أنّي جعلت تحت كلّ شعرة منك صبرا لما صبرت (5).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 84

ثمّ أخبر سبحانه بإجابة دعائه بقوله: فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَكَشَفْنا و أزلنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ و مرض.

فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)قيل: أوحى اللّه إليه: ارفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك الأرض. فركض برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، فلم تبق في بدنه دابّة إلاّ سقطت منه عليه السّلام، ثمّ ضرب برجله مرّة اخرى فنبعت عين اخرى، فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلاّ خرج، و قام صحيحا، و عاد إليه شبابه و جماله، حتى صار أحسن ما كان، ثمّ كسي حلّة (4).

وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ و ولده وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قيل: لمّا قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا من أهله و ولده

ص: 305


1- . تفسير الرازي 22:207.
2- . تفسير الرازي 22:207.
3- . تفسير الرازي 22:208. (4 و 5) . تفسير الرازي 22:208.
4- . تفسير الرازي 22:207.

و ماله إلاّ ضعّفه اللّه تعالى (1).

قيل: إنّه تطاير من الماء الذي اغتسل منه إلى صدره الجراد من ذهب، فجعل يضمّه بيده، فأوحى اللّه إليه: يا أيّوب، ألم أغنك؟ قال: بلى، و لكنّها بركتك، فمن يشبع منها؟ ثمّ جلس على مكان مشرف (2).

ثمّ أنّ امرأته قالت: هب إنّه طردني، أفأتركه حتى يموت جوعا و تأكله السباع؟ فرجعت، فما رأت تلك الكناسة (1)و لا تلك الحالة، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة و تبكي، و أيّوب عليه السّلام ينظر إليها، و هابت أن تأتيه و تسأله عنه، فأرسل إليها أيّوب و دعاها و قال لها: ما تريدين؟ قالت: أردت المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة، قال لها: ما كان هو منك؟ قالت: هو بعلي. قال: أتعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: و هل يخفى على أحد يراه؟ فتبسّم و قال: أنا هو، فعرفته بضحكه فاعتنقته (2).

روي أنّ اللّه ردّ على امرأته شبابها، فولدت له ستّة و عشرين ولدا (3).

و كان ذلك لأجل أنّه رحمنا عليه رَحْمَةً خاصة مِنْ عِنْدِنا و من قدرتنا وَ تكون ذِكْرى و عبرة لِلْعابِدِينَ و وسيلة لهم إلى معرفتنا بكمال القدرة و الرحمة حتى يصبروا كما صبر أيّوب، و يثابوا كما اثيب.

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل كيف اوتي مثلهم معهم؟ قال: «احيي له من ولده [الذين كانوا]ماتوا قبل ذلك بآجالهم» (4).

و عنه عليه السّلام قال: «ابتلي أيّوب سبع سنين بلا ذنب» (5).

[و في العلل عنه عليه السّلام قال]: «و إنّما كانت بليّة أيّوب لنعمة أنعم اللّه بها عليه فأدّى شكرها. . .» (6).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 85 الی 86

ثمّ ذكر سبحانه بعض الصابرين من الأنبياء بقوله: وَ إِسْماعِيلَ بن إبراهيم الذي قال لأبيه: ستجدني إن شاء اللّه من الصابرين وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ منهم مِنَ اَلصّابِرِينَ على طاعة اللّه

وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصّابِرِينَ (85) وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصّالِحِينَ (86)

ص: 306


1- . الكناسة: موضع القمامة.
2- . تفسير الرازي 22:207.
3- . تفسير روح البيان 5:514.
4- . الكافي 8:252/354، تفسير الصافي 3:351.
5- . الخصال:399/107، تفسير الصافي 3:351.
6- . علل الشرائع:75/1، تفسير الصافي 3:351، و للحديث تتمة في (العلل) ، و قد نقل المصنف هذا المقدار من تفسير الصافي، و أحال في الصافي إلى تتمة الحديث في سورة (ص) .

و أذى قومهم وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا الخاصّة من النبوة و الزّلفى إِنَّهُمْ مِنَ اَلصّالِحِينَ و الكاملين في الصفات الحميدة و الأخلاق الكريمة و الأعمال الحسنة.

عن ابن عباس: أنّ نبيّا من أنبياء بني إسرائيل آتاه اللّه الملك و النبوّة، ثمّ أوحى اللّه إليه: أنّي اريد أن أقبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفّل لك أن يصلّي باللّيل حتى يصبح، و يصوم بالنّهار و لا يفطر، و يقضي بين الناس و لا يغضب، فادفع ملكك إليه.

فقام ذلك النبيّ في بني إسرائيل، و أخبرهم بذلك، فقام شابّ و قال: أنا أتكفّل لك بهذا. فقال: في القوم من هو أكبر منك فأقعد، ثمّ صاح الثانية و الثالثة فقام الرجل و قال: أنا أتكفّل لك بهذه الثلاث، فدفع إليه ملكه و وفى بما ضمن، فحسده إبليس، فأتاه في وقت يريد أن يقيل فقال: إنّ لي غريما مطلني حقّي، و [قد]دعوته إليك فأبى، [فأرسل معي من يأتيك به]فأرسل معه و قعد حتى فاتته القيلولة، و عاد إلى صلاته و صلّى ليله إلى الصبح، ثمّ أتاه من الغد عند القيلولة، فقال: إنّ الرجل الذي أستأذنتك له في موضع كذا، فلا تبرح حتى آتيك به، فذهب و بقي هو منتظرا حتى فاتته القيلولة، ثمّ أتاه فقال له: هرب منّى، فمضى ذو الكفل إلى صلاته، فصلّى ليلته حتى أصبح، فأتاه إبليس و عرّفه نفسه (1).

قال الفخر: ذكر عليّ عليه السّلام نحو ما ذكره ابن عبّاس، و زاد: «أنّ ذا الكفل قال للبوّاب في اليوم الثالث: قد غلب عليّ النّعاس، فلا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام، فإنّي قد شقّ عليّ النعاس، فجاء إبليس فلم يأذن له البوّاب، فدخل من كوّة في البيت، و تسوّر فيها، فإذا هو يدقّ الباب من داخل، فاستيقظ الرجل، و عاتب البوّاب، فقال: أمّا من قبلي فلم يأت، فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق، و إبليس على صورة شيخ معه في البيت، فقال له: أتنام و الخصوم على الباب فعرفه، فقال: أنت إبليس؟ قال نعم، أعييتني في كلّ شيء، ففعلت هذه الأفعال لأغضبنّك، فعصمك اللّه منّي، فسمّي ذا الكفل، لأنّه [قد]وفى بما تكفّل به» (2).

و عن مجاهد: لمّا كبر اليسع قال: لو أنّي استخلفت رجلا على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس و قال: من يتقبّل منّي ثلاثا حتى أستخلفه (3)، و ذكر الثلاث المذكورة.

و قيل: إنّه لقب زكريا (4). و قيل: لقب يوشع بن نون، كما عن الرضا، عن أمير المؤمنين عليهما السّلام (5). و قيل:

ص: 307


1- . تفسير الرازي 22:210.
2- . تفسير الرازي 22:211.
3- . تفسير الرازي 22:211.
4- . تفسير الرازي 22:211.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:245/1، تفسير الصافي 3:351.

لقب إلياس (1). و قيل: خمسة من الأنبياء سمّاهم اللّه باسمين: إسرائيل و يعقوب، إلياس و ذو الكفل، عيسى و المسيح، يونس و ذو النون، محمّد و أحمد (2).

و قيل: وجه تسميته ذي الكفل، أنّه تكفّل ضعف عمل الأنبياء في زمانه، و ضعف ثوابهم (1).

و قيل: إنّه لم يكن نبيّا، بل كان عبدا صالحا (2).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 87 الی 88

ثمّ ذكر اللّه نعمته على يونس عليه السّلام باستجابة دعائه و نجاته من بطن الحوت بقوله: وَ ذَا اَلنُّونِ و صاحب الحوت و هو يونس بن متّى، قيل: إنّ متّى اسم أبيه و اسم امه بذورة (3)، و قيل: متّى اسم امّه، و كانت من ولد هارون (6). و قيل: يعني اذكر خبره (7)إِذْ ذَهَبَ من بين قومه-و هم أهل نينوى-حال كونه مُغاضِباً و مراغما لهم إلى البحر.

وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي اَلظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ (88)عن ابن عباس: كان يونس و قومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا و بقي سبطان و نصف، فأوحى اللّه إلى شعيب عليه السّلام: أن اذهب إلى حزقيل الملك، و قل له حتى يوجّه نبيّا قويّا أمينا، فإنّي ألقي في قلوب اولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى- و كان في ممكلته خمسة من الأنبياء؟ -فقال: يونس بن متّى، فإنّه قويّ أمين، فدعا الملك بيونس، و أمره أن يخرج، فقال يونس عليه السّلام: هل أمرك اللّه بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سمّاني لك؟ قال: لا، قال: فها هنا أنبياء غيري، فألحّوا عليه، فخرج مغاضبا للملك و لقومه (4).

فَظَنَّ يونس عليه السّلام أَنْ لَنْ نَقْدِرَ و لن نضيّق عَلَيْهِ بإيجاب الإقامة في القوم، أو إيجاب الخروج إلى الملك، بل نوسّع عليه بتخييره بين الإقامة و الخروج، فكان هذا وجه عدم تعمّده المعصية حيث ظنّ أنّ الأمر في خروجه موسّع عليه، يجوز له تقديمه و تأخيره، و كان الصلاح خلافه. أو المراد تمثيل حاله بحال من يظنّ أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار أمر اللّه تعالى. أو المراد فظنّ أن لن نقضي عليه بالشدّة، كما عن ابن عباس و جمع من المفسرين (5).

ص: 308


1- . تفسير الرازي 22:210.
2- . تفسير الرازي 22:211.
3- . تفسير روح البيان 5:516، و فيه: امّه بدورة. (6 و 7) . تفسير روح البيان 5:516.
4- . تفسير الرازي 22:212.
5- . تفسير الرازي 22:215.

و قيل: إنّ الظنّ بمعنى الخطور بالبال، و إن دفعه بالحجّة (1). و قيل: إنّه استفهام توبيخي، و المعنى أفظنّ أن لن نقدر عليه؟ ! (2)

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ذاك يونس بن متّى، ذهب مغاضبا لقومه فَظَنَّ يعني استيقن أن لن نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نضيّق عليه رزقه» (3)الخبر.

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «و لو ظنّ أنّ اللّه لا يقدر لكان قد كفر» (4).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً يقول: «من أعمال قومه فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول: ظنّ أن لن نعاقبه بما صنع» (5).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما وكّل اللّه يونس بن متّى إلى نفسه طرفة عين، فكان منه ما كان» (6).

و عن الصادق عليه السّلام ما يقرب منه (1).

و عن ابن عباس: أنّه أتى يونس بحر الروم، فوجد قوما هيّئوا سفينة فركب معهم، فلمّا تلجّجت (2)السفينة تكفّأت بهم، و كادوا أن يغرقوا، فقال الملاّحون: هاهنا رجل عاص أو عبد آبق؛ لأنّ السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلاّ و فيها رجل عاص، و من رسمنا أنّا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقرع، فمن وقعت عليه القرعة القيناه في البحر، لأنّه إن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة، فأقرعوا ثلاث مرّات، فوقعت القرعة فيها كلّها على يونس عليه السّلام، فقال: أنا الرجل العاصي و العبد الآبق، و ألقى نفسه في البحر، فجاء حوت فابتلعه، فأوحى اللّه إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة، فإنّي حعلت بطنك سجنا له، و لم أجعله طعاما لك (3).

و في رواية: أنّ جبرئيل قال ليونس: انطلق إلى أهل نينوى، و أنذرهم أنّ العذاب قد حضرهم، فقال يونس عليه السّلام: ألتمس دابّة. فقال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب و انطلق إلى السفينة. . . ثمّ ساق الكلام كما سبق، إلى أن قال: التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى، فألقاه هناك (4).

أقول: أكثر المفسرين و العلماء على أن قضيّة إلقائه في البحر، و ابتلاع الحوت إياه، كان بعد رسالته إلى أهل نينوى و دعوتهم و رفع العذاب عنهم بالتّوبة، كما مرّت القصّة في سورة يونس.

و عن امّ سلمة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا أراد اللّه حبس يونس عليه السّلام أوحى إلى الحوت أن خذه و لا تخدش له لحما، و لا تكسر له عظما. فأخذه و هوى به إلى أسفل البحر، فسمع يونس حسّا، فقال في

ص: 309


1- . الكافي 2:423/15.
2- . أي اضطربت.
3- . تفسير الرازي 22:212، روح البيان 5:517، و لم ينسبه إلى ابن عباس.
4- . تفسير الرازي 22:213.

نفسه: ما هذا؟ فأوحى اللّه إليه: هذا تسبيح دوابّ البحر» (1)الخبر.

فَنادى و دعا ربّه فِي اَلظُّلُماتِ الثلاث: ظلمة الليل، و ظلمة البحر، و ظلمة بطن الحوت، كما عن الرضا عليه السّلام (2)، و هذا على تقدير كون النّداء بالليل. أو المراد الظّلمة المتكاثفة، أو المراد: ظلمة البحر، و ظلمة بطن الحوتين، فإنّه ابتلع حوت يونس حوت آخر كما قيل (3).

و كان نداؤه أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ و انزّهك تنزيها لائقا بك عن كلّ نقص و عيب، و منه العجز عن إنفاذ إرادتك، أو من أن تفعل ذلك جورا أو شهوة للانتقام، أو عجزا عن تخليصي من هذا الحبس، بل فعلته بحقّ الالوهيّة و بمقتضى الحكمة البالغة إِنِّي كُنْتُ مستحقّا لعقوبتك، لكوني مِنَ اَلظّالِمِينَ على النفس بفراري من قومي بغير إذنك، أو بتركي في المدّة التي كنت على وجه الأرض مثل هذه العبادة التي أشتغل بها حال فراغتي في بطن الحوت، كما عن الرضا عليه السّلام (4).

روي أنّ الملائكة سمعت تسبيحه فقالوا مثله (5).

فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه الذي في ضمن اعترافه بالذنب على ألطف الوجوه وَ نَجَّيْناهُ و خلّصناه مِنَ اَلْغَمِّ الحاصل له من الذنب و الحبس في بطن الحوت، بأن عفونا عنه، و قذفه الحوت إلى الساحل القريب من نينوى بعد أربع ساعات، أو ثلاثة أيّام، أو سبعة، أو أربعين يوما، كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر و لا جلد، و أنبتنا عليه شجرة من يقطين ليستظلّ بها، و يأكل من ثمرها حتّى يشتدّ، كما عن ابن عبّاس (6)وَ كَذلِكَ الإنجاء الذي لا إنجاء أسرع منه نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ من الغموم التي يدعوننا فيها بالإخلاص.

عن سعد بن أبي وقّاص، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ ما دعا بها عبد مسلم قطّ و هو مكروب إلاّ استجاب اللّه دعاءه» (7).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، و إذا سئل أعطى لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ» إلى آخره (8).

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام قال: «عجبت ممّن يبتلى بأربع كيف يغفل عن أربع؟ !» إلى أن قال: «و عجبت ممّن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ فإنّي سمعت اللّه يقول بعقبها: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي

ص: 310


1- . تفسير الرازي 22:216، عن عبد اللّه بن رافع مولى أم سلمة.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:201/1، تفسير الصافي 3:352.
3- . تفسير الرازي 22:216.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:201/1، تفسير الصافي 3:352.
5- . تفسير الرازي 22:216، تفسير روح البيان 5:518.
6- . تفسير الرازي 22:213.
7- . تفسير الرازي 22:216.
8- . تفسير روح البيان 5:518.

اَلْمُؤْمِنِينَ (1) .

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 89 الی 90

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على زكريّا عليه السّلام باستجابة دعائه بقوله: وَ زَكَرِيّا بن آزر إِذْ نادى و دعا رَبَّهُ متضرّعا بقوله: يا رَبِّ لا تَذَرْنِي و لا تدعني في الدنيا فَرْداً وحيدا بلا ولد يرثني و يرث من آل يعقوب، و إن فرض أن لا تستجيب دعائي فلا ابالي، لأنّك أفضل الأولياء وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ من كلّ أحد بعد موته، ففيه إظهار غاية الاستسلام و الرضا برضاه،

و إيكال أمره إليه تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه في حقّ الولد وَ وَهَبْنا لَهُ من فضلنا يَحْيى ولدا و وليّا و وارثا تقرّ به عينه، و يحيا به ذكره و دينه وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ و صاحبته إيشاع في الأخلاق و الدّين، فإنّها على ما قيل كانت سيّئة الخلق (2)، و في الولادة فإنّها كانت عقيمة كبيرة السنّ.

وَ زَكَرِيّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)ثمّ مدح سبحانه زكريّا عليه السّلام و زوجه و ولده، أو مدح الأنبياء المذكورين في السورة بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا في مدّة أعمارهم يُسارِعُونَ فِي عمل اَلْخَيْراتِ و فعل الطاعات و العبادات الموجبة للمثوبات و الدرجات العاليات وَ يَدْعُونَنا و يتضرّعون إلينا رَغَباً في الثواب و شوقا إليه وَ رَهَباً من عظمتنا، و خوفا من العذاب و العتاب وَ كانُوا لَنا بقلوبهم و شراشر (3)وجودهم خاشِعِينَ و متواضعين، أو على الدّوام وجلين، و في الآية دلالة على غاية فضيلة المسارعة إلى الطاعة كالصّلوات الواجبة في أوّل أوقاتها.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 91 الی 93

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على مريم بنت عمران بقوله: وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها و حفظت سوأتها من أن تمسّ بحرام أو حلال فَنَفَخْنا فِيها بتوسّط جبرئيل مِنْ رُوحِنا و وهبنا لها بذلك النّفخ

وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)

ص: 311


1- . تفسير روح البيان 5:518.
2- . تفسير الرازي 22:217.
3- . الشّراشر: الجسم بجملته.

ولدا زكيّا وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها عيسى آيَةً عظيمة و دلالة واضحة على قدرتنا الكاملة لِلْعالَمِينَ و أهالي الأعصار إلى يوم الدين حيث إنّ مريم ولدت من عجوز عقيم و تكلّمت في الصّبا كما قيل (1)، و ارتزقت ممّا يأتيها من عند ربّها الكريم، و احتبلت بغير فحل، و إنّ ابنها عيسى عليه السّلام ولد بنفخ الرّوح الأمين، و تكلّم في المهد كما تكلّم في الكهولة، و أظهر الآيات البيّنات، و رفع في السماء حيّا، و إنّما عدّهما آية واحدة مع تعدّدهما لكمال ارتباطهما.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قصص الأنبياء و اتّفاقهم على توحيد اللّه و عبادته، دعا الناس إليهما بقوله: إِنَّ هذِهِ الملّة الإسلاميّة و دين التوحيد أُمَّتُكُمْ و ملّتكم التي يجب عليكم المحافظة عليها أيّها الناس حال كونها أُمَّةً و ملّة واحِدَةً إتّفق عليها جميع الأنبياء و الرسل من أوّل الدنيا إلى فنائها وَ أَنَا وحدي رَبُّكُمْ و إلهكم المدبّر لاموركم، فإذا علمتم ذلك فَاعْبُدُونِ و اخضعوا لي، و تضرّعوا و لا تجاوزوا عنّي إلى غيري.

ثمّ صرف اللّه الخطاب عنهم إلى العقلاء، أو إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إعظاما لما ارتكبه المشركون من الإشراك بقوله: وَ تَقَطَّعُوا و فرّقوا أَمْرَهُمْ و دينهم الذي اتّفقت عليه كلمة الأنبياء بَيْنَهُمْ و صاروا فرقا مختلفة و أحزابا شتّى.

ثمّ هدّدهم بقوله: كُلٌّ من آحاد الفرق إِلَيْنا بعد موتهم راجِعُونَ فنجازيهم بحسب عقائدهم و أعمالهم.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 94 الی 95

ثمّ بيّن سبحانه الفرقة الحقّة منهم بقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و رسله و خلفائهم و الدّار الآخرة فَلا كُفْرانَ منّا لِسَعْيِهِ و لا حرمان له من ثواب عمله، بل نشكره أعظم الشّكر، و نعطيه أفضل الأجر على عمله و إيمانه وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ في صحيفته و مثبتوه في دفتره.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير رجوع الناس إليه للمجازاة بقوله: وَ حَرامٌ و ممتنع عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بإهلاك أهلها أَنَّهُمْ في القيامة لا يَرْجِعُونَ إلينا للحساب و جزاء الأعمال، بل يجب رجوعهم بمقتضى العدل و الحكمة البالغة.

و قيل: إنّ المعنى و واجب على قرية أهلكناها أن لا يرجعوا إلى التوحيد، أو إلى الدنيا (2).

ص: 312


1- . تفسير روح البيان 22:218.
2- . تفسير الرازي 22:221.

و قيل: إنّ لفظ الحرام مستعمل في معناه لا في ضدّه، و كلمة (لا) في قوله: لا يَرْجِعُونَ زائدة و المراد: حرام عليهم أن يرجعوا إلى الدنيا (1).

و عن (الفقيه) عن أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة الجمعة. «أ لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، و الى الخلف الباقين منكم لا يبقون، قال اللّه تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» (2).

و عن القمي عنهما عليهما السّلام قالا: «كلّ قرية أهلك اللّه أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرّجعة» (3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «كلّ قرية أهلكها اللّه بالعذاب فإنّهم لا يرجعون» (4).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 96 الی 98

ثمّ بيّن سبحانه غاية حرمة رجوعهم بقوله: حَتّى إِذا فُتِحَتْ جهة يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ أو سدّة القبيلتين اللّتين مرّ تفصيلهما في الكهف (5)وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ و مرتفع من الأرض يَنْسِلُونَ و ينزلون بسرعة، روي أنّهم يسيرون في الأرض و يقبلون على الناس من كلّ موضع مرتفع (6).

حَتّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)القمي: إذا كان آخر الزمان خرج يأجوج و مأجوج إلى الدنيا و يأكلون النّاس (7).

وَ اِقْتَرَبَ عند ذلك اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ بالحشر للحساب بعد النّفخة الثانية فَإِذا القصّة هِيَ شاخِصَةٌ و منفتحة من غير طرف أَبْصارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ممّا يرون من الأهوال و الشّدائد قائلين تحسّرا و تندّما: يا وَيْلَنا و يا هلاكنا احضر إنّا قَدْ كُنّا في الدّنيا منغمرين فِي غَفْلَةٍ عظيمة مِنْ هذا الذي نرى من البعث و أهواله بَلْ لم نكن في غفلة عنه لكثرة الآيات الدالّة عليه، و إنّما كُنّا ظالِمِينَ على أنفسنا بتعريضها للهلاك بسبب الإعراض عن الآيات و تكذيب الرّسل.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان بعض أهوال القيامة صرف الخطاب إلى مشركي مكّة بقوله: إِنَّكُمْ يا معشر المشركين وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ من الأصنام كلّكم حَصَبُ جَهَنَّمَ و وقودها الذي يرمى به فيها لتشتعل أَنْتُمْ مع أصنامكم لَها وارِدُونَ.

ص: 313


1- . تفسير الرازي 22:221.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:276/1262، تفسير الصافي 3:354.
3- . تفسير القمي 2:76، تفسير الصافي 3:354.
4- . مجمع البيان 7:100، تفسير الصافي 3:355.
5- . في تفسير الآية (93) من سورة الكهف.
6- . تفسير روح البيان 5:523.
7- . تفسير القمي 2:76، تفسير الصافي 3:355.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 99 الی 103

ثمّ بيّن سبحانه امتناع كون الأصنام آلهة بقوله: لَوْ كانَ هؤُلاءِ المعبودون آلِهَةً على الحقيقة كما تزعمون ما وَرَدُوها و ما دخلوها البتّة وَ كُلٌّ من المعبودين و عابديهم فِيها بعد الورود خالِدُونَ لا خلاص لهم منها أبدا، هذا حال جميعهم،

و أمّا حال خصوص عبدتهم فهو أنّه (1)لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ و أنين و تنفّس شديد عن غمّ مالئ للصدور وَ هُمْ فِيها مع كونهم عميا و بكما لا يَسْمَعُونَ زفير أنفسهم فضلا عن زفير غيرهم.

لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)عن ابن مسعود قال: يجعل المشركون في توابيت من نار، ثمّ تجعل التوابيت في توابيت اخرى، ثمّ تجعل تلك في اخرى عليها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، و لا يرى أحد منهم أنّ في النّار أحدا يعذّب غيره (2).

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى يأتي يوم القيامة بكلّ شيء يعبد من دونه، من شمس أو قمر أو غير ذلك، ثمّ يسأل كلّ إنسان عمّا كان يعبد، فيقول كلّ من عبد غير اللّه: ربّنا إنّا كنّا نعبده ليقرّبنا إليك زلفى. فيقول اللّه تبارك و تعالى للملائكة: إذهبوا بهم و بما كانوا يعبدون إلى النّار ما خلا من استثنيت، فأولئك عنها مبعدون» (3).

و عنه عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة أتي بالشمس و القمر في صورة ثورين، فيقذف بهما و بمن عبدهما في النّار، و ذلك أنّهما عبدا فرضيا» (4).

أقول: فيه دلالة على أنّ الأجرام الفلكية لها حياة و شعور.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دخل المسجد و صناديد قريش في الحطيم (5)، و حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأفحمه، ثمّ تلا عليهم إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ الآية، فأقبل عبد اللّه بن الزّبعرى، فرآهم يتهامسون فقال: فيما خضتم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عبد اللّه: أما و اللّه لو وجدته لخصمته فدعوه، فقال ابن

ص: 314


1- . في النسخة: أنّ، و لا تناسب من حيث الإعراب.
2- . تفسير روح البيان 5:524.
3- . قرب الإسناد:85/279، تفسير الصافي 3:355.
4- . علل الشرائع:605/78، تفسير الصافي 3:355.
5- . الحطيم: بناء قبالة الميزاب من خارج الكعبة.

الزبعرى: أ أنت قلت ذلك؟ قال: «نعم» ، قال: قد خصمتك و ربّ الكعبة، أ ليس اليهود عبدوا العزير، و النّصارى عبدوا المسيح، و بنو مليح عبدوا الملائكة؟ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فضحك القوم، فنزل وَ لَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً (1)

و قوله: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ الآية (2).

و في رواية اخرى قال: «بل هم عبدوا الشياطين الذين أمروهم بذلك» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية، وجد منها أهل مكّة وجدا شديدا، فدخل عليهم عبد اللّه بن الزّبعرى و كفّار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزّبعرى: أتكلّم محمّد بهذه الآية؟ قالوا: نعم، قال: لئن اعترف بها لأخصمنّه، فجمع بينهما، فقال: يا محمّد، أ رأيت الآية التي قرأتها آنفا، أفينا و في آلهتنا خاصّة، أم في الامم و آلهتهم؟ قال: بل فيكم و في آلهتكم، و في الامم و آلهتهم إلاّ من استثنى [اللّه]. فقال ابن الزّبعرى: خصمتك و اللّه، أ لست تثنى على عيسى خيرا، و قد عرفت أنّ النصارى يعبدون عيسى و أمّه، و أنّ طائفة من النّاس يعبدون الملائكة؟ أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار؟ قال: لا، فضجّت قريش و ضحكوا و قالوا: خصمك ابن الزّبعرى؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: قلتم الباطل، أما قلت إلاّ من استثنى [اللّه]، و هو قوله: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ» الآية (4).

و قيل: لمّا كان الخطاب في الآية خطاب المشافهة لا يشمل غير مشركي مكّة، و هم كانوا يعبدون الأصنام، و أنّه تعالى قال: وَ ما تَعْبُدُونَ و لم يقل و من تعبدون (5)، فلا يشمل عيسى و العزير و الملائكة، و أنّه لم يقل أحد بالوهيّة الملائكة، و أن العموم المفترض (6)مخصّص بالأدلّة العقلية و النقلية في حقّ اولئك الكرام، فكان سؤال ابن الزّبعرى ساقطا.

و فيه: أنّ خطابات القرآن شاملة لجميع أهل عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا تختصّ بقريش، خصوصا مع قوله: «بل فيكم و في آلهتكم، و في الامم و آلهتهم» و كلمة (ما) كثيرا مّا تطلق على الأعمّ من ذوي العقول و لو تغليبا لغيرهم عليهم، أو لتحقير ذوي العقول، و عموم اللّفظ كاف لاعتراض الخصم اللّجوج.

و لذا صرّح سبحانه بالتخصيص بعد عموم الآية بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الخصلة اَلْحُسْنى و هي السعادة الأبديّة، أو الكلمة الحسنى، و هي البشارة بالثّواب، لا يرون جهنّم، بل أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لأنّهم في الجنّة، شتّان بينها و بين جهنّم، حيث إنّ الجنّة في أعلى علّيين، و جهنّم في أسفل السافلين،

و لذا يكون بعدهم من جهنّم بحيث لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها و الصوت

ص: 315


1- . الزخرف:43/57.
2- . تفسير الرازي 22:223.
3- . تفسير الرازي 22:223.
4- . تفسير القمي 2:76، تفسير الصافي 3:356.
5- . تفسير الرازي 22:223.
6- . في النسخة: الفرضية.

الخفيّ منها.

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «كيف يسمعون حسيسها و النّار تخمد لمطالعتهم و تتلاشى؟ !» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد بشارتهم بخلاصهم من المهالك بشّرهم بالفوز بالحظوظ بقوله: وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ و اشتاقت إليه أَنْفُسُهُمْ من النّعم الرّوحانيّة و الجسمانيّة خالِدُونَ مقيمون لا يتصوّر زوالها و انقطاعها

لا يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ قيل: هو ذبح الموت بصورة الكبش الأملح (2). و قيل: النفخة الثانية (3). و قيل: إطباق النّار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة (4). و قيل: هو الفزع عند مشاهدة النّار، إذ لا فزع أعظم و أكبر منه، فمن أمن من ذلك أمن ممّا دونه بالأولويّة (5).

وَ تَتَلَقّاهُمُ و تستقبلهم اَلْمَلائِكَةُ الذين كانوا كتبة أعمالهم في الدنيا بالبشرى و يقولون لهم: هذا اليوم يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا تُوعَدُونَ و تبشّرون بما فيه من فنون الثواب على الإيمان و الطاعات.

في (المجالس) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السّلام: «يا علي، أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم، و تمنعون من كرهتم، و أنتم الآمنون من الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون، و فيكم نزلت إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى الآية، و فيكم نزلت لا يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ الآية» (6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من الذّنوب أو غيره، مبيضّة وجوههم، مستورة عوارتهم، آمنة [روعتهم]، قد سهّلت لهم الموارد، و ذهبت عنهم الشّدائد، يركبون نوقا من ياقوت، فلا يزالون يدورون خلال الجنّة، عليهم شرك من نور يتلألأ، توضع لهم الموائد فلا يزالون يطعمون [و]الناس في الحساب، و هو قول اللّه: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى الآية» (7).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 104 الی 106

يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّماءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ (104) وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ اَلصّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)

ص: 316


1- . تفسير روح البيان 5:525.
2- . تفسير الرازي 22:227.
3- . تفسير الرازي 22:227.
4- . تفسير الرازي 22:227.
5- . تفسير الرازي 22:227.
6- . أمالي الصدوق:657/891، تفسير الصافي 3:356.
7- . المحاسن:179/166، تفسير الصافي 3:357.

ثمّ وصف سبحانه ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّماءَ طيّا كَطَيِّ الطاوي اَلسِّجِلِّ و الطّومار الموضوع لِلْكُتُبِ و ضبط المعاني الكثيرة فيه، قيل: إنّ معنى طيّ السّجلّ للكتاب كونه ساترا للكتابة (1)التي فيه، و مخفيا لها، و نشره: كشفه (2).

و عن ابن عباس: السجلّ اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه (3).

و رواه بعض العامة عن أمير المؤمنين (4).

و قيل: معنى طيّها إفناؤها فتتحوّل دخانا (5).

ثمّ وصف اليوم بإعادة الخلق فيه بقوله: كَما بَدَأْنا و ابتدأنا أَوَّلَ خَلْقٍ للإنسان في الدنيا نُعِيدُهُ في الآخرة، و نخلقه ثانيا للحشر و الحساب، و قد وعدنا إعادته وَعْداً حتميّا واجب الإنجاز عَلَيْنا بمقتضى الحكمة البالغة، و لذا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ للوعد و منجّزين له لا محالة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «تحشرون عراة حفاة كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» (6).

أقول: أي كما خلقتم في الدنيا عراة حفاة.

ثمّ أنّه تعالى بعد البشارة بحسن حال المؤمنين في الآخرة، بشّر بحسن مآل أمرهم في الدنيا بقوله: وَ لَقَدْ كَتَبْنا و أثبتنا فِي اَلزَّبُورِ الذي انزل على داود، أو في الكتب السماوية، أو في القرآن مِنْ بَعْدِ ما أثبتناه في اَلذِّكْرِ و اللّوح المحفوظ، أو في التوراة أَنَّ اَلْأَرْضَ كلّها، أو الأرض المقدّسة، أو أرض الجنّة يَرِثُها و يتسلّط عليها عِبادِيَ اَلصّالِحُونَ في زمان الرجعة و بعد ظهور الدولة الحقّة، أو في الآخرة.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية: ما الزّبور، و ما الذّكر؟ قال: «الذّكر عند اللّه، و الزّبور الذي أنزل على داود، و كل كتاب انزل فهو عند أهل العلم، و نحن هم» (7).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ اَلصّالِحُونَ، قال: «هم أصحاب المهدي عليه السّلام في آخر الزمان» (8).

إِنَّ فِي هذا المذكور من الأخبار و المواعظ و اللّه لَبَلاغاً و كفاية في الهداية و التنبيه، و ما ينال به البغية و المطلوب لِقَوْمٍ عابِدِينَ و العالمين العاملين.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 107

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)

ص: 317


1- . في النسخة: لكتابة.
2- . تفسير الرازي 22:228.
3- . تفسير الرازي 22:228.
4- . تفسير الرازي 22:228.
5- . تفسير القمي 2:77، تفسير الصافي 3:357.
6- . مجمع البيان 7:105، تفسير الصافي 3:357.
7- . الكافي 1:176/6، تفسير الصافي 3:357.
8- . مجمع البيان،7:106، تفسير الصافي 3:357.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر رحمته و نعمته على المؤمنين، بيّن أنّ الرسول الذي أرسله إليهم أفضل النّعم عليهم و على جميع الخلق بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد لغرض من الأغراض إِلاّ لتكون رَحْمَةً و نعمة عظيمة لِلْعالَمِينَ و سببا لسعادة الدّارين للخلق أجمعين.

عن أبي هريرة: قيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ادع على المشركين. قال: «إنّما بعثت رحمة، و لم ابعث عذابا» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لجبرئيل لمّا نزلت هذه الآية: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟» قال: نعم، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى اللّه عليّ بقوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث مجيبا لبعض الزنادقة: «و أمّا قوله لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ و أنّك ترى أهل الملل المخالفة للإيمان و من يجري مجراهم من الكفّار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية، و أنّه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعا و نجوا من عذاب السّعير، فإنّ اللّه تبارك و تعالى إنّما عنى بذلك أنّه جعله سبيلا لإنذار أهل هذه الدار؛ لأنّ الأنبياء قبله بعثوا بالتّصريح لا بالتّعريض، و كان النبيّ منهم إذا صدع بأمر اللّه و أجابه قومه سلموا و سلم أهل دارهم من سائر الخليقة، و إن خالفوا هلكوا و هلك أهل دارهم بالآفة التي كان نبيهم يتوعّد بها و يخوّفهم حلولها و نزولها بساحتهم من خسف أو قذف أو رجف أو ريح أو زلزلة أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الامم الخالية.

و إنّ اللّه علم من نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و من الحجج في الأرض الصبر على ما لم يطق من تقدّمهم من الأنبياء الصبر على مثله، فبعثه اللّه بالتعريض لا بالتصريح، و أثبت حجّة اللّه تعريضا لا تصريحا بقوله في وصيّة: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، و هو منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.

و ليس من خليقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا شيمته أن يقول قولا لا معنى له، فلزم الامّة أن تعلم أنّه لمّا كانت النبوّة و الأخوّة موجودتين في خلقة هارون و معدومتين في من جعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمنزلته أنّه قد استخلفه على امّته كما استخلف موسى هارون حيث قال له: اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي (3)و لو قال: لا تقلّدوا الإمامة إلاّ فلانا بعدي و إلاّ نزل بكم العذاب لأتاهم العذاب و زال باب الإنظار و الإمهال» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «أما لو قام قائمنا ردّت إليه الحميراء (5)حتى يجلدها الحدّ و حتى ينتقم لابنة محمّد فاطمة منها» . قيل: لم يجلدها؟ قال: «لفريتها على امّ إبراهيم» ، قيل: فكيف أخّره اللّه للقائم؟ قال: «إنّ

ص: 318


1- . تفسير الرازي 22:231.
2- . تفسير روح البيان 5:527، الآية من سورة التكوير:81/20.
3- . الأعراف:7/142.
4- . الاحتجاج:255، تفسير الصافي 3:358.
5- . في النسخة: ردّت بالحميراء.

اللّه تبارك و تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رحمة، و بعث القائم نقمة» (1).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 108 الی 111

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كانت رحمة للعالمين، و كان من آثار رحمته دعوة الناس إلى التوحيد الموجب لكمال سعادة الدارين، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة إليه بألطف بيان و أبلغه بقوله: قُلْ يا محمّد إِنَّما يُوحى إِلَيَّ من ربّي أَنَّما إِلهُكُمْ و معبودكم المستحقّ للعبادة إِلهٌ و معبود واحِدٌ لا إله غيره، فبعد ما أخبرتكم بذلك مع دلالة المعجزات على صدقي، و بيّنت لكم الحجج القاطعة و البراهين الساطعة عليه و على بطلان الشّرك فَهَلْ أَنْتُمْ أيّها المشركون مُسْلِمُونَ له، و مخصّصون عبادتكم به، أم تصرّون على ما أنتم عليه من الشّرك و عبادة الأصنام؟

قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)

فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن قولك، و لم يعتنوا إلى دعوتك فَقُلْ لهم إنذارا: إنّي آذَنْتُكُمْ و أعلمتكم ما أوحي إليّ و لم أقصّر فيه، أو أنذرتكم عذاب اللّه على كفركم حال كونكم عَلى سَواءٍ في الإعلام و الإبلاغ، بلا فرق بين القريب و البعيد، و الشريف و الوضيع، و الغني و الفقير، أو المراد آذنتكم بالحرب على مهل، و لا أعاجلكم فيه رجاء إسلامكم.

وَ إِنْ أَدْرِي و لا أعلم أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ و تنذرون به من القيامة، أو العذاب الدنيوي، أو الحرب و غلبة المسلمين، مع أنّه آت لا محالة، و اعلموا أن اللّه يعذّبكم على ما تجاهرتم به من الطعن في نبوّتي و كتابي، و الاستهزاء بي، و ما تسرّون من الحسد على ما آتاني من فضله و عداوتكم لي و للمؤمنين

إِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ الصادر منكم وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ و تسرّون أيّ قول كان و أيّ سرّ

وَ إِنْ أَدْرِي و ما أعلم أنّ تأخير تعذيبكم أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بجهادكم، أو ما أدري ما بيّنت و أعلمت (2)لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ و امتحان لَكُمْ حتى يرى أنّكم تحدثون التوبة و تؤمنون أم لا، أو بليّة و زيادة عذاب لكم وَ مَتاعٌ و انتفاع بالحياة الدنيا و نعمها إِلى حِينٍ و أجل مقدّر تقتضيه مشيئة اللّه المبنيّة على الحكمة البالغة.

ص: 319


1- . علل الشرائع:579/10، تفسير الصافي 3:359.
2- . في النسخة: و أعلم.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 112

ثمّ لمّا دعاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله على حسب وظيفته المقرّرة، و تمرّد القوم عن إجابة دعوته و إطاعته، حكى سبحانه شكايته منهم إليه بقوله: قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله رَبِّ اُحْكُمْ بيني و بين قومي بِالْحَقِّ و العدل المقتضي لتعجيل نزول العذاب عليهم، فحكم اللّه عليهم بالقتل يوم بدر.

قالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمنُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)ثمّ حكى سبحانه توجّهه إلى قومه، و توعيده إيّاهم بالعذاب بقوله: وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمنُ و القادر الواسع الرحمة بالمؤمنين اَلْمُسْتَعانُ و المتوقّع منه النصر عَلى دفع ما تَصِفُونَ من الشرك و ما تعارضون من الأباطيل.

و قيل: إنّ الكفّار كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة و الغلبة، فكذّب اللّه ظنونهم، و خيّب آمالهم، و نصر رسوله صلّى اللّه عليه و آله [و المؤمنين]و خذلهم (1).

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقوله في حروبه (2).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها، كان ممّن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم، و كان مهيبا في أعين النّاس حياة الدنيا» (1).

و عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة الأنبياء سهّل اللّه الحساب له يوم القيامة (2)، و صافحه جميع الأنبياء الذين ذكر اللّه اسمهم في القرآن و سلّموا عليه» (3).

الحمد للّه الذي وفّقني لإتمام تفسير سورة الأنبياء، و نسأله التوفيق لتفسير بقيّة الكتاب الكريم

ص: 320


1- . ثواب الاعمال:108، مجمع البيان 7:61، تفسير الصافي 3:360.
2- . في مجمع البيان و تفسير أبي السعود: حاسبه اللّه حسابا يسيرا.
3- . مجمع البيان 7:61، تفسير أبي السعود 6:90.

في تفسير سورة الحجّ

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 22 (الحج): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختم اللّه سورة الأنبياء المبتدئة بتهديد المشركين باقتراب القيامة، و ذمّهم على غفلتهم عنها، و إعراضهم عن آيات اللّه، و جدالهم في رسالة رسوله، و نسبة معجزاته إلى السحر، المختتمة بأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بدعوة الناس إلى التوحيد، و تهديدهم على الشرك، و حكاية شكاية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ربّه من تمرّدهم، أردفت بسورة الحجّ المبتدئة بتحذير الناس عن الشرك، و تهديد المشركين بأهوال القيامة، و ذمّهم على مجادلة الرسول، و استدلاله تعالى على المعاد، المختتمة بتسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله في مجادلة قومه، و أمر المؤمنين بجهادهم، و توجّههم إلى عبادة اللّه و التوكّل عليه، و وعدهم بالنصر، فأبتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى اَلنّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اَللّهِ شَدِيدٌ (2)

ثمّ شرع سبحانه فيها بتحذير الناس عن الشّرك بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ و احذروا عذابه بقبول التوحيد و التوبة من الشرك و العصيان إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّاعَةِ التي تكون حين طلوع الشمس من مغربها، أو حين قيام الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ لا يحيط به الوصف، و أمر شديد لا يحويه البيان.

عن ابن عباس: أنّ زلزلة الساعة حين قيامها (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث الصّور: «أنّه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع، و نفخة الصعقة، و نفخة [القيام]لربّ العالمين، و أنّ عند نفخة الفزع يسيّر [اللّه]الجبال، و ترجف الأرض الراجفة تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، و تكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلّق ترجرجه الرياح» (2).

ص: 321


1- . تفسير أبي السعود 6:91، تفسير روح البيان 6:2.
2- . تفسير الرازي 23:2.

و عنه عليه السّلام: «معاشر النّاس، التقوى التقوى، إحذروا الساعة كما قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» (1).

ثمّ بيّن سبحانه بعض آثار عظمة تلك الزّلزلة بقوله: يَوْمَ تشاهدون فيه الزّلزلة و تَرَوْنَها ترون تَذْهَلُ و تغفل لهول مطّلعها كُلُّ امرأة مُرْضِعَةٍ لولدها عَمّا أَرْضَعَتْ و عن الطّفل الذي ألقمت ثديها في فيه مع غاية جهالة اهتمامها (2)بإرضاعه وَ تَضَعُ و تلقى كُلُّ امرأة ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها و جنينها من بطنها لغير تمام.

القمي: كلّ امرأة تموت حاملة عند [زلزلة]الساعة تضع حملها يوم القيامة (3).

و الظاهر أنّ الامور الثلاثة تمثيل لتهويل الأمر وَ تَرَى أيّها السامع اَلنّاسَ في ذلك اليوم كأنّهم سُكارى من غاية البهت وَ ما هُمْ حقيقة بِسُكارى من الخمر وَ لكِنَّ عَذابَ اَللّهِ شَدِيدٌ فمن هوله تطير عقولهم و يسلب تمييزهم.

روي أنّ هاتين الآيتين نزلتا باللّيل في غزوة بني المصطلق، و هم حيّ من خزاعة، فنادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاجتمع النّاس حوله، فقرأهما عليهم، فلم ير أكثر باكيا من تلك اللّيلة، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السّروج، و لم يضربوا الخيام، و لم يطبخوا القدور، و الناس بين باك و جالس حزين متفكّر، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أتدرون أيّ ذلك اليوم [هو]؟» قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: «ذلك يوم يقول اللّه لآدم: قم فابعث بعث النار من ولدك، فيقول آدم: و ما بعث النار؟ يعني من كم [و كم]، فيقول اللّه عزّ و جلّ: من كلّ ألف تسعمائة و تسعة و تسعون إلى النّار و واحد إلى الجنّة، فعند ذلك يشيب الصّغير، و تضع كلّ ذات حمل حملها، و ترى النّاس سكارى» .

فكبر ذلك على المؤمنين، و بكوا و قالوا: فمن ينجو يا رسول اللّه؟ فقال: «ابشروا و سدّدوا و قاربوا، فإنّ معكم خليقتين ما كانا في قوم إلاّ كثّرتاه: يأجوج و مأجوج» .

ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة فكبّروا» . ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» فكبّروا و حمدوا اللّه، ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، إنّ أهل الجنّة مائة و عشرون صفا، ثمانون منها امّتي، و ما المسلمون في الكفّار إلاّ كالشّامة في جنب البعير، أو كالشّعرة البيضاء في الثّور الأسود» .

ثمّ قال: «و يدخل من امّتي سبعون ألفا في الجنّة بغير حساب» فقال عمر: سبعون ألفا؟ قال: «نعم،

ص: 322


1- . الاحتجاج:65، تفسير الصافي 3:361.
2- . في النسخة: و اهتمامها.
3- . تفسير القمي 2:78، تفسير الصافي 3:361.

و مع كلّ واحد سبعون ألفا» الخبر (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 3 الی 4

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالتّقوى و بيان أهوال القيامة، بيّن لجاج القوم الموجب لغاية استحقاقهم العذاب بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ كالنّضر بن الحارث و أضرابه من المشركين المنكرين للبعث مَنْ يُجادِلُ و يخاصم فِي صفات اَللّهِ و إنّما يكون جداله بِغَيْرِ عِلْمٍ و عرفان و حجّة و برهان وَ يَتَّبِعُ في جداله و أقواله كُلَّ شَيْطانٍ إنسيّ أو جنّي مَرِيدٍ مبالغ في الفساد و مجاوز الحدّ في الطّغيان و العناد

كُتِبَ و أثبت على ذلك الشيطان أو المجادل في اللّوح المحفوظ أو قضي عَلَيْهِ في الأزل، أو جعل في طبعه كأنّما كتب عليه أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ و اتّبعه فَأَنَّهُ بإغوائه و تسويلاته في قلب وليّه يُضِلُّهُ و يحرفه عن طريق الحقّ و الخير وَ يَهْدِيهِ بحمله على المعاصي إِلى عَذابِ اَلسَّعِيرِ و النار الحريق.

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ اَلسَّعِيرِ (4)

سوره 22 (الحج): آیه شماره 5 الی 7

ثمّ لمّا هدّدهم اللّه بعذاب الآخرة، و كانوا منكرين للبعث و مجادلين فيه، استدلّ سبحانه عليه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ و شكّ ممّا وعدناكم مِنَ اَلْبَعْثِ و الإحياء بعد الموت، فأذكروا خلقكم الأوّل. و تفكّروا فيه حتى يزول ريبكم فَإِنّا بقدرتنا خَلَقْناكُمْ و جعلنا مبدأ تكوّنكم مِنْ تُرابٍ حيث خلق أبوكم آدم عليه السّلام منه ثُمَّ خلقنا كلّ فرد منكم مِنْ نُطْفَةٍ و ماء متكوّن في صلب الرّجل خارج منه بدفق و شهوة ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ و قطعة دم جامدة مكوّنة من النّطفة ثُمَّ مِنْ

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اَللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ (7)

ص: 323


1- . مجمع البيان 7:112، تفسير الرازي 23:3، تفسير الصافي 3:361.

مُضْغَةٍ و قطعة لحم مكوّنة من علقة مُخَلَّقَةٍ و مصوّرة و تامّة الحواس و التخاطيط وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ و غير مصوّرة و ناقصة الحواسّ و التخاطيط، أو المراد تامّة الخلق و غير تامّة، أو خارجة من الرّحم حيّة، أو ساقطة منه ميتة، و إنّما نقلنا مبدأ وجودكم من حال إلى حال و من هيئة إلى هيئة لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أنّكم تتقلّبون تحت قدرتنا، و أن تغيير المضغة إلى المخلّقة إنّما هو باختيار الفاعل القادر الحكيم المختار، و لولاه لما صار بعضه مخلّقة و بعضه غير مخلّقة وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحامِ بعد ذلك ما نَشاءُ قراره فيها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت مضروب للولادة أدناه ستّة أشهر عند الكلّ، و أقصاه عند المشهور من الخاصة تسعة أشهر، و عند قليل منهم عشرة، و عند الأقلّ سنة، و عند أبي حنيفة سنتين، و عند الشافعي أربع سنين، و عند مالك خمس سنين (1).

عن الباقر عليه السّلام: «النّطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث [في الرّحم]إذا صارت فيه أربعين يوما، ثمّ تصير علقة، و هي علقة كعلقة دم المحجمة الجامدة، تمكث في الرّحم بعد تحويلها من النّطفة أربعين يوما، ثمّ تصير مضغة و هي مضغة لحم فيها عروق خضر مشتبكة، ثمّ تصير إلى عظم، و يشقّ له السمع و البصر، و ترتّب جوارحه» (2).

و سئل عن المخلّقة فقال: «المخلّقة هم الذرّ الذين خلقهم اللّه في صلب آدم، و أخذ عليهم الميثاق، ثمّ أجراهم في أصلاب الرجال و أرحام النساء، و هم الّذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. و أمّا قوله: وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فهم كلّ نسمة لم يخلقهم اللّه في صلب آدم حين خلق الذرّ و أخذ عليهم الميثاق، و هم النّطف من العزل و السّقط قبل أن ينفخ فيه الرّوح و الحياة و البقاء» (3).

و عنه عليه السّلام: «أنّ النّطفة تكون في الرّحم أربعين يوما، ثمّ تصير علقة أربعين يوما، ثمّ تصير مضغة أربعين يوما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث اللّه ملكين خلاّقين فيقولان: يا ربّ، ما نخلقه ذكرا أم انثى؟ فيؤمران، و يقولان: يا ربّ شقيّا أم سعيدا؟ فيؤمران، فيقولان: يا ربّ ما أجله؟ و ما رزقه؟ و كلّ شيء من حاله، و عدّد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه، فإذا أكمل اللّه [له]الأجل بعث اللّه ملكا فزجره زجرة، فيخرج و قد نسي الميثاق» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تلد المرأة لأقلّ من ستّة أشهر» (5).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن غاية الحمل بالولد في بطن امّه كم هي، فإنّ الناس يقولون: ربما بقي

ص: 324


1- . راجع: كنز العرفان 2:235، و تفسير روح البيان 6:6.
2- . الكافي 7:345/10، تفسير الصافي 3:363.
3- . الكافي 6:12/1، تفسير الصافي 3:363.
4- . الكافي 6:13/3، تفسير الصافي 3:363.
5- . الكافي 5:563/32، تفسير الصافي 3:364.

في بطنها سنين؟ فقال: «كذبوا، أقصى حدّ الحمل تسعة أشهر لا يزيد لحظة، و لو زاد ساعة لقتل امّه قبل أن يخرج» (1).

ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ بعد ذلك من بطون امّهاتكم حال كونكم طِفْلاً ضعيفا لا تقومون باموركم ثُمَّ سهّل في تربيتكم و أغذيتكم امورا لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و كمالكم في القوّة و العقل و التمييز وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى و يقبض روحه قبل بلوغ الأشدّ أو بعده وَ مِنْكُمْ مَنْ يبقى حيّا و يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ من الهرم و الخرف.

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه: «إذا بلغ العبد مائة سنة، فذلك أرذل العمر» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني خمسا و سبعين» (3). لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ كثير شَيْئاً من الأشياء، أو من العلم، لقلّة فهمه، و سخافة عقله، و غلبة النسيان عليه، كحاله في أوان طفوليّته.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على البعث بقوله: وَ تَرَى أيّها الرائي اَلْأَرْضَ أوّلا هامِدَةً و يابسة خالية من النبات فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ من السماء اِهْتَزَّتْ و تحرّكت بالنبات كما يتحرّك الشابّ النّشيط و زيّنت بالأزهار وَ رَبَتْ و انتفخت و نمت وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ و نوع من الزّرع و صنف من الغرس بَهِيجٍ و ذي حسن و نضارة

ذلِكَ الصّنع البديع من خلق الإنسان على أطوار مختلفة، و إحياء الأرض بعد موتها كائن بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ و الموجود الثابت لذاته الذي لا عجز له و لا فناء وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى كما أمات الأحياء وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من بدء الخلق و إعادته قَدِيرٌ و إلاّ لما صدر منه تلك التعاجيب وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ و القيامة التي تجزى فيها العباد آتِيَةٌ لا محالة بمقتضى حكمته و وعده الذي لا خلف فيه، و لا رَيْبَ فِيها لوضوح دليلها وَ أَنَّ اَللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ إلى المحشر، فإنّه لو لا الساعة و البعث لما خلق الإنسان و ما أحيا الأرض، بل لما خلق العالم أصلا، لكون خلقه عبثا.

و الحاصل: أنّ خلق الإنسان و إحياء الأرض، إنّما كان بسبب القدرة و ظهور شؤون الالوهيّة و حقّيته في كمال صفاته، و بسبب حكمته المقتضية لإتيان الساعة و البعث، و حقّيته في أفعاله.

و قيل: إنّ قوله: وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ خبر لمبتدأ محذوف، و التقدير: الأمر أنّ الساعة آتية (4).

و قيل: إنّ الباء (5)في قوله: بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ ليس للسببيّة، بل متعلق بالفعل المحذوف (6)،

ص: 325


1- . الكافي 6:52/3، تفسير الصافي 3:364.
2- . تفسير القمي 2:78، تفسير الصافي 3:364.
3- . مجمع البيان 6:574، تفسير الصافي 3:364.
4- . تفسير أبي السعود 6:96.
5- . في النسخة: إن كلمة باء.
6- . تفسير أبي السعود 6:96.

و التقدير: ذلك لتعلموا أنّ اللّه هو الحقّ.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 8 الی 10

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أتباع شياطين الإنس ذمّ المتبوعين بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً و دليل واضح وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ و وحي موضح للحّق.

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَذابَ اَلْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)و قيل: إنّ الآية السابقة نزلت في النضر بن الحارث، و هذه الآية نزلت في أبي جهل (1).

و عن ابن عباس: هذه الآية أيضا نزلت في النّضر (2)، و يكون التكرير للمبالغة في الذمّ (3).

و قيل: إنّ المراد بالعلم العلم الضروري، و بالهدى العلم النظري و الاستدلالي، و بالكتاب المنير الدليل السمعي (4)، و يحتمل أن يكون المراد بالعلم العلم الكشفي، و بالهدى البرهان العقلي، و بالكتاب الوحي السماوي.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذّمهم بضلالة أنفسهم ذمّهم بالتكبّر و إضلال الناس بقوله: ثانِيَ عِطْفِهِ تكبّرا، و لاوي عنقه و كتفه تعظّما، و يكون جداله لِيُضِلَّ النّاس و يحرفهم عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و دين الإسلام.

ثمّ هدّدهم بقوله: لَهُ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ و هوان و ذلّ و فضيحة وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَذابَ النار اَلْحَرِيقِ أو العذاب المحرق،

و يقال له: ذلِكَ المذكور من الخزي في الدنيا و العذاب الحريق في هذا اليوم هو ما تستحقّه بِما قَدَّمَتْ يَداكَ و اكتسبته بسعيك من الكفر و المعاصي وَ الأمر أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ بل هم ظالمون على أنفسهم.

قيل: إنّ ذكر (ظلاّم) المتضمّن للكثرة في موقع لفظ الظّلم للتنبيه على أنّ قليل الظلم منه تعالى كثير، أو باعتبار كثرة العبيد (5).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 11

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المتجاهرين بالكفر المصرّين عليه، ذمّ المنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللّهَ و يتديّن بدينه عَلى حَرْفٍ و طرف واحد من الدّين

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ اَلْخُسْرانُ اَلْمُبِينُ (11)

ص: 326


1- . تفسير الرازي 23:11.
2- . تفسير الرازي 23:11.
3- . تفسير الرازي 23:11.
4- . تفسير الرازي 23:11.
5- . تفسير روح البيان 6:10.

و هو لسانه، لا على وسطه و هو قلبه، و هو كناية عن قلقه و اضطرابه في الدين، فهو كالذي يقوم على طرف الجيش ليسهل عليه الفرار، إن أحسّ بشرّ فهو لا سكون له و لا طمأنينة فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ من سعة (1)و راحة اِطْمَأَنَّ بسبب ذلك الخير و سكن بِهِ في الدين، و ثبت على ما كان عليه من الإيمان الظاهريّ اللّساني وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ و بليّة من شرّ و مكروه يعتريه في نفسه أو أهله أو ماله اِنْقَلَبَ و انصرف عَلى وَجْهِهِ و طريقه السابق من الكفر، و رجع إلى ما كان عليه من الضّلال خَسِرَ و فقد اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةَ و ذهبتا من يده و تضرّر فيهما بضياع مقصوده في الدنيا من العزّ و السلامة و سائر المنافع و التمتّعات و فوات غرضه في الآخرة من نيل الثواب و السّلامة من العقاب ذلِكَ الخسران هُوَ اَلْخُسْرانُ اَلْمُبِينُ و الضّرر الواضح عند العقلاء، إذ لا خسران أعظم منه.

عن ابن عباس: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ [بها]جسمه، و نتجت فرسه مهرا حسنا، و ولدت امرأته غلاما، و كثر ماله و ماشيته، رضي بالدّين و اطمئنّ إليه، و إن أصابه وجع، و ولدت امرأته جارية، أو أجهضت رماكه (2)، و ذهب ماله، و تأخّرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان و قال له: ما جاءتك هذه الشّرور إلاّ بسبب هذا الدّين، فينقلب عن دينه (3).

و قيل: نزلت في المؤلّفة قلوبهم، منهم: عيينة بن بدر، و الأقرع بن حابس، و العبّاس بن مرداس، قال بعضهم لبعض: ندخل في دين محمّد، فإن أصبنا خيرا عرفنا أنّه حقّ، و إن أصبنا غير ذلك عرفنا أنّه باطل (4).

و قيل: أسلم رجل من اليهود، فذهب بصره و ماله و ولده، فقال: يا رسول اللّه أقلني، فإنّي لم أصب من ديني هذا خيرا، ذهب بصري و ولدي و مالي. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ الاسلام لا يقال، إنّ الإسلام ليسبك كما تسبك النار خبث الحديد و الذّهب و الفضّة» فنزلت هذه الآية (5).

عن الباقر عليه السّلام قال: «هم قوم وحّدوا اللّه، و خلعوا عبادة من يعبد من دون اللّه، فخرجوا من الشّرك و لم يعرفوا أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه، فهم يعبدون اللّه على شكّ في محمّد و ما جاء به، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: ننظر، فإن كثرت أموالنا و عوفينا في أنفسنا و أولادنا، علمنا أنّك صادق، و أنّك رسول اللّه، و إن كان غير ذلك نظرنا. قال اللّه: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ يعني عافية في الدنيا وَ إِنْ

ص: 327


1- . في النسخة: وسعة.
2- . الرماك: جمع رمكة، و هي الفرس أو البرذونة تتخذ للنسل.
3- . تفسير الرازي 23:13. (4 و 5) . تفسير الرازي 23:13.

أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ يعني بلاء في نفسه اِنْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي انقلب على الشّرك» (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ ذمّ سبحانه العابد على حرف على شركه المضمر بقوله: يَدْعُوا ذلك الضالّ في الباطن و يعبد مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه ما لا يَضُرُّهُ إن لم يعبده وَ ما لا يَنْفَعُهُ إن عبده ذلِكَ الدّعاء هُوَ اَلضَّلالُ اَلْبَعِيدُ عن الحقّ و الصواب بحيث لا يرجى هدايته، لوضوح أنّ الجماد لا يليق بالدعاء و لا يجيىء منه الضّرر و النفع.

يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ اَلضَّلالُ اَلْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ اَلْمَوْلى وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ (13) إِنَّ اَللّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ إِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)

ثمّ بالغ سبحانه في تقبيح عملهم و تسفيه أحلامهم بقوله: يَدْعُوا ذلك الأحمق الغبيّ لَمَنْ ضَرُّهُ بسبب عبادته و دعائه الموجب للقتل و الخذلان في الدنيا، و العذاب بالنّار في الآخرة أَقْرَبُ إليه مِنْ نَفْعِهِ المتوقّع من عبادته بزعمهم من الشفاعة و القرب من اللّه، و اللّه لَبِئْسَ اَلْمَوْلى و الناصر ذلك المعبود وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ و الصاحب، و إنّما ذكر كلمة (من) في قوله: لَمَنْ في مورد كلمة (ما) و صيغة التفضيل مماشاة للمشركين المنزّلين للأصنام منزلة العقلاء، و القائلين بأنّها الضارّات النافعات.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الأصنام، و أنّها لا تنفع و لا تضرّ، بيّن نفعه بالمؤمنين و تفضّله عليهم بقوله: إِنَّ اَللّهَ في الآخرة يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ بلطفه و تفضّله إِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إثابة الموحّدين و تعذيب المشركين لا دافع لها و لا مانع.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 15

ثمّ لمّا بيّن تفضّله على المؤمنين (2)، بيّن لطفه بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و تفضّله عليه بنصرته بقوله: مَنْ كانَ يَظُنُّ و يتوهّم في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا بإعلاء دينه، و قهر أعدائه، وَ

مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى اَلسَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)

ص: 328


1- . الكافي 2:303/2، تفسير الصافي 3:366.
2- . في النسخة: تفضّله بالمؤمنين.

في اَلْآخِرَةِ بإعلاء درجته و درجة المؤمنين به، و الانتقام من معارضيه و مكذّبيه، و يغيظه ما يرى من خلاف ما توهّمه فَلْيَمْدُدْ و ليربط عنقه بِسَبَبٍ و حبل إِلَى اَلسَّماءِ المطلّة، أو سقف بيته ثُمَّ لْيَقْطَعْ ذلك الحبل فيسقط على الأرض و يموت، أو ليقطع نفسه و يختنق فَلْيَنْظُرْ و ليتصوّر في نفسه هَلْ يُذْهِبَنَّ و يزيلنّ كَيْدُهُ و تدبيره و فعله ذلك بنفسه ما يَغِيظُ من نصرة اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله؟ كلاّ، لا يقدر على دفع نصرة اللّه له و إن أهلك نفسه من شدّة غضبه؛ لأنّ اللّه لا يعجزه شيء عن إنفاذ إرادته.

قيل: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم على المشركين يستبطئون ما وعد اللّه رسوله من النصر، فنزلت (1).

و قيل: إنّ أعداءه كانوا يتوقّعون أن لا ينصره اللّه، فلمّا شاهدوا أنّ اللّه نصره غاظهم ذلك، فنزلت (2).

و حاصل المعنى أنّه تعالى ناصر رسوله لا محالة، فمن كان يغيظه ذلك أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته فليبالغ في الجدّ في دفعه، فقصارى أمره و عاقبة مكره أن يختنق ممّا يرى من بطلان سعيه في ذلك.

و قيل: إنّ المراد فليمدد حبلا إلى السماء المطلّة و ليصعد عليها، ثمّ ليقطع الوحي، أو فليقطع نصر اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه و آله (1).

و قيل: إنّ ضمير (لن ينصره) راجع إلى الموصول، و المراد من النصرة الرزق، و المعنى من كان يظنّ أن لن يرزقه اللّه في الدنيا و الآخرة، و لذا يعدل عن التمسّك بدين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فليبالغ في الجزع، و غايته الاختناق، فإنّ ذلك لا يقلب القسمة و لا يجعله مرزوقا (2).

عن مقاتل: أنّها نزلت في نفر من أسد و غطفان، فإنّهم قالوا: نخاف أن لا ينصر اللّه محمّدا، فينقطع الذي بيننا و بين حلفائنا من اليهود، فلا يميروننا (3).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المشركين و المؤمنين و عدم قدرة أحد على المنع من إنفاذ إرادته بأبلغ

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ أَنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)

ص: 329


1- . تفسير الكشاف 3:148.
2- . مجمع البيان 7:121.
3- . تفسير الرازي 23:16.

بيان، بيّن أنّ جميع القرآن في البيان في درجة الإعجاز بقوله: وَ كَذلِكَ الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة في هذا القرآن أَنْزَلْناهُ كلّه حال كون جميعه آياتٍ بَيِّناتٍ و البيانات البالغة حدّ الإعجاز الواضحات الدلالة على المعاني الرائقة اللطيفة مع غاية الإيجاز وَ أَنَّ اَللّهَ يَهْدِي به إلى الحقّ و الدرجات العالية في الدنيا و الآخرة مَنْ يُرِيدُ هدايته إليها.

قيل: إنّ التقدير و لأنّ اللّه يهدي من يريد أنزله كذلك، أو الأمر أنّ اللّه يهدي، إلى آخره (1).

في الحديث: «أنّ اللّه يرفع بهذا الكتاب أقواما، و يضع به آخرين» (2).

ثمّ بيّن اللّه الفرقة المهديّة و الفرق الضّلاّل، و أخبرهم بإعطاء كلّ منهم ما يستحقّه بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به وَ اَلَّذِينَ هادُوا و اتّخذوا الملّة اليهوديّة وَ اَلصّابِئِينَ و عبدة الملائكة و الكواكب الخارجين عن الأديان كلّها، و قيل: هم المتديّنون بدين نوح (3)وَ اَلنَّصارى الّذين اختاروا دين المسيح وَ اَلْمَجُوسَ الذين عبدوا النّار وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا و عبدوا الأصنام إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ و يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ بإثابة المؤمنين، و تعذيب الفرق الخمس الاخر المتفقين على الكفر، و لا تخفى عليه بواطنهم و ظواهرهم و مقدار استحقاقهم و ما يستحقّون، بل إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من خفيّات عوالم الملك و الملكوت و جليّاتها شَهِيدٌ و بها عليم.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 18

ثمّ بيّن سبحانه ما يوجب الفصل بينهم من التوحيد و الشّرك و الخضوع للّه و الاستنكاف منه بقوله: أَ لَمْ تَرَ و لم تعلم أيّها الّذي من شأنك العلم أَنَّ اَللّهَ يَسْجُدُ و يخضع لَهُ وحده و ينقاد لحكمه طوعا أو كرها مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الثّقلين وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ كالوحوش و الطيور و نظائرهما وَ يسجد له كَثِيرٌ مِنَ اَلنّاسِ سجود طاعة و عبادة، أو يوحّده: كما عن ابن عباس (4). أو في الجنّة، أو حقّ له الثواب وَ كَثِيرٌ منهم حَقَّ و ثبت عَلَيْهِ اَلْعَذابُ بكفره و إشراكه و عصيانه وَ مَنْ يُهِنِ اَللّهُ و يشقيه بخذلانه و تعذيبه فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يكرمه بإسعاده و إثابته أَنَّ اَللّهَ وحده هو الذي

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)

ص: 330


1- . تفسير أبي السعود 6:100.
2- . تفسير روح البيان 6:14.
3- . تفسير روح البيان 6:15.
4- . تفسير الرازي 23:20.

يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام و الإهانة و غيرهما.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 19 الی 22

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر فرقة المؤمنين و فرقة الكفّار المنقسمة إلى خمس فرق، بيّن ما فيه اختلافهم و كيفيّة الفصل بينهم بقوله: هذانِ الفريقان خَصْمانِ متنازعان، الذين اِخْتَصَمُوا و تنازعوا فِي ذات رَبِّهِمْ و صفاته كما عن ابن عبّاس (1). أو في دينه المرضيّ عنده، و إنّما كان تخاصمهم [يتمثّل في]

بناء أقوالهم و أفعالهم على ما كانوا يعتقدون، و إن لم يجر بينهما تحاور.

هذانِ خَصْمانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ (22)قيل: تخاصمت اليهود و المؤمنون فقالت اليهود: نحن أحقّ باللّه، لأنّ كتابنا أقدم (2)، و نبيّنا قبل نبيّكم. و قال المؤمنون: نحن أحقّ باللّه، لأنّا آمنّا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بنبيّكم، و بما أنزل اللّه من كتاب، و أنتم تعرفون كتابنا و نبيّنا، ثمّ كفرتم به حسدا، فنزلت (3).

و روي أنّ تلك المحاجّة كانت بين عامّة أهل الكتاب و المؤمنين (4).

و روي أنّ أبا ذرّ رضوان اللّه عليه كان يحلف باللّه على أنّ الآية نزلت في ستّة من قريش تبارزوا يوم بدر: حمزة، و علي، و عبيدة، و عتبة، و شيبة، و الوليد. و قال عليّ عليه السّلام: «أنّا أوّل من يجثوا للخصومة بين يدي اللّه تعالى يوم القيامة» (5).

و قيل: إنّ الخصمين الجنّة و النار؛ قالت النار، خلقني اللّه لعقوبته، و قالت الجنّة: خلقني اللّه لرحمته، فقصّ اللّه خبرهما لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله (6).

و عن الحسين بن علي عليهما السّلام قال: «نحن و بنو اميّة، قلنا: صدق اللّه و رسوله، و قالت بنو اميّة: كذب اللّه و رسوله، فنحن الخصمان يوم القيامة» (5).

و أمّا كيفيّة الفصل فَالَّذِينَ كَفَرُوا من الفرق قُطِّعَتْ و قدّرت لَهُمْ على مقادير جثثهم ثِيابٌ مِنْ نارٍ يلبسونها.

ص: 331


1- . تفسير الرازي 23:21.
2- . في تفسير أبي السعود: و أقدم منكم كتابا.
3- . تفسير أبي السعود 6:101.
4- . تفسير الرازي 23:21. (5 و 6) . تفسير الرازي 23:21.
5- . الخصال:42/35، تفسير الصافي 3:368.

و قيل: شبّه اللّه إحاطة النّار بهم بإحاطة الثياب بلابسها (1).

و عن سعيد بن جبير: أي من نحاس اذيب بالنّار (2).

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ و الماء الحارّ المتناهي في الحرارة. عن ابن عباس: لو قطرت قطرة منه على جبال [الدنيا]لأذابها (3).

يُصْهَرُ و يذاب بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ من الأحشاء و الأمعاء وَ اَلْجُلُودُ فتأثيره في بواطنهم كتأثيره في ظواهر [هم]

.

القمي قال: تشويه النار، فتسترخي شفته السّفلى حتى تبلغ سرّته، و تتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه (4).

وَ أعدّ لَهُمْ مَقامِعُ و أعمدة كما قال القمي (5). أو سياط مِنْ حَدِيدٍ محماة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «و لهم مقامع من حديد لو وضع مقمع من حديد في الأرض ثمّ اجتمع عليه الثّقلان ما أقلوه من الأرض» (4).

كُلَّما أَرادُوا و أيّ وقت أشرفوا على أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها و يتخلّصوا مِنْ غَمٍّ من غمومها الشديدة التي تصيبهم فيها، بأن يضربهم لهبها فيرفعهم إلى أعاليها أُعِيدُوا فِيها و ردّوا من أعاليها إلى أسافلها بضرب الأعمدة على رؤوسهم وَ قيل لهم: ذُوقُوا و أطعموا عَذابَ اَلْحَرِيقِ و ألم النار البالغة في الأحراق، أو ألم الغليظ من النّار.

عن الصادق عليه السّلام في رواية: «أنّ أهل النّار [يعظّمون النار، و إنّ]أهل الجنّة [يعظّمون الجنّة] و النعيم، و إنّ أهل جهنّم إذا دخلوها هووا فيها [مسيرة]سبعين عاما، فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد و اعيدوا في دركها، هذه حالهم، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ ثمّ تبدّل جلودهم غير الجلود التي كانت عليهم» (5)الخبر.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قضاءه في حقّ الكفّار و سوء حالهم في الآخرة، بيّن قضاءه في حقّ المؤمنين و حسن حالهم فيها بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ فعظّم اللّه شأنهم بإسناد إدخالهم الجنة إلى نفسه، ثمّ بيّن ما أعدّ للمؤمنين بدل ما أعدّ للكفّار

إِنَّ اَللّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ اَلْحَمِيدِ (24)

ص: 332


1- . تفسير أبي السعود 6:101، تفسير روح البيان 6:18.
2- . تفسير الرازي 23:22.
3- . تفسير الرازي 23:22، تفسير أبي السعود 6:101. (4 و 5) . تفسير القمي 2:80، تفسير الصافي 3:368.
4- . مجمع البيان 7:124، تفسير الصافي 3:368.
5- . تفسير القمي 2:81، تفسير الصافي 3:369.

من المقامع بقوله: يُحَلَّوْنَ و يزيّنون فِيها بأمر اللّه و تصدّي الملائكة مِنْ أَساوِرَ كائنة مِنْ ذَهَبٍ أحمر على ما قيل (1)وَ يحلّون لُؤْلُؤاً لتزيّنهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان لباس الكفّار في جهنّم، بيّن لباس المؤمنين في الجنّة بقوله: وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ و ثوب من إبريسم محض، و إنّما غيّر الاسلوب، حيث لم يقل: و يلبسون حريرا، إشعار بأنّ لباسهم أمر غنيّ عن البيان،

و إنّما المحتاج إلى البيان تعيين جنسه وَ هُدُوا فيها إِلَى اَلطَّيِّبِ و الأحسن مِنَ اَلْقَوْلِ كقول: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا، و قوله: الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن، و قوله: الحمد للّه الّذي صدقنا وعده، كما عن ابن عباس (2).

و قيل: هو البشارة التي تأتيهم من قبل اللّه (3).

و قيل: يعني هدوا في الدّنيا إلى القول الطيّب، و هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه (4).

و قيل: هو القرآن (5).

وَ هُدُوا إِلى صِراطِ اَلْحَمِيدِ و الطّريق المحمود نفسه أو عاقبته. و قيل: إنّ الصّراط هو الإسلام، و الحميد هو اللّه المستحقّ للحمد بذاته، و إنّما أخّر هذه الهداية عن الهداية إلى القول الطيّب مع تقدّمها عليها رعاية للفواصل (6).

عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «ذاك حمزة و جعفر و عبيدة و سلمان و أبو ذرّ و المقداد بن الأسود و عمّار، هدوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام» (7).

و عن الباقر عليه السّلام: «هو و اللّه هذا الأمر الذي أنتم عليه» (8).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 25

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قضائه في حقّ الكفّار و شدّة عذابهم، ذكر أعظم جرائمهم بعد الكفر بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله وَ يَصُدُّونَ الناس و يمنعونهم عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و الدخول في دينه و طاعته و الهجرة إلى رسوله وَ عن دخول اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و طواف البيت فيه، مع أنّه المكان اَلَّذِي جَعَلْناهُ و صيّرناه معبدا لِلنّاسِ كائنا من كان سَواءً اَلْعاكِفُ و المقيم فِيهِ

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ اَلَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)

ص: 333


1- . تفسير روح البيان 6:20.
2- . تفسير الرازي 23:22، تفسير أبي السعود 6:102، و لم ينسبه إلى ابن عباس.
3- . تفسير الرازي 23:22.
4- . تفسير الرازي 23:22.
5- . تفسير الرازي 23:22.
6- . تفسير أبي السعود 6:102.
7- . الكافي 1:352/71، تفسير الصافي 3:370.
8- . المحاسن:169/133، تفسير الصافي 3:369.

وَ اَلْبادِ و المسافر البعيد إليه من حيث السّكنى و الطّواف و التّعبّد.

عن ابن عباس: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب و أصحابه حين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبية عن المسجد الحرام، و أن يحجّ و يعتمر و ينحر الهدي، فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قتالهم، و كان محرما بعمرة، ثمّ صالحوه على أن يعود في العام القابل (1).

و عنه أيضا: أنّهما يستويان في سكنى مكّة و النزول بها، فليس أحدهما أحقّ بالمنزل الّذي يكون فيه من الآخر إلاّ أن يكون واحد سبق إلى المنزل» (2).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «مكّة مباح لمن سبق إليها» (3).

القمي: نزلت في قريش حين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكّة، و قوله: سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ قال: أهل مكّة و من جاء [إليهم]من البلدان، فهم فيه سواء، لا يمنع من النّزول و دخول الحرم (2).

في (نهج البلاغة) -في كتاب كتبه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى قثم بن عبّاس، و هو عامله على مكّة-: «[و مر أهل مكّة]أن لا يأخذوا من ساكن أجرا، فإنّ اللّه يقول: سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ فالعاكف المقيم به، و البادي الّذي يحجّ إليه من غير أهله» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه كره إجارة بيوت مكّة (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أوّل من علّق على بابه المصراعين بمكّة معاوية، فمنع حاجّ بيت اللّه، و قد قال اللّه عزّ و جلّ: سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ، و كان النّاس إذا قدموا مكّة نزل البادي على الحاضر حتى يقضي حجّه» الخبر (5).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية: «لم يكن ينبغي أن يوضع على دور مكّة أبواب، لأنّ للحجّاج أن ينزلوا معهم في دورهم في ساحة الدّار حتى يقضوا مناسكهم، و إنّ أوّل من جعل لدور مكّة أبوابا معاوية» (6).

ثمّ بيّن سبحانه حرمة المسجد بقوله: وَ مَنْ يُرِدْ مرادا فِيهِ حال كونه متلبّسا بِإِلْحادٍ و عدول عن القصد ملتبسا بِظُلْمٍ. و قيل: إنّ المراد من يرد أن يأتي فيه بإلحاد، و هو الشرك باللّه، كما عن ابن عبّاس (9).

روي أنّ الآية نزلت في عبد اللّه بن سعد حيث استسلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فارتدّ مشركا، و في قيس بن ضبابة (10).

و عن مقاتل: نزلت في عبد اللّه بن خطل حين قتل الأنصاري و هرب إلى مكّة كافرا، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله

ص: 334


1- . تفسير الرازي 23:23. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:24.
2- . تفسير القمي 2:83، تفسير الصافي 3:371.
3- . نهج البلاغة:458 كتاب 67، تفسير الصافي 3:371.
4- . قرب الإسناد:140/498، تفسير الصافي 3:371.
5- . الكافي 4:243/1، تفسير الصافي 3:371.
6- . علل الشرائع:396/1، تفسير الصافي 3:371. (9 و 10) . تفسير الرازي 23:25.

بقتله يوم فتح مكّة (1).

و قيل: إنّه قتل ما نهى اللّه عنه من الصّيد (2).

و قيل: إنّه دخول مكّة بغير إحرام و ارتكاب ما لا يحلّ للمحرم (3).

و قيل: إنّه الاحتكار (4).

و قيل: إنّه المنع من عمارته (5).

و قيل: هو قول الرجل: لا و اللّه، و بلى و اللّه (6).

و قيل: عامّ في كلّ المعاصي (7).

و عن ابن مسعود: لو أنّ رجلا بعدن همّ بأن يعمل سيّئة عند البيت أذاقه اللّه عذابا أليما (8).

و يحتمل أن يكون المراد من يرد فيه مرادا عادلا عن القصد بسبب ارتكابه الظّلم على نفسه أو غيره نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ فالواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه و يسلك طريق السّداد و العدل في جميع ما يهمّ به و يقصده.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «من عبد فيه غير اللّه و تولّى فيه غير أولياء اللّه، فهو ملحد بظلم، و على اللّه تبارك و تعالى أن يذيقه من عذاب أليم» (1).

و عنه عليه السّلام فيها: «كلّ ظلم إلحاد، و ضرب الخادم من غير ذنب من ذلك الإلحاد» (2)، و سئل عن أدنى الإلحاد فقال: «إنّ الكبر أدناه» (3).

و عنه عليه السّلام: «كلّ ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظّلم، فإنّي أراه إلحادا، و لذلك كان ينهى عن أن يسكن [الحرم]» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه قيل له: إنّ سبعا من سباع الطّير على الكعبة، ليس يمرّ به شيء من حمام الحرم إلاّ ضربه؟ فقال: «انصبوا له و اقتلوه، فإنّه قد ألحد في الحرم» (5).

و عنه عليه السّلام قال: «نزلت فيهم حيث دخلوا الكعبة فتعاهدوا و تعاقدوا على كفرهم و جحودهم بما نزل في أمير المؤمنين عليه السّلام، فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول و وليّه فبعدا للقوم الظّالمين» (6).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 26

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ (26)

ص: 335


1- . الكافي 8:337/533، تفسير الصافي 3:372.
2- . الكافي 4:277/2، تفسير الصافي 3:372.
3- . الكافي 2:233/1، تفسير الصافي 3:372.
4- . الكافي 4:227/3، علل الشرائع:445/1، تفسير الصافي 3:372.
5- . الكافي 4:227/1، علل الشرائع:453/4، تفسير الصافي 3:372.
6- . الكافي 1:348/44، تفسير الصافي 3:372.

ثمّ ذكر سبحانه جملة من تشريفات البيت الحرام بقوله: وَ إِذْ بَوَّأْنا و بيّنا لِإِبْراهِيمَ أن يبني مَكانَ اَلْبَيْتِ و قيل: إنّ المعنى اذكر وقت جعلنا مكان البيت مباءة و مرجعا لإبراهيم عليه السّلام يرجع إليه للعمارة و العبادة (1).

و قلنا له: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي يا إبراهيم في العبادة و عمل العمارة شَيْئاً من الأشياء، و غرضا من الأغراض وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ بعد بنائه من الأوثان و الأقذار لِلطّائِفِينَ به وَ اَلْقائِمِينَ العاكفين فيه وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ.

عن ابن عباس قال: للطّائفين بالبيت من غير أهل مكّة، و القائمين أي المقيمين بها، و الرّكّع السجود أي من المصلّين (2).

و قيل: إنّ المراد من الأوصاف الثلاثة المصلّون؛ لأنّ الصلاة جامعة للقيام و الرّكوع و السّجود (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه يقول: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلاّ و هو طاهر قد غسل عرقه و الأذى و تطهّر» (2).

قيل: لعلّه كان ذلك المكان صحراء، و كانوا يرمون إليها الأقذار، فأمر إبراهيم عليه السّلام ببناء البيت في ذلك المكان، و تطهيره من الأقذار، أو كان معمورا، و كانوا قد وضعوا فيه الأصنام، فأمره اللّه بتخريبه و وضع بناء جديد (3).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 27

ثمّ أوحى اللّه إليه بعد إتمام البيت بقوله: وَ أَذِّنْ يا إبراهيم فِي اَلنّاسِ و أعلمهم بِالْحَجِّ فإذا أذّنت فيهم يَأْتُوكَ رِجالاً و مشاة على أرجلهم وَ ركبانا عَلى كُلِّ ضامِرٍ و بعير مهزول من بعد المسير يَأْتِينَ إلى هذا البيت مِنْ كُلِّ فَجٍّ و طريق واسع، أو طريق بين الجبلين عَمِيقٍ و بعيد منحدر إلى السفل (4).

وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)روي أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا فرغ من بناء البيت قال اللّه تعالى له: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ قال: يا

ص: 336


1- . تفسير الرازي 23:26. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:27.
2- . الكافي 4:400/3، التهذيب 5:98/322، تفسير الصافي 3:372.
3- . تفسير الرازي 23:27.
4- . السفل: نقيض العلو.

ربّ، و ما يبلغ صوتي؟ قال تعالى: عليك الأذان و عليّ البلاغ، فصعد إبراهيم عليه السّلام على الصّفا (1). و في رواية: على أبي قبيس (2). و في اخرى: على المقام (1)؛ فارتفع المقام حتى صار كطول الجبال، فأدخل إصبعيه في اذنيه، و أقبل بوجهه يمينا و شمالا و شرقا و غربا و قال: أيّها النّاس، ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتا، و كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربّكم، و حجّوا بيته الحرام، ليثيبكم به الجنّة، و يجيركم من النّار.

و في رواية: قال إبراهيم عليه السّلام كيف أقول يا جبرئيل؟ قال جبرئيل: قل لبّيك أللّهم لبّيك، فهو أوّل من لبّى (4).

و في رواية اخرى قال: إنّ اللّه يدعوكم إلى حجّ البيت الحرام ليثيبكم به الجنّة، و يخرجكم من النّار، فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرّجال و أرحام النساء، و كلّ من وصل إليه صوته من حجر أو شجر أو مدر أو أكمة أو تراب (5).

و في رواية: فسمعه أهل ما بين السماء و الأرض، فما [بقي شيء]سمع صوته إلاّ أقبل يقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، فأول من أجاب أهل اليمن، فهم أكثر النّاس حجّا (2).

و قال مجاهد: من أجاب مرّة حجّ مرّة، و من أجاب مرّتين أو أكثر يحجّ مرّتين أو أكثر بذلك المقدار (3).

و عن ابن عباس: لمّا أمر إبراهيم عليه السّلام بالأذان تواضعت له الجبال و خفضت، و ارتفعت له القرى (4).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا امر إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام ببناء البيت، و تمّ بناؤه، قعد إبراهيم عليه السّلام على ركن ثمّ نادى: هلمّ الحجّ، هلمّ الحجّ، فلبى الناس في أصلاب الرجال و قالوا: لبّيك داعي اللّه، لبّيك داعي اللّه، فمن لبّى عشرا حجّ عشرا، و من لبّى خمسا حجّ خمسا، و من لبّى أكثر فبعدد ذلك، و من لبّى واحدا حجّ مرّة، و من لم يلبّ لم يحجّ» (5).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه جلّ جلاله لمّا أمر إبراهيم عليه السّلام ينادي في الناس بالحجّ، قام على المقام فارتفع به حتى صار بإزاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحجّ، فأسمع من في أصلاب الرجال و أرحام

ص: 337


1- . تفسير الرازي 23:27، تفسير روح البيان 6:25. (4 و 5) . تفسير الرازي 23:27.
2- . تفسير روح البيان 6:25.
3- . تفسير الرازي 23:27، تفسير روح البيان 6:25.
4- . تفسير الرازي 23:27.
5- . الكافي 4:206/6، علل الشرائع:419/1، تفسير الصافي 3:373.

النساء إلى أن تقوم الساعة» (1).

و قال القمي: لمّا فرغ إبراهيم عليه السّلام من بناء البيت، أمره اللّه أن يؤذّن في الناس بالحجّ، فقال: يا ربّ، ما يبلغ صوتي، فقال اللّه: أذّن، عليك الأذان، و عليّ البلاغ. و ارتفع على المقام و هو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع المقام حتى كان أطول من الجبال، فأدخل إصبعيه في اذنيه، و أقبل بوجهه شرقا و غربا، و نادى: أيّها الناس، كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربّكم؛ فأجابوه من تحت البحور السبعة، و من بين المشرق و المغرب إلى منقطع التّراب من أطراف الأرض كلّها، و من أصلاب الرجال و أرحام النساء بالتّلبية: لبّيك اللهمّ لبّيك، ألا ترون يأتون يلبّون، فمن حجّ يومئذ إلى يوم القيامة، فهم ممّن استجاب للّه سبحانه [و]ذلك [قوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ] (2).

و قال بعض العامّة: إنّ المأمور بقوله: أَذِّنْ هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و نسب ذلك القول إلى أكثر المعتزلة، و استدلّ عليه بأنّ الخطابات التي تكون في القرآن إذا أمكن حملها على كون المخاطب بها محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، وجب حملها على ذلك، لأنّه أولى (3). و عليه يكون معنى الآية: اذكر يا محمّد إذ بوّأنا لإبراهيم. . . إلى آخره، و أذّن أنت يا محمد بالحجّ يأتوك رجالا.

و قيل: إنّ المراد بالأذان إعلانه صلّى اللّه عليه و آله بالتّلبية حتى يعلم الناس أنّه حاجّ فيحجّوا معه و يقتدوا به (4).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ، ثمّ أنزل اللّه تعالى: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ الآية، فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول اللّه يحجّ في عامة [هذا]فعلم به من حضر بالمدينة و أهل العوالي و الأعراب، و اجتمعوا لحجّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون فيتّبعونه، أو يصنع شيئا فيصنعونه» (3). و إنّما قدّم ذكر المشاة للإشعار بفضيلتهم على الرّكبان.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الحاجّ الراكب له بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، و للماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم» قيل: يا رسول اللّه، و ما حسنات الحرم؟ قال: «الحسنة بمائة ألف حسنة» (4).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 28 الی 29

لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْبائِسَ اَلْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ (29)

ص: 338


1- . علل الشرائع:419/2، تفسير الصافي 3:373.
2- . تفسير القمي 2:83، تفسير الصافي 3:373. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:28.
3- . الكافي 4:245/4، تفسير الصافي 3:373.
4- . تفسير الرازي 23:28.

ثمّ بيّن سبحانه حكمة الأمر بالحجّ بقوله: لِيَشْهَدُوا و ليحضروا مَنافِعَ مختصّة بهذه العبادة لَهُمْ من المنافع الدنيويّة، كالتجارة في أيّام الحجّ كما قيل (1)، أو منافع أخرويّة كما رواه بعض العامّة عن الباقر عليه السّلام (2)، أو هما كما عن الصادق عليه السّلام أنّه يطاف به حول الكعبة في محمل، و هو شديد المرض، فكان كلّما بلغ الرّكن اليماني أمرهم فوضعوه على الأرض، فأخرج يده من كوّة المحمل حتى يجرّها على الأرض، ثمّ يقول: «ارفعوني» فلمّا فعل ذلك مرارا في كلّ شوط، قيل له: يابن رسول اللّه، إنّ هذا يشقّ عليك؟ فقال: «إنّي سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ فقيل: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: «الكلّ» (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه قيل له: لو أرحت بدنك من المحمل؟ فقال: «إنّي أحبّ أن أشهد المنافع التي قال اللّه عزّ و جلّ: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ إنّه لا يشهدها أحد إلاّ نفعه اللّه، أمّا أنتم فترجعون مغفورا لكم، و أمّا غيركم فيحفظون في أهاليهم و أموالهم» (2).

و في (المجمع) عنه عليه السّلام: «منافع الآخرة هي العفو و المغفرة» (3).

و عن الرضا عليه السّلام: «و علّة الحجّ الوفادة على اللّه تعالى، و طلب الزيادة، و الخروج من كلّ ما اقترف، و ليكون تائبا ممّا مضى، و مستأنفا لما يستقبل، و ما فيه من استخراج الأموال و تعب الأبدان، و حظرها عن الشّهوات و اللذّات، و التقرّب بالعبادة إلى اللّه عزّ و جلّ، و الخضوع و الاستكانة و الذلّ، شاخصا [إليه]في الحرّ و البرد و الأمن و الخوف، دائبا في ذلك دائما، و ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع و الرغبة و الرّهبة إلى اللّه تعالى، و منه ترك قساوة القلب، و جسارة الأنفس، و نسيان الذكر، و انقطاع الرجاء و الأمل، و تجديد الحقوق، و حظر الأنفس عن الفساد، و منفعة من في شرق الأرض و غربها، و من في البرّ و البحر ممّن يحجّ و ممّن لا يحجّ من تاجر و جالب، و بائع و مشتر، و كاسب و مسكين، و قضاء حوائج أهل الأطراف و المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم» (4).

و في رواية: «مع ما فيه من التفقّه» (5)وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عند إعداد الهدايا و الضحايا و ذبحها فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ و هي أيّام النّحر، و قيل: عشر ذي الحجّة (6)عَلى ما رَزَقَهُمْ و أنعم عليهم مِنْ

ص: 339


1- . الكافي 4:422/1، تفسير الصافي 3:374.
2- . الكافي 4:263/46، تفسير الصافي 3:374.
3- . مجمع البيان 7:129، عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 3:374.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:90/1، علل الشرائع:404/5، تفسير الصافي 3:374.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:119/1، تفسير الصافي 3:375.
6- . تفسير الرازي 23:29.

بَهِيمَةِ و حيوان ذات أربع يكون من اَلْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم. قيل: كنّى عن الذّبح بذكر اللّه (1)، لعدم انفكاك المسلم عن ذكره تعالى عند الذّبح و النّحر، و للتّنبيه على أنّ الغرض الأصلي في ما يتقرّب به إلى اللّه أن يذكر اسم اللّه تعالى و أن يخالف المشركين في ذلك.

قيل: كان التقرّب بإراقة دمها متصوّر بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها، و يبذل تلك الذبيحة بدل مهجته، طلبا لمرضاة اللّه، و اعترافا بأنّ تقصيره موجب لاستحقاق مهجته (2).

قيل: إنّ ذكر اللّه عند الذبح: بسم اللّه و باللّه و اللّه أكبر، اللّهم منك و إليك، إنّ صلاتي و نسكي و محياي و مماتي للّه ربّ العالمين (3).

و عن الباقر عليه السّلام «ذكر اللّه هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة أوّلها ظهر العيد» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «الأيّام المعلومات عشر ذي الحجّة، و المعدودات أيّام التّشريق» (3).

أقول: نسب الفخر الرازي هذا القول إلى ابن عبّاس و كثير من المفسّرين و أكثر العلماء، و قالوا في وجه تسمية العشر بالمعلومات أنّها معلومة عند النّاس، لحرصهم على العلم بها، لكون الحجّ في آخرها (4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «قال علي عليه السّلام: في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ أيّام العشر» (5).

أقول: الظاهر أنّ ما روي عنه عليه السّلام من عكس ذلك فهو سهو من الرّاوي.

ثمّ بيّن سبحانه مصرف الضحايا بقوله: فَكُلُوا أنفسكم مِنْها ندبا أو وجوبا وَ أَطْعِمُوا منها اَلْبائِسَ و من في شدّة العيش و اَلْفَقِيرَ و المحتاجين إلى مؤنة سنة.

عن ابن عباس: البائس: الّذي ظهر بؤسه في ثيابه و وجهه، و الفقير: الذي لا يكون كذلك، و تكون ثيابه نقيّة، و وجهه وجه غني (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «البائس هو الزّمن الّذي لا يستطيع أن يخرج لزمانته» (7).

و عنه أيضا: «البائس [هو]الفقير» (8).

ص: 340


1- . تفسير الرازي 23:29. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:29.
2- . عوالي اللآلي 2:88/237، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 3:375، عنهما عليهما السّلام.
3- . جوامع الجامع:300، تفسير الصافي 3:375.
4- . تفسير الرازي 23:29.
5- . معاني الأخبار:296/1، تفسير الصافي 3:375.
6- . تفسير الرازي 23:29.
7- . الكافي 4:46/4، تفسير الصافي 3:375، و الزّمانة: مرض يدوم، و الزّمن: وصف من الزمانة.
8- . الكافي 4:500/6، تفسير الصافي 3:375.

ثُمَّ لْيَقْضُوا و ليزيلوا تَفَثَهُمْ و وسخهم بحلق الرأس و قصّ الشارب و قلم الأظفار و نتف الإبط. أو المراد: و ليؤدّوا مناسك الحجّ كلّها، كما عن ابن عبّاس (1)وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ و عهودهم بالنّذر من الحجّ و سائر الطاعات في تلك الأيّام، فيضاعف لهم الثواب.

عن الصادق عليه السّلام: «التفث هو الحلق و إزالة ما في جلد الإنسان» (2).

و عن الرضا عليه السّلام: «هو تقليم الأظفار، و طرح الوسخ و طرح لباس الإحرام عنه» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «التّفث حفوف الرّجل من الطّيب، فإذا قضى نسكه حلّ له الطّيب» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «من التّفث أن تتكلّم في إحرامك بكلام قبيح، فإذا دخلت مكّة و طفت بالبيت [و]تكلّمت بكلام طيب فكان ذلك كفّارة» (5).

و عن ذريح المحاربي: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى أمرني في كتابه بأمر فاحبّ أن أعلمه، قال: «و ما ذاك؟» قلت: قول اللّه تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ قال عليه السّلام: «لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ لقاء الإمام وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ تلك المناسك» .

قال عبد اللّه بن سنان: فأتيت أبا عبد اللّه، فقلت: جعلت فداك، قول اللّه تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ؟ قال: «أخذ الشّارب، و قصّ الأظفار و ما أشبه ذلك» .

قلت: جعلت فداك، إنّ ذريح المحاربي حدّثني عنك بأنّك قلت له: «لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ لقاء الإمام وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ تلك المناسك» ؟ قال: «صدق و صدقت، إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا، و من يحتمل ما يحتمل ذريح؟» (6).

أقول: لا شبهة أنّ لقاء الإمام يزيل الأوساخ الباطنيّة من الذنوب و الأخلاق الرّذيلة، فإزالة الأوساخ الظّاهرية ظاهر القرآن، و إزالة الأوساخ الباطنية بلقاء الإمام باطنه.

و عن الباقر عليه السّلام يقول-و يرى الناس بمكّة و ما يعملون-: «فعالهم كفعال الجاهليّة، أما و اللّه ما امروا إلاّ أن يقضوا تفثهم و يوفوا نذورهم، فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم، و يعرضوا علينا نصرتهم» (7).

وَ لْيَطَّوَّفُوا وجوبا طواف النساء، كما عن الصادق عليه السّلام (8)، أو طواف الزيارة و النساء و العمرة

ص: 341


1- . مجمع البيان 7:130.
2- . الكافي 4:503/8، من لا يحضره الفقيه 2:290/1434، تفسير الصافي 3:376.
3- . الكافي 4:504/12، من لا يحضره الفقيه 2:290/1436، تفسير الصافي 3:376.
4- . من لا يحضره الفقيه 2:290/1435، تفسير الصافي 3:376.
5- . الكافي 4:337/3، تفسير الصافي 3:376.
6- . الكافي 4:549/4، تفسير الصافي 3:376.
7- . الكافي 1:323/2، تفسير الصافي 3:376.
8- . الكافي 4:513/2، تفسير الصافي 3:377.

بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ و القديم، أو الذي أعتقه اللّه من الغرق يوم الطوفان كما عن الصادق عليه السّلام (1)، أو من تسلّط الجبابرة عليه كما عن ابن عباس (2)، أو من أن يملكه أحد كما عن الباقر عليه السّلام (3).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 30

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر تشريفات بيته، قطع الكلام بقوله: ذلِكَ قيل: يعني الأمر أو الشّأن (4)ذلك الذي ذكر، ثمّ حثّ الناس على حفظ حرمته بقوله: وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ و ما لا يحلّ هتكه من البيت الحرام، و المسجد الحرام، و البلد الحرام، و الشهر الحرام فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ثوابا عِنْدَ اللّه رَبِّهِ في الآخرة.

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ (30)ثمّ عاد سبحانه إلى بيان أحكام الحجّ، و لمّا كان مجال توهّم حرمة أكل لحوم الأنعام حال الإحرام كحرمة الصيد، صرّح بحلّيته بقوله: وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ و جميع أجزائها إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في آية اخرى في المائدة، فلا تحرّموا منها ما أحلّه اللّه، و لا تجتنبوا منه، و إن كنتم مجتنبين عن شيء من القبائح فاحترزوا فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ و الخبيث القذر مِنَ اَلْأَوْثانِ و الأحجار التي يعبدها المشركون و يذبحون عندها، و احترزوا منها احترازكم من النّجس وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ و الكلام المنحرف عن الحقّ كالقول بالوهيّة الأصنام، و حرمة السائبة و أخواتها، و الشهادة بغير الحقّ، و سائر الأقوال المحرّمة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه تعالى، ثلاثا» و تلا هذه الآية (5).

و قيل: هو الكذب و البهتان (6).

و قيل: هو قول أهل الجاهليّة: لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه و ما ملك (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «الرّجس من الأوثان: الشّطرنج، و قول الزّور: الغناء» (6)[و زاد في المجمع] «و سائر أنواع القمار و الأقوال الملهية» (7).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 31

حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ اَلسَّماءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)

ص: 342


1- . تفسير القمي 2:84، المحاسن:336/113، علل الشرائع:399/1 و 4 و 5، تفسير الصافي 3:377.
2- . تفسير الرازي 23:30.
3- . الكافي 4:189/6، تفسير الصافي 3:377.
4- . تفسير الرازي 23:31.
5- . تفسير روح البيان 6:30. (6 و 7) . تفسير الرازي 23:32.
6- . تفسير القمي 2:84، الكافي 6:435/6، تفسير الصافي 3:377.
7- . مجمع البيان 7:131، تفسير الصافي 3:377.

ثمّ كأنّه تعالى قال: اعملوا بأحكامي حال كونكم حُنَفاءَ و مخلصين لِلّهِ مائلين عن كلّ باطل إلى التوحيد و الدين الحقّ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شيئا في الالوهيّة و العبادة.

ثمّ بيّن سبحانه غاية ضرر الشرك و كونه سببا للهلاكة الأبديّة بضرب مثلين بقوله: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ غيره في الالوهيّة أو العبادة فَكَأَنَّما خَرَّ و سقط ذلك المشرك مِنَ اَلسَّماءِ على الأرض فهلك بالفور فَتَخْطَفُهُ و تختلسه اَلطَّيْرُ بسرعة من الأرض فتفرّقه و تمزّقه و تمحي أثره أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ العاصفة و تسقطه من جبل شامخ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ و بعيد عن محلّ سقط منه، أو عن من يغيثه فلا يراه أحد و لا يسمع صوته، فشبّه سبحانه التوحيد في علوّ رتبته بالسماء، و المشرك بالساقط منها على الأرض في تنزّله و هلاكه، و الأهواء التي تتوزّع أفكاره بالطّير الّذي تخطفه، و الشيطان المطرح له في وادي الضلال بالرّيح العاصفة التي عصفت به في المهاوي المتلفة.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 32

ثمّ قرّر سبحانه ذلك بقوله: ذلِكَ الذي ذكرت حقّ ثابت، أو الأمر أو الشأن ذلك الذي ذكرت، ثمّ حثّ سبحانه الناس على العمل و طاعة الأحكام بقوله: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ و يهتمّ بالعمل بمعالم الحجّ و علائم دينه من الهدايا و القلائد بأن يختار لها جساما حسانا سمانا غالية الأثمان، معتقدا بأنّ طاعة اللّه في التقرّب بها و إهدائها الى بيته المعظّم [فإنّها]

ناشئة (1)، مِنْ تَقْوَى الذّي مركزه في اَلْقُلُوبِ أو المراد أنّ تعظيمها من أعمال ذوي تقوى القلوب.

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ (32)القميّ قال: تعظيم البدن جودتها (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما يكون الجزاء مضاعفا فيما دون البدنة، فإذا بلغ البدنة فلا تضاعف؛ لأنّه أعظم ما يكون، قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ» إلى آخره (3).

و عنه عليه السّلام في قصّة حجّة الوداع: «و كان الهدي الذي جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة و ستّين أو ستّة و ستّين، و جاء علي عليه السّلام بأربعة و ثلاثين أو ستّة و ثلاثين» (4).

و روى بعض العامة أنّه أهدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مائة بدنة فيها جمل أبي جهل، و كان في أنفه برة (5)من

ص: 343


1- . في النسخة: ناش.
2- . تفسير القمي 2:84، تفسير الصافي 3:378، و فيها: وجودتها.
3- . الكافي 4:395/5، تفسير الصافي 3:378.
4- . الكافي 4:247/4، تفسير الصافي 3:378.
5- . البرة: حلقة تجعل في أنف الناقة.

ذهب (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 33

ثمّ بيّن سبحانه أحكام الهدايا بقول: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كثيرة من ظهرها و لبنها، فانتفعوا بها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت معيّن، و هو وقت نحرها كما عن ابن عباس (2). أو وقت تسميتها أضحيّة و هديا، كما في رواية اخرى عنه (3).

لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ (33)ثُمَّ مَحِلُّها و وجوب نحرها أو وقت وجوبه منتهى إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ و هو هنا جميع الحرم كما قيل (2).

و قيل: إنّ الآية بيان علّة إيجاب تعظيم ذبح الأنعام، و المراد أنّ لكم في الهدايا منافع كثيرة في دينكم و دنياكم، و أعظمها كون محلّها إلى البيت العتيق (3).

عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» (4).

القمّي، قال: البدن يركبها المحرم من الموضع الّذي يحرم فيه غير مضرّ بها و لا معنف عليها، و إن كان لها لبن يشرب من لبنها إلى يوم النّحر (5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا احتاج إلى ظهرها ركبها من غير أن يعنف عليها، و إن [كان]لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها» (6).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ حثّ سبحانه الناس على إهداء الهدايا بقوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الامم السالفة من زمان إبراهيم عليه السّلام جَعَلْنا و شرعنا مَنْسَكاً و قربانا يتعبّدون به لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ وحده عَلى ما رَزَقَهُمْ و أنعم عليهم مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ عند ذبحها أو نحرها، و يجعلوا نسكهم و قربانهم لوجهه

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ (34) اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاةِ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

ص: 344


1- . تفسير الرازي 23:32. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:33.
2- . تفسير الرازي 23:34.
3- . تفسير الرازي 23:34.
4- . تفسير الرازي 23:33.
5- . تفسير القمي 2:84، تفسير الصافي 3:378.
6- . الكافي 4:492/1، تفسير الصافي 3:378.

الكريم، فالمقصود الأصليّ من القربان تذكّر المعبود فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و معبودكم فارد، و دينكم الإسلام، و إنّما اختلفت الأحكام لاختلاف الأزمنة و الأشخاص في المصالح، فإذا كان إلهكم واحدا فَلَهُ أَسْلِمُوا و انقادوا في جميع أحكامه و تكاليفه، و تواضعوا له، و أخلصوا ذكره بحيث لا يشوبه إشراك وَ بَشِّرِ يا محمّد، بالثواب العظيم الموحّدين اَلْمُخْبِتِينَ للّه المتواضعين له المخلصين في عبادته.

و عن القمي: أي العابدين له (1).

ثمّ وصف اللّه سبحانه المخبتين المتواضعين لعظمته بقوله: اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ عندهم و توجّهت إليه أفئدتهم، ظهرت لهم عظمته و مهابته، و لذلك وَجِلَتْ و ارتعدت قُلُوبُهُمْ من خشيته و هيبته و خوف عقابة.

ثمّ لمّا كان من آثار خوفه الصبر على المكاره و الشّدائد و الاجتهاد في عبادته و الإنفاق في سبيله، أردف توصيفهم بالخوف بقوله: وَ اَلصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المصائب وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاةِ التي هي أهمّ العبادات و أفضلها وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و أعطيناهم من الأموال يُنْفِقُونَ و يبذلون في سبيله و مرضاته.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح المؤمنين بالبذل، حثّهم في إهداء البدنة التي هي أحبّ الأموال عند العرب بقوله: وَ اَلْبُدْنَ و الإبل جَعَلْناها و قرّرنا نحرها لَكُمْ بعضا مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ و معالم دينه التي شرّعها مع أنّه (2)لَكُمْ فِيها خَيْرٌ و نفع كثير دنيويّ اخرويّ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها عند نحرها حال كونها قائمات صَوافَّ أيديهنّ و أرجلهن فَإِذا نحرت و وَجَبَتْ و سقطت جُنُوبُها على الأرض، و خرجت روحها فَكُلُوا مِنْها ندبا وَ أَطْعِمُوا منها وجوبا الفقير

وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْقانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ اَلتَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ (37)

ص: 345


1- . تفسير القمي 2:84، تفسير الصافي 3:378.
2- . في النسخة: مع أنّ، و لا تصحّ من حيث إعراب (خير) و (نفع) .

اَلْقانِعَ بما عنده الراضي بقسمة اللّه، أو الراضي بما أعطيته، و لا يسخط و لا يكلح و لا يلوي شدقه غضبا كما عن الصادق عليه السّلام (1)وَ الفقير اَلْمُعْتَرَّ المتعرّض للسؤال، و لم يسأل على قول (2)، أو يعتريك و لا يسأل كما عن الصادق عليه السّلام (3)، أو المارّ بك لتعطيه (4)كما عنه أيضا (5)كَذلِكَ التسخير البديع لها مع عظم جثّتها و قوّتها سَخَّرْناها لَكُمْ و ذلّلناها لمنافعكم بحيث يسهل عليكم التصرّف فيها كيف تشاءون لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النّعمة العظيمة التي تنتفعون بها في دينكم و دنياكم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ البدن من الشعائر و تعظيم الشعائر من التّقوى، رغّب المؤمنين إليها بقوله: لَنْ يَنالَ اَللّهَ و لا يصل إليه أبدا لُحُومُها وَ لا دِماؤُها بوجه من الوجوه وَ لكِنْ يَنالُهُ و يرتفع إليه اَلتَّقْوى و الطاعة مِنْكُمْ و يوجب رضاه عنكم فيثيبكم عليها.

في (الجوامع) : روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا نحروا لطّخوا البيت بالدّم، فلمّا حجّ المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت (6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل ما علّة الاضحيّة؟ قال: «إنّه يغفر لصاحبها عند أوّل قطرة قطرت (7)من دمها على الأرض، و ليعلم اللّه من يتّقيه بالغيب، قال اللّه عزّ و جلّ: لَنْ يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها الآية» ثمّ قال: «انظر كيف قبل اللّه قربان هابيل و ردّ قربان قابيل» (8).

ثمّ حثّهم بتذكير نعمته و ذكر علّته بقوله: كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ و تعرفوا عظمته و قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحّدوه بالكبرياء، أو تكبّروه على إرشادكم إلى طريق تسخيرها و كيفيّة التقرّب بها وَ بَشِّرِ يا محمّد اَلْمُحْسِنِينَ في عقائدهم و أعمالهم المخلصين للّه في ما يأتون و يذرون بقبول الطاعات و الفوز بالدّرجات العاليات في الآخرة.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ أنّه تعالى بعد ترغيب الناس في الحج، بشّرهم بتأمينهم من أذى المشركين مع كونهم صادّين عنه بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُدافِعُ و يبالغ في دفع ضرر المشركين عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا و يحميهم أشدّ الحماية من أذاهم إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ و مبالغ في تضييع أحكامه التي هي أمانته، و كلّ

إِنَّ اَللّهَ يُدافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)

ص: 346


1- . الكافي 4:499/1، معاني الأخبار:208/1، تفسير الصافي 3:379.
2- . تفسير روح البيان 6:36.
3- . معاني الأخبار:208/2، تفسير الصافي 3:379.
4- . في معاني الأخبار: تطعمه.
5- . معاني الأخبار:208/1، تفسير الصافي 3:379.
6- . جوامع الجامع:301، تفسير الصافي 3:380.
7- . في علل الشرائع: تقطر.
8- . علل الشرائع:437/2، تفسير الصافي 3:380.

كَفُورٍ و مبالغ في تضييع حقوق نعمه حيث يصرفها في معاصيه، و يتقّرب بها إلى الأصنام، و يأكل نعمه، و يقرّ بأنّه صانعه و يعبد غيره، فإنّه تعالى لا يريد نصرهم، و لا يرضى فعلهم، و يدفع عن أحبّائه شرّهم.

قيل: نزلت حين أمر المؤمنين بالكفّ عن كفّار مكّة قبل الهجرة، و كانوا يؤذون المؤمنين، فاستأذنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قتلهم سرّا، فنهاهم اللّه عنه، و بشّرهم بإعلائهم على الكفّار و دفع بوائقهم عنهم (1).

ثمّ رخّص سبحانه لهم في قتال الكفّار بعد الهجرة بقوله: أُذِنَ و رخّص من قبل اللّه في قتال الكفّار لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ من المؤمنين بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.

روي أنّ المشركين كانوا يؤذون المؤمنين، فيأتونه صلّى اللّه عليه و آله بين مضروب و مشجوج و يتظلّمون إليه، فيقول لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إصبروا فإنّي لم أومر بقتال» ، حتى هاجروا فنزلت، و هي أوّل آية نزلت في القتال (2).

عن الباقر عليه السّلام: «لم يؤمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتال، و لا اذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية و قلّده سيفا» (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد وعد المؤمنين بدفع أذى المشركين عنهم، وعدهم بالنصر بقوله: وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ و تغليبهم على المشركين لَقَدِيرٌ فينصرهم لا محالة. و قيل نزلت: في قوم خرجوا مهاجرين، فاعترضهم مشركو مكّة، فأذن في مقاتلتهم (4).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 40

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ سبب الإذن في قتال المشركين ظلمهم على المؤمنين، بيّن أعظم ظلمهم بقوله: اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و منازلهم، أو أوطانهم بِغَيْرِ حَقٍّ و موجب لإخراجهم إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ و سوى أن يقرّوا بتوحيده.

اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)عن الباقر عليه السّلام: «نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي و حمزة و جعفر، و جرت في الحسين عليهم السلام أجمعين» (5).

ص: 347


1- . تفسير الرازي 23:38.
2- . تفسير الرازي 23:39، مجمع البيان 7:138.
3- . مجمع البيان 1:354، تفسير الصافي 3:380.
4- . تفسير الرازي 23:39.
5- . الكافي 8:337/534، تفسير الصافي 3:381.

و عنه عليه السّلام: «نزلت في المهاجرين، و جرت في آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذين اخرجوا من ديارهم و اخيفوا» (1).

ثمّ بيّن سبحانه حكمة أمره بالقتال بقوله: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ يعني بَعْضَهُمْ المشركين بِبَعْضٍ المؤمنين في كلّ عصر لَهُدِّمَتْ و خرّبت بتعدّي الطغاة صَوامِعُ الرّهبان و معابدهم وَ بِيَعٌ النصارى و كنائسهم في مدّة بقاء شرع عيسى وَ صَلَواتٌ و معابد كانت لليهود في زمان بقاء شريعة موسى، قيل: هو معرّب، و بالعبرية صلواث (2)، بالثاء المثلثة (3)وَ مَساجِدُ تكون للمسلمين يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ ذكرا، أو وقتا كَثِيراً فبأمر اللّه بالقتال بقي الدين و معابد المتديّنين، و في توصيف المساجد بكونها محالّ ذكر اللّه دلالة على فضلها، و يجوز أن يكون الوصف للأربع وَ باللّه لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ و يؤيّد مَنْ يَنْصُرُهُ بنصر أوليائه و دينه، و لقد أنجز سبحانه وعده حيث سلّط المؤمنين على صناديد العرب و أكاسرة العجم و قياصرة الروم، و أورثهم أرضهم و ديارهم إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ بذاته قادر على إنفاذ إرادته عَزِيزٌ و غالب على كلّ شيء، لا يمانع و لا يدافع، فلا يحتاج إلى نصرة أحد، و إنّما كلّف المؤمنين بالقتال ليصلوا بامتثال أمره إلى منافعهم الدنيوية و الاخروية.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 41

ثمّ بيّن غاية شناعة الظّلم على المؤمنين الذين اخرجوا من دريارهم بمدحهم بقوله: اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ و سلّطناهم على أهلها، و أعطيناهم نفوذ القول أَقامُوا اَلصَّلاةَ بشرائطها و آدابها لتعظيمي، و حثّوا الناس عليها وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ أداء لحقّي و توسعة على عبادي وَ أَمَرُوا الناس بِالْمَعْرُوفِ و فعل المستحسن عند الشّرع و العقل وَ نَهَوْا هم عَنِ فعل اَلْمُنْكَرِ و القبيح عند اللّه و عند العقلاء، فإن كانوا اليوم عندكم أذلاّء مستحقرين، فهم أولياء اللّه وَ لِلّهِ وحده عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ و لذا لا يبعد أن يصيروا أعزّاء معظّمين و يجعلهم في الأرض متمكّنين.

اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ (41)

نقل كلام للفخر

الرازي و ردّه

قال الفخر الرازي: و لكن ثبت أنّ اللّه مكّن الأئمّة الأربعة في الأرض، و أعطاهم السلطنة عليها، فوجب كونهم آتين بالامور الأربعة، فإذا كانوا آمرين بكلّ معروف

ص: 348


1- . مجمع البيان 7:138، تفسير الصافي 3:381.
2- . في روح البيان: صلوثا.
3- . تفسير روح البيان 6:39.

[و]ناهين عن كلّ منكر، وجب أن يكونوا على الحقّ، فمن هذا الوجه دلّت الآية على إمامة الأئمّة الأربعة، و لا يجوز حمل الآية على علي عليه السّلام وحده، لأنّها دالّة على الجمع (1).

في رد كلام الفخر

الرازي

أقول: فيه أن الآية خاصّة بالذين اخرجوا من مكّة ظلما، و ابتلوا بأذى المشركين كعليّ عليه السّلام و جعفر و سلمان و عمّار و أضرابهم؛ و لا يشمل الذين خرجوا منها طوعا لخدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأبي بكر و عمر، فإنّهم لم يبتلوا بأذى المشركين، و لم يخرجوا من مكّة، و لو شملتهم الآية لشملت معاوية أيضا، لأنّه من المهاجرين إلى المدينة، و من كتّاب الوحي فيها، و من المتمكّنين في الأرض، مع ظهور كونه آتيا بالمنكرات التي لا تعدّ و لا تحصى.

مع أنّ الآية ظاهرة في مدح المؤمنين الذين كانوا حين إخراجهم من مكّة ملتزمين بالمعروف تاركين للمنكر مطلقا؛ بحيث لو مكّنوا في الأرض أمروا غيرهم أيضا بالمعروف، و نهوا غيرهم عن المنكر في ذلك الوقت، و لم يكن الثلاثة كذلك في ذلك الوقت، لوضوح كون عمر و عثمان بالإجماع و أبي بكر في اعتقادنا من الفارّين من الزّحف في احد؛ فلا بدّ من القول بكون الوصف لخصوص المخرجين الذين كان لهم هذه المرتبة من الكمال، و إن لم يتمكّنوا في الأرض، لأنّ صدق الشرطيّة لا يستلزم صدق مقدّمها، فيكون الممدوح فيها عليا عليه السّلام و حمزة و جعفرا و سلمان و أبا ذرّ و أضرابهم، لا المرتكبين للمنكر و إن كانوا من المخرجين.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 42 الی 44

ثمّ لمّا أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بدفع اللّه أذى المشركين عن المؤمنين و نصرته لهم على الكفّار، و كان المشركون يكذّبونه في ذلك، سلّى سبحانه قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ في ما تخبرهم عن اللّه، فليس تكذيبهم لك أمرا بديعا حتى يحزنك و يغمّك فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا وَ عادٌ هودا وَ ثَمُودُ صالحا وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ إبراهيم وَ قَوْمُ لُوطٍ لوطا وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ شعيبا وَ كُذِّبَ مُوسى مع وفور معجزاته و وضوح آياته، فما ظنّك بغيره؟ فَأَمْلَيْتُ و أمهلت لِلْكافِرِينَ المكذّبين لهم إلى أجل معلوم اقتضت المصلحة إمهالهم فيه ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب عقوبة على تكذيبهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ي و إنكاري عليهم بإنزال العذاب، حيث بدّلنا نعمتهم

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44)

ص: 349


1- . تفسير الرازي 23:41.

نقمة، و حياتهم هلاكا، و عمارتهم خرابا، و صدّقنا الرّسل ما وعدتهم من النّصر و التمكين في الأرض، فاصبر أنت أيضا على تكذيب قومك كما صبر اولوا العزم من الرّسل، فإنّي اعامل مع مكذّبيك كما عاملت مع مكذّبيهم، و إنّما المصلحة و الحكمة اقتضت إمهالهم كما اقتضت إمهال الامم السابقة.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 45

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تكذيب الامم رسلهم و أخذهم بعد الإمهال، بيّن كيفيّة أخذه بقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كم من بلدة أَهْلَكْناها بالعذاب من الغرق و الصيحة و الصاعقة و نظائرها وَ هِيَ ظالِمَةٌ بالكفر و المعاصي و تكذيب الرسل بمقتضى العدل لا بالتشفّي و الجور فَهِيَ خربة أفضع الخراب حيث إنّ جدرانها خاوِيَةٌ و ساقطة عَلى عُرُوشِها و سقوفها بعد سقوطها وَ كم من بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ لا أهل لها يستسقى منها وَ كم من قَصْرٍ مَشِيدٍ و منزل مرتفع البنيان، أو محكمه، أو مبنيّ بالجصّ، أخليناه من ساكنيه.

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)روي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح النبيّ مع أربعة آلاف ممّن آمن به و هي بحضرموت، و إنّما سميّت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات، و كانت بلدة عند البئر اسمها حاضوراء، بناها قوم صالح، و أمّروا عليهم جليس بن جلاس، و أقاموا بها زمانا، ثمّ كفروا و عبدوا صنما، فأرسل اللّه عليهم حنظلة بن صفوان نبيّا، و كان حمّالا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم اللّه، و عطّل بئرهم، و خرب قصورهم (1).

و قيل: إنّ البئر الرسّ، و كانت بعدن لأمّة من بقايا ثمّود، و كان لهم ملك عادل حسن السيرة، يقال له العلس، و كانت البئر تسقي المدينة كلّها و باديتها و جميع ما فيها من الدوابّ و الأنعام، لأنّها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، و رجال كثيرون موكلون بها، و حياض كثيرة تملأ للناس، و اخر للدّوابّ، و اخر للغنم و البقر و الهوام، يسقون عليها بالليل و النهار يتناوبون (2)، و لم يكن ماء غيره.

فطال عمر الملك، فلمّا مات طلي بدهن لتبقى صورته و لا يتغيّر، و كذلك يفعلون إذا مات منهم ميّت يكرم عليهم، فشقّ عليهم موته و فساد أمرهم، و ضجّوا جميعا بالبكاء، فاغتنمها الشيطان منهم، فدخل في جثّة الملك بعد موته بأيّام كثيرة فكلّمهم و قال: إنّي لم أمت، بل غبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي، ففرحوا فرحا شديدا، و أمر خاصّته أن يضربوا له حجابا بينه و بينهم، و يكلّمهم من

ص: 350


1- . تفسير روح البيان 6:43.
2- . في تفسير روح البيان: يتدالون.

ورائه، كيلا يعرفوا الموت من (1)صورته و وجهه، فنصبوه (2)صنما من وراء الحجاب لا يأكل و لا يشرب، و أخبرهم أنّي لا أموت أبدا، و أنّي إله لكم.

كلّ ذلك يتكلّم به الشيطان على لسانه، فصدّقه كثير منهم، و ارتاب بعضهم، و كان المؤمن المكذّب منهم أقلّ من المصدّق، و كلمّا تكلّم ناصح منهم زجر و قهر، فاتّفقوا على عبادته، فبعث اللّه لهم نبيّا كان الوحي ينزل عليه في النوم، و كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أنّ الصورة صنم لا روح له، و أنّ الشيطان فيه، و قد أضلّهم، و أنّ اللّه لا يتمثّل بالخلق، و أنّ الملك لا يجوز أن يكون شريكا للّه، و أوعدهم و نصحهم و حذّرهم سطوة ربّهم و نقمته، فآذوه و عادوه حتى قتلوه، و طرحوه في بئر، فعند ذلك حلّت عليهم النقمة؛ فباتوا شباعا رواء [من الماء]و أصبحوا و البئر قد غار ماؤها، و تعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم، و ضجّ النساء و الولدان، و ضجّت البهائم عطشا حتى عمّهم الموت و شملهم الهلاك، و خلفهم في أرضهم السباع، و في منازلهم الثعالب و الضّباع، و تبدلّت بهم جنّاتهم و أموالهم بالسّدر و الشّوك، شوك العضاه و القتاد (3). و أمّا القصر المشيد فقصر بناه شدّاد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله (4).

و عن (المجمع) : و في تفسير أهل البيت في قوله: وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ «أي و كم من عالم لا يرجع إليه و لا ينتفع بعلمه» (5).

و في (الاكمال) عن الصادق و [في الكافي عن]الكاظم: «البئر المعطّلة: الإمام الصامت، و القصر المشيد: الإمام الناطق» (6).

و عن [صالح بن سهل أنّه قال]: أمير المؤمنين عليه السّلام [هو]القصر المشيد، و البئر المعطّلة فاطمة عليه السّلام و ولدها معطّلون من الملك (7).

أقول: لا شبهة أنّ الروايات في بيان تأويل الآية لا تفسيرها.

و عن القمي: هو مثل لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بئر معطّلة: هي التي لا يستقى منها، و هو الإمام الّذي قد غاب، فلا يقتبس منه العلم إلى وقت ظهوره، و القصر المشيد: هو المرتفع، و هو مثل لأمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة و قال الشاعر:

ص: 351


1- . في تفسير روح البيان: في.
2- . في النسخة: و نصبوا.
3- . العضاه: كلّ شجر له شوك صغر أو كبر، و الواحدة عضاهة، و القتاد: نبات صلب له شوك كالإبر.
4- . تفسير روح البيان 6:43.
5- . مجمع البيان 7:141، تفسير الصافي 3:382.
6- . كمال الدين:417/10، معاني الأخبار:111/1، الكافي 1:353/75، تفسير الصافي 3:382.
7- . معاني الأخبار:111/3، تفسير الصافي 3:383.

بئر معطّلة و قصر مشرف *** مثل لآل محمّد مستطرف

فالقصر مجدهم الّذي لا يرتقى *** و البئر علمهم الّذي لا ينزف (1)

سوره 22 (الحج): آیه شماره 46

ثمّ حثّ اللّه سبحانه المشركين على المسافرة و رؤية مصارع المهلكين من الامم كعاد و ثمود للاعتبار بها بقوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا و يسافروا فِي اَلْأَرْضِ و لم يذهبوا إلى اليمن و الشام، ليروا مصارع المهلكين بالعذاب، كعاد و ثمود و قوم لوط.

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ (46)عن الصادق عليه السّلام: «أي أ فلم ينظروا في القرآن؟» (2)فَتَكُونَ لَهُمْ بسبب مشاهدة العبر و بلاد المكذّبين للرّسل و آثار هلاكهم بالعذاب قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب تعقّله من آيات التوحيد، و شدّة غضب اللّه على الشرك أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب استماعه من المواعظ الإلهيّة التي تكون في القرآن من هلاك الامم الطاغية و كيفية تعذيبهم فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ التي في الروؤس و لا تختلّ الحواسّ الظاهرة بالغفلة و الجهل و الكفر وَ لكِنْ تَعْمَى بألاهواء الزائغة و الشّهوات الباطلة و الغفلة و الجهل عن رؤية آيات التوحيد و النبوّة و ما فيه العظة و الاعتبار اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي تكون فِي اَلصُّدُورِ.

و في الحديث: «ما من عبد إلاّ و له أربع أعين؛ عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه، و عينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه و أكثر النّاس عميان بصر القلب، لا يبصرون [به]أمر دينهم» (3).

و عن السجاد عليه السّلام «انّ للعبد أربع أعين؛ عينان يبصر بهما أمر دينه و دنياه، و عينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح [له]العينين اللّتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب و أمر آخرته، و إذا أراد اللّه غير ذلك ترك القلب بما فيه» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين؛ عينان في الرأس، و عينان في القلب، ألا و إنّ الخلائق كلّهم كذلك، ألا إنّ اللّه عزّ و جلّ فتح أبصاركم و أعمى أبصارهم» (5).

ص: 352


1- . تفسير القمي 2:85، تفسير الصافي 3:383.
2- . الخصال:396/102، تفسير الصافي 3:383.
3- . تفسير روح البيان 6:45.
4- . الخصال:240/90، التوحيد:367/4، تفسير الصافي 3:383.
5- . الكافي 8:215/260، تفسير الصافي 3:383.

و عن الباقر عليه السّلام: «إنّما العمى عمى القلب» ثمّ تلا الآية (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 47

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين بما نزّل على الامم المكذّبة للرّسل من العذاب، حكى عنهم الاستهزاء بوعيدهم به بقوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا محمّد بِالْعَذابِ الّذي تهدّدهم به استهزاء بتهديدك إيّاهم به مع أنّ اللّه وعدهم بعذاب الآخرة وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ وَعْدَهُ بذلك العذاب بأن يأتيهم به في الدنيا، بل يأتيه كما وعد بلا خلف و لا تغيير، و لم يعدهم بعذاب الدنيا، بل ذكر ما نزّل على الامم من باب العظة و الاعتبار وَ إِنَّ يَوْماً من أيّام الآخرة عِنْدَ رَبِّكَ يكون في كثرة الآلام و الشّدائد عندهم كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ و تحسبون من سنيّ الدنيا لو بقيتم و عذّبتم فيها.

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ (47)و قيل: إنّ المراد بيان طول أيّام الآخرة (2)، فالمعنى أنّ العذاب الذي يكون طول أيّامه إلى هذا الحدّ لا ينبغي للعاقل أن يستعجله.

و قيل: إنّ المعنى أنّ اليوم الواحد و ألف سنة بالنسبة إليه تعالى سواء؛ لأنّه لا يخاف الفوت، فإذا لم تستبعدوا إمهال يوم واحد فلا تستبعدوا إمهال ألف سنة (3).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 48 الی 51

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ عادته الإمهال ثمّ الأخذ، أكّده بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كم من بلدة أَمْلَيْتُ و أمهلت لَها و أخّرت إهلاكها وَ هِيَ ظالِمَةٌ مستمرّة على الكفر و الطّغيان مستوجبة لتعجيل عقوبتها، كما أمهلت هؤلاء المستهزئين مع غاية ظلمهم و شدّة استحقاقهم للعذاب ثُمَّ أَخَذْتُها بالعقوبة الشديدة وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ و إلى حكمي المرجع في الآخرة، فأفعل بهم ما أفعل ممّا يليق بأعمالهم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ (51)

ثمّ أمر اللّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالثّبات على الدّعوة و عدم المبالاة بتكذيب الكفّار بقوله: قُلْ يا محمّد:

ص: 353


1- . من لا يحضره الفقيه 1:248/1110، تفسير الصافي 3:384. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:46.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ من قبل اللّه نَذِيرٌ و مخوّف بما يوحى إليّ من هلاك الامم المكذّبة للرسل مُبِينٌ و موضح لكم إنذاري، و ليس لي إتيانكم بالعذاب حتى تستعجلوني به

فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ و ستر لما مضى من ذنوبه وَ رِزْقٌ من كلّ نوع و صنف من النّعم بلا كدّ و منّة كَرِيمٌ و جامع للفضائل

وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا و اجتهدوا فِي الطّعن في آياتِنا و معجزات رسولنا بنسبتها إلى السّحر أو الشّعر أو التّقوّل حال كونهم مُعاجِزِينَ و ظانين فينا العجز عن الأخذ و الانتقام منهم، أو في الأنبياء العجز عن إثبات نبوّتهم، أو معاندين لنا أو لهم، أو مسابقين لهم ليؤخّروهم و يعجزوهم أُولئِكَ السّاعون المعاجزون أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ و ملازمو النّار.

و في بعض الروايات: أنّ الجحيم اسم لدركة من دركات جهنّم (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 52

ثمّ لمّا أثّر تكذيب المشركين و استهزاؤهم بما وعدهم الرّسول من الثّواب على الإيمان و أوعدهم من العقاب في قلبه الشريف غاية التأثير، بالغ سبحانه في تسليته بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ في امّة أو قرية مِنْ رَسُولٍ يوحى إليه بتوسّط جبرئيل وَ لا نَبِيٍّ يوحى إليه في منامه على قول بعض المفسرين (2)و مدلول بعض الروايات (3)إِلاّ إِذا تَمَنّى قبول دعوته و رواج دينه، أو إذا بلّغ عن اللّه ما أوحي إليه أَلْقَى اَلشَّيْطانُ الطّعن و القدح فِي أُمْنِيَّتِهِ و ما أخبر به عن اللّه، أو أحدث الموانع عن نفوذ دعوته فَيَنْسَخُ اَللّهُ و يبطل ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ في ألسنة معارضيه من الطّعن و الاعتراضات، و يرفع ما يبدعه من الموانع ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّهُ و يثبت آياتِهِ و يسدّدها في القلوب بإظهار دلائل صدقها، و دفع الشّبهات عنها وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بمقالات الأنبياء و الرّسل، و ما يورده الشّيطان عليها من الطّعن و الاستهزاء و التّكذيب على لسان العتاة و المردة من الإنس حَكِيمٌ في إنزال الآيات و تمكين الشّيطان على إلقاء ما يشاء في ألسنة أتباعه.

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى اَلشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللّهُ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّهُ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)

سوره 22 (الحج): آیه شماره 53 الی 54

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَللّهَ لَهادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)

ص: 354


1- . تفسير روح البيان 6:48.
2- . تفسير البيضاوي 2:93، تفسير أبي السعود 6:113.
3- . الكافي 1:134/1، و:135/3.

ثمّ بيّن اللّه بعض حكمه و مصالحه بقوله: لِيَجْعَلَ اللّه ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ في قلوب الكفّار و ألسنتهم فِتْنَةً و ابتلاء عظيما لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مهلك لا مرض أشدّ منه كالشّك و النّفاق و الكبر و الحسد و حبّ الدّنيا وَ للكفرة اَلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ الشّديدة الصّلابة أفئدتهم وَ إِنَّ الفرق اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و الشّرك و النّفاق لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عن الحقّ و السّعادة و عداوة شديدة للرّسول و كتابه و دينه

وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ آمنوا و أُوتُوا اَلْعِلْمَ بجهات إعجاز القرآن و كمال دين الإسلام أَنَّهُ اَلْحَقُّ النازل مِنْ رَبِّكَ علما لا يزول بتشكيك المشكّكين فَيُؤْمِنُوا بِهِ إيمانا كاملا فَتُخْبِتَ و تخشع لَهُ قُلُوبُهُمْ و تتواضع لعظمته أفئدتهم و جوارحهم وَ إِنَّ اَللّهَ بتوفيقه و تأييده لَهادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا في الامور الدّينية عند تراكم ظلمات الشّبهات و اختلاف شعب الضّلال إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و المنهج القويم الموصل إلى الحقّ.

و اعلم أنّ تفسير هذه الآيات من المشكلات التي زلّت فيها أقدام الأعلام من العامّة، حيث فسّروها بوجوه لا يمكن الالتزام بها للّذين شمّوا رائحة الإيمان، و لذا أعرضنا عن نقلها، بل لو كان الأمر إلينا لمحوناها من الدّفاتر و الكتب.

و أمّا أصحابنا الإماميّة فقد روى بعضهم عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية أنّه قال: «يعني ما من نبيّ تمنّى مفارقة ما يعانيه من نفاق قومه و عقوقهم، و الانتقال عنهم إلى دار الإقامة، إلاّ ألقى الشّيطان المعرض بعداوته عند فقده في الكتاب الذي أنزل عليه ذمّه و القدح فيه و الطّعن عليه، فينسخ اللّه ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله، و لا تصغي إليه غير قلوب المنافقين و الجاهلين. و يحكم اللّه آياته بأن يحمي أوليائه من الضّلال و العدوان و مشايعة أهل الكفر و الطّغيان الّذين لم يرض اللّه أن يجعلهم كالأنعام حتى قال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (1).

و روى القمي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصابه خصاصة (2)، فجاء إلى رجل من الأنصار فقال له: هل عندك من طعام؟ قال: نعم يا رسول اللّه، و ذبح له عناقا (3)و شواه، فلمّا أدناه منه تمنّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يكون معه عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فجاء أبو بكر و عمر، ثمّ جاء علي عليه السّلام بعدهما، فأنزل اللّه في ذلك وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى

ص: 355


1- . الاحتجاج:257، تفسير الصافي 3:386، و الآية من سورة الفرقان:25/44.
2- . الخصاصة: الحاجة.
3- . العناق: الأنثى من أولاد المعز و الغنم من حين الولادة إلى تمام الحول.

اَلشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يعني أبا بكر و عمر فَيَنْسَخُ اَللّهُ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ يعني لمّا جاء عليّ عليه السّلام بعدهما ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّهُ آياتِهِ يعني سينصر اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ فِتْنَةً يعني فلانا و فلانا لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: شكّ» (1).

أقول: أمّا الرواية الاولى ففهم المراد منها في غاية الإشكال، و أمّا الثانية فلا شبهة أنّها بيان التأويل لا التّنزيل.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 55 الی 57

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حال الكفار ثمّ حال المؤمنين، عاد إلى بيان إصرار الكفّار على الكفر، و استمرار شكّهم في صدق القرآن أو الرّسول بقوله: وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ و شكّ مِنْهُ أو في مرية من صدق الرّسول حَتّى تَأْتِيَهُمُ اَلسّاعَةُ و القيامة بَغْتَةً و فجأة و على غفلة منهم أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ لا يوم بعده لأنّه لا ليل له، أو لا يوم بعده مثله لعظم أمره، أو المراد أنّه لا يرون لأنفسهم فيه خيرا، و هو يوم نزول العذاب عليهم.

وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِيَهُمُ اَلسّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ (56) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)و قيل: إنّه يوم القيامة و السّاعة من مقدّماته، فلا تكرار في الآية (2).

اَلْمُلْكُ و السّلطنة التامّة الظاهريّة و الواقعيّة يَوْمَئِذٍ لِلّهِ وحده، و الحكومة بين العباد مختصّة به، لا حاكم فيهم سواه، و هو يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بالعدل، ثمّ فسّر حكمه بينهم بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا بالرّسول و القرآن، و لم يجادلوا في شيء من الحقّ بالباطل وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و أطاعوا أحكام اللّه المنزلة في كتابه، أولئك في الآخرة متمكّنون فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ و بساتين كثيرة النّعم

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله و كتابه وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة في القرآن، و أصرّوا و استمرّوا عليه فَأُولئِكَ لَهُمْ في ذلك اليوم عَذابٌ مُهِينٌ و مذلّ لهم، و مذهب بعزّهم و كبرهم.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 58 الی 59

وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اَللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

ص: 356


1- . تفسير القمي 2:85، تفسير الصافي 3:386.
2- . تفسير الرازي 23:56.

ثمّ فخّم شأن المهاجرين من المؤمنين بتخصيصهم بالذّكر و الوعد بالثّواب بقوله: وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا و خرجوا من أوطانهم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لمرضاته، و ترويجا لدينه، و نصرة لرسوله ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد، أو في طريق المهاجرة أَوْ ماتُوا حتف الأنف فيه، باللّه لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّهُ رِزْقاً حَسَناً و ينعم عليهم بعيشة مرضيّة و نعمة عظيمة دائمة وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ حيث إنّه تعالى يرزق بلا عوض و لا منّة و لا حساب.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان رزقهم، بيّن مسكنهم بقوله: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً و ليسكننّهم مسكنا يَرْضَوْنَهُ و يفرحون به، و هو الجنّة التي فيها مالا عين رأت و لا اذن سمعت، و لا خطر في قلب بشر، فيرضونه و لا يبغون عنها حولا، كما عن ابن عباس (1).

و قيل: إنّه خيمة من درّة بيضاء لا فصم فيها و لا وصم، لها سبعون ألف مصراع (2).

وَ إِنَّ اَللّهَ لَعَلِيمٌ بما يستحقّونه أو يرضونه فيعطيهم و يزيدهم من فضله حَلِيمٌ لا يعجّل بعقوبة أعدائه و عصاة خلقه ليتوبوا.

روي أنّ طوائف من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قالوا: يا رسول اللّه، هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير، و نحن نجاهد معك كما جاهدوا، فمالنا إن متنا معك؟ فأنزل اللّه هاتين الآيتين (3).

و عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال «المقتول في سبيل اللّه، و المتوفّى في سبيل اللّه بغير قتل [هما]في الخير و الأجر شريكان» (4).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 60 الی 62

ثمّ أكّد سبحانه الوعد بقوله: ذلِكَ قيل: يعني الأمر ما بيّنا لك من إنجاز الوعد للمهاجرين الّذين قتلوا أو ماتوا (5).

ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْباطِلُ وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (62)ثمّ وعد سبحانه المهاجر الذي قاتل اضطرارا بالنّصر في الدّنيا و الأجر في الآخرة بقوله: وَ مَنْ

ص: 357


1- . تفسير الرازي 23:58، تفسير أبي السعود 6:116.
2- . تفسير الرازي 23:58.
3- . تفسير الرازي 23:58، تفسير روح البيان 6:52.
4- . تفسير الرازي 23:58.
5- . تفسير الرازي 23:59.

عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ و قاتل من يقاتله و جازي الظّالم عليه بمثل ظلمه و لم يزد ثُمَّ بُغِيَ و ظلم عَلَيْهِ بأن اضطرّ إلى الهجرة باللّه لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّهُ و يعينه على من (1)بغى عليه البتّة إِنَّ اَللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ للمنتصر.

قيل: نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحّرم، فقال بعضهم لبعض: إنّ أصحاب محمّد يكرهون القتال في الشّهر الحرام، فاحملوا عليهم. فناشدهم المسلمون أن يكفّوا عن قتالهم فأبوا و قاتلوهم، فذلك بغيهم عليهم، و ثبت المسلمون لهم، فنصروا عليهم، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشّهر الحرام ما وقع، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و عفا عنهم و غفر لهم (2).

و عن القمّي: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أخرجته قريش من مكّة، و هرب منهم إلى الغار، و طلبوه ليقتلوه، فعاقبهم اللّه يوم بدر. و قتل عتبة و شيبة و الوليد و أبو جهل و حنظلة بن أبي سفيان و غيرهم. فلمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طلب بدمائهم، فقتل الحسين عليه السّلام و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بغيا و عدوانا، و هو قول يزيد لعنه اللّه حين تمثّل بهذا الشعر: ليت أشياخي ببدر شهدوا. . . إلى آخره.

فقال اللّه تعالى: ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ يعني حين أرادوا أن يقتلوه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّهُ يعني بالقائم من ولده (3).

قيل: إنّ توصيف ذاته المقدّسة بالعفوّ و الغفور مع أنّه لا ذنب للمعاقب؛ لأنّ العفو عن الباغي في غاية الحسن، فنزّل سبحانه تركه منزلة الإساءة، فنبّه على عفوه عنها، أو للتّنبيه على أنّ الإتّصاف بصفات اللّه غاية آمال المؤمنين، و من صفاته تعالى أنّه عفوّ غفور، فيحسن منهم العفو و الغفران.

ذلِكَ النصر بِأَنَّ اَللّهَ قادر على كلّ شيء، بدليل أنّه تعالى يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ و يغلب أحدهما على الآخر بالزّيادة و النّقص، فكيف بتغليب المؤمنين على المشركين وَ بسبب أَنَّ اَللّهَ مع كمال قدرته سَمِيعٌ لمقالات الظّالمين و المظلومين بَصِيرٌ بأعمالهم،

فيجازيهم على حسب أعمالهم و استحقاقهم ذلِكَ المذكور من القدرة الكاملة و العلم الشّامل بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ الثابت و الواجب الوجود الّذي لا زوال له و لا نقص و لا عجز و لا جهل، و أنّه متفرّد بالالوهيّة و استحقاق العبادة وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ و يعبدون مِنْ دُونِهِ من الكواكب و الأصنام هُوَ اَلْباطِلُ و الفاني العاطل، وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ الفائق بقدرته الغالب على

ص: 358


1- . في النسخة: ما.
2- . تفسير الرازي 23:59.
3- . تفسير القمي 2:86، تفسير الصافي 3:388.

كلّ بذاته اَلْكَبِيرُ و العظيم في سلطانه، المتعالي أن يكون له شريك في ملكه.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 63 الی 66

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على كمال قدرته بتصرّفه في أجزاء الزمان و تغييره اللّيل و النّهار، استدلّ عليه بتصرّفه في السّماء و الأرض بقوله: أَ لَمْ تَرَ أيّها الإنسان بعين قلبك و نور عقلك أَنَّ اَللّهَ بقدرته أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا بالأمطار فَتُصْبِحُ و تصير اَلْأَرْضُ بنزول المطر عليها مُخْضَرَّةً بالنّبات و الزّرع، و إنّما قال فَتُصْبِحُ بدل أصبحت للدّلالة على التّجدّد و الحدوث و بقاء أثّر المطر زمانا بعد زمان إِنَّ اَللّهَ لَطِيفٌ بعباده، و لذا فعل ذلك كي يعظم انتفاعهم خَبِيرٌ و عالم بمقادير مصالحهم.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (64) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ اَلسَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)و عن ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده، خبير بما في قلوبهم من القنوط (1).

و قيل: لطيف باستخراج النّبت، خبير بكيفيّة خلقه (2).

و قيل: لطيف في أفعاله، خبير بأعمال خلقه (3).

لَهُ تعالى وحده ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ خلقا و ملكا و تصرّفا وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ بذاته عن كلّ شيء اَلْحَمِيدُ المستوجب للثّناء عليه في صفاته و أفعاله

أَ لَمْ تَرَ أيّها الإنسان ببصيرة قلبك، و لم تعلم بهداية عقلك أَنَّ اَللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ من الموجودات، و ذلّلها تحت إرادتكم تتصرّفون فيها كيف شئتم وَ سخّر لكم اَلْفُلْكَ بأن تركبوها و تحملوا الأثقال عليها حال كونها تَجْرِي و تسير فِي اَلْبَحْرِ إلى البلاد البعيدة بِأَمْرِهِ تعالى و إرادته وَ يُمْسِكُ و يأخذ اَلسَّماءَ فوقكم، محفوظة من أَنْ تَقَعَ أو كراهة أن تقع، أو كيلا تقع عَلَى اَلْأَرْضِ بسبب من الأسباب إِلاّ بِإِذْنِهِ تعالى و مشيئته أَنَّ اَللّهَ أنعم بهذه النّعم العظام لأنّه بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ و شديد المحبّة رَحِيمٌ و عطوف بهم.

عن الصادق عليه السّلام [عن أبيه، عن آبائه]عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه بعد ذكر الأئمّة الاثني عشر بأسمائهم قال:

ص: 359


1- . تفسير الرازي 23:62.
2- . تفسير الرازي 23:62.
3- . تفسير الرازي 23:62.

«و من أنكر واحدا منهم فقد أنكرني، بهم يمسك اللّه السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، و بهم يحفظ [اللّه]الأرض أن تميد بأهلها» (1).

وَ هُوَ الإله القادر اَلَّذِي أَحْياكُمْ بعد ما كنتم ترابا و نطفا بلا حياة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد انقضاء آجالكم المقدّرة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في القبور للبعث و النّشور.

قيل: إنّما ذكر هذان الإحياءان (2)للدّلالة على أنّ سائر النّعم لذلك (3).

ثمّ نبّه سبحانه على غاية جهل النّاس بقول: إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لنعم منعمه حيث إنّه مستغرق في نعم اللّه و يعبد غيره.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 67 الی 68

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر النّعم الدّنيويّة ذكر نعمته الدّينيّة بقوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ و أهل عصر جَعَلْنا و شرعنا مَنْسَكاً و شرعا و مذهبا خاصّا بهم هُمْ بالخصوص ناسِكُوهُ و آخذوه، لا يجوز لهم التّعدّي إلى منسك غيرهم، و العمل بشريعة امّة اخرى، فإذا كانت أحكامه تعالى مختلفة باختلاف الأمم فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ و لا يجادلنّك في أحكام الدّين، بل عليهم اتّباعك و العمل بشريعتك وَ اُدْعُ جميع النّاس إِلى توحيد رَبِّكَ و دينه و عبادته إِنَّكَ و اللّه لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ و طريق موصل إلى كلّ خير، و هو دين الإسلام

وَ إِنْ جادَلُوكَ في الحقّ الذي أنت عليه، و عدلوا عن طريق الإنصاف إلى طريق اللّجاج و المراء، فلا تجادلهم أنت بعد وضوح الحقّ و دلالة البراهين القاطعة على صحّة دينك فَقُلِ إعراضا عنهم و رفقا بهم اَللّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ و ترتكبون من المجادلة الباطلة و غيرها من السّيّئات، فيجازيكم عليها أسوء الجزاء.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ وَ اُدْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68)

سوره 22 (الحج): آیه شماره 69 الی 70

ثمّ أخبر سبحانه نتيجة علمه بأعمالهم بقوله: اَللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدّين بإثابة المحقّ و تعذيب المبطل.

اَللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ (70)

ص: 360


1- . كمال الدين:259/3، تفسير الصافي 3:389.
2- . في النسخة: هذه الإحياء.
3- . تفسير الرازي 23:63.

ثمّ استدلّ سبحانه على علمه بأعمالهم بقوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ أيّها الإنسان بشهادة عقلك أَنَّ اَللّهَ الخالق لجميع الأشياء يَعْلَمُ لا محالة ما فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ لعدم إمكان خفاء مخلوقاته عليه إِنَّ ذلِكَ المذكور ممّا في السّماء و الأرض مثبوت فِي كِتابٍ مبين و لوح محفوظ من قبل أن يبرأه و يخلقه إِنَّ ذلِكَ المذكور من إحاطة علمه بالموجودات و ثبتها في اللّوح عَلَى اَللّهِ الخالق لها سهل يَسِيرٌ بحيث لا يحتاج إلى إرادته.

قيل: فائدة ثبت الموجودات في الكتاب نظر الملائكة فيه، فإذا رأوه مطابقا للموجودات يزيد معرفتهم بسعة علمه تعالى (1).

و قيل: إنّ المراد بالكتاب حفظه تعالى لجميع الأشياء (2)، و معنى قوله: إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إنّه محفوظ عنده.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 71 الی 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعمه و كمال قدرته و علمه، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً و حجّة من السّمع و العقل وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بأحد الطّرق الموجبة للعلم بِهِ و بجواز عبادته عِلْمٌ فإذا لم يستند مذهب الشّرك إلى دليل، و لم يكن التزامهم به من علم، فيكون تقليدا، أو جهلا و اتّباعا للهوى، و هذا من أقوى الدّليل على بطلانه، و من المعلوم أنّ الالتزام به عين الظّلم على النّفس وَ ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الشّرك مِنْ نَصِيرٍ و مدافع ينصرهم و يدفع العذاب عنهم.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ اَلنّارُ وَعَدَهَا اَللّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (72)و قيل: يعني مالهم ناصر بالحجّة، لأنّ الحجّة لا تكون إلاّ للحقّ (1).

ثمّ ذمّهم سبحانه على شدّة عنادهم للحقّ بقوله: وَ إِذا تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنيّة حال كونها بَيِّناتٍ و واضحات الدّلالات على أنّها كلام اللّه تَعْرِفُ و تتبيّن فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ و الجحود بكونها من اللّه. أو تعرف في وجوههم التجبّر و التّرفّع، كما عن ابن عباس (2). أو

ص: 361


1- . تفسير الرازي 23:66.
2- . تفسير الرازي 23:67.

الكراهيّة للقرآن بحيث يَكادُونَ يَسْطُونَ و يبطشون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا و يثبون عليهم من شدّة غيظهم و انضجارهم من تلاوتها قُلْ يا محمّد ردّا عليهم و إقناطا لهم ممّا يقصدونه من الإضرار بالتّالين: أَ فَأُنَبِّئُكُمْ و اخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ الذي تهمّون به من البطش و الوثوب على تالي القرآن، أو الكراهيّة و الضّجر الذي يصيبكم باستماع ما تلي عليكم، و هو اَلنّارُ التي تصلونها بسوء فعالكم، و هي التي وَعَدَهَا اللّه اَلَّذِينَ كَفَرُوا إذا ماتوا على كفرهم وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ النّار و ساء المرجع هي.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 73

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم الحجّة على جواز عبادة الأصنام، أقام الحجّة على عدم جوازها بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ بديع و ذكر لكم برهان قاطع على عدم جواز عبادة الأصنام فَاسْتَمِعُوا لَهُ و تدبّروا فيه حقّ التدبّر إِنَّ الأصنام اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً مع غاية صغره و ضعفه، بل لن يقدروا على إيجاد جزء منه وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ و تظاهروا عليه، فكيف بحال انفراد كلّ فرد وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبابُ و يجتذب منهم شَيْئاً قليلا أو جليلا لا يَسْتَنْقِذُوهُ و لا يستردّوه مِنْهُ مع كمال ضعفه ضَعُفَ عابد الصّنم اَلطّالِبُ منه النّفع و الشّفاعة وَ الصّنم اَلْمَطْلُوبُ منه العون، أو ضعف الذّباب الطالب لما يسلبه من الصّنم، و الصّنم المطلوب منه.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ (73)قيل: إنّ المشركين كانوا يطلون أصنامهم بالعسل و الخلوق، و يسدّون أبواب بيوت الأصنام عليها، ثمّ يدخل الذّباب عليها و يأكل جميع الطّيب و العسل الذي عليها، ثمّ يجيئون بعد أيّام و يفتحون الأبواب، فإذا لم يجدوا أثر العسل و الطّيب عليها فرحوا (1).

و قيل: إنّ الصّنم كالطّالب لخلق الذّباب، و المطلوب الذّباب (2).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 74 الی 76

ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اَللّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّاسِ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (76)

ص: 362


1- . تفسير روح البيان 6:61.
2- . تفسير الرازي 23:68.

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على غاية جهلهم بقوله: ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما عرفوه معرفة يعدّها العقل معرفة، و ما عظّموه تعظيما يليق به، حيث جعلوا الأصنام التي تكون في غاية الخساسة و الضّعف شركاء للّه القادر العظيم في الالوهيّة و العبادة إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ على خلق الممكنات و إعدام الموجودات عَزِيزٌ و غالب على جميع الأشياء و لا يغلب عليه شيء.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب عبدة الأصنام، أبطل القول بالوهيّة الملائكة بقوله: اَللّهُ يَصْطَفِي و يختار بعضا مِنَ اَلْمَلائِكَةِ كجبرئيل و ميكائيل رُسُلاً بينه و بين أنبيائه وَ بعضا مِنَ اَلنّاسِ أيضا رسلا بينه و بين عباده، فالملائكة كلّهم كالأنبياء عبيده و خدمه، مطيعون لأمره، محكومون بحكمه، مقهورون تحت قدرته و إرادته إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم بَصِيرٌ بأحوالهم و أعمالهم

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و ما مضى من أعمالهم وَ ما خَلْفَهُمْ و يأتي من أعمالهم، أو العكس، أو من أمر آخرتهم و أمر دنياهم.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إحاطة علمه بهم، بيّن كمال قدرته عليهم بقوله: وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ كلّها؛ لأنّه مالكها و مدبّرها، فلا يملك أحدهم لنفسه نفعا و لا ضرّا.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 77

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده، و إبطال عبادة الأصنام و الملائكة، دعا النّاس إلى عبادة ذاته المقدّسة و الخضوع له بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته اِرْكَعُوا للّه وَ اُسْجُدُوا له و اخضعوا و تواضعوا لعظمته.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)قيل: إنّ المراد بالرّكوع و السّجود هنا هو الصلاة، لكونهما أعظم أجزائها (1).

و عن ابن عباس: إنّ النّاس في أوّل إسلامهم كانوا يركعون و لا يسجدون حتى نزلت هذه الآية (2).

و قيل: كانوا يسجدون بغير ركوع حتى نزلت (1).

و قيل: كانت الصّلاة قياما و قعودا حتى نزلت (2).

وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ في جميع الامور، و أطيعوا أوامره و نواهيه، و أخلصوا له في العبادة، و لا تشركوا

ص: 363


1- . تفسير روح البيان 6:63.
2- . تفسير روح البيان 6:63.

به شيئا وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ و تحرّوا ما هو صلاحكم، أو الأصلح لكم في كلّ ما تأتون كالنوافل و الفرائض، و صلة الأرحام، و البرّ و الإنفاق على الإخوان و الفقراء، و حسن البشر و القول و مكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و بكلّ خير من خيرات الدّنيا تفوزون.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم، و قسّمه عليها، و فرّقه فيها. . . و فرض على الوجه السّجود له باللّيل و النّهار في مواقيت الصّلاة فقال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا هذه فريضة جامعة على الوجه و اليدين و الرّجلين» (1).

و عنه عليه السّلام: «جعل الخير كلّه في بيت، و جعل مفتاحه الزّهد في الدّنيا» (2).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 78

ثمّ أمر اللّه تعالى بأعظم أنواع الخيرات بقوله: وَ جاهِدُوا فِي ذات اَللّهِ أو قاتلوا الكفّار و المشركين في سبيله، و من أجله، و طلبا لرضاه حَقَّ جِهادِهِ و استفرغوا الوسع و أخلصوا (3)النيّة فيه.

وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ (78)و عن ابن عباس: هو أن لا تخافوا في اللّه لومة لائم (4).

و قيل: إنّ المراد إعملوا [للّه]حقّ عمله (5).

و قيل: حقّ جهاده هو مجاهدة النّفس و الهوى (6).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر، فعليكم بالجهاد الأكبر» (7). قيل: يا رسول اللّه، و ما الجهاد الأكبر؟ قال: «هو أن تجاهد نفسك التي بين جنبيك» (8).

ثمّ حثّ سبحانه الناس فيه بقوله: هُوَ تعالى اللّطيف الّذي اِجْتَباكُمْ بلطفه و اصطفاكم برحمته لدينه، و اختاركم لنصرة رسوله و ترويج شريعته، و خصّكم بالتّوفيق لخدمته و الاشتغال بطاعته، و هذا من أعظم التّشريفات، و أفضل الكرامات.

عن الباقر عليه السّلام: «إيّانا عنى، و نحن المجتبون» (9).

ص: 364


1- . الكافي 2:29-31/1، تفسير الصافي 3:391.
2- . الكافي 2:104/2، تفسير الصافي 3:391.
3- . في النسخة: و تخلصوا.
4- . تفسير الرازي 23:72.
5- . تفسير الرازي 23:72.
6- . تفسير الرازي 23:72.
7- . تفسير الرازي 23:72، تفسير البيضاوي 2:97، تفسير أبي السعود 6:122، تفسير روح البيان 6:64.
8- . معاني الأخبار:160/1 تفسير الصافي 3:391.
9- . الكافي 1:147/4، تفسير الصافي 3:389.

و من ألطافه أنّه تعالى سهّل عليكم تكاليفه وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ و تكاليفه شيئا مِنْ حَرَجٍ و مشقّة و ضيق.

و عن ابن عباس، أنّه قال لبعض هذيل: ما تعدّون الحرج فيكم؟ قال: الضّيق (1).

و عن عائشة: سألت رسول اللّه عن ذلك فقال: «الضيق» (2).

نقل أنّ أبا هريرة قال: كيف قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مع أنّه تعالى منعنا عن الزّنا و السّرقة؟ فقال ابن عباس: بلى، و لكنّ الإصر الّذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا اجتمع أمران، فأحبّهما إلى اللّه ايسرهما» (4).

و من ألطافه الخاصّة عليكم أنّه تعالى جعل ملّتكم-أيّها العرب- مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أو المراد وسّع عليكم توسعة ملّة أبيكم إبراهيم، أو أعني بالدّين ملّة أبيكم إبراهيم، فإنّ العرب كانوا محبّين لإبراهيم لكونهم أولاده، فكان التّنبيه عليه حثّا لهم على قبوله و انقيادهم له.

و قيل: إن الخطاب لعموم المؤمنين، لأنّ اللّه جعل حرمة إبراهيم كحرمة الوالد على ولده (5).

و من ألطافه أنّه تعالى هُوَ الذي سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في لسان أنبيائه و كتبه السّماويّة وَ فِي هذا الزمان، أو في هذا القرآن.

عن ابن عبّاس: أنّ اللّه سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي في كلّ الكتب وَ فِي هذا أي في القرآن (6).

و إنّما شرّفكم اللّه بهذا التّشريف و سمّاكم بهذا الاسم الأكرم لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ و قد مرّ بيان كيفية تلك الشهادة في سورة البقرة (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «قال عزّ و جلّ: سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في الكتب التي مضت وَ فِي هذا القرآن لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ -قال عليه السّلام-: فرسول اللّه شهيد علينا بما بلّغنا عن اللّه تبارك و تعالى، و نحن الشّهداء على النّاس يوم القيامة (2)، فمن صدّق يوم القيامة صدّقناه، و من كذّب كذّبناه» (3).

و قيل: إنّ ضمير هُوَ سَمّاكُمُ راجع إلى إبراهيم، فإنّه عليه السّلام قال: رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ

ص: 365


1- . عند تفسير الآية (143) .
2- . (يوم القيامة) ليس في الكافي.
3- . الكافي 1:147/4، تفسير الصافي 3:392.

ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ (1) .

روي أنّ إبراهيم عليه السّلام اخبر بأنّ اللّه سيبعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بمثل ملّته، و أنّه سيسمّي أمّته بالمسلمين (2).

و عن كعب: أنّ اللّه أعطى هذه الامّة ثلاثا لم يعطهنّ إلاّ الأنبياء: جعلهم شهداء على النّاس، و ما جعل عليهم في الدّين من حرج، و قال: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (1).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ممّا أعطى اللّه امّتي، و فضّلهم به على سائر الامم، أنّه أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلاّ نبيّ: و ذلك أنّ اللّه تبارك و تعالى كان إذا بعث نبيّا قال له: اجتهد في دينك و لا حرج عليك، و أنّ اللّه أعطى امّتي ذلك حيث يقول: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول: من ضيق. و كان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه، و إن اللّه جعل امتي شهداء على الخلق حيث يقول: لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ» الحديث (2).

فإذا علمتم ألطاف ربّكم بكم فَأَقِيمُوا له اَلصَّلاةَ التي هي أفضل عباداته وَ آتُوا اَلزَّكاةَ التي هي قرينتها و أكمل القربات بعدها وَ اِعْتَصِمُوا وثقوا بِاللّهِ في جميع امور دينكم و دنياكم، و لا تستعينوا بغيره و لا تسألوا أحدا سواه.

و قيل: إنّ المراد من الاعتصام به التّمسّك بكتابه و أحكامه (3).

عن ابن عباس: سلوا اللّه العصمة عن كلّ المحرّمات (6).

و قيل: يعني اجعلوا اللّه عصمة و حافظا لكم ممّا تحذرون (7).

هُوَ تعالى مَوْلاكُمْ و النّاظر في خيركم و صلاحكم، و المتصرّف فيكم، و من بيده جميع اموركم فَنِعْمَ اَلْمَوْلى لكم ربّكم وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ و العون إلهكم، إذ لا تواني منه في القيام بشؤون الولاية و النّصرة، و لا ينقطعان منه إلى الأبد.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الحجّ في كلّ ثلاثة أيّام، لم تخرج سنته حتى يخرج إلى بيت اللّه الحرام، و إن مات في سفره دخل الجنّة» . قيل: و إن كان مخالفا؟ قال: «يخفّف عنه [بعض ما هو فيه]» (4).

وفقنا اللّه تعالى لتلاوتها.

ص: 366


1- . تفسير الرازي 23:73، و الآية من سورة غافر:40/60.
2- . قرب الإسناد:84/277، تفسير الصافي 3:392.
3- . تفسير روح البيان 6:65. (6 و 7) . تفسير الرازي 23:74.
4- . ثواب الأعمال:108، تفسير الصافي 3:392.

في تفسير سورة المؤمنون

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختم اللّه السّورة المباركة التي في أوّلها إثبات المعاد، و الاستدلال عليه بقدرته على خلق الإنسان من التّراب، و تقليبه في أطوار مختلفة، و بخلق النّباتات، و في آخرها إثبات التّوحيد و إبطال الشّرك، و الدّعوة إلى الإيمان و اقامة الصّلاة و أداء الزكاة برجاء الفلاح، أردفها بسورة اَلْمُؤْمِنُونَ التي في أوّلها تخصيص الفلاح بالمؤمنين و مدحهم، و بيان رجحان الخشوع في الصّلاة و لزوم الاهتمام بها، و ذكر المعاد و الاستدلال عليه بالدّليلين المذكورين، و حكاية دعوة الأنبياء إلى التّوحيد و ابتلاء منكريه بالعذاب، و في آخرها تهديد منكر المعاد بأهوال القيامة، و حرمان الكفّار من الفلاح، فابتدأها بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بوعد المؤمنين بالفلاح بقوله: قَدْ أَفْلَحَ و سعد و فاز اَلْمُؤْمِنُونَ و الموحّدون بأعلى المقاصد و أسناها.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ (1) اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)روي أنّ اللّه تعالى لمّا خلق جنّة عدن بيده قال: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون (1)، فقال: طوبى لك منزل الملوك، أي ملوك الجنّة (2).

و عن الصادق عليه السّلام ما يقرب منه إلى قوله: طوبى (3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «أتدري من هم؟» قيل: أنت أعلم، قال: «قد أفلح المؤمنون المسلّمون، إنّ المسلّمين هم النّجباء» (4).

ثمّ وصفهم اللّه بقوله: اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و بقلوبهم من مهابة اللّه خائفون، و بجوارحهم متواضعون.

ص: 367


1- . تفسير الرازي 23:82.
2- . تفسير روح البيان 6:66.
3- . تفسير القمي 2:88، تفسير الصافي 3:393، و فيهما إلى قوله: المؤمنون.
4- . الكافي 1:322/5، تفسير الصافي 3:393.

روي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا صلّى رفع بصره إلى السّماء، فلمّا نزلت رمى ببصره نحو مسجده، و أنّه رأى مصلّيا يعبث بلحيته فقال: «لو خشع قلبه لخشعت جوارحه» (1).

و روي أنّ العبد إذا قام إلى الصّلاة، فإنّما هو بين يدي الرّحمن، فإذا التفت يقول اللّه تعالى: إلى من تلتفت، إلى خير منّي؟ أقبل يابن آدم [إليّ]فأنا خير ممّن تلتفت إليه (2).

ثمّ وصفهم اللّه بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ و ما لا فائدة فيه من الأقوال و الأفعال مُعْرِضُونَ و متباعدون. قيل: هو القول الحرام (3). و قيل: هو كلّ حرام أعمّ من القول و الفعل (4). و قيل: هو أعمّ من الحرام و المكروه و المباح الذي لا حاجة فيه (5).

و قال القمي: يعني الغناء و الملاهي، و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام (6).

و عنه عليه السّلام أيضا: «هو أن يتقوّل الرّجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه للّه» (7).

روى بعض العامة أنّه تكلّم رجل في زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام و افترى عليه، فقال له زين العابدين عليه السّلام: «إن كنت كما قلت فأستغفر اللّه، و إن لم أكن كما قلت فغفر اللّه لك» فقام إليه الرّجل و قبّل رأسه و قال: جعلت فداك، لست كما قلت فاغفر لي، قال: «غفر اللّه لك» فقال الرجل: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

و خرج يوما من المسجد، فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد و الموالي، فقال زين العابدين عليه السّلام: «مهلا على الرّجل» ، ثمّ أقبل على الرّجل و قال: «ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحيى الرّجل، فالقى إليه خميصة (4)كانت عليه، و أمر له بألف درهم، فكان الرّجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الرّسول (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كلّ قول ليس فيه ذكر اللّه فهو لغو» (6).

و إنّما ذكر سبحانه الإعراض عن اللّغو بعد ذكر الخشوع في الصّلاة، لكمال الملابسة بينهما. و قيل: إنّ الإعراض عن اللّغو من متمّمات الصّلاة (7).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 4 الی 7

وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (8) فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ (9)

ص: 368


1- . تفسير أبي السعود 6:123، تفسير روح البيان 6:67.
2- . تفسير روح البيان 6:67.
3- . تفسير الرازي 23:79. (4 و 5) . تفسير الرازي 23:79.
4- . الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام.
5- . تفسير روح البيان 6:63.
6- . إرشاد المفيد 1:297، تفسير الصافي 3:394.
7- . تفسير الرازي 23:80.
8- . تفسير القمي 2:88، تفسير الصافي 3:394.
9- . مجمع البيان 7:158، تفسير الصافي 3:394.

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف المؤمنين بالقيام بأداء العبادات البدنيّة، التي أهمّها الصّلاة و الخشوع فيها، وصفهم بالاهتمام بالعبادات المالية التي أهمّها الزّكاة بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ و مؤدّون.

عن الصادق عليه السّلام: «من منع قيراطا من الزّكاة فليس هو بمؤمن و لا مسلم و لا كرامة» (1).

و قيل: إنّ الزّكاة هنا كلّ فعل محمود مرضيّ (2).

ثمّ وصفهم بالتّحرّز عن الحرام المتعلّق بأنفسهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ و عوراتهم حافِظُونَ و ممسكون لها من أن تكشف أو تمسّ،

فإنّهم يحرّمونها على كلّ أحد إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ و منكوحاتهم الدّائمة أو المنقطعة.

و قيل: إنّ التّقدير فإنّهم يلامون على ترك التّحفّظ إلاّ على تركه من أزواجهم (3). أو التقدير فإنّهم لا يرسلون فروجهم على أحد إلاّ على أزواجهم أَوْ على ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالأسر، أو الإرث، أو المعاملة. و قيل: إنّ (على) بمعنى (من) .

فَإِنَّهُمْ على الكشف لهنّ و مباشرتهنّ غَيْرُ مَلُومِينَ و لا مذمومين

فَمَنِ اِبْتَغى و طلب للمباشرة وَراءَ ذلِكَ المذكور من الأزواج (4)و الإماء و سواهنّ فَأُولئِكَ المبتغون للحرام هُمُ اَلعادُونَ و المتجاوزون عن حدود العقل و الشّرع، أو المتعدّون من الحلال إلى الحرام، أو المتناهون في العدوان.

بيان حلّية المتعة

إعلم أنّه استدلّ بعض العامة على حرمة المتعة بهذه الآية، بتقريب أنّها ليست ملك يمين و لا زوجة، لعدم التّوارث فيها، فإنّ لازم الزّوجة التّوارث لقوله تعالى: وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ (5).

و فيه: أنّ الزّوجة هي المرأة التي حلّ بضعها، و التّمتّع بها سبب حصول علقة الزّواج بين الرجل و المرأة، بسبب العقد الخاصّ المفيد لحلّية التّمتّعات و هي صنفان: صنف منها علقة دائمة بنفسها، لا تزول إلاّ بالطّلاق، أو بحصول أحد موانع النكاح، كعلقة ملك الأعيان، و لا تزول إلاّ بالمزيل. و صنف

ص: 369


1- . تفسير القمي 2:88، تفسير الصافي 3:394.
2- . تفسير الرازي 23:79.
3- . تفسير الرازي 23:80، تفسير أبي السعود 6:124.
4- . في النسخة: الازدواج.
5- . تفسير الرازي 23:80، و الآية من سورة النساء:4/12.

منها علقة مقيّدة بأجل معيّن، تزول ببلوغ أجل تلك العلقة، نظير إباحة المالك للغير التصرّف في ملكه. فإذا كانت مطلقة أفادت جواز التصرّف فيه مطلقا غير مقيّد بوقت، و لا ترتفع إلا برجوع المالك عنها أو بانتفاء الموضوع و نظائره، و إذا كانت مقيّدة بمدّة معيّنة تزول ببلوغ المدّة.

و أمّا التّوارث فهو حكم تعبّدي لخصوص الصّنف الأوّل من العلقة بالأدلّة المخصّصة لعموم الآية، و لو لم تكن تلك الأدلّة المخصّصة لعموم الآية، لكنّا نحكم بثبوته لكلا الصّنفين، كما خصّصت الأدلّة بقيّة الأحكام الاخر من وجوب النّفقة، و الكسوة، و السّكنى، و القسم، و غيرها من الحقوق بالصنف الأوّل.

فتبيّن أنّ التمسّك بالآية لإثبات حرمة المتعة بعد ثبوت شرعيّتها بالكتاب و السّنة و الإجماع من غاية الجهل، و إنّما الكلام بيننا و بين مخالفينا في نسخه، و لم يدلّ دليل عليه، بل ثبت بقاؤه بالأدلّة القطعيّة، بل بقول من أبدع تحريمها حيث قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه، و أنا احرّمهما (1). فإنّ إسناده التحريم إلى نفسه دالّ على عدم نسخها من شارعها.

عن الباقر عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه أحلّ لكم الفروج على ثلاثة معان: فرج مورّث (2)و هو الثّبات، و فرج غير مورّث و هو المتعة، و ملك يمين» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن المتعة فقال: «حلال، فلا تتزّوج إلاّ عفيفة، إنّ اللّه يقول: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» (4).

و عنه عليه السّلام: «تحلّ الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث، و نكاح بلا ميراث، و نكاح بملك يمين» (5).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 8 الی 11

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين بالتحرّز عن التعدّي على الغير بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ و الودائع التي أودعها غيرهم عندهم وَ عَهْدِهِمْ و الميثاق الذي بينهم و بين غيرهم من الخالق و الخلق راعُونَ و حافظون لا يخونون في مال، و لا ينقضون عهدا، و من جملة الأمانات الولاية و التّكاليف الإلهيّة التي حملها الإنسان كما قال سبحانه: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ (6)الآية. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ اَلْوارِثُونَ (10) اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)

ص: 370


1- . صحيح البخاري 2:282/164 و 6:59/43، الأوائل للعسكري:112.
2- . في التهذيب: موروث، و كذا التي بعدها.
3- . التهذيب 7:241/1051، تفسير الصافي 3:394.
4- . الكافي 5:453/2، تفسير الصافي 3:394.
5- . الكافي 5:364/1-3، الخصال:119/106، تفسير الصافي 3:394.
6- . الأحزاب:33/72.

«أعظم النّاس خيانة من لم يتمّ صلاته» (1). و من جملة العهود الميثاق الذي أخذه من بني آدم في الذّرّ.

ثمّ وصفهم اللّه بالاهتمام بالصّلاة بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المفروضة يُحافِظُونَ و يواظبون برعاية شرائطها و حدودها و أوقاتها، و إنّما غيّر الاسلوب بإتيان الفعل لكون الصّلاة متجدّدة متكرّرة.

و قيل: إنّما فصّل بين توصيفهم بالخشوع في الصلاة و محافظتهم عليها، للإيذان بأنّ كلاّ منهما فضيلة مستقلّة (2)، أو للإشعار بتعظيم الصّلاة حيث ذكرها في مبدأ أوصافهم و منتهاها.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة فلاحهم بقوله: أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصفات هُمُ اَلْوارِثُونَ دون غيرهم

اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ و يملكونها بحسن عقائدهم و أعمالهم، أو ينتقل إليهم من الكفّار الذين فوّتوها على أنفسهم و هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا يخرجون منها أبدا.

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ما خلق اللّه خلقا إلاّ جعل له في الجنّة منزلا، و في النّار منزلا، فإذا سكن أهل الجنّة الجنّة و أهل النّار النّار، نادى مناد: يا أهل الجنّة أشرفوا، فيشرفون على أهل النّار، و ترفع لهم منازلهم فيها، ثمّ يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم اللّه لدخلتموها» قال: «فلو أنّ أحدا مات فرحا لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحا، لما صرف عنهم من العذاب.

ثمّ ينادي مناد: يا أهل النّار ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة و ما فيها من النّعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها، قال: فلو أنّ أحدا مات حزنا لمات أهل النّار حزنا، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء [و يورث هؤلاء منازل هؤلاء]و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: أُولئِكَ هُمُ اَلْوارِثُونَ* اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من أحد منكم إلاّ و له منزلان؛ منزل في الجنّة، و منزل في النّار، فإن مات و دخل النّار ورث أهل الجنّة منزله» (4).

و قيل: إنّ اللّه شبّه انتقال الجنّة إليهم بغير محاسبة و معرفة بمقاديرها بانتقال المال إلى الوارث (5).

و قيل: لمّا كانت الجنّة مسكن أبينا آدم، صار انتقالها إلى أولاده شبيها بالميراث (6).

قيل: إنّ الفردوس هو الجنّة بلسان [الحبشة] (7)و قيل: بلسان الرّوم (8).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «الفردوس مقصورة الرّحمن، فيها الأنهار و الأشجار» (9).

ص: 371


1- . تفسير الرازي 23:81.
2- . تفسير أبي السعود 6:125.
3- . تفسير القمي 2:89، تفسير الصافي 3:395.
4- . مجمع البيان 7:159، تفسير الصافي 3:395.
5- . تفسير الرازي 23:82.
6- . تفسير الرازي 23:82.
7- . تفسير الرازي 23:82.
8- . تفسير الرازي 23:82.
9- . تفسير الرازي 23:82.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «سلوا اللّه الفردوس، فإنّها أعلى الجنان، و إنّ أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «فيّ نزلت» (2).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 12 الی 16

ثمّ لمّا أخبر باختصاص الفلاح بالمؤمنين في الآخرة، استدلّ على البعث فيها بقدرته الكاملة على خلق الإنسان و تقليبه في أطوار الخلقة و أكوان مختلفة بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ في بدو خلقته مِنْ سُلالَةٍ و خلاصة منسلّة و مستخرجة مِنْ طِينٍ.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)و قيل: إنّ المراد بالإنسان أولاد آدم، و المراد من الطّين آدم، و من السّلالة الأجزاء الطّينيّة المنبثّة في أعضائه التي حين اجتماعها في أوعية المنيّ صارت منيّا (3).

و قيل: لمّا كانت الأغذية التي يتكوّن منها المنيّ متولّدة من صفو الأرض و الماء، كان مبدأ خلق الإنسان الطّين لكون المنيّ منه (4).

ثُمَّ جَعَلْناهُ و صيّرناه نُطْفَةً و ماء صافيا في صلب الرّجل، ثمّ نقلناه بسبب الجماع فِي قَرارٍ مَكِينٍ و مستقرّ حصين،

و هو الرّحم ثُمَّ خَلَقْنَا و صيّرنا اَلنُّطْفَةَ بعد أربعين يوما عَلَقَةً و دما جامدا فَخَلَقْنَا و صيّرنا بعد أربعين يوما اَلْعَلَقَةَ و الدّم الجامد مُضْغَةً و قطعة لحم فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ بعد أربعين يوما عِظاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظامَ لَحْماً و سترناها به بعد نبت العروق و الأعصاب و الأوتار و العضلات عليها ثُمَّ أَنْشَأْناهُ و أوجدناه خَلْقاً آخَرَ مباينا للخلق الأوّل بنفخ الرّوح فيه، فصار حيّا بعد ما كان ميتا، و حيوانا بعد ما كان جمادا، و ناطقا بعد ما كان أبكم، و سميعا بعد ما كان صمّا، و بصيرا بعد ما كان أكمه، و أودع في كلّ عضو منه عجائب فطرة و غرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين.

عن ابن عباس: هو تصريف (3)اللّه الإنسان بعد الولادة في أطواره في زمن الطفوليّة، و ما بعدها إلى

ص: 372


1- . تفسير الرازي 23:82.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:65/288، تفسير الصافي 3:395. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:84.
3- . في تفسير الرازي: تصرّف.

استواء الشّباب، و ما بعده إلى أن يموت (1).

ثمّ أثنى سبحانه على نفسه بخلق هذا المخلوق البديع بقوله: فَتَبارَكَ اَللّهُ و تعالى شأنه من قدرته الكاملة و حكمته البالغة و هو أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ خلقا، و أكمل المقدّرين تقديرا؛ لأنّه خلق أحسن المخلوقين، حيث إنّه مع صغر جرمه انطوى فيه العالم الكبير، و فيه دلالة على أنّ الإنسان مركّب من الرّوح و الجسد، و أنّ في الموجودات خالقين.

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل: أو غير الخالق الجليل خالق؟ قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى قال: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ فقد أخبر أنّ في عباده خالقين، منهم عيسى بن مريم، خلق من الطّين كهيئة الطّير بإذن اللّه، و خلق السّامريّ لهم عجلا جسدا له خوار» (2).

ثُمَّ إِنَّكُمْ يا بني آدم بَعْدَ ذلِكَ المذكور من أطوار الخلق و التّعيّش إلى الأجل المسمّى و اللّه لَمَيِّتُونَ بقدرته ثُمَّ إِنَّكُمْ بعد انقضاء الدّنيا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و عند النّفخة الثّانية تحيون ثانيا بقدرته الكاملة كما حييتم أوّلا، و تُبْعَثُونَ و تخرجون من قبوركم للحساب و المجازاة على الأعمال.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 17 الی 20

ثمّ لمّا كانت الإعادة منوطة بكمال القدرة و العلم، بالغ سبحانه في إثباتهما لنفسه بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ و طبقات من السّماوات كالسّقف المحفوظ، سمّيت طبقاتها طرائق لطروق بعضها على بعض، فإنّ كلّ ما فوق مثله طريقه، أو لأنّها طرق الملائكة و الكواكب و مسيرها وَ ما كُنّا عَنِ اَلْخَلْقِ و النّاس، أو عن السّماوات، أو عن الموجودات غافِلِينَ و ذاهلين حتى نهمل أمرها و تدبيرها، بل نحفظها عن الزّوال و الاختلال إلى الأجل المقدّر بمقتضى الحكمة، و نعلم خيرها و شرّها و جميع ما تحتاج إليه في بقائها.

وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنّا عَنِ اَلْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

ثمّ بيّن سبحانه خلق ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه بقوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ بنحو الأمطار ماءً نافعا بِقَدَرٍ و حدّ فيه صلاح الأشياء من الحيوانات و النّباتات فَأَسْكَنّاهُ و مكّناه فِي

ص: 373


1- . تفسير الرازي 23:85.
2- . التوحيد:63/18، تفسير الصافي 3:396.

اَلْأَرْضِ لانتفاعكم به وَ إِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ من وجه الأرض و إزالته بالأسباب العادية و غيرها باللّه لَقادِرُونَ كما كنّا قادرين على إنزاله و إتيانه.

عن ابن عباس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه أنزل من الجنّة خمسة أنّهار: جيحون، و سيحون، و دجلة، و الفرات، و النّيل، فأنزلها اللّه تعالى من عين واحدة من عيون الجنّة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبرئيل، استودعها الجبال و أجراها في الأرض، و جعل فيها منافع للنّاس، فذلك قوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي اَلْأَرْضِ و إذا كان عند خروج يأجوج و مأجوج أرسل اللّه جبرئيل فرفع من الأرض القرآن، و العلم، و الحجر الأسود من البيت، و مقام إبراهيم، و تابوت موسى بما فيه، و هذه الأنهار الخمسة إلى السّماء، و ذلك قوله: وَ إِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض، فقد أهلها خير الدّين و الدّنيا» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هي الأنهار و العيون» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني ماء العقيق» (3).

أقول: العقيق اسم واد.

فَأَنْشَأْنا و خلقنا لَكُمْ بعد إنزال الماء بِهِ في الأرض جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ هي أحبّ الأشجار عندكم و أنفعها، حيث تكون ثمارها غذاء و فاكهة و لَكُمْ فِيها مع تلك الأشجار النافعة فَواكِهُ و ثمار كَثِيرَةٌ بها تتفكّهون وَ مِنْها ثمار و زروع، تَأْكُلُونَ و بها تتعيّشون وَ أنشأنا لكم شَجَرَةً مباركة زيتونة تكون من شرفها أنّها بالخصوص تَخْرُجُ مِنْ جبل طُورِ سَيْناءَ الذي منه نودي موسى عليه السّلام و كلّمه اللّه عليه تكليما. و هي بين مصر و أيلة، أو بفلسطين.

و قيل: إنّ سيناء اسم البقعة. و قيل: إنّ معناه حسن. و قيل: أوّل ما نبت الزّيتون هناك (4). و قيل: فيه معظمها (5).

و فائدتها أنّها تَنْبُتُ مستصحبة بِالدُّهْنِ. و قيل: إنّ (الباء) بمعنى (مع) (6). و قيل: إنّها للتّعدية، و المعنى أنّها تنبت بثمرة جامعة لدهن يدّهن و يسرّح به (7)وَ صِبْغٍ و إدام يصبغ و يغمس فيه الخبز، و يلوّن به مثل الدّبس و الخلّ لِلْآكِلِينَ.

ص: 374


1- . تفسير روح البيان 6:74.
2- . تفسير القمي 2:91، تفسير الصافي 3:396.
3- . الكافي 6:391/4، تفسير الصافي 3:396.
4- . تفسير روح البيان 6:76.
5- . تفسير الرازي 23:89.
6- . تفسير الرازي 23:89، تفسير روح البيان 6:76.
7- . تفسير البيضاوي 2:102، تفسير روح البيان 6:76، تفسير الصافي 3:397.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «الزّيت شجرة مباركة فأتدموا به، و ادّهنوا» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام: أن أخرجوني إلى الظّهر، فإذا تصوّبت أقدامكم و استقبلتكم الرّيح فادفنوني، فهو أوّل طور سيناء، ففعلوا ذلك» (2).

و عن الصادق عليه السّلام و قد ذكر الغريّ عنده، قال: «و هو قطعة من الجبل الذي كلّم اللّه عليه موسى تكليما، و قدّس عليه عيسى تقديسا، و اتّخذ عليه إبراهيم خليلا، و اتّخذ عليه محمّدا حبيبا، و جعله للنّبيّين مسكنا، و واللّه ما سكن [فيه]بعد أبويه الطّيّبين آدم و نوح أكرم من أمير المؤمنين عليه السّلام» (3).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على قدرته بأحوال النّباتات، استدلّ عليها بأحوال الحيوانات بقوله: وَ إِنَّ لَكُمْ أيّها الناس فِي أحوال اَلْأَنْعامِ و عجائب الأزواج الثمانية: الإبل، و البقر، و الغنم، و المعز، و اللّه لَعِبْرَةً و حجّة واضحة على قدرة خالقها و لطيف حكمته، فإنّ من عجائب أحوالها أنّا نُسْقِيكُمْ مِمّا يتكوّن فِي بُطُونِها و ضروعها من الألبان، أو ممّا في أجوافها من العلف بعد تكوّن اللّبن منه وَ لَكُمْ مع ذلك فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ من أشعارها و أصوآنها و أوبارها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ و بلحومها و أعيانها تنتفعون،

كما تنتفعون بما يحصل منها وَ عَلَيْها في البراري و الجبال وَ عَلَى اَلْفُلْكِ و السّفن في البحار و الشّطوط تُحْمَلُونَ و تركبون و تنتقلون من بلد إلى بلد.

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَ عَلَيْها وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ شرع سبحانه في بيان أحوال الامم الماضية و عدم اعتبارهم بتلك العبر، و عدم تفكّرهم في عجائب الخلق، و عدم تذكّرهم بتذكير الرّسل، حتّى استحقّوا نزول العذاب عليهم لغفلتهم و شركهم، فابتدأ بذكر قصّة قوم نوح، لكونها أقدم القصص و أعظمها و أنسبها بذكر الفلك بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا اَلْأَوَّلِينَ (24)

ص: 375


1- . مجمع البيان 7:165، تفسير الصافي 3:397.
2- . التهذيب 6:34/69، تفسير الصافي 3:397.
3- . التهذيب 6:23/51، تفسير الصافي 3:397.

نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ليدعوهم إلى التّوحيد و عبادة اللّه فَقالَ داعيا لهم باللّطف و لين القول: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ الّذي خلقكم و أنعم عليكم بعظائم النّعم، و لا تشركوا به شيئا في الالوهيّة و العبادة، لأنّه ما لَكُمْ في عالم الوجود مِنْ إِلهٍ و معبود مستحقّ للعبادة غَيْرُهُ تعالى، لأنّ كلّ ما سواه مخلوقون له و مربوبون أَ فَلا تَتَّقُونَ و لا تخافون أن يسلب عنكم نعمه و ينزّل عليكم عذابة

فَقالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه مِنْ قَوْمِهِ لأتباعهم و السّفلة منهم، توهينا لنوح عليه السّلام و حطّا له عن قابليّة (1)الرّسالة، و حثّا لهم على الإعراض عنه ما هذا الرّجل إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ خلقا و خلقا و أعمالا، لا مزيّة له عليكم توجب أن يختاره اللّه تعالى لهذا المنصب، و مع ذلك يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ و يتفوّق عَلَيْكُمْ بادّعاء الرّسالة، و يجعلكم أتباعه وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ إرسال رسول لَأَنْزَلَ من السّماء مَلائِكَةً بالرّسالة إليكم من قبله لأقربيّة قولهم إلى القبول، و كونهم مطيعين له ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدّعيه هذا الرّجل من رسالة البشر و توحيد المعبود فِي آبائِنَا اَلْأَوَّلِينَ و كبرائنا الماضين، و إنّما قالوا ذلك للإفراط في تكذيبه و عناده، أو لطول الفترة بين إدريس عليه السّلام الذي كان نبيّا ظاهرا و بين نوح عليه السّلام.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 25 الی 29

ثمّ بالغوا في توهينه و تكذيبه بقوله: إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ و اختلال عقل، و لذا يقول ما يقول خلافا لأكثر النّاس فَتَرَبَّصُوا بِهِ و اصبروا على ما يقوله و انتظروا حَتّى حِينٍ موته فتستريحون منه، أو انتظروا إلى وقت إفاقته من الجنون، فيكفّ عن أباطيله، فلمّا يئس نوح عليه السّلام من إيمانهم و عال صبره (2)على إيذائهم

قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي على هؤلاء المكذّبين بتعجيلك في إهلاكهم بالعذاب جزاء بِما كَذَّبُونِ و نسبتهم إيّاي إلى الجنون

فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ إجابة لدعائه أَنِ يا نوح اِصْنَعِ

إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ اَلتَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى اَلْفُلْكِ فَقُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي نَجّانا مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ (29)

ص: 376


1- . كذا، و لعلّه يريد درجة استحقاق الرسالة.
2- . أي نفد.

اَلْفُلْكَ متلبّسا (1)بِأَعْيُنِنا و حفظنا إيّاك من أن تخطىء في صنعها، و من أن يفسدها عليك مفسد وَ وَحْيِنا إليك كيفيّة صنعها، و تعليمنا إيّاك عملها و تسويتها. روي أنّه اوحي إليه أن يصنعها على مثال الجؤجؤ (2).

فَإِذا جاءَ أَمْرُنا و اقترب نزول عذابنا على القوم وَ فارَ اَلتَّنُّورُ و اشتدّ غليان الماء منه، قيل: كان تنّور آدم (3)، و كان من الحجارة. و عن ابن عباس: التّنّور وجه الأرض (4). و قيل: أعلى الأرض (5). و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «وَ فارَ اَلتَّنُّورُ أي طلع الفجر» (6).

فَاسْلُكْ في الفلك و أدخل فِيها حينئذ مِنْ كُلٍّ من أنواع الحيوانات زَوْجَيْنِ و فردين مزدوجين اِثْنَيْنِ الذّكر و الانثى، لئلاّ ينقطع نسلها وَ أدخل فيها أَهْلَكَ و أقاربك من الزّوجة و الأولاد و المؤمنين إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ و قضي عليه بالهلاك و العذاب مِنْهُمْ كزوجته واغلة، و ابنه كنعان على ما قيل (7)وَ لا تُخاطِبْنِي و لا تكلّمني فِي نجاة الكفّار اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشّرك و الطّغيان و لا تشفع لهم إِنَّهُمْ لا محالة مُغْرَقُونَ لعدم قابليّتهم (8)لقبول الشّفاعة في حقّهم.

فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ و علوت أَنْتَ يا نوح وَ مَنْ مَعَكَ من أهلك و أشياعك عَلَى اَلْفُلْكِ و ركبتهم فيها فَقُلِ شكرا لي و ثناء على إنعامي اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي نَجّانا مِنَ عشرة اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ فإنّ النجاة من عشرتهم و صحبتهم و مجاورتهم نعمة عظيمة على المؤمنين

وَ قُلْ حين الدّخول في السّفينة، أو حين الخروج منها، أو في الحالين: رَبِّ أَنْزِلْنِي في السّفينة، أو في الأرض منها مُنْزَلاً مُبارَكاً و إنزالا مستتبعا لكلّ خير.

قيل: الإنزال المبارك هو الورود في منزل مأمون من الهواجس النّفسانيّة و الوساوس الشّيطانيّة (9).

وَ أَنْتَ يا ربّ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ فاستجاب اللّه دعاءه حيث قال: يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ (10)فبارك فيهم حيث جعل جميع من في الأرض من نسله و نسل من كان معه، و إنّما خصّه اللّه بالأمر بالحمد و الدّعاء لكونه إماما لمن معه، فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بنبوّته و عظمة اللّه و كبرياء ربوبيّته المقتضية لعدم خطابه إلاّ إلى ملك مقرّب أو نبيّ مرسل، و في النّهي عن شفاعته في حقّ الكفّار و الأمر بالحمد على النجاة منهم مبالغة في تقبيحهم

ص: 377


1- . في تفسير روح البيان 6:79: ملتبسا.
2- . تفسير روح البيان 6:79.
3- . تفسير روح البيان 6:80.
4- . تفسير الرازي 23:94.
5- . تفسير الرازي 23:94.
6- . تفسير الرازي 23:94.
7- . تفسير روح البيان 6:80، و فيه: و امه واغلة.
8- . يريد عدم استحقاقهم.
9- . تفسير روح البيان 6:80.
10- . هود:11/48.

و شدّة استحقاقهم العذاب.

عن ابن عباس: كان في السّفينة ثمانون إنسانا: نوح و امرأته [سوى]التي غرقت، و ثلاثة بنين: سام، و حام، و يافث، و ثلاث نسوة لهم، و اثنان و سبعون إنسانا، فكلّ الخلائق نسل من كان في السّفينة (1).

قيل: علّمكم [اللّه]أن تقولوا عند الرّكوب في السّفينة: بِسْمِ اَللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها (2)و عند ركوب الدابّة: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ ] (3)و عند النّزول: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً [وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ ] (4).

«و في (الفقيه) : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا علي، إذا نزلت منزلا فقل: (اللّهمّ أنزلني منزلا مّباركا و أنت خير المنزلين) ترزق خيره و يدفع شرّه» (5).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 30

ثمّ نبّه سبحانه المؤمنين على العبر التي تكون في قصة (6)نوح عليه السّلام بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنجاء نوح عليه السّلام و من معه، و إهلاك الكفّار بالطّوفان لَآياتٍ و دلالات واضحات يستدلّ بها اولو الأبصار على توحيد اللّه و عظمته و شدّة غضبه على أعدائه و المشركين به، و كمال لطفه و رحمته على محبّيه و المؤمنين به وَ إِنْ الشأن إنّا كُنّا بتلك الآيات لَمُبْتَلِينَ و مختبرين عبادنا لننظر من يعتبر و من لا يعتبر، أو مبتلين قوم نوح ببلاء عظيم و عقاب شديد، أو كنّا معاقبين من سلك سبيلهم في تكذيب الرّسل.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ (30)عن أمير المؤمنين عليه السّلام «أنّ اللّه تعالى قد أعاذكم من أن يجور عليكم، و لم يعذكم من أن يبتليكم، و قد قال جلّ من قائل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ» (7).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 31 الی 34

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (32) وَ قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ (33) وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34)

ص: 378


1- . تفسير الرازي 23:95.
2- . هود:11/41.
3- . الزخرف:43/13.
4- . تفسير الرازي 23:95.
5- . من لا يحضره الفقيه 2:195/887، تفسير الصافي 3:399.
6- . في النسخة: قضية.
7- . نهج البلاغة:150 الخطبة 103، تفسير الصافي 3:399.

ثمّ ذكر سبحانه قصّة هود و قومه ازديادا للعبرة بقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا و خلقنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ و هم قوم عاد، كما عن ابن عباس و جماعة (1)، لأنّهم بعد قوم نوح. و قيل: هم ثمود لأنّهم الذين هلكوا بالصّيحة (2)

فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً كان مِنْهُمْ نسبا، فدعاهم إلى التّوحيد أوّلا بقوله: أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده لأنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ و مستحقّ للعبادة سواه أَ فَلا تَتَّقُونَ ربّكم و لا تخافون عذابه على الشّرك.

وَ قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ و الكبراء و الأشراف من قبيلته اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّه و دار اَلْآخِرَةِ و البعث للجزاء وَ أَتْرَفْناهُمْ و أكثرنا عليهم نعمنا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعمارهم فيها إلقاء للشّبهة في قلوب أتباعهم و إضلالهم: ما هذا الرّجل المدّعي للرّسالة إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الأخلاق و الأفعال و الحاجة إلى الغذاء و الشّراب لما ترون أنّه يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ من الأطعمة وَ يَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ منه من الأشربة، فلا فضيلة له عليكم يستحقّ بها الرّسالة دونكم

وَ و اللّه لَئِنْ أَطَعْتُمْ و اتّبعتم بَشَراً فيما يقول مع كونه مِثْلَكُمْ في الفضل إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ و متضرّرون باتّباعه لإذلالكم أنفسكم له بلا نفع عائد إليكم.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 35 الی 41

ثمّ بالغوا في تنفير النّاس عن اتّباعه بتسفيهه و تهجين قوله بالبعث بقولهم: أَ يَعِدُكُمْ يا قوم أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ و اقبرتم وَ كُنْتُمْ في قبوركم بعد مدّة طويلة تُراباً وَ قبل ذلك عِظاماً نخرة مجرّدة عن اللّحم و العصب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من قبوركم أحياء كما كنتم

هَيْهاتَ هَيْهاتَ و بعد بعد في العقل و العادة لِما تُوعَدُونَ من الإحياء ثانيا بتلك الأبدان الأولية، لا يكون ذلك أبدا.

أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (41)قيل: لمّا استبعدوا بكلمة هَيْهاتَ كأنّه قيل: لما استبعادكم؟ قيل: لما توعدون (3).

ص: 379


1- . تفسير الرازي 23:97، تفسير روح البيان 6:81.
2- . تفسير الرازي 23:97.
3- . تفسير البيضاوي 2:104، تفسير أبي السعود 6:134، تفسير روح البيان 6:82.

ثمّ بالغوا في إنكار المعاد بقولهم: إِنْ الحياة و ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا يعني نَمُوتُ فيها و نفنى، و لا حياة بعدها و تولد وَ نَحْيا و نعيش فيها مدّة معيّنة وَ ما نَحْنُ بعد هذه الحياة و الموت بِمَبْعُوثِينَ و منشرين من القبور،

كما يزعم هذا الرّجل إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ اِفْتَرى و اخترع عَلَى اَللّهِ كَذِباً صريحا في ما يدّعيه من إرساله إلينا و بعثكم بعد الموت وَ ما نَحْنُ لَهُ في ما يقول بِمُؤْمِنِينَ و مصدّقين،

فلمّا يئس هود أو صالح من إيمانهم قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي على قومي بِما كَذَّبُونِ و نسبوني إلى الفرية

قالَ تعالى إجابة لدعائه: إعلم أنّ قومك عَمّا قَلِيلٍ من الزّمان و في أسرع الوقت، و اللّه لَيُصْبِحُنَّ و ليصيرنّ نادِمِينَ على كفرهم و تكذيبهم بمعاينة العذاب

فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ التي صاح بها جبرئيل من السّماء، على ما قيل (1)بِالْحَقِّ و العدل، أو بغير دافع، فتصدّعت بها قلوبهم.

و عن ابن عباس: الصّيحة هي الرّجفة، و قيل: هي نفس العذاب و الموت، كما يقال في من يموت: إنّه دعي فأجاب (2) . و قيل: هي العذاب المصطلم (2).

فَجَعَلْناهُمْ و صيّرناهم بتلك الصّيحة غُثاءً و مثل حميل سيل من الزّبد و الحشائش البالية المسودّة في تبدّد الأجزاء و بلاها.

عن الباقر عليه السّلام «ألغثاء: اليابس الهامد من نبات الأرض» (3). و قيل: إنّه كناية عن هلاكهم؛ لأنّ العرب تقول لمن هلك: سال به الوادي (4). فَبُعْداً من الخيرات، و لعنا دائما، أو سحقا و هلاكا لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 42 الی 48

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ (48)

ص: 380


1- . تفسير الرازي 23:99، تفسير الصافي 3:400.
2- . تفسير الرازي 23:99.
3- . تفسير القمي 2:91، تفسير الصافي 3:400.
4- . تفسير البيضاوي 2:104، تفسير روح البيان 6:83.

ثمّ أشار سبحانه إلى قصص الامم الكثيرة الاخر بقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً و أقواما آخَرِينَ كقوم لوط و شعيب و غيرهم، و لقد كان لكلّ قرن و امّة أجل مقدّر مكتوب لموتهم و هلاكهم و

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ عنه.

قيل: يعني لا يتقدّمون الوقت المؤقّت لعذابهم إن لم يؤمنوا، و لا يتأخّرون عنه، و ذلك الوقت وقت علم اللّه أنّهم لا يزدادون إلاّ كفرا و عنادا، و لا يلدون إلاّ فاجرا كذّابا، و لا نفع لأحد في بقائهم، و لا ضرر على أحد في هلاكهم (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما أنشأ الامم الكثيرة بعضهم بعد بعض، أرسل إليهم الرّسل واحدا بعد واحد بقوله: ثُمَّ أَرْسَلْنا إليهم رُسُلَنا حال كونهم تَتْرا و متعاقبة على نحو تعاقب الامم، فكان لكلّ قرن و أمّة رسول، و لكن كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ و عارضوه فَأَتْبَعْنا القرون بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك وَ جَعَلْناهُمْ بعد إهلاكهم و إذهاب أعيانهم و آثارهم من وجه الأرض أَحادِيثَ و حكايات لمن بعدهم يتحدّثون بها في أنديتهم، و يحكون قضاياهم، و يتعجبون منها، و يعتبرون بها. و قيل: إنّه جمع أحدوثة، و هي ما يتحدّث به تلهيّا أو تعجّبا (2).

ثمّ ذمّهم سبحانه و وبّخهم بقوله: فَبُعْداً أبديّا و هلاكا دائميّا، أو المراد يكون انقطاعا أبديّا من الرّحمة لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بآيات اللّه و رسله.

ثُمَّ أَرْسَلْنا بعد انقراض تلك الامم و إهلاكهم مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا التّسع وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة واضحة على رسالتهما و صحّة دعواهما من البراهين العقليّة، أو أعظم معجزاته و هي العصا، أو المراد منه قوّة دلالة معجزاتهما على مدّعاهما

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ و أشراف قومه فَاسْتَكْبَرُوا و تعظّموا من قبول قولهما، و تأنّفوا عن الإيمان بهما و الاعتراف بمعجزاتهما وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ و مجاوزين عن الحدّ في الكبر و التّمرّد و الطّغيان

فَقالُوا فيما بينهم تكبّرا أو نصحا: لا ينبغي منّا الإيمان بهما أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا و نتّبعهما، و الحال أنّ بني إسرائيل الذين هم يكونون أقرباؤهما وَ قَوْمُهُما جميعا لَنا عابِدُونَ و كالمماليك لنا خادمون. قيل: إنّ فرعون كان يعبد الصّنم،

و بنو إسرائيل كانوا يعبدونه (3)فَكَذَّبُوهُما مصرّين على معارضتهما حتى يئسا من إيمانهم فَكانُوا بسبب تكذيبهما محكومين بكونهم مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ بالغرق في البحر.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 49 الی 50

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَ جَعَلْنَا اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (50)

ص: 381


1- . تفسير الرازي 23:100.
2- . تفسير الرازي 23:100، تفسير روح البيان 6:84.
3- . تفسير روح البيان 6:86.

ثمّ أنّه تعالى بعد إخباره بسخطه على مكذّبي موسى، أخبر بلطفه به و بالمؤمنين به بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى في الطّور لطفا به و بامّته اَلْكِتابَ المعهود المسمّى بالتّوراة بعد إهلاك فرعون و قومه و إنجاء بني إسرائيل لَعَلَّهُمْ بذلك الكتاب و بما فيه من العلوم و الشّرائع يَهْتَدُونَ إلى كلّ حقّ و خير.

ثمّ ذكر سبحانه ألطافه بعيسى و مريم رغما لليهود بقوله: وَ جَعَلْنَا عيسى اِبْنَ مَرْيَمَ بسبب ولادته بنفخ روح القدس و تكلّمه في المهد و إجراء المعجزات العظيمة على يده وَ أُمَّهُ مريم بسبب تكلّمها في الصّغر كابنها، على ما قيل (1). و عدم ارتضاعها من ثدي قطّ، و احتبالها بغير فحل آيَةً عظيمة على كمال قدرتنا. و قيل: يعني جعلناهما عبرة لبني إسرائيل بعد موسى (2)وَ آوَيْناهُما و أسكنّاهما بعد فرارهما من اليهود إِلى رَبْوَةٍ و مكان مرتفع من الأرض. قيل: هو إيليا من أرض بيت المقدس، فإنّها مرتفعة (3). و قيل: إنّها كبد الأرض (4). و قيل: هو قرية ناصرة (5)كانت ذاتِ قَرارٍ و انبساط تسهل السّكونة فيها، أو ذات ثمار و زروع وَ ذات مَعِينٍ و ماء جار.

عن الصادق عليه السّلام: «الرّبوة: نجف الكوفة، و المعين الفرات» (6). قيل: إنّ مريم و عيسى و يوسف بن ماثان ابن عمّها، أقاموا بها اثنتي عشرة سنة، و كانت تفتل الحبل و عيسى عليه السّلام يبيعه و يأكل من ثمنه (7).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صلّى الصّبح بمكّة فقرأ سورة المؤمنين، فلمّا أتى على ذكر عيسى و أمّه أخذته شرقة فركع (8). قيل: الشّرقة: شدّة البكاء.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 51 الی 54

ثمّ أخبر اللّه تعالى بتكاليف الأنبياء تهييجا للعباد على العمل بها بقوله: يا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ المأكولات اَلطَّيِّباتِ و الأغذية المستلذّات المحلّلات وَ اِعْمَلُوا للّه كلّما كان صالِحاً فإنّه المقصود منكم و النّافع لكم إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظّاهرة و الباطنة عَلِيمٌ فاجازيكم

يا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ اِعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّى حِينٍ (54)

ص: 382


1- . تفسير الرازي 23:102.
2- . تفسير روح البيان 6:86.
3- . تفسير روح البيان 6:86.
4- . تفسير روح البيان 6:86.
5- . تفسير روح البيان 6:86.
6- . كامل الزيارات:47/5، التهذيب 6:38/79، تفسير الصافي 3:401.
7- . تفسير روح البيان 6:86.
8- . تفسير روح البيان 6:86.

عليه

وَ إِنَّ هذِهِ الملّة التي هي ملّة الإسلام و التّوحيد أُمَّتُكُمْ و ملّتكم حال كونها أُمَّةً و ملّة واحِدَةً و شريعة متّحدة في الاصول و إن اختلفت في الفروع.

و قيل: كلمة (هذه) إشارة إلى جماعة الامم المؤمنة بالرّسل، و المعنى: إنّ هذه الجماعة المتّفقة على الإيمان بالتّوحيد و الرّسل المتّحدة في عبادة اللّه امّتكم (1)وَ أَنَا وحدي رَبُّكُمْ لا شريك لي في الالوهيّة و الرّبوبيّة، إذا فَاتَّقُونِ أيّها الرّسل و الامم جميعا في اختلاف الكلمة في التّوحيد و الدّين

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ و دينهم بَيْنَهُمْ زُبُراً و قطعا، و قد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء (2)كُلُّ حِزْبٍ و فرقة من الفرق بِما لَدَيْهِمْ و اختاروه من الدّين فَرِحُونَ و معجبون، لاعتقادهم حقّانيّته

فَذَرْهُمْ و دعهم يا محمّد فِي غَمْرَتِهِمْ و جهالتهم الّتي أحاطت بهم كالماء الذي ارتمسوا فيه، و لا تشغل قلبك بهم و بتفرّقهم حَتّى حِينٍ موتهم على الكفر، أو قتلهم، أو نزول العذاب عليهم، و فيه وعيد لهم و تسلية للرّسول، و في تنكير حِينٍ و إبهام الوقت نهاية التّهويل.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 55 الی 56

ثمّ لمّا كان الكفّار يفتخرون على المؤمنين بكثرة المال و البنين، و يحسبون أنّ تنعّمهم بتلك النّعم لقربهم عند اللّه و التزامهم بدين الحقّ، أنكر سبحانه عليهم ذلك الحسبان بقوله: أَ يَحْسَبُونَ و يتوهّمون أَنَّما نُمِدُّهُمْ و نقوّيهم بِهِ مِنْ مالٍ عظيم وَ بَنِينَ كثيرة أنّا نُسارِعُ و نعجّل لَهُمْ بهذا الإمداد فِي اَلْخَيْراتِ و المثوبات و الأجر على تديّنهم بدين الحقّ و عملهم به؟ ! ليس الأمر كما يحسبون بَلْ هذا الحسبان لأنّهم لا يَشْعُرُونَ أنّ هذا الإمداد استدراج و استجرار بهم إلى الشّرّ و زيادة الإثم، لا مسارعة لهم إلى الخير.

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)روي أنّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيّ من الأنبياء: أيفرح عبدي أن أبسط له في الدّنيا و هو أبعد له منّي؟ ! أيجزع عبدي أن أقبض عنه الدّنيا و هو أقرب له منّي؟ ! ثمّ قال: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ إلى آخره (3).

و عن الصادق عليه السّلام عن أبيه، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: [إنّ اللّه تعالى]يقول: يحزن عبدي المؤمن إذا أقترت عليه شيئا من الدّنيا، و ذلك أقرب له منّي، و يفرح إذا بسطت له الدّنيا، و ذلك أبعد له منّي، ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال: إنّ ذلك فتنة لهم» (4).

ص: 383


1- . تفسير أبي السعود 6:138.
2- . في تفسير الآية 93.
3- . تفسير روح البيان 6:90.
4- . مجمع البيان 7:175، تفسير الصافي 3:403.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 57 الی 61

ثمّ وصف سبحانه الّذين يسارع لهم في الخيرات بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ و مهابته و خوف عذابه مُشْفِقُونَ و وجلون، أو مرتعدون. و قيل: إنّ المراد من الخشية نفس العذاب، و المعنى أنّ الّذين هم من عذاب ربّهم خائفون (1). و قيل: إنّ المراد من الإشقاق شدّة الخوف (2). و قيل: هو الدّوام في الطاعة (3).

إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ (61)

وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِ وحدانيّة رَبِّهِمْ الآفاقيّة و الأنفسيّة و المنزلة بتوسّط الأنبياء و شواهد كمال ذاته المقدّسة يُؤْمِنُونَ و يصدّقون بالقلب و اللّسان و الجوارح

وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ في الالوهيّة و الرّبوبيّة و العبادة لا يُشْرِكُونَ غيره شركا جليّا أو خفيّا، و لا يقصدون بأعمالهم غيره،

و لا يتوجّهون إلى سواه وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ و يعطون ما آتَوْا و أعطوا من الصّدقات و الكفّارات و غيرهما من حقوق اللّه، و من الأمانات و الدّيون و غيرهما من حقوق النّاس وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ و خائفة أو مرتعدة من تقصيرهم و إخلالهم في الأداء بتنقيص أو غيره، لكونهم معتقدين أَنَّهُمْ بعد الموت إِلى رَبِّهِمْ و مليكهم راجِعُونَ و عن تقصيراتهم مسؤولون، لعلمه تعالى بما يخفى عليهم من الخلل و يؤاخذهم عليه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «هي إشفاقهم و رجاؤهم؛ يخافون أن تردّ عليهم أعمالهم إن لم يطيعوا اللّه عزّ ذكره و يرجون أن تقبل منهم» (4).

و عنه عليه السّلام: «وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ معناه خائفة أن لا يقبل منهم» (5). و في رواية: «يؤتى ما أتى و هو خائف راج» (6).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية: «يعملون ما عملوا من عمل و هم يعلمون أنّهم يثابون عليه» (7).

و عنه عليه السّلام في رواية: ألا و من عرف حقّنا، و رجا الثّواب فينا، و رضي بقوته نصف مدّ في كلّ يوم، و ما ستر عورته، و ما أكنّ رأسه، و هم و اللّه في ذلك خائفون، ودّوا أنّه حظّهم من الدّنيا، و كذلك وصفهم اللّه تعالى فقال: وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا إلى آخره» .

ثمّ قال: «ما [الذي]آتوا؟ و اللّه الطاعة مع المحبّة و الولاية، و هم في ذلك خائفون، ليس خوفهم

ص: 384


1- . تفسير الرازي 23:106.
2- . تفسير الرازي 23:106.
3- . تفسير الرازي 23:106.
4- . الكافي 8:229/294، تفسير الصافي 3:402.
5- . مجمع البيان 7:176، تفسير الصافي 3:402.
6- . مجمع البيان 7:176، تفسير الصافي 3:402.
7- . المحاسن:247/252، تفسير الصافي 3:402.

خوف شكّ، و لكنّهم خافوا أن يكونوا مقصّرين في محبّتنا و طاعتنا» (1).

أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصفات الحميدة هم الذين بأعمالهم الصالحة يُسارِعُونَ إلى نيل المثوبات في الدّنيا و يتقلّبون فِي اَلْخَيْراتِ و المنافع الكثيرة في الدّارين كما قال تعالى: فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ (2)وَ هُمْ لَها سابِقُونَ حيث عجّلت لهم في الدّنيا، و نالوها قبل الآخرة، فأثبت اللّه للمؤمنين ما نفاه عن الكفّار.

و في إسناد المسارعة إليهم إشعار بغاية استحقاقهم، فكأنّ اللّه قرّب إليهم الخيرات حتى يسارعوا إليها و يخيّروها.

و قيل: إنّ المراد من الخيرات الطاعات المؤدّية إلى الثواب، و المعنى يجتهدون في الطّاعات بأشدّ الشّوق و الرّغبة، و هم لأجلها سابقون النّاس خوفا من أن يدركهم الموت و يبتلوا بحسرة الفوت (3).

عن الباقر عليه السّلام: «هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، لم يسبقه أحد» (4).

أقول: يعني هو عليه السّلام أظهر مصاديقه.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 62

ثمّ رغّب سبحانه المؤمنين المهتمّين بالطّاعة فيها، ببيان منّته عليهم بتسهيل تكاليفه و وعدهم بالثّواب بقوله: وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً من النّفوس تكليفا إِلاّ ما كان وُسْعَها و دون طاقتها بحيث لا تكون في امتثاله مشقّة عليها وَ لَدَيْنا كِتابٌ مكتوب فيه أعمال النّاس أو طاعات المسارعين و السّابقين يَنْطِقُ و يبيّن الأعمال للنّاظرين فيه كالنّطق بها حال كونه ملتبسا بِالْحَقِّ و الصّدق و مطابقة الواقع كمّا و كيفا وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بتنقيص الثّواب و ازدياد العقاب.

وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)عن السجّاد عليه السّلام أنّه كان إذا دخل شهر رمضان يكتب على غلمانه ذنوبهم حتى إذا كان آخر ليلة منه دعاهم، ثمّ أظهر لهم الكتاب و قال: «يا فلان فعلت كذا و كذا و لم اؤدّبك» فيقرّون أجمع، فيقوم وسطهم و يقول: «ارفعوا أصواتكم و قولوا: يا عليّ بن الحسين، ربّك قد أحصى عليك ما عملت كما أحصيت علينا، ولديه كتاب ينطق بالحقّ لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها، فاذكر ذلّ مقامك بين يدي ربّك الذي لا يظلم مثقال ذرّة و كفى باللّه شهيدا، فاعف و اصفح يعف عنك المليك لقوله تعالى: وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَكُمْ (5)» و يبكي و ينوح (6).

ص: 385


1- . الكافي 2:330/15، تفسير الصافي 3:402.
2- . آل عمران:3/148.
3- . تفسير أبي السعود 6:140.
4- . تفسير القمي 2:92، تفسير الصافي 3:403.
5- . النور:24/22.
6- . مناقب ابن شهر آشوب 4:158، تفسير الصافي 3:403.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 63 الی 67

ثمّ ذمّ سبحانه الكفّار على غفلتهم من ذلك الكتاب بقوله: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ و غفلة ساترة لها مِنْ هذا الكتاب الذي فيه جميع أعمالهم، و قراءته عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فيجازون عليها، أو من هذا القرآن، أو من هذا الذي بيّناه فيه وَ لَهُمْ أَعْمالٌ سيّئة أخر كمعاداة الرّسول، و الطّعن فيه و في كتابه مِنْ دُونِ ما ذكر من الشّرك و الغفلة عن الآخرة، و سوى ذلِكَ هُمْ بخبث ذاتهم و رذالة أخلاقهم لَها عامِلُونَ و عليها مستمرّون

حَتّى إِذا أَخَذْنا و ابتلينا مُتْرَفِيهِمْ و متنعّميهم بِالْعَذابِ الدنيويّ و الاخروي إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ و يستغيثون، أو بأعلى صوتهم يضجّون،

فيقال لهم تقريعا و تبكيتا: لا تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ و لا تستغيثوا في هذا الوقت الّذي هو وقت إعطاء ما تستحقّون من الجزاء إِنَّكُمْ مِنّا لا تُنْصَرُونَ و لا تعاونون على ما دهمكم من العذاب،

و لا تنجون منه لأنّه قَدْ كانَتْ آياتِي القرآنيّة تُتْلى و تقرأ عَلَيْكُمْ في الدّنيا فَكُنْتُمْ عند سماعها عَلى أَعْقابِكُمْ من شدّة النّفرة و الإعراض عنها تَنْكِصُونَ و ترجعون القهقرى،

و الحال أنّكم (1)مُسْتَكْبِرِينَ بالتّباعد من القرآن و مكذّبين بِهِ.

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)و قيل: إنّ الضّمير راجع إلى الحرم، لكونهم مفتخرين به، و كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، و شهرتهم به كافية عن ذكره (2).

و قيل: إنّ بِهِ متعلّق بقوله: سامِراً و المعنى حال كونكم بذكر القرآن و بالطّعن فيه (3)كنتم سامِراً و متكلّما باللّيل. كما قيل: إنّهم كانوا يجتمعون باللّيل حول البيت و يسمرون و يتحدّثون بذكر القرآن و الطّعن فيه (4)، و تَهْجُرُونَ و تفحشون و تهزؤون بنسبته إلى الشّعر و السّحر و بسبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و القدح فيه.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 68 الی 70

أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)

ص: 386


1- . كذا، و لا تناسب النصب في الآية، و لعلها تصحيف (كونكم) .
2- . تفسير الرازي 23:111.
3- . تفسير الرازي 23:111، تفسير أبي السعود 6:143.
4- . تفسير الرازي 23:111، تفسير أبي السعود 6:143، تفسير روح البيان 6:93.

ثمّ وبّخهم سبحانه على عدم الإيمان بالقرآن بقوله: أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا هذا اَلْقَوْلَ و الكلام النّازل من اللّه، و لم يتفكّروا في وجوه إعجازه، و بداعة اسلوبه، و لطافة معانيه أَمْ جاءَهُمْ قيل: إنّ المعنى بل أجاءهم (1)ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ من الكتب السّماويّة حتى يستبعدوا إتيانه من السّماء و ينكروه، مع أنّ إنزال الكتب و إرسال الرّسل سنّة قديمة من اللّه تعالى بحيث لا يمكن إنكارها؟ فليس لإنكارهم كون القرآن كسائر الكتب نازلا من اللّه وجه.

ثمّ أنكر عليهم عدم إيمانهم بالرّسول بقوله: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ بالصّدق و الأمانة و حسن الأخلاق و كمال العلم مع اميّته و غيرها من كمالات الأنبياء فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ و لنبوّته جاحدون أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ و اختلال عقل، و لذا لا يعتنى بقوله؟ ليس الأمر كما يقولون بَلْ هو أعقل النّاس و جاءَهُمْ بِالْحَقِّ و الدّين الثّابت الّذي لا ينبغي الانحراف عنه وَ لكنّ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لمخالفته أهواءهم الزائغة و شهواتهم الباطلة، فلذا تمسّكوا بالتّقليد، و زاغوا عن نهج الحقّ و الدّين القويم، و أمّا الأقلّون منهم فإنّهم أعرضوا عن الحقّ لاستنكافهم من توبيخ قومهم، أو لعدم تفكّرهم فيه، أو لقصور العقل، لا للكراهة له.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 71 الی 74

ثمّ لمّا كان هوى المشركين في كون الشّرك و دينهم الباطل حقّا، ردّهم اللّه بقوله: وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ و الدّين أَهْواءَهُمْ و مشتهيات أنفسهم، و نزل القرآن موافقا لميل قلوبهم في الشّرك و تعدّد الآلهة لَفَسَدَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ من الملائكة و الثّقلين، لما سبق في سورة الأنبياء من دليل التّمانع، أو المراد لو اتّبع أحكام الإسلام أهواءهم مع تخالفها، لوقع التّناقض فيها، و لاختلّ نظام العالم.

وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)عن القمّي: الحقّ: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام. . . و فساد السماء: إذا لم تمطر، و فساد الأرض

ص: 387


1- . تفسير أبي السعود 6:143، تفسير روح البيان 6:94.

إذا لم تنبت، و فساد الناس في ذلك (1).

بَلْ أَتَيْناهُمْ و أنعمنا عليهم بِذِكْرِهِمْ و القرآن الذي فيه شرفهم و فخرهم وصيتهم، أو وعظهم و نصحهم، و ما فيه صلاحهم. و قيل: هو الذكر الذي كانوا يتمنّونه بقولهم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ* لَكُنّا عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (2).

فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ لغاية حمقهم مُعْرِضُونَ و به لا يعتنون، مع أنّ العاقل مشتاق إلى ما فيه خيره و شرفه

أَمْ يتوهّمون أنّك تَسْأَلُهُمْ و تطلب منهم خَرْجاً و أجرا على أداء الرسالة، فيمنعهم البخل بالمال، أو اتّهامك بكون دعواك الرسالة لجلب المال و حبّ الدنيا لا لإطاعة اللّه فَخَراجُ رَبِّكَ و رزقه الذي أوجبه لك على نفسه في الدنيا، و ثوابه الذي أعدّه لك في الآخرة خَيْرٌ من جميع ما بأيديهم من الأموال، بل من جميع الدّنيا لسعة عطائه و دوامه وَ هُوَ تعالى خَيْرُ اَلرّازِقِينَ و المعطين لعدم قدرة أحد على مثل عطائه،

فلا وجه لاعراضهم عنك و عدم إيمانهم بك وَ إِنَّكَ و اللّه لَتَدْعُوهُمْ و تهديهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى كلّ خير، و تأويله-كما عن القمّي-إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام (3).

وَ إِنَّ المشركين اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و لا يخافون عقاب اللّه في القيامة، لانهماكهم في الشهوات و حبّ الدنيا عَنِ هذا اَلصِّراطِ المستقيم لَناكِبُونَ و لعادلون؛ لأنّ خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحقّ.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه، و لكن جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و الوجه الذي يوتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا، فإنّهم عن الصراط لناكبون» (4).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ ذمّهم اللّه بغاية اللّجاج و التمرّد بقوله: وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ كالجوع و المرض و القتل و السبي لَلَجُّوا و تمادوا فِي طُغْيانِهِمْ و إفراطهم في الكفر و الشّقاق و عداوة

وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اِسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)

ص: 388


1- . تفسير القمي 2:92، تفسير الصافي 3:405.
2- . تفسير الرازي 23:112، و الآية من سورة الصافات:37/169.
3- . تفسير القمي 2:92، تفسير الصافي 3:405.
4- . الكافي 1:141/9، تفسير الصافي 3:406.

الرسول حال كونهم يَعْمَهُونَ عن الهدى، و يتردّدون في شعب الضّلال،

لا يدرون الى أين يتوجّهون وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ و شدّة الجوع فَمَا اِسْتَكانُوا و ما تذلّلوا لِرَبِّهِمْ اللّطيف بهم وَ ما يَتَضَرَّعُونَ له أبدا.

روي أنه لمّا أسلم ثمامة بن اثال الحنفي، و لحق باليمامة، و منع الميرة عن أهل مكّة، و أخذهم اللّه بالسنين حتى أكلوا العلهز (1)-قيل: هو شيء يتخّذونه من الدم و الوبر (2)-و قيل: حتى أكلوا الجيف (3)، جاء أبو سفيان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة، فقال: أنشدك بالرّحم، أ لست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال: «بلى» . فقال: قتلت الآباء بالسيف، و الأبناء بالجوع، فادع أن يكشف عنّا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم، فأنزل اللّه هاتين الآيتين (4).

و قيل: إنّ المراد بالعذاب القتل و الأسر يوم بدر (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «الاستكانة: هي الخضوع، و التضرّع: رفع اليدين و التضرّع بهما» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «الاستكانة: الدعاء، و التضرّع: رفع اليدين في الصلاة» (7).

و حاصل المراد: أنّهم أقاموا على الكفر و الاستكبار حَتّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ في الآخرة إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ و آيسون من النجاة و من كلّ خير.

قيل: هو باب من أبواب جهنّم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة (8)أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه اللّه عليهم (9).

و عن الصادق عليه السّلام: «ذلك حين دعا النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: اللهمّ اجعل عليهم سنين كسنيّ يوسف، فجاعوا» (10).

و عن الباقر عليه السّلام: «هو في الرجعة» (11).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 78 الی 80

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اِخْتِلافُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (80)

ص: 389


1- . تفسير أبي السعود 6:146، تفسير روح البيان 6:97.
2- . تفسير روح البيان 6:97.
3- . تفسير الرازي 23:113.
4- . تفسير الرازي 23:113، تفسير روح البيان 6:97.
5- . تفسير روح البيان 6:98.
6- . الكافي 2:349/6، تفسير الصافي 3:406.
7- . مجمع البيان 7:181، تفسير الصافي 3:406.
8- . كلح: تكشّر في عبوس، و قيل: الكلوح في الأصل بدوّ الأسنان عند العبوس.
9- . تفسير روح البيان 6:98. (10 و 11) . مجمع البيان 7:181، تفسير الصافي 3:406.

ثمّ ذكر سبحانه كمال قدرته و إنعامه عليهم بقوله: وَ هُوَ القادر و اَلَّذِي أَنْشَأَ، و خلق لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لتستعملوها في تحصيل معرفته، و لكن قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ نعمه العظام، بل تكفرونها باستعمالها في غير ما خلقت له.

ثمّ أردف ذكر هذه النّعم بذكر ما هو أعظم منها بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ و خلقكم أو بثّكم فِي اَلْأَرْضِ بالتناسل وَ إِلَيْهِ تعالى تُحْشَرُونَ و تجمعون بعد التفرّق،

و تعذّبون على كفران نعمه وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي الموتى وَ يُمِيتُ الأحياء بمقتضى فياضيّته و رحمته و حكمته وَ لَهُ اِخْتِلافُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ بالتعاقب و الزيادة و النقص أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيّها المشركون تلك الآيات الواضحة الدلالة على التوحيد و القدرة على إعادة الخلق للحساب.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 81 الی 83

ثمّ لمّا ذكر سبحانه الحشر، حكى من المشركين إنكاره بالتقليد و تبعية الآباء مع دلالة البراهين القاطعة عليه بقوله: بَلْ أعرضوا عن البراهين و قالُوا مِثْلَ ما قالَ اَلْأَوَّلُونَ و الكفار السابقون تقليدا لهم.

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ اَلْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (83)

ثمّ كأنّه قيل: ما قال المشركون؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالُوا انكارا للحشر أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا في القبور تُراباً وَ عِظاماً نخرة أَ إِنّا لمحيون ثانيا و لَمَبْعُوثُونَ و مخرجون من القبور؟ !

حاشا لا يكون ذلك أبدا بالإله الذي نعبده لَقَدْ وُعِدْنا تخويفا نَحْنُ وَ آباؤُنا الأقدمون هذا البعث البعيد في نظر العقل مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السابقة على مجيىء محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ بالغوا [في]إنكاره بقولهم: إِنْ هذا الوعد و ما ذلك الحديث إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و أكاذيب السابقين التي لفّقوها و سطّروها في الدفاتر لتقرأ و يضحك منها.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 84 الی 90

ص: 390

ثمّ لمّا كان هذا الانكار لقصور عقوله عن إدراك كمال قدرة اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإلزامهم عليه، باعتراف بقدرته تعالى على ما هو أعظم من الإعادة بقوله: قُلْ يا محمد إلزاما لهم: يا أيها المشركون لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها من الموجودات و عجائب المخلوقات إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مبدعهما، أو تدركون شيئا؟

أجيبوني بعلم سَيَقُولُونَ و يعترفون البتة بأن كّلها لِلّهِ وحده خلقا و تصرّفا و تدبيرا. لاضطرارهم إلى الاعتراف بما هو بديهي العقل، فاذا اعترفوا بذلك قُلْ حثّا لهم على التفكّر و التدبّر أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و تنتبهون أنّ من كان قادرا على إبداع تلك الموجودات العظيمة العجيبة، [فهو]

قادر على إعادتكم للحساب بطريق أولى، لأنّ الإعادة أهون من الابداع أوّلا بلا مثال سابق.

قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّماواتِ اَلسَّبْعِ وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ فَأَنّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتّرقي في إلزامهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: قولوا لي مَنْ رَبُّ اَلسَّماواتِ اَلسَّبْعِ التي هي أعظم من جميع الموجودات وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ كلّها لِلّهِ وحده خلقا و ترتيبا قُلْ: بعد اعترافهم بما هو ضروري العقل توبيخا لهم: أَ فَلا تَتَّقُونَ عذابه على الشّرك بتركه، و على إنكار البعث بالاقرار به؟ و إنّما قدّم التذكّر على التقوى لكون التذكّر موجبا للمعرفة التي هي باعثة على الاتّقاء

قُلْ لهم: مَنْ بِيَدِهِ و في قدرته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ و وجوده، أو سلطانه و التصرّف و التدبير فيه وَ هُوَ يُجِيرُ و يغيث كلّ مستغيث وَ لا يُجارُ و لا يغاث عَلَيْهِ من أحد لعدم احتياجه و اضطراره؟ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك،

فأخبروني سَيَقُولُونَ لِلّهِ الملك و الملكوت و الجوار قُلْ فَأَنّى تُسْحَرُونَ و من أين تخدعون، و عن الرشد تصرفون؟

مع علمكم بأنّ ما أنتم عليه من الشرك و إنكار البعث عين الضّلال بَلْ لم يبق لهم عذر إذ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ و أنزلنا عليهم دين الاسلام الذي حقيقته معرفة المبدأ و المعاد، و بالغنا في الحجاج وَ إِنَّهُمْ مع ذلك لَكاذِبُونَ في قولهم بالشّرك و إنكار البعث و مصرّون عليها.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 91 الی 92

ثمّ بالغ سبحانه في إبطال الشّرك بأقسامه بقوله: مَا اِتَّخَذَ اَللّهُ و ما أختار لنفسه مِنْ وَلَدٍ كما يقول به اليهود و النصارى و بعض فرق المشركين لوجوب المماثلة و المجانسة بين الزّوج و الزّوجة

ص: 391

و الوالد و الولد، و امتناعهما بينه تعالى و بين ما سواه وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ لأنّه إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ و انفرد كلّ خالق بِما خَلَقَ و استبدّ به و امتاز ملك كلّ عن ملك الآخر، كما هو دأب الملوك وَ لَعَلا و غلب بَعْضُهُمْ في الملك عَلى بَعْضٍ آخر كما هو العادة الجارية بين الملوك، فلم يكن بيد أحد منهم ملكوت كلّ شيء، فوحدة الملك و اتّساق النّظام أقوى دليل على وحدة الإله.

مَا اِتَّخَذَ اَللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اَللّهِ عَمّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (92)ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الندّ و الولد بقوله: سُبْحانَ اَللّهِ و تنزّه عَمّا يَصِفُونَ ربّهم من كونه ذا ولد و شريك.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بسعة علمه بقوله: عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ و السرّ و العلانية التي تكون لجميع الموجودات بالاحاطة و القيمومية، و لو لم يكن جميعها مخلوقاته لم يكن له العلم بجميعها و ليس لغيره ذلك، فكيف يمكن أن يكون له شريك مساو له في الالوهية فَتَعالى شأنه، و تقدّس عَمّا يُشْرِكُونَ به ممّا لا علم له بشيء.

قيل: في ذكر الوصفين إشعار بوعيد المشركين (1).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 93 الی 94

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاستعاذة ممّا وعدهم من العذاب بقوله: قُلْ يا محمّد، متضرّعا إلي: يا رَبِّ إِمّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ قيل: يعني يا ربّ إن كان و لا بدّ أن تريني ما وعدت المشركين من العذاب المستأصل في الدنيا (2)

رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي و لا تبقني فِي اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ و أخرجني من بينهم لئلاّ يصيبني ما يصيبهم من العذاب.

قُلْ رَبِّ إِمّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (94)و فيه بيان لغاية فضاعة ما وعدوه، بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد أن يحيق به، و ردّ لإنكارهم إيّاه و استعجالهم له بطريق الاستهزاء.

قيل: هضما لنفسه، أو إنّما أمر صلّى اللّه عليه و آله بهذا القول؛ لأنّ شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم، كما قال تعالى: وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (3).

روي أنه لمّا أخبر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن له في أمّته نقمة و لم يطلعه على وقتها، أمره بهذا الدعاء (4).

في (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنه قال في حجّة الوداع و هو بمنى: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب

ص: 392


1- . تفسير الرازي 23:117.
2- . تفسير الرازي 23:117، تفسير روح البيان 6:103.
3- . تفسير أبي السعود 6:149، و الآية من سورة الأنفال:8/25.
4- . تفسير أبي السعود 6:149.

بعضكم رقاب بعض، و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفني في كتيبة يضاربونكم» قال الراوي: فغمز من خلف منكبه الأيسر، فالتفت فقال: «أو عليّ» فنزلت (1).

و عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد خطبنا يوم الفتح: «أيها الناس، لأعرفنّكم (2)ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض، و لئن فعلتم ذلك أضربكم بالسيف» ثمّ التفت عن يمينه فقال الناس: غمزه جبرئيل، فقال له: أو عليّ فقال: «أو عليّ» (3).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام قال: «فنزل عليه جبرئيل فقال: يا محمّد، [قل]إن شاء اللّه، أو يكون ذلك علي بن أبي طالب (4). فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أو يكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء اللّه. فقال له جبرئيل: واحدة لك، و اثنتان لعليّ، و موعدكم السّلام» (5).

فقال أبان بن تغلب راوي الحديث: جعلت فداك، و أين السّلام؟ فقال: «يا أبان، السّلام من ظهر الكوفة» (6).

أقول: الظاهر أنّه يكون في الرّجعة، كما قال به الفيض رحمه اللّه (7).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 95 الی 98

ثمّ لمّا كان المشركون يستهزئون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوعده بالعذاب، أعلن سبحانه بقدرته على إنزاله بقوله: وَ إِنّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ في حياتك ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ البتة، و لكن المحكمة البالغة اقتضت تأخيره.

وَ إِنّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اَلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ اَلشَّياطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالحلم و الصّفح بقوله: اِدْفَعْ يا محمّد بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طرق الدفاع-و هي خصلة الصّفح و الحلم-أعمالهم اَلسَّيِّئَةَ من التكذيب و الاستهزاء و الإيذاء (8).

عن الصادق عليه السّلام: «التي هي أحسن: التقيّة» (9)

أقول: يعني أنّها منها.

ص: 393


1- . مجمع البيان 7:186، تفسير الصافي 3:408.
2- . في النسخة: لاعرفتكم.
3- . مختصر البصائر:21، تفسير الصافي 3:408.
4- . زاد في مختصر البصائر: إن شاء اللّه.
5- . في مختصر البصائر: السلم، و كذا الذي بعدها.
6- . مختصر البصائر:19، تفسير الصافي 3:409.
7- . تفسير الصافي 3:409.
8- . في النسخة: و الإبداء.
9- . المحاسن:257/297، تفسير الصافي 3:409.

ثمّ سلّى سبحانه قلبه الشريف بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ جنابك به من الجنون و الشّعر و الكهانة فنجازيهم أسوأ الجزاء.

ثمّ لمّا كان الطيش و قلّة الصبر من الشيطان، أمره بالاستعاذة منه بقوله: وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ اَلشَّياطِينِ و وساوسهم المغوية على خلاف رضاك

وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ من أَنْ يَحْضُرُونِ عندي و يحومون حولي في حال الغضب و الرضا و الشدّة و الرّجاء و غيرهما.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه كان عند استفتاح الصلاة يقول: «لا إله إلاّ اللّه» ثلاثا، «و اللّه أكبر» ثلاثا، و «اللهمّ إني أعوذ بك من همزات الشياطين و لمّها (1)و نفثها و نفخها، و أعوذ بك ربّ أن يحضرون» (2).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 99 الی 100

ثمّ هدّد المشركين على استمرارهم في وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بما ليس فيه بقوله: حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ و عاين أحوال البرزخ قالَ تحسّرا على ما فرّط فيه من الايمان و العمل الصالح: يا رَبِّ اِرْجِعُونِ إلى الدنيا لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ و في زمان قصّرت في الايمان و العمل من أيام عمري في الدنيا.

حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)قيل: إن خطاب اللّه بلفظ الجمع للتعظيم (3).

و قيل: إنّ ذكر الربّ قسم (4)، و خطاب اِرْجِعُونِ للملائكة، و الظاهر أنّ المراد من (أحدهم) الكفّار. و قيل: إنّه يعمّ المؤمنين المقصّرين (3).

عن الضحاك قال: كنت جالسا عند ابن عباس، فقال: من لم يزكّ و لم يحجّ سأل الرجعة عند الموت، [فقال ابن عباس رضى اللّه عنه: أنا أقرأ عليك به قرآنا]فيقول: رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ اَلصّالِحِينَ (4).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا حضر الانسان الموت جمع كلّ شيء كان يمنعه من حقّه بين يديه، فعنده يقول: رَبِّ اِرْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» (5).

ص: 394


1- . في تفسير روح البيان: الشياطين من همزها. و في تفسير الرازي: الشياطين همزه و نفثه و نفخه.
2- . تفسير الرازي 23:119، تفسير روح البيان 6:104. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:120، تفسير روح البيان 6:105.
3- . تفسير روح البيان 6:106.
4- . المنافقون:63/10.
5- . تفسير الرازي 23:119.

قيل: إن الاستغاثة (1)بهذا البيان حسنة و لو مع العلم بامتناع الرجوع؛ لأنه من باب التمنّي (2).

ثمّ ردعهم اللّه من هذا القول بقوله: كَلاّ لا رجوع لك إلى الدنيا أبدا، ثمّ أقنطهم بعد كلمة اِرْجِعُونِ بقوله: إِنَّها كَلِمَةٌ و لفظة صرفة لا يعمل بها، و إنّما هُوَ عند الموت قائِلُها تحسّرا و تندّما وَ مِنْ وَرائِهِمْ و خلفهم أو أمامهم بَرْزَخٌ و حاجز بينهم و بين الرجوع و هو الموت، أو عالم يعذّبون فيه إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 101

ثمّ بيّن سبحانه كيفية ذلك اليوم بقوله: فَإِذا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ النفخة الثانية التي يحيا بها الأموات فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ تفيدهم يَوْمَئِذٍ و تنجيهم من أهواله، و زال التراحم و التعاطف من قلوبهم وَ لا يَتَساءَلُونَ فيما بينهم عنها، و لا يقول أحد لأحد: أنت ابن من، و أبو من، و من أيّ قبيلة و عشيرة؟ بل يفرّ المرء من فرط الدهشة و الوحشة من أخيه و صاحبته و بنيه.

فَإِذا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101)روي أنّ عائشة قالت: يا رسول اللّه، أما نتعارف يوم القيامة؟ إنّي أسمع اللّه يقول: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاثة مواطن تذهل فيها كلّ نفس: حين يرمى إلى كلّ إنسان كتابه، و عند الموازين، و على جسر جهنّم» (3).

في (روح البيان) عن الأصمعي، أنه قال: كنت أطوف بالكعبة في ليلة مقمرة، فسمعت صوتا حزينا فتبعته، فاذا أنا بشابّ حسن ظريف متعلّق بأستار الكعبة، و هو يقول: «نامت العيون، و غارت النجوم، و أنت الملك الحيّ القيوم، قد غلّقت الملوك أبوابها، و أقامت عليها حرّاسها (4)و حجّابها، و بابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك، مذنبا فقيرا مسكينا أسيرا، جئتك (5)انتظر رحمتك يا أرحم الراحمين» . ثمّ أنشأ يقول:

يا من يجيب دعا المضطرّ في الظّلم *** يا كاشف الضّرّ و البلوى مع السّقم

قد نام وفدك (6)حول البيت قاطبة (7) *** و أنت وحدك (8)يا قيّوم لم تنم

أدعوك ربّي و مولاي و معتمدي (9) *** فارحم بكائي بحقّ البيت و الحرم

أنت الغفور فجد لي منك مغفرة *** أو اعف عنّي يا ذا الجود و النّعم

ص: 395


1- . في تفسير الرازي: الاستعانة.
2- . تفسير الرازي 23:120.
3- . تفسير الرازي 23:122، تفسير روح البيان 6:107.
4- . في المصدر: حرسها.
5- . في المصدر: جئت.
6- . في المصدر: وفدي.
7- . في المصدر: و انتبهوا.
8- . في المصدر: يا حيّ.
9- . في المصدر: و مستندي.

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف (1) *** فمن يجود على العاصين بالكرم

ثمّ رفع رأسه نحو السماء، و هو ينادي: «يا إلهي و سيدي و مولاي، إن أطعتك فلك المنّة عليّ، و إن عصيتك فبجهلي فلك الحجّة عليّ، اللهم فبإظهار منّتك عليّ و إثبات حجّتك لديّ ارحمني و اغفر لي ذنوبي، و لا تحرمني رؤية جدّي و قرة عيني و حبيبك و صفيّك و نبيّك محمّد صلّى اللّه عليه و آله» ، ثمّ أنشأ يقول:

ألا أيّها المأمول في كلّ شدة *** إليك شكوت الضرّ فارحم شكايتي

ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي *** فهب لي ذنوبي كلّها و اقض حاجتي

فزادي قليل لا أراه مبلّغي *** على الزاد أبكي أم لطول (2)مسافتي

أتيت بأعمال قباح رديّة *** و ما في الورى عبد (3)جنى كجنايتي

فكان يكرّر هذه الأبيات حتى سقط مغشيا عليه، فدنوت منه فاذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، فوضعت رأسه في حجري، و بكيت لبكائه بكاء شديدا شفقة عليه، فقطر من دموعي على وجهه، فأفاق من غشيته و فتح عينيه و قال: «من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟» فقلت: أنا الأصمعي يا سيدي، ما هذا البكاء، و ما هذا الجزع، و أنت من أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة؟ أ ليس اللّه يقول: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً؟ ! (4)

قال: فاستوى جالسا، و قال: «يا أصمعي هيهات، إنّ اللّه خلق الجنة لمن أطاعه و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و إن كان ملكا قرشيا، أما سمعت قول اللّه تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ» (5).

و اعترض بعض الملاحدة على القرآن المجيد بوقوع التناقض بين قوله: وَ لا يَتَساءَلُونَ و قوله: وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (6)و بين قوله: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (7)و قوله: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ (8)و قد مرّ الجواب عنه في بعض الطرائف (9).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 102 الی 104

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ (104)

ص: 396


1- . في المصدر: جرم.
2- . في المصدر: لبعد.
3- . في المصدر: خلق.
4- . الأحزاب:33/33.
5- . تفسير روح البيان 6:107.
6- . المعارج:70/10.
7- . الصافات:37/27.
8- . يونس:10/45.
9- . تقدم في الطرفة (26) من مقدمة المصنف.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية المحاسبة و حسن حال المؤمنين بقوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ و رجحت حسناته على سيئاته في ميزان الأعمال فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ الفائزون بالجنّة و النّعم الدائمة.

ثمّ بيّن سوء حال الكفّار بقوله: وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ و رجحت سيئاته على حسناته فَأُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا و أضرّوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع ما أعطاهم اللّه من الاستعداد و الجوارح و القوى الظاهرية و الباطنية و العمر و العقل، ليحصّلوا بها السعادة الأبدية و النّعم الدائمة.

عن ابن عبّاس: يعني غبنوا بها (1)بأن صارت منازلهم في الجنة للمؤمنين (2).

و قيل: يعني امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب (3). و هم فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ و مقيمون أبدا.

ثمّ بيّن سبحانه بعض شدائد عذابهم في جهنّم تهويلا للقلوب بقوله: تَلْفَحُ و تحرق وُجُوهَهُمُ اَلنّارُ عن ابن عباس: أي تضرب و تأكل لحومهم و جلودهم (4)وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ و متقلّصو الشّفتين من شدّة الاحتراق.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «تشويه النار، فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، و تسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرّته» (5).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 105 الی 108

ثمّ بيّن عذابهم الروحاني بتقريعهم و توبيخهم بقوله: أَ لَمْ تَكُنْ أيّها المشركون آياتِي و مواعظي و زواجري تُتْلى و تقرأ عَلَيْكُمْ في الدنيا فَكُنْتُمْ بِها حينئذ تُكَذِّبُونَ

و تستهزئون قالُوا اعترافا بتقصيرهم: يا رَبَّنا غَلَبَتْ و استولت عَلَيْنا شِقْوَتُنا و ملكتنا شهواتنا المؤدية إلى العاقبة السيئة و الجحيم الحاطمة. عن الصادق عليه السّلام: «بالأعمال شقوا» (6)ففعلنا ما فعلنا من تكذيب الرسل و الآيات و الأعمال القبيحة وَ كُنّا قَوْماً ضالِّينَ و ناسا منحرفين عن الصراط المستقيم،

و سالكين طريق الجحيم حتى وقعنا فيها رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها و أعدنا إلى الدنيا فَإِنْ عُدْنا إلى ما كنّا فيه من الشّرك و التكذيب فَإِنّا ظالِمُونَ و مبالغون في التعدّي عن حدود

أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنّا ظالِمُونَ (107) قالَ اِخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (108)

ص: 397


1- . في تفسير الرازي: غبنوها.
2- . تفسير الرازي 23:123.
3- . تفسير الرازي 23:123.
4- . تفسير الرازي 23:123.
5- . تفسير الرازي 23:123، تفسير روح البيان 6:109.
6- . التوحيد:356/2، تفسير الصافي 3:411، و فيهما: بأعمالهم شقوا.

العقل

قالَ تعالى قهرا عليهم: اِخْسَؤُا فِيها و انزجروا زجر الكلاب و أسكتوا سكوت الذّلّ و الهوان وَ لا تُكَلِّمُونِ بشيء من الاعتذار، و لا تسألوا رفع العذاب عنكم أو تخفيفه، لعدم قابليته للقبول و الاجابة.

قيل: هو آخر كلام يتكلّمون به، ثمّ ليس لهم بعد ذلك إلاّ الزّفير و الشهيق و العواء كعواء الكلب (1).

عن ابن عباس: لهم ستّ دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا فيجابون: حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي (2). ثمّ ينادون ألف سنة ثانية: رَبَّنا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فيجابون: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اَللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ (3). ثمّ ينادون ألف سنة ثالثة: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ فيجابون: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (4). ثمّ ينادون ألف سنة رابعة: رَبَّنا أَخِّرْنا فيجابون: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (5). ثمّ ينادون ألف سنة خامسة: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً فيجابون أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ (6)ثمّ ينادون ألف سنة سادسة رَبِّ اِرْجِعُونِ فيجابون: اِخْسَؤُا فِيها (7).

و عن القمّي: بلغني و اللّه أعلم أنّهم يتداكّون بعضهم على بعض سبعين عاما حتّى ينتهوا إلى قعر الجحيم (8).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 109 الی 114

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم العذاب المهين بقوله: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي و طائفة من المؤمنين بوحدانيتي و رسالة رسولي يَقُولُونَ في الدنيا: رَبَّنا آمَنّا بك و بما جاء به رسولك، و صدّقنا جميع ما أردت تصديقه منّا فَاغْفِرْ لَنا ذنوبنا، و استرها بكرمك وَ اِرْحَمْنا و أنعم علينا بنعمك الواسعة الدنيوية و الاخروية وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّاحِمِينَ

و أفضل المنعمين فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ

إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)

ص: 398


1- . تفسير الرازي 23:125.
2- . السجدة:2/12 و 13.
3- . غافر:40/11 و 12.
4- . الزخرف:43/77.
5- . إبراهيم:14/44.
6- . فاطر:35/37.
7- . تفسير الرازي 23:125.
8- . تفسير القمي 2:94، تفسير الصافي 3:412.

سِخْرِيًّا و تشاغلتم بالاستهزاء بهم حَتّى أَنْسَوْكُمْ اولئك المؤمنون بسبب الاستهزاء بهم ذِكْرِي و التدبّر في آياتي، و أداء شكري، و العمل بطاعتي، فلم تخافوني في الاهانة بأوليائي وَ كُنْتُمْ مبالغين في الاستهزاء بهم، حتّى إنّكم كنتم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ.

قيل: إن رؤساء قريش كأبي جهل و عتبة و أبي بن خلف، كانوا يستهزئون بأصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يضحكون بالفقراء منهم مثل بلال و خبّاب و عمّار و صهيب (1).

ثمّ بيّن سبحانه من حال المؤمنين عنده ما يوجب ازدياد أسف المستهزئين و حسرتهم بقوله: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ الجنّة و نعمها بِما صَبَرُوا على استهزائكم بهم و إيذائكم لهم أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفائِزُونَ بجميع مقاصدهم من الايمان و الأعمال الصالحة و النّعم الاخروية.

ثمّ أنّه تعالى بعد إقناطهم من الرجوع إلى الدنيا قالَ لهم تذكيرا لقلّة مكثهم فيها، أو قال الملك المأمور بالسؤال عنهم: كَمْ لَبِثْتُمْ و أيّ مقدار من الزمان مكثتم فِي اَلْأَرْضِ التي تدّعون الرجوع إليها عَدَدَ سِنِينَ و من حيث تعداد الأعوام

قالُوا استقصارا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى مدّة إقامتهم في النار، أو بالنظر إلى انقضائها، فإنّ المنقضي في النظر قليل، أو بالنظر إلى كونها أيّام سرورهم و هي قصار: لَبِثْنا و مكثنا فيها يَوْماً واحدا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ و إن أردت تحقيق المدّة فَسْئَلِ اَلْعادِّينَ و المتمكّنين من تعداد الأيام و السنين، فانّا بسبب ما دهمنا من العذاب لا يمكننا إحصاؤها.

و قيل: إنّ المراد من العادّين الملائكة العادّون لأعمار الناس و أنفاسهم و أعمالهم (2).

القمي، قال: يعني سل الملائكة الذين يعدّون علينا الأيام، و يكتبون ساعاتنا و أعمالنا التي اكتسبناها فيها (3).

قالَ اللّه تعالى أو الملك: إِنْ لَبِثْتُمْ و ما مكثتم في الدنيا متمتّعين بنعمها إِلاّ زمانا قَلِيلاً لم يكن للعاقل أن يعتدّ بالتنعّم و التلذّذ فيه، و أنتم انهمكتم في الشهوات في ذلك الزمان القليل، و غفلتم عن سوء العاقبة، و أتّبعتم هوى أنفسكم، و هيّأتم لها بأعمالكم العذاب المخلّد، و أهلكتموها إلى الأبد، و حرمتموها من النّعم التي ليس لها حدّ و لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سوء عاقبة التنعّم في الدنيا و الغفلة عن الآخرة، لما فعلتم ما فعلتم، أو لو كنتم تعلمون الحشر و البعث لعلمتم قلّة لبثكم في الدنيا كما علمتم اليوم.

ص: 399


1- . تفسير الرازي 23:125.
2- . تفسير روح البيان 6:110.
3- . تفسير القمي 2:95 تفسير الصافي 3:412.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 115 الی 116

ثمّ وبّخهم سبحانه على إنكارهم البعث مع دلالة البرهان القاطع عليه و غفلتهم عنه بقوله: أَ فَحَسِبْتُمْ قيل: التقدير أغفلتم عن البعث فحسبتم (1)أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً و لعبا بلا حكمة و صلاح وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ بل تموتون و تفتّتون (2).

أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اَللّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ (116)عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقه عبثا، و لم يتركهم سدى، بل خلقهم لاظهار قدرته، و ليكلّفهم طاعته، فيستوجبوا بذلك رضوانه، و ما خلقهم ليجلب منهم منفعة، و لا ليدفع بهم مضرّة، بل خلقهم لينفعهم و يوصلهم إلى النعيم» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه قيل له: خلقنا للفناء؟ فقال: «خلقنا للبقاء، و كيف و جنّته لا تبيد، و ناره (4)لا تخمد، و لكن [قل:]إنّما نتحوّل من دار إلى دار» (5).

ثّم نزّه سبحانه ذاته المقدسة عن العبث بقوله: فَتَعالَى اَللّهُ و ارتفع بذاته عن العبث، و تقدّس عن اللغو، و تنزّه عن فعل ما لا حكمة فيه لأنّه اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ و السلطان الحقيق بالسلطنة، الغنيّ بذاته عمّا سواه، و كلّ شيء محتاج إليه.

قيل: إنّ الحقّ هو الموجد للشيء بمقتضى الحكمة (6)، و الثابت الذي لا يزول ذاته، و لا يبيد ملكه و قدرته، و لذا لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود سواه.

ثمّ قرّر كمال سلطنته و استحقاقه العبادة بقوله: رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ فكيف بما هو دونه و تحته، و إنما وصف العرش بالكريم لنزول الرحمة و البركات منه، أو لانتسابه إلى اللّه الكريم.

و قيل: إنّ المراد بالعرش هنا السماوات و ما فيها (7).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 117 الی 118

ثمّ هدّد المشركين بقوله: وَ مَنْ يَدْعُ و يعبد مَعَ اَللّهِ المتفرّد بالالوهية إِلهاً و معبودا آخَرَ مع أنّه لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ و لا حجّة على جواز عبادته فَإِنَّما حِسابُهُ و جزاؤه اللائق به

وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلْكافِرُونَ (117) وَ قُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّاحِمِينَ (118)

ص: 400


1- . تفسير روح البيان 6:111.
2- . في النسخة: و تفتّون.
3- . علل الشرائع:9/2، تفسير الصافي 3:412.
4- . في علل الشرائع: و كيف تفنى جنة لا تبيد، و نار.
5- . علل الشرائع:11/5، تفسير الصافي 3:412.
6- . تفسير روح البيان 6:112.
7- . تفسير الرازي 23:128.

عِنْدَ رَبِّهِ و عقوبته بيده لعدم قدرة غيره عليها.

ثمّ نبّه سبحانه عليها إجمالا بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ و لا يفوز بالمقصود من النجاة من العذاب و النيل بالثواب اَلْكافِرُونَ بتوحيد اللّه، و من بدائع السورة أنّه تعالى افتتحها بثبوت الفلاح للمؤمنين، و ختمها بنفيه عن الكافرين.

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بموافقة المؤمنين في التضرّع و طلب المغفرة رغما للكفار المستهزئين بهم بقوله: وَ قُلْ يا محمد رَبِّ اِغْفِرْ لي خطاياي وَ اِرْحَمْ ذلّي و فقري و حاجتي وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّاحِمِينَ فانّ رحمة من سواك قطرة من بحار رحمتك الواسعة.

روي أنّ أول هذه السورة و آخرها من كنوز العرش، من عمل بثلاث آيات من أولها، و اتّعظ بأربع آيات من آخرها، فقد نجا و أفلح (1).

و في رواية، قال عليه السّلام: «لقد انزل عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة» ثمّ قرأ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنين حتى ختم العشر (2).

و عن عبد اللّه بن مسعود: أنّه مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في اذنه أَ فَحَسِبْتُمْ [حتى ختم السورة، فبرئ بإذن اللّه.] (3).

ص: 401


1- . تفسير الرازي 23:128، تفسير البيضاوي 2:114، تفسير روح البيان 6:113.
2- . تفسير البيضاوي 2:114، تفسير روح البيان 6:113.
3- . تفسير روح البيان 6:113.

ص: 402

في تفسير سورة النور

سوره 24 (النور): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لاثبات التوحيد و المعاد و إبطال الشّرك، و المفتتحة بالوعد بالفلاع بالمؤمنين المختتمة بسلبه عن الكافرين و حثّ العباد على العمل بأحكام اللّه و إيجاب حفظ الفرج عن الحرام، نظمت سورة النور المشتملة على تأكيد تلك المطالب العالية، و بيان حرمة الزنا، و تزويج المشركات و المشركين، و إيجاب حدّ الزاني و الزانية، و حكم رمي الزوج زوجته بالزنا، و رمي الأجنبي الأجنبية المحصنة به، و وجوب التعفّف عليهنّ، و غير ذلك من أحكام النساء، و لذا روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في رواية: «و علموهنّ سورة النور و المغزل» (1). فافتتحها سبحانه بذكر أسمائه الحسنى على حسب دأبه و رسمة سبحانه في الكتاب الكريم بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (2)ثمّ مدح سبحانه السورة و عظّمها بقوله: سُورَةٌ قيل: إنّ التقدير هذه سورة (2). و قيل: لمّا أمر في آخر السورة السابقة بسؤال الرحمة، أجابه بأن من رحمتنا عليك سورة عظيمة الشأن، و قطعة كريمة من القرآن الكريم (3)، نحن أَنْزَلْناها عليك من اللّوح المحفوظ بتوسّط أمين الوحي وَ فَرَضْناها و أوجبنا العمل بما فيها من الأحكام وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالات على الأحكام، و ما فيها من المطالب العالية لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ و تستحضرون مضامينها، أو المراد كي تتعظوا و تتقوا المحارم.

ص: 403


1- . مجمع البيان 7:194، تفسير روح البيان 6:113.
2- . تفسير الرازي 23:129.
3- . تفسير روح البيان 6:113.

ثمّ شرع سبحانه في بيان الأحكام، فابتدأ بذكر حدّ الزنا اهتماما بالرّدع عنه بقوله: اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي إن كانا غير محصنين فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما بانفراده مِائَةَ جَلْدَةٍ.

عن الصادق عليه السّلام: «الحرّ و الحرّة إذا زنيا جلد كلّ واحد منهما مائة جلدة، فأما المحصن و المحصنة فعليهما الرّجم» (1).

و في رواية عنه عليه السّلام: «و في البكر و البكرة جلد مائة و نفي سنه في غير مصرهما» (2).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن المحصن فقال: «الذي يزني و عنده ما يغنيه» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «من كان عنده فرج يغدو عليه و يروح فهو محصن» (4).

و عن الأصبغ بن نباتة: أنّ عمر أتي بخمسة نفر أخذوا في الزنا، فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ، و كان أمير المؤمنين عليه السّلام حاضرا، فقال: «يا عمر، ليس هذا حكمهم» قال: فأقم أنت الحدّ عليهم، فقدّم واحدا منهم فضرب عنقه، و قدّم الآخر فرجمه، و قدّم الثالث فضربه الحدّ، و قدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، و قدّم الخامس فعزّره، فتحيّر عمر، و تعجّب الناس. فقال له عمر: يا أبا حسن، خمسة نفر في قضية واحدة، أقمت عليهم خمسة حدود ليس شيء منها يشبه الآخر؟

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أمّا الأول فكان ذمّيا فخرج عن ذمّته، و لم يكن له حد إلأ السيف، و أما الثاني فرجل محصن كان حدّه الرّجم، و أمّا الثالث فغير محصن حدّه الجلد، و أمّا الرابع فعبد ضربناه نصف الحدّ، و أمّا الخامس فمجنون مغلوب على عقله» (5).

و عن القمي مثله إلاّ أنه قال: ستّة نفر، و خلّى سبيل السادس قال: «و أمّا الخامس فكان منه ذلك الفعل بالشّبهة فعزّرناه و أدّبناه، و أمّا السادس فمجنون مغلوب على عقله سقط عنه التكليف» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا يرجم الرجل و لا المرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع و الإيلاج و الإدخال كالميل في المكحلة» (7).

أقول: و كذا في الجلد.

و عن الباقر عليه السّلام قال: «يضرب الرجل الحدّ قائما و المرأة قاعدة، و يضرب كلّ عضو و يترك الرأس

ص: 404


1- . الكافي 7:177/2، التهذيب 10:3/6، تفسير الصافي 3:414.
2- . الكافي 7:177/7، التهذيب 10:3/9، تفسير الصافي 3:414.
3- . الكافي 7:178/4، التهذيب 10:12/27، تفسير الصافي 3:415.
4- . الكافي 7:179/10، التهذيب 10:12/28، تفسير الصافي 3:415.
5- . تفسير الصافي 3:415.
6- . تفسير القمي 2:96، تفسير الصافي 3:415.
7- . الكافي 7:184/4، تفسير الصافي 3:415.

و المذاكير» (1).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن الزاني كيف يجلد قال: «أشدّ الجلد» فقيل: فوق الثياب؟ فقال: «لا بل يجرّد» (2)

وَ لا تَأْخُذْكُمْ أيّها المؤمنون أو الولاة بِهِما رَأْفَةٌ و رحمة و إن كانت أقلّ قليل فِي إطاعة أحكام دِينِ اَللّهِ و إجراء حدوده، فتعطّلوها أو تسامحوا فيها إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ، فانّ الإيمان بهما باعث على الاهتمام و الجدّ في طاعة اللّه، و العمل بأحكامه و إجراء حدوده.

روي أنّه يوتى بوال نقص من حدّ سوطا فيقال له: لم نقصت؟ فيقول: رحمة لعبادك. فيقال له: أنت أرحم منّي بعبادي! انطلقوا به إلى النار (3).

وَ لْيَشْهَدْ و ليحضر عَذابَهُما و جلدهما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لأجل التشهير حتى يرتدع الناس عن فعلهما.

قيل: إن تخصيص المؤمنين بالحضور و الشهود، لئلا تكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار عن قبول الاسلام، و لذلك كره إقامته في أرض العدوّ.

عن الباقر عليه السّلام قال: «وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما يقول: ضربهما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ يجمع لهما الناس إذا جلدوا» (3).

و عن ابن عباس: أقلّ الطائفة أربعة، و قيل: ثلاثة، و قيل: اثنان (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «الطائفة واحد» (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «الطائفة الحاضرة هي الواحدة» (6).

و عنه عليه السّلام أيضا: «أنّ أقلّها رجل واحد» (7).

سوره 24 (النور): آیه شماره 3

اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (8)

ص: 405


1- . الكافي 7:183/1، التهذيب 10:31/104، تفسير الصافي 3:415.
2- . الكافي 7:183/3، تفسير الصافي 3:415.
3- . تفسير القمي 2:95، تفسير الصافي 3:416.
4- . تفسير الرازي 23:149.
5- . التهذيب 10:150/33، تفسير الصافي 3:416.
6- . عوالي اللآلي 2:153/428، و فيه: الحاضرة للحدّ، هي الواحدة، تفسير الصافي 3:416.
7- . جوامع الجامع:312، تفسير الصافي 3:416.
8- . تفسير الرازي 23:148، تفسير روح البيان 6:115.

ثمّ أنه تعالى بعد بيان حدّ الزنا و الزجر عنه، نهى عن نكاح الزواني قبل التوبة بقوله: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ و لا يتزوّج إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً و لا يرغب في نكاح المؤمنة الصالحة لعدم السّنخية و المشاكلة بينهما وَ اَلزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها و لا يرغب في تزويجها إِلاّ رجل زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.

روي أنّه كانت في المدينة بغايا و زانيات ذوات الأعلام من اليهود و المشركين موسرات، فرغب بعض فقراء المهاجرين في نكاحهنّ لينفقن عليهم من أكسابهنّ على عادة الجاهليّة، فاستاذنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ذلك، فنزلت الآية في ردعهم عنه ببيان أنّ نكاحهنّ من خصائص الزواني و المشركين، حيث إنّ الزاني لا يرغب إلاّ في نكاح الزانية و المشركة، و الزانية لا ترغب إلاّ في نكاح الزاني و المشرك (1).

وَ حُرِّمَ ذلِكَ النّكاح عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ لما فيه من التشبيه بالفسقة، و التعرّض للتهمة، و التسبّب بسوء المقالة، و الطعن في النسب، و غير ذلك من المفاسد التي لا تليق بالأداني و الأراذل فضلا عن المؤمنين، فلا ينبغي أن يحوموا حولها.

قيل: إيراد الجملة الاولى مع أن مناط التنفير هي الثانية، لتأكيد العلاقة بين الجانبين، مبالغة في الزّجر، و عدم ذكر المشركة في الجملة الثانية، للتنبيه على أنّ مناط الزّجر هو الزنا لا مجرّد الإشراك، و إنّما التعّرض لها في الاولى إشباعا في التنفير عن الزانية بنظمها في سلك المشركة (2)، كما هو الوجه في التعبير عن الكراهة بالتحريم.

و قيل: إنّ التحريم على حقيقته، و الحكم مخصوص بمورد النزول، أو منسوخ بقوله: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ (1)فانّه متناول للزانيات، و عموم قوله عليه السّلام: «لا يحرّم الحرام الحلال» (2)و قد تضافر دعوى الاجماع على جوازه، سواء أكان قبل التوبة أو بعدها.

فما عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «هنّ نساء مشهورات بالزنا، و الرجال مشهورون بالزنا، شهروا به و عرفوا به، و الناس اليوم بتلك المنزلة، فمن أقيم عليه حدّ الزنا و شهر بالزنا، لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتىّ يعرف منه التوبة» (3).

و من قوله عليه السّلام: «لو أن إنسانا زنى ثم تاب تزوّج حيث شاء» (4).

و ما عن الباقر عليه السّلام: «هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مشهورين بالزنا، فنهى اللّه عن

ص: 406


1- . تفسير أبي السعود 6:157، تفسير روح البيان 6:117، و الآية من سورة النور:24/32.
2- . التهذيب 7:328/1351.
3- . الكافي 5:354/1، تفسير الصافي 3:416.
4- . الكافي 5:355/6، تفسير الصافي 3:416.

اولئك الرجال و النساء، و الناس اليوم على تلك المنزلة، من شهر شيئا من ذلك، أو اقيم عليه الحدّ، فلا تزوّجوه حتى تعرف توبته» (1)فمحمول على الكراهة، لمخالفتها للاجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة و المعتبرة المستفيضة منها: الصحيح «أيّما رجل فجر بامرأة، ثمّ بدا له أن يتزوّجها حلالا، فاذا أوّله سفاح و آخره نكاح، فمثله مثل النخلة أصاب الرجل من تمرها حراما، ثمّ اشتراها بعده، فكانت له حلالا» (2).

و الصحيح الآخر عن المرأة الفاجرة يتزوّجها الرجل المسلم، قال: «نعم، و ما يمنعه؟ و لكن إذا فعل فليحصّن بابه» (3).

و منها الخبر: «نساء أهل المدينة فواسق» قلت: فأتزوّج منهنّ؟ فقال: «نعم» (4).

و منها الخبر الآخر: عن الرجل يتزوّج الفاجرة متعة؟ قال: «نعم لأباس به، و إن كان التزويج الآخر فليحصّن بابه» (5).

و منها خبر آخر عن رجل أعجبته امرأة، فسأل عنها، فاذا النساء تنبئ عليها بشيء من الفجور. فقال: «لا بأس بأن يتزوّجها و يحصّنها» (4).

مع أنّ في بعض الروايات المانعة لفظ (لم ينبغ) الظاهر في الكراهة، و في جميعها التصريح باتخاذ حكم الزاني و الزانية مع قيام الإجماع على جواز تزويج العفيفة من الزاني، و السياق يقتضي جواز العكس.

سوره 24 (النور): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ بيّن سبحانه حكم نسبة الزنا إلى العفيفات بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ و ينسبون المؤمنات اَلْمُحْصَناتِ و العفيفات إلى الزنا ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا عند الامام أو نائبه بِأَرْبَعَةِ رجال شُهَداءَ عدول يشهدون عليهنّ بما رموهنّ به و عجزوا عن إثبات صدق هذه النسبة فَاجْلِدُوهُمْ أيّها الولاة الحقّ ثَمانِينَ جَلْدَةً إن كان الطرفان بالغين عاقلين، سواء كانا ذكرين، أو أنثيين، أو مختلفين، و سواء كان الرامي حرّا أو مملوكا.

وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (5) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (6)

ص: 407


1- . الكافي 5:355/3، تفسير الصافي 3:416.
2- . الكافي 5:356/2، نوادر أحمد بن عيسى:98/235.
3- . نوادر أحمد بن عيسى:133/342.
4- . التهذيب 7:331/1363.
5- . التهذيب 7:253/1091.
6- . التهذيب 7:253/1090.

عن الصادق عليه السّلام: في رجل يقذف الرجل بالزّنا. قال: «يجلد هو في كتاب اللّه عزّ و جلّ و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله» (1).

و عن الباقر عليه السّلام في امرأة قذفت رجلا. قال: «تجلد ثمانين جلدة» (2).

و عنه عليه السّلام: «إذا قذف العبد الحرّ جلد ثمانين، و [قال:]هذا من حقوق الناس» (3).

و أمّا المقذوف فيعتبر أن يكون حرّا مسلما متستّرا، عن الصادق عليه السّلام: «من أفترى على مملوك عزّر لحرمة الاسلام» (4).

و عنه عليه السّلام: «لو اتيت برجل قد قذف عبدا [مسلما]بالزنا لا نعلم منه إلاّ خيرا، لضربته الحدّ حدّ الحرّ إلاّ سوطا» (5).

و في الصحيح في الرجل يقذف الصبية، أيجلد؟ قال: «لا، حتى تبلغ» (6)و أمّا اعتبار التستّر فلدلالة الآية، و ظهور قوله «لا يعلم منه إلاّ خيرا» (7).

ثمّ بالغ سبحانه في الزجر عن القذف بقوله: وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً على شيء من الحقوق و الحدود أَبَداً إن لم يتوبوا، قيل: لأنّهم آذوا المقذوف بلسانهم، فحرموا من منافعه (8)وَ أُولئِكَ الرامون هُمُ اَلْفاسِقُونَ و الخارجون عن طاعة اللّه،

المتجاوزون عن حدوده إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الذنب العظيم الذي اقترفوه وَ أَصْلَحُوا أعمالهم بالتدارك، و منه الاستسلام للحدّ، و الاستحلال من المقذوف فَإِنَّ اَللّهَ يغفر ما فرط منهم، و لا يؤاخذهم به، و لا ينظمهم في سلك الفاسقين الذين لا تقبل شهادتهم لأنّه غَفُورٌ رَحِيمٌ.

عن الصادق عليه السّلام: «القاذف يجلد ثمانين جلدة، و لا تقبل لهم شهادة أبدا إلاّ بعد التوبة أو يكذّب نفسه» (9).

و في (الكافي) أنّه سئل: كيف تعرف توبته؟ فقال: «يكذّب نفسه على رؤوس الخلائق حين يضرب و يستغفر ربّه، فإذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته» (10).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يقذف الرجل، فيجلد حدّا، ثمّ يتوب و لا يعلم منه إلاّ خيرا، أتجوز

ص: 408


1- . الكافي 7:205/3، التهذيب 10:65/238، تفسير الصافي 3:417.
2- . الكافي 7:205/4، التهذيب 10:65/239، تفسير الصافي 3:417.
3- . التهذيب 10:72/35، تفسير الصافي 3:417.
4- . التهذيب 10:71/34، تفسير الصافي 3:417.
5- . الكافي 7:208/17، التهذيب 10:71/31، تفسير الصافي 3:417.
6- . الكافي 7:209/23.
7- . الكافي 7:397/2، تفسير الصافي 3:419.
8- . تفسير أبي السعود 6:157.
9- . تفسير القمي 2:96، تفسير الصافي 3:419.
10- . الكافي 7:241/7، تفسير الصافي 3:419.

شهادته؟ قال: «نعم، ما يقال عندكم؟» .

قيل: يقولون توبته فيما بينه و بين اللّه، و لا تقبل شهادته أبدا. فقال: «بئسما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب و لم يعلم منه إلاّ خيرا، جازت شهادته» (1).

سوره 24 (النور): آیه شماره 6 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم رمي المحصنات عموما، بيّن حكم رمي الزوج زوجته تخصيصا للعموم أو نسخا بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ و يقذفون بالزنى أَزْواجَهُمْ الدائمات وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون بما رموهنّ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ و في استثناء أنفسهم من الشهداء، مع كونهم مدّعين إيذان من أول الأمر بعدم إلقاء قولهم عند عدم الشهود بالمرّة، بل ينتظمون في سلك الشهود في الجملة فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ و كلّ واحد منهم المشروعة لهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ في ما رماها به من الزنا،

وَ الشهادة اَلْخامِسَةُ هي أَنَّ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ فيه، قيل: تحبس المرأة حتّى تقرّ أو تلاعن (2)بمقتضى قوله تعالى.

وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ (6) وَ اَلْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ (8) وَ اَلْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اَللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (9)

وَ يَدْرَؤُا عن الزوجة و يدفع عَنْهَا اَلْعَذابَ، و الرجم الذي استحقّته بشهادة الزوج إلا أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ على زوجها إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ في ما رماها به

وَ الشهادة اَلْخامِسَةَ للأربع المتقدّمة و هي أَنَّ غَضَبَ اَللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ زوجها مِنَ اَلصّادِقِينَ فيه.

عن ابن عباس: لمّا نزل قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ الآية، قال عاصم بن عدي الأنصاري: إن دخل رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته، فإن جاء بأربعة يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته و خرج، و إن قتله قتل به، و إن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، و إن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح.

و كان له ابن عمّ، يقال له عويمر، و له امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عاصما، و قال: لقد رأيت شريك بن سمحاء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم، و أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، ما أسرع ما بتليت بهذا في أهل بيتي! فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و ما ذاك» ؟ قال: أخبرني عويمر ابن عمّي بأنه

ص: 409


1- . الكافي 7:397/2، تفسير الصافي 3:419.
2- . تفسير أبي السعود 6:159، تفسير روح البيان 6:121.

رأى شريك بن سمحاء على بطن امرأته خولة، و كان عويمر و خولة و شريك كلهم بنو عمّ عاصم.

فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهم جميعا و قال لعويمر: «اتّق اللّه في زوجتك و ابنة عمّك و لا تقذفها» . فقال: يا رسول اللّه، اقسم باللّه إنّي رأيت شريكا على بطنها، و إني ما قربتها أربعة أشهر، و إنّها حبلى من غيري.

فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اتّقي اللّه و لا تخبري إلاّ بما صنعت» فقالت: يا رسول اللّه، إنّ عويمرا رجل غيور، و إنّه رأى شريكا يطيل النظر إليّ و يتحدّث، فحملته الغيرة على ما قال. فنزلت هذه الآية، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى نودي الصلاة جامعة، فصلّى العصر، ثمّ قال لعويمر: «قم و قل: أشهد باللّه أن خولة لزانية و أني لمن الصادقين» ثمّ قال في الثانية: «قل أشهد باللّه أني رأيت شريكا على بطنها، و أني لمن الصادقين» ثمّ قال في الثالثة: «قل أشهد باللّه أنّها حبلى من غيري، و أنّي لمن الصادقين» . ثمّ قال في الرابعة: «قل أشهد باللّه أنّها زانية، و أنّي ما قربتها منذ أربعة أشهر، و أنّي لمن الصادقين» . ثمّ قال في الخامسة: «قل لعنة اللّه على عويمر-يعني نفسه-إن كان من الكاذبين فيما قال» .

ثمّ قال: «اقعد» و قال لخولة: «قومي» فقامت، و قالت: أشهد باللّه ما أنا بزانية، و أنّ زوجي عويمرا لمن الكاذبين. و قالت في الثانية: أشهد باللّه أنّي حبلى منه، و أنّه لمن الكاذبين، و قالت في الرابعة: أشهد باللّه أنّه ما رآني على فاحشة قطّ و أنّه لمن الكاذبين، و قالت في الخامسة: غضب اللّه على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهما (1).

و في رواية اخرى: عن ابن عباس: أنّ عاصما ذات يوم رجع إلى أهله، فوجد شريكا على بطن امرأته إلى آخر ما تقدّم (2).

و في رواية ثالثة عنه: لمّا نزلت وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ قال سعد بن عبادة-و هو سيد الأنصار-: لو وجدت رجلا على بطن امرأتي فإن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته و ذهب. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا معشر الأنصار، أما تسمعون ما يقول سيدكم؟» فقالوا: يا رسول اللّه، لا تلمه فانّه رجل غيور. فقال سعد: يا رسول اللّه، و اللّه إني لأعلم أنّها من اللّه، و أنّها حقّ، و لكنّي عجبت منه. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه يأبى إلاّ ذلك» .

قال: فلم يلبثوا إلاّ إذ جاء ابن عمّ له يقال له هلال بن امية-و هو أحد الثلاثة الذين تاب اللّه عليهم- فقال: يا رسول اللّه، إنّي وجدت مع أمرأتي رجلا رأيت بعيني و سمعت باذني، فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما جاء به. فقال هلال: و اللّه يا رسول اللّه لأجد الكراهة في وجهك ممّا أخبرتك به، و اللّه يعلم أنّي

ص: 410


1- . تفسير الرازي 23:164.
2- . تفسير الرازي 23:165.

لصادق، و ما قلت إلاّ حقا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إمّا البيّنة، و إمّا إقامة الحدّ عليك» .

فاجتمعت الأنصار، فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، فبينما هم كذلك إذ نزل عليه الوحي، و كان إذا نزل عليه الوحي أربدّ وجهه، و علا جسده حمرة، فلمّا سرّي عنه قال صلّى اللّه عليه و آله: «ابشر يا هلال، فقد جعل اللّه لك فرجا» قال: قد كنت أرجو ذلك من اللّه تعالى، فقرأ عليهم هذه الآيات.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ادعوها» فدعيت فكذّبت هلالا، فقال: اللّه يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب، و أمر بالملاعنة، فشهد هلال أربع شهادات باللّه أنّه لمن الصادقين، فقال صلّى اللّه عليه و آله له عند الخامسة: «اتّق اللّه يا هلال، فانّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» فقال: و اللّه لا يعذّبني اللّه عليها، كما لم يجلدني رسول اللّه، و شهد الخامسة.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أتشهدين» فشهدت أربع شهادات باللّه أنّه لمن الكاذبين، فلمّا أخذت في الخامسة قال صلّى اللّه عليه و آله لها: «اتّقي اللّه فانّ الخامسة هي الموجبة» فتفكّرت ساعة و همّت بالاعتراف، ثم قالت: و اللّه لا أفضح قومي، و شهدت الخامسة أنّ غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين. ففرّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهما، ثمّ قال: «انظروها إن جاءت به أبلج (1)أصهب أحمش الساقين (2)فهو لهلال، و إن جاءت به خدلّج الساقين (3)أورق (4)جعدا فهو لصاحبه» . فجاءت به أورق خدلّح الساقين. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لو لا الإيمان لكان لي و لها شأن» .

قال عكرمة: رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار و لا يدرى من أبوه» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أن رجلا من المسلمين أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إن رجلا دخل منزله، فوجد مع امرأته رجلا يجامعها، ما كان يصنع؟ قال: فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانصرف الرجل، و كان ذلك الرجل هو الذي ابتلى بذلك مع امرأته، فنزل الوحي من عند اللّه بالحكم فيهما، قال: فأحضرها زوجها فأوقفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قال للزوج: اشهد أربع شهادات باللّه أنّك لمن الصادقين في ما رميتها به. قال: فشهد، ثمّ قال له: اتق اللّه، فانّ لعنة اللّه شديدة، ثمّ قال له: اشهد الخامسة أنّ لعنة اللّه عليك إن كنت من الكاذبين، فشهد، ثمّ أمر به فنحّي، ثمّ قال للمرأة: اشهدي أربع شهادات باللّه أنّ زوجك لمن الكاذبين في ما رماك به. فشهدت، ثمّ قال لها: امسكي فوعظها و قال لها: اتقي اللّه، فانّ غضب اللّه شديد. ثمّ قال لها: اشهدي الخامسة أنّ غضب اللّه عليك إن كان زوجك من

ص: 411


1- . الأبلج: المفترق الحاجبين، الطلق الوجه، و في تفسير الرازي: أثيبج مصغّر أثبج، و هو العريض الثّبج الناتئه، و الثّبج: ما بين الكاهل إلى الظهر.
2- . أحمش الساقين: دقيق الساقين.
3- . خدلّج الساقين: ممتلئ الساقين.
4- . الأورق من الناس: الأسمر.
5- . تفسير الرازي 23:165.

الصادقين في ما رماك به. فشهدت، قال: ففرّق بينهما، و قال لهما: لا تجتمعا بنكاح أبدا بعد ما تلاعنتما» (1).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «هي في القاذف الذي يقذف امرأته، فاذا قذفها ثمّ أقرّ أنه كذب عليها، جلد الحدّ، و ردّت إليه امرأته، و إن أبى إلاّ أن يمضي فشهد عليها أربع شهادات باللّه أنه لمن الصادقين، و الخامسة يلعن فيها نفسه إن كان من الكاذبين.

و إن أرادت أن تدرأ عن نفسها العذاب-و العذاب هو الرّجم-شهدت أربع شهادات باللّه أنّه لمن الكاذبين، و الخامسة أنّ غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين، فان لم تفعل رجمت، و إن فعلت درأت عن نفسها الحدّ، ثمّ لا تحلّ إلى يوم القيامة» .

قيل: أ رأيت إن فرّق بينهما و لهما ولد فمات؟ قال: «ترثه امّه، و إن ماتت امّه يرثه أخواله، و من قال إنّه ولد زنا جلد الحدّ» .

قيل: يردّ إليه الولد إذا أقرّ به؟ قال: «لا و لا كرامة، و لا يرث الابن، و يرثه الابن» (2).

و عنه عليه السّلام: «إذا قذف الرجل امرأته، فانه لا يلاعنها حتى يقول: رأيت بين رجليها رجلا يزني بها» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «يجلس الامام مستدبر القبلة، فيقيمهما بين يديه مستقبلا القبلة بحذاه، و يبدأ بالرجل ثمّ المرأة» (4).

و في رواية: «يجعل الرجل عن يمينه، و المرأة عن يساره» (5).

و عن الصادق عليه السّلام في رجل أوقفه الامام للّعان، فشهد شهادتين، ثمّ نكل فأكذب نفسه قبل أن يفرغ من اللّعان؟ قال: «يجلد جلد القاذف، و لا يفرّق بينه و بين امرأته» (6).

و عن الجواد عليه السّلام: أنه قيل له: كيف صار إذا قذف الرجل امرأته كانت شهادته أربع شهادات باللّه، و إذا قذفها غيره أب أو أخ أو ولد أو قريب جلد الحدّ، أو يقيم البينة على ما قال؟ فقال: «قد سئل أبو جعفر عن ذلك، فقال: إنّ الزوج إذا قذف أمرأته فقال: رأيت ذلك بعيني، كانت شهادته أربع شهادات باللّه، و إذا قال إنّه لم يره، قيل له: أقم البيّنة على ما قلت، و إلاّ كان بمنزلة غيره، و ذلك أنّ اللّه جعل للزوج مدخلا لم يجعله لغيره والد و لا ولد يدخله بالليل و النهار، فجاز أن يقول: رأيت، و لو قال غيره: رأيت قيل له: ما أدخلك المدخل الذي ترى هذا فيه وحدك، أنت متّهم فلا بدّ أن يقام عليك

ص: 412


1- . الكافي 6:163/4، تفسير الصافي 3:420.
2- . الكافي 6:162/3، تفسير الصافي 3:420.
3- . الكافي 6:163/6، تفسير الصافي 3:422.
4- . الكافي 6:165/10، تفسير الصافي 3:422.
5- . الكافي 6:165/11، تفسير الصافي 3:422.
6- . الكافي 6:163/5، تفسير الصافي 3:422.

الحدّ الذي أوجبه اللّه عليك» .

قال: «و إنما صارت شهادة الزوج أربع لمكان الأربعة شهداء مكان كلّ شاهد [يمين]» (1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: لم جعل في الزنا أربعة شهود، و في القتل شاهدان؟ فقال: «[إنّ]اللّه عزّ و جلّ أحلّ لكم المتعة، و علم أنّها ستنكر عليكم، فجعل الأربعة شهود احتياطا لكم، لو لا ذلك لأتي عليكم، و قلّما تجتمع أربعة شهداء بأمر واحد» (2).

و في رواية اخرى قال: «الزنا فيه حدّان، و لا يجوز أن يشهد كلّ اثنين على واحد، لأنّ الرجل و المرأة جميعا عليهما الحدّ، و القتل إنّما يقام الحدّ على القاتل و يدفع عن المقتول» (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ بيّن سبحانه منّته على عباده بتشريع اللّعان بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ و إحسانه إليكم و إنعامه أيّها الرامون و المرميات وَ لو لا أَنَّ اَللّهَ تَوّابٌ و مبالغ في قبول التوبة حَكِيمٌ في أفعاله و أحكامه التي من جملتها ما شرّع من حكم اللّعان، لعاجلكم بالفضيحة و عقوبة حدّ القذف على الزوج أو حدّ الزنا على الزوجة، أمّا أثر التفضّل و الرحمة على الصادق فظاهر، و أمّا على الكاذب فهو إمهاله و السّتر عليه في الدنيا، و درء الحدّ عنه، و تعريضه للتوبة بتوصيف ذاته المقدسة بالتوابية.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ وَ اَلَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)

ثمّ ذكر اللّه سبحانه قضية رمي المنافقين عائشة بما صانها اللّه منه لحرمة نبيّه الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ و صدر منهم أعظم الفرية و البهتان في أمر عائشة عُصْبَةٌ و جماعة مِنْكُمْ منافقون كعبد اللّه بن ابي، و مسطح، و زيد بن رفاعة، و حمنة بنت جحش (4)و غيرهم ممّن ساعدهم على ما قيل (5)، لا تتوهموا ذلك الإفك و لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ أيّها الرسول و المؤمنون بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاستحقاقكم به الثواب العظيم و الكرامة على اللّه الكريم، و كونه سبب نزول آيات فيها تشييد الحقّ، و تضعيف الباطل، و تشديد الوعيد في من تكلّم فيه، و الثناء على من ظنّ بالمؤمنين خيرا.

ثمّ هدّد سبحانه العصبة بقوله: لِكُلِّ اِمْرِئٍ و رجل مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ و حصّل لنفسه مِنَ

ص: 413


1- . الكافي 7:403/6، تفسير الصافي 3:422.
2- . علل الشرائع:509/1، تفسير الصافي 3:422.
3- . علل الشرائع:510/3، تفسير الصافي 3:423.
4- . في النسخة: رحمته بنت عجش.
5- . تفسير الرازي 23:173.

اَلْإِثْمِ و العصيان و تبعاته من العذاب بالتكلّم فيه و الإذعان به و الضّحك منه و السّكوت و عدم النهي عنه وَ اَلَّذِي تَوَلّى الإفك و تصدّى كِبْرَهُ و معظمه مِنْهُمْ بأن أبداه و أشاعه عداوة للرسول لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.

روى الزّهري عن جماعة، عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج اسمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزوة قبل غزوة بني المصطلق، فخرج اسمي فيها، فخرجت معه صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج، فلمّا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرب من المدينة، نزل منزلا، ثمّ آذن بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، و مشيت حتى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت شأني و أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فاذا عقد لي من جزع أظفار (1)قد انقطع، فرجعت و التمست عقدي، و حبسني طلبه، و أقبل الرّهط الذين كانوا يحملوني، فحملوا هودجي و هم يحسبون أني فيه لخفّتي، فانّي كنت جارية حديثة السّن، فظنّوا أني في الهودج، و ذهبوا بالبعير.

فلمّا رجعت لم أجد في المكان أحدا، فجلست و قلت: لعلهم يعودون في طلبي، فنمت و قد كان صفوان بن المعطّل يمكث في المعسكر يتّبع أمتعة الناس، فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء، فلمّا رآني عرفني، و قال: ما خلّفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر، فنزل و تنحّى عنّي حتّى ركبت، ثمّ قاد البعير.

و افتقدني الناس حين نزلوا، و ماج الناس في ذكري، فبينا الناس كذلك، إذ هجمت عليهم، فتكلّم الناس و خاضوا في حديثي، و قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة، و لحقني وجع، و لم أر منه صلّى اللّه عليه و آله ما عهدته من اللّطف الذي كنت أعرفه منه حين أشتكي، و إنّما يدخل صلّى اللّه عليه و آله ثمّ يقول: «كيف تيكم؟» فذاك يريبني، و لا أشعر بما جرى بعد حتىّ نقهت، فخرجت في بعض الليالي مع امّ مسطح لمهمّ لنا، ثمّ أقبلت أنا و امّ مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت امّ مسطح في مرطها (2)، فقالت: تعس مسطح، فأنكرت ذلك، و قلت: أتسبّين رجلا شهد بدرا؟ ! فقالت: أو ما بلغك الخبر؟ فقلت: و ما هو؟ فقالت: أشهد أنّك من المؤمنات الغافلات، ثمّ أخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي، فرجعت أبكي.

ثمّ دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: «كيف تيكم؟» فقلت: ائذن لي أن آتي أبويّ فأذن لي، فجئت

ص: 414


1- . الجزع: ضرب من العقيق يعرف بخطوط متوازية مستديرة مختلفة الألوان، و أظفار: اسم موضع.
2- . المرط: كساء من خزّ أو صوف أو كتّان يؤتزر به و تتلفّع به المرأة.

أبويّ، و قلت [لامي]: يا أمّة، ماذا يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنية هوّني عليك، فو اللّه لقلّما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبّها و لها ضرائر إلاّ أكثرن عليها. ثمّ قالت: ألم تكوني علمت ما قيل حتى الآن؟ فأقبلت أبكي، فبكيت تلك الليلة، ثمّ أصبحت أبكي، فدخل عليّ أبي و أنا أبكي، فقال لامي: ما يبكيها؟ قالت: لم تكن علمت ما قيل فيها حتى الآن، فأقبل يبكي (1)، ثمّ قال: اسكتي يا بنية.

و دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي بن أبي طالب و اسامة بن زيد، و استشارهما في فراق أهله، فقال اسامة: يا رسول اللّه، هن (2)أهلك و لا نعلم الاّ خيرا، و أما عليّ فقال: «لم يضيّق اللّه عليك، و النساء سواها كثير، و إن تسأل الجارية تصدقك» . فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بريرة و سألها عن أمري، قالت: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ إن رأيت عليها أمرا قطّ أكثر من أنّها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن فتأكله.

فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خطيبا على المنبر فقال: «يا معشر المسلمين، من يعذرني (3)من رجل قد بلغني أذاه في أهلي-يعني عبد اللّه بن أبي-فو اللّه ما علمت على أهلي إلاّ خيرا، و لقد ذكروا الذي (4)ما علمت عليه إلاّ خيرا، و ما كان يدخل على أهلي إلاّ معي» .

فقام سعد بن معاذ فقال: اعذرك يا رسول اللّه منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، و إن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا [فعلنا]، فقام سعد بن عبادة، و هو سيد الخزرج، و كان رجلا صالحا، لكن أخذته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت و اللّه لا تقدر على قتله. فقام اسيد بن خضير، و هو ابن عم سعد بن معاذ و قال: كذبت و اللّه لتقتلنّه، و إنك لمنافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس و الخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا.

قالت: و مكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، و أبواي يظنّان أن البكاء فالق كبدي، فبينا هما جالسان عندي و أنا أبكي، إذ دخل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسلّم و جلس، و لم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل، و لقد لبث شهرا لا يوحي اللّه إليه في شأني شيئا. ثمّ قال: «أما بعد يا عائشة، فانه قد بلغني عندك كذا و كذا، فان كنت بريئة فسيبرئك اللّه تعالى، و إن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري اللّه و توبي إليه، فانّ العبد إذا تاب تاب اللّه عليه» .

قالت: فلمّا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقالته فاض دمعي، ثمّ قلت لأبي: أجب رسول اللّه عني. فقال: و اللّه ما أدري ما أقول. فقلت لامّي: أجيبي عنّي رسول اللّه. فقالت: و اللّه ما أدري ما أقول، فقلت و أنا

ص: 415


1- . في النسخة: فأقبلت تبكي.
2- . في تفسير الرازي: هم.
3- . أي ينصفني.
4- . في تفسير الرازي: ذكروا رجلا.

جارية حديثة السنّ ما أقرأ من القرآن كثيرا: إنّي و اللّه لقد عرفت أنّكم قد سمعتم بهذا حتى استقرّ في نفوسكم و صدّقتم به، فان قلت لكم إنّي بريئة لا تصدّقوني، و إن اعترفت لكم بأمر و اللّه يعلم أني بريئة تصدّقوني، و اللّه لا أجد لي و لكم مثلا إلاّ كما قال العبد الصالح أبو يوسف و لم أذكر أسمه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللّهُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (1).

ثمّ تحولت و اضطجعت على فراشي و أنا و اللّه أعلم أنّ اللّه تعالى يبرّئني، و لكن و اللّه ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى، فشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم اللّه فيّ بأمر يتلى، و لكن كنت ارجو أن يرى الرسول في النوم رؤيا يبرّئني اللّه بها. فو اللّه ما قام رسول اللّه من مجلسه و لا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل اللّه الوحي على نبيّه، فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي حتى إنّه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي، فسجّي بثوب و وضعت و سادة تحت رأسه، فو اللّه ما فرغت و ما باليت لعلمي ببراءتي، و أما أبواي فو اللّه ما سرّي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى ظننت أنّ نفسي أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي اللّه بتحقيق ما قال الناس، فسرّي عنه و هو يضحك، فكان أول كلمة تكلّم بها أن قال: «ابشري يا عائشة، أما و اللّه لقد برّأك اللّه» . فقلت: بحمد اللّه لا بحمدك و لا بحمد أصحابك. فقالت امّي: قومي إليه. فقلت: و اللّه لا أقوم إليه، و لا أحمد أحدا إلاّ اللّه الذي أنزل براءتي، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر آيات.

فقال أبو بكر: و اللّه لا انفق على مسطح بعد هذا، و كان ينفق عليه لقرابته منه و فقره، إلى أن قالت: فلمّا نزل عذري قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر، فذكر ذلك، و تلا القرآن، فلمّا نزل ضرب عبد اللّه بن ابي و مسطحا و حمنة و حسان الحدّ (2).

أقول: في هذه الرواية التي وضعتها لاثبات شرفها بأن أوحى اللّه في شأنها آيات تتلى إلى يوم القيامة، دلالة على كونها سببا لايذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و جسارتها عليه، و إثارة الفتنة، و على عدم اطمئنان أبويها بعفّتها، و عدم تعقّلها و تعقّل أبويها وجوب عصمة زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله من الفحش، لكونه من أعظم الشّين عليه، و على كون صلحاء أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذين أهل العصبية و الحمية الجاهلية، و على كون بعض البدريين من أفسق الفسّاق، إلى غير ذلك ممّا فيه دلالة على فساد اعتقاد العامة في حقّها و حقّ أصحاب النبي رووا في شأنهم أنّهم كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.

و قال القمي رحمه اللّه: روت العامة أنّها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة،

ص: 416


1- . يوسف:12/18.
2- . تفسير الرازي 23:174.

و أمّا الخاصة فإنّهم رووا أنّها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة (1).

ثمّ روى عن الباقر عليه السّلام أنه قال: «لما هلك إبراهيم ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حزن عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حزنا شديدا، فقالت له عائشة: ما الذي يحزنك عليه، فما هو إلاّ ابن جريح، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا و أمره بقتله، فذهب علي عليه السّلام [إليه]و معه السيف، و كان جريح القبطي في حائط، [و ضرب علي عليه السّلام باب البستان، فأقبل إليه جريح ليفتح له الباب، فلما رأى عليا عليه السّلام عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعا و لم يفتح الباب، فوثب عليّ عليه السّلام على الحائط]و نزل إلى البستان و اتّبعه، و ولى جريح مدبرا، فلمّا خشي أن يرهقه صعد في نخلة، و صعد علي عليه السّلام في أثره، فلمّا دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فاذا ليس له ما للرجال، و لا له ما للنساء، فانصرف علي عليه السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال له: يا رسول اللّه، إذا بعثتني في أمر أكون فيه كالمسمار المحميّ في الوبر، أمضى على ذلك (2)أو اتثبّت، قال: لا، بل تثبّت قال: و الذي بعثك بالحقّ ماله ما للرجال، و لا له ما للنساء. فقال [رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]: الحمد للّه الذي صرف عنّا السوء أهل البيت» (3).

و زاد في رواية اخرى: «فأتى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: ما شأنك يا جريح؟ فقال: يا رسول اللّه، إن القبط يحبّون حشمهم و من يدخل إلى أهاليهم، و القبطيون لا يأنسون إلاّ بالقبطيين، فبعثني أبوها لأدخل عليها و أخدمها و أؤنسها» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بقتل القبطي و قد علم أنّها كذبت عليه، أو لم يعلم، و إنّما دفع اللّه عن القبطي القتل بتثبّت علي عليه السّلام فقال: «بلى، قد كان و اللّه أعلم، و لو كانت عزيمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القتل لما رجع عليّ عليه السّلام حتى يقتله، و لكن إنّما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لترجع عن ذنبها، فما رجعت، و لا اشتدّ عليها قتل رجل مسلم بكذبها» (5).

أقول: حاصل المراد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما بكذب عائشة في رمي مارية، و كان يعلم أنّ اللّه يظهر الحقّ، و إنّما بعث عليا عليه السّلام لذلك، و لترجع عائشة عن ذنبها، و لعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ترك جلدها لعفو مارية عنها لميل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليها.

إن قلت: ظاهر الآية أنّ الإفك صدر من جماعة حيث قال: إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ و مقتضى الرواية أنّه صدرت من عائشة فقط.

ص: 417


1- . تفسير القمي 2:99، تفسير الصافي 3:423.
2- . (أمضي على ذلك) ليس في تفسير القمي.
3- . تفسير القمي 2:99، تفسير الصافي 3:423.
4- . تفسير القمي 2:319، تفسير الصافي 3:424.
5- . تفسير القمي 2:319، تفسير الصافي 3:424.

قلت: نعم، و لكن لمّا وافقتها عليه حفصة و أبواهما و بعض المنافقين الموافقين لأبويهما، صار أهل الإفك جمعا كثيرا، و أمّا ضمير الجمع في قوله: عُصْبَةٌ مِنْكُمْ فالظاهر أنّ المراد منه رسول اللّه و أمير المؤمنين و فاطمة و الخواصّ من المؤمنين كسلمان و أبي ذرّ و أضرابهما.

سوره 24 (النور): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ أخذ سبحانه في تقريع المؤمنين الذين استمعوا هذا الإفك، و لم يردعوا عنه، بل تكلّموا فيه بقوله: لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أيّها المؤمنون، و هلاّ حين أطّلعتم على هذا البهتان ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بمقتضى وظيفتهم الايمانية بِأَنْفُسِهِمْ و بالذين هم بمنزلة روحهم خَيْراً، و حسنا و طهارة منه وَ لما قالُوا: من غير ريث تكذيبا له هذا القول الشنيع في حقّ المؤمنين إِفْكٌ مُبِينٌ و بهتان ظاهر، و في العدول من الخطاب في قوله: سَمِعْتُمُوهُ إلى الغيبة في قوله: ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ تأكيد للتوبيخ.

لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اَللّهِ هُمُ اَلْكاذِبُونَ (13)

ثمّ لام سبحانه القاذفين بقوله: لَوْ لا جاؤُ و هلاّ أتوا حين قالوا ما قالوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون بما قالوا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربعة فَأُولئِكَ الخائضون في الإفك عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه هُمُ اَلْكاذِبُونَ في الظاهر و الباطن بخلاف ما إذا أتوا بالشهداء فانّهم صادقون في الظاهر، و إن كانوا كاذبين في الباطن، لامتناع صدور هذا العمل الشنيع من أزواج الأنبياء-عن ابن عباس: ما زنت (1)امرأة نبيّ قطّ (2)-لما في ذلك من التنفّر عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و إلحاق الوضمة به.

سوره 24 (النور): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ أظهر سبحانه شدّه غضبه على الخائضين في الإفك و منّته عليهم بالامهال بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ أيّها الخائضون وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيا من أنواع النّعم التي من جملتها الإمهال للتوبة

وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللّهِ عَظِيمٌ (15)

ص: 418


1- . في تفسير الرازي: ما بغت، و في تفسير روح البيان: لم تبغ.
2- . تفسير الرازي 30:50، تفسير روح البيان 6:125.

وَ في اَلْآخِرَةِ من ضروب الآلاء التي من جملتها العفو و المغفرة المقدّران و اللّه لَمَسَّكُمْ و لأصابكم عاجلا فِيما أَفَضْتُمْ و بسبب ما خضتم فِيهِ من حديث الإفك عَذابٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه كلّ عذاب، فضلا عن التوبيخ و الجلد.

ثمّ بيّن سبحانه وقت المسّ، أو وقت الإفاضة و الخوض في الإفك بقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ و تأخذونه من غيركم حين ملاقاة بعضكم لبعض بِأَلْسِنَتِكُمْ حتى شاع و انتشر هذا الحديث بين الناس بحيث لم يبق بيت إلاّ طار فيه على ما قيل (1).

وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ قولا ليس معناه في قلوبكم لكونه ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ و اعتقاد، مع أنّ الواجب أن يكون القول ناشئا عن الاعتقاد بمدلوله في القلب وَ تَحْسَبُونَهُ و تتوهّمونه هَيِّناً و سهلا لا تبعة له وَ هُوَ عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه عَظِيمٌ غايته لاستتباعه الذلّ و الهوان في الدنيا و العذاب الأليم في الآخرة، فانّ الافتراء على المؤمن خصوصا مثل هذا الافتراء الذي ليس أعظم منه من أكبر الكبائر، و لذا كان عذابه أشدّ العذاب و أعظمه.

سوره 24 (النور): آیه شماره 16 الی 18

ثمّ بالغ سبحانه في توبيخ الخائضين في الإفك بقوله: وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ من المخترعين له قُلْتُمْ تكذيبا له و تبرّءا من موافقتهم ما يَكُونُ حلالا لَنا من جانب اللّه أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا الكلام الشنيع، و هلاّ قلتم تعجبا من إجترائهم على التفوّه به سُبْحانَكَ هذا الإفك الذي هو من أشنع الشنائع بُهْتانٌ و افتراء عَظِيمٌ عند اللّه؟ لشدّة قبحه، و سوء عاقبته، و وضوح كذبه، لدلالة العقل على امتناعه، لكونه شينا على النبيّ المنزّه من كلّ شين.

وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اَللّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)

ثمّ زجرهم سبحانه من إتيان مثله بقوله: يَعِظُكُمُ اَللّهُ و ينصحكم أيّها الخائضون في حديث الإفك بهذه المواعظ التي تعرفون بها عظمة هذا الذنب، كراهة أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ و ترتكبون نظيره في مدّة حياتكم أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و رسوله و اليوم الآخر، فانّ الايمان اقوى الروادع من المعاصي، و فيه تهييج و تقريع.

ثمّ نبّه سبحانه على عظيم منّته بقوله: وَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ الدالة على الشرائع و محاسن

ص: 419


1- . تفسير الرازي 23:179، تفسير روح البيان 6:127.

الآداب دلالة واضحة، لتتّعظوا بها و تتأدّبوا باداب اللّه وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بمصالح عباده و أحوالهم الظاهرة و الباطنة حَكِيمٌ في أحكامه و تدابيره.

سوره 24 (النور): آیه شماره 19

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الرامين بالفحش و الجائين بالإفك و إيعادهم بالعذاب، بيّن اشتراك المحبّين لإشاعة الفواحش بين المؤمنين في جميع ذلك بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ و يريدون أَنْ تَشِيعَ اَلْفاحِشَةُ و تنتشر القبائح العظيمة فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم و ألسنتهم لَهُمْ بسبب ذلك عَذابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيا من الحدّ و الفضيحة وَ في اَلْآخِرَةِ من النار و سائر الشدائد وَ اَللّهُ يَعْلَمُ خفيّات الامور و جليّاتها، و ضمائر العباد و ظواهرهم، فيجازيهم على ضمائرهم كما يجازيهم على ظواهرهم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ إلاّ ما علّمكم اللّه من ظواهرهم، فعاملوهم بها.

إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إني لأعرف قوما يضربون صدروهم ضربا يسمعه أهل النار، و هم الهمّازون اللّمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين، و يهتكون ستورهم، و يشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يستر عبد مؤمن عورة مؤمن إلاّ ستره اللّه يوم القيامة» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده، و المهاجر من هاجر (3)ما نهى اللّه عنه» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته اذناه، فهو من الذين قال اللّه عزّ و جل: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ الآية» (5).

و عن الكاظم عليه السّلام أنه قيل له: الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه، فأسأله عنه فينكر ذلك، و قد أخبرني عنه قوم من الثقات؟ فقال: «كذّب سمعك و بصرك عن أخيك، و إن شهد عندك خمسون قسامة، و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم، و لا تذيعن عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروءته، فتكون من الذين قال اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ الآية» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أذاع فاحشة كان كمبتديها» (7).

ص: 420


1- . تفسير الرازي 23:183.
2- . تفسير الرازي 23:183.
3- . في تفسير الرازي: هجر.
4- . تفسير الرازي 23:183.
5- . تفسير القمي 2:100، الكافي 2:266/2، أمالي الصدوق:417/549، تفسير الصافي 3:426.
6- . الكافي 8:147/125، تفسير الصافي 3:426.
7- . الكافي 2:265/2، تفسير الصافي 3:426.

سوره 24 (النور): آیه شماره 20 الی 21

ثمّ بيّن سبحانه منّته على ناشر الفواحش بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بإمهالكم و تمكينكم من تدارك ما فرّطتم على أنفسكم وَ أَنَّ اَللّهَ رَؤُفٌ و شديد المودّة بكم رَحِيمٌ و عطوف عليكم بالنّعم لعذّبكم، و لكن لرأفته و رحمته يراعي ما هو أصلح لكم، و إن عصيتموه.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اَللّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

ثمّ وعظهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ بإشاعة الفاحشة، و لا تسلكوا مسالكه و لا تعملوا بسيرته، كما عمل أهل الإفك بإشاعة الفواحش وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ و يحذو حذوه فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ بتزيينهما في نظره و ترغيبه إليهما بوسوسته وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بوعظكم و توفيقكم للتوبة، و تشريع الحدود المكفّرة للذنب، و تأييده إياكم لتهذيب الأخلاق ما زَكى و ما طهر من دنس الذنب و الأخلاق الرذيلة مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً و إلى آخر الدهر وَ لكِنَّ اَللّهَ بفضله و رحمته يُزَكِّي و يطهّر من الذنوب بالحدود و التوفيق للتوبة و قبولها، و التأييد لتهذيب الأخلاق مَنْ يَشاءُ من عباده وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لأقوال عباده التي من جملتها ما قالوه من حديث الإفك و التكلّم بالفواحش، و ما أظهروه من التوبة عَلِيمٌ بأعمالهم من السعي في إشاعة المنكر، و أحوالهم من النفاق و الخلوص في الإيمان و التوبة، أو عليم بما في قلوبهم من حبّ إشاعة الفاحشة و كراهتها.

سوره 24 (النور): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ لمّا حلف أبو بكر على أن يقطع نفقته عن مسطح ابن خالته مع كونه بدريا مهاجرا فقيرا على ما قيل (1)، نهى سبحانه أبا بكر عن الحلف المذكور و برّه بقوله: وَ لا يَأْتَلِ و لا يحلف أُولُوا اَلْفَضْلِ

وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْغافِلاتِ اَلْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23)

ص: 421


1- . جوامع الجامع:314، تفسير روح البيان 6:132.

و أصحاب الثروة مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ في العيش و المال على أَنْ يُؤْتُوا أو المراد لا يقصّروا في أن يعطوا من أموالهم أُولِي اَلْقُرْبى و ذوي الأرحام وَ اَلْمَساكِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ.

قيل: نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا على أن لا يتصدقوا على من تكلّم بشيء من الإفك و لا يواسوهم (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هم قرابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله» (2).

ثمّ حثّ سبحانه على العفو و الصّفح بقوله: وَ لْيَعْفُوا البتة عنهم وَ لْيَصْفَحُوا و ليغضوا عن ذنوبهم و ليعرضوا عن لومهم.

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ و الترغيب بقوله: أَ لا تُحِبُّونَ أيّها المؤمنون أَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَكُمْ بمقابلة عفوكم و صفحكم و إحسانكم إلى من أساء إليكم.

و عن الباقر عليه السّلام: «يعفو بعضكم عن بعض و يصفح بعضكم عن بعض، فإذا فعلتم ذلك كان رحمة من اللّه لكم، يقول اللّه: أَ لا تُحِبُّونَ الآية» (3).

وَ إنّ (4)اَللّهُ غَفُورٌ و مبالغ في ستر الذنوب مضافا إلى العفو و رَحِيمٌ بعباده المذنبين مع كمال قدرته على المؤاخذة.

ثمّ أكّد سبحانه تهديد قاذفي المحصنات بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ بالفاحشة، و يقذفون النساء اَلْمُحْصَناتِ و العفيفات اَلْغافِلاتِ عنها بحيث لا يخطر ببالهنّ شيء منها و [لا]

من مقدماتها أصلا، كما قيل (5)اَلْمُؤْمِناتِ بم يجب الايمان به إيمانا حقيقيا خالصا من الشّرك و الشكّ لُعِنُوا بما قالوا في حقّهنّ، و ابعدوا من الرحمة فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ أو يدعوا عليهم باللعن المؤمنون و الملائكة أبدا وَ لَهُمْ مع ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم إذا لم يحدّوا و لم يتوبوا.

قيل: إنّ المراد من المحصنات خصوص عائشة، و من الموصول خصوص ابن ابي (6)، لدلالة الآية السابقة على العفو عن غيره.

سوره 24 (النور): آیه شماره 24 الی 25

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللّهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ (25)

ص: 422


1- . جوامع الجامع:314، تفسير الصافي 3:426.
2- . تفسير القمي 2:100، تفسير الصافي 3:426.
3- . تفسير القمي 2:100، تفسير الصافي 3:426.
4- . كذا، و التعبير لا يتفق مع حركة لفظ الجلالة، فهو مرفوع و السياق يقتضي النصب.
5- . تفسير أبي السعود 6:165، تفسير روح البيان 6:133.
6- . تفسير روح البيان 6:134.

ثمّ قرّر سبحانه الوعد بالعذاب بتعيين وقت حلوله و تهويله ببيان ظهور موجبة من القذف و سائر المعاصي في ذلك الوقت بشهادة الجوارح عليها على رؤس الأشهاد بقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ التي نطقوا بها بالقذف و غيره من الكلمات المحرّمة وَ أَيْدِيهِمْ التي عملوا بها المعاصي وَ أَرْجُلُهُمْ التي سعو إليها بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من القذف و غيره ممّا صدر عنهم بانطاق اللّه جميعها بقدرته،

فكلّ جارحة تشهد بما صدر عن صاحبها من القبائح و المعاصي يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللّهُ و يعطيهم كاملا دِينَهُمُ و جزاءهم اَلْحَقَّ الثابت الذي يستحقونه بمعاصيهم وَ يَعْلَمُونَ عند شهادة الجوارح و معاينة الأهوال و حكمه تعالى بتعذيبهم أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ و الثابت الذي لا زوال لذاته و صفاته التي منها الحكمة و العدل، و أفعاله التي منها إعطاء كلّ مستحقّ ما يستحقّه من الثواب و العقاب اَلْمُبِينُ و المطهّر للأشياء كما هي في أنفسها، أو الثابت في الوهيّته الظاهر فيها، أو العادل الظاهر في عدله.

قيل: لو تتبّعت ما في القرآن المجيد من آيات الوعيد الواردة في حقّ كلّ كفّار مريد و جبّار عنيد لا تجد شيئا منها فوق هاتيك القوارع المشحونة بفنون التهديد و التشديد، و ما ذاك إلاّ لأجل إظهار منزلة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في علوّ الشأن و النباهة و إبراز عصمة أزواجه (1)من الفحش المنافي لشأن النبوة.

سوره 24 (النور): آیه شماره 26

ثمّ ختم سبحانه قصّة الإفك بالحكم بطهارة أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله من الفحش بقوله: اَلْخَبِيثاتُ من أقاويل أهل الإفك، أو الكلمات الدالة على الذمّ و اللّعن، أو النساء الزانيات لِلْخَبِيثِينَ من الأقاويل، أو الذمائم، أو النساء الزواني بحيث لا يتجاوزوهنّ و من الرجال و النساء على التفسيرين الأولين، و من الرجال على الثالث وَ اَلْخَبِيثُونَ من الفريقين، أو من الرجال لِلْخَبِيثاتِ على المعنيين الأولين، أو من الرجال على الثالث.

اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26)القمي قال: الخبيثات من الكلام و العمل للخبيثين من الرجال و النساء (2).

وَ اَلطَّيِّباتُ من أقاويل منكري الإفك، أو الكلمات المحسنات ممّا فيه رضا اللّه، أو النساء العفيفات لِلطَّيِّبِينَ و الأعفّاء من الرجال و النساء، يسلمونهم و يصدق عليهم من قال

ص: 423


1- . تفسير أبي السعود 6:167.
2- . تفسير القمي 2:101، تفسير الصافي 3:427.

وَ اَلطَّيِّبُونَ من الرجال و النساء لِلطَّيِّباتِ من الكلام و العمل.

و في الإحتجاج عن الحسن المجتبى عليه السّلام و قد قام من مجلس معاوية و أصحابه، و قد ألقمهم الحجر قال: «اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ هم و اللّه يا معاوية أنت و أصحابك هؤلاء و شيعتك وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ إلى آخر الآية، هم علي بن أبي طالب عليه السّلام [و أصحابه] و شيعته (1).

أُولئِكَ المذكورون من الطيبين و الطيبات من النساء، أو الطيبين على المعنيين الآخرين للطيبات مُبَرَّؤُنَ و منزّهون مِمّا يَقُولُونَ فيهم، أو من أن يقولوا مثل قولهم، أو من أن يقال بشيء في حقّهم من الذّم و اللّعن.

ثمّ أنّه تعالى بعد تنزيههم من الفحش، أو القول و العمل السيئين، أثبت لهم الكرامة عنده بقوله: لَهُمْ بالاستحقاق مَغْفِرَةٌ عظيمة، لما لا يخلوا البشر من الزلاّت وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ، و كثير أو الحسن الطيب في الآخرة من الجنّة و الدرجات العالية و النّعم الدائمة و الكرامات الفائقة.

سوره 24 (النور): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم الرمي و القذف و عقابهما و سائر ما يتعلّق بهما، نهى عن الدخول في الخلوات الموجب للتهمة بغير إذن بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً مسكونة بالملك أو الإجارة أو العارية حال كونها غَيْرَ بُيُوتِكُمْ التي تسكنونها بأنفسكم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا و تستأذنوا من ساكنيها في الدخول، و تستعلموا رضاهم به بالتسبيح أو التكبير أو التنحنح، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2)أو وقع النّعل كما عن الصادق عليه السّلام (3)وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها و ساكنيها من وراء الباب بأن تقولوا: السّلام عليكم أهل البيت أ أدخل.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)روي أنّه جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، إنّي أكون في بيتي على الحالة التي

ص: 424


1- . الإحتجاج:278، تفسير الصافي 3:427.
2- . تفسير روح البيان 6:137.
3- . تفسير القمي 2:101، معاني الأخبار:163/1، تفسير الصافي 3:428.

لا احبّ أن يراني عليها أحد، فيأتي الآتي فيدخل، فكيف أصنع؟ قال: «ارجعي» فنزلت هذه الآية (1).

و في (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أن رجلا استأذن عليه فتنحنح، فقال [رسول صلّى اللّه عليه و آله]لامرأة يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلّميه، و قولي له: قل السّلام عليك (2)أ أدخل؟» فسمعها الرجل فقالها، فقال: «ادخل» (3).

و روي الفخر الرازي أنّه استأذن رجل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: أ ألج؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله لامرأة يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلّميه، فانّه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول: السّلام عليكم أ أدخل؟» فسمعها الرجل فقالها، فقال: «أدخل» فدخل، و سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أشياء، و كان يجيبه، إلى أن قال: و كان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حيّيتم صباحا، و حييتم مساء، ثمّ يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فصد اللّه تعالى عن ذلك، و علم الأحسن و الأجمل (4).

و روى أبو هريرة عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الاستئذان ثلاث: بالاولى يستنصتون، و بالثانية يستصلحون، و بالثالثة يأذنون أو يردّون» (5).

و عن جندب، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» (6).

و عن عطاء قال: سألت ابن عباس و قلت: أستأذن على اختي و أنا (7)انفق عليها؟ قال: نعم، إن اللّه تعالى يقول: وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا (8)و لم يفرّق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم (9).

و روي أن رجلا سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: أستأذن على اختي؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «نعم، أتحبّ أن تراها عريانة!» (10).

و عن (المجمع) أن رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أستأذن على أمّي؟ قال: «نعم» قال: إنّها ليس لها خادم غيري، أفأستأذن عليها كلّما دخلت؟ قال: «أتحبّ أن تراها عريانة!» قال الرجل: لا. قال: «فاستأذن عليها» (11).

و عن الصادق عليه السّلام: «يستأذن الرجل إذا دخل على أبيه، و لا يستأذن الأب على ابنه، و يستأذن الرجل

ص: 425


1- . تفسير روح البيان 6:137.
2- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: عليكم.
3- . مجمع البيان 7:213، تفسير الصافي 3:428.
4- . تفسير الرازي 23:197.
5- . تفسير الرازي 23:197.
6- . تفسير الرازي 23:197.
7- . في تفسير الرازي: و من.
8- . النور:24/58.
9- . تفسير الرازي 23:199، و زاد فيه: محرم.
10- . تفسير الرازي 23:199.
11- . مجمع البيان 7:213، تفسير الصافي 3:428.

على ابنته و اخته إذا كانتا متزوّجتين؟» (1)

و عنه عليه السّلام: «إنّما الإذن على البيوت، ليس على الدار إذن» (2).

ثمّ حثّ سبحانه على الاستئذان و التسليم بقوله: ذلِكُمْ المذكور من الاستئذان و التسليم خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول بغتة، و إنما أمرتم بهما لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ و تعلمون ما هو أصلح لكم، أو المراد تتّعظون و تعملون بموجبه

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا في البيوت، و لم تعلموا أنّ فِيها أَحَداً من ساكنيها أصلا فَلا تَدْخُلُوها و اصبروا حَتّى يُؤْذَنَ في الدخول لَكُمْ لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه، أو تهمة السرقة.

ثمّ لمّا كان جعل النهي مغيى بالاستئذان موهما للرّخصة في تكرير الاستئذان و لو بعد الردّ دفع اللّه التوهّم بقوله: وَ إِنْ قِيلَ من جهة أهل البيت لَكُمْ لا مجال للإذن، و نحن معذرون فيه اِرْجِعُوا و انصرفوا فَارْجِعُوا و لا تلحّوا في الاستئذان بتكريره، و لا تلجوا في الدخول بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الإذن، فإنّ الرجوع هُوَ أَزْكى و أطهر لَكُمْ ممّا لا يخلو عنه اللّجّ و الالحاح من جلب الكراهة في القلوب و القدح في المروءة وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الالحاح و الرجوع عَلِيمٌ فيجازيكم عليه.

سوره 24 (النور): آیه شماره 29

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم البيوت المسكونة للاشخاص الخاصة، بيّن حكم البيوت غير الموضوعة لسكنى طائفة خاصة بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و حرج في أَنْ تَدْخُلُوا بغير الاستئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ لشخص مخصوص فِيها مَتاعٌ و انتفاع لَكُمْ.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (29)روي أن أبا بكر قال: يا رسول اللّه، إنّ اللّه أنزل عليك آية في الاستئذان، و إنّا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أ فلا ندخلها إلاّ بإذن؟ فنزلت (3).

و عن محمّد بن الحنفية: أنّها الخانات و الرباطات و حوانيت البيّاعين و المتاع المنفعة كالاستكنان من الحرّ و البرد و إيواء الرجال (4)و السّلع و الشراء و البيع (5).

ص: 426


1- . الكافي 5:528/3، تفسير الصافي 3:428.
2- . من لا يحضره الفقيه 3:154/677، تفسير الصافي 3:428.
3- . تفسير الرازي 23:200، تفسير أبي السعود 6:169.
4- . في تفسير الرازي: الرحال.
5- . تفسير الرازي 23:200.

و قيل: إنّها الحمّامات (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «هي الحمّامات و الخانات و الأرحية، و تدخلها بغير إذن» (2).

أقول: الظاهر أنّ المراد كلّ بيت معدّ لدخول الناس و لو لبعض حوائجهم، و ما ذكر في الروايات إنّما هو من باب المثال و ذكر المصداق، فيدخل في الآية محكمة القضاة، و مطب الأطبّاء، و المكتبة المعدّة لورود الناس و مطالعة الكتب و نظائرها.

ثمّ أوعد اللّه سبحانه الداخلين في البيوت بقصد الفساد و الاطلاع على العورات بقوله: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ و تظهرون من الأعمال وَ ما تَكْتُمُونَ و تسترون من الضمائر و النيّات فيجازيكم عليها.

سوره 24 (النور): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ لمّا كان غضّ البصر و حفظ الفروج من شؤون العفاف و وظيفة المستأذنين، أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ وجوبهما إلى المؤمنين و المؤمنات بقوله: قُلْ يا محمّد لِلْمُؤْمِنِينَ أيّها المؤمنون غضّوا، كي يَغُضُّوا بعضا مِنْ أَبْصارِهِمْ عن النساء الأجنبيات و خصوص عورات المحارم سوى الأزواج.

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ اَلتّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجالِ أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ اَلنِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)و قيل: إنّ كلمة (من) زائدة (3)و المعنى يغضّوا ابصارهم.

و قيل: إنّ المعنى أن ينقصوا من نظرهم (4)وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ و عوراتهم من أن ينظر إليها الرجال و النساء من الأجنبيات و المحارم سوى الأزواج.

و قيل: إنّما قال مِنْ أَبْصارِهِمْ و لم يقل: من فروجهم؛ لأنّه قد يجوز النظر إلى ما عدا عورة

ص: 427


1- . تفسير الرازي 23:200، تفسير أبي السعود 6:169، تفسير روح البيان 6:139.
2- . تفسير القمي 2:101، تفسير الصافي 3:429.
3- . كنز العرفان 2:220.
4- . تفسير الرازي 23:202.

المحارم و إلى ما يظهر في العادة من وجوه الأجنبيات و أكفّهنّ حال الضّرورة، و إلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع، و كذا الطبيب للعلاج، و الشاهد لتحمّل الشهادة و إقامتها، و النظر إلى المخطوبة مع إمكان نكاحها شرعا و عرفا، و يقتصر على نظر الوجه، و كذا النظرة الاولى من غير لذّة أو ريبة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «و لكم أول نظرة، فلا تتبعوها بالثانية» (1)و أمّا حفظ الفرج فهو أضيق من الغضّ، لاختصاص التحريم بمن عدا الزوجة و ملك اليمين، فلذلك لم يقل: من فروجهم.

ذلِكَ المذكور من غضّ البصر و حفظ الفرج أَزْكى و أطهر لَهُمْ من دنس الريبة إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم و أحوالهم، فليكونوا منه على حذر.

روي أنّ النظر سهم من سهام إبليس (2).

و عن عيسى بن مريم عليه السّلام أنّه قال: إياكم و النظرة، فانّها تزرع في القلوب شهوة (3).

و في الحديث: «احفظوا (4)لي ستا من أنفسكم، أضمن لكم الجنّة-إلى أن قال: -و احفظوا فروجكم، و غضّوا أبصاركم» (5).

وَ قُلْ يا محمد لِلْمُؤْمِناتِ إنّهنّ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرون إلى ما لا يحلّ النظر إليه وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتستّر و التصوّن، و إنما قدّم الأمر بالغضّ لأنّ النظر بريد الزنا و رائد الفجور.

عن الصادق عليه السّلام: «كل آية في القرآن في حفظ (6)الفروج فهي من الزنا إلاّ هذه الآية، فانّها من النظر، فلا يحلّ لرجل مؤمن أن ينظر إلى فرج أخيه، و لا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى فرج اختها» (7).

و في رواية عنه عليه السّلام: «و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم اللّه عليه، و أن يعرض عمّا نهى اللّه عنه ممّا لا يحلّ له، و هو عمله، و هو من الإيمان، فقال اللّه تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ -يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم، و أن ينظر المرء إلى فرج أخيه، و يحفظ فرجه من أن ينظر إليه، و قال: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فنهاهنّ من أن تنظر إحداهنّ إلى فرج اختها، و تحفظ فرجها من أن ينظر إليها» . و قال: «كلّ شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذه الآية، فانّها من النظر» (8).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن،

ص: 428


1- . كنز العرفان 2:221.
2- . تفسير روح البيان 6:141.
3- . تفسير روح البيان 6:140.
4- . في تفسير روح البيان اضمنوا.
5- . تفسير روح البيان 6:140.
6- . في تفسيري القمي و الصافي: ذكر.
7- . تفسير القمي 2:101، تفسير الصافي 3:429.
8- . الكافي 2:30/1، تفسير الصافي 3:429.

فنظر إليها و هي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها و دخل في زقاق-سمّاه ببني (1)فلان-فجعل ينظر إليها من خلفها، فاعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة، فشق [وجهه]فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و اللّه لآتين رسول اللّه و لأخبرنّه، فأتاه فلمّا رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية» (2).

ثمّ خصّ سبحانه النساء بالنهي عن إظهار الزينة و مواضعها بقوله: وَ لا يُبْدِينَ و لا يظهرن زِينَتَهُنَّ قيل: يعني المحاسن التي خلقهنّ اللّه عليها (3).

و قيل: المحاسن المكتسبة كالقلب، و القلادة، و القرط، و الخلخال (4)إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها على حسب العادة كالكحل، و الخاتم، و السّوار.

عن الصادق عليه السّلام قال: «الزينة الظاهرة الكحل و الخاتم» (5).

و في رواية أخرى: «الخاتم، و المسكة، و هي القلب» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «هي الثياب، و الكحل، و الخاتم، و خضاب الكفّ، و السّوار» .

و قال: الزينة ثلاثة: زينة للناس، و زينة للمحرم، و زينة للزوج، فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها، و أمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها، و الدملج (7)و ما دونه، و الخلخال و ما استفل (8)منه، و أمّا زينة الزوج فالجسد كلّه (9).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل: ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: «الوجه و الكفّان و القدمان» (10).

و عن (الجوامع) عنهم عليهم السّلام: «الكفّان و الأصابع» (11). و حمل الأخبار المعارضة على الكراهة أولى من حمل هذه الأخبار على التقيّة أو النظر الاتّفاقي.

ثمّ قيل: إنّ نساء الجاهلية كنّ يشددن خمرهنّ و مقانعهنّ من خلفهنّ، و إنّ جيوبهنّ كانت من قدّام، فكانت تنكشف نحورهنّ و قلائدهن، فأمر اللّه المؤمنات بستر أعناقهنّ و نحورهنّ (12)بقوله:

ص: 429


1- . في تفسير الصافي: لبني.
2- . الكافي 5:521/5، تفسير الصافي 3:430.
3- . تفسير الرازي 23:205.
4- . تفسير الرازي 23:205، و القلب: السّوار يكون نظما واحدا، و القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من الحلّي، و الخلخال: حليه كالسّوار تلبسها النساء في أرجلهن.
5- . الكافي 5:521/3، تفسير الصافي 3:430.
6- . الكافي 5:521/4، تفسير الصافي 3:430.
7- . الدّملج سوار يحيط بالعضد.
8- . في تفسيري القمي و الصافي: و ما اسفل.
9- . تفسير القمي 2:101، تفسير الصافي 3:430.
10- . الكافي 5:521/2، تفسير الصافي 3:430.
11- . جوامع الجامع:315، تفسير الصافي 3:430.
12- . تفسير الرازي 23:206.

وَ لْيَضْرِبْنَ و ليلقين بِخُمُرِهِنَّ و ما يستر به روؤسهنّ من المقانع عَلى جُيُوبِهِنَّ لتستر أعناقهنّ و نحورهنّ و صدورهنّ و قلائدهنّ و قروطهنّ و شعورهن عن الأجانب.

ثمّ أعاد سبحانه النهي عن إبداء الزينة بقوله: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لتخصيصه بقوله: إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ و أزواجهنّ أَوْ آبائِهِنَّ و إن علوا أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ و فحولهنّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ و إن نزلوا أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ كذلك أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ المختصّات بهنّ من حرائر المؤمنات المؤتمنات عن وصفهنّ للرجال، فانّ الكافرات لا يؤتمنّ على ذلك.

عن الصادق عليه السّلام: «لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية و النصرانية، فانهنّ يصفن ذلك لأزواجهنّ» (1).

أقول: لا شبهة أنّ النهي فيه للكراهة، كما يشعر به لفظ (لا ينبغي) .

أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من الإماء دون العبيد، كما عليه المشهور (2)أو و لو كان عبدا كما عليه بعض العامة (3)، و الخاصة لقول الصادق عليه السّلام: «يعني العبيد و الإماء» (4).

و قوله عليه السّلام: «لا بأس أن يرى المملوك الشعر و الساق» (5)، و في رواية: «شعر مولاته و ساقها» (6). و في اخرى: «إلى شعرها إذا كان مأمونا» (7). و عنه عليه السّلام: «لا يحلّ للمرأة أن ينظر عبدها إلى شيء من جسدها إلاّ إلى شعرها غير متعمّد لذلك» (8).

أقول: يعني غير مريد للتلذّذ، و في صورة الشكّ يحمل نظره على الصحّة، و يؤيد ذلك نفي الحرج، و كون الدين سمحا سهلا أو المراد الإماء و خصوص الخصيّ من العبيد، لنقل الإجماع المعتقد بالشهرة على حرمة النظر في غيره، و الصحاح سئل عن قناع الحرائر من الخصيان، فقال: «كانوا يدخلون على بنات أبي الحسن عليه السّلام و لا يتقنعن» .

قلت: إن كانوا أحرارا؟ قال: «لا» .

قلت: فالأحرار يتقنّع منهم؟ قال: «لا» (7).

ص: 430


1- . الكافي 5:519/5، من لا يحضره الفقيه 3:366/1742، تفسير الصافي 3:431.
2- . مجمع البيان 7:217، تفسير روح البيان 6:143.
3- . تفسير الرازي 23:207، تفسير البيضاوي 2:122، تفسير أبي السعود 6:170.
4- . مجمع البيان 7:217، تفسير الصافي 3:431.
5- . الكافي 5:531/2، تفسير الصافي 3:431.
6- . الكافي 5:531/3، تفسير الصافي 3:431. (7 و 8) . الكافي 5:531/4، تفسير الصافي 3:431.
7- . الكافي 5:532/3.

و قيل: المملوك منه داخل في قوله: أَوِ اَلتّابِعِينَ (1)لهنّ، لأجل المعيشة حال كونهم غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ و الحاجة إلى النساء مِنَ اَلرِّجالِ لعدم الشهوة كالخصيّ المقطوع الانثيين، و الشيوخ الذين سقطت شهوتهم كما عن الكاظم عليه السّلام.

نعم روي عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يكون له الخصيّ يدخل على نسائه يناولهنّ الوضوء (2)، فيرى شعورهن؟ قال: «لا» (3).

و في خبر آخر: سئل عن امّ ولد هل يصلح لها أن ينظر إليها خصيّ مولاها و هي تغتسل؟ قال: «لا يحلّ ذلك» (4).

و يمكن حمل الأول على الكراهة، و الظاهر من الثاني السؤال عن رؤيته جميع بدنها، مع أنّ بعض الأخبار المجوّزة صحاح و بعضها موثقات بخلاف الأخيرين المانعين، و قيل بترجيح الأخيرين لموافقتهما للمشهور بين الخاصة، و مخالفتهما لما عليه أساطين (5)العامة.

و في أنّ ذهاب المشهور إلى المنع لعلّه لتوهّم الاجماع عليه، لا لخلل في الروايات المجوّزة، و مخالفتها (6)لما عليه الأساطين (7)، لو سلمت المعارضة بموافقتها (8)لما عليه أساطين العامة، كأبي حنيفة فإنّه حمل التابعين على العبيد الصغار حتى إنّه قال: لا يحلّ إمساك الخصيان و استخدامهم و بيعهم و شراؤهم (9)، بل لم ينقل الجواز إلاّ عن الشافعي فانّه حمل التابعين على الخصيّ و المجبوب (10). و قال الصيّمري: إنّه لم يسبق إلى هذا القول.

و الحاصل أنّ الأخبار المانعة موافقة للمشهور بين العامة الذين امرنا بمخالفتهم، مع أنّه مخالفة لظاهر الكتاب الذي امرنا بالأخذ بما وافقه و طرح ما خالفه، و الأخبار المجوّزة مؤيدة في صورة نظر الخصيّ المملوك للمرأة إلى شعر مولاته بأدلّة نفي الحرج، و كون الشريعة سمحة سهلة، و جواز النظر إلى شعر القواعد من النساء لعدم كونها معرضا للشهوة و الرّيبة، و نظر البله (11)الذين لا يعرفون شيئا من امور النساء، كما عن الصادق عليه السّلام تفسير التابعين بهم (12).

و الظاهر من عبائر كثير من المانعين المنع من كون الخصيّ محرما لمولاته بحيث يجوز له النظر إلى

ص: 431


1- . مجمع البيان 7:218.
2- . الوضوء: الماء يتوضأ به.
3- . الكافي 5:532/2، تفسير الصافي 3:432.
4- . الكافي 5:532/1.
5- . في النسخة: سلاطين.
6- . في النسخة: مخالفتهما.
7- . في النسخة: السلاطين.
8- . في النسخة: بموافقتهما.
9- . كنز العرفان 2:223.
10- . كنز العرفان 2:223، و فيه الخصي المجبوب، و المجبوب: المقطوع الأنثيين.
11- . البله: جمع أبله، و هو الذي ضعف عقله و غلبت عليه الغفلة.
12- . كنز العرفان 2:223.

ما عدا عورتها كسائر المحارم، و لا نقول به، بل نقول بجواز نظره إلى شعرها و ساقها، و ما في (المسالك) من جواز نظر الخصيّ بل الفحل إلى مالكته، و تبعه عليه بعض من تأخّر عنه، محمول عليه.

فتبين من جميع ما ذكر أنه لو لا الشهرة العظيمة، و دعوى الاجماع على المنع، لكان القول بجواز نظر كلّ من المرأة و مملوكها الخصيّ إلى شعر الآخر و ساقه هو المتعيّن إلاّ أنّ الأحوط خلافه.

أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا و لم يطلّعوا، أو لم يقدروا عَلى عَوْراتِ اَلنِّساءِ لعدم تميّزهم بينها و بين غيرها، أو عدم بلوغهم حدّا يشتهون التمتّع منهن و يتمكّنون من جماعهنّ.

ثمّ بالغ سبحانه في نهي النساء عن إظهار زينتهنّ بقوله: وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ على الأرض لِيُعْلَمَ بصوت الخلخال و غيره ما يُخْفِينَ عن أعين الرجال مِنْ زِينَتِهِنَّ فانّ ذلك ممّا يورث ميل الرجال إليهنّ، و يؤهم أنّ لهن الميل إلى الرجال.

قيل: كانت الجاهليات يضربن بأرجلهن على الأرض، ليسمع صوت خلاخلهنّ، فنهي المسلمات عن ذلك لأنّه في حكم النظر (1).

و عن ابن عباس: كانت المرأة تمرّ بالناس و تضرب برجلها لتسمع قعقعة الخلخال (2). و في النهي عن استماع صوت الزينة الدالّ على وجودها تأكيد للمنع عن إظهارها.

ثمّ لمّا كان حفظ النفس عن الشهوات في غاية الصعوبة بحيث لا تخلو نفس عن التقصير فيه، حثّ سبحانه الناس على التوبة بقوله: وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ من التفريط في أوامره و نواهيه، سيّما في الكفّ عن الشهوات لَعَلَّكُمْ بها تُفْلِحُونَ و تفوزون بخير الدنيا و الآخرة.

و عن ابن عباس: توبوا ممّا كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلّكم تسعدون (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 32

ثمّ أمر سبحانه بالنّكاح الصائن عن السّفاح بقوله: وَ أَنْكِحُوا و زوّجوا أيّها الأولياء و الموالي اَلْأَيامى و العزّاب الأحرار من الذكر و الانثى مِنْكُمْ و من عشيرتكم وَ اَلصّالِحِينَ و المؤمنين أو الأهلين للنكاح مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ.

وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)و قيل: إنّ المراد من الصلاح معناه الظاهر، و التقييد به للترغيب فيه، فانّهم إذا علموا به رغبوا في

ص: 432


1- . كنز العرفان 2:224.
2- . تفسير الرازي 23:209.
3- . تفسير الرازي 23:210.

الصلاح و التقوى (1).

و قيل: إنّه من باب التسمية باسم ما يؤول إليه، فانّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام (2).

ثمّ بالغ سبحانه بالحثّ عليه بقوله: إِنْ يَكُونُوا الأحرار و المماليك فُقَراءَ و عادمي المال يُغْنِهِمُ اَللّهُ و يكفيهم مؤنتهم مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه فلا يمنع فقر الخاطب و المخطوبة من المناكحة؛ لأنّ في فضل اللّه غنية وَ اَللّهُ واسِعٌ فضلا و قدرة عَلِيمٌ بمصالح عباده في بسط الرزق و التقتير، ففي الآية دلالة على استحباب النّكاح للعزّاب [سواء أ]كانوا أغنياء أم فقراء تائقين (1)أم مطيقين.

روي أنّه «من تزوّج فقد أحرز نصف دينه» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من ترك التزويج مخافة العيلة (3)فقد أساء ظنّه باللّه عزّ و جلّ، إنّ اللّه عزّ و جل يقول: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (4).

و عنه عليه السّلام: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فشكا إليه الحاجة، فقال: تزوج فتزوّج فوسّع عليه» (5).

و روى بعض العامة عنه عليه السّلام: أنّ رجلا شكا إليه الفقر فأمره أن يتزوّج فتزوّج الرجل، فشكا إليه الفقر فأمره بأن يطلّقها فسئل عن ذلك فقال: «قلت له تزوّج، لعلّه من أهل هذه الآية: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فلمّا لم يكن من أهلها قلت: طلقها، لعلّه من أهل آية اخرى: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ (6).

و في الحديث: «يأتي على الناس زمان لا تنال فيه المعيشة إلاّ بالمعصية، فاذا كان ذلك الزمان حلّت العزوبة» (7).

ثمّ إنّه استدلّ كثير من العامة بهذه الآية على أنّ أمر نكاح النساء بيد الأولياء، و ليس لهنّ الاستبداد به كالإماء اللاّتي أمر نكاحهنّ بيد مواليهنّ. و فيه منع واضح، مضافا إلى معارضتها بقوله: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بِالْمَعْرُوفِ (8)و إلى الإجماع المحقّق على استبداد الثّيّبات به.

ص: 433


1- . التائق: الشديد الاشتياق إلى الوطئ.
2- . أمالي الطوسي:518/1137.
3- . العيلة: الفقر و الحاجة.
4- . الكافي 5:330/5، تفسير الصافي 3:432.
5- . الكافي 5:330/2، تفسير الصافي 3:432.
6- . تفسير روح البيان 6:147، و الآية من سورة النساء:4/130.
7- . تفسير روح البيان 6:148.
8- . البقرة:2/232.

سوره 24 (النور): آیه شماره 33

ثمّ لمّا أمر سبحانه بالتزويج و ترك الكفّ عنه مخافة العجز عن النفقة، أمر من لا يقدر على مقدّماته بالتعفّف بقوله: وَ لْيَسْتَعْفِفِ و ليجتهد في حفظ النفس عن الحرام الرجال اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً و لا يقدرون على مقدّماته من المهر و سائر لوازمه المتعارفة بالرياضة الكاسرة للشهوة، كالصوم كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يا معشر الشبّان، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، و من لم يستطع فعليه الصوم فانّه و جاء» (1).

وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)أقول: الباءة: هو الجماع، و استعمل هنا في النّكاح، و الوجاء: رضّ انثيي الفحل رضا شديدا قامعا لشهوة الجماع.

و المراد أنّ الصوم كالرضّ قاطع للشهوة، فعلى المؤمنين الفقراء أن يروّضوا أنفسهم بالصوم، و يضعّفوا شهوتهم كي يحصل بذلك صيانة فروجهم و عفّة أنفسهم حَتّى يُغْنِيَهُمُ اَللّهُ باعطائهم ما يتزوّجون به مِنْ فَضْلِهِ و جوده.

و عن الصادق عليه السّلام-في تفسيره-قال «يتزوّجون حتى يغنيهم اللّه» (2).

أقول: يعني الذين ليس لهم مؤنة النّكاح زائدة على معاشهم، فليستعففوا بالتزويج، بأن يستقرضوا، أو يبيعوا من أثاثهم و غيره كي يغنيهم اللّه.

ثمّ إنّه تعالى بعد ترغيب الموالي في الإحسان إلى مماليكهم بالتزويج، رغّبهم في الإحسان إليهم بمكاتبتهم إذا طلبوها لأن يتحرّروا و يتخلّصوا من ذلّ الرقيّة بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ و يطلبون منكم أيّها الموالي اَلْكِتابَ و جعل مال عليهم بعوض عنتهم مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبد أو أمة فَكاتِبُوهُمْ و أجيبوهم إلى ما طلبوه من بيعهم من أنفسهم إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً و رشدا لتحصيل مال الكتابة من الحلال و قدرة عليه كما قيل (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إن علمتم لهم حرفة، فلا تدعوهم كلاّ على الناس» (4).

ص: 434


1- . تفسير الصافي 3:433.
2- . الكافي 5:331/7، تفسير الصافي 3:433.
3- . تفسير أبي السعود 6:172، تفسير روح البيان 6:149.
4- . تفسير الرازي 23:217.

و قيل: يعني إن علمتم لهم صلاحا في الدين (1).

و عن ابن عباس: إن علمتم لهم مالا، و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام (2).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «إن علمتم دينا و مالا» (3).

و في الثالثة: «الخير أن يشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، و يكون بيده عمل يكتسب به، و (4)يكون له حرفة» (5).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن العبد يكاتبه مولاه و هو يعلم أنّه ليس له قليل و لا كثير؟ قال: «يكاتبه و إن كان يسأل الناس، و لا يمنعه المكاتبة من أجل أنّه ليس له مال، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يرزق العباد بعضهم من بعض، و المؤمن معان» (6).

أقول: حاصل مجموع الروايات أنّه يعتبر في استحباب المكاتبة إيمان العبد، و تمكّنه من أداء مال الكتابة، و لو بإعانة الغير.

ثمّ حثّ سبحانه الموالي إلى إكثار الإحسان إلى المكاتبين بقوله: وَ آتُوهُمْ أيها الموالي، و أدفعوا إليهم شيئا مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ و لو كان بعضا ممّا جعلتم عليهم من مال الكتابة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كفى بالمرء شحّا أن يقول: آخذ حقّي و لا أترك منه شيئا» (7).

عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له، فترك له ربع مكاتبته، و قال: إنّ عليا عليه السّلام كان يأمرنا بذلك و يقول: «هو قول اللّه تعالى: وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ فان لم تفعل فالسّبع» (8).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «تضع [عنه]من نجومه التي لم تكن تريد أن تنقصه [منها]، و لا تزيد فوق ما في نفسك» . فقيل: كم؟ فقال: «وضع أبو جعفر عليه السّلام [عن مملوكه]الفا من ستّة آلاف» (9).

و عنه عليه السّلام: «لا تقول اكاتبه بخمسة آلاف و أترك له ألفا، و لكن [انظر]إلى الذي أضمرت عليه فأعطه» (10).

ص: 435


1- . تفسير الرازي 23:218، تفسير البيضاوي 2:123.
2- . تفسير الرازي 23:218، التهذيب 8:268/975، تفسير الصافي 3:433.
3- . الكافي 6:187/10، التهذيب 8:270/984، تفسير الصافي 3:433.
4- . في من لا يحضره الفقيه و تفسير الصافي: أو.
5- . من لا يحضره الفقيه 3:78/278، تفسير الصافي 3:433.
6- . من لا يحضره الفقيه 3:76/268، و فيه: فالمحسن معان، تفسير الصافي 3:433.
7- . تفسير روح البيان 6:149.
8- . تفسير الرازي 23:218.
9- . الكافي 6:189/17، تفسير الصافي 3:434.
10- . الكافي 6:187/7، عن أحدهما عليهما السّلام، تفسير الصافي 3:434.

و عن ابن عباس: أنّ الخطاب لغير السادات (1)، و المراد و آتوهم سهمهم الذي جعل اللّه لهم من الصدقات في قوله: وَ فِي اَلرِّقابِ (2).

و قيل: هذا أمر من اللّه للسادة و للناس أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من آعان مكاتبا على فكّ رقبته أظلّه اللّه تعالى في ظلّ عرشه» (4).

و روي أن رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: علمني عملا يدخلني الجنّة. قال: «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعظمت المسألة، أعتق النّسمة و فكّ الرقبة» فقال: أليسا واحدا؟ فقال: «لا، عتق النّسمة أن تنفرد بعتقها، و فكّ الرقبة أن تعين في ثمنها» (3).

روي أن صبيحا مولى خويطب بن عبد العزّى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فنزلت الآية (4).

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر الموالي بتزويج العبيد و الإماء و مكاتبتهم، نهى عن الاساءة إليهم بإكراههم على الفجور بقوله: وَ لا تُكْرِهُوا أيها الموالي فَتَياتِكُمْ و إماءكم عَلَى اَلْبِغاءِ و الفجور و التكسّب بفروجهن إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً و تعفّفا.

قيل: إن الشرطية لبيان تحقّق موضوع الاكراه، لأنّ الإكراه لا يتحقّق إلاّ مع إرادة الأمة التعفّف (5).

و قيل: إن القيد مبنيّ على الغلبة، كما في قوله: وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ (6).

و قيل: إنّ كلمة (إن) بمعنى إذا التوقيتية (7).

لِتَبْتَغُوا و تطلبوا باكراههنّ على الفجور عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و حطامها الفانية الدنيّة. روي أنه كان لعبد اللّه بن ابي ستّ جوار: معاذة، و مسيكة، و اميمة، و عمرة، و أروى، و قتيلة، يكرههنّ على البغاء، و ضرب عليهن الضرائب، فشكت ثنتان منهنّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت (8).

و قيل: إن عبد اللّه بن ابي اسر رجلا، فراود الأسير جارية عبد اللّه، و كانت الجارية مسلمة، فامتنعت منه لاسلامها، فأكرهها ابن ابي على ذلك رجاء أن تحمل الجارية من الأسير، فيطلب فداء ولده فنزلت (9).

و عن ابن عباس: أن عبد اللّه بن ابي جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه جارية من أجمل النساء تسمّى معاذة، فقال: يا رسول اللّه هذه الأيتام (10)، أ فلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا» فأعاد

ص: 436


1- . تفسير الرازي 23:218، و فيه: السادة.
2- . البقرة:2/177. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:218.
3- . تفسير الرازي 23:218.
4- . تفسير الرازي 23:217.
5- . مجمع البيان 7:221.
6- . النساء:4/23.
7- . تفسير الكشاف 3:240.
8- . تفسير الرازي 23:220.
9- . تفسير الرازي 23:220.
10- . في تفسير الرازي: لأيتام فلان.

الكلام فنزلت (1).

و عن جابر بن عبد اللّه، قال: جاءت جارية لبعض الناس فقالت: إنّ سيدي يكرهني على البغاء، فنزلت (2).

و القمي رحمه اللّه: كانت العرب و قريش يشترون الإماء، و يضعون (1)عليهنّ الضريبة الثقيلة، و يقولون: اذهبن و ازنين و اكتسبن، فناههم اللّه عزّ و جلّ عن ذلك (2).

ثمّ بيّن سبحانه إحسانه بالمكرهات بقوله: وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ على البغاء فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ بهن لكونهنّ معذورات بسبب الإكراه، و إنّما الإثم على المكرهين.

القمي رحمه اللّه: أي لا يؤاخذهنّ اللّه بذلك إذا أكرهن عليه (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «هذه الآية منسوخة نسختها فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ» (4).

آقول: الرواية مخالفة للقاعدة المتّفق عليها.

سوره 24 (النور): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الأحكام الكثيرة، مدح كتابه الكريم بقوله: وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ أيها الناس آياتٍ مُبَيِّناتٍ و أحكام واضحات بلسانكم وَ مَثَلاً و قصة عجيبة نظيرة للقصص العجيبة المتواترة مِنَ الأقوام اَلَّذِينَ خَلَوْا و مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ من الدنيا، كرمي البرئ الذي وقع في شأن يوسف و مريم، أو المراد إنا بيّنا قصة حلول العذاب بالامم الذين من قبلكم لتكذيبهم الرسل، و جعلنا ذلك مثلا لكم، لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العذاب

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ اَلْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ اَلزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اَللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

ص: 437


1- . في تفسير القمي: و يجعلون.
2- . تفسير القمي 2:102، تفسير الصافي 3:434.
3- . تفسير القمي 2:102، تفسير الصافي 3:434.
4- . تفسير القمي 2:102، تفسير الصافي 3:434، و الآية من سورة النساء:4/25.

وَ انزلنا مَوْعِظَةً نافعة لِلْمُتَّقِينَ و الخائفين من اللّه، و سوء العاقبة من الوعيد، و التحذير عن المعاصي، كي تتعظوا بها و تتزجروا عنها.

ثمّ لما بيّن سبحانه الأحكام و الحدود التي بها ينتظم العالم، و تتّسق امور عيش بني آدم، و كان ذلك من شؤون مديريته للكلّ، وصف ذاته المقدّسة بكمال التدبير و غاية الحكمة، أو من شؤون كونه هاديا إلى الخيرات و دليلا منجيا من الظلمات بقوله: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مدبّرهما بقدرته الكاملة و حكمته البالغة، و سائق الموجودات إلى كمالها اللائق بها برحمته الواسعة، أو ناظمها أحسن نظام، أو منوّرهما بالشمس و القمر و الكواكب، أو مظهرهما و مخرجهما من كتم العدم إلى الوجود، أو مزيّن السماوات بالكواكب، و الأرض بالعلماء، أو هاد لأهل السماوات و لأهل الأرض، كما عن ابن عباس و أكثر مفسري العامة (1). و عن الرضا عليه السّلام أيضا (2).

و عن البرقي هدى من في السماوات، و هدى من في الأرض (3).

ثمّ بيّن وضوح هدايته بقوله: مَثَلُ نُورِهِ و الحالة العجيبة لهدايته التي هي الآيات البيّنات الدالة على توحيده و كمال صفاته، أو القرآن الذي هو نور و مظهر للصراط المستقيم، أو الرسول الهادي إلى الدين القويم، أو معارفه في قلوب المؤمنين كما عن ابن عباس (2)كَمِشْكاةٍ و مثل كوّة غير نافذة في الجدار موصوفة بأن (3)فِيها مِصْباحٌ و سراج ضخم مثير ثاقب يكون ذلك اَلْمِصْباحُ موضوعا فِي زُجاجَةٍ و قنديل صاف أزهر متلألئ، تلك اَلزُّجاجَةُ بحيث تكون من غاية تلألوءها كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ مضيء متلأليء من الكواكب الدراري المشهورة كالمشتري و الزّهرة و المرّيخ و عطارد و زحل و يُوقَدُ و يشتعل ذلك المصباح بدهن مِنْ دهن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ عظيمة النفع، أو النابتة في الأرض المباركة، تسمّى بشجرة زَيْتُونَةٍ التي دعا عليها سبعون نبيا منهم الخليل كما قيل (4)لا شَرْقِيَّةٍ تطلع عليها الشمس حين طلوعها دون غيرها وَ لا غَرْبِيَّةٍ تقع عليها حين غروبها فقط، بل تكون بين الجهتين كالشام، فتكون ثمرتها في غاية النّضج، و زيتها في غاية الصفاء، لشروق الشمس عليها كلّ حين.

و قيل: يعني أنها لا توصف بالشرقية و الغربية لأنّها من شجر الجنّة (5).

ص: 438


1- . تفسير الرازي 23:224، تفسير أبي السعود 6:175، تفسير روح البيان 6:153. (2 و 3) . التوحيد:155/1، تفسير الصافي 3:538.
2- . تفسير الرازي 23:233.
3- . كذا، و السياق يقتضي نصب كلمة (مصباح) و ما بعدها، إلاّ أن تكون (أن) مخفّفة من الثقيلة مهملة.
4- . مجمع البيان 7:225، تفسير الرازي 23:236، تفسير روح البيان 6:155.
5- . تفسير الرازي 23:236، تفسير روح البيان 6:155.

و من صفات تلك [الشجرة]أنّه يَكادُ زَيْتُها و دهن ثمرها يُضِيءُ بنفسه و ينوّر ما حوله وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ و لم تصبه نارٌ لغاية صفائه و تلألئه، فكيف إذا أصابته نار، فذلك المصباح الموقد المنير غايته مع اجتماع نوره في المشكاة و الكوّة، و انضمام نوره بصفاء دهنه و تلألؤ زجاجته كان له نُورُ شديد مضاعف عَلى نُورٍ شديد بحيث بلغت شدّته غايتها.

و حاصل المعنى أنه بناء على كون المراد بالنور في قوله: مَثَلُ نُورِهِ الهداية أو القرآن أنّ هداية اللّه تعالى أو حقّانية القرآن قد بلغت في الظهور و الجلاء الى أقصى الغايات، و صارت في الظهور بمنزلة المشكاة التي فيها زجاجة صافية متلألئة، و في الزجاجة مصباح متوقّد بزيت له نهاية الصفاء، و إنّما شبّهها سبحانه بذلك، مع أنّ التشبيه بضوء الشمس أبلغ؛ لأنّ المقصود التشبيه بضوء كامل ظاهر بين الظلمات، و ليس ضوء الشمس كذلك، لأنّه إذا ظهر امتلأ العالم و لا تبقى ظلمة فيه يَهْدِي اَللّهُ بهدايته الخاصة الموصلة لِنُورِهِ و شرعه و أحكامه، أو إلى فهم ما في القرآن من دلائل حقانيته و العلوم و المعارف مَنْ يَشاءُ هدايته من عباده وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ و يقرب المطالب العقلية العالية إلى الأفهام القاصرة بتصويرها بصورة المحسوسات لطفا بالعباد وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من المعقولات و المحسوسات و دقائقها و جلائلها، و ضرب الأمثال و غيرها عَلِيمٌ، و أمّا بناء على كون المراد من النور نور الايمان، فالمراد تشبيه صدر المؤمن بالمشكاة، و قلبه بالزّجاجة الكائنة في المشكاة، و الإيمان بالمصباح المنير، و حصوله من البرهان و العيان بتوقّد المصباح من دهن الزيتون الصافي.

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، في هذه الآية: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قال: «بدأ بنور نفسه مَثَلُ نُورِهِ يعني مثل هداه في قلب المؤمن كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المشكاة جوف المؤمن، و القنديل قلبه، و المصباح النّور الذي جعله اللّه فيه (1)يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ قال: الشجرة المؤمن لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ قال: على سواء الجبل، لا شرقية أي لا شرق لها، و لا غربية أي لا غرب لها، إذا طلعت الشمس طلعت عليها، و إذا غربت غربت عليها يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ يكاد [النور]الذي جعله اللّه في قلبه يضيء و إن لم يتكلّم نُورٌ عَلى نُورٍ فريضة بعد (2)فريضة، و سنّة بعد (3)سنّة يَهْدِي اَللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ قال: يهدي اللّه لفرائضه و سننه من يشاء وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ قال: فهذا مثل ضربه اللّه للمؤمن، قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله

ص: 439


1- . في تفسير القمي: اللّه في قلبه. (2 و 3) . في تفسير القمي: على.

نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنّة و النور» (1).

قال الراوي: قلت لجعفر عليه السّلام: إنّهم يقولون مثل نور الرب؟ قال: «سبحان اللّه ليس للّه مثل، أما قال فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ اَلْأَمْثالَ؟» (2).

و قيل: إن المراد بالنور هو المعارف الالهية (3)، فشبّه سبحانه صدر المؤمن بالمشكاة، و قلبه بالزّجاجة، و عرفانه بالمصباح، و توقّده من الشجرة المباركة حصوله من إلهامات الملائكة، و إنّما شبّه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، و إنما وصفها بأنها لا شرقية و لا غربية لأنها روحانية، و إنما وصفهم بقوله: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ لكثرة علومهم و إطلاعهم على أسرار ملكوت اللّه.

و قيل: إن المراد من النور دين الإسلام (4)، فشبّه سبحانه صدر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالمشكاة، و قلبه بالزّجاجة، و دينه بالمصباح، و توقّده من شجرة مباركة وصوله إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من إبراهيم، فانّ دين الاسلام هو ملّة إبراهيم، ثمّ وصف إبراهيم بكونه لا شرقية و لا غربية، لأنّه لم يصلّ قبل المشرق كالنصارى و قبل المغرب كاليهود، بل صلّى إلى الكعبة.

و قيل: إن المراد من النور نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فشبّه صلب عبد اللّه بالمشكاة، و جسد محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالزّجاجة، و نبوّته في قلبه بالمصباح (5).

و قيل: إنّ في الآية قلبا، و التقدير: مثل نوره كمصباح في مشكاة (6).

و عن الصادق عليه السّلام اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قال: «كذلك اللّه عزّ و جلّ مَثَلُ نُورِهِ قال: محمّد صلّى اللّه عليه و آله كَمِشْكاةٍ قال: صدر محمّد صلّى اللّه عليه و آله فِيها مِصْباحٌ قال: فيه نور العلم، يعني النبوة اَلْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قال: علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صدر إلى قلب علي عليه السّلام اَلزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ قال: ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، لا يهودي و لا نصراني يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [قال: يكاد]يخرج العلم من فم [العالم من]آل محمّد من قبل أن ينطق به نُورٌ عَلى نُورٍ قال: الامام في أثر الإمام» (3).

«و عن الباقر عليه السّلام-فى حديث- «يقول اللّه: أنا هادي السماوات و الأرض، مثل العلم الذي أعطيته و هو النور الذي يهتدى به مثل المشكاة فيها المصباح، المشكاة قلب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المصباح نوره

ص: 440


1- . في تفسير القمي و الصافي: الجنة نور.
2- . تفسير القمي 2:103، تفسير الصافي 3:436، و الآية من سورة النحل:16/74. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:232 و 233. (5 و 6) . تفسير الرازي 23:235.
3- . التوحيد:157/3، تفسير الصافي 3:435.

الذي هو (1)العلم، و قوله: اَلْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ يقول: إني اريد أن أقبضك فأجعل الذي عندك عند الوصيّ، كما يجعل المصباح في زجاجة كأنّها كوكب درّي، فاعلمهم فضل الوصي يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ فأصل الشجرة المباركة إبراهيم عليه السّلام، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (2)و قوله: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (3).

لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يقول: لستم بيهود فتصلوا قبل المغرب، و لا نصارى فتصلّوا قبل المشرق، و أنتم على ملّة إبراهيم عليه السّلام، و قد قال اللّه عز و جل: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (4).

و قوله عزّ و جلّ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ يقول: مثل أولادكم الذين يولدون منكم مثل الزيت [الذي] يعصر من الزيتون، يكادون أن يتكلّموا بالنبوة و لم لم ينزل عليهم الملك (5).

أقول: لا يخفى اغتشاش متن الرواية.

سوره 24 (النور): آیه شماره 36 الی 38

ثمّ إنه تعالى بعد بيان عظمته و ظهور توحيده بالآيات التكوينية، و ظهور هدايته لأهل العالم، و أن هداية المهتدين بتوفيقه، ذكر حال المهتدين و استغراقهم في ذكره و تسبيحه بقوله: فِي بُيُوتٍ عظيمة الشأن التي أَذِنَ اَللّهُ و أعلن بالاجازة و الرّخصة في أَنْ تُرْفَعَ تلك البيوت قدرا و تعظيما و تقديسا وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ بالثناء و التمجيد يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ و الصباح و المساء.

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءِ اَلزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)قيل: إن فِي بُيُوتٍ صفة (مشكاة) و المعنى: كمشكاة فيها مصباح في بيوت (6).

و قيل: متعلّق بيوقد، و المعنى: يوقد من شجرة مباركة في بيوت (7)، أو بالفعل المقدر، و المعنى: صلّوا في بيوت.

ص: 441


1- . في الكافي: النور الذي فيه.
2- . هود:11/73.
3- . آل عمران:3/33 و 34.
4- . آل عمران:3/67.
5- . الكافي 8:380/574، تفسير الصافي 3:435. (6 و 7) . تفسير الرازي 24:2.

قيل: إنّ المراد المساجد الأربعة (1).

و عن ابن عباس: جميع المساجد (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «هي بيوت (3)الأنبياء و الرّسل و الحكماء و أئمة الهدى» (4).

و القمي عنه عليه السّلام: «هي بيوت الأنبياء، و بيت عليّ عليه السّلام منها» (5).

و عن الصادق: «هي بيوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله» (6).

و روى أن قتادة قال للباقر عليه السّلام: و اللّه لقد جلست بين يدي الفقهاء و قدّامهم (7)فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. فقال له: «أتدري أين أنت؟ بين يدي بيوت أذن اللّه أن ترفع» إلى آخر الآية «فأنت ثمّ و نحن اولئك» .

و قيل: إنّ المراد بالتسبيح مطلق تنزيه اللّه تعالى ممّا لا يليق به (8).

و قيل: إنه الصلوات الخمس كلّها (9).

و عن ابن عباس: أنّ صلاة الضّحى لفي كتاب اللّه تعالى مذكورة، و تلا هذه الآية (10).

و قيل: إنه صلاة الصبح و العصر (11).

ثمّ كأنه قيل: من يسبّح فيها؟ فأجاب سبحانه بقوله: رِجالٌ مؤمنون لا تُلْهِيهِمْ و لا تشغلهم تِجارَةٌ و معاملة مالية رابحة وَ لا بَيْعٌ و مبادلة مال بمال عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ قلبا و لسانا وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ و أدائها بآدابها و شرائطها، فرائضها و نوافلها كما عن ابن عباس (12)و إِيتاءِ اَلزَّكاةِ الواجبة، و صرفها في مصارفها المقرّرة و عن ابن عباس المراد منها طاعة اللّه تعالى و الاخلاص (13)، و هم مع ذلك يَخافُونَ يَوْماً هائلا عظيما تَتَقَلَّبُ و تتغير فِيهِ من حال إلى حال اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصارُ من شدّة أهواله كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (14).

قيل: تقلّب القلوب بالتفقّه بعد الطبع، و تقلّب الأبصار بالتبصّر بعد العمى (15).

و قيل: تقلّب القلوب بلوغها الحناجر، و تقلب الأبصار صيرورتها زرقا (16).

و قيل: تغيّرهما بالحرقة و النّضج بسبب العذاب، إذ تقلبهما على جمر جهنم (17).

ص: 442


1- . تفسير الرازي 24:3.
2- . تفسير الرازي 24:3.
3- . في كمال الدين و تفسير الصافي: بيوتات.
4- . كمال الدين:218/2، تفسير الصافي 3:436.
5- . تفسير القمي 2:104، تفسير الصافي 3:436.
6- . الكافي 8:331/510، تفسير الصافي 3:436.
7- . في الكافي: و قدام ابن عباس.
8- . الكافي 6:256/1، تفسير الصافي 3:437.
9- . تفسير الرازي 24:4.
10- . تفسير الرازي 24:4.
11- . تفسير الرازي 24:4.
12- . تفسير الرازي 24:5.
13- . تفسير الرازي 24:5.
14- . إبراهيم:14/43.
15- . تفسير الرازي 24:5.
16- . تفسير الرازي 24:6.
17- . تفسير الرازي 24:6.

و قيل: إن القلوب تتقلّب طمعا في النجاة، و حذرا من العذاب، و الأبصار تتقلّب ليرى من أي ناحية يؤمر بهم إلى النار، و من أيّ جهة يعطون كتابهم.

و انما يداومون على التسبيح، و يستغرقون في الذّكر، و يهتمون بالعبادات البدنية و المالية لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ و يثيبهم في ذلك اليوم أَحْسَنَ جزاء ما عَمِلُوا من العبادات و الطاعات حسبما و عدلهم وَ يَزِيدَهُمْ على ما وعدهم ألطافا و أنعاما اخر لم يعدهم بها و لا تخطر على قلب أحد مِنْ فَضْلِهِ و كرمه وَ اَللّهُ يَرْزُقُ و يعطي نعمه مَنْ يَشاءُ إعطاءه الرزق و النّعم بِغَيْرِ حِسابٍ و بحيث لا يقدر أحد على تعداده و تقديره.

ثمّ اعلم أنّ بعض العامة نسب إلى كثير من الصحابة أنّهم قالوا: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل و بادروا إليها، لا في أصحاب الصّفة (1)الذين تركوا التجارة و لزموا المسجد (2).

عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «كانوا أصحاب تجارة، فاذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة، و هم أعظم أجرا ممّن لا يتجر» (3).

و في (الكافي) رفعه قال: «التجّار الذين لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللّه عزّ و جلّ، إذا دخلت مواقيت الصلاة أدّوا إلى اللّه حقّه فيها» (4).

و عنه عليه السّلام أنّه سأل عن تاجر ما فعل؟ فقيل: صالح و لكنه قد ترك التجارة، فقال: «عمل الشيطان- ثلاثا-أما علم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشترى عيرا أتت من الشام، فاستفضل فيها ما قضى دينه، و قسّم في قرابته، يقول اللّه عزّ و جلّ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ الآية، يقول القصاص: إنّ القوم لم يكونوا يتجرون، كذبوا و لكنّهم لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها، و هو أفضل ممّن حضر الصلاة و لم يتجر» (5).

سوره 24 (النور): آیه شماره 39 الی 40

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

ص: 443


1- . زاد في تفسير روح البيان: و أمثالهم.
2- . تفسير روح البيان 6:160.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:199/508، تفسير الصافي 3:437.
4- . الكافي 5:154/21، تفسير الصافي 3:437.
5- . الكافي 5:75/8، تفسير الصافي 3:437.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين، و أنّهم في الدنيا في النور، و في الآخرة في النعيم و السرور، بيّن سوء حال الكفّار في الدارين بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله أَعْمالُهُمْ الخيرية كصلة الأرحام و إطعام الطعام و أمثالهما ممّا لو قارنه الايمان كان لهم أجرا عظيما عند اللّه يكون كَسَرابٍ و سبخة تلمع الشمس عليها عند الظهيرة، فيرى أنّها ماء جار بِقِيعَةٍ و أرض منبسطة مستوية يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ و يتوهّمه العطشان إذا رآه من البعيد ماءً جاريا، و يسعى في الوصول إليه حَتّى إِذا قرب منه و جاءَهُ طامعا لرفع العطش به لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً قابلا للشّرب و الانتفاع به، فيخيب رجاؤه، كذلك الكافر يعمل عمل البرّ في الدنيا [و]

يطمع الانتفاع به في الآخرة، ثمّ إذا وافى عرصات القيامة وجد ما عمل هباء منثورا، لا يكون له فيه نفع و ثواب، بل حاله أسوأ من الظمآن الذي قصارى أمره الخيبة، فانّ الكافر الخائب خيبته أعظم من خيبة الظمآن، و مع ذلك وَ وَجَدَ اَللّهَ و رأى عقابه الشديد، أو وجد زبانية اللّه عِنْدَهُ فانقلب ظنّ الانتفاع به بيقين الضرر العظيم فيه لكفره، فتعظم حسرته، و يتناهى غمّه و كربته فَوَفّاهُ اللّه و أعطاه بنحو الكمال حِسابَهُ و جزاءه بلا ريث وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ و إنّما أفرد سبحانه الضميرين الراجعين إلى الكفار و الضمير الراجع إلى أعمالهم للحمل على إرادة كلّ واحد منهم و منها.

قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة، فانّه كان قد تعبّد في الجاهلية، و لبس المسوح (1)، و التمس الدين، فلما جاء الاسلام كفر (2).

ثمّ ضرب سبحانه مثلا آخر لأعمالهم الفاسدة بقوله: أَوْ كَظُلُماتٍ كائنة فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ و بعيد القعر حين يَغْشاهُ و يستره مَوْجٌ عظيم مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ عظيم آخر، فلمّا تراكمت الأمواج ارتفع على الموج الأعلى و حدث مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ غليظ ظلماني ساتر أضواء النجوم، فتحصل بسبب ظلمة البحر العميق و ظلمة الأمواج المتراكمة ظلمة السّحاب ظُلُماتٌ عديدة متكاثفة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ فتشتدّ الظّلمة بحيث إنه إِذا أَخْرَجَ المبتلى بها يَدَهُ من جيبه و قرّبها من عينيه لَمْ يَكَدْ يَراها فضلا من أن يراها مع كونها أقرب شيء منه، و كذا لا يمكن أن يرى الكافر المبتلى بظلمة الكفر و ظلمة الأخلاق السيئة و ظلمة حبّ الدنيا عمله.

قيل: إنّ المثل الأول لأعمالهم الحسنة، و الثاني لأعمالهم القبيحة (3).

ص: 444


1- . المسوح: جمع مسح، و هو كساء من شعر.
2- . تفسير الرازي 24:8، تفسير البيضاوي 2:126، تفسير أبي السعود 6:181.
3- . تفسير الرازي 24:8.

و قيل: إنّ الأول لأعمالهم، و الثاني لعقائدهم، كما قال تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ (1)و استدل عليه بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً و إيمانا و هداية فَما لَهُ شيء مِنْ نُورٍ و هداية إلى خير أصلا.

و قيل: إن المثل لمجموع عقائدهم و أعمالهم، و المراد من الظلمات ظلمة الاعتقاد و ظلمة القول و ظلمة العمل (2).

و عن ابي بن كعب: الكافر يتقلّب في خمس من الظّلم: ظلمة كلامه، و ظلمة عمله، و ظلمه مدخله، و ظلمة مخرجه، و ظلمة مصيره إلى النار (3).

و قيل: إنّه مثل للكافر نفسه (4).

عن ابن عباس: شبّه قلبه و بصره و سمعه بهذه الظلمات الثلاث (5).

و قيل: قلبه مظلم و صدره مظلم، و جسده مظلم (6).

و قيل: إنّ الكافر في ظلمات ثلاث، حيث إنّه لا يدري، [و لا يدري]أنّه لا يدري، و يعتقد أنّه يدري (7).

سوره 24 (النور): آیه شماره 41 الی 42

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه حال رجال مهتدين بنوره، مستغرقين في أنوار توحيده و معارفه، و متوجّهين إلى ذكره و تسبيحه و القيام إلى الصلاة له، بخلاف المشركين المنغمرين في الظلمات، بيّن أنّ لكلّ موجود معرفة بتوحيد خالقه و ذكرا و تسبيحا (8)و صلاة له تعالى على حسبه بقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ و ينزّهه في ذاته و صفاته و أفعاله ممّا لا يليق به من النقص و الخلل مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و ما فيهما (9)من العقلاء و غيرهم تنزيها معنويا بلسان الحال، و هو إمكانه و تكوينه و تغييره، أو تعبير مناسب بحيث تفهمه العقول السليمة، و ذكر (من) في الآية لتغليب العقلاء وَ تسبّح اَلطَّيْرُ بأنواعها حال كونها صَافّاتٍ بأجنحتها، باسطات لها في الهواء، متمكّنات من الوقوف و الحركة في الجوّ كيف تشاء، مع اقتضاء ثقل جسمها السقوط و إنّما أفردها بالذّكر مع كونها داخلة (10)

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ (42)

ص: 445


1- . البقرة:2/257.
2- . تفسير الرازي 24:8.
3- . تفسير الرازي 24:8.
4- . تفسير الرازي 24:8.
5- . تفسير الرازي 24:8.
6- . تفسير الرازي 24:9.
7- . تفسير الرازي 24:8.
8- . في النسخة: و ذكر و تسبيح.
9- . في النسخة: و ما فيها.
10- . في النسخة: داخلا.

في ما في الأرض، لكونها حال الطيران بين السماء و الأرض، و كُلٌّ من الأشياء المذكورة مع تنزيهه التكويني و دلالة كمال نقصه على كمال خالقه قَدْ عَلِمَ بإلهام اللّه صَلاتَهُ و ابتهاله إلى اللّه في حاجته و استفاضته من فضله وَ تَسْبِيحَهُ و تنزيهه الاختيارى خالقه.

عن الصادق عليه السّلام: «ما من طير يصاد في برّ أو بحر، و لا يصاد شيء من الوحش إلاّ بتضييعه التسبيح» (1).

و روى بعض العامّة عن أبي ثابت، قال: كنت جالسا عند أبي جعفر (2)الباقر عليه السّلام، فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس و بعد طلوعها؟ قلت: لا. قال: «إنّهن يقدّسن ربّهن و يسألنه قوت يومهن» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ للّه ملكا في صورة الدّيك الأملح الأشهب، براثنه (4)في الأرض السابعة، و عرفه تحت العرش، له جناحان: جناح بالمشرق، و جناح بالمغرب، فأمّا الجناح الذي في المشرق فمن ثلج، و الجناح الذي في المغرب فمن نار، فكلّما حضر وقت الصلاه قام [الديك]على براثنه، و رفع عرفه تحت العرش، ثمّ أمال أحد جناحيه إلى الآخر يصفّق بهما كما يصفّق الديك في منازلكم، فلا الذي من الثلج يطفئ النار، و لا الذي من النار يذيب الثلج، ثمّ ينادي بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله خاتم النبيّين، و أن وصيه خير الوصيّين سبّوح قدّوس رب الملائكة و الرّوح. فلا يبقى في الأرض ديك إلاّ أجابه، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ اَلطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» (5).

قيل: إنّا نشاهد أنّ اللّه تعالى ألهم الطيور و الحشرات أعمالا لطيفة، يعجز عنها أكثر العقلاء، فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته و دعاءه و تسبيحه؟ (6)

و قال آخر: إنّ اللّه خلق الخلق ليسبّحوه، فأنطقهم بالتسبيح له و الثناء عليه و السجود له، و أشهد نبيّه (7)ذلك و أراه، و لذا قال مخاطبا لنبيه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ إلى آخره، و لم يقل: ألم تروا، لأنّا ما رأيناه فهو لنا إيمان، و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله عيان (8).

ص: 446


1- . تفسير القمي 2:107، تفسير الصافي 3:439.
2- . في النسخة: جعفر بن محمّد، و في تفسير الرازي: محمد بن جعفر.
3- . تفسير الرازي 24:10، تفسير روح البيان 6:164.
4- . البراثن: جمع برثن: و هو مخلب الطائر الجارح.
5- . تفسير القمي 2:106، تفسير الصافي 3:439.
6- . تفسير الرازي 24:11.
7- . في تفسير الصافي: و السجود له فقال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ. . . الآية، و خاطب بهاتين الآيتين نبيّه الذي اشهده.
8- . تفسير الصافي 3:439.

و قيل: إنّ المراد قد علم اللّه صلاته و تسبيحه لقوله بعده: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (1)من التسبيح و الدعاء، فيجازيهم بما يستحقّون، و

فيه تهديد للغافلين ثمّ بيّن سبحانه كمال عظمته الموجبة للخضوع له و الثناء عليه بقوله: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لأنه خالقهما و خالق ما فيهما من الذزرة و الدّرة، و المتصرّف في الجميع إيجادا و إعداما و تقليبا و تغييرا وَ إِلَى اَللّهِ خاصة اَلْمَصِيرُ و الرجوع للكلّ بالفناء و البعث، فعلى العاقل أن يخضع لهذا الملك القادر القاهر العظيم، و يسبحّه و يقدّسه من الشريك و المثل و الحاجة و النقائص الإمكانية.

سوره 24 (النور): آیه شماره 43

ثمّ استدلّ سبحانه على كمال عظمته و قدرته بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد، أو أيها الانسان بعين رأسك أَنَّ اَللّهَ يُزْجِي و ينشئ شيئا فشيئا، أو يسوق قليلا قليلا سَحاباً متقطعا ثُمَّ يُؤَلِّفُ و يجمع بَيْنَهُ و يضمّ بعض القطعات إلى بعض ثُمَّ بعد تأليف قطعاته و صيرورته سحابا واحدا يَجْعَلُهُ رُكاماً و يصيّره متراكما حتى يكون غليظا قابلا لحمل الماء الكثير فَتَرَى بعد ذلك التأليف و التراكم اَلْوَدْقَ و [الودق]

: المطر، كما عن ابن عباس (2)يَخْرُجُ و يتقاطر مِنْ خِلالِهِ و فرجه التي حدثت من تراكمه و تعصيره بسبب الرياح.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43)عن الباقر عليه السّلام-في حديث يذكر فيه أنواع الرياح-قال: «و منها رياح تحبس السّحاب بين السماء و الأرض، و منها رياح تعصر السّحاب فتمطر بإذن اللّه، و منها رياح تفرّق السّحاب» (3).

وَ يُنَزِّلُ اللّه أيضا مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ (4)أو جهة العلو بعضا مِنْ جِبالٍ و قطع عظام يكون فِيها مقدار معين مِنْ بَرَدٍ و مطر منجمد في الجوّ كالثلج فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ أن يصيبه، فيناله ما يناله من الضرر في نفسه و ماله وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ صرفه عنه و منعه من السقوط عليه، كي لا يتضرّر به.

قيل: إنّ أكثر المفسرين قالوا: إنّ في السماء جبالا من برد، خلقها اللّه تعالى كذلك، ثمّ ينزل منها ما شاء (5)من السّحاب.

ص: 447


1- . تفسير الرازي 24:10.
2- . تفسير الرازي 24:13.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:345/1525، تفسير الصافي 3:440.
4- . كذا، و لفظ السماء مؤنث، و يجوز تذكيره.
5- . تفسير الرازي 24:14.

عن الصادق عليه السّلام قال: «البرد لا يؤكل؛ لأن اللّه عزّ و جلّ يقول: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ» (1).

يَكادُ و يقرب سَنا بَرْقِهِ و ضوء لمعانه يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ التي للناظرين إليه، و يخطفها (2)من شدة الإضاءة و سرعة الورود.

قيل: إنّ البرق يحدث من ضرب تلك السّحاب (3). و قيل: إنّه نار تنقدح من اصتكاك الأجزاء الدّخانية في جوف السّحاب (4)، و من قدرة اللّه ظهور النار من البرد الذي هو ضدّها.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن اللّه عزّ و جلّ جعل السحاب غرابيل للمطر، هي تذيب البرد [حتى يصير]ماء لكيلا يضرّ شيئا يصيبه، و الذي ترون فيه من البرد و الصّواعق نقمة من اللّه عزّ و جلّ يصيب بها من يشاء من عباده» (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 44 الی 45

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته ثالثا بقوله: يُقَلِّبُ اَللّهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ و يجعلهما متعاقبين، أو يغيّرهما بالزيادة و النقص، و الحرّ و البرد، و النّور و الظّلمة، ممّا يقع فيهما من الامور التي من جملتها إزجاء السّحاب و ما يترتّب عليه.

يُقَلِّبُ اَللّهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصارِ (44) وَ اَللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اَللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)و في الحديث، قال: «قال اللّه تعالى يؤذيني ابن آدم بسب الدهر، و أنا الدهر، بيدي الأمر اقلّب الليل و النهار» (4).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الآيات المفصّلة لَعِبْرَةً و عظة أو دلالة واضحة على توحيد اللّه و قدرته و استحقاقه للخضوع و التعظيم لِأُولِي اَلْأَبْصارِ الثاقبة و ذوي الأنظار الصائبة.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بما في السماوات و الأرض و الآثار العلوية، استدلّ بخصوص خلق الحيوان و اختلافه بقوله: وَ اَللّهُ خَلَقَ بقدرته كُلَّ دَابَّةٍ و حيوان متحرّك مِنْ ماءٍ فانّه أصل جميع الموجودات، كما عن ابن عبّاس قال: إنّ اللّه خلق جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة، فصارت ماء، ثمّ من ذلك الماء خلق النار و الهواء و النور، فأصل جميع الموجودات حتى الملائكة و الجنّ و آدم من ماء (5).

ص: 448


1- . الكافي 6:388/3، تفسير الصافي 3:440.
2- . في النسخة: و يخطفهما. (3 و 4) . تفسير روح البيان 6:166.
3- . الكافي 8:240/326، تفسير الصافي 3:440.
4- . تفسير روح البيان 6:166.
5- . تفسير روح البيان 6:167.

و قيل: إنّ المراد كلّ دابّة متولّدة من ماء خلقها اللّه (1).

و قيل: إنّ المراد كلّ دابة سكنت الأرض، فإنّ غالبها مخلوقة من النّطفة، و الحكم على الغالب، أو على الكلّ، لأنّ الماء أحد عناصر الكلّ (2).

فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ لعدم آلة المشي له كالحيّة، و إنّما قدّم ذكره لكونه أعجب وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالانسان و الطير وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ قوائم كالنّعم و الوحش، أو أربع جهات كالعناكب و العقارب و غيرها ممّا يمشي على أكثر من أربع قوائم.

و قيل: إنّه تعالى نبّه على سائر أقسام الحيوانات بقوله: يَخْلُقُ اَللّهُ ما يَشاءُ ممّا ذكر و ممّا لم يذكر (1).

و قيل: عدم ذكرها لعدم الاعتداد بها، و إنّما أتى سبحانه بضمير جمع العقلاء لتغليبهم، و أتى بالموصول الذي للعقلاء ليوافق التفصيل الإجمال (2).

ثمّ قرّر سبحانه كمال قدرته بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء.

سوره 24 (النور): آیه شماره 46 الی 47

ثمّ نبّه سبحانه على تمامية الحجّة على توحيده و كمال صفاته بقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ و موضحات لجميع ما يحتاج إليه البشر من دلائل التوحيد و كمال الصفات و الأحكام الدينية و الأسرار التكوينية وَ اَللّهُ بالتوفيق للنظر و التفكّر فيها يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الدين القويم المرضي عنده الموصل إلى كلّ خير في الدنيا و إلى كلّ نعمة في الآخرة، و هو الاسلام.

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَ يَقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)

ثمّ أنّه تعالى بعد التنبيه بنزول الآيات المتمّمة للحجة على التوحيد و الرسالة و صحّة دين الاسلام، ذمّ المنافقين المصرّين على الكفر بقوله: وَ يَقُولُونَ هؤلاء المنافقون كذبا و نفاقا آمَنّا بِاللّهِ و وحدانيته وَ بِالرَّسُولِ عن صميم القلب وَ أَطَعْنا أحكامهما، و امتثلنا أوامرهما و نواهيهما بإخلاص النيّة ثُمَّ يَتَوَلّى و يعرض عن قبول حكمه فَرِيقٌ و طائفة مِنْهُمْ عنادا للحقّ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ القول النفاقي من إظهار الايمان و الطاعة وَ الحال أنه ما أُولئِكَ الذين يدّعون

ص: 449


1- . تفسير روح البيان 6:168.
2- . تفسير أبي السعود 6:185.

الايمان و الطاعة بِالْمُؤْمِنِينَ باللّه و الرسول عن صميم القلب.

سوره 24 (النور): آیه شماره 48 الی 49

ثمّ بيّن سبحانه تولّيهم عن حكمه بقوله: وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول بَيْنَهُمْ عند تنازعهم في شيء إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ عن التحاكم إليه، لعلمهم بأنّهم على خلاف الحقّ،

و أنّ الرسول لا يساعدهم على باطلهم بالرشوة و المصانعة وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ و الحكم لا عليهم يَأْتُوا إِلَيْهِ للمحاكمة حال كونهم مُذْعِنِينَ و منقادين لحكمه لجزمهم بأنّه صلّى اللّه عليه و آله يحكم لهم.

وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)قيل: الآيات في بشر المنافق، خاصم يهوديا في أرض، فدعاه إلى كعب ابن الأشرف من أحبار اليهود، و دعاه اليهودي إلى النبي (1).

و عن الضحاك: أنّها نزلت في المغيرة بن وائل، كان بينه و بين علي بن أبي طالب عليه السّلام أرض فتقاسمها، فوقع إلى عليّ عليه السّلام منها ما لا يصله الماء إلاّ بمشقّة، فقال المغيرة: يعني أرضك، فباعها إياه و تقابضا، فقيل للمغيرة: أخذت أرضا سبخة لا ينالها الماء، فقال لعلي عليه السّلام: اقبض أرضك فإنّما اشتريتها أن رضيتها و لم أرضها لأنّه لا ينالها الماء، فقال عليّ عليه السّلام: «بل اشتريتها و رضيتها و قبضتها و عرفت حالها لا أقبلها منك» و دعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال المغيرة: أمّا محمّد فلست آتيه و لا احاكم إليه، فانّه يبغضني، و إنيّ أخاف أن يحيف عليّ، فنزلت (2).

و عن (المجمع) ، و عن البلخي، قال: كانت بين عليّ و عثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ عليه السّلام فخرجت فيها احجار، فأراد ردّها بالعيب، فلم يأخذها، فقال: بيني و بينك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له، فلا تحاكمه إليه، فنزلت. قال: و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام، أو قريب منه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و عثمان، و ذلك أنّه كان بينهما منازعة في حديقة، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: نرضى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان: لا تحاكمه إلى رسول اللّه، فانّه يحكم له عليك، و لكن حاكمه إلى ابن شيبة (4)اليهودى. [فقال لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا

ص: 450


1- . تفسير الرازي 24:20، تفسير روح البيان 6:169.
2- . تفسير الرازي 24:20.
3- . مجمع البيان 7:236، تفسير الصافي 3:442.
4- . في تفسير القمي: ابن أبي شيبة.

أرضى إلاّ بابن شيبة اليهودي]. فقال ابن شيبة لعثمان: تأتمنون محمدا على وحي السماء، و تتّهمونه في الأحكام؟ ! فأنزل اللّه: وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ الآيات (1).

سوره 24 (النور): آیه شماره 50 الی 53

ثمّ بيّن سبحانه نهاية شناعة إعراضهم ببيان انحصار علّته في أحد الامور التي كلّها من أشنع الشنائع بقوله: أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من الكفر و النفاق من أول الأمر أَمِ اِرْتابُوا و شكّوا في رسالة الرسول بعد اليقين بها أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّهُ و يجوز عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ في حكمهما، و ليس أحد الأمرين مع تحقّقهما فيهم، لأنّهما مقتضيان لعدم اتيانهما إليه، و لو كانوا محقّين، و لا الثالث لوضوح أمانة الرسول و عدم اغماضه عن الحق عندهم بَلْ أُولئِكَ المعرضون هُمُ اَلظّالِمُونَ على المحقّين، المصرّون على البغي على الناس.

أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفائِزُونَ (52) وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53)

ثمّ بيّن سبحانه صفة المؤمنين المخلصين بقوله: إِنَّما كانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ المخلصين إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول بَيْنَهُمْ و بين خصومهم، و لو كانوا من غيرهم أَنْ يَقُولُوا للداعين سَمِعْنا دعاءكم وَ أَطَعْنا ه بالاجابة و القبول وَ أُولئِكَ المؤمنون هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ و الفائزون بجميع المطالب الدنيوية و الاخروية، الناجون من كلّ محذور.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّ المعنيّ بالآية أمير المؤمنين عليه السّلام» (2).

ثمّ أكّد سبحانه وجوب طاعة الرسول بقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في ما ساءه، و سرّه، و نفعه و ضرّه وَ يَخْشَ اَللّهَ في ما مضى من ذنوبه أن يؤاخذه عليه وَ يَتَّقْهِ و يحذره في ما بقي من عمره فَأُولئِكَ المطيعون الخاشعون المتّقون هُمُ اَلْفائِزُونَ بالفيوضات الأبدية و النّعم الدائمة.

قيل: إنّ ملكا سأل علماء عصره عن آية في القرآن إن عمل بها عمل بجميع القرآن، فاتّفق العلماء

ص: 451


1- . تفسير القمي 2:107، تفسير الصافي 3:442.
2- . مجمع البيان 7:237، تفسير الصافي 3:442.

على هذه الآية (1)حيث إنّها على إيجازها حاوية لجميع ما ينبغي للمؤمن أن يفعله.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه استنكاف المنافقين عن إطاعة الرسول و الانقياد لحكمه، حكى حلفهم الكاذب على طاعتهم له بقوله: وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ و حلفوا أشدّ حلفهم تقوية لما أخبروا به من قولهم: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج لَيَخْرُجُنَّ.

عن مقاتل لمّا بيّن اللّه تعالى كراهة المنافقين لحكم الرسول فقالوا: و اللّه لئن امرتنا ان نخرج من ديارنا و أموالنا و نسائنا لخرجنا (2).

ثمّ أمر سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله نهيهم عن هذا القسم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد لا تُقْسِمُوا على ما تقولون غدرا و نفاقا، فانّ المطلوب منكم طاعَةٌ للرسول مَعْرُوفَةٌ لكلّ أحد بالأفعال و الإخلاص و صدق النيّة، لا اليمين الكاذبة. أو المعنى طاعة معروفة أمثل من قسمكم بما لا تصدّقون فيه، أو المعنى دعوا القسم فانّ عليكم طاعة معروفة فتمسّكوا بها، أو طاعتكم طاعة نفاقية فانّها معروفة منكم لكلّ أحد إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الغدر و النفاق لا يخفى عليه سرائركم، و إنّه فاضحكم و مجازيكم على نفاقكم.

سوره 24 (النور): آیه شماره 54

ثمّ بالغ سبحانه في وجوب طاعته و طاعة رسوله بقوله: قُلْ: يا محمّد لهؤلاء المنافقين أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ في جميع الفرائض و السنن من صميم القلب و صدق الإيمان برجاء الفوز و الفلاح.

قُلْ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (54)ثمّ صرف سبحانه الكلام عن الغيبة إلى الخطاب إبلاغا في تبكيتهم بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا و تعرضوا عن الطاعة الحقيقية للّه و الرسول فَإِنَّما عَلَيْهِ صلّى اللّه عليه و آله ما حُمِّلَ و كلّف به من تبليغ الرسالة وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ و كلّفتم من الإجابة و الطاعة، فإن لا تطيعوه فقد بقيتم تحت هذا الحمل و الثقل، و بقيت عليكم تبعاته وَ إِنْ تُطِيعُوهُ في ما أمركم به تَهْتَدُوا إلى جميع الخيرات الأبدية التي هي أقصى المطالب، و تخلّصوا من الشرور و المهالك وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ المكرم إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و التبليغ الواضح الموضّح لجميع ما تحتاجون إليه، و قد فعل و ليس عليه إجباركم على الطاعة، و إنّما بقي ما حمّلتم، فان أدّيتم فلكم، و إن تولّيتهم فعليكم.

ص: 452


1- . الكشاف 3:250، تفسير روح البيان 6:171.
2- . تفسير الرازي 24:23.

عن الصادق عليه السّلام-في خطبة في وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «و أدّى ما حمّل من أثقال النبوة» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا معاشر قرّاء القرآن، أتّقوا اللّه عزّ و جلّ في ما حمّلكم من كتابه، فإنّي مسؤول و إنّكم مسؤولون، إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة، و أمّا أنتم فتسألون عمّا حملّتم من كتاب اللّه و سنّتي» (2).

سوره 24 (النور): آیه شماره 55

ثمّ لمّا وصف سبحانه المؤمنين بالطاعة و الانقياد للرسول صلّى اللّه عليه و آله و حرّض الناس عليه، وعد من جمع بين الايمان و العمل بالأحكام بغاية الإعزار و الاكرام في الدنيا بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أيها الناس وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ من أداء الواجبات و ترك المحرّمات مؤكّدا وعده بالقسم بذاته المقدسة، إنّه لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ و ليجعلنّهم متصرّفين فِي اَلْأَرْضِ تصرّف الملوك في ممالكهم، و مسّلطين عليها سلطنة السلاطين في أقاليمهم كَمَا اِسْتَخْلَفَ المؤمنين اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ في زمن داود و سليمان و غيرهما وَ لَيُمَكِّنَنَّ و ليسهّلنّ لَهُمْ بالتوفيق و التأييد دِينَهُمُ و العمل بأحكام شرعهم اَلَّذِي اِرْتَضى و اختار لَهُمْ من غير مانع و مزاحم وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء أَمْناً من ضرّهم و شرّهم، بأن ينصرهم عليهم، فيقتلونهم و يستريحون من كيدهم و بأسهم، فعند ذلك يَعْبُدُونَنِي آمنين و لا يُشْرِكُونَ بِي في عبادتي شَيْئاً و لا يتقون في العمل بأحكامي أحدا وَ مَنْ كَفَرَ و ارتدّ عن الدين المرضي له، أو ثبت على كفره، أو جحد حقّ هذه النّعمة بَعْدَ ذلِكَ الترغيب و الترهيب فَأُولئِكَ الكافرون هُمُ اَلْفاسِقُونَ و الكاملون في الخروج عن حدود العقل و الشرع.

وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (55)قيل: إنّ اللّه انجز هذا الوعد بعد هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، فانّ أصحابه كانوا قبل الهجرة في أكثر من اثنى عشر سنة (3)خائفين من الكفار، فلمّا هاجروا كانوا يصبحون و يمسون في السلاح حتى

ص: 453


1- . الكافي 1:369/17، تفسير الصافي 3:443.
2- . الكافي 2:443/9، تفسير الصافي 3:443.
3- . في تفسيري البيضاوي و روح البيان: من عشر سنين.

أظهرهم اللّه على العرب كلّهم، و فتح لهم بلاد الشرق و الغرب (1)، فدلّت الآية على صحة نبوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ فيها إخبارا بالغيب، لوقوع ما أخبر في الخارج مطابقا للخبر (2).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هم الائمة عليهم السّلام» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «و لقد قال اللّه عزّ و جلّ في كتابه لولاة الأمر من بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله خاصة: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إلى قوله: فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ يقول: أستخلفكم لعلمي و ديني و عبادتي بعد نبيكم، كما استخلفت (4)وصاة آدم من بعده حتى يبعث النبيّ الذي يليه، يعبدونني بإيمان بأنّه لا نبيّ بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فمن قال غير ذلك فأولئك هم الفاسقون، فقد مكّن ولاة الأمر بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالعلم، و نحن هم، فاسألونا فان صدقناكم فأقرّوا، و ما أنتم بفاعلين» (5).

و القمي: نزلت في القائم من آل محمّد عليهم السّلام (6).

و عن (المجمع) : المروي عن أهل البيت عليهم السّلام: «انها في المهدي من آل محمّد عليهم السّلام» (7).

و عن العياشي، عن علي بن الحسين عليهما السّلام: أنه قرأ الآية و قال: «هم و اللّه شيعتنا أهل البيت، يفعل [اللّه]ذلك بهم على يدي رجل منّا، و هو مهدي هذه الامّة، و هو الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا» (8).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية، قال الراوي: قلت: يابن رسول اللّه فانّ هذه النواصب تزعم أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر و عمر و عثمان و علي عليه السّلام؟ فقال: «لا يهدي [اللّه]قلوب النواصب، متى كان الدين الذي ارتضاه اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله متمكنّا بانتشار الأمن (9)في الامّة، و ذهاب الخوف من قلوبها، و ارتفاع الشكّ من صدورها في عهد واحد من هؤلاء؟ و في عهد علي عليه السّلام مع ارتداد المسلمين و الفتن التي كانت تثور في أيامهم، و الحروب التي كانت تنشب بين الكفّار و بينهم؟» (10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث ذكر [فيه]مثالب الثلاثة و إمهال اللّه إيّاهم-قال: «كلّ ذلك لتتمّ النّظرة التي أوجبها اللّه تعالى لعدوه إبليس إلى أن يبلغ الكتاب أجله، و يحق القول على الكافرين

ص: 454


1- . تفسير البيضاوي 2:130، تفسير روح البيان 6:174.
2- . تفسير الرازي 24:24 المسألة السادسة.
3- . الكافي 1:150/3، تفسير الصافي 3:443.
4- . في الكافي و تفسير الصافي: استخلف.
5- . الكافي 1:195/7، تفسير الصافي 3:443.
6- . تفسير القمي 1:14، تفسير الصافي 3:444.
7- . مجمع البيان 7:239، تفسير الصافي 3:444.
8- . مجمع البيان 7:239، تفسير الصافي 3:444، عن العياشي.
9- . في النسخة: الأمر.
10- . كمال الدين:356/50، تفسير الصافي 3:444.

و يقرب الوعد (1)الذي بيّنه اللّه في كتابه بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إلى آخره، و ذلك إذا لم يبق من الاسلام إلاّ اسمه، و من القرآن إلاّ رسمه، و غاب صاحب الأمر باتّضاح العذر (2)له في ذلك، لاشتمال الفتنة على القلوب، حتى يكون الأقرب إليه أشدّ (3)عداوة له، و عند ذلك يؤيّده اللّه بجنود لم تروها، و يظهر دين نبيه صلّى اللّه عليه و آله على يديه، و يظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون» (4).

سوره 24 (النور): آیه شماره 56 الی 57

ثمّ أنّه تعالى بعد وعد المؤمنين بالاستخلاف و التمكين لهم، حثّ إلى الأعمال الصالحات التي أهمّها الصلاة و الزكاة و طاعة الرسول بقوله: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ في جميع أحكامه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.

وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ (57)

ثمّ هدّد سبحانه الكافرين بقوله: لا تَحْسَبَنَّ و لا تتوهّمن يا أيّها النبي و المؤمنون اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ اللّه عن إدراكهم و إهلاكهم فِي قطر من أقطار اَلْأَرْضِ بما رحبت، و إن هربوا كلّ مهرب، بل هم مقهورون تحت قدرته في كلّ آن و حال و مكان في الدنيا وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ في الآخرة، وَ باللّه لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ و المرجع تلك النار لهم.

سوره 24 (النور): آیه شماره 58

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من أحكام التعفّف و الحثّ على امتثالها بالوعد و الوعيد، عاد إلى بقية تلك الأحكام بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا من الرجال و النساء لِيَسْتَأْذِنْكُمُ في الدخول عليكم اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد، أو العبيد و الجواري وَ اَلَّذِينَ يميّزون بين العورة و غيرها من

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ اَلْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

ص: 455


1- . في الاحتجاج: و يقترب الوعد الحق.
2- . في الاحتجاج: بإيضاح الغدر.
3- . في الاحتجاج: أقرب الناس إليه أشدهم.
4- . الاحتجاج:256، تفسير الصافي 3:445.

الصبيان الذين لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ و لم يصلوا إلى حدّ البلوغ مِنْكُمْ أيّها الأحرار ثَلاثَ مَرّاتٍ في اليوم و الليلة في أوقات تكرهون أن يمرّ عليكم فيها أحد.

أحدها: الوقت الذي يكون مِنْ قَبْلِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ فانّه وقت القيام من المضاجع و خلع ثياب النوم، و لبس (1)ثياب اليقظة.

وَ الثاني: حِينَ تَضَعُونَ و تخلعون ثِيابَكُمْ التي تلبسونها في النهار مِنَ اَلظَّهِيرَةِ و شدّة الحرّ لأجل القيلولة، و هي بعد انتصاف النهار.

و قيل: مِنَ اَلظَّهِيرَةِ بيان للحين (2)، و المعنى وقت الظهر، و إنّما عبّر عن الوقت بملاك الأمر، و هو وضع الثياب و التجرّد دون الوقت الأول الثالث لمعروفيتهما به دون الوسط.

و الثالث: الوقت الذي يكون في الليل حين النوم وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ اَلْعِشاءِ فانّه وقت التجرّد عن اللباس و الدخول في فراش النوم و الالتحاف باللّحاف، فتلك الأوقات ثَلاثُ عَوْراتٍ و أوقات تكون لَكُمْ يختلّ فيها التستّر بحسب العادة.

ثمّ صرّح سبحانه بالترخيص في الدخول بغير الاستئذان للمماليك و الصبيان الأحرار بعد كلّ واحد من تلك الأوقات، و كأنّه قيل: ما حكم الأوقات الاخر؟ فأجاب سبحانه بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ و حرج أو إثم بَعْدَهُنَّ في الدخول بغير الاستئذان، لعدم ما يوجبه من الاطّلاع على العورات، مع أنّ المماليك و الصبيان طَوّافُونَ و دوّارون عَلَيْكُمْ للخدمة بل بَعْضُكُمْ طائف عَلى بَعْضٍ هم يطوفون عليكم للخدمة، و أنتم تطوفون عليهم للاستخدام و التربية فالاستئذان بعد الضرورة إلى المخالطة مستلزم للحرج و الضيق، و لمّا كان الطّواف شاملا للفريقين، لم يكتف سبحانه بقوله: طَوّافُونَ بل أبدل من طَوّافُونَ بقوله: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ و هذا الأمر بالنسبة إلى البالغين تكليف، و بالنسبة إلى الصبيان تمرين.

ثمّ أظهر سبحانه المنّة على الناس بقوله: كَذلِكَ التبيّن يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ الدالة على المعارف و الأحكام، و ينزلها واضحة الدلالة وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم و مصالحكم حَكِيمٌ في أفعاله و تشريع أحكامه.

روي أن غلاما لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت (3).

و قيل: إنّه أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مدلج بن عمرو الأنصاري وقت الظهيرة ليدعو عمر، و كان غلاما،

ص: 456


1- . في النسخة: اليوم، و ليس.
2- . تفسير روح البيان 6:175.
3- . تفسير الرازي 24:29، تفسير أبي السعود 6:193.

فدخل عليه و هو نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أن اللّه تعالى نهى آباءنا و أبناءنا و خدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلاّ بإذن، ثمّ انطلق معه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجده و قد أنزلت عليه هذه الآية (1).

روى عكرمة: أن رجلين من أهل العراق سألا ابن عباس عن هذه الآية، فقال: إنّ اللّه ستير يحب السّتر، و كان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم و لا حجال في بيوتهم، فربّما فاجأ الرجل ولده أو خادمه أو يتيما في حجره، و يرى منه ما لا يحبه، فأمرهم اللّه تعالى أن يستأذنوا الثلاث ساعات التي سمّاها، ثمّ جاء باليسر و بسط الرزق عليهم، فاتخذوا السّتور و الحجال، فرأى الناس أنّ ذلك [قد] كفاهم عن الاستئذان الذي امروا به (2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «ليستأذن عليك بعد العشاء التي تسمّى عتمة، و حين تصبح، و حين تضعون ثيابكم من الظهيرة، إنّما أمر اللّه عزّ و جلّ بذلك للخلوة و إنّها ساعات غرّة و خلوة» (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 59

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم غير البالغين من الأطفال، و نفي الجناح في الدخول بغير الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، بيّن حكم البالغين منهم بقوله: وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ الأحرار الكائنين مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ و حدّ البلوغ، و أرادوا الدخول عليكم في وقت من الأوقات فَلْيَسْتَأْذِنُوا منكم فيه كَمَا اِسْتَأْذَنَ الأحرار اَلَّذِينَ بلغوا الحلم مِنْ قَبْلِهِمْ و الذين ذكروا من قبل، ذكرهم بقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها (4).

وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)ثمّ أكّد سبحانه تفخيم آياته و الأمر بالاستئذان بقوله: كَذلِكَ التبيّن يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

عن الصادق عليه السّلام قال: «ليستأذن الذين ملكت أيمانكم، و الذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات كما أمركم اللّه» . قال: «و من بلغ منكم الحلم فلا يلج على امّه، و لا على اخته، و لا على خالته-و في رواية عن الباقر عليه السّلام بدل الخالة الابنة (5)-و لا على من سوى ذلك إلاّ بإذن؛ و لا تأذنوا حتى تسلّموا، فانّ السّلام طاعة للّه عزّ و جلّ» و قال: «ليستأذن عليك خادمك إذا بلغ الحلم في ثلاث عورات، إذا

ص: 457


1- . تفسير أبي السعود 6:193.
2- . تفسير روح البيان 6:176.
3- . الكافي 5:529/1.
4- . النور:24/27.
5- . الكافي 5:530/3.

دخل في شيء منهنّ، و لو كان بيته في بيتك» الخبر (1).

و تخصيص الأمر بالاستئذان بالأحرار يدلّ على أن الأرقّاء البالغين كغير البالغين في اختصاص الاستئذان بالأوقات الثلاثة لبقاء العلّة.

و قيل: إنّ الرقّ البالغ محرم على مولاته، يجوز له النظر إلى ما يجوز للمحارم (2)، و ادّعى جمع من الأصحاب الاجماع على عدم محرميته، و ادّعى بعض أنّ الآية منسوخة، كما عن بن جبير و غيره و هو باطل (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 60

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النساء بالتعفّف و السّتر من البالغين، رخّص للنساء العجائز كشف الرأس و الوجه، و وضع القناع و الجلباب بقوله: وَ اَلْقَواعِدُ عن الولد و الحيض و الزوج مِنَ اَلنِّساءِ العجائز اَللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً و لا يطمعون في آن يتزوّجهنّ الرجال لكبرهنّ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ و إثم في أَنْ يَضَعْنَ و يلقين عند الرجال و في مرآهم ثِيابَهُنَّ الساترة لرؤوسهن و شعورهنّ كالجلباب و الإزار و القناع، حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ و منكشفات للرجال مصاحبات بِزِينَةٍ و محاسن امرن أن يخفينها من الرجال كالسّوار و الخلخال و القلادة، و غير مظهرات لها لعدم خوف الفتنة في حقّهن.

وَ اَلْقَواعِدُ مِنَ اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)عن الصادق عليه السّلام: «أنه قرأها فقال: الجلباب و الخمار إذا كانت المرأة مسنّة» (4).

و عنه عليه السّلام، قال: «الخمار و الجلباب» . قيل: بين يدي من كان؟ فقال: «بين يدي من كان» (5).

و في رواية اخرى: «تضع الجلباب وحده» (6)، [و في اخرى]: «إلاّ أن تكون أمّة، فليس عليها جناح أن تضع خمارها» (7).

و عن الرضا عليه السّلام، قال: «أي غير (8)الجلباب» قال: «فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهنّ» (9).

أقول: حاصل المراد أنّهنّ إذا خرجن من بيوتهنّ بالزّينة التي يجب سترها من الحليّ و ثياب التجمّل، يجب عليهنّ أخذ الجلباب، لأنّ هذا النحو من الخروج يدلّ على أنّهن متبرّجات و داعيات

ص: 458


1- . الكافي 5:529/1.
2- . تفسير الرازي 24:28.
3- . الكشاف 3:254.
4- . الكافي 5:522/4، تفسير الصافي 3:447.
5- . الكافي 5:522/1، تفسير الصافي 3:447.
6- . الكافي 5:522/2، تفسير الصافي 3:447.
7- . التهذيب 7:480/1928، تفسير الصافي 3:447.
8- . في النسخة: عنى.
9- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:98/1، تفسير الصافي 3:447.

للشبّان إلى التفرّج، لا طالبات لحاجتهنّ، و إذا خرجن بغير زينة فلا جناح عليهنّ أن يضعن الجلباب و البرد و القناع وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بترك الوضع و يستترن بالجلباب و نظائره خَيْرٌ لَهُنَّ من الوضع لبعده عن التهمة وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لما يجري بينهنّ و بين الرجال من المقال عَلِيمٌ بضمائرهنّ و مقاصدهنّ.

سوره 24 (النور): آیه شماره 61

ثمّ لمّا نفى سبحانه الجناح عن المرأة المسنّة في وضع الثياب، نفى الحرج عن أصناف في ترك العمل ببعض التكاليف بقوله: لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ و وبال و إثم وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ و الزمن حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ في ترك الجهاد على قول (1)أو في مؤاكلة الأصحّاء على آخر (2).

لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)قيل: إنهم كانوا يمتنعون من مؤاكلة الأصحّاء، أما الأعمى فلاحتمال أكله الأجود و تركه الاردأ للمبصر، و أما الأعرج فلا احتمال تضييق المكان على جليسه لاحتياجه إلى مكان زائد، و أما المريض فلاحتمال تأذّي الصحيح من مجالسته لمرضه، أو كانوا جميعا يتحذّرون من استقذار الأصحّاء إياهم (3).

و قيل: إنّ الأصحّاء كانوا لا يأكلون مع الفرق الثلاث، لأنّ الأعمى لا يبصر الطعام الجيد فلا يأخذه، و الأعرج لا يستطيع الجلوس فيأكل هو لقمة و يأكل غيره لقمتين، و المريض لا يمكنه أن يأكل كما يأكل الصحيح (4)، و على هذا الوجه يكون (على) بمعنى (في) و لا بدّ من تقدير المضاف، و المعنى ليس في مؤاكلة الأعمى حرج.

و عن عبيد اللّه بن عبد اللّه: أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم (3)، و كانوا يسلّمون إليهم مفاتيح

ص: 459


1- . تفسير الرازي 24:35.
2- . تفسير الرازي 24:35، تفسير روح البيان 6:179. (3 و 4) . تفسير الرازي 24:35.
3- . أي مرضاهم.

أبوابهم، و يقولون [لهم]: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك، و قالوا: لن ندخلها و هم غائبون، فنزلت الآية رخصة لهم (1).

و عن ابن عباس، نزلت في الحارث بن عمرو، و ذلك أنّه خرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غازيا، و خلّف مالك (2)بن زيد على أهله، فلمّا رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله، فقال: تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك (3).

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية. قال: «و ذلك أنّ أهل المدينة قبل أن يسلموا كانوا يعتزلون (4)الأعمى و الأعرج و المريض، و كانوا لا يأكلون معهم، و كان الأنصار فيهم تيه (5)و تكرّم (6)، فقالوا: إنّ الأعمى لا يبصر الطعام، و الأعرج لا يستطيع الزّحام على الطعام، و المريض لا يأكل كما يأكل الصحيح، فعزلوا لهم طعامهم على ناحية، و كانوا يرون [عليهم]في مؤاكلتهم جناحا، و كان الأعمى و الأعرج و المريض يقولون: لعلّنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم، فاعتزلوا من مؤاكلتهم» الخبر (7).

ثمّ أباح سبحانه للناس الأكل من بيوت أزواجهم و أولادهم و أقاربهم بقوله: وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ حرج في أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بيوت أزواجكم و أولادكم التي هي بمنزلة بُيُوتِكُمْ لشدّة الاتصال بينكم و بينهم أَوْ من بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ من ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ و تملّكتم التصرّف فيه باذن ربّه أَوْ من بيت صَدِيقِكُمْ.

قيل: كان المؤمنون يذهبون بالضّعفاء و ذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم و أولادهم و قراباتهم و أصدقائهم، فيطعمونهم منها، فلمّا نزل قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً (8)فعند ذلك أمتنع الناس أن يأكل بعضهم من طعام بعض فنزلت (9).

و قيل: كانت الأنصار في أنفسهم قزازة (10)، و كانوا لا يأكلون من هذه البيوت إذا استغنوا (11).

و قيل: كان الرجل يدخل بيت أبيه، أو بيت أخيه، أو اخته، فتتحفه المرأة بشيء من الطعام، فيتحرّج

ص: 460


1- . تفسير الرازي 24:35.
2- . في تفسير الرازي: بن مالك.
3- . تفسير الرازي 24:35.
4- . في تفسير القمي: يعزلون.
5- . التية: التكبر.
6- . في تفسير القمي: تكرمة.
7- . تفسير القمي 2:108، تفسير الصافي 3:448.
8- . زاد في تفسير الرازي: أي بيعا، و الآية من سورة النساء:4/29.
9- . تفسير الرازي 24:35.
10- . التقزّز: التباعد عن المعايب و المعاصي ترفّعا و تنزّها.
11- . تفسير الرازي 24:35.

لأنّه ليس ثمّ ربّ البيت (1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «الرجل [يكون]له وكيل يقوم في ماله، فيأكل بغير إذنه» (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام، قال: «ليس عليك جناح فيما أطعمت أو أكلت ممّا ملكت مفاتحه ما لم تفسده» (3).

و عن (المجمع) عن أئمة الهدى عليهم السّلام أنهم قالوا: «لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره اللّه تعالى (4)قدر حاجتهم من غير إسراف» (5).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما يعني بقوله: أَوْ صَدِيقِكُمْ؟ قال: «هو و اللّه الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه» (6).

و عنه عليه السّلام: «هؤلاء الذين سمّى اللّه عزّ و جلّ في هذه الآية، تأكل بغير إذنهم من التمر و المأدوم، و كذلك طعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه، فأما ما خلا ذلك من الطعام فلا» (7).

و عنه عليه السّلام قال: «للمرأة أن تأكل و أن تتصدّق، و للصديق أن يأكل من منزل أخيه و يتصدّق» (8).

ثمّ لمّا ذكر أن الأنصار كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصناف الثلاثة و يعزلون لهم طعامهم على ناحية، و هم أيضا كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحّاء خوفا من تأذيّهم، نفى اللّه الجناح في مؤاكلتهم بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ أيّها الأصحّاء و ذوي العاهات جُناحٌ في أَنْ تَأْكُلُوا الطعام جَمِيعاً و مجتمعين أَوْ أَشْتاتاً و متفرّقين.

عن ابن عباس: أنّها نزلت في بني ليث بن عمرو، و هم حيّ من كنانة، كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، و كان الرجل لا يأكل، و يمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، و ربما قعد الرجل و الطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرّواح، و ربما كان معه الإبل المملؤة الضّرع لبنا، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى و لم يجد أحدا أكل، فرخّص اللّه في هذه الآية الأكل وحده (9).

و قيل: إنّ الأنصار كانوا إذا نزل بواحد منهم ضيف، لم يأكل إلاّ و ضيفه معه، فرخّص اللّه لهم أن

ص: 461


1- . تفسير الرازي 24:35.
2- . الكافي 6:277/5، تفسير الصافي 3:449.
3- . الكافي 6:277/4، تفسير الصافي 3:449.
4- . زاد في المصدر: بغير إذنهم.
5- . مجمع البيان 7:246، تفسير الصافي 3:449.
6- . الكافي 6:277/1، تفسير الصافي 3:449.
7- . الكافي 6:277/2، تفسير الصافي 3:449.
8- . الكافي 6:277/3، تفسير الصافي 3:449.
9- . تفسير الرازي 24:37، تفسير أبي السعود 6:196، تفسير روح البيان 6:181.

يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرّقين (1).

و قيل: إنّهم كانوا يأكلون فرادى خوفا من أن يحصل عند الجمعية ما ينفّر أو يؤذي فنفي (2)اللّه الجناح في أن يأكلوا معا (1).

ثمّ إنّه تعالى بعد الإذن في الأكل من البيوت المذكورة، بيّن آداب الدخول فيها بقوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ أيّها المسلمون بُيُوتاً من البيوت المذكورة فَسَلِّمُوا عَلى أهلها الذين هم بمنزلة أَنْفُسِكُمْ لما بينكم و بينهم من القرابة النسبية و الدينية الموجبة لذلك.

عن الباقر عليه السّلام: «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل، ثمّ يردّون عليه، فهو سلامكم على أنفسكم» (2)فانّ السّلام يكون تَحِيَّةً و تكرمة، أو المعنى فحيّوا تحية تكون مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و مشروعة من لدنه مأمورا بها من قبله، و تكون مُبارَكَةً و مستتبعة لزيادة الخيرات و البركات في الدنيا و الثواب في الآخرة، و تكون أيضا طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-في حديث- «إذا دخلت بيتا (3)فسلّم عليهم، يكثر خير بيتك» (4).

عن الباقر عليه السّلام، قال: «إذا دخل الرجل منكم بيته، فان كان فيه أحد فليسلّم عليه (5)، و إن لم يكن فيه أحد فليقل: السّلام علينا من عند ربّنا يقول اللّه: تحية من عند اللّه مباركة طيبة» (6).

عن ابن عبّاس: من قال: السّلام عليكم، [معناه]اسم اللّه عليكم (7).

و عن الطبرسي: وصفها بالبركة و الطيب لأنّها دعوة مؤمن لمؤمن يرجو بها (8). زيادة الخير و طيب الرزق (9).

ثمّ منّ سبحانه على العباد بإيضاح الأحكام الفخيمة بقوله: كَذلِكَ التبيين يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون ما في تضاعيفها من الأحكام، و تعملون بها و تحوزون به سعادة الدارين.

سوره 24 (النور): آیه شماره 62

إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمُ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

ص: 462


1- . في النسخة: يأكلوا معه.
2- . معاني الأخبار:162/1، تفسير الصافي 3:450.
3- . في تفسيري أبي السعود و روح البيان: بيتك.
4- . تفسير أبي السعود 6:197، تفسير روح البيان 6:182، و فيه: يكثر خيرك.
5- . في تفسير القمي: يسلم عليهم.
6- . تفسير القمي 2:109، تفسير الصافي 3:450.
7- . تفسير الرازي 24:38.
8- . زاد في جوامع الجامع: من اللّه.
9- . جوامع الجامع:319، تفسير الصافي 3:450.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان آداب الدخول في البيوت و الورود على الأهل، بيّن آداب الخروج من عند الرسول بقوله: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ الخالصون في الايمان الصادقون في تصديق الرسول هم اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ و أطاعوهما في جميع الأحكام و اتّبعوا الرسول وَ إِذا كانُوا مَعَهُ مجتمعين عَلى أَمْرٍ جامِعٍ و في خطب مهمّ موجب لاجتماع المؤمنين عليه، كالتشاور في أمر عظيم، و مقاتلة الأعداء و الجمعة و الأعياد لَمْ يَذْهَبُوا من عنده، و لم يخرجوا من محضره حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ و لم يتفرّقوا عنه حتى يستجيزوا منه، و يأذن لهم و يخبرهم، فانّ الاستئذان و أخذ الإذن منه صلّى اللّه عليه و آله مميّز المخلص من المنافق. ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يا محمّد، تعظيما لك و رعاية للأدب (1)أُولئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ حقا، لا الذين لا يستأذنون لأنّهم عملوا بوظيفة الإيمان، فاذا علمت أنّ المستأذنين هم المخلصون في الإيمان فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ في الخروج و الانصراف من عندك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ المهمّ و خطبهم العظيم الملمّ فَأْذَنْ أيّها الرسول لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ و رأيت الصلاح في الإذن له، و لا اعتراض عليك وَ اِسْتَغْفِرْ بعد الإذن لَهُمُ اَللّهَ فانّ الاستئذان-و إن كان للأمر المهمّ-لا يخلو عن شائبة ترجيح أمر الدنيا على الآخرة، كما استأذن عمر في غزوة تبوك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الرجوع إلى أهله، فأذن له (2)إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ بهم.

قيل: نسخت الآية بقوله: عَفَا اَللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (3)و فيه ما لا يخفى من الضّعف.

قيل: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يعرض في خطبته بالمنافقين و يعيبهم، فينظر المنافقون يمينا و شمالا، فإذا راوا أنّ المسلمين لا يرونهم انسلّوا و خرجوا و لم يصلّوا، و إن رأوا أنهم يرونهم ثبتوا و صلّوا خوفا فنزلت، فكان بعد نزول الآية لا يخرج المؤمن لحاجة حتى يستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان المنافقون يخرجون بغير إذن (4).

و قيل: نزلت في حفر الخندق (5). و كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان الحفر من أهمّ الامور حتى حفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه.

ص: 463


1- . في النسخة: الأدب.
2- . تفسير الرازي 24:39، تفسير روح البيان 6:183.
3- . تفسير الرازي 24:39، و الآية من سورة التوبة:9/43.
4- . تفسير الرازي 24:39.
5- . تفسير الرازي 24:40.

و عن القمي: نزلت في حنظلة بن أبي عامر (1)، و ذلك أنه تزوّج في الليلة التي في صبيحتها حرب احد، فاستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقيم عند أهله، فأنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فأقام عند أهله، ثمّ أصبح و هو جنب، فحضر القتال و استشهد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء و الأرض، فسمّي غسيل الملائكة» (2).

سوره 24 (النور): آیه شماره 63

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إذن الخروج من عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله، بيّن آداب مخاطبته بقوله: لا تَجْعَلُوا أيّها المسلمون دُعاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ و نداءه كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً آخر و ندائه.

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)عن سعيد بن جبير: يعني لا ينادى كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمّد، يا أبا القاسم، و لكن قولوا: يا رسول اللّه، يا نبيّ اللّه (3).

و عن الباقر عليه السّلام [قال]: «يقول: لا تقولوا يا محمّد، و لا يا أبا القاسم، و لكن قولوا: يا نبي اللّه، يا رسول اللّه» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قالت فاطمة عليها السّلام: لما نزلت هذه الآية هبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أقول له يا أبه، فكنت أقول: يا رسول اللّه، فأعرض عنّي مرّة أو اثنتين أو ثلاثا، ثمّ أقبل إليّ فقال: يا فاطمة، إنّها لم تنزل فيك، و لا في أهلك، و لا في نسلك، أنت منّي و أنا منك، إنّما نزلت في أهل الجفاء و الغلظة من قريش أصحاب البذخ و الكبر، قولي: يا أبه، فإنّها أحيى للقلب، و أرضى للرب» (5).

و عن ابن عباس: يعني لا ترفعوا أصواتكم في دعائه (6).

و قيل: لا تجعلوا أمره [إياكم]و دعاءه لكم، كما يكون من بعضكم لبعض، إذ كان أمره فرضا لازما (7).

و قيل: أحذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه، فانّ دعاءه مستجاب ليس كدعاء غيره (8).

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين الخارجين بلا إذن الرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ المنافقين اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ و يخرجون مِنْكُمْ قليلا قليلا من بين المؤمنين لِواذاً و تستّرا ببعض لئلا يراهم

ص: 464


1- . في تفسيري القمي و الصافي: ابن أبي عياش، تصحيف انظر اسد الغابة 2:59.
2- . تفسير القمي 2:110، تفسير الصافي 3:451.
3- . تفسير الرازي 24:40.
4- . تفسير القمي 2:110، تفسير الصافي 3:451.
5- . مناقب ابن شهرآشوب 3:320، تفسير الصافي 3:451.
6- . تفسير الرازي 24:40.
7- . تفسير الرازي 24:39.
8- . تفسير الرازي 24:40.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنون أنّهم يخرجون بغير إذن.

و قيل: كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له، فينطلق الذي لم يؤذن له معه (1)، و على أي تقدير فيه تهديد شديد.

ثمّ هدّد سبحانه المعرضين عن أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سنتّه بقوله: فَلْيَحْذَرِ ألبتة اَلَّذِينَ يُخالِفُونَ و يتخلّفون عَنْ أَمْرِهِ و يعرضون أو عن أمر اللّه من أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ و عقوبة عظيمة في الدنيا، كما عن ابن عبّاس (2)، أو الزّلازل و الأهوال (3)، أو ظهور نفاقهم (4)، أو تسلّط السلطان الجائر عليهم، كما عن الصادق عليه السّلام (5)أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

سوره 24 (النور): آیه شماره 64

ثمّ أعلن سبحانه بكمال قدرته و سعة علمه إرعابا للقلوب، و زجرا عن مخالفته و مخالفة رسوله بقوله: أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إيجادا و إعداما، و تصرّفا و تدبيرا، و إبداء و إعادة قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيّها الناس من الأحوال التي من جملتها النفاق و خلوص الايمان و الطاعة و المخالفة وَ يعلم يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ و يردون إلى محضر عدله و دار جزائه فَيُنَبِّئُهُمْ و يعلمهم بِما عَمِلُوا من الأعمال السيئة، و يظهر لهم على رؤوس الأشهاد شنائعهم، و يرتّب عليها ما يليق بها من الجزاء وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الجليّات و الخفيّات عَلِيمٌ محيط لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء.

أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)عن الصادق عليه السّلام: «حصّنوا أموالكم و فروجكم بتلاوة سورة النور، و حصّنوا بها نساءكم، فانّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم، أو في كلّ ليلة، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتى يموت، فاذا هو مات شيّعه سبعون ألف ملك كلّهم يدعون و يستغفرون اللّه حتى يدخل في قبره» (6).

و عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تنزلوا النساء الغرف، و لا تعلّموهن الكتابة، و علّموهن المغزل و سورة النور» (7).

الحمد للّه الذي منّ عليّ لإتمام تفسير سورة النور و أسأله التوفيق لاتمام تفسير ما يليها من السور.

ص: 465


1- . تفسير الرازي 24:40.
2- . تفسير الرازي 24:42، و لم ينسب إلى أحد.
3- . تفسير الرازي 24:42.
4- . تفسير الرازي 24:42.
5- . جوامع الجامع:320، تفسير الرازي 24:42.
6- . ثواب الاعمال:109، مجمع البيان 7:194، تفسير الصافي 3:452.
7- . الكافي 5:516/1، تفسير الصافي 3:452.

ص: 466

في تفسير سورة الفرقان

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة بتوصيف المؤمنين الخلّص (1)و إيجاب طاعة النبيّ و تعظيمه، و تهديد المنافقين و المخالفين لأمره بالعذاب، و بيان كمال قدرته و سلطنته و علمه ترهيبا للقلوب، اردفت بسورة الفرقان التي افتتحت بإثبات التوحيد و نبوة نبيّه، و ذكر أهوال القيامة، و ختمت بذكر صفات العباد المخلصين، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات حسب دأبه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

تَبارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)

ثمّ لمّا كان إثبات الصانع و كمال صفاته أهمّ الامور افتتحها بقوله: تَبارَكَ و تكاثر خير الإله اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقانَ و أنزل نجوما القرآن الذي هو معدن العلوم و المعارف و الحكم، و منبع جميع الخيرات، و الفارق بين الحقّ و الباطل عَلى عَبْدِهِ و رسوله محمد صلّى اللّه عليه و آله لِيَكُونَ هو، أو الفرقان لِلْعالَمِينَ و كافّة الجنّ و الإنس إلى يوم القيامة نَذِيراً و مخوّفا من العذاب على عصيان اللّه

اَلَّذِي يكون من شواهد عظمته و عظيم سلطانه و كمال قدرته أنّ لَهُ وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السلطنة التامة في عالم الوجود من الجبروت و الملكوت و الناسوت وَ لَمْ يَتَّخِذْ لنفسه و لم يختر لذاته وَلَداً يعبد من دونه و يرث ملكه وَ لَمْ يَكُنْ له من الأزل شَرِيكٌ و ندّ فِي اَلْمُلْكِ و السلطنة، بل هو متفرّد في الالوهية و الربوبية وَ خَلَقَ و أوجد كُلَّ شَيْءٍ قابل للوجود فَقَدَّرَهُ و هيّأه لما يصلح من الكمال و الادراك و النظر و التدبير في امور المعاش و المعاد تَقْدِيراً بديعا و تهيأ عجيبا.

ص: 467


1- . في النسخة: الخلّصين.

عن الرضا عليه السّلام قال: «أتدري ما التقدير؟» قيل: لا. قال: «هو وضع الحدود من الآجال و الأرزاق و البقاء و الفناء» (1).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 3 الی 5

ثمّ وبّخ المشركين العابدين لغيره بقوله: وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه آلِهَةً كثيرة، و معبودين وفيرون (2)من الأصنام و الأوثان مع أنّهم لا يَخْلُقُونَ من الموجودات شَيْئاً و إن كان حقيرا، و لا يقدرون على إيجاد شيء و إن كان يسيرا وَ هُمْ يُخْلَقُونَ بقدرة الغير و هواه كسائر الموجودات وَ لا يَمْلِكُونَ و لا يستطيعون لِأَنْفُسِهِمْ التي هي أعزّ الأنفس عند ذوي الشعور أن يدفعوا ضَرًّا وَ لا أن يجلبوا (3)نَفْعاً فكيف لغيرهم وَ لا يَمْلِكُونَ أن يوجدوا مَوْتاً لحيّ وَ لا حَياةً لميّت وَ لا نُشُوراً و بعثا من القبور للجزاء يوم القيامة، و فيه تنبيه على أنّ القدرة على الإحياء و الإماته و البعث للجزاء من لوازم الالوهية، فمن لا يقدر عليها فهو بمعزل من الالوهية.

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً (3) وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ اِفْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (4) وَ قالُوا أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5)

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و إبطال الشرك، شرع في إثبات نبوة خاتم الأنبياء و ردّ شبهات منكريها بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله: إِنْ هَذا القرآن الذي يستدلّ به على نبوته ما هو إِلاّ إِفْكٌ و كذب و شيء مصروف عمّا هو عليه من الباطل إلى صورة الحقّ هو اِفْتَراهُ و اختلقه من عند نفسه وَ أَعانَهُ و ساعده عَلَيْهِ في إخباره بتواريخ الامم الماضية لكونه اميا لم يقرأ الكتب قَوْمٌ آخَرُونَ مطّلعون على كتب التواريخ من اليهود.

قيل: نزلت في النّضر بن الحارث، فانّه الذي قال هذا القول، و المقصود من القوم الآخرين عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، و يسار غلام عامر بن الحضرمي، و جبير (4)مولى عامر، فإنّهم كانوا من أهل الكتاب، و كانوا يقرؤن التوراة، و يحدّثون منها أحاديث، فلمّا أسلموا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتعهّدهم، فلذا قال النظر ذلك (5).

ص: 468


1- . تفسير القمي 1:24، تفسير الصافي 4:4.
2- . في النسخة: وفيرة.
3- . في النسخة: (ضرا) أو يجلبوا.
4- . في تفسير الرازي: و جبر.
5- . تفسير الرازي 24:50.

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: فَقَدْ جاؤُ و أتوا بما قالوا ظُلْماً عظيما حيث جعلوا الكلام المعجز إفكا و اختلاقا مفتعلا من اليهود وَ زُوراً و كذبا واضحا حيث نسبوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما هو برئ منه، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله تحدّى بالقرآن مع كون معارضيه مهرة الكلام و خراريت (1)فنّ الفصاحة، قادرين على الاستعانة بأهل الكتاب و المطّلعين على التواريخ السالفة، حريصين على إبطال أمره و إطفاء نوره، و مع ذلك عجزوا عن إتيان أقصر سورة مثله،

و لو كان من كلام البشر لأتوا به وَ قالُوا أيضا هذا القرآن الذي جاء به أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و خرافات المتقدّمين و الأحاديث الملفّقات المنقولة من السابقين هو اِكْتَتَبَها و أمر غيره بثبتها في أوراق فَهِيَ تُمْلى و تقرأ عَلَيْهِ بعد كتابتها بُكْرَةً وَ أَصِيلاً و أول النهار و آخره ليحفظها من أفواه الذين يقرءونها، لكونه اميا لا يعرف الخطّ حتى يقدر على قراءتها بنفسه.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 6 الی 8

ثمّ أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمّد، إنّ ما أتاكم به من القرآن إنّما أَنْزَلَهُ علىّ الإله اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ الكامن فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خفيّات الموجودات، لأنّ القادر على تركيب الألفاظ تركيبا يعجز عنه جميع الفصحاء مع اشتمالها على الأخبار بالمغيبات و العلوم الكثيرة و الأحكام الموافقة لصلاح العباد و نظام العالم، لا يكون إلاّ من العالم بجميع الامور حتى الأسرار و الخفيات في عالم الكون، فهو يعلم سرّكم و جهركم، و ظاهركم و باطنكم، و باطن أمر الرسول، و براءته ممّا تتهمونه به، و يجازيكم على ما علم منكم، و لكن لا يعاجلكم بالعقوبة إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً مع استحقاق العقوبة.

قُلْ أَنْزَلَهُ اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ اَلظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية قدح المشركين في القرآن، حكى قدحهم في الرسول بقوله: وَ قالُوا اعتراضا على رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و تصغيرا لشأنه، و إظهارا للتعجّب من ادّعائه و استهزاء به بتسميته بالرسول ما هذا الحال المعجب الذي يكون لِهذَا اَلرَّسُولِ على قوله، و هو أنه يَأْكُلُ اَلطَّعامَ كما نأكل وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ لحوائجه و طلب معاشه كما نمشي، إذن هو بشر مثلنا لا

ص: 469


1- . الخراريت، جمع خرّيت: أي الحاذق الماهر، و الدليل الحاذق بالدلالة، و في النسخة: خراريط.

فضيلة له علينا، مع أنّ الرسول لا بدّ أن يكون ملكا لا يأكل و لا يحتاج إلى ما نحتاج إليه.

ثمّ لو سلّمنا إمكان كون الرسول بشرا نقول: لَوْ لا أُنْزِلَ من قبل ربّه إِلَيْهِ مَلَكٌ من الملائكة على صورته المباينة لصورة الجنّ و الإنس فَيَكُونَ ذلك الملك باتّفاق هذا الرسول و مَعَهُ للناس نَذِيراً و مبلّغا عن اللّه،

و شاهدا له على رسالته حتى يعلم الناس صدقه أَوْ يُلْقى من السماء إِلَيْهِ كَنْزٌ و مال كثير مجتمع حتى ينفق منه على نفسه، و يعيش بالسّعة، و على الفقراء المؤمنين به، و على غيرهم، ترويجا لدينه أَوْ تَكُونُ لَهُ على فرض التنزيل جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها و يعيش بثمارها كواحد من الدهاقين حتى يخرج من ذلّ الفقر و الحاجة وَ قالَ اَلظّالِمُونَ و المتجاوزون عن حدود العقل، المتعدّون على أنفسهم باهلاكها، و على سائر الناس باضلالهم: أيها المؤمنون بمحمّد إِنْ تَتَّبِعُونَ و ما تقلّدون في دينكم إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً و مغلوبا على عقله، لأنّه يقول على خلاف قومه قولا لا يقبله منه عاقل.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 9

ثمّ لمّا كان قولهم في نهاية القباحة و الشناعة و غاية البعد عن حدود العقل، أعرض سبحانه عن جوابهم، و خاطب نبيه بقوله: اُنْظُرْ يا محمّد إلى مقالة هؤلاء السفهاء، و تعجّب من أنهم كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ و قالوا في حقّك تلك اَلْأَمْثالَ و الأقاويل الغريبة المعجبة الخارجة عن العقول، فانّهم أرادوا القدح في نبوّتك فَضَلُّوا و تاهوا عن سلك العقل و طريق معرفة النبي صلّى اللّه عليه و آله فَلا يَسْتَطِيعُونَ و لا يقدرون أن يجدوا إلى الطعن فيك أو إلى الرشد و الهدى سَبِيلاً فانّ الطعن في نبوة مدّعيها لا يكون إلاّ بالطعن في معجزاته لا بهذه الأباطيل.

اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)روي عن العسكري عليه السّلام قال: «قلت لأبي، علي بن محمّد: هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يناظر اليهود و المشركين إذا عاتبوه و يحاجّهم؟ قال: [بلى]مرارا كثيرة، و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة، فابتدأ عبد اللّه بن [أبي]امية المخزومي فقال: يا محمّد، لقد ادعّيت دعوى عظيمة، و قلت مقالا هائلا؛ زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، و ما ينبغي لربّ العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا، يأكل كما نأكل، و يمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا ملك الروم، و هذا ملك فارس لا يبعثان رسولا إلاّ كثير المال عظيم خطير (1)، له قصور و دور و فساطيط و خيام و عبيد و خدّام، و ربّ العالمين فوق هؤلاء كلّهم، فهم عبيده، و لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدّقك

ص: 470


1- . في تفسير العسكري و الاحتجاج: عظيم الحال.

و نشاهده، بل لو أراد اللّه أن يبعث نبيا لكان إنّما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا، ما أنت يا محمّد إلاّ مسحورا، و لست بنبيّ، ثمّ اقترحوا أشياء كثيرة» .

إلى أن قال الامام: «فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهم أنت السامع لكلّ صوت، و العالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل اللّه عليه: يا محمّد وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ إلى قوله: قُصُوراً مع آيات اخر. قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عبد اللّه، أمّا ما ذكرت [من]أنّي آكل الطعام كما تأكلون، و زعمت أنّه لا يجوز لأجل هذه أن أكون للّه رسولا، فانّما الأمر للّه تعالى يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد، و هو محمود، و ليس لك و لا لأحد الاعتراض [عليه]بلم و كيف، ألا ترى أنّ اللّه تعالى كيف أفقر بعضا و أغنى بعضا، و أعزّ بعضا و أذل بعضا و أصح بعضا و أسقم بعضا، و شرّف بعضا و وضع بعضا، و كلّهم ممن يأكل الطعام؟

ثمّ ليس للفقراء أن يقولوا: لم أفقرتنا و أغنيتهم، و لا للوضعاء أن يقولوا: لم وضعتنا و شرفتهم، و لا للزّمناء و الضعفاء. أن يقولوا لم أزمنتنا و أضعفتنا و صحّحتهم؟ و لا للأذلاء أن يقولوا: لم أذللتنا و أعززتهم؟ و لا لقباح الصور أن يقولوا: لم أقبحتنا و جمّلتهم؟ بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادّين، و له في احكامه منازعين، و به كافرين، و لكان جوابه لهم: أنا الملك الخافض الرافع، المغني المفقر، المعزّ المذلّ، المصحح المسقم، و أنتم العبيد، ليس لكم إلاّ التسليم لي و الانقياد لحكمي، فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين، و إن أبيتم كنتم بي كافرين [و بعقوباتي]من الهالكين.

ثمّ أنزل اللّه تعالى عليه: يا محمّد قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني آكل الطعام و يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (1)يعني قل لهم: أنا في البشرية مثلكم، و لكن ربّي خصّني بالنبوة [دونكم]كما يخصّ بعض البشر بالغنى و الصحّة و الجمال دون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصّني أيضا بالنبوة» .

إلى أن قال: «فقال رسول اللّه: و أما قولك: ما أنت إلاّ رجلا مسحورا، فكيف أكون كذلك و قد تعلمون أنّي في صحة التميّز و العقل فوقكم؟ فهل جرّبتم عليّ منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خرقة (2)أو زلّة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأي؟ أتظنون أنّ رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه و قوتها، أو بحول اللّه و قوّته؟ و ذلك ما قال اللّه: اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجّة» الخبر (3).

ص: 471


1- . الكهف:18/110.
2- . في تفسير العسكري: جريرة، و في الاحتجاج: خزية.
3- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:500/314، الاحتجاج:29، تفسير الصافي 4:6.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 10

ثمّ أجاب سبحانه عن خرافاتهم بقوله: تَبارَكَ و تعالى الإله اَلَّذِي إِنْ شاءَ و رأى الصلاح جَعَلَ لَكَ في الدنيا خَيْراً و أفضل مِنْ ذلِكَ الذي يقولون من النّعم الدنيوية كالكنز و الجنّة، و ذلك الخير هو جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً مشيّدة كقصور الجنّة.

تَبارَكَ اَلَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)روي أن مترفي قريش عيّروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالفقر، فجاء رضوان خازن الجنان بعد نزول تلك الآيات إلى النبيّ، و كانت معه حقّة (1)، فوضعها عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، إن فيها مفاتيح خزائن الأرض، أعطاك ربك [إياها]و يقول: خذها و تصرّف في خزائن الأرض كيف شئت من غير أن ينقص من كرامتك عليّ شيء. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله «يا رضوان، مالي إليها حاجة، فانّ الفقر أحبّ إليّ، و اريد أن أكون عبدا شكورا صبورا» (2).

و في الحديث: أن ربي عرض عليّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب، و لكن أجوع يوما و أشبع يوما، فأمّا اليوم الذي أجوع فيه فاتضرّع إليك و أدعوك، و أما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك و أثني عليك (3).

عن ابن عباس قال: بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس و جبرئيل عليه السّلام عنده، قال جبرئيل عليه السّلام: هذا ملك قد نزل من السماء، استأذن ربّه في زيارتك، فلم يلبث إلاّ قليلا حتى جاء الملك، و سلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ اللّه يخيّرك بين أن يعطيك مفاتيح كلّ شيء، لم يعطها أحدا قبلك، و لا يعطيها أحدا بعدك، من غير أن ينقصك ممّا ادّخر لك شيئا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل يجمعها جميعا لي في الآخرة» . فنزل [قوله] تَبارَكَ اَلَّذِي إِنْ شاءَ الآية (4).

و عنه رحمه اللّه: قال صلّى اللّه عليه و آله: «عرض عليّ حبرئيل بطحاء مكة ذهبا، فقلت: [بل]شبعة و ثلاث جوعات، و ذلك أكثر لذكري و مسألتي لربّي» (5).

و في رواية قال: «أشبع يوما و أجواع ثلاثا، فأحمدك إذا شبعت، و اتضرّع إليك إذا جعت» (6).

و عن الضحّاك: لمّا عيّر المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالفاقة حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لذلك، فنزل جبرئيل عليه السّلام معزّيا له و قال: إنّ اللّه يقرئك السّلام، و يقول: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ

ص: 472


1- . في أسباب النزول: سفط.
2- . أسباب النزول للواحدي:188، تفسير روح البيان 6:192.
3- . تفسير روح البيان 6:192. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 24:54.

لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ (1) الآية.

قال: فبينما جبرئيل عليه السّلام و النبي صلّى اللّه عليه و آله يتحدّثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك، ثمّ قال: ابشر يا محمّد، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربّك، فسلّم عليه، و قال: [إنّ] ربّك يخيّرك بين أن تكون نبيا ملكا، و بين أن تكون نبيا عبدا، و معه سفط من نور يتلألأ، ثمّ قال: هذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك اللّه ممّا أعدّ لك في الآخرة جناح بعوضة، فنظر النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى جبرئيل كالمستشير، فأومأ بيده أن تواضع، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «بل نبيا عبدا» . قال: فكان صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك لم يأكل متّكئا حتى فارق الدنيا (2).

و عن عائشة قالت: قلت: يا رسول اللّه، ألا تستطعم اللّه فيطعمك؟ قالت: فبكيت لما رأيت به من الجوع و شدّ الحجر [على بطنه]من السّغب، فقال: يا عائشة، و الذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض، و لكن اخترت جوع الدنيا على شبعها، و فقرها على غناها، و حزنها على فرحها. يا عائشة، إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمد و لا لآل محمد (3).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 11 الی 12

ثمّ بيّن سبحانه علّة صدور هذه الخرافات عنهم بقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ كأنه (4)سبحانه قال: لم يحملهم على هذه الأقاويل الباطلة شبهة حقيقية في نبوتك، بل حملهم عليها و على تكذيبك عنادهم و عدم خوفهم من الساعة و دار الجزاء، لأنّهم يكذّبونها، أو أنّهم كذبّوها لثقل الاستعداد لها عليهم، أو المراد أنّهم لا ينتفعون بدلائل نبوتك، و لا يتفكّرون فيها لتكذيبهم بالساعة، و عدم رجائهم الثواب، و عدم خوفهم من العقاب، و قصور أنظارهم على الزّخارف الدنيوية، و ظنّهم أن الكرامة إنّما هي في الغنى و الثّروة، و لذا عيّروك بالفقر.

بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12)ثمّ هدّد المكذّبين بالساعة بقوله: وَ أَعْتَدْنا و هيّئنا في الآخرة لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّاعَةِ و أنكر دار الجزاء سَعِيراً و نارا شديدة الحرّ و الاشتعال.

و قيل: إنّ السعير من أسامي جهنم (5).

ثمّ وصف اللّه السعير بقوله: إِذا رَأَتْهُمْ تلك السعير مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ غاية البعد، كما بين

ص: 473


1- . الفرقان:25/20.
2- . تفسير الرازي 24:54.
3- . تفسير روح البيان 6:193.
4- . في النسخة: كان.
5- . تفسير الرازي 24:55، تفسير البيضاوي 2:136.

المشرق و المغرب، و هو على ما قيل خمسمائة عام (1)، و عن الصادق: «مسيرة سنة» (2)سَمِعُوا لَها من شدّة غضبها عليهم تَغَيُّظاً و صوتا هائلا وَ زَفِيراً و همهمة، و هي على ما قيل: صوت خارج من الجوف مع الترديد (3). و قيل: يعني علموا لها التغيظ، و سمعوا لها زفيرا (4). و قيل: يعني سمعوا تغيّظ الخزنة (5).

و عن عبيد بن عمير: أنّ جهنّم لتزفر زفرة، لا يبقى نبي مرسل، و لا ملك مقرّب إلاّ خرّ لوجهه، ترعد فرائصهم حتى أن إبراهيم عليه السّلام ليجثو على ركبتيه و يقول: يا رب (6). لا أسألك إلاّ نفسي (7).

أقول: ظاهر الآية أنّ النار في الآخرة حيّة شاعرة، كما يدلّ عليه قوله: وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ (8).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال الكفّار حين البعد من جهنّم، بيّن حال ورودهم فيها بقوله: وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً قيل: إنّ جهنّم لتضيق على الكفار كضيق الزّج (9)على الرّمح (10).

وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (11) لا تَدْعُوا اَلْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ اُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» (12).

و قيل: الأسفلون يرفعهم اللّهب، و الأعلون يخفظهم الداخلون فيزدحمون (13)، حال كونهم مُقَرَّنِينَ و مقيدين في السلاسل تقرن أيديهم إلى أعناقهم، أو يقرن بعضهم مع بعض، أو كلّ مع شيطانه في سلسلة، مع ما هم عليه من العذاب الشديد و الضيق، و حينئذ دَعَوْا و نادوا تمنّيا هُنالِكَ و في ذلك المكان الضيّق ثُبُوراً و هلاكا لأنفسهم بقولهم: يا ثبوراه، أو يا ثبور تعال فهذا حينك و أوانك.

روي أنّ أول من يكسى يوم القيامة إبليس حلّة من النار بعضها على جانبه (13)فيسحبها من خلفه، و ذرّيته خلفه، و هو يقول: و اثبوراه، و هم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار، فينادي: يا ثبوراه،

ص: 474


1- . تفسير روح البيان 6:194.
2- . مجمع البيان 7:257، تفسير الصافي 4:7.
3- . تفسير روح البيان 6:194.
4- . تفسير الرازي 24:56.
5- . تفسير الرازي 24:56.
6- . زاد في تفسير روح البيان: يا رب.
7- . تفسير روح البيان 6:194.
8- . العنكبوت:29/64.
9- . الزّج: الحديدة في اسفل الرمح.
10- . تفسير الرازي 24:56.
11- . في تفسير الرازي: جانبيه، و في تفسير روح البيان: حاجبيه.
12- . تفسير الرازي 24:56.
13- . تفسير الرازي 24:56.

و ينادون: يا ثبورهم (1)،

فيقول اللّه أو الملائكة: إعلانا لهم بالخلود في العذاب لا تَدْعُوا في هذا اَلْيَوْمَ العظيم ثُبُوراً واحِداً أو لا تقتصروا على دعاء واحد وَ اُدْعُوا لكثرة أنواع العذاب و ألوانه ثُبُوراً كَثِيراً لكلّ واحد منها ثبور لشدّته و فضاعته، أو لأنّ العذاب دائم و خالص من شوب غيره، فلكلّ وقت من الأوقات التي لا نهاية لها ثبور.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين للساعة أمر نبيه بإعلامهم بحسن حال المؤمنين ترغيبا إلى الإيمان و ترهيبا عن الحسرة و الندامة بقوله: قُلْ يا محمد لهم: أنصفوا أَ ذلِكَ العذاب الذي لا نهاية لشدّته و مدّته خَيْرٌ و أحسن أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي لا انقطاع لنعيمها، و لا انقضاء لمدّة البقاء فيها، و قد وُعِدَ بها اَلْمُتَّقُونَ و المحترّزون من الكفر و الشّرك و العصيان، فانّها كانَتْ لَهُمْ جَزاءً على تقواهم و أعمالهم الحسنة وَ مَصِيراً و مرجعا يرجعون إليه بالموت و الخروج من الدنيا

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ و يشتهون حال كونهم خالِدِينَ و دائمين في نعيمها كانَ ذلك الجزاء المذكور ثابتا عَلى رَبِّكَ الكريم، لأنّه وعد بذلك وَعْداً مَسْؤُلاً واجب الوفاء، أو حقيقا بأن يسأل و يطالب به، أو مسؤولا للمؤمنين بقولهم: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ (2)أو مسؤول الملائكة للمؤمنين بقولهم: رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ (3).

قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المنكرين للساعة هدّد المنكرين للتوحيد بقوله: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ من القبور إلى العرصات وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ من الأصنام فَيَقُولُ اللّه لهم تقريعا لعبادهم: أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ و صرفتم عن طريق توحيدي و عبادتي عِبادِي يعني هؤُلاءِ المشركين بأن دعوتموهم إلى عبادتكم و أمرتموهم بها أَمْ هُمْ بأهوائهم ضَلُّوا و أخطأوا اَلسَّبِيلَ المرضي عندي الموصل إلى كلّ خير، و هو التوحيد،

بأن اختاروا الشّرك و عبادتكم قالُوا تعجبا من هذا

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا اَلسَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتّى نَسُوا اَلذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً (18)

ص: 475


1- . تفسير الرازي 24:57، تفسير روح البيان 6:195.
2- . آل عمران:3/194.
3- . المؤمن:40/8.

السؤال، أو تنزيها له تعالى من الأنداد: سُبْحانَكَ ربّنا ما كانَ يَنْبَغِي و ما استقام لَنا بعد معرفتنا بألوهيتك و توحيدك و عظمتك أَنْ نَتَّخِذَ لأنفسنا مِنْ دُونِكَ و ممّا سواك أَوْلِياءَ و معبودين، فكيف ندعو غيرنا إلى أن يتّخذنا وليا و معبودا؟

و قيل: يعني ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ الكفّار الذين هم أعداؤك أولياء، فنكون كالشياطين الذين تولّوا الكفّار كما يولّونهم (1)، أو ما كان لنا أن نتّخذ من دون رضاك وليا و محبا فضلا عن أن نتّخذ عبدا (2). وَ لكِنْ يا إلهنا أنت مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ من الدنيا، و أكثرت عليهم نعيمها حَتّى استغرقوا فيها و نَسُوا اَلذِّكْرَ و الإيمان بك، أو القرآن و الأحكام، أو ما فيه حسن ذكرهم في الدارين، أو التذكّر لآلائك، و التدبّر في آياتك، أو تركوا ما وعظوا به وَ كانُوا لذلك قَوْماً بُوراً و صاروا جماعة هلكى بعذاب الآخرة.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ التفت سبحانه من الغيبة إلى الخطاب للعبيد، احتجاجا عليهم، و إلزاما لهم بقوله: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أيّها المشركون بِما تَقُولُونَ في الدنيا من أنّهم آلهه و أنّهم أضلّونا فَما تَسْتَطِيعُونَ و لا تملكون صَرْفاً و دفعا للعذاب عنكم بوجه من الوجوه وَ لا نَصْراً لأنفسكم من قيد أصنامكم التي تزعمون أنّهم يشفعونكم و يدفعون البليات عنكم، ثمّ عمّ التهديد لكلّ عاص بقوله: وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أيّها الناس على نفسه باختيار الشّرك و العقائد الفاسدة و الأعمال السيئة نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً و عقوبة شديدة في الغاية.

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

ثمّ صرّح سبحانه بجواب المعترضين على رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بكونه بشرا بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ أحدا مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ العظام الذين ثبتت رسالتهم بالمعجزات الباهرات إِلاّ إِنَّهُمْ و اللّه لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْواقِ كسائر الناس، و لم يكن ذلك منافيا لرسالتهم، فلا تكون أنت بدعا منهم وَ جَعَلْنا الناس بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ آخر فِتْنَةً و ابتلاء و امتحانا الرسل للمرسل اليهم، و الفقراء للأغنياء، و السّقماء للأصحّاء، و السّفلة للأعالي، و العبيد للموالي، و الرعايا للسلاطين.

ص: 476


1- . تفسير الرازي 24:63.
2- . تفسير الرازي 24:63.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ويل للعالم من الجاهل، و ويل للسلطان من الرّعيّة، و ويل للرّعية من السلطان، و ويل للمالك من المملوك، و ويل للشديد من الضعيف، و للضعيف من الشديد، بعضهم لبعض فتنة» ثمّ قرأ هذه الآية (1).

و قيل: إنّ هذا في رؤساء المشركين و فقراء الصحابة، فاذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم، فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة و الفضل عليه (2).

و عن ابن عباس: أنّ هذا في أصحاب البلاء و العافية، هذا يقول: لم لم اجعل مثله في الخلق و الخلق و في العقل و العلم، و الرزق و الأجل (1). و فيه احتجاج على المشركين في تخصيص محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية، فابتلي المرسل إليهم بالرّسل، و الرّسل (2)بالمرسل إليهم (3).

فاذا علمتم أيّها المؤمنون أن دأبه تعالى الابتلاء و الامتحان أَ تَصْبِرُونَ على البلاء و المحن أم لا؟ فان تصبروا فلكم ما وعد اللّه الصابرين من الأجر الجزيل و الثواب العظيم وَ كانَ رَبُّكَ يا محمّد، أو أيها الصابر بَصِيراً و عالما بالصابر و غيره، فيجازي كلاّ بما يستحقّه من ثواب و عقاب.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ حكى سبحانه اعتراضا آخر من المشركين على رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ قالَ المشركون اَلَّذِينَ ينكرون البعث و دار الجزاء و لا يَرْجُونَ لِقاءَنا و لا يتوقعون الرجوع إلينا بعد الموت، و لا يخافون عقابنا ضلالا و إضلالا: لَوْ لا أُنْزِلَ من قبل اللّه عَلَيْنَا اَلْمَلائِكَةُ بالرسالة، فإنّ رسالتهم أولى من رسالة البشر و أقرب بالتصديق أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة و عيانا، فيأمرنا بتصديق محمّد و اتّباعه، فانّ أمره شفاها بتصديقه أدلّ على صدقه من المعجزات التي تظهر على يده، و على الحكيم أن يسلك الطريق الأقرب إلى المقصود.

وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا و واللّه أظهروا ترفّعا مضمرا فِي أَنْفُسِهِمْ و قلوبهم وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً و طغوا طغيانا مفرطا، و غلوا في الكفر غلوّا شديدا بسؤالهم الرؤية التي لا تمكن للممكن، و لو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقربا لفقد شرائط الرؤية. نعم، يمكن رؤيتهم الملائكة، و لكن

ص: 477


1- . تفسير الرازي 24:66.
2- . في تفسير الرازي: فابتلي المرسلين.
3- . تفسير الرازي 24:66.

يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلائِكَةَ الموكلّين بالعذاب عند الموت، كما عن ابن عباس (1)، أو في القيامة (2)لا بُشْرى و لا خير فيه سرور القلب يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ و العصاة و المشركين.

قيل: المراد أن ما سألوه من نزول الملائكة عليهم سيكون، و لكن لا إجابة لما اقترحوه (1)، لعدم حسن إجابة السؤال الاقتراحي مع وجود المعجزات الكافية، بل لعقوبتهم و تعذيبهم على كفرهم و تعنتاتهم، وَ لذا يَقُولُونَ عند مشاهدة الملائكة الغلاظ الشداد كراهة للقائهم و فزعا منهم: يا ملائكة العذاب، أسأل اللّه حِجْراً و منعا لكم، و كونكم مَحْجُوراً و ممنوعا من قربنا. قيل: العرب تقول ذلك عند لقاء العدوّ و نزول نازلة، و هو في معنى الاستعاذة (2).

و قيل: إنّ (محجورا) تأكيد للحجر، كما يقال: ليل أليل، و موت مائت، و حرام محرّم (5).

و قيل: إنّ الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم ذلك (6)و معناه حراما محرّما عليكم الغفران و الجنّة.

و قيل: إذا كان يوم القيامة تلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى، فاذا رأى الكفّار ذلك قالوا لهم: بشّرونا، فيقولون: حِجْراً مَحْجُوراً (7).

و قيل: إنّ الملائكة الذين هم على أبواب الجنّة يبشّرون المؤمنين بالجنّة، و يقولون للمشركين ذلك (8).

و قيل: إنّ الكفّار [يوم القيامة]إذا شاهدوا ما يخافونه يتعوّذون منه، و يقولون: حجرا محجورا، فيقول الملائكة: لا يعاذ من شرّ هذا اليوم (3).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 23

ثمّ بيّن سبحانه حال أعمالهم الخيرية دفعا لتوهّم فائدتها لهم، و أزديادا لحسرتهم بقوله: وَ قَدِمْنا و قصدنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ خير كانوا يظنون أنّه ينفعهم كالانفاق على الفقراء، و صلة الرّحم، و إعانة الملهوفين و نظائرها فَجَعَلْناهُ ا و صيّرناها هَباءً و غبارا في شعاع الشمس مَنْثُوراً و متفرّقا، و هذا كناية عن إبطاله بالكلية، بحيث لا يمكنهم الانتفاع كما لا يمكن قبض الهباء المنثور و جمعه.

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)عن الصادق عليه السّلام قال: «إن كانت أعمالهم لأشدّ بياضا من القباطيّ (4)، فيقول اللّه عزّ و جلّ لها: كوني

ص: 478


1- . تفسير روح البيان 6:200.
2- . جوامع الجامع:322، تفسير الرازي 24:71. (5 و 6 و 7 و 8) . تفسير الرازي 24:71.
3- . تفسير الرازي 24:71.
4- . القباطي: ثياب بيض رقاق من كتّان.

هباء منثورا، و ذلك أنّهم كانوا إذا شرّع لهم الحرام أخذوه» (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل أعمال من هذه؟ قال: «أعمال مبغضينا و مبغضي شيعتنا» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «يبعث اللّه يوم القيامة قوما بين أيديهم نور كالقباطي، ثمّ يقول له: كن هباء منثورا، ثمّ قال: أما و اللّه إنّهم كانوا يصومون و يصلّون، و لكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، و إذا ذكر (3)لهم شيء من فضل أمير المؤمنين عليه السّلام أنكروه. قال: و الهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوّة من شعاع الشمس» (4).

أقول: هذه الروايات في بيان تأويل الآية و انطباقها على هذا النوع من المسلمين، و إن كان نزولها في المشركين.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 24

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار و غاية حرمانهم من كلّ خير و ثواب، بيّن حسن حال المؤمنين بقوله: أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ و هم المؤمنون المطيعون للّه يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت الذي يكون المشركون في أشدّ العذاب خَيْرٌ من سائر الناس مُسْتَقَرًّا و منزلا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً و مستراحا.

أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً (24)قيل: إنّ مستقر أهل الجنّة غير مكان قيلولتهم (5)، فانّهم يقيلون في الفردوس ثمّ يعودون إلى مستقرّهم (6).

قيل: إنّ المقيل زمان القيلولة (7)، فبيّن سبحانه أنّ مكانهم أحسن الأمكنة، و زمانهم أطيب الأزمنة.

قيل: إنّه بعد الفراغ من المحاسبة و الذّهاب إلى الجنّة يكون الوقت وقت القيلولة (8).

عن ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنّة في الجنّة، و أهل النار في النار (9).

و عن سعيد بن جبير: أنّ اللّه تعالى إذا أخذ في فصل القضاء، قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنّة، و أهل النار في النار (10).

و قيل: يخفّف اللّه الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ثمّ يقيلون

ص: 479


1- . الكافي 5:126/10، تفسير الصافي 4:9.
2- . بصائر الدرجات:446/15، تفسير الصافي 4:10.
3- . في تفسير القمي و الصافي: عرض.
4- . تفسير القمي 2:112، تفسير الصافي 4:10.
5- . في تفسير الرازي: غير مقيلهم.
6- . تفسير الرازي 24:72.
7- . تفسير الرازي 24:72.
8- . تفسير الرازي 24:72.
9- . تفسير الرازي 24:72.
10- . تفسير الرازي 24:73.

في (1)يومهم ذلك (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، و أهل النار في النار» (3).

و عن أمير المؤمنين-في حديث سؤال القبر-قال: «ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنة، ثمّ يقولان له: نم قرير العين نوم الشاب (4)الناعم، فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ الآية» (5).

أقول: لعلّ المراد من قيلولتهم استراحتهم في أحسن مكان و زمان، كما أنّ موضع القيلولة أحسن المواضع، و زمانها أطيب الأزمنة، فلا ينافي ما دلّ على أنّ أهل الجنة و النار لا ينامون.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 25 الی 29

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ المشركين المقترحين على النبيّ نزول الملائكة إذا رأوا نزولهم يدهشون و يفزعون أشدّ الدهشة و الفزع، و يكرهون لقاءهم بين أهوال يوم رؤيتهم و كيفية نزولهم المفزعة بقوله: وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ و تفطّر اَلسَّماءُ بِالْغَمامِ و السّحاب الأبيض الرقيق، كظلّة بني إسرائيل على قول (6)، أو الغليظ كغلظ السماوات السبع على آخر (7).

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى اَلْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)قيل إنّ الغمام أثقل من السماوات، فاذا أراد اللّه تشقيق السماوات ألقى الغمام عليها فانشقت، فمعنى الآية يوم تشقق السماء بثقل الغمام، فيظهر الغمام فيخرج منها و فيها الملائكة، كما قال تعالى: وَ نُزِّلَ اَلْمَلائِكَةُ (8)إلى عرصة القيامة تَنْزِيلاً عجيبا.

قيل: تشقّق سماء سماء، و تنزل الملائكة في خلال ذلك [الغمام]بصحائف الأعمال (9) .

و روي أنّه تنشقّ سماء الدنيا فتنزل الملائكة التي فيها بمثل من في الأرض من الجنّ و الإنس، فيقول لهم الخلق: أفيكم ربّنا؟ يعنون هل جاء أمر ربنا بالحساب. فيقولون: لا، و سوف يأتي، ثمّ تنزل ملائكة السماء الثانية بمثلي من في الأرض من الملائكة و الجنّ و الإنس، ثمّ تنزل ملائكة كلّ سماء

ص: 480


1- . في تفسير الرازي: من.
2- . تفسير الرازي 24:73.
3- . مجمع البيان 10:531، تفسير الصافي 4:10.
4- . في النسخة: الشباب.
5- . الكافي 3:232/1، تفسير الصافي 4:10.
6- . تفسير روح البيان 6:203.
7- . تفسير روح البيان 6:203.
8- . تفسير روح البيان 6:203.

على هذا الضعف (1)حتى تنزل ملائكة سبع سماوات، فيظهر الغمام و هو كالسّحاب الأبيض فوق سبع سماوات، ثمّ ينزل الأمر بالحساب، فذلك قوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّماءُ بِالْغَمامِ (2).

و قيل: إنّ الملائكة في زمان (3)الأنبياء عليهم السّلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة [و السماء على اتصالها]، و في ذلك اليوم تنشقّ السماء، فاذا انشقّت خرجت من أن تكون حائلا بين الملائكة و بين الأرض، فينزلون (4)إلى الأرض (5).

و عن مقاتل: تشقّق السماء الدنيا، فينزل أهلها و هم أكثر من سكّان الدنيا، كذلك تشقّق سماء سماء، ثمّ ينزل الكروبيون و حملة العرش (6).

و عن ابن عباس: تنشقّ كلّ سماء، و ينزل سكّانها، فيحيطون بالعالم، و يصيرون سبع صفوف حوله (5).

اَلْمُلْكُ و السّلطان القاهر و الاستيلاء التامّ الكامل في الظاهر و الواقع و الصورة و المعنى يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت، أعني الملك المتّصف بأنّه اَلْحَقُّ الثابت يكون لِلرَّحْمنِ و الفيّاض المطلق خاصة، فانّ كلّ ملك يزول و يبطل إلاّ ملكه يوم القيامة وَ كانَ ذلك اليوم يَوْماً عظيما عَلَى اَلْكافِرِينَ عَسِيراً و شديدة (6)أهواله

وَ يَوْمَ يَعَضُّ و يمسك بالنّواجذ [مسكا]

شديدا اَلظّالِمُ على اللّه و على رسوله بعصيانهما عَلى يَدَيْهِ من فرط التحسّر و النّدم.

عن ابن عباس: المراد عقبة بن أبي معيط، كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاما يدعو إليه جيرته من أهل مكّة، و يكثر مجالسة الرسول و يعجبه حديثه، فصنع طعاما، و دعا الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين» ففعل، فأكل الرسول صلّى اللّه عليه و آله من طعامه، فبلغ هذا امية بن خلف، فقال: صبوت يا عقبة و كان خليله، فقال: إنّما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي. فقال: لا أرضى ابدا حتى تأتيه فتبرق في وجهه و تطأ على عنقه، ففعل، فقال عليه السّلام: «لا ألقاك خارجا من مكّة إلاّ علوت رأسك بالسيف» فنزل وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ندامة، يعني عقبه (7).

القمي قال: روي أنّه يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه، ثمّ تنبتان، ثمّ يأكلهما، هكذا كلّما نبتتا أكلهما تحسّرا و ندامة على التفريط و التقصير (8)، و هو يَقُولُ تمنّيا: يا هؤلاء لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ في

ص: 481


1- . في تفسير روح البيان: التضعيف.
2- . تفسير روح البيان 6:203.
3- . في تفسير الرازي: أيام.
4- . في تفسير الرازي: فنزلت الملائكة. (5 و 6) . تفسير الرازي 24:74.
5- . تفسير الرازي 24:74، و فيه: حول العالم.
6- . في النسخة: شديدا.
7- . تفسير الرازي 24:75.
8- . تفسير روح البيان 6:204، و قد نسبه المصنّف إلى تفسير القمي سهوا.

الدنيا مَعَ محمّد اَلرَّسُولِ الصادق سَبِيلاً و طريق مودة و تبعية، و كنت معه على الاسلام، أو سبيلا إلى النجاة من العذاب.

و عن الباقر عليه السّلام: «يعني عليا وليا» (1).

يا وَيْلَتى و يا هلكتا احضري فهذا أوانك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً الضالّ المضلّ خَلِيلاً لنفسي و صديقا، فانّه و اللّه لَقَدْ أَضَلَّنِي و صرفني عَنِ قبول اَلذِّكْرِ و موعظة الرسول، أو عن الإقرار بالقرآن و الايمان به بعد إذ جاءني من جانب اللّه بتوسّط محمّد، و تمكّنت من العمل به.

عن ابن عباس: وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ندامة، يعني عقبة يقول: يا ليتني لم اتّخذ امية خليلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ و هو القرآن و الإيمان به بَعْدَ إِذْ جاءَنِي مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله (2)وَ كانَ اَلشَّيْطانُ المغوي لي و لخليلي، و المضلّ عن اتّباع الرسول و الايمان بالقرآن لِلْإِنْسانِ المطيع له خَذُولاً و تاركا لنصرته مع أنّه يعده نصره و يمنّيه نفعه.

قيل: إنّ الذيل (3)من كلام اللّه تعالى (4).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة الوسيلة. قال: «في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع، و طال لها الاستماع، و لئن تقمّصها دوني الأشقيان، و نازعا (5)في ما ليس لهما بحقّ، و ركباها ضلالة، و اعتقداها جهالة، فلبئس ما عليه وردا، و لبئس ما لأنفسهما مهدا، يتلاعنان في دورهما، و يبرأ كل منهما من صاحبه، يقول لقرينة إذا التقيا: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ (6)فيجيبه الأشقى على رثوثة (7)يا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً فأنا الذّكر الذي عنه ضلّ، و السبيل الذي عنه مال، و الإيمان الذي به كفر، و القرآن الذي إيّاه هجر، و الدين الذي به كذب، و الصراط الذي عنه نكب» (8).

و عنه عليه السّلام في احتجاجه على بعض الزنادقة، قال: «إنّ اللّه ورّى أسماء من اغتّر و فتن خلقه و ضلّ و أضلّ، و كنّى عن أسمائهم في قوله: وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ الآيتان» (9).

قال الفخر الرازي: قالت الرافضة، هذا الظالم هو رجل بعينه، و إنّ المسلمين غيّروا اسمه و كتموه، و جعلوا فلانا بدلا من اسمه، و ذكروا فاضلين من أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ أطال الكلام في إثبات

ص: 482


1- . تفسير القمي 2:113، تفسير الصافي 4:11.
2- . تفسير الرازي 24:75.
3- . أي ذيل الآية، قوله تعالى: وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً.
4- . تفسير الرازي 24:75.
5- . في الكافي و تفسير الصافي: نازعاني.
6- . الزخرف:43/38.
7- . في النسخة: و ثوبه، و رثّت هيئة الرجل رثوثة: قبحت و هانت.
8- . الكافي 8:27/4، تفسير الصافي 4:11.
9- . الاحتجاج:245، تفسير الصافي 4:11.

دلالة لفظ الظالم على العموم، ثمّ قال: و أمّا قول الرافضة فذلك لا يتمّ إلاّ بالطعن في القرآن و [إثبات] أنّه غيّر و بدّل، و لا نزاع في أنّه كفر (1).

و فيه: أنّه لم يقل أحد من أصحابنا رضوان اللّه عليهم في خصوص الآية بالتغيير و التبديل، كما افتراه عليهم، بل يقولون: إنّ المراد من لفظ فلان و لفظ الشيطان هو الثاني، و إنّما كنّى اللّه عنه و لم يصرّح باسمه لحكم كثيرة منها: عدم سدّ باب الضلال و الامتحان على الناس، و كذلك لفظ الظالم في الآية- و إن كان عاما-إلاّ أنّ المراد أو أظهر مصاديقه هو الظالم لآل محمّد حقهم، و هو الأول، كما أنّ المراد من لفظ الفاسق في قوله: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ (2)هو الوليد بن المغيرة (3)، و إن كان اللفظ عاما، و المراد من لفظ المؤمن في كثير من الآيات و من قوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ (4)خصوص أمير المؤمنين، (5)و إن كان اللفظ عاما.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ حكى سبحانه شكاية النبي صلّى اللّه عليه و آله من قومه المعترضين عليه بقوله: وَ قالَ اَلرَّسُولُ شكاية إلى ربّه إثر ما شاهد من قومه العتوّ و الطّغيان و الطّعن في القرآن: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قريشا اِتَّخَذُوا و جعلوا هذَا اَلْقُرْآنَ الذي أنزلته لهدايتهم مَهْجُوراً و متروكا، بأن أعرضوا عنه، و صدّوا الناس عن الايمان به، أو مهجورا فيه و مستهزءا به بقولهم: إنّه شعر، أو سحر، أو كهانة، أو كذب.

وَ قالَ اَلرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً (31)قيل: إنّ الرسول يقول ذلك في الآخرة (6).

ثمّ سلّى سبحانه قلب حبيبه بقوله: وَ كَذلِكَ العدوّ الذي جعلنا لك من مجرمي قومك كأبي جهل و أضرابه جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ قبلك عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ و المتمرّدين من قومهم كنمرود لابراهيم، و فرعون لموسى، و اليهود لعيسى، فاصبر أنت كما صبروا و تظفر كما ظفروا وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً لك إلى جميع مطالبك التي منها رواج شرعك وَ نَصِيراً لك على أعدائك، فاجتهد في التبليغ و لا تبال أحدا.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 32 الی 33

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)

ص: 483


1- . تفسير الرازي 24:75.
2- . الحجرات:49/6.
3- . مجمع البيان 9:198.
4- . البقرة:2/207.
5- . تفسير الرازي 5:204، كفاية الطالب:239.
6- . تفسير الرازي 24:77.

ثمّ حكى سبحانه اعتراض المشركين على القرآن بنزوله نجوما بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من قريش طعنا على القرآن: لَوْ لا و هلاّ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً و دفعة واحِدَةً كتوراة موسى، و إنجيل عيسى على ما قاله أهل الكتاب؟ فأجاب سبحانه عنه بقوله: كَذلِكَ التفريق فرّقناه لِنُثَبِّتَ و لنقوّي بِهِ فُؤادَكَ و قلبك في التبليغ، لكون كلّ آية في حادثة و واقعة معجزة ظاهرة مستقلة، فعجزهم عن إتيان مثلها دليل واضح على صدقك، فيكون القرآن معجزات كثيرة بحسب كثرة آياته، فلو نزل جملة واحدة لعدّ جميعه معجزة واحدة، و لكون نزوله على حسب أسئلة الناس و الوقائع موجبا (1)لازدياد بصيرتهم، لانضمام فصاحته بالأخبار المغيبة، مع أنّ في نزوله مفرّقا رفقا بالعباد و تسهيلا (2)للعمل بالأحكام قليلا قليلا، فلو نزلت الأحكام جملة واحدة لثقلت عليهم، و خرجوا من الدين، ففي ثباتهم عليه مع ما استلزم التفريق من رؤية جبرئيل وقتا بعد وقت و حالا بعد حال تقوية لقلبك الشريف.

وَ كذلك رَتَّلْناهُ و قرأناه عليك شيئا فشيئا، و على تؤدة و مهل تَرْتِيلاً حسنا موجبا لتيسّر فهمه و حفظه و الالتفات إلى جهات إعجازه

وَ لا يَأْتُونَكَ يا محمّد بِمَثَلٍ و سؤال عجيب و اعتراض غريب يعدّ في الغرابة من الأمثال، يريدون به القدح في نبوّتك، و الطعّن في كتابك إِلاّ جِئْناكَ و أوحينا إليك جوابا مقرونا بِالْحَقِّ المبطل لما أتوا به وَ بما يكون أَحْسَنَ تَفْسِيراً و ألطف بيانا و تفصيلا، لما هو الصواب و مقتضى الحكمة.

قيل: إنّ كلّ نبي إذا اعترض عليه قومه، كان هو بنفسه يردّ عليهم، و أما نبينا صلّى اللّه عليه و آله فكان إذا قال له قومه شيئا كان اللّه يردّ عليهم (3).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 34

ثمّ هدّد اللّه الطاعنين في القرآن المعترضين عليه بقوله: اَلَّذِينَ يُحْشَرُونَ و يساقون من قبورهم إلى المحشر ماشين عَلى وُجُوهِهِمْ و يسحبون عليها و يجرّون إِلى جَهَنَّمَ.

اَلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (34)في الحديث: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدوابّ، و صنف على الأقدام، و صنف على الوجوه» فقيل: يا نبي اللّه، كيف يحشرون على وجوههم؟ فقال: «إنّ الذي أمشاهم على أقدامهم، فهو قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (4).

ص: 484


1- . في النسخة: موجب.
2- . في النسخة: رفق بالعباد و تسهيل. (3 و 4) . تفسير روح البيان 6:209.

أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً و أسوء مقاما وَ أَضَلُّ سَبِيلاً أخطأ طريقا من كلّ أحد، لأنّ طريقهم مود إلى الهلاك الأبد و العذاب المخلّد.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 35 الی 39

ثمّ لمّا أخبر سبحانه بأنّه جعل لكلّ نبي عدوا، ذكر جماعة من الأنبياء الذين ابتلوا بالأعداء فأهلكهم اللّه بعداوتهم لهم، فابتدأ بذكر موسى عليه السّلام بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا مُوسَى اَلْكِتابَ كما أعطيناك القرآن وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ النبي الذي كان اسمه هارُونَ وَزِيراً و معينا يعاونه في الدعوة و تحمّل أعباء الرسالة، كما جعلنا معك أخاك الحسبي عليا وزيرا و خليفة يعاونك في إعلاء كلمة التوحيد، و ترويج دينك في حياتك،

و حفظ شريعتك بعد وفاتك فَقُلْنَا لهما بعد تشريفهما بمنصب الرسالة: اِذْهَبا بالرسالة من قبلي إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدي و كمال صفاتي، و المعجزات الباهرات التي أجريناها بيدكما تصديقا لرسالتكما، و هم فرعون و قومه من القبط، فذهبا إليهم و أرياهم أياتنا فكذبوهما و عادوهما فَدَمَّرْناهُمْ و أهلكناهم بالعذاب المستأصل بعد التكذيب تَدْمِيراً و إهلاكا عجيبا هائلا، و هو الغرق في بحر القلزم،

وَ دمّرنا قَوْمَ نُوحٍ لَمّا عادوه و كذّبوه و كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ الذين قبله، أو الذين قبله و بعده بتكذيبه، لاستلزام تكذيبه تكذيب الكلّ، و كان تدميرهم أنّه أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وَ جَعَلْناهُمْ لِلنّاسِ إلى يوم القيامة آيَةً عظيمة على توحيدنا و كمال قدرتنا، و عظة ظاهرة يعتبر بها كلّ من شاهدها أو سمع قصّتها وَ أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ المغرقين بظلمهم، أو لكلّ من سلك سبيلهم عَذاباً أَلِيماً في الآخرة،

وَ دمّرنا عاداً بتكذيبهم هودا وَ ثَمُودَ بتكذيبهم صالحا وَ أَصْحابَ اَلرَّسِّ بتكذيبهم شعيبا على ما قيل من أنهم كانوا عبدة أصنام و أصحاب آبار و مواش فبعث اللّه إليهم شعيبا، فدعاهم إلى الاسلام، فتمادوا في الطغيان و [في]

إيذائه، فبينما هم حول الرّس خسف اللّه بهم و بدارهم (1).

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اِذْهَبا إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ اَلرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ اَلْأَمْثالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)و قيل: إنّهم بقية ثمود، سكنوا الرّس، و هي قرية بفلج اليمامة، قتلوا نبيّهم فهلكوا (2).

ص: 485


1- . تفسير الرازي 24:82.
2- . تفسير الرازي 24:82.

و قيل: إنّهم بقية ثمود، و كان نبيّهم حنظلة بن صفوان، و كان قبل موسى، و كانوا على بئر يرويهم ماؤها، و يكفي أرضهم جميعا، فرسّوا حنظلة فيها، فغار ماؤها و يبست أشجارهم، و انقطعت ثمارهم فهلكوا (1).

و قيل: ابتلاهم اللّه تعالى بطير عظيم ذي عنق طويل، كان فيه من كلّ لون، فكان إذا أعوزه الصيد يخطف صبيانهم و يذهب بهم إلى جهة المغرب، فسمّوه لطول عنقه و ذهابه إلى جهة المغرب عنقاء المغرب، فخطف يوما ابنة مراهقة فشكوا ذلك إلى حنظلة، و شرطوا إن كفوا شرّه أن يؤمنوا به، فدعا حنظلة على تلك العنقاء، فأرسل اللّه [عليها]صاعقة فأحرقتها و لم تعقب، أو ذهب اللّه بها إلى بعض جزائر البحر المحيط تحت خطّ الاستواء، و هي جزيرة لا يصل إليها الناس، ثمّ خالفوا شرطهم و قتلوه، أو رسّوه في البئر (2).

و قيل: هم أصحاب الاخدود، و الرّسّ هو الاخدود (1).

و قيل: هم قوم نساؤهم سحّاقات، فسلّط اللّه عليهم صاعقة في أول الليل، و خسفا في آخره، و صيحة مع الشمس، فلم يبق منهم أحد (4).

و قيل: هم قوم كذّبوا نبيا أتاهم فحبسوه في بئر ضيقة القطر، و وضعوا على رأسها صخرة عظيمة لا يقدر على حملها إلاّ جماعة من الناس، و ما آمن به إلاّ عبد أسود، و كان العبد يأتي الجبل فيحتطب، و يحمل على ظهره، و يبيع الحزمة، و يشتري بثمنها طعاما، ثمّ يأتي البئر فيلقي إليه الطعام من خروق الصخرة، و كان على ذلك سنين، ثمّ إنّ اللّه أهلك القوم، و أرسل ملكا فرفع الحجر، و أخرج النبي من البئر (5).

و قيل: إنّ الأسود رفع الصخرة، فقوّاه اللّه لرفعها، و ألقى حبلا إليه و استخرجه من البئر فأوحى اللّه إلى ذلك النبي أنّه رفيقه في الجنة (2).

و القمي: قال الرّسّ نهر بأذربايجان (3).

و عن الرضا، عن آبائه، عن الحسين بن علي عليهم السّلام، قال: «أتى علي بن أبي طالب عليه السّلام قبل مقتله بثلاثة أيام رجل من أشراف تميم، يقال له عمرو، فقال له: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن أصحاب الرّسّ في أي عصر كانوا: و أين كانت منازلهم، و من كان ملكهم، و هل بعث اللّه إليهم رسولا أم لا،

ص: 486


1- . تفسير الرازي 24:82. (4 و 5) . تفسير روح البيان 6:212.
2- . تفسير روح البيان 6:213.
3- . تفسير القمي 2:323، تفسير الصافي 4:15.

و بماذا اهلكوا؟ فإنّي أجد في كتاب اللّه تعالى ذكرهم، و لا أجد خبرهم؟

فقال علي عليه السّلام: لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك، و لا يحدّثك به أحد بعدي إلاّ عنّي، و ما في كتاب اللّه عزّ و جلّ آية إلاّ و أنا أعرفها، و أعرف تفسيرها، و في أيّ مكان نزلت من سهل أو جبل، و في أيّ وقت من ليل أو نهار، و إن [ها]هنا لعلما جمّا-و أشار إلى صدره-و لكن طلابه يسير، و عن قليل تندمون لو فقدتموني (1).

و كان من قصّتهم يا أخا تميم أنّهم كانو يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها دوشاب، كانت انبطّت (2)لنوح عليه السّلام بعد الطّوفان، و إنّما سمّوا أصحاب الرّسّ لأنهم رسّوا نبيهم في الارض، و ذلك بعد سليمان بن داود عليه السّلام و كانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرّسّ من بلاد المشرق، و بهم سمّي ذلك النهر، و لم يكن يومئذ نهر أغزر منه و لا أعذب منه، و لا قرى أكثر و لا أعمر منها، تسمّى إحداهن أبان، و الثانية آذر، و الثالثة دي، و الرابعة بهمن، و الخامسة اسفندار، و السادسة فروردين، و السابعة أردي بهشت، و الثامنة خرداد، و التاسعة مرداد، و العاشرة تير، و الحادية عشرة مهر، و الثانية عشرة شهريور.

و كانت أعظم مدائنهم إسفندار، و هي التي ينزلها ملكهم، و كان يسمّى تركور بن عابور (3)بن يارش بن سار (4)بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم عليه السّلام، و بها العين و الصّنوبرة، و قد غرسوا في كلّ قرية منها حبّة من طلع تلك الصّنوبرة، فنبتت الحبّة و صارت شجرة عظيمة، و حرّموا ماء العين و الأنهار، فلا يشربون منها و لا أنعامهم، و من فعل ذلك قتلوه، و يقولون: هو حياة آلهتنا، فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها، و يشربون هم و أنعامهم من نهر الرّسّ الذي عليه قراهم.

و قد جعلوا في كلّ شهر من السنة في كلّ قرية عيدا تجتمع إليه أهلها، فيضربون على الشجرة التي بها كلّة من حرير فيها من أنواع الصّور، ثمّ يأتون بشاة و بقر يذبحونهما (5)قربانا للشجرة، و يشعلون فيها النيران بالحطب، فاذا سطع دخان تلك الذبائح و قتارها (6)في الهواء، و حال بينهم و بين النظر إلى السماء خرّوا سجّدا للشجرة، و يبكون و يتضّرعون إليها أن ترضى عنهم، و كان الشيطان يجيء فيحرك أغصانها، و يصيح من ساقها صياح الصبي: إنّي رضيت عنكم عبادي، فطيبوا نفسا، و قرّوا عينا،

ص: 487


1- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: يندمون لو فقدوني.
2- . في النسخة: أنبتت.
3- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: تركوذ بن غابور.
4- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: سازن.
5- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: فيذبحونها.
6- . القتار: دخان ذو رائحة خاصة ينبعث من الطبيخ أو الشّواء أو البخور.

فيرفعون رؤوسهم عند ذلك، و يشربون الخمر، و يضربون بالمعازف، و يأخذون «الدست بند» (1)، فيكونون على ذلك يومهم و ليلتهم، ثمّ ينصرفون.

و إنّما سمّيت العجم شهورها بأبان ماه و آذرماه و غيرهما اشتقاقا من أسماء تلك القرى، يقول (2)أهلها بعضهم لبعض هذا عيد شهر كذا، و عيد (3)شهر كذا، حتى إذا كان عيد (4)قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم و كبيرهم، فضربوا عند الصنوبرة و العين سرادقا من ديباج (5)عليه أنواع الصور، له اثنا عشر بابا، كلّ باب لأهل قرية منهم، و يسجدون للصّنوبرة خارجا من السّرادق، و ما يقرّبون لها من الذبائح أضعاف ما قرّبوا للشجرة التي في قراهم فيجيء إبليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكا شديدا، و يتكلّم من جوفها كلاما جهوريا و يعدهم و يمنّيهم بأكثر ممّا وعدتهم و منّتهم الشياطين كلها، فيرفعون رؤوسهم من السّجود و بهم من الفرح و النشاط ما لا يفيقون و لا يتكلّمون من الشّرب و العزف، فيكونون على ذلك اثني عشر يوما و لياليها بعدد أعيادهم سائر السنة، ثمّ ينصرفون.

فلمّا طال كفرهم باللّه عز و جل و عبادتهم غيره، بعث اللّه سبحانه إليهم نبيا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب، فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة اللّه عزّ و جل و معرفته و ربوبيته فلا يتّبعونه، فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغيّ و الضّلال، و تركهم قبول ما دعاهم إليه من الرّشد و النجاح، و حضر عيد قريتهم العظمى قال: يا ربّ، إنّ عبادك أبوا إلاّ تكذيبي و الكفر بك، و غدوا يعبدون شجرة لا تنفع و لا تضرّ، فأيبس شجرهم أجمع، و أرهم قدرتك و سلطانك.

فأصبح القوم و قد يبس شجرهم، فهالهم ذلك، و فظع (6)بهم، و صاروا فرقتين: فرقة قالت: سحر آلهتكم هذا الرجل الذي يزعم أنّه رسول إله السماء و الأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه، و فرقة قالوا: لا، بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها و يقع فيها و يدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها و بهاءها لكي تغضبوا عليه (7)، فتنتصروا منه، فأجمع رأيهم على قتله، فاتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثمّ أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الاخرى مثل البرابخ (8)، و نزحوا ما فيها من الماء، ثمّ حفروا في قرارها بئرا ضيقة المدخل عميقة،

ص: 488


1- . الدست بند: لعبة للمجوس يدورون فيها و قد أمسك بعضهم يد بعض كالرقص.
2- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: لقول.
3- . في النسخة: عيد.
4- . زاد في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: شهر.
5- . السّرادق: كل ما أحاط بشىء من حائط أو مضرب، و الديباج: قماش سداه و لحمته حرير.
6- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: و قطع.
7- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: لها.
8- . البرابخ: جمع بربخ، منفذ الماء و مجراه، و البالوعة من الخزف.

و ارسلوا فيها نبيّهم، و ألقموا فاها صخرة عظيمة، ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء، و قالوا: نرجو الآن أن ترضي عنّا آلهتنا إذ رأت أنّا قتلنا من كان يقع فيها و يصدّ عن عبادتها و دفنّاه تحت التّراب، و إن كبيرها يتشفّى منه، فيعود لنا نورها و نضرتها (1)كما كان، فبقوا عامّة يومهم يسمعون أنين نبيهم و هو يقول: سيدي قد ترى ضيق مكاني و شدّة كربي، فارحم ضعف ركني، و قلّة حيلتي، و عجّل قبض روحي، و لا تؤخّر إجابة دعوتي، حتى مات.

فقال اللّه تعالى لجبرئيل عليه السّلام: يا جبرئيل، أيظن عبادي هؤلاء الذين غرّهم حلمي، و أمنوا مكري، و عبدوا غيري، و قتلوا رسولي أن يقوموا لغضبي، و يخرجوا من سلطاني؟ ! كيف و أنا المنتقم ممّن عصاني، و لم يخش عقابي، و إنّي حلفت بعزّتي لأجعلنّهم عبرة و نكالا للعالمين، فلم يرعهم و هم في عيدهم ذلك إلاّ بريح عاصفة شديدة الحمرة، فتحيّروا فيها و ذعروا منها و تضامّ بعضهم الى بعض، ثمّ صارت الأرض من تحتهم كحجر كبريت يتوقّد، و أظلّتهم سحابة سوداء، فألقت عليهم كالقبّة جمرا يلتهب، فذابت أبدانهم [في النار]كما يذوب الرصاص في النار» الخبر (2).

و روى بعض العامة هذه الرواية بتفاوت يسير (3).

عن علي بن الحسين عليهما السّلام، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام، و عن الصادق عليه السّلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهنّ عن السّحق، فقال: «حدّها حدّ الزاني، فقالت: ما ذكر اللّه عزّ و جلّ ذلك في القرآن؟ فقال عليه السّلام: «بلى» . فقالت: و أين هو؟ قال: «هنّ أصحاب الرّسّ» (4).

و القمي عنه عليه السّلام، قال: دخلت امرأة مع مولاتها على أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقالت: ما تقول في اللواتي مع اللواتي؟ قال: «هنّ في النار، إذا كان يوم القيامة اتي بهنّ فألبسن جلبابا من نار، و خفّين من نار، و قناعا من نار، و ادخل في أجوافهنّ و فروجهنّ أعمدة من نار، و قذف بهنّ في النار» فقالت: ليس هذا في كتاب اللّه؟ قال: «بلى» قالت: أين هو؟ قال: «قوله: وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ اَلرَّسِّ فهن الرّسيّات» (5).

أقول: هذه الروايات في بيان سبب إهلاك نسوتهم، و ما سبق في بيان سبب عقوبة الرجال، فلا تنافي بينها.

وَ أهلك قُرُوناً و امما كانوا بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الامم حال كونهم كَثِيراً لا يعلمهم

ص: 489


1- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: و نضارتها.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:205/1، تفسير الصافي 4:13.
3- . تفسير روح البيان 6:213.
4- . الكافي 7:202/1، تفسير الصافي 4:15.
5- . تفسير القمي 2:113، تفسير الصافي 4:15.

إلاّ اللّه.

وَ ذكرنا كُلاًّ من الامم المهلّكين و ضَرَبْنا و بيّنا بتوسّط الرسل لَهُ اَلْأَمْثالَ و القصص العجيبة الزاجرة عمّا هم عليه من الكفر و المعاصي وَ كُلاًّ من الطوائف بعد تكذيبهم الرسل و إصرارهم على الطغيان تَبَّرْنا هم و أهلكناهم تَتْبِيراً و إهلاكا عجيبا هائلا.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على تعذيب المكذّبين للرسل و شدّة غضبه عليهم بما وقع في سدوم من قرى قوم لوط بقوله: وَ لَقَدْ أَتَوْا هؤلاء المشركون من قريش، و مرّوا مرارا كثيرة في أسفارهم إلى الشام للتجارة عَلَى اَلْقَرْيَةِ الموسومة بسدوم اَلَّتِي أُمْطِرَتْ من السماء مَطَرَ اَلسَّوْءِ و اهلك أهلها بنزول الحجارة عليهم أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في ذهابهم إلى الشام، و لم ينظروا إلى آثار العذاب فيها فيخافوا و يعتبروا و يؤمنوا بَلْ علّة عدم إيمانهم أنّهم لا يَرْجُونَ و لا يتوقّعون نُشُوراً و لا يؤمنون به حتى يرجوا ثواب الآخرة على الإيمان و طاعة اللّه مع وضوحه، فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي حتى يتّعظوا بما شاهدوا من آثار العذاب؟ و إنما يحملونه على الاتفاقيات.

وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ اَلسَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَ هذَا اَلَّذِي بَعَثَ اَللّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42)

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكار المشركين نبوّة نبيه و شبهاتهم فيها، حكى استهزاءهم به بقوله: وَ إِذا رَأَوْكَ الذين كفروا باللّه و برسالتك من قريش إِنْ يَتَّخِذُونَكَ و ما يفرضونك إِلاّ هُزُواً و محلا للسّخرية، و كان كيفية استهزائهم أنه يقول بعضهم لبعض: أَ هذَا الرجل الفقير المهين فينا اَلَّذِي بَعَثَ اَللّهُ إلينا رَسُولاً فنتّبعه في ما يقول، و نطيعه في ما يحكم؟ !

و يقولون: إِنْ الشأن أنّه كادَ و قرب أنّه لَيُضِلُّنا و يصرفنا عَنْ عبادة آلِهَتِنا و أصنامنا بلطف بيانه، و إكثار الحجج على التوحيد، و اجتهاده في الدعوة إليه لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا و ثبّتنا عَلَيْها و أصررنا على عبادتها.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ البتة حِينَ يَرَوْنَ عيانا في الآخرة اَلْعَذابَ الأليم الشديد بالنار، أو في الدنيا بالقتل و الأسر و الذلّ و الجلاء مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً؟ و أي الفريقين

ص: 490

أفسد مذهبا، هم أم محمّد و المؤمنون به الذين يدّعون أنّهم في ضلال عن الحقّ؟

و فيه دلالة على أنهم لم يكونوا على حجّة في مذهبهم الباطل، و إنما عارضوه بمحض الجحود و التقليد و اللّجاج الذي هو دأب الجهّال.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ أنّه تعالى بعد الحكم بضلالهم، و تهديدهم بالعذاب، زيّف مذهبهم بأنّه في الحقيقة عبادة هوى أنفسهم و شهوتهم لا إطاعة حكم عقولهم بقوله: أَ رَأَيْتَ يا محمّد مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ و معبوده هَواهُ و شهوة نفسه، و هل تعجّبت من حمق من بني أمر دينه على ميل طبعه، فكلّما دعاه هواه إليه انقاد له، سواء منع عنه العقل السليم أم وافقه.

أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)قيل: إنّ قوما من العرب كانوا يعبدون الحجر، و إذا رأوا حجرا أحسن شكلا و لونا من غيره سجدوا له (1).

و عن سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم، فاذا رأى أحسن منه رماه و اتّخذ الآخر و عبده (2).

و عن ابن عباس: الهوى إله يعبد (3).

و في الحديث: «ما عبد إله أبغض على اللّه من الهوى» (2).

ثمّ آيس سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن هدايتهم لأن لا يتعب نفسه الشريفة في دعوتهم بقوله: أَ فَأَنْتَ يا محمد، ببذل جهدك في دعوتهم تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً و حفيظا تحفظهم من اتّباع الهوى و عبادة الأصنام، لا لا تكون حافظا لهم إلاّ بالإجبار الذي ليس لك، بل إنّما أنت منذر، و قد قضيت ما عليك.

و قيل: إنّ المراد إنكار كونه صلّى اللّه عليه و آله حفيظا لهم من العذاب بإتعاب نفسه في دعوتهم (3).

ثمّ نفى سبحانه عنهم أهلية الهداية بقوله: أَمْ تَحْسَبُ و تتوهّم أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ حججك و إنذارك و مواعظك أَوْ إذا سمعوها يَعْقِلُونَ و يتفكّرون فيها، و لذا تطمع في إيمانهم، و تهتّم في دعوتهم، لا تتوهّم ذلك إِنْ هُمْ و ما هؤلاء إِلاّ كَالْأَنْعامِ و البهائم في العزاء من السمع و العقل بَلْ هُمْ أَضَلُّ و أبعد من البهائم سَبِيلاً و طريقا الى الرشاد، لأنّها تنقاد لمن يقودها إلى ما فيه خيرها، و تطلب نفعها، و تجتنب عمّا فيه ضرّها، و تعرف من يحسن إليها مع عرائها عن العقل، و هم

ص: 491


1- . تفسير روح البيان 6:217. (2 و 3) . تفسير الرازي 24:86.
2- . تفسير روح البيان 6:217.
3- . تفسير أبي السعود 6:221.

مع عقلهم لا يعرفون ربّهم المحسن إليهم، و لا ينقادون لمن يدلّهم إلى معرفته، و لا يطلبون ثوابه الذي هو أعظم المنافع، و لا يجتنبون عقابه الذي هو أعظم المضارّ، و لأنّها لو لم تعتقد حقّا لا تعتقد باطلا و لا تكسب شرا بخلاف هؤلاء، و لأنّ جهالتها و ضلالها لا تضرّ أحدا، و جهالة هؤلاء و ضلالهم تؤدي إلى هج (1)الفتن و صدّ الناس عن كلّ حقّ و خير، و لأنّها عاجزة عن تحصيل الكمال، فلا تقصير منها و لا ذمّ عليها، بخلاف هؤلاء فانّهم قادرون عليه، مقصرّون فيه، مستحقّون لأشد الذمّ و العقاب.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذمّ المشركين بعدم سماعهم الحجج على توحيده، و عدم تفكّرهم فيها، شرع في بيان أوضح الحجج عليها زائدا على ما سبق بقوله: أَ لَمْ تَرَ بعين رأسك، و بعين قلبك يا محمد إِلى صنع رَبِّكَ أنّه بقدرته الكاملة كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ و بسط الكيفية المتوسطة بين الضوء الخالص و الظلمة الخالصة التي تكون بين الطلوعين و تحت السقوف و أفنية الجدران، و هي الحالة التي تكون أطيب الأحوال، لأنّ الظلمة الخالصة يكرهها الطبع، و ينفر عنها الحس، و الضوء الخالص يبهر البصر، و يؤثّر السخونة الشديدة، و لذا وصف سبحانه الجنّة بها بقوله: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (2)و من المعلوم أنه من النّعم العظيمة و المنافع الجليلة التي لا بدّ لها من موجد، و لا يكون إلاّ اللّه، لعدم قدرة غيره على إيجاده.

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا اَلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46)وَ لَوْ شاءَ اللّه سكونه، و رأى الصلاح فيه لَجَعَلَهُ ساكِناً و ثابتا على حالة واحدة من الطول و العرض و الامتداد و الاقامة ثُمَّ جَعَلْنَا اَلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً و معرّفا، لأنّ الأشياء تعرف بأضدادها، فانّه لو لا الشمس لما رؤي (3)غير الجسم و لونه، و لا يري الظلّ موجودا ثالثا، فاذا أشرقت الشمس و زال الظلّ بضوئها، عرف أنّه شيء بحياله، كما أنّه لو لا الظلمة لما عرف النور، فالمراد من الآية أنا خلقنا الظلّ أولا لما فيه من المنافع، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده باطّلاع الشمس، فكانت الشمس دليلا على وجود الظلّ الذي هو نعمة عظيمة.

ثُمَّ قَبَضْناهُ و رفعناه إِلَيْنا قَبْضاً و رفعا، و لكن لا دفعة، بل يسيرا يَسِيراً فانّ الشمس كلّما ازدادت ارتفاعا ازداد الظلّ نقصانا من جانب المغرب.

ص: 492


1- . يقال: هجّ النار، أوقدها، و في تفسير روح البيان 6:218: هيج.
2- . الواقعة:56/30.
3- . في النسخة: رأى.

و قيل: لمّا خلق اللّه السماء و الأرض و الشمس و القمر و الكواكب، وقع الظلّ على الأرض (1).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 47 الی 49

ثمّ لمّا كانت الأظلال تتحرّك بحركات الأضواء، جعل ضوء الشمس كالهادي، و الظلّ كالمهتدي في سلوكه بالضوء، و قبضه إنّما يكون عند قيام الساعة بقبض الأجرام التي يقع الظلّ عليها، و يكون هذا القبض يسيرا و سهلا على اللّه وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ بقدرته و حكمته لَكُمُ اَللَّيْلَ ساترا بظلامه، كأنّه يكون لِباساً لكم وَ جعل اَلنَّوْمَ فيه سُباتاً و راحة لأبدانكم، حيث إنّه مستلزم للفراغ من المشاغل و الزحمات، أو موتا كما قال: هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ (2).

وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِباساً وَ اَلنَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ اَلنَّهارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً (49)وَ جَعَلَ اَلنَّهارَ و الوقت الذي ينتشر فيه ضوء الشمس نُشُوراً لكم و وقت التفرّق في الأرض لطلب معاشكم و تحصيل رزقكم، أو وقت القيام من الموت، فشبّه سبحانه النوم عليه بالموت، و اليقظة بالبعث بعده، تنبيها على أن النوم و اليقظة كما يكونان نعمة عظيمة يكونان انموذج الموت و البعث.

عن لقمان، أنه قال: يا بني كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر (3)، أو فتحشر (4).

وَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ حال كونها بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ و قدّام المطر النافع الذي فيه حياة كلّ شيء، وَ أَنْزَلْنا بقدرتنا و رحمتنا بعد إرسال الرياح مِنَ اَلسَّماءِ المطل، و السقف المحفوظ، أو من جهة العلوّ ماءً طَهُوراً يتطهّر به من الأحداث و الأرجاس و القذارات، فإن الطهارة نعمة و منّة زائدة، حيث إنّ الماء الطهور أنفع و أهنأ،

و يكون إنزاله لِنُحْيِيَ بِهِ بالنبت و الزرع و الأشجار و الأزهار و الثّمار بَلْدَةً و قطعة من الأرض التي تكون مَيْتاً لا نبت فيها و لا عمارة، و لنشرب ذلك الماء وَ نُسْقِيَهُ بعضا مِمّا خَلَقْنا أعني أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ و مواشي و بشرا كَثِيراً.

قيل: إنّ المراد بهم أهل البوادي، فانّهم يعيشون بماء المطر، و لذا نكّر سبحانه الأنعام و الاناسي.

و أمّا أهل المدن و القرى، فانّهم يقيمون بقرب الأنهار و المنابع، و الوحوش و الطيور تبعد في طلب

ص: 493


1- . تفسير الرازي 24:89.
2- . الأنعام:6/60.
3- . تفسير روح البيان 6:222.
4- . تفسير الرازي 24:90.

الماء (1).

و إنّما خصّ سبحانه الأنعام بالذكر، لأنّ غاية معائشهم و منافعهم منوطة بها، و لذا قدّم سقيها على سقيهم، كما قدّم إحياء الأرض على سقيها، لأنّه سبب لحياتها و تعيّشها.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 50 الی 52

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان المنافع الدنيويّة للمطر، بيّن منافعه الاخروية بقوله: وَ لَقَدْ أنزلنا المطر و صَرَّفْناهُ و أجريناه بَيْنَهُمْ في أنهارهم و أوديتهم، أو أنزلناه في مكان دون مكان، أو في عام دون عام.

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ إِلاّ كُفُوراً (50) وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)روي عن ابن مسعود، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه [قال]: «ما من عام بأمطر من عام، و لكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل اللّه ذلك إلى غيرهم، فاذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك إلى الفيافي» (2).

و عن ابن عباس: ما عام بأمطر من عام، و لكن اللّه يصرفه في الأرض (3).

و قيل: إن المراد صرفنا و كوّرنا المذكور من الاظلال و الرياح و السّحاب و المطر و سائر ما ذكر من الأدلة في القرآن و سائر الكتب السماوية (4)لِيَذَّكَّرُوا و يتفكّروا حتّى يعرفوا قدرة اللّه و حكمته و حقّ نعمته، و يقوموا بشكره و أداء تكاليفه فَأَبى و امتنع مع ذلك أَكْثَرُ اَلنّاسِ ممّن سلف و خلف إِلاّ كُفُوراً لنعمه، و عدم المبالاة بشأنها، و عدم تأدية شكرها و القيام بحقّها، بل جحدوها باسنادها إلى الطبائع و تأثير الكواكب.

ثمّ لمّا كان للكفّار اعتراض في بعث الرسول و شخصه، بيّن أنّ أمره راجع إلى اختياره و مشيئته بقوله: وَ لَوْ شِئْنا و رأينا الصلاح لَبَعَثْنا من قبلنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ و مجتمع للناس من بلد و مدينة نَذِيراً و رسولا من البشر، ينذر أهلها، ليخفف عليك أعباء الرسالة، و لكن أجللناك و عظّمنا شأنك بأن خصصناك بهذا المنصب العظيم، و بعثناك إلى الخلق أجمعين إلى يوم الدين تفضيلا لك على سائر الأنبياء و المرسلين،

فليس لأحد أن يعترض علينا في إكثار الرسل أو تخصيصه بشخص واحد من أيّ صنف كان، فاذا علمت اختيارنا فيه و عظم شأنك لدينا فَلا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ في ما يطلبون منك من الإمساك عن الدعوة إلى التوحيد و دعوى الرسالة، و موافقتهم في عبادة أصنامهم خوفا منهم، و اتل عليهم القرآن الذي هو أعظم معجزاتك وَ جاهِدْهُمْ بِهِ و اجتهد في محاجّتهم

ص: 494


1- . تفسير روح البيان 6:225.
2- . تفسير الرازي 24:98.
3- . تفسير الرازي 24:98.
4- . تفسير الرازي 24:98.

و دفعهم عن باطلهم بهذا القرآن، أو بسبب علوّ قدرك، أو بسب كونك نذير جميع القرى جِهاداً كَبِيراً و عظيما.

قيل: يعني جامعا لمجاهدات الرسل الكثيرة (1).

قيل: إن توصيف مجاهدته بالقرآن بالكبر، لأنّه أكبر و أعظم من الجهاد بالسيف (2).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 53 الی 54

ثمّ بالغ سبحانه في بيان كمال قدرته بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي مَرَجَ و أرسل، أو خلط، أو خلّى اَلْبَحْرَيْنِ و الماء العظيمين في مجاريهما حال كونهما ممتازين كلّ من الآخر بحيث يقال: هذا الماء عَذْبٌ فُراتٌ و طيب رافع للعطش لغاية عذوبته و طيبه وَ هذا الماء الآخر مِلْحٌ أُجاجٌ بليغ في الملوحة وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً و حاجزا و حائلا من الأرض، أو من قدرته، كأنّه يتنفّر كلّ منهما من الآخر، و يقول له: وَ حِجْراً مَحْجُوراً كما يقول الرجل ذلك لعدوّه تعوّذا من شرّه، و المعنى أنّه يقول كلّ من البحرين للآخر: حرام محرّم عليك أن تختلط بي، و تغلب عليّ، و تزيل صفتي، أو المراد تنافرا بليغا، أو حدا محدودا، و الظاهر أنّ المراد بالبحر العذب الأنهار الكبار كالنّيل و الفرات و دجلة، و من الملح الاجاج البحر المعهود، لما قيل من أنّه لا وجود للبحر العذب (3).

وَ هُوَ اَلَّذِي مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53) وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)قيل: إنّ دجلة تدخل في بحر فارس، و هو المسمّى بالبحر الأخضر، و تجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها (4).

و قيل: إنّ النيل يدخل في البحر الأخضر (5)، و هو بحر فارس، و هو على عذوبته، و البحر مرّ زعاق.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته بصنعه في الماء، بيّن قدرته بخلق الانسان الذي هو أحسن مخلوقاته و أشرفها منه بقوله: وَ هُوَ القادر اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ الدافق المخلوق في أصلاب الرجال بَشَراً و إنسانا ينطوي فيه العالم الكبير فَجَعَلَهُ أو جعل الماء نَسَباً و ذكرا ينسب إليه و يقال: فلان بن فلان وَ صِهْراً و إناثا يتزوّج بهنّ.

و الظاهر أنّ النسب القرابة بالولادة، و الصّهر القرابة بالتزويج وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً بحيث لا حدّ

ص: 495


1- . تفسير الرازي 24:100.
2- . تفسير الصافي 4:19، تفسير روح البيان 6:227.
3- . تفسير روح البيان 6:229.
4- . تفسير روح البيان 6:229.
5- . تفسير روح البيان 6:229.

لقدرته، حيث خلق بقدرته من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة و طباع متباعدة، و جعله قسمين متباينين متقابلين، و ربما يخلق من مادة واحدة في رحم واحدة ذكرا و انثى توأمين.

عن ابن سيرين و السّدّي: أنّ الآية نزلت في النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، حيث زوّج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ابنته فاطمة عليا عليه السّلام فكان علي نسبا حيث إنّه ابن عمه، و صهرا حيث إنّه زوج ابنته (1).

و عن الباقر عليه السّلام، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «ألا و إنّي مخصوص في القرآن بأسماء، احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم، أنا الصهر لقول اللّه عزّ و جلّ: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً» (2).

و في (روضة الواعظين) أنه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «خلق اللّه عزّ و جلّ نطفة بيضاء مكنونة، فنقلها من صلب إلى صلب حتى نقلت النّطفة إلى صلب عبد المطّلب، فجعلها نصفين، فصار نصفها في عبد اللّه، و نصفها في أبي طالب، فأنا من عبد اللّه، و علي من أبي طالب و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً. . .» (3).

و قيل: إنّ المراد من الماء الماء الذي هو أصل الموجودات (4)، و المراد من البشر آدم عليه السّلام (5).

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم من الماء العذب، و خلق زوجه من سنخه، فبرأها من أسفل أضلاعه، فجرى بذلك الضّلع بينهما سبب و نسب، ثمّ زوّجها إياه، فجرى بينهما بسبب ذلك صهر، فذلك قوله: نَسَباً وَ صِهْراً فالنسب ما كان بسبب الرجال، و الصّهر ما كان بسبب النساء» (6).

أقول: يعني بسبب النطفة و التزويج.

و عن الصدوق باسناده عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: قلت له: يا رسول اللّه، عليّ أخوك؟ قال: «نعم، عليّ أخي» . قلت: يا رسول اللّه، صف لي كيف عليّ أخوك؟ قال: «إنّ اللّه عز و جل خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم بثلاثة آلاف عام، و أسكنه في لؤلؤة خضراء في غامض علمه، إلى أن خلق آدم، فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة، فأجراه في صلب آدم إلى أن قبضه اللّه تعالى، ثمّ نقله إلى صلب شيث، فلم يزل ذلك الماء ينتقل من ظهر إلى ظهر حتى صار في عبد المطلب، ثمّ شقّه

ص: 496


1- . مجمع البيان 7:273، و تفسير الصافي 4:19، و تفسير روح البيان 6:230، عن ابن سيرين.
2- . معاني الأخبار:59/9، تفسير الصافي 4:20.
3- . روضة الواعظين:71، تفسير الصافي 4:20.
4- . الرازي 24:101.
5- . مجمع البيان 7:273.
6- . تفسير القمي 2:114، تفسير الصافي 4:19.

[اللّه]عزّ و جلّ نصفين، فصار نصفه في أبي عبد اللّه بن عبد المطلب، و نصف في أبي طالب، فأنا من نصف الماء، و علي من النصف الآخر، فعلي أخي في الدنيا و الآخرة» (1).

أقول: للرواية و أمثالها تأويلات لا يفهمها إلاّ من نوّر اللّه قلبه بالايمان، و أنعم عليه بالفكر الصائب و البصيرة الكاملة.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 55 الی 57

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و عظمته، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام التي لا قدرة لها على شيء بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و مجاوزين عنه ما لا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه وَ لا يَضُرُّهُمْ إن لا يعبدوه، لأنّها جمادات لا ينبغي لذي مسكة (2)الاعتماد عليها وَ كانَ اَلْكافِرُ المشرك بشركه و عداوته للحقّ عَلى رَبِّهِ الخالق له و إلهه المربّي له ظَهِيراً و عونا للشيطان. و قيل: يعني هيّنا (3).

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ اَلْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)و عن الباقر عليه السّلام-في رواية- «علي هو ربّه في الولاية» (4).

و القمي، قال: الكافر هو الثاني، و كان علي أمير المؤمنين عليه السّلام ظهيرا» (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عداوة الكفّار له، بيّن لطفه بهم الموجب لحبّهم له بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد، إلى الناس إِلاّ لتكون مُبَشِّراً لهم بالثواب على الطاعة وَ نَذِيراً لهم بالعقاب على العصيان، فمن أجهل ممّن اجتهد في إظهار العداوة لمن يحبّه و يلطف به و يصلح مهماته من دون طمع في مالهم،

و لذا أمر نبيّه بإعلامهم بعدم توقّع أجر منهم على الرسالة بقوله: قُلْ يا محمد، لهولاء المشركين: أنا مبعوث إليكم لتبليغ الحقّ و ما أَسْئَلُكُمْ و لا أطلب منكم عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و مال لنفسي حتى تقولوا: إنّ محمدا يطلب أموالنا بما يدعونا إليه إِلاّ عمل مَنْ شاءَ و اراد أَنْ يَتَّخِذَ إِلى قرب رَبِّهِ و رحمة مليكة سَبِيلاً من الايمان و الطاعة له، فانّه أجري و جعلي على التبليغ و الدعوة، فانّ أجرى على رسالتي طاعتكم للّه و تقرّبكم إليه، فانّ النبي يثاب بقدر

ص: 497


1- . أمالي الطوسي:312/637، تفسير الصافي 4:20، و لم نعثر عليه في مصنفات الشيخ الصدوق، و الذي في الصافي: و عن الأمالي، بدل و عن الصدوق.
2- . المسكة: العقل الوافر و الرأي.
3- . تفسير أبي السعود 6:226.
4- . بصائر الدرجات:97/5، تفسير الصافي 4:20.
5- . تفسير القمي 2:115، تفسير الصافي 4:20.

عبادة امّته، و فيه المبالغة في دفع شبهة طمعه في الأجر الدنيوي و إظهار غاية الشّفقة بهم، فهذا نظير قول الوالد لولده: إنّي لا أطلب باحساني إليك و تربيتي إياك أجرا إلاّ أن تحفّظ نفسك و مالك من التّلف.

و قيل: إنّ المراد لا أسألكم على الدعوة إلى اللّه إلاّ أن يشاء أحد أن يتقرّب إلى اللّه بالانفاق في الجهاد و سائر الخيرات، فيتّخذ به سبيلا إلى رحمة ربّه و نيل ثوابه (1).

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع (2)، و المعنى لا أسألكم عليه أجرا لنفسي، و لكن أسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتّخاذ السبيل إلى ربّكم (1).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 58

ثمّ لمّا بيّن سبحانه تظاهر الكفّار على عداوة اللّه و رسوله، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالاعتماد عليه في دفع شرّهم بقوله: وَ تَوَكَّلْ و اعتمد يا محمد في دفع شرّهم و كفاية امور معاشك و معادك عَلَى ربّك اَلْحَيِّ اَلَّذِي لا يَمُوتُ فإنه الحقيق بأن يتوكّل عليه دون الحيّ الذي من شأنه أن يموت، فانّه بالموت يضيّع من توكّل عليه وَ سَبِّحْ و نزّه ربّك من النقائص الامكانية كالعجز و الحاجة و الجهل و الغفلة و نظائرها، أو صلّ لربك، أو قل: سبحان اللّه، حال كونك مقرنا له بِحَمْدِهِ و الثناء عليه بنعوت الكمال و طلب مزيد إنعامه بشكره على سوابق نعمه.

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58)ثمّ وعد سبحانه نبيّه بالانتقام من أعدائه بقوله: وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منها و ما بطن خَبِيراً و مطّلعا لا يحتاج إلى غيره في تعذيبهم و الانتقام منهم، لكمال قدرته عليه، فيجزيهم جزاء وافيا، فلا عليك أن آمنوا أو كفروا، أو أطاعوا أو خالفوا.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 59

ثمّ وصف نفسه بالقدرة الكاملة إرعابا للقلوب و تقوية للدواعي على التوكّل عليه بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات فِي مدّة مقدارها مقدار سِتَّةِ أَيّامٍ من أيام الدنيا، أو في ستة أوقات كلّ وقت منها محدود بالاضافة إلى ما خلق فيه، على

اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ اَلرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

ص: 498


1- . تفسير أبي السعود 6:226.

ترتيب اقتضته الحكمة، فالمدّة المتوّهمة التي خلق فيها الأرض يوم، و التي خلق فيها السماوات يوم و هكذا، و إنّما خلق العالم على التدريج مع قدرته على خلقه جميعا في أقلّ من طرفة عين، لحكم لا يعلمها إلاّ هو، منها تعليم العباد التأني في الامور ثُمَّ اِسْتَوى و استولى بقدرته الكاملة و علمه الشامل عَلَى اَلْعَرْشِ و نفذ تصرّفه و تدبيره في جميع الموجودات.

قيل: إنّ الاستقرار على سرير الملك، كما هو الظاهر من الاستواء على العرش، كناية عن قوة سلطانه و نفاذ أمره (1)، أو رفعه على السماوات (2). فهذا القادر على خلق الموجودات العلوية و السّفلية المنبسطة رحمته على الممكنات هو اَلرَّحْمنُ فانّ الرحمانية هي الاستواء و القاهرية على جميع الممكنات فَسْئَلْ يا محمّد بِهِ شخصا خَبِيراً و عالما بكيفية خلق الموجدات و الاستواء عليها.

قيل: هو اللّه لعدم علم غيره بها (3). و عن ابن عباس: هو جبرئيل (4). و قيل: هو العالم بالكتب السماوية ليصدقك فيه (5).

قيل: إنّ لفظ (به) متعلّق بخبير، و إنّما قدّم تحفّظا على رؤوس آلاي و حسن النظم (6).

و قيل: إنّ الباء زائدة، و المعنى فأسأله حال كونه خبيرا (7).

و قيل: إنّها بمعنى (عن) (8). و قيل: إنّها للتعدية لتضمّن السؤال معنى الاعتناء (9). و قيل: إنّها للقسم كقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ (10).

روي أنّ اليهود حكوا ابتداء خلق الأشياء بخلاف ما أخبر اللّه تعالى (11).

و قيل: إنّ ضمير (به) راجع إلى الرحمن ردّا على إنكار المشركين إطلاق اسم الرحمن على اللّه، بأنّ العالم بالكتب السماويّة يعلم أنّ ما يرادف هذا الاسم اطلق على اللّه في الكتب (12).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 60

ثمّ لما توهّم المشركون من أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالسجود للرحمن، أمره بعبادة غير اللّه، لجهلهم بان الرحمن من أسمائه تعالى، ذمّهم سبحانه على ذلك بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ و الإله

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا اَلرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً (60)

ص: 499


1- . تفسير روح البيان 6:234.
2- . تفسير الرازي 24:105.
3- . تفسير الرازي 24:105.
4- . تفسير الرازي 24:105.
5- . تفسير البيضاوي 2:146.
6- . تفسير الرازي 24:105.
7- . تفسير الرازي 24:105.
8- . تفسير الرازي 24:105.
9- . تفسير البيضاوي 2:146.
10- . تفسير الرازي 24:105، و الآية من سورة النساء:4/1.
11- . مجمع البيان 7:275، تفسير الصافي 4:21.
12- . تفسير أبي السعود 6:227، تفسير الصافي 4:22.

الذي خلق برحمته جميع الموجودات قيل: إنّ المراد بالسجدّة هنا الصلاة (1)قالُوا اعتراضا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما تقول وَ مَا اَلرَّحْمنُ و أي شيء هو؟ فانّا لا نعرف أن يكون اسما لشيء أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا بالسجود له مع عدم معرفتنا إيّاه، لا نطيعك في ذلك وَ زادَهُمْ الأمر بالسجود للرحمن نُفُوراً و انزجارا عن الايمان.

روي أن أبا جهل قال: إنّ الذي يقوله محمّد شعر. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «الشعر غير هذا، إن هذا إلاّ كلام الرحمن» فقال أبو جهل: بخ بخ، لعمري و اللّه إنّه لكلام الرحمن الذي باليمامة، هو يعلّمك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «الرحمن الذي هو إله السماء، و من عنده يأتيني الوحي» فقال: يا آل غالب، من يعذرني من محمد، يزعم أنّ اللّه واحد، و هو يقول: اللّه يعلّمني و الرحمن، أ لستم تعلمون أنّهما إلهان؟ ثمّ قال: «ربّكم اللّه الذي خلق هذه الأشياء، أمّا الرحمن فهو مسيلمة» (2). قيل: فسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و جماعة الصحابة، و لمّا رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين، فهذا هو المراد من قوله: وَ زادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفورا (3).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 61 الی 62

ثمّ لمّا ذكر اللّه نفورهم عن السجود له، بيّن كمال عظمته الموجبة لسجود جميع الموجودات له بقوله: تَبارَكَ و تعالى، أو تكاثر خير الإله اَلَّذِي جَعَلَ بقدرته و حكمته فِي اَلسَّماءِ لنفع الناس بُرُوجاً و منازل الكواكب السبعة السيارة.

تَبارَكَ اَلَّذِي جَعَلَ فِي اَلسَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (61) وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)و عن ابن عباس: البروج: هي الكواكب العظام (4).

وَ جَعَلَ فِيها لهذا العالم المظلم سِراجاً و شمسا مضيئة وَ قَمَراً مُنِيراً بالليل وَ هُوَ القادر اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ خِلْفَةً و ذوي عقبة يعقب كلّ منهما الآخر، و يأتي خلفه.

و عن ابن عباس: جعل كلّ واحد منهما يخلف صاحبه في ما يحتاج أن يعمل فيه، فمن فرط في عمل أحدهما قضاه في الآخر (5).

و عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعمر بن الخطاب: و قد فاتته قراءة القرآن بالليل: يا بن الخطاب، لقد أنزل اللّه فيك آية، و تلا: وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ خِلْفَةً. . . ما فاتك من

ص: 500


1- . تفسير روح البيان 6:235.
2- . تفسير الرازي 24:105.
3- . تفسير الرازي 24:106. (4 و 5) . تفسير الرازي 24:106.

النوافل بالليل فاقضه في [نهارك، و ما فاتك من النهار فاقضه في]ليلك (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «كلّ ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار، قال اللّه تبارك و تعالى» و تلا هذه الآية. ثمّ قال: «يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل» (2).

و قيل: يعني جعلهما مختلفين بالسواد و البياض و الطول و القصر (3)، كلّ هذه النّعم العظام نافع أو مخلوق لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ و يتفكّر فيها، فيستدلّ بها على عظمة خالقها و كمال قدرته و لطفه أَوْ أَرادَ شُكُوراً لمنعمه و القيام بحقّ نعمته بالجدّ في الطاعة، و الجهد في العبادة.

و قيل: إنّ المعنى جعل الليل و النهار ليكونا وقتين للمتذكّرين و الشاكرين، فمن فاته في أحدهما شيء من العبادة قام به في الآخر (4).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 63 الی 64

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المشركين و عبّاد الشياطين بالامتناع عن السجود للرحمن و الخضوع له، مدح عباده بالخضوع و التواضع و السجود له و التضرّع إليه و الاقتصاد في المعيشة بقوله: وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ هم اَلَّذِينَ يَمْشُونَ بين الناس عَلَى وجه اَلْأَرْضِ في النهار حال كونهم هَوْناً و متذلّلين متواضعين ليّنين، لا يضربون بأقدامهم أشرا و لا بطرا، و لا يتجبّرون، و لا يتبخترون، لعلمهم بعظمة ربهم و هيبته، و شهودهم كبرياءه و جلاله، فخشعت لذلك أرواحهم، و خضعت نفوسهم و جوارحهم.

وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64)و في الحديث: «المؤمنون هيّنون ليّنون، كالجمل الانف إن قيد انقاد، و إن استنيخ (5)على صخرة استناخ» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الرجل يمشي بسجيّته التي جبل عليها لا يتكلّف و لا يتبختر» (7).

و القمي، عن الباقر عليه السّلام، أنّه قال في هذه الآية: «الأئمّة يمشون على الأرض هونا خوفا من عدوّهم» (8).

ص: 501


1- . تفسير الرازي 24:106.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:315/1428، تفسير الصافي 4:22.
3- . تفسير الرازي 24:106.
4- . تفسير الرازي 24:107.
5- . في تفسير روح البيان: انيخ.
6- . تفسير روح البيان 6:240.
7- . مجمع البيان 7:279، تفسير الصافي 4:23.
8- . تفسير القمي 2:116، تفسير الصافي 4:23.

و عن الكاظم عليه السّلام: «هم الأئمّة عليهم السّلام يتقون في مشيهم» (1).

وَ إِذا خاطَبَهُمُ و كلّمهم اَلْجاهِلُونَ بكلام فيه خرق و هزء و قباحة قالُوا نطلب منكم سَلاماً و أمنا من الشرّ و الضرّ، لا نجاهلكم و لا نخالط بشيء من اموركم، بل بيننا متاركة تامة.

و قيل: يعني قالوا قولا سلاما، أي سدادا، يسلمون فيه من الأذى و الإثم (2).

و قيل: قالوا سلاما أي سلام توديع لا تحية (3)، و المراد أنّا لا نقابلكم بسوء، بل نعدل عن طريقتكم و نحلم عنكم.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سيرتهم في النهار مع الخلق، بيّن سيرتهم في الليل مع الخالق بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ و يصبحون لياليهم حال كونهم لِرَبِّهِمْ سُجَّداً للّه وَ قِياماً قيل: يبيتون للّه على أقدامهم، و يفرشون له وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم خوفا من ربّهم (4).

و قيل: يصلّون في جميع الليل، و إنّما ذكر عبادتهم بالليل لكونها أشقّ و أبعد من الرياء (5)، و في الخبر: من كثّر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار (6).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 65 الی 67

ثمّ ذكر سبحانه أنّهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون من عذاب اللّه بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ في صلاتهم، أو في سجودهم و قيامهم، كما عن ابن عباس (5)، أو في عامّة أوقاتهم (6)رَبَّنَا اِصْرِفْ و ادفع عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً و شرا دائما، و هلاكا لازما لكلّ من ابتلى به.

وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)عن الباقر عليه السّلام يقول: «ملازما لا يفارق» (7).

و عن ابن عباس: الغرام هو الموجع (8).

و قيل في تفسير الغرام: إنّه تعالى سأل الكفار ثمن نعمه، فما ادّوها إليه، فأغرمهم فأدخلهم النار (9).

ثمّ ذكروا علّة مسألتهم النجاة من جهنّم بقولهم: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً قيل: إنّها مستقرّ

ص: 502


1- . تفسير القمي 2:116، تفسير الصافي 4:23.
2- . تفسير روح البيان 6:241.
3- . تفسير الرازي 24:108.
4- . تفسير الرازي 24:108. (5 و 6) . تفسير روح البيان 6:242.
5- . تفسير الرازي 24:108.
6- . تفسير روح البيان 6:243.
7- . تفسير القمي 2:116، تفسير الصافي 4:23.
8- . تفسير الرازي 24:108.
9- . تفسير الرازي 24:108.

للعصاة من المؤمنين، حيث إنّهم لا يقيمون فيها، و مقام للكفّار (1). و يحتمل أن يكون هذا كلام اللّه تعالى (2).

في بيان المراد من

الاسراف و التقتير

ثمّ مدحهم سبحانه بالاقتصاد في المعيشة بقوله: وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا على أنفسهم و عيالهم، و على الفقراء لَمْ يُسْرِفُوا و لم يتجاوزوا فيه عن حدّ التوسّط وَ لَمْ يَقْتُرُوا.

و عن ابن عباس: الاسراف: هو الانفاق في معصية اللّه تعالى، و الاقتار منع حقّ اللّه تعالى (3).

و عن مجاهد: لو أنفق رجل مثل جبل أبي قبيس ذهبا في طاعة اللّه تعالى، لم يكن سرفا، و لو أنفق صاعا في معصية اللّه تعالى يكون سرفا (4).

و قيل: يعني لم ينفقوا في معاصي اللّه، و لم يمسكوا عمّا ينبغي، و ذلك قد يكون في الإمساك عن حقّ اللّه، و هو أقبح تقتير، و قد يكون في الامساك عن المندوب، كالانفاق على الفقير (5).

و قيل: إنّ السرف مجاوزة الحدّ في التنعّم و التوسّع في الدنيا، و إن كان من حلال، كالأكل فوق الشّبع بحيث يمنع النفس من العبادة، و الاقتار: هو التضييق، كالأكل أقلّ من الحاجة. قال: و هذه صفة الصحابة، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعّم و اللذّة، و لا يلبسون ثيابا للتجمّل و الزينة، و لكن يأكلون ما يسدّ جوعهم، و يعينهم على عبادة ربّهم، و يلبسون ما يستر عوراتهم و يصونهم عن الحرّ و البرد (1).

و عن القمي: لَمْ يُسْرِفُوا يعني لم ينفقوا (2)في المعصية وَ لَمْ يَقْتُرُوا يعني لم يبخلوا عن حقّ اللّه (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أعطى في غير حقّ فقد أسرف، و من منع من حقّ فقد قتر» (9).

و عن علي عليه السّلام: «ليس في المأكول و المشروب سرف و إن كثر» (10).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما الإسراف في ما أفسد المال و أضرّ بالبدن» .

قيل: فما الاقتار؟ قال: «أكل الخبز و الملح و أنت تقدر على غيره» .

قيل: فما القصد؟ قال: «الخبز و اللّحم و اللبن و الخلّ و السّمن، مرّة هذا، و مرّة هذا» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه تلا هذه الآية، فأخذ قبضة من حصى، و قبضها بيده، فقال: «هذا الاقتار الذي ذكره [اللّه]في كتابه» ثمّ قبض قبضة اخرى، فأرخى كفّه كلّها، فقال: «هذا الإسراف» الخبر (5).

ص: 503


1- . تفسير الرازي 24:109.
2- . في المصدر: و الإسراف الإنفاق.
3- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:23. (9 و 10) . مجمع البيان 7:280، تفسير الصافي 4:24.
4- . الكافي 4:54/10، تفسير الصافي 4:24.
5- . الكافي 4:54/1، تفسير الصافي 4:24.

وَ كانَ الانفاق بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الاسراف و الاقتار قَواماً و وسطا عدلا.

و في الخبر ثمّ أخذ قبضة اخرى فأرخى بعضها و أمسك بعضها، و قال: «هذا القوام» (1).

و عن القمي: القوام: العدل [و الانفاق]في ما أمر اللّه به (2).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 68

ثمّ لمّا كانت هذه الأعمال من المشركين القاتلين للبنات ممكنة، وصف عباده بالتوحيد و اجتناب الكبائر بقوله: وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ و لا يعبدون مَعَ اَللّهِ الحقّ إِلهاً آخَرَ و لا يشركون به غيره وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ قتلها بوجه إِلاّ بِالْحَقِّ المبيح لقتلها كالقصاص أو الحدّ وَ لا يَزْنُونَ و لا يجامعون امرأة بغير الاسباب المبيحة لجماعها، و فيه تعريض للكفّار بأنّهم يعبدون إلها آخر، و يقتلون البنات، و يزنون وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور من القبائح يَلْقَ أَثاماً و ينل و بال تلك الأعمال.

وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68)و قيل: إنّ الآثام واد في جهنّم (3).

و عن القمي: آثام: واد من أودية جهنّم من صفر مذاب، قدّامها خدّة (4)في جهنّم، يكون فيه من عبد غير اللّه و من قتل النفس التي حرّم اللّه، و يكون فيه الزّناة (5).

و قيل: هو جهنم (6).

و في الحديث: الغيّ و الآثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار (7).

و عن ابن مسعود، قلت: يا رسول اللّه أيّ ذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل للّه ندّا و هو خلقك» قلت: ثمّ أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» . قلت: ثمّ أيّ؟ قال: «أن تزني بحليلة جارك» فأنزل اللّه تصديقه (8).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 69 الی 70

يُضاعَفْ لَهُ اَلْعَذابُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)

ص: 504


1- . الكافي 4:55/1، تفسير الصافي 4:24.
2- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:23.
3- . تفسير الرازي 24:111.
4- . في الخدّة: الحفرة المستطيلة في الأرض. و في النسخة: حدّة.
5- . تفسير القمي 2:116، تفسير الصافي 4:24.
6- . تفسير الرازي 24:111.
7- . تفسير روح البيان 6:247.
8- . تفسير الرازي 24:111.

ثمّ بيّن سبحانه الآثام، و أكّد تهديد المرتكبين لتلك القبائح العظام بقوله: يُضاعَفْ لَهُ اَلْعَذابُ و يتزايد له العقاب وقتا بعد وقت يَوْمَ اَلْقِيامَةِ بسبب انضمام شركه بالمعاصي وَ يَخْلُدْ في العذاب و يقيم فِيهِ ابدا حال كونه مُهاناً و ذليلا إِلاّ مَنْ تابَ و رجع عن شركه و عصيانه، و آمن بوحدانية ربّه وَ عَمِلَ بعد إيمانه عَمَلاً صالِحاً مرضيّا عند اللّه فَأُوْلئِكَ التائبون الصالحون يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ بأن تمحى سيئاتهم من صحيفة عملهم، و يكتب مكانها الحسنات، كما عن سعيد بن المسيّب و جماعة من مفسري العامّة (1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه [قال]: «ليتمنين أقوام أنّهم أكثروا من السيئات» قيل من هم يا رسول اللّه؟ قال: «الذين يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، و يخبّأ عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا و كذا و هو مقرّ لا ينكر، و هو مشفق من الكبائر، فيقال: أعطوه مكان كلّ سيئة عملها حسنة، فيقول: إنّ لي ذنوبا ما أراها هاهنا» . قال: فلقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يضحك حتى بدت نواجذه، ثمّ تلا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ إلى آخره (3).

في بيان المراد من

تبديل السيئات

بالحسنات

أقول: يحتمل كون المراد من الرواية المحو و الاثبات للذين (4)ذكرنا، و إخفاء الصورة و إظهارها.

عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل عن الآية، فقال: «يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة فيوقف بموقف الحساب، فيكون اللّه تعالى هو الذي يتولّى حسابه، لا يطلع على حسابه أحدا من الناس فيعرّفه ذنوبه، حتى إذا أقرّ بسيئاته قال اللّه عز و جل للكتبة: بدّلوها حسنات، و أظهروها للناس. فيقول الناس حينئذ: ما (5)كان لهذا العبد سيئة واحدة» إلى أن قال: «هي للمذنبين (6)من شيعتنا خاصة» (7).

و عن الرضا عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة أوقف اللّه عزّ و جلّ المؤمن بين يديه، و عرض عليه عمله، فينظر في صحيفته، فأول ما يرى سيئاته، فيتغيّر لونه، و ترتعد فرائصه، ثمّ تعرض عليه حسناته فتقرّ حينئذ لذلك (8)نفسه، فيقول اللّه عزّ و جلّ: بّدلوا سيئاته حسنات، و أظهروها للناس. فيبدّل اللّه لهم

ص: 505


1- . تفسير الرازي 24:112، تفسير روح البيان 6:247.
2- . تفسير الرازي 24:112.
3- . تفسير روح البيان 6:247.
4- . في النسخة: الذين.
5- . في أمالي المفيد: أما.
6- . في أمالي المفيد و تفسير الصافي: هي في المذنبين.
7- . أمالي المفيد:298/8، تفسير الصافي 4:24.
8- . في تفسيري القمي و الصافي: فتفرح لذلك.

فيقول الناس: أما كان لهؤلاء سيئة واحدة؟ و هو قول اللّه تعالى: يُبَدِّلُ اَللّهُ إلى أخره» (1).

و عنه، عن آبائه عليهم السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حبّنا أهل البيت يكفّر الذنوب، و يضاعف الحسنات، و إنّ اللّه تعالى ليتحمّل من (2)محبّينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد إلاّ ما كان منهم [على]إصرار و ظلم للمؤمنين، فيقول للسيئات: كوني حسنات» (3).

أقول: الظاهر منه تغيير مجسّمة الأعمال، و قريب منه رواية اخرى عنه عليه السّلام (4).

و عن الباقر عليه السّلام-في حديث ما معناه-: «أنّ اللّه سبحانه يأمر بأن تؤخذ حسنات أعدائنا فتردّ على شيعتنا، و تؤخذ سيئات شيعتنا فتردّ على مبغضينا، و هو قول اللّه تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ إلى آخره، يبدّل اللّه سيئات شيعتنا حسنات، و يبدّل اللّه حسنات أعدائنا سيئات» (5).

و عن ابن عباس: أنّ التبديل إنّما يكون في الدنيا، فيبدّل اللّه تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الاسلام، فيبدّلهم بالشّرك إيمانا، و بقتل المؤمنين قتل المشركين، و بالزنا عفّة [و إحصانا]، فكأنّه تعالى يبشّرهم بأنه يوفّقهم لهذه الأعمال الصالحة، فيستوجبوا بها الثواب (6).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ما جلس قوم يذكرون اللّه إلاّ نادى بهم مناد من السماء: قوموا فقد بدّل اللّه سيئاتكم حسنات» (7).

و قيل: إنّ المراد بالتبديل تبديل عقابهم بالثواب (8).

ثمّ بيّن سبحانه علّته بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً فمقتضى الصفتين؛ هذا التبديل و ازدياد الثواب.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 71 الی 74

ثمّ إنه تعالى بعد البشارة بقبول توبة المشركين المرتكبين للكبيرتين، بشّر عموم العصاة بقبول توبتهم بقوله: وَ مَنْ تابَ و رجع عن أيّ معصية و ندم عليها وَ عَمِلَ صالِحاً يتدارك به ما فرّط،

وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اَللّهِ مَتاباً (71) وَ اَلَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً (73) وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اِجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)

ص: 506


1- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:25.
2- . في أمالي الطوسي: عن.
3- . أمالي الطوسي 164/274، تفسير الصافي 4:25.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:33/57، تفسير الصافي 4:25.
5- . علل الشرائع:609 و 610/81، تفسير الصافي 4:25.
6- . تفسير الرازي 24:112.
7- . روضة الواعظين:391، تفسير الصافي 4:25.
8- . تفسير الرازي 24:112.

و التزم بالطاعة فَإِنَّهُ يَتُوبُ و يرجع بعد الموت إِلَى اَللّهِ تعالى مَتاباً عظيم الشأن مرضيا عنده ماحيا للعقاب و محصّلا للثواب.

و قيل: يعني من تاب إلى اللّه من المعاصي الماضية يوفقه اللّه للتوبة من المعاصي المستقبلة، و هذه بشارة عظيمة (1).

و عن القمي: أي لا يعود إلى شيء من ذلك باخلاص و نيّة صادقة (2).

وَ اَلَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ و لا يحضرون اَلزُّورَ و الباطل و المجالس التي ترتكب فيها المحرّمات، أو خصوص الكذب على اللّه و الرسول، كما عن ابن عباس (3).

و قيل: الزّور هو الغناء، كما عن الصادق عليه السّلام (4)، و ابن الحنفية (5)، و زاد القمي: مجالس اللهو (6).

وَ إِذا مَرُّوا بالمشغولين بِاللَّغْوِ و السفهي من القول و الفعل، أو الفحش من الكلام مَرُّوا به حال كونهم كِراماً و منزّهين منه، معرضين عنه.

قيل: إذا سمعوا من الكفّار الشتم و الأذى أعرضوا عنهم (7).

و قيل: إذا ذكروا (8)النّكاح كنّوا عنه (9).

و عن الباقر عليه السّلام: «هم الذين إذا أرادوا ذكر الفرج كنّوا عنه» (10).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه قال لبعض أصحابه: «أين نزلتم» ؟ قالوا: على فلان صاحب القيان. فقال: «كونوا كراما، أما سمعتم قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ؟» الى آخره (11).

و قال محمّد بن أبي عبّاد-و كان مشتهرا بالسّماع و شرب النّبيذ-سألت الرضا عليه السّلام عن السّماع، فقال: «لأهل الحجاز رأي فيه، و هو في حيّز الباطل و اللّهو، أما سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ؟» إلى آخره (12).

أقول: الظاهر أنّ الجميع من مصاديق اللغو.

وَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا و نبهوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالّة على المواعظ و الحكم لَمْ يَخِرُّوا و لم يسقطوا عَلَيْها حال كونهم صُمًّا و فاقدي الأسماع لا يصغون إليها إصغاء القبول وَ عُمْياناً

ص: 507


1- . تفسير الرازي 24:113.
2- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:26.
3- . تفسير الرازي 24:113.
4- . الكافي 6:431/6، تفسير الصافي 4:26.
5- . تفسير الرازي 24:113.
6- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:26.
7- . تفسير الرازي 24:114.
8- . في تفسير الرازي: ذكر.
9- . تفسير الرازي 24:114.
10- . مجمع البيان 7:283، تفسير الصافي 4:26.
11- . الكافي 6:432/9، تفسير الصافي 4:26.
12- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:128/5، تفسير الصافي 4:26.

و فاقدي الأبصار، لم يبصروا ما فيها من المعجزات و العبر، بل أكبّوا عليها و أقبلوا إليها سامعين بآذان واعية، مبصرين بعيون راغبة، منتفعين بها حقّ الانتفاع على خلاف الكفار و المنافقين.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «مستبصرين ليسوا بشكّاك» (1).

وَ اَلَّذِينَ يتضرّعون إلى اللّه و يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ جهة أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا ما يكون لنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ و ضياء أبصار و مسرّة قلوب من الطاعة و الصلاح و حيازة الفضائل، و مساعدة في الدين، و قيل: إنّ المعنى هب لنا قرّة أعين (2).

ثمّ بيّنها بقوله: مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا بأن يجعلهم اللّه مؤمنين صالحين وَ اِجْعَلْنا بتوفيقك لنا في الايمان و التقوى بحيث نكون لِلْمُتَّقِينَ إِماماً و مقتدى في الاجتهاد في الطاعة، و القيام بمراسم الشريعة.

قال بعض العامة: إنّ الايات نزلت في العشرة المبشّرة (3).

و عن سعيد بن جبير: أنّ هذه الآية خاصة في أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان أكثر دعائه: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا يعني فاطمة وَ ذُرِّيّاتِنا يعني الحسن و الحسين عليهما السّلام قُرَّةَ أَعْيُنٍ.

قال عليه السّلام: «و اللّه ما سألت ربي ولدا نضير الوجه، و لا سألت ولدا حسن القامة، و لكن سألت [ربي] ولدا مطيعين للّه خائفين وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه و هو مطيع للّه قرّت به عيني» قال: وَ اِجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [قال]: «نقتدي بمن قبلنا من المتقين، فيقتدي المتّقون بنا من بعدنا» (4).

و قال القمي: روي أن أَزْواجِنا خديجة وَ ذُرِّيّاتِنا فاطمة، و قُرَّةَ أَعْيُنٍ الحسن و الحسين وَ اِجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً علي بن أبي طالب و الأئمّة عليهم السّلام (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «إيانا عنى» . و في رواية: «هي فينا» (6).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ إنّه تعالى بعد توصيف عباده بالصفات الكريمة، بيّن الطافه بهم بقوله: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ و أعلى منازل الجنّة التي تكون من ذهب و لؤلؤ و مرجان على ما قيل (7)بِما صَبَرُوا على مشاقّ

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

ص: 508


1- . الكافي 8:178/199، تفسير الصافي 4:26.
2- . تفسير الرازي 24:114.
3- . تفسير الرازي 24:115.
4- . مناقب ابن شهر آشوب 3:380، تفسير الصافي 4:27.
5- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:27.
6- . جوامع الجامع:326، تفسير الصافي 4:27.
7- . تفسير روح البيان 6:254.

الطاعات، و رفض الشهوات، و تحمّل المجاهدات وَ يُلَقَّوْنَ في الغرفة من الملائكة، أو من ربّ العزّة، و ينالون فِيها تَحِيَّةً و دعاء بطول الحياة وَ سَلاماً و صونا من شوائب الضّرر و الآفات، فيكون لهم بقاء بلا فناء، و غني بلا فقر، و عزّ بلا ذلّ، و صحة بلا سقم، و راحة بلا تعب حال كونهم

خالِدِينَ فِيها لا يموتون و لا يخرجون منها حَسُنَتْ تلك الغرفة من حيث كونها مُسْتَقَرًّا و منزلا وَ مُقاماً و محلّ إقامة.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية دعاء العباد حثّ الناس في الدعاء و العبادة بقوله: قُلْ يا محمد للمؤمنين ما يَعْبَؤُا و ما يصنع، أو ما يبالي، أو ما يعتني بِكُمْ رَبِّي.

و قيل: إنّ (ما) استفهامية (1)، و المعنى أي شيء يصنع بكم، أو أيّ وزن لكم؟ (2)

و عن الباقر عليه السّلام: «ما يفعل بكم» (3)لَوْ لا دُعاؤُكُمْ و مسألتكم إياه، أو تضرّعكم إليه في الشدائد، أو إيمانكم، أو عبادتكم، أو شكركم له نعمه.

و قيل: يعني لو لا دعائي إيّاكم إلى الايمان و العبادة (4).

فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيّها المشركون بما أخبرتكم من أنّ اللّه خلقكم، أو من أن الاعتناء بشأنكم إنّما يكون للايمان و العبادة و الدعاء فَسَوْفَ يَكُونُ هذا التكذيب، أو جزاؤه الدنيوي أو الاخروي لِزاماً يحيق بكم لا محالة.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدّعاء؟ قال: «كثرة الدعاء أفضل» و قرأ هذه الآية (5).

عن الكاظم عليه السّلام (6): «من قرأ هذه السورة في كلّ ليلة لم يعذّبه اللّه أبدا، و لم يحاسبه، و كان (7)في الفردوس الاعلى» (8).

ص: 509


1- . تفسير روح البيان 6:256.
2- . تفسير أبي السعود 6:232.
3- . تفسير القمي 2:118، تفسير الصافي 4:27.
4- . تفسير الرازي 24:117.
5- . مجمع البيان 7:285، تفسير الصافي 4:27.
6- . في مجمع البيان: أبي الحسن الرضا عليه السّلام و في ثواب الاعمال: أبي الحسن عليه السّلام.
7- . زاد في ثواب الاعمال و تفسير الصافي: منزله.
8- . ثواب الاعمال:109، مجمع البيان 7:250، تفسير الصافي 4:28.

ص: 510

في تفسير سورة الشعراء

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 1 الی 4

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة ببيان أنّ الغرض من الخلق الايمان و العبادة، و أنّه يعذّب مكذّب الرسول على تكذيبه بأشدّ العذاب، أردفها في النّظم بسورة الشعراء المتضمّنة لبيان عظمة القرآن، و إصرار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على إيمان قومه، و امتناعهم منه، و تهديدهم بما وقع على الامم السابقة من العذاب على تكذيب الرسل، و ذكر بعض أدلّة التوحيد، و دفع بعض شبهات المشركين في الرسالة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)فابتدأ سبحانه فيها على حسب دأبه في الكتاب الكريم بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله:

طسم للحكم التي سبق ذكرها في بعض الطرائف (1)، و مرّ فيها بعض ما لها من التأويل.

و عن ابن عباس في طسم عجرت العلماء عن تفسيرها (2).

و روى بعض العامة عن عليّ عليه السّلام: «أنّه لمّا نزل طسم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: طاء: طور سيناء، و سين: اسكندرية، و ميم: مكّة» (3).

و روى بعضهم عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «أقسم اللّه بشجرة طوبى، و سدرة المنتهى، و محمّد المصطفى في القرآن بقوله: طسم فالطاء: شجرة طوبى، و السين سدرة المنتهى، و الميم: محمد المصطفى» (4).

و في (المعاني) عنه عليه السّلام: «و أمّا طسم فمعناه أنا الطالب السميع المبدي المعيد» (5).

ثمّ ذكر سبحانه جواب القسم، و هو عظمة القرآن و إعجازه بقوله: تِلْكَ السورة أو الآيات التي

ص: 511


1- . راجع: الطرفة (18) من مقدمة المؤلف.
2- . تفسير روح البيان 6:258.
3- . مجمع البيان 7:288، تفسير الصافي 4:29، تفسير روح البيان 6:258.
4- . تفسير روح البيان 6:259.
5- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:29.

فيها هي آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و القرآن الظاهر إعجازه لعجز الناس عن الاتيان بمثله، أو المظهر للمعارف و الأحكام و العلوم المحتاج إليها مع أمية من أتى به، أو المظهر للحقّ و الباطل، أو المراد هي الآيات المكتوبة في اللّوح المحفوظ.

ثمّ لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع قوّة دلالة القرآن على صدقه شديد الحزن على عدم إيمان قومه به، سلاّه سبحانه إشفاقا عليه بقوله: لَعَلَّكَ يا محمّد باخِعٌ و قاتل نَفْسَكَ غمّا على قومك لأجل أَلاّ يَكُونُوا مع عظمة معجزتك مُؤْمِنِينَ بتوحيد اللّه و برسالتك و صدق كتابك، لا تغتمّ فانّهم ليسوا بأهل (1)للإشفاق عليهم، لكونهم في غاية اللّجاج و العناد للحقّ، فلا يؤمنون بالطّوع، و إن أحببت إجبارهم على الايمان،

فنحن قادرون عليه لأنّا إِنْ نَشَأْ إجبارهم عليه نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ آيَةً عظيمة ملجئة لهم إلى الايمان كإنزال الملائكة أو الصيحة فَظَلَّتْ و صارت بسبب تلك الآية أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ منقادين بحيث لا يقدر أحدهم أن يميل عنقه إلى المخالفة و العصيان، و إنّما لم نشأ ذلك لعدم الفائدة في هذا النحو من الايمان، كما لا فائدة في الايمان في الآخرة.

ثمّ إنه تعالى نسب الخضوع إلى رقابهم، مع أنه حال يعرض لهم لأنّها محلّة، و لذا جاء سبحانه بالجمع الذي للعقلاء.

و قيل: إنّ المراد بالأعناق الرّؤساء و الكبراء، كما يقال لهم الرؤوس (2).

و قيل: إنّ المراد جماعاتهم كما يقال: جاء عنق من الناس (3).

عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «سيفعل اللّه ذلك بهم» قيل: من هم؟ قال: «بنو امية و شيعتهم» قيل: و ما الآية؟ قال: «ركود الشمس ما بين زوال الشمس إلى وقت العصر، و خروج صدر و وجه في عين الشمس، يعرف بحسبه و نسبه، و ذلك في زمان السفياني، و عندها يكون بواره و بوار قومه» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ القائم عليه السّلام لا يقوم حتى ينادي مناد من السماء، تسمعه الفتاة في خدرها، و يسمعه أهل المشرق و المغرب، و فيه نزلت هذه الآية إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ، إلى آخرها» (5).

و القمي عنه عليه السّلام قال: «تخضع رقابهم-يعني بني امية-و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر عليه السّلام» (6).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 5 الی 9

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (3) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (4) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (9)

ص: 512


1- . في النسخة: بآهلين. (2 و 3) . تفسير الرازي 24:119.
2- . إرشاد المفيد 2:373، تفسير الصافي 4:30.
3- . غيبة الطوسي:177/134، تفسير الصافي 4:29.
4- . تفسير القمي 2:118، تفسير الصافي 4:29.

ثمّ ذمّهم سبحانه على إعراضهم عن الآيات بقوله: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ و عظة، أو تنبيه و تذكير للحقّ في القرآن الظاهر كونه مِنْ قبل اَلرَّحْمنِ بتوسّط نبيه صلّى اللّه عليه و آله مُحْدَثٍ و مجدّد إنزاله لتكرر التذكير إِلاّ كانُوا في كلّ كرة من التذكير عَنْهُ مُعْرِضِينَ و مولّين فَقَدْ كَذَّبُوا بذلك الذّكر المحدث المكرّر عقيب الإعراض، و بلغوا النهاية في ردّ الآيات، حيث نسبوها تارة إلى السحر، و اخرى إلى الشعر، و ثالثة إلى الأساطير فَسَيَأْتِيهِمْ البتة من غير تخلّف بسبب إعراضهم و تكذيبهم المقرون بالاستهزاء أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و أخباره من العقوبة الشديدة العاجلة و الآجلة التي بمشاهدتها يطّلعون على حقيقة حال القرآن من أنّه كان حقا نازلا من اللّه، أو باطلا مختلقا عليه، و حقيقا بأن يصدّق و يعظّم قدره، أو يكذّب و يستخفّ به.

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على تكذيب الآيات التدوينية، أنكر عليهم في ترك النظر و التفكّر في الآيات التكوينية على التوحيد بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و لم ينظروا إِلَى عجائب صنعنا في اَلْأَرْضِ الميتة اليابسة انا كَمْ أَنْبَتْنا فِيها بانزال المطر عليها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ و صنف كَرِيمٍ و مرضي في ما يتعلّق به من المنافع حتى الضارّ منه، و إن غفل عنه الناس.

و في (الجمع) بين كلمة (كم) التي للكثرة و لفظ (كلّ) دلالة على الكثرة في كلّ صنف من الأصناف.

إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات، أو في كلّ واحد من الأزواج لَآيَةً عظيمة و دلالة واضحة على كمال قدرته و حكمته و وحدانيته، و وسعة رحمته الموجبة لايمان الناس و الانزجار من الكفر وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لعدم تفكّرهم فيها و انهماكهم في الشهوات

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب القاهر على عباده، القادر على الانتقام من الكفّار، و مع ذلك يمهلهم لأنّه اَلرَّحِيمُ بهم و رحمته مانعة من تعجيله في عقوبتهم.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 10 الی 21

ص: 513

ثمّ لمّا وصف ذاته المقدّسة بالوصفين المقتضيين لإرسال الرّسل و إمهال مكذّبيهم و الانتقام منهم بعد حين، شرع في بيان قصصهم، و لمّا كان قصّة بعث موسى و امّته أعجب بدأ بذكرها بقوله: وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى في جانب الطّور الأيمن من الشجرة أَنِ اِئْتِ يا موسى اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على ربّهم و على أنفسهم بالكفر و الطغيان، و على بني إسرائيل باستعبادهم و ذبح أولادهم، أعني بالقوم

قَوْمَ فِرْعَوْنَ لدعوتهم إلى توحيدي و طاعتي، و إنذارهم من عذابي على الكفر و العصيان.

وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ اِئْتِ اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنّا رَسُولُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (21)ثم اظهر سبحانه التعجّب من جرأتهم عليه بقوله: أَ لا يَتَّقُونَ اللّه و لا يخافونه، أو لا يحترزون عن عذابه بالايمان و الطاعة.

ثمّ كأنّه قيل: ماذا قال موسى؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالَ موسى متضرّعا إلى اللّه رَبِّ العالمين إِنِّي أَخافُ من أَنْ ينكروا نبوتي و يُكَذِّبُونِ في دعوى رسالتي

وَ يَضِيقُ لذلك صَدْرِي و قلبي، فينقبض منه روحي وَ لا يَنْطَلِقُ لذلك لِسانِي و يزيد فيه الحبسة (1)، و يعسر عليّ الدعوة و المحاجّة فَأَرْسِلْ جبرئيل بالوحي إِلى أخي هارُونَ الذي هو أفصح لسانا منّي، ليكون معينا لي في تبليغ رسالتك، و هداية خلقك،

و إلاّ لاختلّت مصلحة بعثي إليهم وَ مع ذلك لَهُمْ بزعمهم عَلَيَّ و في عهدتي ذَنْبٌ عظيم، و هو قتل القبطي دفعا عن السّبطي فَأَخافُ أن آتيهم وحدي من أَنْ يَقْتُلُونِ قصاصا قبل ادّعاء الرسالة كما ينبغي، و أما هارون فلا ذنب لهم عليه، ففائدة بعثي إليهم معه أتمّ و أكمل، فردعه اللّه أولا عن احتمال قتله قبل إكمال التبليغ بقوله

قالَ كَلاّ لا يقدرون على قتلك بالقصاص و غيره، ثمّ أجاب مسألته في إرسال هارون معه بقوله، فَاذْهَبا أنت و هارون إلى فرعون و قومه برسالتي مستدلّين على صدقكما في دعوتكما بِآياتِنا التسع إِنّا مَعَكُمْ بالعون و النصرة، و مع عدوّكما بالقهر و الشّوكة، و لمقالكما و مقال عدوكما مُسْتَمِعُونَ و لما يجري بينكما و بينه من الكلام سامعون

فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا لفرعون و قومه: إِنّا معا رَسُولُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ إليك، و إنّما أفرد الرسول للإشعار باستقلاله في الرسالة

ص: 514


1- . الحبسة: ثقل في اللسان يمنع من الإبانة.

و تبعيه هارون له، ثمّ بيّن ما أرسل به بقوله:

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ و أطلقهم من قيد الأسر و العبودية للقبط، لأذهب بهم إلى أرض الشام، التي هي مسكن آبائهم.

قيل: كان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، فانطلق موسى إلى مصر، و كان هارون بها، فلمّا تلاقيا ذهبا إلى باب فرعون ليلا، و دقّ موسى الباب بعصاه، ففزع البوابون و قالوا: من بالباب؟ فقال موسى عليه السّلام: أنا رسول رب العالمين، فذهب البوّاب إلى فرعون فقال: إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول ربّ العالمين، فأذن له في الدخول من ساعته (1).

و قيل: ترك حتى أصبح فدعاهما (2).

و قيل: لم ياذن لهما سنة حتى قال البواب: هاهنا إنسان يزعم أنّه رسول رب العالمين. فقال: إئذن له حتى نضحك منه، فدخلا عليه، و أدّيا الرسالة، فعرف موسى (3)لأنّه نشأ في بيته فشتمه و

قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ يا موسى فِينا و في حجرنا و نعمنا حال كونك وَلِيداً و صبيا رضيعا قريب الولادة وَ لَبِثْتَ و أقمت فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ كثيرة. قيل: كان فيهم (4)ثلاثين سنة (5)

وَ فَعَلْتَ أخيرا فَعْلَتَكَ القبيحة اَلَّتِي فَعَلْتَ من قتل القبطي وَ أَنْتَ صرت بفعلتك مِنَ اَلْكافِرِينَ لنعمتي الجاحدين لحقّ تربيتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصّي

قالَ موسى: نعم، تلك الفعلة التي تقول فَعَلْتُها إِذاً و حين فعلت وَ أَنَا كنت مِنَ اَلضّالِّينَ و الخاطئين فيها، لا من المتعمّدين، فليس لك أن تلمني و تؤاخذني بها، و تعدّ فعلي من كفران نعمتك، لأن السهو و الخطأ عذران عند العقلاء لا يوجبان العتاب و المؤاخذة، و مع ذلك بلغني أنّكم شاورتم في قتلي

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ و ذهبت من بلدكم إلى مدين لَمّا خِفْتُكُمْ من أن تقتلوني ظلما و تؤاخذوني بما لا أستحقّه فَوَهَبَ لِي رَبِّي حين رجوعي من مدين إلى مصر حُكْماً و عقلا كاملا، و رأيا رزينا، و علما بتوحيده و كمال صفاته وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ الذين اصطفاهم على عباده.

و قيل: إنّ المراد من الحكم النبوة، و المعنى جعلني أولا نبيا، ثمّ أعطاني منصب الرسالة (6).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 22 الی 28

وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ اَلْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)

ص: 515


1- . تفسير روح البيان 6:267.
2- . تفسير روح البيان 6:267.
3- . تفسير روح البيان 6:267.
4- . في تفسير الرازي: لبث عندهم، و في تفسيري أبي السعود و روح البيان: لبث فيهم.
5- . تفسير الرازي 24:125، تفسير أبي السعود 6:238، تفسير روح البيان 6:238.
6- . تفسير روح البيان 6:268.

ثمّ أجاب عليه السّلام عن منّته عليه بالتربية بقوله: وَ تِلْكَ التربية نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ و لكن كانت لأجل أَنْ عَبَّدْتَ و استعبدت بَنِي إِسْرائِيلَ و استخدمتهم و ذبحت ابناءهم و لذا ألقتني أمّي في اليمّ، و لو لا هذا الظلم منك عليهم ما احتجت إلى تربيتك.

و قيل: يعني إنما أنفقت عليّ من أموال قومي الذين استعبدتهم و أخذت أموالهم، فلا منّه لك عليّ، أو أنّك و إن ربّيتني إلاّ أنك ظلمت قومي، أو أنّ الذي ربّاني كان من الذين عبدتهم، و هو أمّي و سائر قومي، و إنّما الذي كان منك إنّك لم تقتلني (1).

و على أيّ تقدير: لما أجاب عن طعنه فيه و منّته عليه، أخذ فرعون في الاعتراض على ما ادّعاه من رسالة ربّ العالمين و قالَ فِرْعَوْنُ تجاهلا في معرفته [و]

حفظا لملكه و رياسته: يا موسى وَ ما حقيقة مرسلك الذي تقول إنّه رَبُّ اَلْعالَمِينَ و ما كنه ذاته؟ فإنّ رسوله لا بدّ من معرفته بالذات، و لمّا لم يكن معرفة ذاته البسيطة من جميع الأجزاء العقلية و الخارجية ممكنا، أجابه موسى ببيان صفاته و آثاره و

قالَ: هو رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا من الموجودات و خالقها و مدبّرها، فاعرفوه بهذه الصفة إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنّ هذه الموجودات الممكنة لا بدّ أن يكون وجودها مستندا إلى واجب الوجود بالذات، و أقنعوا بهذا الجواب الذي هو أحسن الأجوبة عن سؤالكم.

و قيل: يعني إنّ كنتم موقنين بالأشياء محقّقين لها بالنظر الصحيح المؤدي إلى الإيقان، علمتم بأنّ العالم عبارة عمّا ذكرت و ربّه خالقه و مدبّره (2).

و لمّا لم يفهم فرعون جواب موسى عليه السّلام و مطابقته لسؤاله تعجّب منه و قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ و في مجلسه من الأشراف أَ لا تَسْتَمِعُونَ إلى هذا الجواب فإنّي أسأله عن حقيقة مرسله و جنسه، و هو يجيب بأفعاله و آثاره، و هذا عجيب من عقل هذا الرجل.

ثمّ لما كان مجال دعوى، قدّم السماوات و الأرض و عدم احتياجهما إلى الموجد و المؤثر، عدل موسى عليه السّلام عن الجواب الأول و قالَ رَبُّكُمْ و خالقكم و من المعلوم ان الشخص لا يكون خالق

ص: 516


1- . تفسير الرازي 24:126.
2- . تفسير روح البيان 6:269.

نفسه.

ثمّ لمّا كان فرعون مدّعيا أنه خالق أهل عصره دون الذين كانوا قبله عقبه بقوله: وَ رَبُّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ فانّ المستحقّ للربوبية هو الذي يكون ربا لجميع الأعصار،

فلمّا لم يفهم فرعون حقيقة الجواب قالَ لأهل مجلسه استهزاء بموسى عليه السّلام: إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث إنّه لا يفهم السؤال و لا يعرف الجواب

قالَ موسى عليه السّلام و هو غير معتن بكلامه السّفهي زيادة في تعريف الربّ هو رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ و مطلع الشمس و مغيبها وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات، و إنّكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ شيئا و تميّزون بين صحيح الكلام و سقيمه، علمتم أنّ حقّ الجواب عن سؤالكم ما قلت، و أنّه لا جواب عنه الا ما ذكرت إذ معرفة حقيقة الربّ غير معقولة حيث إنّها بسيطة لا جنس لها و لا فصل، فاذن لا يمكن تعريفها إلاّ بآثارها و أفعالها و عجائب صنعها، و من الواضح أنّ سير الشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به امور الخلق، لا يكون إلاّ بتدبير القدير الحكيم اللطيف الخبير، و لا تتوقّف الرسالة على معرفة ذات المرسل بكنهها، بل هي متوقّفه على معرفته بآثاره.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 29 الی 33

ثمّ لمّا عجز فرعون عن معارضة موسى بالحجّة، عدل إلى التهديد تمرّدا و طغيانا و قالَ: يا موسى، و عزّني لَئِنِ اِتَّخَذْتَ و اخترت إِلهَاً غَيْرِي و معبودا سواي لَأَجْعَلَنَّكَ البتّة مِنَ جملة اَلْمَسْجُونِينَ و في زمرة المحبوسين. قيل: كان يسجنهم في حفرة عميقة حتى يموتوا (1).

قالَ لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (33)

قالَ موسى عليه السّلام: اتفعل ذلك أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ و معجز مُبِينٍ و موضّح لصدق دعواي في الرسالة؟

قالَ فرعون: فَأْتِ بِهِ و أظهره لي إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى الرسالة و المعجزة.

قيل: كان في يد موسى عصاه، فقال لفرعون: ما هذه التي بيدي؟ قال فرعون: هذه عصا (2)فَأَلْقى موسى عَصاهُ من يده على الأرض فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ و حيّة عظيمة ظاهرة، لم يشكّ أحد

ص: 517


1- . تفسير أبي السعود 6:240، تفسير روح البيان 6:270.
2- . تفسير روح البيان 6:270.

في كونها حية.

قيل: إنّ فرعون التجأ إلى موسى من شدّة الرّعب، و قال: يا موسى أسألك بالذي أرسلك أن تأخذها فأخذها فعادت عصا (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «فالتقمت الإيوان بلحييها، فدعاه: أن يا موسى أقلني إلى غد» (2).

و القمي: فلم يبق أحد من جلساء فرعون إلاّ هرب، و دخل فرعون من الرّعب ما لم يملك [به] نفسه، فقال فرعون، أنشدك باللّه و بالرّضاع إلاّ ما كففتها عنّي، فكفّها فلمّا أخذ موسى عليه السّلام العصا رجعت إلى فرعون نفسه، و همّ بتصديقه، فقام إليه هامان، فقال له: بينا أنت تعبد إذ صرت تابعا لعبد (3).

وَ نَزَعَ و أخرج يَدَهُ من جيبه بعد إدخالها تحته فَإِذا هِيَ كالقمر بَيْضاءُ و ذات نور و بياض من غير برص لِلنّاظِرِينَ اليها.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 34 الی 39

روي أنّ فرعون لمّا رأى الآية الاولى قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده فقال: ما هذه (4)؟ قال فرعون: يدك فما فيها فادخلها في إبطه ثمّ نزعها و لها شعاع كاد يغشي الأربصار و يسدّ الافق (5)، فلمّا خاف فرعون أن يؤمن به خواصّه قالَ احتيالا في الصرف عنه، و تعمية لهم هذه الحجّة لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ و الأشراف الذين كانوا في مجلسه من القبط: إِنَّ هذا الرجل لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسّحر فائق على الناس فيه،

ثمّ قال تنفيرا لقلوبهم من موسى عليه السّلام: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ و مملكتكم هذه، و يقهركم على تبعيته بِسِحْرِهِ ثمّ قال تحبيبا لقلوبهم: فَما ذا تَأْمُرُونَ و تشيرون عليّ في أمره؟ و ترون رأيكم في دفعه حتى اتّبعكم و أنقاد لقولكم فحطّته معجزات موسى عليه السّلام عن الاستقلال بالرأي مع دعواه الربوبية إلى إظهار الطاعة لرأي عبيده،

فأجابه الملأ و قالُوا له: أَرْجِهْ و أخّر موسى وَ أَخاهُ و لا تعجل في أمرهما، و لا تبادر إلى قتلهما قبل أن يظهر كذبهما حتى لا يسيء ظنّ

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ اِبْعَثْ فِي اَلْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ اَلسَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَ قِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)

ص: 518


1- . تفسير روح البيان 6:271.
2- . مجمع البيان 7:395، تفسير الصافي 4:33.
3- . تفسير القمي 2:119، تفسير الصافي 4:33.
4- . في النسخة: هي.
5- . تفسير البيضاوي 2:154، تفسير أبي السعود 6:241، تفسير روح البيان 6:271.

الناس بك، فاذا ظهر كذبهما كنت معذورا فيما فعلت بهما من الحبس و القتل وَ اِبْعَثْ و ارسل الشّرط فِي اَلْمَدائِنِ قيل: يعني مدائن الصعيد في نواحي مصر (1)حال كونهم حاشِرِينَ و جامعين الناس حتى

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ في فنّ السحر يفضلون عليه فيه.

روي أنّ فرعون أراد قتل موسى، و لم يكن يصل إليه، فقالوا له: لا تفعل فانّك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهه، و لكن أرجه و أخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه، فلا تثبت له عليك حجّة، ثمّ أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يحشرون و يجمعون السّحرة ظنّا منهم بأنّهم إذا كثروا غلبوه و كشفوا حاله و عارضوا قوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم: بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ [فجاءوا بكلمة الإحاطة و بصيغة المبالغة]ليطيّبوا قلبه، و ليسكّنوا قلقه (2).

فبعث فرعون الشّرط إلى المدائن فَجُمِعَ اَلسَّحَرَةُ و هم اثنان و سبعون، أو سبعون ألفا، على اختلاف فيه في الإسكندرية على ما قيل (3)لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ و زمان معين لحضورهم، و هو وقت الضحى، و يوم معين و هو يوم الزينة.

وَ قِيلَ من قبل فرعون لِلنّاسِ من أهالي مصر و غيره ممّن يمكن حضوره: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ في مجمع موسى و السّحرة، و لتشاهدوا تعارضهم و تغالبهم؟ و إنما قالوا ذلك حثّا على مبادرتهم إليه.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ بيّنوا الغرض من الاجتماع بقولهم: لَعَلَّنا و رجاء منّا أن نَتَّبِعُ اَلسَّحَرَةَ في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ اَلْغالِبِينَ على موسى في السّحر.

لَعَلَّنا نَتَّبِعُ اَلسَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ اَلْغالِبِينَ (40) فَلَمّا جاءَ اَلسَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ اَلْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ (42)

فَلَمّا جاءَ اَلسَّحَرَةُ إلى باب فرعون، و أذن لهم في الدخول عليه، و استمال قلوبهم، و حثّهم على معارضة موسى قالُوا لِفِرْعَوْنَ يا فرعون أَ إِنَّ لَنا عندك لَأَجْراً جزيلا و جعلا عظيما من المال أو الجاه إِنْ كُنّا نَحْنُ اَلْغالِبِينَ على موسى؟

قالَ فرعون: نَعَمْ لكم عندي أجر عظيم من المال وَ إِنَّكُمْ مع ذلك إِذاً و حين غلبتموه لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ عندي.

قيل: وعدهم أن يكونوا أول من يدخل عليه و آخر من يخرج من عنده، و كان ذلك أعظم الشأن

ص: 519


1- . تفسير روح البيان 6:271.
2- . تفسير الرازي 24:132.
3- . تفسير روح البيان 6:272.

عندهم (1).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام: «بعث في المدائن حاشرين-يعني مدائن مصر كلّها-فجمعوا الف ساحر، و اختاروا من الألف مائة، و من المائة ثمانين، فقال السحرة لفرعون: قد علمت أنّه ليس في الدنيا أسحر منّا، فان غلبنا موسى فما يكون لنا عندك؟ قال: إنّكم لمن المقرّبين عندي، اشارككم في ملكي. قالوا: فإن غلبنا موسى و أبطل سحرنا، علمنا أنّ ما جاء به ليس من قبل السّحر، و لا من قبل الحيلة، و آمنّا به و صدّقناه. قال فرعون: إنّ غلبكم موسى صدّقته أنا أيضا معكم، و لكن اجمعوا كيدكم (2)، و كان موعدهم يوم عيد لهم، فلمّا ارتفع النهار جمع فرعون الخلق و السّحرة، و كانت له قبّة طولها في السماء ثمانون ذراعا، و قد كانت البست الحديد و الفولاذ المصقول، و كانت إذا وقعت الشمس عليها لم يقدر أحد أن ينظر إليها من لمع الحديد و هج الشمس، فجاء فرعون و هامان و قعدا عليها ينظران، و أقبل موسى ينظر إلى السماء، فقالت السّحرة لفرعون: إنّا نرى رجلا ينظر إلى السماء، و لم يبلغ سحرنا السماء» (3)الخبر.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 43 الی 50

و أحضروا حبالهم و عصيّهم و اصطفّوا في قبال موسى عليه السّلام، ثم قالوا تأدبّا و تعظيما له: يا موسى إما أن تلقي عصاك أولا، و إما أن نلقي حبالنا و عصينا، الأمر إليك. فلمّا تواضعوا له تواضع هو أيضا لهم و قدّمهم على نفسه و قالَ لَهُمْ مُوسى: بل أَلْقُوا و اطرحوا أولا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ و مطرحون، و افعلوا ما أنتم فاعلون، فانّي لا ابالي بكم و بصنيعكم، و هذا الأمر إذن لا إيجاب. و قيل: إنّه إيجاب لكونه طريقا إلى كشف الحقّ (4).

قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50)و قيل: إنّه إيجاب مشروط، و المعنى ألقوا إن كنتم محقّين، أو تهديد و المعنى إن ألقيتم فانّي آت بما

ص: 520


1- . تفسير روح البيان 6:273.
2- . زاد في تفسير القمي و الصافي: أي حيلتكم، قال.
3- . تفسير القمي 2:120، تفسير الصافي 4:35.
4- . تفسير الرازي 24:134.

يبطله (1).

فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ قيل: كان كلّ من الحبال و العصي سبعون ألفا (2)، وَ قالُوا غرورا باتيانهم بأقصى ما يمكن من السحر نقسم بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ و عظمته إِنّا لَنَحْنُ اَلْغالِبُونَ على موسى و هارون.

عن ابن عباس: قد كانت الحبال مطلية بالزّئبق و العصيّ مجوّفة مملوءة منه، فلمّا ألقوها حميت بحرّ الشمس، و اشتدّت حركتها، [فصارت]كأنّها حيّات تتحرّك من كلّ جانب من الأرض، فهاب موسى عليه السّلام ذلك (3)، فأوحى اللّه إليه أن ألق ما في يمينك

فَأَلْقى عند ذلك مُوسى عَصاهُ من يده باذن اللّه فَإِذا هِيَ ثعبان مبين تَلْقَفُ و تبلع بسرعة ما يَأْفِكُونَ و ما يظهرون على خلاف الواقع،

و ما يقلبونه بسحرهم عن صورته فيخيّلون في حبالهم و عصيّهم أنّها حيّات فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ على وجوههم ساجِدِينَ للّه تعظيما له أثر ما رأوا من بلع العصا جميع آلاتهم، لعلمهم بأنّه خارج عن حدّ السّحر، و أنّه معجزة عظيمة، و إنّما قال سبحانه (ألقى) تشبيها، لعدم تمالكهم للخرور للسجود بإلقاء غيرهم إياهم

و قالُوا عن صدق و خلوص: آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ ثمّ لمّا كان فرعون مدّعيا لربوبية العالمين فسّروه بقولهم:

رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ الذي أرسلهما بهذه المعجزة المعظّمة التي لا تشبه السّحر.

فلمّا رأى فرعون إيمان السّحرة بموسى الدالّ على صدقة قالَ للسحرة تلبيسا على أتباعه و إظهارا لبقائه على قدرته: يا قوم آمَنْتُمْ لَهُ. قيل: إنّ همزة الاستفهام التوبيخي محذوفة، و المعنى أ آمنتم بموسى قَبْلَ أَنْ تستأذنوا منّي (4)و آذَنَ لَكُمْ في الايمان به مع أنّكم عبيدي، و إنّما كانت هذه الجرأة عليّ و المسارعة في الايمان به لمواطاتكم معه و إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ و استاذكم اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فواضعكم على إهلاكي و تغليبه عليّ و إذهاب سلطاني قبل أن تأتوني و تجيئوا إلى هذا الموضع فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ جزاء عملكم، و عن قريب ترون و بال صنيعكم، ثمّ بيّن جزاءهم تفصيلا بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ من شقّ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ شقّ خِلافٍ آخر جزاء على مخالفتي وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ بعد القطع.

قيل: إنّه أول من قطع من خلاف و صلب. و قيل: كلمة (من) للتعليل، و المعنى لخلاف صار منكم (5).

ص: 521


1- . تفسير الرازي 24:134.
2- . تفسير روح البيان 6:273.
3- . تفسير الرازي 24:134.
4- . تفسير روح البيان 6:274، و 3:214.
5- . تفسير روح البيان 6:275.

فلما سمع السّحرة تهديده قالُوا مجيبين له: لا ضَيْرَ فيه علينا، و لا بأس به، فإنّا لا نبالي بالموت إِنّا إِلى رَبِّنا بعد الموت مُنْقَلِبُونَ و راجعون، و هذا أقصى منانا، لأنّه تعالى يكرمنا و يثيبنا أفضل الثواب على إيماننا بالصبر على ما أصابنا في مرضاته.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 51

ثمّ نبّهوا على أنّ الكفر و معارضة النبيّ من أعظم المصائب بقولهم: إِنّا نَطْمَعُ و نرجو أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا و معاصينا من الكفر و معارضة موسى و غير ذلك لأجل أَنْ كُنّا من بين الناس، أو الذين حضروا الموقف، أو اتّبعوا فرعون أَوَّلَ اَلْمُؤْمِنِينَ باللّه و بنبوة موسى عليه السّلام.

إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنّا أَوَّلَ اَلْمُؤْمِنِينَ (51)و عن الصادق عليه السّلام-في رواية-: «فألقى موسى عصاه، فذابت في الأرض مثل الرّصاص، ثمّ طلع رأسها، و فتحت فاها، و وضعت شدقها العليا على رأس قبة فرعون، ثمّ دارت و أرخت شفتها السّفلى و التقمت عصيّ السّحرة و حبالهم، و غلب كلّهم، و انهزم الناس اجمعون حين رأوها و عظمها و هولها بما لم تر العيون، و لا وصف الواصفون مثله، فقتل في الهزيمة من وطء الناس بعضهم بعضا عشرة آلاف رجل و امرأة و صبيّ، و دارت على قبّة فرعون، فأحدث هو و هامان في ثيابهما، و شاب رأسهما (1)من الفزع، و فر (2)موسى في الهزيمة مع الناس، فناداه اللّه عزّ و جلّ: خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا اَلْأُولى (3)فرجع موسى عليه السّلام و لفّ على يده عباءا كانت عليه، ثمّ أدخل يده في فيها فاذا هي عصاه (4)كما كانت، و كان كما قال اللّه عزّ و جلّ فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ ساجِدِينَ لما رأوا ذلك و قالُوا آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ فغضب فرعون غضبا شديدا و قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ يعني موسى اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ الآية فقالوا له كما حكى اللّه عزّ و جل لا ضَيْرَ الآيتان، فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتى أنزل اللّه عزّ و جلّ عليهم الطّوفان و الجراد و القمّل و الضّفادع و الدّم، فأطلق عنهم» (5).

و قيل: إنّ اللّعين قطع أيدي السّحرة و أرجلهم من خلاف، و صلبهم على شاطيء النيل، و كان موسى ينظر إليهم و يبكي، فأراه اللّه منازلهم في الآخرة، فسلّى قلبه (6).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 52 الی 59

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَ إِنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)

ص: 522


1- . زاد في تفسير القمي: و غشي عليهما.
2- . في تفسيري القمي و الصافي: مر.
3- . طه:20/21.
4- . في تفسيري القمي، و الصافي: عصا.
5- . تفسير القمي 2:120، تفسير الصافي 4:36.
6- . تفسير روح البيان 6:275.

فأقام موسى عليه السّلام بين أظهرهم سنين يظهر لهم الآيات، فلم يزيدوا إلاّ عتوّا و فسادا، فلمّا أراد اللّه تخليص موسى و قومه من أذى القبط و تمليكهم بلاد فرعون و قومه و أموالهم، بيّن تدبيره فيه بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد الغلبة الظاهرة على فرعون و قومه أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي المؤمنين بك من بني إسرائيل و أخرجهم من مصر لئلاّ يستأصلهم فرعون بالعذاب بغضا عليك إِنَّكُمْ بعد الخروج من مصر مُتَّبَعُونَ يتّبعكم فرعون و جنوده، فأخبر موسى عليه السّلام قومه بما أوحى اللّه إليه فقالوا للقبط: إنّ لنا عيدا في هذه الليلة، فاستعاروا منهم حلّيهم و حللهم، ثمّ خرجوا بتلك الأموال إلى جانب البحر

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع بخروجهم فِي اَلْمَدائِنِ و البلاد التي تحت سلطانه شرطا حاشِرِينَ و جامعين للعساكر،

و أمرهم أن يقولوا لأهل المدائن تضعيفا لبني اسرائيل: إِنَّ هؤُلاءِ القوم لَشِرْذِمَةٌ و عدّة قَلِيلُونَ.

عن ابن عباس: كانوا ستمائة ألف مقاتل، لا شابّ فيهم دون عشرين سنة، و لا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم، و فرعون يقلّلهم لكثرة من معه (1). و المقصود إظهار عدم مبالاته بهم و عدم احتمال غلبتهم.

و عن الصادق (2)عليه السّلام يقول: «عصبة قليلة» (3).

و قيل: اريد بالقلة الذلة، لا قلة العدد (4).

وَ إِنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (5) : على الفتنة، و محترزون عن الفساد على حسب عادتنا و حزمنا في الامور.

عن الصادق عليه السّلام: «خرج موسى عليه السّلام ببني إسرائيل ليقطع بهم البحر، و جمع فرعون أصحابه، و بعث في المدائن حاشرين، و حشر الناس، و قدّم مقدّمته في ستمائة ألف، و ركب هو في ألف ألف» (6).

روي أنّ فرعون ركب (7)على فرس (8)حصان كان في عسكره على لونه ثلاثمائة ألف (9)، فخرج كما

ص: 523


1- . تفسير الرازي 24:137.
2- . في تفسيري القمي و الصافي: الباقر.
3- . تفسير القمي 2:122، تفسير الصافي 4:37.
4- . تفسير الرازي 24:137.
5- . لم يتعرض المصنف لتفسير الآية (55. .
6- . تفسير القمي 2:121، تفسير الصافي 4:37.
7- . في تفسير الرازي: خرج.
8- . زاد في تفسير الرازي: أدهم. (9 و 4) . تفسير الرازي 24:137.

حكى اللّه بقوله:

فَأَخْرَجْناهُمْ بتدبيرنا من تهيئة أسباب الخروج لهم، و إيجاد الداعي فيهم مِنْ جَنّاتٍ و بساتينهم التي فيها كثير أنهار وَ عُيُونٍ و منابع ماء

وَ من كُنُوزٍ و أموال وفيرة لم ينفقوها في طاعة كما قيل (1)وَ من مَقامٍ كَرِيمٍ و منازل حسنة و مجالس بهيّة و الأمكنة التي كانوا يتنعّمون فيها،

و إنّما يكون الإخراج الذي هو من غضب اللّه كَذلِكَ الإخراج العجيب الهائل من جميع الأحوال و الأمكنة وَ أَوْرَثْناها و ملكناها بعدهم بَنِي إِسْرائِيلَ قيل: إنّهم رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر، و تصرّفوا [في]

أموال القبط (2). و قيل: إنّهم تصرفوا فيها (1)في زمن داود (2).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 60 الی 62

ثمّ بيّن كيفية إهلاك فرعون و قومه بقوله: فَأَتْبَعُوهُمْ و لحقوهم حال كونهم مُشْرِقِينَ و داخلين في وقت طلوع الشمس،

و قيل: يعني ذهبوا وراءهم من ناحية المشرق (3)فَلَمّا تَراءَا اَلْجَمْعانِ و تقارب كلّ من أصحاب فرعون أصحاب موسى من الآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى له يا موسى إِنّا و اللّه لَمُدْرَكُونَ و ملحقون و مأخوذون،

أو مهلكون حين لحوقهم بنا قالَ موسى تسلية و زجرا لهم عن هذا الوهم: كَلاّ لن يدركوكم أبدا، و كيف يدركونكم و إِنَّ مَعِي بالنّصرة و الحفظ رَبِّي و انه سَيَهْدِينِ و يدلّني البته إلى طريق النجاة منهم و كيفية إهلاكهم.

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمّا تَراءَا اَلْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)روي أنّ أصحاب فرعون لمّا قربوا من بني إسرائيل، خلق اللّه بخارا حال بين الفريقين بحيث لم ير أحد منهم الآخر، فقال فرعون لأصحابه: انزلوا و توقفوا حتى ترتفع الشمس و يزول البخار، فإنّه لا مفرّ لبني إسرائيل لأنّ أمامهم البحر، و نحن وراءهم (4).

و روي أنّ مؤمن آل فرعون كان عند موسى، فقال له: أين امرت، فهذا البحر أمامك و قد غشيك آل فرعون؟ ! فقال موسى: امرت بالبحر، و لعلي أؤمر بما أصنع (5).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 63 الی 68

فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ اَلْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (68)

ص: 524


1- . في النسخة: تصرّفوها.
2- . تفسير روح البيان 6:278.
3- . تفسير القرطبي 13:106، تفسير روح المعاني 19:84.
4- . تفسير الرازي 24:139.
5- . تفسير روح البيان 6:279.

ثمّ بيّن سبحانه طريق نجاته و نجاة أصحابه و إهلاك أعدائه بقوله: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى عند انتهائه و انتهاء أصحابه إلى بحر القلزم الذي كان بين اليمن و مكّة، أو إلى النّيل الذي كان بين أيلة و مصر أَنِ اِضْرِبْ يا موسى بِعَصاكَ اَلْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ البحر، و انشقّ الماء، و انفرق اثني عشر فرقا بعدد الأسباط فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ و قطعة ماء مجتمع بعضه فوق بعض كَالطَّوْدِ و الجبل المتطاول اَلْعَظِيمِ.

عن ابن عباس: لمّا انتهى موسى مع بني إسرائيل إلى البحر، أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلاّ يوشع بن نون، فانّه ضرب دابّته و خاض في البحر حتى عبر، ثمّ رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا، فقال موسى عليه السّلام للبحر: انفرق لى. فقال: ما امرت بذلك، و لا يعبر عليّ العصاة. قال موسى عليه السّلام: يا ربّ، قد أبى البحر أن ينفرق. فقيل له: اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفرق، فكان كلّ فرق كالطّود العظيم، أي كالجبل العظيم، و صار فيه اثنى عشر طريقا، لكلّ سبط منهم طريق، فقال كلّ سبط: قتل أصحابنا، فعند ذلك دعا موسى عليه السّلام ربّه، فجعلها مناظر كهيئة الطبقات، حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة (1).

روي أنّ جبرئيل عليه السّلام كان بين بني إسرائيل و بين آل فرعون، و كان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولّكم، و يستقبل القبط فيقول: رويدكم ليحلق آخركم (2).

و عن عبد اللّه بن سلام: لمّا انتهى موسى 7 إلى البحر، قال: «يا من كان قبل كلّ شيء، و المكّون لكل شيء، و الكائن بعد كلّ شيء، اجعل لنا فرجا و مخرجا» (1).

و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ألا أعلّمك الكلمات التي قالهنّ موسى حين انفلق البحر؟» قلت: بلى قال: «قل اللهمّ لك الحمد، و إليك المشتكى، و بك المستغاث، و أنت المستعان، و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه» (2).

قيل: لمّا انفلق البحر أرسل اللّه ريحا فجف بها قعر البحر، ثمّ دخل بنو إسرائيل في شعاب جبل الماء و مسالك البحر (3).

وَ أَزْلَفْنا و قرّبنا من بني إسرائيل ثَمَّ و في المكان الذي انفلق البحر، القوم اَلْآخَرِينَ و هم فرعون و جنوده حتى دخلوا على إثرهم مداخلهم. و قيل: يعني قرّبنا بعض قوم فرعون من بعضهم

ص: 525


1- . تفسير روح البيان 6:279.
2- . تفسير روح البيان 6:279.
3- . تفسير روح البيان 6:279.

حتى لا ينجو منهم أحد (1). و قيل: يعني قرّبناهم من الموت (2).

وَ أَنْجَيْنا من الغرق مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ من بني إسرائيل أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على هيئته إلى أن خرجوا إلى أن البرّ

ثُمَّ أَغْرَقْنَا فيه القوم اَلْآخَرِينَ المتّبعين لموسى باطباقه عليهم.

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا قرب موسى من البحر و قرب فرعون من موسى، قال أصحاب موسى: إنّا لمدركون» إلى أ، قال: «فدنا موسى عليه السّلام من البحر، فقال له انفرق (3). فقال البحر: استكبرت يا موسى عن (4)أن انفرق (5)لك و لم أعص اللّه عزّ و جلّ طرفة عين، و قد كان فيكم العاصي (6)؟ فقال له موسى عليه السّلام: فاحذر أن تعصي و قد علمت أن آدم اخرج من الجنة بمعصيته، و إنّما لعن إبليس بمعصيته. فقال البحر: ربّي عظيم مطاع أمره، و لا ينبغي لشيء أن يعصيه. فقام يوشع بن نون فقال لموسى يا نبي اللّه، ما أمر (7)ربّك؟ قال: بعبور البحر فأقحم يوشع فرسه في الماء، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى موسى: أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْبَحْرَ فانفق، فكان كلّ فرق كالطّود العظيم، أي كالجبل العظيم، فضرب له في البحر اثني عشر طريقا، فأخذ كلّ سبط منهم في طريق، فكان الماء قد ارتفع و بقيت الأرض يابسة، طلعت فيها الشمس فيبست، كما حكى اللّه عزّ و جلّ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (8)و دخل موسى عليه السّلام و أصحابه البحر» .

إلى أن قال: «فأخذ كل سبط في طريق، و كان الماء قد ارتفع على رؤوسهم مثل الجبال، ففزعت (9)الفرقة التي كانت مع موسى في طريقه، فقالوا: يا موسى، أين إخواننا؟ فقال لهم: معكم في البحر، فلم يصدّقوه، فأمر اللّه عزّ و جلّ البحر فصار طاقات، حتى كان ينظر بعضهم إلى بعض و يتحدّثون، و أقبل فرعون و جنوده، فلمّا انتهى إلى البحر قال لأصحابه: ألا تعلمون أنّي ربّكم الأعلى قد فرج لي البحر، فلم يجسر أحد أن يدخل البحر، و امتنعت الخيل منه لهول الماء، فتقدّم فرعون حتى جاء إلى ساحل البحر، فقال له منجّمه: لا تدخل البحر و عارضه، فلم يقبل منه، و أقبل على فرس حصان، فامتنع الحصان أن يدخل الماء، فعطف عليه جبرئيل، و هو على ماديانة (10)فتقدّمه و دخل، فنظر الفرس إلى الرمكة فطلبها، و دخل البحر، و اقتحم أصحابه خلفه، فلمّا دخلوا كلّهم-حتى كان آخر من دخل من

ص: 526


1- . تفسير الرازي 24:139.
2- . تفسير الرازي 24:140.
3- . في تفسير القمي: انفلق.
4- . (عن. ليست في تفسيري القمي و الصافي.
5- . في تفسير القمي: أن تقول لي انفلق.
6- . في تفسير القمي: المعاصي.
7- . في تفسيري القمي و الصافي: أمرك.
8- . طه:20/77.
9- . في تفسيري القمي و الصافي: فجزعت.
10- . الماديانة: لفظ أعجمي، يراد به الانثى من الخيل، و يقال له بالعربية: الرّمكة، و هي الفرس تتخذ للنتاج.

أصحابه و آخر من خرج من أصحاب موسى-أمر اللّه عزّ و جلّ الرياح فضربت البحر بعضه ببعض، فأقبل الماء يقع عليهم مثل الجبال، فقال فرعون عند ذلك: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ الخبر (1).

و عنه عليه السّلام «أنّ قوما ممّن آمن بموسى عليه السّلام قالوا: لو أتينا عسكر فرعون و كنّا فيه و نلنا من دنياه، فاذا كان الذي نرجوه من ظهور موسى عليه السّلام، صرنا إليه، ففعلوا فلمّا توجّه موسى عليه السّلام و من معه [إلى البحر] هاربين من فرعون، ركبوا دوابهم، و أسرعوا في السير ليلحقوا بموسى عليه السّلام و عسكره فيكونوا معهم، فبعث اللّه عزّ و جلّ ملكا فضرب وجوه دوابّهم، فردّهم إلى عسكر فرعون، فكانوا في من غرق مع فرعون (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من معاجز موسى عليه السّلام، و غلبته على فرعون، و إنجائه من الغرق و إهلاك أعدائه لَآيَةً ظاهرة و دلالة واضحة على وحدانية اللّه و كمال قدرته و حكمته، و عبرة عظيمة للمعتبرين ممّن شاهد الوقائع، و من جاء بعدهم إلى يوم القيامة و سمعوهان فيدخل فيهم قريش الذين سمعوها من النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي كان اميا لم يسمعها من أحد و لم يقرأها في كتاب، و لذا كان إخباره بها من الإخبار بالمغيبات، و من أظهر المعجزات، وَ مع ذلك ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.

و قيل: إنّ ضمير الجمع راجع إلى القبط، و ما آمن منهم إلاّ خربيل أو حزقيل مؤمن آل فرعون، و آسية زوجه فرعون، و مريم بنت موشا (3)التي دلّت على عظام يوسف حين خروج موسى من مصر (4).

و قيل: إنّه راجع إلى عموم المصريين (5)، أمّا القبط منهم، فلمّا ذكر، و أمّا بنو إسرائيل فلقولهم حين عبورهم على عبدة العجل: يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (4).

و قيل: راجع إلى قوم نبينا الذين سمعوا منه قصة موسى و فرعون، لعدم تدبّرهم فيها و اعتبارهم بها حتى يحذروا من أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم فرعون (5).

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب عى ما أراد من تعذيب المكذبين اَلرَّحِيمُ بهم حيث يمهلهم و لا يعجّل في عقوبتهم، أو بالمؤمنين. و في الآيتين تسلية للنبي حيث إنّه كان يغتّم قلبه الشريف بتكذيب قومه مع ظهور معجزاته، و عرّفه محنة موسى حتى يصبر كما صبر.

ص: 527


1- . تفسير القمي 2:121، تفسير الصافي 4:38، و الآية من سورة يونس:10/90.
2- . الكافي 5:109/13، تفسير الصافي 4:39.
3- . في تفسير أبي السعود: يا موشا، و في تفسير روح البيان: ناموشا. (4 و 5) . تفسير أبي السعود 6:246، تفسير روح البيان 6:280.
4- . الاعراف:7/138.
5- . تفسير روح البيان 6:280.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 69 الی 82

ثمّ اردف قصة إبراهيم بقصة موسى، ليعرف حبيبه أنّ حزن جدّه كان أشدّ من حزنه بقوله: وَ اُتْلُ يا محمّد عَلَيْهِمْ على مشركي قومك، و اقرأ من كتاب ربك نَبَأَ أبيهم إِبْراهِيمَ الذي يفتخرون بكونهم أولاده،

و يستظهرون بأنّهم من نسله إِذْ قالَ موعظة و إرشادا لِأَبِيهِ المجازي، و كان في الحقيقة عمّه الذي ربّاه، أو زوج امّه وَ قَوْمِهِ الذين بعث فيهم من الرجال، و الذين كانوا في بلدة بابل التي ينسب إليها السّحرة إنكارا عليهم عبادة الأصنام، أو سؤالا مع علمه بالمسؤول عنه توطئة لتنبيههم على ضلالهم: يا قوم ما تَعْبُدُونَ و أيّ شيء له تخضعون خضوع المخلوق لخالقه؟

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ اَلْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ اَلْعالَمِينَ (77) اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79) وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ اَلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ اَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ اَلدِّينِ (82)

قالُوا جوابا له: نَعْبُدُ أَصْناماً و تماثيل من الفلزات و الحجر و الخشب. قيل: إنّها كانت اثنين و سبعين (1)فَنَظَلُّ و نشتغل في نهارنا بالتعظيم لَها أو نداوم على عبادتها حال كوننا عاكِفِينَ و ملازمين لهذ الشّغل و مقبلين عليه.

عن ابن عباس: عاكفين مفتخرين بالأصنام (2). قيل: إنّ إبراهيم لمّا خرج من الغار و دخل مصر أراد أن يعلم دين أهله، فلمّا سمع جوابهم (3)

قالَ تنبيها على فساد مذهبهم: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ و يدركون دعاءكم و يستجيبون مسألتكم؟ إِذْ تَدْعُونَ و حين تسألون حوائجكم

أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ على عبادتكم لهم أَوْ يَضُرُّونَ كم إن تركتم عبادتها؟ فانّ العاقل لا يعمل عملا إلاّ لجلب المنفعة، أو دفع الضرر، فلمّا عجزوا عن إقامة البرهان على صحة عملهم و دفع اعتراض إبراهيم عليهم، تمسّكوا بالتقليد،

و قالُوا: لا ما رأينا منهم شيئا من السمع و النفع و الضر بَلْ وَجَدْنا آباءَنا و كبراءنا كَذلِكَ الفعل الذي نحن نفعل كانوا يَفْعَلُونَ و مثل هذه العبادة كانوا يعبدون،

و هم لمّا كانوا أعقل و أبصر منّا اقتديا بهم و قلدناهم في رأيهم و قالَ إبراهيم تقريرا لهم و تبرّئا من عملهم:

ص: 528


1- . تفسير روح البيان 6:281.
2- . تفسير الرازي 24:142، و لم ينسب إلى ابن عباس.
3- . تفسير روح البيان 6:281.

أَ فَرَأَيْتُمْ قيل: إنّ التقدير أنظرتم فأبصرتم، أو تأملتم فعلمتم (1)ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ اَلْأَقْدَمُونَ و كبراؤكم السابقون حقّ الإبصار، أو حقيقة العلم بأن الباطل لا يصير حقّا بكثرة قائليه و قدم عامليه،

لا و اللّه لم تنظروا و لم تقفوا على حال أصنامكم فَإِنَّهُمْ لكثرة ضررهم كأنّهم عَدُوٌّ لِي في الدنيا، أو في الآخرة بعد إحيائهم، أو عابدهم عدوّ لي، و فيه تعريض على كونه عدوّ لعبدتهم، و إظهارا لنصحهم بصورة نصح نفسه ليكون أقرب إلى القبول.

ثمّ نبّههم على حصر النفع في عبادة اللّه بقوله: إِلاّ رَبَّ اَلْعالَمِينَ و التقدير: أنّ جميع الآلهة الذين كانوا يعبدونهم عدوّ إلاّ رب العالمين فانّه كان في آبائهم من يعبده، أو التقدير: لا وليّ لي إلاّ ربّ العالمين.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكن ربّ العالمين وليي و حبيبي في الدنيا و الآخرة لا يزال يتفضّل عليّ بمنافعهما (2)التي يجب أن يكون المعبود واجدا لها، بقوله: اَلَّذِي خَلَقَنِي و أخرجني من كتم العدم إلى الوجود الذي هو أعظم النّعم فَهُوَ يَهْدِينِ و يرشدني إلى معرفته، و طريق تحصيل مرضاته، و صلاح الدارين من بدو الخلق إلى زهوق الرّوح، ممّا ينتظم به المعاش و المعاد، فانّه (3)يهدي في البدو إلى امتصاص دم الحيض، و عند الكمال إلى الحقّ، و في الآخرة إلى الجنّة.

و قيل: يعني خلقني لاقامة الحقّ، و يهديني إلى دعوة الخلق، أو خلقني للطاعة، و يهديني إلى الجنّة (4)، و إنّما اختلف الفعلان بالماضوية و المضارعية لتقدّم الخلق و استمرار الهداية.

وَ اَلَّذِي هُوَ وحده بعد الخلق يُطْعِمُنِي نعمه لتقوية أجزاء بدني وَ يَسْقِينِ الشراب لتربية أعضاء جسدي بخلق المطعوم و المشروب و التسليط عليهما، و إيجاد جميع مقدّمات الانتفاع بهما كالشهوة و قوّة المضغ و الابتلاع و الهضم و الدفع و غير ذلك،

و إنّما كرّر الموصول للدلالة على استقلال كلّ واحد من الصلات في استحقاق العبادة و إيجابها وَ إِذا مَرِضْتُ من التفريط في المطاعم و المشارب، و فساد الأخلاط، أو اقتضاء الحكمة فَهُوَ بلطفه يَشْفِينِ و يبرئني من المرض، و إنّما أضاف المرض إلى نفسه مع كونه من اللّه لرعاية الأدب، أو لكونه بصدد ذكر النّعم، و لا ينتقض بذكر الموت، فانّه نعمة من حيث إنّه سبب للتخلّص من آفات الدنيا و شدائدها، و الخلاص من المضيقة و قفص الجسد، و الدخول في فسحة عالم الآخرة، و النيل بالمحابّ التي تستحقر دونها

ص: 529


1- . تفسير أبي السعود 6:248، تفسير روح البيان 6:282.
2- . تفسير أبي السعود 6:248، تفسير روح البيان 6:82، و في النسخة: منافعه.
3- . في النسخة: فاية.
4- . مجمع البيان 7:303.

الدنيا و ما فيها، و ذلك لأهل الايمان و التوحيد.

و عن الصادق عليه السّلام: «و إذا مرضت بالعصيان فهو يشفيني بالتوبة» (1).

وَ اَلَّذِي يُمِيتُنِي و يقبض روحي بقدرته و حكمته ثُمَّ يُحْيِينِ للحساب و جزاء الأعمال و قيل: يعني يميتني بالخذلان أو الجهل، ثمّ يحييني بالتوفيق للطاعة، أو بالعقل و العلم (2)

وَ اَلَّذِي أَطْمَعُ و أرجو أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي و زّلاتي يَوْمَ اَلدِّينِ و الجزاء و عند الحساب، و في التعبير عن يقينه بالطمع تأدبّ و تعليم للعباد، كما أنّ التعبير عما يصدر منه من ترك الأولى بالخطيئة هضم للنفس، و حثّ للعباد على الحذر من المعاصي و طلب المغفرة.

و قيل: إنّ المراد خطايا امّته، أو امّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و إنّما علّق المغفرة بيوم الدين لظهور فائدتها فيه (3).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 83 الی 84

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد احتجاجه على قومه بتوصيف المستحق للعبادة بأوصاف فائقة مستلزمة للمعبودية بحيث لا يكون الفاقد لواحد منها قابلا (2)لها، سأل لنفسه أهمّ المطالب بقوله: رَبِّ هَبْ لِي و أعطني بكرمك حُكْماً و علما كاملا أستحقّ به خلافتك و رياسة خلقك، كما عن ابن عباس (3)، و هو المعرفة بحقائق الأشياء و رؤيتها كما هي. و قيل: إنّ الحكم قوة بيان كلّ ما يحتاج إليه الناس على مقتضى الحكمة (4)وَ أَلْحِقْنِي بتوفيقك للعمل بمرضاتك بِالصّالِحِينَ و الكاملين في الأخلاق و الأعمال و المنزّهين عن النقائص الحيوانية و الشهوات النفسانية، و اجعلني في زمرتهم، أو أجمع بيني و بينهم في الجنّة

وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ و حسن ذكر و جاه عظيم باق فِي اَلْآخِرِينَ و بين الناس إلى يوم الدين.

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ (83) وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ (84)قيل: إنّه عليه السّلام ابتدأ في دعائه بطلب الكمال الذاتي و هو العلم، ثمّ بالكمال الأخلاقي و هو الصلاح، ثمّ بالكمال الدنيوي الرّوحاني و هو الجاه و الذكر الجميل الباقي إلى آخر الدهر (5). و علّة طلبه أنّ النفوس البشرية إذا انصرفت هممهم إلى شخص واحد بالمدح و الثناء، أثّرت في ذلك الشخص كمالا زائدا على ما يكون له، و إنّ شهرة شخص بين الناس بسبب ماله من الفضائل و جريان مدحه

ص: 530


1- . تفسير روح البيان 6:285. (2 و 3) . تفسير روح البيان 6:285.
2- . يعني مستحقّا.
3- . تفسير الصافي 4:40، تفسير روح البيان 6:286، و لم ينسبه إلى ابن عباس، مجمع البيان 7:304، و فيه: إنه العلم.
4- . مجمع البيان 7:304.
5- . تفسير الرازي 24:149.

فيهم داعية لهم في اكتساب فضائله.

عن الصادق عليه السّلام: قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لسان الصدق للمرء يجعله اللّه في الناس خير له من المال الذي يأكله و يورثه» (1).

و قيل: إن المراد أن يجعل اللّه في ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى اللّه تعالى (2). و حاصل الدعاء: و اجعل صادقا من ذريّتي يجدّد (3)ديني، و يدعو إلى ما أدعو (4)إليه، و هو محمّد و أوصياؤه عليهم السّلام (5).

القمي قال: هو أمير المؤمنين عليه السّلام (6).

و قيل: إنّ المراد اتّفاق أهل الأديان على حبّه، فاستجيب دعاؤه، فانّه لا يرى أهل دين إلاّ و هم يثنون عليه و يوالونه (7).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 85 الی 87

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد طلب السعادة الدنيوية طلب السعادة الاخروية بقوله: وَ اِجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ فيها جميع اَلنَّعِيمِ في الآخرة، و من مستحقّيها كاستحقاق الوارث لمال مورثه.

وَ اِجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ اَلنَّعِيمِ (85) وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلضّالِّينَ (86) وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)

ثمّ لمّا وعد عليه السّلام آزر أن يستغفر له في السورة السابقة، وفى بوعده بقوله: وَ اِغْفِرْ يا رب لِأَبِي آزر إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلضّالِّينَ و المنحرفين عن صراط الحقّ و طريق الجنّة.

قيل: إنّ المراد بالمغفرة هدايته إلى الايمان (8).

و قيل: هي بمعناها، و لكن لمّا كانت مشروطة بالايمان كان طلبها مستلزما لطلبه (9).

و قيل: إنّ أباه وعده بالإيمان (10)، فدعا له بهذا الشرط (11). و قيل: إنّ أباه: قال له: إنا على دينك باطنا، و انما اظهر الشرك خوفا من نمرود، فدعا له بظّن أنّه مؤمن (12). و لذا قال: إنّه كان من الضالين، و ليس الآن منهم، فلمّا تبيّن له أنّه على كفره تبرأ منه.

ص: 531


1- . الكافي 2:123/19، تفسير الصافي 4:40.
2- . تفسير الرازي 24:149.
3- . زاد في تفسير الصافي: أصل.
4- . في تفسير الصافي: و يدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم.
5- . تفسير الصافي 4:40، و فيه: محمد و عليّ و الأئمة عليهم السّلام من ذرّيتهما.
6- . تفسير القمي 2:123، تفسير الصافي 4:41.
7- . تفسير الرازي 24:149.
8- . تفسير أبي السعود 6:250، تفسير روح البيان 6:286.
9- . تفسير روح البيان 6:286.
10- . في تفسير الرازي: الإسلام. (11 و 12) . تفسير الرازي 24:150.

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد سؤال العزّ الدنيوي لنفسه، سأل الاخروي منه بقوله: وَ لا تُخْزِنِي و لا تهنّي بحطّ درجتي في الجنّة عن درجة غيري، و بعتابي على ترك ما هو الأولى منّي، أو لا تفضحني بين الناس باظهاره، أو لا تخجلني عندهم يَوْمَ يُبْعَثُونَ من القبور إلى المحشر و يجتمعون فيه، و إنّما كان سؤاله هذا مع علمه بأنّ اللّه لا يخزي النبيّ لهضم النفس و إظهار العبودية و الحاجة و تعليم العباد و حثّهم على الاقتداء به.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 88 الی 91

ثمّ بيّن عظمة ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ أحدا في نجاته من أهواله، و إن صرفه في الدنيا في وجوه الخيرات وَ لا بَنُونَ نفسا في خلاصها من العذاب بالنصرة و الشفاعة

إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ فيه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ و بريء من العقائد الفاسدة و الأخلاق الرذيلة و الشهوات النفسانية، أو أمن فتنة المال و البنين، أو من حبّ الدنيا.

يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88) إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91)عن الصادق عليه السّلام: «هو القلب السليم من حبّ الدنيا» (1).

و عنه عليه السّلام: «صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم، لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات بتخليص النية للّه تعالى في الأمور كلّها» ثمّ تلا هذه الآية (2).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «القلب السليم الذي يلقى ربّه و ليس فيه أحد سواه» قال: «و كلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط، و إنّما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة» (3).

و قيل: إنّه انقطع كلام إبراهيم بقوله: يَوْمَ يُبْعَثُونَ و وصف اليوم من كلام اللّه ردّا على الكفار الذين قالوا: نحن أكثر أموالا و أولادا، فأخبر بأنّهما لا ينفعان من لا سلامة لقلبه في الدنيا، و أما من سلم قلبه فتنفعه خيراته و أولاده فاذا مات ابنه قبله يكون له ذخرا و أجرا، و أن تخلّف بعده فانّه يذكره بصالح دعائه و يتوقّع منه شفاعته (4).

و قال بعض العامة: القلب السليم من بغض أهل بيت النبي و أزواجه و أصحابه (5).

و قيل: إنّ القلب السليم هو القلب القلق المضطرب من خشية اللّه، كالذي لدغته الحية (6).

وَ أُزْلِفَتِ و قرّبت فيه اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ من موقفهم لينظروا إليها و يفرحوا بأنّهم يدخلونها

ص: 532


1- . مجمع البيان 7:305، تفسير الصافي 4:41.
2- . مصباح الشريعة:53، تفسير الصافي 4:41.
3- . الكافي 2:13/5، تفسير الصافي 4:41.
4- . تفسير روح البيان 6:287. (5 و 6) . تفسير روح البيان 6:288.

فيعجّل سرورهم

وَ بُرِّزَتِ و أظهرت اَلْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ و الضالين، و تجعل بمرآهم لينظروا إليها و يتحسّروا على أنّهم مساقون إليها فيعجّل عمههم.

عن الصادق عليه السّلام: «الغاوون [هم]الذين عرفوا الحقّ و عملوا بخلافه» (1).

قيل: يؤتى بالجحيم في سبعين ألف زمام، و في اختلاف الفعلين دلالة على ترجيح جانب الوعد، فانّ التبريز لا يستلزم التقريب، و في تقديم ذكر إزلاف الجنّة إشعار بسبق رحمته غضبه (2).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 92 الی 101

ثمّ حكى سبحانه تقريع المشركين بقوله: وَ قِيلَ لَهُمْ في ذلك اليوم من قبل اللّه تعالى تقريعا و توبيخا أيّها المشركون أَيْنَ ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه من الأصنام الذين تقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ اليوم بدفع العذاب عنكم أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم؟ فلما لم يكن للتقريع جواب، حكم بدخول الآلهة و عابديهم في النار

فَكُبْكِبُوا و القوا فِيها على الرؤوس منكوسين مرة بعد اخرى هُمْ وَ اَلْغاوُونَ و المعبودون و العابدون و

وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ من الشياطين الذين يزيّنون في قلوبهم عبادة الأصنام و المعاصي و يوسوسون إليهم أَجْمَعُونَ لا يشذّ منهم أحد، ليجتمعوا في العذاب كما كانوا يجتمعون في الضلال.

وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اَللّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ اَلْغاوُونَ (94) وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (98) وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)

ثمّ أنهم بعد اجتماعهم في جهنّم قالُوا لآلهتهم وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ و ينازعون مع آلهتهم بعد ما أحياهم و أنطقهم بقدرته:

تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن الحقّ

إِذْ نُسَوِّيكُمْ و نعدلكم بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ في استحقاق العبادة مع أنّكم أدنى خلقه و أذلّهم و أعجزهم

وَ ما أَضَلَّنا عن الهدى و دين الحقّ، و ما صرفنا عن التوحيد إلاّ كبراؤنا و رؤساؤنا اَلْمُجْرِمُونَ الطاغون حيث زيّنوا لنا عبادتكم و أمرونا بها

فَما لَنا اليوم أحد مِنْ شافِعِينَ فيشفعوا لنا (3)عند ربنا كما يشفع الملائكة و الأنبياء و الائمّة و الصديقين للمؤمنين

وَ لا من صَدِيقٍ و لا من

ص: 533


1- . عدة الداعي:76، بحار الأنوار 2:37/52.
2- . تفسير روح البيان 6:288.
3- . في النسخة: فيشفعونا.

حَمِيمٍ و خاصة مهتمّ بأمرنا أو رؤوف و شفيق كما يكون للمؤمنين، فإنّ بين أهل النار التعادي و التباغض.

و قيل: يعني ما لنا من شافعين و لا صديق من الأصنام الذين كنّا نحسبهم شفعاء، و من شياطين الإنس الذين نزعمهم أنّهم أصدقاء (1).

عن الصادق عليه السّلام: «الشافعون الأئمّة عليهم السّلام، و الصديق من المؤمنين» (2).

و القمي عنهما عليهما السّلام: «و اللّه لنشفعنّ في المذنبين من شيعتنا حتى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الشفاعة لمقبولة، و ما تقبل في الناصب، و إنّ المؤمن ليشفع لجاره و ماله حسنة، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في ثلاثين (4)، فعند ذلك يقول أهل النار فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ» (5).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ و صديقه في الجحيم، فيقول اللّه تعالى: أخرجوا له صديقه في (6)الجنة، فيقول: من بقي في النار: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» (7).

قيل: إن جمع الشافعين و توحيد الصديق لكثرة الأول و قلّة الثاني (8)، فانّ الصادق في المودة الذي هو المراد من الصديق أعزّ من الكبريت الأحمر، و قيل: إنّ الصديق يطلق على الجميع كالعدوّ (9).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 102 الی 104

ثمّ لما يئسوا من النجاة تمنّوا العود إلى الدنيا بقولهم: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً و رجعة إلى الدنيا، و يا ليت لنا عودة إليها فَنَكُونَ فيها مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ الذين تنالهم الشفاعة و تنفعهم الصداقة.

فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (104)و قيل: إنّ كلمة (لو) شرطية، و المعنى لو أنّ لنا الرجوع فنكون من المؤمنين لفعلنا كذا و كذا (10)، أو لنلنا بغاية آمالنا.

ص: 534


1- . تفسير الرازي 24:152.
2- . المحاسن:184/187، تفسير الصافي 4:43.
3- . تفسير القمي 2:123، تفسير الصافي 4:43.
4- . في الكافي و تفسير الصافي: ليشفع لثلاثين إنسانا.
5- . الكافي 8:101/72، تفسير الصافي 4:43.
6- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: إلى.
7- . مجمع البيان 7:305، تفسير الصافي 4:43.
8- . جوامع الجامع:330، تفسير البيضاوي 2:159، تفسير الرازي 24:152.
9- . تفسير البيضاوي 2:159، تفسير أبي السعود 6:253، و فيه: الجمع كالعدوّ.
10- . تفسير أبي السعود 6:253.

القمي قال: من المؤمنين، أي من المهتدين، لأنّ الايمان قد لزمهم بالإقرار (1).

ثمّ حكى سبحانه شدة قساوة قلوب أكثر امّة إبراهيم تسلية لحبيبه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من احتجاجات إبراهيم عليه السّلام و لجاج قومه لَآيَةً عظيمة و عظة نافعة لمن يتّعظ، و عبرة لمن يعتبر من قوم إبراهيم وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ به، كما لم يكن أكثر قومك مؤمنين بك.

روي أنّه لم يؤمن بابراهيم عليه السّلام من أهل بابل إلاّ لوط و بنت نمرود (2).

وَ إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد لَهُوَ اَلْعَزِيزُ و القادر على الانتقام و تعجيله، لكنّه اَلرَّحِيمُ بهم لإمهالهم كي يؤمنوا أو يلدوا مؤمنا.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 105 الی 113

ثمّ ثلّث سبحانه بقصة نوح و قومه التى كانت أعظم من القصّتين (3)السابقتين ازديادا لتسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا من ابتداء دعوته إلى انتهائها، و هم بتكذيبه كذّبوا الأنبياء اَلْمُرْسَلِينَ جميعهم، أو المراد أنّهم كذّبوا جميع المرسلين، و كان نوح عليه السّلام منهم

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ و واحد منهم معروف بينهم بالصدق و سلامة النفس و الشفقة عليهم اسمه نُوحٌ نصحا و عظة: يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه في ترك عبادته و الاشتغال بعبادة غيره،

و اعلموا إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من اللّه مبعوث فيكم لدعوتكم إلى توحيده و عبادته، و قد علمتم أنّي أَمِينٌ في جميع الامور، فعليكم أن تأمنوني على دينكم، و ما أخبر به عن ربّكم، و لا تتّهموني بالكذب و الخيانة في نصحكم

فَاتَّقُوا اَللّهَ في مخالفتي وَ أَطِيعُونِ في ما آمركم به من توحيده و عبادته

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و جعل إِنْ أَجْرِيَ و ما جعلني على تأدية الرسالة إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ لأن عملي له،

فيكون أجري عليه، فاذا علمتم عدم طمعي في أموالكم فَاتَّقُوا اَللّهَ في إنكار رسالتي

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ اَلْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (110) قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)

ص: 535


1- . تفسير القمي 2:123، تفسير الصافي 4:43.
2- . تفسير روح البيان 6:291.
3- . في النسخة: القضيتين.

وَ أَطِيعُونِ في أمري.

فلمّا سمع قومه دعوته قالُوا له إنكارا عليه: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ نتّبعك في قولك، و الحال أنّه اِتَّبَعَكَ الفقراء اَلْأَرْذَلُونَ و السّفلة الأدنون جاها و مالا و نسبا فإنّ إيمانهم لا يكون عن نظر و بصيرة لعدم رزانة عقلهم و متانة رأيهم، بل نظرهم إلى جلب المال و تحصيل الجاه، فهم في الباطن كافرون بك، لا ينبغي لنا أن نجعل أنفسنا في رديفهم.

قيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة (1). و قيل: إنّهم كانوا حجّاما (2). و عن ابن عباس: كانوا حائكين (1).

قالَ: نوح عليه السّلام في جوابهم: ما إحاطتي وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من إيمانهم الحقيقي بربي، و إقرارهم القلبي برسالتي، و مالي إطّلاع على خلوصهم في الايمان أو نفاقهم، و ليس عليّ التفتيش عن باطنهم و شقّ قلوبهم،

بل عليّ الاكتفاء و الاعتبار بظاهر إقرارهم إِنْ حِسابُهُمْ و مؤاخذتهم على بواطنهم و سرائرهم إِلاّ عَلى عهدة رَبِّي المطّلع على البواطن و السرائر، العالم بالخفيات، و أنتم لَوْ تَشْعُرُونَ و تدركون المطالب الواضحة لشعرتم صحّة قولي، و أدركتم صدق خبري، و لكنكم تجهلون و تقولون ما لا تعلمون.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 114 الی 122

ثمّ لمّا كان في قدح أتباعه إيهام توقّع طردهم عن مجالسه و إبعادهم عن حوله، قطع طمعهم هذا بقوله: وَ ما أَنَا بِطارِدِ هؤلاء اَلْمُؤْمِنِينَ و مبعدهم عن حولي و مجلسي، و لا يمكنني موافقتكم في ما تتوقّعون منّي من الاعراض عمّن أقبل على ربي،

لأنّه خلاف وظيفتي إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ و ما أنا إلاّ رسول مبعوث لتخويف الناس من العذاب على الكفر باللّه و عصيانه مُبِينٌ و متظاهر بالانذار، أو موضح لما ارسلت به سواء كانوا أعزاء أو أذلاء، أغنياء أو فقراء، بل وظيفتي تقريب من قبل قولي و دعوى رسالتي، و آمن بربي،

فلمّا عجزوا عن معارضته بالحجة أخذوا في تهديده و قالُوا لَئِنْ لَمْ

وَ ما أَنَا بِطارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ اَلْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (122)

ص: 536


1- . تفسير القرطبي 9:24.

تَنْتَهِ و لم تردع يا نُوحُ عن الدعوة إلى التوحيد و الايمان بك و الانذار و الوعظ لَتَكُونَنَّ البتة فيما بيننا مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ و المطرودين عن أرضنا، أو من المقتولين بالأحجار، لأنّه أقبح قتلة، أو من المشتومين.

عن الثّمالي: الرجم في جميع القرآن بمعنى القتل، إلاّ في سورة مريم في قوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ (1)فانّه بمعنى الشتم (2).

فعند ذلك يئس نوح عليه السّلام من إيمانهم، و اشتكى إلى ربّه و قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ و أصرّوا في ردّ قولي بعد ما دعوتهم ليلا و نهارا

فَافْتَحْ و احكم بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً بما يستحق كلّ منّا و منهم من الرحمة و العذاب وَ نَجِّنِي و خلّصني وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ من شرّ الكفّار و ممّا ينزل بهم من العذاب،

فاستجبنا دعاءه فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ من أهله و المؤمنين به بعد إرسال الماء من السماء و فورانه من الأرض بحملهم فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ و السفينة المملوءة بهم و بكلّ صنف من الحيوانات و الأمتعة و المأكولات.

عن الباقر عليه السّلام: «المشحون: المجهّز الذي قد فرغ منه و لم يبق إلاّ دفعه» (3).

ثُمَّ أَغْرَقْنا في الماء بَعْدُ اَلْباقِينَ من الناس ممّن لم يكن في السفينة

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الانجاء و الاغراق لَآيَةً و عظة و عبرة لمن بعدهم من الناس وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و رسله، فلا تحزن يا محمّد على عدم إيمان قومك، و اصبر على أذاهم كما صبر نوح عليه السّلام

وَ إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد لَهُوَ اَلْعَزِيزُ و القادر على الانتقام و تعجيله، و لكنّه اَلرَّحِيمُ بهم لإمهالهم كي يؤمنوا، أو يلدوا مؤمنا.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 123 الی 130

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيه صلّى اللّه عليه و آله بذكر قصة هود بقوله: كَذَّبَتْ قبيلة يقال لها عادٌ انتسابا على جدّهم الأعلى اَلْمُرْسَلِينَ كلّهم بتكذيبه إِذْ قالَ لَهُمْ عظة أَخُوهُمْ في النسب اسمه

كَذَّبَتْ عادٌ اَلْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (126) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (127) أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ (130)

ص: 537


1- . مريم:19/46.
2- . تفسير القرطبي 13:121.
3- . تفسير القمي 2:125، و فيه: إلاّ رفعه، تفسير الصافي 4:45.

هُودٌ و قيل: هو لقبه لوقاره و سكينته و اسمه عابر (1): يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه في كفركم و عصيانكم له

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من اللّه أَمِينٌ على وحيه، أو مشهور عندكم بالأمانة، فاذا سلّمتم ذلك

فَاتَّقُوا اَللّهَ و خافوا من عقابه على الكفر به و إنكار رسالتي وَ أَطِيعُونِ في ما آمركم به أداء للرسالة

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و لا أتوقّع منكم مثقال ذرّة من جعل إِنْ أَجْرِيَ و ما جعلي إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ لأنّ عملي لا يكون إلاّ له.

ثمّ نهاهم عن اللغو و العبث بقوله: أَ تَبْنُونَ يا قوم بِكُلِّ رِيعٍ و مكان مرتفع آيَةً و علامة تَعْبَثُونَ بها قيل: إنّهم كانوا يبنون في الأماكن الرفيعة (2)ليعرف غناهم تفاخرا (3). و قيل: إنّهم كانوا يبنون بها بروج الحمام (4).

و عن ابن عباس: أنّهم كانوا يبنون بكلّ ريع علما يعبثون فيه بمن يمرّ في الطريق إلى هود (5).

وَ تَتَّخِذُونَ لأنفسكم مَصانِعَ و حياضا من ماء، أو أمكنة شريفة، أو قصورا مشيدة، أو حصونا محصّنة لَعَلَّكُمْ و برجاء أنّكم تَخْلُدُونَ أو كأنّكم تدومون (6)في الدنيا و لا تموتون أبدا.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-قال: «كل بناء يبنى فانّه وبال على صاحبه يوم القيامة إلاّ ما لا بدّ منه» (7).

وَ إِذا بَطَشْتُمْ و تناولتم سيفا أو سوطا بصولة و قهر بَطَشْتُمْ و تناولتم بالقهر حال كونكم جَبّارِينَ ظالمين و قاتلين لمن تغضبون عليه بلا رأفة و رحمة و قصد تأديب و نظر في العاقبة.

و الحاصل أنّه عليه السّلام ذمّهم أولا: ببناء الأبنية الرفيعة بلا حاجة إليها، بل لإظهار التكبّر و الخيلاء، و ثانيا: بإحكام الأبنية الدالّ على طول الأمل و الغفلة عن أن الدنيا دار مجاز، و ثالثا: بالظّلم على الناس و قلّة الرأفة و الرحمة، و الجميع دالّ على استيلاء حبّ الدنيا عليهم حتى أخرجهم عن حدّ العبودية و ادخلهم في حدّ العتو و الطّغيان.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 131 الی 135

ثمّ بالغ هود في زجرهم عن حبّ الدنيا و دعائهم إلى الآخرة بقوله: فَاتَّقُوا اَللّهَ و خافوا عقابه على الانهماك في الشهوات، و اتركوا تلك الأعمال الشنيعة وَ أَطِيعُونِ في ما آمركم به من الإقبال

فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

ص: 538


1- . تفسير روح البيان 6:294.
2- . في تفسير الرازي: المرتفعة.
3- . تفسير الرازي 24:157.
4- . تفسير الرازي 24:157.
5- . تفسير الرازي 24:157.
6- . في النسخة: تديمون.
7- . مجمع البيان 7:310، تفسير الصافي 4:45.

على اللّه و الدار الآخرة و القيام بالعدل و الانصاف، و قصر الأمل فانّه النافع لكم.

ثمّ حثّهم على التقوى بتذكيرهم نعم ربّهم الموجب لإيقاظهم من سنة الغفلة، و رغبتهم إلى الايمان و قيامهم بالشكر بقوله: وَ اِتَّقُوا اللّه اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ و قوّاكم بِما تَعْلَمُونَ به من أنواع نعمه منها أنّه

أَمَدَّكُمْ و أعانكم و نظم امور معاشكم بِأَنْعامٍ كثيرة من الإبل و البقر و الغنم لتستفيدوا منها وَ بَنِينَ عديدة لتستعينوا بهم في الحوائج

وَ جَنّاتٍ و بساتين وَ عُيُونٍ غزيرة الماء تشربون منها، و تسقون بها أنعامكم و زروعكم و بساتينكم.

ثمّ هددهم على بقائهم على الكفر و العصيان مع إظهار الشّفقة عليهم بقوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن تدوموا (1)على الكفر و كفران النعم من أن ينزل اللّه عليكم عَذابَ الاستئصال في يَوْمٍ ذي هول عَظِيمٍ في الدنيا و الآخرة لعظم ما يحلّ فيه.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 136 الی 138

ثمّ أنّ القوم بعد إبلاغ هود عليه السّلام في نصحهم و وعظهم قالُوا في جوابه طغيانا و عتوا: يا هود سَواءٌ عَلَيْنا و لا يتفاوت في نظرنا أَ وَعَظْتَ و نصحتنا أَمْ سكتّ و لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْواعِظِينَ و الناصحين، فانّا لن نكترث بكلامك، و لن نعتن بقولك، و لن ننصرف عمّا نحن عليه بدعواك

إِنْ هذا الدعوى الذي تدّعي من الرسالة و التوحيد و التحذير من الشرك إِلاّ خُلُقُ جماعة من اَلْأَوَّلِينَ و دأب عدّة من السابقين، أو المراد ما هذا الذي نحن عليه من العقائد و الأعمال إلاّ عادة الأقوام السابقين و الامم الماضين، فانّهم كانوا على ديننا و ملتزمين بأعمالنا، و نحن مقتدون بهم، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة و الموت إلاّ عادة الناس من قديم الدهر جارية فينا نحيا كحياتهم، و نموت كموتهم، لا بعث و لا حساب

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على عقائدنا و أعمالنا، لا في الدنيا لعدم المقتضي للعذاب، و لا في الآخرة لعدم عالم آخر وراء هذا العالم.

قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ (137) وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 139 الی 145

فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (144) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (145)

ص: 539


1- . في النسخة: تديموا.

ثمّ حكى سبحانه إهلاكهم بتكذيب هود بقوله: فَكَذَّبُوهُ و أصرّوا على إنكار رسالته عنادا و لجاجا فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب تكذيبهم إيّاه بريح صرصر عاتية إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآيَةً و عبرة عظيمة وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ.

ثمّ ذكر سبحانه قصة صالح بقوله: كَذَّبَتْ قبيلة يقال لها ثَمُودُ لأنّهم أولاد ثمود بن عبيد بن عوص بن عاد كما قيل (1)اَلْمُرْسَلِينَ كلّهم إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ و واحد منهم يقال له صالِحٌ نصحا: يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه و لا تخافون عذابه على عبادة غيره؟

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل اللّه أَمِينٌ على وحيه، أو مشهور بينكم بالأمانة و الصدق، فاذا سلّمتم ذلك

فَاتَّقُوا اَللّهَ في مخالفتي وَ أَطِيعُونِ في ما أدعوكم إليه، فانّ وظيفتي الدعاء إلى التوحيد

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ و جعل إِنْ أَجْرِيَ و جعلي، و ما جزاء عملي إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 146 الی 154

ثمّ وبّخ قومه بطول الأمل و إنكار المعاد و كفران نعم اللّه بقوله: أَ تُتْرَكُونَ و هل تطمعون أن تبقوا (2)فِي ما هاهُنا من الديار و العقار و النّعم حال كونكم آمِنِينَ و محفوظين من الآفات و الموت و المجازاة على كفرانه؟ (3)لا يكون ذلك أبدا.

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (150) وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ (151) اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (154)

ثمّ فسر الموصول و فصّل النّعم بقوله: فِي جَنّاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار و الثّمار وَ عُيُونٍ و أنّهار أو آبار كثيرة الماء.

قيل: إنّهم لم يكن لهم أنهار جارية (4). و قيل: كانت لهم في الصيف لأنّهم كانوا يخرجون في الصيف إلى القصور و الكروم و الأنهار، و أما في الشتاء فلم يكن لهم إلاّ الآبار (5).

وَ زُرُوعٍ كثيرة من الحنطة و سائر الحبوبات النافعة وَ نَخْلٍ طَلْعُها و ما يخرج منها من غلاف

ص: 540


1- . تفسير روح البيان 6:297.
2- . في النسخة: تبقون.
3- . زاد في النسخة: بعده. (4 و 5) . تفسير روح البيان 6:297.

كنصل السيف فيه الشّمراخ الذي هو للنخيل كالعنقود للكرم هَضِيمٌ و داخل بعضها في بعض، أو متدلّ لثقل الحمل، أو لطيف و هو كناية عن لطافة ثمره، لأنّه كلّما لطف الثمر لطف طلعه، أو كناية عن كون النخل انثى لأنّ طلع الذّكر صلب غليظ، كذا قيل (1).

و قيل: إنّ الطّلع زهرة النخل (2)، و قيل: إنّه أطيب الرطب (3)، و إنّما خصّ النّخل بالذكر مع دخولها في البساتين للتنبيه على فضلها.

وَ تَنْحِتُونَ لسكونتكم مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً و مساكن حال كونكم فارِهِينَ و متنشّطين و طيبي القلوب بالنّحت، أو حاذقين فيه، فاذا علمتم أنّ اللّه هو الذي أنعم عليكم بتلك النّعم

فَاتَّقُوا اَللّهَ بترك الشّرك و طول الأمل وَ أَطِيعُونِ في أحكامي التي جئتكم بها من اللّه

وَ لا تُطِيعُوا و تتّبعوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ و المفرّطين في اتباع الشهوات، المتجاوزين عن الحدّ في حبّ اللذات، و هم

اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي هذه اَلْأَرْضِ التي تسكنونها باشاعة الكفر و العصيان و إضلال الناس و صدّهم عن الحقّ وَ لا يُصْلِحُونَ أمرا من الامور، و لا يصدر منهم شيء من الخير، بل كلّما يصدر منهم محض الشرّ و شرّ محض، فأجابه قومه و

قالُوا ردا عليه و تكذيبا له في دعواه الرسالة: يا صالح إِنَّما أَنْتَ أحد مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ و المغلوبين على عقولهم بكثرة سحر السحرة بهم لما نرى منك من كلمات لا يتفوّه بها عاقل، أو المراد إنّما أنت من الذين لهم بطون يأكلون و يشربون

ما أَنْتَ إذن إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا لا مزيّة لك علينا، و لو كنت ملكا لكنّا نقبل دعواك بلا آية و لا بيّنة، و لكن لمّا تحقّق أنّك بشر فَأْتِ بِآيَةٍ و حجّة واضحة الدلالة على صحّة دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ فيه و قد مرّ تفصيل اقتراحهم الناقة في الأعراف (4).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 155 الی 159

فلمّا خرجت الناقة من الصخرة، و بركت بين أيديهم قالَ صالح يا قوم هذِهِ الناقة التي ترونها ناقَةٌ اقترحتموها عليّ، و ليكن لَها شِرْبٌ و نصيب من الماء في يوم معين وَ لَكُمْ

قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (159)

ص: 541


1- . تفسير روح البيان 6:298.
2- . تفسير روح البيان 6:298.
3- . الكشاف 3/328، الدر المنثور 6/315.
4- . راجع تفسير الآية (73) و ما بعدها من سورة الأعراف.

شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لا تشرب هذه من نصيبكم،

و لا تشربوا أنتم من نصيبها وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ و لا تقصدوها بمكروه و إيذاء و ضرب و عقر و قتل فَيَأْخُذَكُمْ عند ذلك من قبل اللّه عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم ما يحلّ فيه

فَعَقَرُوها ببغيهم فَأَصْبَحُوا بعده نادِمِينَ عليه لما رأوا من آثار غضب اللّه عليهم

فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذابُ الموعود إجمالا، و هو صيحة جبرئيل عليه السّلام، فهلكوا جميعا بها إِنَّ فِي ذلِكَ الاهلاك لَآيَةً و عبرة عظيمة للناس وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ به، قيل: ما آمن به منهم إلاّ أربعة آلاف (1)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 160 الی 168

ثمّ ذكر سبحانه قصّة لوط بمبالغة في تسلية حبيبه بقوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ و صاحبهم لُوطٌ بن هادان نصحا لهم أَ لا تَتَّقُونَ و كيف لا تخافون عذاب اللّه على الشرك و العصيان

إِنِّي لَكُمْ من جانب اللّه رَسُولٌ أَمِينٌ على دينكم و دنياكم

فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ في ما ابلّغكم من اللّه

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ.

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (164) أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرانَ مِنَ اَلْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ اَلْقالِينَ (168)

ثمّ إنّه تعالى بعد إعلامهم برسالته و دعوتهم إلى التوحيد و طاعة اللّه و إظهار عدم طمعه في أموالهم، وبّخهم على عملهم الشنيع من وطئهم الرجال بقوله: أَ تَأْتُونَ يا قوم اَلذُّكْرانَ و تطؤونهم أنتم مِنَ أهل اَلْعالَمِينَ و لا يشارككم فيه غيركم، لكونه أقبح القبائح عند كلّ أحد، أو المراد أتاتون الذكور من أولاد آدم

وَ تَذَرُونَ و تدعون ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ و نسائكم، و لا تجامعونهن مع كونهنّ مخلوقات لاستمتاعكم بهنّ بأيّ نحو شئتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ و متجاوزون عن الحدّ في جميع المعاصي التي من جملتها هذا العمل الشنيع، أو المراد: بل أنتم قوم أحقّاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم هذه الفاحشة،

فأجابه قومه و قالُوا تهديدا له: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ و لم ترتدع يا لُوطُ عن تقبيح عملنا و الانكار علينا لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ من بلادنا

ص: 542


1- . تفسير روح البيان 6:300.

و المنفيين من ديارنا بأسوء حال

قالَ لوط: يا قوم إِنِّي أبغض المقام فيكم، و اتمنّى الخروج من بينكم، لأنّي لِعَمَلِكُمْ الشنيع من وطئ الرجال و نكاح الذكور مِنَ اَلْقالِينَ و المبغضين أشدّ البغض، فكيف ارتدع عن نهيكم عنه و إنكاره عليكم بسبب تهديدكم بإخراجي من بينكم، مع أنه غاية أملي؟

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 169 الی 175

ثمّ أعرض عنهم و تضرّع إلى ربّه في إخراجه من بينهم، و خلاص نفسه و أهله من شؤم عملهم بقوله: رَبِّ نَجِّنِي و خلّصني وَ أَهْلِي من سوء ما يَعْمَلُونَ من العمل الشنيع و عذابه بإخراجي من بينهم

فَنَجَّيْناهُ و خلّصناه وَ أَهْلَهُ و من تعلّق به أَجْمَعِينَ استجابة لدعائه

إِلاّ عَجُوزاً و امرأة مسنّة اسمها و الهة على ما قيل (1)، فانّها لكفرها و رضاها بعمل القوم بقيت فِي اَلْغابِرِينَ و الباقين في البلد و العذاب.

رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاّ عَجُوزاً فِي اَلْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ (172) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (175)روي أنّها خرجت مع لوط، فلمّا سمعت الرّجفة التفتت فأصابها حجر فهلكت (2). و قيل: إنّها بقيت في البلد و لم تخرج مع لوط (3).

ثُمَّ دَمَّرْنَا و أهلكنا أفظع الهلاك و أشدّه اَلْآخَرِينَ من قومه و أهل بلده حيث قلبت عليهم بلادهم و جعل عاليها سافلها

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً عجيبا هائلا و هو مطر الحجارة فَساءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ و القوم الذين خوّفوا من العذاب و لم يؤمنوا و لم يرتدعوا من أرتكاب الفاحشة.

قيل: إنّ الحاضرين في البلاد أهلكوا بانقلاب بلادهم، و المسافرون منهم اهلكوا بمطر الحجارة (4).

إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب المستأصل الذي على هؤلاء القوم لَآيَةً و عبرة عظيمة لمن بعدهم، و لمن بقي في الأرض من العصاة وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مع إبلاغ لوط في النّصح مُؤْمِنِينَ به قيل: ما آمن به إلا بنتيه و صهره (5)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ و القادر على تعذيب أعدائه و قهرهم لكنّه اَلرَّحِيمُ بهم لإمهالهم.

ص: 543


1- . تفسير روح البيان 6:302.
2- . تفسير روح البيان 6:302.
3- . تفسير روح البيان 6:302.
4- . تفسير روح البيان 6:302.
5- . تفسير روح البيان 6:302.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 176 الی 180

ثمّ حكى سبحانه كيفية دعوة شعيب، و امتناع قومه من الايمان به بقوله: كَذَّبَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ و أهل الغيظة التي كانت بقرب مدين اَلْمُرْسَلِينَ كلّهم بتكذيبهم شعيبا، أو كذّبوا جميع الرسل و منهم شعيب المبعوث لدعوتهم و دعوة أهل مدين

إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ نصحا و إنذارا: يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه و لا تخافون عقابه على الشرك و العصيان.

كَذَّبَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ اَلْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (180)فى حديث عامي: أنّ شعيبا أخا مدين أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة (1).

و روي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتفّ كان حملها المقل (2).

ثمّ قال: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من اللّه مبعوث لدعوتكم إلى التوحيد و إلى ما هو خير لكم في الدارين أَمِينٌ عنده على وحيه، و عندكم على دينكم و دنياكم، و قد عرفتموني أنّي [أدعوكم]

إلى الايمان لم أطلب إلاّ ما هو صلاح حالكم

فَاتَّقُوا اَللّهَ إذن وَ أَطِيعُونِ في ما آمركم به، فانّ أمري أمر اللّه، و طاعتي طاعته،

و اعلموا أنّ وظيفتي تبليغ أحكام ربّي وَ ما أَسْئَلُكُمْ و لا أطلب منكم عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و جعل إِنْ أَجْرِيَ و ما جعلي إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ و مالك السماوات و الأرضين، لأنّ عملي له.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 181 الی 183

ثمّ أنّه تعالى بعد الاعلان برسالته، و دعوتهم إلى طاعته، و اظهار عدم طمعه في دنياهم و أموالهم، شرع في بيان ما أمر بتبليغه من اللّه إليهم من الأحكام، و نهيهم عمّا تداول بينهم من أقبح الأعمال بقوله: أَوْفُوا للناس اَلْكَيْلَ و أتموه كاملا إذا استحقّوا منكم الكيل وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ و المنقصين لحقوقهم بتنقيص أكيالهم

وَ زِنُوا الموزونات من حقوقهم بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ و الميزان العدل السويّ. قيل: إنّ القسطاس روميّ معرّب (3).

أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)

ص: 544


1- . تفسير الرازي 24:163.
2- . تفسير الرازي 24:163، المقل: حمل الدّوم، و هو يشبه النخل.
3- . تفسير روح البيان 6:303.

ثمّ عمّم سبحانه النهي عن تنقيص الحقوق سواء أكانت مكيلة أو موزونة، أو معدودة أو غيرها بقوله:

وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ و لا تنقصوا أموالهم و حقوقهم، [سواء]

أكان الحقّ عينا كنقص العدد و الزرع، أو كيفية كدفع الرديء مكان الجيّد، أو سلطنة كمنع المالك عن التصرّف في ملكه بالغصب و السرقة، أو ذي الحقّ عن استيفاء حقّه، كمنع الزوجة زوجها عن التمتع بها، و امتناع الزوج من أداء حقوق زوجته وَ لا تَعْثَوْا و لا تعتدوا فِي اَلْأَرْضِ حال كونكم مُفْسِدِينَ كالقتل و الغارة، و قطع الطريق، و إهلاك الزرع، و إشاعة الكفر و العصيان. قيل: كان قومه يفعلون جميع ذلك (1).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 184 الی 186

ثمّ حثّهم على إطاعة تلك الأحكام بقوله: وَ اِتَّقُوا اللّه العظيم القادر اَلَّذِي خَلَقَكُمْ بقدرته وَ خلق اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ و الخلائق السابقين فرهّبهم عن العصيان بكمال قدرته، و رغّبهم في الطاعة ببيان أعظم نعمه من خلقهم و خلق أسلافهم الذين لولاهم لما خلقوا.

وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ (185) وَ ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ (186)

ثمّ أنهم بعد استماع البيانات التي لا تصدر إلاّ من أعقل الناس، نسبوه إلى الجنون و قالُوا: يا شعيب إِنَّما أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ و المجانين الذين سحرهم الساحرون مرة بعد اخرى حتى زال عقلهم و لذا تقول ما تقول.

ثمّ نفوا عنه قابلية الرسالة (2)بقولهم: وَ ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا و ليس لك فضل علينا، و الرسول لا بدّ أن يكون ملكا منزّها من شؤون البشرية ثمّ صرّحوا بتكذيبه الذي هو نتيجة المقدّمتين بقولهم: وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ في دعواك الرسالة.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 187 الی 191

ثمّ لمّا كان شعيب عليه السّلام يهددهم بالعذاب على تكذيبه و عدم الايمان به، رتّبوا على تكذيبه طلب نزول العذاب عليهم استهزاء بقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً و قطعة مِنَ اَلسَّماءِ و السّحاب إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعواك و وعيدك بالعذاب.

فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ اَلسَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (191)

ص: 545


1- . تفسير الرازي 24:163.
2- . يريد استحقاقه لها.

قيل: إنّما طلبوا العذاب لاستبعادهم وقوعه، و ظنّهم بأنّه إذا لم يقع ظهر كذبه (1).

فعند ذلك قالَ شعيب: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الإصرار على الكفر و التكذيب، فيعامل معكم بما تستحقّون،

فأمركم مفوّض إليه فَكَذَّبُوهُ بعد وضوح الحقّ و تمامية الحجّة كما كذّبوه من قبل فَأَخَذَهُمْ و شملهم عَذابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ حسبما اقترحوه.

روي أنّه حبس عنهم الريح سبعا، و سلّط عليهم الرمل، فأخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم الظل و الماء، فاضطرّوا إلى الخروج إلى البرّ، فاظلّتهم سحابة وجدوا لها بردا و نسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا (2)إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بعظم ما وقع فيه من العذاب.

روي أنّه عليه السّلام بعث إلى أصحاب مدين و أصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبرئيل عليه السّلام و أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلّة (3)إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب الهائل لَآيَةً و عبرة للنّاس وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ.

قيل: لم يؤمن من أصحاب الأيكة أحدا، و إنّما آمن به جمع من أهل مدين (4).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 192 الی 195

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر القصص التي كان الإخبار بها من النبيّ الامي من الإخبار بالمغيّبات، أعلن بكون القرآن نازلا منه بقوله: وَ إِنَّهُ بدلالة إعجاز البيان و الاشتمال على المغيبات و اللّه لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ لا اختلاق البشر نَزَلَ بِهِ بأمره جبرئيل الذي يقال له اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ على وحيه،

و تلاه عليك بحيث وعاه قلبك و حفظه كأنه نزل به أولا عَلى قَلْبِكَ ثمّ على ظاهرك.

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)و قيل: لمّا كان المخاطب في الحقيقة القلب لكونه محل التميّز و الاختبار و سائر الأعضاء مسخرة له (5)، يكون هو محلّ النزول في الحقيقة، فكأنّه قال: نزل عليك بحيث تفهمه حقّ الفهم لِتَكُونَ منذرا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ و رسولا من المرسلين الذين ارسلوا

بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى لقومهم، كهود و صالح و شعيب و إسماعيل، أو المراد نزل به على قلبك بلغة عربية حتى لا يقول قومك: لا نفهم كتابك.

عن أحدهما عليهما السّلام أنّه سئل عنه فقال: «يبين الألسن، و لا تبينه الالسن» (6).

ص: 546


1- . تفسير الرازي 24:164.
2- . تفسير الرازي 24:164.
3- . تفسير الرازي 24:164.
4- . تفسير روح البيان 6:305.
5- . تفسير الرازي 24:166.
6- . الكافي 2:462/20، تفسير الصافي 4:51.

و عن الصادق، عن أبيه عليهما السّلام قال: «ما أنزل اللّه تبارك و تعالى كتابا و لا وحيا إلاّ بالعربية، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم، و كان يقع في مسامع نبينا صلّى اللّه عليه و آله بالعربية، فاذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربية، فيقع في مسامعهم بلسانهم، و كان احد (1)لا يخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأيّ لسان خاطبه إلاّ وقع في مسامعه بالعربية كلّ ذلك يترجم جبرئيل عليه السّلام عنه تشريفا من اللّه عزّ و جلّ له» (2).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 196 الی 203

ثمّ استدلّ سبحانه على نزول القرآن منه بقوله: وَ إِنَّهُ بمعناه و أوصافه و علائمه لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ و كتب الأنبياء السابقين، فانّه تعالى أخبر فيها بنزوله على النبي المبعوث في آخر الزمان، أو المراد أنّ ذكر النبي كان في الكتب السابقة كما روي أنّ أهل مكة بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم عن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بعثته، فقالوا: إنّ هذا لزمانه، و إنّا نجد في التوراة نعته و صفته (3)،

فنزل أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً و دلالة على صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله و صحّة كتابه أَنْ يَعْلَمَهُ و يشهد بصدق نبوته أو كتابه عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه من أحبارهم.

وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ (196) أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)ثمّ بيّن سبحانه أنّ قريش مع كون القرآن نازلا بلسان عربي مقترنا بشواهد الصدق كفروا به بقوله:

وَ لَوْ نَزَّلْناهُ بهذه الفصاحة التي عجّزت العرب عن إتيان مثله عَلى بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ الجاهلين بلغة العرب

فَقَرَأَهُ ذلك الأعجمي عَلَيْهِمْ قراءة صحيحة خارقة للعادة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أيضا لفرط عنادهم و لجاجهم مع انضمام القراءة إلى إعجاز العبارة مع عدم احتمال كونه من تقوّلات الأعجميّ.

و قيل: إنّ المراد لو أنزلنا هذا القرآن بلسان العجم على رجل أعجمي فقرأه على قريش، لامتنعوا من الايمان به اعتذارا بعدم فهمه، فأنزلناه بلسانهم قطعا لعذرهم، و مع ذلك لا يؤمنون به (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «لو نزلنا (5)القرآن على العجم ما آمنت به العرب، و قد نزل على العرب فآمنت به

ص: 547


1- . في علل الشرائع: أحدنا.
2- . علل الشرائع:126/8، تفسير الصافي 4:51.
3- . تفسير روح البيان 6:307 و 308.
4- . تفسير أبي السعود 6:265.
5- . في تفسير القمي: انزل.

العجم» (1)و فيه دلالة على كمال عصبية العرب و فضيلة العجم عليهم بالانصاف.

و قيل: إنّ المعنى لو أنزلنا القرآن على بعض الحيوانات فقرأه ذلك الحيوان عليهم بلسان فصيح ما كانوا به مؤمنين (2).

و عن ابن مسعود: أنّه سئل عن هذه الآية فأشار إلى ناقته فقال: هذه من الأعجمين (3).

كَذلِكَ الإنزال بلسان عربي سَلَكْناهُ و أدخلناه بمعانيه و جهات إعجازه فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ المصرّين على الكفر،

و مع ذلك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عنادا و لجاجا و استكبارا حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ في الدنيا أو الآخرة، فإذا رأوه يؤمنون به إلجاء و اضطرارا، و لا ينفعهم ذلك الايمان، أو المراد كذلك الادخال و السلك للقرون بالتكذيب سلكناه و أدخلناه في قلوب المصرّين على الكفر، و لذا لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الملجئ لهم إلى الايمان

فَيَأْتِيَهُمْ ذلك العذاب بَغْتَةً و فجأه في الدنيا أو الآخرة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيانه

فَيَقُولُوا عند ذلك تحسّرا و تأسّفا على تفريطهم هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ و ممهلون حتى نتدارك ما فرّطنا في جنب اللّه، أو لنؤمن و نصدق.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 204 الی 207

ثمّ وبّخهم سبحانه على تعجيل العذاب الموعود استهزاء بقوله: أَ فَبِعَذابِنا و التقدير أيستمهلون عند نزول العذاب فبعذابنا في الحال يَسْتَعْجِلُونَ بقولهم: فاتنا بما تعدنا، و من المعلوم أنّ بين الاستعجال و الاستمهال غاية التنافي.

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207)

ثمّ نبّه سبحانه على عدم فائدة الاستمهال بعد نزول العذاب بقوله: أَ فَرَأَيْتَ أيّها العاقل، و أخبرني إِنْ مَتَّعْناهُمْ و نفعناهم بالحياة الدنيا و نعمها سِنِينَ متطاولة، أو سنين أعمارهم، أو من بدو الدنيا إلى آخرها

ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب

ما أَغْنى عَنْهُمْ و ما نفعهم شيئا ما كانُوا يُمَتَّعُونَ و ينتفعون به من العمر و النّعم في الدنيا في رفع العذاب و تخفيفه.

عن الصادق عليه السّلام قال: «اري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منامه بني امية يصعدون منبره من بعده، و يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيبا [حزينا]فهبط عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا رسول اللّه، مالي

ص: 548


1- . تفسير القمي 2:124، تفسير الصافي 4:51.
2- . مجمع البيان 7:320.
3- . مجمع البيان 7:320.

أراك كئيبا حزينا؟ قال: يا جبرئيل، إنّي رأيت بني امية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، و يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: و الذي بعثك بالحقّ نبيّا إنّ هذا شيء ما اطّلعت عليه، فعرج إلى السماء، فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها قال: أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ الآيات» (1).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 208 الی 212

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ عذابه لا يكون إلاّ بعد إتمام الحجّة بقوله: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ظالمة من القرى بالعذاب إِلاّ كان لَها مُنْذِرُونَ من النبيّ و المؤمنين من أتباعه،

و إنما كان إنذارهم لأجل أن يكون ذِكْرى و عظة لهم و إتماما للحجّة عليهم وَ ما كُنّا باهلاكهم في حال جهلهم و وجود العذر لهم ظالِمِينَ بهم، بل كان محض العدل.

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَ ما كُنّا ظالِمِينَ (209) وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّياطِينُ (210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ القرآن تنزيل ربّ العالمين لاشتماله على إعجاز البيان و الإخبار بالمغيبات من ذكر قصص الأنبياء كما هي في زبر الاولين مع كون النبي اميا، دفع قول القائلين بأنّه من إلقاءات الشياطين كسائر ما نزل على الكهنة بقوله: وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّياطِينُ و ما أتت به مردة الجنّ

وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ و ما يصحّ منهم إنزاله، مع اشتماله على المعارف و العلوم الحقّة الحقيقية الموجبة لإرشاد الخلق إلى الحقّ و جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية، مع أن شغلهم إضلال الخلق و جدّهم فيه وَ ما يَسْتَطِيعُونَ ذلك أصلا لأنّهم لا يمكنهم العلم بالحقائق و المغيبات إلاّ بالسّماع من الملائكة و

إِنَّهُمْ بالشهب عَنِ اَلسَّمْعِ من الملائكة لَمَعْزُولُونَ و ممنوعون، و لو كانوا غير معزولين عن السمع لنزلوا بمثله على الكهنة و الكفّار مع كمال ارتباطهم بهم و الموّدة بينهم، و لم ينزلوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي هو أعدى عدوّهم و هم أعدى عدّوه، لأنّه يلعنهم و يذّمهم دائما و يصرف الناس عن اتّباعهم.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 213 الی 214

فَلا تَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ (214)

ص: 549


1- . من لا يحضره الفقيه 2:101/453، الكافي 4:159/10، تفسير الصافي 4:52.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات كون القرآن العظيم نازلا من ربّ العالمين بتوسّط جبرئيل، دعا الناس إلى التوحيد المقصود من إنزاله بنهي نبيه عن الاشراك الدالّ على إرادة نهي امّته عنه بقوله: فَلا تَدْعُ و لا تعبد يا محمّد مَعَ اَللّهِ المنزل للقرآن إِلهاً آخَرَ و معبودا غيره فَتَكُونَ إذن مع كمال قربك من اللّه و محبوبيّتك عنده مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ بأشدّ العذاب، فكيف بغيرك؟ ثمّ بعد نهية عن الشرك و إنذاره و تحذيره عنه، أمره بإنذار أقاربه الأقرب فالأقرب بقوله:

وَ أَنْذِرْ و خوّف من عقاب اللّه على الشّرك و عصيانه عَشِيرَتَكَ و أرحامك اَلْأَقْرَبِينَ منهم فالأقربين، لأنّ الاهتمام بشأنهم أهمّ، فالبدأة بإنذارهم أولى، و لأنّ تأثير كلامه في الأجانب و الأبعدين بعد التشدّد على نفسه، ثمّ على الأقرب فالأقرب منه أشد.

روي أنّه لمّا نزلت [هذه]الآية صعد عليه السّلام الصّفا فنادى الأقرب فالأقرب، و قال: «يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مّناف، يا عباس عمّ محمّد، يا صفية عمّة محمّد، إنّي لا أملك لكم من اللّه شيئا، سلوني من المال ما شئتم» (1).

و في رواية قال: «افتدوا أنفسكم من النار، فانّي لا اغني عنكم من اللّه شيئا (2)، أطيعوني و اعترفوا بتوحيد اللّه و رسالتي تنجوا من العذاب، و سلوني من المال ما شئتم.

و في رواية: [أنه]جمع بني عبد المطلب و هم يومئذ أربعون رجلا على رجل شاة و قعب (3)من لبن، و كان الرجل منهم يأكل الجدعة و يشرب العسّ (4)، فأكلوا و شربوا ثمّ قال: «يا بني عبد المطلب، لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقي؟» قالوا: نعم. فقال: «إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» (5).

و روي عن البراء بن عازب (6)أنه لمّا نزلت الآية أرسل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى بني عبد المطلب، فجمعوا في دار عمّه أبي طالب، و كانوا أربعين رجلا، فأمر عليا عليه السّلام أن يطبخ لهم فخذ شاة و مدّا من حنطة فوضع الطعام عندهم، و أتاهم بصاع من لبن، و كان كلّ منهم يأكل جدعا (7)و يشرب عليه عسا من لبن، فلمّا رأوا الطعام الذي أحضره عليّ عليه السّلام عندهم ضحكوا و قالوا: هذا الطعام لا يكفي واحدا منّا! فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «كلوا بسم اللّه» فأكلوا منه عشرة عشرة حتّى شبعوا، فقال: «اشربوا بسم اللّه» فشربوا الصاع من اللبن حتى رووا جميعا، فلما رأوا ذلك المعجز قال أبو لهب: هذا ما سحركم به الرجل فسكت

ص: 550


1- . تفسير الرازي 24:172.
2- . تفسير روح البيان 6:311.
3- . القعب: القدح الضخم الغليظ.
4- . العس: القدح الكبير.
5- . تفسير الرازي 24:173.
6- . في النسخة: عن غارب.
7- . الجذع من الضأن: ما بلغ ثمانية أشهر أو تسعة.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقاموا و ذهبوا، ثمّ دعاهم في يوم آخر، و أحضر لهم مثل ذلك الطعام و الشراب، فأكلوا و شربوا، ثمّ قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: «يا بني عبد المطلب، إنّ اللّه بعثني إلى الخلق كافّة و إليكم خاصة فقال: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ و أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين على الميزان تملكون بهما العرب و العجم، و تنقاد لكم بهما الامم، و تدخلون بهما الجنّة، و تنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و إنّي رسول اللّه، فمن يجيبني إلى هذا الأمر، و يؤازرني إلى القيام به يكن أخي و وزيري و وارثي و خليفتي من بعدي؟» فما أجابه أحد إلاّ عليّ عليه السّلام فانّه قام و قال: «أنا اؤازرك على هذا الأمر» و هو أصغرهم سنا و أحمشهم (1)ساقا، و أمرضهم عينا، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: «اجلس؟»

ثمّ أعاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلامه، فلم يجبه أحد، فقام عليّ عليه السّلام و قال: «أنا أنصرك يا رسول اللّه» فقال: «أجلس يا علي، فانّك أخي و وصيّي و وزيري و وارثي و خليفتي من بعدي» فقام القوم و قالوا لأبي طالب استهزاء: «أطع ابنك فقد أمّر عليك» (2).

و روى العلامة رضى اللّه عنه في (نهج الحق) عن (مسند [أحمد بن]حنبل) : لمّا نزل وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ جمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أهل بيته ثلاثين رجلا، فأكلوا و شربوا [ثلاثا]ثمّ قال لهم: «من يضمن عنّي ديني و مواعيدي، و يكون خليفتي، و يكون معي في الجنّة» فقال عليّ عليه السّلام: «أنا» فقال: «أنت» .

قال رضى اللّه عنه: و رواه الثعلبي في (تفسيره) و زاد: يعيد ثلاث مرات في كلّ مرّة يسكت القوم غير عليّ عليه السّلام» (3).

و قال بعض المحقّقين: إنّ لفظ (ديني) بكسر الدال، لأنّه لم يكن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند وفاته دين (4).

و عن أبي رافع أنّه جمع النبي صلّى اللّه عليه و آله بني عبد المطّلب، و طبخ لهم فخذ شاة، فأكلوا منه و شبعوا كلّهم، ثمّ أعطاهم قدحا من اللّبن فشربوا، ثمّ قال: «إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، و أنتم عشيرتي و رهطي، و إنّ اللّه لم يبعث نبيا إلاّ جعل له من أهله أخا و وزيرا و وارثا و وصيا و خليفة في أهله، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي و وارثي و وزيري و وصيي، و يكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» ثمّ قال: «ليقومنّ قائمكم أو ليكوننّ من غيركم» فاعاد هذا الكلام ثلاثا، فقام عليّ عليه السّلام فبايعه، ثمّ قال: «ادن منّي يا علي» فدنا منه، ففتح فاه فبزق في فمه، و تفل بين كتفيه و بين يديه، فقال

ص: 551


1- . أي أدقّهم.
2- . مجمع البيان 7:322، الطرائف:20/13، تأويل الآيات 1:394/20، بحار الأنوار 38:144/111، و:251/46.
3- . مسند أحمد 1:111، كشف الحق:213/2، تاريخ الطبري 2:319، الكامل في التاريخ 2:63، معالم التنزيل 4: 278، شرح النهج 13:210، كنز العمال 13:131/36419.
4- . كشف المراد:396 «نحوه» .

أبو لهب بئس ما حبوت ابن عمّك أن أجابك فملأت فاه و وجهه بزاقا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ملأته حكمة و علما» (1).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 215 الی 220

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بانذار الأقربين من عشيرته أمره بحسن العشرة و التواضع لعموم أهل الايمان بقوله: وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ و ليّن جانبك و تواضع لِمَنِ اِتَّبَعَكَ و أطاع أوامرك مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بك.

وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ (217) اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (220)عن الصادق عليه السّلام قال: «قد أمر اللّه تعالى أعزّ خلقه و سيد بريّته محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالتواضع، فقال عزّ و جلّ وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و التواضع مزرعة الخشوع (2)و الخشية و الحياء، و إنّهن لا ينبتن إلاّ منها و فيها، و لا يسلم الشرف الحقيقي إلاّ للمتواضع في ذات اللّه تعالى» (3).

ثمّ أمر اللّه بالتبري من العصاة من المؤمنين بقوله: فَإِنْ عَصَوْكَ و خالفوا حكمك فَقُلْ لهم: إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ من المعاصي بلا خوف من كيدهم و ضررهم

وَ تَوَكَّلْ في جميع حالاتك عَلَى اللّه اَلْعَزِيزِ القادر القاهر لأعدائه اَلرَّحِيمِ بأوليائه المتوكّلين عليه بالنصر و التأييد، فينصرهم و يكفيهم شرّ كلّ ذي شرّ.

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بالعلم الكامل بأحواله بقوله: اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ بوظائف النبوة، أو للصلاة بالناس جماعة، أو للتهجّد، أو لأمر من الامور

وَ تَقَلُّبَكَ فِي تصفّح أحوال اَلسّاجِدِينَ و العابدين لتطّلع على أسرارهم.

قيل: لمّا نسخ فرض قيام الليل، طاف عليه السّلام تلك الليلة ببيوت أصحابه، لينظر على ما يبيتون (4)، لحرصه على طاعتهم، فوجدها كبيوت الزنابير، لما سمع منها من دندنتهم (5).

أو المراد نرى تصرّفك فيما بين المأمومين (6)بالركوع و السّجود، كما عن ابن عباس (7)، أو تقلّبك في المؤمنين المصلّين لكفاية امور الدين، أو تقلّبك في أصلاب آبائك المؤمنين، أو النبيّين، كما عن ابن

ص: 552


1- . مجمع البيان 7:323، تأويل الآيات 1:393/19، بحار الأنوار 37:271/41.
2- . زاد في مصباح الشريعة: و الخضوع.
3- . مصباح الشريعة:74، تفسير الصافي 4:54.
4- . في تفسير الرازي: لينظر ما يصنعون.
5- . تفسير الرازي 24:173.
6- . في مجمع البيان: و يرى تصرفك في المصلين.
7- . مجمع البيان 7:323.

عباس أيضا (1).

إِنَّهُ تعالى هُوَ اَلسَّمِيعُ لأذكارك و أقوالك اَلْعَلِيمُ بضمائرك و نياتك.

عن الباقر عليه السّلام: «الذي يراك حين تقوم في النبوة وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّاجِدِينَ قال: أصلاب النبيّين» (2).

و عنهما عليهما السّلام قالا: «في أصلاب النبيين نبيّ بعد نبيّ حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا ترفعوا قبلي-يعني رؤوسكم (4)-فإنّي أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي، ثمّ تلا هذه الآية» (5).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 221 الی 223

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم قدرة الشياطين على إنزال القرآن، بيّن أنّهم لا ينزلون على النبيّ الذي هو عدوّهم و مخالفهم، بل ينزلون على أوليائهم و أتباعهم بقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ و اخبركم أيّها المشركون عَلى مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّياطِينُ اعلموا أنّه

تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ و كذّاب أَثِيمٍ دائم العصيان،

فانّهم يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ إلى الشياطين فيتلقّون منهم ما يوحون إليهم، أو المراد أنّهم يلقون المسموع من الشياطين إلى النّاس وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ في ما يخبرون عن الشياطين، مفترون عليهم ما لم يوحوا إليهم و لم يسمعوا منهم، و امّا القليل منهم يكتفون بذكر ما سمعوا بلا زيادة عليه، و إن كانوا في سائر أخبارهم كاذبين.

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)و قيل: إنّ المراد بالقليل سطيح و شقّ و سواد بن قارب الذين كانوا يخبرون بالنبيّ و يصدّقونه (6)و يشهدون بنبوته، و يدعون الناس إليه (7).

و قيل: إنّ المراد من أكثرهم أكثر أقاويلهم لا أشخاصهم، فيطابق الأفّاكين (8).

و قيل: إنّ المراد من أكثرهم كلّهم (9).

ص: 553


1- . متشابه القرآن و مختلفه لابن شهر آشوب 2:64.
2- . تفسير القمي 2:125، تفسير الصافي 4:54.
3- . مجمع البيان 7:324، تفسير الصافي 4:54.
4- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: قبلي، و لا تضعوا قبلي.
5- . مجمع البيان 7:324، تفسير الصافي 4:54.
6- . في تفسير روح البيان: كانوا يلهجون بذكر رسول اللّه و تصديقه.
7- . تفسير روح البيان 6:314.
8- . تفسير روح البيان 6:314.
9- . تفسير روح البيان 6:314.

و حاصل المراد أنّ الأفّاكين يلقون آذانهم إلى الشياطين فيتلقّون منهم أوهاما لنقص عقولهم، فيضمّون إليها بحسب تخيّلاتهم الباطلة خرافات لا يطابق أكثرها الواقع، فأين حال هؤلاء من محمّد الصادق الذي لم يصدر منه كذب في ما أخبر به من المغيّبات و غيرها.

و قيل: إنّ المعنى أنّ الشياطين يلقون السمع إلى الملأ الأعلى فيختطفون من الملائكة بعض ما يتكلّمون به من المغيّبات، ثمّ يوحون به إلى أوليائهم، و أكثرهم كاذبون في ما يوحون به إليهم، لأنّهم لم يسمعوا من الملائكة جميع ما يوحون إلى أوليائهم (1).

أو المراد أنّهم يلقون السمع، أي المسموع من الملائكة إلى أوليائهم (2).

عن الباقر عليه السّلام: «ليس من يوم و لا ليلة إلاّ و جميع الجنّ و الشياطين تزور أئمّة الضلال و يزور عددهم من الملائكة أئمّة الهدى، حتى إذا أتت ليلة القدر، فيهبط فيها من الملائكة إلى وليّ الأمر عدد خلق اللّه، و قد قيّض اللّه عزّ و جلّ من الشياطين بعددهم، ثمّ زاروا وليّ الضلالة (1)فأتوه بالإفك و الكذب حتى يصبح ليلة (2)فيقول: رأيت كذا و كذا، فلو سأل وليّ الأمر عن ذلك لقال: رأيت شيطانا أخبرك بكذا و كذا حتى يفسّر له تفسيرا، و يعلّمه الضلالة التي هو عليها» (3).

و عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «هم سبعة: المغيرة، و بنان، و صائد، و حمزة بن عمارة البريري، و الحارث الشامي، و عبد اللّه بن الحارث، و أبو الخطاب» (4).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 224 الی 227

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الفرق بين الكاهن و النبي في جواب القائلين بنزول القرآن على محمّد صلّى اللّه عليه و آله بتوسّط الشياطين كنزول الكهانة على الكهنة، أجاب سبحانه القائلين بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله شاعر من الشعراء ببيان الفرق بين النبيّ و الشاعر بقوله: وَ اَلشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغاوُونَ و الضالّون، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله يتبعه الراشدون.

وَ اَلشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّهَ كَثِيراً وَ اِنْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)روي أنّ شعراء العرب (5)كابن الزّبعرى، و أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، و هبيرة بن أبي

ص: 554


1- . في النسخة: أئمة الضلال.
2- . في الكافي و تفسير الصافي: حتى لعله يصبح.
3- . الكافي 1:197/9، تفسير الصافي 4:55.
4- . الخصال:402/111، تفسير الصافي 4:55.
5- . في مجمع البيان و جوامع الجامع: المشركين.

وهب المخزومي، و مسافع بن عبد مناف الجمحي، و أبو عزّة عمرو (1)بن عبد اللّه، كلّموا امية ابن أبي الصلت الثقفي بكذب و بطلان (2)و قالوا: نحن نقول مثل ما قال محمّد، فقال الشعراء أشعارا في هجو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذمّ الاسلام، فاجتمع عليهم غواة قريش، و سمعوا أشعارهم و حفظوها، و كانوا ينشدونها فنزلت (3).

و قيل: إنّه كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شاعران تخاصما، فهجا كلّ منهما الآخر، كان أحدهما من الأنصار و الآخر من غيرهم، و كان مع كلّ منهما جمع يعاونوه فنزلت (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المراد بالشعراء الكفّار الذين هجوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنشدوا أشعارهم، فاتبعهم جمع من الكفّار حين ينشدونها» (5).

و عن ابن عباس: اريد بالشعراء الشياطين، فانّ العرب كانوا يقولون: الشعراء تبعة الشياطين (6).

و عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-: «هل رأيت شاعرا يتّبعه أحد؟ إنّما هم قوم تفقّهوا لغير اللّه فضلّوا و أضلّوا» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «هم قوم تعلّموا و تفقهوا بغير علم فضلّوا و أضلّوا» (8).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «هم القصّاص» (9).

و قيل: إنّ المراد بالشعراء في الآية الذين شغلهم الشعر عن القرآن و السنّة (10).

و قيل: إنّهم الذين إذا غضبوا شتموا، و إذا قالوا شعرا كان شعرهم الكذب و البهتان و مدح الناس بما ليس فيهم بقصد الصلة و الجائزة أو لحميّة الجاهلية» (11).

ثمّ بيّن سبحانه غاية غوايتهم بقوله: أَ لَمْ تَرَ أيّها العاقل أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ و مسلك في فنّ الكلام من المدح و الذّمّ و الجدل و الغزل و الحماسة و غيرها يَهِيمُونَ و يذهبون على وجوههم إلى سبيل غير معين كالمتحيّر، أو المراد أنّهم يتحيّرون في أودية المقال و الوهم و الخيال و الغي و الضّلال كالبهائم الضالة، حيث إنهم يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، و يعظّمونه بعد أن استحقروه و بالعكس.

القمي: يناظرون بالأباطيل، و يجادلون بحجج المضلّين (10)، و في كلّ مذهب يذهبون (11).

ص: 555


1- . في النسخة: أبو غرة عمر.
2- . في مجمع البيان: تكلموا بالكذب و الباطل.
3- . مجمع البيان 7:325، جوامع الجامع:334.
4- . الدر المنثور 6:333، تفسير روح المعاني 19:146.
5- . مجمع البيان 7:325 عن ابن عباس.
6- . تفسير أبي السعود 6:270، جوامع الجامع:334.
7- . معاني الأخبار:385/19، تفسير الصافي 4:55.
8- . مجمع البيان 7:325، تفسير الصافي 4:55.
9- . اعتقادات الصدوق:109، تفسير الصافي 4:55. (10 و 11) . مجمع البيان 7:325.
10- . في المصدر: بالحجج المضلة.
11- . تفسير القمي 2:125، تفسير الصافي 4:56.

وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ بأن يعظوا الناس و لا يتّعظون، و ينهون عن المنكر و هم لا ينتهون، و يرغبون الناس في الأخلاق الحميدة و لا يتخلّقون بها، و في الأعمال الخيرية و لا يعملون بها، بخلاف محمد صلّى اللّه عليه و آله فإنّه من أوّل أمره إلى آخره على طريقة واحدة، و هي الدعوة إلى اللّه، و الترغيب في الآخرة، و التزهيد عن الدنيا، و بدأ في جميع ذلك بنفسه حيث قال في كتابه: فَلا تَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ (1)ثمّ بالأقربين منه حيث قال: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ (2)و كلّ ذلك مخالف لطريقة الشعراء، فعلم أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس بشاعر.

و الحاصل أنّه لمّا نسب المشركون القرآن العظيم من حيث الإخبار بالمغيبات إلى الكهانة و قالوا: إنّما تنزّلت به الشياطين، و من حيث فصاحة الكلام و بلاغته إلى الشعر و قالوا: إنّ محمّدا شاعر، ردّ اللّه الخرافتين ببيان منافاة الكهانة و الشاعرية لحال الرسول العاقل الكامل الصادق التارك للهوى و الدنيا.

ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت الآيات الذامّة للشعراء قال حسان بن ثابت و ابن رواحة و جمع من شعراء الصحابة: يا رسول اللّه، إنّ اللّه يعلم أنّا شعراء، و نخاف أن نموت على هذه الصفة، و نحسب من أهل الغواية و الضّلالة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ المؤمن مجاهد بسيفه و لسانه» فنزلت (3).

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ التي منها مدح النبيّ و دين الاسلام و هجو الكفّار و نصرة الرسول وَ ذَكَرُوا اَللّهَ بأشعارهم ذكرا كَثِيراً بأن كانت في إثبات التوحيد، و بيان المعارف، و صفات النبي صلّى اللّه عليه و آله و مدحه و مدح المعصومين من آله و ترغيب الناس في الاسلام و زجرهم عن الكفر و العصيان، و التزهيد في الدنيا و الترغيب في الآخرة و الحكمة و الموعظة و نظائرها وَ اِنْتَصَرُوا و انتقموا من الكفّار بهجوهم مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا من قبلهم بالهجو و الإيذاء.

روي أنه لمّا هجا المشركون النبي صلّى اللّه عليه و آله قالت الصحابة: ما منع المؤمنين الذين ينصرون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بسيوفهم أن ينصروه بألسنتهم، فقال حسان و ابن رواحة: يا رسول اللّه، إنّا نكفيهم. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اهجوهم و روح القدس معكم» (4).

و في رواية قال صلّى اللّه عليه و آله لحسان: «اهج المشركين، فانّ جبرئيل معك» (5).

و في رواية عنه صلّى اللّه عليه و آله، أنه قال لحسان: «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من [رشق] النبل» (6).

ص: 556


1- . الشعراء:26/213.
2- . الشعراء:26/214.
3- . مجمع البيان 7:326، الدر المنثور 6:334، تفسير الصافي 4:57.
4- . مجمع البيان 7:326.
5- . تفسير روح البيان 6:317.
6- . تفسير الرازي 24:176.

و عن الشّعبي أنّه قال: كان أبو بكر يقول الشعر، و كان عمر يقول الشعر، و كان عثمان يقول الشعر، و كان عليّ أشعر الخلفاء (1).

ثمّ هدد اللّه الهاجين للرسول و المؤمنين بقوله: وَ سَيَعْلَمُ البتة الكفار اَلَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بهجو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، أو عليهم بهجوهم و إيذائهم أَيَّ مُنْقَلَبٍ و مرجع، أو أي رجوع بعد الموت يَنْقَلِبُونَ و يرجعون، و لا يخفى أنّ في هذا الإيهام تهويلا عظيما و دلالة على أنّ مكانهم في جهنّم أسوأ الأمكنة، و عذابهم فيها أشدّ العذاب.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ (2)الطواسين (3)في ليلة الجمعة، كان من أولياء اللّه و في جواره و كنفه (4)، و لم يصبه في الدنيا بؤس أبدا، و أعطي في الآخرة من [الأجر]الجنّة حتى يرضى و فوق الرضا (5)، و زوّجه اللّه مائة زوجة (6)من الحور العين» (7).

نسأل اللّه التوفيق لتلاوتها، و نشكره على التوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 557


1- . مجمع البيان 7:326، و فيه: أشعر من الثلاثة.
2- . زاد في ثواب الاعمال: سورة، و في تفسير الصافي: سور.
3- . زاد في مجمع البيان و تفسير الصافي: الثلاث، و في ثواب الأعمال: الثلاثة.
4- . زاد في مجمع البيان: و أسكنه اللّه في جنّة عدن وسط الجنّة مع النبيين و المرسلين و الوصيين الراشدين.
5- . في ثواب الأعمال و مجمع البيان و تفسير الصافي: رضاه.
6- . في مجمع البيان: حوراء.
7- . ثواب الأعمال:109، مجمع البيان 7:286، تفسير الصافي 4:57.

ص: 558

في تفسير سورة النمل

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 27 (النمل): آیه شماره 1 الی 3

لمّا ختم سبحانه سورة الشعراء بدفع نسبة الكهانة و الشعر عن القرآن العظيم، و مدح المؤمنين به، و تهديد الظالمين الهاجين له و للرسول و المؤمنين، أردفها في النّظم بسورة النمل المفتتحة و المختتمة بمدح القرآن و تعظيمه، و بيان فوائده المهمة و فضله، المتضمنة لكثير من المطالب التي تضمّنتها السورة السابقة من بيان كيفية بعثة موسى عليه السّلام و دعوته لفرعون، و إظهاره المعجزات الباهرات، و قصة صالح و لوط، و بيان التوحيد و المعاد و غيرها، فابتدأها بذكر أسمائه المباركة بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة من قوله: طس لما مرّ في بعض الطرائف من النّكت (1)و قيل: معناه الطاهر السنيّ، و أنا اللطيف السميع (2).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ اَلْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)عن الصادق عليه السّلام: «أنا الطالب السميع» (3).

و عن ابن عباس: أنّه اسم من أسماء اللّه أقسم به (4)على أن تِلْكَ السورة أو الآيات التي فيها آياتُ اَلْقُرْآنِ الذي بشّر به الأنبياء السابقون، و عرف بعظم القدر و علوّ الشأن وَ آيات كِتابٍ لا يشابهه كتاب مُبِينٍ و مظهر ما في تضاعيفه من المعارف و الحكم و الأحكام و العبر و بيان أحوال الآخرة، أو ظاهر إعجازه و صدقه لكلّ أحد.

ثمّ بالغ سبحانه في اتّصافه بكونه هاديا و مبشّرا بقوله: هُدىً بالبراهين إلى الحقّ و جميع الخيرات وَ بُشْرى برحمة اللّه و رضوانه لِلْمُؤْمِنِينَ به فانّهم المنتفعون بما فيه و هم

اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ حقّ الإقامة وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ الواجبة، و يؤتونها لمستحقّيها، و يصرفونها في

ص: 559


1- . راجع: الطرفة (18) من مقدمة المؤلف.
2- . تفسير الصافي 4:58، تفسير روح البيان 6:318.
3- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:58.
4- . مجمع البيان 7:288.

مصارفها وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و دار جزاء الأعمال هُمْ يُوقِنُونَ حقّ الإيقان، و لذا يجتهدون في الطاعات البدنية التي أهمّها الصلاة، و العبادات المالية التي أهمّها الزكاة رجاء الثواب و خوفا من العقاب، و إنّما أتى بضمير الجمع للاشارة إلى اختصاصهم بهذا اليقين و وصفهم بهذا الوصف لإخراج من يظهر الإيمان و يعمل تلك الأعمال مع الشكّ احتياطا.

و قيل: إنّ الجملة (1)اعتراضية، و المعنى أن المؤمنين العاملين هم الموقنون بالمعاد (2).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 4 الی 6

ثمّ أنّه تعالى لمّا خصّ البشرى بالمؤمنين الموقنين بالآخرة، ذمّ الكفّار و ذكر ما خصّ بهم من العذاب الشديد بقوله إِنَّ الكفّار اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ الحسنة ببيان كثرة ثوابها و ترغيبهم إليها، أو أعمالهم القبيحة بأن جعلناها مشتهاة لطباعهم محبوبة لأنفسهم، أو بأن سلبنا عنهم التوفيق للأعمال الخيرية الموجبة لسلطنة الشيطان عليهم، و ترغيبه لهم، و تزيينه الأعمال السيئة في نظرهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ عنها و لا يدركون ما يتبعها من الثواب على الوجه الأول، أو من العقاب على الوجه الثاني، أو المراد يتردّدون في الاشتغال بالقبائح و الانهماك فيها من غير ملاحظة لما يترتّب عليها من الضّرر و العقوبة.

إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذابِ وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ (5) وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

أُوْلئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذابِ و شديده في الدنيا، أو في الآخرة وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ و الأغبنون لتضييعهم العمر و العقل اللذين هما بمنزلة رأس المال، و تفويتهم المثوبات العظيمة، و تحصيلهم العقوبات الشديدة، فلا يعدلهم خاسر.

ثمّ أنّه تعالى بعد تعظيم القرآن و بيان فوائده و كثرة علومه، صرّح بكونه نازلا منه بقوله: وَ إِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى و لتعطى اَلْقُرْآنَ و تأخذه بتوسّط جبرئيل مِنْ لَدُنْ إله حَكِيمٍ أيّ حكيم و عَلِيمٍ أيّ عليم! فبحكمته بيّن فيه المعارف و الأحكام، و بعلمه ذكر فيه القصص و العبر الكثيرة.

قيل: إنّ هذا تمهيد لما يريد أن يسوق بعده من القصص، فكأنه تعالى قال: خذ من آثار حكمته و علمه قصّة موسى عليه السّلام المشتملة على العلوم النظرية من توحيده و قدرته و سائر صفاته الكمالية (3).

ص: 560


1- . في النسخة: الجملتين.
2- . تفسير الرازي 24:78، تفسير البيضاوي 2:170، تفسير روح البيان 6:319.
3- . تفسير الرازي 24:180.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ شرع سبحانه في بيان قصة موسى عليه السّلام بقوله: إِذْ قالَ و التقدير اذكر يا محمّد إذ قال. و قيل: إنّ كلمة (إذ) متعلّقة بعليم (1). و المعنى عليم بمقال موسى عليه السّلام إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ و زوجته بنت شعيب و أولاده حين رجوعه من مدين إلى مصر. و قد ضلّوا الطريق في الليلة المظلمة الباردة: يا أهلي، قفوا مكانكم إِنِّي آنَسْتُ و أبصرت من البعيد ناراً مشتعلة اريد أن أذهب إليها، و لا يخلو ذهابي من أحد الأمرين: إما سَآتِيكُمْ مِنْها و من الذين حولها بِخَبَرٍ عن حال الطريق أَوْ آتِيكُمْ منها بِشِهابٍ قَبَسٍ و شعلة مأخوذة من تلك النار، إن لم أجد عندها أحدا لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ و تدفعون بحرّها عن أنفسكم البرد، و إنما وعدهم بأحد الأمرين لقوّة رجائه بأنّه إن لم يظفر بكليهما يظفر بأحدهما، لأنّه لا يجمع اللّه بين الحرمانين على عبده.

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (8)قيل: لم يكن معه إلاّ زوجته، فكنّى سبحانه عنها بالأهل، ثمّ أتى بضمائر الجمع تبعا له (2).

و قيل: لمّا أقام زوجته عند جماعة كانوا هناك لتأنس بهم، خاطبهم بضمائر الجمع.

و على أي تقدير خلّف أهله و ذهب إلى النار فَلَمّا جاءَها و قرب منها رأى شجرة مخضرة عليها نار لا تحرقها و لا تحرق أوراقها، فعجب من ذلك ثمّ همّ أن يأخذ منها، فلمّا رفع عصاه إلى رأس الشجرة نزلت إلى أصلها، فلمّا أراد أن يأخذ من أصلها علت على الشجرة، فبقي متفكّرا في أمرها، فإذن نُودِيَ من الشجرة. و قيل له بصوت عال: أَنْ بُورِكَ و كثر خير مَنْ فِي البقعة المباركة التي هي مكان اَلنّارِ التي على الشجرة وَ مَنْ حَوْلَها من أراضي الشام التي هي مبعث أنبياء اللّه و محلّ أحيائهم و أمواتهم و مهبط الوحي إليهم (3).

عن ابن عباس: المعنى تبارك من في النور و هو اللّه، و من حولها يعني الملائكة (4).

أقول: لا بدّ من حمل كلامه على إرادة أنّ كلامه تعالى أو قدرته أو سلطانه أو عظمته في النّار، و قيل: إنّ المراد ممّن في النار، هو موسى عليه السّلام وحده (5). أو هو و جميع من كان في تلك البقعة، و من قوله

ص: 561


1- . تفسير البيضاوي 2:171.
2- . تفسير الرازي 24:181.
3- . تفسير أبي السعود 6:273 و 274، تفسير روح البيان 6:321.
4- . تفسير الرازي 24:182.
5- . تفسير الرازي 24:182، تفسير أبي السعود 6:374.

وَ مَنْ حَوْلَها كلّ من كان في أرض الشام (1).

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن الحاجة إلى المكان و العوارض الامكانية بقوله: وَ سُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ دفعا لتوهّم التشبيه من سماع كلامه، أو تعجيبا من عظمة ذلك الأمر.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 9 الی 11

ثم أعلم أنّ في ابتداء خطاب اللّه لموسى عليه السّلام عند مجيئه بشارة له بأنّه قد قضي له أمر عظيم تنتشر منه البركة في أرض الشام، و هو رسالته و ظهور معجزاته، و في تنزيه ذاته و توصيفه بالربوبية تمهيد مقدمة لصحّة رسالة موسى، و أنّها من شؤون ربوبيته للعوالم، و من جلائل الامور و عظائم الوقائع.

يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (9) وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ (10) إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)ثمّ أنّه روي أن موسى عليه السّلام لمّا سمع النداء قال: من المنادي؟ فناداه اللّه ثانيا بقوله: يا مُوسى إِنَّهُ الشأن أو المنادى أَنَا اَللّهُ ثمّ عرف نفسه بقوله: اَلْعَزِيزُ القويّ القادر على ما لا تناله الأوهام و العقول من خوارق العادات اَلْحَكِيمُ في فعاله.

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف ذاته بالوصفين تمهيدا لاظهار إرادة إيجاد المعجز على يديه قال له: وَ أَلْقِ من يدك عَصاكَ فألقاها بلا ريث فانقلبت حية عظيمة تسعى فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ و تتحرّك بسرعة كَأَنَّها جَانٌّ أو حية صغيرة في سرعة الحركة و الالتواء وَلّى منه مُدْبِراً و فرّ معقّبا وَ لَمْ يُعَقِّبْ و لم يرجع إليه بعد ما فرّ منه. قيل: كان عند فرعون ثعبان و في الطّور جان (2)، فنودي يا مُوسى ثق بي و لا تَخَفْ من غيري إِنِّي إله لا يَخافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ قيل: يعني حين نزول الوحي لاستغراقهم في مطالعة شؤون اللّه، فانّهم حينئذ لا يخطر ببالهم الخوف، و أما في سائر الاوقات هم أخوف الناس منه تعالى (3).

أو المراد أنه لا يكون لهم سوء العاقبة فيخافون منه (4)، و إنما يخاف غيرهم من الظالمين إِلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم نفسه بارتكاب عمل سوء و ترك الاولى ثُمَّ بَدَّلَ و صيّر عمله حُسْناً بالتوبة و التدارك بَعْدَ كونه عمل سُوءٍ و عصيان في حقّه، فانّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين فَإِنِّي بعد التوبة و التدارك غَفُورٌ للتائبين رَحِيمٌ بالمؤمنين.

ص: 562


1- . تفسير أبي السعود 6:374.
2- . تفسير أبي السعود 6:274، تفسير روح البيان 6:322. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 6:274، تفسير روح البيان 6:323.

و قيل: إن الاستثناء منقطع، و المعنى و لكن من ظلم نفسه من المرسلين بارتكاب ما هو ذنب بالنسبة إليه من الترك للأولى، كآدم الذي قال: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا (1)و داود، و سليمان، و موسى حيث قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي (2)و إنّما حسن هذا الاستثناء للتعريض بما وجد من موسى عليه السّلام من قتل القبطي بغير إذن من اللّه، أو للاعلان بسعة رحمته للمذنبين.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ أراه المعجزة الاخرى بقوله: وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ قيل: لم يقل في كمّك؛ لأنّه كان عليه جبّة صغيرة من صوف لا كمّ لها، كان يلبسها بدل القميص (3)، فامر بإدخال يده فيها، ثمّ كأنه قال: فان أدخلت يدك فيها تَخْرُجْ منها حال كونها بَيْضاءَ براقة لها شعاع كشعاع الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ و آفة فيها من برص و نحوه.

وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ (14)عن الصادق عليه السّلام قال: «من غير برص» (4).

فهذان الآيتان فِي جملة تِسْعِ آياتٍ التي أعطيكها، و قيل: إنّ كلمة (في) بمعنى (مع) (5)و المعنى: اذهب مع تسع آيات معهودة من العصا، و اليد البيضاء، و الجدب، و الطّوفان، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و الطّمس إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ القبطيين داعيا لهم إلى توحيدي و طاعتي إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ و خارجين عن الحدّ في الكفر و الطّغيان.

ثمّ بيّن سبحانه كثرة شقاوتهم بقوله: فَلَمّا جاءَتْهُمْ توسّط موسى عليه السّلام آياتُنا التسع حال كونها مُبْصِرَةً مستنيرة واضحة الدلالة مفرطة في الإنارة و وضوح الدلالة بحيث كادت أن تبصر نفسها لو كانت قابلة للإبصار قالُوا عنادا و شقاقا: هذا الذي جاء به موسى سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة لكلّ أحد

وَ جَحَدُوا بِها و أنكروا كونها آيات إلهية و معجزات باهرة بألسنتهم وَ الحال أنّه قد اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ و عرفوا إعجازها بقلوبهم، و إنما كان جحودهم بها

ص: 563


1- . الأعراف:7/23.
2- . تفسير روح البيان 6:323، و الآية من سورة القصص:28/16.
3- . تفسير روح البيان 6:324.
4- . معاني الأخبار:173/1، تفسير الصافي 4:59.
5- . مجمع البيان 7:332.

ظُلْماً على أنفسهم وَ عُلُوًّا و طلبا للرفعة بين الناس، أو استكبارا من الايمان بموسى عليه السّلام.

قيل: كان ظهور استيقانهم من استغاثتهم بموسى عليه السّلام عند نزول كلّ آية في كشفها فكشفها عنهم (1).

فَانْظُرْ يا نبي الرحمة، أو أيّها الناظر العاقل كَيْفَ كانَ و إلى ما صار عاقِبَةُ أمر اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض، و ما كان نتيجة إفسادهم، كان إغراقهم في الدنيا في الماء، و إحراقهم في الآخرة بالنار.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 15

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفضّله على موسى عليه السّلام بإعطائه الآيات التسع، و تخصيصه بمناجاته معه، ذكر تفضّله على داود و سليمان بالعلم بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً شريفا عزيزا لائقا بهما، و هي معرفة كاملة بربّهما و بحقائق الأشياء و بالأحكام الشرعية، فشكرا ذلك وَ قالاَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي فَضَّلَنا بما آتانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ الذين هم أفضل مخلوقاته.

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ (15)أقول: فيه دلالة واضحة على كون العلم أفضل الكمالات الدنيوية و الاخروية.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 16

ثمّ شرع سبحانه في بيان ما خصّ به سليمان من الفضائل و النّعم بقوله: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ أباه داوُدَ ماله و ملكه و نبوّته. و قال بعض مفسري العامة: المراد إرث المال (2). و عن بعضهم: إرث الملك و السياسة (3). و عن الحسن و كثير منهم: إرث المال و الملك، و هو مروي عن أهل البيت عليهم السّلام (2)، و لا يردّه الحديث الموضوع «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» كما زعمه الفخر الرازي (3)و غيره من العامة (4)، بل تردّ الآية الرواية المذكورة، لكونها مخالفة لكتاب اللّه، كما استدلّت فاطمة عليها السّلام على بطلان الرواية بهذه الآية و نظائرها (5). نعم يمكن إرادة المال و الملك و النبوّة كما فسرّناها أولا بطريق عموم المجاز.

وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ (16)

ص: 564


1- . تفسير روح البيان 6:324. (2 و 3) . تفسير الرازي 24:186.
2- . مجمع البيان 7:334.
3- . تفسير الرازي 24:186.
4- . تفسير القرطبي 13:164.
5- . راجع: بلاغات النساء:26، الطرائف:265، كشف الغمة 1:488، الاحتجاج:102.

و يؤيده ما روي عن الجواد عليه السّلام من أنّه قيل له: إنّهم يقولون في حداثة سنّك؟ فقال: «إنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان عليهما السّلام و هو صبي يرعى الغنم، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل و علمائهم، فأوحى اللّه إلى داود عليه السّلام أن خذ عصيّ المتكلّمين و عصا سليمان و اجعلها في بيت و اختم عليها بخواتيم القوم، فاذا كان من الغد فمن كانت عصاه قد أورقت و أثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود عليه السّلام فقالوا: قد رضينا و سلّمنا» الخبر (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني الملك و النبوّة» (2)و على أي تقدير جلس سليمان بعد أبيه على سرير الملك وَ قالَ تحديثا بنعمة اللّه و فضله عليه و دعوة إلى تصديق نبوته يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اعلموا أنّا عُلِّمْنا من قبل اللّه و الهمنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ و فهم مراداتهم من أصواتهم التي يصوّتون بها لتفهيم أغراضهم.

ثم بعد حديثه بنعمة علمه بمنطق الطير حدّث بعلمه لمنطق الحيوانات و سائر ما تفضل اللّه عليه بقوله: وَ أُوتِينا و اعطينا حظّا وافرا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كالملك و النبوّة و الكتاب و تسخير الرياح و الجنّ و الشياطين و منطق الدوابّ و عين القطر (3)و الصّفر و غير ذلك إِنَّ هذا المذكور من العلوم و النّعم لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ و العطاء الجسيم و المزيّة الظاهرة التي لا يشاركنا فيها أحد.

قيل: اعطي سليمان جميع ما اعطي داود، و زيد له تسخير الجنّ و الريح و منطق (4)الطير، و لمّا تولّى الملك جاءه جميع الحيوانات يهنّئونه إلاّ نملة واحدة، فجاءت تعزّية فعاتبها النمل في ذلك، فقالت: كيف اهنّئه و قد علمت أنّ اللّه إذا أحبّ عبدا زوى عنه الدنيا و حبّب إليه الآخرة، و قد شغل سليمان بأمر لا يدرى [ما]عاقبته، فهو بالتعزية أولى» (5).

عن الصادق عليه السّلام: «اعطي سليمان بن داود مع علمه معرفة المنطق بكلّ لسان (6)، و منطق الطير و البهائم و السّباع، و كان إذا شاهد الحروب تكلّم بالفارسية، و إذا قعد لعماله و جنوده و أهل مملكته تكلّم بالرومية، و إذا خلا بنسائه تكلّم بالسريانية و النبطية، و إذا قام في محرابه لمناجاة ربه تكلّم بالعربية، و إذا جلس للوفود و الخصماء تكلّم بالعبرانية» (7).

أقول: الحقّ أنه عليه السّلام كان يتكلّم مع أهل كلّ لسان بلسانهم، و إنّما أتى في كلامه بنون الواحد المطاع لقضاء صلاح الملك إظهار عظمته و نفوذ سلطانه.

ص: 565


1- . الكافي 1:314/3، تفسير الصافي 4:60.
2- . جوامع الجامع:335، تفسير الصافي 4:60.
3- . القطر: النحاس.
4- . في تفسير روح البيان: و فهم نطق.
5- . تفسير روح البيان 6:331.
6- . زاد في تفسيري القمي و الصافي: و معرفة اللغات.
7- . تفسير القمي 2:129، تفسير الصافي 4:60.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 17 الی 20

ثمّ حكى سبحانه عظمة ملكه بقوله: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ و جمع من أطراف مملكته عسكره مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ و احضروا عنده فَهُمْ يُوزَعُونَ و يكفّون عن الخروج عن طاعته و يحبسون عليها، أو يمنعون من تقدّم بعض على بعض ليكون سيره على ترتيب واحد، أو يوقفون في مكان واحد و يمنعون عن التفرّق.

وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ اَلنَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ اَلصّالِحِينَ (19) وَ تَفَقَّدَ اَلطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى اَلْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ اَلْغائِبِينَ (20)روي أنّ معسكره كان مائة فرسخ في مائه، خمسة و عشرون منه للإنس، و خمسة و عشرون للجنّ، و خمسة و عشرون للطير، و خمسة و عشرون للوحش، و قد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب و إبريسم فرسخا في فرسخ، و كان يوضع منبره في وسطه، و هو من الذهب فيقعد عليه، و حوله ستمائة ألف كرسيّ من ذهب و فضّة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، و العلماء على كراسي الفضة، و حولهم الناس، و حول الناس الجنّ و الشياطين، و تظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، و ترفع الريح (1)البساط فتسير به مسيرة شهر (2)،

فسار سليمان عليه السّلام و جنوده يوما على البساط حَتّى إِذا أَتَوْا و أشرفوا عَلى وادِ اَلنَّمْلِ أو بلغوا آخره. قيل: هو بالشام (3). و قيل: بالطائف كثير النّمل (4).

عن الصادق عليه السّلام: «أن للّه واديا ينبت الذهب و الفضّة، و قد حماه اللّه بأضعف خلقه و هو النمل، لو رامته البخاتي (3)ما قدرت عليه» (4).

ثمّ قيل: إنّهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي و منتهاه (5)، إذن قالَتْ نَمْلَةٌ حين ما رأتهم متوجّهين إليهم، قاصدين للنزول قريبا منهم: يا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لأجل أن لا يَحْطِمَنَّكُمْ و لا يقتلنّكم بأرجلهم سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ إذا نزلوا بواديكم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّهم

ص: 566


1- . في تفسير روح البيان: و ترفع ريح الصبا.
2- . تفسير روح البيان 6:332. (3 و 4) . تفسير روح البيان 6:333.
3- . زاد في تفسير القمي: من الإبل، و البخاتيّ، جمع بختي: و هي الإبل الخراسانية.
4- . تفسير القمي 2:126، تفسير الصافي 4:62.
5- . تفسير الرازي 24:187، تفسير روح البيان 6:333.

يحطمونكم. و قيل: يعني لا يحطمنّكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ (1).

قيل: إنّها كانت نملة عرجاء في عظم الدّيك، أو النّعجة، أو الذئب، لها جناحان، و كانت ملكة النّمل، و كان اسمها منذرة أو طاخية أو جرمي، سميّت بهذا الاسم في التوراة، أو الانجيل، أو في بعض الكتب السماوية (2)، سمّاها اللّه تعالى بهذا الاسم و عرفها به الأنبياء قبل سليمان (3).

روي أنّ سليمان يأمر الريح العاصف بحمله (4)، و يأمر الرّخاء بسيره (5)، فأوحى اللّه تعالى إليه و هو يسير بين السماء و الأرض: أنّي قد زدت في ملكك أن لا يتكلم بشيء إلاّ ألقته الريح في سمعك فألقت الريح كلام النّملة في سمع سليمان من ثلاثة أميال (6)فَتَبَسَّمَ سليمان حال كونه ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها متعجبا من حذرها و تحذيرها و اهتدائها إلى مصالح بني نوعها.

روي أنّه عليه السّلام لمّا سمع قول النملة قال: ائتوني بها، فأتوا بها، فقال لها: أما علمت أن جندي لا يظلمون؟ قالت: بلى، و لكن لمّا كنت أميرهم كان عليّ نصحهم. فقال سليمان: إنّ جندي كانوا يسيرون في الهواء، فكيف كانوا يحطمونكم؟ قالت: ما أردت حطمهم في الأرض، بل أردت أن لا ينظروا إلى سلطانك و حشمتك، فيشغلهم ذلك عن ذكر اللّه، فيحطمهم الخذلان فتقبل قلوبهم إلى الدنيا، و الدنيا مبغوضة عند اللّه. فقال سليمان: صدقت. فقالت: أعلمت لم سمّي أبوك داود؟ قال: لا قالت: لأنّه داوى جراحة قلبه بالودّ، و هل تدري لم سمّيت سليمان؟ قال: لا. قالت: لأنك سليم الصدر و القلب (7).

و عن الرضا عليه السّلام، أنّه قال: «قالت النملة: يا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ الآية، حملت الريح صوت النملة إلى سليمان عليه السّلام، و هو (8)[مارّ]في الهواء، و الريح قد حملته، فوقف و قال: عليّ بالنملة، فلمّا اتي بها قال سليمان: [يا]أيّتها النملة، أما علمت أنّي نبيّ اللّه، و أنّي لا أظلم أحدا؟ قالت النملة: بلى. قال سليمان عليه السّلام: فلم تحذرينهم ظلمي و قلت: يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم؟ قالت النملة: خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيعبدوا غير (9)اللّه عزّ و جلّ.

ثمّ قالت النملة: أنت أكبر أم أبوك داود؟ قال سليمان: [بل]أبي داود. قالت النملة: فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم ابيك؟ قال سليمان: ما لي بهذا علم. قالت النملة: لأنّ أباك

ص: 567


1- . جوامع الجامع:336.
2- . في تفسير روح البيان: الصحف الالهية.
3- . تفسير روح البيان 6:333.
4- . في تفسير روح البيان: تحمله.
5- . في تفسير روح البيان: تسيره.
6- . تفسير روح البيان 6:332.
7- . تفسير روح البيان 6:334.
8- . زاد في عيون أخبار الرضا عليه السّلام، و تفسير الصافي: مارّ.
9- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: فيبعدون عن ذكر.

داوي جرحه بودّ فسمّي داود، و أنت يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك.

ثمّ قالت النملة: هل تدري لم سخّرت لك الريح (1)؟ قال سليمان: ما لي بهذا علم، قالت النملة: يعني عزّ و جلّ بذلك لو سخرت لك [جميع المملكة كما سخرت لك]هذه الريح لكان زوالها من يدك كزوال الريح. فحينئذ تبسّم ضاحكا من قولها» (2).

و روى أنه عليه السّلام قال لها: كم عدد جندك؟ قالت: إن لي أربعين ألف أمير، تحت كلّ أمير أربعون ألف نقيب، تحت كلّ نقيب أربعون ألف نملة. قال: لم لم تسكني أنت و جندك فوق الأرض؟ قالت: اخترنا تحت الأرض لأن لا يطلّع على حالنا غير اللّه.

ثمّ قالت النملة: يا نبي اللّه أخبرني عن عطية من عطايا ربّك قال: إنّ اللّه سخّر لي الريح، فتحمل بساطي و تسير به إلى أي مكان اريد. قالت: أتدري حكمة ذلك؟ قال: لا. قالت: أراد اللّه أن ينبّهك بأن ملك الدنيا كالريح تجيء سريعا و تذهب سريعا، فمن اعتمد على الدنيا فكأنّما اعتمد على الريح، فعند ذلك ناجى سليمان ربه (3)وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي و أحبسني على أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من العلم و النبوّة و الملك و العدل و فهم منطق الطير و الحشرات و سائر الحيوانات و نحوها وَ عَلى والِدَيَّ داود و تيشائع بنت البائن (4)وَ على أَنْ أَعْمَلَ عملا صالِحاً و حسنا تَرْضاهُ و تقبله منّي إتماما للشكر و استدامة للنعمة وَ أَدْخِلْنِي الجنة بعد ما قبضتني إليك بِرَحْمَتِكَ و فضلك فِي زمرة عِبادِكَ اَلصّالِحِينَ.

عن ابن عباس: أراد من الصالحين إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و سائر الأنبياء (5).

و قيل: إن المعنى اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، و أكفه و أربطه بحيث لا ينفلت عنّي و لا أنفكّ عنه أصلا (6).

و في الحديث: «النعمة وحشية، قيّدوها بالشّكر» (7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفّروا أقصاها بقلّة الشكر» انتهى (8).

و إنّما شكر على النعم التي أنعم اللّه بها على والديه، لأنّ النعمة على الوالدين نعمة على الولد، فانّ

ص: 568


1- . زاد في عيون أخبار الرضا عليه السّلام و تفسير الصافي: من بين سائر المملكة.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:78/8، تفسير الصافي 4:62.
3- . تفسير روح البيان 6:334.
4- . في تفسير روح البيان 6: (335: بتشايع بنت اليائن.
5- . مجمع البيان 7:336.
6- . تفسير البيضاوي 2:173، تفسير أبي السعود 6:279، تفسير روح البيان 6:335. (7 و 8) . تفسير روح البيان 6:335.

شرافة الوالدين موجبة لشرافة الولد، لكونه فرعا للأصل الكريم، و أمّا النّعم التي أنعم اللّه بها على داود فهي النبوة، و الملك، و خلافة اللّه في الأرض، و تسبيح الجبال و الطير معه، و حسن الصوت، و إلانة الحديد في يده، و تعليمه صنعة اللبوس، و إنزال الزّبور عليه، و أمّا النعمة على والدته فهي تزويجها من داود بعد أن كانت زوج أوريا، و إسلامها، و تزكيتها، و طهارتها.

ثمّ قيل: إنّ سليمان كان إذا قعد على الكرسي جاءت جميع الطيور التي سخّرها اللّه له فتظلّ الكرسيّ و البساط و جميع من عليه من حرّ الشمس (1).

قيل: إنّه عليه السّلام قعد يوما على كرسيه، فوقع الشمس، في حجره، فرفع رأسه (2).

وَ تَفَقَّدَ اَلطَّيْرَ و تعرّف أحوالها و تصفحها، فلم ير الهدهد فيما بينها، و كان رئيس الهداهد على ما قيل (1)فَقالَ لحاضري مجلسه: ما لِيَ و أيّ حال عرض لي فصار (2)سببا لأن لا أَرَى اَلْهُدْهُدَ في مكانه؟ أساتر بيني و بينه يمنعني من رؤيته؟ أَمْ كانَ اليوم مِنَ جملة اَلْغائِبِينَ عن محضري؟

قيل: خرج سليمان عليه السّلام من مكة عند طلوع الشمس متوجّها إلى اليمن، و كان بينهما مسيرة شهر، فسار حتى أتى إلى واد كثير الأشجار حسن الهواء، فنزل لأن يتغدّى فيه، فجاء وقت الصلاة، فأراد أن يتوضّأ فلم يجد ماء، و كان الهدهد دليل الماء، فطلبه فلم يجده (3).

و عن العياشي أنه قال أبو حنيفة لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف تفقّد سليمان عليه السّلام الهدهد من بين الطير، قال: «لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم [الدهن]في القارورة» .

فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه فضحك. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما يضحكك؟» قال: ظفرت بك جعلت فداك. قال: «و كيف ذلك؟» قال: الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخّ في التّراب حتى يؤخذ بعنقه!

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا نعمان، أما علمت أنّ القدر إذا نزل عمي البصر» (4).

و قيل: إنّ سليمان عليه السّلام جلس على سريره في نواحي بيت المقدس، و اشتغل بامور المملكة و الدين، فقال هدهد في نفسه: إنّ سليمان مشغول عنّي، فأرتفع في الهواء ساعة لأنظر في فسحة الدنيا و طولها و عرضها، فطار في الهواء، فوقعت فرجة في مظلّة الطيور، فوقع شعاع الشمس على

ص: 569


1- . تفسير روح البيان 6:336.
2- . في النسخة: علي صار.
3- . تفسير أبي السعود 6:279، تفسير روح البيان 6:337.
4- . مجمع البيان 7:340، و فيه: أنه إذا نزل القدر اغشى البصر.

سليمان، فنظر إلى الطيور فرأى مكان الهدهد خاليا منه، فتفحّص عنه، و احتمل أن يكون عدم رؤيته إياه لتغييره مكانه، أو لعروض مانع عن رؤيته فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟

سوره 27 (النمل): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ [لمّا]

احتاط و بالغ في التفتيش و السؤال عنه، حتى علم أنه غائب، أضرب عمّا احتمل، و قال: بل كان من الغائبين، و غضب عليه، و قال: و اللّه لَأُعَذِّبَنَّهُ تأديبا و صلاحا لانتظام الملك عَذاباً شَدِيداً و هو نتف ريشه (1)و إلقاؤه في الشمس، كما عن بن عباس (2)، أو ألقاؤه حيث النمل فتأكله، أو طليه بالقطران و تشميسه، أو عزله من خدمته، أو إلزامه خدمة أقرانه، أو التفريق بينه و بين إلفه و زوجته، أو تزويجه من عجوز، أو جعله مع ضدّه في قفص (3)أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ لتعتبر به أبناء جنسه، و لئلاّ يكون له نسل أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة واضحة على عذره في غيبته.

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)و إنّما كان الحلف في الواقع على أحد الفعلين الأولين على تقدير عدم الثالث، و لكن لمّا كان مقتضيا لوقوع أحد الثلاثة جعل الثلاثة في الظاهر متعلّقا للحلف على سبيل المجاز، فحلف على أنّه لا بدّ من وقوع أحد الثلاثة.

حكي أنّه لما أرتفع الهدهد إلى الهواء رأى هدهدا آخر واقفا فانحطّ إليه في الهواء، و وصف له ملك سليمان و ما سخّر له من كلّ شيء، و وصف له صاحبه ملك بلقيس و اقتدارها، و أنّ تحت يدها اثني عشر ألف قائد، تحت يد كلّ قائد مائة ألف، فذهب معه لينظر، فما رجع إلاّ بعد العصر (4)

فَمَكَثَ سليمان و انتظره زمانا قريبا غَيْرَ بَعِيدٍ و أمدا غير مديد.

قيل: دعا سليمان عليه السّلام عريف الطير، و هو النسر، فسأله عن الهدهد فلم يجد علمه عنده، ثمّ قال لسيد الطير و هو العقاب: عليّ به، فارتفعت فنظرت، فاذا هو مقبل فقصدته، فناشدها اللّه تعالى و قال: بحقّ الذي قوّاك و أقدرك إلاّ رحمتني، فتركته و قالت: ثكلتك امّك، إنّ نبيّ اللّه حلف ليعذّبك، قال: أو ما استثنى؟ قالت: بلى. قال: أو ليأتيني بعذر مبين، فلمّا قرب من سليمان أرخى ذنبه و جناحيه يجرّهما على الأرض تواضعا له، فلمّا دنا منه أخذ عليه السّلام برأسه فمدّه إليه، فقال: يا نبي اللّه اذكر وقوفك بين يدي اللّه، فارتعد سليمان، ثمّ قال له: يا هدهد، كيف أنت إن نتفت ريشك و ألقيتك في حرّ

ص: 570


1- . في النسخة: شعره.
2- . تفسير الرازي 24:189. (3 و 4) . تفسير روح البيان 6:337.

الشمس؟ قال: أعلم أنّك لا تفعل ذلك، لأنّك نبي اللّه لا ترضى بذلك. قال: إن حبستك في قفص مع ضدّك؟ قال: أعلم أنك لا تفعل ذلك أيضا لأنّك كريم. إلى أن قال: قل ما أفعل بك؟ قال: العفو عنّي فانّه سجيّة الكرام، فعفا عنه (1).

ثمّ سأله عمّا جاء به فَقالَ أَحَطْتُ مع حقارتي و غاية ضعفي بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ و اطّلعت على ما لم تطّلع عليه مع سعة علمك و كمال قدرتك وَ جِئْتُكَ مِنْ بلد سَبَإٍ يقال له: مدينة مأرب، بينها و بين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام (2)بِنَبَإٍ يَقِينٍ و خبر خطير محقّق لا شكّ فيه.

عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ سبأ اسم أبي حيّ باليمن، و هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، كان له عشر بنين، ذهب ستّة منهم إلى اليمن، و سكنوا فيه، و هم: كندة و الأزد، و مذحج، و حمير، و أشعر، و أنمار. و كان خثعم و بجيلة من أنمار، و ذهب أربعة منهم إلى الشام، و هم: لخم و جذام و غسان و عاملة، فسمّي الحيّ باسم أبيهم (3).

و قيل: إنّ اسمه عبد شمس، و لقّب بسبأ لانّه أول من سبي (4).

و قيل: إنّه أول من تتوّج من ملوك اليمن (5)، و لعلّ إخفاء أمر مملكة سبأ على سليمان عليه السّلام مع قربها منه لمصلحة رآها اللّه تعالى فيه (4).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 23 الی 31

ثمّ بيّن الهدهد ما أحاط به بقوله: إِنِّي وَجَدْتُ حين ذهبت متفقّدا لما خفي من الامور قياما

إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاّ يَسْجُدُوا لِلّهِ اَلَّذِي يُخْرِجُ اَلْخَبْءَ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (25) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (27) اِذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (30) أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

ص: 571


1- . تفسير روح البيان 6:338.
2- . تفسير أبي السعود 6:280، تفسير روح البيان 6:338.
3- . تفسير روح البيان 6:338، و لم ينسبه إلى ابن عباس. (4 و 5) . تفسير روح البيان 6:338.
4- . تفسير روح البيان 6:339.

بخدمتك اِمْرَأَةً في مملكة سبأ و أهله تَمْلِكُهُمْ و تحكم عليهم، و تدبّر امورهم، و لها السلطنة عليهم، اسمها بلقيس بنت شرحبيل، أو شراحيل بن مالك بن ريان، من نسل يعرب بن قحطان، و كان أبوها ملك أرض اليمن كلّها، ورث الملك من أربعين أبا، و لم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك، و دانت لها الامّة (1)وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تحتاج إليه الملوك من الحشم، و الخيل، و العدد، و السياسة، و الهيبة، و الرأي، و المال، و النعم وَ لَها عَرْشٌ و سرير عَظِيمٌ بالنسبة إلى عروش غيرها من الملوك.

قيل: كان عرشها ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا عرضا، في ثمانين ذراعا ارتفاعا (2)، مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر، و الزّبرجد الأخضر، و مؤخرّه من فضة مكلّل بأنواع الجواهر، له أربع قوائم: قائمة من ياقوت أحمر، و قائمة من ياقوت أصفر (3)، و قائمة من زبرجد، و قائمة من درّ، و صفائح السرير من ذهب، و عليه سبعة أبيات، لكلّ بيت باب مغلق، و كان عليه من الفرش ما يليق به (4).

وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ و يعبدونها مِنْ دُونِ اَللّهِ و متجاوزين عن عبادته وَ زَيَّنَ و حسّن لَهُمُ اَلشَّيْطانُ بوسوسته و تسويله أَعْمالَهُمْ القبيحة التي منها عبادة الشمس فَصَدَّهُمْ و منعهم بسبب ذلك التزيين عَنِ سلوك اَلسَّبِيلِ المستقيم، و اختيار المذهب الحقّ، و هو توحيد اللّه و عبادته فَهُمْ بسبب ذلك الصدّ لا يَهْتَدُونَ إلى الحقّ، و لا يصلون إلى خير أبدا لا في الدنيا و لا في الآخرة.

ثمّ أن الهدهد أظهر معارفة التي اقتبسها من سليمان عليه السّلام إظهارا لتصلّبه في التوحيد، و توجيها لقلب سليمان نحو قبول قوله، و صرفا لعزيمته إلى تسخير مملكة بلقيس بقوله: أَلاّ و هلا (5)يَسْجُدُوا لِلّهِ.

و قيل: إنّ المراد أن تزيين الشيطان عبادة الشمس (6)، لأجل أن يعبدوا اللّه المتفرّد باستحقاق العبادة، حيث إنّه القادر اَلَّذِي بقدرته يُخْرِجُ اَلْخَبْءَ و يظهر المدّخر المستور فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الكواكب و الأمطار و الأرزاق و النباتات و غيرها وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ من العقائد

ص: 572


1- . تفسير أبي السعود 6:281، تفسير روح البيان 6:339.
2- . في تفسير روح البيان: ذراعا و طوله في الهواء ثمانين ذراعا.
3- . في تفسير روح البيان: اخضر.
4- . تفسير روح البيان 6:339.
5- . بل إن إعراب (ألاّ يسجدوا) هنا مفعول له للصدّ على حذف اللام منه، أي فصدّهم لئلا يسجدوا. راجع: تفسير روح البيان 6:340.
6- . تفسير البيضاوي 2:174، تفسير أبي السعود 6:281، تفسير روح البيان 6:339.

و النيّات وَ ما تُعْلِنُونَ و تظهرون من الأعمال، ثم

ّ صرّح بنفي الشريك له في العبادة بقوله: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ.

ثمّ لمّا وصف عرش بلقيس بالعظمة، وصف اللّه بقوله: رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ الذي لا يعادله في العظمة عرش أحد من الملوك، بل لا يليق توصيفه بالعظمة في قباله.

في الحديث: «أنهاكم عن قتل الهدهد فانّه كان دليل سليمان على قرب الماء و بعده، و أحبّ أن يعبد اللّه في الأرض حيث يقول: وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ» إلى آخر الآيات (1).

قيل: إن قول الهدهد إلى فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ و ما بعده كلام اللّه (2).

ثمّ قالَ سليمان عليه السّلام في جوابه: سَنَنْظُرُ في ما أخبرتنا به و نفتّشه حتى نعلم أَ صَدَقْتَ في ما قلت أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ.

روي أنّ سليمان لمّا سمع إشراك أهل سبأ غضب، و قال ائتوني بدواة و قلم حتى أكتب كتابا أدعوهم إلى دين الحقّ، فأتي بهما، فكتب في المجلس أو بعده إلى بلقيس: من عبد اللّه سليمان بن داود إلى ملكة سبأ بلقيس. بسم اللّه الرحمن الرحيم ، السّلام على من اتّبع الهدى. أما بعد فلا تعلوا عليّ و ائتوني مسلمين. ثمّ طبعه بالمسك و ختمه بخاتمه المنقوش على فصّه اسم اللّه الأعظم، و قال الهدهد: إنّك رسول أخلعك بخلعة، فمسح يده على ريشه، فظهرت فيه الألوان المختلفة، ثمّ وضع إصبعه على رأسه فخرج منه تاج، و إنّما خصّة بالرسالة من سائر رعيّته من الجنّ و الطير، لما رأى فيه من المعارف، و قوّة الفراسة، و بذل النّصح له و لملكه، و رعايته جانب الحق، فعلّق الكتاب إلى عنقه أو أعطاه بمنقاره و قال له:

اِذْهَبْ بِكِتابِي هذا إلى بلقيس، و أهل سبأ فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ و اطرحه لديهم ثُمَّ تَوَلَّ و أعرض عَنْهُمْ و تباعد منهم إلى مكان لا يرونك و تسمع ما يقولون فَانْظُرْ و تعرّف ما ذا يَرْجِعُونَ و استمع ما يقول بعضهم لبعض بعد قراء كتابي (3).

روي أنّ الهدهد أخذ الكتاب و أتى بلقيس، فوجدها راقدة في قصرها بمأرب، و كانت إذا رقدت غلّقت الأبواب و وضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوّة و ألقى الكتاب على نحرها و هي مستلقية، و قيل: فنقرها و تأخّر يسيرا فانتبهت فزعة، و كانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبّع الحميري، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت و خضعت، لأنّ ملك سليمان كان في خاتمه، و عرفت أنّ الذي أرسل

ص: 573


1- . تفسير روح البيان 6:340.
2- . جوامع الجامع:336.
3- . تفسير روح البيان 6:341.

الكتاب أعظم ملكا منها، لطاعة الطير إياه و هيئة الخاتم،

فعند ذلك قالَتْ لأشراف قومها و أعاظم مملكتها بعد إحضارهم (1): يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ و عظماء القوم قد حدث لي أمر عظيم إِنِّي أُلْقِيَ اليوم إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ عليّ، و معظّم لدي، أو مختوم كما عن القمي (2)، و في الحديث: «كرم الكتاب ختمه» (3).

قيل: كانت معجزة سليمان عليه السّلام و ملكه في خاتمه، فختم الكتاب به، فألقى الرّعب في قلبها حتى شهدت بكرم كتابه (4).

و قيل: الكريم يعني حسنا ما فيه (5)، أو مرضيّا في لفظه و معانيه (6)، أو شريفا لتصدّره بالبسملة (7)، أو واصلا عن نهج غير معتاد (6).

قيل: إنها لمّا سمعت قبلها بسلطنة (7)سليمان على الجنّ و الانس و الوحش و الطير، عظّمت كتابه (8).

و إنّما رزقت الايمان لتكريمها الكتاب، ثمّ سألها الأشراف عن مرسله و مضمونه فقالت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ مكتوب في أوله بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ مكتوب فيه أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ و لا تترفّعوا عن طاعتي، و لا تتكبروا بكبر الجبابرة وَ أْتُونِي جميعا حال كونكم مُسْلِمِينَ منقادين لأوامري، أو مؤمنين موحّدين.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 32 الی 34

فلمّا رأت أنّه مع إيجازه فيه الدعوة إلى التوحيد بذكر البسملة، و النهي عن الترفّع الذي هو امّ الرذائل، و الأمر بالاسلام الذي هو أمّ الفضائل، مع الحجة القاطعة على عظم شأن مرسله و صدقه بارساله بتوسّط الهدهد، و اتّصاله إليها بنحو خارق للعادة قالَتْ للأعاظم الذين كانوا بحضرتها، و هم ثلاثمائة و ثلاثة عشر أو اثني عشر ألفا: يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي و قولوا ما تستفتون في

قالَتْ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ اَلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)

ص: 574


1- . تفسير أبي السعود 6:283، تفسير روح البيان 6:341.
2- . تفسير القمي 2:127، تفسير الصافي 4:65.
3- . جوامع الجامع:337، تفسير الصافي 4:65.
4- . تفسير روح البيان 6:341.
5- . تفسير الرازي 4:194، تفسير روح البيان 6:342. (6 و 7) . تفسير روح البيان 6:342.
6- . تفسير أبي السعود 6:283.
7- . في النسخة: قلبها سلطنة.
8- . مجمع البيان 7:343.

شأني؟ فانّي منذ ملكت زمام السلطنة ما كُنْتُ قاطِعَةً و منفذّة أَمْراً من الامور المهمة و غيرها حَتّى تَشْهَدُونِ و تحضرون عندي، و تصوّبون عملي، اعتمادا على عقولكم، و استمدادا بآرائكم

قالُوا في جوابها: نَحْنُ رجال أُولُوا قُوَّةٍ و ذوو الأجسام العظيمة السليمة و العدد الكثير، و العدّة الكاملة للحرب وَ أُولُوا بَأْسٍ و بطش شَدِيدٍ و نجدة و شجاعة تامة في قتال العدوّ.

ثمّ لمّا كان حسن الأدب في أن لا يحكم أهل المشورة على الرئيس المستشير بالعمل برأيهم، بل عليهم أن يخبروه في ما أراد قالوا: وَ اَلْأَمْرُ مفوّض إِلَيْكِ موكول إلى نظرك و رأيك، فاذا كان كذلك فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ به حتى نطيعك فيه، فلمّا رأت ميلهم إلى الحرب باظهار قوتهم الذاتية و العرضية، و كان ذلك عندها خلاف الصواب، أخذت في تزييف رأيهم.

قالَتْ إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا بالقهر و الغلبة و بطريق المقابلة قَرْيَةً من القرى، و بلدة من البلدان أَفْسَدُوها و خرّبوها، و أتلفوا ما فيها من النفوس و الأموال وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها و صيّروا أشراف ساكنيها أَذِلَّةً بالأسر و الإجلاء و غير ذلك من فنون الاهانة و الاذلال.

ثمّ أكّدت قولها بقولها: وَ كَذلِكَ الذي قلت ملوك الدنيا يَفْعَلُونَ بحسب العادة و السيرة المستمرة، فعلى هذا يكون في مقاتلتهم و غلبتهم علينا تخريب ملكنا، و إذلال رعايانا، فاذن كان الأصلح هو الصلح.

و عن القمي و بعض العامة: أنّ الذليل كلام اللّه، تصديقا لقول بلقيس (1).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 35 الی 36

ثمّ ذكرت مقدمة الصلح بقولها: وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ عظيمة فَناظِرَةٌ و رائية، أو منتظرة بِمَ يَرْجِعُ إليّ من الخبر اَلْمُرْسَلُونَ من قبلي إلى سليمان، أنّه قبل الهدية أو ردّها، فنستكشف من معاملته و مكالمته حالته أنّه نبي أو ملك، و نعلم غرضه أنّه السلطنة أو الهدية، فنعمل بمقتضاه.

وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اَللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)روي أنّها بعثت خمسمائة غلام، عليهم ثياب الجواري و حليهن (2)كالأساور و الأطواق و القرطة مخضبي الأيدي، راكبي خيل مغشّاة بالدّيباج، محلاّة اللّجم و السّروج بالذهب المرصّع بالجواهر،

ص: 575


1- . تفسير القمي 2:128، تفسير روح البيان 6:344، تفسير الصافي 4:65.
2- . في النسخة: سلبهن.

و خمسمائة جارية على رماك (1)في زيّ الغلمان، و الف لبنة من ذهب و فضّة، و تاجا مكلّلا بالدرّ و الياقوت المرتفع قيمتة، و مقدارا كثيرا من المسك و العنبر، و حقّة فيها درّة ثمينة غير مثقوبة، و خرزة جزعيّة معوجّة الثقب، و كتبت كتابا فيه نسخة الهدايا، و بعثت مع الهدايا رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، و ضمّت إليه رجالا من قومها ذوي رأي و عقل، و قالت: إن كان نبيا ميّز بين الغلمان و الجواري، و أخبر بما في الحقّة قبل فتحها، و ثقب الدرّة ثقبات مستقيمات (2)، و سلك في الخرزة خيطا. ثمّ قالت للمنذر: إن نظر سليمان إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنّك منظره، و إن رأيته هشّا لطيفا فهو نبي.

فأقبل الهدهد نحو سليمان مسرعا، فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجنّ فضربوا لبن الذهب و الفضّة، و فرشوها في ميدان بين يديه طوله ستة فراسخ، و جعلوا حول الميدان حائطا شرفاته من الذهب و الفضّة، و أمر بأحسن الدوابّ التي في البرّ و البحر، فربطوها عن يمين الميدان و يسارة [على اللبن و أمر بأولاد الجنّ و هم خلق كثير فاقيموا على اليمين و اليسار]، ثمّ قعد على سريره و الكراسي من جانبيه، في يمينه أربعة آلاف كرسيّ من ذهب، و في يساره أربعة آلاف، و اصطفّت الشياطين صفوفا فراسخ، و الإنس صفوفا، و الوحش و السباع و الهوامّ كذلك فلمّا دنا رسل بلقيس من مجلس سليمان و نظروا إليه بهتوا، و رأوا الدوابّ تروث على لبن الذهب، فكان حالهم كحال أعرابي أهدى إلى خليفة بغداد جرّة ماء، فلمّا رأى دجلة خجل و صبّه.

و لذا قيل: إنّهم لمّا رأوا ما أنعم اللّه على سليمان من الملك الكبير، استقلّوا ما عندهم حتّى همّوا بطرح اللّبنات، إلاّ أنّه منعتهم الأمانة من ذلك، و جعلوا يمرّون بكراديس الجنّ و الشياطين فيفزعون، و كانت الشياطين يقولون: جوزوا و لا تخافوا، فلمّا وقفوا بين يدي سليمان عليه السّلام نظر إليهم بوجه حسن طلق، و قال: ما وراءكم؟ فأخبر المنذر الخبر، و أعطى كتاب بلقيس، فنظر فيه فقال: أين الحقّه؟ فجيء بها، فقال: إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة، و خرزة جزعية معوجّة الثقب، و ذلك بإخبار جبرئيل أو الهدهد.

فأحضر سليمان عليه السّلام الجنّ و الإنس، و لم يكن عندهم علم الثقب و السلك، فقالت الشياطين لسليمان عليه السّلام: إرسل إلى الأرضة، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها، فدخلت في الدرّة و ثقبتها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان عليه السّلام: ما حاجتك؟ فقالت: تصيّر رزقي في الشجر. قال: لك ذلك، ثمّ قال: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا أمين اللّه. فأخذت

ص: 576


1- . رماك، جمع رمكة: الفرس.
2- . في تفسير روح البيان: ثقبا مستويا.

الخيط في فمها، و نفذت في الخرزة حتى خرجت من الجانب الآخر. فقال سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تجعل رزقي في الفواكه. قال: لك ذلك، فجمع سليمان بين طرفي الخيط و ختمه، و دفعها إليهم.

ثمّ طلب سليمان عليه السّلام الماء، فأمر الغلمان و الجواري أن يغسلوا وجوههم من الغبار، ليميز بين الجواري و الغلمان، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها فتجعله في الاخرى، ثمّ تضرب به وجهها، و الغلام كان يأخذه من الآنية و يضرب به وجهه (1).

و أما الهدية فَلَمّا جاءَ المنذر بها سُلَيْمانَ و قد قالت بلقيس: إن قبلها سليمان كان ملكا، و إن ردّها كان نبيا، و لذا قالَ سليمان عليه السّلام للمنذر و بلقيس تغليبا للحاضر على الغائبة أو للرسل: أَ تُمِدُّونَنِ و تقوّونني بِمالٍ لا اعتداد به فَما آتانِيَ اَللّهُ و وهب لي من الملك العظيم الذي لا ينبغي لأحد من بعدي مع العلم و الزّلفى و النبوة و المال خَيْرٌ و أفضل مِمّا آتاكُمْ و أنعم عليكم من المال القليل و المتاع اليسير الدنيوي، فلا حاجة لي إلى هديتكم، و لا وقع لها عندي بَلْ أَنْتُمْ لحبّكم الدنيا و حطامها بِهَدِيَّتِكُمْ و ما يهدى إليكم من المال تَفْرَحُونَ فليس لكم أن تستميلوا قلبي إليكم بالأموال.

روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام قال: «الدنيا أصغر قدرا عند اللّه و عند أنبيائه و أوليائه من أن يفرحوا بشيء منها أو يحزنوا عليه» (2).

و قيل: إنّه عليه السّلام بعد إنكاره عليهم إمداده بالمال، أضرب عنه إلى توبيخهم بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه افتخارا و امتنانا و اعتدادا بها (3).

و قيل: إنّ المعنى بل أنتم من حقّكم أن تأخذوا هديّتكم و تفرحوا بها (2).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 37 الی 40

اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

ص: 577


1- . تفسير روح البيان 6:344-345. (2 و 3) . تفسير روح البيان 6:346.
2- . تفسير الرازي 24:196.

ثمّ هدّد سليمان بلقيس و قومها على امتناعهم عن طاعته بقوله: اِرْجِعْ أيها الرسول المبعوث من قبل ملكة سبأ و قومها إِلَيْهِمْ و أخبرهم أنّي لا انخدع بالهدايا و التّحف، بل اريد منهم الطاعة و الانقياد، فان أطاعوني و استسلموا لي و إلاّ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ من الجنّ و الإنس بِجُنُودٍ عظيمة لا قِبَلَ و لا طاقة لَهُمْ للمقاومة بِها أصلا وَ و اللّه لَنُخْرِجَنَّهُمْ من مملكتهم و لنجلينّهم مِنْها حال كونهم أَذِلَّةً بعد كونهم أعزّة وَ هُمْ صاغِرُونَ و مستحقرون بالأسر و الإجلاء بعد كونهم معظّمون.

القمي: فرجع إليها الرسول فأخبرها (1)بردّ الهدية و ثقب الدرّة و سلك الخيط في الخرزة، و عظمة حشمة سليمان و كمال قدرته، فعلمت أنّه لا محيص لها من الانقياد و التسليم، فبعثت إلى سليمان: أنّي قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك و ما تدعو إليه من دينك، ثمّ جعلت عرشها في بيت و قفلت أبوابه، و جعلت عليه حراسا، و أخذت مفتاح البيت عند نفسها، ثمّ توجّهت مع عسكرها نحو سليمان.

قيل: كان لها اثنا عشر ألف ملك كبير، تحت كلّ ملك الوف كثيرة، و كان سليمان عليه السّلام رجلا مهيبا لا يبدأ بشيء حتى يسأل عنه، فجلس يوما على سريره، فرأى جمعا جمّا على فرسخ عنه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: بلقيس بملوكها و جنودها، فأقبل سليمان عليه السّلام على أشراف قومه، و قيل: حين علم بمسيرها إليه (2)

قالَ يا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها من بلدة مأرب، و يحضره لديّ في مكاني هذا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي حال كونهم مُسْلِمِينَ و منقادين، أو مؤمنين.

أقول: لعلّه عليه السّلام أراد من إحضاره عنده إراءتها معجزة اخرى أوّل ورودها عليه، لتكون في إيمانها على بصيرة كاملة، أو أراد اختبار عقلها و فطانتها بعد تنكيره عرشها عندها، لينظر أنّها تعرفه أو تنكره. قيل: ذلك لأنّ الجنّ قدحوا فيها بنقص العقل لئلا يتزوّجها (3). و قيل: إنّه أراد تملّك عرشها قبل إيمانها لاحترام مالها بعده (4).

قالَ ذكوان، أو كوذي، أو اصطخر، و هو عِفْرِيتٌ و مارد خبيث مِنَ شياطين اَلْجِنِّ قيل: كان رئيسهم، و كان قبل ذلك متمرّدا على سليمان عليه السّلام، و كان كالجبل العظيم يضع قدمه عند

ص: 578


1- . تفسير القمي 2:128، تفسير الصافي 4:66.
2- . تفسير روح البيان 6:348.
3- . تفسير الرازي 24:201، تفسير أبي السعود 6:289.
4- . تفسير الرازي 24:197، و فيه: قبل إسلامها لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها.

منتهى طرفه (1): أَنَا آتِيكَ بِهِ و احضره عندك قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ و مجلس حكومتك، و كان جلوسه إلى نصف النهار وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ على حفظه و حفظ ما فيه من الجواهر و النفائس لا اختلس منه شيئا و لا ابدّله.

قيل: إنّه قال سليمان عليه السّلام: اريد أسرع من هذا (2)قالَ آصف بن برخيا و هو على ما قيل: كان ابن خالة سليمان و وزيره و كاتبه و مؤدّبه في صغره و صديقه (3)اَلَّذِي عِنْدَهُ الاسم الأعظم الذي إذا دعي اللّه به أجاب و عِلْمٌ كثير مِنَ اَلْكِتابِ المنزل على الأنبياء السابقين كابراهيم و موسى و غيرهما، و عمله به، أو علم ببعض اللوح المحفوظ و اسراره المكتوبة فيه. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ذلك وصيّ أخي سليمان بن داود» (4)-: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ و يرجع إليك ناظرك، و يتحرّك جفنك.

قيل: خرّ ساجدا، و قال: يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال و الإكرام (5). ثمّ سأل اللّه إحضار عرش بلقيس فحضر، و قيل: خسف اللّه به الأرض (6)، ثمّ أخرجه منها في محضر سليمان عليه السّلام فَلَمّا رَآهُ سليمان مُسْتَقِرًّا و متمكّنا عِنْدَهُ و حاضرا لديه في أقلّ من طرفة عين.

عن الباقر: «أن اسم اللّه الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا، و إنّما كان عند آصف منه حرف (7)، فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين» (8).

و في رواية اخرى: «فتكلّم به، فانخسفت الأرض ما بيته و بين السرير، و التقت القطعتان، و حوّل من هذه على هذه» (9).

قالَ سليمان تشكّرا للنعمة هذا الذي أرى من حضور العرش لديّ بأسرع زمان، و حصول مرادي بأحسن وجه مِنْ فَضْلِ رَبِّي عليّ و إحسانه إليّ بلا استحقاق منّي، و إنّما أعطاني هذه النعمة لِيَبْلُوَنِي و يختبرني أَ أنا أَشْكُرُ ها، بأن أراها منه بلا حول و قوة منّي، و أ أدّي حقّها من الطاعة و العبادة أَمْ أَكْفُرُ ها، بأن لا أراها منه، و لا أقوم بموجبها.

قيل: فلمّا رآه رفع رأسه و قال: الحمد للّه الذي جعل في أهلي من يدعوه فيستجيب له (10).

ص: 579


1- . تفسير روح البيان 6:349.
2- . تفسير روح البيان 6:349.
3- . تفسير روح البيان 6:349.
4- . أمالي الصدوق:659/892، روضة الواعظين:111، تفسير الصافي 4:67.
5- . تفسير روح البيان 6:350.
6- . تفسير روح البيان 6:350.
7- . في الكافي و بصائر الدرجات و تفسير الصافي: منها حرف واحد.
8- . الكافي 1:179/1، بصائر الدرجات:228/1، تفسير الصافي 4:67.
9- . بصائر الدرجات:229/6، تفسير الصافي 4:67، و فيه: إلى هذه.
10- . تفسير روح البيان 6:350 و 351.

ثمّ نبّه عليه السّلام بحاجة العبد إلى الشكر، و غنى الربّ عنه بقوله: وَ مَنْ شَكَرَ نعم اللّه فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ و نفعه عائد (1)إليها، لكونه سببا لدوامها و مزيدها، و الثواب عليه وَ مَنْ كَفَرَ النعم بعدم معرفة قدرها، و حقّ منعمها، و ترك أداء حقّها، فانّ ضرر كفرانه عليه فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكر الشاكرين كَرِيمٌ و متفضّل عليهم بجوده بنعمه، و إن لم يشكروا.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 41 الی 44

ثمّ قالَ سليمان لخدمه: إذا جاءت بلقيس نَكِّرُوا لَها عَرْشَها بأن غيّروا هيئته و شكله بحيث لا تعرفه في بادئ النظر نَنْظُرْ و نراها أَ تَهْتَدِي إلى معرفته فتظهر كياستها و قوّة فطانتها الناشئة من كمال عقلها أَمْ تَكُونُ مِنَ اَلَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفته فتظهر سخافة عقلها.

قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ اَلَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنّا مُسْلِمِينَ (42) وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي اَلصَّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (44)

قيل: إنّ الشياطين خافوا أن تفشي بلقيس أسرارهم إلى سليمان عليه السّلام، لأنّ امّها كانت جنية، و إن يتزوّجها سليمان عليه السّلام، و يكون منهما ولد جامع للجنّ و الإنس، فيرث الملك فيخرجون من ملك سليمان عليه السّلام إلى ملك هو أشدّ و أفضع، و لا ينفكّون من التسخير، فأرادوا أن يبغّضوها إلى سليمان عليه السّلام، فقالوا: إنّ في عقلها خللا و قصورا، و أنّها شعراء الساقين، و أن رجليها كحافر حمار، فأراد سليمان عليه السّلام أن يختبرها في عقلها (2)فَلَمّا جاءَتْ إلى سليمان عليه السّلام و العرش بين يديه قِيلَ لها من قبل سليمان: أَ هكَذا عَرْشُكِ؟ و إنما لم يقل: أهذا عرشك؟ لئلاّ يكون تلقينا لها، فنظرت إليه فعرفته، و لكن لمّا رأت فيه تغييرا لم تقل لا و لا نعم، بل قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ فلوّحت إلى نوع مغايرة له.

قيل: جعلت الشياطين أعلاه أسفله، و بنوا فوقه قبابا [اخرى] (3)، و جعلوا موضع الجوهر الأحمر

ص: 580


1- . في النسخة: عائده.
2- . تفسير روح البيان 6:352.
3- . زاد في تفسير روح البيان: هي أعجب من تلك القباب.

الأخضر و بالعكس (1).

ثمّ ظنّت أنّ سليمان أراد اختبار عقلها و إظهار معجزة لها، قالت: وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ بنبوتك مِنْ قَبْلِها لدلالة غيرها من المعجزات على صدق دعواك وَ كُنّا مُسْلِمِينَ و مؤمنين بك من ذلك الوقت.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إخفائها الايمان به قيل بقوله: وَ صَدَّها و منعها من إظهار الايمان باللّه و بنبوّة سليمان قبل الوقت ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اَللّهِ من الشمس، أو النّار، و عبادتها القديمة لها.

ثمّ نبّه سبحانه على نكتة سببية عبادتها السابقة لصدّها بقوله: إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ و ناشئة بين أظهرهم، فلم يمكنها إظهار الاسلام حتى دخلت في مملكة سليمان فصارت من قوم مسلمين.

و قيل: إنّ المراد صدّها اللّه أو سليمان عن عبادة غير اللّه (2)، أنّها كانت قبل توفيق اللّه و هداية سليمان من قوم كافرين، لا تعرف غير مذهبهم.

و قيل: إنّ قوله: وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ إلى آخره، من كلام سليمان عليه السّلام و المؤمنين به حيث إنّهم لمّا رأوا أنّها قالت: كَأَنَّهُ هُوَ قالوا: إنّها أصابت في الجواب، فهي عاقلة، و قد رزقت الاسلام (3).

ثمّ عطفوا على ذلك قولهم: وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ باللّه و بقدرته الكاملة (قبل علمها) إظهارا للشكر على تقدّمهم في الاسلام عليها.

قيل: لمّا قالت الشياطين: إنّ ساقيها شعراوان و إنّ رجليها كحافر الحمار لا أصابع لها، أمر سليمان عليه السّلام ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض و أجرى من تحته الماء، و ألقى فيه السّموك (4)و دوابّ البحر، و وضع سريره في وسطه، فجلس عليه، و عكف عليه الطير و الجنّ و الإنس، فلمّا جاءت بلقيس إلى باب القصر (5)قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي اَلصَّرْحَ و القصر الرفيع فَلَمّا رَأَتْهُ و الشمس تشرق عليه، و الماء يموج في صحنه، و السّموك تسبح فيه حَسِبَتْهُ و توهّمته لُجَّةً و ماء قليلا يبلغ الكعبين، أو أنصاف السوق، أو ماء كثيرا تردّد أمواجه، فشمّرت ذيلها وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لئلا تبتلّ ثيابها، فرأى سليمان عليه السّلام أنّها أحسن النساء ساقا و قدما، خلا أنّها شعراء قالَ سليمان لها: لا تكشفي عن ساقيك، فان ما ترينه ليس بماء إِنَّهُ صَرْحٌ و قصر مُمَرَّدٌ و مسوّى مِنْ قَوارِيرَ و مصنوع من الزجاج الأبيض الصافي فوق ماء، أو لم يكن ماء، بل كان الزجاج الصافي شبيها بالماء.

ص: 581


1- . تفسير روح البيان 6:352.
2- . تفسير الرازي 24:200.
3- . تفسير الرازي 24:199 و 200.
4- . السّموك، جمع سمك.
5- . تفسير روح البيان 6:353.

قيل: إنّه لمّا رأى ساقها شعراء كرهه، و أمر الشياطين أن يتّخذوا لها شيئا يذهب الشعر، فقالوا: نحتال لك حتى تصير كالفضّة، فاتّخذوا النّورة و الحمّام، فكانت النّورة و الحمّام من يومئذ (1).

و قيل: إنّ الحمّام الذي ببيت المقدس بباب الأسباط بني لها، و هو أوّل حمّام بني على وجه الأرض (2).

و قيل: إنّ جنّيا قال لسليمان: ابني لك دارا تكون في بيوته الأربعة الفصول الأربعة، فبنى الحمّام (3).

فلمّا علمت بلقيس أنّه قوارير، استحيت و تستّرت و كمّلت إيمانها بالتوحيد و نبوّة سليمان عليه السّلام قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي باختيار الشرك قبل اهتدائي إلى التوحيد بهداية سليمان.

و قيل: حسبت أنّ سليمان عليه السّلام أراد غرقها بالماء، فلمّا تبيّن لها خطأ ظنّها قالت: ظَلَمْتُ نَفْسِي بسوء ظنّي بسليمان (4)وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ و أخلصت التوحيد اقتداء به لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ فأظهرت كمال معرفتها بألوهيّته تعالى، و تفردّه باستحقاق العبادة، و معرفتها بالربوبية لجميع الموجودات التي من جملتها الشمس التي كانت تعبدها من قبل، بالجمع بين ذكر اسم الجلالة و وصفه بالربوبية، ثمّ تزوّجها سليمان، و من قال بذلك استدلّ عليه بنظره عليه السّلام إلى ساقها، فلو لم يكن مريدا لتزويجها لم يكن له ذلك، و لم يشاور الإنس و الجنّ في علاج إزالة شعرها مع أنّه شاور الإنس فقالوا: موسى، فقال: الموسى يخدش ساقها، ثم شاور الجنّ فما اهتدوا إلى شيء، ثمّ شاور الشياطين فعبؤوا النّورة و الحمّام.

قيل: أحبّها حبّا شديدا، و أقرّها على ملكها، و أمر الجنّ فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير مثلها في الارتفاع و الحسن، و كان عليه السّلام يزورها في كلّ شهر مرّة، و يقيم عندها ثلاثة أيام، و ولدت له داود بن سليمان، ثمّ مات في حياة أبيه (5).

و قيل: إنّه عليه السّلام عرض عليها النكاح فأبته، و قالت: مثلي لا ينكح الرجال، فأعلمها سليمان عليه السّلام أنّ النكاح من شريعة الاسلام، فقالت: إنّ كان ذلك فزوّجني من ذي تبّع، و كان هو فتى من أبناء ملوك اليمن، فزوّجها إياه، ثمّ ردّها إلى اليمن، و سلّط زوجها على اليمن، و دعا زوبعة أمير جنّ اليمن، فأمره أن يكون في خدمته، و يعمل له ما أستعمله فيه (6).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 45 الی 47

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اِطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اَللّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

ص: 582


1- . تفسير روح البيان 6:354.
2- . تفسير روح البيان 6:354.
3- . تفسير روح البيان 6:354.
4- . تفسير الرازي 24:201.
5- . تفسير روح البيان 6:354.
6- . تفسير روح البيان 6:353.

ثمّ حكى سبحانه لطفه بصالح بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى قبيلة ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً و كان ما ارسل به أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ و لا تعبدوا غيره، فآمن به جمع منهم فَإِذا هُمْ بعد هذه الدعوة فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ و يجادلون في صدق نبوته و دعواه التوحيد و كذبهما

قالَ صالح-للفرقة المكذّبة القائلين له: اِئْتِنا بِعَذابِ اَللّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (1)-: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ و تطلبون سرعة نزول العقوبة عليكم قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ و التوبة لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اَللّهَ و هلاّ تتوبون إليه قبل نزول العذاب؟ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبولها و صرفه عنكم، كيلا تعذّبون بل تنعمون.

قيل: إنّهم كانوا يقولون من جهلهم و غوايتهم: إن أتيتنا بما تعدنا من العذاب تبنا حينئذ و إلاّ فنحن على ما كنا عليه (2)، فوبّخهم صالح على هذا القول، و حثّهم على استعجال التوبة.

و قيل: إنّ المعنى لم تسألون البلاء و العقوبة قبل سؤال العافية و الرحمة، و لم لا تقدّمون طلب الرحمة على طلب العقوبة (3).

ثمّ إنّهم بعد دعوة صالح بألطف بيان و نصحه لهم بأبلغ وجه، عارضوه بأسوأ قول حيث قالُوا في جوابه: يا صالح إنا اِطَّيَّرْنا و تشاء منا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين حيث تتابعت علينا بعد دعوتك و إيمانهم بك الشدائد و البلايا.

قيل: أنّهم قحطوا فقالوا: أصابنا هذا الشرّ من شؤمك و شؤم أصحابك (4)قالَ صالح: طائِرُكُمْ و ما جاء به الشرّ إليكم كائن عِنْدَ اَللّهِ و سابق في علمه، أو مكتوب في اللّوح المحفوظ، و هو تقديره و إرادته، أو عملكم الذي هو محفوظ عنده.

ثمّ أضرب عليه السّلام عن إسناد شرّهم إلى الطائر الذي هو السبب لابتلائهم إلى الإسناد إلى الحكمة الداعية له بقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ بالبلايا و تختبرون بإنزال الشرور عليكم، ليتّضح أنّكم ترتدعون عن الكفر و المعاصي أم لا، و تنصرّفون عن قبائح الأعمال أم تديمون عليها؟ أو المراد بل أنتم قوم تعذّبون على معاصيكم، أو أنتم قوم تقعون في الفتنة بوسوسة الشيطان.

ص: 583


1- . العنكبوت:29/29.
2- . تفسير أبي السعود 6:290، تفسير روح البيان 6:355.
3- . تفسير روح البيان 6:355.
4- . تفسير روح البيان 6:356.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 48 الی 53

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم بعد إساءتهم القول أساءوا في معاملتهم معه بقوله: وَ كانَ فِي اَلْمَدِينَةِ التي فيها صالح من أرض الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ و جماعة أو أشخاص، كانت أسماؤهم على ما قيل: هذيل بن عبد الرب، و غنم بن غنم، و ياب بن مهرج، و مصدع بن مهرج، و عمير بن كردية، و عاصم بن مخزمة، و سبيط بن صدقة، و سمعان بن صفي، و قدار بن سالف، و هو رئيسهم (1).

وَ كانَ فِي اَلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنّا لَصادِقُونَ (49) وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (53)و قيل: قدار بن سالف، و مصدع بن دهر، و أسلم، و رهمي، و رهيم، و دعمي و دعيم، و قبال، و صداف، و كانوا عتاة القوم و أبناء أشرافهم (2).

و هم يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ التي سكنوها بالاشتغال بالمعاصي و إشاعة الكفر وَ لا يُصْلِحُونَ أمرا من الامور، و لا يمزجون شرّهم بشيء من الخير، و فسادهم بشيء من الصلاح، و كان من إفسادهم المحض أن

قالُوا في أثناء مشاورتهم في أمر صالح حال كونهم تَقاسَمُوا و تحالفوا بِاللّهِ على نحو معتبر عندهم: لَنُبَيِّتَنَّهُ و لنهاجمنّ عليه في الليل بغتة و لنقتلنّه وَ أَهْلَهُ و من معه ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ و وارث دمه إذا سئلنا عن قاتله: ما شَهِدْنا و ما حضرنا مهلك صالح و مَهْلِكَ أَهْلِهِ و مقتلهم، أو هلاكهم و قتلهم حتى تعرف قاتلهم وَ إِنّا لَصادِقُونَ فيما نقول من عدم حضورنا في ذلك المكان فضلا عن التولي له.

وَ مَكَرُوا في قتل صالح مَكْراً ضعيفا، و احتالوا حيلة هيّنة بهذه المواضعة وَ مَكَرْنا في إهلاكهم مَكْراً عجيبا، و دبّرنا تدبيرا متينا بجعل مواضعتهم سببا لهلاكهم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بذلك.

روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه، فلمّا وعدهم بعد عقرهم الناقة بالعذاب إلى ثلاثة أيام، قالوا: زعم صالح أنّه يفرغ منّا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه و من أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشّعب ليقتلوه إذا جاء للصلاة ثمّ يرجعوا إلى أهله فيقتلوهم، فبعث اللّه صخرة

ص: 584


1- . تفسير روح البيان 6:356.
2- . تفسير روح البيان 6:356.

من جبالهم، فبادروا فطبقت عليهم في الشّعب، فهلكوا ثمّة و هلك الباقون في أماكنهم بالصيحة (1).

و عن ابن عباس: أنّه كان لصالح مسجد في غار يجيئه في الليل و يصلّي فيه، فقالت التسعة: إنّ صالحا وعدنا العذاب بعد ثلاثة أيام، و نحن نقتله قبلها، فجاءوا أول الليل إلى باب الغار، فكمنوا له و سلّوا سيوفهم كي يقتلوه إذا جاء، فأرسل اللّه ملائكة، فاهبطوا على رأس كلّ واحد حجرا، و قتلوا جميعهم (2).

و في رواية: أنّهم دخلوا الغار، فأنزل اللّه صخرة من الجبل، و وقعت في باب الغار فسدّه فهلكوا (3).

و عن مقاتل: أنّهم انتظروا صالحا في أصل الجبل، فانحطّ عليهم الجبل فهلكوا (4).

و القمي: فأتوا صالحا ليلا ليقتلوه، و عند صالح ملائكة يحرسونه، فلمّا أتوا قاتلهم-أو قتلهم (5)- الملائكة في دار صالح رجما بالحجارة، فأصبحوا في داره مقتولين، فأخذت (6)قومه الرجفة فأصبحوا في دارهم (7)جاثمين (8).

فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ و هي أَنّا دَمَّرْناهُمْ و أهلكناهم وَ قَوْمَهُمْ الذين لم يكونوا معهم في التثبيت أَجْمَعِينَ بحيث لم يبق منهم أحد

فَتِلْكَ البيوت الخربة التي تمرّون عليها في أسفاركم بُيُوتُهُمْ حال كونها خاوِيَةً و خالية، أو ساقطة و منهدمة بِما ظَلَمُوا على أنفسهم بالكفر و الطغيان إِنَّ فِي ذلِكَ التدمير العجيب لَآيَةً و عبرة عظيمة كافية لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ذلك فيتّعظون به وَ أَنْجَيْنَا من العذاب و مجاورة العتاة صالحا و اَلَّذِينَ آمَنُوا بما آمن به وَ كانُوا يَتَّقُونَ اللّه، أو يحترزون من الكفر و العصيان.

قيل: هم أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت (9).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 54 الی 55

ثمّ ذكر سبحانه تفضّله على لوط بانجائه من قومه و العذاب النازل عليهم بقوله: وَ لُوطاً و التقدير: و أرسلنا أو أذكر يا محمّد لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إنكارا عليهم و توبيخا لهم: أَ تَأْتُونَ

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

ص: 585


1- . تفسير روح البيان 6:357، تفسير الصافي 4:70.
2- . تفسير الكشاف 3:373.
3- . تفسير روح البيان 6:357.
4- . مجمع البيان 7:355.
5- . في تفسيري القمي و الصافي: أتوه قاتلتهم.
6- . في تفسير القمي: مقتلين و صبحت، و في تفسير الصافي: مقتلين و أخذت.
7- . في تفسير القمي: ديارهم.
8- . تفسير القمي 2:132، تفسير الصافي 4:70.
9- . تفسير روح البيان 6:358.

و ترتكبون اَلْفاحِشَةَ و الفعلة الشنيعة في الغاية وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فحشه و شدّة قبحه، و تعلمون غاية شناعته؟ ! و من الواضح أنّ ارتكاب القبيح من العالم بقبحه أقبح، أو تبصرون عمله فيما بينكم، و تعلنون به بلا تخفّ و تستّر، أو تبصرون آثار العصاة قبلكم و ما نزل بهم من العذاب.

ثمّ بيّن الفاحشة بقوله: أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ في أدبارهم لتقضوا شَهْوَةً حيوانية مِنْ دُونِ اَلنِّساءِ و متجاوزين عنهنّ مع كونهنّ محالّ الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ سوء عاقبة عملكم، أو كالذين تجهلون قباحة هذا العمل، لكونكم غير عاملين بعلمكم، أو قوم سفهاء لا تميّزون بين حسن الفعل و قبحه.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 56 الی 58

ثمّ بيّن سبحانه غاية جهلهم بقوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ له بعد إبلاغه في نصحهم شيء إِلاّ أَنْ قالُوا: يا قوم أَخْرِجُوا لوطا و آلَ لُوطٍ و من تبعه مِنْ قَرْيَتِكُمْ و بلدكم، و هي بلدة سدوم إِنَّهُمْ أُناسٌ و جماعة يَتَطَهَّرُونَ بأنفسهم من دنس الفحش باعتقادهم، و يتنزّهون عن فعلنا القبيح.

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ اَلْغابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ (58)عن ابن عباس: أنّه [على]طريق الاستهزاء بلوط (1).

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ و أقاربه من العذاب بأمرهم بالخروج من القرية وقت نزوله إِلاّ اِمْرَأَتَهُ و زوجته الكافرة المسمّاة بواهلة على ما قيل (2)، فانّا قَدَّرْناها و قضينا كونها مِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في البلدة، أو في العذاب مع القوم

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ بعد خروج لوط و أهله من بينهم و قلب قريتهم، أو على من كان منهم في الأسفار مَطَراً عجيبا غير الأمطار المعتادة فَساءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ و الكفّار المتوعّدين بالعذاب؛ لأنّه كان من حجارة من سجّيل، و هو أفضع العذاب، كما أنّ اللّواط أفحش الفواحش.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 59 الی 60

قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفى آللّهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

ص: 586


1- . تفسير أبي السعود 6:292، تفسير روح البيان 6:359.
2- . تفسير روح البيان 6:359.

ثمّ لمّا كان إهلاك أعداء اللّه نعمة على أوليائه، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالشّكر عليه بقوله: قُلِ يا محمّد: اَلْحَمْدُ لِلّهِ على نعمه التي منها إهلاك أعدائه وَ سَلامٌ و عافية دائمة من كلّ آفة دينية و دنيوية عَلى عِبادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفى هم و خصّهم بالعصمة من كلّ سوء، و الطهارة من كلّ رجس.

و قيل: إنّه تعالى لمّا بيّن ابتلاء امم الماضين بالعذاب، و كان من النعم على خاتمهم رفع عذاب الاستئصال عن امّته ببركته و حرمته، أمره بالحمد له و الدعاء للأنبياء الذين صبروا على مشاقّ الرسالة (1)، أو لمّا كان اطّلاعه صلّى اللّه عليه و آله على قصص الأنبياء الماضين التي تكون من الأخبار الغيبية و فيها الآيات و الحكم الكثيرة من النّعم العظيمة عليه، أمره بالحمد عليها و الدعاء بالسلامة لامّته (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و حكمته، و غاية تفضّله على أوليائه و غضبه على أعدائه، شرع في تقريع العابدين للأصنام التي لا تضرّ و لا تنفع بقوله: آللّهُ الذي بيده كلّ خير خَيْرٌ للعبادة أَمّا يُشْرِكُونَ به من الأصنام و الأوثان التي لا يترتّب على عبادتها فائدة.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا تلا هذه الآية قال: «بل اللّه خير و أبقى و أجلّ و أكرم» (3).

ثمّ أخذ سبحانه في بيان خيراته و عظائم نعمه الدالة على وحدانيته و استحقاقه للعبادة بقوله: أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و الأجرام العلوية و السفلية التي هي اصول الكائنات و مبادي جميع الخيرات و البركات وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا بنحو الأمطار.

ثمّ عدل سبحانه عن الغيبة إلى التكلّم لتأكيد الاختصاص بقوله: فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ و بساتين ذاتَ بَهْجَةٍ و غضارة و حسن لون و منظرة.

ثمّ نبّه سبحانه على تفرّده بهذه القدرة الكاملة التي خلق بها السماوات و الأرض، و جعل السماء محلا للماء، و الأرض محلا للنبات، و أنبت بالماء الحدائق التي لها بهاء و رونق بقوله: ما كانَ و ما استقام لَكُمْ مع عقلكم و قوّتكم و تدبيركم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها و إلاّ ما كنتم محتاجين إلى الغرس و تحمّل كلفة السقي و غيره ممّا له دخل في نمو الشجر و المصابرة على ظهور الثمر، فكيف بغيركم من الجمادات، و مع ذلك أتقولون أَ إِلهٌ و معبود آخر مشارك مَعَ اَللّهِ العظيم القادر على كلّ شيء في الالوهية، لا يقول ذلك عاقل بَلْ المشركون هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ و يميلون بجهلهم من التوحيد إلى الشّرك، أو يسوون لسفههم مع اللّه غيره.

ص: 587


1- . تفسير الرازي 24:205.
2- . تفسير أبي السعود 6:292.
3- . تفسير الرازي 24:205، تفسير روح البيان 6:360.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 61

ثمّ أضرب سبحانه عمّا ذكر من التبكيت إلى التبكيت بوجه آخر بقوله: أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ للانسان و غيره من الحيوانات قَراراً و مستقرا بإخراج بعضها من الماء و تسويتهما حسبما تدور عليه منافعهم وَ جَعَلَ بلطفه خِلالَها و في فرجها، أو في أوساطها أَنْهاراً جارية تنتفعون بها وَ جَعَلَ لَها جبالا رَواسِيَ و ثوابت تمنعها من الاضطراب و الانقلاب بأهلها، و تتكون فيها المعادن، و تنبع منها الينابيع، و تتعلق بها مصالح لا تحصى وَ جَعَلَ بَيْنَ اَلْبَحْرَيْنِ العذب و المالح، أو بحر فارس و الروم حاجِزاً مانعا من المخالطة و الامتزاج، فمع ما ترون من قدرته الكاملة أَ تقولون: إِلهٌ مَعَ اَللّهِ يشاركه في استحقاق العبادة؟ ! بَلْ المشركون أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحجج و البراهين على التوحيد، و لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشّرك مع كمال وضوحه.

أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ اَلْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)

سوره 27 (النمل): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أضرب سبحانه عن تبكيت المشركين بنعمه العامة لجميع الموجودات و انتقل إلى تبكيتهم بشدّة حاجة الخلق إليه بقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ و يستجيب دعاء المبتلى بالضيق و الشدة مع عدم ملجأ له و لا حيلة إِذا دَعاهُ و سأله كشف ضرّه و رفع شدّته و تضرّع إليه؟ وَ من يَكْشِفُ عن عباده اَلسُّوءَ و يدفع عنهم المكروه كالمرض و الفقر و الغرق بالشّفاء و الغنى و النجاة، و إن لم يدعوه؟ وَ من يَجْعَلُكُمْ بعد إهلاك الامم الماضين خُلَفاءَ هم في اَلْأَرْضِ و ساكنين في مساكنهم، و متصرّفين فيها بعد موتهم مع ذلك؟ أَ تقولون: إِلهٌ آخر مَعَ اَللّهِ المنعم عليكم بتلك النّعم الجسام قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ آلائه، و تتوجّهون إلى نعمائه، أو تتنبّهون للحقّ مع غاية الوضوح.

أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ اَلْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ تَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (63)و قيل: إنّ المراد من القليل العدم (1).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «نزلت في القائم من آل محمّد، هو و اللّه المضطرّ إذا صلّى في المقام

ص: 588


1- . تفسير البيضاوي 2:181، تفسير أبي السعود 6:295، تفسير روح البيان 6:363.

ركعتين، و دعا اللّه عزّ و جلّ أجابه (1)، و يكشف السوء، و يجعله خليفة في الأرض» (2).

أقول: يعني أنّه أظهر مصاديق المضطّر، لا أنّ المراد شخصه فقط، ثمّ أضرب سبحانه عمّا ذكر إلى التبكيت بذكر نعمة اخرى بقوله: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ و يرشدكم إلى الطريق مع كونكم فِي ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بالنجوم في السماء و علامات الطريق في الأرض؟

و قيل: اريد من الظلمات مشتبهات الطرق (3)وَ مَنْ يُرْسِلُ اَلرِّياحَ لتكون بُشْراً و مبشّرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟ و قيل: إنزاله المطر (4)الذي به حياة الأرض و ما فيها مع الوصف.

أَ تقولون: إِلهٌ مَعَ اَللّهِ يقدر على مثل ذلك؟ ! تَعالَى اَللّهُ العظيم القدير الحكيم عَمّا يُشْرِكُونَ به من الجمادات التي هي أعجز مخلوقاته.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 64 الی 66

ثمّ أضرب سبحانه من النّعم المذكورة إلى ذكر أصل النّعم الدنيوية و الاخروية، و هو نعمة الايجاد في الدنيا و الاعادة في الآخرة بقوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ في هذا العالم و يجر من كتم العدم إلى الوجود في الدنيا ثُمَّ يُعِيدُهُ و يوجده ثانيا في الآخرة بعد إماتته في الدنيا.

أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ اِدّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)ثمّ لمّا كانت نعمة الوجود لا تتمّ إلاّ بالبقاء المتوقّف على إيصال ما يحتاج بقاؤهم إليه، أردفه بذكره بقوله: وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ و يوصل إليكم جميع ما يتوقّف عليه بقاؤكم عليه مِنَ اَلسَّماءِ بالأمطار وَ من اَلْأَرْضِ بالإنبات، و مع ذلك أَ تقولون إِلهٌ آخر يكون مَعَ اَللّهِ و يشاركه في الالوهية و استحقاق العبادة قُلْ يا محمّد، للمشركين هذه المذكورات براهيننا على مدّعانا من التوحيد، و أنتم هاتُوا بُرْهانَكُمْ على أنّ مع اللّه آلهة اخرى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اختصاصه بالقدرة الكاملة، بيّن اختصاصه بالعلم غير المتناهي بقوله: قُلْ يا محمّد لا يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة وَ من في اَلْأَرْضِ من الإنس و الجنّ

ص: 589


1- . في تفسير الصافي: فأجابه.
2- . تفسير القمي 2:129، تفسير الصافي 4:71.
3- . تفسير البيضاوي 2:181، تفسير أبي السعود 6:295، تفسير روح البيان 6:363.
4- . تفسير البيضاوي 2:181، تفسير روح البيان 6:363.

اَلْغَيْبَ و ما لا يدركه الحواسّ إِلاَّ اَللّهُ قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكنّه تعالى يعلمه (1).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه أخبر يوما ببعض الامور التي لم تأت بعد، فقيل له: أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فضحك و قال: «ليس هو بعلم غيب، إنّما هو تعلّم من ذي علم، و إنّما علم الغيب علم الساعة و ما عدّده اللّه سبحانه بقوله إِنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّاعَةِ الآية، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر و انثى، و قبيح أو جميل، و سخيّ أو بخيل و شقيّ أو سعيد، و من يكون للنار خطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه، و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيه فعلّمنيه، و دعا لي أن يعيه صدري و تضطمّ عليه جوانحي» (2).

و أمّا غيره من الانس و الجنّ لا يعلمون وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ من القبور، و أيّ وقت ينشرون للحساب،

فانّه من علم الغيب الذي اختصّ بذاته تعالى بَلِ اِدّارَكَ و تكامل و استحكم عِلْمُهُمْ بتكامل أسبابه من الدلائل و الحجج فِي شأن اَلْآخِرَةِ و تمكّنوا من معرفتها، و مع ذلك لمّا لم يتفكّروا فيها جهلوا بوقوعها.

و قيل: يعني انتهى علمهم و انتفى إدراكهم بلحوقها فجهلوا بها (3).

و عن ابن عباس: أن وصفهم باستحكام العلم بالآخرة على سبيل التهكّم و الاستهزاء (4).

بَلِ المشركون هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ثمّ أضرب سبحانه عن كونهم شاكّين إلى بيان كونهم في أقطع حال من الشكّ بقوله: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ و فاقدو البصيرة بحيث لا يكادون يدركون دلائلها.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 67 الی 70

ثمّ حكى سبحانه مقالتهم في المعاد الدالة على عميهم منه بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي مكّة: أَ إِذا كُنّا تُراباً وَ كان آباؤُنا أيضا ترابا أَ إِنّا لَمُخْرَجُونَ من القبور أحياء؟ ! و إنّما كرّروا الاستفهام الانكاري مبالغة في الإنكار.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ (69) وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ (70)

ص: 590


1- . تفسير روح البيان 6:364.
2- . نهج البلاغة:186 الخطبة 128، تفسير الصافي 4:72، و في النسخة و تفسير الصافي: و تضم عليه جوارحي.
3- . تفسير روح البيان 6:365.
4- . تفسير الرازي 24:212، و تفسير البيضاوي 2:181، و لم ينسب إلى ابن عباس.

ثمّ حكى استدلالهم على بطلان القول به بقوله: لَقَدْ وُعِدْنا هذا الإخراج و الحشر و النشر نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ و زمان ظهور محمد، و لم نر أحدا منهم خرج من قبره، فلذا إِنْ هذا الوعد، و ما هو إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و خرافات السابقين.

ثمّ أمر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بما نزل على أضرابهم من مكذّبي الرسل بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: سِيرُوا أيّها المشركون و سافروا فِي اَلْأَرْضِ التي كانت مسكن مكذّبي الرسل، كأرض الحجر و الأحقاف و سدوم و غيرها فَانْظُرُوا بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُجْرِمِينَ و مآل المكذّبين للرسل، فانّ عاقبتهم التالية الهلاك بالعذاب.

ثمّ سلّى نبيه بقوله: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن أصرّوا على التكذيب، أو ابتلوا بالعذاب.

ثمّ قوّى قلبه الشريف في تبليغ الرسالة بقوله: وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ و حرج و خوف مِمّا يَمْكُرُونَ و يحتالون في قتلك و يدبّرون في إهلاكك، فانّا كافلوك و ناصروك.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 71 الی 74

ثمّ حكى سبحانه استهزاءهم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين في وعدهم بالعذاب بقوله: وَ يَقُولُونَ استهزاء: مَتى هذَا اَلْوَعْدُ الذي تعدوننا؟ و في أيّ وقت ينزل العذاب الذي تخوّفوننا به؟ عيّنوه لنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم به

قُلْ يا محمّد، عَسى و قرب أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ و لحقكم بَعْضُ العذاب اَلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ و هو عذاب يوم بدر

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ و إنعام عَلَى كافة اَلنّاسِ بتأخير عقوبتهم على الكفر و العصيان وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعرفون هذه النّعمة، و لذا لا يَشْكُرُونَ بل لجهلهم يستعجلونه.

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (74)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ تأخير عذابهم ليس لجهله تعالى بأعمالهم بقوله: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ و تستر صُدُورُهُمْ من النيّات و الدواعي وَ ما يُعْلِنُونَ و يظهرون من الأقوال و الأفعال من عداوة الرسول و استهزائهم به و تكذيبهم له فيعاقبهم أشدّ العذاب.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 75 الی 77

ص: 591

ثمّ قرّر سبحانه سعة علمه بقوله: وَ ما مِنْ غائِبَةٍ و أمر خفيّ غاية الخفاء فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّ و هو مكشوف عنده، و مكتوب فِي كِتابٍ مُبِينٍ و اللوح المحفوظ الظاهر للناظرين فيه من الأنبياء الصالحين و الملائكة المقرّبين.

وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده و سعة قدرته و علمه المستلزمة للمعاد، شرع في إثبات نبوة نبيه باعجاز القرآن بقوله: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ الذي جاء به محمد الامّي الذي لم يخالط عالما، و لم يستفد من أحد العلماء، و لم يقرأ كتابا يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و يبيّن لهم أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كشأن عيسى و عزير، و المعارف الالهية من التشبيه و التنزيه، و أحوال المعاد و الجنّة و النار، و قصص الأنبياء و غيرها، حتى لعن بعضهم بعضا،

وَ إِنَّهُ بفصاحته و بلاغته البالغتين حدّ الإعجاز، و مطابقة ما فيه من المعارف و الأحكام للعقول السليمة، و خلوّة من التناقض و التهافت لَهُدىً و رشاد إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سائر العقائد الحقّة وَ رَحْمَةٌ و وسيلة للفوز إلى السعادة الأبدية و المقامات العالية لِلْمُؤْمِنِينَ.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 78 الی 81

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر اختلاف الناس، بين أنّه مع إنزاله القرآن الرافع للاختلاف، يكون هو الحاكم بينهم يوم القيامة بقوله: إِنَّ رَبَّكَ حين حضور المصيب و المخطئ عنده يوم القيامة يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ العدل و فصله الحقّ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ القادر على إنفاذ حكمه من غير مدافع و مزاحم و اَلْعَلِيمُ بكلّ شيء، و منه الحقّ الذي اختلفوا فيه، فلا تكن من اختلافهم في تعب،

فاذا كان ربّك قادرا على حفظك عالما بحالك فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ و فوّض أمرك إليه، و لا تبال بهم، و لا تلتفت إلى اختلافهم إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ و الدين الواضح صحّته، و من المعلوم أنّ من هو على الحقّ حقيق بنصر اللّه.

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَ ما أَنْتَ بِهادِي اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

ثمّ ذمّ سبحانه المخالفين له، المصرّين على الكفر و الباطل، و قطع طمعه عن هدايتهم و إيمانهم، إراحة لقلبه الشريف من تعب اجتهاده في دعوتهم بقوله: إِنَّكَ لا تقدر على هداية هؤلاء الكفرة؛ لأنّهم بمنزلة الموتى، لسقوط قلوبهم عن قابلية الانتفاع بالآيات و استماع الدلائل و البراهين و الاتّعاظ

ص: 592

بالمواعظ، و أنت لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى و لا يمكنك تفهيمهم الحكم و الحقائق، و هم بمنزلة الصمّ وَ أنت لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ و الأشخاص الفاقدين لقوّة السمع اَلدُّعاءَ و النداء فضلا عن الآيات القرآنية سيما إِذا وَلَّوْا و أعرضوا عنك حال كونهم مُدْبِرِينَ و جاعلين ظهورهم نحوك، فانّ الصّمّ إذا كانوا مقبلين و متوجّهين نحو الداعي و المتكلّم، فانّهم بمقابلة صماخهم و قربهم منه لعلّهم يسمعون أو برؤية حركات وجهه و شفتيه لعلّهم يفهمون، و أمّا إذا كانوا منصرفين عن الداعي، و مخلّفين له وراء ظهورهم و بعيدين منه، لا يرجى منهم السمع و الفهم، و هم بمنزلة العمي الذين ضلّوا الطريق وَ ما أَنْتَ بِهادِي اَلْعُمْيِ هداية نافعة عَنْ ضَلالَتِهِمْ في الطريق، لأن الأعمى الضالّ إذا قيل له هذا الطريق لا يراه و لا يهتدي إليه، بل إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ سلم قلبه عن العناد و اللّجاج، فانّه سبق في علمنا أنّه يُؤْمِنُ بِآياتِنا لطيب طينته و سلامة قلبه من الأمراض المانعة عن الايمان كالحسد و العناد و اللّجاج و حبّ الرئاسة و الدنيا، و غلبة عقله على شهوته و هوى نفسه فَهُمْ مُسْلِمُونَ و منقادون لما سمعوا من الحقّ، و مخلصون في الايمان.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 82

ثمّ هدّد سبحانه هؤلاء الكفّار بأهوال قبل القيامة بقوله: وَ إِذا وَقَعَ اَلْقَوْلُ و قرب العذاب الموعود إليهم و دنا نزوله عَلَيْهِمْ بظهور أمارات القيامة و وقت إنجاز الوعيد أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ.

وَ إِذا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)قيل: هي دابة طولها ستون ذراعا (1).

و قيل: يبلغ رأسها السّحاب، و ما بين قرنيها فرسخ للراكب، و لها أربع قوائم و زغب و ريش [و جناحان]، و رأسها رأس الثور، و عينها عين خنزير، و اذنها اذن فيل، و لها قرن إيل، و صدر أسد، و لون نمر، و خاصرة بقرة، و ذنب كبش، و خفّ بعير، تخرج من المسجد الحرام من بين الرّكن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، أو من الصفا، و مدّة خروجها ثلاثة أيام (2).

و قيل: إنّها جمعت خلق كلّ حيوان، و لها وجه الآدميين مضيء (3)، و معها خاتم سليمان، و عصى موسى، يراها أهل المشرق و المغرب (4)، و هم ينظرون و هي تُكَلِّمُهُمْ بالعربيّ الفصيح، أو مع كلّ

ص: 593


1- . تفسير الرازي 24:217، تفسير البيضاوي 2:183، تفسير روح البيان 6:372.
2- . تفسير الرازي 24:217.
3- . في تفسير روح البيان: مضيئة.
4- . تفسير روح البيان 6:372.

طائفة بلسانهم، و تقول من قبل اللّه: أَنَّ اَلنّاسَ كانُوا بِآياتِنا الناطقة بمجيء الساعة و يوم الجزاء لا يُوقِنُونَ بل فيها يشكّون.

و في الخبر: بينما عيسى يطوف بالبيت و معه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم و تتحرّك تحرّك القنديل، فينشقّ جبل الصفا ممّا يلي المسعى، فتخرج الدابّة منه كما خرجت ناقة صالح من الصخرة، و لا يتمّ خروجها إلاّ بعد ثلاثة أيام، فقوم يقفون نظّارا، و قوم يفزعون إلى الصلاة، فتقول للمصلّي: طوّل ما طوّلت، فو اللّه لأحطّمنّك، فتخرج و معها عصى موسى و خاتم سليمان فتضرب المؤمن في مسجده بالعصا فيظهر أثره كالنّقطة، فينبسط نوره على وجهه، و يكتب على جبهته: هو مؤمن، و تختم الكافر في أنفه بالخاتم، فتظهر نكتة فتقشو حتى يسودّ لها وجهه، و يكتب بين عينيه: هو كافر، ثمّ تقول لهم: أنت يا فلان من أهل الجنّة، و أنت يا فلان من أهل النار (1)، و لم يبق في الدنيا إلاّ من ابيضّ وجهه.

و في الحديث: أنّ خروج الدابة و طلوع الشمس من المغرب متقاربان (2).

قيل: إنّه أوّل أشراط الساعة (3). و قيل: إنّه آخرها (4).

و نسب بعض علماء العامة إلى محدّثيهم أنّ بني الأصفر-و هم الأفرنج-إذا خرجوا و ظهروا إلى الأعماق في ستّ سنين يظهر المهدي عليه السّلام في السنة السابعة، ثم يظهر الدجّال، ثمّ ينزل عيسى عليه السّلام، ثمّ تخرج دابة الأرض، ثمّ تطلع الشمس من المغرب، و قالوا: إذا خرجت الدابة حبست الحفظة، و رفعت الأقلام، و شهدت الأجساد على الأعمال (5).

أقول: كل ذلك بروايات العامة، و أما الروايات الخاصة، فعن القميّ، عن الصادق عليه السّلام، قال: «انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو نائم في المسجد قد جمع رملا و وضع رأسه عليه، فحرّكه برجله، ثمّ قال له: قم يا دابة الأرض (1)، فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللّه، يسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ ! فقال: لا و اللّه، ما هو إلاّ له خاصة، و هو الذي ذكره (2)اللّه في كتابه، فقال عزّ و جلّ: وَ إِذا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا الآية، ثمّ قال: يا علي، إذا كان في (3)آخر الزمان، أخرجك اللّه في أحسن صورة، و معك ميسم تسم به أعداءك» .

فقال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إن العامّة (4)يقولون: إنّ هذه الدابة تكلمهم؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ص: 594


1- . في المصدر: دابة اللّه.
2- . في المصدر: و هو الدابة التي ذكر، و في تفسير الصافي: و هو الدابة الذي ذكره.
3- . (في. ليست في المصدر و تفسير الصافي.
4- . ليس في المصدر: الناس.

«كلمهم اللّه في نار جهنّم، إنّما هو تكلّمهم من الكلام» (1).

أقول: الظاهر أنّه نسب إلى العامة القول بأنّ يكلمهم من الكلم بمعنى الجرح (2)، فردّه عليه السّلام.

و عنه عليه السّلام أنّه قال: «[قال:]رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان، آية في كتاب اللّه قد أفسدت قلبي؟ فقال: و أيّة آية هي؟ قال: قوله عزّ و جلّ: وَ إِذا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ الآية. فأيّة دابة (3)هي؟ فقال عمار: و اللّه ما أجلس و لا آكل و لا أشرب حتى اريكها، فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يأكل تمرا و زبدا، فقال [له]: يا أبا اليقظان هلمّ، فأقبل عمّار و جلس يأكل معه، فتعجّب الرجل منه، فلمّا قام عمّار قال [له]الرجل: سبحان اللّه! إنّك حلفت أن لا تأكل و لا تشرب و لا تجلس حتى تريني الدابة! قال عمار: قد أريتكها إن كنت تعقل (4).

و روى العياشي هذه القصة عن أبي ذرّ (5)، و عن الباقر عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و لقد اعطيت الستّ: علم المنايا و البلايا، و الوصايا، و فصل الخطاب، و إنّي لصاحب الكرّات و دولة الدول، و إنّي لصاحب العصا و الميسم، و الدابة التي تكلّم الناس» (6).

و في (الاكمال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث بعد أن ذكر الدجّال و قاتله-قال: «ألا إنّ بعد ذلك الطامّة الكبرى. فقيل: و ما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: خروج دابة الأرض من عند الصفا، و معها خاتم سليمان و عصا موسى، تضع الخاتم على وجه كلّ مؤمن فينطبع فيه: هذا مؤمن حقا، و تضع العصا (7)على وجه كلّ كافر فيكتب: هذا كافر حقا، حتى إنّ المؤمن لينادي: الويل لك يا كافر، و إنّ الكافر ينادي: طوبى لك يا مؤمن، وددت أنّي كنت مثلك، فأفوز فوزا عظيما، و ترفع الدابة رأسها [فيراها]من بين الخافقين باذن اللّه جلّ جلاله، و ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك ترفع التوبة، فلا تقبل توبة و عمل (8)، و لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.

ثمّ قال عليه السّلام: لا تسألوني عمّا يكون بعد هذا، فانّه عهد إليّ حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن لا اخبر به غير عترتي» (9).

و في (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «دابة الأرض طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، و لا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيه [و يكتب بين عينيه]مؤمن، و تسم الكافر بين عينيه [و يكتب بين

ص: 595


1- . تفسير القمي 2:130، تفسير الصافي 4:74.
2- . تفسير الرازي 24:218، تفسير أبي السعود 6:302.
3- . في النسخة: آية.
4- . تفسير القمي 2:131، تفسير الصافي 4:74.
5- . مجمع البيان 7:366، تفسير الصافي 4:75.
6- . الكافي 1:154/3، تفسير الصافي 4:75.
7- . في المصدر: و يضعه، و في تفسير الصافي: و تضعه.
8- . في المصدر: فلا توبة تقبل و لا عمل يرفع.
9- . كمال الدين:527/1، تفسير الصافي 4:75.

عينيه]كافر، و معها عصا موسى و خاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، و تختم أنف الكافر بالخاتم حتى يقال: يا مؤمن و يا كافر» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن الدابة، فقال: «أما و اللّه لا يكون لها ذنب، و إنّ لها للحية» (2).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 83 الی 85

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال يوم القيامة بقوله: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ و التقدير اذكروا، أو اذكر يا محمّد لقومك يوم نحشر مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من امم الرسل، أو كلّ قرن من القرون فَوْجاً و جمعا كثيرا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا و دلائل توحيدنا و رسالة رسلنا فَهُمْ يُوزَعُونَ و يحبسون كي يلحق بهم أسافلهم التابعون.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)عن ابن عباس، قال: أبو جهل، و الوليد بن المغيرة، و شيبة بن ربيعة، يساقون بين يدي أهل مكّة، و هكذا تحشر قادة سائر الامم بين أيديهم إلى النار (1).

و قيل: إنّ المراد بالفوج الذين يرجعون إلى الدنيا بعد قيام القائم حَتّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال و الحساب أو التوبيخ (2)قالَ اللّه أو الملك من قبله تعالى توبيخا لهم: أَ كَذَّبْتُمْ في الدنيا، أو في زمان حياتكم بِآياتِي الدالة على توحيدي و الناطقة بلقاء يومكم هذا وَ أنتم لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً و لم تنظروا فيها نظرا يؤدّي إلى معرفة حقيقتها و صدقها. و يحتمل أن تكون الواو للعطف لا للحال، و المعنى: جمعتم بين تكذيبها و عدم التفكّر و التدبّر فيها أَمّا ذا كُنْتُمْ بعد ترك التفكّر فيها، أو عدم الاعتناء بها تَعْمَلُونَ و بأيّ شيء بعد ذلك كنتم تشتغلون غير الكفر و التكذيب و العصيان؟ فلا يمكنهم إلاّ الإقرار بأنّهم ما فعلوا إلاّ ذلك.

و عن الصادق عليه السّلام-في الحديث الذي مضى في تفسير دابّة الأرض-أنّه قال: «و الدليل على أنّ هذا في الرجعة: [قوله]: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً الآية» . و قال: «الآيات أمير المؤمنين و الائمّة عليهم السّلام» (3).

أقول: و المعنى على هذا: أنّه يحشر مكذّبو الائمة في الرجعة، و يحييهم ثانيا، و يوبّخهم بلسان

ص: 596


1- . تفسير أبي السعود 6:302، تفسير روح البيان 6:373.
2- . تفسير روح البيان 6:373.
3- . تفسير القمي 2:130، تفسير الصافي 4:76.

ملك، و يقول: إنّي نصبت لكم أئمة ليهدوكم، أكذبتموهم و لم تتفكّروا في دليل امامتهم؟ !

وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ و حلّ العذاب بهم بِما ظَلَمُوا به أنفسهم من التكذيب بالآيات فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ و لا يقدرون على التكلّم بالعذر و غيره، لشدة هول ما يشاهدون من أنواع العذاب، أو للختم على أفواههم.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 86 الی 87

ثمّ أنّه تعالى بعد إرعابهم بذكر أهوال القيامة، بيّن دليلا قاطعا على التوحيد و المعاد بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء المشركون المنكرون للمعاد ببصيرة قلوبهم أَنّا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ المظلم لِيَسْكُنُوا عن الحركة و يستريحوا فِيهِ من التعب بالنوم و القرار وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً و مضيئا ليبصروا فيه طرق التقلّب في معاشهم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من جعل الليل و النهار كما وصفا لَآياتٍ عظيمة و براهين واضحة على التوحيد و المعاد لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانّ من كان قدرته و حكمته بحيث يقلّب الليل و النهار، و يعقب النور بالظلمة و بالعكس، كان متوحدا بالالوهية، و قادرا على تقليب الحياة إلى الموت، و الموت إلى الحياة مع اقتضاء الحكمة ذلك.

أَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان أهوال القيامة ازديادا لإرعاب القلوب بقوله: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ النفخة الاولى أو الثانية فِي اَلصُّورِ و القرن الذي بيد إسرافيل، و هو نافخه مرة للموت و اخرى للحشر فَفَزِعَ و خاف من هول صوته خوفا موجبا للنّفار مَنْ فِي اَلسَّماواتِ السبع من الملائكة وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ ثبات قلبه و عدم فزعه، و هم الملائكة أو ساداتهم كجبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، أو خزنة الجنّة و النار، أو خصوص إسرافيل، أو الحور العين أو الحور و خزنة جهنم، أو حملة العرش.

و عن جابر: أنّ موسى منهم حيث صعق مرّة (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّهم الشهداء» (2).

وَ كُلٌّ منهم أَتَوْهُ و حضروا بعد النفخة الثانية في الموقف حال كونهم داخِرِينَ و ذليلين

ص: 597


1- . تفسير الرازي 24:220.
2- . تفسير الطبري 20:13، تفسير الرازي 24:220، نسبه إلى القيل، مجمع البيان 7:370.

للسؤال و الحساب، و إنّما عبّر سبحانه عن الفزع و الإتيان بصيغة الماضي للدلالة على تحقّق وقوعهما، و قد مرّ كيفية بيان الصّور، و النّفخ فيه، و عدد النّفخ، و الفصل بين النفختين (1).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 88

ثمّ ذكر سبحانه من أهوال القيامة حال الجبال بقوله: وَ تَرَى أيّها الرائي اَلْجِبالَ يومئذ حال كونك تَحْسَبُها و تتوهّمها جامِدَةً و ساكنة في اماكنها وَ هِيَ في ذلك الوقت تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحابِ و تسير كسيره في السرعة، فانّ الجسم العظيم إذا تحرّك حركة سريعة على نهج واحد في السّمت و الكيفية، ظنّ الناظر أنّه واقف، مع أنّه متحرّك في غاية السرعة، و كذا الشيء العظيم الذي لا يحيط بأطرافه البصر، إذا سار لا يحسّ الناظر سيره، و يتوهمه واقفا، و ذلك يكون عند النفخة الثانية حين تبدّل الأرض غير الأرض، و تغيّر هيئتها، و تسيّر (2)الجبال عن مقارّها.

وَ تَرَى اَلْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحابِ صُنْعَ اَللّهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88)و عن بعض العامة، عن الصادق عليه السّلام-في تأويل الآية-قال: «و ترى الأنفس جامدة عند خروج الرّوح، و الروح تسير (3)في القدس لتأوي إلى مكانها تحت العرش» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على عظم شأن تلك الأفعال، و تهويل أمرها، و كونها من بدائع صنعه المبنية على الحكمة البالغة المستتبعة للغايات الجميلة التي رتّبت لأجلها مقدّمات الخلق و مبادي الإبداع على الوجه المتقن المستحكم بقوله: صُنْعَ اَللّهِ و فعله الجيّد غايته اَلَّذِي أَتْقَنَ و أحكم كُلَّ شَيْءٍ خلقه، و سوّاه على ما ينبغي، ثم علّل النفخ و البعث و سائر أهوال القيامة بقوله: إِنَّهُ تعالى خَبِيرٌ و عالم بِما تَفْعَلُونَ من الطاعة و العصيان، فيجازيكم عليه بما تستحقّون.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 89 الی 90

ثمّ بيّن حال المطيعين و العاصين في ذلك اليوم بقوله: مَنْ جاءَ في ذلك اليوم بِالْحَسَنَةِ و الامور الحميدة من العقائد الصحيحة و الطاعات الخالصة فَلَهُ من الثواب ما هو خَيْرٌ و أفضل مِنْها فانّ تجلّياته تعالى في الجنّة أفضل من معرفته له تعالى في الدنيا، و نعمه الأبدية خير من

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

ص: 598


1- . تقدم ذكر الصّور في الأنعام/73 و الكهف/99 و طه/102 و المؤمنون/23.
2- . في النسخة: و سير.
3- . في تفسير روح البيان: تسري.
4- . تفسير روح البيان 6:376.

طاعاته في الدنيا.

و قيل: يعني له خير حاصل من جهتها (1).

وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ عظيم يكون لأهل العصيان يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ و مأمونون لا يرعبهم بعد الفزع من نفخ الصّور شيء من أهوال الموقف التي هي الفزع الأكبر

وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ من الشّرك و الكفر، و ما هو بمنزلته من إنكار الولاية فَكُبَّتْ و اسقطت منكوسة (2)وُجُوهُهُمْ أو المعنى القوا على وجوههم فِي اَلنّارِ. و قيل: إنّ المراد بالوجوه أبدانهم (3). ثمّ يقال لهم توبيخا: هَلْ تُجْزَوْنَ اليوم إِلاّ ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الشرك، و العقائد الفاسدة، و الأعمال الشنيعة.

في الحديث: «إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان و الشّرك يجثوان بين يدي الربّ تعالى، فيقول اللّه تعالى للايمان: انطلق أنت و أهلك إلى الجنّة و يقول للشّرك: أنطلق أنت و أهلك إلى النار» . ثمّ قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلى قوله: فِي اَلنّارِ (4).

و روى بعض العامة عن أبي عبد اللّه الجدلي قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: «يا أبا عبد اللّه، ألا انبّئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله اللّه الجنة، و السيئة التي من جاء بها أكبّه اللّه في النار و لم يقبل معها عملا؟» قلت: بلى. قال: «الحسنة حبنّا، و السيئة بغضنا» (5).

و عن الصادق، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام-في هذه الآية-قال: «الحسنة معرفة الولاية و حبّنا أهل البيت، و السيئة إنكار الولاية و بغضنا أهل البيت» ثمّ قرأ الآية (3).

و عن الباقر عليه السّلام-في قوله تعالى: وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً -قال: «من تولّى الأوصياء من آل محمّد و اتّبع آثارهم، فذاك يزيده ولاية من مضى من النبيين و المؤمنين الأولين حتى تصل ولايتهم إلى آدم عليه السّلام، و هو قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يدخله الجنة» (4).

و عنه عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «الحسنة ولاية عليّ و حبّه، و السيئة عداوته و بغضه، و لا يرفع معهما عمل» (5).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 91 الی 93

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا اَلْقُرْآنَ فَمَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ (92) وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (93)

ص: 599


1- . تفسير الرازي 24:221.
2- . في النسخة: منكوسا. (3 و 4 و 5) . تفسير روح البيان 6:377.
3- . الكافي 1:142/14، تفسير الصافي 4:78.
4- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:78.
5- . روضة الواعظين:106، تفسير الصافي 4:78.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاحتجاج على التوحيد و إبلاغ البيان فيه، ختم الكلام بأمر نبيّه بإظهار التزام نفسه به، قبلوا قوله و حججه أوّلا، قطعا لطمع المشركين من أن يميل عليه السّلام إلى دينهم، و إظهارا لعدم المبالاة بلجاجهم و عنادهم بقوله: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ اَلْبَلْدَةِ التي هي أحبّ البلاد لديّ و أكرمها و أعظمها عندي و عند ربّي اَلَّذِي حَرَّمَها و جعلها لمن دخلها، و ممنوعة من أن تهتك حرمتها، و يعضد شجرها (1)، و ينفّر صيدها، و من المعلوم أنّ ذلك كلّه من نعم ربّي عليّ و عليكم، و ليس إضافتها إليه لاختصاص ربوبيته بها، بل وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ من هذه البلدة و غيرها من الموجودات وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ و المنقادين له، و المطيعين لأحكامه، أو من الثابتين على دينه

وَ امرت أَنْ أَتْلُوَا اَلْقُرْآنَ الذي أنزله عليّ، و إن تجحدونه أنّه منه، و تنسبونه إلى السّحر مرة، و إلى الشعر اخرى، و إلى الكهانة ثالثة، و إلى الأساطير رابعة فَمَنِ اِهْتَدى إلى التوحيد و دين الاسلام و السعادة الأبدية بهدايته و إرشادك فَإِنَّما يَهْتَدِي إلى كلّ خير عائد لِنَفْسِهِ لا يتعدّى إلى غيره وَ مَنْ ضَلَّ بمخالفتك عن الصراط المستقيم، و انحرف عن الطريق القويم فَقُلْ له: ليس عليّ وبال ضلالك و إِنَّما أَنَا منذر مَنْ جملة اَلْمُنْذِرِينَ و رسول من الرسل ليس عليّ إلاّ الإنذار و التبليغ، و قد أدّيت ما عليّ، و خرجت عن عهدة ما كلّفت به، و عليكم الاهتداء و الايمان، و بقي ما عليكم و اللّه مجازيكم عليه.

ثمّ لمّا بيّن وظيفته و هو التبليغ، و خروجه من عهدتها، و براءته من وبال مخالفة أمّته، أمره اللّه سبحانه بالشكر على نعمه عليه بقوله: وَ قُلِ يا محمد اَلْحَمْدُ لِلّهِ على إكمال نعمه عليّ من العلم و الحكمة و النبوة و الكتاب، و توفيقه للقيام بوظيفة الرسالة و تحمّل أعباء النبوة، و أمّا أنتم يا مشركي قريش، فاعلمكم أنّ اللّه المنتقم سَيُرِيكُمْ في الدنيا أو الآخرة آياتِهِ القاهرة و عقوباته الشديدة فَتَعْرِفُونَها حين لا ينفعكم معرفتها، و تقرّون بها حين لا يفيدكم الإقرار.

القميّ، قال: الآيات أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام إذا رجعوا إلى الدنيا يعرفهم أعداؤهم إذا رأوهم في الدنيا (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال: «و اللّه ما للّه آية أكبر مني» (3).

قال مقاتل: يعني سيريكم آياته عن قريب من الأيام، فطوبى لمن رجع قبل وفاته، و الويل على من

ص: 600


1- . يعضد شجرها: أي يقطع.
2- . تفسير القمي 2:132، تفسير الصافي 4:79.
3- . تفسير القمي 2:132، تفسير الصافي 4:79.

رجع بعد وفاته و بعد ذهاب الوقت (1).

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الضالين بقوله: وَ ما رَبُّكَ يا محمّد بِغافِلٍ و ذاهل عَمّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه أسوأ الجزاء، و إنّما أخّره لحكم كثيرة لا للغفلة عنه و عدم إطّلاعه عليه.

عن ابي بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة طس كتب اللّه تعالى له عشر حسنات بعدد من آمن بسليمان و هود و شعيب و صالح و إبراهيم، و بعدد من كذّبهم، و إذا خرج من قبره يوم القيامة يقول: لا إله إلاّ اللّه» (2).

اللهمّ وفّقني لأداء شكر نعمتك من التوفيق لاتمام تفسير السورة المباركة، و وفّقني و جميع المؤمنين لتلاوتها آناء الليل و أطراف النهار.

ص: 601


1- . تفسير روح البيان 6:379.
2- . مجمع البيان 7:327، تفسير أبي السعود 6:307.

ص: 602

في تفسير سورة الإسراء 5

[1]بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام5

[2 و 3]و آتينا موسى الكتاب و جعلناه هدى لبنى إسرائيل ألا تتخذوا من دونى24

[4-6]و قضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن فى الأرض مرتين و لتعلن24

[7]إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة25

[8]عسى ربكم أن يرحمكم و إن عدتم عدنا و جعلنا جهنم للكافرين27

[9]إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون28

[10 و 11]و أن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما*و يدع الإنسان29

[12]و جعلنا الليل و النهار آيتين فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة30

[13 و 14]و كل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه32

[15]من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها و لا تزر وازرة33

[16 و 17]و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول34

[18-21]من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم35

[22]لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا37

[23 و 24]و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر38

[25 و 26]ربكم أعلم بما فى نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا40

[27 و 28]إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفورا*و إما42

[29]و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما43

[30]إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا44

[31]و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ44

[32]و لا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة و ساء سبيلا45

[33]و لا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق و من قتل مظلوما فقد جعلنا45

ص: 603

[34]و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده و أوفوا بالعهد47

[35 و 36]و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن47

[37 و 38]و لا تمش فى الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا49

[39]ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة و لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى50

[40 و 41]أ فأصفاكم ربكم بالبنين و اتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا51

[42 و 43]قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا*سبحانه51

[44]تسبح له السماوات السبع و الأرض و من فيهن و إن من شىء إلا يسبح52

[45 و 46]و إذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا53

[47 و 48]نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك و إذ هم نجوى إذ يقول55

[49-51]و قالوا أءذا كنا عظاما و رفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا*قل كونوا56

[52]يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده و تظنون إن لبثتم إلا قليلا57

[53-55]و قل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان57

[56]قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم و لا60

[57]أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب و يرجون60

[58]و إن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا60

[59]و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون و آتينا ثمود الناقة61

[60]و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس و ما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة62

[61-64]و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أ أسجد لمن65

[65]إن عبادى ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا67

[66 و 67]ربكم الذى يزجي لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم67

[68 و 69]أ فأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا68

[70]و لقد كرمنا بنى آدم و حملناهم فى البر و البحر و رزقناهم من الطيبات69

[71]يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم70

[72]و من كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى و أضل سبيلا72

[73 و 74]و إن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره و إذا73

[75-77]إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا75

ص: 604

[78]أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر إن قرآن الفجر76

[79]و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا77

[80]و قل رب أدخلنى مدخل صدق و أخرجنى مخرج صدق و اجعل لى من78

[81]و قل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا79

[82]و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا80

[83]و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نئا بجانبه و إذا مسه الشر كان81

[84 و 85]قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا*و يسئلونك81

[86 و 87]و لئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا*إلا85

[88]قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون86

[89]و لقد صرفنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا87

[90-93]و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا*أو تكون لك جنة87

[94-96]و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا94

[97 و 98]و من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه94

[99 و 100]أ و لم يروا أن الله الذى خلق السماوات و الأرض قادر على أن يخلق96

[101-104]و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسأل بنى إسرائيل إذ جاءهم فقال له97

[105 و 106]و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا*و قرآنا فرقناه99

[107-109]قل آمنوا به أ و لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم99

[110]قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى و لا100

[111]و قل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك فى الملك و لم يكن102

في تفسير سورة الكهف 105

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل105

[6-8]فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا*إنا106

[9]أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا106

[10-13]إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيئ لنا من109

[14-16]و ربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا111

[17]و ترى الشمس إذا طلعت تتزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت113

ص: 605

[18-20]و تحسبهم أيقاظا و هم رقود و نقلبهم ذات اليمين و ذات الشمال و كلبهم114

[21]و كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها إذ117

[22]سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم و يقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما119

[23-26]و لا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدا*إلا أن يشاء الله و اذكر ربك إذا120

[27]و اتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته و لن تجد من دونه123

[28]و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه و لا124

[29]و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين125

[30 و 31]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا126

[32 و 33]و اضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب و حففناهما127

[34-38]و كان له ثمر فقال لصاحبه و هو يحاوره أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا128

[39-41]و لو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك129

[42-44]و أحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها و هي خاوية على130

[45 و 46]و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات131

[47 و 48]و يوم نسير الجبال و ترى الأرض بارزة و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا132

[49]و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا مال133

[50 و 51]و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق134

[52 و 53]و يوم يقول نادوا شركائى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم135

[54]و لقد صرفنا فى هذا القرآن للناس من كل مثل و كان الإنسان أكثر شىء135

[55 و 56]و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى و يستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم136

[57]و من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها و نسى ما قدمت يداه إنا جعلنا137

[58 و 59]و ربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل137

[60 و 61]و إذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا138

[62-65]فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا*قال141

[66-70]قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا*قال إنك لن144

[71-77]فانطلقا حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها قال أ خرقتها لتغرق أهلها لقد145

[78 و 79]قال هذا فراق بينى و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا*أما148

ص: 606

[80-82]و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا*فأردنا149

[83]و يسئلونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا153

[84-90]إنا مكنا له فى الأرض و آتيناه من كل شىء سببا*فأتبع سببا*حتى إذا155

[91-98]كذلك و قد أحطنا بما لديه خبرا*ثم أتبع سببا*حتى إذا بلغ بين159

[99-100]و تركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض و نفخ فى الصور فجمعناهم جمعا*161

[101 و 102]الذين كانت أعينهم فى غطاء عن ذكرى و كانوا لا يستطيعون سمعا*162

[103-106]قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا*الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا163

[107 و 108]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا*164

[109 و 110]قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى165

في تفسير سورة مريم 169

[1-6]بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص*ذكر رحمت ربك عبده زكريا*إذ نادى ربه169

[7-9]يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا*قال رب172

[10 و 11]قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا*فخرج173

[12-14]يا يحيى خذ الكتاب بقوة و آتيناه الحكم صبيا*و حنانا من لدنا و زكاة174

[15]و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا175

[16-28]و اذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا*فاتخذت من176

[29-34]فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا*قال إنى عبد الله181

[35-39]ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون183

[40-43]إنا نحن نرث الأرض و من عليها و إلينا يرجعون*و اذكر فى الكتاب184

[44-50]يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا*يا أبت إنى185

[51-53]و اذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا*و ناديناه من187

[54 و 55]و اذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا*و كان188

[56-58]و اذكر فى الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا*و رفعناه مكانا عليا*189

[59 و 60]فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون190

[61-63]جنات عدن التى وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا*لا191

[64 و 65]و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان192

ص: 607

[66 و 67]و يقول الإنسان أءذا ما مت لسوف أخرج حيا*أولا يذكر الإنسان أنا193

[68-72]فو ربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا*ثم194

[73 و 74]و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أى الفريقين197

[75 و 76]قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون198

[77-80]أ فرأيت الذى كفر بآياتنا و قال لأوتين مالا و ولدا*أطلع الغيب أم اتخذ198

[81 و 82]و اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا*كلا سيكفرون بعبادتهم199

[83 و 84]أ لم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا*فلا تعجل عليهم200

[85-87]يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا*و نسوق المجرمين إلى جهنم201

[88-95]و قالوا اتخذ الرحمن ولدا*لقد جئتم شيئا إدا*تكاد السماوات204

[96]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا205

[97 و 98]فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين و تنذر به قوما لدا*و كم أهلكنا206

في تفسير سورة طه 209

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم طه*ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى*إلا تذكرة لمن209

[6 و 7]له ما فى السماوات و ما فى الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى*و إن211

[8-12]الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى*و هل أتاك حديث موسى*إذ رأى211

[13 و 14]و أنا اخترتك فاستمع لما يوحى*إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى و أقم214

[15 و 16]إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى*فلا يصدنك عنها215

[17-21]و ما تلك بيمينك يا موسى*قال هى عصاى أتوكؤا عليها و أهش بها على216

[22-28]و اضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى*لنريك217

[29-36]و اجعل لى وزيرا من أهلى*هارون أخى*اشدد به أزرى*و أشركه فى219

[37-39]و لقد مننا عليك مرة أخرى*إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى*أن اقذفيه221

[40]إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كى223

[41-44]و اصطنعتك لنفسى*اذهب أنت و أخوك بآياتى و لا تنيا فى ذكرى*224

[45-47]قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى*قال لا تخافا إننى معكما225

[48-52]إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب و تولى*قال فمن ربكما يا226

[53 و 54]الذى جعل لكم الأرض مهدا و سلك لكم فيها سبلا و أنزل من السماء ماء227

ص: 608

[55-57]منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى*و لقد أريناه228

[58-64]فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا و بينك موعدا لا نخلفه نحن و لا أنت229

[65-68]قالوا يا موسى إما أن تلقى و إما أن نكون أول من ألقى*قال بل ألقوا فإذا231

[69-73]و ألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر و لا يفلح232

[74-76]إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيى*و من يأته234

[77-79]و لقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر235

[80 و 81]يا بنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم و واعدناكم جانب الطور الأيمن237

[82]و إنى لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى238

[83-85]و ما أعجلك عن قومك يا موسى*قال هم أولاء على أثرى و عجلت إليك239

[86 و 87]فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا241

[88-90]فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسى*242

[91-94]قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى*قال يا هارون ما246

[95-97]قال فما خطبك يا سامرى*قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة248

[98-101]إنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو وسع كل شيء علما*كذلك نقص عليك249

[102-104]يوم ينفخ فى الصور و نحشر المجرمين يومئذ زرقا*يتخافتون بينهم إن250

[105-107]و يسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا*فيذرها قاعا صفصفا*لا251

[108 و 109]يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له و خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا253

[110-112]يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون به علما*و عنت الوجوه254

[113 و 114]و كذلك أنزلناه قرآنا عربيا و صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث255

[115]و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى و لم نجد له عزما257

[116-127]و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى*فقلنا يا آدم إن257

[128 و 129]أ فلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك260

[130]فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها260

[131]و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم261

[132]و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك و العاقبة262

[133-135]و قالوا لو لا يأتينا بآية من ربه أ و لم تأتهم بينة ما فى الصحف الاولى*262

ص: 609

في تفسير سورة الأنبياء 267

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم اقترب للناس حسابهم و هم فى غفلة معرضون267

[4-8]قال ربى يعلم القول فى السماء و الأرض و هو السميع العليم*بل قالوا268

[9 و 10]ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم و من نشاء و أهلكنا المسرفين*لقد أنزلنا269

[11-15]و كم قصمنا من قرية كانت ظالمة و أنشأنا بعدها قوما آخرين*فلما أحسوا270

[16-19]و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما لاعبين*لو أردنا أن نتخذ لهوا271

[20-23]يسبحون الليل و النهار لا يفترون*أم اتخذوا آلهة من الأرض هم273

[24-27]أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معى و ذكر من قبلى274

[28]يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من276

[29 و 30]و من يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين277

[31-33]و جعلنا فى الأرض رواسى أن تميد بهم و جعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم279

[34-36]و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أ فإن مت فهم الخالدون*كل نفس ذائقة280

[37 و 38]خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتى فلا تستعجلون*و يقولون متى282

[39-42]لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار و لا عن ظهورهم282

[43 و 44]أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم و لا هم منا283

[45 و 46]قل إنما أنذركم بالوحى و لا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون*و لئن284

[47 و 48]و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال285

[49 و 50]الذين يخشون ربهم بالغيب و هم من الساعة مشفقون*و هذا ذكر مبارك286

[51-58]و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين*إذ قال لأبيه و قومه ما286

[59-65]قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين*قالوا سمعنا فتى يذكرهم288

[66-69]قال أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم*أف لكم و لما290

[70-73]و أرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين*و نجيناه و لوطا إلى الأرض التى292

[74-77]و لوطا آتيناه حكما و علما و نجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث294

[78-80]و داود و سليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم و كنا295

[81 و 82]و لسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض التى باركنا فيها و كنا299

[83]و أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر و أنت أرحم الراحمين300

ص: 610

[84]فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر و آتيناه أهله و مثلهم معهم رحمة من305

[85 و 86]و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل كل من الصابرين*و أدخلناهم فى306

[87 و 88]و ذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا308

[89 و 90]و زكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا و أنت خير الوارثين*فاستجبنا له311

[91-93]و التى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا و جعلناها و ابنها آية311

[94 و 95]فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون*312

[96-98]حتى إذا فتحت يأجوج و مأجوج و هم من كل حدب ينسلون*و اقترب313

[99-103]لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها و كل فيها خالدون*لهم فيها زفير و هم فيها لا314

[104-106]يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا316

[107]و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين317

[108-111]قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون*فإن تولوا فقل319

[112]قال رب احكم بالحق و ربنا الرحمن المستعان على ما تصفون320

في تفسير سورة الحجّ 321

[1 و 2]بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم321

[3 و 4]و من الناس من يجادل فى الله بغير علم و يتبع كل شيطان مريد*كتب323

[5-7]يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة323

[8-10]و من الناس من يجادل فى الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير*ثانى326

[11]و من الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به و إن أصابته326

[12-14]يدعوا من دون الله ما لا يضره و ما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد*328

[15]من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا و الآخرة فليمدد بسبب إلى328

[16 و 17]و كذلك أنزلناه آيات بينات و أن الله يهدى من يريد*إن الذين آمنوا329

[18]أ لم تر أن الله يسجد له من فى السماوات و من فى الأرض و الشمس330

[19-22]هذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار331

[23 و 24]إن الله يدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها332

[25]إن الذين كفروا و يصدون عن سبيل الله و المسجد الحرام الذى جعلناه333

[26]و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا و طهر بيتى للطائفين336

ص: 611

[27]و أذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج336

[28 و 29]ليشهدوا منافع لهم و يذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من338

[30]ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه و أحلت لكم الأنعام إلا ما342

[31]حنفاء لله غير مشركين به و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه343

[32]ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب343

[33]لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق344

[34 و 35]و لكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام344

[36 و 37]و البدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها345

[38 و 39]إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور*أذن للذين346

[40]الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله و لو لا دفع الله347

[41]الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا348

[42-44]و إن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح و عاد و ثمود*و قوم إبراهيم و قوم349

[45]فكأين من قرية أهلكناها و هى ظالمة فهى خاوية على عروشها و بئر معطلة350

[46]أ فلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها352

[47]و يستعجلونك بالعذاب و لن يخلف الله وعده و إن يوما عند ربك كألف سنة353

[48-51]و كأين من قرية أمليت لها و هى ظالمة ثم أخذتها و إلي المصير*قل يا353

[52]و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى354

[53 و 54]ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم355

[55-57]و لا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم356

[58-59]و الذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا و إن357

[60-62]ذلك و من عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو357

[63-66]أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف359

[67 و 68]لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الأمر و ادع إلى ربك360

[69 و 70]الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون*ا لم تعلم أن الله يعلم360

[71 و 72]و يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا و ما ليس لهم به علم و ما361

[73]يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن362

ص: 612

[74-76]ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز*الله يصطفى من الملائكة رسلا362

[77]يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم363

[78]و جاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم و ما جعل عليكم فى الدين من364

في تفسير سورة المؤمنون 367

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم قد أفلح المؤمنون*الذين هم فى صلاتهم خاشعون367

[4-7]و الذين هم للزكاة فاعلون*و الذين هم لفروجهم حافظون*إلا على368

[8-11]و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون*و الذين هم على صلواتهم370

[12-16]و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين*ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين*372

[17-20]و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق و ما كنا عن الخلق غافلين*و أنزلنا من373

[21 و 22]و إن لكم فى الأنعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها و لكم فيها منافع كثيرة375

[23 و 24]و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ا فلا375

[25-29]إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين*قال رب انصرنى بما376

[30]إن فى ذلك لآيات و إن كنا لمبتلين378

[31-34]ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين*فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا378

[35-41]أ يعدكم أنكم إذا متم و كنتم ترابا و عظاما أنكم مخرجون*هيهات هيهات379

[42-48]ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين*ما تسبق من أمة أجلها و ما380

[49 و 50]و لقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون*و جعلنا ابن مريم و أمه آية381

[51-54]يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم*382

[55 و 56]أ يحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين*نسارع لهم فى الخيرات بل لا383

[57-61]إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون*و الذين هم بآيات ربهم يؤمنون384

[62]و لا نكلف نفسا إلا وسعها و لدينا كتاب ينطق بالحق و هم لا يظلمون385

[63-67]بل قلوبهم فى غمرة من هذا و لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون*386

[68-70]أ فلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين*أم لم يعرفوا386

[71-74]و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض و من فيهن بل387

[75-77]و لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون*و لقد388

[78-80]و هو الذى أنشأ لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون*و هو389

ص: 613

[81-83]بل قالوا مثل ما قال الأولون*قالوا أ أذا متنا و كنا ترابا و عظاما ءإنا390

[84-90]قل لمن الأرض و من فيها إن كنتم تعلمون*سيقولون لله قل أ فلا تذكرون391

[91 و 92]ما اتخذ الله من ولد و ما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق و لعلا392

[93 و 94]قل رب إما ترينى ما يوعدون*رب فلا تجعلنى فى القوم393

[95-98]و إنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون*ادفع بالتى هى أحسن السيئة394

[99 و 100]حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون*لعلى أعمل صالحا فيما395

[101]فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون396

[102-104]فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون*و من خفت موازينه فأولئك397

[105-108]ا لم تكن آياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون*قالوا ربنا غلبت علينا398

[109-114]إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير400

[115 و 116]أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون*فتعالى الله الملك400

[117 و 118]و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح399

في تفسير سورة النور 403

[1 و 2]بسم الله الرحمن الرحيم سورة أنزلناها و فرضناها و أنزلنا فيها آيات بينات لعلكم403

[3]الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة و الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك405

[4 و 5]و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين407

[6-9]و الذين يرمون أزواجهم و لم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم409

[10 و 11]و لو لا فضل الله عليكم و رحمته و أن الله تواب حكيم*إن الذين جاؤ413

[12 و 13]لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا و قالوا هذا إفك418

[14 و 15]و لو لا فضل الله عليكم و رحمته فى الدنيا و الآخرة لمسكم فى ما أفضتم418

[16-18]و لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان419

[19]إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة فى الّذين آمنوا لهم عذاب أليم فى420

[20 و 21]و لو لا فضل اللّه عليكم و رحمته و أنّ اللّه رؤوف رحيم*يا أيّها الّذين آمنوا421

[22 و 23]و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السّعة أن يؤتوا أولى القربى و المساكين421

[24 و 25]يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون*يومئذ422

[26]الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطّيّبات للطّيّبين و الطّيّبون423

ص: 614

[27 و 28]يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا و تسلّموا424

[29]ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لّكم و اللّه يعلم426

[30 و 31]قل لّلمؤمنين يغضّوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إنّ اللّه427

[32]و أنكحوا الأيامى منكم و الصّالحين من عبادكم و إمائكم إن يكونوا فقراء432

[33]و ليستعفف الّذين لا يجدون نكاحا حتّى يغنيهم اللّه من فضله و الّذين434

[34 و 35]و لقد أنزلنا إليكم آيات مّبيّنات و مثلا من الّذين خلوا من قبلكم و موعظة437

[36-38]فى بيوت أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ و الآصال441

[39 و 40]و الّذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتّى إذا جاءه لم443

[41 و 42]أ لم تر أنّ اللّه يسبّح له من فى السّماوات و الأرض و الطّير صافّات كلّ قد445

[43]أ لم تر أنّ اللّه يزجى سحابا ثمّ يؤلّف بينه ثمّ يجعله ركاما فترى الودق447

[44 و 45]يقلّب اللّه الّيل و النّهار إنّ فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار*و اللّه خلق كلّ448

[46 و 47]لقد أنزلنا آيات مبيّنات و اللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم*449

[48 و 49]و إذا دعوا إلى اللّه و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق مّنهم مّعرضون*و إن450

[50-53]أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم و رسوله بل451

[54]قل أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل و عليكم ما452

[55]وعد اللّه الّذين آمنوا منكم و عملوا الصّالحات ليستخلفنّهم فى الأرض453

[56 و 57]و أقيموا الصّلاة و آتوا الزّكاة و أطيعوا الرّسول لعلّكم ترحمون*لا455

[58]يا أيّها الّذين آمنوا ليستأذنكم الّذين ملكت أيمانكم و الّذين لم يبلغوا455

[59]و إذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم457

[60]و القواعد من النّساء اللاّتى لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن458

[61]ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج و لا459

[62]إنّما المؤمنون الّذين آمنوا باللّه و رسوله و إذا كانوا معه على أمر جامع لّم462

[63]لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم اللّه الّذين464

[64]ألا إنّ للّه ما فى السّماوات و الأرض قد يعلم ما أنتم عليه و يوم يرجعون465

في تفسير سورة الفرقان 467

[1 و 2]بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تبارك الّذى نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين467

ص: 615

[3-5]و اتّخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون و لا يملكون لأنفسهم468

[6-8]قل أنزله الّذى يعلم السّرّ فى السّماوات و الأرض إنّه كان غفورا رّحيما*469

[9]انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا470

[10]تبارك الّذى إن شاء جعل لك خيرا مّن ذلك جنّات تجرى من تحتها472

[11 و 12]بل كذّبوا بالسّاعة و أعتدنا لمن كذّب بالسّاعة سعيرا*إذا رأتهم من مكان473

[13 و 14]و إذا ألقوا منها مكانا ضيّقا مقرّنين دعوا هنالك ثبورا*لا تدعوا اليوم474

[15 و 16]قل أذلك خير أم جنّة الخلد الّتى وعد المتّقون كانت لهم جزاء و مصيرا*475

[17 و 18]و يوم يحشرهم و ما يعبدون من دون اللّه فيقول ءأنتم أضللتم عبادى هؤلاء475

[19 و 20]فقد كذّبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا و لا نصرا و من يظلم منكم476

[21 و 22]و قال الّذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد477

[23]و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء مّنثورا478

[24]أصحاب الجنّة يومئذ خير مّستقرّا و أحسن مقيلا479

[25-29]و يوم تشقّق السّماء بالغمام و نزّل الملائكة تنزيلا*الملك يومئذ الحقّ480

[30 و 31]و قال الرّسول يا ربّ إنّ قومى اتّخذوا هذا القرآن مهجورا*و كذلك جعلنا483

[32 و 33]و قال الّذين كفروا لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبّت به483

[34]الّذين يحشرون على وجوههم إلى جهنّم أولئك شرّ مكانا و أضلّ484

[35-39]و لقد آتينا موسى الكتاب و جعلنا معه أخاه هارون وزيرا*فقلنا اذهبا إلى485

[40-42]و لقد أتوا على القرية الّتى أمطرت مطر السّوء أ فلم يكونوا يرونها بل كانوا490

[43 و 44]أ رأيت من اتّخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا*أم تحسب أنّ491

[45 و 46]أ لم تر إلى ربّك كيف مدّ الظّلّ و لو شاء لجعله ساكنا ثمّ جعلنا الشّمس492

[47-49]و هو الّذى جعل لكم الّيل لباسا و النّوم سباتا و جعل النّهار نشورا*و هو493

[50-52]و لقد صرّفناه بينهم ليذّكّروا فأبى أكثر النّاس إلاّ كفورا*و لو شئنا لبعثنا494

[53 و 54]و هو الّذى مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج و جعل بينهما495

[55-57]و يعبدون من دون اللّه ما لا ينفعهم و لا يضرّهم و كان الكافر على ربّه ظهيرا497

[58]و توكّل على الحيّ الّذى لا يموت و سبّح بحمده و كفى به بذنوب عباده498

[59]الّذى خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما فى ستّة أيّام ثمّ استوى على498

ص: 616

[60]و إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا و ما الرحمن أ نسجد لما تأمرنا499

[61 و 62]تبارك الذى جعل فى السماء بروجا و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا*و هو500

[63 و 64]و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون501

[65-67]و الذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما*إنها502

[68]و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التى حرم الله إلا504

[69 و 70]يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا*إلا من تاب و آمن504

[71-74]و من تاب و عمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا*و الذين لا يشهدون506

[75-77]أولئك يجزون الغرفة بما صبروا و يلقون فيها تحية و سلاما*خالدين فيها508

في تفسير سورة الشعراء 511

[1-4]بسم الله الرحمن الرحيم طسم*تلك آيات الكتاب المبين*لعلك باخع نفسك511

[5-9]و ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين*فقد512

[10-21]و إذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين*قوم فرعون ألا يتقون*513

[22-28]و تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل*قال فرعون و ما رب515

[29-33]قال لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين*قال أولوا جئتك517

[34-39]قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم*يريد أن يخرجكم من أرضكم518

[40-42]لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين*فلما جاء السحرة قالوا لفرعون519

[43-50]قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون*فألقوا حبالهم و عصيهم و قالوا بعزة520

[51]إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين522

[52-59]و أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون*فأرسل فرعون فى523

[60-62]فأتبعوهم مشرقين*فلما ترائى الجمعان قال أصحاب موسى إنا524

[63-68]فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود524

[69-82]و اتل عليهم نبأ إبراهيم*إذ قال لأبيه و قومه ما تعبدون*قالوا نعبد528

[83 و 84]رب هب لى حكما و ألحقنى بالصالحين*و اجعل لى لسان صدق فى530

[85-87]و اجعلنى من ورثة جنة النعيم*و اغفر لأبى إنه كان من الضالين*و لا531

[88-91]يوم لا ينفع مال و لا بنون*إلا من أتى الله بقلب سليم*و أزلفت الجنة532

[92-101]و قيل لهم أين ما كنتم تعبدون*من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون533

ص: 617

[102-104]فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين*إن فى ذلك لآية و ما كان أكثرهم534

[105-113]كذبت قوم نوح المرسلين*إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون*إنى لكم535

[114-122]و ما أنا بطارد المؤمنين*إن أنا إلا نذير مبين*قالوا لئن لم تنته يا نوح536

[123-130]كذبت عاد المرسلين*إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون*إنى لكم537

[131-135]فاتقوا الله و أطيعون*و اتقوا الذى أمدكم بما تعلمون*أمدكم بأنعام539

[136-138]قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين*إن هذا إلا خلق539

[139-145]فكذبوه فأهلكناهم إن فى ذلك لآية و ما كان أكثرهم مؤمنين*و إن ربك540

[146-154]أتتركون فى ما هاهنا آمنين*فى جنات و عيون*و زروع و نخل طلعها540

[155-159]قال هذه ناقة لها شرب و لكم شرب يوم معلوم*و لا تمسوها بسوء541

[160-168]كذبت قوم لوط المرسلين*إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون*إنى لكم542

[169-175]رب نجنى و أهلى مما يعملون*فنجيناه و أهله أجمعين*إلا عجوزا فى543

[176-180]كذب أصحاب الأيكة المرسلين*إذ قال لهم شعيب ألا تتقون*إنى لكم544

[181-183]أوفوا الكيل و لا تكونوا من المخسرين*وزنوا بالقسطاس المستقيم*544

[184-186]و اتقوا الذى خلقكم و الجبلة الأولين*قالوا إنما أنت من المسحرين*545

[187-191]فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين*قال ربى أعلم بما545

[192-195]و إنه لتنزيل رب العالمين*نزل به الروح الأمين*على قلبك لتكون من546

[196-203]و إنه لفى زبر الأولين*أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل*547

[204-207]أ فبعذابنا يستعجلون*أ فرأيت إن متعناهم سنين*ثم جاءهم ما كانوا548

[208-212]و ما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون*ذكرى و ما كنا ظالمين*و ما تنزلت549

[213 و 214]فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين*و أنذر عشيرتك550

[215-220]و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين*فإن عصوك فقل إنى برىء552

[221-223]هل أنبئكم على من تنزل الشياطين*تنزل على كل أفاك أثيم*يلقون553

[224-227]و الشعراء يتبعهم الغاوون*أ لم تر أنهم فى كل واد يهيمون*و أنهم554

في تفسير سورة النمل 559

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم طس تلك آيات القرآن و كتاب مبين*هدى و بشرى559

[4-6]أن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون*أولئك560

ص: 618

[7 و 8]إذ قال موسى لأهله إنى آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب561

[9-11]يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم*و ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان562

[12-14]و أدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء فى تسع آيات إلى563

[15]و لقد آتينا داود و سليمان علما و قالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من564

[16]و ورث سليمان داود و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير و أوتينا من كل564

[17-20]و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون*حتى إذا565

[21 و 22]لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتينى بسلطان مبين*فمكث غير570

[23-31]إنى وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شيء و لها عرش عظيم*571

[32-34]قالت يا أيها الملا أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون*574

[35 و 36]و إنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون*فلما جاء سليمان575

[37-40]ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم577

[41-44]قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون*فلما580

[45-47]و لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان582

[48-53]و كان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الأرض و لا يصلحون*قالوا584

[54 و 55]و لوطا إذ قال لقومه أ تاتون الفاحشة و أنتم تبصرون*أ إنكم لتأتون585

[56-58]فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس586

[59 و 60]قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون*586

[61]أمن جعل الأرض قرارا و جعل خلالها أنهارا و جعل لها رواسى و جعل بين588

[62 و 63]أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض588

[64-66]أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده و من يرزقكم من السماء و الأرض أءله مع الله589

[67-70]و قال الذين كفروا أءذا كنا ترابا و آباؤنا أءنا لمخرجون*لقد وعدنا هذا590

[71-74]و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين*قل عسى أن يكون ردف لكم591

[75-77]و ما من غائبة فى السماء و الأرض إلا فى كتاب مبين*إن هذا القرآن591

[78-81]إن ربك يقضى بينهم بحكمه و هو العزيز العليم*فتوكل على الله إنك على592

[82]و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس593

[83-85]و يوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون*حتى إذا596

ص: 619

[86 و 87]ا لم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه و النهار مبصرا إن فى ذلك لآيات597

[88]و ترى الجبال تحسبها جامدة و هى تمر مر السحاب صنع الله الذى اتقن598

[89 و 90]من جاء بالحسنة فله خير منها و هم من فزع يومئذ آمنون*و من جاء598

[91-93]إنما أمرت أن اعبد رب هذه البلدة الذى حرمها و له كل شيء و أمرت أن599

ص: 620

المجلد 5

هویة الکتاب

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الخامس

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 3

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 4

في تفسير سورة القصص

سوره 28 (القصص): آیه شماره 1 الی 6

لمّا ختم سبحانه سورة النمل المفتتحة بذكر فضيلة القرآن المتضمّنة لبيان تفضّلاته على الأنبياء، و حججه على التوحيد و المعاد، و إنعامه على المؤمنين في الآخرة، و حرمة مكة، و ترغيبه في تلاوة القرآن المختتمة بأمر النبيّ بالحمد على تفضّله عليه بالحكمة و النبوة، و تهديد مكذّبيه بإراءتهم العذاب في الآخرة، اردفها في النظم بسورة القصص المفتتحة بذكر عظمة القرآن المتضمّنة لتفضلاته على موسى، و منّته على المؤمنين به باهلاك أعدائهم و أخلافهم في الأرض، و إثبات التوحيد و المعاد، و بيان حرمة الحرم، و فضل نبينا، و صدق كتابه، و رجوع أمر النبوة إلى اختيار اللّه، و اختصاص الحمد في الدنيا و الآخرة به، و غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأها على حسب دأبه في كتابه بذكر أسمائه المباركات تعليما للعباد بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ، ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة

بقوله: طسم و قد مرّ تأويلها، و ما ذكره كثير من العامة في تأويلها تخرّص بالغيب و اتّباع للمتشابه.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ (4) وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

ثمّ عظّم سبحانه السورة بقوله: تِلْكَ السورة أو الآيات آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و القرآن الموضّح للحقّ و طريق الرشاد، أو الموضّح لكونه من اللّه باشتماله على المعجزات، أو لصدق نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله. أو المبين للحلال و الحرام و كيفية التخلّص من شبهات الضالّين و قصص الأولين.

ثمّ شرع في قصة موسى بقوله: نَتْلُوا و نقرأ عَلَيْكَ يا محمّد بواسطة جبرئيل بعضا مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ و جملة من خبرهما الذي له شأن حال كوننا ملتبسين بِالْحَقِّ و الصدق ليكون

ص: 5

نافعا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إن كانت التلاوة لهم و لغيرهم إتماما للحجّة.

ثمّ كأنّه قيل: ما كان نبأهما (1)؟ فأجاب بقوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا و استكبر فِي اَلْأَرْضِ و ادّعى ما ليس له وَ جَعَلَ بترفّعه أَهْلَها و سكّانها شِيَعاً و فرقا يتبّعونه، أو أصنافا معدّدة في الاستخدام بتعيين كل صنف لعمل من بناء و حرث و حفر و غيرها، أو أحزابا متعادية بعضهم مع بعض، ليكونوا متّفقين على طاعته، أو مختلفة في الاعزاز و الإذلال و الراحة و المشقّة، كالقبطيين المتنعّمين في الراحة، و الاسرائيليين الذليلين المستعبدين، و يرجّح هذا الوجه قوله: يَسْتَضْعِفُ و يقهر طائِفَةً مِنْهُمْ يقال لهم بنو إسرائيل حيث إنّه يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ و يكثر القتل فيهم وَ يَسْتَحْيِي و يستبقي في الحياة نِساءَهُمْ لخدمة نسائه و نساء القبط إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ لجرأته على قتل تسعين ألف على ما قيل (2)من صغار أولاد الأنبياء بتوهّم فاسد، و استخدام نسائهم.

عن ابن عباس: لمّا كثر العصيان في بني إسرائيل، و ترك العلماء و العباد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، سلّط اللّه عليهم القبط، فاستعبدوهم، و حملوا عليهم المشاق (3).

و روي أنّ فرعون رأى في المنام أنّه ظهرت نار من أحد جوانب بيت المقدس، فأحاطت بمصر و بيوته (4)، فأحرقت القبط جميعا، و لم تتعرض لبني إسرائيل، فسأل العلماء عن تعبيره، فقالوا: سيظهر في بني إسرائيل رجل يكون هلاكك و هلاك ملكك بيده، فأمر بقتل أبناء بني إسرائيل (5).

و قيل: إنّ الأنبياء السابقين بشروا بمجيئة، و سمع فرعون ذلك (6).

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى بني إسرائيل اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ بتخليصهم من الظلم و العبودية وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً و قادة في الدين وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ لأرض مصر و أمتعة آل فرعون و أموالهم،

و إنما قدّم إمامتهم في الدين على وراثتهم الأموال في الذكر مع تأخّرها عنها في الوجود لانحطاط رتبتها عنها وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ التي يسكنها أعداؤهم من مصر و الشام و نسلّطهم عليها، و نسكنهم و ننفّذ أوامرهم، و نبسط أيديهم فيها وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ وزيره هامانَ وَ جُنُودَهُما و عساكرهما مِنْهُمْ ما كانُوا منه يَحْذَرُونَ و يجتنبون خوفا من هلاكهم و ذّهاب ملكهم على يد مولود من بني إسرائيل.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى [علي و]الحسن و الحسين فبكى و قال: أنتم

ص: 6


1- . تفسير روح البيان 6:380.
2- . تفسير الرازي 24:225، تفسير روح البيان 6:381.
3- . بحار الأنوار 13:53.
4- . في تفسير الرازي: و اشتملت على مصر.
5- . تفسير الرازي 24:225.
6- . تفسير الرازي 24:225.

المستضعفون بعدي» فقيل للصادق عليه السّلام ما معنى ذلك يابن رسول اللّه؟ قال: «معناه أنتم الأئمّة بعدي، إن اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ» ثمّ قال: «فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة» (1).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام «هي لنا» أو «فينا» (2).

و في رواية: نظر أبو جعفر إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام يمشي فقال: «أترى هذا من الذين قال اللّه عزّ و جلّ: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا» الآية (3).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 7 الی 11

ثمّ ذكر سبحانه أول منّته على موسى بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى و قذفنا في قلبها، أو أريناها في المنام أَنْ يا امّ موسى أَرْضِعِيهِ ما لم تخفي عليه الطّلب فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ الطلب بأن يحسّ به الجيران عند بكائه فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ و النّيل.

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَ قالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (10) وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)و قيل: يعني إذا خفت حفظه و عجزت عن تدبيره فسلّميه إلينا و دعيه في حفظنا (4)وَ لا تَخافِي عليه ضيقا و شدّة، و لا ضياعا و لا هلاكا وَ لا تَحْزَنِي على فراقه إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب بأحسن وجه و ألطف تدبير وَ جاعِلُوهُ مرسلا مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ.

عن ابن عباس: أنّ أمّ موسى لمّا تقارب ولادتها، كانت قابلة من القوابل التي و كّلهن فرعون بالحبالى مصافية لامّ موسى، فلمّا أحسّت بالطلق أرسلت إليها و قالت لها: قد نزل بي ما نزل، و لينفعني اليوم حبّك إيّاي، فجلست القابلة، فلمّا وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه، فارتعدت مفاصلها، و دخل حبّ موسى في قلبها، فقالت: يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك، و لكنّي

ص: 7


1- . معاني الأخبار:79/1، تفسير الصافي 4:80.
2- . أمالي الصدوق:566/769، تفسير الصافي 4:81.
3- . مجمع البيان 7:375، تفسير الصافي 4:80.
4- . تفسير روح البيان 6:383.

وجدت لابنك هذا حبّا شديدا، فاحتفظي بابنك، فانّي أراه عدوّنا، فلمّا خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون، فجاء إلى بابها ليدخل عليها، فقالت اخته: يا امّاه، هذا الحرس، فلفتّه و وضعته في تنّور مسجور، فطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع، فدخلوا فاذا التنّور مسجور، و رأوا امّ موسى لم يتغيّر لها لون، و لم يظهر لها لبن، فقالوا: لم دخلت القابلة عليك؟ قالت: إنّها حبيبة لي دخلت للزيارة، فخرجوا من عندها، و رجع إليها عقلها، فقالت لاخت موسى: أين الصبيّ؟ قالت: لا أدري، فسمعت بكاءه في التنّور، فانطلقت إليه، و قد جعل اللّه النار عليه بردا و سلاما، فأخذته.

ثمّ لمّا رأت امّ موسى فرعون مجدّا في طلب الولدان، خافت على ابنها، فقذف اللّه في قلبها أن تتّخذ لها تابوتا، ثمّ تقذف التابوت في النّيل، فذهبت إلى نجّار من أهل مصر، فاشترت منه تابوتا، فقال لها: ما تصنعين به؟ فقالت: ابن لي أخشى عليه كيد فرعون، اريد أن اخبّئنّه فيه، و ما عرفت أنّه يفشي ذلك الخبر، فلمّا انصرفت ذهب النجّار إلى فرعون ليخبر به الذبّاحين، فلمّا جاءهم أمسك اللّه لسانه، و جعل يشير بيده، فضربوه و طردوه، فلمّا عاد إلى موضعه ردّ اللّه عليه نطقه، فذهب مرة اخرى ليخبرهم به، فضربوه و طردوه، فلمّا عاد إلى موضعه ردّ اللّه عليه نطقه، فذهب مرة اخرى ليخبرهم به، فضربوه و طردوه، فأخذ اللّه بصره و لسانه، فجعل للّه تعالى إن ردّ عليه بصره و لسانه لا يدلّهم عليه، فعلم اللّه منه الصدق، فردّ عليه بصره و لسانه، و انطلقت امّ موسى و ألقته في النّيل، و كان لفرعون بنت، لم يكن له ولد غيرها، و كان لها كلّ يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها، و كان بها برص شديد، و كان فرعون شاور الأطبّاء و السّحرة في أمرها، فقالوا: أيّها الملك، لا تبرأ هذه إلاّ من قبل البحر، يوجد منه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه، فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، و ذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس.

فلمّا كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النّيل، و معه آسية بنت مزاحم، و أقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ، إذ أقبل بتابوت تضربه الأمواج، و تعلّق بشجرة، فقال فرعون: خذوه فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ و صانوه من الضياع لِيَكُونَ لَهُمْ في العاقبة عَدُوًّا يغرقهم في البحر وَ لنسائهم حَزَناً على هلاك رجالهنّ و صيرورتهنّ إماء لهم، فشبّه سبحانه العداوة و الحزن بالعلّة لفعلهم لتربيتها عليه إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا في عقائدهم و أعمالهم خاطِئِينَ و لذا قتلوا الوفا لأجل موسى، ثمّ أخذوه يربّونه ليكبر و يفعل بهم ما كانوا يحذرون منه.

فلمّا رأى فرعون التابوت المطلى بالقير، أمر بفتح بابه فلم يقدروا، ثمّ عالجوا كسره فلم يقدروا،

ص: 8

فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها، فعالجته و فتحته، فاذا هي بصبيّ صغير يتلألأ النور من بين عينيه، فألقى اللّه محبتّه في قلوب القوم، و عمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت، فضمّته إلى صدرها (1).

و قيل: إنّها لما رأته برئت، فقال الغوادة من قوم فرعون: إنا نظنّ أنّ هذا هو الذي تحذر منه، فرمي في البحر خوفا منك، فهمّ فرعون بقتله (2).

وَ قالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ -و كانت من خيار نساء بني إسرائيل من سبط لاوي على ما قيل (3). و قيل: كانت عمّه موسى، لمّا أخرجته من التابوت، و أحبّته للنور الذي بين عينيه (4)، أو لملاحة وجهه، أو لبرء بنته بريقه، أو لأنّه يمتصّ إصبعه، أو لأنّه لم يكن لها ولد ذكور (5)-: يا فرعون هذا الطفل قُرَّتُ عَيْنٍ و سرور قلب لِي وَ لَكَ عن ابن عباس: قال فرعون قرّة عين لك، و أمّا أنا فلا حاجة لي فيه. فقال عليه السّلام: «و الذي يحلف به لو أقرّ فرعون بأنّه قرّة عين له كما أقرّت، لهداه اللّه كما هداها» (6). ثمّ لمّا اطلعت على أنّ فرعون همّ بقتله استوهبته منه و قالت: لا تَقْتُلُوهُ و إنّما خاطبته بصيغة الجمع تعظيما له، لتساعدها على مسألتها، ثمّ ذكرت ما يرغبه في إجابتها بقولها: عَسى و نرجو أَنْ يَنْفَعَنا و يصل إلينا منه خير كثير لما فيه من أمارة اليمن و البركة، من لمعان النور من وجهه، و ارتضاعه من إصبعه، و شفاء البنت بريقه أَوْ نَتَّخِذَهُ لأنفسنا وَلَداً لكونه أهلا للتبنّي للملوك، فأجاب فرعون مسألتها و وهبة لها، فاشتغل فرعون و آسية و خدمها بتربيته وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بخطأهم العظيم في رجاء النفع منه و التبنّي له و تربيته،

لكون هلاكهم و ذهاب ملكهم بيده وَ أَصْبَحَ و صار فُؤادُ أُمِّ مُوسى لمّا سمعت أنّ ولدها في يد فرعون فارِغاً و خاليا من العقل و الصبر من فرط الخوف، أو خاليا من كلّ همّ إلاّ همّ موسى، أو خائفا و مشفقا عليه، أو فارغا من الوحي الذي أوحينا إليها قبل و ناسيا له.

قيل: إنّ الشيطان جاءها، فقال لها: كرهت أن يقتل ولدك و يكون لك الأجر، فتولّيت إهلاكه و ابتليت بالعقوبة، فلمّا اطّلعت أنّ ولدها وقع في يد فرعون أنساها عظم البلاء عهد اللّه إليها (7)إِنْ الشأن أنّها كادَتْ و قربت لَتُبْدِي بموسى و تظهر بِهِ من ضعف البشرية و فرط الاضطراب.

عن ابن عباس: كادت تخبر بأنّ ما وجدتموه ابني (8).

ص: 9


1- . تفسير الرازي 24:227.
2- . تفسير الرازي 24:228.
3- . تفسير روح البيان 6:384.
4- . تفسير روح البيان 6:384.
5- . تفسير الرازي 24:228.
6- . تفسير الرازي 24:228.
7- . تفسير الرازي 24:229.
8- . تفسير الرازي 24:230.

و عن الباقر عليه السّلام: «كادت تخبر بخبره أو تموت» (1)لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا و شددنا عَلى قَلْبِها بالصبر و الثبات بتذكرها ما وعدناه من ردّه إليها سالما و جعله رسولا.

و قيل: إنّ المراد صار فؤادها فارغا من كلّ غمّ و خوف لمّا سمعت أنّ امرأة فرعون عطفت عليه، و كادت تبدي أنّه ولدها، و لم تملك نفسها فرحا لو لا أن سكّنّا ما بها من شدّة الفرح (2)، و على أي تقدير كان ذلك الربط لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و المصدّقين بقدرتنا و صدق وعدنا

وَ قالَتْ امّ موسى لِأُخْتِهِ لأبيه و امّه اسمها مريم أو كلثوم: قُصِّيهِ و فتّشي خبره، و اتّبعي أثره، و انظري كيف حاله، فجاءت إلى باب فرعون فَبَصُرَتْ بِهِ و رأته عَنْ جُنُبٍ و ناحية بعيدة عند فرعون و أهله وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و لا يلتفتون إلى أنّها اختها جاءت لتعرف حاله و تفتيش كيفية تعيّشه.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ بيّن اللّه تعالى تدبيره في ردّ موسى عليه السّلام إلى امّه حسب وعده إياها بقوله: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ و منعنا عنه لبن المرضعات، أو ثديّات (3)النساء بالنّفار عنها.

وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)قيل: إنّ امّه أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها (4).

قيل: لم يقبل ثدي أحد ثمانية أيّام، و كان يرتضع من لبن يخرج من إصبعه، فاضطربت آسية و قومها من ذلك، فَقالَتْ اخت موسى لفرعون و أهله بعد أن رأت عدم قبول موسى ثدي أحد، و اعتناء فرعون بشأنه، و طلبهم امرأة يقبل ثديها: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ و يضمنون إرضاعه و تربيته وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ و كلّ لنفعه و خيره طالبون، و بحضانته مجدّون؟

قيل: إنّ هامان قال: إنّها تعرفه و تعرف أهله. قالت: إنّما أردت إن هم للملك ناصحون (5).

روي أنّهم قالوا لها: من يكفله؟ قالت: امّي. قالوا: ألامّك لبن؟ قالت: نعم، لبن هارون، و كان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها صبيّ، فقالوا: صدقت (6).

و قيل: إنّها قالت: هي امرأة قد قتل ولدها، فأحبّت أن تتّخذ صغيرا ترضعه. قالوا: اذهبي و أتينا بها، فرجعت إلى امّها فأخبرتها بالقصّة، فجاءت مع ابنتها إلى فرعون، فرأت موسى عنده و هو يبكي،

ص: 10


1- . تفسير القمي 2:136، تفسير الصافي 4:82.
2- . تفسير الرازي 24:229.
3- . كذا، و جمع الثدي: أثد أو ثديّ.
4- . تفسير الرازي 24:230.
5- . تفسير روح البيان 6:387.
6- . ايضا.

و فرعون يسلّيه و يلعب معه، لشدة حبّه إياه، فلمّا رأى أمّ موسى أعطاها موسى، فاحتضنته و ألقمته ثديها، فلمّا شمّ موسى رائحة امّه أخذ ثديها، فقال فرعون: من أنت منه، فقد أبى كلّ ثدي إلاّ ثديك؟ قالت: أنا امرأة حسنة الخلق، طيّبه الريح و اللبن، لا اوتى بصبي إلاّ ثديي، فدفعه إليها و أجرى عليها اجرتها كلّ يوم دينار، و قال: آتيني بها كلّ اسبوع مرة، فرجعت به إلى بيتها من يومها مسرورة (1)، فأخبر اللّه تعالى بانجاز وعده بقوله:

فَرَدَدْناهُ و أرجعناه إِلى أُمِّهِ حسب وعدنا كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بوصال ولدها وَ لا تَحْزَنَ بفراقه وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ جميعه في حقّ موسى حَقٌّ و صدق لا يمكن الخلف فيه وَ لكِنَّ الناس أو آل فرعون أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بصدق مواعيده.

ثمّ قيل: إنّ موسى مكث عند امّه إلى فطامه، ثمّ ردّته إلى فرعون و آسية، فنشأ في حجرهما يربيّانه بأيديهما و اتّخذاه ولدا، فبينا هو يلعب يوما بين يدي فرعون و بيده قضيب له يلعب به، إذ رفع القضيب فضربه على رأس فرعون، فغضب اللّعين، و تطيّر من ضربه، و همّ بقتله، فقالت آسية: أيّها الملك لا يشقّن عليك و لا تغضب، فانّه صبيّ صغير لا عقل له، و إن شئت اجعل في الطشت جمرا و ذهبا، فانظر إلى أيّهما يقبض، فأمر فرعون بذلك، فلمّا مدّ موسى يده إلى الذهب قبض الملك الموكّل به على يده، فردها إلى الجمر، فقبض موسى عليها، فالقاها في فيه، ثم قذفها حين وجد حرارتها، فقالت آسية: ألم أقل لك إنّه لا يعقل شيئا، فصدّقها و كفّ عنه (2).

ثمّ روي عن الباقر عليه السّلام «أنّه لم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال» الخبر (3).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 14 الی 16

ثمّ أخبر اللّه بنبوته بقوله: وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ و كمال قوّته في جسده، و هو على ما قيل ما بين ثماني عشر الى ثلاثين (4). و عن ابن عباس: إلى أربعين (5)وَ اِسْتَوى و اعتدل و كمل عقله.

وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (16)

ص: 11


1- . تفسير روح البيان 6:387.
2- . تفسير روح البيان 6:388.
3- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:83.
4- . تفسير الرازي 24:232، تفسير روح البيان 6:388.
5- . تفسير الرازى 24:232.

قيل: هو عند بلوغ أربعين سنة (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «أشدّه ثماني عشر، و استوى أي التحى» (2)آتَيْناهُ و أعطيناه حُكْماً و نبوّة، أو حكمة وَ عِلْماً بالدين وَ كَذلِكَ الجزاء الجزيل الذي أعطيناه موسى على إحسانه في العمل نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ.

روي عن الباقر عليه السّلام: «أن فرعون كان ينكر ما يتكلّم به موسى من التوحيد [حتى هم به]فخرج موسى من عنده» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «كانت بنو إسرائيل تطلب و تسأل عنه عليه السّلام، فعمّي عليهم خبره، فبلغ فرعون أنّهم يطلبونه و يسألونه، فأرسل إليهم، و زاد عليهم في العذاب، و فرّق بينهم و نهاهم عن الأخبار به و السؤال عنه، فخرجت بنو إسرائيل ذات ليلة مقمرة إلى شيخ لهم عنده علم، فقالوا: كنّا نستريح إلى الآحاديث، فحتى متى نحن في هذا البلاء؟ قال: إنّكم لا تزالون فيه حتى يحيي اللّه من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران غلام طوال جعد (4)، فبينا هم كذلك إذ أقبل موسى عليه السّلام على بغلة حتى وقف عليهم، فرفع الشيخ رأسه فعرفه بالصفة، فقال ما أسمك؟ قال: موسى. قال: ابن من؟ قال: عمران؟ فوثب إليه الشيخ فأخذ بيده فقبّلها، و ثاروا إلى رجله فقبّلوها، فعرفهم و عرفوه و اتّخذ شيعة» (5).

و قيل: إنّه لمّا كبر كان يلبس الثياب الفاخرة، و يركب المراكب الفارهة الخاصة لفرعون، و كان يقال له موسى فرعون، فركب فرعون يوما و موسى غائب، فلمّا جاء موسى عليه السّلام سأل عن فرعون، فقالوا: ذهب إلى موضع كذا،

فذهب في طلب فرعون (6)وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ التي يقال لها مدين، أو منف (7)من أرض مصر، و هي مدينة فرعون التي كان ينزلها، و فيها كانت الأنهار تجري من تحت سريره، و كانت في غربي النّيل على مسافة اثني عشر ميلا من مدينه فسطاط مصر المعروفة يومئذ بمصر القديمة، و منف أول مدينة عمّرت بأرض مصر بعد الطوفان، أو المراد مدينة مصر، و كان قصر فرعون على طرف منها.

و عن الرضا عليه السّلام: «هي مدينة من مدائن فرعون» (8).

ص: 12


1- . تفسير روح البيان 6:388.
2- . معاني الأخبار:226/1، تفسير الصافي 4:83.
3- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:83.
4- . جعد الشعر: اجتمع و تقبضّ و التوى، فهو جعد، و وجه جعد: مستدير قليل اللحم.
5- . كمال الدين:149/13، تفسير الصافي 4:83.
6- . تفسير الرازي 24:233.
7- . في النسخة: صنف، و كذا التي بعدها، تصحيف، انظر معجم البلدان 5:247، و تفسير روح البيان 6:390.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:198/1، تفسير الصافي 4:83.

و كان دخول موسى عليه السّلام فيها عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها و في وقت لا يعتاد دخولها فيه. عن ابن عباس: دخلها في الظهيرة عند المقيل (1).

و في رواية اخرى عنه: كان بين العشاءين، كما عن الرضا عليه السّلام (2).

و عن أمير المؤمنين: «دخلها في يوم عيد كان أهلها مشغولين باللهو و اللّعب، و كانت المسالك خالية من المارة (3)فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ و يتنازعان إذا نظر احد إليهما قال هذا الرجل الذي اسمه السامري على قول (4)، أو ندمي على آخر من بني إسرائيل الذين هم مِنْ شِيعَتِهِ و أتباعه في دينه وَ هذا الرجل الآخر من القبط الذين هم مِنْ عَدُوِّهِ و مبغضيه و مخالفيه في دينه. قيل: كان خبّاز فرعون. و قيل: طبّاخه، اسمه فاتون على قول (5)، أو فليقون على آخر، كان يريد أن يسخر الاسرائيلي لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون (6).

فلمّا جاء موسى فَاسْتَغاثَهُ و استنصره الرجل اَلَّذِي كان مِنْ شِيعَتِهِ و تابعيه، و استعان به عَلى دفع اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ القبطي، فقال: موسى: يا قبطي، خلّ الاسرائيلي، و لا تتعرّض له، فلم يعتن به فَوَكَزَهُ مُوسى و ضربه بالكفّ المقبوض ضربة واحدة فَقَضى اللّه لشدّة قوّة موسى عَلَيْهِ بالموت فمات، فندم موسى من فعله الذي كان خلاف الأولى، و قالَ هذا القتل مِنْ عَمَلِ من يعمل بإغواء اَلشَّيْطانِ و وسوسته لا من عمل مثلي إِنَّهُ عَدُوٌّ لابن آدم مُضِلٌّ له عن طريق صلاحه مُبِينٌ و متظاهر في عداوته و إضلاله.

و انّما كان عمله خلاف الأولى؛ لأنّه لم يؤمر بقتل الكفّار، أو لكونه مأمونا فيهم، فلم يكن له اغتيالهم، و لذا استغفر ربّه و قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتل القبطي الذي كان تركه أولى لي (7)فَاغْفِرْ لِي ما صدر منّي من العمل الذي هو بمنزلة الذنب في حقّي فَغَفَرَ اللّه لَهُ ذلك برحمته إِنَّهُ تعالى هُوَ اَلْغَفُورُ للذنوب العظام فضلا عن ترك الأولى اَلرَّحِيمُ بالتائبين خصوصا موسى عليه السّلام.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 17

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)

ص: 13


1- . تفسير روح البيان 6:390.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:198/1، تفسير الصافي 4:83، و فيهما: بين المغرب و العشاء.
3- . مجمع البيان 7:381 عن ابن عباس.
4- . تفسير روح البيان 6:390.
5- . تفسير روح البيان 6:390.
6- . تفسير روح البيان 6:390.
7- . في النسخة: مني.

قالَ موسى عليه السّلام: رَبِّ اقسم عليك بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من الايمان و العرفان و القوّة و المغفرة لأتوبنّ فَلَنْ أَكُونَ بعد ذلك أبدا ظَهِيراً و معينا لِلْمُجْرِمِينَ و الخاطئين.

روي عن عليّ بن الجهم، قال: كنت في مجلس المأمون، و كان عنده الرضا عليه السّلام فسأله المأمون، و قال: يابن رسول اللّه، أ ليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: «بلى هم عليهم السّلام معصومون من الكبائر و الصغائر» قال: ما تقول في قوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ؟ قال عليه السّلام: «لمّا دخل موسى في مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها، و كان بين المغرب و العشاء، رأى رجلين يقتتلان، كان أحدهما من قومه و الآخر من قوم فرعون، فوكزه موسى بحكم اللّه، فمات القبطي، فقال موسى: هذا الاقتتال الذي كان بينهما من عمل الشيطان لا ما فعل موسى عليه السّلام من قتل القبطي بوكزه» .

قال المأمون: فما معنى قول موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؟ قال عليه السّلام: «كان مراد موسى مناجاته: ربّ إني وضعت نفسي في غير موضعها، حيث دخلت هذه المدينة، فاسترني ربّي من أعدائي حتى لا يظفروا بي فيقتلونني، فستره اللّه تعالى منهم، ثمّ قال: ربّ بما أنعمت عليّ من كمال القوة بحيث قتلت الرجل بوكزة، فلن أكون ظهيرا للمجرمين، بل أجاهدهم في سبيلك بقوّتي حتى ترضى» (1).

أقول: بعد ثبوت عصمة الأنبياء بحكم العقل و دلالة الآيات و تظافر الروايات، فلا بدّ من حمل أمثال الآيات على غير ظاهرها، و لو كان في غاية البعد لعدم إمكان رفع اليد عن الأدلّة القاطعة بالظهورات و الظنون، و قيل: إنّ المعنى بحقّ إنعامك عليّ و إحسانك إليّ اعصمني فلن أكون معينا لمن تؤدّي معاونته إلى الجرم و القطيعة (2).

عن ابن عباس: أنّه عليه السّلام لم يستثن، فابتلي بالعون مرة اخرى كما سيأتي (3).

أقول: في الآية دلالة واضحة على حرمة إعانة المجرمين و العصاة و الظالمين بما تصدق عليه الإعانة، و لو بالكتابة و بري القلم، و حسن إعانة المؤمنين في أداء التكاليف و سائر حوائجهم، كما يدلّ عليه قوله: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ (2).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 18

فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)

ص: 14


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:195 و 198 و 199/1، الاحتجاج:426 و 428، بحار الأنوار 13:32/6. (2 و 3) . تفسير روح البيان 6:391.
2- . المائدة:5/2.

فَأَصْبَحَ موسى تلك الليلة التي قتل فيها القبطي فِي اَلْمَدِينَةِ و بلدة مصر حال كونه خائِفاً من آل فرعون على نفسه و يَتَرَقَّبُ و يترصّد منهم طلب قوده، و ينتظر القصاص منه، أو الخبر من قبل فرعون في حقّه، فخرج من آل فرعون مستترا و يمشي في المسلك فَإِذَا الرجل الاسرائيلي اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ و استعان منه على دفع القبطي بِالْأَمْسِ و في اليوم السابق يَسْتَصْرِخُهُ و يناديه لينصره على دفع قبطيّ آخر ينازعه، فلمّا سمع موسى عليه السّلام نداء الإسرائيلي قالَ لَهُ مُوسى تضجّرا منه إِنَّكَ يا إسرائيلي و اللّه لَغَوِيٌّ و موقع لي بسبب كثرة نزاعك فيما هو خلاف صلاح الوقت، أو إنّك لكثير المخاصمة التي هي خلاف صلاحك مُبِينٌ و ظاهر منك هذا العمل.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 19 الی 22

فَلَمّا أَنْ أَرادَ موسى أَنْ يَبْطِشَ و يأخذ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما بقوّة و يضربه بشدّة، و رأى القبطيّ استعانة السبطيّ و إرادة موسى بطشه، و قد علم أنّ رجلا أعانه بالأمس على قبطيّ فقتله المعين، فحدس أنّ الرجل هو موسى، أو سمع ذلك من أحد قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي بسبب نزاعي مع السبطيّ كَما قَتَلْتَ من القبط نَفْساً لأجل ذلك بِالْأَمْسِ.

فَلَمّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ (19) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (21) وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ اَلسَّبِيلِ (22)و قيل: إنّ السبطي لمّا رأى غضبة موسى عليه قال ذلك بتوهّم أنّ موسى أراد أن يبطش به كما في (العيون) حيث قال قال «و هو من شيعته» (1).

ثمّ لامه القائل على المبادرة في القتل و ترك الاصلاح بقوله: إِنْ تُرِيدُ و ما تقصد إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً و ظالما للناس فِي اَلْأَرْضِ و قتّالا للنفوس وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ بين الناس بالقول و الفعل، و دافعي الخصومة من بين المتنازعين بالتي هي أحسن، فلمّا قال القبطي أو

ص: 15


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:199/1، تفسير الصافي 4:84.

الاسرائيلي ذلك، انتشر الحديث في المدينة، و انتهى إلى فرعون،

فهمّوا بقتله وَ إذن جاءَ رَجُلٌ مؤمن من آل فرعون و طائفة القبط يقال له حزقيل أو حزئيل مِنْ قصر فرعون الذي كان في أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ و أخرها.

قيل: كان ابن عمّ فرعون (1)، أو موسى (2)، و هو يَسْعى و يسير سريعا إشفاقا على موسى حتى وصل إليه. ثمّ قالَ نصحا و تخويفا له: يا مُوسى إِنَّ اَلْمَلَأَ و الأشراف من القبط يَأْتَمِرُونَ بِكَ و يتشاورون بسببك لِيَقْتُلُوكَ قصاصا و عنادا فَاخْرُجْ عاجلا من هذه المدينة تحفّظا على نفسك إِنِّي لَكَ فيما آمرك به من الخروج و الفرار من القوم مِنَ اَلنّاصِحِينَ و الطالبين لخيرك و صلاحك.

القمي قال: و بلغ فرعون خبر قتل موسى الرجل، فطلبه ليقتله، فبعث المؤمن إلى موسى أنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك (3)فَخَرَجَ موسى مِنْها فورا بلا زاد و راحلة حال كونه خائِفاً على نفسه من القبط و خدم فرعون و يَتَرَقَّبُ و يترصّد لحوق الطالبين له و تعرّضهم إياه في الطريق.

ثمّ التجأ إلى اللّه تعالى، لعلمه بأنّه لا ملجأ له سواه و قالَ رَبِّ نَجِّنِي و خلّصني مِنَ ظلم اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ و احفظني من لحوقهم إياي، و سلّمني من شرّهم.

و في الحديث: يلتفت يمنة و يسرة، و يقول: ربّ نجّني إلى آخره (4).

قيل: و مرّ نحو مدين، و كان بينه و بين مدين مسيرة ثلاثة أيام (5)، و لم تكن في سلطان فرعون وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ و أقبل نحوها، و سلك في طريقها غير قاصد لها (6)، و أخذ يمشي على غير معرفته مسلّما نفسه إلى اللّه، أعلن بتوكّله عليه و قالَ عَسى و أرجو من رَبِّي اللّطيف بي أَنْ يَهْدِيَنِي و يرشدني سَواءَ اَلسَّبِيلِ و وسطه الموصل إلى المقصود و المأمن.

قيل: إنّه عليه السّلام قصد التوجّه إلى بلدة مدين، لأنّه وقع في نفسه أنّ بينه و بين أهل مدين قرابة، لأنّهم كانوا من أولاد مدين بن إبراهيم، و كان هو عليه السّلام من بني إسرائيل، و لم يكن له علم بالطريق، بل اعتمد على فضل اللّه و توكّل عليه في إيصاله إليه (7).

و قيل: إنّ جبرئيل جاءه و علّمه الطريق (8).

و قيل: لمّا أخذ موسى في السير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى عليه السّلام من الفرح، فقال

ص: 16


1- . تفسير البيضاوي 2:189، تفسير روح البيان 6:392.
2- . تفسير الصافي 4:85.
3- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:85.
4- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:85.
5- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:85.
6- . في النسخة: نحوه، و سلك في طريقه غير قاصد له. (7 و 8) . تفسير الرازي 24:238.

الملك: لا تفعل و اتّبعني، فاتّبعه نحو مدين (1).

و قيل: إنّه ذهب نحو مدين حتى وصل إلى ثلاث طرق، فاختار الطريق الوسط، و هو المراد من سواء السبيل، فانه وسطه و معظمه، ثمّ جاء طالبوه فذهبوا إلى الطريقين الآخرين، فلم يجدوه (2).

و قيل: كان حافيا، و لم يكن له طعام إلاّ الورق (3).

قيل: إنّه مشى ثمانية أيام، و جرحت قدماه من المشي، و لم يأكل في الثمانية إلاّ من حشيش الأرض و ورق الأشجار (4).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 23 الی 25

وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ و وصل إلى البئر التي كانت على ثلاثة أميال منها و أهلها يسقون منها وَجَدَ موسى عَلَيْهِ أُمَّةً و جماعة مِنَ اَلنّاسِ يَسْقُونَ منه مواشيهم وَ وَجَدَ أيضا مِنْ دُونِهِمُ و في مكان أسفل منهم اِمْرَأَتَيْنِ إحداهما صفورا، و الاخرى ليا، بنتا يثرون، و يثرون هو شعيب على ما قيل (5)، و هما تَذُودانِ و تمنعان أغنامهما من التقدّم إلى البئر، أو من التفرّق، أو من الاختلاط بأغنام الغير، أو تمنعان أنفسهما من الاختلاط بالرجال، أو وجوههما من نظر الأجانب قالَ موسى لهما: ما خَطْبُكُما و ما شأنكما فيما أنتما عليه من التأخّر، و ما لكما لا تسقيان أغنامكما؟ قالَتا دأبنا أن لا نَسْقِي أغنامنا حَتّى يُصْدِرَ و يصرف اَلرِّعاءُ و حفّاظ المواشي مواشيهم بعد ريّها تعفّفا و حذرا من مخالطة الرجال، فاذا انصرفوا سقينا أغنامنا من فضل مواشيهم وَ أَبُونا شعيب لا يستطيع أن يباشر سقيها؛ لأنّه شَيْخٌ كَبِيرٌ في السنّ، أو في القدر و الشرف، لذا يرسلنا معها للسقي اضطرارا.

وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتّى يُصْدِرَ اَلرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (25)

ص: 17


1- . تفسير الرازي 24:238.
2- . تفسير البيضاوي 2:190، تفسير أبي السعود 7:8، تفسير روح البيان 6:393.
3- . تفسير أبي السعود 7:8.
4- . تفسير الرازي 24:238.
5- . تفسير روح البيان 6:395.

روي أنّ الرجال كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يرفعه إلاّ سبعة رجال أو عشرة أو أربعون، فقام موسى فرفعه وحده (1)، و سألهم دلوا فأعطوه دلوا لا ينزحها إلاّ عشرة، فاستسقى بها وحده فَسَقى لَهُما أغنامهما و أصدرهما.

القمي: فلمّا بلغ ماء مدين رأى بئرا يستسقي الناس منها لأغنامهم و دوابّهم، فقعد ناحية و لم يكن أكل منذ ثلاثة أيام شيئا، فنظر إلى جاريتين في ناحية و معهما غنمات لا تدنوان من البئر، فقال لهما: ما لكما لا تسقيان؟ فقالتا ما حكى اللّه، فرحمهما موسى عليه السّلام و دنا من البئر، فقال لمن على البئر: أسقي لي دلوا و لكم دلوا، و كان الدلو يمدّه عشرة رجال، فاستقى وحده دلوا لمن على البئر، و دلوا لبنتي شعيب و سقى أغنامهما (2)ثُمَّ تَوَلّى و انصرف إِلَى اَلظِّلِّ من شدة الحرّ و ضعف الجوع فَقالَ يا رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ و لو كان قليلا فَقِيرٌ و محتاج. عن الصادق عليه السّلام: «سأل الطعام» (3).

و في (النهج) : «و اللّه ما سأل اللّه عزّ و جلّ إلاّ خبزا يأكله؛ لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنة لهزاله و تشدّب لحمه» (4).

و روي أنّه قال ذلك و هو محتاج إلى شقّ تمرة (5).

و عن العامة: لمّا كان موسى جائعا سأل من اللّه ما يأكل، و لم يسأل من الناس، ففطنت الجاريتان، فلمّا رجعتا إلى أبيهما قبل الناس و أغنامهما قفلت، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا، ثمّ تولى إلى الظلّ. فقال: رَبِّ إلى آخره. فقال أبوهما: هذا رجل جائع. فقال لواحدة منهما: اذهبي فادعيه لنا (6).

القمي قال: فلمّا رجعت ابنتا شعيب إلى شعيب قال لهما: اسرعتما الرجوع؟ فأخبرتاه بقصّة موسى و لم تعرفاه، فقال شعيب لواحدة منهما: أذهبي إليه فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا (7).

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما و هي الكبرى منهما اسمها صفورا، أو صفورة، أو صفرى، و اسم الصغرى صفيرا، حال كونها تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْياءٍ كما هو عادة الأبكار، أو لكمال إيمانها و شرف عنصرها و كرامة نسبها، ثمّ قالَتْ: أيّها الرجل إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ و يطلب حضورك عنده لِيَجْزِيَكَ و يعطيك أَجْرَ ما

ص: 18


1- . تفسير أبي السعود 7:8، تفسير روح البيان 6:395.
2- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:86.
3- . الكافي 6:287/5، تفسير الصافي 4:86.
4- . نهج البلاغة:226 الخطبة 160، تفسير الصافي 4:86.
5- . كمال الدين:150/13، تفسير الصافي 4:86.
6- . تفسير الرازي 24:240، تفسير أبي السعود 7:9.
7- . تفسير القمي 2:138، تفسير الصافي 4:86.

سَقَيْتَ لَنا فأجاب موسى الدعوة شوقا إلى زيارة شعيب، و طلبا لخدمته، لا طمعا في طعامه و أجره، فقام و انطلقا و هي أمامه، فالزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته، أو كشفت عن ساقيها، فقال لها: امشي خلفي و انعتي لي الطريق، فتأخرّت و كانت تقول: عن يمينك، أو عن شمالك، أو عن قدّامك.

القمي: فقام موسى معها، و مشت أمامه، فصفقتها الرياح، فبان عجزها، فقال لها موسى تأخّري و دلّيني على الطريق بحصاة تلقيها أمامي اتّبعها، فأنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء، الخبر (1).

فمشيا حتى اتيا دار شعيب، فبادرت المرأة إلى ابيها فأخبرته، فأذن له في الدخول، و شعيب يومئذ شيخ كبير، و قد كفّ بصره فَلَمّا جاءَهُ موسى سلّم عليه فردّ عليه السّلام و عانقه. ثم أجلسه بين يديه، و قدّم إليه الطعام فامتنع منه، و قال: أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيته، و إنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا. فقال شعيب لا و اللّه يا شاب، و لكن هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا، فأكل منه وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ و أخبره بما جرى عليه من ولادته إلى فراره من فرعون و قومه و مجيئه إلى مدين قالَ له شعيب: لا تَخَفْ هنا من فرعون و قومه، فانّك نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ فانّه لا سلطان لهم بأرضنا، و لسنا في مملكة فرعون.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 26 الی 27

فبينما كانا يتكلّمان و يتوانسان و كانت بنتا شعيب حاضرتين إذ قالَتْ إِحْداهُما و هي الكبرى التي جاءت في طلب موسى: يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ لرعي أغنامك و القيام بامورها، فانّ للرجل قوة على العمل و الأمانة في العرض و المال إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ رقبتهم و أفضلهم الأجير اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ.

قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ (27)روي أنّ شعيبا قال لها: ما أعلمك بقوته و أمانته؟ فذكرت له ما شاهدت منه من إقلال الحجر عن رأس البئر، و نزح (2)الدلو الكبير، و أنّه خفّض رأسه عند الدعوة و لم ينظر إليها تورّعا حتى بلغت رسالتها، و أنّه أمرها بالمشي خلفه (3).

و القمي-في حديث-: «فقال لها شعيب: أمّا قوّته فقد عرفتها بأنّه يسقي الدلو وحده، فبما عرفت

ص: 19


1- . تفسير القمي 2:138، تفسير الصافي 4:86.
2- . في تفسير أبي السعود و تفسير روح البيان: نزع.
3- . تفسير البيضاوي 2:191، تفسير أبي السعود 7:10، تفسير روح البيان 6:397.

أمانته؟ فقالت: إنّه لمّا قال لي تأخرّي عنّي و دلّيني على الطريق فأنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء، عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون في أعجاز النساء، فهذه أمانته (1).

و عن الكاظم عليه السّلام. قال «قال لها شعيب: يا بنية هذا قوّي قد عرفته برفع الصخرة، من أين عرفته أنّه أمين؟ قالت: يا أبت إنّي مشيت قدّامه فقال: امشي خلفي، فان ضللت فارشديني إلى الطريق، فإنّا قوم لا ننظر في أدبار النساء» (2)

إذن قالَ شعيب: يا موسى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ و أزوّجك إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ اللتين عندك عَلى شرط، و هو أَنْ تَأْجُرَنِي و تعمل لي بالأجر ثَمانِيَ حِجَجٍ و سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ السنين عَشْراً في الخدمة و العمل فَمِنْ عِنْدِكَ إتمامها و بتفضّلك إكمالها، لا الزام من عندي عليك وَ ما أُرِيدُ من استئجارك أَنْ أَشُقَّ و أصعّب الأمر عَلَيْكَ و تحميلك ما تتعب فيه، بل اريد أن اساهلك و اسامحك.

قيل: رأى شعيب بنور النبوة أنّ موسى يبلغ إلى درجة النبوة في ثماني سنين، و في الأزيد إلى العشر كمال الكمال (3).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 27 الی 29

ثمّ رغّبه في القبول بقوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ و الطالبين لخيرك، و المحسنين إليك في هذه المعاملة بلين الجانب، و الوفاء بالعهد، و المداراة في القول و العمل، و غير ذلك ممّا يوجب راحتك و تيسير العمل عليك

قالَ موسى: ذلِكَ العهد الذي عاهدتني عليه ثابت بَيْنِي وَ بَيْنَكَ جميعا لا اخالفه و لا تخالفه أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ الذين ذكرت من القصير و الطويل قَضَيْتُ و فيت بأداء الخدمة فيه فَلا عُدْوانَ و تجاوز عَلَيَّ من قبلك بمطالبة الزيادة، أو لا إثم عليّ في قضاء الأقصر، و لا إلزام عليّ بالعمل بالأكثر وَ اَللّهُ عَلى ما نَقُولُ من الشرط المقرر فينا وَكِيلٌ و شاهد و حفيظ.

قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اَللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمّا قَضى مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ اَلطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ اَلنّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)قيل: فجمع شعيب مؤمني مدين و زوّجه ابنته صفورا، و دخل موسى بيت شعيب، و أقام برعي

ص: 20


1- . تفسير القمي 2:138، تفسير الصافي 4:87.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:12/7، تفسير الصافي 4:87.
3- . تفسير روح البيان 6:398.

أغنامه عشر سنين (1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: أي الأجلين قضى؟ قال: «أوفاهما و أبطأهما» (2).

و في رواية: «و إن سألت أي الابنتين تزوّج؟ فقل الصغرى منهما، و هي التي جاءت و قالت: يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ (3).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل أيّتهما التي قالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ؟ قال: «التي تزوّج بها» قيل: فأي الأجلين قضى؟ قال: «أوفاهما و أبعدهما عشر سنين» قيل: فدخل بها قبل أن ينقضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: «قبل أن ينقضي» قيل: فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين، أيجوز ذلك؟ قال: «إن موسى علم أنّه سيتمّ شرطه» قيل: كيف؟ قال: «علم أنّه سيبقى حتى يفي» (2).

و في (الكافي و (الفقيه) عن الصادق عليه السّلام: «أنّ عليا قال: لا يحلّ النكاح اليوم في الاسلام بإجارة بأن يقول أعمل عندك كذا و كذا سنة على أن تزوّجني اختك أو ابنتك. قال: هو حرام لأنّه ثمن رقبتها، و هي أحقّ بمهرها» (3).

قال في (الفقيه) : و في حديث آخر: «إنّما كان لموسى عليه السّلام لأنّه علم من طريق الوحي هل يموت قبل الوفاء أم لا، فوفى بأتمّ الأجلين» (4).

أقول: لا إشكال في بطلان المهر إذا كان العمل لغير المرأة، و ظاهر الآية أن إجارة موسى عليه السّلام كانت باجرة على ذمّة شعيب، و إنّما كان قبول موسى لهذه الإجارة من شرط شعيب عليه السّلام على موسى عليه السّلام في إنكاحه ابنته بمهر معين، و لم يكن عمل موسى عليه السّلام لشعيب عليه السّلام مهرا لابنته نعم هو من الشروط الابتدائية التي لم يجب الوفاء به على المشهور.

و في (الاكمال) : أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى عاش بعد موسى ثلاثين سنة، و خرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى، فقالت: أنا أحقّ بالأمر منك، فقاتلها و قتل مقاتليها، و أحسن أسرها (5).

و روي أنّه لمّا أتمّ العقد قال شعيب لموسى: ادخل ذلك البيت، فخذ عصا من تلك العصيّ، و كانت عنده عصيّ الأنبياء، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة و لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى

ص: 21


1- . تفسير روح البيان 6:399. (2 و 3) . مجمع البيان 7:87، تفسير الصافي 4:391.
2- . مجمع البيان 7:390، تفسير الصافي 4:87.
3- . الكافي 5:414/2، من لا يحضره الفقيه 3:298/1271.
4- . من لا يحضره الفقيه 3:298/1272، تفسير الصافي 4:88.
5- . كمال الدين:27، تفسير الصافي 4:88.

شعيب عليه السّلام فمسّها و كان مكفوفا، فلم يرضها له خوفا من أن لا يكون أهلا لها (1)، و قال: غيرها، فلا يقع في يده إلاّ هي سبع مرات، فعلم أنّ لموسى شانا، و حين خرج للرعي قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطّرق فلا تأخذ عن يمينك، فانّ الكلأ بها أكثر، إلاّ أن فيها تنينا (2)أخشى منه عليك و على الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين، و لم يقدر على كفّها، و مشى على أثرها، فاذا عشب و ريف لم ير مثله، فنام فاذا بالتنّين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته، و عادت إلى جنب موسى دامية، فلمّا أبصرها دامية و التنّين مقتولا سرّ (3)، و لمّا رجع إلى شعيب أخبره بالشأن، ففرح شعيب و علم أن لموسى شأنا، و قال: إنّي وهبت [لك]من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع (4)و درعاء، فأوحى اللّه إليه في المنام: أن اضرب بعصاك الماء الذي هو في مستسقى الأغنام ففعل، ثمّ سقى، فما أخطأت واحدة إلاّ وضعت أدرع و درعاء، فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه اللّه إلى موسى و امرأته، فوفّى له بالشرط، و سلّم إليه الأغنام (5).

فَلَمّا قَضى و أتمّ مُوسَى ذلك اَلْأَجَلَ المشروط بينهما، و فرغ من خدمة عشر سنين عزم على الرجوع إلى مصر.

قيل: فبكى شعيب، و قال: يا موسى، كيف تخرج عني و قد ضعفت و كبرت؟ فقال له: قد طالت غيبتي عن امّي و خالتي و أخي هارون و اختي في مملكة فرعون. فقام شعيب و بسط يده و قال: يا ربّ بحرمة إبراهيم الخليل، و إسماعيل الذبيح، و إسحاق الصفيّ، و يعقوب الكظيم، و يوسف الصدّيق، ردّ قوّتي و بصري، فأمّن موسى على دعائه، فردّ اللّه عليه بصره و قوّته. ثمّ أوصاه بابنته (6).

و في حديث القمي: أنّه قال لشعيب: لا بدّ لي أن أرجع إلى وطني و امّي، فما لي عندك؟ فقال شعيب: ما وضعت أغنامي في هذه السنة من غنم أبلق فهو لك فعمد موسى عند ما أراد أن يرسل الفحل على الغنم إلى عصاه فقشر منه بعضه و ترك بعضه، و غرزه في وسط مربض الغنم، و ألقى عليه كساء أبلق، ثمّ أرسل الفحل على الغنم، فلم تضع الغنم في تلك السنة إلاّ بلقا، فلمّا جاء عليه الحول حمل موسى امرأته، و زوّده شعيب من عنده، و ساق غنمه، فلمّا أراد الخروج قال لشعيب: آتني عصا تكون معي، و كانت عصيّ الأنبياء عنده قد ورثها مجموعة في بيت، فقال له شعيب: ادخل هذا البيت و خذ عصا من بين العصيّ، فدخل فوثبت إليه عصا نوح و إبراهيم، و صارت في كفّه، فأخرجها، فنظر

ص: 22


1- . في النسخة: أهلها.
2- . التنّين: حيوان اسطوري يجمع بين الزواحف و الطير، و يقال: له مخالب أسد و أجنحة نسر، و ذنب أفعى.
3- . في النسخة: شكر.
4- . الأدرع: ما سود رأسه و بيض سائره.
5- . تفسير روح البيان 6:399.
6- . تفسير روح البيان 6:400.

إليها شعيب، فقال: ردّها و خذ غيرها، فوثبت إليه تلك بعينها فردّها، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلمّا رأى شعيب ذلك، قال له: اذهب، فقد خصّك اللّه عزّ و جلّ بها (1). فأخذ العصا وَ سارَ موسى بِأَهْلِهِ و زوجته صفوراء و ولده بإذن شعيب إلى مصر، فانحرف من خوف ملوك الشام عن الطريق، و أخذ في السير بالبادية حتى جنّهم الليل، و اشتدّ البرد، و انقلب الهواء، و أخطأ الطريق (2)، و جاءت الرياح العاصفة، و تفرّقت أغنامه، و أخذ زوجته الطلّق و هي حامل، إذن آنَسَ و رأى مِنْ جانِبِ جبل اَلطُّورِ و من الجهة التي تليه ناراً ذات اشتغال قالَ لِأَهْلِهِ و المتعلّقين به: اُمْكُثُوا وقفوا هنا إِنِّي آنَسْتُ و رأيت من البعيد ناراً و أنا أذهب وحدي إليها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها و ممنّ حولها بِخَبَرٍ و دلالة على الطريق أَوْ جَذْوَةٍ و قطعة أوعود غليظ في رأسه شيء مِنَ اَلنّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ و بحرارتها تدفأون.

و عن الباقر عليه السّلام: «سار بأهله نحو بيت المقدس فأخطأ الطريق ليلا، فرأى نارا قال لأهله: اُمْكُثُوا الآية» (3).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 30 الی 31

فترك أهله في البريّة و ذهب في طلب النار فَلَمّا أَتاها و بلغ عندها نُودِيَ و خوطب بصوت عال مِنْ شاطِئِ و شفير اَلْوادِ الذي في الجانب اَلْأَيْمَنِ من موسى فِي البقعة و القطعة اَلْمُبارَكَةِ الكثيرة الخير من الأرض، و كان النداء مِنَ اَلشَّجَرَةِ الزيتونة، أو السدرة، أو السّمرة، أو العنّاب، أو العوسج.

فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ اَلْوادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ (31)و في الحديث: «أنّها شجرة اليهود و لا تنطق» (4).

قيل في تفسيره: إذا نزل عيسى و قتل اليهود، فلا يختفى أحد منهم تحت شجرة إلاّ نطقت، و قالت يا مسلم، هذا يهوديّ فاقتله إلاّ شجر الغرقد (5)، فانّه لا ينطق (6).

و كان أوّل كلامه تعالى: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اَللّهُ الذي اناديك و أدعوك باسمك، و أنا رَبُّ اَلْعالَمِينَ* وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ من يدك على الأرض، فألقاها بلا ريث، فصارت ثعبانا فَلَمّا رَآها

ص: 23


1- . تفسير القمي 2:139، تفسير الصافي 4:88.
2- . في النسخة: عن الطريق.
3- . مجمع البيان 7:391، تفسير الصافي 4:89.
4- . تفسير روح البيان 6:401.
5- . الغرقد: شجر عظام، و قيل هي العوسج إذا عظم.
6- . تفسير روح البيان 6:401.

تَهْتَزُّ و تتحرّك بسرعة كَأَنَّها جَانٌّ وحيّة صغيرة في سرعة السير وَلّى و رجع مُدْبِراً له من شدّة الخوف، و فرّ إلى الجهة التي جاء منها وَ لَمْ يُعَقِّبْ و لم يلو رأسه إلى خلفه.

قيل: إنّها لم تدع شجرة و لا صخرة إلاّ ابتلعها حتى سمع موسى صرير أسنانها، و سمع قعقعة الصخر في جوفها، فحينئذ ولّى مدبرا (1)، فنودي: يا مُوسى أَقْبِلْ و ارجع إلى مكانك الذي كنت فيه من الطور وَ لا تَخَفْ من هذا الثعبان إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ من جميع المخاوف فاطمأنّ قلبه الشريف، و مدّ يده إلى الثعبان، فأخذه و جرّه إلى نفسه، فصار عصا.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 32 الی 35

ثمّ نودي أن أَسْئَلَكَ و ادخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ منه حال كونها بَيْضاءَ مشرقة مِنْ غَيْرِ سُوءٍ و عيب و برص وَ اُضْمُمْ و اجمع إِلَيْكَ جَناحَكَ و يديك بإدخال إحداهما تحت الاخرى، أو بادخالهما في جيبك، أو بوضعهما إلى صدرك حتى تسكن مِنَ اَلرَّهْبِ و الخوف.

اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغالِبُونَ (35)قيل: إنّه من معاينة الثعبان فزع و اضطرب، فاتّقاه بيده، كما يفعل الخائف من الشيء، فقال تعالى له: ما فعلته فيه غضاضة عند العدوّ، فاذا رأيت الثعبان أدخل يدك (2)تحت إبطيك (3)، ثمّ أخرجها (4)بيضاء، لتظهر لك معجزتان فَذانِكَ الأمران من انقلاب العصا ثعبانا و اليد البيضاء بُرْهانانِ و حجّتان نيّرتان مِنْ قبل رَبِّكَ على صدق رسالتك إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ أو مرسلان أو منتهيان إليهم إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ و خارجين عن الحدّ في الظلم و الطّغيان

قالَ موسى رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قصاصا وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ و أطلق مِنِّي لِساناً و أبين منطقا فَأَرْسِلْهُ و أشركه مَعِي في الدعوة ليكون رِدْءاً و عونا لي يُصَدِّقُنِي و يساعدني في تقرير الحجّة و إبطال شبهه القوم إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ في دعوى رسالتي، و لا يطاوعني

ص: 24


1- . تفسير الرازي 24:246.
2- . في النسخة: يديك.
3- . تفسير الرازي 24:247.
4- . في النسخة: اخرجهما.

لساني في إلزامهم بحجّتي.

قالَ تعالى إجابة له: سَنَشُدُّ و سنحكم عَضُدَكَ و نقوّي قلبك بِأَخِيكَ هارون وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً و استيلاء على معارضيكما.

عن الصادق عليه السّلام «هيبته في قلوب الأعداء، و حجتّه في قلوب الاولياء» (1).

فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بقتل و إساءة، أو باستيلاء و محاجّة، و تكون سلطنتكما، و عدم وصوله إليكما بِآياتِنا و المعجزات التي أعطيناكما أَنْتُما وَ مَنِ آمن بكما و اِتَّبَعَكُمَا في دينكما هم اَلْغالِبُونَ على فرعون و قومه بالحجّة أولا و بالدولة آخرا.

قيل: لمّا تمت مناجات موسى ربه ذهب من مكانه إلى مصر، و لم يرجع إلى أهله، فبقي أهله و أولاده و أغنامه في الوادي بين مصر و مدين ثلاثين يوما حتى مرّ بهم راع من أهل مدين، فعرف بنت شعيب، و هي باكية حزينة من الوحدة و فراق موسى فسألها عن حالها، فردّهم إلى مدين (2).

و قيل: إنّه رجع إليهم في تلك الليلة فسألته امراته، و قالت: هل أتيت بالنار؟ قال: جئت بالنور حيث أعطاني اللّه الرسالة. ثمّ توجّه هو بأهله إلى مصر، فوصلوا إلى باب البلد أول الليل، و جاء إلى باب بيت أبيه، و فيه امّه و اخته و أخوه هارون، و كانوا يأكلون العشاء فقال: يا أهل البيت، أنا غريب لا مأوى لي في بلدكم، فهل تأذنون لي أن أبيت في داركم هذه الليلة؟ فقالت امّه لهارون: ائذن له حتى يستريح هذه الليلة، لعلّ اللّه أن يرحم بذلك ابني (3)موسى، فأدخله هارون، و وضع عنده الطعام، و كانوا لا يعرفونه، فلمّا اشتغل معهم بالكلام عرفته امّه، و ضمّته إلى صدرها و بكت، ثمّ قال لهارون: إنّ اللّه اصطفاني بالرسالة، و جعلك لي ردءا، و أمرنا أن نذهب إلى فرعون و ندعوه إلى طاعة اللّه، فقال هارون: سمعا و طاعة، فقالت امّهما: أخاف أن يقتلكما، فانّه طاغ جبار. قال موسى: إنّ اللّه أمرنا بذلك، و هو يحفظنا، فجاءا في تلك الساعة، أو في اليوم الثاني إلى باب فرعون، و قالا للبوّابين: استاذنوا لنا بالدخول على فرعون، فإنا رسول اللّه إليه و إلى قومه، فاستأذنوا، فلم يأذن إلى سنة (4).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 36 الی 38

فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا اَلْأَوَّلِينَ (36) وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ اَلدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ (37) وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (38)

ص: 25


1- . تفسير روح البيان 6:404.
2- . تفسير روح البيان 6:405.
3- . في النسخة: على ابني.
4- . تفسير روح البيان 6:405.

ثمّ أذن لهما بالدخول، و هو جالس على سريره، و حوله أشراف مملكته فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا و معجزاتنا حال كونها بَيِّناتٍ و واضحة الدلالات على صدقهما في الرسالة قالُوا يا موسى ما هذا الذي جئت به من العصا واليد البيضاء و غيرهما من خوارق العادات إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً على اللّه، و كذب نسبته إليه من أنّه معجزة أجراها اللّه بيدك وَ ما سَمِعْنا بهذا السحر، أو بِهذا الذي تقول من التوحيد و الرسالة فِي آبائِنَا اَلْأَوَّلِينَ و أسلافنا الاقدمين

وَ قالَ مُوسى لمّا رأى منهم العناد و اللّجاج: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى و دين الحق، و أرشد إلى الطريق إليه مِنْ عِنْدِهِ و من قبله، و من قال بالضلال و الباطل منّا و منكم فيعامل كلا بما يستحقّه وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ هذه اَلدّارِ الفانية، و هي الجنة و النّعم الدائمة و الراحة الأبدية التي هي أحسن العواقب و أحمدها.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بإهلاكها بالكفر و العناد للحقّ و تكذيب الرسل، و لا يفوزون بخير، و لا ينجون من عذاب.

ثمّ قيل: إنّه لمّا آل الأمر إلى إحضار السّحرة و معارضتهم موسى عليه السّلام بالسحر، جمع السحرة (1)وَ قالَ فِرْعَوْنُ بعد حضورهم و اجتماع الناس في الموعد: يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ و معبود غَيْرِي في الأرض، فمن يدّعي ذلك فعليه إثباته بالحجّة القاطعة و البراهين الواضحة.

روي أنه كان بين هذه الكلمة و بين قوله: أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى أربعين سنة (2).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 38 الی 40

ثمّ لمّا كان نفي الحجّة العقلية على إثبات صانع للعالم غير تأثيرات الأفلاك و الكواكب ملازما لحصر طريق العلم بالمشاهدة، قال تمويها على الناس، أو حمقا و جهلالة، أو تهكّما لوزيره فَأَوْقِدْ لِي و اشعل النار يا هامانُ عَلَى اَلطِّينِ و اطبخ الآجرّ قيل: إنّه أول من عمله (1)فَاجْعَلْ لِي و ابن منه صَرْحاً و قصرا رفيعا أعلو عليه لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى و اشاهده، إنّه كما يقول وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكاذِبِينَ في ادّعائه أنّ له إلها في السماء.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (38) وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلظّالِمِينَ (40)قيل: إنّه لمّا أمر ببناء الصّرح، جمع هامان العمّال حتى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع

ص: 26


1- . تفسير البيضاوي 2:193، تفسير روح البيان 6:406.

و الاجراء، و أمر بطبخ الآجرّ و الجصّ و نجر الخشب و ضرب المسامير، فشيّدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق (1).

قيل: كان ملاط القصر خبث (2)القوارير، و كان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله مخافة أن تنسفه الريح، و كان طوله خمسة آلاف ذراع، و عرضه ثلاثة آلاف ذراع (3).

فلمّا تمّ بناء الصّرح علاه فرعون ظانا أنّه يصير أقرب إلى السماء بحيث يمكنه رؤية ما فيها، فلمّا نظر بعد ارتقائه فوقه إلى السماء رآها كما رآها من فوق الأرض، فانفعل و رمى بنشابة نحو السماء، فأراد اللّه أن يفتنهم فردّت إليه و هي ملطوخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى، فعند ذلك بعث اللّه جبرئيل لهدمه وقت غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاثة قطع: قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، و قطعة وقعت في البحر، و قطعة في المغرب، فلم يبق أحد من عمّاله إلاّ و قد هلك (4).

و روى القمي-في حديث- «فبنى له هامان في الهواء صرحا حتى بلغ في الهواء مكانا لا يتمكن الانسان أن يقوم عليه من الرياح العاصفة، فقال لفرعون: لا نقدر أن نزيد على هذا، فبعث اللّه عز و جل رياحا فرمت به، فاتّخذ فرعون و هامان عند ذلك التابوت، و عمدا إلى أربعة أنسر، فأخذا افراخها و ربيّاها: حتى إذا بلغت القوّة و كبرت، عمدا إلى جوانب التابوت الأربعة، فغرزا في كلّ جانب منه خشبة، و جعلا على رأس كلّ خشبة لحما، و جوّعا الأنسر، و شدّا أرجلها بأصل الخشبة، فنظرت الأنسر إلى اللّحم، فأهوت إليه، فصفّقت بأجنحتها، و ارتفعت بها في الهواء، و أقبلت تطير يومها. فقال فرعون لهامان: انظر إلى السماء هل بلغناها؟ فنظر هامان فقال: أرى السماء كما كنت أراها من الأرض في البعد. فقال: انظر إلى الأرض. فقال: لا أرى الارض، و لكن أرى البحار و الماء.

قال: فلم تزل الأنسر (5)ترتفع حتى غابت الشمس، و غابت عنهما البحار و الماء، فقال فرعون: يا هامان انظر إلى السماء، فنظر إليها، فقال: أراها كما كنت أراها من الأرض، فلمّا جنّهم الليل نظر هامان إلى السماء، فقال فرعون: هل بلغناها؟ قال: أرى الكواكب كما كنت أراها في الأرض، و لست أرى من الأرض إلاّ ظلمة.

ثمّ حالت الرياح العائمة في الهواء، فانقلب (6)التابوت بهما، فلم يزل يهوي بهما حتى وقع على

ص: 27


1- . تفسير الرازي 24:253.
2- . الخبث: ما ينفيه الكبر من الحديد و نحوه عند إحمائه و طرقه.
3- . تفسير روح البيان 6:406.
4- . تفسير الرازي 24:253.
5- . في النسخة: النسر.
6- . في النسخة و تفسيري القمي و الصافي: فاقبلت.

الأرض، و كان فرعون أشدّ ما كان عتوّا في ذلك الوقت (1).

و قيل: إنّه لم يبن الصّرح، لغاية البعد من العاقل أن يتوهّم أنّ بصعود الصّرح يقرب إلى السماء مع وضوح أنّ من علا على الجبال الشامخة يرى السماء كما كان يراها من الأرض، و هكذا الكلام فيما نقل من رمي السّهم إلى السماء و رجوعه متلطّخا بالدم، فانّ العاقل يعلم أنّه لا يمكنه إيصال السّهم إلى السماء، و من اعتقد ذلك عدّ من المجانين (2).

فلا بدّ من حمل أمره ببناء الصّرح على إرادة إيهام البناء، و لم يبن، أو على إرادة التهكّم كأنّه قال: لا سبيل إلى إثبات وجود إله السماء إلاّ بالدليل أو بالحسّ، و لا دليل عليه، فانّ التغيّر في العالم يمكن أن يكون بحركات الأفلاك و الكواكب، و لا يمكن الإحساس إلاّ بالصعود إلى السماء، و ذلك لا سبيل إليه، ثمّ قال لهامان تهكّما: ابن لي صرحا، ثمّ رتّب على المقدّمتين قوله: إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكاذِبِينَ.

وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ و تعظّموا عن الايمان بموسى و الانقياد للحقّ في المصر و ما يليه بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و بلا استحقاق، و لم يخافوا عذابه و نكالا حيث توهّموا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ بعد الموت إِلَيْنا و إلى حكمنا لا يُرْجَعُونَ لجزاء أعمالهم و تكبّرهم و عنادهم

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ بالعذاب بعد ما بلغوا من الكفر و الطغيان النهاية أخذ عزيز مقتدر فَنَبَذْناهُمْ و ألقيناهم فِي اَلْيَمِّ و بحر القلزم (3)، و عاقبناهم بالإغراق، و في تشبيههم بالحصاة المقبوضة بالكفّ المنبوذة في الماء غاية تعظيم الأخذ و تحقير المأخوذ بعد الاخبار بتكبّرهم و تعظّمهم.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ أمر اللّه سبحانه بالاعتبار بحالهم و بالغ في بيان عاقبتهم بقوله: فَانْظُرْ يا محمد بعين قلبك، أو أيّها العاقل كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلظّالِمِينَ و مآل كفرهم و طغيانهم في الدنيا

وَ جَعَلْناهُمْ بالحرمان من ألطافنا و إيكالهم إلى أنفسهم أَئِمَّةً و قدوة لأهل الضلال حيث إنّهم كانوا يَدْعُونَ النّاس إلى الكفر و تكذيب الرسل المؤدّي إِلَى اَلنّارِ و عذاب دار القرار وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ينزل عليهم العذاب الشديد، و هم لا يستطيعون نصر أنفسهم و لا هم يُنْصَرُونَ من قبل غيرهم بدفع العذاب

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلظّالِمِينَ (40) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ اَلدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ (42)

ص: 28


1- . تفسير القمى 2:140، تفسير الصافي 4:90.
2- . تفسير الرازي 24:253.
3- . أي البحر الأحمر.

عنهم بالشفاعة و العناية، كما ينصر الأئمّة الدّعاة إلى الجنة.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الأئمّة في كتاب اللّه إمامان، قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا (1)، لا بأمر الناس: يقدّمون أمر اللّه قبل أمرهم، و حكم اللّه قبل حكمهم. قال: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ يقدمون أمرهم قبل أمر اللّه، و حكمهم قبل حكم اللّه، و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب اللّه» (2).

وَ أَتْبَعْناهُمْ، و ألحقناهم فِي هذِهِ اَلدُّنْيا إلى يوم القيامة لَعْنَةً من ساحة الرحمة و بعدا من كلّ خير، أو الدعاء باللعن و الطرد من الناس و الملائكة وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ هُمْ بالخصوص مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ و المبعدين من الجنة و النّعم الدائمة.

و عن ابن عباس: من المشوّهين (3)لسواد الوجه و زرقة العين (4).

قيل: إنّ اللّه يقبّح صورهم و يقبّح عملهم، و يجمع لهم بين الفضيحتين (5)، فصارت قبّاحة عقائدهم و أعمالهم مودّية إلى هذه القباحة التي لا قباحة فوقها.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ بيّن سبحانه كمال تفضّله على موسى مضافا إلى ما سبق بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ المعهود مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى و الامم الماضية بالعذاب، كقوم نوح و عاد و ثمود و أضرابهم، حال كونه أو ليكون بَصائِرَ لِلنّاسِ و أنوارا يبصر بها الدين و طريق الخير وَ هُدىً و رشادا إلى الحقّ و الشرائع وَ رَحْمَةً و نعمة على من تمسّك به، و التزم بالعمل بما فيه بتكميل النفوس و إعدادهم للفيوضات لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و يتّعظون بما فيه.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى بَصائِرَ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ اَلشّاهِدِينَ (44)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الإخبار بمناجاة موسى و سائر قضاياه إنّما هو بالوحي بقوله: وَ ما كُنْتَ حاضرا بِجانِبِ اَلْغَرْبِيِّ من جبل طور الذي كان فيه مناجاة موسى ربّه إِذْ قَضَيْنا و عهدنا إِلى مُوسَى اَلْأَمْرَ العظيم الشأن، و هو الرسالة وَ في فرضه ما كُنْتَ مِنَ اَلشّاهِدِينَ للوحي و المناجاة حتى تخبر الناس بها عن حضور و مشاهدة، و ما كنت تاليا للكتب، و متعلّما من العلماء،

ص: 29


1- . الأنبياء:21/73.
2- . الكافي 1:168/2، تفسير الصافي 4:91.
3- . في تفسير الرازي: المشئومين. (4 و 5) . تفسير الرازي 24:255.

فلا بدّ من كون إخبارك بها عن الوحي.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ قرّر ذلك بقوله: وَ لكِنّا أَنْشَأْنا و خلقنا قُرُوناً كثيرة بعد موسى إلى زمانك فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ و تمادت عليهم مدد حياتهم، فتغيرت الشرائع، و حرّقت الكتب، و اندرست العلوم، و عميت الأنباء وَ ما كُنْتَ ثاوِياً و مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كما كان شعيب و موسى مقيمين فيهم تَتْلُوا و تقرأ عَلَيْهِمُ و تتعلّم منهم، أو أنت تتلو على أهل مكة آياتِنا الدالة على قصصهم و ما جرى بين موسى و شعيب وَ لكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ إيّاك و موحين إليك تلك الآيات و نظائرها لتكون معجزة لك و عبرة لقومك

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلطُّورِ الايمن إِذْ نادَيْنا موسى إنّي أنا اللّه ربّ العالمين وَ لكِنْ أرسلناك بالقرآن الذي فيه جميع العلوم و كثير من المغيبات ليكون رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ و تفضّلا عليك و على امّتك و لِتُنْذِرَ به قَوْماً و امّيين ما أَتاهُمْ و ما أرسل فيهم أحد مِنْ نَذِيرٍ و رسول منهم مِنْ قَبْلِكَ مع تمامية الحجة عليهم ببعث الأنبياء الكثيرة في بني إسرائيل و غيرهم من الامم.

وَ لكِنّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ (45) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)قيل: إنّه كانت حجج الأنبياء قائمة عليهم، و لكن ما بعث إليهم من تجدّد تلك الحجج عليهم (1)، فبعث نبينا فيهم لذلك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و يتنبّهون و يتعّظون، أو يهتدون إلى الحقّ.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نادَيْنا قال: «كتب اللّه كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، ثمّ وضعه على العرش ثمّ نادى: يا امّة محمّد، إنّ رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، و غفرت لكم قبل أن تستغفروني، من يلقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمدا عبده و رسوله، أدخلته الجنّة» (2).

و عن ابن عباس: يعني إذ نادينا امّتك في اصلاب آبائهم: يا امّة محمد، أجبتكم قبل أن تدعوني، و أعطيتكم قبل أن تسألوني، و غفرت لكم قبل أن تستغفروني، و إنّما قال اللّه ذلك حين أختيار موسى

ص: 30


1- . تفسير الرازي 24:258.
2- . تفسير الرازي 24:257، تفسير روح البيان 6:410.

سبعين رجلا لميقات ربّه (1).

و عن وهب، قال: لمّا ذكر اللّه لموسى فضل امّة محمّد قال: ربّ أرينهم. قال: إنّك لن تدركهم، و إن شئت أسمعتك أصواتهم؟ قال: بلى يا رب. فقال سبحانه: يا امّة محمّد، فأجابوه من أصلاب آبائهم، فأسمعه اللّه أصواتهم، ثمّ قال: أجبتكم قبل أن تدعوني. . . إلى آخر ما قال ابن عباس (2).

و في (العيون) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا بعث اللّه عزّ و جلّ موسى بن عمران، و اصطفاه نجيا، و فلق له البحر، و نجّى بني إسرائيل، و أعطاه التوراة و الألواح، رأى مكانه من ربّه عزّ و جلّ، فقال: ربّ لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا من قبلي. فقال اللّه جل جلاله: يا موسى، أما علمت أنّ محمّدا أكرم عندي من جميع خلقي؟

فقال موسى: يا ربّ، إن كان محمّد أكرم عندك من جميع خلقك، فهل آل نبي أكرم عندك من آلي؟ فقال اللّه: يا موسى، أما علمت أنّ فضل آل محمد آل النبيين كفضل محمّد على جميع المرسلين؟

فقال موسى: يا رب، فان كان آل محمد كذلك، فهل في امم الأنبياء أفضل عندك من امّتي؛ ظلّلت عليهم الغمام، و أنزلت عليهم المنّ و السّلوى، و فلقت لهم البحر؟ فقال اللّه جلّ جلاله: يا موسى، أما علمت أنّ فضل امّة محمّد على جميع الامم، كفضله على جميع خلقي.

قال موسى: يا ربّ، ليتني كنت أراهم. فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه: يا موسى، لن تراهم، و ليس هذا أوان ظهورهم، و لكن تراهم في الجنان و الفردوس بحضرة محمد في نعيمها يتقلّبون، و في خيراتها يتبحبحون، أفتحبّ أن اسمعك كلامهم؟ قال: نعم إلهي. قال جلّ جلاله قم بين يدي، و اشدد مئزرك، قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل. ففعل ذلك فنادى ربّنا عزّ و جلّ: يا امّة محمّد، فأجابوه كلّهم و هم في أصلاب آبائهم و أرحام امهاتهم: لبيك اللهمّ لبيك، لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد و النّعمة و الملك لك، لا شريك لك. قال: فجعل اللّه عزّ و جلّ تلك الإجابة شعار الحاجّ.

ثمّ نادى ربّنا عزّ و جلّ: يا امّة محمّد، إنّ قضائي عليكم إنّ رحمتي سبقت غضبي، و عفوي قبل عقابي، فقد استجبت لكم قبل أن تدعوني، و أعطيتكم قبل أن تسألوني، من يلقيني بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمدا عبده و رسوله، صادق في أقواله، محقّ في أفعاله، و أنّ علي بن أبي طالب أخوه و وصيه من بعده و وليه، يلتزم طاعته كما يلتزم طاعة محمد، و أن أولاده المصطفين الطاهرين المطهّرين المعانين بعجائب آيات اللّه و دلائل حجج اللّه من بعدهما أولياءه، ادخله جنتّي و إن كانت ذنوبه مثل زبد البحر.

ص: 31


1- . تفسير الرازي 24:257.
2- . تفسير الرازي 24:257.

قال: فلمّا بعث اللّه عزّ و جلّ محمدا قال: يا محمد، و ما كنت بجانب الطّور إذ نادينا امتك بهذه الكرامة» الخبر (1).

قيل: إنّ اللّه ذكر عدم حضور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الجانب الغربي إذ قضى إلى موسى الأمر، و هو إنزال التوراة، حتى تكامل دينه، و كونه في أول الأمر في أهل مدين، و كونه في الطّور ليلة المناجاة؛ لأنّ كلّها أحوال عظيمة و إنّما عرفها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للرحمة، [ثمّ]فسّر الرحمة بقوله: لِتُنْذِرَ إلى آخره (2).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ بيّن سبحانه حكمة بعثه في المشركين بقوله: وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ و عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر و المعاصي فَيَقُولُوا اعتراضا و احتجاجا علينا يوم القيامة رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا و لم لم تبعث فينا رَسُولاً من قبلك يتلو علينا آياتك، و يتمّ علينا حجّتك، و يهدينا سبيلك؟ فَنَتَّبِعَ آياتِكَ و نهتدي بهدايتك وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بتوحيدك و بما أنزلت من الآيات و الأحكام، ما أرسلناك إليهم، فلم تكن حكمة إرسالك فيهم إلاّ قطع حجّتهم، و سدّ باب اعتذارهم، و إتمام الحجّة عليهم.

وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)

ثمّ بيّن سبحانه غاية شقاوتهم بأنّهم قوم إذا لم نبعث إليهم الرسول اعترضوا علينا، و إذا بعثنا الرسول اعترضوا عليه بأنّه لم لم يأت بمعجزة اقترحوها عليه بقوله: فَلَمّا جاءَهُمُ محمد بالرسالة التي هي اَلْحَقُّ و عين الصدق مِنْ عِنْدِنا و بأمرنا بالمعجزات الباهرات قالُوا تعنّتا و اقتراحا عليه و علينا: لَوْ لا أُوتِيَ محمد من المعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى بن عمران من الآيات التسع و الكتاب المنزل جملة واحدة مع أنّ الواجب على اللّه أن يعطي الرسول معجزة تدلّ على صدقه، و لا يجب أن تكون معجزات الأنبياء واحدة، بل لا يجوز ذلك للحكمة البالغة.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 48 الی 50

فَلَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (50)

ص: 32


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:283/30، تفسير الصافي 4:92.
2- . تفسير الرازي 24:258.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع بطلان اعتراضهم ليس غرضهم إلاّ التعنّت و اللّجاج بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا و أضراب هؤلاء المتعنّتين من اليهود، أو اليهود الآمرين لهؤلاء المشركين بالسؤال بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ و في الزمان الذي أظهر موسى معجزاته و قالُوا في شأن موسى و هارون، أو في شأن موسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله سِحْرانِ تَظاهَرا و ساحران تعاونا على السحر، أو يعضد كلّ منهما الآخر في ترويج الباطل.

قيل: إنّ قريشا بعثوا رهطا إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: إنّا نجده في التوراة بنعته و صفته، فلمّا رجع الرّهط و أخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك (1).

و قيل: إنّ اليهود أمروا قريشا أن سألوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله أن يأتي مثل ما اوتي موسى، و المراد: أو لم يكفر هؤلاء اليهود الذين أمروا قريشا بهذا السؤال (2).

و قيل: إنّ المعنى: أو لم يكفر آباؤهم بأن قالوا في شأن موسى و هارون: ساحران (3)تظاهرا و إِنّا بِكُلٍّ منهما، أو بكلّ الأنبياء كافِرُونَ.

و قيل: إنّ المراد أو لم يكفر اليهود بما اوتي موسى عليه السّلام من قبل من البشارة بعيسى و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّهما ساحران (4)تظاهرا.

و قيل: إنّ المراد بالحقّ هو القرآن (1)، و المراد من قوله: لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى لو لا نزل القرآن جملة واحدة كما نزل التوراة كذلك، و المراد من قوله سِحْرانِ تَظاهَرا أنّ الكتابين تظاهرا و توافقا في المطالب، و يصدّق أحدهما الاخر، و معنى قوله: إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ بكلا الكتابين،

و يويدّه قوله في ردهم: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين بهذا القول: فَأْتُوا أنتم بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ يكون هُوَ أَهْدى إلى الحقّ من كتاب موسى و كتابي [و]

أرشد إلى طريق السعادة الأبدية مِنْهُما بأيّ وسيلة تتمكّنون، إذن أنا أَتَّبِعْهُ و أعمل به و إن خالفتموه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّهما ساحران مختلقان،

و فيه نوع تحد و تهكّم فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لك المسألة، و لم يعملوا بما أمرتهم به من إتيان كتاب آخر أهدى، و لم يمكنهم ذلك فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الزائغة في قولهم بأنّ الكتابين سحران من غير أن يكون لهم دليل يعتمد عليه.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 50 الی 51

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (50) وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

ص: 33


1- . تفسير روح البيان 6:411.

ثمّ أعلن سبحانه بغاية ضلالهم بقوله: وَ مَنْ أَضَلُّ على نفسه مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّهِ و قال قولا أو عمل عملا بشهوة نفسه من دون أن يكون على صحّته حجّة واضحة شرعية أو عقلية.

عن الكاظم عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «يعني من أتّخذ دينه و رأيه بغير إمام من ائمّة الهدى» (1).

ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّهم بغاية الضلال هدّدهم بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي إلى دين الحقّ، و لا يوفّق للالتزام به اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و الإصرار على العناد، بل يشملهم الخذلان الذي هو أشدّ العذاب في الدنيا لاستتباعه أشدّ العذاب في الآخرة.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه حكمة نزول القرآن نجوما بقوله: وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لقريش، و أكثرنا لَهُمُ اَلْقَوْلَ بانزال آيات القرآن العظيم واحدة بعد واحدة و قطعة بعد قطعة حسبما تقتضيه الحكمة ليتّصل التذكير-عن الكاظم عليه السّلام: «إمام إلى إمام» (2)- لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و يتعّظون فيؤمنوا و ينقادوا للحقّ، أو المراد: تابعنا لهم المواعظ و الزواجر، و بيّنا لهم قصص المهلكين قرنا بعد قرن بالعذاب على الكفر و تكذيب الأنبياء لعلّهم يتّعظون و يخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من الامم الظالمة المكذّبة للرّسل كقوم نوح و أضرابهم.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 52 الی 53

ثمّ استدلّ سبحانه على صحّة النبوة و صدق القرآن بعجز البشر عن إتيان مثل هذا الكتاب، أكدّ ذلك بالاستدلال عليهما بايمان علماء أهل الكتاب به بقوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ السماوي كالتوراة و الانجيل، و أنزلنا عليهم في الزمان السابق على نزول القرآن و مِنْ قَبْلِهِ و آمنوا به حقّ الايمان هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ و بكونه كلام اللّه يصدّقون.

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)قيل: نزلت في اناس من أهل الكتاب، كانوا على شريعة حقّة، فلمّا بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله آمنوا به منهم سلمان و عبد اللّه بن سلام (3).

و حاصل الاستدلال: أنّ المطّلعين على الكتب السماوية لمعرفتهم بصفات القرآن و علائمه

ص: 34


1- . الكافي 1:306/1، تفسير الصافي 4:94.
2- . الكافي 1:343/18، تفسير الصافي 4:94.
3- . تفسير الرازي 24:262.

المكتوبة في الكتب، آمنوا به، فعليكم أيّها المشركون الاميّون أن تقتدوا بهم، بل أنتم أولى بالايمان به. و قيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الانجيل، و هم أصحاب السفينة، جاءوا مع جعفر من الحبشة (1).

و عن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا منهم (2).

ثمّ بيّن اللّه سبب إيمانهم بالقرآن بقوله: وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن و اطّلعوا على فضائله و علائمه المذكورة في الكتب قالُوا آمَنّا بِهِ ثمّ أكّدوا إيمانهم به بقولهم: إِنَّهُ اَلْحَقُّ النازل مِنْ قبل رَبِّنا ثمّ بيّنوا أن إيمانهم به ليس حادثا باستماع تلاوته، بل كان متقادما قبل نزوله بقولهم: إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ له، و منقادين لما فيه، لما وجدنا البشارة بنزوله في كتب الأنبياء السابقين.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 54 الی 55

ثمّ إنّه تعالى بعد مدحهم بالايمان القديم و الحادث بشّرهم بالأجر بقوله: أُولئِكَ المؤمنون من أهل الكتاب يُؤْتَوْنَ و يعطون أَجْرَهُمْ و ثواب إيمانهم بمحمد و كتابه مَرَّتَيْنِ مرّة بإيمانهم بمحمد قبل بعثته و بالقرآن قبل نزوله، و مرة بايمانهم بعد بعثته و نزوله.

أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَ إِذا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي اَلْجاهِلِينَ (55)و قيل: مرّة بايمانهم بالانبياء قبل محمّد، و مرة بايمانهم به (1).

و في الحديث: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين-إلى أن قال-و رجل آمن بالكتاب الأوّل، ثمّ آمن بالقرآن» (2).

و قيل: إنّهم لمّا آمنوا بمحمد شتمهم المشركون فصفحوا عنهم، فلهم أجران: أجر على إيمانهم، و أجر بِما صَبَرُوا و صفحوا (3)، أو ثبتوا على الايمان و العمل بشريعة الاسلام.

عن الصادق عليه السّلام قال: «بما صبروا على التقيّة» (4).

ثمّ وصفهم اللّه بالالتزام بلوازم الايمان من العبادات البدنية بقوله وَ يَدْرَؤُنَ و يدفعون بِالْحَسَنَةِ و الطاعة البدنية، أو التوبة اَلسَّيِّئَةَ و المعصية السابقة، أو بالعفو و الصّفح الأذى.

و عن الصادق عليه السّلام: «الحسنة التقيّة، و السيئة الإذاعة» (5).

ص: 35


1- . تفسير الرازي 24:262.
2- . تفسير روح البيان 6:414.
3- . تفسير الرازي 24:262.
4- . الكافي 2:172/1، تفسير الصافي 4:95.
5- . الكافي 2:172/1 و 173/6، تفسير الصافي 4:95.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اتبع السيئة الحسنة تمحها» (1).

و من الطاعة المالية بقوله: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و أعطيناهم من الاموال يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه و من الأخلاق الحميدة بقوله:

وَ إِذا سَمِعُوا من الأعداء و الجهّال الكلام اَللَّغْوَ و الباطل أَعْرَضُوا عَنْهُ و سكتوا و مرّوا.

قيل: لمّا أسلموا لعنهم أبو جهل، و شتمهم المشركون، فسكتوا و لم يخوضوا فيه (2).

و القمي قال: اللغو الكذب (3).

وَ قالُوا إن تكلّموا في جوابهم: يا قوم لَنا أَعْمالُنا من الايمان و الحلم و الصّفح و نحوها وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ من الكفر و الطغيان و العناد مع الحقّ، و التكلّم باللغو و السّفاهة سَلامٌ عَلَيْكُمْ و نودّعكم و نترككم لا نَبْتَغِي اَلْجاهِلِينَ و لا نطلب صحبتهم و مخالطتهم، أو لا نجازي (4)جهلهم بالجهل و باطلهم بالباطل.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 56

ثمّ لمّا ذكر سبحانه هداية جمع من أهل الكتاب، نبّه على أنّ الهداية لا تكون إلاّ بتوفيقه بقوله: إِنَّكَ يا محمّد لا تَهْدِي هداية موصلة إلى الجنّة و الخير أبدا أحدا حتى مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته من الناس، و اشتقت إلى إيمانه غاية الاشتياق، و بذلت في إدخاله في الاسلام نهاية الجهد وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي بتوفيقه و عناياته الخاصة إلى الحقّ و قبول الاسلام مَنْ يَشاءُ هدايته بمقتضى استعداده و طيب طينته و قوّة عقله وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ و أخبر بحال المستبعدين لنيل فيوضاته، أو هو المختصّ بعلم الغيب، فيعلم من يهتدي بعد و من لا يهتدي.

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)قال بعض العامة: الجمهور على أنّ الآية نزلت في أبي طالب عمّ الرسول (5)، و نقل الفخر عن الزجّاج إجماع المسلمين على ذلك، قال: و ذلك أنّ أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف، أطيعوا محمّدا و صدّقوه تفلحوا و ترشدوا. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: يا عمّ، تأمرهم بالنّصح لأنفسهم و تدعه لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: اريد منك كلمة واحدة، فإنّك في آخر يوم من أيام الدنيا؛ أن تقول لا إله إلاّ اللّه، أشهد لك بها عند اللّه تعالى قال: يابن أخي، قد علمت أنّك صادق، و لكنيّ أكره أن

ص: 36


1- . تفسير البيضاوي 2:196، تفسير أبي السعود 7:19، و في النسخة: اتبع الحسنة السيئة تمحها.
2- . تفسير الرازي 24:262.
3- . تفسير القمي 2:142، تفسير الصافي 4:95.
4- . في النسخة: لا نجازهم.
5- . تفسير روح البيان 6:415.

يقال جزع عند الموت، و لو لا أن يكون عليك و على بني عمّك غضاضة و مسبّة بعدي لقلتها، و لأقررت بها عينيك عند الفراق، لما أرى من شدّة وجدك و نصحك، و لكنّي سوف أموت على ملّة الأشياخ: عبد المطلب، و هاشم، و عبد مناف (1).

أقول: الرواية من صدرها إلى ذيلها صريحة في إسلام أبي طالب و تصديقه رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ما جاء به من التوحيد و الدين خصوصا قوله: و لكنّي أموت على ملّة الأشياخ.

و قد روى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين أنّه قال: «و اللّه ما عبد أبي و جدّي عبد المطّلب و لا هاشم و لا عبد مناف صنما قطّ» (2)، و إنّما لن يعلن أبو طالب بالشهادة لما رأى من المفسدة في الإعلان بها، لوضوح أن العذر المذكور مانع من الإجهار لا من الإسرار، مع أنّه لا يمكن للعاقل أن يكفّ نفسه عن الايمان للوجه الذي نقلوه عنه مع العلم بصدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما أخبر به من العذاب الشديد الأبدي على الشرك، و غاية شوقه إلى سرور قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السّلام بإيمانه و إسلامه قبل كلّ أحد.

القمي قال: نزلت في أبي طالب، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عمّ قل لا إله إلاّ اللّه أنفعك بها يوم القيامة. فيقول: يابن أخي، أنا أعلم بنفسي، فلمّا مات شهد العباس بن عبد المطلب عند رسول اللّه أنّه تكلم بها عند الموت. فقال رسول اللّه: «أما أنّا فلم أسمعها منه، و أرجو أن أنفعه يوم القيامة» . و قال: «لو قمت المقام المحمود لشفعت في امّي و أبي و عمّي و أخ كان لي في الجاهلية» (3).

أقول: هذه الرواية أيضا مخالفة لما عندنا من أنّ آباء الأئمة عليهم السّلام كانوا كآباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله موحّدين مسلمين من أول بلوغهم، مع أنّ إقراره في ابتداء النبوة بالتوحيد سرا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن فيه مفسدة، فكيف يقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنا لم أسمعها منه؟» .

عن الصادق عليه السّلام: أنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسرّوا الايمان، و أظهروا الشرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين» (4).

و عنه عليه السّلام: قيل له: إنّهم يزعمون أنّ أبا طالب كان كافرا؟ فقال: «كذبوا، كيف يكون كافرا و هو يقول:

ألم يعلموا أنّا وجدنا محمّدا *** نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

و في رواية اخرى، قال: «كيف يكون أبو طالب كافرا و هو يقول:

ص: 37


1- . تفسير الرازي 25:2.
2- . كمال الدين:174/32.
3- . تفسير القمي 2:142، تفسير الصافي 4:95.
4- . الكافي 1:373/28، تفسير الصافي 4:95.

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب *** لدينا، و لا يعبأ (1)بقول الأباطل

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال (2)اليتامى عصمة للأرامل (3)

و عن الصادق عليه السّلام (4): «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إن جبرئيل أخبرني أنّ اللّه حرّم على النار صلبا حملك، و بطنا حملك، و ثديا أرضعك، و حجرا كفلك» (5).

أقول: المراد بالحجر الكافل له أبو طالب، مع أنّ المشرك لا يمكن أن يغفر له.

و روي أنّ أمير المؤمنين كان جالسا في الرّحبة يوما، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أنت بالمكان الذي أنت به، و أبوك يعذّب بالنار!

قال عليه السّلام: «فضّ اللّه فاك، و الذي بعث بالحقّ محمّدا بشيرا، لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشّفعه اللّه فيهم، أبي يعذّب بالنار و ابنه قسيم الجنة و النار؟ !» (6).

و عن رفاعة، عن آبائه: كان نقش خاتم أبي طالب: «رضيت باللّه ربا، و بابن أخي محمّد نبيا، و بابني عليّ له وصيا» .

و عن الصادق عليه السّلام: «أول صلاة صلاّها رسول اللّه أنّه عليه السّلام قام في الصلاة، و قام على الجانب الأيمن منه، فجاء أبو طالب و معه جعفر، فرآهما يصلّيان، فقال لابنه جعفر: صل جناح ابن عمّك. فقام جعفر إلى يسار رسول اللّه، فلمّا جاء وقت وفاة أبي طالب أوصى إلى ولده و اقربائه أن ينصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (7).

و عن الكاظم عليه السّلام: أنّه سئل أكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله محجوجا بأبي طالب؟ فقال: «لا و لكنه كان مستودعا للوصايا، فدفعها إليه» .

قيل: فدفع إليه الوصايا على أنّه محجوج به؟ فقال: «لو كان محجوجا به ما دفع إليه الوصية» .

قيل: فما كان حال أبي طالب؟ قال: «أقرّ بالنبيّ و ما جاء به، فدفع إليه الوصايا، و مات من يومه» (8).

أقول: معنى كون النبي صلّى اللّه عليه و آله محجوجا به أنّ أبا طالب كان حجّة عليه قبل البعثة، و المراد بالوصايا وصايا الأنبياء.

و في رواية، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و الذي بعث محمدا بالحقّ إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفى

ص: 38


1- . في الكافي و شعر أبي طالب: يعنى.
2- . الثّمال: الغياث، و الذي يقوم بأمر قومه.
3- . الكافي 1:373/29، تفسير الصافي 4:96، شعر أبي طالب و أخباره:26 و 33.
4- . في النسخة: الباقر عليه السّلام.
5- . نحوه في الكافي 1:371/21 و معاني الأخبار:136/1 و أمالي الصدوق:703/964 و تفسير الصافي 4:96.
6- . بشارة المصطفى:202، تفسير الصافي 4:97.
7- . الغدير 7:366 و 367.
8- . الكافي 1:370/18، تفسير الصافي 4:97.

أنوار الخلق إلاّ خمسة أنوار: نور محمّد، و نوري، و نور فاطمة، و نور الحسن و الحسين و من ولده من الأئمّة، لأنّ نوره من نورنا الذي خلقه اللّه من قبل خلق آدم بألفي عام» (1)إلى غير ذلك من الروايات. و أمّا الآية فلا دلالة لها على كفره، كما اعترف به الفخر (2)، بل دالة على إيمانه، لدلالة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يحبّه، و هو عليه السّلام ما كان يحبّ كافرا لحرمة حبّه عليه بقوله: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ (3)و يدلّ عليه قوله: «أوثق عرى الايمان؛ الحبّ في اللّه، و البغض في اللّه» (4)و أظهر مصاديقه بغض المشركين الذين هم أبغض الخلق عند اللّه، فكيف يجتمع ذلك مع حبّ أبي طالب لو كان مشركا؟ و كذا ما روي عن السجّاد عليه السّلام: «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: الحمد للّه الذي لم يجعل للفاجر عليّ يدا، لكيلا يرونه تحصل في قلبي منه مودّة، فانّ مودّة الفجّار تجرّ إلى النّار» .

سوره 28 (القصص): آیه شماره 57

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الهداية الحقيقية إنّما هي بتوفيقه، بيّن أنّ من لم يشمله التوفيق يعتذر عن عدم قبوله الدعوة بما ليس بعذر بقوله: وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى و نتّبع دين الاسلام مَعَكَ و نقتدي بك في القول بالتوحيد نُتَخَطَّفْ و نخرج بسرعة مِنْ أَرْضِنا و وطننا، روي أنّها نزلت في الحرث، أو الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حيث أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: نحن نعلم أنّك على الحقّ، و ما كذبت كذبة قطّ فنتّهمك اليوم، و لكنّا نخاف إن اتّبعناك و خالفنا العرب أن يتخطّفونا من مكّة و الحرم، لا جماعهم على خلافنا، و هم كثيرون و نحن أكلة رأس (5)لا نستطيع مقاومتهم، فنزلت (6).

وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)و القمي: نزلت في قريش حين دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الاسلام و الهجرة (7).

و عن السجاد عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال «و الذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض و الأسود، و من على رؤس الجبال، و من في لجج البحار، و لأدعون إليه فارس و الروم. فتجبّرت قريش و استكبرت، و قالت لأبي طالب: أما تسمع لابن أخيك ما يقول: و اللّه لو سمعت بهذا فارس و الروم لا ختطفتنا من أرضنا، و لقلعت الكعبة حجرا حجرا، فأنزل اللّه هذه الآية» (8).

ص: 39


1- . بشارة المصطفى:202، تفسير الصافي 4:97.
2- . تفسير الرازي 25:2.
3- . الممتحنة:60/1.
4- . المحاسن:165/121.
5- . أي يكفيهم رأس واحد لقلّتهم.
6- . تفسير روح البيان 6:417.
7- . تفسير القمي 2:142، تفسير الصافي 4:97.
8- . روضة الواعظين:54، مناقب ابن شهر آشوب 1:59، تفسير الصافي 4:97.

ثمّ ردّ اللّه عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ و لم نجعل مقرّهم و مسكنهم حَرَماً آمِناً و أرضا مأمونة من القتال و تعدّيات العرب لحرمتها، و مع ذلك يحمل إلى ذلك الحرم و يُجْبى إِلَيْهِ و يجمع فيه ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ و منافع جميع النباتات من الفواكه و الحبوب و الخضراوات، بحيث لا يرى شرقيها و غربيها ألا و هو فيه، هؤلاء يرزقون منها رِزْقاً كائنا مِنْ لَدُنّا لا من لدن أحد من الخلق، فاذا كان هذا حالهم و هم عبدة الأصنام، فكيف نعرّضهم للتخّوف و التخطّف إذا صاروا موحدين؟ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جهلة لا يَعْلَمُونَ أنّ هذه النّعم من قبلنا، و إلاّ لم يخافوا غيرنا، و لا يعلمون أنّ إلههم اللّه، و إلا لم يعبدوا غيره، أو لا يعلمون أنّ ما قالوا ليس بعذر مقبول، و إلاّ لم يعتذروا به.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 58 الی 59

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أنّ الايمان لا يوجب زوال نعمهم بل موجب لدوامها لهم، بيّن أنّ الإصرار على الكفر و تكذيب الرسل، هو الموجب لزوال النّعم بقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا بالعذاب مِنْ قَرْيَةٍ و بلدة بَطِرَتْ مَعِيشَتَها و أطغت النّعم الكثيرة أهلها فخرّبنا بعد إهلاكهم ديارهم فَتِلْكَ المساكن الخربة التي ترونها في أسفاركم إلى الشام ذهابا و إيابا مَساكِنُهُمْ التي كانوا يسكنونها، فانّها من شدّة خرابها لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ و وراء إهلاكهم إِلاّ قَلِيلاً من الناس أو من الزمان، حيث إنّها لا يسكنها إلاّ المارّة يوما أو بعض يوم، كما عن ابن عباس (1). أو من أعقابهم، فانّهم لم يبقوا فيها إلاّ قليلا من شؤم كفرهم و معاصيهم (2)، و قليلا من الحيوانات كالهام و البوم (3)وَ كُنّا نَحْنُ اَلْوارِثِينَ منهم لتلك المساكن، إذ لم يخلفهم أحد من أعقابهم.

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَ كُنّا نَحْنُ اَلْوارِثِينَ (58) وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنّا مُهْلِكِي اَلْقُرى إِلاّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (59)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه إهلاك كثير من القرى لبطر أهلها و كفرهم، بيّن أنّ نزول العذاب لا يكون إلاّ بعد إتمام الحجّة على المعذبين، و أنّ علّة عدم نزوله على الكفّار الذين كانوا قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله مع بطرهم و شدّة كفرهم و عنادهم، عدم بعث الرسول فيهم بقوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى التي في الأرض بسبب كفرهم و طغيانهم حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها و عظيمها التي تكون تلك القرى أتباعها

ص: 40


1- . تفسير الرازي 25:5.
2- . تفسير الرازي 25:5، تفسير روح البيان 6:418.
3- . تفسير روح البيان 6:418، و الهام: طائر صغير من طيور الليل يألف المقابر.

و يسكنها الأشراف الذين هم مرجع أهالي غيرها رَسُولاً تتمّ به الحجّة عليهم، و يقطع به معذرتهم بأن يدعوهم إلى توحيدنا و يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا و حججنا الدالة على العقائد الحقّة، و الوعد و الوعيد، و الترغيب في الطاعة، و الترهيب عن الكفر و المعصية، حتى لا يقولوا: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (1)فلذا لم نهلك الكفّار الذين كانوا قبل البعثة.

ثمّ نبّه سبحانه على علّة عدم تعذيب الكفّار بعد البعثة بقوله: وَ ما كُنّا و ليس من دأبنا أن نكون مُهْلِكِي اَلْقُرى الكافرة بعد بعثة الرسول و إلزام الحجّة إِلاّ وَ أَهْلُها و سكّانها ظالِمُونَ على أنفسهم بتكذيب الرسول و الآيات، و ليس أهل مكّة كذلك؛ لأنّ بعضهم آمنوا و بعضهم يرجى منهم الإيمان.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 60 الی 61

ثمّ إنّه تعالى أجاب عن عذرهم ثالثا بعد الجوابين السابقين بقوله: وَ ما أُوتِيتُمْ أيّها المعتذرون و أعطيتم مِنْ شَيْءٍ من التمكّن في الحرم و سعة الرزق و سائر النّعم فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و انتفاع قليل في مدّة العمر فيها وَ زِينَتُها التي تتزيّنون بها من الألبسة الفاخرة و المراكب الفارهة في أيام يسيرة، ثمّ تزول و تفنى بسرعة وَ ما عِنْدَ اَللّهِ من الأجر الجزيل الاخروي على الايمان به و طاعته و عبادته خَيْرٌ لكم من جميع الدنيا و ما فيها، لخلوصه من شوائب المكاره و الآلام وَ أَبْقى و أدوم لكونه أبديا أَ فَلا تَعْقِلُونَ و لا تدركون هذا الأمر الواضح، و لا تتفكّرون فيه، فانّكم إذا عقلتم ذلك لا ترضون باستبدال الأدنى بالذي هو خير، و ما هو في معرض الزوال بالذي لا زوال له.

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (60) أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ (61)

ثمّ بيّن عدم تساوي النّعم الدنيوية المتّصلة بالنّعم الاخروية و المتّصلة بالعذاب بقوله: أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ على إيمانه و طاعته وَعْداً يكون موعوده حَسَناً كالجنّة و نعيمها فَهُوَ لاقِيهِ و مصيبه لا محالة، لامتناع الخلف في وعدنا كَمَنْ مَتَّعْناهُ و نفعناه مَتاعَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و انتفاع أيّام العمر السريع الانقطاع ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يكون مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ في محضر عدلنا للحساب و جزاء الأعمال، فيحكم عليه باستحقاقه العذاب الشديد الأبدي، لا يمكن التساوي ببديهة

ص: 41


1- . القصص:28/47.

العقل بين من اتّصل نعمه الدنيوية بالنّعم الاخرويّة الأبديّة، و من اتّصل نعمه الدنيوية بالعقوبة الاخروية الدائمة.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 62 الی 66

ثمّ شرع سبحانه في تهديد المشركين بأهوال القيامة و عدم نفع أصنامهم فيها بقوله: وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ و التقدير و ذكّرهم يا محمد يوم يناديهم ربّهم نداء غضبان فَيَقُولُ لهم تقريعا و توبيخا: قولوا أَيْنَ شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ و تتوهّمون أنّهم شركائي في الالوهية و العبادة، و كنتم تعبدونهم كما تعبدونني، و ترجون منهم نجاتكم من الشدائد؟

و الغرض من هذا السؤال غايه تفضيحهم الذي هو نوع من العذاب قالَ الشياطين و الرّوساء اَلَّذِينَ اتّخذوهم أربابا و حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ و ثبت عليهم الوعيد بقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (1): رَبَّنا هؤُلاءِ الضعفاء الذين اتّبعونا في العقائد و الأعمال هم اَلَّذِينَ أَغْوَيْنا و أضللناهم عن التوحيد من غير إكراه و إجبار بل أَغْوَيْناهُمْ باختيارهم و ميل أنفسهم كَما غَوَيْنا و ضللنا عن الحقّ كذلك، و لم ينفعنا و إياهم الدلائل العقلية و نصائح الرسل و بيانات الكتب السماوية المشحونة بالوعد و الوعيد في الصرف عمّا كنّا عليه من الكفر و العصيان، فاليوم تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و ممّا اختاروه لأنفسهم من الشرك ما كانُوا إِيّانا يَعْبُدُونَ بل كانوا يعبدون هوى أنفسهم و يتّبعون شهواتهم.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيّانا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)

وَ قِيلَ إذن من قبل اللّه للرؤساء و الأتباع تهكّما و تقريعا: اُدْعُوا اليوم شُرَكاءَكُمْ و آلهتكم التي تدعون من دوني، كي يشفعوا لكم (2)و يكفّوا عنكم العذاب و ينجوكم من شدائد هذا اليوم فَدَعَوْهُمْ لفرط الحيرة، أو برجاء النّصرة جمعا فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ للعجز عن إجابتهم و نصرتهم وَ رَأَوُا جميعهم التابع و المتبوع اَلْعَذابَ الذي اعدّ لهم حسب استحقاقهم أنّه قد غشيهم لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ إلى وجه من الحيل في دفعه، أو إلى الحقّ في الدنيا لما لقوا ما لقوا.

ص: 42


1- . السجدة:32/13.
2- . في النسخة: يشفعوكم.

و قيل: إنّ المراد تمنّوا أنّهم كانوا مهتدين إلى الحقّ لا ضالّين عنه (1).

وَ ذكّرهم يا محمّد يَوْمَ يُنادِيهِمْ ربّهم نداء تقريع و توبيخ فَيَقُولُ لهم أيّها الكفّار الغواة ما ذا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ الذين أرسلتهم إليكم حين دعوكم إلى التوحيد و إلى عبادتي،

و نهوكم عن الشرك و الضلال فَعَمِيَتْ و سترت عَلَيْهِمُ اَلْأَنْباءُ و الأخبار و نسوها فلا يدرون ما يقولون لفرط الدهشة يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت العظيم الهول فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ و لا يرجع بعضهم إلى بعض في الجواب، لعلمهم باشتراك جميعهم في الحيرة و الوحشة و العجز عنه.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 67

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال المصرّين على الشّرك، بيّن حال التائبين منه بقوله: فَأَمّا مَنْ تابَ من الشرك و العصيان وَ آمَنَ بالتوحيد و رسالة الرسول و صدق كتابه وَ عَمِلَ عملا صالِحاً و مرضيا عند اللّه فَعَسى أَنْ يَكُونَ ذلك التائب المؤمن الصالح مَنْ جملة اَلْمُفْلِحِينَ و الفائزين بأعلى المقاصد من الأمن من الأهوال، و النجاة من العذاب، و نيل الجنّة (2)و النّعم الدائمة و الراحة الأبدية في ذلك اليوم العظيم.

فَأَمّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ (67)قيل: إنّ ذكر (عسى) في وعد الكرام للتحقيق، و قيل: إنّ المقصود إيجاد الرجاء في قلب التائب (3)، فكأنّه قال: فليطمع التائب في الفلاح، و لا يغترّ بايمانه و عمله، لاحتمال انقلاب حاله و ابتلائه بما يوجب هلاكه.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 68 الی 69

ثمّ إنّه تعالى بعد الجواب عن اعتذار المشركين في ترك الايمان، ذكر الجواب عن اعتراضهم على رسالة الرسول بأنّه لا بدّ أن يكون من الأغنياء و الرؤساء، و محمد فقير لا نفوذ لكلامه في العرب بقوله: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه وَ يَخْتارُ من خلقه من يشاء أن يختاره و يصطفيه للرسالة و غيرها، فكما أنّ الخلق إليه يكون الاختيار إليه في جميع الامور، و إن كان مختاره مخالفا لاختيار الناس، لأنّه ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ في أمر من الامور التكوينية، كالفقر و الغنى، و الصحة و المرض، و العزّ و الذّل،

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (68) وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (69)

ص: 43


1- . تفسير روح البيان 6:421.
2- . في النسخة: و النيل بالجنّة.
3- . تفسير أبي السعود 7:22، تفسير روح البيان 6:422.

و الرسالة و الإمامة و غيرها سُبْحانَ اَللّهِ و تنزّه بذاته من أن يزاحم اختياره اختيار خلقه وَ تَعالى و ترفّع بكمال ذاته عَمّا يُشْرِكُونَ به من الآلهة التي يدعون من دونه في التصرّف في أمر خلقه، أو عن إشراكهم.

ثمّ هدّد سبحانه الطاعنين في رسالة رسوله بقوله: وَ رَبُّكَ يا محمّد يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ و تضمر قلوبهم من عداوة الرسول و الحسد عليه وَ ما يُعْلِنُونَ و يظهرون من الطعن فيه و الاعتراض عليه بقولهم لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (1)فيجازيهم على مضمراتهم و معلناتهم أسوأ الجزاء.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 70 الی 73

ثمّ إنّه تعالى بعد تخصيص أمر الخلق و اختيار الامور و العلم بالمضمرات و المعلنات بذاته المقدّسة، خصّ الالوهية و الحمد بنفسه بقوله: وَ هُوَ اَللّهُ المستحقّ للعبودية و المتفرّد بالالوهية لا إِلهَ و لا معبود بالاستحقاق إِلاّ هُوَ تعالى شأنه و لَهُ وحده اَلْحَمْدُ و الثناء الجميل فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ و الدنيا و العقبى، لاختصاص النّعم العاجلة و الآجلة به وَ لَهُ اَلْحُكْمُ النافذ فيهما، لا يزاحمه غيره في الخلق و الاختيار.

وَ هُوَ اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اَللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اَللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (72) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)عن ابن عباس حكم لأهل طاعته بالمغفرة، و لاهل معصيته بالشقاء و الويل (2).

وَ إِلَيْهِ بالبعث تُرْجَعُونَ لا إلى غيره، فيجازي كلاّ على حسب استحقاقه.

ثمّ إنّه تعالى بعد تخصيص الحمد بذاته نبّه على بعض مهمّات نعمه بقوله: قُلْ يا محمد لقومك أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ جَعَلَ اَللّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً و الظّلمة دائمة و باقية إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لانهار معه و لا ضياء معها مَنْ إِلهٌ قادر غَيْرُ اَللّهِ القدير الحكيم يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ يمكنكم فيه تحصيل معائشكم و تنظيم اموركم و تفريح قلوبكم أَ فَلا تَسْمَعُونَ دلائل توحيد

ص: 44


1- . الزخرف:43/31.
2- . تفسير روح البيان 6:425.

ربّكم،

و استحقاقه لشكركم، و تخصيصه بمحامدكم قُلْ يا محمد للمشركين أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهارَ سَرْمَداً و دائما إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اَللّهِ يَأْتِيكُمْ بقدرته بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ و تستريحون فِيهِ من تعب مشاغل النهار أَ فَلا تُبْصِرُونَ؟

و إنّما ختم الآية الاولى بالتوبيخ على ترك الاستماع، و الثانية بالتوبيخ على ترك الإبصار؛ لأنّ الليل يناسب الاستماع، و لأنّ منافع السّمع تعمّ المحسوس و المعقول، و بعض منافع الضياء لا تدرك إلاّ بالعقل، و لذا لم يقرن به جملة (تتصرفون فيه) . و النهار مناسب للابصار، و منفعة الظلمة-و هي الراحة و السكون-قابلة للإبصار و منحصرة فيها، و لذا وصف الليل بكونه تَسْكُنُونَ فِيهِ.

ثمّ اعلم أنّ فلك الشمس يدور في بعض قطعات الأرض رحويا لا غروب لها فيه، فصار النهار سرمدا، و لا يعيش فيه الحيوان، و لا ينبت فيه النبات من شدّة حرارة الشمس، و في بعض القطعات تدور تحت الأرض كذلك فلا طلوع لها فيه، فصار ليلة سرمديا، فلا يعيش [فيه]الحيوان، و لا ينبت النبات فيه أيضا.

وَ مِنْ رَحْمَتِهِ تعالى أنّه جَعَلَ لَكُمُ أيّها الناس اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ مزدوجين متعاقبين الليل لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النهار لِتَبْتَغُوا فيه مقدارا مِنْ فَضْلِهِ و نعمه بأنواع المكاسب وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ربّكم على كلتي النّعمتين معا.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 74 الی 75

ثمّ لمّا أثبت سبحانه التوحيد و أبطل الشرك، هدّد المشركين بذكر أهوال القيامة بقوله: وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ تقريعا و تبكيتا فَيَقُولُ يا أيها المشركون أَيْنَ الأصنام الذين تدعون أنّهم شُرَكائِيَ في الالوهية و العبادة، و الآلهة اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّهم شفعائكم و منجيكم من الشدائد و المهالك؟ لم لا يغيثونكم و لا يخلّصونكم اليوم من العذاب؟

ص: 45

وَ ضَلَّ و غاب عَنْهُمْ غيبة الضائع ما كانُوا في الدنيا يَفْتَرُونَ على اللّه من أنّه اتخذ لنفسه شريكا، أو المراد ما كانوا يكذبون من الوهية الأصنام.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

سوره 28 (القصص): آیه شماره 76

ثمّ استشهد سبحانه على سرعة زوال نعم الدنيا بسبب الكفر و الطغيان بقصة قارون بقوله: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قيل: كان عمّ موسى، لأنّه و عمران كانا ابني يصهر (1). و قيل: كان ابن عمّه لأنّ يصهر كان أخي عمران (2)، و عن ابن عباس: أنّه كان ابن خالة موسى (3)، و قيل: إنّه كان لقبه المنور لحسن صورته، و كان أقرأ بني إسرائيل للتوراة (4).

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ (76)و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنه كان من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام اللّه تعالى» (3).

فَبَغى و طلب الفضل و الرئاسة عَلَيْهِمْ و كونهم تحت حكمه. و قيل: كان يستخفّ بالفقراء (4)المؤمنين منهم، و قيل: إنّه ظلمهم لأنّ فرعون سلّطه عليهم (5). و عن ابن عباس: أنّه تجبّر و تكبّر و سخط عليهم (6). و قيل: إنّه حسد هارون على الحبورة (7).

روي أنّ موسى عليه السّلام لمّا قطع البحر و أغرق اللّه فرعون، جعل الحبورة لهارون، فحصلت له النبوّة و الحبورة، و كان صاحب القربان و الذبح، فوجد قارون من ذلك في نفسه فقال لموسى، لك الرسالة، و لهارون الحبورة، و لست في شيء، و لا أصبر أنا على هذا. فقال موسى عليه السّلام: و اللّه ما صنعت ذلك لهارون، و لكن اللّه جعله له. فقال: و اللّه لا اصدقك أبدا حتى تأتين بآية أعرف بها أنّ اللّه جعل ذلك لهارون، فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كلّ منهم بعصاه، فجاءوا بها، فالقاها موسى عليه السّلام في قبّة له، و كان ذلك بأمر اللّه، فدعا ربّه أن يريهم بيان ذلك، فباتوا يحرسون عصيهم، فأصبحت عصا هارون تهتزّ لها ورق أخضر، و كانت من شجر اللّوز، فقال موسى عليه السّلام: يا قارون، أما ترى ما صنع اللّه لهارون؟ فقال: و اللّه ما هذا بأعجب ممّا تصنع من السحر، فاعتزل قارون و معه ناس كثير، و ولي هارون الحبورة و الذبح و القربان، فكان بنو إسرائيل يأتون هداياهم إلى هارون، فيضعها في المذبح،

ص: 46


1- . تفسير الرازي 25:13.
2- . تفسير الرازي 25:13، تفسير أبي السعود 7:24. (3 و 4) . تفسير الرازي 25:13.
3- . تفسير الرازى 25:14.
4- . تفسير الرازي 25:13، تفسير روح البيان 6:429.
5- . تفسير الرازي 25:13.
6- . تفسير الرازي 25:14.
7- . تفسير الرازي 25:14، و الحبورة: الإمامة، مأخوذ من الحبر، بمعنى الرئيس في الدين.

و تنزل النار من السماء فتأكلها (1).

ثمّ حكى اللّه كثرة مال قارون بقوله: وَ آتَيْناهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ و أعطيناه من الأموال الكثيرة المذخورة ما إِنَّ مَفاتِحَهُ و المقدار الذي مفاتيح صناديقه لَتَنُوأُ و تنهض، أو تميل لثقلها بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ و الجماعة الكثيرة من الرجال الأقوياء إذا حملوها.

عن ابن عباس: العصبة في هذا الموضع أربعون رجلا، و خزائنه كانت أربعمائة ألف، يحمل كلّ رجل منهم عشر آلاف مفتاح (2).

و القمي: العصبة ما بين العشرة إلى التسعة عشر (3).

قيل: كان في الانجيل أنّ مفاتح خزائن قارون وقر (4)ستين بغلا ما يزيد منها مفتح على إصبع، لكلّ مفتح كنز (5).

و قيل: كان قارون أينما يذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه، و كانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلها من خشب، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع (6).

و قيل: كانت من جلود الإبل (5).

و قيل: إنّ المراد من المفاتح نفس الكنوز (6).

و قيل: إنّ المراد بها العلم و الاحاطة (7)، كما قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ (8)فالمعنى آتيناه من العلوم ما إن حفظها و الإطلاع عليها ليثقل على العصبة اولي القوّة و الهداية.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 76 الی 77

ثمّ حكى سبحانه وعظ موسى أو بعض المؤمنين من بني إسرائيل له بقوله: إِذْ قالَ لَهُ و التقدير اذكر إذ قال له قَوْمُهُ وعظا و نصحا: يا قارون لا تَفْرَحْ و لا تبطر بالزخارف الدنيوية إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ بالدنيا و متاعها، لأنّها مبغوضة عند اللّه، لأنّ جمّها (9)مانع عن حبّه،

و صارف عن

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ (76) وَ اِبْتَغِ فِيما آتاكَ اَللّهُ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اَللّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ اَلْفَسادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ (77)

ص: 47


1- . تفسير الرازي 25:14.
2- . تفسير روح البيان 6:430.
3- . تفسير القمي 2:144، تفسير الصافي 4:102.
4- . الوقر: الحمل. (5 و 6) . تفسير روح البيان 6:430.
5- . تفسير الرازي 25:14.
6- . تفسير الرازي 25:15.
7- . تفسير الرازي 25:15.
8- . الأنعام:6/59.
9- . الجمّ: الكثير، و جمّ الشيء: معظمه.

ذكره و التوجّه إليه وَ اِبْتَغِ يا قارون و اطلب فِيما آتاكَ اَللّهُ و في تملّك هذه الأموال التي أعطاكها اللّه أو بسببها اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ و نعمها التي وعدها اللّه المؤمنين فيها، يصرف في تلك الأموال في الوجوه البريّة و المصارف الخيرية كمواساة الفقراء، و فكّ الاسراء، وصلة الأرحام و نحوها وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ و لا تترك حظّك مِنَ اَلدُّنْيا فانّ حظّ المؤمن من الدنيا تحصيل الآخرة بها.

عن أمير المؤمنين: «صحتّك و قوّتك و شبابك و غناك» (1).

و قيل: يعني لا تترك أخذ ما يكفيك من الدنيا (2). و قيل: يعني لا تنس نصيبك من الدنيا حين رحلتك منها، و هو ليس إلاّ الكفن، فلا تغرّر بها (3).

ثمّ إنه الأمر بالاحسان بالمال، أمره بمطلق الاحسان بقوله: وَ أَحْسِنْ إلى عباد اللّه بالمال و الجاه و البشر و حسن اللّقاء و الذّكر و نظائرها كَما أَحْسَنَ اَللّهُ إِلَيْكَ بتوفير المال و النّعم، فنبّه على أنّ إحسان العباد شكرا لاحسان اللّه وَ لا تَبْغِ و لا تطلب اَلْفَسادَ فِي اَلْأَرْضِ بالظّلم و التكبّر و التجبّر و العصيان إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ بل يبغضهم.

عن الصادق عليه السّلام: «فساد الظاهر من فساد الباطن، و من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، و من خان اللّه في السرّ هتك اللّه سرّه في العلانية، و أعظم الفساد أن يرضى العبد بالغفلة عن اللّه تعالى، و هذا الفساد يتولّد من طول الأمل و الحرص و الكبر، كما أخبر اللّه تعالى في قصة قارون في قوله: وَ لا تَبْغِ اَلْفَسادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ و كانت هذه الخصال من صنع قارون و اعتقاده، و أصلها من حبّ الدنيا و جمعها و متابعة النفس و هواها، و إقامة شهواتها، و حبّ المحمدة، و موافقة الشيطان، و اتّباع خطواته، و كلّ ذلك مجتمع تحت الغفلة عن اللّه و نسيان منّته» (4).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 78 الی 80

قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اَللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقّاها إِلاَّ اَلصّابِرُونَ (80)

ص: 48


1- . معاني الأخبار:325/1، تفسير الصافي 4:103، و فيهما: و نشاطك، بدل: و غناك، تفسير روح البيان 6:431.
2- . تفسير أبي السعود 7:25، تفسير روح البيان 6:431.
3- . تفسير روح البيان 6:431.
4- . مصباح الشريعة:107، تفسير الصافي 4:103، و في النسخة: سنته.

ثمّ إنّ قارون بعد استماع تلك المواعظ ازداد في الكفر و الطغيان و قالَ في جواب الناصح: المال الذي اجتمع لي إِنَّما أُوتِيتُهُ و وجدته حال كوني عَلى عِلْمٍ كثير كائن عِنْدِي بالتوراة، فانّه كان أعلم بني إسرائيل بها، أو بالكسب و التجارة و الرزاعة.

و قيل: إنّ المراد بعلمه علم الكيمياء، فانّه انزل على موسى من السماء، فعلم قارون ثلثه و يوشع ثلثه، و كالب بن يوحنا ثلثه فخدعهما قارون حتى انضاف علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرّصاص فيجعله فضّة، و يأخذ النّحاس فيجعله ذهبا (1).

و قيل: علم موسى اخته الكيمياء، ثمّ هي علّمته قارون (2).

و قيل: إن المعنى إن اللّه أعطاني هذا المال مع كونه عالما بي و بأحوالي، فلو لم يكن ذلك مصلحة لما أعطاني (3)، و معنى قوله: عِنْدِي أنّ الأمر عندي و في اعتقادي كذلك.

ثمّ ردّه اللّه بقوله: أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ قارون مع ادّعائه وفور علمه، أو أولم يكن في علمه أو فيما عنده من العلم أَنَّ اَللّهَ قَدْ أَهْلَكَ بالعذاب مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ الكافرة الطاغية مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً من جهة العدّة و العدد وَ أَكْثَرُ جَمْعاً للمال كنمرود و أضرابه، أو أكثر جمعا للعلم و العبادة حتى لا يغتّر بما اغترّ به من القوّة و كثرة المال أو العلم وَ لا يُسْئَلُ حين نزول العذاب عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ و العاصون لعلم اللّه بحدود ذنوبهم من حيث الكثرة و العظمة، فلا يحتاج إلى السؤال عنهم حتى يشتغلوا بالاعتذار،

و إن يسألهم في بعض المواقف توبيخا و تقريعا في القيامة فَخَرَجَ قارون يوما من منزله متجبّرا عَلى قَوْمِهِ و هو مستغرق فِي زِينَتِهِ الظاهرة.

قيل: خرج يوم السبت الذي كان آخر يوم من عمره على بغلة شهباء مسرجة بسرج من ذهب، و عليه قطيفة ارغوانية (4)، و معه أربعة آلاف فارس على زيّه، و ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحليّ و الثياب الحمر على البغال الشّهب (5)، فلمّا رآه الناس في تلك الزّينة قالَ الجهال اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ و يطلبون اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا و يرغبون في متاعها و زينتها من بني إسرائيل: يا لَيْتَ كان لَنا و اوتينا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من المال و الجاه و الخدم إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ و نصيب وافر من الدنيا

وَ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ بالدين و بأحوال الآخرة و فوائد الزّهد في الدنيا للمتمنّين وَيْلَكُمْ أيّها الطالبون للدنيا ثَوابُ اَللّهِ و أجره العظيم في الآخرة من الجنّة و نعمها الدائمة

ص: 49


1- . تفسير الرازي 25:16، تفسير روح البيان 6:432.
2- . تفسير روح البيان 6:432.
3- . تفسير الرازي 25:16.
4- . في تفسير روح البيان: عليه الارجوان، يعني قطيفة ارغواني.
5- . تفسير الرازي 25:17، تفسير روح البيان 6:433.

خَيْرٌ ممّا تتمنّون لِمَنْ آمَنَ باللّه و رسله و اليوم الآخر وَ عَمِلَ صالِحاً و الكرامة عنده أعظم من الكرامة عند الناس، و هذه الكلمة التي قالها العلماء باللّه، أو هذه المثوبة التي وعدها الأنبياء لا يستقبلها وَ لا يُلَقّاها أو لا ينالها إِلاَّ اَلصّابِرُونَ على الطاعات و ترك المحرّمات و شدائد الدنيا و مصائبها.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 81 الی 82

ثمّ إنّ قارون أشر و بطر و عتا فَخَسَفْنا أو غيّبنا، أو ذهبنا بِهِ وَ بِدارِهِ و كنوزه اَلْأَرْضَ.

فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ اَلْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ ما كانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ (81) وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اَللّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلْكافِرُونَ (82)عن ابن عباس: أنّ قارون كان يؤذي موسى كلّ وقت و هو يداريه للقرابة التي كانت بينهما، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار، و عن كلّ ألف درهم على درهم، فحسبه فاستكثره، فشحّت نفسه، فجمع بني إسرائيل و قال: إنّ موسى يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا: أنت سيدنا و كبيرنا، فمرنا بما شئت. قال: نبرطل فلانة البغية حتى تنسبه إلى نفسها فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها طشتا من ذهب مملؤا ذهبا، فلمّا كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل، من سرق قطعناه، و من زنى و هو غير محصن جلدناه، و إن أحصن رجمناه.

فقال قارون: و إن كنت أنت؟ قال: و إن كنت أنا، قال: فإنّ بني إسرائيل يقولون: إنّك فجرت بفلانة! فاحضرت فناشدها موسى باللّه الذي فلق البحر و أنزل التوراة أن تصدق، فتداركها اللّه تعالى. فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلا على أن اقذفك بنفسي، فخرّ موسى ساجدا يبكي. و قال: يا ربّ، إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى اللّه إليه أن مر الأرض بما شئت. فانّها مطيعة لك. فقال: يا نبي إسرائيل، إنّ اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، و من كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثمّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الرّكب، ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، و قارون و أصحابه يتضّرعون إلى موسى، و يناشدونه باللّه و الرّحم، و موسى لا يلتفت إليهم من شدّة الغضب. ثمّ قال: خذيهم، فانطبقت عليهم الأرض، فأوحى اللّه إلى موسى: ما أفظّك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم، أما و عزّتي لو دعوني مرّة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا. فاصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم. إنّما دعا موسى على

ص: 50

قارون ليستبدّ بداره و كنوزه، فدعا اللّه حتى خسف بداره و كنوزه (1).

القميّ، قال: كان سبب هلاك قارون أنّه لمّا أخرج موسى عليه السّلام بني إسرائيل من مصر، و أنزلهم البادية، أنزل اللّه عليهم المنّ و السّلوى. . . إلى أن قال: ففرض اللّه عليهم دخول مصر، و حرمها عليهم أربعين سنة، و كانوا يقومون من أوّل الليل و يأخذون في قراءة التوراة و الدعاء و البكاء، و كان قارون منهم، و كان يقرأ التوراة، و لم يكن فيهم أحسن صوتا منه، و كان يسمّى المنور لحسن قراءته (2)و كان يعمل الكيمياء.

فلمّا طال الأمر على بني إسرائيل في التيه، و امروا بالتوبة، و كان قارون امتنع من الدخول معهم في التوبة، و كان موسى يحبّه، فدخل موسى عليه و قال له: يا قارون، قومك في التوبة و أنت قاعد ها هنا ادخل معهم، و إلاّ ينزل بك العذاب فاستهان به و استهزأ بقوله، فخرج موسى من عنده مغتمّا، فجلس في فناء قصره، و عليه جبّة شعر، و في رجليه نعلان من جلد حمار شراكهما من خيوط شعر، بيده العصا، فأمر قارون أن يصبّ رماد قد خلط بالماء، فصبّ عليه، فغضب موسى غضبا شديدا، و كان في كتفه شعرات، كان إذا غضب خرجت من ثيابه و قطر منها الدم، فقال موسى: يا ربّ، إن لم تغضب لي فلست لك بنبي. فأوحى اللّه عز و جلّ: قد أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت.

و قد كان قارون قد أمر أن يغلق باب القصر، فأقبل موسى فأوحى إلى الأبواب فانفرجت، فدخل عليه، فلمّا نظر إليه قارون علم أنّه قد اتي بالعذاب، فقال: يا موسى، أسألك بالرّحم الذي بيني و بينك. فقال له: يابن لاوي، لا تزدني من كلامك، يا أرض خذيه، فابتلعته بقصره و خزائنه. الخبر (3).

فَما كانَ لَهُ في ذلك اليوم مِنْ فِئَةٍ و جماعة متعاضدين يَنْصُرُونَهُ بدفع عذاب الخسف مِنْ دُونِ اَللّهِ و بغير نصرته تعالى وَ ما كانَ قارون بنفسه مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ و المدافعين للعذاب عن نفسه بوجه

وَ أَصْبَحَ و صار اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا لأنفسهم مَكانَهُ و منزلته بِالْأَمْسِ و في الزمان القريب من هلاكه يَقُولُونَ تندّما من تمنيّهم، أو إظهارا لخطئهم، أو تعجّبا من الواقعة: وَيْكَأَنَّ و ما أشبه أن اَللّهَ.

و قيل: إنّ (وي) كان مركّب من (ويك) بمعنى ويلك و إن، و المعنى ويلك اعلم أنّ اللّه (4)يَبْسُطُ و يوسّع اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ على مقتضى حكمته، لا لكرامة المبسوط عليه وَ يَقْدِرُ و يضيّق الرزق على من يشاء كذلك، لا لهوان المضيق عليه لَوْ لا أَنْ مَنَّ اَللّهُ و أنعم عَلَيْنا بمنع

ص: 51


1- . تفسير الرازي 25:18، و نسبه الى القيل، تفسير روح البيان 6:435.
2- . في النسخة: صورته.
3- . تفسير القمي 2:144، تفسير الصافي 4:104.
4- . تفسير أبي السعود 7:27، تفسير روح البيان 6:436.

إعطاء ما تمنّيناه من حظّ قارون لَخَسَفَ بِنا أيضا في الأرض، كما خسف بقارون، لتوليد الغنى فيما مثل ما ولّده فيه من الكبر و التجبّر و البغي و الفساد و نحوها من المهلكات وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ و لا ينجو من العذاب اَلْكافِرُونَ لنعم اللّه المكذّبون لرسله.

أقول: في الآيات دلالة واضحة على ذمّ الغنى و حبّ الدنيا و تمنّي حطامها إلاّ للتوصّل إلى مرضاة اللّه و درجات الآخرة.

عن كبشة الأنماري: أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ثلاث اقسم عليهنّ، و احدّثكم بحديث فاحفظوه، فأمّا التي اقسم عليهن، فانّه ما نقص مال عبد من صدقة، و لا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلاّ زاده اللّه عزّا، و لا فتح عبد باب مسألة إلاّ فتح اللّه عليه باب فقر، و امّا الذي احدثكم فاحفظوه، إنّما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللّه علما و مالا فهو يتّقي فيه ربّه، و يصل فيه رحمه، و يعمل للّه فيه بحقّه، فهذا بأفضل المنازل. و عبد رزقه اللّه علما، و لم يرزقه مالا، فهو صادق النيّة يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيّته، و أجرهما سواء. و عبد رزقه اللّه مالا، و لم يرزقه علما، فهو لا يتقّي فيه ربّه، و لا يصل فيه رحمه، و لا يعمل للّه فيه بحقّه. و عبد لم يرزقه اللّه علما و لا مالا، فهو يقول: لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيّته، و وزرهما سواء» (1).

القمي: أنّه سأل بعض اليهود أمير المؤمنين عليه السّلام عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه، فقال: «يا يهودي، أمّا السجن الذي طاف أقطار الأرض بصاحبه، فانّه الحوت الذي حبس يونس في بطنه، فدخل في بحر القلزم، ثمّ خرج إلى بحر مصر، ثمّ دخل بحر طبرستان، ثمّ خرج في دجلة العوراء (2)ثمّ مرّ به تحت الأرض حتى لحق بقارون. . . إلى أن قال: و كان يونس يسبّح اللّه و يستغفره، فسمع قارون صوته. فقال للملك الموكّل به: انظرني فانّي أسمع كلاما، فأوحي إلى الملك: انظره فأنظره، فقال قارون: من أنت؟ قال يونس: أنا المذنب الخاطئ يونس بن متّى. قال: فما فعل شديد الغضب للّه موسى بن عمران؟ قال: هيهات هلك. قال: فما فعل الرؤوف الرحيم على قومه هارون بن عمران؟ قال: هلك. قال: فما فعلت كلثم بنت عمران التي كانت سمّيت لي؟ قال: هيهات ما بقي من آل عمران أحد. فقال قارون: وا أسفا على آل عمران! فشكر اللّه تعالى له ذلك، فأمر الملك الموكّل به أن يرفع العذاب عنه ايّام الدنيا» (3).

ص: 52


1- . تفسير روح البيان 6:437.
2- . في النسخة: العور، و في تفسير القمي: الغوراء، و في تفسير الصافي: الغور، و ما أثبتناه من معجم البلدان، و دجلة العوراء: اسم لدجلة البصرة علم لها. معجم البلدان 2:503.
3- . تفسير القمي 1:318، تفسير الصافي 4:105.

و عن الباقر عليه السّلام-في حديث ذكر فيه حوت يونس-قال: «فطاف به البحار السبعة حتى صار إلى البحر المسجور، و به يعذّب قارون، فسمع قارون دويّا، فسأل الملك عن ذلك، فأخبره أنّه يونس، و أنّ اللّه حبسه في بطن الحوت، فقال له قارون: تأذن لي أن اكلّمك؟ فأذن له، فسأله عن موسى، فأخبره أنّه مات فبكى ثمّ سأله عن هارون، فأخبره أنّه مات فبكى و جزع جزعا شديدا، ثمّ سأله عن اخته كلثم، و كانت مسمّاة له، فأخبره أنّها ماتت، فبكى و جزع جزعا شديدا، فأوحى اللّه إلى الملك الموكّل به أن ارفع عنه العذاب بقيّة أيام الدنيا لرقّته على قرابته» (1).

أقول: في الروايات إشكالات، و الذي يهوّن الخطب أنّها أخبار آحاد لا تزيد علما و لا عملا.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 83

ثمّ بشّر سبحانه المتقّين بالعاقبة المحمودة معظّما لأمر الآخرة و ثوابها بقوله: تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ التي سمعت خبرها، و بلغك وصفها دار نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا و ارتفاع مقام و غلبة و سلطانا فِي اَلْأَرْضِ كما أراد فرعون و قارون وَ لا فَساداً بالظلم و العدوان على الناس كما أراداه وَ اَلْعاقِبَةُ المحمودة من الجنّة و نعيمها لِلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن العلوّ و الفساد و ما لا يرضاه اللّه.

تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه كان يمشي في الأسواق و هو وال يرشد الضالّ، و يعين الضعيف، و يمرّ بالبياع و البقّال، فيفتح عليه القرآن و يقرأ هذه الآية، و يقول: «نزلت في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل المقدرة من سائر الناس» (2).

و عنه بطرقهم: «أنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك (3)نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «العلوّ: الشّرف، و الفساد: النساء» (5).

و عنه عليه السّلام أنه قال لحفص بن غياث: «يا حفص، ما منزلة الدنيا من نفسي إلاّ منزلة الميتة، إذا

ص: 53


1- . تفسير العياشي 2:295/1981، تفسير الصافي 4:106.
2- . مجمع البيان 7:420، تفسير الصافي 4:106، تفسير روح البيان 6:438.
3- . الشّراك: سير النعل على ظهر القدم.
4- . مجمع البيان 7:420، تفسير الصافي 4:106، تفسير الرازي 25:20، تفسير روح البيان 6:438.
5- . تفسير القمي 2:147، تفسير الصافي 4:106.

اضطررت إليها أكلت منها. يا حفص، إنّ اللّه تبارك و تعالى علم ما العباد عاملون، و إلى ما هم صائرون، فحلم عنهم عند أعمالهم السيئة لعلمه السابق فيهم، فلا يغرّنّك حسن الطلب ممّن لا يخاف الفوت» ثمّ تلا الآية، و جعل يبكي، و يقول: «ذهبت و اللّه الأماني عند هذه الآية، فاز و اللّه الأبرار، أتدري من هم؟ هم الذين لا يوذون الذرّ (1)، كفى بخشية اللّه علما، و كفى بالاغترار باللّه جهلا» (2).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 84 الی 85

ثمّ بيّن سبحانه ما به تحصل الدار الآخرة و العاقبة المحمودة بقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ و قد مرّ تفسيرها في آخر سورة النمل (3)فَلَهُ بمقتضى التفضّل شيء أفضل من تلك الحسنة و خَيْرٌ مِنْها ذاتا و وصفا في القيامة وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ و عمل ما يسوء ربّه كالشّرك و العصيان فَلا يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئاتِ إِلاّ مثل ما كانُوا يَعْمَلُونَ بمقتضى العدل، لا يزادون عليه و لا ينقصون.

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئاتِ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)و في تكرير إسناد السيئة إليهم مبالغة في الزّجر عنها، و في تهجين حالهم، و زيادة تبغيض لها في قلوب السامعين، و فيه تنبيه على عظم كلمة الكفر بحيث إنّ العذاب الدائم مثلها.

ثمّ بشّر نبيه بأنّ عاقبته أحمد العواقب بقوله: إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ و أوجب عليك تلاوته و تعظيمه و تبليغه و العمل به لَرادُّكَ بعد خروجك من الدنيا إِلى مَعادٍ و مرجع عظيم الشأن بحيث يغبطك به الاوّلون و الآخرون، و هو المقام المحمود، ثوابا على إحسانك في العمل، و تحمّلك المشاقّ التي لا تتحمّلها الجبال.

و قيل: إنّ المراد بالمعاد مكّة، و إنّما نكّر للتنبيه على عظم شأنه، فانّ استيلاءه عليه السّلام عليها، و قهره أهلها، و ظهور عزّ الاسلام و ذلّ الكفر (4)بعد كونه مقهورا و مغلوبا، من خوارق العادات الدالّة على رسالته، و الإخبار به قبل ظهور أماراته، بل وجود أمارات خلافه من الأخبار الغيبيّة.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله خرج من الغار، و سار في غير الطريق مخافة الطّلب، فلمّا أمن رجع إلى الطريق، و نزل بالجحفة بين مكّة و المدينة، و عرف الطريق إلى مكة، و اشتاق إليها، و ذكر مولده و مولد أبيه،

ص: 54


1- . الذرّ: اصغر النمل.
2- . تفسير القمي 4:146، تفسير الصافي 4:106.
3- . النمل:27/89.
4- . تفسير الرازي 25:21.

فنزل جبرئيل و قال: تشتاق إلى بلدك و مولدك؟ قال: «نعم» . فقال جبرئيل: إنّ اللّه يقول: إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يعني إلى مكّة ظاهرا على أهلها (1).

أقول: يمكن كون المراد بالمعاد الدنيوي و الاخروي.

و عن السجّاد: «يرجع إليكم نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّه ذكر عنده (3)جابر فقال: رحم اللّه جابرا، لقد بلغ من علمه أنّه كان يعرف تأويل هذه الآية» يعني الرجعة (4).

ثمّ أمره سبحانه ببيان علّة استحقاقه الردّ إلى معاد عظيم الشأن بقوله: قُلْ يا محمد رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى و التزم بالدين الحقّ، و ما يستحقّه من الثواب في الدارين وَ مَنْ هُوَ منهمك فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن الحقّ و ما يستحقّه من الهوان و العذاب في النشأتين.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 86 الی 88

ثمّ استشهد سبحانه على تخصيصه بأفضل الكرامة بتخصيصه بنزول القرآن الذي هو أفضل الكتب عليه بقوله: وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا يا محمد أَنْ يُلْقى و ينزل إِلَيْكَ اَلْكِتابُ الذي هو أفضل الكتب، و ما كان ذلك إِلاّ رَحْمَةً عظيمة عليك خاصّة بك مِنْ رَبِّكَ اللّطيف بك لم يشركك فيها غيرك من الرّسل، فاذا علمت غاية لطفه بك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً و عونا لِلْكافِرِينَ الذين هم أعداؤه بالمداراة معهم، و التحمّل عنهم، و الاجابة إلى طلبتهم، بل كن عدوّهم و عونا للمؤمنين الذين هم أحباؤه

وَ لا يَصُدُّنَّكَ هؤلاء المشركون و لا يصرفنّك عَنْ تلاوة آياتِ اَللّهِ القرآنية، و تبليغها، و العمل بها بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ تلك الآيات إِلَيْكَ و تليت عليك وَ اُدْعُ الناس إِلى توحيد رَبِّكَ و عبادته وَ لا تَكُونَنَّ البتة أبدا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ في الالوهية،

أو في الدعوة وَ لا تَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ.

وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ اَلْكِتابُ إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اَللّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ اُدْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (87) وَ لا تَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)لعلّ النّكتة في هذه الخطابات قطع أطماع المشركين منه صلّى اللّه عليه و آله، فانّهم كانوا يدعونه إلى دينهم، أو

ص: 55


1- . تفسير الرازي 25:21.
2- . تفسير القمي 2:147، تفسير الصافي 4:107.
3- . في تفسير القمي: سئل عن.
4- . تفسير القمي 2:147، تفسير الصافي 4:107.

المبالغة في قبح هذه الامور بحيث ينهى عنها من يمتنع صدورها منه، فكيف بغيره، أو نهي امّته بطريق إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

و قيل: يعني لا تعتمد على غير اللّه، و لا تتّخذ وكيلا في امورك سواه (1)، لأنّه لا إِلهَ يلتجأ إليه في دفع المضارّ و جلب المنافع إِلاّ هُوَ تعالى وحده، فانّه القادر القاهر الغالب على كلّ شيء و كُلُّ شَيْءٍ من الروحانيات و الجسمانيات هالِكٌ و فان إِلاّ وَجْهَهُ و ذاته، لأنّه الواجب الوجود الذي يمتنع عليه الفناء.

و قيل: يعني إلاّ ما اريد به وجهه من الأعمال (2).

و في الأثر: يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال: ميّزوا ما كان منها للّه، ثمّ يؤمر بسائرها فيلقى في النار (3). و قيل: يعني سلطانه و ملكه الذي لا يزال.

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «كلّ شيء هالك إلاّ من أخذ طريق الحقّ» (4).

و عنه عليه السّلام: «من أتى اللّه بما أمره من طاعة محمّد و الائمّة عليهم السّلام من بعده، فهو الوجه الذي لا يهلك» ثمّ قرأ مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ (5).

أقول: المراد أنّ كلّ مطيع للّه و لرسوله، فهو وجه اللّه الذي يواجه به خلقه، و هو باق في الجنان مرزوق عند ربّه أبدا، و من هو عاص للّه و لرسوله، فهو من الهالكين، و عنه عليه السّلام: «إنّما عنى بذلك وجه اللّه الذي يؤتى منه» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ أعظم من أن يوصف بالوجه، لكن معناه كلّ شيء هالك إلاّ دينه، و الوجه الذي يؤتى منه» (7).

أقول: الظاهر أنّ الجملة الأخيرة تفسير الدين، و المراد بالوجه فيها الجهة التي يؤتى منها، و يحتمل أن يكون المراد الهداة إلى اللّه، فانّهم السبب الذي يقبل اللّه و يتوجّه بهم إلى خلقه، بل لا فرق بين المعنيين، فانّهم عليهم السّلام لشدّة التزامهم بالدين كأنهم صاروا مجسّمته.

عن الصادق عليه السّلام: إِلاّ وَجْهَهُ قال: «دينه، و كان رسول اللّه و أمير المؤمنين عليهما السّلام دين اللّه و وجهه، و عينه في عباده، و لسانه الذي ينطق به، و يده على خلقه، و نحن وجه اللّه الذي يؤتى منه، لن نزل في

ص: 56


1- . تفسير الرازي 25:21.
2- . تفسير روح البيان 6:443، مجمع البيان 7:421.
3- . تفسير روح البيان 6:443.
4- . التوحيد:149/2، تفسير الصافي 4:108.
5- . التوحيد:149/3، تفسير الصافي 4:108، و الآية من سورة النساء:4/80.
6- . الكافي 1:111/1، تفسير الصافي 4:108.
7- . التوحيد:149/1، تفسير الصافي 4:108، المحاسن:218/116.

عباده ما دام للّه فيهم رويّة» قيل: ما الرّوية؟ قال: «الحاجة» و إذا لم تكن للّه فيهم حاجة رفعنا إليه و صنع بنا ما أحبّ» (1).

و عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «أفيفنى كلّ شيء و يبقى الوجه؟» ثمّ قال: «اللّه أعظم من أن يوصف» ثمّ فسّره بالتفسير السابق (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام بعد تفسير الوجه بالدّين قال: «لأنّ من المحال أن يهلك منه كلّ شىء و يبقى الوجه، و هو أجلّ و أعظم من ذلك، و إنّما يهلك ما ليس منه، ألا ترى أنّه تعالى قال: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ (3)ففضل بين خلقه و وجهه» (4).

أقول: حاصل المراد أنّ الوجه هو الجهة التي بها يقبل الشيء إلى غيره، و اللّه منزّه عن الجهة و العضو، فالمراد منه ما هو سبب إقباله إلى خلقه و هو دينه و حججه الذين ببركتهم تنزل الرحمة.

قيل: إنّ مرجع ضمير وجهه هو الشيء، و وجه الشيء هو الذي يلي جهته تعالى، فانّ كلّ شيء مركّب من الوجود و الماهية و الثاني اعتباري لا خارج له (5)، اتصافه بالوجود بالعرض و المجاز، فانّ العدم لا يصير في الحقيقة معروضا للوجود الذي هو نقيضه، كما لا يصير الوجود معروضا للعدم، و لا يقال: انعدم الوجود، بل يحصل بينهما إضافة اعتبارية يقال بها الماهية موجودة، و صار الموجود معدوما، و الوجود المطلق وجه اللّه، و هو باق أبدا، و الماهية باعتبار إضافتها إلى الوجود هالكة.

قيل: إنّه ورد في حديث: أنّ الضمير راجع إلى الشيء، ثمّ فسّره بأنّ وجه الشيء لا يهلك ما يقابل منه إلى اللّه، و هو روحه و حقيقته و ملكوته، و محلّ معرفة اللّه منه التي تبقى بعد فناء جسمه و شخصه (6).

ثمّ إنه تعالى بعد بيان ثبوت ذاته، بيّن ثبوت الحكم لنفسه في عالم الوجود بقوله: لَهُ اَلْحُكْمُ و القضاء النافذ في كلّ شيء، و في جميع العوالم وَ إِلَيْهِ وحده تُرْجَعُونَ عند البعث للجزاء بالحقّ و العدل، و قد استدلّت المجسّمة بهذه الآية حيث أثبت سبحانه لنفسه الوجه (7)، و بطلانه ظاهر بحكم العقل و الروايات السابقة.

الحمد للّه على ما أنعم عليّ من التوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة، و أسأله التوفيق لتفسير ما بقي من السور المباركات بمحمد و آله الطاهرين.

ص: 57


1- . التوحيد:151/7، تفسير الصافي 4:108.
2- . تفسير القمي 2:147، تفسير الصافي 4:109.
3- . الرحمن:55/26 و 27.
4- . الاحتجاج:253، تفسير الصافي 4:109.
5- . تفسير روح البيان 6:443.
6- . تفسير الصافي 4:109.
7- . تفسير الرازي 25:24.

ص: 58

في تفسير سورة العنكبوت

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت سورة القصص المتضمّنة لبيان افتتان قارون بالدنيا و حطامها حتى عارض موسى و لقربه [منه]حتى خسف اللّه به و بداره الأرض مع كونه أقرأ بني إسرائيل للتوراة و أقرب جلّهم من موسى، و بيان نهي النبيّ الذي كان معصوما من الخطأ و الزلل عن الافتتان بالمشركين و مواعيدهم مبالغة في زجر أتباعه منه، نظمت سورة العنكبوت المبدوأة بإنكار حسبان قبول دعوى الايمان من المؤمنين بغير افتتانهم بحبّ الدنيا و امتحانهم بالبلايا و الشدائد حتى يتميّز المخلص من المنافق و الصادق في دعوته من الكاذب، و الإخبار بأنّ دأبه تعالى من أوّل الدنيا امتحان المدّعين للايمان بالتكاليف و المحن و عدم قبول دعوتهم بلا ظهور آثار الايمان فيهم من الصبر في طاعة اللّه و تحمّل المشاقّ في جنب اللّه فابتدأ بذكر أسمائه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الم (1) أَ حَسِبَ اَلنّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)

ثمّ لمّا كان لزوم اختبار حال المؤمنين في الخلوص و النّفاق من المطالب المهمّة النافعة، ذكر الحروف المقطّعات لتوجيه القلوب إلى استماعه بقوله: الم و قد مرّ تأويلها في الطّرفة،

ثمّ شرع سبحانه في بيان لزوم كون الايمان عن صميم القلب لا بظاهر القول بقوله: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ و توهّموا أَنْ يُتْرَكُوا و يهملوا و لا يؤاخذوا على عدم الايمان بمجرّد أَنْ يَقُولُوا بألسنتهم آمَنّا باللّه وَ برسوله و بدار الآخرة، و الحال أن هُمْ لا يُفْتَنُونَ و لا يبتلون بأنواع البلاء، و لا يمتحنون في إيمانهم بالشدائد و مشاقّ التكاليف حتى يظهر ثباتهم في الايمان و خلوصهم في التوحيد.

و قيل: في وجه تعلّق السورة بما قبلها أنّه لمّا قال سبحانه في السورة السابقة: إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ (1)و كان المراد أن يردّه إلى مكّة ظاهرا غالبا على الكفّار، ظافرا طالبا

ص: 59


1- . القصص:28/85.

للثأر، و كان فيه احتمال مشاقّ القتال، و صعب على البعض ذلك، فقال سبحانه: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا و لا يؤمروا بالجهاد (1).

و قيل: إنه لمّا قال في أواخر السابقة اُدْعُ إِلى رَبِّكَ (2)و كان في الدعاء إليه الطّعان و الحراب، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفّار، فشّق على البعض ذلك، فقال سبحانه: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ (3).

و قيل: إنّه لمّا قال في آخر السورة السابقة: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (4)ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر من قوله: لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (5)يعني ليس كلّ شيء هالكا من غير رجوع، بل كلّ هالك و له رجوع إلى اللّه، و كان من قول منكري الحشر إنّه لا فائدة في التكاليف إذا لم يكن رجوع و معاد، فلمّا أثبت اللّه الرجوع، بيّن حسن التكليف بقوله: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ إلى آخره (6)، و ما ذكرنا أحسن الوجوه، و يمكن أن يكون وجه النّظم جميع الوجوه.

قيل: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، و كان كفّار قريش يؤذونهم و يعذّبونهم على الاسلام، و كانت صدورهم تضيق لذلك، و يجزعون فتداركهم اللّه بالتسلية بهذه الآية (7).

و قيل: إنّها نزلت في عمّار بن ياسر، و عياش بن أبي ربيعة، و الوليد بن الوليد، و سلمة بن هشام (8)، و كانوا يعذّبون بمكّة (9).

أقول: هذان الوجهان يوافقان القول بأن جميع السورة أو الآيات العشر من أولها مكية، كما عليه جمع من المفسرين (10). و أمّا على القول بأنّ جميعها أو عشر آيات من أولها مدنية، كما عليه آخرون فلا [يوافق الوجهين] (11).

و قيل: الآية نزلت في أقوام بمكة هاجروا، فتبعهم الكفّار، فاستشهد بعض و نجا الباقون (12).

و قيل: نزلت في مهجع بن عبد اللّه، قتل يوم بدر، و كان أبواه و أقاربه يجزعون عليه (13).

عن الصادق عليه السّلام: «معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم» (14).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه قرأ هذه الآية، ثمّ قال: «ما الفتنة؟» قيل: الفتنة في الدين. فقال: «يفتنون كما

ص: 60


1- . تفسير الرازي 25:25.
2- . القصص:28/87.
3- . تفسير الرازي 25:25.
4- . القصص:28/88.
5- . القصص:28/88.
6- . تفسير الرازي 25:25.
7- . تفسير روح البيان 6:444.
8- . في النسخة: مسلمة بن هشام، تصحيف انظر اسد الغابة 2:341.
9- . تفسير الرازي 25:27.
10- . مجمع البيان 8:425، تفسير القرطبي 13:323.
11- . مجمع البيان 8:425، تفسير القرطبي 13:323.
12- . تفسير الرازي 25:28.
13- . تفسير البيضاوي 2:203.
14- . مجمع البيان 8:427، تفسير الصافي 4:110.

يفتن الذهب» ثمّ قال: «يخلّصون كما يخلّص الذهب» (1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: لمّا نزلت هذه الآية قال: «لا بدّ من فتنة تبتلى بها الامّة بعد نبيها، ليتعيّن (2)الصادق من الكاذب، لأنّ الوحي قد انقطع و بقي السيف و افتراق (3)الكلمة إلى يوم القيامة» (3).

و في (نهج البلاغة) : قام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الفتنة، و هل سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنها؟ فقال علي عليه السّلام: «لما أنزل اللّه سبحانه: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ الآية، علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين أظهرنا، فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الفتنة التي أخبرك اللّه بها؟ فقال: يا علي، إنّ امّتي سيفتنون من بعدي. فقلت: يا رسول اللّه، أو ليس قلت لي يوم احد حيث استشهد من استشهد من المسلمين و حيزت (4)عنّي الشهادة فشقّ ذلك عليّ: ابشر فانّ الشهادة من ورائك؟ فقال لي: إنّ ذلك كذلك، فكيف صبرك إذن؟ فقلت: يا رسول اللّه ليس هذا من مواطن الصبر، و لكن من مواطن البشرى و الشّكر. فقال: يا علي، سيفتنون بأموالهم، و يمنّون بدينهم على ربّهم، و يتمنّون رحمته، و يأمنون سخطه، و يستحلّون حرامه بالشهادة الكاذبة و الأهواء الساهية فيستحلون الخمر بالنبيذ، و السّحت بالهدية، و الربا بالبيع. قلت: يا رسول اللّه، فأيّ المنازل انزلهم [عند ذلك]، أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة» (5).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «جاء العباس إلى أمير المؤمنين، فقال: انطلق يبايع (6)لك الناس. فقال له أمير المؤمنين: أتراهم فاعلين؟ قال: نعم. قال: فأين قوله عز و جل الم* أَ حَسِبَ اَلنّاسُ الآية» (7).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 3

ثمّ إنّه بعد إنكار ذلك الحسبان الفاسد، بيّن عدم جوازه ببيان أنّ تفتين مدّعي الايمان و عدم قبول دعواه ما لم يقترن بالصبر على البأساء و الضرّاء، دأبه القديم الذي لا يجوز تخلّفه منه تعالى بقوله: وَ باللّه لَقَدْ فَتَنَّا و امتحنّا بالصبر على الشدائد المؤمنين اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السابقة على عصرهم فَلَيَعْلَمَنَّ و ليميزنّ اَللّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا في دعواهم الايمان وَ لَيَعْلَمَنَّ و ليميزنّ اَلْكاذِبِينَ فيه، فنزّل سبحانه نفسه في إيجاد موجبات تميّزهم في الظاهر و في نظرهم منزلة الجاهل الذي يريد أن يعلم حال قلبهم و واقع إيمانهم مع كونه بالذات عالما

وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكاذِبِينَ (8)

ص: 61


1- . الكافي 1:302/4، تفسير الصافي 4:111.
2- . في النسخة: لتعيين.
3- . تفسير الصافي 4:110.
4- . في النسخة: و خيّرت.
5- . نهج البلاغة:220 الخطبة 156، تفسير الصافي 4:110.
6- . في تفسير القمي: انطلق بنا نبايع.
7- . تفسير القمي 2:148، تفسير الصافي 4:111.
8- . في النسخة: لافتراق.

بسرائرهم و ضمائرهم.

و قيل: إنّ المعنى فليرينّ اللّه (1). و قيل: يعني فليظهرنّ اللّه (2). و قيل: يعني فليجازينّ اللّه، و الكلّ على ذكر المسبّب و إرادة السبب (3). و قيل: إنّ (يعلمن) محمول على ظاهره (4)، و المراد أنّ بالامتحان يتعلّق علمه بالواقع تعلقا حاليا بعد ما كان تعلّقه تعلّقا استقباليا.

و فيه أنّه مبني على كون المعلومات عنده صلّى اللّه عليه و آله حاليا و استقباليا، و لا يكون ذلك إلاّ على فرض كونه تعالى محاطا بالزمان، و هو باطل قطعا، فالموجودات في علمه تعالى كلّها في عرض واحد، و التقدّم و التأخر فيها إنّما يكون في نظرنا مع أنّ الظاهر أنه بالامتحان يستكشف ما هو موجود في الحال من صدق الايمان و كذبه، لا ما يتحقّق بعد الامتحان. و يمكن أن يكون المعنى أنّ فتنة المؤمنين ليس لأجل عمله تعالى بواقع إيمان المدّعي له، فانّ اللّه تعالى ليعلم البتة صدق الصادق و كذب الكاذب.

قيل: لمّا كان المراد من الكاذبين المستديمين للكفر و المستمرين عليه، عبّر عنهم بصيغة الفاعل الدالّ على الثبوت، بخلاف الصادقين (5)فانّ المراد منهم المؤمنون الذين كانوا قريبي العهد بالايمان. و فيه: أنّ عنوان الكذب أيضا كان حادثا في ذلك الزمان، و إن كان كفرهم قديما و مستمرّا فيهم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ أنكر على الكفّار حسبانهم الأقبح من حسبانهم الأول بقوله: أَمْ حَسِبَ.

أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اَللّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللّهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (5)قيل: إنّ المعنى: بل (6)أظنّ الكفار اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ بجوانحهم (7)و جوارحهم أَنْ يَسْبِقُونا و يفوتونا إن لم نعذّبهم في الحال على سيئاتهم، ليس الأمر كما يحسبون، بل إن لم نعذّبهم في الحال نعذّبهم فيما بعد بحكم الإيعاد، فانّ الإمهال لا يستلزم الإهمال، فانّ التعجيل في المجازاة شغل من يخاف الفوت ساءَ ما يَحْكُمُونَ به من أنّ عصيانهم لا يستتبع عقوبة، و مخالفتهم لأحكام اللّه لا يستعقب عذابا و نكالا، فانّ الحكم الحسن ما يحكم به العقل، من أنّ اللّه الحكيم لا يهمل الناس، بل يجعل لهم أحكاما و تكاليف ينتظم بها معاشهم و معادهم، و مخالفتها موجبة لاستحقاق العقاب، و الحكيم يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، و لو لا العقوبة على مخالفة الأحكام لكان جعلها بلا فائدة،

ص: 62


1- . تفسير الرازي 25:29.
2- . تفسير الرازي 25:29.
3- . تفسير روح البيان 6:446.
4- . تفسير الرازي 25:29.
5- . تفسير الرازي 25:29.
6- . تفسير أبي السعود 7:30.
7- . في النسخة: بجوانحكم.

و لو لا جعلها لكان خلق الناس عبثا.

ثمّ حثّ سبحانه الناس على ترك السيئات و العمل بالطاعات بتخويفهم من إتيان يوم القيامة و دار الجزاء بقوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا و يتوقّع لِقاءَ اَللّهِ و ملاقاة دار جزائه، فليجهد في ترك السيئات و القيام بالعبادات، و ليسارع إلى موجبات غفران اللّه و ثوابه، و ليحذر ممّا يسوقه إلى عقاب اللّه و نكاله، و ليستعدّ لإتيان أجل اللّه و يوم جزائه فَإِنَّ أَجَلَ اَللّهِ و غاية زمان انقضاء الدنيا الذي عيّنه اللّه لفنائها و اللّه لَآتٍ و كائن.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من كان يؤمن بأنّه مبعوث، فانّ وعد اللّه لآت من الثواب و العقاب» (1).

و لا يخفى على اللّه شيء من أقوال الناس و أعمالهم وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقوالهم اَلْعَلِيمُ بأعمالهم و أحوالهم، فيجازيهم حسبما يستحقون، و لا يفوته شيء، فبادروا العمل قبل الفوت.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ بالغ في الحثّ على الطاعة بقوله: وَ مَنْ جاهَدَ نفسه بترك الشهوات، و الصبر على الطاعات، و جاهد الكفّار بالسيف، و الشيطان بدفع وساوسه فَإِنَّما يُجاهِدُ جهادا نافعا لِنَفْسِهِ و فائدته الدنيوية و الاخروية عائدة له لا تتعدّاه إلى اللّه إِنَّ اَللّهَ الخالق للموجودات لَغَنِيٌّ بالذات عَنِ الموجودات في اَلْعالَمِينَ و منافعها، و إنما الموجودات في وجودها و بقائها و كمالها محتاجة إلى فضله و إحسانه و فيضه.

وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ (6) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عود فوائد مجاهدته و أعماله إلى نفسه إجمالا، نبّه على أهمّ فوائدها العائدة إليه تفصيلا بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية اللّه و رسالة رسوله و الدار الآخرة وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ المرضيّات عند اللّه المأتيات لوجهه لَنُكَفِّرَنَّ و نسترنّ عن الناس بل عَنْهُمْ أنفسهم سَيِّئاتِهِمْ و قبائح أعمالهم التي صدرت في الدنيا عنهم بالغا ما بلغ بمحوها عن دفاتر أعمالهم، لئلاّ يطّلع عليها أحد حتى نفسه وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ على إيمانهم و أعمالهم أَحْسَنَ و أفضل جزاء اَلَّذِي كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الإقرار بالتوحيد، و القيام بالطاعات، و ممّا هو لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب أحد.

ص: 63


1- . التوحيد:267/5، تفسير الصافي 4:111.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 8

ثمّ لمّا كان أقوى الموانع من الايمان و طاعة اللّه رعاية ميل الأقارب و الأرحام خصوصا الوالدين الذين كان الاحسان إليهم من أهمّ الواجبات و المحسّنات العقلية و الشرعية، نهى سبحانه عن جعل نهيهما عن الايمان بالتوحيد مانعا عنه بقوله: وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ و أوجبنا عليه أكيدا أن يفعل بِوالِدَيْهِ ما يعدّ من غاية كونه ذا حسن حُسْناً و عين صلاح فضلا عن الإطاعة و الانقياد لهما وَ قلنا له: إِنْ جاهَداكَ و جادلاك مع ذلك لِتُشْرِكَ بِي من الموجودات و الأصنام ما لَيْسَ لَكَ بِهِ و بإلهيّته عِلْمٌ و برهان يفيده فَلا تُطِعْهُما في ذلك، و لا تعين بأمرهما به فضلا عن أمر غيرهما، فانّه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.

وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)ثمّ هدّد سبحانه المشركين الضالّين و المضلّين بقوله: إِلَيَّ بعد الموت مَرْجِعُكُمْ أيّها الناس المطيعين و العصاة و الموحّدين و المشركين و الضالّين و المضلّين لا إلى غيري فَأُنَبِّئُكُمْ و اخبركم بعد الرجوع إليّ و الحضور عندي بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من التوحيد و الاشراك و الضلال و الاضلال بتعيين جزائكم، و ما يترتّب على أعمالكم.

روي أنه لمّا آمن سعد بن أبي وقاص الزّهري، قالت له امّه حمنة بنت أبي سفيان بن امية بن عبد شمس: يا بني، ما هذا الدين الذي أحدثت؟ لتدعن دينك، أو أذهب من الظلّ إلى الشمس، و لا آكل و لا اشرب من شيء حتى ترجع من دين محمّد أو أموت فتعيّر بي، فيقال لك: يا قاتل امّه فلم تأكل و لم تشرب ثلاثة أيام حتى جهدت، فقال لها: يا امّ، لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت، فكلي و إن شئت فلا تأكلي، فلمّا رأت ذلك أكلت، فأمره اللّه في الآية أن يحسن إليها، و يقوم بأمرها، و يسترضيها فيما ليس بشر و معصيّة (1)، فنبّه سبحانه على حكمين:

أحدهما: وجوب البرّ و الاحسان بالوالدين و حرمة عقوقهما.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الجنّة تحت أقدام الامّهات» (2).

و في الحديث القدسي: «من رضي عنه والده، فأنا عنه راض» .

و الثاني، حرمة إطاعتهما في معصية اللّه.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 9 الی 11

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصّالِحِينَ (9) وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اَللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنّاسِ كَعَذابِ اَللّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اَللّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ اَلْعالَمِينَ (10) وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنافِقِينَ (11)

ص: 64


1- . تفسير روح البيان 6:450.
2- . مجمع البيان 8:431.

ثمّ بيّن سبحانه حال الموحّدين الذين فارقوا الأقارب و الأرحام حفظا للدين، و طلبا لرضا ربّ العالمين بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ من رفض الشّرك و مفارقة الأرحام لوجه اللّه لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الآخرة فِي زمرة اَلصّالِحِينَ و الموحّدين المقرّبين و المؤمنين الكمّلين و لنعلينّهم في درجتهم، و تنعم عليهم بمصاحبتهم.

قيل: إن نكتة ذكر المؤمنين الصالحين مرّتين أنّ النظر في الآية الاولى إلى بيان حال المهتدين بعد بيان حال الضالّين، و في الآية الثانية إلى بيان حال الهادين بعد ذكر المضلّين، كالوالدين اللذين امرا (1)ولدهما بالشرك (2).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه لزوم امتحان المؤمنين بالبلاء و مشاقّ التكليف، لتمييز الصادق في دعوى الايمان عن الكاذب، بيّن حال الكاذب في دعوى الايمان عند ابتلائه بالفتن بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ و بعضهم مَنْ يَقُولُ بلسانه آمَنّا بِاللّهِ عن صميم القلب، كايمان المؤمنين الحقيقي فَإِذا أُوذِيَ من قبل الكفّار فِي سبيل اَللّهِ و لأجل الايمان به جَعَلَ وعد الأذيّة التي كانت فِتْنَةَ اَلنّاسِ و امتحانا له من قبلهم صارفة لنفسه عن الايمان مع ضعفها و انقطاعها كَعَذابِ اَللّهِ الشديد الدائم، الذي هو صارف المؤمنين الخلّصين من الكفر به، و جزعوا منها، و لذا ينصرفون من الايمان كما ينصرف الخلّصون من الكفر للخوف منه وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ لجيش المؤمنين على الكفّار مِنَ قبل رَبِّكَ و برحمته ليقولن للمؤمنين تلبيسا عليهم و طمعا في الغنيمة: إِنّا كُنّا موافقين مَعَكُمْ في الايمان، و تابعين لكم في الدين، فاشركونا في الغنائم.

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: أَ وَ لَيْسَ اَللّهُ الخالق لكلّ شيء بِأَعْلَمَ منكم و من كلّ أحد بِما فِي صُدُورِ اَلْعالَمِينَ و قلوبهم من الايمان الخالص و النفاق حتى يقولوا ما يقولون من إظهار الايمان، و يفعلوا ما يفعلون من إبطان الكفر و النفاق،

نعم وَ اللّه هو أعلم، و كذا لَيَعْلَمَنَّ اَللّهُ البتة إيمان اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب و الاخلاص وَ لَيَعْلَمَنَّ نفاق اَلْمُنافِقِينَ و لا يلتبس عليه حالهم، و إن سكت المؤمن و تكلّم المنافق.

ص: 65


1- . في النسخة: كالولدين الذين امروا.
2- . تفسير الرازي 25:36.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ لمّا بيّن اللّه معاملة الكفّار مع المؤمنين في ردّهم إلى الكفر، بيّن مكالمتهم معهم في ضلالهم بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكّة مخاطبين لِلَّذِينَ آمَنُوا ردّعا لهم من الايمان، و استمالة لقلوبهم إلى الكفر اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا و اسلكوا في الدين مسلكنا، و إن كان بعث و حشر و مؤاخذة، و فرض لكم خطيئة و ذنب من جهة التديّن بديننا، فلنرفع عنكم آثامكم و ذنوبكم وَ لْنَحْمِلْ عنكم خَطاياكُمْ.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ و ليسوا برافعين آثامهم من ظهورهم إِنَّهُمْ و اللّه لَكاذِبُونَ في وعدهم ذلك، لعدم قدرتهم على إنجازه.

وَ البتة لَيَحْمِلُنَّ هؤلاء القائلون يوم القيامة أَثْقالَهُمْ و أوزارهم التي عملوها في الدنيا وَ أَثْقالاً اخر مَعَ أَثْقالِهِمْ من جهة إضلالهم الناس، فيعذّبون بضلال أنفسهم و إضلالهم غيرهم من غير أن ينقص من عذاب الضالّين شيء، كما ورد في الحديث: «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» (1). وَ و اللّه لَيُسْئَلُنَّ هؤلاء الكفّار المضلّين يَوْمَ اَلْقِيامَةِ سؤال تقريع و تبكيت عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ و يختلقونه في الدنيا.

قيل: يقال لهم يوم القيامة: احملوا خطايا الذين أضللتموهم، فلا يحملون، فيسألون و يقال: لم افتريتم و كذّبتم (2)؟

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه سعي الكفّار في إضلال المؤمنين و إيذائهم لهم على الايمان، و دعوتهم إياهم إلى الكفر، و كان ذلك ثقيلا على قلب حبيبه، سلاّه بذكر دعوة اولي العزم من الرسل، و مخالفة اممهم لهم بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا للدعوة إلى التوحيد و الدين الحقّ نُوحاً إِلى قَوْمِهِ و هم أهل الدنيا.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)

ص: 66


1- . مسند أحمد 4:357.
2- . تفسير الرازي 25:41.

قيل: إنّه عليه السّلام أول نبيّ بعث إلى عبدة الأصنام، لأنّها حدثت في قوم (1)فَلَبِثَ و مكث نوح فِيهِمْ بعد الارسال، و هو يدعوهم إلى التوحيد أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً و هم لا يقبلون قوله، و لا يلتفتون إلى دعوته، بل كانوا يشتمونه و يضربونه، و هو لا يفتر عن الدعوة، و لا ينكل على تحمّل أعباء الرسالة حتى يئس من إيمانهم، فدعا عليهم فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفانُ فغرق من في الدنيا كلّها من الكفّار وَ هُمْ ظالِمُونَ و مصرّون على إهانة اللّه و رسوله، مبالغون في معاندة الحقّ و لو كانوا غير مصرّين على الكفر و معاندة الحقّ لم يغرقوا و لم يعذّبوا،

لكونه تعالى توّابا رحيما و أمّا نوحا فَأَنْجَيْناهُ من الطّوفان و الغرق و الابتلاء بمشاقّ الكفرة رحمة منا وَ نجّينا أَصْحابَ اَلسَّفِينَةِ أيضا و أهلها الراكبين فيها معه من المؤمنين به من أولاده و أهله و غيرهم بواسطة السفينة التي صنعها بأمرنا و وحينا وَ جَعَلْناها آيَةً و دلالة على التوحيد لِلْعالَمِينَ حيث إنّها أول سفينة في الدنيا، و سائر السفن التي استدلّ بها سبحانه على توحيده علامة من تلك السفينة، أو المراد جعلنا نجاة نوح و أصحابه، أو قضيّته و واقعته عبرة وعظة للخلق إلى يوم القيامة يتّعظون بها، و يعتبرون منها. روي أنّ نوحا بعث على رأس الأربعين، و دعا قومه تسعمائة و خمسين عاما، و عاش بعد الطّوفان ستيّن سنة حتى كثر الناس وفشوا، و ذلك من أولاده حام و سام و يافث، لأنّ غيرهم لمّا خرجوا من السفينة ماتوا كلّهم، و كان عمره عليه السّلام ألفا و خمسين عاما، و هو أطول الأنبياء عمرا، و هو أول من تنشقّ الأرض عنه بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله (2).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 16 الی 18

ثمّ سلاّه سبحانه بذكر إبلاغ إبراهيم في نصح قومه و عدم قبولهم دعوته بقوله: وَ إِبْراهِيمَ قيل: إنّ التقدير و أرسلنا إبراهيم، أو اذكره (3)إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ و هي أهل بلدة بابل: يا قوم اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده، و لا تشركوا به شيئا وَ اِتَّقُوهُ و خافوا عذابه على الشرك ذلِكُمْ الذي قلت من التمحّض لعبادته

وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (18)

ص: 67


1- . تفسير روح البيان 6:455.
2- . تفسير روح البيان 6:456.
3- . تفسير الرازي 25:43.

و الاتقاء منه خَيْرٌ لَكُمْ و انفع ممّا أنتم عليه من الاشراك به و عبادة الأصنام إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شيئا من الخير و الشرّ، و تميّزون أحدهما من الآخر.

ثم أخذ في توبيخهم بقوله: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه لجهلكم و نقص عقولكم أَوْثاناً و أحجارا منحوتة لا عقل لها و لا قدرة، و لا نفعا و لا ضرّا وَ تَخْلُقُونَ و تخترعون من عند أنفسكم إِفْكاً و كذبا فضيعا شنيعا حيث تسمّونها إله و شفعاء عند اللّه، مع أنّ الإله لا بدّ أن يكون منعما على خلقه و إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ و لا يقدرون على إعطائكم رِزْقاً قليلا فَابْتَغُوا و اطلبوا عِنْدَ اَللّهِ القادر على كلّ شيء اَلرِّزْقَ كلّه بعرفانه و التوجّه إليه وَ اُعْبُدُوهُ وحده وَ اُشْكُرُوا لَهُ على نعمائه حتى يزيدكم النّعم و اعلموا أنّكم بعد الموت إِلَيْهِ و إلى حكمه تُرْجَعُونَ فيثيبكم على طاعته و عبادته، و يعذّبكم على عصيانه و مخالفته، فعليكم أن تصدّقوني فيما أمرتكم ممّا فيه خيركم في الحياة و بعد المماة

وَ إِنْ تُكَذِّبُوا ني فيما اخبركم به، فليس تكذيبكم إيّاي بأمر بديع، و ما هو بضارّ علي فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ و جماعات كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ أنبياءهم كشيث و إدريس و نوح، فما أضروهم شيئا، و إنّما أضرّوا أنفسهم بتعريضها للعذاب و الهلاك وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ المرسل من قبل اللّه إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و إرشاد الخلق إلى الحقّ ببيان واضح لا يبقى معه الشكّ، و ما عليه أن يصدّق و لا يكذّب، و قد خرجوا و خرجت عن عهدة ما أمرنا به بما لا مزيد عليه، فليس علينا مجال مسئوولية و مؤاخذة، و إنما المسؤولية و المؤاخذة لكم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 19 الی 22

ثمّ لمّا ذكر إبراهيم عليه السّلام لقومه التوحيد و المعاد، و كان كفّار مكّة منكرين للبعث، استدلّ سبحانه لهم عليه بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و لم يعلموا علما جاريا مجرى العيان في الجلاء و الظهور كَيْفَ يُبْدِئُ و يوجد اَللّهُ بلا سابقة اَلْخَلْقَ ثُمَّ اعلموا أنّه يُعِيدُهُ بعد كونه رميما قياسا على الإبداء إِنَّ ذلِكَ المذكور من الإعادة عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ و سهل لا نصب فيه بوجه.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللّهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (22)

ثمّ أكدّ سبحانه ذلك الدليل بقوله: قُلْ يا محمّد، لمنكري البعث: سِيرُوا و سافروا فِي

ص: 68

أقطار اَلْأَرْضِ و جوانبها فَانْظُرُوا بنظر التفكّر و الاعتبار كَيْفَ بَدَأَ اللّه و أوجد اَلْخَلْقَ ابتداء على كثرتهم و اختلاف أشكالهم و أحوالهم و أخلاقهم ثُمَّ إذا علمتم بدء الخلق علمتم أنّ القادر الذي هو اَللّهُ بقدرته يُنْشِئُ و يوجد هؤلاء فينشؤون اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ و يحيون حياة ثانية إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الابداء و الإعادة و غيرهما قَدِيرٌ.

و إنّما قدّم ذكر العذاب لأنّ المقصود ترهيب منكري البعث، و كان ذكر الرحمة تبعا، ثمّ سدّ باب غرورهم بتأخير عذابهم بقوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه، و هم المشركون المنكرون للبعث وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته، و هم الموحدون المقرّون بالبعث وَ إِلَيْهِ وحده إلى حكمه تُقْلَبُونَ و تردّون فيفعل بكم ما يريد

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له و خارجين من سلطانه و إن هربتم فِي اَلْأَرْضِ الواسعة و تواريتم فيها وَ لا بالتحصّن فِي اَلسَّماءِ التي هي أوسع منها، فانّه يدرككم لا محالة، و يجري عليكم حكمه و قضاءه وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ و محبّ يفدي لكم في دفع العذاب عنكم نفسه و ماله، و يشفع لكم عند اللّه وَ لا نَصِيرٍ و معين يحرسكم بقوته ممّا يصيبكم من البلاء. قيل: إنّ الوليّ هو الذي يدفع المكروه، و النصير هو الذي يأمر بدفعه (1).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد الكفّار إجمالا بالعذاب المبهم، هدّد خصوص المشركين المنكرين للحشر بالعذاب مفصّلا بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ توحيد اَللّهِ و دلائله، وَ كفروا ب لِقائِهِ و الحضور عنده في المحشر لجزاء الأعمال أُولئِكَ الكافرون بالخصوص يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي و فضلي، و انقطع رجاؤهم من ألطافي بشركهم وَ أُولئِكَ بالخصوص لَهُمْ بالاستحقاق عَذابٌ أَلِيمٌ بإنكارهم المعاد.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اَللّهُ مِنَ اَلنّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

ثمّ إنّه تعالى بعد دعوة كفّار مكّة إلى الايمان بالمعاد و الاستدلال عليه، و تهديدهم على الكفر به، عاد إلى بيان قصّة إبراهيم عليه السّلام بقوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ له و مقالهم بعد استماع دعوته و نصحه إِلاّ أَنْ قالُوا الرؤساء لأتباعهم، أو بعضهم لبعض تجمّعوا على إبراهيم و اُقْتُلُوهُ بالسيف، أو الحجارة أَوْ حَرِّقُوهُ بالنار، و انصروا آلهتكم، فاختاروا إحراقه، فألقوه في النار فَأَنْجاهُ اَللّهُ مِنَ

ص: 69


1- . تفسير روح البيان 6:460.

أذى اَلنّارِ بأن جعلها بردا و سلاما و روحا و ريحانا إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء الخارق للعادة بحفظه من حرّها و إخمادها مع غاية عظمها بالفوز عقيب إحراق الحبل الذي أوثقوه به و إنشاء الرّوض مكانها لَآياتٍ عجيبة و دلائل واضحة على توحيد اللّه و ألطافه بأوليائه و نصرته لهم على أعدائهم لِقَوْمٍ يلتفتون إلى الآيات، و يتفكّرون فيها، و ينتفعون بها، و هم الذين يُؤْمِنُونَ باللّه و بآياته، لا الكافرون الذين لا يعلمون إلاّ ظاهر الحياة الدنيا.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 25 الی 27

ثمّ إنه تعالى بعد النجاة من النار اخذ في نصح قومه وَ قالَ يا قوم إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ و اخترتم العبادة مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه أَوْثاناً و أحجارا منحوتة لتحفظوا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ و التحابب و التواصل فيكم باجتماعكم على عبادتها، أو المراد مودّتكم للأوثان أو لآبائكم الذين كانوا يعبدون، لا لقيام برهان عندكم على جوازها، و اعلموا أنّ تلك المودّة باقية فيكم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعماركم فيها ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يتبدّل التوادّ بالتباغض، و التواصل بالتباعد، حيث يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ و هم الأتباع أو العبدة بِبَعْضٍ و هم الرّؤساء و المتّبوعون، أو الأوثان، و يتبرأ كلّ من كلّ.

وَ قالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (26) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ (27)عن الصادق عليه السّلام: «يعني يتبرأ بعضكم من بعض» (1)وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ من الاتباع أو العبدة بَعْضاً الآخر من المتبوعين، أو الأوثان.

عن الصادق عليه السّلام: «ليس قوم ائتمّوا بإمام في الدنيا إلاّ جاء يوم القيامة يلعنهم و يلعنونه إلاّ أنتم و من كان على مثل حالكم» (2).

وَ مَأْواكُمُ و منزلكم جميعا العابدون و المعبودون، و التابعون و المتبوعون اَلنّارُ فانّها مقرّكم الذي تأوون إليه، و لا ترجعون منه أبدا وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونكم منها، كما خلّصني ربّي من النار التي ألقيتموني فيها

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ بعد رؤية معجزاته. قيل: هو ابن أخيه (3). و قيل: ابن

ص: 70


1- . الكافي 2:288/1، تفسير الصافي 4:114.
2- . الكافي 8:146/122، تفسير الصافي 4:115.
3- . تفسير البيضاوي 2:207، تفسير أبي السعود 7:37.

اخته (1). و قيل: ابن خالته (2). فلمّا يأس من إيمان القوم عزم على الخروج من ذلك البلد وَ قالَ للوط و زوجته سارة إِنِّي تارك لقومي و مُهاجِرٌ من هذه البلدة إِلى رَبِّي و ذاهب إلى حيث امرني إلهي اللطيف بي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب على أمره، فيحفظني من أعدائي اَلْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلاّ بالذهاب إلى مكان فيه صلاحي.

روي أنّ إبراهيم أول من هاجر، و لكلّ نبي هجرة، و لابراهيم هجرتان؛ فانّه هاجر من كوثى-و هي قرية من سواد الكوفة-مع لوط و سارة إلى حران، ثمّ منها إلى الشام فنزل فلسطين و نزل لوط سدوم (3).

قيل: إنه كان له حين هجرته خمس و سبعون سنة (4).

وَ وَهَبْنا لَهُ من سارة و هي عجوز عاقر إِسْحاقَ من صلبه وَ يَعْقُوبَ من إسحاق حين أيس إبراهيم من الولادة من نفسه، فانّه كان له حينئذ عشرون و مائة سنة، و من زوجته العجوزة العاقر، و لذا لم يذكر إسماعيل، لأنّ ولادته لم تكن على خلاف العادة. و قيل: إنّه ولد قبل هجرته، و كان سنّه عليه السّلام حين ولادته خمسا و سبعين سنة.

و قيل: إنّ إسماعيل كان داخلا في ذرّيته المذكورة في الآية، حيث قال: وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتابَ و إنما لم يصرّح باسمه لأنّ الغرض بيان التفضّل عليه بالأولاد و الأحفاد، فذكر من أولاده واحدا، و من أحفاده واحدا من باب ذكر الواحد و إرادة الجنس، لا لخصوصية فيه، و لو ذكر غيره لفهم منه التعديد و استيعاب الكلّ، فيظنّ أنّه ليس له غير المذكورين (5)، مع أنّه كان له عليه السّلام على ما روي أربع بنين: إسماعيل من هاجر، و إسحاق من سارة، و مدين و مداين من غيرهما (6).

وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ و نسله من بني إسماعيل و بني إسرائيل اَلنُّبُوَّةَ إلى يوم القيامة وَ اَلْكِتابَ السماوي من التوراة و الانجيل و القرآن و الصّحف وَ آتَيْناهُ و أعطيناه أَجْرَهُ على هجرته إلينا فِي اَلدُّنْيا و هو إعطاؤه الولد في غير أوانه، و المال الكثير، و الذرية الطيبة التي من جملتهم خاتم الأنبياء و سيّد الأوصياء و عترتهما الطاهرة، و إنتماء أهل الملل إليه، و الثناء و الصلاة عليه إلى آخر الدهر.

قيل: إنّ اللّه قسّم الزمان قسمين؛ فجعل في القسم الأول، و هو أكثر من أربعة آلاف سنة النبوة في أولاده من إسحاق، و بعث منهم أنبياء كثيرة لهم فضائل جمة، و جعل في القسم الثاني النبوّة في ذرّيته

ص: 71


1- . جوامع الجامع:352، تفسير روح البيان 6:463.
2- . علل الشرائع:549/4، تفسير الصافي 4:115.
3- . تفسير روح البيان 6:463، و سدوم: مدينة من مدائن قوم لوط كان قاضيها يقال له: سدوم.
4- . الكشاف 3:451، تفسير روح البيان 6:463.
5- . تفسير الرازي 25:56 و 57.
6- . تفسير روح البيان 6:463.

من إسماعيل، و هو محمد، فجمع فيه ما كان في جميع الأنبياء، و ختم به النبوة، و أرسله إلى كافّة الناس إلى يوم القيامة (1).

و قيل: إنّ من أجره بقاء ضيافته حيث إنّه كان يحبّ الضيافة، فجعل اللّه الخلق أضيافه إلى آخر الدهر (2).

وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ و الراقين في أعلى مراتب العبودية، و أكمل درجات الإنسانية.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 28 الی 33

ثمّ ذكر سبحانه قصّة لوط و كيفية دعوته و نصحه لقومه و جوابهم إيّاه بقوله: وَ لُوطاً قيل: إنّه معطوف على أَرْسَلْنا (3). و قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد لوطا إِذْ قالَ نصحا لِقَوْمِهِ و انكارا عليهم القبائح الدائرة بينهم بعد دعوتهم إلى التوحيد: يا قوم إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ و ترتكبون الخصلة اَلْفاحِشَةَ و الفعلة المتناهية في القبح مع أنّها لنهاية قبحها ما سَبَقَكُمْ بِها و ما أرتكبها من قبلكم مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعالَمِينَ و أنتم ارتكبتموها لخباثة طينتكم و رذالة طبيعتكم.

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعالَمِينَ (28) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا اِئْتِنا بِعَذابِ اَللّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ (30) وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ (32) وَ لَمّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ (33)قيل: لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قطّ (4).

و قيل: إنّ المراد من سبقهم على أهل العالم فيها إكثارهم منها، كما يقال سبق فلان البخلاء في البخل إذا زاد عليهم (5).

ثمّ بيّن الفاحشة بقوله: أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ و تنكحونهم وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ و الطريق

ص: 72


1- . تفسير الرازي 25:57.
2- . تفسير روح البيان 6:464.
3- . مجمع البيان 8:440.
4- . تفسير روح البيان 6:464.
5- . تفسير الرازي 25:58.

المعتاد السلوك للناس، و تتعرّضون للمادة بالفاحشة. روي أنّهم كانوا كثيرا ما يفعلونها بالغرباء، و يجبرونهم عليها، أو تقطعونها بالقتل و أخذ المال (1).

قيل: كانوا يفعلون ذلك، لأن لا يدخلوا بلدهم، و لا يتناولوا من ثمارهم (2).

و قيل: يعني تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن النساء اللاّتي هنّ حرث، و قضاء الشهوة بالرجال الذين ليسوا بحرث (3).

وَ تَأْتُونَ و تفعلون فِي نادِيكُمُ و مجلسكم الذي تجتمعون فيه من غير مبالاة اَلْمُنْكَرَ و ما يحكم العقول بقبحه من اللّواط أو الضّراط، كما عن الرضا عليه السّلام، قال: «كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة و لا حياء» (1)أو ضرب الأوتار و المزامير و السّخرية بمن يمرّ بهم (2)، أو الحذف (3)بالحصى، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: كانوا يجلسون على الطريق، و عند كلّ واحد قصعة فيها حصى، فمن مرّ بهم حذفوه، فمن أصابه منهم فهو أحقّ به، فيأخذ ما معه و ينكحه و يغرّمه ثلاثة دراهم (4).

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إيّاه إِلاّ أَنْ قالُوا ما نترك عملنا اِئْتِنا بِعَذابِ اَللّهِ الذي تعدنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى رسالتك و وعدك، فلمّا يئس لوط من إيمانهم و قبولهم نصحه،

ناجى ربّه و قالَ متضرّعا إليه: رَبِّ اُنْصُرْنِي بإنزال العذاب عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض بأعمالهم و عقائدهم، و أنت لا تحبّ الفساد. فاستجاب اللّه دعاءه، فأرسل جبرئيل مع عدّة من الملائكة لإهلاكهم، و أمرهم بأن يجيئوا إلى إبراهيم عليه السّلام و يبشّره بإسحاق.

وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا له في تضاعيف كلامهم: إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ التي يقال لها سدوم إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و الطغيان.

قالَ إبراهيم إشفاقا على الخلق و مجادلة عنهم: إِنَّ فِيها لُوطاً و لا يعذّب أهل بلد و فيهم مؤمن، فكيف تهلكون أهل سدوم؟ قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ من كلّ أحد بِمَنْ فِيها و لسنا بغافلين عن لوط، و اللّه لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ و أتباعه المؤمنين، و لنخرجنّهم منها إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ الكافرة، فانّها كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في القرية و العذاب

وَ لَمّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا المذكورون بعد مفارقة إبراهيم عليه السّلام لُوطاً في قرية سدوم على صورة شبّان مرد حسان الوجوه، عليهم ثياب حسنة

ص: 73


1- . مجمع البيان 8:440، تفسير الصافي 4:116.
2- . تفسير روح البيان 6:465.
3- . عوالي اللآلي 1:327/72، تفسير الصافي 4:116.
4- . تفسير روح البيان 6:465.

فاخرة، و لهم ريح طيبة، ظنّ أنّهم من الإنس، و كان يعلم من حال قومه أنّهم يتعرّضون له بالفاحشة، و لذا سِيءَ بِهِمْ و اعتراه اضطراب و خوف بسببهم، و تحيّر في شأنهم و تدبير أمرهم وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً و رأى نفسه عاجزة عن الدفاع عنهم، و عن حفظهم من تعدّي القوم.

فلمّا رأى الملائكة فيه أثر الملال و الضّجرة سلّوه وَ قالُوا له: يا لوط لا تَخَفْ علينا، و لا على أحد من أهلك وَ لا تَحْزَنْ لورودنا عليك و ابتلائك بشأننا، إنّا رسل ربّك لإهلاك قومك و إِنّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ و خاصّتك ممّا يصيب قومك من العذاب إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ الكافرة، فانّها كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في العذاب، أو في القرية، أو من المهلكين.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ إنّهم بعد بشارته بنجاة نفسه و أهله، أخبروه بنزول العذاب على قومه بقوله: إِنّا مُنْزِلُونَ البتة عَلى أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ و البلدة، و كانت عدّتهم على ما قيل سبعمائة ألف رجل (1)رِجْزاً و عذابا شديدا مِنَ اَلسَّماءِ بأمر اللّه بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و يفعلون المنكرات، ثمّ أمروه بالخروج من البلد و إخراج بناته منها، فلمّا خرجوا رفع جبرئيل المدينة و ما فيها بأحد جناحية، و جعل عاليها سافلها، و انصبّت الحجارة عليها، أو على من كان من أهلها غائبا عنها، فصارت القرية المخروبة عبرة لأهل العالم،

كما قال تعالى: وَ لَقَدْ تَرَكْنا أثرها الباقي مِنْها و هو الجدد الخربة و العمارات المنهدمة آيَةً بَيِّنَةً و عبرة واضحة نافعة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يدركون العبر، و يتأملّون فيها.

إِنّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)قيل: إنّ العبرة الباقية من القرية هي الحجارة الممطورة التي كان على كلّ واحد منها اسم من أصابه، فانّها كانت باقية مدّة مديدة، و أدركها أوائل هذه الامّة (2).

و قيل: كانت ظهور الماء الأسود على وجه الأرض حين خسف بهم، و كان منتنا بحيث يتاذّى الناس برائحته من المسافة البعيدة (3).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 36 الی 39

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ (39)

ص: 74


1- . تفسير روح البيان 6:467.
2- . تفسير روح البيان 6:467.
3- . تفسير روح البيان 6:467.

ثمّ ذكر سبحانه قصّة شعيب و دعوته قومه و تكذيبهم إياه بقوله: وَ إِلى أهل بلد مَدْيَنَ أرسلنا أَخاهُمْ و من هو من نسبهم، كان اسمه شُعَيْباً ليدعوهم إلى التوحيد و الطاعة فَقالَ لهم بطريق الدعوة يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده، و لا تشركوا به شيئا وَ اُرْجُوا و توقّعوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ الذي لا يوم بعده، لأنّه لا ليل بعده، و هو يوم القيامة و يوم الجزاء، و انتظروا ما يقع فيه من فنون الأحوال و الأهوال، و اعملوا الأعمال التي تنتفعون بها فيه، و تأمنون بها من العذاب وَ لا تَعْثَوْا و لا تفسدوا فِي هذه اَلْأَرْضِ التي تسكنونها بتنقيص المكيال و الميزان، و تضييع الحقوق حال كونكم مُفْسِدِينَ و مبالغين في الافساد، و قيل: إنّ (مفسدين) بمعنى الفساد (1)، و المعنى: لا تفسدوا فسادا، و يحتمل أن يكون العثو بمعنى الحركة بالتجريد عن الفساد.

فَكَذَّبُوهُ في إخباره بتوحيد اللّه، و قيام الحشر، و قبح الفساد فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ و الزّلزلة الحاصلة من صيحة جبرئيل عقوبة على تكذيبهم، حتّى تقطّعت قلوبهم، و تهدّمت عليهم دورهم فَأَصْبَحُوا و صاروا فِي دارِهِمْ و بيوتهم، أو بلدهم جاثِمِينَ و ميّتين غير متحرّكين.

وَ أهلكنا عاداً قوم هود وَ ثَمُودَ قوم صالح وَ قَدْ تَبَيَّنَ و ظهر لَكُمْ يا أهل مكة إهلاكنا إيّاهم مِنْ بقية آثار مَساكِنِهِمْ الخربة في اليمن و الحجر بالنظر إليها في أسفاركم وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ بتسويلاته أَعْمالَهُمْ القبيحة من فنون الكفر و المعاصي، و حسّنها في أعينهم فَصَدَّهُمْ و صرفهم عَنِ سلوك اَلسَّبِيلِ الذي امروا بسلوكه. و هو التوحيد الموصل إلى كلّ خير وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ و متمكّنين من النّظر و التفكّر في آيات التوحيد،

و لم يفعلوا وَ قارُونَ الذي كان له شرف النّسب و كنوز من الأموال وَ فِرْعَوْنَ الذي كان له سلطنة مصر وَ هامانَ الذي كان وزيره و أخصّ خواصّه.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إهلاكهم بقوله: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى رسولا من قبلنا متلبّسا بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، فدعاهم إلى الإقرار بتوحيدنا، و الانقياد لأوامرنا و نواهينا فَاسْتَكْبَرُوا و تعظّموا فِي اَلْأَرْضِ و تأنّفوا عن قبول الحقّ و الايمان به في مملكة مصر، فعذّبناهم أشدّ العذاب

ص: 75


1- . تفسير الرازي 25:65.

وَ ما كانُوا سابِقِينَ و فائتين منّا و معجزين لنا عن عذابهم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ فصّل و شرح كيفية إهلاك الامم المذكورين بقوله: فَكُلاًّ منهم أَخَذْنا بِذَنْبِهِ و عاقبناه بجنايته فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً و ريحا شديدا حاملا للحصى كقوم عاد وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ كقوم ثمود و أهل مدين وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ اَلْأَرْضَ كقارون و أتباعه وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا في الماء كقوم نوح و فرعون و أتباعه وَ ما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بما فعل بهم، بل كان يعدل فيهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و الطّغيان و تكذيب الرّسل.

فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ اَلْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)

ثمّ لمّا كان المهلكون من المشركين، بيّن بطلان مذهبهم بقوله: مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْلِياءَ و أحبّاء، أو انصارا، و آلهة، و صفتهم العجيبة كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ و حالها العجيبة فانّها اِتَّخَذَتْ لنفسها و نسجت من لعابها بَيْتاً لا جدار له و لا سقف، و لا يدفع الحرّ و لا البرد و لا المطر، فكذلك الأصنام لا تملك لعابديها نفعا و لا ضرّا، و [لا]

خيرا و لا شرا، فمن اعتمد عليها كان كمن أعتمد على بيت لا أساس له وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ و أضعفها لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ فانّه أقرب إلى الانهدام من غيره، لأنّه ينهدم بأخفّ الأرياح، كما أنّ مذهب الشرك يبطل بأدنى التفكّر، إنّهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شيئا لعلموا ذلك، أو لعلموا مطابقة المثل للممثّل له و غاية حسنه و فائدته.

قيل: إنّ العنكبوت كلّما نسجت حولها بنت لنفسها محبسا، و لأرجلها قيودا، كما أن المشركين كلّما عبدوا غير اللّه سووا لأيديهم و أرجلهم سلاسل و أغلالا، و جعلوا الدنيا و الآخرة لأنفسهم محبسا (1).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 42 الی 44

إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (42) وَ تِلْكَ اَلْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ اَلْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)

ص: 76


1- . تفسير روح البيان 6:471.

ثمّ أكدّ سبحانه عدم فائدة الأصنام، و هدّدهم على عبادتها بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ و حقيقته و كنهه وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب القادر على الانتقام من أعدائه اَلْحَكِيمُ في فعاله من عقوبتهم و إمهالهم.

ثمّ لمّا كان المشركون يعترضون على القرآن باشتماله على المثل بالعنكبوت و الذّباب، ردّهم اللّه بقوله: وَ تِلْكَ اَلْأَمْثالُ نَضْرِبُها تنبيها لِلنّاسِ و توضيحا لهم المطالب العالية و تقريبا لما بعد عن أفهامهم، و ما يفهم حسن تلك الأمثال و فائدتها وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ اَلْعالِمُونَ و المدركون لحسن الأشياء و المتدبّرون فيها.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بقوله: خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و أبدعهما ملتبّسا بِالْحَقِّ و الغرض الصحيح و الحكمة البالغة، لا عبثا، و لا لعبا، فانّهما مع اشتمالهما على المنافع الدنيوية المربوطة بمعاش الخلق، شواهد دالة على وحدانيته، و كمال قدرته، و حكمته، و سائر صفاته، كما قال سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق العظيم المعجب لَآيَةً عظيمة، و دلالة واضحة على شؤونه الجليلة، و إنّما هي نافعة لِلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم المتدبّرون فيها، المدركون لدلالتها، الناظرون بنور اللّه في عجائبها و وجوه حكمها.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 45

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات توحيده للمؤمنين، أمرهم بأهم الأعمال و أنفعها، بأمر نبيّه المعظّم بها، إظهارا لعظم شأنها بقوله: اُتْلُ يا محمد ما أُوحِيَ و انزل إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل مِنَ اَلْكِتابِ السماويّ و القرآن العظيم، و أقرأه لنفسك متحفّظا لنظمه، و متدبّرا في معانيه و حقائقه و دقائقه و رقائقه و جهات إعجازه، ليزيدك نورا على نور، و على الناس لتهديهم به إلى الحقّ و صراط مستقيم، و تحملهم على العمل بما فيه من الأحكام و الآداب و محاسن الاخلاق.

اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللّهِ أَكْبَرُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)روي أنّ عمر اتي بسارق فأمر بقطع يده، فقال: لم تقطع يدي؟ قال: بما أمر اللّه في كتابه. فقال: اتل عليّ. فقال: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1)فقال السارق: و اللّه ما سمعتها، و لو سمعتها ما سرقت (2).

ص: 77


1- . المائدة:5/38.
2- . تفسير روح البيان 6:473.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من قرأ القرآن و هو قائم في الصلاة، كان له بكلّ حرف مائة حسنة، و من قرأ و هو جالس في الصلاة، فله بكلّ حرف خمسون حسنة، و من قرأ و هو في غير الصلاة و هو على وضوء، فخمس و عشرون حسنة، و من قرأ على غير وضوء فعشر حسنات» (1).

و إنّما قدّم تلاوة الكتاب لما فيه من المعارف و العلوم، و ازدياد اليقين بصحة دين الاسلام، و إحياء القلب و نورانيّته، ثمّ أردفها بالأمر بأهمّ الواجبات بقوله: وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ و داوم عليها متحفظا لأركانها و أجزائها و شرائطها و آدابها.

ثمّ بيّن سبحانه علّة الأمر بقوله: إِنَّ اَلصَّلاةَ بالخاصية و بتأثيرها في نورانية القلب و زيادة القرب من اللّه تَنْهى و تمنع المصلّي عَنِ ارتكاب اَلْفَحْشاءِ و المعاصي الكبيرة وَ اَلْمُنْكَرِ و الصغيرة، فانّ من تنوّر قلبه بالمعرفة، و علم أنّه يحضر في مقام إظهار العبودية لخالقه و ربّه في كلّ يوم خمس مرات، و يكالمه يتكلّم (2)ربّه معه، استحيى من ارتكاب ما يوجب غضبه تعالى عليه و إعراضه تعالى عنه.

و في الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر، لم يزدد من اللّه إلاّ بعدا» (3).

روي أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الصلوات الخمس، ثمّ لا يدع شيئا من الفواحش إلاّ ركبه، فوصف للرسول صلّى اللّه عليه و آله فقال: «إنّ صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب، و حسن حاله، و صار من زهّاد الصحابة (4).

و قيل: إنّ المراد أنّها تنهاه حال الاشتغال بها (5).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «الصلاة حجزة اللّه، و ذلك أنّها تحجز المصلّي عن المعاصي ما دام في صلاته» (6)ثمّ تلا الآية.

وَ باللّه لَذِكْرُ اَللّهِ و التوجّه إليه بالقلب، و تحميده و تسبيحه و الثناء عليه باللسان أَكْبَرُ و أفضل من سائر العبادات، فانّه روحها، أو لكون ثواب (7)ذكر اللّه لذاكره، أو من ذكر غير اللّه، فانّ ذكر اللّه يوجب الدّخور في رحمته، و ذكر غيره يوجب البعد عنها، أو من ذكر آبائكم، فانّكم إذا ذكرتموهم تملون بذكرهم أفواهكم و قلوبكم، لعظمتهم في نظركم، و من الواضح أنّ ذكر اللّه أعظم منه.

و قيل: إنّ المراد من الأكبر هو الكبير، لعدم الكبر لغيره حتى يكون هو أكبر منه (8). أو المراد أكبر من

ص: 78


1- . تفسير روح البيان 6:474.
2- . في النسخة: و يكلّم.
3- . مجمع البيان 8:447، جوامع الجامع:354، تفسير روح البيان 6:474.
4- . تفسير روح البيان 6:474.
5- . تفسير الرازي 25:72.
6- . التوحيد:166/4، تفسير الصافي 4:118.
7- . في النسخة: ثوابه.
8- . تفسير الرازي 25:74.

أن تذكر فضائله و ثوابه (1).

و قيل: إنّ المراد من ذكر اللّه هو الصلاة، لاشتمالها على الذّكر، و إنّما كنّى عنها به للإشعار بأنّ فضلها على غيرها من العبادات لتضمّنها ذكر اللّه (2).

و قيل: إنّ المراد ذكر اللّه للعبد أكبر من ذكره إيّاه، كما روي عن الباقر عليه السّلام، قال: «ذكر اللّه لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إيّاه، ألا ترى أنّه يقول: اذكرونى أَذْكُرْكُمْ» (3).

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ فيجازيكم بأفضل الجزاء و أعظم الأجر.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 46

ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّ الشّرك و الاستدلال على التوحيد، أمر بمداراة أهل الكتاب في إرشادهم بقوله: وَ لا تُجادِلُوا و لا نخاصموا أَهْلَ اَلْكِتابِ من اليهود و النصارى بالحجّة على صحّة دين الاسلام و صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الحجج، أو بالخصلة التي هي أحسن الخصال، كمقابلة الخشن باللين، و الشرارة بالنّصح، و العجلة بالتأنّي، حتى يقربوا إلى الإيمان.

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)و قيل: يعني لا تجادلوهم بالسيف (4)إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أنفسهم بالإصرار على معاندة الحقّ و اللّجاج في الباطل، فلا بأس أن تخاشنوهم في الكلام، و تغالطوهم في القول، و تعارضوهم بالسيف، فانّ لين الكلام و المداراة لا ينفعهم شيئا.

ثمّ علّم سبحانه المؤمنين كيفية المداراة في الكلام معهم بقوله: وَ قُولُوا أيّها المؤمنون لأهل الكتاب: نحن آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَ الذي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من التوراة و الانجيل و غيرهما من الكتب، و لا ننكر صحّة شيء منها حتى تعاندونا وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ لا تخالفكم في اعتقاد الالوهية حتى تكفّرونا، و إنّما كان إيماننا بالقرآن و بالنبي صلّى اللّه عليه و آله الذي جاءنا به لقيام الحجّة عندنا بكونهما من قبل ربّنا وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ و منقادون، و لا نطيع غيره من الأحبار و الرّهبان، و لا نتّخذهم أربابا.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 47

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ اَلْكافِرُونَ (47)

ص: 79


1- . مجمع البيان 7:447.
2- . تفسير أبي السعود 7:42، تفسير روح البيان 6:475.
3- . تفسير القمي 2:150، تفسير الصافي 4:118.
4- . تفسير الرازي 25:75.

ثمّ استدلّ سبحانه على صدق القرآن بقوله: وَ كَذلِكَ الإنزال البديع لتلك الكتب السماوية أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمّد اَلْكِتابَ العظيم و القرآن الكريم الموافق لسائر الكتب في المعارف و العلوم و الأحكام فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه، لعلمهم بما فيه من البشارة بنزول القرآن يُؤْمِنُونَ بِهِ و يصدّقونه وَ بعض مِنْ هؤُلاءِ المشركين من العرب مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أيضا لفهمهم جهات الإعجاز فيه.

و قيل: إنّ المراد من الذين آتيناهم الكتاب الأنبياء، و من قوله: وَ مِنْ هؤُلاءِ سائر أهل الكتاب (1).

و قيل: إنّ المراد من الأول أهل الكتاب الذين آمنوا به قبل نزوله و قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كقسّ بن ساعدة، و بحيرا، و نسطورا، و ورقة و نظائرهم، لمّا شاهدوا البشارة بنزوله في الكتب السماوية، و من الثاني الموجودون فى عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2)وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا المنزلة و لا ينكرها إِلاَّ اَلْكافِرُونَ المصرّون على الكفر و العناد.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 48 الی 49

ثمّ استدلّ سبحانه على كون القرآن معجزة باهرة باميّة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ ما كُنْتَ يا محمّد تَتْلُوا و تقرأ مِنْ قَبْلِهِ شيئا مِنْ كِتابٍ من الكتب المنزلة و غيرها حتى تطلّع على ما فيه من المعارف و العلوم و التواريخ وَ لا تَخُطُّهُ و لا تكتبه بِيَمِينِكَ المعتاد أن يكتب الخطّ بها، و ذكرها لرفع احتمال التجوّز في الاسناد، و لو كنت قارئا كاتبا إِذاً لاَرْتابَ و شكّ في صدق كتابك اَلْمُبْطِلُونَ و المسارعون في إفساد أمرك، أو القائلون بما لا حقيقة له، فانّهم كانوا يقولون: لعلّه تعلّم مطالب القرآن و التقطها من كتب الأولين و دفاتر السابقين، مع أنّ الكلام أيضا في غاية البطلان، لأنّه من الواضح أنّه لو اجتمعت الإنس و الجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله.

وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ اَلْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ اَلظّالِمُونَ (49)و قيل: يعني لا ارتاب المبطلون من أهل الكتاب، و قالوا: إنّا قرأنا في الكتب أن النبي الموعود امّي لا يقرأ و لا يكتب، و هذا المدّعي قارئ و كاتب (3).

عن الرضا عليه السّلام-في حديث-: «و من آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا، لم يتعلّم كتابا، و لم

ص: 80


1- . تفسير الرازي 25:76.
2- . تفسير روح البيان 6:477.
3- . تفسير روح البيان 6:480.

يختلف إلى معلّم، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء و أخبارهم حرفا حرفا، و أخبار من مضى و من بقي إلى يوم القيامة» (1).

بَلْ القرآن هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ و معجزات محفوظات في القلوب التي فِي صُدُورِ المؤمنين اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ قيل: يعني من أهل الكتاب (2). و قيل: من علماء الامّة (3).

عن الباقر عليه السّلام: أنّه تلاها فقال: «ما قال بين دفّتي المصحف» قيل: من هم؟ قال: عسى أن يكون غيرنا؟» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه تلا هذه الآية فأوما بيده إلى صدره (5).

و عن الصادق عليه السّلام. قال: «هم الأئمّة» (6). و قال: «نحن، و إيّانا عنى» (7).

قال بعض: إنّ من خصائص القرآن أنّه معجزة باهرة دون سائر الكتب السماوية، و إنّه يكون محفوظا في الصدور، و غيره من الكتب لا تقرأ إلاّ بالنظر فيها، فاذا أطبقوها لم يقدر أحد سوى الأنبياء أن يقرؤوا منه شيئا (8)، و إنّه باق إلى يوم القيامة محفوظا من التغيير و التحريف وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهور دلائل صدقها، و كونها نازلة من قبلنا إِلاَّ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بالخروج عن حدود العقل في اللّجاج و الفساد.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 50 الی 52

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات صدق القرآن بكونه مثل سائر الكتب السماوية، و بشهادة أهل الكتاب بصدقه، و بكون الجائي به اميّا، مع اشتماله على علوم وفيرة، حكى سبحانه بعض شبهات الكفّار في صحّة نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ قالُوا: إنّ الأنبياء الذين جاءوا بالكتب السماوية كانت لهم معاجز، و لو فرض أنّ القرآن الذي جاء به محمد من قبل اللّه لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ و معجزة مِنْ رَبِّهِ كما

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآياتُ عِنْدَ اَللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللّهِ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (52)

ص: 81


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:167/1، تفسير الصافي 4:119.
2- . مجمع البيان 7:451.
3- . مجمع البيان 7:450.
4- . الكافي 1:167/3، تفسير الصافي 4:120.
5- . الكافي 1:166/1، تفسير الصافي 4:120.
6- . الكافي 1:167/2، تفسير الصافي 4:120.
7- . بصائر الدرجات:227/16، تفسير الصافي 4:120.
8- . تفسير روح البيان 6:481.

انزل على غيره من الأنبياء كالعصا، و اليد البيضاء، و إحياء الموتى قُلْ يا محمد لهم إِنَّمَا اَلْآياتُ و المعجزات عِنْدَ اَللّهِ و بقدرته و إرادته، لا عندي و بقدرتي و إرادتي وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ و رسول مبلّغ عنه ببيان واضح، و لمّا لم تكن كتب الأنبياء السابقة مثبتة لنبوّتهم (1)كان اللازم على مرسلهم أن ينزل عليهم الآيات المثبتة لنبوتهم بمقدار كاف لاثباتها، و العجب من هؤلاء الناس أنّهم مع كون القرآن من أعظم المعجزات، يتوقّعون منك معجزة اخرى!

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ الذي يعجز عن إتيان سورة منه جميع الخلق من الجنّ و الإنس يُتْلى عَلَيْهِمْ بلغتهم في كلّ زمان و مكان إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب العظيم الشأن لَرَحْمَةً عظيمة و نعمة جليلة، أو معجزة واضحة وَ ذِكْرى وعظة، أو دوام إرشاد لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به،

و يصدّقون أنّه من اللّه و قُلْ لهؤلاء: إنّ اللّه شهد بصدق نبوتي في كتابه و كَفى بِاللّهِ المطلّع على دعواي بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً على صدقي، أو إن تكذّبوني و تؤذونني كفى باللّه بيني و بينكم بما صدر منّي من دعوتكم إلى الحقّ و تكذيبكم إيّاي شَهِيداً و مطّلعا، و كيف يخفى عليه ما صدر منّي و منكم، و هو يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الامور التي من جملتها شأني و شأنكم؟ و ما ينكر علمه إلاّ من أنكر الوهيّته و ربوبيّته وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللّهِ و أنكروا الوهيته و ربوبيّته أُولئِكَ الكافرون هُمُ بالخصوص اَلْخاسِرُونَ و المتضرّرون أشدّ الخسران و الضّرر، لا أخسر منهم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 53 الی 55

و من شبهاتهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا وعدهم بالعذاب على الكفر بقوله: أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ و لم يأتهم، فقالوا: يا محمد، لم لم يأتنا ما وعدتنا من العذاب؟ فأنت كذّبت في وعدك! فحكى سبحانه ذلك بقوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ و يتوقعون منك سرعه نزوله، و لم يعلموا أنّ حكمته تعالى اقتضت إمهالهم إلى القيامة و جعل له أجلا وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى و وقت معين بمقتضى الحكمة لَجاءَهُمُ اَلْعَذابُ المستأصل في الدنيا لاستحقاقهم إيّاه وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ ذلك العذاب بَغْتَةً و بلا

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ اَلْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

ص: 82


1- . في النسخة: مثبتا لنبوتهم و كتبهم.

مقدّمة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه، و لا يحتملونه، أو لا يشعرون بأنّ تأخيره لا ينافي صدق الوعد به، و العجب أنّهم

يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الشديد الذي يفرّ منه العاقل، وَ الحال إِنَّ جَهَنَّمَ عن قريب لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ في القيامة لإحاطة موجبات استحقاقها بهم في الدنيا من الكفر و الطغيان، و أو بصورتها المعنوية، و إن لم تدركها الحواسّ الظاهرية في هذا العالم.

ثمّ عيّن الأجل أو وقت الاحاطة و كيفيتها بقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ اَلْعَذابُ و يسترهم مِنْ فَوْقِهِمْ بحيث لا يقدرون على دفعه بايديهم وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ و لا يقدرون على دسّه بأقدامهم وَ يَقُولُ اللّه، أو الملك تنكيلا و إهانة لهم ذُوقُوا و أطعموا طعم ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الكفر و الطغيان و العصيان، فانّ هذا العذاب عين أعمالكم المجسّمة في هذا العالم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 56 الی 60

ثمّ لمّا كان تحديد الكفّار بالعذاب موجبا لشدّة عداوتهم للمؤمنين، و تهييجهم على إيذائهم، أمرهم اللّه بالهجرة من مكّة بقوله: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بي و برسولي: لستم مضطرّين في الإقامة بمكّة إِنَّ أَرْضِي التي خلقتها ليست ضيقة و منحصرة في أرض مكّة، بل هي واسِعَةٌ فاخرجوا من مكة، و هاجروا إلى غيرها من البلاد التي لا يمنعكم الكفار فيها من القيام بوظائف دينكم فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ و حدي فيها، و إن كان كبر عليكم الإعراض عن وطنكم المألوف، فاعلموا أنّكم مفارقونه لا محالة و لو بالموت و الخروج من الدنيا،

لوضوح أنّه كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ و مدركة طعمه ثُمَّ أنتم بعد الموت إِلَيْنا تُرْجَعُونَ من الدنيا، فتسألون عن أداء ما حمّلتم من التكاليف و العمل بما جعل عليكم من الأحكام، و تجازون على ما صدر عنكم إن خيرا فخير، و إن شرّا فشر، فليكن همّكم في تحصيل الراحة في دار لا انقضاء لها، فان لم يتيسّر لكم في الغربة منزل و مأوى تطيب به نفوسكم و تستريحون فيه، فلا يغمّكم، فانّ الدنيا سريعة الانقضاء، و الآخرة التي لا انقضاء لها سريعة اللّحاق

ص: 83

حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ للّه تلك القصور، كما أنّ الجحيم المحيط بالكافرين بئس الجزا،

و العاملون هم اَلَّذِينَ صَبَرُوا على أذى الكّفار، و هجر الأوطان، و فرقه الأقارب و الإخوان، و ترك الديار و العقار، بل العمران، و تحمّل المحن في رضا الملك الديّان وَ عَلى رَبِّهِمْ اللطيف بهم يَتَوَكَّلُونَ و يعتمدون في حفظهم من شرّ الأعداء، و انتظام امور معاشهم و معادهم، فانّ اللّه حافظهم و رازقهم.

يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ (58) اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللّهُ يَرْزُقُها وَ إِيّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (60)

وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ و كم من حيوان من الوحوش و الطيور من خصائصها أنّها لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا و لا تقدر على رفعه من الأرض و نقله و ادّخاره اَللّهُ يَرْزُقُها و يوصل إليها ما تعيش به و تحتاج إليه يوما فيوما حيث يوجّهه وَ يرزق إِيّاكُمْ فهم مع ضعفهم و أنتم مع قوّتكم سواء في كون رزقكم بيد اللّه وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقوالكم في أمر الرزق اَلْعَلِيمُ بضمائركم و ما يخطر ببالكم من أنّا لو خرجنا من ديارنا فمن أين نرتزق؟ و بمقدار حاجتكم، و محلّ رزقكم.

روي عن ابن عمر أنّه قال: خرجت يوما مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله من المدينة حتى دخلنا في حائط أحد من الانصار، فأخذ صلّى اللّه عليه و آله يأكل من تحت النخيل تمرا، فقال لي: «ألا تأكل؟» قلت: لا أشتهي. قال: «لكنّي أشتهيه، و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما، و لو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر، و لكن أحبّ أن أشبع يوما و أجوع يوما، فكيف بك يابن عمر لو بقيت مع قوم يخبّئون رزق سنتهم لضعف يقينهم» قال: فو اللّه ما برحنا حتى نزلت (1).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 61 الی 63

ثمّ لما زيّف (2)سبحانه مذهب الشرك، و دعا العباد إلى عبادته، أظهر التعجّب من عبادة المشركين غيره مع قولهم بأنّه تعالى خالق كلّ شيء بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و ما فيهما بقدرته وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ و قهرهما تحت إرادته، و يسّرهما على وفق حكمته لَيَقُولُنَّ بالفطرة و الوجدان: إنّ اَللّهُ خالقهما و مسخّرهما، فاذا اعترفوا بذلك فَأَنّى يُؤْفَكُونَ و كيف عن عبادته ينصرفون؟

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ (61) اَللّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اَللّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)

ص: 84


1- . مجمع البيان 8:455، تفسير الصافي 4:122.
2- . في النسخة: زلف.

ثمّ إنه تعالى بعد بيان عظمته و قدرته بخلق العالم و تسخير النّيّرين، بيّن منّته عليهم بالرزق بقوله: اَللّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ و يوسّعه لِمَنْ يَشاءُ توسعته مِنْ عِبادِهِ المؤمنين و الكافرين وَ يَقْدِرُ لم يشاء و يضيّق لَهُ و هو يعلم مقدار الحاجات و الأرزاق، و طرق إيصالها، و مصالح العباد، و نظام العالم بمقتضى الوهيته إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عن علمه خافية.

في الحديث القدسي «أن من عبادي من لا يصلحه إلاّ الغنى، و لو افقرته لأفسده ذلك، و إن من عبادي من لا يصلحه إلاّ الفقر، و لو أغنيته لأفسده ذلك» (1).

ثمّ بيّن سبحانه اعترافهم بأنّ الرزق كلّه منه، باعترافهم بأنّه منزل الأمطار التي هي سبب الرزق بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ، أو من جهة العلوّ ماءً نافعا فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها و أنبتت منها الأشجار و الزروع و الحشائش من بعد يبسها؟ لَيَقُولُنَّ بعقولهم الفطرية: اَللّهُ منزل الماء و محيي الأرض قُلِ يا محمد: اَلْحَمْدُ لِلّهِ على نعمه، و هم لا يحمدونه مع اعترافهم بنعمه، أو الحمد للّه على ظهور الحجّة و وضوح الحقّ بحيث لا يمكن لهم جحوده بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ و لا يدركون أن مقتضى اعترافهم حمده و عبادته لا عبادة غيره.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 64 الی 66

ثمّ لمّا كان باعثهم على عبادة الأصنام حبّ الدنيا و شهواتها، ذمّ سبحانه الدنيا بقوله: وَ ما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و شهواتها التي تحبونها (2)و تشتاقون إليها بحيث شغلتكم عن اللّه و عن الآخرة إِلاّ لَهْوٌ و عمل غير عقلاني وَ لَعِبٌ و شغل لا فائدة فيه، و إعراض عن اللّه، و هذان بعيدان عن العاقل، لكونهما سريعي (3)الانقضاء بالموت، و موجبين للبعد عن اللّه وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ و اللّه لَهِيَ الجنّة التي يكون فيها اَلْحَيَوانُ الحقيقي و الحياة الدائمة التي لا ينغصها الموت و الفناء، بل جميع ما فيها ذو حياة لا زوال لها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و ذلك لما آثروا عليها الدنيا التي هي الموتان و أهلها أموات.

وَ ما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

ثمّ قرّر سبحانه كون باعثهم على عبادة الأصنام حبّ الدنيا بأنّهم لو انقطعوا عن الدنيا، و ضعف رجاؤهم في الحياة، نسوا آلهتهم و أخلصوا دينهم للّه بقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ و توسّطوا البحر، و أشرفوا على الهلاك، نسوا آلهتهم و دَعَوُا اَللّهَ لنجاتهم حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ

ص: 85


1- . تفسير روح البيان 6:489.
2- . في النسخة: تحيونها.
3- . في النسخة: سريع.

موحدّين إياه فَلَمّا استجاب دعاءهم و نَجّاهُمْ من البحر و أخرجهم منه سالمين (1)إِلَى اَلْبَرِّ و أمنوا من الغرق إِذا هُمْ يعودون إلى مذهبهم الباطل، و يُشْرِكُونَ به غيره

لِيَكْفُرُوا و كي يكونوا باشتراكهم كافرين بِما آتَيْناهُمْ و أنعمنا عليهم من النجاة وَ لِيَتَمَتَّعُوا و كي ينتفعوا به لكونه سبب ألفتهم و توادّهم.

و قيل: إنّ اللاّمين للأمر على سبيل التهديد، كما في اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (2)فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و خامة عاقبة الشرك حين يرون العذاب (3).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 67 الی 69

ثمّ نبهم على أنه كما تكون أمنيتهم من الغرق من اللّه، تكون امنيتهم في بيوتهم منه أيضا بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و لم يشاهدوا أَنّا جَعَلْنا بلدهم حَرَماً و محترما آمِناً و مأمونا من القتل وَ النهب يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ و يؤخذون مِنْ حَوْلِهِمْ قتلا و سبيا، إذا كانت العرب حولهم في تغاور و تناهب أَ فَبِالْباطِلِ و الأصنام الجامدة مع تلك النّعم التي يشاهدونها و ظهور الدلائل على الحق الذي لا مجال للامتراء فيه يُؤْمِنُونَ هؤلاء الكفّار وَ بِنِعْمَةِ اَللّهِ التي يجب على كلّ أحد شكرها، هم يَكْفُرُونَ باسندها إلى غيره، أو بالاشتراك به و صرفها في معصيته.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ (69)

ثمّ إنه تعالى بعد إثبات التوحيد بالأدلة المتقنة و البراهين الواضحة، و إثبات كون القرآن كلامه نازلا من قبله بالدلائل القاطعة و تهديد منكريهما بعذاب الآخرة الذي هو أشدّ العذاب، نبّه سبحانه على أن من لا يؤمن بهما مع ذلك هو أظلم الناس على نفسه بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ و أضرّ على نفسه مِمَّنِ اِفْتَرى و بهت عَلَى اَللّهِ الأحد الفرد بادّعاء الشريك له في الالوهية و العبادة كَذِباً مع شهادة جميع أجزاء العالم و أجزاء وجوده على توحيده، و كون وجود الشريك من المحالات أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ و أنكر نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله أو صدق كتابه أو صحّة شريعته لَمّا جاءَهُ و حين استماعه من غير توقّف و تدبّر عنادا و لجاجا، أو المراد أنّهم كذّبوا باللّه في إخباره بأنّ محمدا رسولي، و كتابه كلامي، و شريعته ديني المرضيّ عندي مع وضوح صدق كلّ من الامور المذكورة.

ص: 86


1- . في النسخة: سالما.
2- . فصلت:41/40.
3- . تفسير روح البيان 6:493 و 494.

ثم بيّن كمال استحقاقهم للعذاب بقوله: أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ في الآخرة مَثْوىً و مقام دائمي لِلْكافِرِينَ المكذبين باللّه و برسوله و كتابه؟ ! و لا يستوجبون الخلود فيها و قد فعلوا ما فعلوا من الافتراء و التكذيب الشنيع بالحقّ الصريح.

و قيل: إنّ الاستفهام الانكاري لاستبعاد اجترائهم على مثل هذا الافتراء و التكذيب (1)، و المعنى ألم يعلموا أنّ في جهنم مثوى لهم حتى اجترءوا هذه الجرأة.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كون الكافرين الجاحدين لتوحيده و رسالة رسوله أظلم الناس، و توعيدهم بالخلود في النار، وعد المؤمنين المجاهدين في طاعته بألطافه بقوله: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا و بذلوا وسعهم في النظر في أدلة توحيدنا و التفكر فيها، و جدّوا في طاعتنا، و اجتهدوا في جهاد أعدائنا بألسنتهم و أيديهم و أموالهم، و اللّه لَنَهْدِيَنَّهُمْ بالإلهام و التوفيق و التأييد سُبُلَنا و طرق القرب منّا، و لنوصلهم إلى كلّ خير و سعادة من الكمالات النفسانية و أعلى مراتب الانسانية في الدنيا، و من الدرجات العالية في الجنّة و النّعم الدائمة في الآخرة.

و عن ابن عباس: يريد المهاجرين و الأنصار، أي و الذين جاهدوا المشركين و قاتلوهم في نصرة ديننا لنهدينهم سبل الشهادة و المغفرة و الرضوان (2).

و قيل: يعني لنثبّتهم (3)على الهداية و الايمان، كما عن القمي.

ثمّ وعدهم سبحانه بأعلى منه بقوله: وَ إِنَّ اَللّهَ القادر العظيم بالعون و النصر و الانس و اللّه لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ العاملين برضاه في الدنيا و الآخرة.

عن الباقر عليه السّلام: «هذه الآية لآل محمد و لأشياعهم» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «ألا و إنّي مخصوص في القرآن بأسماء احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم، أنا المحسن يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ» (5).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة العنكبوت و الروم في شهر رمضان ليلة ثلاث و عشرين، فهو و اللّه من أهل الجنة، و لا استثني فيه أبدا، و لا أخاف أن يكتب اللّه عليّ في يميني إثما، و إن لهاتين السورتين من اللّه لمكانا» (6).

الحمد للّه على التوفيق لختم تفسيرها.

ص: 87


1- . تفسير أبي السعود 7:48، تفسير روح البيان 6:495.
2- . تفسير روح البيان 6:497.
3- . تفسير القمي 2:151، تفسير الصافي 4:123.
4- . تفسير القمي 2:151، تفسير الصافي 4:123.
5- . معاني الأخبار:59/9، تفسير الصافي 4:123.
6- . ثواب الاعمال:109، تفسير الصافي 4:124.

ص: 88

في تفسير سورة الروم

سوره 30 (الروم): آیه شماره 1 الی 6

ثمّ لمّا أمر سبحانه في السورة السابقة بمداراة أهل الكتاب، و أخبر بايمان كثير منهم بالقرآن، أبغضهم المشركون، فلمّا قاتل أهل الروم-و كانوا أهل الكتاب-الفرس المجوس، و غلبوا عليهم، فرح المشركون بذلك، فأنزل اللّه سورة الروم، و لذا نظمت بعد العنكبوت فابتدأت ب بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الم (1) غُلِبَتِ اَلرُّومُ (2) فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اَللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اَللّهِ لا يُخْلِفُ اَللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)

و لمّا كان في أولها الإخبار بالغيب، و كان معجزة باهرة، افتتح السورة بالحروف المقطّعة من قوله: الم جلبا لتوجّه القلوب إلى استماعها،

ثمّ بشّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بقوله: غُلِبَتِ اَلرُّومُ و انكسروا من جيش الفرس

فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ و أقربها من ملك الروم، و هي جزيرة كانت بين دجلة و الفرات، أو أقرب أرض الروم من الحجاز، و هي أذرعات و بصرى وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ و انكسارهم من الفرس و غاية ضعفهم سَيَغْلِبُونَ على الفرس و يكسروهم

فِي مدة بِضْعِ سِنِينَ و ما بين ثلاثة و تسع أعوام، و اعلموا أنّه ليس هذه الغلبة بقدرتهم بل لِلّهِ اَلْأَمْرُ و القضاء في كونهم غالبين أو مغلوبين مِنْ قَبْلُ و في زمان لم يكن لأحدهما الغلبة، أو قبل بضع سنين وَ مِنْ بَعْدُ و في زمان حصل لأحدهما الغلبة على الآخر، أو بعد بضع سنين وَ يَوْمَئِذٍ و حين حصول غلبة الروم على الفرس يَفْرَحُ و يسر اَلْمُؤْمِنُونَ بحصول الغلبة لأهل الكتاب

بِنَصْرِ اَللّهِ و بعونه إياهم.

ص: 89

قيل: بلغ خبر الغلبة يوم الحديبية (1).

و قيل: أخبر جبرئيل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بها، و كان يوم الغلبة يوم بدر (2). و عليه يمكن أن يكون المراد بفرح المؤمنين بنصر اللّه فرحهم بغلبتهم على المشركين في بدر.

و قيل: يعني يفرح المؤمنون بقتل الكفّار بعضهم بعضا، لما فيه من تقليل عددهم و كسر شوكهم (3). فانّ اللّه تعالى يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ نصره من ضعيف أو قويّ أو أهل كتاب أو مؤمن أو غيرهم وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب على كلّ شيء لا يعجزه شيء و هو اَلرَّحِيمُ المبالغ في العطوفة على من يشاء نصره،

و اعلموا أنّ غلبة الروم على الفرس يكون وَعْدَ اَللّهِ الحتميّ الانجاز، لأنّه لا يُخْلِفُ اَللّهُ وَعْدَهُ لمنافاته لالوهيته وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ و هم المشركون لا يَعْلَمُونَ وعده و وجوب إنجازه.

نقل أنّ پرويز سلطان الفرس صمّم على أن يقاتل هرقل قيصر الروم، فأرسل إلى الروم عسكرا عظيما، و أمّر عليهم شهريار و فرخان، و كانا رجلين شجاعين، فاطّلع هرقل على توجّه عسكر الفرس إليه، فأرسل إليهم جيشا، و أمّر عليهم رجلا يقال له خنيس (4)، فتلاقى العسكران بأذرعات و بصرى، و هي أدنى الشام إلى أرض العرب و العجم، فغلب الفرس على الروم، و أخذوا بعض بلادهم، و خرّبوا بعضها، فبلغ الخبر مكة، ففرح المشركون، و شمتوا المسلمين، و قالوا: أنتم و النصارى من أهل الكتاب، و نحن و فارس اميّون، لأنّ فارس كانوا مجوسا، و قد ظهر إخواننا عليهم، و هم إخوانكم، فنرجو أن نظهر عليكم. فشقّ ذلك على المسلمين و اغتمّوا، فأنزل اللّه الآيات، و أخبر أنّه لا يكون الأمر كما زعموا، فقال أبو بكر للمشركين: لا يقرّنّ اللّه أعينكم، و اللّه ليظهر الروم على فارس في بضع سنين. فقال أبي بن خلف: كذبت يا أبا الفصيل (5). قال أبو بكر: بل أنت كذبت يا عدوّ اللّه. قال ابي: اجعل بيننا أجلا اناحبك (6)عليه، فناحبه على عشر نوق (7)شابة من كلّ واحد منهما، و جعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: «أخطأت، فان البضع ما بين الثلاث إلى التسع» فزايده في الخطر، و مادّه في الأجل، فجعلاهما مائة ناقة إلى تسع سنين، فلمّا خشي ابي أن يخرج أبو بكر مهاجرا إلى المدينة أتاه فلزمه، فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر، فلمّا أراد ابي أن يخرج إلى احد، أتاه محمد بن أبي بكر و لزمه، فأعطاه كفيلا، ثمّ خرج إلى احد، ثمّ مات ابي من جرح

ص: 90


1- . تفسير أبي السعود 7:49، تفسير روح البيان 7:5.
2- . تفسير روح البيان 7:5.
3- . تفسير روح البيان 7:6 و 7.
4- . في تفسير روح البيان: خنس.
5- . في النسخة: الفضل.
6- . ناحبه: راهنه و خاطره.
7- . في النسخة و تفسير روح البيان: عشرة ناقة.

برمح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد رجوعه من احد.

ثمّ إن پرويز غضب على شهريار و أخيه فرخان لسعاية السّعاة، فأراد قتل كلّ منهما بيد الآخر، فلمّا وقفا على الحال سألا من هرقل أن يلقياه في وقت الخلوة، فأذن لهما، فلمّا دخلا عليه قبلا دين النصرانية و عهدا إليه أن يطيعاه و لا يخالفاه، فجهّز جيشا كثيفا، و أمّرهما عليه، و أرسلهما إلى فارس، فذهبا و غلبا على جند پرويز، و أخذا بلاده حتى وصلوا إلى المدائن، و بنوا بلده رومية هناك (1).

و قيل: هرب پرويز، و ملكوا ملكه، فلمّا وصل خبر فتح الروم بلاد الفرس إلى العرب، أخذ أبو بكر مائة ناقة شابة من ورثة ابي، فجاء بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «تصدّق بها» فتصدّق أبو بكر بها (2).

قيل: إنّ هرقل أول من ضرب الدينار، و أحدث البيعة (3).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كتب إلى هرقل ملك الروم كتابا، و دعاه إلى الاسلام، فلمّا وصل إليه كتاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأه و وضعه على عينيه و رأسه، و ختمه بخاتمه، ثمّ أوثقه على صدره، ثمّ كتب جواب كتابه: إنّا نشهد أنّك نبي، و لكنّا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفاه اللّه لعيسى عليه السّلام. فعّجب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «لقد ثبت ملكهم إلى يوم القيامة» .

و كتب إلى كسرى ملك فارس-و هو خسرو پرويز-يدعوه إلى الاسلام، فلمّا قرأة مزّقه، و أراد قتل الرسول صلّى اللّه عليه و آله فرجع الرسول إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أخبره، فدعا عليه السّلام عليه أن يمزّق كلّ ممزّق، فمزّق اللّه ملكهم، فلا ملك لهم أبدا، كما قال عليه السّلام: «نطحة أو نطحتان، ثمّ لا فارس بعدها» (4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «إن لها تأويلا لا يعلمه إلاّ اللّه و الراسخون في العلم من آل محمد، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا هاجر إلى المدينة و أظهر الاسلام، كتب إلى ملك الروم كتابا، و بعث به مع رسول يدعوه إلى الاسلام، و كتب إلى ملك فارس كتابا يدعوه إلى الاسلام، و بعثه إليه مع رسوله، فأمّا ملك الروم فعظّم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أكرم رسوله، و أمّا ملك فارس فانّه استخفّ بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مزّقه، و استخفّ برسوله، و كان ملك فارس يومئذ يقاتل ملك الروم، و كان المسلمون يهوون أن يغلب ملك الروم ملك الفارس، و كانوا لناحيته أرجا منهم لملك فارس، فلمّا غلب ملك فارس ملك الروم كره ذلك المسلمون و اغتموا به، فأنزل اللّه عز و جل بذلك كتابا: الم* غُلِبَتِ اَلرُّومُ* فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ يعني غلبتها فارس في أدنى الأرض، و هي الشامات و ما حولها وَ هُمْ يعني فارس مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ الروم سَيَغْلِبُونَ يعني يغلبهم المسلمون فِي بِضْعِ

ص: 91


1- . تفسير روح البيان 7:5.
2- . تفسير روح البيان 7:5.
3- . تفسير روح البيان 7:4.
4- . تفسير روح البيان 7:4.

سِنِينَ لِلّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اَللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ.

قال: فلمّا غزا المسلمون فارس و افتتحوها فرح المؤمنون بنصر اللّه» .

قيل: أ ليس اللّه يقول: فِي بِضْعِ سِنِينَ و قد مضى للمؤمنين سنون كثيرة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في إمارة أبي بكر، و إنّما غلبت المؤمنون فارس في إمارة عمر؟

فقال: «ألم أقل لك إنّ لهذا تأويلا و تفسيرا، و القرآن ناسخ و منسوخ، أما تسمع لقول اللّه عزّ و جلّ: لِلّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ يعني إليه المشيئة في القول أن يوخّر ما قدّم و يقدّم ما أخّر في القول إلى يوم تحتّم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اَللّهِ أي يوم يحتّم القضاء [بالنصر]» (1).

أقول: هذه الرواية توافق قراءة سَيَغْلِبُونَ بالبناء للمفعول.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ ذمّهم سبحانه بقصر علمهم بشهوات الدنيا بقوله: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و زينتها و شهواتها، و لا يعلمون باطنها الذي هو المضار و المتاعب وَ هُمْ عَنِ عالم اَلْآخِرَةِ و دار الجزاء هُمْ غافِلُونَ لا تتوجّه قلوبهم إليها.

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فقال: «منه الزجر و النجوم» (2).

ثمّ لامهم سبحانه على ترك التفكّر في آيات التوحيد و البعث بقوله: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ و لم يتأمّلوا في قلوبهم حتى يعلموا أنّه يجب على اللّه حشر الخلق لمجازاتهم على أعمالهم بمقتضى الحكمة البالغة، لأنّه ما خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات بغرض من الأغراض إِلاّ بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة و المصلحة التامة، و عمدتها هو (3)استدلالهم بها على وجوده و كمال صفاته، و ارتقائهم بالنظر فيها من حضيض البشرية إلى أعلى درجة الانسانية، و استحقاقهم لفيوضاته الأبدية، و لا يكون ذلك إلاّ بانتقالهم إلى دار الآخرة الأبدية، و إلاّ كان خلقها عبثا و لعبا.

ص: 92


1- . الكافي 8:269/397، تفسير الصافي 4:126.
2- . مجمع البيان 8:461، تفسير الصافي 4:127.
3- . في النسخة: و هو.

و جعل بقاء الموجودات في العالم متلبّسا بوقت معين وَ أَجَلٍ مُسَمًّى مقدّر لا بدّ من أن ينتهي إليه، و هو قيام الساعة وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لأعراضهم عن التفكّر بِلِقاءِ رَبِّهِمْ و الحضور في محكمة عدله في الآخرة و اللّه لَكافِرُونَ و بالحشر لجاحدون.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ هددهم سبحانه بالعذاب الذي نزل على الامم الماضية بقوله: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا و لم يسافروا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الامم اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود، و إلى ما صار مآل كفرهم و إنكارهم الحشر، فانّهم اهلكوا بأنواع العذاب، مع أنّهم كانوا أكثر من كفار مكّة تمتّعا بالدنيا و كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً و أعظم منهم جسما وَ أَثارُوا اَلْأَرْضَ و قلبوها للزراعة و غرس الأشجار، و استنباط المياه، و استخراج المعادن وَ عَمَرُوها بفنون العمارات من الزراعة و الغرس و البناء أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها لأنّ أهل مكّة أهل واد غير زرع، و لقد أتمّ اللّه عليهم الحجّة بأن أعطاهم العقل وَ جاءَتْهُمْ من قبل اللّه رُسُلُهُمْ لتبليغ الحقّ إليهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، و فكذّبوه فأهلكهم اللّه بكفرهم و تكذيبهم فَما كانَ اَللّهُ بإنزال العذاب عليهم و إهلاكهم لِيَظْلِمَهُمْ و يعذّبهم بلا حجّة عليهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بكفرهم و طغيانهم الموجبين لاستحقاقهم العذاب

ثُمَّ كانَ بعد خروجهم من الدنيا عاقِبَةَ أمر اَلَّذِينَ أَساؤُا و استمرّوا على إتيان المنكرات، و أصرّوا على الكفر و معارضة الأنبياء العقوبة اَلسُّواى في الآخرة-كما أنّ للذين أحسنوا المثوبة الحسنى-لأجل أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ و دلائل توحيده و معجزات أنبيائه وَ كانُوا بِها في الدنيا يَسْتَهْزِؤُنَ دائما.

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

سوره 30 (الروم): آیه شماره 11 الی 16

ص: 93

ثمّ استدلّ سبحانه على المعاد بقدرته على الخلق الأول بقوله: اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ و يوجده أولا في الدنيا ثُمَّ بعد إماتته يُعِيدُهُ و يوجده ثانيا كما بدأه ثُمَّ بعد الخروج من القبور إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و في محكمة عدله تحضرون، فيجازيكم على حسب أعمالكم.

اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي اَلْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)

ثمّ عيّن سبحانه وقت الرجوع إليه بقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ و تحضر القيامة يُبْلِسُ و يسكن اَلْمُجْرِمُونَ متحيّرين آيسين من الاهتداء إلى الحجّة، أو من شفاعة الأصنام

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ و آلهتهم شُفَعاءُ عند اللّه حتى يدفعوا عنهم العذاب وَ لذا كانُوا في ذلك اليوم بِشُرَكائِهِمْ و أصنامهم كافِرِينَ و لالوهيتها و شفاعتها منكرين.

ثمّ كرّر ذكر قيام الساعة ازديادا للارعاب بقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ التي يجازى فيها الناس يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فرقتين: فرقة منهم المؤمنون، و فرقة منهم الكافرون

فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَهُمْ متمكّنون فِي رَوْضَةٍ عظيمة و جنة واسعة يُحْبَرُونَ و يسرّون سرورا تهلّلت به وجوههم، أو يكرمون كما عن ابن عباس (1)، أو ينعّمون كما عن قتادة، أو يتوّجون كما عن آخر (2).

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ و البعث بعد الموت فَأُولئِكَ الكافرون المكذّبون فِي اَلْعَذابِ مُحْضَرُونَ و في النار مدخلون لا يغيبون عنها أبدا.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 17 الی 19

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان صيرورة الناس في القيامة فرقتين، أمر الناس بتسبيحه و تنزيهه من الظلم و النقائص، و بحمده على كلّ حال بقوله: فَسُبْحانَ اَللّهِ و نزّه في زمان ظهور قدرته و تجدّد نعمته و هو حِينَ تُمْسُونَ و تدخلون في الليل وَ حِينَ تُصْبِحُونَ و تدخلون في النهار

وَ لَهُ خاصة اَلْحَمْدُ على نعمه كلّها، و الثناء الجميل على مننه من الموجودات الملكوتية، فِي اَلسَّماواتِ و عالم الملكوت، و من الموجودات الملكية في السفل وَ اَلْأَرْضِ فاحمدوه أنتم وَ سبّحوه عَشِيًّا و آخر النهار، و إنّما ذكر الحمد في البين للتنبيه على استحباب الجمع بين التسبيح و التحميد

فَسُبْحانَ اَللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

ص: 94


1- . تفسير أبي السعود 7:53، تفسير روح البيان 7:13.
2- . تفسير أبي السعود 7:54، تفسير روح البيان 7:13.

وَ سبّحوه حِينَ تُظْهِرُونَ و تصلون إلى نصف النهار.

و قيل: إنّ عشيا و حين تظهرون وقتان للتحميد؛ لأنّهما وقت ظهور نعمة اللّه، و انتظام أمر المعاش، و أخذ نتائج الأعمال، و الوقتان الأوّلان وقت الحاجة إلى النوم و الانتباه منه، و الحاجة إلى تحصيل المعاش و الإقدام في رفع الحوائج، فيناسبان لتنزيه اللّه عن النقائص الامكانية.

و عن ابن عباس: أنّ المراد من التسبيح الصلوات الخمس اليومية، فالمراد من التسبيح في المساء صلاة المغرب و العشاء، و في الصبح صلاة الفجر، و في العشيّ صلاة العصر، و في الظهر صلاة الظهر (1).

و كما أنّه تعالى يخرج الانسان في المساء من اليقظة إلى النوم، و في الصبح يخرجه من النوم إلى اليقظة يُخْرِجُ الانسان و الحيوان اَلْحَيَّ مِنَ التراب و النّطفة و البيض اَلْمَيِّتِ و قيل: يعني يخرج المؤمن من الكافر، و العالم من الجاهل (2)وَ يُخْرِجُ التراب و النّطفة و البيض اَلْمَيِّتِ أو الكافر و الجاهل مِنَ الانسان و الحيوان اَلْحَيَّ أو من المؤمن و العالم وَ يُحْيِ بالأمطار اَلْأَرْضَ و ينبت فيها أنواع النباتات بَعْدَ مَوْتِها و يبسها و عدم النبات فيها وَ كَذلِكَ الإحياء و الإخراج تحيون بمطر شبه المنيّ و النّطفة و تُخْرَجُونَ من القبور أحياء.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 20 الی 25

ثمّ ذكر سبحانه الدليل المتقن أنّه مخرج الحيّ من الميت بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ اِبْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)و دلائله أَنْ خَلَقَكُمْ يا بني آدم مِنْ تُرابٍ بعيد من الحياة غايته (3)يخلق أبيكم آدم منه ثُمَّ

ص: 95


1- . تفسير أبي السعود 7:55، تفسير روح البيان 7:17.
2- . تفسير روح البيان 7:17.
3- . أي غاية البعد.

إِذا أَنْتُمْ بارادته و قدرته في الحال بَشَرٌ سويّ و إنسان عاقل قويّ تَنْتَشِرُونَ و تتفرّقون في وجه الأرض لتحصيل معاشكم و حوائجكم، كيف يتصوّر في هذا الخالق الذي خلقكم من تراب أن يكون عاجزا من خلقكم ثانيا من تراب

وَ مِنْ آياتِهِ و دلائل قدرته أَنْ خَلَقَ اللّه لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ و من جنسكم، أو من عضو منكم أَزْواجاً و نسوانا لِتَسْكُنُوا و تميلوا إِلَيْها و تستأنسوا بها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ و في قلوب كلّ منكم بالنسبة إلى الآخر مَوَدَّةً و محبّة وَ رَحْمَةً و عطوفة و شفقة. قيل: إنّ المودة كناية عن الجماع، و الرحمة كناية عن الولد (1).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من خلقكم من تراب، و خلق أزواجكم منكم، و إلقاء المودّة و الرحمة بينكم لَآياتٍ و حجج ظاهرة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أدنى التفكّر في أصل وجودها، و الحكم الكامنة فيها.

ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات الأنفسية أستدلّ بالآيات الآفاقية بقوله: وَ مِنْ جملة آياتِهِ و الأدلة الدالة على قدرته على الإعادة خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مع عظمهما و كثرة أجزائهما بلا مادّة و مدّة، لوضوح أنّه أقدر على إعادة ما كان حيا و خلقه ثانيا من المادّة.

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر بعض الآيات الأنفسية بقوله: وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ و لغاتكم من العربية و الفارسية و التركية و الرومية و الهندية وَ اختلاف أَلْوانِكُمْ بالبياض و السواد و الحمرة و الأدمة و الصّفرة على اختلاف مراتبها بحيث قلّما يتّفق توافق شخصين في اللون مع كثرة عددهم.

عن ابن عباس: كان آدم مؤلفا من أنواع تراب الأرض، و لذلك كان بنوه مختلفين منهم الأحمر و الأسود و الأبيض كلّ ظهر على لون ترابه (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الخلق و الاختلاف لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ بالحكم و مصالح الأشياء دون الجهّال المنغمرين في الشهوات.

عن الصادق عليه السّلام قال: «الامام إذا أبصر الرجل عرفه و عرف لونه، و إذا سمع كلامه من خلف حائط عرفه و عرف ما هو، إن اللّه يقول: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ الآية. قال: و هم العلماء فليس يسمع شيئا من الأمر ينطق به إلاّ عرفه ناج أو هالك، فلذا يجيبهم بالذي يجيبهم» (3).

وَ مِنْ آياتِهِ و أدلّة قدرته مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ على حسب العادة وَ اَلنَّهارِ على حسب الحاجة كالقيلولة لاستراحة أبدانكم وَ اِبْتِغاؤُكُمْ و طلبكم الرزق فيهما بالتجارة و غيرها الحاصل لكم مِنْ

ص: 96


1- . تفسير الرازي 25:110، تفسير أبي السعود 7:56، تفسير روح البيان 7:19.
2- . تفسير روح البيان 7:20.
3- . بصائر الدرجات:381/1، الكافي 1:364/3، تفسير الصافي 4:129.

فَضْلِهِ و إحسانه، ليدوم لكم البقاء إلى آجالكم المقدّرة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الأمرين لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ الآيات سماع القبول، و يتدبّرون فيها.

وَ مِنْ آياتِهِ أنّه تعالى يُرِيكُمُ و يظهر لكم اَلْبَرْقَ و الضياء الحاصل من السّحاب ليوجد في قلوبكم خَوْفاً من نزول الصاعقة المهلكة وَ طَمَعاً و رجاء بنزول المطر النافع وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا بطريق الأمطار فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها و يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من البرق و المطر و إحياء الأرض لَآياتٍ نافعة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن اللّه حججه، و يفهمون أدلّة قدرته و حكمته.

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّماءُ مع ثقلها وَ ارتفاعها في مكانها بغير عمد و تستقرّ اَلْأَرْضُ فوق الماء و لا ترسب فيه بِأَمْرِهِ تعالى و إرادته، و تستمرّان على ما هما عليه من الهيئة إلى الأجل المسمّى بمشيئته ثُمَّ بعد وضوح كمال قدرته على كلّ شيء اعلموا أنه تعالى إِذا دَعاكُمْ بعد انقضاء أجل الدنيا دَعْوَةً واحدة، و قال لكم: أيّها الموتى اخرجوا مِنْ القبور التي تكون لكم في اَلْأَرْضُ بالنفخة الثانية في الصور إِذا أَنْتُمْ تحيون ثانيا و بلا ريث تَخْرُجُونَ منها سراعا، و تحشرون إلى العرصة خشّعا.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 26 الی 27

ثمّ لمّا ذكر سبحانه مطاعيته للأموات نبّه على مطاعيته لجميع أهل الملك و الملكوت بقوله: وَ لَهُ بالملكية الاشراقية مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة و الأرواح القدسية وَ من في اَلْأَرْضِ و من الثقلين إيجادا و إعداما و تصرفا و تدبيرا، و لذا كُلٌّ منهم لَهُ تعالى قانِتُونَ و مطيعون طوعا أو كرها، لا يقدرون على التخلّف عن أمره و إرادته.

وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (27)

ثمّ إنّه تعالى لمّا ذكر قبل الاستدلال دعوتي التوحيد و المعاد بقوله: اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ (1)ذكرهما بعد الأدلة المذكورة بعنوان النتيجة بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ في الدنيا، و ينشئهم أولا رجالا و نساءا، ثمّ يميتهم عند انقضاء آجالهم ثُمَّ يُعِيدُهُ و يخلقه ثانيا للحساب و الجزاء في الآخرة، و لا استبعاد في عودهم وَ هُوَ أَهْوَنُ و أسهل و أيسر عَلَيْهِ من بدئهم في نظركم

ص: 97


1- . يونس:10/34.

و بالاضافة إليكم، و إن كانا بالاضافة إليه تعالى سيّان؛ لأنّه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون.

ثمّ بيّن كمال صفاته بقوله: وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى و الصفات العليا التي ليست لشيء من المملكات فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و قيل: إنّ الصفة العليا هو لا إله إلاّ اللّه، أي الوحدانية (1).

و قيل: يعني هذا مثل مضروب لكم، و له المثل الأعلى من هذا المثل و من كل مثل يضرب في السماوات و الأرض (2).

و قيل: إنّ المراد أنّ ذاته ليس كمثله شيء، و له المثل الأعلى (3)وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ و الغالب على مراده من البدء و الإعادة اَلْحَكِيمُ العالم بصلاح الامور الفاعل على وفق الحكمة و الصواب.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 28

ثمّ إنّه تعالى بعد إقامة الحجج على التوحيد و المعاد و تمثيل الإعادة بإعادة الناس فعلهم الأوّل، ضرب مثلا لتوضيح شناعة القول بالشرك بقوله: ضَرَبَ اللّه لَكُمْ مَثَلاً بديعا منتزعا مِنْ أحوال أَنْفُسِكُمْ التي هي أقرب الأشياء منكم و أعرفها لديكم، ليصير بطلان مذهب الشرك كالمحسوس لكم، و هو أنّه افرضوني مع غاية عظمتي و قدرتي مثل أنفسكم مع نهاية حقارتها و عجزها هَلْ تتصوّرون أو ترضون أن يكون لَكُمْ بعضا مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد و الإماء مِنْ شُرَكاءَ فِي ما تملكونه في الظاهر مع أنّه في الواقع نحن رَزَقْناكُمْ إياه و أعطيناكم و جعلناه في قبضتكم و تصرّفكم فَأَنْتُمْ و هم فِيهِ سَواءٌ يتصرّفون فيه كتصرّفكم فيه، بلا فرق بينكم و بينهم، و أنتم تَخافُونَهُمْ في التصرّف فيه بغير إذنهم كَخِيفَتِكُمْ من التصرّف فيه أَنْفُسِكُمْ و الأحرار الذين يكونون مثلكم في المالكية لذلك المال، لا يتصوّر ذلك، و لا ترضون به، فكيف ترضون أن تجعلوا للّه شريكا من مخلوقاته و مملوكاته؟ ! كَذلِكَ التفصيل و البيان الواضح نُفَصِّلُ و نبيّن اَلْآياتِ و الدلائل على توحيدنا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن اللّه حججه، و يفهمون دلائله.

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)قال أبو الليث: نزلت في كفار قريش كانوا يعبدون الآلهة، و يقولون في إحرامهم: لبيك لا شريك

ص: 98


1- . تفسير الرازي 25:117.
2- . تفسير الرازي 25:117.
3- . تفسير الرازي 25:117.

لك إلاّ شريك هو لك، تملكه و ما ملك (1).

و قال القمّي رحمه اللّه: سبب نزولها أنّ قريشا و العرب كانوا إذا حجّوا يلبّون، و كانت تلبيتهم: لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك لك. و هي تلبية إبراهيم و الأنبياء فجاءهم إبليس في صوره شيخ، و قال لهم: ليست هذه تلبية أسلافكم. قالوا: و ما كانت تلبيتهم؟ قال: كانوا يقولون: لبيك اللهمّ لبيك، لا شريك لك إلاّ شريكا هو لك. فتفرّق قريش من هذا القول، فقال لهم إبليس: على رسلكم حتى آتي على آخر كلامي. فقالوا: ما هو؟ فقال: إلاّ شريكا هو لك، تملكه و ما ملك. ألا ترون أنّه يملك الشريك و ما ملكه؟ فرضوا بذلك، فكانوا يلبّون بهذا قريش خاصة، فلمّا بعث اللّه عز و جل رسوله أنكر ذلك عليهم، و قال: هذا شرك، فأنزل اللّه الآية (2).

سوره 30 (الروم): آیه شماره 29 الی 32

ثمّ أعرض سبحانه عن مخاطبتهم، و بيّن استحالة تبعيتهم للحقّ بقوله: بَلِ اِتَّبَعَ المشركون اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم أَهْواءَهُمْ و شهوات أنفسهم بِغَيْرِ دليل يكون سبب عِلْمٍ فضلّوا عن طريق الحقّ فَمَنْ يَهْدِي إلى الحقّ مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ عنه لسوء اختياره وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونهم في الدنيا من الضلالة، و في الآخرة من النار.

بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

ثمّ لمّا لم يهتد المشركون، و أصرّوا على الشرك، أمر نبيه بالإعراض عنهم و عدم الاعتناء بهم بقوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ و وجّه قلبك يا محمد و اصرف شراشر وجودك لِلدِّينِ القيّم الذي أنت عليه حال كونك حَنِيفاً و مائلا إليه عن سائر الأديان. و يحتمل أن يكون حالا للدين، فانّه يكون فِطْرَتَ اَللّهِ و خلقته اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ و خلقهم عَلَيْها أو المراد الزموا فطرة اللّه، فانّ هذا الدين ما يحكم به العقل الفطري، و أخذ اللّه عليه العهد في الذّر، و أرتكز في القلوب [فلا يحيد]

الانسان عنه إلاّ بالصوارف الخارجية، و لو خلوا و أنفسهم و عقولهم ما اختاروا عليها غيره لا تَبْدِيلَ و لا تغيير لِخَلْقِ اَللّهِ فانّه غير ممكن.

ص: 99


1- . تفسير روح البيان 7:28.
2- . تفسير القمي 2:154، تفسير الصافي 4:131.

ذلِكَ الدين الذي امرتم باقامة وجوهكم له هو اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ السويّ الذي لا عوج له وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فتنحرفون عنه،

فوجّهوا له حال كونكم مُنِيبِينَ و راجعين إِلَيْهِ تعالى في جميع مدة عمركم بحوائجكم، و مقبلين عليه بطاعتكم وَ اِتَّقُوهُ في مخالفته وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ التي هي أهمّ الفرائض وَ لا تَكُونُوا بتركها مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ الذين لا يسجدون لربّهم بعد الايمان بالتوحيد، أو من المشركين لغيره في عبادته جليا أو خفيا،

أعني مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ و اختلفوا فيما يعبدون على اختلاف أهوائهم وَ كانُوا في عبادة غير اللّه شِيَعاً و أحزابا، كلّ يشايع و يتابع إمامه الذي هو الأصل و المؤسس لدينه، و الكل متّفقون على الضلال و كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ و بما اختاره من الدين فَرِحُونَ و مسرورون لاعتقادهم أنّه الحقّ و ما سواه هو الباطل.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 33 الی 35

ثمّ بيّن سبحانه أن فطرة المشركين أيضا على التوحيد، و أنّهم منيبين إلى اللّه عند الشدائد بقوله: وَ إِذا مَسَّ اَلنّاسَ و أصابهم ضُرٌّ كالفقر و القحط و المرض و غيرها من الشدائد دَعَوْا رَبَّهُمْ لرفعه و كشفه حال كونهم مُنِيبِينَ. و راجعين إِلَيْهِ تعالى عن غيره، لعلمهم بعدم قدرة غيره على كشفه و ثُمَّ إِذا استجاب دعاءهم و كشف عنهم ضرّهم و أَذاقَهُمْ مِنْهُ و من فضله رَحْمَةً و نعمة من صحة و عافية و خلاص و سعة و غيرها إِذا فَرِيقٌ و في الحين جمع مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ اللطيف بهم المانّ عليهم بنعمه يُشْرِكُونَ كأننا أتيناهم تلك النعمة

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ و يضيّعوا حقّه بعبادة غيرنا.

وَ إِذا مَسَّ اَلنّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)ثمّ التفت من الغيبة إلى الخطاب (1)تهديدا لهم بقوله: فَتَمَتَّعُوا أيها الكافرون و انتفعوا بكفركم، و بالنعم التي أعطيناكم في الدنيا الفانية و المدة القليلة فَسَوْفَ و عن قريب تَعْلَمُونَ و خامة عاقبة كفركم و تمتّعكم في الآخرة، و هي العذاب و النّكال.

ثمّ لامهم سبحانه على التزامهم بعبادة الأصنام بلا حجّة و برهان بقوله: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ كتابا أو نبيا أو ملكا ليكون قوله سُلْطاناً و حجّة لهم فَهُوَ يَتَكَلَّمُ و يخبر بأمرنا إيّاهم بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ قيل: يعني باشراكهم أو بعبادة ما كانوا به يشركون (2).

ص: 100


1- . زاد في النسخة: بهم.
2- . تفسير أبي السعود 7:61.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ لمّا كان من لطفه على العباد أن يختبرهم بالنّعم و البلايا لينيبوا إليه في أحد الحالين، لام المشركين على أنّ الحالين لا يزيدهم إلاّ كفرا بقوله: وَ إِذا أَذَقْنَا اَلنّاسَ و أنعمنا عليهم رَحْمَةً و نعمة فَرِحُوا بِها أشرا و بطرا، و زادهم طغيانا و كفرا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ و شدّة من ضيق و بلاء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و بشؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ و ييأسون و يجزعون و يفزعون، فلا عند النّعمة إلى اللّه يرجعون و يشكرون و لا عند البلاء إليه ينيبون و يرجعون و يسألون

أَ وَ لَمْ يَرَوْا و لم يعلموا أنّ الشدة و الرخاء كلاهما من اللّه حيث يرون أَنَّ اَللّهَ يَبْسُطُ و يوسّع اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وسعة رزقه لعلمه بصلاحه فيها وَ يَقْدِرُ و يضيّق الرزق لمن يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من القبض و البسط لَآياتٍ نافعة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانّهم يستدلّون بها على كمال قدرة اللّه و حكمته.

وَ إِذا أَذَقْنَا اَلنّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)قيل لبعض العلماء: ما الدليل على وحدة صانع العالم؟ قال: ثلاثة أشياء ذل اللبيب، و فقر الأديب، و سقم الطبيب (1).

سوره 30 (الروم): آیه شماره 38

ثمّ خاطب سبحانه من بسط له الرزق، و أمره بانفاق ما زاد عن كفافه لمن قدر عليه رزقه بقوله: فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى و صاحب النسب إليك إذا احتاج في نفقته و ما يعيش به حَقَّهُ من مالك صدقة أو صلة و إعانة مقدّما له على غيره وَ آت اَلْمِسْكِينَ و الفقير وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ حقّهما من مالك صدقة و إعانة.

فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (38)قيل: إنّ المخاطب هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد بذي القربى قرابته (2).

عن أبي سعيد الخدري: لمّا نزلت الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى فاطمة عليها السّلام فدكا و سلّمه إليها (3).

و قيل: إن الخطاب لعموم (4)الأمة، و المراد بذي القربى فقراء ذريّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المراد بالحقّ الخمس، كما عن مجاهد و السدّي (5).

ص: 101


1- . تفسير روح البيان 7:39.
2- . مجمع البيان 8:478.
3- . مجمع البيان 8:478، تفسير الصافي 4:133.
4- . في النسخة: بعموم.
5- . مجمع البيان 8:478.

ثمّ حثّهم في ذلك بقوله: ذلِكَ الايتاء و العطاء من المال خَيْرٌ في نفسه، أو من الامساك، و لكن لا لكلّ الناس، و إن كانوا مشركين أو مرائين، بل لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ بإعطائهم وَجْهَ اَللّهِ و يطلبون به رضاه و القرب إليه، فانّ ذلك المال يبقى و يدوم نفعه إلى الأبد وَ أُولئِكَ المنفقون لوجه اللّه هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ و الفائزون.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 39 الی 40

ثمّ لمّا ذكر سبحانه فائدة إنفاق المال لوجه اللّه، ذكر عدم الفائدة الاخروية في بذله للاغراض الدنيوية بقوله: وَ ما آتَيْتُمْ و أعطيتم شيئا مِنْ رِباً و زيادة من هدية وهبة، لا لوجه اللّه، بل لِيَرْبُوَا و يزيد فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ حتى يعطوكم أكثر و أفضل منه، فهذا المال و إن صار سببا لزيادة أموالكم في الدنيا، و لكن لما لم يكن بذله لوجه اللّه فَلا يَرْبُوا و لا يزيد عِنْدَ اَللّهِ و لا يبارك له فيه، و لا يثاب عليه.

وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ (39) اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (40)عن الصادق عليه السّلام قال: «الربا رباءان: ربا يؤكل، و ربا لا يؤكل، فأمّا الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها، فذلك الربا الذي يؤكل، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ و أمّا الذي لا يؤكل فهو الذي نهى اللّه عنه [و أوعد عليه النار]» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هو أن يعطي الرجل العطية، أو يهدي الهدية ليثاب أكثر منها، فليس فيه أجر و لا وزر» (2).

و قيل: إنّ المراد به إعطاء الزيادة في المعاملة أو القرض (3). وَ ما آتَيْتُمْ شيئا مِنْ زَكاةٍ مشروعة في الأموال الزكوية أو صدقة تُرِيدُونَ به وَجْهَ اَللّهِ و تطلبون رضاه و التقرّب إليه، فانّه يزيد عند اللّه.

عن الصادق عليه السّلام قال: «مكتوب على باب الجنة: القرض بثمانية عشر، و الصدقة بعشر» (4).

ثمّ لتعميم الحكم لجميع الامّة إلى يوم القيامة، التفت من الخطاب إلى الغيبة بقوله: فَأُولئِكَ

ص: 102


1- . الكافي 5:145/6، التهذيب 7:17/73، تفسير الصافي 4:134.
2- . مجمع البيان 8:479، تفسير الصافي 4:134.
3- . تفسير الصافي 4:134، تفسير روح البيان 7:41.
4- . تفسير القمي 2:159، تفسير الصافي 4:134.

المزكّون هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ و ذوو الأضعاف من الثواب في الأجل و المال في العاجل.

ثمّ أكّد ما أدّعاه سبحانه من التوحيد و نفي الشريك له بقوله: اَللّهُ هو القادر اَلَّذِي خَلَقَكُمْ في الدنيا و لم تكونوا شيئا مذكورا ثُمَّ رَزَقَكُمْ بجوده ما تعيشون به و تبقون إلى منتهى آجالكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بقدرته ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في الآخرة ليجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ، فهذه الأعمال من شؤون الالوهية فانظروا هَلْ أحد مِنْ شُرَكائِكُمْ و آلهتكم مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء مِنْ شَيْءٍ؟ لا يفعلون شيئا منها أبدا إذن سُبْحانَهُ و ننزّهه تنزيها بليغا وَ تَعالى تعاليا كبيرا (عن) شرك ما يُشْرِكُونَ به أو عن إشراكهم.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 41 الی 43

ثمّ نبّه سبحانه على ضرر شرك بني آدم على كافة الموجودات بقوله: ظَهَرَ اَلْفَسادُ من القحط و الغلاء، و الطاعون و الوباء، و موت الفجاءة، و كساد التجارات، و الرفع في الزراعات، و القتل و الغارات، و الزلازل و الحريق و الفتن فِي اَلْبَرِّ من البلدان و القرى و الجبال و الأودية وَ في اَلْبَحْرِ من الأمواج و الغرق و كسر السفن و موت الدوابّ و غيرها.

ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)قيل: البحر يطلق على البلدان (1). و قيل: هو البلاد التي في السواحل (2).

بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ من الشّرك و الظّلم و العصيان، و إنّما كان ذلك لِيُذِيقَهُمْ و نطعمهم بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا من المعاصي و قليلا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الشرك إلى التوحيد، و يتوبون من سيئاتهم.

في الأخبار أنّ ظهور الفواحش سبب لفشّو الطاعون و الأوجاع، و نقص المكيال و الميزان سبب للقحط و شدّة المؤنة، و جور السلطان و منع الزكاة سبب لانقطاع المطر، و نقض عهد اللّه و رسوله سبب لتسلّط العدو، و جور الحكام في الحكم سبب لوقوع القتال، و أكل الربا سبب للزّلزلة (3).

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: قُلْ يا محمد للمشركين سِيرُوا و سافروا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا

ص: 103


1- . تفسير الرازي 25:127.
2- . مجمع البيان 8:480، تفسير أبي السعود 7:62.
3- . تفسير روح البيان 7:46.

بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ و إلى ما صار مآل كفرانهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فإذا كان الأمر كذلك

فَأَقِمْ يا محمد وَجْهَكَ و أقبل بقلبك الشريف لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ البليغ في الاستقامة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يوم القيامة، و هو يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ و لا مانع عن إتيانه مِنَ اَللّهِ.

و قيل: إنّ الظرف متعلّق بفعل يأتي، و المعنى أنّ اليوم يأتي من اللّه، و لا يمكن لأحد أن يمنع من إتيانه (1). فالخلق يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ و يتفرّقون فريق في الجنة و فريق في السعير.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 44 الی 45

ثمّ بيّن سبحانه الفرقتين بقوله: مَنْ كَفَرَ باللّه و رسله و اليوم الآخر فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ و ضرر ترك إيمانه من العقوبة و النّكال لا على غيره وَ مَنْ آمن و عَمِلَ عملا صالِحاً مرضيا عند اللّه، و يجوز أن يكون المراد هنا من العمل الصالح الايمان، فانّه عمل القلب و اللسان فَلِأَنْفُسِهِمْ وحدها منزل الراحة الأبدية يَمْهَدُونَ و يهيّئون، أو يفرشون حتى يستريحون فيه إلى الأبد، و قيل: يعني لأنفسهم يشفقون (2).

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ (45)و عن الصادق عليه السّلام قال: «إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة، فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمة فراشه» (3).

و إنّما كان تفرّقهم بتفريق اللّه تعالى فرقتين لِيَجْزِيَ اللّه اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ الجنة و النّعم العظيمة الأبدية مِنْ فَضْلِهِ وجوده، لا من عدله، و إنّما قدّم ذكر جزاء المؤمنين إشعارا بسبق رحمته غضبه، و بأنّه المقصود الأول.

ثمّ كنّى سبحانه من عذاب المشركين بقوله: إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ فانّ لازم عدم حبّه لهم بغضه إياهم، و لازمه العذاب الشديد الدائم، و فيه إشارة إلى أنّه يحبّ المؤمنين، و هو أفضل الجزاء، كما أنّ عدم حبّه أشدّ العذاب عند العارفين.

روي أنّ اللّه تعالى قال لموسى عليه السّلام: «ما خلقت النار بخلا مّني، و لكن أكره أن أجمع أعدائي و أوليائي في دار واحدة» (4).

سوره 30 (الروم): آیه شماره 46

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

ص: 104


1- . تفسير أبي السعود 7:63، تفسير روح البيان 7:47.
2- . جوامع الجامع:360.
3- . مجمع البيان 8:481، تفسير الصافي 4:135.
4- . تفسير روح البيان 7:48.

ثمّ إنّه لمّا ذكر سبحانه أنّ الشّرك سبب لظهور الفساد في العالم، نبّه على أنّ التوحيد سبب لصلاحه بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ و علائم توحيده و قدرته و حكمته أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّياحَ الشّمال و الجنوب و الصّبا، فانّها رياح الرحمة، لأنّها من روح اللّه، حال كونها أو لتكون مُبَشِّراتٍ للخلق بالمطر، و لطافة الهواء، و صحّة الأبدان، و وفور النّعم وَ لِيُذِيقَكُمْ و يطعمكم طعم السّعة و السلامة و الراحة الكائنة مِنْ رَحْمَتِهِ و إحسانه، فإنّه لو لم تهبّ الرياح لظهر الوباء و الفساد.

و هذا في مقابل قوله: ظَهَرَ اَلْفَسادُ . . . لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا (1)و لمّا كان المشركون بعيدين عنه تعالى، كنّى عنهم بضمير الغائب، و كان المؤمنون قريبين منه أتى بضمير الخطاب، و إنّما علّل ما أصابهم من الشرّ ببعض أعمالهم، و أسند ما أصابهم من الخير إلى رحمته تقريرا لقوله: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (2).

وَ لِتَجْرِيَ و تسير اَلْفُلْكُ في البحر بسوق الرياح الهابّة (3)بِأَمْرِهِ و تعالى لوضوح أنّ الريح لا تتحرّك بنفسها، بل لها (4)محرك، إلى أن ينتهي إلى محرّك لا محرّك له و لا يتحرّك، و هو اللّه الموجد لكلّ شيء، و من حركة الرياح وَ لِتَبْتَغُوا و تطلبوا بركوبها و حمل الأمتعة فيها للتجارة ربحا و فائدة كثيرة مِنْ فَضْلِهِ تعالى وجوده لا من كسبكم، و لمّا كان توفيق الشكر من نعمه عطفه على النّعم بقوله: وَ لَعَلَّكُمْ بتوفيقه تعالى تَشْكُرُونَ نعمه و أفضاله.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 47

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و المعاد، ذكر أمر الرسالة، و أظهر المنّة بارسال الرسل، و فيه تحذير من أخل بالشّكر بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ و في أعصار قبل عصرك رُسُلاً كثيرة عظيمة الشأن إِلى قَوْمِهِمْ لهدايتهم إلى توحيدنا و معرفتنا و شكر نعمتنا فَجاؤُهُمْ مستدلين على صدقهم في دعوى الرسالة من اللّه بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات كالعصا و إحياء الموتى، فكفر كلّ قوم بنعمة إرسال رسولهم و كذّبوه و عارضوه و استهزءوا به فَانْتَقَمْنا بإنزال العذاب مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا و كذّبوا رسولهم، و أصروا على شركهم و كفرهم، و تكذيب رسلهم، و حفظنا المؤمنين من شرّهم و ضرّهم و العذاب النازل عليهم، و نصرناهم على أعدائهم وَ كانَ حَقًّا واجبا

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (47)

ص: 105


1- . الروم:30/41.
2- . النساء:4/79.
3- . في النسخة: المهبة.
4- . في النسخة: بنفسه، بل له.

عَلَيْنا بمقتضى حكمتنا و رحمتنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ في الدنيا بحفظ إيمانهم، و دفع شرّ أعدائهم، و إنجاءهم ممّا أصاب الكافرين، و في الآخرة بإنجائهم من أهوال يوم القيامة، و خلاصهم من النار، و إدخالهم الجنة، و إنعامهم بالنّعم الدائمة و الراحة الأبدية، و فيه إشعار بأنّ الانتقام لهم و إظهار لكرامتهم، حيث جعلهم مستحقّين على اللّه أن ينصرهم.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ما من أمرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على اللّه أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة (1). ثمّ قرأ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ» .

و عن الصادق عليه السّلام قال: «حسب المؤمن نصرة أن يرى عدّوه يعمل بمعاصي اللّه» (2).

و في الآية تبشير للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالظّفر في العاقبة على أعدائه، و النصر على من كذّبه، و تسلية لقلبه الشريف حيث لم يؤمنوا به فقال: حالك كحال من تقدّمك من الأنبياء العظام، فانّهم مع معجزاتهم الباهرات كذّبوا و صبروا حتى نصرهم اللّه على تكذيبهم.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 48 الی 49

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إرساله الرسل في السابقين، و تسلية نبيه بذكر حالهم و ظفرهم على أعدائهم، عاد إلى الاستدلال على توحيده الذي هو أهمّ المقاصد بذكر كيفية بشارة الرياح بالمطر بقوله: اَللّهُ هو القادر بالذات اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّياحَ المبشّرات برحمته من الشّمال و الجنوب و الصّبا فَتُثِيرُ و تنتشر بهبوبها سَحاباً واحدا أو أكثر بارادة اللّه و أمره فَيَبْسُطُهُ و يجعل بعضه متّصلا ببعض تارة، كي يصير قطعة واحدة فِي سمت اَلسَّماءِ وجهة العلوّ كَيْفَ يَشاءُ اللّه تعالى سائرا و واقفا، مطبقا مسيرة يوم أو يومين أو أقلّ أو أكثر، أو غير مطبق من جانب دون جانب وَ يَجْعَلُهُ تارة اخرى كِسَفاً و قطعا كلّ قطعة في طرف، أو يجعل بعضه فوق بعض، كما عن القمي (3)فَتَرَى يا محمدّ، أو أيّها الرائي اَلْوَدْقَ و المطر يَخْرُجُ بأمر اللّه مِنْ خِلالِهِ و فرجه و شقوقه في التارتين واپلا أو هطلا أو رذاذا.

اَللّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)عن وهب: أنّ الأرض شكت إلى اللّه عزّ و جلّ أيام الطّوفان، فقالت: يا ربّ، إن الماء خدّدني

ص: 106


1- . مجمع البيان 8:484، تفسير الصافي 4:136، تفسير روح البيان 7:50.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:284/847 و:293/884، تفسير الصافي 4:136.
3- . تفسير القمي 2:160، تفسير الصافي 4:136.

و خدّشني، لأنّ الماء خرج بغير وزن و لا كيل غضبا للّه تعالى فخدّش الأرض و خدّدها، فقال اللّه تعالى: إنّي سأجعل للماء غربالا لا يخدّدك و لا يخدّشك، فجعل السّحاب غربال المطر (1).

فَإِذا أَصابَ اللّه بِهِ و أنزله على أراضي و مزارع مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أو بلادهم إِذا هُمْ بمجيء الخصب و الأمن من القحط يَسْتَبْشِرُونَ و يفرحون وَ إِنْ الشأن أن الذين أصابهم المطر كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ المطر عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ و إنّما كرّر كلمة مِنْ قَبْلِ تأكيدا و دلالة على تطاول عهدهم به لَمُبْلِسِينَ و آيسين من نزوله.

و قيل: إنّ ضمير (من قبله) راجع إلى إرسال الرياح (2)، لأنّ الخبير بعد الريح و بسط السّحاب يعرف أن فيه المطر.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 50 الی 53

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد بالتفصيل المذكور، أمر الناس بالاعتبار بآثار المطر و إحياء الأرض بقوله: فَانْظُرْ أيّها الناظر بنظر الاعتبار إِلى آثارِ المطر الذي هو من رَحْمَةِ اَللّهِ من النبات و الأزهار و الأشجار و الثّمار، و تفكّر في أنّه تعالى كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بتلك الآثار بَعْدَ مَوْتِها و يبسها و عدم ظهور فائدة فيها، و تنبّه على عظم شأنه و كمال قدرته و اعلم إِنَّ ذلِكَ الربّ العظيم المحيي للأرض الميتة لَمُحْيِ اَلْمَوْتى البتة بعد صيرورتهم ترابا في الآخرة للحساب و جزاء الأعمال وَ هُوَ تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من إحياء الموتى و غيره ممّا يمكن أن يوجد قَدِيرٌ لا يتصوّر فيه العجز، فانّ نسبة قدرته إلى جميع الممكنات سواء.

فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اَللّهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَ ما أَنْتَ بِهادِ اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

ثمّ ذمّ سبحانه الكفّار بقوله: وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً مضرّة حارة أو باردة، فافسدت زرع الكفار فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا من أثر الريح بعد كونه مخضرّا، فيأسوا من نفعه لَظَلُّوا و صاروا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جميع نعم اللّه عليهم، و لم يلتجئوا إليه بالاستغفار، بخلاف المؤمن الشاكر الصابر، فانّه يحمد اللّه على كلّ حال، و لا يحزنون على ما فاتهم من المنافع، و لا يفرحون بما آتاهم اللّه، و إنّما يكون فرحهم بطاعة اللّه، و حزنهم على معصيته، فاولئك الكفّار كالموتى لسلب المشاعر عنهم، فلا

ص: 107


1- . تفسير روح البيان 7:51.
2- . تفسير الرازي 25:133.

تطمع يا محمد في قبولهم دعوتك و إيمانهم بك

فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ دعوتك و مواعظك اَلْمَوْتى لعدم قابليتهم للاستماع، و هم كالصّم الذين لا يسمعون وَ لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعاءَ و النداء خصوصا إِذا وَلَّوْا و أعرضوا عنك حال كونهم مُدْبِرِينَ و جاعلين ظهورهم نحوك، فانّهم إذن لا يرون إشاراتك و حركات شفتيك حتى يفهموا بفراستهم أنّك تكلّمهم و تخاطبهم و هم لفقدهم البصيرة كالعمي

وَ ما أَنْتَ بِهادِي اَلْعُمْيِ و مدلّهم إلى الطريق بلسانك، و صارفهم عَنْ ضَلالَتِهِمْ و سلوكهم في غير الطريق إِنْ تُسْمِعُ دعوتك إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ و يصدّق بِآياتِنا القرآنية، و يتدبّر فيها، و يتلقّاها بالقبول.

و يجوز أن يكون المراد بالمؤمن المشارف للايمان و المقبل على الآيات بقلبه فَهُمْ مُسْلِمُونَ و منقادين لإجابة دعوتك و إطاعة أوامرك.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 54 الی 57

ثمّ بالغ سبحانه في الاستدلال على توحيده و قدرته بقوله: اَللّهُ تعالى هو القادر اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ مبدأ ضعيف يصحّ أن يقال من غاية ضعفه أنّه عين ضَعْفٍ كالتّراب و النطفة، ثمّ ربّاكم في الأرحام ثُمَّ جَعَلَ لكم مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ كان فيكم و أنتم أجنّة قُوَّةً على الحركة، و أمتصاص الضّرع و شرب اللّبن منه، و دفع الأذى عنكم بالبكاء، ثمّ ربّاكم حتى بلغتم سنّ الشباب و أكمل قواكم ثُمَّ جَعَلَ لكم مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ كانت لكم في الشباب ضَعْفاً آخر حين الشيخوخة و الكبر وَ شَيْبَةً و هرما و من المعلوم أنّ هذه الأطوار و الأحوال للخلق لا تكون بالطبيعة بل اللّه يَخْلُقُ ما يَشاءُ من الضّعف و القوّة و الشباب و الشيب و الهرم وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ بأحوال خلقه اَلْقَدِيرُ على نقله من حال إلى حال.

اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ (54) وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اَللّهِ إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

ثمّ إنّه بعد ذكر أحوال خلقه في الدنيا و أطوارهم، ذكر بعض أحوال الكفّار في الآخرة بقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ و تجيء وقت جزاء الأعمال، يسأل الكفّار عن مدّة لبثهم في الدنيا، فحينئذ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ

ص: 108

و العاصون المنكرون للحشر باللّه على أنّهم ما لَبِثُوا و ما مكثوا فيها غَيْرَ ساعَةٍ و مدّة في غاية القلّة.

و قيل: إنّ المراد مدّة لبثهم في القبور، أو بعد فناء الدنيا إلى النشور (1). و على كلّ تقدير كان جوابهم إفكا و كذبا و كَذلِكَ الإفك و الكذب كانُوا في الدنيا يُؤْفَكُونَ و يصرفون من الحقّ إلى الباطل،

و من الصدق إلى الكذب وَ قالَ الملائكة أو الأنبياء و المؤمنون اَلَّذِينَ أُوتُوا من قبل اللّه اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمانَ ردّا عليهم و إنكارا لكذبهم: و اللّه لَقَدْ كذبتم بل لَبِثْتُمْ في المدة التي كانت مكتوبة فِي كِتابِ اَللّهِ و اللّوح المحفوظ، و هي المدّة المديدة إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ لا الساعة الحقيقية فَهذا اليوم يَوْمِ اَلْبَعْثِ الذي وعدكم به الأنبياء وَ لكِنَّكُمْ لفرط جهلكم و تفريط النّظر كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنّه الوعد الحقّ،

و تستعجلون به استهزاء فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بإنكار التوحيد و المعاد مَعْذِرَتُهُمْ و كلمات تمحى بها ذنوبهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و يؤمرون بما يرضون به ربّهم و به يمحون ذنوبهم من التوبة و الطاعة، لعدم قبولها منهم، كما يؤمرون به في الدنيا و يقبل منهم فيها.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 58 الی 60

ثمّ بيّن سبحانه قطع عذرهم في الدنيا بقوله: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا و و اللّه قد بيّنا لِلنّاسِ عموما فِي هذَا اَلْقُرْآنِ الكريم بأوضح بيان مِنْ كُلِّ ما يحتاجون إليه من العقائد الصحيحة و الأحكام الحقّة و الأدب و الحكم بحيث يكون في الغرابة مَثَلٍ فلا يبقى لهم العذر في ترك أخذها و عدم العمل بها من قبلنا، و أمّا من قبلك في رسالتك فقد أتيت لهم ما يثبت به برسالتك وَ و اللّه لَئِنْ جِئْتَهُمْ و أتيت لهم بِآيَةٍ من القرآن الذي هو أعظم المعجزات لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على العناد لك و للمؤمنين بك إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ و كاذبون فيما تدّعون

كَذلِكَ الطّبع الفضيع و الختم الشنيع يَطْبَعُ اَللّهُ و يختم عَلى قُلُوبِ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ سوء عاقبة العقائد الفاسدة، و لا يدركون الحقّ و دلائله، فيصرّون على خرافات اعتقدوها و ترّهات ابتدعوها.

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اَللّهُ عَلى قُلُوبِ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

فَاصْبِرْ يا محمدّ على أذاهم إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بنصرك عليهم و تعذيبهم حَقٌّ لا خلف فيه وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ و لا يغيضك، أو لا يحملنّك على القلق و الخفّة جزعا القوم اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ

ص: 109


1- . تفسير الرازي 25:136.

بصدقك و بالآيات التي ننزّلها عليك، فتكفّ عن الدعوة و تتهاون في القيام بوظيفة النبوة، فانّهم شاكّون ظالّون و لا يستبعد منهم التكذيب و الإيذاء.

الحمد للّه على نعمه العظام التي منها إتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 110

في تفسير سورة لقمان

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لمّا ختمت سورة الروم ببيان عظمة القرآن و إعجازه بقوله: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا إلى آخره، و تكذيب الكفّار له، و أمره تعالى نبيّه بالصبر على تكذيبهم و استهزائهم به، اردفت بسورة لقمان المبدوءة بذكر عظمة القرآن و كونه هدى و رحمة، و إعراض المشركين عنه و تكذيبهم إياه، و ذكر وصايا لقمان الحكيم و أمره بالصبر، فابتدأها بذكر أسمائه المباركة بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الم (1) تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْحَكِيمِ (2) هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (5)

ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله: الم جلبا لتوجّه الناس إلى ما بعدها من ذكر عظمه القرآن و إعجازه بقوله:

تِلْكَ السورة و الآيات آياتُ اَلْكِتابِ اَلْحَكِيمِ و القرآن المتضمّن للعلوم الكثيرة و الحكم الوفيرة، أو المحكم المصون من التغيير و التبديل، و المحروس من الفساد و البطلان،

حال كون الآيات هُدىً و رشادا من الضلالة وَ رَحْمَةً و سببا للارتقاء بالمراتب العالية من الكمالات الانسانية، و الدرجات الرفيعة من الجنة لِلْمُحْسِنِينَ إلى أنفسهم باختيار العقائد الصحيحة،

و ارتكاب الأعمال الصالحة، و هم اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ التي هي عمود دينهم وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ التي هو ركن الاسلام وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و دار جزاء الأعمال هُمْ يُوقِنُونَ و لا يشكّون فيها

أُولئِكَ المحسنون المتّصفون بالصفات الجليلة مستولون عَلى هُدىً و رشاد حاصل مِنْ رَبِّهِمْ اللطيف بهم و طريق بيّنه اللّه لهم و وفّقهم لسلوكه.

ثمّ وعدهم بأفضل الجزاء بقوله: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ و الفائزون بأعلى المقاصد، و الناجون من جميع المهالك و المكارة، لاستجماعهم العقيدة الحقة و الأعمال الصالحة.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 6 الی 7

ص: 111

ثمّ شرع في ذمّ المشركين الصادّين عن سبيل اللّه بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ و بعضهم مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ و يترك استماع القرآن و قراءته اللتين (1)فيهما كلّ خير، و يستبدلهما باستماع ما لا خير فيه من الكلام كأساطير الأولين و قصص رستم و إسفنديار.

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (2) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)قيل: نزلت في النّضر بن الحارث بن كلدة الذي قتله النبي صلّى اللّه عليه و آله صبرا بعد وقعة بدر (4).

روي أنّه ذهب إلى فارس للتجارة، فاشترى كتاب (كليلة و دمنة) و (أخبار رستم و إسفنديار) و (أحاديث الأكاسرة) فجعل يحدّث بها قريشا في أنديتهم و يقول: إنّ محمّدا يحدّثكم بعاد و ثمود، و أنا أحدّثكم بحديث رستم و إسفنديار، فيستملحون حديثه، و يتركون استماع القرآن (5)، و كان عمله ذلك لِيُضِلَّ الناس و يصرفهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و الدخول في دينه الحقّ، و يمنعهم بتلك الخرافات عن قراءة كتابه الهادي إلى المصالح الدنيوية و الاخروية بِغَيْرِ عِلْمٍ بضرر ما يشتريه و بالمعاملة الرابحة، و مع ذلك يسخر بسبيل اللّه وَ يَتَّخِذَها هُزُواً.

و عن الصادق عليه السّلام في تفسير لهو الحديث قال: «هو الطعن في الحقّ، و الاستهزاء به، و ما كان أبو جهل و أصحابه يجيئون به» إلى أن قال: «و منه الغناء» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «الغناء ممّا أوعد اللّه عليه النار» و تلا هذه الآية (7).

و عنه أنّه سئل عن كسب المغنّيات فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و هو قول اللّه عز و جل: وَ مِنَ اَلنّاسِ الآية» (6)و عليه جمع المفسرين، كابن عباس و ابن مسعود و غيرهما (7).

و عن مجاهد: أنّ الآية نزلت في الذين يشترون المغنيات و يصرفون الناس عن استماع القرآن بألحانهنّ (8).

و عن الزمخشري: أنّ بعض قريش يشترون المغنيات، فاذا أطّلعوا أن أحدا أراد قبول الاسلام طلبوه و أطعموه الطعام، و سقوه الشراب، و أمروا المغنيات يغنّين له، ثم قالوا: هذا خير ممّا يدعوك إليه محمد من الصلاة و الصيام و القتال بين يديه (9).

ص: 112


1- . في النسخة: التي.
2- . الكافي 5:119/1، تفسير الصافي 4:140.
3- . مجمع البيان 8:490.
4- . تفسير روح البيان 7:65.
5- . تفسير روح البيان 7:65.
6- . مجمع البيان 8:490، تفسير الصافي 4:140.
7- . الكافي 6:431/4، تفسير الصافي 4:140.
8- . الدر المنثور 6:507.
9- . الكشاف 3:490.

أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مذلّ لاهانتهم بالقرآن و بدين اللّه

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا القرآنية وَلّى و أعرض عنه حال كونه مُسْتَكْبِراً و مبالغا في الترفّع عن استماعها و عن إطاعة أحكامها و الايمان بها، و من المعلوم أنّه لا يتصوّر التولّي عنه ممّن سمعها لما فيها من الفصاحة و البلاغة و حسن الاسلوب و طلاقة البيان بحيث عجز الإنس و الجنّ من الاتيان بمثله، و هذه الامور موجبات الاقبال عليها و الخضوع لها، فالمتولى عنها (1)يكون كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها و لم يكن عدم سماعه لها من باب الاتفاق مع كثرة تلاوتها عنده، بل كَأَنْ حبّ الجاه و الحسد و الأخلاق الرذيلة أحدث فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً و ثقلا مانعا من سماعها، و لو تليت عليه ألف مرّة، فكأنّه مشتاق إلى الكفر و ما يترتّب عليه من العذاب فَبَشِّرْهُ يا محمد بِعَذابٍ أَلِيمٍ يبتلى به في الآخرة، كما يبشّر بما يحبّه من شهوات الدنيا.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 8 الی 11

ثمّ أنّه تعالى بعد ما هدّد الكفّار بعاقبة كفرهم و استكبارهم عن سماع الآيات القرآنية، بشّر المؤمنين بحسن مآل إيمانهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية اللّه و رسالة رسوله و الدار الآخرة وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ المرضيات عند ربّه لَهُمْ بالاستحقاق في الآخرة جَنّاتُ فيها اَلنَّعِيمِ الدائم-قيل: يعني نعيم جنّات فعكس (2). و قيل: جنّات النعيم إحدى الجنّات الثمان، كما عن ابن عباس (3)-حال كونهم

خالِدِينَ و مقيمين فِيها يكون هذا الوعد وَعْدَ اَللّهِ و قيل: يعني وعد اللّه وعدا، و حقّ ذلك الوعد (4)حَقًّا لا يمكن الخلف له، لأنّه تعالى هو الغنيّ بالذات، و لا يكذب أحد إلاّ للحاجة وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء، فلا يقدر أحد على أن يمنعه من إنجاز وعده و اَلْحَكِيمُ الذي لا يصدر منه إلاّ ما هو مقتضى الحكمة و الصلاح.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ جَنّاتُ اَلنَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اَللّهِ حَقًّا وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (9) خَلَقَ اَلسَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اَللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بأشدّ العذاب، و وعد المؤمنين بأعظم الثواب، و وصف ذاته المقدّسة

ص: 113


1- . في النسخة: عنه.
2- . تفسير أبي السعود 7:70.
3- . تفسير روح البيان 7:66.
4- . تفسير روح البيان 7:67.

بالعزّة و الغلبة على جميع الموجودات و الحكمة البالغة، استدلّ على كمال قدرته على الوفاء بالوعد و على غلبته و حكمته بقوله: خَلَقَ اللّه اَلسَّماواتِ السبع معلّقات في الجوّ بِغَيْرِ عَمَدٍ و اسطوانات تمنعها من السقوط كما تَرَوْنَها كذلك، أو المراد بغير عمد مرئية، و إن كان لها عمد غير مرئية، و هي قدرة اللّه تعالى.

عن الرضا عليه السّلام: «ثمّ عمد، و لكن لا ترونها» (1).

وَ أَلْقى و طرح سبحانه فِي اَلْأَرْضِ كما تلقى الحصاة من اليد فيها جبالا رَواسِيَ و ثابتات تثبت و تستقرّ بها الأرض كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ من جانب إلى جانب و تحرّككم بحركتها.

عن الضحاك: أنّ اللّه خلق تسعة عشر جبلا في الأرض ليثبّتها بها كالمسمار، منها جبل قاف، و جبل أبي قبيس، و جبل جودي، و جبل لبنان، و جبل سينين، و طور سيناء، و جبل فاران. و قيل: إنّ الجبال عظام الأرض و عروقها (2).

وَ بَثَّ و نشر فِيها بقدرته مِنْ كُلِّ نوع من الأنواع و دابَّةٍ و حيوان مع كثرتها و اختلاف أجناسها و أصنافها وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ وجهة العلوّ ماءً نافعا بالأمطار فَأَنْبَتْنا فِيها بسبب الأمطار مِنْ كُلِّ زَوْجٍ و صنف كَرِيمٍ و كثير النفع للإنسان و الدوابّ إبقاء لهما، فمن نظر إلى النباتات و الأشجار، و تفكّر في عجائب صنعه فيها و غرائب قدرته، حار عقله، و كلّ فكره، كيف لا و أنت ترى اختلاف أشكالها، و تباين ألوانها، و كثرة خواصّها، و صور أوراقها، و روائح أزهارها، و عجائب أنواع أثمارها و حبوبها، فانّ لكلّ من النباتات ورق و لون و ريح و زهر و ثمر و حبّ و خاصية لا تشبه الاخرى، و لا يعلم الحكم في خلقها إلاّ اللّه، و ما يعرفه الانسان بالنسبة إلى ما لا يعرفه كقطرة من البحر.

هذا الذي ذكر من السماوات و الأرض و الجبال و الحيوان و الماء و النبات خَلْقُ اَللّهِ القادر الحكيم فَأَرُونِي أيّها المشركون ما ذا خَلَقَ الآلهة اَلَّذِينَ تعبدونها مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه، و تدّعون أنّهم شركاؤه في استحقاق العبادة، و اللّه لم يخلقوا شيئا، و لا يملكون نفعا و لا ضرّا بَلِ المشركون اَلظّالِمُونَ على أنفسهم باتخاذهم آلهة، و إشراكهم له في العبادة فِي ضَلالٍ و انحراف مُبِينٍ ظاهر عن الصراط المستقيم بحيث لا يخفى على من كان له أدنى مرتبة من الشعور و أقلّ درجة من البصيرة، فأعرض سبحانه عن المشركين و كفّار قريش و غيرهم، و أضرب عن إلزامهم إلى التسجيل عليهم بالبعد عن الحقّ بعدا واضحا لا يخفى على ناظر.

ص: 114


1- . تفسير القمي 2:328، تفسير الصافي 4:140.
2- . تفسير روح البيان 7:71.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 12

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر أدلّه التوحيد، حكى توحيد لقمان الذي كانت حكمته و وصاياه على ما قيل مشهورة في اليهود و غيرهم من أهل الكتاب، بحيث إذا اعترى للعرب همّ (1)رجعوا فيه إلى اليهود، فضربوا لهم الأمثال بما قاله لقمان من الحكم (2)، بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ و معرفة حقائق الأشياء و مصالح الامور و مفاسدها، و توفيق العمل بعلمه، و تهذيب الأخلاق، و تكميل النفس، و طول الفكر، و إصابة النظر في المعارف الالهية.

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ أَنِ اُشْكُرْ لِلّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (3)و عن الكاظم عليه السّلام قال: «الفهم و العقل» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: قال: «اوتى معرفة إمام زمانه» (5).

قيل: إنّه كان ابن باعور بن ياجور بن تارخ أبي إبراهيم الخليل (6). و قيل: اسم ابيه آذر (7). و قيل: إنّه ابن عنقاء بن سرون (8). و قيل: إنّه كان من بني إسرائيل، و كان ابن اخت أيوب (9). و قيل: كان ابن خالته (10).

و قيل: إنّه كان عبدا نوبيا من أهل أيله (11). و عن المسيب: هو أسود من سودان مصر (12). و قيل: إنّه كان حبشيا و نما في بني اسرائيل (12). قيل: إنّه كان عبدا أسود اللون، غليظ الشفتين، منشقّ القدمين (13).

و عن ابن عباس: أنّ لقمان لم يكن نبيا و لا ملكا، و لكن كان راعيا أسود، فرزقه اللّه العتق، و رضي قوله و وصيته (14).

و عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «حقّا أقول لم يكن لقمان نبيا، و لكن كان عبدا كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ اللّه فأحبّه و منّ عليه بالحكمة» (15).

[روي أنّ لقمان]كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان، هل لك أن يجعلك اللّه خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية و لم أقبل البلاء، و إن هو عزم عليّ فسمعا و طاعة، فانّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني.

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل و أكدرها، يغشاه الظّلم

ص: 115


1- . كذا، و الظاهر مهم.
2- . تفسير روح البيان 7:73.
3- . تفسير الكشاف 3:493.
4- . الكافي 1:12/10، تفسير الصافي 4:141.
5- . تفسير القمي 2:161، تفسير الصافي 4:141.
6- . تفسير روح البيان 7:73.
7- . تفسير أبي السعود 7:71، تفسير روح البيان 7:73.
8- . تفسير روح البيان 7:73.
9- . مجمع البيان 8:494، جوامع الجامع:362.
10- . جوامع الجامع:362.
11- . تفسير روح البيان 7:73.
12- . تفسير الكشاف 3:493.
13- . مجمع البيان 8:493.
14- . مجمع البيان 8:493.
15- . تفسير روح البيان 7:73، مرسلا.

من كلّ مكان، إن أصاب فبالحريّ أن ينجو، و إن أخطأ طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا-و في رواية: و من يكن في الدنيا ذليلا، و في الآخرة شريفا، خير من أن يكون في الدنيا شريفا، و في الآخرة ذليلا-و من يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة، فانتبه و هو يتكلّم بها (1).

و قيل: ثمّ نودي داود فقبلها، و قال له داود: طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة، و صرفت عنك البلوى. و كان لقمان يؤازره بحكمته (2).

و قيل: إنّه ولد في السنة العاشرة من سلطنة داود، و عاش إلى زمان يونس النبي (3).

و قيل: عمّر ألف سنة، و تعلّم من ألف نبيّ، و كان راعيا أو نجّارا (4). و نقل عنه عشرة آلاف كلمة حكمة، كلّ كلمة تسوّى بجميع العالم (5).

قيل: إنّ أول ما ظهرت من حكمته أنّه قال له مولاه و هو يرعى أغنامه: يا لقمان، اذبح شاة، و آتني منها بأطيب مضغتين. فأتاه باللسان و القلب، ثمّ قال له: اذبح شاة، و آتني بأخبث مضغتين منها. فأتاه باللسان و القلب، فسأله عن ذلك، فقال لقمان: ليس شيء أطيب منهما إن طابا و لا أخبث منهما إن خبثا، فاستحسن كلامه فاعتقه (6).

و روي من حكمته الطيبة أنّه بينا هو مع مولاه، إذ دخل المخرج (7)، فأطال الجلوس، فناداه لقمان: إنّ الجلوس على الحاجة يتجزّع منه الكبد، و يورث الناسور، و يصعّد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هوينا و قم هوينا. فخرج و كتب حكمته على باب الحشّ (8).

و قيل: بينا هو يعظ الناس يوما و هم مجتمعون عليه لاستماع كلمة الحكمة، إذ مرّ به عظيم من عظماء بني إسرائيل، فقال: ما هذه الجماعة؟ قيل له: هذه جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم. فأقبل إليه فقال له: أ لست العبد الأسود الذي كنت ترعى بموضع كذا و كذا؟ قال: نعم. فقال: فما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، و أداء الأمانة و ترك ما لا يعني (9).

و حكي أنّه قال: خدمت أربعة آلاف نبي، و اخترت من كلماتهم ثماني كلمات: إن كنت في الصلاة فاحفظ قلبك. و إن كنت في الطعام فاحفظ حلقك، و إن كنت في بيت الغير فاحفظ عينيك، و إن كنت

ص: 116


1- . مجمع البيان 8:494، تفسير الصافي 4:141، تفسير روح البيان 7:75.
2- . مجمع البيان 8:494، تفسير الصافي 4:142، تفسير روح البيان 7:75.
3- . مروج الذهب 1:70.
4- . تفسير الكشاف 3:493.
5- . لم نعثر عليه.
6- . تفسير روح البيان 7:76.
7- . المخرج: الحشّ أو الكنيف، و هو موضع قضاء الحاجة.
8- . تفسير روح البيان 7:76.
9- . تفسير روح البيان 7:76.

بين الناس فاحفظ لسانك، و اذكر اثنين، و انس اثنين، أمّا اللّذان تذكرهما فاللّه و الموت، و أما اللذان تنساهما إحسانك في حقّ الغير، و إساءة الغير في حقّك (1).

و قيل: إنه كان مع داود ثلاثين سنة، و كان عنده يوما، فرآه يسرد الدّرع (2)، فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى، و يريد أن يسأله و تمنعه حكمته عن السؤال، فلمّا أتمّها لبسها، و قال: نعم لبوس الحرب هذه. فقال لقمان: إنّ من الحكمة الصّمت، و قليل فاعله. فقال داود: بحقّ سمّيت حكيما (3).

و قيل: إنّ داود قال له يوما: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بيد غيري. فتفكّر داود فيه، فصعق صعقة، و خرّ مغشيّا عليه (4).

و قيل له: أيّ الناس شرّ؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا (5).

و قال: الدنيا بحر عميق، هلك فيه خلق كثير، فاجعل الايمان باللّه سفينتك، و التقوى زاد الآخرة، فمن نجا فبرحمة اللّه، و من هلك فبذنوبه (6).

و قال: ليس مال كالصحّة، و لا نعيم كطيب النفس.

و قيل: إنّه قدم من سفر، فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات. قال: الحمد للّه ملكت أمري. قال: ما فعلت أمّي؟ قال: ماتت. قال: ذهب همّي. قال: ما فعلت اختي؟ قال: ماتت. قال: سترت عورتي. قال: ما فعلت زوجتي؟ قال: ماتت. قال: جدّد فراشي. قال: ما فعل أخي؟ قال: مات. قال: انقطع ظهري، و كسر جناحي. قال: ما فعل ابني؟ قال: مات. قال: تصدّع قلبي (7).

و قال يوما لداود: احفظ منّي خمس كلمات فيها علم الأولين و الآخرين: أوّلها: ليكن عملك للدنيا بقدر لبثك فيها، و ثانيها: ليكن عملك للآخرة بقدر لبثك فيها. ثالثها: ليكن همّك أن يعتقك مولاك من النار. رابعها: ليكن جزاؤك على المعصية بقدر صبرك على النار. خامسها: إذا أردت العصيان فاطلب مكانا لا يراك فيه ربّك.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن لقمان و حكمته التي ذكرها اللّه عزّ و جلّ [فقال]: «أما و اللّه ما اوتي لقمان الحكمة بحسب، و لا مال، و لا أهل، و لا بسط في الجسم، و لا جمال، و لكنّه كان رجلا قويا في أمر اللّه، متورّعا في اللّه، ساكنا سكينا، عميق النّظر، طويل الفكر، حديد النظر، مستعبرا بالعبر (8)، لم ينم

ص: 117


1- . تفسير روح البيان 7:73.
2- . سرد الدرع: نسجها فشكّ طرفي كلّ حلقتين و سمّرهما.
3- . تفسير روح البيان 7:76.
4- . تفسير روح البيان 7:76.
5- . مجمع البيان 8:496.
6- . من لا يحضره الفقيه 2:185/833، مجمع البيان 8:496.
7- . تفسير روح البيان 7:77.
8- . في النسخة: مستغن بالغير.

نهاره قطّ، و لم يره أحد على بول و لا غائط و لا اغتسال، لشدّة تستّره، و عمق (1)نظره، و تحفّظه في أمره، و لم يضحك من شيء قطّ مخافة الإثم، و لم يغضب قطّ، و لم يمازح إنسانا قطّ، و لم يفرح بشيء إذا أتاه من أمر الدنيا، و لا حزن منها على شيء قطّ، و قد نكح من النساء و ولد له الأولاد الكثير، و قدّم أكثرهم أفراطا (2)فما بكى على موت أحد منهم، و لم يمرّ برجلين يختصمان أو يقتتلان إلاّ أصلح بينهما، و لم يمض عنهما حتى تحابّا، و لم يسمع قولا قطّ من أحد استحسنه إلاّ سأل عن تفسيره و عمّن أخذه، و كان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء، و كان يغشى القضاة و الملوك و السلاطين، فيرثي القضاة ممّا ابتلوا به، و يرحم الملوك و السلاطين لعزّتهم باللّه و طمأنينتهم في ذلك، و يعتبر و يتعلّم ما يغلب به نفسه، و يجاهد به هواه و يحترز به من الشيطان، و كان يداوي قلبه بالتفكّر، و يداوي نفسه بالعبر، و لا يضعن إلاّ فيما يعينه، فبذلك اوتي الحكمة و منح العصمة» (3).

ثمّ ذكر قصّة تخييره بين الخلافة و الحكمة قريبا ممّا حكيت عن العامة، إلى أن قال: «فلمّا أمسى و أخذ مضجعه من الليل، أنزل اللّه عليه الحكمة، فغشيه بها من قرنه إلى قدمه» (4)الخبر.

و قال اللّه له: أَنِ اُشْكُرْ لِلّهِ على ما أنعم عليك من الحكمة و غيرها من النّعم وَ مَنْ يَشْكُرْ نعم اللّه فَإِنَّما يَشْكُرُ و نفع شكره عائد لِنَفْسِهِ لا يتعدّاه إلى غيره، و هو داوم النعمة و استحقاق المزيد.

و عن الصادق عليه السّلام: «شكر كلّ نعمة و إن عظمت أن يحمد اللّه عليها (5)، و إن كان فيما أنعم عليه حقّ أدّاه» (6)و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «من أنعم اللّه عليه بنعمة فعرفها بقلبه، فقد أدّى شكرها» (7).

وَ مَنْ كَفَرَ نعمة اللّه، و خالف أحكامه و أوامره، و أنكر توحيده و حقّ نعمه فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عنه، و لا يحتاج إلى شكره و عبادته حَمِيدٌ في ذاته و صفاته و أفعاله، محمود في أرضه و سمائه، سواء حمده خلقه أو شكره عباده، أو لم يحمدوه و كفروه.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 13 الی 15

وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ (14) وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي اَلدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

ص: 118


1- . في النسخة: و عموق.
2- . أي ماتوا صغارا قبل أن يبلغوا الحلم.
3- . تفسير القمي 2:162، مجمع البيان 8:497، تفسير الصافي 4:142.
4- . تفسير القمي 2:163، تفسير الصافي 4:143.
5- . الكافي 2:78/11، تفسير الصافي 4:141.
6- . الكافي 2:78/12، تفسير الصافي 4:141.
7- . الكافي 2:79/15، تفسير الصافي 4:141.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حكمة لقمان ذكر وعظه لابنه الذي كان أعزّ الناس عنده و نهيه عن الشرك بقوله: وَ إِذْ قالَ قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد لقومك و غيرهم من المشركين حين قال لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ (1)قيل: إنّ اسمه أنعم ترحّما و عطوفة (2): يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ شيئا في الالوهية و العبادة إِنَّ اَلشِّرْكَ باللّه و اللّه لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فانّه تسوية بين الخالق القادر المنعم بجميع النّعم و المخلوق العاجر الذي لا نعمة له على أحد.

عن الباقر عليه السّلام: «الظلم ثلاثة: ظلم يغفره اللّه، [و ظلم لا يغفره اللّه]و ظلم لا يدعه اللّه، و أمّا الظلم الذي لا يغفره اللّه فالشّرك» الخبر (3).

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن الشّرك ببيان حقّ الوالدين على الولد و وجوب برّهما و شكرهما، و مع ذلك لا يجوز إطاعة أمرهما بالشّرك و إن أصرّا بقوله: وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ و أوجبنا عليه أكيدا أنّ يبرّ بِوالِدَيْهِ و يحسن إليهما لأنّه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ في بطنها و حبلت (4)به، فتجد في نفسها بسبب حمله وَهْناً عَلى وَهْنٍ و ضعفا في الخلق و الخلق فوق ضعف يوما بعد يوم حتى تضع حملها، ثمّ ترضعه إلى حين فصاله وَ فِصالُهُ و قطعه من الرضاع كائن فِي آخر عامَيْنِ من ولادته.

و قلنا له: أَنِ اُشْكُرْ لِي أيّها الانسان بالقيام بوظائف عبوديتي وَ اشكر لِوالِدَيْكَ بالبرّ و الإحسان و الاشفاق و التوفيق، لكونهما سببين لوجودك، و ربّياك في الظاهر.

عن الرضا عليه السّلام في حديث «و أمر بالشّكر له و للوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر اللّه» (5).

و عنه عليه السّلام: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين، لم يشكر اللّه عزّ و جلّ» (6).

و اعلم أنّه بعد الخروج من الدنيا إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ و المرجع، فاجازي الشاكر بالثواب العظيم، و الكفور بالعذاب الأليم.

و عن الصادق عليه السّلام: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، من أبرّ؟ قال: امّك. قال: ثمّ من؟ قال: امّك. قال: ثمّ من؟ قال: امّك. قال: ثمّ من؟ قال: أباك» (7).

ص: 119


1- . تفسير روح البيان 7:77.
2- . تفسير روح البيان 7:77.
3- . الكافي 2:248/1، تفسير الصافي 4:143.
4- . في النسخة: و أحبلت.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:258/13، تفسير الصافي 4:143.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:24/2، تفسير الصافي 4:144.
7- . الكافي 2:127/9، تفسير الصافي 4:144.

و عن الرضا عليه السّلام، قيل: له: أدعو لوالديّ إن كانا لا يعرفان الحقّ؟ قال: «ادع لهما، و تصدّق عنهما، و إن كانا حيّين لا يعرفان الحقّ فدارهما، فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه بعثني بالرحمة لا بالعقوق» (1).

و مع ذلك وَ إِنْ جاهَداكَ و نازعاك و أصرّا عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي في الالوهية و العبادة ما تعلم بعدم تأهّلة للالوهية و عدم استحقاقه للعبادة، بل ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و لم يقم على استحقاقه برهان فَلا تُطِعْهُما في ذلك، فانّه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، وَ لكن صاحِبْهُما و عاشر معهما فِي اَلدُّنْيا صحابا مَعْرُوفاً و معاشرة جميلة يرتضيها الشرع، و يقتضيه الكرم من الانفاق و التكريم و الخدمة.

عن الصادق عليه السّلام: «برّ الوالدين واجب، و إن كانا مشركين، و لا طاعة لهما في معصية الخالق، و لا لغيرهما» الخبر (2).

و عنه عليه السّلام: «برّ الوالدين من حسن المعرفة باللّه، إذ لا عبادة أسرع بلوغا بصاحبها إلى رضا اللّه تعالى من حرمة الوالدين المسلمين لوجه اللّه، لأنّ حقّ الوالدين مشتقّ من حقّ اللّه إذا كانا على منهاج الدين و السّنّة، و لا يكونان يمنعان الولد من طاعة اللّه إلى معصيته، و من اليقين إلى الشكّ، و من الزّهد إلى الدنيا، و لا يدعوانه إلى خلاف ذلك، فاذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة، و طاعتهما معصية، قال اللّه تعالى وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ الآية.

و أمّا في باب العشرة فدارهما و أرفق بهما، و احتمل أذاهما نحو ما أحتملا منك حال صغرك، و لا تضيّق عليهما بما قد وسّع اللّه عليك من المأكول و الملبوس، و لا تحوّل وجهك عنهما، و لا ترفع صوتك فوق صوتهما، فانّ تعظيمهما من اللّه تعالى، و قل لهما بأحسن القول و ألطفه، فانّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين» (3)وَ اِتَّبِعْ في جميع أعمالك خصوصا السّلوك مع الوالدين سَبِيلَ مَنْ أَنابَ و رجع إِلَيَّ بالتوحيد و الطاعة و اقتد به.

عن الباقر عليه السّلام يقول: «سبيل محمد» (4).

ثُمَّ بعد الخروج من الدنيا إِلَيَّ يكون مَرْجِعُكُمْ أيّها الأولاد و الآباء و الامّهات فَأُنَبِّئُكُمْ إذن بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الشّرك و التوحيد و الرحمة و العقوق و الطاعة و العصيان بالإثابة و العقوبة.

ص: 120


1- . الكافي 2:127/8، تفسير الصافي 4:144.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:124/1، و تفسير الصافي 4:144، عن الرضا عليه السّلام.
3- . مصباح الشريعة:70، تفسير الصافي 4:144.
4- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:145.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 16

ثمّ أنّ لقمان بعد نهي ولده عن الشّرك هدّده على الشّرك الخفي و المعاصي السّرية بعلم اللّه تعالى بخفيات الامور بقوله: يا بُنَيَّ اخبرك بالقصة العجيبة إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ و مقدارها في الصّغر و القلّة فَتَكُنْ مع كونها في نهاية الصّغر فِي وسط صَخْرَةٍ و حجر صلب، أيّ صخرة كانت صغيرة أو كبيرة. قيل: هي كناية عن أخفى مكان و أحرزه (1). و عن ابن عباس: هي الصخرة التي عليها الملك الحامل للأرض، و هي ليست في السماوات و الأرض (2).

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّماواتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)أَوْ كانت فِي اَلسَّماواتِ مع غاية بعدها، و قيل: إنّ المراد منها العالم العلويّ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ و العالم السّفليّ (3). و قيل: إنّ المراد بطن الأرض، و هو أظلم مكان يَأْتِ بِهَا اَللّهُ و يحضرها و يحاسب عليها (4)، و يحضرها للاغتذاء بها. و قيل: إنّ كلامه ذلك لتربية التوكّل في قلب ابنه، لئلاّ يميل إلى الشّرك بطمع الرّزق (5).

القمي، قال: إنّ الرزق يأتيك به اللّه (6).

إِنَّ اَللّهَ لَطِيفٌ و عالم بخفيات الامور، أو نافذ القدرة في كلّ شيء، أو ذو العطوفة بالعباد خَبِيرٌ و مطّلع على كنه الأشياء و قيل: يعني قدير على استخراج الحبّة من بطن الصخرة، و خبير بمستقرّها (7).

العياشي، عن الصادق عليه السّلام: «اتقوا المحقّرات من الذنوب، فانّ لها طالبا، لا يقولنّ أحدكم: اذنب و استغفر اللّه، إنّ اللّه يقول: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» الآية (8).

قيل: إنّ هذه الكلمة آخر كلمة تكلّم بها لقمان، فانشقّت مرارته من هيبتها فمات (9).

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 17 الی 19

يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (17) وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْواتِ لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ (19)

ص: 121


1- . تفسير روح البيان 7:81.
2- . تفسير روح البيان 7:81.
3- . تفسير أبي السعود 7:72، تفسير روح البيان 7:81.
4- . تفسير روح البيان 7:81.
5- . تفسير جوامع الجامع:362.
6- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:145.
7- . مجمع البيان 8:499.
8- . مجمع البيان 8:499، تفسير الصافي 4:145.
9- . تفسير روح البيان 7:82.

ثمّ أنّه بعد نهي ابنه عن الشّرك الملازم لأمره بالتوحيد، أمره بلوازمه من العبادات المهمّة بقوله: يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ التي هي أفضل العبادات للّه تكميلا لنفسك و واضب عليها وَ أْمُرْ غيرك بِالْمَعْرُوفِ و المستحسن عند الشرع و العقل وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ و المستقبح عندهما تكميلا لغيرك وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من المشاقّ و الشدائد كالفقر و المرض و غيرهما.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من المشقّة و الأذى في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر» (1).

إِنَّ ذلِكَ المذكور من الوصايا مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ و حتّمياتها و واجباتها التي لا يجوز التواني فيها

وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ و لا تمل وجهك تحقيرا لِلنّاسِ و تكبّرا عليهم. و عن الصادق عليه السّلام: «لا تعرض عمّن يكلّمك استخفافا به» (2).

و القمّي: لا تذلّ للناس طمعا فيما عندهم (3).

وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً و بطرا. قيل: يعني حال كونك ذا فرح شديد (4). و عن الباقر عليه السّلام، يقول: «بالعظمة» (5).

إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ و متكبّر فَخُورٍ و مباه بالمال و الجاه و النسب و غيرها من النّعم الدنيوية. و عن بعض الحكماء: إن افتخرت بفرسك فالحسن و الفراهة له دونك، و إن افتخرت بثيابك فالجمال لها دونك، و إن افتخرت بآبائك فالفضل فيهم لا فيك، فان افتخرت فافتخر بما فيك (6).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه نهى أن يختال الرجل في مشيه، و قال: «من لبس ثوبا فاختال فيه، خسف اللّه به من شفير جهنم، و كان قرين قارون؛ لأنّه أوّل من أختال فخسف به و بداره الأرض، و من اختال فقد نازع اللّه في جبروته» (7).

وَ اِقْصِدْ و توسّط فِي مَشْيِكَ بعد الاجتناب عن المرح بعد الدبيب و الإسراع، و عليك بالسكينة و الوقار و التواضع فيه، في الحديث: «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن» (8). و روت العامة: أنّ عمر كان إذا مشى أسرع (9)، و القمي قال: أي لا تعجل (10).

ص: 122


1- . مجمع البيان 8:500، تفسير الصافي 4:145.
2- . مجمع البيان 8:500، تفسير الصافي 4:145.
3- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:145.
4- . تفسير روح البيان 7:85.
5- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:145.
6- . تفسير روح البيان 7:85.
7- . من لا يحضره الفقيه 4:7/1، أمالي الصدوق:514/707، تفسير الصافي 4:146.
8- . تفسير روح البيان 7:85.
9- . تفسير روح البيان 7:85.
10- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:146.

ثمّ لمّا كان من وسائل النّيل إلى المقصود للبعد عنه المشي و الصوت، أردف ذكر الأدب في المشي بذكر الأدب في الصوت بقوله: وَ اُغْضُضْ و انقص مِنْ صَوْتِكَ في التكلّم و التخاطب، فانّ رفع الصوت ليس فيه فضيلة، بل هو ممّا ينكره الطبع إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْواتِ و أقبحها و أوحشها و اللّه لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ عند أغلب الناس سيما العرب، قيل: إنّ المشركين كانوا يفتخرون برفع الصوت، فردّهم اللّه بتشبيه الصوت الرفيع بصوت الحمار مبالغة في الذمّ. قيل: إنّ صوت كلّ حيوان تسبيح إلاّ صوت الحمير، فانّها تصيح لرؤية الشيطان (1). و في الحديث: «إذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذّوا باللّه من الشيطان، فانّها رأت شيطانا» (2)و إنّما حكى سبحانه تلك الوصايا من لقمان لشيوع الشّرك و ما يليه من الصفات القبيحة المنهيّ عنها في العرب (3).

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 20 الی 21

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على توحيده بخلق السماوات بغير عمد، و ببعض نعمه كانزال المطر و إلقاء الجبال في الأرض و إنبات النباتات النافعة، عاد إلى الاستدلال عليه بتسخير ما في السماوات و الأرض و عموم نعمه بقوله: أَ لَمْ تَرَوْا و لم تعلموا يا بني آدم أَنَّ اَللّهَ بقدرته سَخَّرَ و ساق بالقهر إلى المنافع التي تكون لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة و الكواكب، و جعلها مدبّرات العالم السفلي من الزمانيّ كالفصول الأربعة و الليل و النهار و الشهور، و من الجسماني كالمعادن و النباتات و غيرهما وَ ما فِي اَلْأَرْضِ كالجبال و الأنهار و البحار و غيرها بأن مكّنكم من الانتفاع بها بواسطة و بلا واسطة وَ أَسْبَغَ و أكمل عَلَيْكُمْ بلطفه نِعَمَهُ و الامور النافعة في حياتكم و تربيتكم و كمالكم كانت ظاهِرَةً و محسوسة كحسن الصورة، و استواء القامة، و كمال الأعضاء و الحواسّ الظاهرة وَ باطِنَةً و غير محسوسة كالرّوح و العقل و الفهم و الفكر و المعرفة، و دين الاسلام، و إرسال الرسول، و إنزال الكتاب.

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اَللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ اَلشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ اَلسَّعِيرِ (21)عن ابن عباس قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما هذه النعمة [الظاهرة]و الباطنة؟ قال: «أما الظاهرة: فالاسلام و ما حسن من خلقك و ما أفضل عليك من الرّزق، و أمّا الباطنة: فما ستر من سوء عملك

ص: 123


1- . تفسير روح البيان 7:87.
2- . تفسير روح البيان 7:87.
3- . تفسير روح البيان 7:87.

و لم يفضحك به. يا ابن عباس، يقول اللّه تعالى: إنّي جعلت للمؤمن ثلث صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أكفّر به عنه خطاياه، و جعلت له ثلث ماله ليكفّر به عنه خطاياه، و سترت عليه سوء عمله الذي لو قد أريته للناس لنبذه أهله و من سواهم» (1).

و قيل: إنّ الظاهرة: سهولة الأحكام، و الباطنة: الشفاعة. و قيل: الظاهرة: النّعم الدنيوية، و الباطنة: النّعم الاخروية. و قيل: الظاهرة: القرآن، و الباطنة: العلم بتأويلاته و حقائقه (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أما النعمة الظاهرة فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به من معرفة اللّه و توحيده، و أمّا النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت و عقد مودّتنا» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، و الباطنة الإمام الغائب» (4).

وَ مع ذلك مِنَ اَلنّاسِ و بعضهم مَنْ يُجادِلُ و يخاصم فِي ذات اَللّهَ أو توحيده، أو كتابه بِغَيْرِ عِلْمٍ حاصل من برهان قاطع وَ لا هُدىً من بيان الرسول و عالم رباني وَ لا كِتابٍ سماويّ مُنِيرٍ و موضح للحقّ، و مضيء للطريق القويم، بل يجادل بمجرّد التقليد و الظنّ الحاصل من الهوى.

و قيل: إنّ المجادل في كتاب اللّه هو النّضر بن الحارث، حيث قال: إنّه أساطير الأولين (5).

وَ الشاهد على أنّ مجادلتهم لا تكون إلاّ عن تقليد آبائهم هو أنّه إِذا قِيلَ لَهُمُ بطريق النّصح اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ على نبيه من القرآن الناطق بالتوحيد قالُوا: لا نتّبعه بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا الماضين من عبادة الأصنام.

عن الباقر عليه السّلام: «هو النّضر بن الحارث، قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اتّبع ما أنزل إليك من ربّك. قال: بل أتّبع ما وجدت عليه آبائي» (6).

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: أَ وَ لَوْ قيل: إنّ التقدير أتتّبعون آباءكم (7)و لو كانَ اَلشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ بما هم عليه من الشّرك إِلى الورود في عَذابِ النّار اَلسَّعِيرِ و الملتهب فيجيئون إليه.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 22 الی 24

وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اَللّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى وَ إِلَى اَللّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ (22) وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)

ص: 124


1- . مجمع البيان 8:501، تفسير روح البيان 7:90.
2- . مجمع البيان 8:501.
3- . تفسير القمي 2:165، مجمع البيان 8:501، تفسير الصافي 4:148.
4- . كمال الدين 368/6، مناقب ابن شهر آشوب 4:180، تفسير الصافي 4:148.
5- . تفسير روح البيان 7:90.
6- . تفسير القمي 2:166، تفسير الصافي 4:149.
7- . تفسير أبي السعود 7:74، تفسير روح البيان 7:91.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار المجادلين في اللّه مدح المؤمنين المستسلمين له بقوله: وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ و نفسه إِلَى اَللّهِ تسليم المتاع لمالكه، و أقبل بشراشره عليه و فوّص اموره له وَ هُوَ مُحْسِنٌ في أعماله مجدّ في القيام بوظائف عبوديته فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ و تعلّق بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى و الحبل المحكم الذي لا انقطاع له، و لا يخاف معه من التردّي في مهاوي الهلاك و الضلال في الدنيا، و من السقوط في الجحيم في الآخرة، و تكون عاقبته أحمد العواقب؛ لأنّ إلى اللّه يكون مآل جميع الأشياء وَ إِلَى اَللّهِ تنتهي عاقِبَةُ جميع اَلْأُمُورِ فيجازي الموحّد المستسلم إليه أحسن الجزاء، و يثيبه أفضل الثواب.

ثمّ لمّا ذكر لجاج الكفّار و جدالهم في التوحيد و تكذيبهم للرسول، سلاّه سبحانه بقوله: وَ مَنْ كَفَرَ بالتوحيد و كذّبك فيه فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ و تكذيبه، فانّه سيظهر لهم صدقك، لأنّه بعد خروجهم من الدنيا يكون إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ و إلى محكمتنا مآبهم فَنُنَبِّئُهُمْ و نعلمهم بعد رجوعهم إلينا بِما عَمِلُوا في الدنيا من الكفر بالتوحيد و تكذيبك، و لا يخفى علينا شيء من أعمالهم إِنَّ اَللّهَ الخالق لجميع أجزاء الخلق بقدرته عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و ما في قلوبهم من الضمائر و النيّات، و لا تنظر إلى النّعم التي أنعمنا عليهم في الدنيا من الصحّة و الجاه و المال و الأولاد،

فانّا نُمَتِّعُهُمْ و ننفعهم بنعمنا في الدنيا زمانا قَلِيلاً و إن طال عمرهم فانّه بالنسبة إلى عمرهم في الآخرة في غاية القصر.

ثمّ يموتون و يعذّبون في البرزخ، ثم يبعثون من قبورهم إلى المحشر ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ و نلجئهم إِلى الورود في عَذابٍ غَلِيظٍ و عقاب دائم شديد غايته، فعند ذلك يتبيّن لهم صدقك و كذبهم.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 25 الی 26

ثمّ نبّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على أنّ ظهور صدقه لهم لا يتوقّف على البراهين المذكورة، و لا على مجيء الحشر، بل هو ظاهر لهم في الدنيا بالفطرة بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بقدرته و اللّه لَيَقُولُنَّ في جوابك اَللّهُ وحده خلقهما، لغاية وضوح الأمر بحيث اضطرّوا إلى الإقرار به قُلِ إذن اَلْحَمْدُ لِلّهِ على ظهور صدقك، أو على جعله دلائل

ص: 125

التوحيد بحيث لا يمكن للمكابر إنكارها، فليس شركهم لإنكاره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ مقتضى اعترافهم تصديقك، أو لازمه ترك الشّرك و عبادة اللّه وحده.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (26)

ثمّ لمّا اعترفوا بأنّ اللّه خالق السماوات و الأرض، فعليهم أن يعترفوا بأنّ لِلّهِ وحده ما فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة الذين يقول بعضهم: إنّهم بنات اللّه، و من الكواكب التي يعبدها كثير من المشركين وَ ما في اَلْأَرْضِ من الأصنام و غيرها من الأشياء، و لا يحتاج إلى شيء من الموجودات و عبادتهم و حمدهم، بل إِنَّ اَللّهَ بذاته هُوَ اَلْغَنِيُّ عمّا سواه اَلْحَمِيدُ في ذاته و صفاته و أفعاله، و إن لم يحمده شيء.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 27

ثمّ لمّا ذكر مالكيته لما في العالم العلويّ و السّفلي، و كان محالا توهّم حصر سلطانه في العالمين المحدودين، بيّن أنّ له مخلوقات لا نهاية لها بقوله: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ كلّ شَجَرَةٍ بالفرض أَقْلامٌ كثيرة وَ اَلْبَحْرُ المحيط بالعالم الذي لا ساحل له و لا يعلم عمقه إلاّ اللّه، و يتّصل به سائر البحار مداد يَمُدُّهُ و يزيده عند نفاده و مِنْ بَعْدِهِ بالانصباب فيه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يوجدها، قيل: إنّ السبعة هنا كناية عن العدد الكثير (1)، و المعنى البحار الكثيرة علاوة على ما هو الموجود الآن، و قيل: إنّ المراد بحر الصين، و بحر التبت و بحر الهند، و بحر السند، و بحر فارس، و بحر المشرق، و بحر المغرب (2)، و إنّما جعلها ممدّة للبحر المحيط، و كتبت بتلك الأقلام و بذلك المداد كلمات اللّه، و نفدت و فنيت تلك الأقلام و المداد و ما نَفِدَتْ و ما فنيت كَلِماتُ اَللّهِ و عجائب صنعه، أو الكلمات الدالة على علمه و حكمته. قيل: إنّ إيثار جمع القلّة في (كلمات) للدلالة على أنّ ما ذكر لا يفي بالقليل منها، فكيف بالكثير (3).

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و قادر على كلّ شيء حَكِيمٌ و محيط علمه بكلّ شيء. قيل: نزلت ردّا على اليهود حين سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (4)و قد أنزل اللّه التوراة و فيها علم كلّ شيء، و المراد أن العلم الذي في التوراة و [سائر ما]اوتي الانسان [من الحكمة و المعرفة]و إن كان كثيرا بالنسبة إليهم، لكنّه بالنسبة إلى علم اللّه

ص: 126


1- . تفسير روح البيان 7:95.
2- . تفسير روح البيان 7:94.
3- . تفسير أبي السعود 7:75، تفسير روح البيان 7:95.
4- . الإسراء:17/85.

كالقطرة بالنسبة إلى البحار كلّها (1).

و قيل: إنّها نزلت ردّا على المشركين حيث قالوا: إنّ القرآن يوشك أن ينفد و ينقطع (2).

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 28 الی 30

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده بكمال علمه و قدرته و حكمته، و كان المعاد مقتضى قدرته و حكمته، استدلّ عليه بكمال قدرته بقوله: ما خَلْقُكُمْ في الدنيا وَ لا بَعْثُكُمْ و إحياؤكم ثانيا في الآخرة، و إخراجكم من القبور مع كثرتكم في السهولة إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ خلقا و بعثا، فكما أنّ إيجاد نفس واحدة لا يحتاج إلاّ إلى إرادته، كذلك إيجاد النفوس الكثيرة لا يتوقّف إلاّ عليها إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ لكلّ مسموع، فيسمع مقالات الناس في أمر البعث بَصِيرٌ لكلّ مبصر فيبصر الأحياء و الأموات. قيل: إنّ الآية نزلت في ردّ مشركي قريش حيث قالوا: إنّ اللّه خلقنا أطوارا نطفة و علقة و مضغة و لحما، فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة (3)؟

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْباطِلُ وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (30)

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على الخلق الجديد و إيلاج الروح فيه ببعض آثار تسخير ما في السماوات بقوله: أَ لَمْ تَرَ و لم تعلم علما نازلا منزلة الرؤية يا محمد أو يا من شأنه الرؤية أَنَّ اَللّهَ بقدرته يُولِجُ و يدخل اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ و يجعلهما متعاقبين، أو يجعل بعض ساعات الليل في النهار، و لا نقص من الاول و الزيادة في الثاني وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ و يدخله فِي اَللَّيْلِ بإذهاب الثاني و إتيان الاول مكانه، أو بتنقيص الاول و الزيادة في الثاني.

القمي، يقول: ما ينقص من الليل يدخل في النهار، و ما ينقص من النهار يدخل في الليل (4).

وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ و ساقهما بالقهر و سيّرهما على وفق الحكمة كُلٌّ منهما يَجْرِي في فلكه بحركته القسرية حركة مستمرة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و انقضاء وقت معين قدّرة اللّه بحكمته، و هو مجيئ يوم القيامه. و قيل: هو منتهى دورتهما، ففي الشمس سنة، و في القمر شهر (5). وَ ألم تعلم

ص: 127


1- . تفسير روح البيان 7:94.
2- . تفسير روح البيان 7:94.
3- . تفسير روح البيان 7:96.
4- . تفسير القمي 2:167، تفسير الصافي 4:150.
5- . تفسير أبي السعود 7:76، تفسير روح البيان 7:97.

أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ في الليل و النهار خَبِيرٌ و عالم،

فانّ من شاهد هذا الصنع الرائق و التدبير الفائق، يعلم أنّ صانعه و مدبّره لا يمكن في حقّه الغفلة عن جلائل أعمال عباده و دقائقها ذلِكَ المذكور من القدرة الكاملة و الحكمة البالغة و الصنائع العجيبة لا يكون بسبب إلاّ بِأَنَّ اَللّهَ تعالى هُوَ اَلْحَقُّ الثابت في الوهيّته، الواجب لذاته، المتفرّد في كمال صفاته، و بسبب أنّه لا شريك له في ربوبيته وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ و يعبدون مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه هو اَلْباطِلُ الفاني العاجز عن جلب نفع لنفسه فضلا عن أن ينفع من يعبد وَ بسبب أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ و المرتفع عن أن يشبهه غيره اَلْكَبِيرُ الذي يحتقر كلّ شيء في جنب كبريائه. و قيل: يعني العليّ في صفاته، الكبير في ذاته (1).

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 31 الی 32

ثمّ استدلّ سبحانه ببعض آثار تسخيره ما في الأرض بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد، أو أيّها الرائي أَنَّ اَلْفُلْكَ و السفينة تَجْرِي و تسير سريعا فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّهِ و برحمته و إحسانه حيث خلق آلاتها، و علم صنعها، و أرسل الرياح لتسييرها لِيُرِيَكُمْ أيّها الناس بعضا مِنْ آياتِهِ و دلائل توحيده و قدرته إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء للفلك لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة كثيرة على توحيد اللّه و صحّة المعاد، نافعة لِكُلِّ مؤمن صَبّارٍ و مبالغ في إتعاب نفسه في طاعة اللّه و التفكّر في آياته شَكُورٍ و مجدّ في القيام بأداء حقوق نعمه.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (31) وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاّ كُلُّ خَتّارٍ كَفُورٍ (32)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ المشركين فطرتهم على التوحيد، و مقرون به، عند يأسهم من الحياة، و غفلتهم عن الشهوات، فاذا أطمأنوا بالحياة، و رفع عنهم الاضطرار، عادوا إلى الشّرك، و جحدوا آيات التوحيد بقوله: وَ إِذا غَشِيَهُمْ و أحاط بهم في البحر مَوْجٌ و ماء مرتفع كَالظُّلَلِ و الجبال، أو قطع السّحاب، أو الأشياء التي تظلّ الانسان من الشمس في كثرتها و ارتفاعها، و أشرفوا على الغرق دَعَوُا اَللّهَ و استغاثوا به تعالى وحده لنجاتهم حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ تعالى اَلدِّينَ و العبادة، تاركين لدعاء غيره، غير متوجهين إلى ما سواه، بعلمهم باختصاصه بالقدرة على تحقيق مناهم و إنجاح مقاصدهم فَلَمّا استجاب دعاءهم لخلوصهم في دعائه و نَجّاهُمْ من الغرق،

ص: 128


1- . تفسير الرازي 25:161.

و أوصلهم إِلَى اَلْبَرِّ سالمين فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ و متوسط في الإخلاص و الكفر، و لم يبق على التوحيد الخالص، و لم يرجع إلى لجاجه في الشّرك، لانزحاره منه في الجملة.

ثمّ لمّا خصّ سبحانه نفع آيات التوحيد بالمؤمن الصبّار الشكور، خصّ جحودها بالذين عادتهم الغدر و الكفران بقوله: وَ ما يَجْحَدُ و لا يلج في الكفر بِآياتِنا و آثار توحيدنا إِلاّ كُلُّ خَتّارٍ و غدّار و مصرّ في نقص العهد و كَفُورٍ لنعم اللّه.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 33

ثمّ أنّه تعالى بعد إثباته التوحيد و المعاد، هدّد منكريهما بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ و احترزوا من غضبه عليكم بالاجتناب من الكفر و العصيان وَ اِخْشَوْا يَوْماً عظيما يجازي اللّه فيه و لا يَجْزِي و لا يغني والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ بأن يقضي عنه شيئا من الحقوق، أو يتحمّل شيئا من سيئاته، أو يعطيه شيئا من طاعاته، أو يدفع عنه شيئا من العذاب بالشفاعة و بذل المال وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ و مغن أو مؤدّ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً من الحقوق، و دافع عنه شيئا من العذاب، مع كون كلّ منهما في الدنيا أشفق الناس و أرأفهم بالآخر، و أقرب إليه، فكيف بالأباعد الذين لا شفقة لهم و لا مودّة، و بالأصنام الذين لا شعور لهم و لا قدرة!

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اِخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ اَلْغَرُورُ (33)و عن كعب الأحبار: تقول امرأة من هذه الأمة لولدها يوم القيامة: يا ولدي، أما كان لك بطني وعاء، و حجري وطاء، و ثديي سقاء، فاحمل عنّي واحدا من ذنوبي، فقد أثقلنّي فيقول: هيهات يا امّاه كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فاذا حملت عنك فمن يحمل عني؟ (1)

فمن كان سبب عدم خوفه رجاء الانتفاع بصلاح الأقارب و شفاعة الأصنام، فقد أخطأ أو عدم يقينه بمجييء ذلك اليوم، فانّ اللّه وعد به و إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ لا خلف فيه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ و لا يخدعنّكم اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و لا يشغلنّكم عن التفكّر في الآيات متاعها و شهواتها وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ و بكرمه و قبول توبتكم بعد عصيانه الشيطان اَلْغَرُورُ الخدوع لبني آدم، فانّه لا نجاة إلاّ بالايمان و صالح الأعمال.

ص: 129


1- . تفسير روح البيان 7:101 و 102.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 34

ثمّ لمّا كان مجال أن يقال: متى يكون ذلك اليوم؟ قال سبحانه: إِنَّ اَللّهَ يثبت عِنْدَهُ وحده عِلْمُ اَلسّاعَةِ و وقت قيام القيامة. ثمّ أردفه بسائر ما يختصّ علمه به بقوله: وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ و المطر الذي به رزق الخلق و بقاؤهم في الزمان الذي قدّره إلى محلّه الذي عيّنه في علمه لا يعلمه غيره وَ هو يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ من ذكر و انثى، حيّ أو ميت، جميل أو قبيح، تامّ أو ناقص، سعيد، أو شقيّ إلى غير ذلك من الصفات، و هو يعلم عواقب امور كلّ أحد وَ ما تَدْرِي و تعلم نَفْسٌ من النفوس ما ذا تَكْسِبُ و تحصل من المنافع الدنيوية و الاخروية غَداً و في اليوم الذي يكون بعد يومه وَ ما تَدْرِي و تعلم نَفْسٌ من النفوس أنّها بِأَيِّ أَرْضٍ و أيّ مكان تَمُوتُ من برّ أو بحر، أو سهل أو جبل، كما لا تدري في أيّ وقت تموت.

إِنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)روي أنّ ملك الموت مرّ على سليمان عليه السّلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنّه يريد بي، فمر الريح أن تحملني و تلقيني في بلاد الهند، ففعل فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجّبا منه، إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند، و هو عندك (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «مفاتيح الغيب خمس، و تلا هذه الآية، ثمّ قال: «من أدّعى علم شيء من هذه المغيبات الخمس، فهو كافر باللّه تعالى» (2).

ثمّ عمّم سبحانه علمه بجميع الأشياء بقوله: إِنَّ اَللّهَ بذاته عَلِيمٌ بالأشياء كلّها خَبِيرٌ و مطّلع بكنهها و حقائقها و بواطنها، و إنّما عدّ هذه الخمس لما روي من سبب النزول من أنّ الحارث بن عمرو من أهل البادية أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فسأله عن الساعة و وقتها، و قال: إنّ أرضنا أجدبت، و إنّي ألقيت حياتي في الأرض، فمتى ينزل المطر؟ و تركت امرأتي حبلى فحملها ذكر أم انثى؟ و إنّي أعلم ما عملت أمس، فما أعمل غدا؟ و إنّي علمت أين ولدت، فبأي أرض أموت؟ فنزلت (3). و قد كان المنجمون و الكهنة يدّعون علمها.

و انّما أخفى اللّه وقت الساعة، ليكون الناس على حذر و اهبة، كما روي أنّ أعرابيا قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله: متى الساعة؟ فقال عليه السّلام: «ما أعددت لها» قال: لا شيء إلاّ أنّي احبّ اللّه و رسوله. فقال: «أنت مع من

ص: 130


1- . تفسير أبي السعود 7:78، تفسير روح البيان 7:104.
2- . تفسير روح البيان 7:104.
3- . تفسير روح البيان 7:103.

أحببت» (1).

و أخفى علم الأربعة الاخرى ليسألوا اللّه، و يتضرّعوا إليه، و يتوكّلوا عليه. و قيل: إنّ المقصود بيان اختصاص العلم بالساعة بذاته، و إنّما ذكر إنزاله الغيث و علمه بما في الأرحام استدلالا عليه، ثمّ كأنّه قال لطالب العلم بالساعة: لا تسأل عنها فانّك لا تعلم ما هو أهمّ منها، و هو معاشك و موتك (2).

و الحقّ المشهور هو التفسير الأوّل، لما روى عن الصادق عليه السّلام: «هذه الخمسة أشياء لم يطّلع عليها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، و هي من صفات اللّه» (3).

و في (نهج البلاغة) : «فهذا هو علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه» (4).

و في (المجمع) : روي عن أئمة الهدى عليهم السّلام: «أنّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل و التحقيق غيره تعالى» (5). و لا ينافي ذلك علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام بها في بعض الأوقات، لأنّه بتعليم اللّه لا بالأسباب.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة لقمان في ليلة، و كّل اللّه به في ليلته ملائكة يحفظونه من إبليس و جنوده حتى يصبح، و إذا قرأها بالنهار، لم يزالوا يحفظونه من إبليس و جنوده حتى يمسي» (6).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسير السورة.

ص: 131


1- . تفسير روح البيان 7:103.
2- . تفسير الرازي 25:165.
3- . تفسير القمي 2:167، تفسير الصافي 4:152.
4- . نهج البلاغة:186-الخطبة 128، تفسير الصافي 4:152.
5- . مجمع البيان 8:507، تفسير الصافي 4:152.
6- . ثواب الأعمال:110، مجمع البيان 8:488، تفسير الصافي 4:152.

ص: 132

في تفسير سورة السجدة

سوره 32 (السجده): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة [لقمان]المباركة المتضمّنة لإثبات التوحيد و المعاد، و التهديد على إنكارهما، اردفت بسورة السجدة المتضمّنة لإثبات النبوة و عظمة القرآن و التوحيد و المعاد، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات تيمنّا و تعليما للعباد بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الم (1) تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله: الم توجيها للقلوب إلى المطالب المهمّة التي تذكر بعدها،

منها بيان عظم القرآن بقوله: تَنْزِيلُ هذا اَلْكِتابِ المسمّى بالقرآن، المتضمّن للعلوم و الأحكام و الآداب التي بها تربية نفوس أهل العالم و تكميلها لا رَيْبَ و لا شكّ فِيهِ أنّه مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ و مع ذلك أتعترف قريش به

أَمْ يَقُولُونَ عنادا و لجاجا: إن محمدا اختلقه من نفسه مع كونه امّيا اِفْتَراهُ على اللّه و نسبه إليه كذبا، ألا ليس نزوله من اللّه كذبا بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ النازل مِنْ رَبِّكَ اللطيف بك، و إنّما كان إنزاله لِتُنْذِرَ و تخوّف به من العذاب على الشّرك و الكفر و العصيان قَوْماً و جماعة ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ و رسول من اللّه مِنْ قَبْلِكَ و قبل بعثتك، و لذا يكونون أضلّ الناس و أجهلهم و أحوجهم إلى الإنذار لَعَلَّهُمْ بهدايتك و إنذارك ينجون من ظلمة الجهل و وادي الضلال و يَهْتَدُونَ إلى دين الحقّ، و يرشدون إلى الخيرات الدنيوية و الاخروية.

و الظاهر أنّ المراد من القوم جميع أهل عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فانّهم كانوا في غاية الضّلال، و لم يأتهم نبي قبل خاتم الأنبياء، و كان واجبا على اللّه من باب اللّطف أن يبعث فيهم رسولا يهديهم إلى الحقّ لئلاّ يكون لهم على اللّه الحجة بعد بعثته.

و قيل: إنّ المراد خصوص العرب، و المراد بعدم إتيانهم النذير عدم إتيان آبائهم نبيّ من العرب، فانّ إسماعيل كان مبعوثا إلى قومه خاصة، و عيسى و من بعده من الأنبياء لم يكونوا من العرب، و خالد بن

ص: 133

سنان و إن كان نبيا عربيا، و لكن لم يعش في العرب بحيث تبلغ دعوته (1)، و الأظهر هو الوجه الأوّل.

قيل: إنّ كلمة الترجّي باعتبار حال النبي صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى لتنذرهم راجيا لهدايتهم (2)إلى التوحيد و المعارف و الدين الحقّ، فان الغرض من بعث الرسول الهداية إلى الدين، و تكميل النفوس، و تربية الذوات المستعدة للترقيّات المعنوية، القابلة للنيل إلى الفيوضات الأبدية.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ شرع في هدايتهم ببيان أدلّة توحيده بقوله: اَللّهُ الواجب الوجود هو اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و العوالم العلوية و السّفلية وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات فِي مقدار سِتَّةِ أَيّامٍ من أيّام الدنيا من الزمان، و إنّما خلقها في تلك المدّة مع قدرته على خلقها في أقلّ من طرفة عين، ليتعلّم العباد التأنّي في الامور و ترك العجلة فيها ثُمَّ اِسْتَوى و أستولى بالعلم و القدرة عَلَى اَلْعَرْشِ و قد مرّت الوجوه في تلك القضية، فاذا كان الأمر كذلك، فأنيبوا إليه، و توكّلوا عليه، و اجتهدوا في عبادته، و خافوا عذابه، فانّه ما لَكُمْ أيّها الناس مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه مِنْ وَلِيٍّ و حافظ لصلاحكم، و ناصر عند ابتلائكم وَ لا شَفِيعٍ يدفع عنكم عذابه بشفاعته، و يجيركم من بأسه أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ قيل: يعني ألا تسمعون هذه المواعظ، فلا تتذكرون (3)بها ما طبعه اللّه في فطرتكم من التوحيد و معارفه؟

اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ (5)

ثمّ بالغ سبحانه في بيان قدرته و حكمته بقوله: يُدَبِّرُ و ينظّم اَلْأَمْرَ الكائن في عالم الوجود، و ينزل أسبابه مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ و يستمرّ ذلك التدبير إلى انقضاء الدنيا ثُمَّ يَعْرُجُ و يصعد إِلَيْهِ ذلك التدبير و أسبابه، أو الأمر و ينقضي فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ و طول امتداده أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ في الدنيا من السنين لانقضاء الدنيا بمجيء يوم القيامة.

القمي: يعني الامور التي يدبّرها، و الامر و النهي الذي أمر به، و أعمال العباد، كلّ هذا يظهر يوم

ص: 134


1- . تفسير روح البيان 7:107.
2- . تفسير أبي السعود 7:80، تفسير روح البيان 7:107.
3- . تفسير أبي السعود 7:80، تفسير روح البيان 7:108.

القيامة، فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سني الدنيا (1). و قد سبقت أخبار في هذا المعنى (2).

و قيل: يعني ينزل أمره من السماء إلى الأرض على عباده، ثمّ تعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر (3)، و إنّما أسند العروج إلى الأمر، لأنّ العمل أثره، و المراد من اليوم امتداد زمان نزول الأمر و صعود العمل، فانّ مسافة ما بين السماء و الأرض خمسمائة سنة بسير أهل الأرض، فيكون مسافة النزول و الصعود ألف سنة.

و قيل: إن المراد أنّه تعالى يرسل ملكا لتدبير أمر الأرض، ثمّ يعرج إلى مكانه في السماء، فينزل الملك من السماء و يعرج إلى مكانه في مدّة لو سار أحد من الناس تلك المسافة لسارها في زمان يكون مقداره ألف سنة (4).

و قيل: إنّ المراد من السماوات و الأرض عالم الأجسام، و المراد من الأمر عالم الأرواح الذي يقال له عالم الأمر (5)، و المراد من اليوم الذي مقداره ألف.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 6 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عظمة ملكه و نفوذ أمره، بيّن سعة علمه بجزئيات مملكته، و إحاطته بخفاياها بقوله: ذلِكَ المدبّر لامور الخلق عالِمُ اَلْغَيْبِ و ما يخفى عن الحواسّ، أو الأشياء التي لم توجد بعد، أو الآخرة، أو عالم الأمر وَ عالم اَلشَّهادَةِ و المحسوس، أو الموجودات الفعلية، أو عالم الدنيا، أو عالم الأجسام اَلْعَزِيزُ الغالب القاهر على كلّ شيء، أو على الانتقام من الكفرة و العصاة اَلرَّحِيمُ بعباده في تدبير امورهم، أو البررة منه بتوفيقهم للخيرات و إنجائهم يوم القيامة من الأهوال و العذاب.

ذلِكَ عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (6) اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الآيات الآفاقية، بيّن الأدلة الأنفسية بقوله: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ من السماوات و الأرض و ما بينهما من الموجودات، بأن أوجده على ما ينبغي وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسانِ الذي هو أعجب المخلوقات، و أنموذج ما في العالم بخلق آدم عليه السّلام مِنْ طِينٍ مأخوذ من وجه

ص: 135


1- . تفسير القمي 2:168، تفسير الصافي 4:153.
2- . في سورة الحج.
3- . تفسير الرازي 25:172.
4- . تفسير روح البيان 7:108 و 109.
5- . تفسير الرازي 25:172.

الأرض المخمّر بيد القدرة،

و بعد خلق آدم عليه السّلام ثُمَّ جَعَلَ اللّه نَسْلَهُ و ذرّيته بطنا بعد بطن إلى يوم القيامة متكونا مِنْ سُلالَةٍ و خلاصة منتزعة من صلب الرجل، أعني مِنْ ماءٍ مَهِينٍ مستقذر غير معتن به،

يقال له المنيّ ثُمَّ سَوّاهُ و عدّل أعضاءه، و صوّره في الرّحم وَ بعد تكميل خلق جسده نَفَخَ و أولج فِيهِ روحا طيبا شريفا، يصحّ إضافته إلى نفسه لكمال شرفه، و يقول: أدخل فيه مِنْ رُوحِهِ مع أنّه تعالى لا روح له، بل هو خالق الرّوح فجعله حيا سويا وَ جَعَلَ لَكُمُ يا بني آدم اَلسَّمْعَ لتسمعوا الأصوات و الكلمات التي أهمّها كلمات اللّه و مواعظه و مواعظ رسله وَ اَلْأَبْصارَ لتبصروا المبصرات التي أهمّها آيات التوحيد و معاجز الأنبياء وَ اَلْأَفْئِدَةَ لتفهموا معاني الكلمات و حقائق الآيات و دقائقها، و مع ذلك قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ نعم ربّكم.

قيل: إنّ القليل هنا بمعنى النفي (1)، و المعنى لا تشكرون. و قيل: إنّ المراد قليلا منكم يشكرون (2).

سوره 32 (السجده): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ لمّا ذكر سبحانه آيات قدرته و حكمته من خلق السماوات و الأرض، و استيلائه على الموجودات، و تدبيره في عوالم الملك و الملكوت إلى قيام الساعة، و إبدائه خلق الانسان الذي هو أتمّ الموجودات و أجمعها و أعجبها، من الطين، ثمّ خلق ذرّيته من النّقطة المسلولة من الصّلب، و إعطائه نعمة السمع و البصر و الفؤاد، حكى قول منكري الحشر من كفّار قريش بقوله: وَ قالُوا إنكارا للمعاد و استبعادا له: أَ إِذا ضَلَلْنا و غبنا فِي اَلْأَرْضِ بأن صرنا ترابا و عظاما مخلوطا بأجزائها بحيث لا يتميّز ترابنا، كما لا يتميز الماء المخلوط بالحليب منه أَ إِنّا مع ذلك لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و حياة ثانية واقعون أو كائنون؟ ! لا يمكن ذلك، و هم بقولهم هذا لم يكونوا منكرين لمجرّد الخلق ثانيا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ و حسابه و جزائه للأعمال كافِرُونَ أيضا، و لدار الآخرة و المصير إلى اللّه منكرون

قُلْ يا محمد ردّا عليهم: أعلموا أيّها الكفرة أنّكم لا تموتون بالطبيعة، و لا تنعدم أرواحكم بل يَتَوَفّاكُمْ و يقبض أرواحكم مَلَكُ اَلْمَوْتِ و قابض الأرواح اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ و فوّض إليه من اللّه قبض أرواحكم ثُمَّ بعد موتكم إِلى رَبِّكُمْ و مليككم يوم القيامة تُرْجَعُونَ و في محكمة عدله تحضرون، فيجازيكم على كفركم بالتوحيد و المعاد أسوأ الجزاء.

وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

ص: 136


1- . تفسير روح البيان 7:112.
2- . مجمع البيان 8:513.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ ذكر سبحانه حال حضورهم عنده بقوله: وَ لَوْ تَرى يا من شأنه الرؤية إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ المنكرون للمعاد ناكِسُوا و مطرقو رُؤُسِهِمْ و مطأطئوها حين الحضور عِنْدَ رَبِّهِمْ خوفا و حياء و حزنا لترى عجبا. و يمكن أن يكون: لو لا نشاء التمنّي، إظهارا لكمال الفضاعة، و هم يقولون: يا رَبَّنا أَبْصَرْنا ما وعدتنا بوقوعه من الحشر للحساب و جزاء الأعمال وَ سَمِعْنا نصح رسولك و مواعظه في الدنيا، فلم نعتن بوعدك، و كذّبنا رسولك، أو المراد صرنا الآن بصيرين و سميعين بعد ما كنا في الدنيا عميا و صمّا فَارْجِعْنا إلى الدنيا و ردّنا إليها نَعْمَلْ عملا صالِحاً مرضيا عندك، نافعا لنا في هذا اليوم إِنّا الآن مُوقِنُونَ بتوحيدك، و رسالة رسولك، و صدق وعدك، كاملون في الايمان بجميع ما يجب الايمان به، فاذا رجعنا إلى دار التكليف لا نقصّر في امتثال تكاليفك.

وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ (12) وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (13)

ثمّ ردّهم اللّه بالاشارة إلى امتناع الرجوع إلى الدنيا، لعدم الفائدة في الايمان الضّروري القهري بقوله: وَ لَوْ شِئْنا الهداية القهرية، و الايمان الضروري لبني آدم في الدنيا، و اللّه لَآتَيْنا و أعطينا كُلَّ نَفْسٍ من النفوس البرّة و الفاجرة ما يكون به هُداها و إيمانها بما يجب الايمان به و انبعاثها إلى الأعمال الصالحة وَ لكِنْ جعلنا الدنيا دار التكليف و الامتحان، و بعثنا إليهم الرسول، و أنزلنا عليهم الكتاب، و سلّطنا عليهم الشيطان المغوي و المهوي المردي، و أعطيناهم العقل و قوّة تميّز الخير و الشرّ، و أوكلناهم إلى اختيارهم، ليتميّز الخبيث من الطيب، و الناجي من المطيع، و القابل للفيوضات من غير القابل، و حَقَّ اَلْقَوْلُ و سبق الوعيد الصادر منّي، و هو قولي: و عزتي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ في الآخرة مِنَ كفرة اَلْجِنَّةِ و الشياطين وَ كفرة اَلنّاسِ و ذرّية آدم، و العصاة منهم أَجْمَعِينَ حيث قال بعد قول إبليس لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (1): الحقّ و الحقّ أقول لأملئنّ جهنّم منك و ممّن تبعك منهم أجمعين.

عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ليعتذرون اللّه إلى آدم ثلاث معاذير يقول اللّه: يا آدم، لو لا أنّي لعنت الكذّابين و أبغضت الكذب و الخلف و اعذّب عليه، لرحمت اليوم ولدك أجمعين من شدّة ما أعددت لهم من العذاب، و لكن حقّ القول منّي لئن كذّب رسلي و عصي أمري لأملأنّ

ص: 137


1- . الحجر:15/39.

جهنّم من الجنّة و الناس أجمعين. و يقول اللّه: يا آدم، أعلم أنّي لا أدخل من ذرّيتك النار أحدا و لا اعذّب منهم بالنار أحدا، إلاّ من علمت أنّي لو رددته إلى الدنيا لعاد إلى أشرّ ممّا كان فيه، و لم يرجع و لم يتب» الخبر (1).

سوره 32 (السجده): آیه شماره 14 الی 17

ثمّ كأنه تعالى قال: إذا علمتم أنّه لا يمكن رجوعكم إلى الدنيا فَذُوقُوا و أطعموا طعم نار جهنّم بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ اللّه في يَوْمِكُمْ هذا اليوم العظيم الهائل، و تركتم النظر و التفكّر في أدلّة المعاد، و انهمكتم في الشهوات و لذائد الدنيا، و غفلتم عن الدار الآخرة إِنّا أيضا لا ننظر إليكم اليوم نظر الرحمة، كأنّا نَسِيناكُمْ و غفلنا عنكم و تركناكم فيما أنتم فيه من العذاب وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْخُلْدِ و الدائم الذي لازم نسيانكم، لا بسبب نسيانكم اليوم فقط، بل به و بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من القبائح و المعاصي، كتكذيب الرسول و إيذائه، و إيذاء المؤمنين به، و نظائرهما من فنون الكبائر.

فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إنكار المشركين آيات التوحيد و المعاد و سوء حالهم في الآخرة، بيّن تعظيم المؤمنين لأدلّة التوحيد و المعاد، و إظهار خضوعهم و انقيادهم عند سماعهم الآيات الدالات عليهما و حسن حالهم في الآخرة بقوله: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الدالة على التوحيد و المعاد اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا و وعظوا بِها و سمعوها من الرسول، أو المؤمنين خَرُّوا و سقطوا إلى الأرض حال كونهم سُجَّداً و خضعوا و أظهروا الانقياد لها وَ سَبَّحُوا للّه و نزّهوه عن الشّرك، و الولد، و خلق العالم عبثا، و العجز عن إعادة الخلق لجزاء الأعمال، و غير ذلك ممّا لا يليق به، مقرنين تسبيحهم بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على نعمه التي أعظمها التوفيق للايمان به و بآياته، و التسليم لأحكامه و أوامره، و الرغبة و الشوق إلى طاعته، و العمل بمرضاته وَ هُمْ لمعرفة أنفسهم بذلّة العبودية و معرفة ربّهم بعظمة الالوهية و الربوبية لا يَسْتَكْبِرُونَ و لا يتعظّمون و لا يترفّعون عن السجود و الانقياد له، و التذّلل و الخضوع عنده، و بذل الجهد في طاعته و عبادته، بل يهتمّون في القيام بوظائف العبودية

ص: 138


1- . تفسير روح البيان 7:117.

غاية الاهتمام بحيث

تَتَجافى و ترفع جُنُوبُهُمْ و تتنحّى أضلاعهم في تمام الليل أو نصفه أو ثلثه، أو في ساعة منه عَنِ اَلْمَضاجِعِ و فرش النوم حال كونهم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ و يناجونه و يتضرّعون إليه، أو يصلّون خَوْفاً من سخطه و عذابه على معاصيهم، أو من البعد عنه، لتقصيرهم في طاعته، أو من اشتمال أعمالهم بما يوجب عدم قبولها وَ طَمَعاً و رغبة في رحمته و فيوضاته الدنيوية و الاخروية.

وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و أنعمنا عليهم من المال، أو من جميع ما لهم منه، و من العلم و الجاه و غيرها يُنْفِقُونَ و يبذلون للمحتاجين و إخوانهم المؤمنين، تقرّبا إلى اللّه، و طلبا لمرضاته.

روي أنّ الآية نزلت في الذين صلّوا صلاة العشاء و الصّبح جماعة (1).

و عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «لا ينامون حتى يصلّوا العتمة» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّها قيام العبد من الليل» (3).

و عن معاذ بن جبل، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-قال: «ألا اخبركم بأبواب الخير؟» قال: نعم. قال صلّى اللّه عليه و آله: «الصوم جنّة من النار، و الصدقة تكفّر الخطيئة، و قيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه اللّه» (4). و في رواية: «يذكر اللّه» (5)و في اخرى: «يناجى ربّه» ثمّ قرأ هذه الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ (6).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: ما يقرب منه (7).

و عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «لعلّك ترى أنّ القوم لم يكونوا ينامون، لا بدّ لهذا البدن أن تريحه حتى تخرج نفسه، فاذا خرج النفس استراح البدن، و رجع للرّوح قوّة على العمل» قال: نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و أتباعه من شيعتنا، ينامون في أول الليل، فاذا ذهب ثلثا الليل، أو ما شاء اللّه، فزعوا إلى ربّهم راغبين مرهبين، طامعين فيما عنده، فذكرهم اللّه في كتابه، فأخبركم بما أعطاهم» الخبر (8)بقوله:

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ من النفوس حتى الملائكة المقرّبين و الأنبياء و المرسلين ما أُخْفِيَ و ستر لَهُمْ عن إدراك المدركين مِنْ ما به قُرَّةِ أَعْيُنٍ و سرور القلوب.

عن ابن مسعود: أنّه مكتوب في التوراة: لقد أعدّ اللّه للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين

ص: 139


1- . تفسير أبي السعود 7:85، مجمع البيان 8:518، نسبه إلى القيل.
2- . أمالي الطوسي:294/576، تفسير الصافي 4:156.
3- . تفسير أبي السعود 7:85، تفسير روح البيان 7:119.
4- . مجمع البيان 8:518، تفسير الصافي 4:156.
5- . المحاسن:289/435، الكافي 2:20/15، و فيهما: بذكر اللّه، تفسير الصافي 4:156.
6- . المحاسن:289/434، تفسير الصافي 4:156.
7- . تفسير الصافي 4:156.
8- . علل الشرائع:365/4، من لا يحضره الفقيه 1:305/1394، تفسير الصافي 4:156.

رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، و لا يعلمه ملك مقرّب (1)جَزاءً بِما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الايمان و الخضوع، و التسبيح و التحميد، و القيام عن المضاجع إلى الصلاة و الدعاء، و غير ذلك من الصالحات بإخلاص النية و صدق الطويّة.

عن الصادق عليه السّلام: «ما من عمل حسن يعمله العبد إلاّ و له ثواب في القرآن إلاّ صلاة الليل، فانّ اللّه عزّ و جلّ لم يبيّن ثوابها لعظم خطره عنده، قال جلّ ذكره: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ إلى قوله: يَعْمَلُونَ» .

ثمّ قال عليه السّلام: «إنّ للّه كرامة في عباده المؤمنين في كلّ يوم جمعة، فاذا كان يوم جمعة بعث اللّه إلى المؤمن ملكا معه حلّتان، فينتهي إلى باب الجنة فيقول: استأذنوا على فلان فيقال له: هذا رسول ربّك على الباب، فيقول لأزواجه: أيّ شيء ترين عليّ أحسن؟ فيقلن: يا سيدنا و الذي آتاك الجنة ما رأينا عليك شيئا أحسن من هذا الذي بعث إليك ربك. فيتّزر بواحدة» و يتعطّف بالاخرى، فلا يمرّ بشيء إلاّ أضاء له حتى ينتهي إلى الموعد، فإذا اجتمعوا تجلّى لهم الربّ تبارك و تعالى، فاذا نظروا إليه خرّوا له سجّدا، فيقول: عبادي ارفعوا رؤوسكم، ليس هذا يوم سجود و لا يوم عبادة، قد رفعت عنكم المؤنة. فيقولون: يا ربّ، أي شيء أفضل ممّا أعطيتنا! أعطيتنا الجنّة. فيقول: لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفا، فيرجع المؤمن في كلّ جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يديه، و هو قوله: (و لدينا مزيد) و هو يوم الجمعة، ليلتها ليلة غرّاء، و يومها يوم أزهر، فأكثروا فيها من التسبيح و التكبير و التهليل، و الثناء على اللّه، و الصلاة على محمّد صلّى اللّه عليه و آله» .

قال: «فلا يمرّ المؤمن بشيء إلاّ أضاء له، حتى ينتهي إلى أزواجه، فيقلن: و الذي أباحك الجنّة يا سيدنا ما رأيناك قطّ أحسن منك الساعة. فيقول: إنّي قد نظرت إلى نور ربّي» .

إلى أن قال عليه السّلام: «إنّ اللّه خلق جنّة بيده لم ترها عين، و لم يطّلع عليها مخلوق، يفتحها الربّ كلّ صباح فيقول: ازدادي ريحا، ازدادي طيبا، و هو قول اللّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (2).

و عنهما عليهما السّلام، قالا: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا اسري بي رأيت في الجنة نهرا أبيض من اللبن، و أحلى من العسل، و أشدّ استقامة من السّهم، فيه أباريق عدد النجوم، على شاطئه قباب الياقوت الأحمر و الدّر الأبيض، فضرب جبرئيل بجناحيه، فإذا هو مسك أذفر.

ثمّ قال: و الذي نفس محمد بيده، إنّ في الجنّة لشجرا يتصفق بالتسبيح بصوت لم يسمع الأولون و الآخرون [مثله]يثمر ثمرا كالرّمان، يلقى ثمره إلى الرجل، فيشقّها عن سبعين حلّة، و المؤمنون على

ص: 140


1- . الدر المنثور 6:549.
2- . تفسير القمي 2:168، تفسير الصافي 4:156.

الكراسي (1)، و هم الغرّ المحجّلون، [على الرجل منهم نعلان شراكهما من نور، يضيء أمامهم]حيث شاءوا من الجنة، فبينا هم كذلك إذ أشرفت عليه امرأة من فوقه، فتقول: سبحان اللّه! يا عبد اللّه، أما لنا منك دولة؟ فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من اللواتي قال اللّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» (2).

سوره 32 (السجده): آیه شماره 18 الی 20

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حال المؤمن و المجرم و عاقبتهما، وجّه الخطاب إلى العقلاء، و أنكر احتمال التساوي بين الفريقين بقوله: أَ فَمَنْ كانَ في الدنيا مُؤْمِناً يمكن أن يحتمل أن يكون في الشّرف و المنزلة عند اللّه كَمَنْ كانَ في الدنيا فاسِقاً؟ ! لا يمكن ذلك و لا يَسْتَوُونَ أبدا في شيء من الشرف و القرب و المثوبة.

أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ اَلْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ اَلنّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ اَلنّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

ثمّ أنّه تعالى بعد إنكار احتمال التساوي و التصريح بعدمه، و البيان الإجمالي لحسن عاقبة المؤمن و مثوبته، و سوء عاقبة المجرم و عقوبته، فصّل ثواب الأول و كيفية عذاب الثاني بقوله: أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ في الدنيا فَلَهُمْ في الآخرة بالاستحقاق جَنّاتُ اللاّتي تكون لهم اَلْمَأْوى و المسكن الدائم. و عن ابن عباس: أنّ جنّة المأوى اسم إحدى الجنّان الثمان (3)التي خلقها في الآخرة كلّها من الذهب (4)، حال كون تلك الجنّات نُزُلاً و تشريفا لورودهم على اللّه، وصلة لهم بِما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الايمان و السجود عند تذكّر الآيات، و تجافي جنوبهم عن المضاجع، و دعاء ربّهم، و إنفاقهم.

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا و خرجوا عن طاعة اللّه و كفروا به فَمَأْواهُمُ و مسكنهم اَلنّارُ سواء عملوا الصالحات أو السيئات، لا يخرجون منها أبدا كُلَّما و في أيّ وقت ضربهم لهيب النار و ارتفعوا إلى طبقاتها و قربوا من بابها و أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها ضربهم لهيب النار أو تتلقّاهم

ص: 141


1- . في المحاسن: على كراسي من نور.
2- . المحاسن:180/172، تفسير الصافي 4:157.
3- . في النسخة: الجنات المأوى اسم إحدى الجنات الثمانية.
4- . تفسير روح البيان 7:122.

الخزنة بمقامع من نار أو حديد و أُعِيدُوا فِيها و يهوون إلى قعرها سبعين خرفيا على ما روي، و هكذا يفعل بهم أبدا (1)وَ قِيلَ لَهُمْ إهانة و تشديدا عليهم و زيادة في غيظهم ذُوقُوا عَذابَ اَلنّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بأخبار الأنبياء بِهِ في الدنيا تُكَذِّبُونَ و تقولون: لا جنّة و لا نار.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ هدّدهم بالعذاب الدنيوي الذي يكون لطفا بهم و تنبيها لهم بقوله: وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ بعضا مِنَ اَلْعَذابِ الدنيوي الذي يكون هو اَلْأَدْنى و الأقرب إليهم كالمرض و الفقر و الجلاء [من]

الوطن دُونَ اَلْعَذابِ الاخروي اَلْأَكْبَرِ و الأشدّ و الأدوم و قبله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الكفر إلى الايمان، و يتوبون من الشّرك و المعاصي.

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذابِ اَلْأَدْنى دُونَ اَلْعَذابِ اَلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)القمي: العذاب الأدنى عذاب الرجعة بالسيف (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو عذاب القبر» . و عنهما عليهما السّلام: «هو الدابة و الدجّال» (3)و لا يرجعون و هم من الظالمين على أنفسهم.

وَ مَنْ أَظْلَمُ على نفسه مِمَّنْ ذُكِّرَ و وعظ بِآياتِ رَبِّهِ و دلائل توحيده و قدرته و حكمته، و صدّق رسله و دار جزائه ثُمَّ لم يعتن بها و أَعْرَضَ عَنْها على خلاف المؤمنين الذين إذا ذكّروا بها خضعوا لها و خرّوا سجّدا إِنّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ الظالمين على أنفسهم، و إن هانت جريمته و قلّ ظلمه يوم القيامة مُنْتَقِمُونَ بتعذيبه، فكيف بمن هو أشدّ جرما من كلّ مجرم و أظلم من كلّ ظالم!

سوره 32 (السجده): آیه شماره 23 الی 27

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ اَلْماءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (27)

ص: 142


1- . تفسير روح البيان 7:123.
2- . تفسير القمي 2:170، تفسير الصافي 4:158.
3- . مجمع البيان 8:520، تفسير الصافي 4:158.

ثمّ لمّا ذكر إعراض الكفّار عن الآيات، و كان يتألم به قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، سلاّه سبحانه بذكر نزول التوراة على موسى عليه السّلام و عدم إيمان كثير من قومه بها، و صبر أنبياء بني إسرائيل على أذى قومهم بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا مُوسَى بن عمران اَلْكِتابَ المعهود فَلا تَكُنْ يا محمّد فِي مِرْيَةٍ و شكّ مِنْ أخذ موسى عليه السّلام ذلك الكتاب و لِقائِهِ أو من لقائك موسى عليه السّلام و رؤيته في زمان حياتك، كما رأيته ليلة المعراج مرّتين في السماء السادسة حين صعوده و نزوله، أو في الآخرة، أو من تلقّيك القرآن من لدن عليم حكيم، كما تلقّى موسى عليه السّلام ذلك الكتاب الذي أنزلناه عليه وَ جَعَلْناهُ سبب هُدىً و رشاد من الضلال لِبَنِي إِسْرائِيلَ الذين اهتدوا به، كما جعلنا القرآن سبب الهداية لامّتك المؤمنين به.

وَ جَعَلْنا بعد موسى عليه السّلام في بني إسرائيل جماعة مِنْهُمْ أنبياء ليكونوا أَئِمَّةً و قادة لهم يقتدون بهم قولا و عملا يَهْدُونَ و يرشدون الخلق إلى الحقّ بِأَمْرِنا إيّاهم به، أو بوحينا إليهم، أو بتوفيقنا لهم لَمّا صَبَرُوا على مشاقّ الطاعات و شدائد الامور و أذى قومهم وَ كانُوا بِآياتِنا الدالة على معارفنا و أحكامنا، لإمعان النظر فيها يُوقِنُونَ كما جعلنا في امّتك أئمة هداة مهديين يهدونهم إلى ما في كتابك من المعارف و الأحكام و العلوم، و مع ذلك لم يؤمن بكتاب موسى أمّته، بل اختلفوا فيه، فمنهم من آمن به،

و منهم من كفر به إِنَّ رَبَّكَ اللطيف بعباده هُوَ بذاته المقدّسة يتصدّى للحكومة و يَفْصِلُ و يقضي بَيْنَهُمْ بإثابة المؤمين و تعذيب الكافرين يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و فصل القضاء فِيما كانُوا في الدنيا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من صدق الأنبياء في إخبارهم بالتوحيد و المعاد و غيرهما من العقائد الحقّة و الأحكام الإلهية، بل حكم في الدنيا بينهم بمعاملته مع الأنبياء و المؤمنين بهم و الكفار و المكذّبين لهم.

أَ غفلوا وَ لَمْ يَهْدِ و لم يظهر لَهُمْ بمطالعتهم الكتب و سماعهم بالتواتر كيف أكرمنا الأنبياء و المؤمنين، و نصرناهم على أعدائهم و كَمْ أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال مِنْ قَبْلِهِمْ جماعة مِنَ اَلْقُرُونِ و أهل الأعصار السابقة، كعاد و ثمود و المؤتفكات و غيرهم و قومك يَمْشُونَ فِي أسفارهم و تجاراتهم في منازل أولئك الامم المهلكة و مَساكِنِهِمْ الخربة، و يشاهدون آثار نزول العذاب عليهم إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك و اللّه لَآياتٍ كثيرة، و دلالات واضحة على حكم اللّه بحقّانية الموحّدين و مصدّقي الأنبياء، و مدّعي المعاد، و بطلان القول بالشّرك و إنكار المعاد، أهم صمّ

ص: 143

أَ فَلا يَسْمَعُونَ تلك المواعظ و العبر،

هبوا أنهم لا يسمعون تلك الأخبار أَ وَ لَمْ يَرَوْا بأعينهم أَنّا نَسُوقُ و نجري اَلْماءَ النازل من السماء إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ و اليابسة المنقطعة عن الماء و النبات فَنُخْرِجُ بذلك الماء، و ننبت بِهِ فيها زَرْعاً نافعا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ هم عمي فَلا يُبْصِرُونَ آيات اللّه الدالّة على توحيده و قدرته على إعادة خلقهم في الحشر للحساب و جزاء الأعمال.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 28 الی 30

ثمّ أنّه تعالى بعدما هدّد الكفّار بحكومته عليهم يوم القيامة، حكى استهزاءهم بهذا الوعيد و استعجالهم له بقوله: وَ يَقُولُونَ استهزاء للمؤمنين مَتى يكون هذَا اَلْفَتْحُ و الحكومة؟ عيّنوا وقته إِنْ كُنْتُمْ أيّها المؤمنون صادِقِينَ في إخباركم به.

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)قيل: إنّ المؤمنين قالوا لكفّار مكّة: إنّ لنا يوما يفتح اللّه فيه بيننا-يعني يحكم بيننا-يريدون يوم القيامة (1).

و قيل: إنّ المؤمنين قالوا لهم: سيفتح لنا على المشركين (2)، و ينصرنا عليهم، فأمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمد لهم: إنّ تريدوا باستعجالكم له و تعيين وقته أن تؤمنوا عند مجيئه، فاعلموا أنّ يَوْمَ اَلْفَتْحِ و هو يوم القيامة و الشهود لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا في نجاتهم من العذاب و استحقاقهم الثواب إِيمانُهُمْ باللّه و باليوم الآخر لفوات وقته، فانّ الايمان النافع لا يكون إلاّ في الدنيا، و إن تطمئنّوا بخلاصكم فيه من العذاب، فاعلموا أنّ الكفّار لا يخلصون منه وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و لا يمهلون ساعة لعدم المقتضى لإمهالهم مع كمال استحقاقهم له، أو لا ينفع يوم غلبة المسلمين عليهم إيمانهم، لأنّه إيمان عند رؤية البأس، كايمان فرعون حين الغرق، و لا يمهلهم المسلمون، بل يقتلونهم.

و القمي قال: لمّا أخبرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخبر الرجعة، قالوا: متى هذا الفتح؟ و هذه معطوفة على قوله: وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذابِ اَلْأَدْنى (1)الآية.

ص: 144


1- . تفسير القمي 2:171، تفسير الصافي 4:160، و الآية من سورة السجدة:32/21.

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تعتن بهم و لا تبال بتكذيبهم وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ النّظرة عليهم و هلاكهم، أو ابتلاءهم بالعذاب في القيامة.

في الحديث: «من قرأ (الم تنزيل) و (تَبارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ) اعطي من الأجر كأنّما أحيا ليلة القدر» (1).

و في حديث آخر: «من قرأ (الم تنزيل) في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» (2).

و في ثالث: «تجيء (الم تنزيل) السجدة يوم القيامة و لها جناحان تطاير صاحبهما و تقول: لا سبيل عليك» (3).

و عن جابر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا ينام حتى يقرأ (الم) السجدة و (تَبارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ) و يقول: «هما تفضلان كلّ سورة في القرآن بسبعين حسنة، فمن قرأهما كتب له سبعون حسنة، و محي عنه سبعون سيئة و رفع له سبعون درجة» (4).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم تنزيل) و (هَلْ أَتى عَلَى اَلْإِنْسانِ)» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة، أعطاه اللّه كتابه بيمينه، و لم يحاسبه بما كان منه، و كان من رفقاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته» (1).

ص: 145


1- . ثواب الأعمال:110، مجمع البيان 8:508، تفسير الصافي 4:160.

ص: 146

في تفسير سورة الأحزاب

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة الم السجدة التي كان فيها إثبات النبوّة، و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالاعراض عن الكفّار و استهزاء الكفّار بالمؤمنين في إخبارهم بغلبتهم على المشركين، اردفت بسورة الأحزاب التي بدأ فيها بالإعلان بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و شرح الإعراض عن الكفّار بالنهي عن طاعتهم، و الأمر باتّباع القرآن، و الاعتماد على اللّه في دفع شرّ الأعداء، و الإخبار بفتح المؤمنين في غزوة الاحزاب، و نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن خشيته من الناس في تزويج زينب بنت جحش، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأ سبحانه على حسب دأبه في كتابه بذكر أسمائه المباركة بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ تبرّكا و تيمّنا و تعليما للعباد.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّهَ وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ وَ اَلْمُنافِقِينَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)

ثمّ وجه الخطاب إلى نبيّه المعصوم الذي كان مجسّمة التقوى، و لا يتوهّم في حقّه طاعة غير اللّه، إظهارا لكمال الاهتمام بالتكاليف الموجّهة إليه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ و الشخص الجليل المخبر عن اللّه بأخبار عظيمة الفائدة، أو الشخص الرفيع المنزلة عند اللّه اِتَّقِ اَللّهَ و احترز غضبه و سخطه وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ و المتجاهرين بالكفر وَ اَلْمُنافِقِينَ المسرّين له المظهرين للاسلام، و لا تعمل بآرائهم و إن اتّفق الناس على كونها عين الصلاح إِنَّ اَللّهَ كانَ في الأزل بذاته عَلِيماً بالأشياء و مصالح العباد، و محيطا بمفاسد امورهم و حَكِيماً فلا ينهى عن شيء إلاّ و فيه المفسدة، و لا يأمر بشيء إلاّ و فيه المصلحة التامة و الحكمة البالغة.

قيل: إنّ أبا سفيان و عكرمة و أبا الأعور جاءوا بعد وقعه احد إلى المدينة، و نزلوا في دار ابن ابي رأس المنافقين، ثمّ طلبوا يوما من الرسول الأمان حتى يحضروا عنده و يكلّموه، فأعطاهم الرسول الأمان، فحضروا مع جمع من المنافقين عنده، و قالوا: يا محمد، ارفض ذكر آلهتنا، و قل إنّها تشفع يوم

ص: 147

القيامة، و تنفع لمن عبدها، و نحن ندعك و ربّك، فبان الغضب من كلامهم في وجه الرسول صلّى اللّه عليه و آله فقال ابن ابي و جمع من المنافقين: يا رسول اللّه، هؤلاء أشراف العرب، أعطهم سؤلهم، فانّ فيه صلاحك. فهمّ عمر بقتلهم، فنهاه رسول اللّه، و قال: «أعطيتهم الأمان، فلا تنقض عهدي» فأخرجهم عمر من المدينة، فنزلت (1).

و قيل: جاء جماعة من ثقيف إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: دعنا على عبادة الأصنام سنة، لتظهر مزية لنا عندك على قريش (2)ثمّ نؤمن بك، فنزلت (3).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 2 الی 4

ثمّ أنّه تعالى بعد نهيه عن متابعة الكفّار، أمره باتّباع القرآن بقوله: وَ اِتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في جميع ما تأتي و تذر، و اعمل بأحكام اللّه المنزلة في القرآن إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الطاعة و المخالفة خَبِيراً لا يخفى عليه شيء من أعمالكم و أحوالكم، و يجازيكم على حسب استحقاقكم، و لا تخش من أحد في مخالفتي، و لا ترج من أحد أن يحسن إليك، و لا تخف أحدا من ضرّه و شرّه

وَ تَوَكَّلْ و اعتمد عَلَى اَللّهِ في حفظك، و فوّض إليه جميع امورك وَ كَفى بِاللّهِ الذي خلقك و دبّر امورك، و شرّفك بمنصب الرسالة وَكِيلاً و حافظا لصلاح امورك، و حسبك ربّك وليا و ناصرا.

وَ اِتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اَللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اَللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اَللّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ (4)قيل: من خاف ريحا أو صاعقة أو غيرهما من المضارّ و المهلكات، فليكثر من ذكر: يا وكيل، فانّه يصرف منه كلّ شرّ و ضرّ، و يفتح له أبواب كلّ خير (4).

ثمّ لمّا كان طاعة الكفّار الذين هم أعداء اللّه لا تكون إلاّ حبّا لهم أو طمعا ما عندهم من الزخارف، أو خوفا من ضررهم، بيّن سبحانه أنّ حبّهم و خوفهم لا يجامع حبّ اللّه في قلب واحد بقوله: ما جَعَلَ اَللّهُ لِرَجُلٍ من الرجال و شخص من الأشخاص نبيا كان أو غيره مِنْ قَلْبَيْنِ و مضغتين صغيرتين في هيئة الصّنوبرة فِي جَوْفِهِ و داخل صدره، يكون في أحدهما الايمان و حبّ اللّه و الخوف منه، و في الآخر الكفر و حبّ أعداء اللّه و الخوف منهم.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال علي بن أبي طالب عليه السّلام: لا يجتمع حبّنا و حبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ

ص: 148


1- . تفسير روح البيان 7:131.
2- . في مجمع البيان: قالوا لتعلم قريش منزلتنا منك.
3- . مجمع البيان 8:525.
4- . تفسير روح البيان 7:132.

اللّه لم يجعل لرجل قلبين في جوفه، فيحبّ بهذا و يبغض بهذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار، لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم حبّنا فليمتحن قلبه، فان شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا و لنسا منه، و اللّه عدوّهم و جبرئيل و ميكائيل، و اللّه عدوّ للكافرين» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه، يحبّ بهذا قوما، و يحبّ بهذا أعداءهم» (2).

و عنه عليه السّلام: «فمن كان قلبه متعلقا في صلاته بشيء دون اللّه، فهو قريب من ذلك الشيء، بعيد عن حقيقة ما أراد اللّه منه في صلاته» ثمّ تلا هذه الآية (3).

و عن ابن عباس: كان المنافقون يقولون: إنّ لمحمد قلبين: قلبا معنا، و قلبا مع أصحابه، فأكذبهم اللّه (4).

و عن جمع من مفسّري العامة: أنّها نزلت في أبي معمر جميل (5)بن معمر الفهري، أو جميل بن أسد، و كان لبيبا حافظا لما يسمع، و كان يقول: إنّ في جوفي قلبين، أعقل بكلّ منهما أفضل ممّا يعقل محمّد! و كانت قريش تسمّية ذا القلبين، فلمّا كان يوم بدر و هزم المشركون، و فيهم أبو معمر تلقّاه أبو سفيان و هو آخذ بإحدى نعليه بيده، و الاخرى في رجله، و هو يعدو في الرّمضاء، و يقول: أين نعلي، أين نعلي؟ فقال أبو سفيان له: إحدى نعليك في يدك (4). فخجل.

و في رواية، قال له: فما بالك إحدى نعليك في يدك؟ قال أبو معمر: ما شعرت إلاّ أنّهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنّه ليس له إلاّ قلب واحد، و إلاّ مانسي نعله في يده (5).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 4 الی 5

ما جَعَلَ اَللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اَللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اَللّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ (6) اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (7)

ص: 149


1- . تفسير القمي 2:171، تفسير الصافي 4:162.
2- . مجمع البيان 8:527، تفسير الصافي 4:162.
3- . مصباح الشريعة:92، تفسير الصافي 4:162.
4- . تفسير القرطبي 14:116، تفسير أبي السعود 7:90، تفسير روح البيان 7:134.
5- . تفسير الصافي 4:162.
6- . تفسير روح البيان 7:134.
7- . في النسخة: حميد.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال هذا القول أبطل قولهم بأنّ الزوجة تصير في حكم الامّ بالظّهار بقوله: وَ ما جَعَلَ اللّه تكوينا أو تشريعا نساءكم اللاتي يكنّ أَزْواجَكُمُ و حلائلكم اَللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ و تقولون لهنّ: أنتنّ علينا كظهور امّهاتنا أُمَّهاتِكُمْ حقيقة أو حكما، أمّا حقيقة فبالبداهة، و أما حكما فلعدم الملاك، فلا وجه لحسبانهنّ مطلّقات، كما تخيلهنّ العرب في الجاهلية مطلقات، ثمّ أبطل قولهم بأنّ من قال لأحد: أنت ابني يكون ابنا له بقوله: وَ ما جَعَلَ اللّه أَدْعِياءَكُمْ و الذين تبنّيتموهم و دعوتموهم باسم الابن أَبْناءَكُمْ الحقيقة أو الحكمية، كما جعلتهم العرب في الجاهلية أبناء للداعي و المتبنّي، و حرّموا نكاح أزواجهم عليه، و ورثوهم أمواله، و لذا كانت تقول لزيد بن حارثة الكلبي: عتيق رسول اللّه ابن محمد ذلِكُمْ المذكور من امومة المظاهرة و بنوّة الدعي قَوْلُكُمْ الذي تقولونه بِأَفْواهِكُمْ و ألسنتكم، لا توافقه قلوبكم و عقولكم، و كذب اخترعتموه بأهوائكم وَ اَللّهُ المطّلع على حقائق الأشياء و واقعيات الامور يَقُولُ اَلْحَقَّ و الكلام الصّدق المطابق للواقع وَ هُوَ بلطفه يَهْدِي عباده اَلسَّبِيلَ الحقّ في جميع الامور، فدعوا أقوالكم و خذوا بقوله.

ثمّ هدى الناس و علّمهم الكلام الحقّ بقوله: اُدْعُوهُمْ و انسبوهم لِآبائِهِمْ الذين ولدوهم، فانّ الدعاء لآبائهم هُوَ أَقْسَطُ و أعدل و أقرب للصواب عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه من دعائهم لغير آبائهم، و أصدق من نسبتهم إلى من تبنّاهم فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا و لم تعرفوا آباءَهُمْ حتى تنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ إذا كانوا مسلمين وَ مَوالِيكُمْ و عتقاؤكم إذا أعتقتموهم، أو أحبّاؤكم، فقولوا لهم: يا إخواننا، أو يا أولياءنا وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عند اللّه جُناحٌ و إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ و عدلتم عن طريق الصواب فيه بالسّهو أو بسبق اللّسان وَ لكِنْ الجناح ما تَعَمَّدَتْ و قصدت قُلُوبُكُمْ بعد النهي، و في الحديث: «من دعي لغير أبيه، و هو يعلم أنّه غير أبيه، فالجنّة عليه حرام» (1)وَ كانَ اَللّهُ مع التعمد أيضا غَفُوراً و ستّار العصاة (2)التائبين رَحِيماً بالمؤمنين.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 6

اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي اَلْكِتابِ مَسْطُوراً (6)

ص: 150


1- . تفسير روح البيان 7:138.
2- . في النسخة: العصيان.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما نفى الامومة عن المظاهرة، و البنوّة عن الدعيّ، أثبت الابوة و الأولوية في جميع الامور بالمؤمنين لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: اَلنَّبِيُّ أَوْلى و أجدر بِالْمُؤْمِنِينَ في جميع الامور الدينية و الدنيوية مِنْ أَنْفُسِهِمْ لكونه أعلم بمصالحهم و مفاسدهم، و أشفق عليهم منها، فيجب أن يبذولها دونه، و يتّبعوه في كلّ ما يدعوهم إليه، و لا يدعوهم إلاّ إلى ما فيه نجاتهم و فلاحهم و رشدهم و فوزهم، كما جاء في الحديث «مثلي و مثلكم، كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الفراش و الجنادب (1)يقعن فيها، و هو يذبّ عنها، و أنا آخذ بحجزكم (2)عن النار، و أنتم تفلتون من يدي، و تطلبون الوقوع في النار بترك ما أمرت به، و ارتكاب ما نهيت عنه» (3).

و في الحديث: «ما من مؤمن إلاّ و أنا أولى به في الدنيا و الآخرة من أنفسهم و من آبائهم» (4).

و في آخر: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه و ولده و ماله و الناس أجمعين» (5)

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، و عليّ أولى به من بعدي» . فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: «قول النبي صلّى اللّه عليه و آله: من ترك دينا أو ضياعا فعليّ، و من ترك مالا فلورثته. فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، و ليس له على عياله أمر و لا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة، و النبي و أمير المؤمنين و من بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم، و ما كان سبب إسلام عامة اليهود إلاّ من بعد هذا القول من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إنّهم آمنوا على أنفسهم و عيالاتهم» (6).

عن بعض العامة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نشاور آباءنا و امّهاتنا، فنزلت الآية (7).

و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السّلام: «أنا و أنت أبوا هذه الامّة» (8).

ثمّ أثبت امومة المؤمنين لأزواجه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ و بمنزلة اللاتي ولدنهم في وجوب التعظيم، و حرمة النّكاح دون النظر و الخلوة و الميراث، فانهنّ في جميع ما ذكر بمنزلة الأجنبيات.

ص: 151


1- . الجنادب: جمع جندب-بفتح الدال و ضمّها-نوع من الجراد.
2- . الحجز: جمع حجزة، و هي موضع شدّ الإزار من الوسط، و موضع التكّة من السراويل.
3- . تفسير روح البيان 7:138.
4- . تفسير روح البيان 7:139.
5- . تفسير روح البيان 7:139.
6- . الكافي 1:335/6، تفسير الصافي 4:167.
7- . تفسير روح البيان 7:138.
8- . تفسير روح البيان 7:140.

عن الباقر عليه السّلام في حديث: «و أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحرمة مثل امّهاتهم» (1).

و عن القائم عليه السّلام: أنّه سئل عن معنى الطلاق الذي فوّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكمه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إن اللّه تقدّس اسمه عظّم شأن نساء النبيّ فخصّهن بشرف الامّهات، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا الحسن، إنّ هذا لشرف باق ما دمن على الطاعة فأيّتهنّ عصت اللّه بعدي بالخروج عليك، فأطلقها في الأزواج، و أسقطها من تشرّف الامّهات و من (2)شرف امومة المؤمنين» (3).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ابوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله للمؤمنين و أولويته بهم من أنفسهم، و امومة أزواجه لهم، و أخوّتهم في الدين، و كان في بدو الهجرة التوراث بينهم بتلك الاخوة، نسخ اللّه حكم التوارث بينهم بعد قوّة الاسلام بقوله: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ و ذوو القرابات النسبية بَعْضُهُمْ أَوْلى و أحرى بِبَعْضٍ آخر منهم في التوارث فِي كِتابِ اَللّهِ و فرضه، أو اللّوح المحفوظ، أو القرآن المنزل منه مِنْ الأنصار اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ منهم. و قيل: هذا بيان لاولى الأرحام (4).

و على أيّ تقدير، فلا يرث غير القرابات النسبية من أموالكم أيّها المؤمنون شيئا، و لا يجوز لهم أن يأخذوا منها بعد موتكم إِلاّ في صورة أَنْ تَفْعَلُوا أنتم، و تحسنوا في حياتكم إِلى أَوْلِيائِكُمْ و أحبّائكم من الأقارب أو الأجانب بالإيصاء مَعْرُوفاً و شيئا حسنا عند العقل و الشرع، فانّهم يأخذون ما اوصي لهم من الأموال إذا لم يكن زائدا على الثّلث.

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل: أيّ شيء للموالي؟ فقال: «ليس لهم من الميراث إلاّ ما قال اللّه: إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» (5).

كانَ ذلِكَ المذكور من أولوية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بامته، و امومة أزواجه للمؤمنين، و توارث ذوي الأرحام فِي اَلْكِتابِ و اللّوح المحفوظ، أو القرآن مَسْطُوراً و مكتوبا.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ لمّا أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتقوى منه، و عدم الاعتناء بالكفار، و التوكّل عليه، و التوجّه بقلبه إليه، و جعل له الولاية العامة، و وجوب الإطاعة، و الامومة لأزواجه، بيّن نبوّته الموجبة لجميع ذلك، و عظم

وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ اَلصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)

ص: 152


1- . الكافي 5:421/4، تفسير الصافي 4:167.
2- . في كمال الدين: فأطلق لها في الأزواج و أسقطها من.
3- . كمال الدين:459/21، تفسير الصافي 4:167.
4- . تفسير أبي السعود 7:91، تفسير روح البيان 7:140.
5- . الكافي 7:135/3، تفسير الصافي 4:168.

شأنه المقتضية لاعطائه الولاية المطلقة بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا. قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد وقت أخذنا (1)مِنَ اَلنَّبِيِّينَ كافة حين تحميلهم الرسالة في الذرّ، أو في هذا العالم مِيثاقَهُمْ و عهودهم بتبليغ الرسالة و تحمّل أعبائها.

ثمّ خصّ اولي العزم منهم بالذّكر مع دخولهم في النبيّين، تعظيما لهم، مقدّما لذكر حبيبه إعلانا بشرفه عليهم بقوله: وَ مِنْكَ يا حبيبي وَ مِنْ نُوحٍ الذي هو أوّل اولي العزم، و أصل بني آدم بعد الطّوفان وَ إِبْراهِيمَ الذي يفتخر به العرب وَ مُوسى الذي يتديّنون بدينه اليهود وَ عِيسَى الذي تنسب النصارى دينهم إليه، و لم يكن له أب، و لذا يكنى ب اِبْنِ مَرْيَمَ.

ثمّ أكّد سبحانه أخذ الميثاق بقوله: وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً و عهدا أكيدا تعقبه المسؤولية الشديدة لِيَسْئَلَ اللّه هؤلاء اَلصّادِقِينَ في دعوة النبوة، و الإخبار عن اللّه عَنْ علّة صِدْقِهِمْ كان لوجه اللّه، أو للرياء و طلب الدنيا وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ و المكذّبين لهم في الآخرة عَذاباً أَلِيماً.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 9 الی 13

ثمّ حثّ المؤمنين على تخليص الايمان بذكر معجزة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله التي كانت دليلا على صدقه، و نعمة عليهم، و لطفا من اللّه بهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ و اشكروها إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ و أحزاب من قريش و غطفان و كنانة و بني سليم و أشجع و اليهود و غيرهم، ليستأصلوكم، فدعا الرسول و المؤمنون فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ إجابة لدعائكم و إنجازا لما وعدكم رسولكم رِيحاً باردة يقال لها الصّبا في ليلة شاتية، فأحصرتهم، و لم يجاوز معسكرهم، و سفت التراب في وجوههم وَ جُنُوداً من الملائكة، و أنتم لَمْ تَرَوْها فقلعت أوتار خيامهم، و قطعت

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ اَلْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ اَلظُّنُونَا (10) هُنالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً (12) وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ اَلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً (13)

ص: 153


1- . تفسير أبي السعود 7:91، تفسير روح البيان 7:141.

أطنابها، و أطفأت نيرانهم، و أكفأت قدورهم، و نفثت الرّعب في قلوبهم، و كبّرت في جوانب معسكرهم حتى سمعوا التكبير و قعقعة السلاح، و اضطربت خيولهم حتى قال رؤساؤهم: النّجا النّجا، فانهزموا ليلا من غير قتال، و تركوا ما استثقلوا من أمتعتهم وَ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق، و تدبير أمر الحرب، و ترتيب أسبابه، و الثبات على الايمان، و الجدّ في الصالحات بَصِيراً و شاهدا، فيجازيكم عليه أفضل الجزاء. و اعلم أنّ الآية و ما بعدها نزلت في غزوة الأحزاب.

قصة غزوة الأحزاب

روي أنّه كان في المدينة و نواحيها بطنان من اليهود؛ أحدهما بنو قريظة، و الآخر بنو النّضير، فلمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة صالحهم على أن يكونوا معه، و لا يكونوا عليه، فذهب الرسول صلّى اللّه عليه و آله يوما مع بعض أصحابه إلى قرية بني النّضير يقال لها زهرة لحاجة، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم، فعزموا على قتله صلّى اللّه عليه و آله، و صعد بعضهم على سطح بيت ليلقي عليه صخرة، فأخبره جبرئيل بما أرادوا، فقام و رجع إلى المدينة، فلمّا رأى منهم نقض العهد، أرسل إليهم محمد بن مسلمة أن اخرجوا من أرض المدينة. فامتنعوا، فخرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه لمحاربتهم، فحاصرهم ستّ ليال، و قذف اللّه في قلوبهم الرّعب. فسألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله أن يجليهم و يكفّ عن دمائهم، فقبل عليه السّلام مسألتهم و أجلاهم، فسار سيّدهم حييّ بن أخطب و جمع من كبرائهم إلى قريش، و حرّضوهم على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوافقهم قريش.

ثمّ ساروا إلى غطفان و قبائل اخر، و حرّضوهم على ذلك، فتجهّزت قريش و من اتّبعهم من القبائل، و عقدوا اللواء في دار الندوة، و كان مجموع الأحزاب من قريش، و غطفان، و بني مرّة، و بني أشجع، و بني أسد، و بني سليم، و كنانة، و يهود بني قريظة، و بني النضير، و غيرهم قدر اثني عشر ألفا، و قائد الكلّ أبو سفيان.

فأتى ركب من خزاعة في أربع ليال إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبروا به، فاستشار صلّى اللّه عليه و آله أصحابه في أمر العدوّ هل يبرزون من المدينة، أو يقيمون فيها.

قصة حفر الخندق

و ذكر إعجاز

النبي صلّى اللّه عليه و آله

فقال سلمان: يا رسول اللّه، إنّا كنّا إذا تخوّفنا لعدوّ بأرض فارس، حفرنا علينا خندقا، يكون بيننا و بينهم حجاب، و تكون الحرب في مواضع معروفة، و لا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: أشار سلمان بصواب، فسار صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه-و هم ثلاثة آلاف (1)، أو سبعمائة (2)-إلى احد، أو إلى جبل سلع، و جعل أسفله المعسكر.

ص: 154


1- . تفسير روح البيان 7:143.
2- . تفسير القمي 2:177.

و في رواية: أمر بمسجد في ناحية احد إلى راتج (1)، و جعل على كلّ عشرين أو ثلاثين خطوة قوما من الأصحاب يحفرونه، و بدأ بنفسه، فأخذ معولا، فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، و عليّ عليه السّلام ينقل التّراب، حتى عرق النبي صلّى اللّه عليه و آله و عيي، و قال: «لا عيش إلاّ عيش الآخرة، اللهمّ اغفر للأنصار و المهاجرين» . فلمّا نظر الناس إليه اجتهدوا في الحفر (2)، و كلّما عرض لهم جبل شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيجيء و يضرب المعول، فيصير كثيبا مهيلا، قال سلمان: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليّ، فاخذ المعول من يدي و قال: «بسم اللّه» (3).

و في رواية: دعا بماء فغسل وجهه و ذراعيه، و مسح على رأسه و رجليه، ثمّ شرب و مجّ من ذلك الماء في فيه، ثمّ صبّه على ذلك الحجر، ثمّ أخذ معولا فبرقت برقة (4)، و كسر ثلث الحجارة، فخرج منها نور من قبل اليمن كالمصباح في جوف الليلة المظلمة، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «اعطيت مفاتيح اليمن، و اللّه إنّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة كأنّها أنياب الكلاب» (5). ثمّ و في رواية: «فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور المدائن (6)، ثمّ ضرب اخرى قطع ثلثا آخر، و برق منها برقة، فخرج نور من قبل الرّوم، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «اعطيت مفاتيح الشام، و اللّه لابصر قصورها» (7). و في رواية نظرنا فيها إلى قصور الشام (8)، ثمّ ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر، و برق منها برقة، فخرج نور من قبل فارس، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «اعطيت مفاتيح فارس، و اللّه إنّي لابصر قصور الحيرة و مدائن كسرى، كأنّها أنياب كلاب، و جعل يصف لسلمان أماكن فارس، و يقول سلمان: صدقت. ثمّ قال: «هذه فتوح يفتحها اللّه بعدي يا سلمان» (9).

و في رواية جابر: فنظرنا فيها إلى قصور المدائن، فقال رسول اللّه: «أما إنّه سيفتح اللّه عليكم هذه المواضع التي برق فيها البرق، ثمّ انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل، فقال جابر: فعلمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جائع لمّا رأيت على بطنه الحجر، فقلت: يا رسول اللّه، هل لك في الغذاء؟ قال: «ما عندك؟» قلت: عناق (10)و صاع من شعير. فقال: تقدّم و أصلح ما عندك.

قال جابر: فجئت إلى أهلي، فأمرتها فطحنت الشعير، و ذبحت المعز و سلختها، و أمرتها أن تخبز

ص: 155


1- . راتج: أطمة (حصن) من آطام المدينة. «الروض المعطار:266» ، و في النسخة: رابح.
2- . تفسير القمي 2:177.
3- . تفسير روح البيان 7:144.
4- . تفسير القمي 2:178.
5- . تفسير روح البيان 7:144.
6- . تفسير القمي 2:178.
7- . تفسير روح البيان 7:145.
8- . تفسير القمي 2:178.
9- . تفسير روح البيان 7:145.
10- . العناق: الانثى من المعز.

و تطبخ و تشوي، فلمّا فرغت جئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: بأبي أنت و اميّ يا رسول اللّه، قد فرغنا، فاحضر مع من أحببت. فقام عليه السّلام إلى شفير الخندق، و قال: يا معاشر المهاجرين و الأنصار، أجيبوا جابر. قال جابر: و كان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلّهم، ثمّ لم يمرّ بأحد من المهاجرين و الأنصار إلاّ قال: «أجيبوا جابرا» (1). و في رواية: كان على الخندق ثلاثة آلاف رجل (2).

قال جابر: فتقدّمت و قلت لأهلي: قد أتاك رسول اللّه بما لا قبل لك به. فقالت: أعلمته أنت بما عندك؟ قلت: نعم قالت: فهو أعلم بما أتى. فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنظر في القدر، ثمّ قال: «أغرفي و أبقي» ثمّ نظر في التنّور، ثمّ قال: «أخرجي-أو اخبزي-و أبقي» ثمّ دعا بصحفة فثرد فيها و تمرّق، و قال: «يا جابر، أدخل عليّ عشرة عشرة» فأدخلت عشرة فأكلوا حتى نهلو، و ما يرى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم. ثمّ قال: «علي بالذّراع» فأتيته به، فأكلوه. ثمّ قال: «أدخل عشرة» فأدخلتم، فأكلوا حتى نهلوا، و ما يرى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم، ثمّ قال: «عليّ بالذّراع» فأكلوا و خرجوا، ثمّ قال: «عليّ بعشرة» فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا، و ما يرى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم، ثمّ قال: «عليّ بالذراع» فأتيته، فقلت: يا رسول اللّه، كم للشاة من ذراع؟ قال: «ذراعان» . فقلت: و الذي بعثك بالحقّ، لقد أتيتك بثلاثة. فقال: «أما لو سكتّ-يا جابر-لأكل الناس كلّهم من الذراع» قال جابر: فأقبلت ادخل عشرة عشرة حتى أكلوا كلّهم، و بقي لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياما (3).

و في رواية، قال عليه السّلام لأهلي: «كلي و أهدي» فأهديت منه إلى أقربائي (4)فأكلوا منه حتى شبعوا.

فلمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حفر الخندق في ستّة أيام، أقبلت قريش و من معهم من الأحزاب يوم فراغهم أو بعد ثلاثة أيام، فلمّا نزلوا العقيق، جاء حييّ بن أخطب إلى بني قريظة، و كانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأغواهم و حملهم على نقض العهد، فتجهّزوا لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أرادو الإغارة على المدينة بمعاونة طائفة من قريش، فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فعظم البلاء، و صار الخوف على النساء و الذراري أشدّ ممّا على أهل الخندق، فبعث صلّى اللّه عليه و آله ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة (5)، و يأمنون أهلها.

قأقبلت قريش و الأحزاب كما حكاه سبحانه بقوله: إِذْ جاؤُكُمْ أيها المؤمنون مِنْ الوادي الذي كان من فَوْقِكُمْ و أعلى معسكركم وجهة شرقية، و هم عطفان و من معهم من أهل نجد

ص: 156


1- . تفسير القمي 2:178.
2- . تفسير أبي السعود 7:92، تفسير روح البيان 7:144.
3- . تفسير القمي 2:178.
4- . مجمع البيان 8:535.
5- . تفسير روح البيان 7:145.

و اليهود وَ مِنْ الوادي الذي كان في أَسْفَلَ و أنزل مِنْكُمْ و من معسكركم وجهة غربية، و هم قريش و من معهم من القبائل وَ اذكر إِذْ زاغَتِ و تحيّرت اَلْأَبْصارُ وَ شخصت بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَناجِرَ من الرّعب و الخوف.

قيل: إنّ الرئة تنتفخ من شدّة الرّعب، فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة (1)و منتهى الحلقوم، و لو لا ضيقه بها لخرجت من الجوف. و المراد أنّه كادت أن تبلغ القلوب الحناجر خوفا على أنفسهم من الأحزاب الذين كانوا أضعافهم، و على ذراريهم في المدينة من اليهود الذين نقضوا عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أرادوا الإغارة عليهم فيها.

وَ تَظُنُّونَ أيّها المظهرون للايمان بِاللّهِ الذي وعدكم النصر اَلظُّنُونَا المختلفة، فانّ المخلصين ظنّوا إنجاز وعده و امتحانهم، و ظنّ الضعاف القلوب و الايمان و المنافقون القتل و الأسر و الغارة و خلف اللّه وعده أو كذبه هُنالِكَ و في ذلك الوقت، أو الموطن اُبْتُلِيَ و اختبر اَلْمُؤْمِنُونَ بالحصر و الرّعب، و ظهر المخلص من المنافق، و الثابت من المتزلزل وَ زُلْزِلُوا و اضطربوا زِلْزالاً و اضطرابا شَدِيداً و أزعجوا و حرّكوا إزعاجا و حراكا قويا من شدّة الفزع.

وَ اذكر إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ و مسرّو الكفر كمعتّب بن قشير و أتباعه، وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف الايمان، أو الشكّ لمّا رأوا قوّة العدو و شوكتهم، أو حفر الخندق مع وعده صلّى اللّه عليه و آله بفتح الممالك ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ بالنصر و الغلبة و إعلاء الدين إِلاّ غُرُوراً و وعدا باطلا، أو إيقاعا في الخطر و المهلكة بالخدعة،

وَ اذكر إِذْ قالَتْ فرقة من المنافقين و طائِفَةٌ مِنْهُمْ كأوس بن قبطي و تابعيه في الرأي لأهل المدينة: يا أَهْلَ يَثْرِبَ و سكّان المدينة لا مُقامَ لَكُمْ في معسكر محمد، و لا يصحّ توقّفكم فيه مع كثرة العدوّ و وضوح هلاككم بأيديهم فَارْجِعُوا إلى منازلكم بالمدينة، و احفظوا أنفسكم من القتل و الأسر، و أموالكم من النهب، و اتركوا محمدا بين أعدائه حتى يفعلوا به ما أرادوا وَ يَسْتَأْذِنُ في الرجوع فَرِيقٌ مِنْهُمُ كبني حارثة و بني سلمة اَلنَّبِيَّ حفظا لخاطره احتياطا، و تحصيلا لرضاه عنهم، و هم يَقُولُونَ اعتذارا من الرجوع: يا رسول اللّه إِنَّ بُيُوتَنا و منازلنا في المدينة عَوْرَةٌ و مختلّة و خربة يخاف منها العدوّ و السّرّاق، لإمكان دخولهم فيها بسهولة، فنرجع و نسدّ خللها، و نعمّر خرابها و نحصّنها من الدخول فيها، ثمّ نرجع إلى معسكرك، و نكون معك.

ص: 157


1- . تفسير أبي السعود 7:93، تفسير روح البيان 7:148.

قيل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يأذّن لهم في الرجوع (1)، فردّهم اللّه و أكذب عذرهم بقوله: وَ ما تلك البيوت، و ليست هِيَ بِعَوْرَةٍ و مختلّة، بل هي معمورة حصينة محرزة.

عن الصادق عليه السّلام: «بل هي رفيعة السّمك حصينة» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «كانت بيوتهم في أطراف البيوت حيث ينفرد الناس، فأكذبهم اللّه» (3)بقوله: إِنْ يُرِيدُونَ بقولهم ذلك و ما يقصدون من عذرهم إِلاّ فِراراً من القتال حبّا للحياة، و تكذيبا للرسول في وعده بالنصر.

قيل: قد صحّ أنّه فرّ إلى المدينة كلّ من في قلبه مرض، و بقي مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله أهل اليقين (4).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ بيّن سبحانه شدّة اشتياقهم إلى الكفر بقوله: وَ لَوْ دُخِلَتْ بيوتهم و هم فيها، و كان الدخول عَلَيْهِمْ مِنْ جميع أَقْطارِها و جوانبها لكثرة الخلل فيها ثُمَّ سُئِلُوا من قبل طائفة اخرى كافرة، و طلبوا منهم اَلْفِتْنَةَ و الرجعة إلى الشّرك و الكفر، و اللّه لَآتَوْها و أعطوها السائلين و أجابوهم إليها غير مبالين بما دهاهم من الداهية و الغارة وَ ما تَلَبَّثُوا باجابة الفتنة، و ما تمكّثوا بِها زمانا إِلاّ زمانا يَسِيراً و قليلا قدر ما يسمعون السؤال و يردّون الجواب فضلا عن التعلّل باختلال البيوت عند سلامتها، كما فعلوا الآن، و ما ذلك إلا لبغضهم للاسلام و أهله، و حبّهم للكفر و أهله،

وَ هم و اللّه لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اَللّهَ مِنْ قَبْلُ حين انهزموا يوم احد، و نزل فيهم آيات اللّوم و العتاب، أنّهم في جهاد الكفّار لا يُوَلُّونَ اَلْأَدْبارَ و لا يتركون العدوّ في قتال خلف ظهورهم، و لا يفرّون منه كما فرّوا في ذلك اليوم، و مع ذلك فرّوا في هذه الوقعة، و يستأذنوك في الرجوع نقضا لذلك العهد وَ الحال أنّه كانَ عَهْدُ اَللّهِ يوم القيامة مَسْؤُلاً عنه هل و في به أو نقض، و يعاقب على نقضه.

وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا اَلْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاّ يَسِيراً (14) وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اَللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ اَلْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اَللّهِ مَسْؤُلاً (15)

ص: 158


1- . تفسير روح البيان 7:151.
2- . مجمع البيان 8:545، تفسير الصافي 4:169، و سمك البيت: سقفه.
3- . تفسير العياشي 2:250/1866، تفسير الصافي 4:169.
4- . تفسير روح البيان 7:149.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بلومهم على لغوية عملهم بعد بيان ضرره بقوله: قُلْ يا محمد لهم: لو فرض أنّه لا عقوبة على نقض عهد اللّه و عصيانه لَنْ يَنْفَعَكُمُ و لا يفيد في سلامتكم و طول عمركم اَلْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ حتف الأنف أَوِ اَلْقَتْلِ بالسيف إذا قدّر كلّ واحد منهما لكم في وقت معين، و جرى عليه القلم، فأنّه لا رادّ لقضاء اللّه، و لا محيص عمّا خطّ بالقلم وَ لو فرض أنّ الفرار نفعكم في تأخير آجالكم إِذاً لا تُمَتَّعُونَ و لا تنفعون بالحياة و لذائذ الدنيا إِلاّ زمانا أو تمتّعا قَلِيلاً فانّ عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في غاية القلّة، و لا بد لكلّ نفس من الخروج منها.

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اَللّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (17)

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتقرير عدم نفع الفرار بقوله: قُلْ يا محمد للمنافقين مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ و يحفظكم مَنْ حكم اَللّهِ و قضائه إِنْ أَرادَ اللّه بِكُمْ سُوءاً و شرّا، كالهزيمة و القتل و الأسر و نحوها أَوْ [من]

يصيبكم بسوء إن أَرادَ اللّه بِكُمْ رَحْمَةً و نعمة، كالغلبة على العدوّ و الغنيمة و الشرف و السلامة و نحوها.

ثمّ قرّر سبحانه عدم عاصمية غيره بقوله: وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه وَلِيًّا و محبّا ينفعكم لمحبّته إياكم وَ لا نَصِيراً و معينا يدفع عنكم السوء إذا أتاكم.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 18 الی 20

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين الذين كانوا يصرفون المسلمين عن الجهاد و نصرة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ و يعرف اَلْمُعَوِّقِينَ و المثبّطين للناس عن نصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و دينه، و الصارفين لهم عن سلوك طريق كلّ خير، و هم المنافقون مِنْكُمْ أيّها المسلمون، وَ يعلم اَلْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ و موافقيهم في الكفر و النفاق من أهل المدينة: هَلُمَّ و اقربوا إِلَيْنا و احضروا عندنا، و فيه دلالة على أنّهم حين قولهم هذا، كانوا خارجين من معسكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله متوجّهين نحو المدينة، فرارا من الزّحف، و لو كانوا في المعسكر يعتذرون و يتأخّرون، ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنّهم معهم وَ لا يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ و الحرب و لا يقاتلون الأعداء إِلاّ إتيانا، أو قتالا قَلِيلاً أو قليلا منهم حال كونهم

ص: 159

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين الذين كانوا يصرفون المسلمين عن الجهاد و نصرة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ و يعرف اَلْمُعَوِّقِينَ و المثبّطين للناس عن نصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و دينه، و الصارفين لهم عن سلوك طريق كلّ خير، و هم المنافقون مِنْكُمْ أيّها المسلمون، وَ يعلم اَلْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ و موافقيهم في الكفر و النفاق من أهل المدينة: هَلُمَّ و اقربوا إِلَيْنا و احضروا عندنا، و فيه دلالة على أنّهم حين قولهم هذا، كانوا خارجين من معسكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله متوجّهين نحو المدينة، فرارا من الزّحف، و لو كانوا في المعسكر يعتذرون و يتأخّرون، ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنّهم معهم وَ لا يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ و الحرب و لا يقاتلون الأعداء إِلاّ إتيانا، أو قتالا قَلِيلاً أو قليلا منهم حال كونهم

أَشِحَّةً و بخلاء عَلَيْكُمْ بالمعاونة، أو الانفاق في سبيل اللّه، أو بظفركم و اغتنامكم لا يريدون أن يكونا لكم.

قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ اَلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي اَلْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاّ قَلِيلاً (20)ثمّ بيّن سبحانه شدّة جبنهم بقوله: فَإِذا جاءَ اَلْخَوْفُ من العدوّ بأن حملوا على عسكر المسلمين رَأَيْتَهُمْ يا محمد في تلك الحالة يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ التجاء بك، و هم من شدّة الجبن تَدُورُ و تتحرّك أَعْيُنُهُمْ في أحداقهم يمينا و شمالا كَالَّذِي و التقدير كدوران عين الشخص الذي يُغْشى عَلَيْهِ و تعرض له (1)الغشوة و زوال الشّعور و الفهم مِنَ معالجة سكرات اَلْمَوْتِ خوفا و رعبا، فلا يقدر على النّزال و القتال فَإِذا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ بانكسار العدوّ و الظّفر عليهم، و جمعت الغنائم سَلَقُوكُمْ و آذوكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ و أقوال خشنة و كلمات سيئة، كإظهار المنّة عليكم بالمساعدة و القتال معكم بقولهم: لو لم نكن معكم لما هزمتم العدوّ، و ما نجيتم من القتل بسيوفهم، فبنا غلبتموهم و نصرتم عليهم، فوفّروا حظّنا من الغنائم، و إنّما قالوا ما قالوا لكونهم أَشِحَّةً و حريصين عَلَى اَلْخَيْرِ أو المال، أو بخلاء على المال، بأن يوفّر عليكم القسمة، مع كونهم راضين في أول القتال من الغنيمة بالإياب، فهم قليلو الخير في الحالين، كثيرو الشرّ في الوقتين، لكونهم بخلاء قبل القتال و بعده أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا حقيقة، و إن أظهروا الايمان فَأَحْبَطَ اَللّهُ و أبطل أَعْمالَهُمْ الحسنة لعدم الإخلاص وَ كانَ ذلِكَ الإحباط، عَلَى اَللّهِ يَسِيراً و سهلا، فلمّا نظرت قريش إلى الخندق قالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها (2)، فنزلوا بمجمع الأسيال، فصفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه، و كان أكثر الحال بينهم و بين العدوّ الرمي بالنبال و الحصى، و أقبل نوفل بن عبد اللّه يوما، فضرب فرسه ليطفر الخندق فوقع فيه، فنزل إليه عليّ عليه السّلام فقطعه نصفين بسيفه (3).

قصة قتل أمير

المؤمنين عليه السّلام

عمرو بن عبد ودّ

ثمّ أقبل عمرو بن عبدودّ و هبيرة بن وهب و بعض الشجعان، فصاحوا بخيولهم حتى طفروا الخندق، و ركز عمرو رمحه في الأرض، و كان يعدّ بألف فارس، و كان عمره

ص: 160


1- . في النسخة: و يعرضه.
2- . تفسير القمي 2:182، تفسير الصافي 4:175.
3- . تفسير روح البيان 7:145.

تسعين سنة، فنادى: من يبارزني؟ ثمّ أقبل تجول فرسه و يرتجز و يقول:

و لقد بححت من النّدا *** ءبجمعكم: هل من مبارز؟

إلى آخره. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد. فوثب عليّ عليه السّلام فقال: «أنا له يا رسول اللّه» فقال صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي هذا عمرو بن عبدودّ، فارس يليل» (1)فقال: «أنا عليّ بن أبي طالب» فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ادن منّي» فدنا منه، فعمّمه بيده، و دفع إليه سيفه ذا الفقار، و قال: «اللهمّ احفظه من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه و عن شماله» فذهب عليّ عليه السّلام و هو يهرول، و يقول:

«لا تعجلن فقد أتا *** ك مجيب صوتك غير عاجز» (2)

إلى آخره.

روى العامة و الخاصة أنّه لمّا برز عليّ عليه السّلام إلى عمرو قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «برز الايمان كلّه إلى الكفر كلّه» (3).

فقال عمرو: من أنت؟ قال: «أنا علي بن أبي طالب، ابن عمّ رسول اللّه و ختنه» فقال: و اللّه إن أباك كان لي صديقا، و إني لأكره أن اقتلك ما أمن ابن عمّك أن اختطفك برمحي، فأتركك شائلا بين السماء و الأرض، لا حيّ و لا ميت!

فقال له علي عليه السّلام: «إنّي احبّ أن أقتلك، و قد علم ابن عمّي أنّك إن قتلتني دخلت في الجنّة و أنت في النار، و إن قتلتك فأنت في النار و أنا في الجنّة» فقال عمرو: كلتاهما لك، تلك قسمة ضيزى.

فقال عليّ عليه السّلام: «إني سمعت منك يا عمرو أنّك قلت لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلاّ أجبته إلى واحدة منها، و أنا أعرض عليك ثلاث» قال: هات. إلى أن قال: «فالثالثة أن تنزل من فرسك و تقاتلني راجلا حتى انابذك» فوثب عن فرسه و عرقبه، ثمّ بدا فضرب عليا عليه السّلام بالسيف على رأسه، فاتّقاه عليّ عليه السّلام بدرعه أو بدرقته فقطعها، و ثبت السيف على رأسه، فضربه عليّ عليه السّلام على موضع الرّداء من عنقه فسقط، فكبّر المسلمون، فعرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تكبيرهم أنّ عليّا قتل عمرا، فقال: «لا فتى إلاّ عليّ، لا سيف إلاّ ذو الفقار» (4).

و في رواية: قال عليّ عليه السّلام لعمرو: «أما كفاك أنّي بارزتك حتى استعنت عليّ بظهير؟ !» فالتفت عمرو إلى خلفه، فضربه عليّ عليه السّلام مسرعا على ساقيه فقطعهما فسقط، فجلس عليّ على صدره و ذبحه،

ص: 161


1- . يليل: موضع، و هو وادي ينبع، أو وادي الصفراء دوين بدر، و فارس يليل: لقب عمرو بن عبدودّ. «لسان العرب- يليل-11:740» .
2- . تفسير القمي 2:182، تفسير الصافي 4:175.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19:61، نهج الحق:217، كنز الفوائد 1:297، تأويل الآيات 2:451/11.
4- . تفسير القمي 2:184، تفسير الصافي 4:176، تفسير روح البيان 7:145.

و أخذ رأسه، و أقبل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الدماء تسيل من رأسه و تقطر من سيفه، و هو يقول:

«أنا عليّ و ابن عبد المطلب»

ثمّ هرب من كان مع عمرو (1).

و قيل: قتل الزبير هبيرة بن وهب، فبقي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحاربهم خمسة عشر يوما، فلمّا رأى من أصحابه الجزع لطول الحصار، دعا اللّه و قال: «يا صريخ المكروبين، و يا مجيب دعوة المضطرين، اكشف همّي و غمّي و كربي، فانّك ترى ما نزل بي و بأصحابي» فبشّره جبرئيل أنّ اللّه يرسل عليهم ريحا و جنودا من الملائكة، فانهزم القوم كما ذكرنا سابقا، فبلغ خبر انهزامهم المدينة، و كان المنافقون الذين فرّوا من القتال،

و رجعوا إلى المدينة يَحْسَبُونَ لجبنهم أن اَلْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا و لم ينهزموا.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ بيّن سبحانه ثباتهم على الكفر مع مشاهدتهم هذه المعجزة بقوله: وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزابُ كرّة ثانية إلى المدينة و هم فيها يَوَدُّوا و تمنّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ و خارجون منها إلى البادية أو كائنون فِي اَلْأَعْرابِ و سكّان البادية هم يَسْئَلُونَ كلّ قادم من المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ و أخباركم، و ما جرى عليكم وَ لَوْ كانُوا في الكرّة الثانية أيضا فِيكُمْ ما قاتَلُوا أعداءكم إِلاّ قَلِيلاً خوفا من التعيير و ظهور نفاقهم.

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللّهَ كَثِيراً (21) وَ لَمّا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً (22)

ثمّ وعظ اللّه المسلمين بقوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيّها المسلمون فِي أفعال رَسُولِ اَللّهِ و أخلاقه و خصاله من الثبات في الجهاد، و تحمّل المشاقّ و الشدائد في جنب اللّه، و في مرضاته أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ و سنّة صالحة يحقّ التأسي و الاقتداء بها لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ و ثوابه وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ و نعمه، أو مجيأه وَ ذَكَرَ اَللّهَ في جميع أوقاته و أحواله كَثِيراً بقلبه و لسانه، و لا يغفل عنه، فانّ المتأسّي بالرسول صلّى اللّه عليه و آله من قرن بين الرجاء المذكور و دوام الذكر الموجب لملازمة التقوى و الطاعة.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين و ضعفاء الايمان بالجبن و الفرار عن القتال؛ و تكذيب وعد اللّه

ص: 162


1- . تفسير القمي 2:184، تفسير الصافي 4:176.

و رسوله بالنصر و الغلبة على الأعداء، و نقض العهد، مدح المؤمنين المخلصين بالثبات في الحرب، و تصديق اللّه و رسوله في الوعد، و الوفاء بالعهد بقوله: وَ لَمّا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ المخلصون اَلْأَحْزابَ من كفّار الأعراب و الجنود المجتمعة لمحاربة الرسول يوم الخندق قالُوا هذا الذي نرى من البلاء العظيم ما وَعَدَنَا اَللّهُ من قبل في كتابه بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا (1). إلى آخره، وَ وعدنا رَسُولُهُ بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «سيشتدّ الأمر عليكم باجتماع الأحزاب عليكم، و العاقبة لكم عليهم» (2)و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر» (3)وَ و نعترف بأنّه صَدَقَ اَللّهُ في وعده وَ رَسُولُهُ أيضا صدق في إخباره حيث ترى مطابقته للواقع وَ ما زادَهُمْ ما رأوه من الأحزاب إِلاّ إِيماناً باللّه و رسوله وَ تَسْلِيماً و انقيادا لأوامرهما و أحكامهما، لمّا علموا سعادة الدارين فيه.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ فصّل سبحانه حال المؤمنين المخلصين بقوله: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و بعضهم رِجالٌ كاملون في صفات الرجولية صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ و ثبتوا على العزم الراسخ على أداء ما جعلوا للّه على أنفسهم من الثبات على نصرة الرسول و مقاتلة أعداء اللّه، لإعلاء كلمة الدين فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ و وفى بنذره، و خرج عن عهدة ما التزم به، بأن ثبت في النّزال و قاتل الرجال لنصرة دين اللّه المتعال حتى قتل كحمزة بن عبد المطّلب، و عبيدة بن الحارث، و جعفر بن أبي طالب، و مصعب بن عمير، و أنس بن النّضر الخزرجي عمّ أنس بن مالك الأنصاري.

مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اَللّهُ اَلصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)روت العامة أنّ أنسا غاب عن بدر، فشهد احدا، فلمّا نادى إبليس: ألا إنّ محمدا قد قتل، مرّ بعمر و معه نفر فقال: ما يقعدكم؟ قالوا: قتل محمد. قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ ! قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثمّ جال بفرسه و حمل بسيفه، فوجد قتيلا و به بضع و ثمانون جراحة (2).

قيل: إنّ جماعة من الصحابة نذروا بعد وقعة احد أنّهم إذا لقوا حربا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثبتوا و قاتلوا حتى يستشهدوا (3).

ص: 163


1- . البقرة:2/214. (2 و 3) . تفسير روح البيان 7:158.
2- . تفسير روح البيان 7:159.
3- . تفسير أبي السعود 7:98، تفسير روح البيان 7:158.

و قيل: إنّ النّذر استعير للموت؛ لأنّ الموت كنذر لازم في عنق كلّ حيّ (1).

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاء نذره، و يتوقّع وصول الشهادة إليه مع شدّة اشتياقه إليها، كأمير المؤمنين عليه السّلام فانّ اللّه أخّر شهادته إلى الوقت المعلوم الذي أخبره الرسول صلّى اللّه عليه و آله به.

روى الحاكم باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «فينا نزلت رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ و أنا و اللّه المنتظر» (2)و نسب العلامة في (نهج الحق) نزوله في عليّ عليه السّلام إلى العامة (3).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ قال: «لا يفرّوا أبدا فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي أجله و هو حمزة و جعفر بن أبي طالب وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أجله يعني عليا عليه السّلام» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث له مع يهودي-قال: «و لقد كنت عاهدت اللّه و رسوله أنا و عمّي حمزة و أخي جعفر و ابن عمّي عبيدة على أن نستشهد (5)للّه تعالى و لرسوله، فتقدّمني أصحابي و تخلّفت بعدهم لما أراد اللّه تعالى، فأنزل اللّه فينا: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا» الآية (6)وَ ما بَدَّلُوا عهدهم و ما غيّروه تَبْدِيلاً يسيرا بخلاف المنافقين فانّهم بدّلوا عهدهم تبديلا كثيرا، و نقضوا نقضا واضحا.

ردّ بعض العامة

أقول: و من العجب أنّ بعض العامة قال: و من ينتظر كعثمان و طلحة و غيرهما (7)، فانّهم مستمرّون على نذورهم، و قد قضوا بعضها و هو الثبات مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و منتظرون قضاء بعضها و هو القتال إلى الموت شهداء، مع أنّ الظاهر انتظار الشهادة في سبيل اللّه، و لم يرزقوا، لأنّ عثمان قتل في سبيل هواه بيد أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و طلحة قتل لمشاقّته مع إمام زمانه بيد أصحاب خليفة الرسول.

و عن الصادق عليه السّلام: «المؤمن مؤمنان: مؤمن صدق بعهد اللّه و وفى بشرطه، و ذلك قول اللّه عز و جل: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ و ذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا و لا أهوال الآخرة، و ذلك ممّن يشفع و لا يشفع له» الخبر (8).

و عنه عليه السّلام، قال: «لقد ذكركم اللّه في كتابه فقال: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا الآية، إنّكم وفيتم بما أخذ اللّه عليه ميثاقكم من ولايتنا، و إنّكم لمّا تبدّلوا بنا غيرنا» (9).

ص: 164


1- . تفسير أبي السعود 7:98.
2- . مجمع البيان 7:549، تفسير الصافي 4:181.
3- . نهج الحق:196/42، شواهد التنزيل 2:1/627.
4- . تفسير القمي 2:188، تفسير الصافي 4:180.
5- . في الخصال و تفسير الصافي: على أمر وفينا به.
6- . الخصال:376/58، تفسير الصافي 4:180.
7- . تفسير البيضاوي 2:243، تفسير أبي السعود 7:98.
8- . الكافي 2:193/1، تفسير الصافي 4:181.
9- . الكافي 8:34/6، تفسير الصافي 4:181.

و عنه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، من أحبّك ثمّ مات فقد قضى نحبه، و من أحبّك و لم يمت فهو ينتظر» (1).

أقول: الأوّل تنزيل، و هاتان الروايتان تأويل، و إنّما فعلوا من الوفاء لِيَجْزِيَ اَللّهُ اَلصّادِقِينَ في عهدهم بِصِدْقِهِمْ و وفائهم به قولا و فعلا في الدنيا و الآخرة جزاء جزيلا وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنافِقِينَ بما ارتكبوا من الفرار و تخويف المسلمين و تحريضهم على الرجوع إلى المدينة إِنْ شاءَ تعذيبهم بأن لا يوفّقهم للتوبة و تخليص الايمان أَوْ يوفّقهم و يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بعد توبتهم إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً و ستورا للذنوب رَحِيماً بالمؤمنين، و منعما عليهم بالجنّة و النّعم الدائمة.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 25 الی 27

ثمّ بيّن سبحانه لطفه بالمؤمنين و إنجازه وعد النصر بقوله: وَ رَدَّ اَللّهُ بقدرته الأحزاب اَلَّذِينَ كَفَرُوا إلى أوطانهم و هم كاظمون بِغَيْظِهِمْ و شدّة غضبهم، و الحال أنّهم لَمْ يَنالُوا و لم يصيبوا ما حسبوه خَيْراً لهم من الغلبة و الغنيمة مع غاية جدّهم فيهما وَ كَفَى اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ و رفع عنهم كلفة التصدّي له، بارسال الريح الشديدة، و إنزال الملائكة وَ كانَ اَللّهُ قَوِيًّا و قادرا على كسر شوكة الكافرين عَزِيزاً و غالبا على كلّ شيء

وَ أَنْزَلَ بني قريظة اَلَّذِينَ نقضوا عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تبعوا المشركين و ظاهَرُوهُمْ و عاونوهم على قتال الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع كونهم مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ و المؤمنين بالتوراة التي فيها البشارة ببعثته و ذكر علائمه و صفاته مِنْ صَياصِيهِمْ و حصونهم و قلاعهم المحكمة وَ قَذَفَ اللّه و ألقى فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين و الخوف منهم، بحيث سلّموا أنفسهم للقتل، و أهليهم و ذراريهم للأسر، فأنتم أيها المسلمون فَرِيقاً منهم تَقْتُلُونَ صبرا وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً آخر منهم

وَ أَوْرَثَكُمْ و ملّككم، كما تتمّلكون إرث الأقارب أَرْضَهُمْ التي كانوا مقيمين يها، و منتفعين بها بالزراعة و الغرس فيها وَ دِيارَهُمْ و حصونهم و بيوتهم وَ أَمْوالَهُمْ من المواشي و الأثاث و النقود و السّلاح و غيرها وَ أورثكم تقديرا أَرْضاً اخرى لَمْ تَطَؤُها و لم تضعوا إلى الآن أقدامكم فيها، كأرض فارس

وَ رَدَّ اَللّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ وَ كانَ اَللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)

ص: 165


1- . الكافي 8:306/475، تفسير الصافي 4:181.

و الرّوم و غيرهما من الممالك التي تفتحونها إلى يوم القيامة. و قيل: إنّ الأرض كناية عن فروج نساء تلك القبيلة وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ممّا شاهدتموه و مالم تشاهدوه قَدِيراً.

قصة بني قريظة

و كانت قصّة بني قريظه على ما روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع من الخندق في وقت الظهيرة، و صلّى الظهر، دخل بيت زينب، و أراد أن يغتسل من الغبار، أو غسلت شقّ رأسه الشريف، فأتاه جبرئيل على فرسه حيروم معتجرا بعمامة سوداء فقال: أوضعت السلاح يا رسول اللّه؟ قال: نعم. قال: ما وضعت الملائكة السلاح منذ نزل بك العدوّ، أو قال: ما وضعت الملائكة لأمتها، فكيف تضع لأمتك؟ إنّ اللّه يأمرك أن لا تصلّي العصر إلاّ ببني قريظة، فانّي متقدّمك و مزلزل بهم حصنهم، إنّا كنّا في آثار القوم نزجرهم حتى بلغوا حمراء الأسد (1)، فأمر صلّى اللّه عليه و آله بلالا فأذّن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلّين العصر إلاّ في بني قريظة (2).

و في رواية: فخرج صلّى اللّه عليه و آله، فاستقبله حارث بن النعمان، فقال له: «ما الخبر؟» فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، هذا دحية الكلبي ينادي في الناس: ألا لا يصلّين العصر أحد إلاّ في بني قريظة. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ذاك جبرئيل، ادعوا عليا» فجاء عليّ عليه السّلام فقال له: «ناد في الناس: لا يصلّين أحد العصر إلاّ في بني قريظة» فجاء أمير المؤمنين عليه السّلام فنادى فيهم، فبادروا إلى بني قريظة (3).

قيل: و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد لبس الدّرع و المغفر، و أخذ قناة بيده الشريفة، و تقلّد السيف، و ركب فرسه اللحيف، و أمير المؤمنين عليه السّلام بين يديه مع الراية العظمى، و الناس حوله قد لبسوا السلاح، و هم ثلاثة آلاف، و استعمل على المدينة ابن امّ مكتوم (4).

و في رواية: و أرسل عليا عليه السّلام متقدّما مع بعض الأصحاب، و مرّ صلّى اللّه عليه و آله بنفر من بني النجّار قد لبسوا السلاح، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هل مرّ بكم أحد» قالوا: نعم دحية الكلبي، و أمرنا بحمل السلاح، و قال لنا: يطلع عليكم رسول اللّه الآن. فقال: «ذلك جبرئيل» فلما دنا عليّ عليه السّلام من الحصون، و غرز اللواء عند أصل الحصون و أحاط بها، و كان حييّ بن أخطب لمّا انهزمت قريش دخل في حصن بني قريظة، فأشرف كعب بن أسد (5)شيخ بني قريظة على أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله يشتمهم و يقول في حقّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و أزواجه مقالات قبيحة، فسكت المسلمون و قالوا: بيننا و بينكم السيف.

فلمّا رأى علي عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقبلا أمر قتادة الأنصاري أن يلزم اللواء فاستقبله، و قال: يا

ص: 166


1- . حمراء الأسد: موضع على ثمانية أميال من المدينة.
2- . تفسير روح البيان 7:161.
3- . تفسير القمي 2:189، تفسير الصافي 4:182.
4- . تفسير روح البيان 7:161.
5- . في النسخة: كعب بن أسيد، و كذا الذي يأتي بعدها.

رسول اللّه، لا عليك أن لا تدنوا من هؤلاء الأخابيث قال: «لعلّك سمعت منهم لي أذى؟» قال: نعم. قال: «إنهم لو رأوني لأذلّهم اللّه» (1)فلمّا دنا من حصونهم قال: «يا إخوان القردة و الخنازير، و عبدة الطاغوت، أتشتمونني أنا، إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباحهم» فجعلوا يحلفون أنّهم لم يقولوا شيئا، و أشرف عليهم كعب من الحصن فقال: و اللّه يا أبا القاسم ما كنت جهولا، أو قال: ما كنت فحّاشا. فاستحيى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى سقط الرداء من ظهره حياء ممّا قال.

و كان حول الحصن نخل كثير، فأشار إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده، فتباعد عنه، و تفرّق في المفازة، فأنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العسكر حول حصنهم، فحاصرهم ثلاثة أيام لم يطلع أحد منهم رأسه، فلمّا كان ثلاثة أيام نزل عليه غزال بن شموئل (2)فقال: يا محمد، تعطينا ما أعطيت إخواننا من بني النضير، احقن دمائنا و نخلّي لك البلاد و ما فيها، و لا نكتمك شيئا؟» فقال: لا، «أو تنزلون على حكمي» فرجع. و بقوا خمسا و عشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، و قذف اللّه في قلوبهم الرّعب، و بكت النساء و الصبيان، و جزعوا جزعا شديدا، فقال كبيرهم كعب بن أسد: يا معشر اليهود، نبايع هذا الرجل و نصدّقه، فو اللّه لقد تبيّن لكم أنّه النبيّ الذي تجدونه في كتابكم، و أنّ المدينة دار هجرته، و ما منعنا من الدخول معه إلاّ الحسد للعرب، حيث إنّه لم يكن من بني إسرائيل، و لقد كنت كارها من نقض العهد، و لم يكن البلاء و الشؤم إلاّ من هذا الجالس-و أشار إلى حييّ بن أخطب-فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره-أي القرآن-.

فقال: فان أبيتم عليّ هذه الخصلة، فهلمّوا فلنقتل أبناءنا و نساءنا، ثمّ نخرج إلى محمد و أصحابه رجالا مصلتين السيوف حتى لا نترك وراءنا نسلا يخشى عليه إن هلكنا. فقالوا: كيف نقتل هؤلاء المساكين، فلا خير في العيش بعدهم إن لم نهلك.

فقال: فإن أبيتم فانّ الليلة ليلة السبت، و إنّ محمدا و أصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب منهم غفلة. فقالوا: كيف نفسد سبتنا، و نحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا.

فقال لهم عمرو بن سعدي: فان أبتيهم فاثبتوا على اليهودية، و أعطوا الجزية. فقالوا: نحن لا نقرّ للعرب بخراج في رقابنا، فانّ القتل خير من ذلك.

فلمّا اشتدّ عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأمر بالرجال فكتّفوا، و كانوا سبعمائة، و أمر بالنساء فعزلن، فقامت الأوس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: يا رسول اللّه، حلفاؤنا و موالينا من دون

ص: 167


1- . في تفسير روح البيان: رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا.
2- . في تفسير القي: غزال بن شمول.

الناس، نصرونا على الخزرج في المواطن كلّها، و قد وهبت لعبد اللّه بن ابي سبعمائة دارع و ثلاثمائة حاسر في صبيحة واحدة، و لا نكون أقلّ من عبد اللّه.

فلمّا أكثروا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لهم: «أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم» فقالوا: بلى. و هو من؟ قال: «سعد بن معاذ» قالوا: قد رضينا بحكمه، فأرسل صلّى اللّه عليه و آله في طلبه، و كان جريحا في وقعة الخندق، فأتوا به راكب حمار، و كان رجلا جسيما، و الأوس حوله يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في حلفائك و مواليك، فقد نصرونا في بعاث و الحدائق (1)، و المواطن كلّها. فلمّا أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا يأخذه في اللة لومة لائم. فقالت الأوس: و اقوماه، ذهبت و اللّه بنو قريظة آخر الدهر. فلمّا رآه النبي صلّى اللّه عليه و آله قال للأنصار: «قوموا إلى سيّدكم» فقام الأنصار فأنزلوه، فبكت النساء و الصبيان إليه، فلمّا سكتوا قال لهم سعد: يا معشر اليهود، أرضيتم بحكمي فيكم؟ قالوا: نعم قد رضينا بحكمك، و رجونا نصفك و معروفك و حسن نظرك، فعاد عليهم القول فقالوا: بلي يا أبا عمرو، ثمّ التفت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إجلالا له فقال: ما ترى بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه؟ فقال: «احكم فيهم يا سعد، فقد رضيت بحكمك فيهم» فقال: قد حكمت يا رسول اللّه أن يقتل رجالهم، و تسمى نساءهم و ذراريهم، و تقسم غنائمهم و أموالهم بين المهاجرين و الأنصار. فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كبّر، و قال: «قد حكمت بحكم اللّه عزّ و جلّ فوق سبعة أرقعة» (2)ثمّ انفجر جرح سعد، فما زال ينزف الدم حتى قضى عليه.

فأمر النبيّ بأن يجمع ما وجد في حصونهم، فوجدوا فيها ألفين و خمسمائة سيف، و خمسمائة فرس، و ثلاثمائة درع، و ألفي رمح، و أثاثا و أواني كثيرة، و جمالا و مواشي و غيرها، و خمّس ذلك، و جعل عقارهم للمهاجرين، لأنّه ما كان لهم منازل، و أمر بالمتاع أن يحمل، و ترك المواشي هناك ترعى الشجر، ثمّ غدا إلى المدينة، و أمر بالاسارى أن يكونوا في دار اسامة بن زيد، و النساء و الذراري في دار ابنة الحارث النجارية، ثمّ خرج عن المدينة، و أمر بالخندق فحفروا فيه الحفائر، أو أمر بحفر اخدود بالبقيع، فلمّا أمسى أمر باخراج رجل رجل، فكان يضرب عنقه و يلقيه في الاخدود، و يردّ عليه التراب، و كان المتولّي للقتل أمير المؤمنين عليه السّلام و الزبير.

فأتوا بكعب بن أسد، و كان جميلا و سيما، فلمّا نظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له: «يا كعب، أما نفعك

ص: 168


1- . بعاث و الحدائق: موضعان عند المدينة، كانت فيهما وقعتان بين الأوس و الخزرج قبل الاسلام، راجع: الكامل في التاريخ 1:676 و 680.
2- . يعني سبع سماوات، و كل سماء يقال لها رقيع.

وصية ابن الحواس الحبر الذكيّ الذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر و الخنزير (1)، و جئت إلى البؤس و التمور، لنبيّ يبعث، مخرجه مكّة، و مهاجره هذه البحيرة، يجتزئ بالكسيرات و التميرات، و يركب الحمار العريّ، في عينيه حمرة، و بين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ و الحافر؟» فقال: قد كان ذلك يا محمد، و لو لا أنّ اليهود يعيّروني أنّي جزعت عند القتل لآمنت بك، و لكنّي على دين اليهودية أحيى عليه و أموت. فأمر صلّى اللّه عليه و آله فقدّموه و ضربوا عنقه.

ثمّ قدّم حيي بن أخطب، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «كيف رأيت صنع اللّه يا فاسق؟» . فقال: و اللّه يا محمد ما ألوم نفسي في عداوتك، و لقد قلقلت كلّ مقلقل، و جهدت كلّ الجهد، و لكن من يخذله اللّه يخذل، فقدّم فضرب عنقه، فقلتهم النبي صلّى اللّه عليه و آله في البردين: الغداة و العشيّ، في ثلاثة أيام.

ثمّ بعث صلّى اللّه عليه و آله سعد بن زيد الأنصاري بسباياهم إلى نجد، فابتاع بهم خيلا و سلاحا، فقسّمها بين المسلمين، و نهى أن يفرّق بين الوالده و ولدها حتى يبلغ، و اصطفى لنفسه منهم ريحانة بنت شمعون و أسلمت، فأعتقها و تزوّج بها، و كانت هذه الوقعة سنة خمس من الهجرة (2).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و آله في مقام عبوديته، و هي التقوى و اتّباع الوحي، و بيان سلطنته المطلقة على أنفس المؤمنين و أموالهم، و جلالة شأن نسائه، و ألطافة الخاصة بالمؤمنين به، بيّن وظيفته في المداراة مع أزواجه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ العظيم الشأن، و المخبر الصادق عن اللّه الملك المنّان قُلْ لِأَزْواجِكَ و نسائك اللاتي يكنّ الآن في حبالتك إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ السّعة و التنعّم فيها، و تردن زِينَتَها من الثياب الفاخرة و الحلّي و الحلل فَتَعالَيْنَ و اقبلن إلي أُمَتِّعْكُنَّ و اعطكنّ من مالي ما تنتفعن به وَ أُسَرِّحْكُنَّ و ارسلكنّ إلى بيوتكنّ و قبائلكنّ سَراحاً جَمِيلاً و إرسالا لا ضرار فيه و لا تنازع

وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و تطلبن قربهما و رضاهما وَ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ و نعمها التي لا تعدّ الدنيا و ما فيها عندها بشيء فَإِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ و هيّأ

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)

ص: 169


1- . في النسخة: الحمر و الحمير.
2- . تفسير روح البيان 7:162، تفسير القمي 2:189، تفسير الصافي 4:182.

لِلْمُحْسِناتِ و الصالحات مِنْكُنَّ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً و جزاء جزيلا لا يعرف كنهه و غايته.

روى المفسرون أنّ نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طلبن منه زيادة النفقة و الكسوة و آذينه، لغيرة بعضهن من بعض، فآلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهنّ شهرا، فنزلت هذه الآية، و كنّ يومئذ تسعا: عائشة، و حفصة، و امّ حبيبة بنت أبي سفيان، و سودة بنت زمعة، و امّ سلمة، فهولاء من قريش، و صفية بنت حييّ بن أخطب و ميمونة بنت الحارث الهلالية، و زينب بنت جحش الأسدية، و جويرية بنت الحارث المصطلقية، فلمّا نزلت طلّقهنّ و خيّرهن في المفارقة و البقاء، فاخترن النبي صلّى اللّه عليه و آله (1).

و روى الواحدي (2)عن ابن عباس: أنّ حفصة نازعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يوما، و طلبت منه زيادة النفقة. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هل لك أن أجعل بيني و بينك رجلا؟» قالت: نعم. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمر، فلمّا حضر قال لها: «تكلّمي» فقالت حفصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تكلّم أنت و لا تقل إلاّ حقّا. فرفع عمر يده ليضربها، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «كفّ عنها» فقال عمر: يا عدوّة اللّه ما يقول النبيّ إلاّ حقّا، و الذي بعثه بالحقّ لو لا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي. فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذهب في غرفة في المسجد، فمكث فيها شهرا، و منع نساءه أن يدخلن معه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا حصل له الغنائم من خيبر، قالت نساؤه: أعطنا من هذه الغنيمة. قال: قسّمتها بين المسلمين بأمر اللّه، فغضبن و قلن: لعلّك تظنّ إن تطلّقنا لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوّجونا! فأنف اللّه عزّ و جلّ لرسوله، فأمره أن يعتزلهنّ، فاعتزلهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مشربة (4)امّ إبراهيم تسعة و عشرين يوما حتى حضن و طهرن، ثمّ أنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية و هي آية، التخيير، فقامت امّ سلمة و قالت: قد اخترت اللّه و رسوله، فقمن كلّهن فعانقنه و قلن مثل ذلك» الخبر (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ زينب بنت جحش قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تعدل و أنت نبيّ! فقال: تربت يداك، إن لم أعدل، فمن يعدل؟ !» إلى أن قال: «فقالت: إنّك إن طلّقتنا وجدنا في قومنا أكفاءنا، فاحتبس الوحي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تسعا و عشرين ليلة. قال: فأنف اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآيتين، فاخترن اللّه و رسوله، و لم يكن شيء، و لو اخترن أنفسهنّ لبنّ» (6).

ص: 170


1- . مجمع البيان 8:544، تفسير روح البيان 7:164.
2- . في النسخة: الراقدي.
3- . مجمع البيان 8:555.
4- . المشربة: الغرفة، و الصّفّة، و الأرض اللينة دائمة النبات.
5- . تفسير القمي 2:192، و تفسير الصافي 4:185، و لم ينسباها إلى الصادق عليه السّلام.
6- . الكافي 6:139/5، تفسير الصافي 4:185.

و في رواية: «فخيّرهن حتى انتهى إلى زينب بنت جحش، فقامت فقبّلته، فقالت: أختار اللّه و رسوله» (1).

و روى بعض العامة أنه صلّى اللّه عليه و آله بدأ بعائشة، و قال لها: «إنّي ذاكر لك أمرا احبّ أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» لما علم أنّ أبويها لا يأمرانها بفراقه قالت: و ما هو يا رسول؟ فتلا عليها الآية فقالت: أفي هذا أستأمر أبويّ! بل اختار اللّه و رسوله، فعجب صلّى اللّه عليه و آله من اختيارها، و فرح حتى ظهر الفرح على بشرته (2)ثمّ اختارت الباقيات اختيارها» (3).

أقول: فيه دلالة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يحرز حبّها له، حيث قال: «لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» بل كان الظاهر منها اختيارها لنفسها، و لذا تعجّب من اختيارها و ظهور خلاف الظاهر منها، و ليعلم أنّ هذا التخيير من خصائص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن رجل خيّر امرأته فاختارت نفسها، أبانت منه؟ قال: «لا، إنّما هذا شيء كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصة» الخبر (4).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ أدّب اللّه أزواجه و بيّن و ظيفتهنّ بقوله: يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ و برتكب فعلة قبيحة ظاهرة القباحة من معاصي اللّه و مخالفة الرسول و إيذائه. عن ابن عباس: يعني النّشوز و سوء الخلق (5). عن الصادق عليه السّلام: «الفاحشة: الخروج بالسيف» (6). يُضاعَفْ لَهَا في القيامة اَلْعَذابُ عليها ضِعْفَيْنِ و مثلي عذاب غيرهنّ من النساء، لعلوّ شأنهنّ، و أتمّيّة الحجّة عليهنّ، و زيادة قبح عصيانهنّ، لاستلزامه إيذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و توهينه وَ كانَ ذلِكَ التضعيف عَلَى اَللّهِ يَسِيراً و سهلا، لشدّة استحقاقهنّ له، و لا يمنعه زوجية النبيّ، بل هي سببه، و فيه مراعاة حقّه صلّى اللّه عليه و آله

وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ و يداوم على الطاعة لِلّهِ وَ رَسُولِهِ إيمانا بهما، و خضوعا لهما وَ تَعْمَلْ عملا صالِحاً و مرضيا لهما إلى آخر عمرهما نُؤْتِها و نعطها أَجْرَها و ثوابها مَرَّتَيْنِ مرّة

يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا اَلْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (30) وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)

ص: 171


1- . الكافي 6:138/3، تفسير الصافي 4:186.
2- . في النسخة: من بشره.
3- . تفسير روح البيان 7:165.
4- . الكافي 6:137/3، و تفسير الصافي 4:186، عن الصادق عليه السّلام.
5- . تفسير روح البيان 7:166.
6- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:186.

على الطاعة، و مرّة على طلبهنّ رضا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إدخالهن السرور في قلبه الشريف كما قيل (1)، أو مرّة على الطاعة، و مرّة اخرى عليها لعلوّ شأنهنّ و زيادة معرفتهنّ و يقينهنّ، كما يكون عذابهنّ ضعفين (2)وَ أَعْتَدْنا و هيّأنا لَها مضافا إلى تضعيف الثواب رِزْقاً في الجنة يكون ذلك الرزق كَرِيماً و مرضيا، أو رفيع القدر و عظيم الخطر.

عن الباقر عليه السّلام قال: «كلّ ذلك في الآخرة حيث يكون الأجر يكون العذاب» (3).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 32 الی 33

ثمّ بالغ سبحانه في ترغيبهنّ إلى الطاعة بتكرار ندائهن و نسبتهن إلى النبيّ الموجبة لاتّباع سيرته بقوله: يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ و معاشريه لَسْتُنَّ في الشرف و علوّ المنزلة عند اللّه كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ الأجنبيات منه، المعاشرات لغيره، و لكن يكون الفضيلة و الشرف لكن إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ و خفتنّ اللّه، و احترزتن [من]

مخالفته و مخالفة رسوله، فانّ الاتصال بالنبيّ لا يفيد شرفا و فضلا إلاّ إذا انضمّ إليه التقوى (4)و الطاعة، فاذا علمتنّ ذلك فَلا تَخْضَعْنَ و لا تلن عند مكاملة الأجانب بِالْقَوْلِ و الكلام كما هو دأب النساء المطمّعات، فانّ ترقيق الصوت و تليين الخطاب من النساء يورث تهييج شهوة الرجال و طمعهم فيهنّ، فأنتنّ لا تفعلن ذلك فَيَطْمَعَ فيكن الرجل اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ من الميل إلى الفسق و الفجور وَ قُلْنَ عند الحاجة إلى التكلّم معهم قَوْلاً يكون عند الشرع و العقل مَعْرُوفاً و حسنا بعيدا من التّهمة و الإطماع

وَ قَرْنَ و استقررن فِي بُيُوتِكُنَّ و الزمنها.

يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)روي أنّ سودة بنت زمعة ما خطت باب حجرتها لصلاة و لا لحجّ و لا عمرة حتى اخرجت جنازتها من بيتها في زمان عمر، فقيل لها: لم لا تحجّ؟ فقالت: قيل لنا: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ (5)وَ لا تَبَرَّجْنَ و لا تكشفن الزينة و المحاسن للرجال، أو لا. . . (6)تَبَرُّجَ النساء في زمان اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى قيل: هو زمان نوح (7). و قيل: زمان إبراهيم، كانت النساء تلبس الثياب المطرزة باللآلئ، و يقمن في الطرق

ص: 172


1- . تفسير البيضاوي 2:245، تفسير أبي السعود 7:102، تفسير الصافي 4:186، تفسير روح البيان 7:168.
2- . تفسير روح البيان 7:168.
3- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:186.
4- . في النسخة: انضمّ بالتقوى.
5- . تفسير روح البيان 7:170.
6- . بياض في النسخة بمقدار كلمة واحدة، و لعلّها (تتبخترن) كما في (روح البيان) لأن المؤلف في معرض الأخذ عنه أو (لا تبرجن) إعادة للنص القرآني.
7- . تفسير أبي السعود 7:170، تفسير روح البيان 7:102

يعرضن أنفسهنّ على الرجال، و الاخرى: قيل بعثة نبينا (1).

و عن ابن مسعود، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث-: «أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى عليه السّلام عاش بعد موسى عليه السّلام ثلاثين سنة، و خرجت عليه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى-إلى أن قال-: و إنّ بنت أبي بكر ستخرج على عليّ في كذا و كذا ألفا من أمّتي، فيقاتلها و يقتل مقاتليها و يأسرها و يحسن أسرها، و فيها أنزل اللّه وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى يعني صفوراء بنت شعيب (2).

و قيل: إنّ الجاهلية الاولى قبل البعثة، و الاخرى في آخر الزمان (3).

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه-في رواية-: «ستكون جاهلية اخرى» (4).

و قيل: إنّ الأولى (5)بعد زمان إدريس (6). و الاخرى من بعثة نبينا (7). روي أنّ بطنين من ولد آدم سكن أحدهما السهل، و الآخر الجبل، و كان رجال الجبل صباحا و نسائهم دمائهم، و السهل بالعكس، فجاء إبليس و آجر نفسه من رجل سهلي، و كان يخدمه، فاتّخذ شيئا مثل ما يزمّر الرّعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من في السهل، فجاءوا يستمعون إليه، و اتّخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتبرّج النساء للرجال، و تزيّنوا لهن، فهجم رجل من أهل الجبل عليهم في عيدهم، فرأى النساء و صباحتهنّ، فأخبر أصحابه، فتحوّلوا إليهم، فنزلوا معهم، و ظهرت الفاحشة فيهنّ، و ذلك بعد زمان إدريس (8).

و قيل: إنّ الاولى هنا بمعنى القديمة (9)وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ المفروضة و نوافلها وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ الواجبة و المندوبة، و واضبن على العبادات البدنية و المالية وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 33

ثمّ التفت سبحانه من أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليه و إلى أهل بيته ترغيبا لهنّ إلى الصلاح و السّداد بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ بالارادة التكوينية التي لا تتخلّف عن المراد لِيُذْهِبَ و يزيل عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ و القدر من المعاصي و الاخلاق الذميمة يا أَهْلَ اَلْبَيْتِ و معدن الرسالة و مهبط الوحي

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)

ص: 173


1- . تفسير أبي السعود 7:170، تفسير روح البيان 7:102
2- . كمال الدين:27، تفسير الصافي 4:187.
3- . تفسير روح البيان 7:170.
4- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:187.
5- . زاد في النسخة: و قيل أنها.
6- . تفسير روح البيان 7:170.
7- . تفسير روح البيان 7:170.
8- . تفسير روح البيان 7:170.
9- . تفسير روح البيان 7:170.

وَ يُطَهِّرَكُمْ و ينظّفكم منه تَطْهِيراً و تنظيفا بليغا، و يجعلكم معصومين.

و إنّما فسّرنا الإرادة بالتكوينية، لكونه في مقام بيان فضيلتهم على سائر الناس، و لا فضيلة للارادة التشريعية التي يشترك فيها المؤمن و الكافر، فاذا دلّت الآية على عصمة أهل البيت عليهم السّلام فلا جرم لا تشمل نساء النبي، للاجماع على عدم عصمتهنّ، و ظهور المعصية من أكثرهنّ خصوصا عائشة و حفصة.

بسط الكلام في آية

التطهير

و قد اتّفقت روايات العامة و الخاصة على أنّها نزلت في شأن الخمسة الطيبة، و في (نهج الحق) للعلامة: أجمع المفسّرون. و روى الجمهور كأحمد بن حنبل و غيره أنّها نزلت في [رسول اللّه]و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين (1).

و روى الثعلبي، عن امّ سلمة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان في بيتها، فأتته فاطمة عليها السّلام ببرمة فيها حريرة، فقال لها: «ادعي زوجك و ابنيك» فجاءتهم فطعموا، ثمّ ألقى عليهم كساء له خيبريا، فقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي و عترتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» قالت امّ سلمة: فأنزل اللّه فيهم إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الآية (2). فأخذ فضل الكساء فغشّاهم، ثمّ أخرج يده، فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصّتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» فأدخلت رأسي في البيت، و قلت: أنا معكم يا رسول اللّه؟ قال: «إنّك إلى خير» (3).

و روى الثعلبي، عن مجمّع، قال: ذهبت يوما مع امّي إلى عائشة، فقالت لها امّي: أرايت خروجك يوم الجمل، و قال اللّه: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ؟ فقالت: كان قدرا من اللّه، ثمّ سألتها عن عليّ فقالت: سألتني عن أحبّ الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و زوج أحبّ الناس إلى رسول اللّه، لقد رأيت عليا و فاطمة و الحسن و الحسين، و جمع رسول اللّه بثوب عليهم، ثمّ قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصّتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فقلت: يا رسول اللّه، أنا من أهلك؟ فقال: «تنحّي، فانّك إلى خير» (4).

و عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «نزلت هذه فيّ و في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين» (5). إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة العامية (6).

ص: 174


1- . نهج الحق:173/3، مسند أحمد 1:331، و 3:285، و 6:292، شواهد التنزيل 2:19 و ما بعدها.
2- . زاد في النسخة: و في رواية.
3- . العمدة لابن بطريق:39/22، مجمع البيان 8:559.
4- . العمدة لابن بطريق:39/23، مجمع البيان 8:559.
5- . العمدة لابن بطريق:38/22، مجمع البيان 7:559.
6- . راجع: سنن الترمذي 5:351/3205 و:663/3787 و:669/3871، مسند أحمد 4:107 و 6:292 و 304، مصابيح السنة 4:183/4796، مستدرك الحاكم 2:416 و 3:148، الصواعق المحرقة:143، خصائص النسائي:4، اسد الغابة 4:29.

و عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «يعني الأئمة عليهم السّلام و ولايتهم من دخل فيها دخل في بيت النبوة» (1).

و عنه عليه السّلام-في رواية-: «فلو سكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّن من أهل بيته لادّعاه فلان و فلان، و لكن اللّه أنزل في كتابه لنبيّه إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ الآية، و كان عليّ و الحسن و الحسين و فاطمة، فأدخلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحت الكساء في بيت امّ سلمة. ثمّ قال: اللهمّ إنّ لكلّ نبي أهلا و ثقلا، و هؤلاء أهل بيتي و ثقلي. فقالت امّ سلمة: أ لست من أهلك؟ فقال: إنّك إلى خير، و لكن هؤلاء أهلي و ثقلي-إلى أن قال-الرجس: هو الشكّ، و اللّه لا نشكّ في ربّنا أبدا» (2).

و في رواية عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الآية تنزل أولها في شيء، و أوسطها في شيء، و آخرها في شيء» ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من ميلاد الجاهلية» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «نزلت هذه الآية في رسول اللّه، و عليّ بن أبي طالب، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام و ذلك في بيت امّ سلمة زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فدعا رسول اللّه أمير المؤمنين، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام، ثمّ ألبسهم كساء له خيبريا، و دخل معهم فيه، ثمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي الذين وعدتني فيهم ما وعدتني، اللهمّ أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فقالت امّ سلمة: و أنا معهم يا رسول اللّه؟ قال: أبشري يا امّ سلمة، فانّك إلى خير» (4).

و في احتجاج علي عليه السّلام على أبي بكر قال: «فأنشدك اللّه ألي و لأهلي و ولدي آية التطهير من الرجس، أم لك و لأهل بيتك؟» قال: بل لك و لأهل بيتك، الخبر (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال في جمع من المهاجرين و الأنصار في المسجد في أيام خلافة عثمان: «أيّها الناس، أتعلمون أنّ اللّه عز و جل أنزل في كتابه إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فجمعني و فاطمة و حسنا و حسينا، و ألقى علينا الكساء، و قال: اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي و لحمتي، يؤلمني ما يؤلمهم، و يخرجني ما يخرجهم، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، فقالت امّ سلمة: و أنا يا رسول اللّه؟ فقال: أنت-أو إنك-على خير، إنّما انزلت في، و في أخي، و في ابنتي، و في ابنيّ و في تسعة من ولد ابني الحسين خاصة، ليس معنا أحد غيرنا؟

ص: 175


1- . الكافي 1:350/54، تفسير الصافي 4:188، و فيهما: النبي صلّى اللّه عليه و آله، بدل النبوة.
2- . الكافي 1:227/1، تفسير الصافي 4:188.
3- . تفسير العياشي 1:95/64، تفسير الصافي 4:188.
4- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:187.
5- . الخصال:550/30، تفسير الصافي 4:188.

فقالوا كلّهم: نشهد أنّ امّ سلمة حدّثتنا بذلك، فسألنا رسول اللّه فحدّثنا كما حدّثتنا امّ سلمة» (1).

و عن زيد بن عليّ بن الحسين: أنّ جهّالا من الناس يزعمون أنّه إنّما أراد اللّه بهذه الآية أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد كذبوا و اثموا، و أيمن اللّه لو عنى أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لقال: ليذهب عنكنّ الرجس و يطهركنّ تطهيرا، و لكان الكلام مونّثا، كما قال: وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ (2)وَ لا تَبَرَّجْنَ (3)و لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ (4).

و قال القمي رحمه اللّه: ثمّ انقطعت مخاطبة نساء النبي، و خاطب أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ الآية (5).

و قال بعض الأجلّة: يحتمل أن يكون الخطاب إشارة إلى انتسابهنّ بأهل العصمة ترغيبا لهنّ إلى الطاعة و ترك المعصية (6).

أقول: و يمكن أن يكون الخطاب لأزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و أقاربه ذكورا و إناثا، و المقصود إرادة بعضهم من قوله: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ كما قال: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً (7)و من المعلوم أنّه لم يكن جميعهم ملوكا، كما أنّه من المعلوم أنّه لم يكن أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معصومات لظهور عصيانهنّ في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعده، كالخروج على وصيّ الرسول الذي كان مع الحقّ و الحقّ معه.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ خصّ سبحانه الخطاب بهنّ ازديادا لوعظهنّ و ترغيبهن إلى طاعة اللّه و رسوله بقوله: وَ اُذْكُرْنَ و ليكن في خاطركنّ نعمة اللّه التي خصّكن بها و هو ما يُتْلى و يقرأ صباحا و مساء

وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اَللّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِماتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْقانِتاتِ وَ اَلصّادِقِينَ وَ اَلصّادِقاتِ وَ اَلصّابِرِينَ وَ اَلصّابِراتِ وَ اَلْخاشِعِينَ وَ اَلْخاشِعاتِ وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ اَلْمُتَصَدِّقاتِ وَ اَلصّائِمِينَ وَ اَلصّائِماتِ وَ اَلْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحافِظاتِ وَ اَلذّاكِرِينَ اَللّهَ كَثِيراً وَ اَلذّاكِراتِ أَعَدَّ اَللّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

ص: 176


1- . كمال الدين:278/25، تفسير الصافي 4:188.
2- . الاحزاب:33/34.
3- . الاحزاب:33/33.
4- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:187، و الآية من سورة الأحزاب:33/32.
5- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:187.
6- . لم نعثر عليه.
7- . المائدة:5/20.

عليكنّ فِي بُيُوتِكُنَّ و في حضوركنّ و مستمعكنّ مِنْ آياتِ اَللّهِ القرآنية الدالة على صحّة نبوة خاتم الأنبياء، و جلالته و عظمة شأنه، و وجوب طاعته، وَ المحتوية على اَلْحِكْمَةِ و الموعظة الحسنة، و العلوم الكثيرة. و قيل: إنّ المراد بالحكمة الآحاديث النبوية (1)لطفا من اللّه عليكنّ إِنَّ اَللّهَ كانَ من الأزل لَطِيفاً و مبالغا في البرّ و الإحسان بخلقه خَبِيراً و عليما باستعداداتهم و مصالحهم.

روي أنّه لمّا نزلت في نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الآيات المذكورة قالت نساء المؤمنين: فما نزل فينا؟ و لو كان فينا خير لذكرنا (2).

و عن مقاتل: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب؟ دخلت على نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: هل [نزل]فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا. فأتت رسول اللّه فقالت: يا رسول اللّه، إنّ النساء لفي خيبة و خسار. فقال: «و ممّ ذلك؟» قالت: لأنهنّ لا يذكرن بخير (3)، فأظهر اللّه لطفه بهنّ بقوله:

إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ و المقرّين بتوحيد اللّه و رسالة رسوله، و المنقادين لأحكامهما وَ اَلْمُسْلِماتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ و المصدّقين بقلوبهم و جوارحهم لما يجب التصديق به من المبدأ و المعاد و غيرهما وَ اَلْمُؤْمِناتِ.

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ الايمان ما وقر في القلوب، و الاسلام ما عليه المناكح و المواريث و حقن الدماء، و الايمان يشارك الاسلام، و الاسلام لا يشارك الايمان» (4).

أقول: هذا موافق لقوله تعالى: قالَتِ اَلْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ اَلْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه، و المؤمن من أمن جاره بوائقه، و ما آمن بي من بات شبعانا و جاره طاو» (6).

أقول: لا منافاة بين الروايتين، فانّ الاولى في تحقيق معنى اللفظين، و الثانية في بيان الوظائف للمتّصفين بهما.

وَ اَلْقانِتِينَ و المداومين على طاعة ربّهم وَ اَلْقانِتاتِ و الملتزمات بها وَ اَلصّادِقِينَ في القول و العمل و النية وَ اَلصّادِقاتِ فيها وَ اَلصّابِرِينَ على أداء الواجبات و الكفّ عن

ص: 177


1- . تفسير روح البيان 7:173.
2- . تفسير روح البيان 7:174.
3- . مجمع البيان 8:560، تفسير الصافي 4:190.
4- . الكافي 2:21/3، تفسير الصافي 4:190.
5- . الحجرات:49/14.
6- . مجمع البيان 8:561، تفسير الصافي 4:189.

المحرّمات وَ اَلصّابِراتِ عليهما وَ اَلْخاشِعِينَ و المتواضعين للّه و لرسوله و للمؤمنين بقلوبهم و جوارحهم وَ اَلْخاشِعاتِ لهم وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ و الباذلين بأموالهم في سبيل اللّه و ابتغاء مرضاته وَ اَلْمُتَصَدِّقاتِ بها و الباذلات لها وَ اَلصّائِمِينَ و الممسكين عن الطعام و الشراب و سائر المفطرات المعهودة بنيّة صادقة وَ اَلصّائِماتِ منها وَ اَلْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ و عوراتهم عن نظر الأجانب و مسّها وَ اَلْحافِظاتِ لها وَ اَلذّاكِرِينَ اَللّهَ بقلوبهم و ألسنتهم ذكرا كَثِيراً بحيث لا يغفلون عنه و لا ينسونه في حال وَ اَلذّاكِراتِ اللّه ذكرا كثيرا.

عن ابن عباس: يريد أدبار الصلاة الصلوات، و غدوا و عشيا، و في المضاجع، و إذا استيقظ من نومه، و كلّما غدا وراح من منزله (1).

و في الحديث: «من استيقظ من نومه، و أيقظ امرأته، فصلّيا جميعا ركعتين، كتبا من الذاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات» (2).

و عن مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين اللّه كثيرا حتى يذكر اللّه قائما و قاعدا و مضطجعا (3).

أَعَدَّ اَللّهُ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة مَغْفِرَةً و سترا للذنوب وَ أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا لا يمكن بيان كيفيته و مقدار عظمته على ما صدر عنهم من الطاعات و العبادات.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 36 الی 39

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتخيير أزواجه، و ترغيبهنّ في طاعته، بيّن سبحانه وظيفة عموم الناس من الرجال و النساء بالنسبة إليه بقوله: وَ ما كانَ يصحّ و يستقيم لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ في

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اَللّهُ لَهُ سُنَّةَ اَللّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اَللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً (39)

ص: 178


1- . تفسير روح البيان 7:176.
2- . مجمع البيان 8:561، تفسير روح البيان 7:176.
3- . تفسير روح البيان 7:176.

وقت من الأوقات إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً و أراد شيئا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ و الاختيار في قبال قضائهما و إرادتهما بأن يختاروا مِنْ أَمْرِهِمْ و في عملهم ما شاءوا، بل يجب أن يجعلوا آراءهم و اختيارهم تبعا لرأيهما و اختيارهما، و يعلم قضاء اللّه من قضاء الرسول. و قيل: إنّ المراد قضاء الرسول، و ذكر قضاء اللّه لتعظيم الرسول (1). و قيل: إنّ ضمير الجمع الثاني للرسول تعظيما له (2).

ثمّ هدّد من اختار غير مختارهما بقوله: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في أمر من الامور، و يختار لنفسه غير ما أختار له فَقَدْ ضَلَّ و انحرف عن طريق الحقّ و الصواب ضَلالاً و انحرافا مُبِيناً واضحا لا يشكّ فيه العاقل.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطب زينب بنت جحش بن رباب الأسدي، بنت عمّته ميمونة بنت عبد المطّلب لمولاه زيد بن حارثة، و كانت زينب بيضاء جميلة، و زيد أسود أفطس، فأبت و قالت: أنا بنت عمّتك يا رسول اللّه، و أرفع قريش، فلا أرضاه لنفسي، و كذلك أبى أخوها عبد اللّه بن جحش، فنزلت (1)، فقالت زينب و أخوها: رضينا يا رسول اللّه، فأنكحها رسول اللّه إياه، و ساق إليها مهرها عشرة دنانير، و ستين درهما، و خمارا، و ملحفة، و درعا، و إزارا، و خمسين مدّا من طعام، و ثلاثين صاعا من تمر، و بقيت بالنكاح معه مدّة، فجاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما إلى دار زيد لحاجة، فوقع نظره إلى زينب، فأعجبه حسنها فأحبّها، و قد كان يمتنع عن نكاحها قبل ذلك، و لا يريدها. فقال عليه السّلام: «سبحان اللّه! يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي» و انصرف، فسمعت زينب التسبيح، فذكرته لزيد بعد مجيئه، ففطن زيد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحبّها، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلك الساعة، فقال: يا رسول اللّه، إنّي اريد أن افارق صاحبتي. فقال عليه السّلام: «مالك أ رأيت منها شيئا؟» . قال: لا و اللّه ما رأيت منها إلاّ خيرا، و لكنّها تتعظّم عليّ لشرفها، و تؤذيني بلسانها (2)،

فحكى اللّه منعه منه بقوله: وَ إِذْ تَقُولُ يا محمد لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ بالتوفيق لقبول الاسلام، و الايمان بك، و أعانه على الرضا بما حكم اللّه به عليه من مفارقته زوجته، و تسليمها للرسول، و تخصيصه من بين الصحابة بذكر اسمه في هذه الآية في القرآن وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بتحريره، و حسن تربيته، و تبنيّه و تزويجه من بنت عمّتك أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب و لا تطلّقها وَ اِتَّقِ اَللّهَ في طلاقها، أو في الشكوى من تعظّمها وَ أنت تُخْفِي حين ردعه عن طلاقها فِي نَفْسِكَ من الناس مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ و مظهره لهم من عملك بأنّها إحدى أزواجك، و أن زيدا يطلّقها، و ستكون زوجتك، و إنّما كان اخفاؤك لأنّك تخاف وَ تَخْشَى اَلنّاسَ من أن يلوموك

ص: 179


1- . تفسير روح البيان 7:177.
2- . تفسير روح البيان 7:178.

و يعيّروك على تزويج دعيّك وَ اَللّهُ الغالب القاهر أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وحده و تخصّه بالخشية إن كان فيه ما يخشى.

عن السجاد عليه السّلام: «أنّ الذي أخفاه في نفسه هو أنّ اللّه سبحانه أعلمه أنّها ستكون من أزواجه، و أنّ زيدا سيطلّقها، فلّما جاء زيد و قال له: اريد أن اطلّق زينب قال له: أمسك عليك زوجك [فقال سبحانه: لم قلت أمسك عليك زوجك]و قد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك (1).

فَلَمّا قَضى و استوفى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً كان له فيها، و حاجة يتوقّعها منها، و طلّقها و انقضت عدّتها زَوَّجْناكَها.

قصة تزويج الرسول

زينب بنت جحش

روى أنّه لمّا انقضت عدّتها قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله لزيد: «ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، اخطب عليّ زينب» قال زيد: فانطلقت، فاذا هي تخمّر عجينتها، فقلت: يا زينب أبشري، فانّ رسول اللّه يخطبك، ففرحت و قالت: ما أنا بصانعه شيئا حتى أؤامر (2)ربّي، فقامت إلى مسجدها، فنزل في القرآن زَوَّجْناكَها فزوجها رسول اللّه، و ما أولم على أمرأة من نسائه ما أولم عليها (3).

روي أنّها كانت تفتخر على سائر أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و تقول: زوّجكن أهاليكنّ، و زوّجني اللّه من فوق سبع سماوات (4).

و روى أنّها كانت تقول للنبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لأدلّ عليك بثلاث: ما من نسائك امرأة تدلّ بهنّ: جدّي و جدّك واحد، و زوّجنيك اللّه، و السفير جبرئيل (5).

و عن الرضا عليه السّلام في تفسير وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ قال: «إنّ اللّه عرّف نبيّه أسماء أزواجه في دار الدنيا، و أسماء أزواجه في الآخرة، و إنّهنّ امّهات المؤمنين، و أحد من سمّى له زينب بنت جحش، و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فأخفى اسمها في نفسه، و لم يبده، لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنّه قال في امرأة في بيت رجل إنّها أحد أزواجه و من امّهات المؤمنين، و خشي قول المنافقين، قال اللّه عز و جل: وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ يعني في نفسك، و إنّ اللّه ما تولّى تزويج أحد من خلقه إلاّ تزويج حوّاء من آدم عليه السّلام و زينب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها و فاطمة من عليّ» (6).

ص: 180


1- . مجمع البيان 8:564، تفسير الصافي 4:191.
2- . آمره: شاوره.
3- . تفسير روح البيان 7:180.
4- . تفسير روح البيان 7:180.
5- . مجمع البيان 8:566، تفسير الصافي 4:191.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:195/1، تفسير الصافي 4:192.

و عنه عليه السّلام-في حديث-: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قصد دار زيد بن حارثة في أمر أراده، فرأى أمرأة تغتسل، فقال لها: سبحان اللّه الذي خلقك! و إنّما أراد تنزيه اللّه عن قول من زعم أنّ الملائكة بنات اللّه -إلى أن قال-فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيىء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قوله لها: سبحانه الذي خلقك، فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، فظنّ أنه قال ذلك لما اعجب من حسنها، فجاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ امرأتي في خلقها سوء، و إنّي اريد أن اطلّقها، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أمسك عليك زوجك، و اتق اللّه، و قد كان اللّه عز و جل عرّفه عدد أزواجه، و أنّ تلك المرأة منهنّ، فأخفى ذلك في نفسه، و خشي الناس أن يقولوا: إنّ محمدا يقول لمولاه: إنّ امرأتك ستكون لي زوجة، فيعيبونه بذلك» الخبر (1).

ثمّ بيّن اللّه علّة هذا التزويج بقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ و ضيق فِي حقّ تزويج أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ و نساء الذين تبنّوهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً و لم يبق لهم فيهنّ حاجة و طلّقوهن وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ و ما يريد تكوينه مَفْعُولاً و مكوّنا لا محالة، كما كان تزويج زينب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله منه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم الحرج على المؤمنين في ذلك التزويج، و أنّه حكم الاسلام، نفي الحرج فيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: ما كانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ شيء مِنْ حَرَجٍ و ضيق فِيما فَرَضَ اَللّهُ و قسمه لَهُ و حكم بجوازه و قدره من تزويج زينب، فانّ التزويج ليس من خصائصه، بل كان سُنَّةَ اَللّهِ و طريقته المسلوكة فِي الأنبياء اَلَّذِينَ خَلَوْا و مضوا من الدنيا مِنْ قَبْلُ فانّ داود-على ما قيل-كان له مائة مهيرة، و ثلاثمائة سرّية (2)، و سليمان كانت له ثلاثمائة مهيرة، و سبعمائة سرية (3)وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ و حكمه قَدَراً مَقْدُوراً و قضاء مقضيا، و حكما قطعيا لا يغيّر،

فانّ أولئك الأنبياء هم اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ إلى النّاس رِسالاتِ اَللّهِ و أحكامه و معارفه وَ يَخْشَوْنَهُ وحده وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللّهَ فلا تخش يا محمد غيره، و أنت سيّدهم و خاتمهم وَ كَفى بِاللّهِ الذي هو أحسب الحاسبين حَسِيباً و محاسبا لعبادة على أعمالهم، و مجازيا لهم عليها، فلا ينبغي أن يخشى إلاّ منه في أمر النكاح و غيره إذا علم رضاه به و حكمه فيه.

روي أنّ كثرة الرّفت-أو النكاح-من سنن الأنبياء (4).

ص: 181


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:203/1، تفسير الصافي 4:192.
2- . المهيرة: الحرّة الغالية المهر، و السّرّية: الجارية المملوكة.
3- . تفسير أبي السعود 7:105، تفسير روح البيان 7:182.
4- . مجمع البيان 8:566، تفسير روح البيان 7:183.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: الطّيب، و النساء، و قرّة عيني في الصلاة» . قيل: إنّه ليس عبادة باقية من عهد آدم إلى الجنّة إلاّ الإيمان و النّكاح (1).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 40

ثمّ لمّا كان من حكم العرب أنّ نكاح زوجة الدعي كنكاح زوجة الولد الصّلبي، و استطال لسان المنافقين على النبي صلّى اللّه عليه و آله بعد نكاح زينب، أبطل اللّه ذلك الحكم، وردّ المنافقين بقوله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ بالنسب و الولادة حتى يثبت بينه و بينه ما يكون بين الوالد و ولده من حرمة المصاهرة، و إنّما هو أبو رجاله كالحسن و الحسين و ذريّتهما وَ لكِنْ هو أشفق عليكم من الأب الشفيق حيث إنّه يكون رَسُولَ اَللّهِ و مظهر رحمته التي تكون رحمة الابوة رشحة من رشحاتها، بل كان هو آخر الرسل وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ الذي لا يرجو أن يجيىء بعده نبيّ يبيّن للناس ما هو صلاحهم و خيرهم، و يكمل لهم دينهم و نفوسهم، فلا محالة يكون اهتمامه في بيان صلاح أهل العالم الى يوم القيامة أكثر، و شفقته عليهم أشدّ وَ كانَ اَللّهُ عالما بلياقته لهذه الدرجة العظيمة التي رفعه إليها لكونه بِكُلِّ شَيْءٍ من مخلوقاته و أحوالهم و استعداداتهم عَلِيماً و محيطا.

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اَللّهِ وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)و قد تواتر من طرق العامة و الخاصة أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي» (2)فلو ادعّى أحد بعده النبوّة، فهو كاذب، و لو جعل الأرض سماء و السماء أرضا، فضلا عن أن يدّعي فوق مرتبة النبوة، كما نسبه الطائفة الضالّة البهائية إلى رئيسهم.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 41 الی 42

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه نعمة رسالة الرسول، و خاتميته، و شفقته، أمر المؤمنين بذكره و ثنائه شكرا على نعمته بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اشكروا اللّه على إنعامه عليكم بتكميل دينكم، و جعلكم امّة أشرف الأنبياء و اُذْكُرُوا اَللّهَ ذِكْراً كَثِيراً روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد» قيل: يا رسول اللّه، فما جلاؤها؟ قال: «تلاوة كتاب اللّه، و كثرة ذكره» (3).

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (42)

ص: 182


1- . تفسير روح البيان 7:183.
2- . صحيح البخاري 5:89/202، صحيح مسلم 4:1870/2404، سنن الترمذي 5:640/3730، مستدرك الحاكم 2: 337، مسند أحمد 1:173 و 175 و 182 و 184 و 331.
3- . تفسير روح البيان 7:191.

و عن الصادق عليه السّلام: «ما من شيء إلاّ و له حدّ ينتهي إليه إلاّ الذكر، فليس له حدّ ينتهي إليه-إلى أن قال -فانّ اللّه لم يرض منه بالقليل، و لم يجعل حدّا له ينتهي إليه» ثمّ تلا هذه الآية (1).

و عنه عليه السّلام: «شيعتنا الذين إذا خلوا ذكروا اللّه كثيرا» (2).

و عنه عليه السّلام: «تسبيح فاطمة الزهراء من الذكر الكثير الذي قال اللّه اُذْكُرُوا اَللّهَ ذِكْراً كَثِيراً» (3).

ثمّ لمّا كان التسبيح أفضل الأذكار خصّه بالأمر بقوله: وَ سَبِّحُوهُ و نزّهوه من النقائص و الشرك و الولد بُكْرَةً و أوّل النهار وَ أَصِيلاً و آخره. قيل: إنّ الوقتين أفضل الأوقات (4). و قيل: هما كناية عن تمام النهار (5).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ بالغ سبحانه في ترغيبهم إلى ذكره بقوله: هُوَ اللّه اَلَّذِي يُصَلِّي و يعطف عَلَيْكُمْ في الدنيا بالرحمة الخاصة وَ مَلائِكَتُهُ تصلّي و تعطف عليكم بالاستغفار و الدعاء و إصلاح اموركم لِيُخْرِجَكُمْ برحمته و صلاته مِنَ اَلظُّلُماتِ الواقعية كالجهل و الكفر و المعاصي و الأخلاق الرذيلة إِلَى اَلنُّورِ الذي صورته في هذا العالم العلم و الايمان و الطاعة و الأخلاق الحميدة وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ المخلصين رَحِيماً حيث اعتنى بصلاحهم و تعلية قدرهم.

هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)عن السّدّي: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السّلام: أيصلّي ربنا؟ فكبر عليه هذا الكلام، فأوحى اللّه إليه: أن قل لهم إنّي اصلّي، و إنّ صلاتي رحمتي التي تطفئ غضبي (6).

عن الصادق عليه السّلام: من صلّى على محمد و آل محمد عشرا، صلّى اللّه عليه و ملائكته مائة، و من صلى على محمد و آل محمد مائة مرة، صلّى اللّه عليه و ملائكته ألفا، أما تسمع قول اللّه: هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي؟» الآية (7).

ثمّ ذكر اللّه لطفه بهم في الآخرة بقوله: تَحِيَّتُهُمْ و إكرامهم حين الورود يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ و خين يبعثون كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (8)سَلامٌ من اللّه، أو سلام ملائكته، أو السلامة من كلّ مكروه

ص: 183


1- . الكافي 2:361/1، تفسير الصافي 4:194.
2- . الكافي 2:362/2، تفسير الصافي 4:194.
3- . الكافي 2:363/4، تفسير الصافي 4:194.
4- . تفسير أبي السعود 7:106، تفسير روح البيان 7:192، تفسير الصافي 4:194.
5- . تفسير روح البيان 7:192.
6- . تفسير روح البيان 7:193.
7- . الكافي 2:358/14، تفسير الصافي 4:194.
8- . التوحيد:267، تفسير الصافي 4:194.

وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً و ثوابا كَرِيماً مرضيا، و هو الجنّة و نعمه الدائمة.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 45 الی 48

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان لطفه بالمؤمنين، و ترغيبهم في الذّكر و العبادة، بيّن لطفه بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حثّه على أداء وظيفة الرسالة و مداراته للناس بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ إلى الناس لتكون شاهِداً يوم القيامة على إيمانهم و طاعتهم، و كفرهم و عصيانهم وَ مُبَشِّراً لأهل الايمان و الطاعة بالجنّة و النّعم الدائمة وَ نَذِيراً لأهل الكفر و العصيان بالنار و العذاب الدائم

وَ داعِياً لعموم الناس إِلَى توحيد اَللّهِ و معرفته و طاعته بِإِذْنِهِ و أمره و تيسيره وَ سِراجاً مُنِيراً يستضاء به في ظلمات الجهل و الغواية،

و يهتدي بنوره إلى قرب اللّه و نعم الآخرة، فراقب أحوال امّتك وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ منهم بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللّهِ فَضْلاً كَبِيراً و زيادة كثيرة على سائر الامم في الرّتبة و الشرف، أو على أجر أعمالهم

وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ وَ اَلْمُنافِقِينَ و ذمّ على مخالفتهم و ترك اتّباع آرائهم.

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ داعِياً إِلَى اَللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (48)قيل: فيه مبالغة في الزّجر عن مداراتهم في أمر الدعوة، و استعمال لين الجانب في التبليغ، و المسامحة في الإنذار (1).

وَ دَعْ أَذاهُمْ و لا تعتن بترّهاتهم في شأنك، و لا تخف من إضرارهم وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ و فوّض أمورك إليه وَ كَفى بِاللّهِ و حسبك خالق كلّ شيء من حيث كونه وَكِيلاً و مفوّضا إليه الامور، و معتمدا عليه، فانّ من عرف كفاية اللّه له في كلّ أمر، و تكفّله لمصالحه، استراح قلبه، و اكتفى به في جميع اموره، و لم يدبر معه.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 49

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وظيفة النبيّ مع اللّه، و هو التقوى و ترك طاعة غيره، و اتّباع وحيه، و وظيفته مع أزواجه، و هي تخييرهنّ في البقاء معه و فراقه، و وظيفته مع الناس، و بيان وظيفة المؤمنين مع اللّه، و هي إكثار ذكره، بيّن وظيفتهم مع أزواجهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ النساء اَلْمُؤْمِناتِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)

ص: 184


1- . تفسير أبي السعود 7:108، تفسير الصافي 7:199.

و تزوّجتموهنّ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ و تدخلوا بهنّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ حقّ عِدَّةٍ و مدّة تربّص يحلّ لها التزويج بعد انقضائها تَعْتَدُّونَها و تستوفون عددها من الأيام و الأشهر، أو الأقراء فَمَتِّعُوهُنَّ و أعطوهنّ من أموالكم ما ينتفعن به وَ سَرِّحُوهُنَّ و أرسلوهن إلى منازلهنّ سَراحاً و إرسالا جَمِيلاً لا ضرر فيه عليهنّ و لا إيذاء أو منع حقّ.

عن الصادق عليه السّلام في رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها، قال: «عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا، و ان لم يكن فرض لها شيئا فليمتّعها على نحو ما يمتّع به مثلها من النساء» (1).

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «متّعوهن: أي أعطوهنّ (2)ما قدرتم عليه من معروف، فانهنّ يرجعن بكآبة و وحشة و همّ عظيم و شماتة من أعدائهنّ، فانّ اللّه كريم، يستحي و يحبّ أهل الحياء، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراما لحلائلهم» (3).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 50

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتسهيل الأمر على أزواجه بتخييرهنّ في البقاء معه و فراقه، منّ عليه بتسهيل أمر التزويج عليه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا مننّا عليك بتسهيل أمر التزويج عليك حيث أَحْلَلْنا و أبنّا لَكَ أَزْواجَكَ و النساء اللاّتي في حبالة نكاحك خصوصا اَللاّتِي آتَيْتَ و أعطيتهنّ أُجُورَهُنَّ و مهورهنّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ بالسبي، أو الهبة، أو الشّراء، سيما إذا كنّ مِمّا أَفاءَ اَللّهُ و أرجعهن بالأسر عَلَيْكَ فانّ قلبك بالصنفين الخاصّين أطيب وَ كذا بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمّاتِكَ كزينب بنت جحش، فانّها بنت امية بن عبد المطلب وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ خصوصا اَللاّتِي هاجَرْنَ من مكّة إلى المدينة ليكنّ مَعَكَ و في جوارك، فانّ

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اَللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اَللّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اَللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)

ص: 185


1- . الكافي 6:106/3، تفسير الصافي 4:195.
2- . في من لا يحضره الفقيه و التهذيب: جملوهن، و في الصافي: احملوهن.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:327/1580، التهذيب 8:141/488، تفسير الصافي 4:195.

المهاجرات منهنّ أليق بمزاوجتك وَ كذا أحللنا لك اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً من المؤمنات إِنْ اتّفق أنها وَهَبَتْ نَفْسَها و وبضعها لِلنَّبِيِّ بلا مهر و أجر، و هي إنّما تحلّ لك إِنْ أَرادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها و طلب ملك بضعها بلا مهر.

و في الالتفات من الخطاب الى الغيبة، إيذان بأنّ الحكم مختصّ به عليه السّلام، لشرف النبوة، كما صرّح به بقوله: خالِصَةً لَكَ و جعلنا حلّيتها بالهبة مختصّة بك مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ فانّ الإحلال لهم مشروط بإنشاء النكاح بلفظه، أو بلفظ التزويج في الدائم، و بأحدهما أو بلفظ التمتيع في المنقطع، و لا يكون بلا مهر أبدا، و هذا هو الذي أشار بقوله: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا و أوجبنا عَلَيْهِمْ فِي حقّ أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الأحكام، و إنّما أحللنا عليك النساء، و خصّصناك بتلك الخصائص لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ و ضيق في أمر النكاح وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً و ستورا لما يصدر من عباده ممّا يعسر التحرّز منه رَحِيماً و منعما عليهم بالتوسعة و التسهيل في الأحكام.

عن ابن عباس: لم يكن عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله امرأة إلاّ بعقد نكاح أو ملك يمين (1).

و قيل: إنّه كانت عنده الموهوبة نفسها، و هي ميمونة، خالة عبد اللّه بن عباس، خطبها النبي صلّى اللّه عليه و آله فلمّا جاءها الخاطب و هي على بعيرها، فقالت: البعير و ما عليه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية، و ماتت في حياته صلّى اللّه عليه و آله (3).

و قيل: هي أمّ شريك بنت جابر الأسدية، و اسمها غزية، و لم يقبلها، و قيل: قبلها ثمّ طلقها قبل أن يدخل بها (4).

و عن ابن عباس: أنّها أقبلت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فوهبت نفسها له بغير مهر، فقبلها و دخل عليها (5).

أقول: و عليه يكون المراد من قوله الأول حين وفاته.

و عن الباقر عليه السّلام: «جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في منزل حفصة، و المرأة متلبّسة متمشّطة فقالت: يا رسول اللّه، إنّ المرأة لا تخطب الزوج، و أنا أمرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد، فهل لك من حاجة، فان يك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني. فقال لها رسول اللّه خيرا، و دعا لها، ثمّ قال: يا اخت الأنصارن جزاكم اللّه عن رسول اللّه خيرا، فقد نصرني رجالكم، و رغبت فيّ نساؤكم. فقالت لها حفصة: ما أقلّ حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كفّي عنها يا حفصة، فانّها خير منك، رغبت في رسول اللّه فلمتها و عبتها. ثمّ قال للمرأة: انصرفي رحمك اللّه،

ص: 186


1- . تفسير روح البيان 7:205.
2- . تفسير روح البيان 7:206.
3- . تفسير روح البيان 7:206. (4 و 5) . تفسير روح البيان 7:206.

فقد أوجب اللّه لك الجنة لرغبتك فيّ، و تعرّضك لمحبّتي و سروري، سيأتيك أمري إن شاء اللّه تعالى، فأنزل اللّه تعالى وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً الآية. قال: فأحلّ اللّه عزّ و جلّ هبة المرأة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا يحلّ ذلك لغيره» (1).

و عن القمي ما يقرب منه إلاّ أنّه حكى اللوم عن عائشة، و قال في آخره: «فلا تحلّ الهبة إلاّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (2).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 51

ثمّ بالغ سبحانه في التوسعة على رسوله صلّى اللّه عليه و آله في النكاح و الطلاق و حقوق الأزواج بقوله: تُرْجِي و تؤخّر مَنْ تَشاءُ إرجاءها و تأخيرها مِنْهُنَّ بأن تترك نكاحها، أو تطلّقها، أو تترك مضاجعتها و قسمها وَ تُؤْوِي و تضمّ إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ضمّها و تقريبها منهنّ بالنكاح و إبقاءها فيه، و قسمها و مضاجعتها وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ و طلبت نكاحها، أو إمساكها، أو قسمها مِمَّنْ عَزَلْتَ و تركت نكاحها أو طلّقتها، أو تركت القسمة لها فَلا جُناحَ و لا إثم و لا لوم عَلَيْكَ لأنّ الاختيار في أمرهنّ بيدك و ذلِكَ التخيير و تفويض الأمر إلى مشيئتك أَدْنى و أقرب إلى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ و تسرّ قلوبهن بمعاملتك معهنّ وَ لا يَحْزَنَّ بترجيح بعضهنّ على بعض وَ إلى أن يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ من النفقة و القسمة و المضاجعة، و تطيب نفوسهنّ به، لتعلمهنّ بأن جميع معاملتك معهنّ بحكم اللّه و إرادته، فان سوّيت بينهنّ فبتفضّلك، و إن رجّحت بعضهنّ فبطاعتك للّه، لا بهوى نفسك.

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله قبل نزول الآية كان يسوّي بين أزواجه في جميع الامور، فلمّا نزلت اعتزل من خمسة، و آوى إليه أربعة: عائشة، و حفصة، و امّ سلمة، و ميمونة (3).

و قيل: إنّه بعد نزولها أيضا كان يسوّي بينهنّ غير سودة، فانّها وهبت ليلتها لعائشة، و قالت: يا رسول اللّه، لا تطلّقني حتى احشر يوم القيامة في عداد أزواجك (4).

قيل: لمّا انسلخت نفسه عن صفاتها، و اتّصفت بصفات القلب-و لذا قال: «أسلم شيطاني بيدي» و لا

ص: 187


1- . الكافي 5:568/53، تفسير الصافي 4:196.
2- . تفسير القمي 2:195، تفسير الصافي 4:196.
3- . تفسير أبي السعود 7:110، تفسير روح البيان 7:207 و 208.
4- . تفسير أبي السعود 7:110، تفسير روح البيان 7:208.

يقول يوم القيامة: نفسي نفسي-اتّصفت دنياه بصفات الآخرة-و لذا حلّ له في الدنيا ما يحلّ لغيره في الآخرة (1)من تزويج الزائد على الأربع، و ترك القسمة بينهنّ و سائر الخصائص.

ثمّ هدّد الرجال و النساء على سوء الظنّ به و بمخالفته بقوله: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من الضمائر و الخطورات وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بكلّ ما تبدونه و تخفونه حَلِيماً غير عجول في العقوبة، فلا تغترّوا بتأخيرها، فانّ العجلة ممّن يخاف الفوت.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 52

ثمّ لمّا اخترن الرسول صلّى اللّه عليه و آله بعد تخييرهنّ، و رضين بما اختاره في حقّهن، شكر اللّه لهنّ بقوله: لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ و لا يجوز تزويجهنّ مِنْ بَعْدُ التسع اللاتي خيّرتهنّ فاخترنك و رضين بمعاملتك معهنّ بما شئت، و هن: عائشة، و حفصة، و امّ سلمة، و زينب بنت جحش، و ميمونة بنت الحارث، و امّ حبيبة بنت أبي سفيان، و صفية، و جويرية، و سودة. و أفضلهنّ امّ سلمة، و ميمونة. أو من بعد اليوم، فلو ماتت إحداهنّ لم يحلّ له نكاح اخرى وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلّق إحداهنّ و تتزوّج مكانها غيرها كرامة لهنّ و جزاء على اختيارهنّ اللّه و رسوله و الدار الآخرة، و رضين بما آتيتهنّ، فلا يجوز لك تزويج غيرهنّ من النساء وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ و جمالهنّ.

لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)عن ابن عباس: هي أسماء بنت عميس، كانت امرأة جعفر بن أبي طالب، فانّه لمّا استشهد أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخطبها، فنهاه اللّه عن ذلك، فتركها فتزوّجها أبو بكر بإذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: هي حبابة أخت الأشعث بن قيس (3).

و لمّا كانت الأزواج شاملة للاماء استثناهنّ بقوله: إِلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء، فانّه يحلّ لك البشرى بهنّ. و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، لعدم شمول الأزواج إلاّ المنكوحات بالعقد (4).

و عن مجاهد: المراد من الآية لا يحلّ لك النساء من اليهوديات و النصرانيات من بعد المسلمات، و لا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من اليهود و النصارى، فانّه لا تكون أمّ المؤمنين يهودية و لا نصرانية إلاّ ما ملكت يمينك من الكتابيات أن تتسرّى بهنّ (5).

و قيل: إنّ المراد من قوله: لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ المحرّمات التسع المذكورة في سورة النساء (2).

ص: 188


1- . تفسير روح البيان 7:208. (2 و 3 و 4 و 5) . تفسير روح البيان 7:210.
2- . تفسير الصافي 4:198.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّما عنى به لا يحلّ لك النساء اللاّتي حرّم اللّه عليك في هذه الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ إلى آخرها، و لو كان الأمر كما يقولون كان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له، لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، و لكن الأمر ليس كما يقولون، إنّ اللّه عز و جل أحلّ لنبيه صلّى اللّه عليه و آله أن ينكح من النساء ما أراد إلاّ ما حرّم في هذه الآية في سورة النساء» (1)و مثله روي عن الصادق صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: هذه الآية منسوخة بقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ (3).

و عن عائشة: أنّها قالت: ما فارق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الدنيا حتى حلّ له ما أراد من النساء (4).

و قيل: إنّها منسوخة بقوله: إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية (5)و نسب ذلك إلى أصحابنا.

وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أحوال خلقه و مصالحهم رَقِيباً و محافظا، لا يمكن أن يغفل و يذهل عنها.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 53

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه أدب عشرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع عموم الناس و خصوص أزواجه، علّم المؤمنين أدب دخولهم في بيته، و مكالمتهم أزواجه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ و حجراته في حال من الأحوال إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ و يعلّن لَكُمْ و تدعون إِلى طَعامٍ و غذاء تأكلون منه، فحينئذ جاز لكم الدخول، و كذا لا تدخلوها إلاّ إذا كنتم غَيْرَ ناظِرِينَ و حال كونكم غير منتظرين إِناهُ و وقته و إداركه.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اَللّهِ عَظِيماً (53)روي أن ناسا من المؤمنين كانوا ينتظرون وقت طعام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيدخلون و يقعدون إلى حين إدراكه (6). و عليه يكون النهي عن الدخول بغير إذن مخصوصا بالداخلين إلى طعام، و لذا قيل: إن في الكلام تقديما و تأخيرا، و المعنى: لا تدخلوا إلى طعام إلاّ أن يؤذن لكم (7).

و قيل: إنّ المراد عدم جواز الدخول بغير إذن خصوصا إذا كان الدخول للطعام، و يكون النهي عن

ص: 189


1- . الكافي 5:389/4، تفسير الصافي 4:198.
2- . الكافي 5:388/1 و 2، تفسير الصافي 4:198.
3- . تفسير أبي السعود 7:111.
4- . تفسير الرازي 25:223، تفسير أبي السعود 7:111.
5- . تفسير الرازي 25:223، تفسير أبي السعود 7:111.
6- . تفسير روح البيان 7:213.
7- . تفسير الرازي 25:224.

الدخول إلى الطعام من باب النهي عن قول (اف) المستلزم للنهي عن الضرب (1).

عن الصادق عليه السّلام: «كان جبرئيل إذا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قعد بين يديه قعدة العبد، و كان لا يدخل حتى يستأذن» (2).

ثمّ لمّا كان النهي عن الدخول بغير إذن ربّما يوجب التأذّى و القطع بحيث لا يدخل بعض المنافقين أصلا و لو بالدعوة (3)، أدرك إيجاب الدخول مع الدعوة بقوله: وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ إلى طعام فَادْخُلُوا وجوبا حفظا لحرمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و طاعته فَإِذا طَعِمْتُمْ و أكلتم الغذاء فَانْتَشِرُوا و تفرّقوا و أنتم غير ماكثين لدرك حظّ حضور النبي صلّى اللّه عليه و آله وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ بعضكم مع بعض لِحَدِيثٍ تتحدّثون به إِنَّ ذلِكُمْ الاستئناس بعد الأكل المستلزم لإطالة الجلوس كانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ و يؤلم قلبه الشريف، لتضييق المنزل عليه و على أهله، و اشتغاله فيما لا يعينه فَيَسْتَحْيِي و ينفعل مِنْكُمْ أن يقول لكم: قوموا و أخرجوا وَ اَللّهُ يأمركم بالخروج من منزله، و ينهاكم عن الاستئناس و إطالة الجلوس عنده، و لا يَسْتَحْيِي مِنَ قول اَلْحَقِّ و لا يرى على نفسه فيه عيبا.

روى الفخر: أن بعض الصحابة أطال الجلوس و المكث يوم وليمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عرس زينب بنت جحش، و لم يقل النبي صلّى اللّه عليه و آله له شيئا، فنزلت الآية (4).

و قال القمي: لمّا تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب بنت جحش، و كان يحبّها، فأولم و دعا الصحابة، و كان أصحابه إذا أكلوا يحبّون أن يتحدّثوا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان يحبّ أن يخلو، فأنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية، و كانوا يدخلون عليه بلا إذن (5).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 53

ثمّ بيّن اللّه أدب المكالمة مع أزواجه و طلب الماعون منهنّ عند الحاجة بقوله: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ و طلبتم منهن مَتاعاً و ماعونا تنتفعون به فَسْئَلُوهُنَّ ذلك المتاع و الماعون مِنْ وَراءِ حِجابٍ و خلف السّتر، فانّ الصحابة قبل نزول الآية كانوا لا يبالون أن يدخلوا عليهنّ بغير حجاب، فنهى اللّه عنه و علّله بقوله: ذلِكُمْ السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ من الخطورات

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اَللّهِ عَظِيماً (53)

ص: 190


1- . تفسير الرازي 25:224.
2- . علل الشرائع:7/2، تفسير الصافي 4:199.
3- . في النسخة: بالدعاء.
4- . تفسير الرازي 25:225.
5- . تفسير القمي 2:195، تفسير الصافي 4:199.

النفسانية و الهواجس الشيطانية وَ قُلُوبِهِنَّ فانّ الرجل و المرأة إذا لم ير أحدهما الآخر لم يقع في قلبه شيء، بخلاف ما إذا رأى، فانّه لا يؤمن أحد على نفسه من الخواطر السيئة.

عن عائشة: أنّ أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله كنّ يخرجن الليل لحاجتهنّ، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشيا، و كانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، فأنزل اللّه آيه الحجاب (1).

أقول: لا شبهة أنّ في ندائه هذا إيذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فنهى اللّه عنه بقوله: وَ ما كانَ يصحّ و يستقيم لَكُمْ أيّها المسلمون أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ بالتعرّض لأزواجه في حياته وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أو تتزوّجوا أَزْواجَهُ اللاّتي هنّ امهاتكم مِنْ بَعْدِهِ و بعد وفاته أَبَداً و آخر الدهر، فانّ في نكاحهن توهينه صلّى اللّه عليه و آله، و إيذاء له، و مخالفة لجعلهنّ امّهاتكم من غير فرق بين المدخول بها و المطلّقة و غيرها، لصيرورتها بالعقد امّا للمؤمنين.

و روى العامة أنّ سبب نزولها أنّ طلحة بن عبيد اللّه قال: لئن مات محمد لأتزوّجن عائشة (2). و في رواية قال: تزوّج محمد بنات عمّنا و يحجبهنّ عنّا! و اللّه لئن مات لأتزوّجن عائشة (3)، فنزل وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ إلى قوله: إِنَّ ذلِكُمْ المذكور من إيذائه و تزويج أزواجه كانَ عِنْدَ اَللّهِ ذنبا عَظِيماً و إثما كبيرا لا أعظم منه و لا أكبر.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 54

ثمّ بالغ في التهديد عليهما بقوله: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً و تظهروا قصد نكاحهنّ و إيذاءه، و إيذاء أولاده و أقاربه الذي هو إيذاؤه أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم و تسرّوه في قلوبكم فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ ممّا تظهروه أو تخفوه عَلِيماً و عليه مجازيكم.

إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)و القمي، قال: كان سبب نزولها أنّه لمّا أنزل اللّه اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ و حرّم اللّه نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله على المسلمين، غضب طلحة فقال: يحرّم محمد علينا نساءه و يتزوّج هو بنسائنا، لئن أمات اللّه محمدا لنركضنّ بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا، فأنزل الآية (4).

و في رواية: لمّا قبض رسول اللّه، و ولي الناس أبو بكر، أتته العامرية و الكندية، و هما مطلّقتا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الدخول، و قد خطبتنا، فاجتمع أبو بكر و عمر و قالا لهما: اختارا إن شئتما الحجاب، و إن

ص: 191


1- . تفسير روح البيان 7:215.
2- . تفسير روح البيان 7:216.
3- . تفسير روح البيان 7:216.
4- . تفسير القمي 2:195، تفسير الصافي 4:199.

شئتما الباه، فاختارتا الباه، فتزوّجتا، فجذم أحد الزوجين، و جنّ الآخر (1).

و عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «ما نهى اللّه عزّ و جلّ عن شيء إلاّ و قد عصي فيه حتى لقد نكحوا أزواج رسول اللّه من بعده» و ذكر العامرية و الكندية، ثمّ قال: «لو سألتم عن رجل تزوّج امرأة فطلقّها قبل أن يدخل، أتحلّ لابنه فقالوا: لا، فرسول اللّه أعظم حرمة من آبائهم» (2).

و روي أنّ هذا الحكم جار في الوصيّ أيضا (1).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 55 الی 56

ثمّ لمّا نهى اللّه عن سؤال الأزواج إلاّ من وراء الحجاب قال آباؤهنّ و أبناؤهنّ: أنحن كالأباعد؟ فنزلت: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ و الحرائر المؤمنات منهنّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من إمائهنّ.

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اِتَّقِينَ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)ثمّ لتهييجهنّ على الطاعة خاطبهنّ بقوله: وَ اِتَّقِينَ اَللّهَ فيما أمرتنّ به من الاحتجاب، و لا تتجرين على العصيان في الخلوات إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً و عنده حاضرا و إليه ناظرا.

ثمّ بالغ سبحانه في إكرام نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و تعظيمه بقوله: إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ في الملأ الأعلى يُصَلُّونَ و يعطفون عَلَى اَلنَّبِيِّ بالرحمة و الثناء و التعظيم، و تعلية مقامه، و تشريفه بمزيد كرامته و الدعاء و النّصرة، و إنّما بدأ سبحانه بنفسه إظهارا لشرفه، و ترغيبا للامّة إليها، فانّه إذا كان مصلّيا عليه مع استغنائه، كانت الامّة أولى به، لاحتياجهم إلى شفاعته، و لذا قال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا به أنتم أيضا صَلُّوا و اعطفوا عَلَيْهِ بالدعاء و التعظيم و الثناء في الملأ الأدنى وَ سَلِّمُوا و انقادوا له، أو حيّوة بالسلام تَسْلِيماً مناسبا، لشرف منزلته، و علوّ مقامه.

قيل: إنّ تشريف اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة عليه بقوله: إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ أشرف من تشريف آدم بالسجود (2).

ص: 192


1- . مناقب ابن شهر آشوب 3:305، تفسير الصافي 4:200.
2- . تفسير روح البيان 7:223.

و قيل: إنّ الصلاة (1)على محمد صلّى اللّه عليه و آله أفضل العبادات، لأن اللّه تعالى تولاّها هو و ملائكته، ثمّ أمر بها المؤمنين، و سائر العبادات ليس كذلك (2)، و في الحديث: «أنّ للّه ملكا أعطاه سمع الخلائق، و هو قائم على قبري إذا متّ إلى يوم القيامة، فليس أحد من امّتي يصلّي عليّ صلاة إلاّ قال: يا محمد، صلّى عليك فلان كذا و كذا، و يصلّي الربّ على ذلك الرجل بكلّ واحدة عشرا» (3).

و عن عبد السّلام بن نعيم (4)، قال: قلت لأبي عبد اللّه: إني أدخل بيت اللّه و لا أعلم شيئا إلاّ الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: «أما إنّه لم يخرج أحد بأفضل ممّا خرجت به» (5).

و عن كعب بن عجرة، قال: لمّا نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً قمنا إليه فقلنا: أمّا السّلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك يا رسول اللّه؟ قال: قولوا: اللهم صلّ على محمد و آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم. إنّك حميد مجيد، و بارك على محمد و آل محمد، كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» (6).

و الظاهر أنّ المراد من التشبيه هو في الصلاة و البركة، لا في المقدار و الكيفية، بل المقدار و الكيفية بمقدار الفضيلة.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «الصلاة من اللّه رحمة، و من الملائكة تزكية، و من الناس الدعاء، و أمّا قوله: وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً يعني التسليم فيما ورد عنه» .

قيل: فكيف نصلّي على محمد و آله؟ قال: «تقولون صلوات اللّه و صلوات ملائكته و أنبيائه و رسله و جميع خلقه على محمد و آل محمد، و السّلام عليه و عليهم و رحمة اللّه و بركاته» .

قيل: فما ثواب من صلّى على النبي و آله بهذه الصلاة؟ قال: الخروج من الذنوب كهيئته يوم ولدته امّه» (7).

و عن الرضا عليه السّلام في مجلسه مع المأمون، قال: «قد علم المعاندون أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه، قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: تقولون: اللهم صلّ على محمد و آل محمد، كما صليت و باركت على إبراهيم و آل ابراهيم، إنّك حميد مجيد» الخبر (8).

ص: 193


1- . في النسخة: الصلوات.
2- . تفسير روح البيان 7:224.
3- . تفسير روح البيان 7:224.
4- . في النسخة: عبد اللّه بن نعيم، تصحيف راجع: معجم رجال الحديث 10:21.
5- . ثواب الاعمال:155، بحار الأنوار 94:57/34.
6- . مجمع البيان 8:579، تفسير روح البيان 7:225.
7- . معاني الأخبار:367/1، تفسير الصافي 4:201.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:236/1، تفسير الصافي 4:201.

و عن الباقر عليه السّلام: «صل على النبي كلّما ذكرته، أو ذكره ذاكر عندك، في أذان و غيره» (1).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 57

ثمّ أنّه تعالى أوضح فضيلة المكرمين لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و المسلّمين له، و علوّ مقامهم و كرامتهم عليه، ببيان سوء حال المؤذين له بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ بترك طاعته وَ يؤذون رَسُولَهُ بتوهينه باللّسان و الجوارح، أو المراد يؤذون اللّه بإيذاء رسوله و إيذاء عترته و أولاده لَعَنَهُمُ اَللّهُ و أبعدهم من رحمته فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ بحيث لا يكاد ينالون منها فيهما شيئا وَ أَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك في الآخرة عَذاباً مُهِيناً لتوهينهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله.

إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)و قيل: إنّ اللعن بأزاء إيذاء اللّه، و العذاب بأزاء إيذاء الرسول (2).

القمي، قال: نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه، و أخذ حقّ فاطمة عليها السّلام و آذاها، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من آذاها في حياتي كمن آذاها بعد موتي، و من آذاها بعد موتي كمن آذاها في حياتي، و من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه» و هو قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ (3).

و عن علي عليه السّلام، أنّه قال و هو آخذ بشعره: «حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو آخذ بشعره، فقال: من آذى شعرا منك فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و من آذى اللّه فعليه لعنة اللّه» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «أخّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة من الليالي العشاء الآخرة ما شاء اللّه، فجاء عمر فدقّ الباب، فقال: يا رسول اللّه، نام النساء، نام الصبيان، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ليس لكم أن تؤذوني و لا تأمروني، إنّما عليكم أن تسمعوا و تطيعوا» (5).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 58

ثمّ أنّه تعالى بعد تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بتقرين إيذائه بإيذاء ذاته المقدّسة، عظّم المؤمنين بتقرين إيذائهم بإيذاء رسوله بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ إذا كان إيذاؤهم بِغَيْرِ مَا

وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58)

ص: 194


1- . من لا يحضره الفقيه 1:185/875، الكافي 3:303/7، تفسير الصافي 4:202.
2- . تفسير الرازي 25:228.
3- . تفسير القمي 2:196، تفسير الصافي 4:202.
4- . مجمع البيان 8:580، تفسير الصافي 4:203.
5- . التهذيب 2:28/81، تفسير الصافي 4:203.

اِكْتَسَبُوا و بلا جرم و جناية موجبة للقصاص و الحدّ و التعزير ارتكبوا.

روي أنّ الزّناة كانوا يتّبعون النساء إذا برزن بالليل لطلب الماء، أو لقضاء حوائجهنّ، و كانوا لا يتعرّضون إلاّ للإماء، و ربما يتعرّضون للحرائر أيضا جهلا أو تجاهلا، لاتّحاد الكلّ في اللباس، حيث كانت تخرج الحرّة و الأمة في درع و خمار (1).

و روي أنّ المنافقين كانوا يؤذون عليا عليه السّلام و يسمعونه ما لا خير فيه (2)فَقَدِ اِحْتَمَلُوا و اكتسبوا، أو جعلوا على ظهورهم بُهْتاناً و افتراء، و نسبة فعل القبيح إليهم كذبا وَ إِثْماً و ذنبا مُبِيناً و ظاهرا.

و قيل: إنّ المراد بالبهتان عقوبته، و قيل: إنّه كناية عن الظلم، أو المعصية التي يكون عظمها كعظم معصية البهتان (3).

و قيل: إنّه كناية عن الايذاء اللساني و القولي، و الإثم عن الإيذاء اليدي و العملي (4).

و عن القمي: يعني عليا و فاطمة عليها السّلام و هي جارية في الناس كلّهم (5).

و في الحديث القدسي: «من آذى وليا لي، فقد بارزني بالمحاربة» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين المؤذون لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال (7): هؤلاء الذين آذوا المؤمنين، و نصبوا لهم و عاندوهم، و عنّفوهم في دينهم، ثمّ يؤمر بهم إلى جهنم» (8).

و عن الباقر عليه السّلام: «الناس رجلان: مؤمن، و جاهل، فلا تؤذوا المؤمن، و لا تجهل على الجاهل، فتكون مثله» (9).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من بهت مؤمنا أو مؤمنة، اقيم في طينة خبال، أو يخرج ممّا قال» (10).

و في رواية: ما طينة خبال؟ قال: «صديد يخرج من فروج المومسات» (11).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 59

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)

ص: 195


1- . تفسير أبي السعود 7:115، تفسير روح البيان 7:238.
2- . تفسير أبي السعود 7:115، تفسير روح البيان 7:238.
3- . تفسير روح البيان 7:239.
4- . تفسير الرازي 25:230.
5- . تفسير القمي 2:196، تفسير الصافي 4:203.
6- . تفسير روح البيان 7:239.
7- . في النسخة: فمن.
8- . الكافي 2:262/2، تفسير الصافي 4:203.
9- . الخصال:49/57، تفسير الصافي 4:203.
10- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 4:203.
11- . الكافي 2:266/5، تفسير الصافي 4:203.

ثمّ لمّا كان من أنحاء إيذاء المؤمنين و المؤمنات تعرّض المنافقين و أهل الفجور للمؤمنات في الطّرق، و إيذاؤهنّ باحتمال أنّهنّ من الإماء الزانيات، كما مرّ، أمر اللّه سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بأن يأمرهنّ بالتحجّب بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ اللاّتي هنّ في حبالة نكاحك وَ بَناتِكَ و هنّ على ما قيل: زينب، و رقية، و أمّ كلثوم، و فاطمة عليها السّلام (1)وَ نِساءِ اَلْمُؤْمِنِينَ بك في المدينة: إنّهنّ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ و يقرّبن إليهنّ بعضا مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ و أثوابهنّ التي هي أوسع من الخمار، و يغطين بها وجوههنّ و أبدانهنّ حين الخروج من بيوتهنّ، و لا يخرجن مكشّفات الوجوه كالإماء ذلِكَ التغطّي و إدناء الجلباب أَدْنى و أقرب إلى أَنْ يُعْرَفْنَ بالحرية و العفّة، و يميّزن من الإماء و الفتيات اللاتي يكنّ مقصودات بالتعرّض و متوقّعات للزنا فَلا يُؤْذَيْنَ أولئك المؤمنات من جهة أهل الفجور بالتعرّض بهنّ في الطريق وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً لما سلف من التفريط و ترك التستّر رَحِيماً و عطوفا بعباده حيث يراعي راحتهم و صلاحهم في جميع امورهم التي منها تعفّف نسائهم و حفظ نواميسهم، أو ذلك التنبيه أدنى أن يعرفن بالقدر و المنزلة عند اللّه، فلا يؤذين بالأطماع الفاسدة و الأهواء الكاسدة و الأقوال الكاذبة، و كان اللّه غفورا لهنّ، و ستورا لذنوبهنّ، رحيما بهنّ باعلاء درجتهنّ في الآخرة.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 60 الی 62

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين المؤذين للنبي صلّى اللّه عليه و آله و أهل الفجور المؤذين للمؤمنات و الناشرين للأخبار الكاذبة الموحشة، أو المزرية بالمؤمنين بقوله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ و لم يرتدع اَلْمُنافِقُونَ عن إيذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشكّ و الرغبة إلى الفجور عن التعرّض لنساء المؤمنين وَ اَلْمُرْجِفُونَ و المزلزلون لقلوب المسلمين بنشر الأخبار الكاذبة الموحشة فِي اَلْمَدِينَةِ كالإخبار بانهزام سرايا المسلمين و قتلهم و أسرهم، و الإخبار بما فيه إزراء بالمؤمنين و المؤمنات، و نظائرها عما هم عليه من الأعمال و الأقوال، و اللّه لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ و لنهيجنّك إلى

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اَللّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّهِ تَبْدِيلاً (62)

ص: 196


1- . تفسير روح البيان 7:240.

قتالهم و إجلائهم، و لنأمرنّك بأخذهم و استئصالهم ثُمَّ بعد الإغراء لا يُجاوِرُونَكَ و لا يساكنونك فِيها في بلدك إِلاّ زمانا أو جوارا قَلِيلاً يتهيّأون فيه للخروج و الفرار، أو يتبيّن فيه حالهم من الانتهاء و عدمه، و هم في حال خروجهم أو في الزمان القليل الذي يجاورونك يكونون

مَلْعُونِينَ و مطرودين من رحمة اللّه، و من جوارك أَيْنَما و في أيّ مكان ثُقِفُوا و وجدوا أُخِذُوا بالقهر وَ قُتِّلُوا بالسيف تَقْتِيلاً فضيعا مقرونا بالذلّة و الهوان، و ليس ذلك الاغراء و ما يتبعه بدعا لكم،

بل يكون سُنَّةَ اَللّهِ و عادته المستمرّة فِي الامم اَلَّذِينَ خَلَوْا و مضوا من الدنيا مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السابقة وَ لَنْ تَجِدَ يا محمد لِسُنَّةِ اَللّهِ و عادته المستمرّة من بدو خلق آدم إلى الآن تَبْدِيلاً و تغييرا، لكونها على أساس الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين و التشريع، أو المراد أنّه لا يقدر أحد على تبديلها.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 63 الی 68

ثمّ لمّا كان ممّا يؤذي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله السؤالات الاستهزائية التعنّتية منه، و كان منها سؤال الكفّار عن وقت القيامة استهزاء و تعنتا، حكاه سبحانه توطئة لتهديد مؤذيه من الكفار بقوله: يَسْئَلُكَ اَلنّاسُ عَنِ وقت قيام اَلسّاعَةِ و مجيئ يوم القيامة.

يَسْئَلُكَ اَلنّاسُ عَنِ اَلسّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اَللّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اَللّهَ لَعَنَ اَلْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اَللّهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ (66) وَ قالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)قيل: كان المشركون يسألون عنه و يستعجلونه استهزاء و تعنّتا، و أهل الكتاب امتحانا، لعلمهم بخفائه من جميع الخلق (1)، فأمره اللّه بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمد، في جوابهم: إِنَّما عِلْمُها العلم بها عِنْدَ اَللّهِ وحده، لا يطلع عليها أحدا من خلقه حتى الأنبياء و المرسلين و ملائكته المقربين وَ ما يُدْرِيكَ و أي شيء يعلمك بوقت قيامها غير اللّه؟ و قد أخفاه منك لحكمة بالغة، و ليس من شرط النبيّ أن يعلم ما اقتضت الحكمة اختصاص علمه به تعالى.

ثمّ بيّن احتمال قربها تهويلا لهم بقوله: لَعَلَّ اَلسّاعَةَ تَكُونُ شيئا قَرِيباً فلا تستعجلوه.

روي أنّه إذا هبّت ريح شديدة تغيّر لونه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: «تخوّفت الساعة» و قال: «ما أمدّ طرفي و لا

ص: 197


1- . تفسير روح البيان 7:243.

أغمضه إلاّ و أظنّ الساعة قد قامت» (1)و لعلّ المراد من الساعة في الحديث الموت، فانّه الساعة الصغرى، كما روي «أنّ من مات فقد قامت قيامته» (2).

ثمّ ذمّ الكفّار و أوعدهم بأشدّ العذاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ لَعَنَ اَلْكافِرِينَ و أبعدهم من ساحة الرحمة في الدارين وَ أَعَدَّ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة سَعِيراً و نارا موقدة حال كونهم

خالِدِينَ و مقيمن فِيها أَبَداً دائما، لأنّهم لا يقدرون على الخروج منها و لا يَجِدُونَ لأنفسهم وَلِيًّا و محبّا يشفع في نجاتهم وَ لا نَصِيراً و معينا يخلّصهم منها بقوّته و قدرته، و يكون حالهم هذا

يَوْمَ تُقَلَّبُ و تصرّف وُجُوهُهُمْ التي هي أشرف و أعزّ أعضائهم فِي اَلنّارِ من جهة إلى جهة كاللّحم الذي يراد أن يشوى في النار، أو المراد تتغير وجوههم من حال الحسن إلى حال القبح، و من البياض إلى السواد.

ثمّ كأنّه قيل: ما يقولون في تلك الحالة؟ فقال سبحانه: يَقُولُونَ تحسّرا و تندّما: يا أهل النار لَيْتَنا في الدنيا أَطَعْنَا اَللّهَ في أحكامه وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ في أمره بالايمان و النّصرة، فلن نبتلي بذلك العذاب الشديد،

و لا تنفعهم الندامة وَ قالُوا اعتذارا من كفرهم و عصيانهم: رَبَّنا إِنّا لو خلّينا و أنفسنا لم نكن نكفر و نعصي بل أَطَعْنا سادَتَنا و رؤساء أقوامنا وَ كُبَراءَنا و أشرافنا الذين أمرونا بالكفر و العصيان فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ و صرفونا عن طريق الحقّ و دين الاسلام بما زيّنوا لنا الشّرك و مخالفة الرسول.

ثمّ كرّروا النداء و قالوا: رَبَّنا مبالغة في إجابة استدعائهم بقوله: آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ و مثلي ما آتيتنا مِنَ اَلْعَذابِ لضلالهم و إضلالهم وَ اِلْعَنْهُمْ و اطردهم من ساحة رحمتك لَعْناً كَبِيراً و طردا شديدا لا يتعقّبه القرب و الرجوع إليها.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 69

ثمّ نصح اللّه سبحانه المظهرين للاسلام و وعظهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله بألسنتهم لا تَكُونُوا في إيذاء رسولكم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى من قومه الذين آمنوا به، كقارون و أتباعه و غيرهم من بني إسرائيل، حيث اتّهموه بالزنى فَبَرَّأَهُ اَللّهُ و نزّهه مِمّا قالُوا و نسبوا إليه. روي أنّ قارون دفع إلى زانية مالا عظيما على أن تقول على رأس الملأ من بني إسرائيل: إنّي حامل

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اَللّهُ مِمّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اَللّهِ وَجِيهاً (69)

ص: 198


1- . تفسير روح البيان 7:243.
2- . تفسير روح البيان 8:387.

من موسى على الزنى، فأظهر اللّه نزاهته عن ذلك، بأن أقرّت الزانية بما كان بينها و بين قارون من التباني و المصانعة (1). ثمّ خسف اللّه بقارون الأرض بدعاء موسى و أمره.

و قيل: إنّ بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، و كان موسى عليه السّلام يغتسل وحده، و يتستّر من الناس، فقالوا: إنّ اغتساله وحده ليس إلاّ لأجل البرص الذي في بدنه (2)، أو لعيب آخر، فذهب موسى يوما ليغتسل، فوضع ثوبه على حجر، -قيل: إنّه الحجر الذي انفجر منه الماء- فلمّا فرغ من غسله، و أراد أن يلبس ثوبه، فرّ الحجر بثوبه، فأسرع موسى خلفه عريانا، و هو يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، فوقف الحجر عند بني إسرائيل، فنظروا إليه و قالوا: و اللّه ما لموسى من بأس (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال، و كان موسى عليه السّلام إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد من الناس، فكان يوما يغتسل على شطّ نهر، و قد وضع ثيابه على صخرة، فأمر اللّه الصخرة فتباعدت عنه حتى نظر بنو إسرائيل إليه، فعلموا أن ليس كما قالوا، فأنزل اللّه الآية» (4).

أقول: الظاهر أن الوقعة كانت قبل اطّلاع بني إسرائيل على أنّه ذا أهل و ولد.

و عنه عليه السّلام: «أنّ رضا الناس لا يملك و ألسنتهم لا تظبط، ألم ينسبوا إلى موسى عليه السّلام أنّه عنيّن، و آذوه حتى برّأه اللّه ممّا قالوا» (5).

وَ كانَ عِنْدَ اَللّهِ وَجِيهاً و روي أنّ موسى عليه السّلام خرج مع هارون إلى بعض الكهوف، فرأى هارون سريرا فنام عليه فمات، فلمّا عاد موسى عليه السّلام و ليس معه هارون قال بنو إسرائيل: قتل موسى هارون حسدا له على محبّة بني إسرائيل إياه، فقال موسى عليه السّلام: و يحكم كان أخي و وزيري أتروني أقتله؟ فلمّا أكثروا عليه قام فصلّى ركعتين، ثمّ دعا فنزل السرير الذي نام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء و الأرض فصدّقوا أن هارون مات فيه، فدفنه موسى، فقيل في حقه ما قيل، كما ذكر حتى انطلق موسى ببني إسرائيل إلى قبره، و دعا اللّه أن يحييه، فأحياه اللّه تعالى، و أخبرهم أنّه مات، و لم يقتله موسى» (6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ موسى و هارون صعدا الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل

ص: 199


1- . تفسير روح البيان 7:246.
2- . تفسير روح البيان 7:246.
3- . تفسير روح البيان 7:246.
4- . تفسير القمي 2:197، تفسير الصافي 4:205.
5- . أمالي الصدوق:164/163، تفسير الصافي 4:205.
6- . تفسير روح البيان 7:247.

لموسى عليه السّلام: أنت قتلته، فأمر اللّه الملائكة فحملته حتى مرّوا به على بني اسرائيل، و تكلّمت الملائكة بموته حتى عرفوا أنّه مات، و برّأه اللّه من ذلك» (1).

أقول: يمكن كون إيذائه بجميع الوجوه، و تبرئة اللّه إيّاه من جميعها.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 70 الی 71

ثمّ بالغ سبحانه في نصح المؤمنين بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ في مخالفة أحكامه، و إيذاء رسوله و المؤمنين وَ قُولُوا في حق رسولكم و إخوانكم المؤمنين و سائر الشؤون قَوْلاً سَدِيداً و كلاما حقا و صدقا، و لا تخوضوا في حديث جائر عن العدل و القصد،

إذن يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ بالقبول و الإثابة عليها، و يوفّقكم لما يحبّه و يرضاه.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)عن الصادق عليه السّلام-في رواية- «اعلم أنّه لا يقبل اللّه منك شيئا حتى تقول قولا عدلا» (2).

وَ يَغْفِرْ لَكُمْ بإزاء استقامتكم في القول و الفعل ذُنُوبَكُمْ العظام، فانّ الحسنات يذهبن السيئات.

ثمّ بالغ في الحثّ على طاعته بقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في أوامرهما و نواهيهما فَقَدْ فازَ في الدارين، و نال بأعلى المقاصد فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره، و لا يتصوّر مثله من العزّ و الكرامة، و الجنة و النّعم الدائمة، و الراحة الأبدية.

عن الصادق عليه السّلام: «من يطع اللّه و رسوله في ولاية علي و الأئمة بعده، فقد فاز فوزا عظيما» (3).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من التكاليف و الآداب و الأخلاق، و الأمر بالتقوى و القول السديد، و الترغيب في طاعته، حثّ الناس على تحمّل مشاقّها ببيان عظمتها بقوله: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ الواجبة الرعاية و الحفظ، و هي على ما قيل تكاليفه و أحكامه (4)عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ مع عظمها و قوّتها بأن يجعلهن قابلات و مستعدّات لامتثالها، على أن يثيبهنّ بطاعتها، و يعذّبهن على

إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)

ص: 200


1- . مجمع البيان 8:583، تفسير الصافي 4:205.
2- . الكافي 8:107/81، تفسير الصافي 4:206.
3- . تفسير القمي 2:198، الكافي 1:342/8، تفسير الصافي 4:206.
4- . تفسير نور الثقلين 4:314، تفسير الرازي 25:234.

مخالفتها فَأَبَيْنَ و امتنعن أَنْ يَحْمِلْنَها و من تحمّلها، و قلن على ما قيل: يا رب، نحن مسخّرات بأمرك، لا نريد ثوابا و لا عقابا (1)وَ أَشْفَقْنَ مِنْها و خفن من العذاب المترتّب على مخالفتها جهلا بسعة الرحمة، و عدم الاعتماد بحفظه و تأييده تعالى، فانّ لكلّ موجود عقلا و إدراكا على مرتبة وجوده وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ و قبل مشقّة أداء حقّها عند عرضها عليه.

و قيل: إنّ عرض الأمانة من باب الفرض و التمثيل، إيضاحا لعظم شأن تلك الأمانة، و المعنى أنّ هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في الشدّة و القوّة، لو كانت ذات شعور و إدراك، و كلّفت بقبول تلك الأمانة و مراعاتها، لأبين من قبولها، و أشفقن منها، لغاية عظمة شأنها و تكلّفها، و التزم بها جنس الانسان مع ما فيه من ضعف البنية و رخاوة القوّة (2).

إِنَّهُ بالجبلّة كانَ ظَلُوماً و كثير التعدّي على نفسه بارتكاب العصيان جَهُولاً بوخامة عاقبتها.

عن ابن مسعود، أنّه قال: مثلت الأمانة كالصخرة الملقاة، و دعيت السماوات و الأرض و الجبال إليها، فلم يقربوا منها، و قالوا: لا نطيق حملها، و جاء آدم من غير أن دعي و حرّك الصخرة، و قال: لو امرت بحملها لحملتها، فقلن له: احمل فحملها إلى ركبتيه، ثمّ وضعها و قال: لو أردت أن ازداد لزدت، فقلن له: احمل فحملها إلى حقوه، ثمّ وضعها و قال: لو أردت لزدت، فقلن له: أحمل فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها، فقال اللّه: مكانك، فانّها في عنقك و عنق ذرّيتك إلى يوم القيامة (3).

و روي أنّ آدم قال: أحمل الأمانة بقوّتي أم بالحقّ؟ فقيل: من يحملها يحمل بنا، فانّ ما هو منّا لا يحمل إلاّ بنا (4).

و روي أنّ عليا عليه السّلام إذا حضر وقت الصلاة يتململ و يتزلزل و يتلوّن، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: «جاء وقت الصلاه، وقت أمانة عرضها اللّه على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها» (5).

و في (النهج) في وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام للمسلمين: «ثمّ أداء الأمانة، فقد خاب من ليس أهلها، إنّها عرضت على السماوات المبنية، و الأرض المدحية، المدحوة و الجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها، و لو امتنع شيء ذو طول أو عرض أو قوة أو عزّ لا متنعن،

ص: 201


1- . تفسير البيضاوي 2:254، تفسير روح البيان 7:252.
2- . تفسير أبي السعود 7:118، تفسير روح البيان 7:252.
3- . تفسير روح البيان 7:253.
4- . تفسير روح البيان 7:253.
5- . عوالي اللآلي 1:324/62، تفسير الصافي 4:208.

و لكن أشفقن من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ، و هو الانسان، إنّه كان ظلوما جهولا» (1).

و عن القمي رحمه اللّه: الأمانة هي الإمامة و الأمر و النهي-إلى أن قال-فالأمانة هي الإمامة، عرضت على السماوات و الأرض و الجبال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها أن يدّعوها، أو يغصبوها من أهلها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ يعني الأول إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (2).

و عن الصادق عليه السّلام «الأمانة: الولاية، و الانسان: أبو الشرور المنافق» (3).

أقول: ما ذكر في رواياتنا تأويل قابل للنقل، و قد ذكر كثير من العامة و الخاصة لها تأويلات لا ينبغي نقلها، لكونها من غير الراسخين في العلم.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 73

ثمّ علّل سبحانه العرض أو الحمل بقوله: لِيُعَذِّبَ اَللّهُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ الذين خانوا في الأمانة بعد قبولها وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكاتِ الذين عصوا ربّهم بردّها و عدم قبولها، كذا قيل (4)وَ يَتُوبَ اَللّهُ و يرجع بالرحمة و قبول التوبة عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ الذين قبلوا الأمانة و راعوها، و اهتمّوا بحفظها، قيل: إنّ اللام لام العاقبة، و المعنى كان عاقبة العرض على الانسان (5)-أو عاقبة حملها-تعذيب الخائنين و إثابة الحافظين.

لِيُعَذِّبَ اَللّهُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)و إنّما ذكر قبول توبتهم للتنبيه بأنّهم لا يخلون من فرطات باقتضاء جبلّتهم و تداركهم لها بالتوبة و الإنابة، و ذكر اسم الجليل أولا للتهويل و تربية المهابة، و إعادتها في موضع الاضمار لاظهار مزيد الاعتناء بشأن المؤمنين و تفضيلهم.

و لمّا عبّر سبحانه عن تكاليفه بالأمانة، قدّم ذكر تعذيب المنافقين و المشركين إشعارا بكون التعذيب من لوازم الخيانة في الأمانة دون الإثابة على الحفظ، فانّها بالإحسان و التفضّل.

ثمّ لمّا وصف الانسان بكونه ظلوما جهولا، وصف ذاته المقدّسة بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً و ستورا لظلم الظالمين من المؤمنين على أنفسهم بالعصيان رَحِيماً بالخاطئين و المسيئين بجهالة حيث يقبل توبتهم، و يثيبهم بما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر بقلب أحد.

ص: 202


1- . نهج البلاغة:317 الخطبة 199، تفسير الصافي 4:207.
2- . تفسير القمي 2:198، تفسير الصافي 4:207.
3- . معاني الأخبار:110/2، تفسير الصافي 4:207.
4- . تفسير روح البيان 7:256.
5- . تفسير أبي السعود 7:118، تفسير روح البيان 7:256.

عن ابي بن كعب: كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة، أو أطول منها، ثمّ رفع [أكثرها]من الصدور و نسخ و بقي ما بقي (1).

و في الحديث: «من قرأ سورة الأحزاب و علّمها أهله و ما ملكت يمينه، أعطي الأمان من عذاب القبر» (2).

عن الصادق عليه السّلام: «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب، كان يوم القيامة في جوار محمّد و آله الأطهار و أزواجه» (3).

وفقّنا اللّه و جميع المؤمنين لإكثار تلاوتها، و التبرّك و العمل بما فيها، بمحمد و آله الطيبين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

تمّ تفسير سورة الأحزاب بعون اللّه الملك الوهّاب، و نسأله التوفيق لتفسير ما يتلوها.

ص: 203


1- . تفسير روح البيان 7:257، و هذه من الأخبار الباطلة التي تدلّ على النقصان في الكتاب الكريم، و هو منزّه عن كلّ أنواع التحريف سواء بالزيادة أو النقص باجماع المسلمين، و مصون من يد التغيير بحفظ العزيز العلاّم.
2- . تفسير روح البيان 7:257.
3- . ثواب الاعمال:110، مجمع البيان 8:524، تفسير الصافي 4:209.

ص: 204

في تفسير سورة سبأ

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت سورة الأحزاب التي حكى اللّه في آخرها استهزاء الكفّار بوعد القيامة، و ذكر بعض أهوالها، و بيّن في أولها الولاية المطلقة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و في وسطها رسالته و خاتميته للأنبياء كافة، نظم بعدها سورة سبأ المبدوءة بدليل لزوم المعاد و إنكار الكفّار وقوعه، المتوسطة باثبات رسالته إلى كافة الناس إلى يوم القيامة، فابتدأ بذكر الأسماء المباركات حسب دأبه تعالى بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ثمّ أثنى على ذاته المقدّسة بقوله: اَلْحَمْدُ بجنسه و بجميع أنواعه و أفراده لِلّهِ وحده، و مختصّ بالواجب الوجود اَلَّذِي لَهُ بالملكية الإشراقية و الإيجادية ما فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة و الكواكب و غيرها وَ ما فِي اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس و الحيوان و النبات و الجبال و البحار و المعادن و غيرها من الموجودات التي خلقها اللّه لانتفاع الانسان في دينه و دنياه و معاده و معاشه، و إن لم يلزم كون الحمد على النعمة، لأنّه الثناء على الجميل اختياري وَ لَهُ تعالى وحده اَلْحَمْدُ فِي عالم اَلْآخِرَةِ الذي يكون بعد هذا العالم على قدرته و عدله و فضله وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ الذي خلق الأشياء على وفق المصلحة، و نظمها بأحسن نظام اَلْخَبِيرُ و العليم بجميع ذرات الكائنات و بواطنها و عواقبها.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ (2)

ثمّ قرّر كمال علمه و خبرويته و أوضحه بقوله يَعْلَمُ ما يَلِجُ و يدخل فِي مضائق اَلْأَرْضِ و خللها من المياه و الكنوز و الدافائن و الأموات و الأبخرة و نحوها وَ ما يَخْرُجُ مِنْها من المياه و الأبخرة و الزروع و الحشائش و المعادن و الأموات حين البعث و غيرها وَ يعلم ما يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ من الملائكة و الكتب و الأمطار و البركات و نظائرها وَ ما يَعْرُجُ و يصعد و يدخل

ص: 205

فِيها من الملائكة و الأعمال الصالحة و الأدعية الخالصة و أمثالها وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ بالمطيعين و اَلْغَفُورُ للعاصين.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 3 الی 4

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف نفسه بالقدرة و العلم الدالين على إمكان المعاد، و الحكمة الدالة على وجوبه عليه، حكى إنكار المنكرين له بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا جهلا و عنادا: لا تَأْتِينَا اَلسّاعَةُ قيل: إنّه قال أبو سفيان و حلف باللاّت فأمر بردّهم (1)بقوله: قُلْ يا محمد لهم بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ الساعة البتة. ثمّ وصف نفسه بقوله: عالِمِ اَلْغَيْبِ تنبيها بأنّها من الغيوب التي لا يطّلع عليها غيره، فانّه هو الذي لا يَعْزُبُ و لا يغيب عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ و أصغر من شيء كائن فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ مع سعتهما وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ المثال و المقدار وَ لا أَكْبَرُ منه إِلاّ أنّه مثبوت فِي كِتابٍ مُبِينٍ و اللّوح المحفوظ،

و إنّما يأتي اللّه بالساعة و يثبت الأشياء لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ في يوم الساعة على إيمانهم و أعمالهم و جزاء أُولئِكَ المؤمنون أن لَهُمْ بالاستحقاق مَغْفِرَةٌ للذنوب وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ مكرّم لا تعب فيه و لا منّة، فانّ كمال الانسان ليس إلاّ بالايمان و العمل، و ليس هذا العالم محلّ الجزاء عليهما، فلا بدّ من عالم آخر يجزي عليهما.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا اَلسّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ اَلْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 5 الی 6

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حال المؤمنين، ذكر حال الكفّار بقوله: وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا و مشوا سريعا فِي إبطال آياتِنا القرآنية و أدلّة التوحيد و المعاد و الرسالة حال كونهم ظانّين و زاعمين أنّهم مُعاجِزِينَ لنا، و قادرين على الخروج من تحت قدرتنا بحيث نعجز عن تعذيبهم، أو معاجزين

وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ (6)

ص: 206


1- . تفسير روح البيان 7:260.

للضعفاء عن الاستدلال بها أُولئِكَ المسارعون بسبب جدّهم و سعيهم ذلك لَهُمْ في الآخرة عذاب كائن مِنْ جنس رِجْزٍ و سوء عذاب و شديده و أَلِيمٌ غايته.

ثمّ بيّن قوّة إيمان أهل العلم، و عدم تأثير سعيهم و كيدهم في تثبيطهم عن الايمان بقوله: وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ بالكتب السماوية و أحوال الأنبياء و بياناتهم بعين القلب و نور العلم. القمي: هو أمير المؤمنين عليه السّلام (1)اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من النبوة و القرآن و الأحكام و الحكم هُوَ بالخصوص اَلْحَقَّ الحقيق بالقبول وَ يَهْدِي المصدّقين له إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ و دين اللّه الغالب المستحقّ للثناء و التمجيد، أو اللّه المنتقم من المكذّبين، و الشكور على المصدقين، ففي ذكر الوصفين ترهيب و ترغيب.

و قيل: فيه ترغيب فقط، فانّ سلوك صراط العزيز موجب للعزّ في الدارين، و قربه سبب للكرامة في النشأتين (2).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر إنكار الكفّار وردّهم بكونه مقدورا له، و موافقا للحكمة الملزمة، حكى سبحانه استهزاءهم بإخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله به، و استعجالهم منه بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بعضهم لبعض استهزاء بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا قوم هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يدّعي النبوة و الرسالة من اللّه و يُنَبِّئُكُمْ و يخبركم بأعجب الأعاجيب الذي لا يقول به عاقل و هو أنكم إِذا متّم و مُزِّقْتُمْ و فرّقتم كُلَّ مُمَزَّقٍ و غاية التفرّق بأن صرتم ترابا و رفاتا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و تخلقون مرة اخرى،

و تحيون حياة ثانية لا ندري أَفْتَرى و اختلق عَلَى اَللّهِ في إخباره هذا كَذِباً واضحا فظيعا، إن قال ذلك مع شعور و قصد أَمْ بِهِ جِنَّةٌ و مرض زوال العقل، يوهمه ذلك إن قال هذا القول من دون شعور و قصد.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي اَلْعَذابِ وَ اَلضَّلالِ اَلْبَعِيدِ (8)ثمّ ردّهم اللّه بأن الأمر ليس كما زعموا، فانّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله مبّرأ من الافتراء و الجنون بَلِ اَلَّذِينَ نسبوا أحد الأمرين إليه على سبيل منع الخلوّ أجهل الجهال و أسفه السّفهاء، لأنّهم بسبب أنّهم لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و لا يصدّقون دار الجزاء واقعون فِي اَلْعَذابِ الشديد في الآخرة وَ اَلضَّلالِ

ص: 207


1- . تفسير القمي 2:198، تفسير الصافي 4:211.
2- . الرازي 25:243.

و الانحراف اَلْبَعِيدِ عن الحقّ و الصواب في الدنيا، و هم لا يدركون حالهم في الدنيا و مآلهم في الآخرة، و لو كان لهم عقل و إدراك لفهموا حقيقة حالهم، و لما اجترءوا على إساءة مقالهم.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 9 الی 13

ثمّ و بّخهم سبحانه بعدم التفاتهم على كونهم محاطين بقدرة اللّه و في قبضته الدالّ على توحيده تعالى بقوله: أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ بحيث لا يقدرون على الفرار منها.

أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ وَ أَلَنّا لَهُ اَلْحَدِيدَ (10) أَنِ اِعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ وَ اِعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَ لِسُلَيْمانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ اَلسَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ (13)ثمّ هدّدهم بقوله: إِنْ نَشَأْ تعذيبهم على كفرهم و سوء مقالهم نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ كما خسفناها بقارون أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً و قطعا من النار مِنَ اَلسَّماءِ كما أسقطنا على قوم شعيب لتكذيبهم الآيات بعد ظهور البينات إِنَّ فِي ذلِكَ النظر و الفكر فيهما و في إحاطتهما بالخلق، أو ما تلي عليهم من الآية الناطقة بما ذكروا اللّه لَآيَةً و دلالة واضحة على التوحيد و المعاد، و لكن لا للقاسية قلوبهم، بل لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجّاع إلى ربّه، فانّه إذا تأمّل فيها ينزجر عن تعاطي القبيح من الشرك و إنكار المعاد.

ثمّ لمّا مدح العبد المنيب ذكر نعمه و لطفه على داود عليه السّلام المشهور بالانابة بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا داوُدَ النبي مِنّا فَضْلاً و مزية على أقرانه من الأنبياء و الأولياء لكثرة إنابته، بأن قلنا للجبال التي في غاية الجمودة: يا جِبالُ أَوِّبِي و سبّحي مع داود، و رجّعي بالتسبيح إذا سبّح، أو سيري مَعَهُ وَ سخّرنا له اَلطَّيْرَ مع غاية نفوره من الانسان، فكان الجبال و الطير يسبّحن إذا سبّح داود عليه السّلام بحيث يسمع الناس تسبيحهما بلسان فصيح.

ص: 208

القمي رحمه اللّه، قال: كان داود إذا مرّ بالبراري يقرأ الزّبور، و تسبّح معه الجبال و الطير و الوحوش (1)وَ أَلَنّا لَهُ كالشمع و العجين اَلْحَدِيدَ بحيث يصرّفه في يده كيف يشاء من غير إحماء بنار، و قلنا له:

أَنِ اِعْمَلْ و اصنع منه سابِغاتٍ و دروعا واسعة طويلة وَ قَدِّرْ و اقتصد فِي اَلسَّرْدِ و نظم الحلق و نسجها بحيث تناسبت و تساوت في الدقّة و الغلظ فلا تغلق و لا تحرق.

عن الرضا عليه السّلام: «الحلقة بعد الحلقة» (2). و قال القمي: المسامير التي في الحلقة (3).

قيل: إنّه عليه السّلام أوّل من اخترع الدرع، و كان قبل ذلك صفائح حديد مضروبة (4).

روي أنّه عليه السّلام حين ملك بني إسرائيل كان يخرج متنكّرا، فيسأل الناس ما يقولون في غيابه، فبعث اللّه ملكا في صورة آدمي فسأله على عادته، فقال الملك: نعم الرجل داود، لو لا خصلة فيه: فسأله عنها، فقال: إنه يأكل و يطعم عياله من بيت المال، و لو أكل من عمل يده لتمّت فضائله. فعند ذلك سأل اللّه أن يسبّب له ما يستغني به عن بيت المال، فعلّمه سبحانه صنعة الدرع، فكان يعمل في كلّ يوم درعا و يبيعها بأربعة آلاف درهم، أو بستة آلاف، ينفق على نفسه و عياله ألفين، و يتصدّق بالباقي على الفقراء (5).

و في الحديث: «كان داود لا يأكل إلاّ من كسب يده» (6).

و قيل: إنّ المراد من التقدير في السّرد أن لا يصرف جميع أوقاته فيه، بل يصرف مقدارا تحصل به القوة، و يصرف البقية في العبادة (7).

وَ قلنا اِعْمَلُوا يا داود و آله عملا صالِحاً خالصا للّه إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من العبادات بَصِيرٌ و مطّلع، فأجازيكم عليها أحسن الجزاء.

وَ سخّرنا لِسُلَيْمانَ بن داود اَلرِّيحَ و هي الصّبا على ما قيل (5)غُدُوُّها و سيرها من طلوع الشمس إلى الزوال شَهْرٌ و مقدار سير الراكب المسرع بين الهلالين وَ رَواحُها و سيرها من الزوال إلى الغروب شَهْرٌ فكانت تسير في يوم واحد مسيرة شهرين للراكب.

القمي: كانت الريح تحمل كرسي سليمان، فتسير به في الغداة مسيرة شهر، و بالعشي مسيرة شهر (6).

وَ أَسَلْنا و أجرينا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ و النّحاس المذاب كالماء الجاري من العين، كما ليّنا لأبيه الحديد، فكان يصنع منه كلّما أراد.

ص: 209


1- . تفسير القمي 2:199، تفسير الصافي 4:211.
2- . قرب الاسناد:364/1305، تفسير الصافي 4:212.
3- . تفسير القمي 2:199، تفسير الصافي 4:212.
4- . تفسير روح البيان 7:267. (5 و 6 و 7) . تفسير روح البيان 7:268.
5- . تفسير روح البيان 7:269.
6- . تفسير القمي 2:199، تفسير الصافي 4:212.

قيل: كان المعدن باليمن (1).

و القمي قال: عين الصّفر (2).

وَ كان مِنَ طائفة اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ له أعمالا عجيبة بَيْنَ يَدَيْهِ و في منظره و مرآه بِإِذْنِ رَبِّهِ و بأمره وَ مَنْ يَزِغْ و يعدل مِنْهُمْ عَنْ طاعة أَمْرِنا إيّاه بطاعة سليمان، و يمل إلى عصيانه نُذِقْهُ و نطعمه مِنْ عَذابِ اَلسَّعِيرِ و النار الموقدة في الآخرة، أو في الدنيا.

قيل: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلّما استعصى عليه جنّي ضربه من حيث لا يراه ضربة فأحرقته بالنار (3).

و كان الجنّ يَعْمَلُونَ لسليمان و يصنعون لَهُ بأمره ما يَشاءُ و يريد مِنْ مَحارِيبَ و قصور و غرف عالية و مساكن شريفة وَ تَماثِيلَ و صور مجسمة من صور الملائكة و الأنبياء و الوحوش و الطيور و الأشجار و غيرها.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء، و لكنّها الشجر و شبهه» (4).

وَ جِفانٍ و أوان كبيرة كَالْجَوابِ و الحياض الكبار وَ قُدُورٍ و ظروف من النّحاس أو الحجارة يطبخ فيها اللّحم راسِياتٍ و ثابتات على الأثافي، لا تنزل منها لعظمها، و لا تحرّك من أماكنها، بل يصعد عليها بالسلالم.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ لمّا ذكر نعمه الخاصة على سليمان عليه السّلام، طلب منه العبادة و الشكر بقوله: اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ للّه و اعبدوه، لأجل أن يكون عملكم شُكْراً له تعالى على نعمه، أو المراد اشكروا للّه شكرا، أو افعلوا شكرا وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ المجدّ في أداء حقّ نعمه بالقلب و اللسان و الجوارح، و إن لم يمكن الخروج عن عهدة شكر نعمه، لأنّ توفيق الشكر نعمة عظيمة يجب شكرها.

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ (13) فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ (14)

ثمّ لمّا ذكر عظمة ملك سليمان و سلطانه، ذكر نعمته عليه بعد موته بإقامة جسده معتمدا على عصاه، ليتمّ أغراضه، و نبّه على أنّ أحدا لا ينجو من الموت بقوله: فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ

ص: 210


1- . تفسير روح البيان 7:271.
2- . تفسير القمي 2:199، تفسير الصافي 4:212.
3- . تفسير روح البيان 7:272.
4- . الكافي 6:527/7، مجمع البيان 8:600، تفسير الصافي 4:212.

و حكمنا بزهاق (1)روحه من جسده و مات، بقي معتمدا على عصاه مدة مديدة، لكيلا تتوانى جنوده من الجنّ و الإنس في ما كلّفهم من الأعمال المقصودة له.

ثمّ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ و ما عرفهم به إِلاّ الأرضة التي هي دَابَّةُ اَلْأَرْضِ و حشراتها التي تأكل الخشب، فكانت تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ و عصاه فَلَمّا انكسرت و خَرَّ و سقط سليمان عليه السّلام على الأرض ميتا تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ و ظهرت لهم أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ لعلموا بموت سليمان حينه و ما لَبِثُوا و ما مكثوا بعد موته مدّة مديدة فِي اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ و الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها له بتسخيره و بأمره.

و قيل: يعني تبيّنت للإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب إلى آخره (2)، فانّ الإنس لمّا رأوا أنّ الجنّ يعلمون ما لا يعلمه الإنس، ظنّوا أنّهم يعلمون الغيب، فظهر بظهور جهلهم بموت سليمان عليه السّلام خطأ الإنس في ذلك الظنّ.

قيل: إنّه لمّا دنا أجل سليمان عليه السّلام لم يصبح إلاّ و رأى في محرابه شجرة نابتة (3)، فكان يسألها من خواصها فتخبره بها، و هو يخبر الأطبّاء بها، ثمّ إنّه رأى في محرابه يوما حشيشا خشبا رطبا، فسأله عن اسمه و خاصيّته، فقال: أمّا اسمي فخرتوب (4)، و أمّا خاصيّتي فتخريب البيوت، فانّي في أيّ بيت أنبت يخرب ذلك البيت، فعلم سليمان عليه السّلام أنّه قد دنا أجله.

ثمّ أنّه لاقى ملك الموت، فقال له: أخبرني بوقت موتي، فجاءه يوما و قال: لم يبق من عمرك إلاّ ساعة، فأوص بما شئت، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلّي، و أجتمعت الشياطين حوله، و لم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلاّ احترق، فقبض عزرائيل روحه الشريف، فبقي جسده قائما متكئا على عصاه سنة، و لم يعلم أحد بموته، و لا ينكرون عدم خروجه لطول صلاته قبل ذلك، فلمّا أكلت الأرضة عصاه، سقط على الأرض، فمرّ شيطان به، فلم يسمع صوته، ثمّ رجع فلم يسمع صوته، ثمّ نظر فاذا هو قد خرّ ميتا، ففتحوا عنه، فاذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها في يوم و ليلة مقدارا، فحسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة، و كانوا يعملون بين يديه بظنّ أنه كان حيا.

ثمّ أنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيبه، و لو كنت تشربين الشراب أسقيناك من أطيبه، و لكن ننقل إليك الماء و الطين، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، أ لم تر إلى

ص: 211


1- . كذا، و الصواب: زهوق.
2- . مجمع البيان 8:601، تفسير روح البيان 7:278.
3- . تفسير روح البيان 7:278.
4- . كذا، و لعله خرنوب، أو خرّوب.

الطين الذي يكون في جوف الخشب، فهو ما يأتيها الشياطين تشكّرا لها (1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى سليمان بن داود عليه السّلام أنّ آية موتك أن شجرة تخرج من بيت المقدس يقال لها الخرنوبة، فنظر سليمان يوما فاذا الشجرة الخرنوبة قد طلعت من بيت المقدس، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة، فولى سليمان عليه السّلام مدبرا إلى محرابه، فقام فيه متّكأ على عصاه» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أمر سليمان الجنّ فوضعوا له قبة من قوارير، فبينما هو متّكيء على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف يعملون، و ينظرون إليه، إذ حانت منه التفاتة، فاذا هو برجل معه في القبّة، ففزع منه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أقبل الرّشا، و لا أهاب الملوك، أنا ملك الموت، فقبضه و هو متّكئ على عصاه في القبّة، و الجنّ ينظرون إليه، فمكثوا سنة يدأبون له، حتى بعث اللّه الأرضة فأكلت منسأته، و هي العصا فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ الآية» (3).

قال: «فالجنّ تشكر الأرضة بما عملت بعصا سليمان، فما تكاد تراها في مكان إلاّ و عندها ماء و طين» (4).

و قال القمي: فلمّا خرّ لوجهه تبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون، إلى آخره، و ذلك أن الإنس كانوا يقولون إنّ الجنّ يعلمون الغيب، فلمّا سقط سليمان على وجهه، علموا أن لو يعلم الجنّ الغيب لم يعملوا سنة لسليمان و هو ميت، و يتوهّمونه حيا (5).

و عن الرضا عن أبيه عليهما السّلام: «أنّ سليمان عليه السّلام قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تعالى وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي؛ سخّر لي الريح و الإنس و الجنّ و الطير و الوحوش، و علّمني منطق الطير، و آتاني من كلّ شيء، و مع جميع ما اوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل، و قد أحببت أن أدخل قصري فأصعد أعلاه، و أنظر إلى ممالكي، و لا تأذنوا لأحد عليّ لئلا ينغّص عليّ يومي. قالوا: نعم.

فلمّا كان من الغد، أخذ عصاه بيده، و صعد إلى أعلى موضع من قصره، و وقف متّكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا بما اوتي، فرحا بما أعطي، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه و اللباس، قد خرج إليه من بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به قال له: من أدخلك إلى هذا القصر، و قد أردت أن أخلو فيه

ص: 212


1- . تفسير روح البيان 7:279.
2- . الكافي 8:144/114، تفسير الصافي 4:213.
3- . علل الشرائع:74/3، تفسير الصافي 4:213.
4- . علل الشرائع:74/3، تفسير الصافي 4:213.
5- . تفسير القمي 2:200، تفسير الصافي 4:213.

اليوم، فبإذن من دخلت؟ قال الشابّ: أدخلني هذا القصر ربّه، و بإذنه دخلت. فقال: ربّه أحقّ به مني، فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت. قال: فيما جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك. قال: امض لما امرت به، فهذا يوم سروري، و أبي اللّه عزّ و جلّ أن يكون لي سرور دون لقائه.

فقبض ملك الموت روحه و هو متّكيء على عصاه، فبقي سليمان عليه السّلام متّكئا على عصاه و هو ميت ما شاء [اللّه]و الناس ينظرون إليه، و يقدّرون أنّه حيّ، فافتتنوا فيه و اختلفوا، فمنهم من قال: قد بقي سليمان متكئا على عصاه هذه الأيام الكثيرة لم يتعب و لم ينم، و لم يأكل و لم يشرب، إنّه لربّنا الذي يجب علينا أن نعبده. و قال قوم: إنّه ساحر، و إنّه يرينا أنّه واقف متّكيء على عصاه بسحر أعيننا-إلى أن قال-: فلمّا اختلفوا بعث اللّه عزّ و جلّ الأرضة، فدبّت في عصاه، فلمّا أكلت جوفها انكسرت، و خرّ سليمان من قصره» . الخبر (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه عاش سليمان سبعمائة و اثنتي عشرة سنة» (2).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 15 الی 17

ثمّ لمّا ذكر سبحانه لطفه بالمنيبين الشاكرين، ذكر نقمته على الكافرين بقوله: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ و هم قبيلة في اليمن يدعون باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ (17)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ سبأ رجل من العرب، ولد عشرة» الخبر (3).

فِي مَسْكَنِهِمْ و محلّ إقامتهم، و هو مدينة مأرب باليمن، بينها و بين صنعاء ثلاث مراحل آيَةٌ عظيمة، و دلالة واضحة على وجود الصانع الحكيم اللطيف بعباده، و هي جنان كثيرة متّصلة بعضها ببعض بحيث تعدّ جَنَّتانِ أحدهما عَنْ يَمِينٍ من المدينة وَ الاخرى عن شِمالٍ منها.

و قيل: يعني لكلّ مسكن و دار جنّتان عن يمينها و شمالها (4).

و قال لهم ربّهم بلسان نبيّهم أو بلسان الحال: يا قبيلة سبأ كُلُوا و انتفعوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ و نعمه

ص: 213


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:265/24، علل الشرائع:73/2، تفسير الصافي 4:214.
2- . كمال الدين:524/3، تفسير الصافي 4:215.
3- . مجمع البيان 8:604، تفسير الصافي 4:215.
4- . تفسير أبي السعود 7:127، تفسير روح البيان 7:281.

وَ اُشْكُرُوا لَهُ على رزقكم، فانّ لكم مضافا إلى أنواع الثّمار بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ من حيث الهواء و الماء و الأمان من الأعداء و المؤذيات، تعيشون فيها في الدنيا وَ رَبٌّ غَفُورٌ لذنوبكم في الآخرة

فَأَعْرَضُوا عن آياتنا، و لم يعتنوا بها، و عن شكر نعمنا، فلم يؤدّوا حقّها بالقيام بالطاعة فَأَرْسَلْنا و أجرينا عَلَيْهِمْ و على بساتينهم و أموالهم سَيْلَ اَلْعَرِمِ و الشديد. قيل: إنّ العرم اسم واد جاء منه السيل، كما عن ابن عباس. أو قيل: إنه اسم السدّ الذي يحبس الماء بلغة حمير (1). و قيل: هو اسم الجرد الذّكر الذي أرسله اللّه، فنقب عليهم ذلك السدّ (2).

قيل: إنّه كان مسكن أولاد سبأ في حوالي بلدة مأرب بين الجبلين، طوله ثمانية عشر فرسخا، و كان لا يأتيهم الماء من مسيرة عشرة أيام حتى يجري بين الجبلين، فجعلت بلقيس سدّا بين الجبلين من الأحجار و القار، كي تجتمع فيه مياه الأمطار و العيون، و جعلت له ثقوبا في أعلاه و وسطه و أسفله، فاذا امتلأ السدّ فتحوا الثقوب العالية، و سقوا مزارعهم و بساتينهم، و إذا توسّطه الماء فتحوا الثقوب المتوسطة و هكذا، فبعث اللّه ثلاثة عشر نبيا إلى ثلاث عشرة قرية من قراهم، فدعوهم إلى الايمان و الطاعة، و ذكّروهم نعم اللّه، و خوّفوهم عذابه، فكذبوهم و قالوا: ما تعرف له علينا من نعمة، فقولوا لربّكم فليحبس عنّا هذه النّعمة إن استطاع، فارسل اللّه الجرذ، فخرّبوا السدّ، فجاءهم السيل الذي لا يطاق، و ملأ ما بين الجبلين، و حمل الجنّات و كثيرا من الناس، و أغرق أموالهم و مواشيهم (3).

القمي، قال: إنّ البحر كان باليمن، و كان سليمان أمر جنوده أن يجروا لهم خليجا من البحر العذب إلى بلاد الهند، ففعلوا ذلك، و عقدوا عقدة عظيمة من الصخر و الكلس حتى يفيض على بلادهم، و جعلوا للخليج مجاري، فكانوا إذا أرادو أن يرسلوا منه الماء أرسلوه بقدر ما يحتاجون إليه، و كانت لهم جنّتان عن يمين و شمال من مسيرة عشرة أيام، فيها يمرّ المارّ لا تقع عليه الشمس من التفافهما، فلمّا عملوا بالمعاصي و عتوا عن أمر ربّهم، و نهاهم الصالحون فلم ينتهوا، بعث اللّه عز و جل على ذلك السدّ الجرذ-و هي الفأرة الكبيرة-فكانت تقلع الصخرة التي لا تسقلّها الرجال، و ترمي بها، فلمّا رأى ذلك قوم منهم هربوا و تركوا البلاد، فما زال الجرذ يقلع الحجر حتى خرّبوا ذلك [السدّ]فلم يشعروا حتى غشيهم السيل، و خرّب بلادهم، و قلع أشجارهم، و هو قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ إلى قوله: سَيْلَ اَلْعَرِمِ أي العظيم الشديد (4).

وَ بَدَّلْناهُمْ و عوضناهم بِجَنَّتَيْهِمْ اللتين كانتا عن اليمين و الشمال، و ذاتي أشجار مثمرة نافعة

ص: 214


1- . تفسير روح البيان 7:283.
2- . تفسير أبي السعود 7:128.
3- . تفسير روح البيان 7:283.
4- . تفسير القمي 2:200، تفسير الصافي 4:215.

جَنَّتَيْنِ اخريين ذَواتَيْ أُكُلٍ و ثمر خَمْطٍ وَ مرّ، و شجر وَ أَثْلٍ يقال له طرفاء، و لا ثمر له وَ شَيْءٍ مِنْ شجر سِدْرٍ قَلِيلٍ.

قيل: توصيف السّدر بالقلّة، لكون ثمره-و هو النّبق-ممّا يطيب أكله (1).

و قيل: إنّ السّدر صنفان: صنف يؤكل من ثمره و ينتفع بورقه لغسل اليد، و صنف له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا، و هو البرّي الذي يقال له الضالّ، و المراد ها هنا هو الثاني، فكان شجرهم من خير شجر، فصيّره اللّه من شرّ شجر بسبب أعمالهم القبيحة (2).

ذلِكَ التبديل، أو الجزاء الفضيع جَزَيْناهُمْ لا جزاء آخر بِما كَفَرُوا نعمتنا و بسبب تركهم شكرها، أو بسبب كفرهم باللّه و رسله وَ هَلْ نُجازِي بسلب النعمة و وضع ضدّها مكانها إِلاَّ اَلْكَفُورَ و المصرّ في ترك الشكر، لا و اللّه لا نجازي به غيره.

و قيل: كلمة (هل) هنا للنفي (3).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 18 الی 19

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر النّعم التي كانت لهم في بلدهم و كفرانها، ذكر النعمة الخارجة و كفرانهم بقوله: وَ جَعَلْنا و أوجدنا مضافا إلى ما آتيناهم من النّعم في مساكنهم بَيْنَهُمْ و في المسافة التي بين بلادهم اليمنية وَ بَيْنَ اَلْقُرَى و البلاد الشامية اَلَّتِي بارَكْنا و أكثرنا النّعم فِيها بالمياه الكثيرة، و الأشجار المثمرة، و الخصب و السّعة في المعيشة للأغنياء و الفقراء، كفلسطين و أريحا و الأردنّ.

وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا اَلسَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (19)و القمي، قال: هي مكّة (4).

قُرىً ظاهِرَةً و متواصلة يرى بعضها من بعض.

قيل: كان بين سبأ و الشام أربعة آلاف و سبعمائة قرية (5)، أو ظاهرة للمسافر بكونها على الطريق غير

ص: 215


1- . تفسير البيضاوي 2:259، تفسير روح البيان 7:284.
2- . تفسير روح البيان 7:284.
3- . تفسير روح البيان 7:284.
4- . تفسير القمي 2:201، تفسير الصافي 4:216.
5- . تفسير روح البيان 7:285.

بعيدة عنه حتى تخفى عليه وَ قَدَّرْنا في تلك القرى و عيّنا فِيها للمسافر اَلسَّيْرَ و السلوك في الأرض مقدارا من المسافة يليق بحال عابري السبيل.

قيل: كان الغادي يقيل في الاخرى، و الرائح منها يبيت في اخرى إلى أن يبلغ الشام، لا يحتاج إلى حمل زاد و ماء، نعمة عليهم في سفرهم (1).

و قلنا له بلسان الحال أو المقال: يا أولاد سبأ سِيرُوا في تلك القرى، و سافروا فِيها لمصالحكم، و إن تطاولت مدّة سفركم لَيالِيَ وَ أَيّاماً كثيرة حال كونكم آمِنِينَ من الأعداء و اللصوص و السباع بسبب كثرة الخلق، و من الجوع و العطش بسبب عمارة المواضع، أو المراد سيروا فيها متى شئتم من الليالي و الأيام لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات، فبطر أولاد سبأ النعمة،

و سئموا طيب العيش فَقالُوا طلبا للتعب: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ منازل أَسْفارِنا بتخريب القرى و جعلها مفاوز، ليركبوا فيها، و يحملوا الزاد، و يتطاولوا على الفقراء وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للسّخط و العذاب بالشّرك.

فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ و قصّتهم أخبارا دائرة على ألسن الناس، وعظة و عبرة لمن بعدهم إلى يوم القيامة وَ مَزَّقْناهُمْ و فرّقناهم في الأرض كُلَّ مُمَزَّقٍ و غاية التفريق بحيث يضرب به المثل، و يقال: تفرّقوا أيدي سبأ، فانّهم كانوا قبائل ولدهم سبأ، و لم يبق أحد منهم في مأرب، بل سكن غسّان في الشام، و قضاعة في مكة، و أسد في البحرين، و أنمار في يثرب، و جذام بتهامة، و الأزد في عمان إِنَّ فِي ذلِكَ التفريق و اللّه لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة و عبرا كثيرة و حججا قاطعة على وحدانية اللّه و قدرته، و غضبه على الكافرين، و إنّما تكون فائدتها لِكُلِّ صَبّارٍ و مبالغ في حفظ النفس عن المعاصي و شَكُورٍ و مجدّ في أداء حقّ نعم اللّه، و هو المؤمن الكامل في الإيمان المجتهد في عبادة الرحمن.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 20 الی 21

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كفران أولاد سبأ و طغيانهم، و تعذيبهم بسلب النّعم، بيّن أنّها بتسويل الشيطان بقوله: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ و حقّق و أظهر إِبْلِيسُ مطابقة ما ظَنَّهُ و زعمه في حقّ

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (20) وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

ص: 216


1- . تفسير روح البيان 7:285.

أولاد آدم من كونهم يغوون بإغوائه للواقع حيث دعاهم إلى الشرك و العصيان فأجابوه، و أمرهم بها فَاتَّبَعُوهُ و أطاعوه إِلاّ فَرِيقاً مِنَ فرق اَلْمُؤْمِنِينَ و هم المخلصون منهم.

و قيل: إنّ (من) بيانية (1)و المراد إلاّ فرقة المؤمنين.

و قيل: ظنّه أنه ناري و آدم طيني، و النار تأكل الطين (2). أو ظنّه أنّ بني آدم مفسدون في الأرض (3). و قيل: إنّه ظنّ أنه يقدر على إغواء بني آدم فلمّا زيّن له الكفر و المعاصي، و قبلوا منه و اتّبعوه، وجدهم كما ظنّ فيهم (4).

ثمّ بيّن سبحانه أن إبليس ما قهرهم على العصيان بقوله: وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ شيء مِنْ سُلْطانٍ و قهر بحيث يسلب عنهم الاختيار، و إنّما كان سلطنته عليهم بالوسوسة و الإغواء، و لم نجعل له هذه السلطنة إِلاّ لِنَعْلَمَ و نميّز مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ و يخاف عقابنا مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ و لا يؤمن بها و لا يخاف من حسابها.

قيل: إنّ المراد بحصول العلم وجود متعلّقه (5)وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من خصوصيات خلقه و أحوالهم و بواطنهم و ظواهرهم حَفِيظٌ و مطّلع لا تخفى عليه خافية حتى يحتاج إلى الاستعلام.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان تأويل هذه الآية أنّه لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الظن من إبليس حين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه ينطق عن الهوى، فظّن بهم إبليس ظنّا، فصدّقوا ظنّه» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينصّب أمير المؤمنين عليه السّلام للناس في قوله: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (7)في عليّ بغدير خمّ، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر و حثوا التّراب على رؤوسهم، فقال لهم إبليس: ما لكم؟ قالوا: إنّ هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلّها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس: كلا، إنّ الذين حوله قد و عدوني فيه عدة لن يخلفوني، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» (8).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 22 الی 23

قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (23)

ص: 217


1- . تفسير أبي السعود 7:130، تفسير روح البيان 7:287.
2- . تفسير روح البيان 7:288.
3- . تفسير أبي السعود 7:130.
4- . تفسير روح البيان 7:288.
5- . تفسير أبي السعود 7:131.
6- . الكافي 8:345/542، تفسير الصافي 4:218.
7- . المائدة:5/67.
8- . تفسير القمي 2:201، تفسير الصافي 4:218.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وخامة عاقبة الشّرك و الكفران، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإبطال مذهب الشّرك، و تبكيت المشركين بقوله: قُلِ يا محمد، للمشركين تهكّما اُدْعُوا و نادوا الأصنام اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ و توهّمتم أنّهم آلهة مِنْ دُونِ اَللّهِ و عبدتموهم فيما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ حتى يجيبوكم، كلا لا يقدرون على شيء من ذلك لأنّهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير و شرّ و نفع و ضرّ، لا فِي اَلسَّماواتِ السبع وَ لا فِي اَلْأَرْضِ و ليس لهم تصرّف فيهما وَ ما لَهُمْ فِيهِما خلقا و ملكا و تصرّفا مِنْ شِرْكٍ و دخل وَ ما لَهُ تعالى مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ و عون كي يعجز عن إنفاذ إرادته عند تركهم المعاونة،

فان تتوقّعون شفاعتهم عند اللّه فاعلموا أنّه لا تفيد وَ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ من أحد لأحد عِنْدَهُ إِلاّ إذا كانت لِمَنْ أَذِنَ لَهُ في الشفاعة حَتّى إِذا فُزِّعَ و ازيل الخوف عَنْ قُلُوبِهِمْ بالاذن لهم في الشفاعة، قام المذنبون المنتظرون لشفاعتهم و قالُوا لهم: أيّها الشّفعاء ما ذا قالَ رَبُّكُمْ و أيّ شيء أوحى إليكم في شأن الشفاعة فأجابهم الشّفعاء و قالُوا: قال ربنا القول اَلْحَقَّ و هو الإذن في شفاعة المذنبين من المؤمنين دون غيرهم وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ و العظيم سلطانا، فليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلّم إلاّ بإذنه.

و قيل: إنّ المراد من الفزع: الفزع الذي عند الوحي، فانّ من في السماوات يفزعون عند نزول الوحي، ثمّ يزيل اللّه عنهم الفزع، فيقولون لجبرئيل: ماذا قال اللّه؟ فيقول: قال الحقّ، أي الوحي (1).

عن الباقر عليه السّلام: «و ذلك أنّ أهل السماوات لم يسمعوا [و حيا]فيما بين أن بعث عيسى بن مريم عليه السّلام إلى أن بعث محمد صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا بعث اللّه جبرئيل إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا، فصعق أهل السماوات، فلمّا فرغ من الوحي انحدر جبرئيل، كلّما مرّ بأهل سماء فزّع عن قلوبهم. فقال بعضهم لبعض: ماذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ و هو العليّ الكبير» (2).

و قيل: إنّ اللّه تعالى يزيل الفزع عن القلوب وقت الموت، فيعترف كلّ أحد بأنّ ما قال اللّه تعالى هو الحقّ، فينفع ذلك القول من سبق ذلك منه في حياته (3).

و قيل: إنّ المراد الفزع من قيام الساعة، لأنّ الوحي إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله من أشراطها، فاذا أوحي إليه فزّع أهل السماوات من قيام الساعة حتى إذا ازيل الفزع من قلوبهم قالوا لجبرئيل: ماذا قال ربّكم؟ (4)

ص: 218


1- . تفسير الرازي 25:255.
2- . تفسير القمي 2:202، تفسير الصافي 4:219.
3- . تفسير الرازي 25:255.
4- . تفسير الرازي 25:255.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 24 الی 26

ثمّ قرّر سبحانه عدم مالكية الأصنام شيئا بقوله: قُلْ يا محمد، تبكيتا للمشركين: أيّها المشركون مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماواتِ بإنزال الأمطار وَ اَلْأَرْضِ باخراج النباتات و لا تنتظر الجواب منهم، و قُلْ يرزقكم اَللّهُ لأنّهم لا ينكرونه بقلوبهم، و إن لم يقرّوا باللسان خوفا من الإلزام، ثمّ دارهم في المجادلة، و لا تنسبهم إلى الضلال بالصراحة، بل قل: وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى مركّب هُدىً و رشاد، نسير به إلى المقصد الأعلى أَوْ منغمر فِي ضَلالٍ و انحراف مُبِينٍ و واضح عن الحقّ.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللّهُ وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتّاحُ اَلْعَلِيمُ (26)

ثمّ بالغ في الإنصاف و المداراة معهم قُلْ أنتم أيّها المشركون لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا و لا تؤاخذون بذنوبنا وَ نحن لا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ من عمل سوء، و في نسبة الاجرام إلى نفسه و اتباعه و العمل إلى الخصم، حطّ النفس، و حفظ الخصم عن التعصّب المانع عن النظر مع كون الجملتين باعثتين إليه.

ثمّ أمر سبحانه بالمبالغة في الحثّ على النظر و التفكّر بقوله: قُلْ يا محمد لهم: اعلموا أنّه يَجْمَعُ بَيْنَنا و بينكم يوم القيامة رَبُّنا حين الحشر للحساب ثُمَّ يَفْتَحُ و يحكم بَيْنَنا و بينكم بِالْحَقِّ بعد ظهور حال كلّ منّا و منكم، بأن يدخل المحقّين الجنّة، و المبطلين النار، فانّ اللّه أعلم بالحقّ و الباطل وَ هُوَ اَلْفَتّاحُ اَلْعَلِيمُ بما يحقّ أن يحكم به، و بمن يحكم له و من يحكم عليه، كما أنّه عليم بغيرها من الأمور.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عجز الأصنام عن أن يضرّوا أو ينفعوا، بيّن عدم وجود كمال فيها يوجب استحقاقها العبادة (1)بقوله: قُلْ أيّها المشركون أَرُونِيَ الأصنام اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ إيّاهم بِهِ تعالى من حيث كونهم شُرَكاءَ له تعالى في الالوهية، لأنظر بأيّ صفة ألحقتموهم باللّه الذي ليس كمثله شيء، و جعلتموهم شركاء له، هل يخلقون أو يرزقون؟ كَلاّ ليس لهم ما يجب أن يكون في

قُلْ أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاّ بَلْ هُوَ اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (27) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)

ص: 219


1- . في النسخة: استحقاقهم العباد.

الإله و المعبود بَلْ المعبود بالحقّ و الإله المستحقّ للعبادة هُوَ اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ و الغالب القاهر، و العالم بجميع الامور، فأين شركاؤكم التي هي أخسّ الأشياء و أذلّها من هذه المرتبة العالية و درجة الالوهية.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الشّرك و إثبات التوحيد، بيّن صدق رسالة الرسول إلى عامة الناس بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد برسالة إِلاّ رسالة تكون كَافَّةً و عامة أو شاملة لِلنّاسِ كلّهم إلى يوم القيامة، أو المراد ما أرسلناك في حال من الأحوال إلاّ حال كونك جامعا لهم في التبليغ بحيث لا يخرج منهم أحد، كما في الحديث: «فضّلت على الأنبياء بستّ-إلى أن قال-: و ارسلت إلى الخلق كافة» (1).

و عن السجاد عليه السّلام: «أنّ أبا طالب قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يابن أخ، إلى الناس كافة ارسلت، أم إلى قومك خاصة؟ قال: لا، بل إلى الناس أرسلت كافة، الأبيض و الأسود، و العربي و العجميّ، و الذي نفسي بيده لأدعونّ إلى هذا الأمر الأبيض و الأسود، و من على رؤوس الجبال، و من في لجج البحار» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه أعطى محمدا شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى-إلى أن قال-: و أرسله كافة إلى الأبيض و الأسود، و الجنّ و الإنس» (3). بَشِيراً للمؤمنين بالثواب وَ نَذِيراً للكافرين بالعقاب وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لغفلتهم و إنهماكهم في الشهوات و تركهم النظر في دلائل صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله لا يَعْلَمُونَ منصبه الرفيع، و عظم نعمة رسالته حتى يؤمنوا به، و يشكروا هذه النعمة، فيحملهم الجهل على مخالفته و عصيانه.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 29 الی 33

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا اَلْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اَلْقَوْلَ يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ اَلْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَ قالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا اَلنَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)

ص: 220


1- . تفسير روح البيان 7:294 و 295.
2- . تفسير الصافي 4:220.
3- . الكافي 2:14/1، تفسير الصافي 4:220.

ثمّ أردف سبحانه ذكر الرسالة بذكر المعاد الذي هو الأصل الثالث بقوله: وَ يَقُولُونَ من فرط جهلهم بطريق الاستهزاء: يا محمد، و يا أتباعه، أنتم تعدوننا بمجيء القيامة، فقولوا مَتى و في أيّ وقت يكون إنجاز هذَا اَلْوَعْدُ و وقوعه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيه؟

قُلْ يا محمّد، تهديدا لهم: اعلموا أيّها المنكرون للمعاد أنّ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ عظيم، و وعد وقت شديد كثير الأهوال لا تَسْتَأْخِرُونَ ذلك الموعود عن ذلك الوقت، و لا تقدرون على تعويقه عَنْهُ ساعَةً و دقيقة وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ عليه.

ثمّ حكى عنهم إنكار جميع اصول الدين من التوحيد و الرسالة و المعاد، و جميع أحكام اللّه بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عنادا و طغيانا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا اَلْقُرْآنِ الذي يدّعي محمد أنّه من اللّه، و لا بما فيه من الاصول و الفروع وَ لا بِالَّذِي نزل بَيْنَ يَدَيْهِ و قلبه.

ثمّ لمّا يأّسوا النبي صلّى اللّه عليه و آله من إيمانهم، وعده سبحانه بأنّهم في القيامة في أذلّ أحوال الموقوفين للحساب بقوله: وَ لَوْ تَرى يا محمد، أو أيّها العاقل إِذِ الكفّار اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بإنكار المعاد مَوْقُوفُونَ و محبوسون عِنْدَ رَبِّهِمْ و في موقف حساب أعمالهم يَرْجِعُ و يرد بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ آخر منهم اَلْقَوْلَ و يجادل كلّ مع غيره، لعجبت ممّا ترى.

ثمّ كأنه قيل: ما يقولون فقال سبحانه: يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا و استحقروا من السّفلة لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و تعظّموا عن عبادة اللّه و الانقياد للأنبياء، لرئاستهم و كثرة أموالهم: أيّها الرّؤساء لَوْ لا أَنْتُمْ و صدّكم لنا عن الايمان لَكُنّا و اللّه في الدنيا مُؤْمِنِينَ باللّه و رسله

قالَ الرّؤساء اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و تأنّفوا عن الايمان و التبعية للرسل لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا إنكارا لقولهم و ردّا عليهم: أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ و منعناكم عَنِ قبول اَلْهُدى و الايمان بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الهدى و مقتضيه من الرسول و الكتاب و المعجزات، لا و اللّه بَلْ كُنْتُمْ لخبث ذاتكم و انهماككم في الشهوات مُجْرِمِينَ و طاغين

وَ قالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا: نعم، أنتم صددتمونا عن الهدى، و لكن لا بالاجبار و القهر بَلْ مَكْرُ كم في اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ و حيلكم في صرفنا عن اتّباع الحقّ، صدّنا عنه إِذْ تَأْمُرُونَنا و ترغّبوننا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ تعالى أَنْداداً و شركاء.

ثمّ كلا الفريقين أضمروا وَ أَسَرُّوا و أخفوا في قلوبهم اَلنَّدامَةَ و الحسرة على ما فعلا من الضلال و الاضلال، خوفا من التعيير، أو عجزا عن الاظهار لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ.

ص: 221

وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلالَ من النار فِي أَعْناقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالحقّ من التوحيد و الرسالة و المعاد في الدنيا من المتبوعين و التابعين لكفرهم هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ جزاء ما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي، لا و اللّه لا يجزون إلاّ بعملهم.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 34 الی 36

ثمّ لمّا يأّسوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من إيمانهم بقولهم: (لن نؤمن) أبدا (بهذا القرآن) سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بذكر عدم إيمان التابعين للهوى و المحبّين للدنيا بالرسل في الأعصار السابقة أيضا بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ و بلدة مِنْ نبي نَذِيرٍ للناس إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها و متنعّموها و رؤساؤها تكبّرا و عنادا للنّذر: إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بزعمكم من التوحيد و المعاد و الأحكام كافِرُونَ و منكرون، هذه سيرة أغنياء جميع الامم المتبوعين للفقراء و السّفلة، فلا يهمّك إنكار أكابر قومك رسالتك، بل لم يقنعوا بالانكار،

و استدلّوا على بطلان دعوى رسالتهم وَ قالُوا نَحْنُ أحبّ إلى اللّه منكم لأنّا أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً منكم في الدنيا، و هذه علامة حبّه لنا وَ ما نَحْنُ في الآخرة على تقدير وقوعها بِمُعَذَّبِينَ لأنّ من أكرمه اللّه في الدنيا لا يهينه في الآخرة، أو لأنّه لا عذاب في الآخرة لأحد.

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ لهم يا محمد إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ و يوسّع اَلرِّزْقَ في الدنيا لِمَنْ يَشاءُ بسطه و توسعته له، مؤمنا كان أو كافرا وَ يَقْدِرُ و يضيق على من يشاء تقديره و تضييقه عليه من مؤمن أو كافر حسب اقتضاء حكمته البالغة، فليس بسطه دليلا على قرب المبسوط له منه، و تضييقه دليلا على بعد من قدّر عليه عنه، فانّ القرب و البعد و الثواب و العقاب منوطان بالايمان و الكفر و الطاعة و العصيان، كما في الحديث: «الدنيا عرض حاضر ينال منها البرّ و الفاجر، و الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر» (1). وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ الذين هم أهل الغفلة و الخذلان لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيزعمون أنّ بسط الرزق للكرامة عند اللّه، و الضيق للهوان عليه، مع أنّ كثيرا ما يكون الأول للاستدراج، و الثاني لرفع الدرجة (2).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 37 الی 39

وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ اَلضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي اَلْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ (39)

ص: 222


1- . تفسير روح البيان 7:299.
2- . تفسير أبي السعود 7:135.

ثمّ قرّر سبحانه ذلك، و صرّح ببطلان زعمهم بقوله: وَ ما أَمْوالُكُمْ أيّها الناس وَ لا أَوْلادُكُمْ التي تفتخرون و تفتنون بها بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ و تحبّبكم من الخصال، أو الحسنات عِنْدَنا زُلْفى و قربة و محبوبية موجبة للإكرام و الثواب إِلاّ أموال مَنْ آمَنَ بما يجب الايمان به وَ عَمِلَ عملا صالِحاً مرضيّا عند اللّه، بانفاقها في سبيل اللّه، و أولادهم بتعليمهم الخير و ترغيبهم إليه و تربيتهم على الطاعة و الصلاح. و قيل: يعني و لكن إيمان من آمن و عمل صالحا يقرّبه (1). فَأُولئِكَ المؤمنون الصالحون لَهُمْ في الآخرة جَزاءُ اَلضِّعْفِ و ثواب عشرة أعمال فما فوق على عمل واحد بِما عَمِلُوا من الحسنات وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفاتِ و القصور العالية في الجنة ساكنون، و آمِنُونَ من زوال النّعم و سائر المكاره.

ثمّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعد بيان حسن حال المؤمنين، بيّن سوء حال الكفّار بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي ردّ آياتِنا و الطعن فيها بظنّ أنّهم يكونون مُعاجِزِينَ لنا عن تعذيبهم ف أُولئِكَ فِي اَلْعَذابِ مُحْضَرُونَ و داخلون.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ البسط و التضييق في الرزق يكون للمؤمنين أيضا بقوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ البسط له مِنْ عِبادِهِ المؤمنين تارة وَ يَقْدِرُ لَهُ و يضيّق عليه اخرى ابتلاء و حكمة، فلا تخشوا الفقر بالانفاق حيث إنّ ما بذلتم وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ من أموالكم في سبيل اللّه فَهُوَ يُخْلِفُهُ و يعطيكم عوضا باقيا لكم في الآخرة وَ هُوَ تعالى خَيْرُ الذين ترونهم اَلرّازِقِينَ للخلق كالسلاطين و الموالي و غيرهم، حيث إنّه تعالى يرزق بلا منّة و توقّع عوض.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 40 الی 42

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ اَلنّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)

ص: 223


1- . تفسير مجمع البيان 8:615، تفسير الرازي 25:262.

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المتكبّرين المعارضين للرّسل بالحضور في العذاب، هدّدهم بالفضيحة و الهوان يوم القيامة بقوله: وَ ذكّرهم يَوْمَ يبعث اللّه المشركين العابدين للملائكة و يَحْشُرُهُمْ إلى المحشر جَمِيعاً المستكبرين منهم و المستضعفين ثُمَّ يَقُولُ توبيخا و تفضيحا لهم و إقناطا لهم من شفاعة معبوداتهم لِلْمَلائِكَةِ الذين هم أشرف شركائهم: أيّها الملائكة أَ هؤُلاءِ الكفّار إِيّاكُمْ كانُوا في الدنيا يَعْبُدُونَ؟

فأجاب الملائكة و قالُوا تنزيها له تعالى عن الشريك: سُبْحانَكَ و ننزّهك من أن نعبد غيرك أَنْتَ وَلِيُّنا و معبودنا و حافظ صلاحنا مِنْ دُونِهِمْ إذن كيف نلتفت إلى عبادتهم إيانا، و نرضى بخضوعهم لنا! إنّهم لم يكونوا يعبدوننا حقيقة بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ و الشياطين الآمرين لهم بالشّرك، و المربين عنده عبادة غيرك أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ بقلوبهم مُؤْمِنُونَ و بتسويلاتهم يصدّقون، و أنت المطّلع على ضمائر جميعهم. و قيل: إنّ ضمير الجمع في (أكثرهم) راجع إلى الإنس (1). و قيل: إنّ الأكثر هنا بمعنى الكلّ (2).

فَالْيَوْمَ أيّها الملائكة الذين كان المشركون يرجون شفاعتكم و خيركم لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ آخر منكم، فكيف لغيركم من الإنس، أو لبعض الإنس نَفْعاً وَ لا ضَرًّا و قيل: إنّ الخطاب إلى الكفّار (3)وَ نَقُولُ اللّه لِلَّذِينَ ظَلَمُوا على اللّه بتضييع حقّه، و على أنفسهم باختيار الكفر و تعريضها للعذاب: ذُوقُوا عَذابَ اَلنّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا بِها و بوعدها تُكَذِّبُونَ الرّسل.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 43 الی 45

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيب الامم السابقة رسلهم، حكى تكذيب هذه الامّة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية و دلائل التوحيد حال كونها بَيِّناتٍ و واضحات الدلالات على صدق الرسول قالُوا إنكارا لرسالة الرسول ما هذا الذي يدّعي الرسالة إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ و يصرفكم (عن) عبادة ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الأصنام في الأزمنة

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا إِلاّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)

ص: 224


1- . تفسير أبي السعود 7:137، تفسير روح البيان 7:303.
2- . تفسير أبي السعود 7:137.
3- . تفسير الرازي 25:265، تفسير أبي السعود 7:137.

المتطاولة، و يستتبعكم و يترأس عليكم وَ قالُوا إنكارا لصدق القرآن: ما هذا القرآن إِلاّ إِفْكٌ و كلام مموّه مُفْتَرىً و مكذوب على اللّه وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من المشركين و أهل الكتاب لِلْحَقِّ و القرآن الصدق لَمّا جاءَهُمْ من قبل اللّه: إِنْ هذا القرآن، و ما هو إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ .

ثمّ لامهم سبحانه على اتّخاذهم الدين بغير دليل بقوله: وَ ما آتَيْناهُمْ و ما أنزلنا عليهم مِنْ كُتُبٍ سماوية دالة على صحّة مذهب الشّرك يَدْرُسُونَها و يقرؤونها مكرّرا بتفكّر و تأمل وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إلى الشرك، و يخوّفهم بالعقاب على تركه.

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ كَذَّبَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السابقة على عصرهم آيات اللّه و رسله كما كذّبوك وَ الحال أنّ هؤلاء ما بَلَغُوا و ما وجدوا مِعْشارَ ما أعطينا اولئك الامم السابقة، و عشرا، و عشر عشر ما آتَيْناهُمْ من القوى الجسمانية و كثرة الأموال و الأولاد و الأعوان.

ثمّ فسر سبحانه التكذيب بقوله: فَكَذَّبُوا رُسُلِي المبعوثين إليهم في دعوى الرسالة و دعوتهم إلى توحيدي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ و إنكاري لهم و غضبي عليهم بإنزال عذاب الاستئصال و قطع دابرهم، فما خطر اولئك المكذّبين لك بجنبهم، فليحذروا من ما ابتلي به اولئك الامم.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 46

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إصرار قومه عليه السّلام على إنكار توحيد اللّه و رسالة الرسول و صدق القرآن، و توبيخهم على التديّن بالشرك بغير دليل قاطع عليه، بل بتقليد الآباء و تهديدهم بالعذاب، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بنصحهم بألطف بيان، و حثّهم على التفكر في أمر رسالته بقوله: قُلْ يا محمد، لقومك: يا قوم إِنَّما أَعِظُكُمْ و أنصح لكم بِواحِدَةٍ مهمة من الخصال، أو الحسنات، و هي أَنْ تَقُومُوا من مجلسكم أو مجلس رسولكم، و تتفرّقوا من مجامعكم عنده لِلّهِ و لرضاه و وجهه. و قيل: يعني أن تقوموا لعبادة اللّه وحده (1)مَثْنى و اثنين اثنين وَ فُرادى و واحدا واحدا، فانّ في الكثرة و الازدحام يقلّ الانصاف و يكثر الخلاف، و يشوّش الخاطر، و يثور الغضب ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أنفسكم في أمر رسالتي و بياناتي، و أخلاقي و أعمالي، و سيرتي و معجزاتي، حتى تعلموا أنّه ما بِصاحِبِكُمْ و بمن يدعوكم إلى توحيد اللّه و معارفه، و يأمركم بالحسنات و صالح الأعمال و الأخلاق،

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)

ص: 225


1- . تفسير الرازي 25:268، تفسير أبي السعود 7:138.

و يزجركم عن القبائح، و يعلّمكم المواعظ و الحكم الكثيرة شيء مِنْ جِنَّةٍ و خفّة العقل يدعوه إلى دعوى النبوة و تحمّل أعباء الرسالة، كما زعمتم، فاذا علمتم أنّه أرجح أهل العالم عقلا، و أنزههم نفسا، و أصدقهم قولا، وجب عليكم اتّباعه و الايمان به أَنْ صاحبكم، و ما هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ و مخوّف لَكُمْ من ربكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ و قبل ابتلائكم به في الآخرة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ اللّه جلّ ذكره أنزل عزائم الشرائع و آيات الفرائض في أوقات مختلفة، كما خلق السماوات و الأرض في ستّة أيام، و لو شاء أن يخلقها في أقلّ من لمح البصر لخلق، لكنّه جعل الأناة (1)و المداراة مثالا لامنائه، و إيجابا للحجّة على خلقه، فكان أوّل ما قيّدهم به الاقرار بالوحدانية و الربوبية و الشهادة بأن لا إله إلاّ اللّه، فلمّا اقرّوا بذلك تلاه بالاقرار لنبيه بالنبوة، و الشهادة له بالرسالة، فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة، ثمّ الصوم، ثمّ الحجّ، ثمّ الجهاد، ثمّ الزكاة، ثمّ الصدقات و ما يجري مجراها من مال الفيء، فقال المنافقون: هل بقي لربّك علينا شيء آخر يفرضه فتذكره لتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره؟ فأنزل اللّه في ذلك: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يعني الولاية» الخبر (2).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ أمره سبحانه بتأمين قلوبهم من الطمع في أموالهم بقوله: قُلْ إن كنتم لا تؤمنون لخوفكم من طمعي في أموالكم، فاعلموا أنّ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على رسالتي فَهُوَ لَكُمْ.

قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اَللّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ (48)قيل: لمّا نزل قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى (3)قال عليه السّلام: «لا تؤذوني في قرابتي» فلمّا سبّ الأصنام، قال المشركون: ما أنصفنا محمد يسألنا أن لا نؤذيه في قرابته، و هو يؤذينا بسبّ آلهتنا! فنزلت هذه الآية (4). يعني إن شئتم آذوا قرابتي إِنْ أَجْرِيَ و ما ثوابي إِلاّ عَلَى اَللّهِ لأنّ عملي له وَ هُوَ على خلوص نيّتي مطّلع، أو على رسالتي شاهد لأنّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأل قومه أن يوادّوا أقاربه و لا يؤذوهم، و أمّا قوله: فَهُوَ لَكُمْ يقول: ثوابه لكم» (5).

و عنه عليه السّلام: «يعني أجر المودة التي لم أسألكم غيره فهو لكم، تهتدون به، و تنجون من عذاب يوم

ص: 226


1- . الأناة: الحلم و الوقار.
2- . الاحتجاج:254، تفسير الصافي 4:225.
3- . الشورى:42/23.
4- . تفسير روح البيان 7:308.
5- . تفسير القمي 2:204، تفسير الصافي 4:226.

القيامة» (1).

و عنه عليه السّلام أيضا: «أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي و ذخره، فهو لكم دوني» (2).

ثمّ لمّا كان الكفّار يستبعدون تخصيص الوحي و الرسالة به عليه السّلام، ردّهم سبحانه بقوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ و يرمي بِالْحَقِّ و ينزله على من يراه أهلا له، أو يرمي به الباطل فيدمغه و يعدمه، و هو عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ فيعلم ضمائر خلقه و استعداداتهم، و يعلم خفايا الامور و منها أمر الآخرة.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإخبار بمجيء الحقّ الذي أخبر بأنّه تعالى يقذفه بقوله: قُلْ يا محمد جاءَ اَلْحَقُّ الموعود قذفه، و هو التوحيد و دين الاسلام وَ ما يُبْدِئُ اَلْباطِلُ و الشرّ وَ ما يُعِيدُ قيل: هو كناية عن زواله و ذهابه (3).

قُلْ جاءَ اَلْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ اَلْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)عن ابن مسعود: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله دخل مكّة و حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما، و جعل يطعنها بعود في يده، و يقول: «جاء الحقّ و زهق الباطل قُلْ جاءَ اَلْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ اَلْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ» (4).

و عن الرضا، عن آبائه عليهم السّلام، ما يقرب منه (3).

ثمّ قرّر رسالته بقوله: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحقّ فَإِنَّما أَضِلُّ و وباله عَلى نَفْسِي و لا يتعدّى إلى غيري وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ إلى الحقّ و وصلت إليه فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من الحكمة و البيان إِنَّهُ تعالى سَمِيعٌ لمقالي و مقال أعدائي (عليم) بما هو الحقّ منهما و ما هو الباطل و قَرِيبٌ منّا يأخذ المبطل بلا تحمّل زحمة البعد و تأخير الأخذ.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 51 الی 54

ثمّ هدّد المشركين بقوله: وَ لَوْ تَرى المشركين و العصاة يا محمد، أو يا ابن آدم إِذْ فَزِعُوا من

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَ قالُوا آمَنّا بِهِ وَ أَنّى لَهُمُ اَلتَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

ص: 227


1- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:226.
2- . مجمع البيان 8:620، تفسير الصافي 4:226. (3 و 4) . تفسير روح البيان 7:308.
3- . أمالي الطوسي:336/683، تفسير الصافي 4:226.

رؤية العذاب عند الموت، أو حين البعث، أو يوم بدر. و عن الباقر عليه السّلام: «إذ فزعوا من الصوت، و ذلك الصوت من السماء» (1)لرأيت أمرا هائلا معجبا فَلا فَوْتَ لهم من عذاب اللّه، و لا نجاة بهرب أو تحصّن، أو سائر وسائل الحفظ، و إن أخّر عقوبتهم، و إنّما يستعجل من يخاف الفوت.

عن ابن عباس: أنّ ثمانين ألفا، و هم السفياني و قومه، يخرجون في آخر الزمان، فيقصدون الكعبة ليخرّبوها، فاذا دخلوا البيداء خسف بهم، فلا ينجو منهم إلاّ السري الذي يخبر عنهم، و هو جهينة، فلذلك قيل: و عند جهينة الخبر اليقين (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «لكأني أنظر إلى القائم و قد أسند ظهره إلى الحجر-إلى أن قال-: فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفياني، فيأمر اللّه عزّ و جلّ الأرض فتأخذ بأقدامهم، و هو قوله عزّ و جلّ: وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قال: من تحت أقدامه خسف بهم» (3)و قيل: من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من الموقف إلى النار، أو من صحراء بدر إلى قليبها (4).

وَ قالُوا عند معاينة العذاب، لدفعه عن أنفسهم بإقرارهم به، أو بدين محمد صلّى اللّه عليه و آله، أو بقيام القائم: آمَنّا بِهِ و لا ينفعهم عند معاينة العذاب، و بعد انقضاء زمان التكليف، و هو لخروجهم عنه صار بعيدا عنهم وَ أَنّى لَهُمُ اَلتَّناوُشُ و تناول الايمان مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ و هو الدنيا

وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ و في زمان التكليف وَ كانوا يَقْذِفُونَ و يرمون بِالْغَيْبِ و يتكلّمون بما لم يطّلعوا عليه كمن (5)يرمي الحجارة مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ إلى ما لا يراه من المرماة

وَ حِيلَ و أوجد المانع من الوصول بَيْنَهُمْ بعد الموت وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من النجاة من العذاب و الوصول إلى النعيم الدائم كَما فُعِلَ ذلك بِأَشْياعِهِمْ و الذين كانوا قبلهم من المكذّبين الذين أهلكوا بالعذاب مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ ممّا يجب الايمان به مُرِيبٍ و موقع لقلوبهم في الاضطراب.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ الحمدين حمد سبأ و حمد فاطر في ليله، لم يزل في ليلته في حفظ اللّه و كلاءته و إن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، و اعطي خير الدنيا و خير الآخر، ما لم يخطر على قلبه، و لم يبلغ مناه» (6).

رزقنا اللّه توفيق تلاوتهما في الليل و النهار، كما وفّقنا لاتمام تفسير الاولى منهما، و له الحمد و المنّة على نعمه الظاهرة و الباطنة.

ص: 228


1- . تفسير القمي 2:205، تفسير الصافي 4:226.
2- . تفسير أبي السعود 7:140، تفسير روح البيان 7:310.
3- . تفسير القمي 2:205 و 206، تفسير الصافي 4:227.
4- . تفسير أبي السعود 7:140.
5- . في النسخة: كما.
6- . ثواب الأعمال:110، تفسير الصافي 4:228.

في تفسير سورة فاطر

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة سبأ المبدوءة بحمد اللّه على نعمة الإبداء و الإعادة، و توبيخ المشركين و منكري المعاد، و محاجّتهم و تهديدهم بالعذاب، و ذمّهم على شكّهم في اصول التوحيد و الرسالة و دار الجزاء، نظم بعدها سورة فاطر المبدوءة بحمد اللّه على نعمه الظاهرية، و هي خلق الموجودات، و نعمه الباطنية و هي إنزال العلوم و المعارف و الأحكام و الآداب بتوسّط الملائكة و الأنبياء و الرسل و الأولياء، و ذكر الأدلة الدالّة على التوحيد و المعاد الرافعة للشكّ فيهما عن القلوب، فابتدأ فيهما بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ أردفها بحمد ذاته المقدّسة بقوله:

اَلْحَمْدُ و الثناء الجميل لِلّهِ ثمّ وصف ذاته بالقدرة الكاملة و النّعم الفاضلة الموجبتين لاستحقاقه الحمد بقوله: فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مبدعهما من غير مثال سابق و جاعِلِ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً و وسائط بينه و بين أنبيائه و رسله و أوليائه، يبلّغون إليهم العلوم و المعارف و الحكم و الأحكام و الآداب بالوحي و الإلهام و الرّؤى الصادقة المتّصفين بكونهم أُولِي أَجْنِحَةٍ و ذويها كالطيور.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ جاعِلِ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

في كيفية خلق

الملائكة

ثمّ بيّن عدد أجنحتهم (1)بقوله: مَثْنى و اثنين اثنين وَ ثُلاثَ و ثلاث ثلاث وَ رُباعَ و أربع أربع. قيل: إنّ تفاوتهم في عدد أجنحتهم حسب تفاوت مراتبهم (2)، فانّهم مع خفّة أجسادهم و لطافتها محتاجون إليها، فانّهم ينزلون من السماء إلى الأرض، و يعرجون منها إلى محلّهم من السماء في طرفة عين و يَزِيدُ اللّه فِي اَلْخَلْقِ منهم جثّة و قامة و حسنا و جناحا ما يَشاءُ منها.

ص: 229


1- . في النسخة: جناحهم.
2- . تفسير البيضاوي 2:267، تفسير أبي السعود 7:141، تفسير روح البيان 7:312.

روي أنّ صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة، بجناحين منها يلفّون أجسادهم، و بآخرين منها يطيرون فيما امروا به، و جناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من اللّه (1).

و لعلّ كثرة بعد مقامهم من الأرض من موجبات كثرة أجنحتهم، روت العامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج و له ستمائة جناح اثنان منها يبلغان من المشرق إلى المغرب (2).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «خلق اللّه الملائكة مختلفة، و قد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جبرئيل و له ستمائة جناح» الخبر (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج و له ستمائة ألف جناح (2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ للّه تعالى ملكا يقال له دردائيل، كان له ستة عشر ألف جناح» (3)إذن تحمل الآية و ما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-من أنّ الملائكة على ثلاثة أجزاء، جزء له جناحان، و جزء له ثلاثة أجنحة، و جزء له أربعة أجنحة (4)-على بيان وجود هذه الأصناف فيهم، لا إرادة الحصر فيها.

إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في (التوحيد) عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن قدرة اللّه عزّ و جلّ، فقام خطيبا، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: «إنّ للّه تبارك و تعالى ملائكة لو أن ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظم خلقه و كثرة أجنحته، و منهم من لو كلّفت الجنّ و الإنس أن يصفوه ما وصفوه، لبعد ما بين مفاصله، و حسن تركيب صورته، و كيف يوصف من ملائكتة من سبعمائة عام ما بين منكبيه و شحمة اذنيه، و منهم من يسدّ الافق، بجناح من أجنحته دون عظم بدنه، و منهم من السماوات إلى حجزته، و منهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل و الأرضون إلى ركبتيه، و منهم من لو ألقي في نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها، و منهم من لو القيت السفينة في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين، فتبارك اللّه أحسن الخالقين» (5).

و اعلم أنّ الروايات دالّة على كون الملائكة أجساما لطيفة في غاية الكثرة، فلا يجوز إنكاره و إنكار وجود الأجنحة لهم، أو تأويل الجناح بالجملة، كما حكى عن جماعة أنّهم قالوا: إنّ الملائكة له وجه إلى اللّه يأخذون منه نعمه، و يعطون من دونهم ممّا أخذوه بإذن اللّه، كما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ (6)و قوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوى (7)و قال تعالى في حقّهم: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (8)

ص: 230


1- . تفسير القمي 2:206، تفسير روح البيان 4:229.
2- . تفسير الصافي 4:229.
3- . كمال الدين:282/36، تفسير الصافي 4:229.
4- . الكافي 8:272/403، تفسير الصافي 4:229.
5- . التوحيد:278/3، تفسير الصافي 4:230.
6- . الشعراء:26/194.
7- . النجم:53/5.
8- . النازعات:79/5.

فهما جناحان، و فيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة، فالفاعل بواسطة فيه ثلاث جهات، و منهم من له أربع جهات و أكثر (1).

و قيل: إنّ المراد بالأجنحة الصفات الملكية و القوى الرّوحانية، و ليست كأجنحة الطير (2).

و في (الكافي) عن الثّمالي، قال: دخلت على علي بن الحسين عليهما السّلام فاحتبست في الدار ساعة، ثمّ دخلت البيت و هو يلتقط شيئا، و أدخل يده من وراء السّتر، فناوله من كان في البيت، فقلت: جعلت فداك، هذا الذي أراك تلتقطه أي شيء هو؟ قال: «فضلة من زغب الملائكة نجمعه إذا خلونا، نجعله سيحا (3)لأولادنا» فقلت: جعلت فداك، فانّهم ليأتونكم؟ فقال: «يا أبا حمزة، إنّهم ليزاحمونا على تكآئتنا» (4).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 2 الی 4

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته بخلق السماوات و الأرض و الملائكة، و استخدامهم في الامور، بيّن تفرّده في تدبير العالم و إعطاء النّعم بقوله: ما يَفْتَحِ اَللّهُ لِلنّاسِ مِنْ باب من أبواب رَحْمَةٍ عامة كالسّعة و الصحّة و النّصرة و نظائرها من النّعم، أو رحمة خاصة كالتوفيق و العلم و الحكمة و نظائرها، و يرسلها فَلا مُمْسِكَ لَها و لا مانع من إرسالها من خلقه، و لا قادر على حبسها ممّا سواه وَ ما يُمْسِكْ اللّه و يمنع من إعطائه و إرساله فَلا مُرْسِلَ و لا معطي لَهُ ممّا سوى اللّه و مِنْ بَعْدِهِ فلا يكون العطاء و المنع إلاّ له تعالى، لعدم وجدان غيره شيئا و قدرته على شيء وَ هُوَ تعالى وحده اَلْعَزِيزُ القادر على كلّ شيء، و القاهر على كلّ شيء، فلا ينازعه في إعطائه و منعه أحد اَلْحَكِيمُ العالم بالمصالح و المفاسد، و المطّلع على المحلّ القابل للاعطاء و غيره، فهو المستحقّ للحمد و الثناء و العبادة و الخضوع.

ما يَفْتَحِ اَللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اَللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (3) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (4)

ص: 231


1- . تفسير الرازي 26:3.
2- . تفسير روح البيان 7:313.
3- . السيح: ضرب من البرود، و في بعض نسخ المصدر: سبحا: جمع سبحة، و قد يراد بها القلادة تجعل في سلك و تعلّق على الأولاد للعوذة. قال في (المرآة) : في (بصائر الدرجات) : سخابا لأولادنا، في أخبار كثيرة، السّخاب: خيط ينظم فيه خرز و يلبسه الصبيان و الجواري، و قيل: هو قلادة من قرنفل و مسك و نحوه، و ليس فيها من اللؤلؤ و الجوهر شيء. مرآة العقول 4:290.
4- . الكافي 1:324/53، تفسير الصافي 4:231، و التّكآت: جمع تكأة، ما يعتمد عليه حين الجلوس.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفرّده بالقدرة الكاملة و الحكمة البالغة الموجبتين لحمده و شكره و عبادته، دعا عموم الناس إلى تذكّر نعمه و إقبالهم إلى شكره بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ من الأبيض و الأسود و الأحمر اُذْكُرُوا و اعرفوا نِعْمَتَ اَللّهِ و تفضّله عَلَيْكُمْ بالخلق و الرزّق و الصحة و الأمنية و غيرها من النّعم، و أدّوا حقّها بالقيام بالشّكر و العبادة، و انصفوا من أنفسكم هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اَللّهِ و مفضّل بنعمة الايجاد لشيء من الأنبياء سوى اللّه و هو يَرْزُقُكُمْ ما يوجب بقاءكم مِنَ اَلسَّماءِ بالمطر و الرياح النافعة وَ من اَلْأَرْضِ بالنباتات و الزروع و الأشجار، لا و اللّه لا خالق و لا رازق غيره، فاذن خصّوه بالعبادة لأنّه لا إِلهَ و لا معبود بالاستحقاق إِلاّ هُوَ تعالى وحده فَأَنّى و من أي وجه، و أي جهة تُؤْفَكُونَ و تصرفون من توحيده إلى الشرك، و من عبادته إلى عبادة غيره من الأصنام و الملائكة و الكواكب و غيرها

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ في إدّعاء التوحيد و الرسالة، و أصرّوا على إنكارهما، فليس تكذيب الرسول أمرا بديعا منهم فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ كثيرة أولو شأن خطير و معجزات باهرة، أرسلناهم إلى أمم كثيرة مِنْ قَبْلِكَ و قبل إرسالك إلى قومك، فصبروا على تكذيبهم و إيذاء قومهم، فظفروا بمقاصدهم من الغلبة و النّصرة و إعلاء الكلمة وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ و ترد عواقبها، فيجازي الصابر على صبره و المكذّب على تكذيبه.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 5 الی 6

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و الدعوة إلى الاقرار به، دعا الناس إلى الإيمان بالحشر بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اعلموا إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالحشر و المعاد و دار الجزاء حَقٌّ و صدق لا خلف فيه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ و لا تذهلنّكم اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و شهواتها عن السعي لها بطاعة اللّه و ترك معاصيه وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ و لا يوقعنّكم في خطر العذاب و الحرمان من الثواب بِاللّهِ اَلْغَرُورُ و الشيطان الموسوس في الصدور، بأن يمنّيكم عفو اللّه عن المعاصي لكرمه و سعة رحمته، إنّه أكرم الأكرمين في موضع العفو و الرحمة، و أشدّ المعاقبين في موضع النّكال و النّقمة.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ اَلْغَرُورُ (5) إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ اَلسَّعِيرِ (6)

ثمّ فسّر سبحانه الغرور و عرّفه بالعداوة الموجبة للاحتراز منه بقوله: إِنَّ اَلشَّيْطانَ الذي أخرج أبويكم من الجنة لعداوته لهما لَكُمْ أيضا عَدُوٌّ مبين، فاذا علمتم عداوته فَاتَّخِذُوهُ بمخالفتكم إياه في العقائد و الأعمال عَدُوًّا و كونوا منه على حذر في جميع الأحوال و الأوقات،

ص: 232

و أعلموا أنّه إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ و يحرّض جماعة أتباعه على العمل بأوامره و وساوسه لِيَكُونُوا بمخالفة اللّه مِنْ أَصْحابِ اَلسَّعِيرِ و الخالدين في نار الجحيم، لا لوصولهم إلى المنافع الدنيوية كما هو مقصد المتحابّين في الدنيا الغافلين عن المفاسد الاخروية.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ بيّن سبحانه حال حزبه و حزب الشيطان في الآخرة مبالغة في الزجر بقوله: اَلَّذِينَ اتّبعوا الشيطان و كَفَرُوا باللّه و رسوله لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ لا يمكن بيان حدّ شدّته و كيفيتها وَ اَلَّذِينَ اتّبعوا اللّه و رسوله و آمَنُوا بهما و بما يجب الايمان به وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ و المرضيات عند اللّه، و صبروا على مشاقّ طاعته لَهُمْ بإزاء إيمانهم مَغْفِرَةٌ عظيمة للذنوب و ستر لها عن غيره بإخفائها عن الناس في الدنيا، و محوها من ديوانهم أو تبديلها بالحسنات في الآخرة وَ أَجْرٌ و ثواب كَبِيرٌ لا غاية له على أعمالهم.

اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)

ثمّ بيّن سبحانه وجوب كون الكفّار معذّبين، و كون المؤمنين الصالحين منعّمين، و عدم إمكان التساوي بينهما بقوله: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ من قبل النفس و الشيطان سُوءُ عَمَلِهِ و قبيح فعله فَرَآهُ و توهّمه حَسَناً و جميلا لجهله و ضعف عقله، يمكن أن يكون كمن رأى القبيح قبيحا فاجتنبه، و الحسن عند اللّه حسنا فارتكبه لقوّة عقله و علمه بعواقب الأمور في الآخرة و دار الجزاء، لا و اللّه لا يمكن ذلك أبدا.

ثمّ لمّا كان كفر الكافر ثقيلا على قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله سلاّه سبحانه، و بيّن أن الكفر و الايمان بمشيئته بقوله: فَإِنَّ اَللّهَ بالخذلان المسبّب عن خبث الطينة و سوء الأعمال يُضِلُّ و يحرف عن الحقّ و سبيل الخير مَنْ يَشاءُ خذلانه و ضلاله وَ يَهْدِي و يرشد و يوصل إلى الحق و الدين المرضيّ عنده بتوفيقه المسبّب عن حسن الفطرة و طيب الطينة و حسن الأعمال و الأخلاق مَنْ يَشاءُ توفيقه و هدايته، فاذا علمت أن ضلال الكفّار بارادة اللّه فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ و لا تهلك عَلَيْهِمْ و على ضلالهم و كفرهم لأجل حَسَراتٍ و أحزان متوالية تعتريك، لإصرارهم على الكفر و التكذيب، و إنّما عليك النّصح و التبليغ، و قد خرجت عن عهده ما عليك، و ليس عليك إيمانهم، و لا

ص: 233

يضرّك كفرهم إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ و يعملون من القبائح، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 9

ثمّ أنّه تعالى لمّا وعد بالحشر و المعاد، استدلّ على إمكانه بقدرته المحسوسة على إحياء الأرض الميتة بقوله: وَ اَللّهُ تعالى هو القادر اَلَّذِي أَرْسَلَ و هيّج اَلرِّياحَ المختلفة كالجنوب و الشّمال و الصّبا فَتُثِيرُ و تنشر (1)سَحاباً ممطرا بين السماء و الأرض فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ و أرض يابسة لا نبات لها، لإنزال المطر فيها فَأَحْيَيْنا بِهِ أو بالسّحاب الممطر اَلْأَرْضَ الميتة، و صيّرناها خضراء بالنبات بَعْدَ مَوْتِها و يبسها كَذلِكَ الإحياء الذي تشاهدونه في الأرض اَلنُّشُورُ بعد موتكم و حشركم من القبور بعد كونكم ترابا و رفاتا في صحّة المقدورية و بسهولة الثاني من غير تفاوت بينهما أصلا سوى الإلف في الأول دون الثاني.

وَ اَللّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ اَلنُّشُورُ (9)عن العسكري عليه السّلام: «أنّ اللّه عز و جل ينزل بين نفختي الصّور بعدما ينفخ النفخة الاولى من دون السماء الدنيا من البحر المسجور الذي قال اللّه تعالى: وَ اَلْبَحْرِ اَلْمَسْجُورِ (2)و هو منيّ كمنيّ الرجال، و يمطر ذلك على الأرض، فيلقي الماء المنّى على الأموات البالية، فينبتون من الأرض و يحيون» (3).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 10

ثمّ لمّا كان المشركون يتوهّمون عزّهم في عبادة الأصنام، و المنافقون يطلبون العزّ بموافقة المشركين، دفع سبحانه التوهّم بعد إثبات التوحيد بقوله: مَنْ كانَ من المشركين و المنافقين يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ و الشرف فَلِلّهِ وحده اَلْعِزَّةَ و الشرافة الدنيوية و الاخروية جَمِيعاً فليطلبها من عنده بطاعته و عبادته، فانّ الشيء لا يطلب إلاّ من عند صاحبه و مالكه، و في الحديث: «أنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز، فمن أراد عزّ الدارين، فليطع العزيز» (4)و لذا أثبت العزة لرسوله و للمؤمنين في الآية الاخرى، لأنّهم أطاعوه.

مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

ص: 234


1- . في النسخة: تنتشر.
2- . الطور:52/6.
3- . التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليهم السّلام:282/140، تفسير الصافي 4:233.
4- . مجمع البيان 8:628، تفسير الصافي 4:233.

ثمّ لمّا كان المشركون يقولون: نحن لا نعبد من لا نراه، فانّ البعد من المعبود ذلّ و هوان، فردّهم سبحانه بقوله: إِلَيْهِ تعالى يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ الذي تتكلّمون به من كلمة التوحيد و سائر الأذكار المندوبة و الاستغفار و الدعاء، فان لم تروه فانّه يسمع كلامكم، و يقبل الطيّب من أقوالكم وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ المصدّق للكلم و القول يقوّى ذلك القول و يَرْفَعُهُ إلى محلّ القبول.

عن الصادق عليه السّلام: «الكلم الطيّب: قول المؤمن: لا إله إلاّ اللّه، محمد رسول اللّه، عليّ وليّ اللّه و خليفة رسول اللّه، و العمل الصالح: الاعتقاد بالقلب أنّ هذا هو الحقّ من عند اللّه لا شكّ فيه من ربّ العالمين» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه: إنّ لكلّ قول مصدّقا من عمل يصدّقه أو يكذّبه، فاذا قال ابن آدم و صدّق قوله بعمله، رفع قوله بعمله إلى اللّه، و إذا قال و خالف عمله قوله، ردّ قوله على عمله الخبيث و هوى به في النار» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من قال: لا إله إلاّ اللّه مخلصا، طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرّقّ الأبيض، فاذا قال ثانية: لا إله إلاّ اللّه مخلصا، خرقت أبواب السماء و صفوف الملائكة حتى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة أمر اللّه، فاذا قال ثالثة مخلصا: لا إله إلا اللّه، لم تنته دون العرش، فيقول الجليل: اسكني فوعزّتي و جلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه» ثمّ تلا هذه الآية إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ يعني إذا كان عمله خالصا ارتفع قوله و كلامه (1).

ثمّ بيّن سبحانه ما يترتّب على القول و العمل الخبيثين، و ما يستحقّ فاعلهما بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ المكرات اَلسَّيِّئاتِ كمكرات قريش في إطفاء نور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كمكرات أصحاب السقيفة في غصب خلافة الوصي عليه السّلام، و مكر كلّ مبطل في إذهاب الحقّ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ لا توصف شدّته وَ مَكْرُ أُولئِكَ الماكرين هُوَ يَبُورُ و يفسد و يفنى بلا نتيجة، بخلاف العمل الصالح فانّه يبقى و يفيد بحال عامله.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 11

وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ (11)

ص: 235


1- . الاحتجاج:260، تفسير الصافي 4:234.

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على قدرته و علمه الموقوف عليهما المعاد بقوله: وَ اَللّهُ هو القادر الذي خَلَقَكُمْ أولا مِنْ تُرابٍ بخلق أبيكم آدم منه ثُمَّ خلق ذرّيته مِنْ نُطْفَةٍ و ماء يخرج من بين الصّلب و الترائب ثُمَّ جَعَلَكُمْ يا بني آدم أَزْواجاً و أصنافا كالأسود و الأبيض و الأحمر و الذّكر و الانثى وَ ما تَحْمِلُ و لا تحبل مِنْ أُنْثى و مرأة وَ لا تَضَعُ حملها إِلاّ حال كونها ملتبسة بِعِلْمِهِ تعالى، و تابعة لمشيئته، يعلم مكان حملها و وضعها و وقتهما، و أحوال طفلها من الذكورة و الانوثة و النقص و التمام و غير ذلك وَ ما يُعَمَّرُ و لا تطول حياة مِنْ مُعَمَّرٍ و طويل الحياة وَ لا يُنْقَصُ مِنْ مدّة حياة أحد على حسب الاقتضاء الأول و عُمُرِهِ لعروض المانع إِلاّ أنّه مكتوب فِي كِتابٍ و لوح محفوظ عند اللّه يقرأه الملائكة المقرّبون و النفوس القدسية المتصلة باللّوج المحفوظ إِنَّ ذلِكَ المذكور من خلقكم من تراب إلى آخر ما في الآية، أو من ثبت زيادة الأعمار و نقصها في الكتاب عَلَى اَللّهِ القادر على كلّ شيء الغني في أفعاله عن الأسباب يَسِيرٌ و سهل.

قال جمع: أنّ عمر شخص واحد لا يزيد و لا ينقص، و الحقّ أنّ لكلّ أحد بمقتضى الحكمة الأولية مع قطع النظر عن العوارض و الطوارئ أجلا معينا مكتوبا في لوح المحو و الإثبات، ثمّ تلك الحكمة تتغيّر بالعوارض، فقد يعرض أمر يقوّي مقتضى البقاء و زيادة الحياة، و يغيّر المصلحة الأولية، فيزيد في العمر، و قد يعرض أمر مقتضى لنقص لنقصه، و يسمى ذلك بالأجل المعلّق، و لا يموت أحد به، و من المعلوم أنّ اللّه من أوّل الخلق عالم بالمصلحة الأولية و عروض العوارض و وقوع الموت في أي وقت و أي ساعة بلا تأخّر و لا تقدّم، و يسمى ذلك بالأجل الحتمي، و لا يبقى أحد بعد بلوغه، و لا يعقل البداء للّه.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «الصدقة وصلة الرّحم تعمّران البلاد، و تزيدان في الأعمار» (1).

و عنه عليه السّلام: «برّ الوالدين يزيد في العمر» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ المرء ليصل رحمه و ما بقي من عمره إلاّ ثلاثة أيام (أو ثلاث سنين) فينسئه (فيزيده) اللّه إلى ثلاثين سنة، و إنّه ليقطع رحمه و قد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيردّه اللّه إلى ثلاثة أيام» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما نعلم شيئا يزيد في العمر إلاّ صلة الرّحم حتى إنّ الرجل يكون أجله ثلاث

ص: 236


1- . جوامع الجامع:387، تفسير الصافي 4:234، تفسير روح البيان 7:328. (2 و 3) . تفسير روح البيان 7:328.

سنين، فيكون وصولا للرّحم، فيزيد اللّه في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثا و ثلاثين سنة، و يكون أجله ثلاثا و ثلاثين سنة، فيكون قاطعا للرّحم، فينقصه اللّه عزّ و جلّ ثلاثين سنة و يجعل أجله إلى ثلاث سنين» (1).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 12

ثمّ بالغ سبحانه في إثبات قدرته بالآثار الظاهرة بقوله: وَ ما يَسْتَوِي اَلْبَحْرانِ المتشابهان في الصورة في طعم الماء، بل يقال لواحد منهما: هذا الماء عَذْبٌ و حلو و فُراتٌ و طيّب و سائِغٌ شَرابُهُ و مرئ ماؤه وَ للآخر هذا الماء مِلْحٌ أُجاجٌ هو مرّ شديد الملوحة وَ مِنْ كُلٍّ منها مع هذا الاختلاف تصيدون السّموك و الطّيور و تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا جديدا لأنّه يفسد بترك التسارع إلى أكله وَ تَسْتَخْرِجُونَ من كلّ منهما، أو من الملح الاجاج اللؤلؤ و المرجان، و تجعلونهما حِلْيَةً و زينة تَلْبَسُونَها قيل: إسناد اللّبس إلى الرجال باعتبار لبس النساء لهم، فكأنّهم لبسوها (2).

وَ ما يَسْتَوِي اَلْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)اقول: لا يحتاج إلى هذا التكلّف بعد كون الخطاب إلى الناس و النساء منهم وَ تَرَى أيّها الرائي اَلْفُلْكَ و السفينة فِيهِ العذب منه و الملح مَواخِرَ و شواقّ للماء بجريها مقبلة و مدبرة لِتَبْتَغُوا و تطلبوا بعضا مِنْ نعم ربّكم و فَضْلِهِ بالنقلة فيها وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه و تقومون بحقّها حيث ترون أنّه تعالى جعل المهالك سببا لوجود المنافع و حصول المعايش.

قال جمع من مفسّري العامة: إنّ المراد من الآية ضرب المثل في حقّ الكفر و الايمان، و الكافر و المؤمن، فالبحر العذب مثل للايمان أو المؤمن، و البحر الملح الاجاج مثل للكفر أو الكافر، فكما لا يشبّه البحر العذب بالبحر الاجاج، كذلك لا يشبّه الايمان أو المؤمن بالكفر أو الكافر، بل حال الكفر أو الكافر أدون من البحر الاجاج؛ لأنّه يشارك البحر العذب في كثير من المنافع، كالمنافع المذكورة، و لا نفع للكفر أو الكافر (3).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 13 الی 14

يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

ص: 237


1- . الكافي 2:122/17، تفسير الصافي 4:234.
2- . تفسير روح البيان 7:330.
3- . تفسير الرازي 26:10، تفسير روح البيان 7:330.

ثمّ ذكر سبحانه من آثار قدرته بقوله: يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ و قد مرّ تفسيرهما مكرّرا وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ و قهرهما تحت إرادته كُلٌّ منهما يَجْرِي و يسير في فلكه بحركته الخاصة و على المدارات اليومية بحركته القسرية لِأَجَلٍ مُسَمًّى و معين قدّره اللّه لجريهما، و هو يوم القيامة.

أيّها الناس ذلِكُمُ القادر الحكيم الذي فعل هذه الأعاجيب هو اَللّهُ الذي هو رَبُّكُمْ و اعلموا أنّ لَهُ وحده اَلْمُلْكُ و السلطنة التامة في عالم الوجود من الملك و الملكوت و الجبروت، إذن خصّوا العبادة به، و لا تشركوا به غيره.

ثمّ بيّن أنّ الأصنام فاقدون لصفات الالوهية بقوله: وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ و القشرة البيضاء الرقيقة الملتفّة على النّواة

إِنْ تَدْعُوهُمْ و تنادوهم أو تسألوهم حاجة لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنّهم جمادات وَ لَوْ سَمِعُوا على الفرض دعاءكم مَا اِسْتَجابُوا لَكُمْ و ما أجابوكم، لعدم قدرتهم على النّطق، أو ما قضوا حاجتكم لعجزهم عن دفع الضرر عن أنفسهم و جلب نفع إلى أنفسهم بوجه، فكيف بدفع الضرر عنكم، أو إيصال النفع إليكم؟ هذا في الدنيا، و أما في الآخرة بعد صيرورتهم أحياء ناطقين يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ إيّاهم باللّه، و ينكرون أنّكم تعبدونهم من دون اللّه، وَ اعلم أنّه لا يُنَبِّئُكَ و لا يخبرك يا محمد بواقع الامور أحد مِثْلُ إله خَبِيرٍ بجميع الامور و حقائقها و واقعياتها بحيث لا يمكن السهو و الغلط و الاشتباه في إخباره.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 15 الی 18

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عجز الأصنام من إجابة عابديها، و عدم نفعهم لهم في الدنيا و الآخرة، بل يضادّوا عابديهم فيها، أعلن في الناس بحاجة جميع الخلق إليه تعالى بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ الأبيض و الأحمر و الأسود أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ و المحتاجون إِلَى اَللّهِ في وجودكم و بقائكم و رزقكم و عزّكم و دينكم في الدنيا، و نجاتكم و نيلكم بالدرجات العالية في الآخرة وَ اَللّهُ الواجب الوجود

ص: 238

هُوَ وحده اَلْغَنِيُّ عن كلّ شيء ممّا سواه اَلْحَمِيدُ و المستحقّ للثناء الجميل على نعمه العامة و الخاصة.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ ما ذلِكَ عَلَى اَللّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكّى فَإِنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ (18)قيل: لمّا كثر الدعاء من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى عبادة اللّه و الامتناع منها من الكفّار، قالوا: لعلّ اللّه محتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا أمرا بالغا، و يهدّدنا على تركها مبالغا، فأنزل اللّه أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ (1).

ثمّ بيّن قدرته و غناه عنهم بقوله: إِنْ يَشَأْ إذهابكم و إهلاككم يُذْهِبْكُمْ عن وجه الأرض، و يهلككم جميعا بالعذاب وَ يَأْتِ مكانكم بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أقوى و أحسن و أطوع منكم

وَ ما ذلِكَ الإذهاب و الإتيان عَلَى اَللّهِ القادر على كلّ شيء الغنيّ عن الأسباب بِعَزِيزٍ و متعذّر و لا صعب و متعسّر، بل عليه هيّن يسير.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إصرار النبي صلّى اللّه عليه و آله على دعوتهم ليس لتضرّره بكفرهم بقوله: وَ لا تَزِرُ و لا تحمل نفس وازِرَةٌ و حاملة ثقل العصيان وِزْرَ نفس أُخْرى و ثقل عصيانها، بل إنّما تحمل كلّ نفس إثم نفسها الذي اكتسبته في الدنيا، و لا يؤاخذ شخص إلاّ على ما ارتكبه من الذنب، لا على ما ارتكبه غيره وَ إِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ و متحمّلة للمعصية أحدا إِلى حِمْلِها و ثقلها الذي عليها من الذنوب ليحمل شيئا منه لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ و لو كان قليلا، و لا يجيب دعوتها وَ لَوْ كانَ المدعوّ ذا قُرْبى من الداعي كالأب و الامّ و الولد و الأخ، إذ لكلّ منهم يومئذ شأن يغنيه و حمل يعجزه، فكفركم و عصيانكم لا يضرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 18 الی 21

ثمّ لمّا كان فيه تهديد شديد، و ما كاد يؤثّر في قلوب المصرّين على الشّرك، سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: إِنَّما تُنْذِرُ و يفيد إنذارك و عظتك المؤمنين اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ و يخافون رَبَّهُمْ الكائنين عنه تعالى بِالْغَيْبِ المحجوبين عن رؤيته وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ و راعوا حدودها و شرائطها، فانّهم المنتفعون بانذارك دون المتمرّدين الطاغين من الناس، و ليس عليك إيمانهم، و إنّما عليك الإنذار، و قد أدّيت ما عليك و أبلغت، ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما لا يضرّ عصيان أحد غيره، لا ينفع طاعة أحد

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكّى فَإِنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ (18) وَ ما يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ (19) وَ لاَ اَلظُّلُماتُ وَ لاَ اَلنُّورُ (20) وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ (21)

ص: 239


1- . تفسير الرازي 26:13.

غيره بقوله: وَ مَنْ تَزَكّى و تطهّر نفسه من الذنوب فَإِنَّما يَتَزَكّى و يتطهّر و نفعه لِنَفْسِهِ و قيل: إنّ المراد من أعطى الزكاة فانّما ثوابه لنفسه (1)وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ و المرجع لكلّ من الكافر و المؤمن، فيجازي كلاّ على حسب استحقاقه.

وَ ما يَسْتَوِي عنده في المجازاة الكافر الذي هو اَلْأَعْمى القلب وَ المؤمن الذي هو اَلْبَصِيرُ بالحقّ و وظائفه الإلهية

وَ لاَ فنون الباطل التي هي اَلظُّلُماتُ في الآخرة وَ لاَ الحقّ الذي هو اَلنُّورُ و أفراده، لأنّ الحقّ واحد

وَ لاَ اَلظِّلُّ الذي هو كناية عن ثواب اللّه و الراحة الأبدية وَ لاَ اَلْحَرُورُ الذي هو كناية عن عذاب النار.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 22 الی 26

ثمّ ضرب سبحانه مثلا للمؤمن و الكافر بقوله: وَ ما يَسْتَوِي المؤمنون الذين هم اَلْأَحْياءُ وَ لاَ الكفّار الذين هم اَلْأَمْواتُ.

وَ ما يَسْتَوِي اَلْأَحْياءُ وَ لاَ اَلْأَمْواتُ إِنَّ اَللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ (23) إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ اَلْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)ثمّ بيّن قدرته على قهرهم بالايمان بقوله: إِنَّ اَللّهَ بقدرته يُسْمِعُ كلامه و يفهمه مَنْ يَشاءُ إسماعه و إفهامه بإحياء قلبه وَ ما أَنْتَ يا محمّد بِمُسْمِعٍ كلامك مَنْ هو كالميت الذي فِي اَلْقُبُورِ لعدم قدرتك على ذلك

إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ و ما أنت إلاّ مخوّف للناس من عذاب اللّه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إنذاره ليس من قبل نفسه بقوله: إِنّا أَرْسَلْناكَ إلى النّاس حال كونك مصحوبا بِالْحَقِّ و ملتبسا بالصدق، لتكون لهم بَشِيراً بالثواب على إيمانهم وَ نَذِيراً لهم بالعقاب على كفرهم و شركهم وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ و ما من جماعة و أهل عصر إِلاّ خَلا و مضى فِيها نَذِيرٌ مبعوث من أللّه لإنذارهم و هدايتهم إلى الحقّ، من رسول أو وصيّ رسول، فلست بدعا من الرسل، و في الآية دلالة على أنّه لا يخلو زمان من حجّة إما ظاهر مشهور أو غائب مستور، كما دلّت عليه الروايات الكثيرة (2).

ص: 240


1- . تفسير روح البيان 7:337.
2- . الكافي 1:194/6، تفسير القمي 2:209، عنهما تفسير الصافي 4:236.

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على تكذيب قومه بقوله: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فلا تبال تكذيبهم، و لا تحزن عليه فَقَدْ كَذَّبَ الامم العاتية الطاغية اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السابقة على عصرهم رسلهم، ثمّ كأنّه قيل: هل كان لهم رسل؟ فأجاب سبحانه بقوله: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ مستدلّين على صدق رسالتهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات الدالات على صدقهم و صحة نبوّتهم وَ بِالزُّبُرِ و الصّحف السماوية كصحف شيث و إدريس و إبراهيم عليهم السّلام وَ بِالْكِتابِ اَلْمُنِيرِ الموضح للحقّ المبين،

لما يحتاج إليه من الحكم و الأحكام و المواعظ و الأمثال و الوعد و الوعيد و نحوها، كالتوراة و الإنجيل ثُمَّ أَخَذْتُ بعذاب الاستئصال اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أنكروا رسالتهم و كذّبوهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ و تعييري عليهم بالعقوبات الشديدة التي صارت عبرة لمن بعدهم إلى يوم القيامة، و فيه وعيد لمكذّبي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و وعد له بالنّصر و الظّفر.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيب الرسل في دعوى التوحيد و الرسالة، شرع في الاستدلال على توحيده بقوله: أَ لَمْ تَرَ يابن آدم، أو يا محمد، و لم تعلم أَنَّ اَللّهَ بقدرته الكاملة أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً بالأمطار.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ اَلْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ (27) وَ مِنَ اَلنّاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)ثمّ عدل من الغيبة إلى التكلّم إظهارا لكمال الاعتناء ببديع صنعه بقوله: فَأَخْرَجْنا من الأرض و الأشجار بِهِ ثَمَراتٍ كثيرة مُخْتَلِفاً أَلْوانُها و أنواعها كالرّمان و التّفاح و التين و العنب و غيرها، و أصنافها أو هياتها من الصّفرة و الحمرة و البياض و السواد و غيرها وَ مِنَ اَلْجِبالِ جُدَدٌ و خطط و طرق ظاهرة. و قيل: يعني ذو جدد بِيضٌ وَ حُمْرٌ كلّ واحدة من البيض و الحمر مُخْتَلِفٌ أيضا أَلْوانُها بالشدّة و الضّعف و جدد سود وَ غَرابِيبُ و بالغات أعلى درجة السواد بحيث لا يمكن الاختلاف فيها.

ثمّ بيّن سبحانه السّود المحذوف الموكّد بالغرابيب بقوله: سُودٌ فعلى ما فسرّنا الآية يكون المقصود بيان اختلاف الطرق في اللون كاختلاف الثّمار في اللون، و يمكن أن يكون المقصود بيان اختلاف نفس الجبال في اللون،

ص: 241

منهم أبيض، و منهم أحمر، و منهم أسود، و منهم أصفر، و منهم على لون آخر كَذلِكَ الاختلاف الكائن في الثّمار و الجبال.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 28 الی 30

ثمّ لمّا خصّ سبحانه تأثير الإنذار بالذين يخشون ربّهم بالغيب، بيّن اختصاص الخشية بالعارفين باللّه بقوله: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ بين عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ باللّه العارفون بشؤونه و عظمته و قهاريته لا غيرهم، لأنّ الخشية متوقّفة على معرفة المخشيّ منه بالعظمة و المهابة و القدرة و القهارية، كما بيّن سبحانه علّة وجوب خشيته بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و غالب على من عصاه، و قادر على الانتقام ممنّ عاداه و خالفه غَفُورٌ لمن يخشاه و يطيعه، فمن كان أعلم به تعالى كان أخشى منه كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أخشاكم من اللّه، و أتقاكم له» (1).

وَ مِنَ اَلنّاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اَللّهِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: أيّنا أعلم؟ قال: «أخشاكم من اللّه» (2).

عن السجاد عليه السّلام، قال: «ما العلم باللّه و العمل إلاّ إلفان مؤتلفان، فمن عرف اللّه خافه، و حثّه الخوف على العمل بطاعة اللّه، و إنّ أرباب العلم و أتباعهم الذين عرفوا اللّه فعملوا له و رغبوا إليه، و قد قال اللّه: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ» إلى آخره (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «دليل الخشية التعظيم للّه و التمسّك بخالص الطاعة و أوامره، و الخوف و الحذر، و دليلهما العلم» (4)ثمّ تلا هذه الآية.

أقول: و لذا مدح اللّه العلماء بالعمل بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اَللّهِ حقّ تلاوته، و يهتمّون بالعبادات البدنية التي أفضلها الصلاة كما قال تعالى: وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ بآدابها و شرائطها، و بالعبادات المالية كما قال سبحانه: وَ أَنْفَقُوا في سبيل اللّه مِمّا رَزَقْناهُمْ و أعطيناهم من الأموال سِرًّا و خفية من الناس، لإدراك فضيلة الصدقة السرّية وَ عَلانِيَةً و جهارا لترغيب الناس إليه، و هم بأعمالهم و عباداتهم يَرْجُونَ تِجارَةً و مبايعة مع ربّهم في سوق الدنيا لَنْ تَبُورَ و لن تخسر تلك التجارة أبدا

لِيُوَفِّيَهُمْ و يعطيهم على أعمالهم أُجُورَهُمْ التي وعدهم بلسان نبيه في

ص: 242


1- . تفسير أبي السعود 7:151، تفسير روح البيان 7:344.
2- . تفسير روح البيان 7:344.
3- . الكافي 8:16/2، تفسير الصافي 4:237.
4- . مصباح الشريعة:23، تفسير الصافي 4:237.

كتابه بقوله: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ (1)وَ يَزِيدَهُمْ اللّه على ما يستحقّون ما لم يخطر ببالهم مِنْ فَضْلِهِ وجوده و خزائن رحمته، كقبول شفاعتهم في العصاة من أقربائهم و أصدقائهم و محبّيهم إِنَّهُ تعالى غَفُورٌ و ستّار لفرطاتهم شَكُورٌ لطاعاتهم، و مجازيهم عليها أفضل الجزاء.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 31 الی 32

ثمّ لمّا ذكر سبحانه تلاوة العلماء كتابه الكريم مدح كتابه بقوله: وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل مِنَ اَلْكِتابِ الحميد و القرآن المجيد هُوَ بالخصوص اَلْحَقُّ الذي يجب الأخذ به، و العمل بما فيه، و أدلّ الدليل على حقّانيته و صدقه، و كونه منزلا من اللّه، إنّه يكون مُصَدِّقاً و موافقا في العلوم و المعارف و أصول الأحكام و الحكم و المواعظ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ و ما قبله من الكتب السماوية كالتوراة و الانجيل و الزّبور و غيرها، مع كون من جاء به امّيا لم يقرأ الكتب، و لم يجالس أحدا من علماء أهل الكتاب، و إن اعترض المشركون عليك و قالوا: لم أوحي إليك و لم يوح إلى رجل من القريتين عظيم؟ فقل: إِنَّ اَللّهَ بِعِبادِهِ القابلين للإيحاء إليهم و غير القابلين له لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ يعلم بواطنهم و من قوة عقولهم و نورانية طينتهم و قلوبهم، و يرى ظواهرهم من حسن أخلاقهم و سيرتهم، فيصطفي لوحيه و رسالته أعقلهم و أفضلهم و أكملهم،

و لا ينظر إلى كثرة جاههم و مالهم و أولادهم و أعوانهم ثُمَّ بعد إعطائك الكتاب العظيم و إيجابه إليك أَوْرَثْنَا و أعطينا ذلك اَلْكِتابَ المنزل إعطاء إرث الوالد لولده اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا هم و انتجبناهم مِنْ عِبادِنا للإعطاء و الإكرام فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بمخالفته لأحكامه و عصيانه ربّه وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ و متوسّط في العمل بالكتاب، لا مجدّ فيه و لا مسامح و مساهل وَ مِنْهُمْ سابِقٌ و متقدّم على جميع الناس في العمل بِالْخَيْراتِ الأعمال الصالحات بِإِذْنِ اَللّهِ و إرادته و توفيقه ذلِكَ المذكور من إيراث الكتاب و السّبق بالخيرات هُوَ بالخصوص اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ من اللّه الكبير، و الإنعام الجزيل من المنعم القدير.

وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتابِ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اَللّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اَللّهِ ذلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ (32)

ص: 243


1- . التوبة:9/111.

قال المفسرون من العامة: إنّ المراد من المصطفين في الآية جميع الامّة (1). ورووا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا نزلت هذه الآية فرح فرحا شديدا و قال ثلاثا: «امّتي و ربّ الكعبة» (2).

و اختلفت أقوالهم في المراد من الفرق الثلاث؛ قيل: الظالم من رجحت سيئاته حسناته، و المقتصد من تساويا، و السابق من رجحت حسناته (3). و قيل: الظالم هو الموحّد غير المطيع، و المقتصد: هو الموحّد المطيع، و السابق: هو الموحّد الذي لا يتوجّه إلى غير اللّه (4). و قيل: الظالم هو المرتكب للكبائر، و المقتصد هو المرتكب للصغائر، و السابق هو المعصوم (5). و قيل: الظالم أصحاب المشأمة، و المقتصد أصحاب الميمنة، و السابق بالخيرات (4)، السابقون المقربون (5)، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.

و في روايات أهل البيت عليهم السّلام: أنّ المراد من المصطفين الذين أورثوا الكتاب أولاد عليّ و فاطمة عليهما السّلام (6). و في بعضها: المراد من الظالم من لا يعرف الإمام، و من المقتصد العارف به، و من السابق الإمام، كما عن الباقر (7)و الصادق (8)و الرضا (9)و العسكري (10)عليهم السّلام.

و في بعضها: المراد من الظالم من استوت حسناته و سيئاته، و من المقتصد العابد للّه حتى يأتيه اليقين، و من السابق من دعا إلى سبيل ربّه، و أمر بالمعروف و نهى عن المنكر، و لم يكن للمضلّين عضدا، و لا للخائنين خصيما، و لم يرض بحكم الفاسقين إلاّ من خاف على نفسه و دينه و لم يجد أعوانا، كما عن الصادق عليه السّلام (11).

و عن الباقر عليه السّلام: «أمّا الظالم لنفسه هاهنا من عمل صالحا و أخّر سيئا، و أما المقتصد فهو المتعبّد المجتهد، و أمّا السابق بالخيرات فعليّ و الحسن و الحسين و من قتل من آل محمد عليهم السّلام شهيدا» (12).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 33 الی 35

جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) اَلَّذِي أَحَلَّنا دارَ اَلْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)

ص: 244


1- . تفسير أبي السعود 7:153، تفسير روح البيان 7:346.
2- . تفسير روح البيان 7:347.
3- . تفسير الرازي 26:24. (4 و 5) . تفسير الرازي 26:25.
4- . زاد في النسخة: و السابقون.
5- . تفسير الرازي 26:25.
6- . بصائر الدرجات:65/3، تفسير الصافي 4:238.
7- . الكافي 1:167/1، تفسير الصافي 4:238.
8- . الكافي 1:167/2، تفسير الصافي 4:238.
9- . الكافي 1:167/3، تفسير الصافي 4:238.
10- . الخرائج و الجرائح 2:687/9، تفسير الصافي 4:238.
11- . معاني الأخبار:105/2، تفسير الصافي 4:239.
12- . مجمع البيان 8:639، تفسير الصافي 4:239.

ثمّ بيّن سبحانه فضله الكبير بملاحظة أنّه سبب للتفضّلات المذكورة بقوله: جَنّاتُ عَدْنٍ و بساتين إقامة و استقرار لا رحيل منها، أو المراد بساتين خاصة اسمها عدن يَدْخُلُونَها يوم القيامة، ثمّ يُحَلَّوْنَ و يزيّنون فِيها رجالا و نساءا مِنْ أَساوِرَ مصوغة مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً و درّا بالنصب عطفا على محلّ الذهب، و المعنى و يحلّون لؤلؤا وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ و ثوب رقيق من إبريسم

وَ قالُوا عند الدخول في الجنات تشكّرا لما صنع بهم رّبهم: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ و أزال عَنَّا بتفضّله علينا بالجنّة اَلْحَزَنَ و الغمّ.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أمّا السابق فيدخل الجنة بغير حساب، و أمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، و أما الظالم لنفسه فيحبس في المقام، ثمّ يدخل الجنّة، فهم الذين قالوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ» (1).

إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ للمطيعين بإثابتهم إلى غير نهاية

اَلَّذِي أَحَلَّنا و أنزلنا دارَ اَلْمُقامَةِ و البقاء، و جنّة لا خروج منها أبدا مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه بلا حقّ لنا عليه لا يَمَسُّنا و لا يصيبنا فِيها نَصَبٌ و تعب و وجع، كما كان يصيبنا في الدنيا وَ لا يَمَسُّنا و لا يعترينا فِيها لُغُوبٌ و كلال و عناء، إذ لا تكليف فيها و لا كدّ، فبيّن سبحانه أنّ لهم السرور بالنجاة من العذاب، و بالدخول في الجنات، و بالاكرام بتحليتهم بأعلى الحليّ التي يتحلّى بها الملوك، و باللباس الذي هو أفضل الألبسة، و بالخلود في النّعم، و الراحة من جميع المكاره و الآلام.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين بيّن سوء حال الكفّار في الآخرة بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و بكتابه لَهُمْ في الآخرة نارُ جَهَنَّمَ بسبب كفرهم و أشدّ العذاب بارتكابهم أكبر الكبائر و أقبح القبائح لا يُقْضى و لا يحكم عَلَيْهِمْ بالموت فَيَمُوتُوا و يستريحوا منه وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ طرفة عين مِنْ عَذابِها بل كلّما خبت زادوا سعيرا كَذلِكَ الجزاء الفظيع

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ اَلَّذِي كُنّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ اَلنَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

ص: 245


1- . مجمع البيان 8:638، تفسير الصافي 4:240.

نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ و مبالغ في الكفران، أو مصرّ على الطّغيان

وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ و يستغيثون و يضجّون فِيها و يقولون حال استغاثتهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا منها، و خلّصنا من عذابها، و ردّنا إلى الدنيا نؤمن بك في الدنيا و نَعْمَلْ صالِحاً فيها غَيْرَ العمل اَلَّذِي كُنّا نَعْمَلُ و نحسبه صالحا، فيقال لهم توبيخا و تبكيتا: ألم نعطكم المهلة أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ و نبقيكم في الدنيا مقدار ما يَتَذَكَّرُ و يتنبّه فِيهِ من الزمان مَنْ تَذَكَّرَ و تتمكّنون فيه من التفكّر و إصلاح العقائد و الأعمال.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من عمّره اللّه ستين سنة، فقد أعذر إلية» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «العمر الذي أعذر اللّه إلى ابن آدم ستّون سنة» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو توبيخ لابن ثمان عشرة سنة» (3).

وَ جاءَكُمُ من قبل اللّه اَلنَّذِيرُ المخوّف من عذاب هذا اليوم فَذُوقُوا العذاب، لأنّكم ظلمتم أنفسكم بالكفر و الطّغيان على ربّكم و تكذيب نبيّكم فَما لِلظّالِمِينَ في هذا اليوم مِنْ نَصِيرٍ يدفع عنهم العذاب، و معين يعينهم في الخلاص منه.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ لمّا قطع سبحانه رجاءهم العود إلى الدنيا، و أخبرهم بدوام عذابهم إلى الأبد، بيّن علمه بخبث ذاتهم و عودهم إلى الكفر و العصيان إنّ عادوا إلى الدنيا، و بنيّتهم أنّهم لو بقوا في الدنيا إلى الأبد لبقوا على الشّرك و العصيان بقوله: إِنَّ اَللّهَ عالِمُ غَيْبِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خفيّاتهما، فيعلم خبث طينة المصرّين على الشّرك بحيث لو رجعوا إلى الدنيا رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشّرك و العصيان، و إنّهم كاذبون في قولهم: أخرجنا نعمل صالحا، و إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و النيّات السوء التي في القلوب، فيعلم أنّ نية المشركين كانت في الدنيا أنّهم لو كانوا باقين فيها أبد الدهر لداموا على الشرك، و لذا يعذّبهم أبدا على نيّاتهم، فليس لأحد أن يقول: لا يجوز العذاب الأبدي على الشّرك في أيام معدودة.

إِنَّ اَللّهَ عالِمُ غَيْبِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (38) هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ اَلْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ اَلْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَساراً (39)

ثمّ ذكر سبحانه بعد تهديد المشركين بعذاب النار في القيامة منّته عليهم إثباتا لتوحيده، و إتماما

ص: 246


1- . مجمع البيان 8:641، تفسير الصافي 4:241.
2- . نهج البلاغة:533/326، مجمع البيان 8:641، تفسير الصافي 4:241.
3- . مجمع البيان 8:641، تفسير الصافي 4:241.

لحجّته، و تقريرا لعدم رجوعهم عن شركهم إذا رجعوا إلى الدنيا بقوله: هُوَ اللّه القادر اَلَّذِي جَعَلَكُمْ بقدرته و فضله خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ و متصرّفين فيها، و مسلّطين على الانتفاع بها و بنعمها، أو خلفاء ممّن كان قبلكم من الامم، و أورثكم ما كان لهم من الأمتعة، و نبّهكم بسوء حال الماضين من المشركين، و أعلمكم بما نزل على الأقدمين من العاصين، و مع ذلك ما تنبّهتم و ما اتّعظتم فَمَنْ كَفَرَ باللّه و الدار الآخرة فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ و وبال شركه و جحوده الحقّ من الطرد و النار، لا يتعدّاه إلى غيره وَ لا يَزِيدُ اَلْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً و غضبا شديدا يوجب لهم العذاب الأبد وَ لا يَزِيدُ اَلْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَساراً و ضررا عظيما لا يتصوّر فوقه الضرر، و هو فوات النّعم الأبدية و الراحة السّرمدية.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإلزام المشركين على إبطال الشّرك، و توبيخهم على عبادة ما لا يليق للعبادة، و لا دليل على جوازها بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني شُرَكاءَكُمُ و الأصنام اَلَّذِينَ سميتموهم من قبل أنفسكم أندادا لربّكم و تَدْعُونَ و تعبدونهم مِنْ دُونِ اَللّهِ الذي هو خالقكم و المنعم عليكم أَرُونِي و عيّنوا لي ما ذا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ و أيّ جزء من أجزائها أوجدوه حتى يمكنكم أن تقولوا إنّهم آلهة في الأرض و اللّه إله السماء؟ ! أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ مع اللّه فِي خلق اَلسَّماواتِ حتى تقولوا إنّهم آلهة السماوات؟ ! أَمْ أعطينا الأصنام أو المشركين و آتَيْناهُمْ كِتاباً كتبنا فيه أنّ لهم الشفاعة، أو يجب عليكم عبادتهم فَهُمْ إذن عَلى بَيِّنَةٍ من اللّه و حجّة كائنة مِنْهُ ليس أحد من الامور حتى يجوز عقلا أو تعبّدا عبادتهم بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ السابقون أو الرؤساء بَعْضاً اللاحقين أو التابعين بأنّه يشفعون عند اللّه و يقضون حوائج عابديهم إِلاّ غُرُوراً و باطلا لا أصل له، و إيقاعا في خطر العذاب.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً (40) إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)

ثمّ بيّن سبحانه أن عظمة القول بالشّرك ممّا يزيل السماوات و الأرض عن مقرّهما بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ و يحفظ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بقدرته من أَنْ تَزُولا أو كراهة أن تزولا من مقرّهما بسبب قول المشركين بالشّرك باللّه.

ص: 247

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً (40) إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)

ثمّ بيّن سبحانه أن عظمة القول بالشّرك ممّا يزيل السماوات و الأرض عن مقرّهما بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ و يحفظ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بقدرته من أَنْ تَزُولا أو كراهة أن تزولا من مقرّهما بسبب قول المشركين بالشّرك باللّه.

عن الرضا عليه السّلام، قال: «بنا يمسك اللّه السماوات و الأرض أن تزولا» (1).

وَ باللّه وَ لَئِنْ زالَتا عن مكانهما و مقرّهما، كما يزولان في يوم تبدّل الأرض فيه غير الأرض، و تطوى السماء كطّي السّجل للكتب إِنْ أَمْسَكَهُما و ما حفظهما من الزوال (2)مِنْ أَحَدٍ من الموجودات غير اللّه و مِنْ بَعْدِهِ أو من بعد نزولهما إِنَّهُ تعالى كانَ حَلِيماً غير معاجل بعقوبة الكفّار بإنزالهما بقولهم بالشّرك، مع أنّه مقتض لهدّهما هدّا، و مع ذلك يمسكهما و يمنعهما من الزوال و غَفُوراً لمن رجع عن الشّرك و تاب من الكفر.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 42 الی 43

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكار المشركين التوحيد، حكى إنكارهم الرسالة و إصرارهم عليه بقوله: وَ أَقْسَمُوا و حلفوا بِاللّهِ مع أنّ الحلف باسم اللّه العظيم يكون جهد أيمانهم و أكيده و غليظه، و قالوا: و اللّه لَئِنْ جاءَهُمْ نبيّ نَذِيرٌ و مخوّف من قبل اللّه، كما أدّعى كثير من الامم مجيئه فيهم لَيَكُونُنَّ أَهْدى و أطوع له مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ كاليهود و النصارى و غيرهم، لكوننا أكثر استعدادا و عقلا و فهما و ذكاء منهم فَلَمّا جاءَهُمْ محمد صلّى اللّه عليه و آله و هو نَذِيرٌ من النّذر، و أفضلهم، بالمعجزات الباهرات الدالّة على صدقه

ما زادَهُمْ مجيؤه أو ذلك النذير إِلاّ نُفُوراً و تباعدا عن طاعته و الاهتداء بهدايته، و كان نفورهم اِسْتِكْباراً و تعظيما فِي اَلْأَرْضِ وَ عتوّا على اللّه، و مكروا مَكْرَ اَلسَّيِّئِ أو المراد ما زادهم إلا استكبارا، و مكر السيء، و التدبير الشنيع، و الحيلة القبيحة في قتله و إبطال دعوته وَ الحال أنّه لا يَحِيقُ و لا يحيط اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ و وباله و عذابه إِلاّ بِأَهْلِهِ و فاعله.

وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً (42) اِسْتِكْباراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّهِ تَحْوِيلاً (43)في الحديث: «لا تمكروا و لا تعينوا ماكرا، فانّ اللّه يقول: وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ» (3).

ص: 248


1- . كمال الدين 202/6، تفسير الصافي 4:243.
2- . في النسخة: النزول.
3- . تفسير الرازي 26:34، تفسير روح البيان 7:361.

و في الآخر: «المكر و الخديعة في النار» (1).

روي أنّ قريشا بلغهم قبل مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم، فقالوا: لعن اللّه اليهود و النصارى، أتتهم الرسل فكذّبوهم، و حلفوا كما حكى اللّه عنهم (2).

ثمّ هددهم سبحانه بقوله: فَهَلْ المشركون يَنْظُرُونَ و ينتظرون إِلاّ سُنَّتَ اللّه في الامم اَلْأَوَّلِينَ و طريقته المألوفة الجارية في المكذبين السابقين و ماكريهم بالنبيين من تعذيبهم و إهلاكهم فَلَنْ تَجِدَ يا محمد، أو يابن آدم لِسُنَّتِ اَللّهِ و طريقة معاملته مع أعدائه و أعداء رسله تَبْدِيلاً بأن يعفو عن المكذّبين الماكرين الذين كان بناؤه على تعذيبهم وَ لَنْ تَجِدَ أبدا لِسُنَّتِ اَللّهِ تَحْوِيلاً و نقلا لعذابه من المكذّبين إلى غيرهم، و من المستحقّين إلى من عداهم، و عدم وجدانهما دليل على عدم وجودهما.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 44 الی 45

ثمّ استشهد سبحانه على سنّته السابقة في الامم بالآثار الباقية من المعذّبين الماضين بقوله: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا قيل: إنّ التقدير أقعد المشركين في منازلهم (3)و لم يسافروا فِي اَلْأَرْضِ و لم يذهبوا إلى الشام و اليمن و العراق للتجارة أو غيرها فَيَنْظُرُوا بنظر الاعتبار إلى الديار الخربة التي بقيت من الامم المهلكة، فيعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ تكذيب الامم اَلَّذِينَ عتوا على اللّه و كذّبوا الرّسل مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود و قوم سبأ؟ وَ الحال أنّهم كانُوا في حياتهم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فما أغنى عنهم شدّة القوى و عظمة الأجساد و طول الأعمار، مع أنّهم لم يكذّبوا مثل محمد صلّى اللّه عليه و آله وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعْجِزَهُ عن إنفاذ إرادته و تعذيب أعدائه مِنْ شَيْءٍ كائن فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ و لم يفته، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه و لا يفوتوه إِنَّهُ تعالى كانَ عَلِيماً بأعمالهم و عقائدهم الفاسدة و أخلاقهم الرذيلة قَدِيراً على تعذيبهم و إهلاكهم.

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

ص: 249


1- . تفسير روح البيان 7:361.
2- . تفسير أبي السعود 7:156، تفسير روح البيان 7:360.
3- . تفسير أبي السعود 7:157، تفسير روح البيان 7:362.

ثمّ بيّن سبحانه لطفه بالكفّار و العصاة بإمهالهم و عدم مؤاخذة كلّهم مع استحقاقهم لتعجيل العذاب عليهم بقوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ و يعجّل عقوبتهم بِما كَسَبُوا و كفرهم و عصيانهم في الأرض ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها واحدا مِنْ جنس دَابَّةٍ و متحرّك يتحرّك فيها بإنزال العذاب وَ لكِنْ بلطفه يُؤَخِّرُهُمْ و يمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت معين قدّره لموتهم بحكمته البالغة، أو قدّره لنزول العذاب عليهم، أو قدّره لحساب الناس، و هو يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المقدّر فَإِنَّ اَللّهَ يؤاخذهم و كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً لا يؤاخذهم أزيد من استحقاقهم، و لا أقلّ منه، و لا يأخذ البرئ بالمجرم و المؤمن بالكافر، بل يجازي كلاّ بعمله، إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ.

و قد مرّ ثواب تلاوة السورة المباركة في آخر سورة سبأ، و للّه الحمد و المنّة على توفيقه لاتمام تفسير السورة و له الشكر.

ص: 250

في تفسير سورة يس

سوره 36 (يس): آیه شماره 1 الی 6

ثمّ لمّا ختمت سورة الملائكة المبدؤة بإظهار غاية عظمة ذاته المقدّسة بجعل الملائكة رسلا المختتمة بلوم المشركين على كذبهم في دعوى أنّه إن جاءهم نذير لكانوا أشدّ تسليما و أكثر اتّباعا له من اليهود و النصارى لقوله: فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً (1)، أردفها بسورة يس المبتدئة ببيان منّته عليهم بإرسال خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و عظمة الكتاب النازل عليه، و هو القرآن المشتمل على الحكم و الأحكام، و جعله من أعظم معجزاته، و بيان إصرار المشركين على معارضته و تكذيبه، و غيرها من المطالب المرتبطة بالسورة السابقة، فافتتحها على دأبة بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ و قد مرّ تفسيره.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يس (1) وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)

ثمّ ابتدأ بذكر الحروف المقطّعة بقوله: يس. قيل: رمز عن خطاب يا أيّها السامع للوحي، كما عن الصادق عليه السّلام في (معاني الأخبار) (2)و عليه تكون (يا) حرف نداء و (السين) رمز عن السامع، و قيل: إنّها رمز عن كلمة سيّد البشر، أو سيّد المرسلين (3)، و الظاهر أنّه المراد من الروايات الكثيرة الدالة على أن يس اسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ عظّم سبحانه القرآن بحلفه به على صدق نبوة نبيّه بقوله: وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ و الكتاب الجامع للحكم التي لا نهاية لها، أو المحكم الذي لا يكسره شيء، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، أو الحاكم بين الخلق إلى يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، حيث يجب الرجوع إليه فيه.

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله: إِنَّكَ يا محمد لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ من قبل اللّه إلى خلقه

ص: 251


1- . فاطر:35/42.
2- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:244.
3- . تفسير روح البيان 7:365.

لهدايتهم و إرشادهم إلى ما هو الصواب من امور الدنيا و الآخرة، فليس للكفار أن يقولوا: لست مرسلا،

و إنك ثابت أو متمكّن عَلى صِراطٍ و طريق مُسْتَقِيمٍ موصل إلى أعلى مراتب كمال الانسانية و القرب منه، و أعلى درجات الجنة و الرضوان بلا انحراف و اعوجاج، و هو الاسلام المركّب من التوحيد و المعارف الإلهية و الأحكام العملية و الأخلاق الربانية، و إنّما وصف دينه بالاستقامة مع كون شرائع سائر الأنبياء مستقيمة لكون استقامته و إيصاله إلى المقصد الأعلى فوق استقامتها، و في توصيف القرآن البالغ حدّ الاعجاز في حسن الاسلوب و فصاحة البيان بالحكمة البالغة، أو الحكومة بين الناس مع كون الآتي به اميا، إشارة إلى كونه أقوى الأدلة على كونه واجدا للوصفين، و إنّما أتى بالدليل بصورة الحلف للتنبيه بعظمة القرآن، فانّ الحلف لا يكون إلاّ بأمر عظيم عند الحالف، و بأنّ البرهان قد اقيم على الأمرين مرارا بأبلغ بيان، فلم يبق إلاّ الحلف على المدّعى برجاء كونه سببا لوثوق المنكر به، فجمع سبحانه بين الاستدلال و الحلف بقوله: وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ أعني

تَنْزِيلَ الإله اَلْعَزِيزِ و القاهر لكلّ شىء، و القادر على عقوبة منكر القرآن و رسالة رسوله و دينه اَلرَّحِيمِ بمن أقرّ بالجميع، و العطوف بمن أطاعه و أطاع رسوله، أو المراد القاهر لعباده بجعل الأحكام الوجوبية و التحريمية، الرحيم بهم بجعل الأحكام الندبية و الكراهية و الإباحية، و إنّما وصفه بكونه تنزيلا من اللّه لكمال ظهور آثار النزول فيه، بحيث صحّ أن يقال مبالغة: إنّ هذا لمنزل عين النزول.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إرسال رسوله و تنزيل كتابه بقوله: لِتُنْذِرَ يا محمد و تخوّف قَوْماً و طائفة تكون فيهم ما أُنْذِرَ به و خوّف بتوسط سائر الأنبياء آباؤُهُمْ من العذاب. و قيل: يعني قوما الذين انذر آباؤهم (1)، أو قوما نحو ما انذر آباؤهم، كما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لتنذر القوم الذين أنت فيهم، كما انذر آباؤهم» (2).

أقول: على هذا يكون (ما) مصدرية. و قيل: إنّها نافية، و المعنى لتنذر قوما الذين ما انذر آباؤهم الأقربون لطول مدّة الفترة (3)و غيبة الأنبياء من بينهم، و إن انذر آباؤهم الأبعدون الذين كانوا في زمان إسماعيل و من بعده من الأنبياء العرب و العجم، فبعد غلبة الكفر و شيوعه و غيبة الأنبياء لم ينذروا، فصار الناس جميعا غافلين عن التوحيد و المعارف و المعاد، فصارت هذه الغفلة سببا لوجوب إنذارهم، كما قال سبحانه: فَهُمْ غافِلُونَ عن اللّه، و عن رسوله، و عن وعيده، كما عن الصادق عليه السّلام (4).

سوره 36 (يس): آیه شماره 7 الی 9

لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)

ص: 252


1- . تفسير الرازي 26:42، تفسير القرطبي 15:6.
2- . الكافي 1:358/90، تفسير الصافي 4:245.
3- . تفسير روح البيان 7:368.
4- . الكافي 1:358/90، تفسير الصافي 4:245.

ثمّ بيّن سبحانه لجاج القوم و امتناعهم من الايمان بقوله: لَقَدْ حَقَّ و ثبت و وجب اَلْقَوْلُ و الوعد الذي سبق منّا عند تهديد إبليس-حيث قلنا: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ (1)أو قولنا: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (2)- عَلى أَكْثَرِهِمْ لوضوح كونهم أهل الشّقاوة و الشّقاق فَهُمْ لخبث ذاتهم و انطباع قلوبهم لا يُؤْمِنُونَ بك و بكتابك و إنذارك أبدا، و لا يطيعونك في شيء أصلا.

ثمّ شبّه سبحانه الأخلاق الرذيلة المانعة عن إيمانهم بالغلّ العريض الذي يكون في العنق فيمنع الرأس من تطأطئه و انحنائه بقوله: إِنّا بتجبّلهم على الحسد و الكبر و الشّقاء، كأنّه جَعَلْنا و صيّرنا فِي أَعْناقِهِمْ و جيادهم أَغْلالاً غلاظا ثقالا فَهِيَ لكثرة غلظها و عرضها منتهية من الصدور إِلَى اَلْأَذْقانِ فَهُمْ لتلك الأغلال مُقْمَحُونَ رؤوسهم و رافعوها غير قادرين على تطأطئها و الالتفات بها.

فحاصل المعنى أنّ كفّار مكة لكثرة تكبّرهم و شدّة حسدهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [أبوا]تسليما و انقيادا له، و أن يلتفتوا إلى الحقّ، و أن يفتحوا عيونهم لرؤية معجزاته و آياته، و أن ينظروا إليه و إليها، و أن يؤمنوا بما جاء به.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «هذا في الدنيا، و في الآخرة في نار جهنم مقمحون» (3).

ثمّ شبّه سبحانه امتناعهم عن سلوك طريق الحقّ و الصراط المستقيم، و وقوفهم على الكفر [الذي]

عماهم عن رؤية المعجزات، بمن كان في أطرافه سدّ عظيم لا يمكنه الخروج منه، و لا رؤية ما في العالم من الأشياء بقوله: وَ جَعَلْنا و خلقنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ و تلقاء وجوههم سَدًّا عظيما وَ مِنْ خَلْفِهِمْ و ورائهم أيضا سَدًّا عظيما لا يمكنهم المشي لا من القبال و لا من الخلف، فلا يقدرون على الذّهاب إلى المقصد، و الرجوع إلى المأوى و المأمن فَأَغْشَيْناهُمْ و غطّينا رؤوسهم و أبصارهم بسبب السدّين، لغاية تقاربهما و ارتفاعهما، أو بغشاء آخر مانع عن إبصارهم فَهُمْ لذلك لا يُبْصِرُونَ شيئا من آيات الآفاق و الأنفس الدالات على وحدانية اللّه، و من المعجزات الدالة على نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و حقّانية دينه.

عن الباقر عليه السّلام: «يقول فأعميناهم فهم لا يبصرون الهدى، أخذ اللّه سمعهم و أبصارهم و قلوبهم،

ص: 253


1- . سورة ص:38/85.
2- . السجدة:32/13.
3- . الكافي 1:358/90، تفسير الصافي 4:245.

فأعماهم عن الهدى» (1).

روي أنّها نزلت في أبي جهل و صاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنّه يرضخ رأس محمد صلّى اللّه عليه و آله إن رآه في الصلاة، فرآه يوما (2)يصلي، فأخذ صخرة فرفعها ليرسلها على رأسه، فالتزقت بيده، و يده بعنقه، فرجع خائبا إلى قومه (3)، فنزلت: إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً إلى آخره، فقام الوليد بن المغيرة الخزومي، و قال: أنا أقتله بهذه الصخرة، فأخذ الصخرة، فجاء نحو النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا قرب منه عمي بصره، فكان يسمع صوته و لا يرى شخصه، فرجع إلى صاحبيه فلم يرهم حتى نادوه فأخبرهم بالحال، فنزل في حقّه: وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا إلى آخره.

و عن القمي: أنّها نزلت في أبي جهل بن هشام و نفر من أهل بيته، و ذلك أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قام يصلّي و قد حلف أبو جهل اللعين: لئن رآه يصلّي ليدمغه، فجاء و معه حجر و النبي صلّى اللّه عليه و آله قائم يصلي، فجعل كلّما رفع الحجر ليرميه، أثبت اللّه يده إلى عنقه، و لا يدور الحجر بيده، فلمّا رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده، ثمّ قام رجل آخر، و هو من رهطه أيضا، فقال: أنا أقتله، فلمّا دنا منه جعل يسمع قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فارعب و رجع إلى أصحابه، فقال: بيني و بينه [كهيئة]الفحل (4)يخطر بذنبه، فخفت أن أتقدّم (5).

سوره 36 (يس): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان شدّة امتناعهم عن الانقياد للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و عدم سلوكهم طريق الحقّ، و عدم رؤيتهم معجزاته، صرّج بعدم تأثير إنذاره في قلوبهم بقوله: وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ و لا يتفاوت في حقّهم أَ أَنْذَرْتَهُمْ و خوّفتهم من عذاب اللّه على الشرك و تكذيبهم نبوّتك و كتابك أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ و لم تعظهم، فانّ قلوبهم شرّ القلوب لأنّها لا تتّعظ بالعظة، فاعلم إذن أيّها النبي أنّهم لا يُؤْمِنُونَ بك حتى يأتيهم الموت، لكون ذواتهم في أعلى درجة الشقاوة، و قلوبهم في أقصى مرتبة القساوة، فلا تتعب نفسك في دعوتهم إلى الايمان، و لا تكن حريصا في وعظهم و إنذارهم، بل اكتف بما تتمّ به الحجّة عليهم.

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11)

ثمّ بيّن سبحانه اختصاص نفع الإنذار و الدعوة إلى الايمان بأصحاب القلوب الصافية و الآذان

ص: 254


1- . تفسير القمي 2:212، تفسير الصافي 4:244.
2- . زاد في النسخة: أن.
3- . تفسير الرازي 26:44، تفسير أبي السعود 7:160.
4- . في المصدر: العجل.
5- . تفسير القمي 2:212، تفسير الصافي 4:245.

السامعة بقوله: إِنَّما تُنْذِرُ الإنذار النافع في الهداية و الارشاد مَنِ لان قلبه و اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ و العظة، أو آمن بالقرآن و سلّم للبرهان وَ خَشِيَ بإنذارك اَلرَّحْمنَ و الإله الذي وسعت رحمته كلّ شيء و هو بِالْغَيْبِ و الحجاب عنهم، فيؤمن به و يعمل لمرضاته، أو خشي عقوبة الرحمن في الآخرة و أهوال القيامة التي تكون محجوبة عن أبصارهم فَبَشِّرْهُ يا محمّد، بعد الإنذار و تأثّره بالعظة و اتّباعه لها و قيامه بالأعمال الصالحة بِمَغْفِرَةٍ عظيمة لذنوبه وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ و ثواب جسيم مرضيّ له على إيمانه و أعماله.

سوره 36 (يس): آیه شماره 12

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببشارة المؤمنين بالثواب أخبر بمجيء الآخرة التي هي دار المغفرة و الثواب بقوله: إِنّا نَحْنُ بقدرتنا الكاملة نُحْيِ اَلْمَوْتى و نبعثهم بعد انقضاء الدنيا من القبور لجزاء الأعمال وَ نَكْتُبُ في الصّحف، و نثبت في الدفاتر بتوسّط الكرام الكاتبين، أو نكتب في اللّوح المحفوظ ما قَدَّمُوا و أسلفوا و أتوا به في زمان حياتهم من الأعمال خيرا أو شرا حسنة أو سيئة، وَ نكتب فيها آثارَهُمْ و ما أبقوه بعد موتهم من سنّة حسنة أو سيئة، أو ما يوجب انتفاع الناس به من علم أو كتاب، أو وقف أو حبس، و إشاعة باطل، أو بدعة، أو تأسيس ظلم، أو صنعة فيها فساد كاختراع آلة لهو، أو بناء كنيسة أو غيرها.

إِنّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)و قيل: إنّ المراد آثار أقدام الماشين إلى المساجد (1)، روى بعض العامة: أنّ جماعة من الصحابة بعدت دورهم عن مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، فأرادوا النفير (2)إلى جوار المسجد، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يكتب خطواتكم و يثيبكم عليها، فالزموا بيوتكم» (3).

و عن (المجمع) : أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد منازلهم من المسجد و الصلاة معه، فنزلت الآية» (4).

ثمّ بيّن سبحانه سعة علمه بكلّ شيء فضلا عن أعمال العباد بقوله: وَ كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء، و كلّ موجود من الموجودات من الجواهر و الأعرض و الأعمال و الأفعال و الأقوال، أو أجل أو رزق أو نصيب، أو إحياء و إماته أَحْصَيْناهُ و أثبتناه فِي إِمامٍ و أصل عظيم الشأن مُبِينٍ و مظهر

ص: 255


1- . تفسير روح البيان 7:375.
2- . في تفسير روح البيان: النقلة.
3- . تفسير روح البيان 7:375.
4- . مجمع البيان 8:653، تفسير الصافي 4:246.

لجميع الأشياء و الامور، و هو اللّوح المحفوظ. قيل: سمّي إماما لأن الملائكة يتّبعونه و يعملون به (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنا و اللّه الامام المبين، أبيّن الحقّ من الباطل، ورثته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (2).

و عن (الاحتجاج) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-قال: «معاشر الناس، ما من علم إلاّ علّمنيه ربّي، و أنا علّمته عليا، و قد أحصاه اللّه فيّ، و كلّ علم علمته أحصيته في إمام المتقين» (3).

و عن الباقر، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام قال: «لمّا نزلت الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قام أبو بكر و عمر من مجلسيهما، و قالا: يا رسول اللّه، هو التوراة؟ قال: لا. قال: هو الإنجيل؟ قال: لا. قال: فأقبل أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هو هذا، إنّه الإمام الذي أحصى اللّه فيه علم كلّ شيء» (4).

سوره 36 (يس): آیه شماره 13 الی 15

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله من المرسلين، و أن وظيفته إنذار قومه، و أنّ طائفة منهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، و طائفة منهم يؤمنون به و يفيد الانذار لهم فلنشملهم الرحمة و المغفرة، أمره سبحانه أنّ يذكر لقومه قصّة الرّسل المبعوثين إلى بلدة إنطاكية، و تطابق حالهم و حال قومهم لحاله و حال قومه بقوله: وَ اِضْرِبْ يا محمّد، و أذكر عند قومك، و بيّن لَهُمْ لتوضيح حالك و حالهم، و لطف اللّه بك و قهره على أعدائك مَثَلاً و قصة عجيبة هي في الغرابة كالمثل، و أعني بها أَصْحابَ اَلْقَرْيَةِ.

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ اَلرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ (15)قيل: إنّ التقدير مثل أصحاب القرية التي كانت بالرّوم تسمّى أنطاكية (5)إِذْ جاءَهَا و حين دخلها اَلْمُرْسَلُونَ و المبعوثون من قبل اللّه، أو من قبل عيسى الذي كان مبعوثا و رسولا من اللّه.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية مجيئهم إليها بقوله: إِذْ أَرْسَلْنا أولا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ من الرسل يدعوانهم إلى التوحيد و الايمان بشريعة عيسى عليه السّلام فَكَذَّبُوهُما في دعوى الرسالة و التوحيد فَعَزَّزْنا هما و قوّيناهما بِثالِثٍ من الرسل يقال له شمعون الصفا، و كان وصيّ عيسى عليه السّلام بعد رفعه إلى السماء فَقالُوا جميعا لأهل القرية: يا أهل القرية إِنّا إِلَيْكُمْ من جانب اللّه مُرْسَلُونَ فأنكروا رسالتهم،

و قالُوا في جوابهم: ما أَنْتُمْ أيها المدّعون للرسالة إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تأكلون الطعام

ص: 256


1- . تفسير الرازي 26:50.
2- . تفسير القمي 2:212، تفسير الصافي 4:347.
3- . الاحتجاج:60، تفسير الصافي 4:347.
4- . معاني الأخبار:95/1، تفسير الصافي 4:247.
5- . تفسير روح البيان 7:377.

و تمشون في الأسواق، لا مزيّة لكم علينا، و لا فضيلة لكم كي تخصّون بالرسالة دوننا، و لو كان للّه رسولا لكان ملكا، ثمّ بالغوا في التكذيب بقولهم: وَ ما أَنْزَلَ اللّه الإله الذي تقولون إنّه اَلرَّحْمنُ و من شأنه الرحمة و الرسل إليكم من السماء مِنْ شَيْءٍ من الكتاب و الملائكة إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ في دعوى الرسالة و التوحيد و نزول الكتاب، و ما أنتم إلاّ تفترون على اللّه في أنّه أرسلكم إلينا لهدايتنا.

سوره 36 (يس): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ لمّا رأى الرسل إصرار القوم في تكذيبهم، بالغوا في الدعوى، و أكّدوها بالحلف، و قالُوا يا قوم رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ من قبله، و إن كذّبتمونا، و لا يضرّنا إنكاركم علينا، لأنّه ليس وظيفتنا

وَ ما الواجب عَلَيْنا من قبل ربّنا اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و التبليغ الواضح بإظهار رسالتنا، و إظهار المعجزات الشاهدة على صدقنا، و ما قصّرنا في العمل بما هو وظيفتنا و أداء ما هو في عهدتنا، و أمّا إجباركم على الايمان، فليس بواجب علينا، و لا في وسعنا، فإن أصررتم على الكفر كان وباله عليكم.

قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ ما عَلَيْنا إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (17)حكى بعض العامة: أنّ عيسى عليه السّلام بعث رجلين من الحواريين قبل رفعه إلى السماء إلى بلدة أنطاكية، و كان أهلها يعبدون الأصنام، فلمّا أمرهما أن يذهبا إلى البلدة، قالا: يا نبي اللّه، انّا لا نعرف لسان القوم، فدعا اللّه لهما فناما مكانهما فلمّا استيقظا، و قد حملتهما الملائكة و ألقتهما إلى أرض أنطاكية، فكلّم كلّ واحد صاحبه بلغة القوم، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له، و هو حبيب النجار، و كان ينحت الأصنام، و يقال له صاحب يس، لأنّ اللّه تعالى ذكره في سورة يس، فسلّما عليه، فقال لهما: من أنتما؟ فأخبراه بأنّهما رسل عيسى، و قالا: جئنا لنهديكم إلى دين الحقّ، و نرشدكم إلى الصراط المستقيم، و هو توحيد اللّه و عبادته. فقال الشيخ: ألكما على صدق دعواكم دليل واضح؟ قالا: نعم، نحن نشفي المريض و نبرئ الأكمه و الأبرص باذن اللّه، و كان لهما ما لعيسى من المعجزة بدعاء عيسى عليه السّلام، فقال الشيخ: إنّ لي ابنا مجنونا قد عجزت الأطباء من علاجه، فاشفياه من مرضه، فذهب بهما إلى داره، فدعوا اللّه و مسحا المريض، فقام باذن اللّه صحيحا، فآمن حبيب، و فشا الخبر، و شفي على أيديهما خلق كثير، و بلغ حديثهما إلى الملك، و اسمه بحناطيس الرّومي، أو انطيخس، أو شلاحن، فطلبهما فأتياه، فاستخبر عن حالهما، فقالا: نحن رسل عيسى عليه السّلام، ندعوك إلى عبادة ربّ واحد. فقال: ألنا ربّ غير آلهتنا؟ قالا: نعم، و هو من أوجدك و آلهتك، من آمن به دخل الجنة، و من

ص: 257

كفر به دخل النار، فغضب الملك و ضربهما و حبسهما.

فانتهى ذلك إلى عيسى عليه السّلام فبعث ثالثا و هو شمعون لينصرهما، فجاء شمعون القرية متنكّرا، فعاشر [حاشية الملك]حتى استأنسوا به، و رفعوا حديثه إلى الملك، فطلبه و أنس به، و كان شمعون يظهر موافقته في دينه، حيث كان إذا دخل معه على الصنم يصلّي و يتضرّع، و هو يظنّ أنّه من أهل دينه، فقال شمعون يوما للملك: بلغني أنّك حبست رجلين دعواك إلى إله غير إلهك، فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلامهما و أخاصمهما عنك؟ فدعاهما.

و في بعض الروايات: أنّ شمعون لمّا ورد أنطاكية دخل السجن أولا حتى انتهى إلى صاحبيه، فقال لهما: ألم تعلما أنّكما لا تطاعان (1)إلاّ بالرّفق و اللّطف؟ إنّ مثلكما مثل المرأة لم تلد زمانا من دهرها، ثمّ ولدت غلاما، فأسرعت بشأنه فأطعمته الخبز قبل أوانه فغصّ به فمات، فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء.

ثمّ انطلق إلى الملك، فاستدعاهما-بعد التقرّب إليه-للمخاصمة، فلمّا حضرا قال لهما شمعون: من أرسلكما؟ قالا: اللّه الذي خلق كلّ شيء، و ليس له شريك. فقال: صفاه و أوجزا. قالا: يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد. قال: و ما برهانكما على ما تدّعيانه؟ قالا: ما يتمنّى الملك. فجيء بغلام مطموس العينين بحيث لا يتميّز موضع عينيه من جبهته، فدعوا اللّه حتى انشّق له موضع البصر، فاخذا بندقتين من الطين، فوضعاهما في حدقتيه، فصارتا مقلتين ينظر بهما، فتعجّب الملك، فقال له شمعون: أرايت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك و له الشرف؟ قال: ليس لي عنك سرّ مكتوم، إنّ إلهنا لا يبصر و لا يسمع و لا يضرّ و لا ينفع.

ثمّ قال لهما الملك: إنّ هنا غلاما مات منذ سبعة أيام، كان لأبيه ضيعة قد خرج إليها، و أهله ينتظرون قدومه، و استأذنوا في دفنه، فأمرتهم أن يؤخّروه حتى يحضر أبوه، فهل يحييه ربّكما؟ فأمر بإحضار ذلك الميت، فدعوا اللّه علانية، و دعا شمعون سرّا، فقام الغلام الميت حيّا بإذن اللّه، و قال: لمّا متّ و فارق روحي من جسدي برزت على سبعة أودية من النار لموتي على الكفر، و أنا احذّركم عمّا أنتم عليه من الشّرك، و رأيت أنّ أبواب السماء مفتوحة، و عيسى عليه السّلام قائما تحت العرش، و هو يقول: ربّ انصر رسلي. فأحياني اللّه و أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ عيسى روح اللّه و كلمته، و أنّ هؤلاء الثلاثة رسل اللّه. قال الملك: و من الثلاثة؟ قال الغلام: شمعون، و هذان. فتعجّب الملك، فلمّا رأى شمعون أنّ قول الغلام أثّر في الملك أخبره بالحال، و أنّه رسول المسيح إليهم و نصحه، فآمن الملك فقط

ص: 258


1- . في النسخة: تطلقان.

خفية على خوف من عتاة ملّته، و أصرّ قومه على الكفر، فرجموا الرّسل بالحجارة، و قالوا: إنّ كلمتهم واحدة، و قتلوا حبيب النجّار و أبا الغلام الذي أحيي لأنّه أيضا كان قد آمن (1). و قيل: إنّ الملك أيضا أصر [على]كفره (2).

عن القمي رحمه اللّه، عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل عن تفسير هذه الآية، فقال: «بعث اللّه رجلين إلى أهل مدينة أنطاكية، فجاءهم بما لا يعرفون، فغلّظوا عليهما، فأخذوهما و حبسوهما في بيت الأصنام، فبعث اللّه الثالث، فدخل المدينة فقال: أرشدوني إلى باب الملك، فلمّا وقف على الباب قال: أنا رجل كنت أتعبّد في فلاة من الأرض، و قد أحببت أن أعبد إله الملك، فأبلغوا كلامه الملك، فقال: أدخلوه إلى بيت الآلهة. فأدخلوه، فمكث سنة مع صاحبيه، فقال لهما: أينقل من دين إلى دين بالخرق، أفلا رفقتما؟ ثمّ قال لهما: لا تقرّان بمعرفتي.

ثمّ ادخل على الملك، فقال له الملك: بلغني أنّك كنت تعبد إلهي، فلم أزل و أنت أخي فسلني حاجتك فقال: مالي حاجة أيّها الملك، و لكن رأيت رجلين في بيت الآلهة، فما حالهما؟ فقال الملك: هذا رجلان أتياني ببطلان ديني، و يدعواني إلى إله سماويّ. فقال: أيها الملك فمناضرة جميلة، فان يكن الحق لهما اتبعناهما، و إن يكن الحقّ لنا دخلا معنا في ديننا، و كان لهما ما لنا، و عليهما ما علينا.

فبعث الملك إليهما، فلمّا دخلا عليه، قال لهما صاحبهما: ما الذي جئتما به؟ قالا: جئنا ندعو إلى عبادة اللّه الذي خلق السماوات و الأرض، و يخلق في الأرحام ما يشاء، و يصوّر كيف يشاء، و أنبت الأشجار و الثمار، و أنزل القطر من السماء.

فقال لهما: إلهكما هذا الذي تدعوان إليه و إلى عبادته، إن جئنا بأعمى يقدر أن يردّه صحيحا؟ قالا: إن سألناه أن يفعل فعل إن شاء. قال: أيّها الملك عليّ بأعمى لم يبصر شيئا قطّ. فأتي به، فقال لهما: ادعوا إلهكما أن يردّ بصر هذا. فقاما و صلّيا ركعتين، فاذا عيناه مفتوحتان، و هو ينظر إلى السماء. فقال: أيّها الملك عليّ بأعمى آخر. فاتي به فسجد سجدة، ثمّ رفع رأسه، فاذا الأعمى يبصر.

فقال: أيّها الملك حجّة بحجّة. عليّ بمقعد. فاتي به، فقال لهما مثل ذلك، فصلّيا و دعوا اللّه، فاذا المقعد قد أطلقت رجلاه و قام يمشي، فقال: أيّها الملك، عليّ بمقعد آخر فاتي به، فصنع به كما صنع أوّل مرّة، فانطلق المقعد، فقال: أيّها الملك، قد أتيا بحجّتين، و أتينا بمثلهما، و لكن بقي شيء آخر، فان كانا فعلاه دخلت معهما في دينهما، ثمّ قال: أيّها الملك، بلغني أنّه كان لك ابن واحد و مات، فان

ص: 259


1- . تفسير روح البيان 7:378.
2- . تفسير روح البيان 7:380.

أحياه إلههما، دخلت معهما في دينهما. فقال له: و أنا أيضا معك.

ثمّ قال لهما: قد بقيت خصلة واحدة، قد مات ابن الملك، فادعوا إلهكما أن يحييه، فخرّا ساجدين للّه عزّ و جلّ، و أطالا السّجود، ثمّ رفعا رأسهما، و قالا للملك: ابعث إلى قبر ابنك تجده قد قام من قبره إن شاء اللّه، فخرج الناس ينظرون، فوجوده قد خرج من قبره ينفض رأسه من التّراب، فاتي به إلى الملك، فعرف أنّه ابنه، فقال: ما حالك يا بني؟ قال: كنت ميتا، فرأيت رجلين بين يدي ربّي الساعة ساجدين يسألانه أن يحييني فأحياني. قال: يا بني، تعرفهما؟ قال: نعم، فأخرج الناس إلى الصحراء، فكان يمرّ عليه رجل رجل فيقول أبوه: انظر، فيقول: لا، ثمّ مرّوا عليه بأحدهما بعد جمع كثير، فقال: هذا أحدهما، و أشار بيده إليه، ثمّ مرّوا أيضا بقوم كثيرين حتى رأى صاحبه الآخر، و قال: هذا الآخر، فقال النبيّ صاحب الرجلين: أمّا أنا فقد آمنت بإلهكما، و علمت أنّ ما جئتما به هو الحقّ. فقال الملك: و أنا أيضا آمنت بإلهكما، و آمن أهل مملكته كلّهم» (1).

سوره 36 (يس): آیه شماره 18 الی 21

ثمّ لمّا عجز القوم عن الاحتجاج، و ضاقت عليهم الحيل، سلكوا طريق العناد و اللّجاج و قالُوا: أيّها المدّعون للرسالة إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ و تشأمنا بقدومكم في بلدنا، إذ منذ قدمتم انقطع عنّا المطر، و ابتلينا بالبلايا و الشرور-على ما قيل-فاخرجوا من بيننا، أو انتهوا عن دعوتكم (2)، و اللّه لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عمّا تقولون، و لم تمتنعوا عن مقالتكم، و لم ترتدعوا عن دعوتكم لَنَرْجُمَنَّكُمْ و لنرمينّكم بالحجارة وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ و ليصيبكم مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ و هو القتل بالأحجار.

قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ (20) اِتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21)

و قيل: إنّ المراد بالرجم السبّ و الشتم، و المعنى لنشتمنّكم، بل لا نكتفى به، فان لم ترتدعوا بالشتم لنضربنّكم و نقتلنكم (3)، فأجابهم الرّسل و قالُوا: يا قوم طائِرُكُمْ و سبب شؤمكم مَعَكُمْ و هو كفركم باللّه، و طغيانكم عليه، و تكذيبكم رسله، فانّه سبب ابتلائكم بالبلايا و الشرور، و ليس ذلك منّا. ثمّ لاموهم على تطيّرهم و توعيدهم بقولهم: أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ و وعظتم و ارشدتم إلى ما فيه خيركم و سعادتكم و نصحتم بما فيه صلاح دنياكم و آخرتكم، و تطيّرتم بالمرشد الناصح، أو توعّدتموه

ص: 260


1- . تفسير القمي 2:213، تفسير الصافي 4:247. (2 و 3) . تفسير روح البيان 7:381.

بالرّجم و التعذيب؟ ! ليس هذا طريق الإنصاف و سلوك الشاعر العاقل بَلْ أَنْتُمْ أيها الناس قَوْمٌ مُسْرِفُونَ و متجاوزون عن حدّ العقل و الانصاف، متوغلون في الجهل و العدوان و الظلم و الظّغيان، فلمّا سمع حبيب النجّار الذي آمن بالرسل قبل ورودهم في المدينة معارضة القوم للرسل، و تصميمهم على قتلهم،

جاء لنصرتهم كما حكاه سبحانه بقوله: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ و أبعد مكان منها، و هو ما يقرب من بابها، و كان دورها اثني عشر ميلا على ما قيل (1)رَجُلٌ عظيم الشأن عند اللّه لإيمانه و كماله في الصفات الوجودية، و هو يَسْعى و يسرع في مشيه، لئلا يفوت عنه نصرة الرسل بقتلهم و رجمهم، و قالَ إشفاقا لقومه: يا قَوْمِ إن أردتم خير الدنيا و الآخرة اِتَّبِعُوا و أطيعوا هؤلاء اَلْمُرْسَلِينَ الذين يدعونكم إلى توحيد اللّه و خلوص العبادة له.

قيل: إنّه بعد ذلك سأل الرسل: أتريدون على رسالتكم أجرا؟ قالوا: لا. فقال: يا قوم (2)اِتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ و لا يطلب منكم أَجْراً و مالا على إرشادكم إلى الحقّ، و تعليمكم المعارف و الأحكام الإلهية وَ هُمْ مُهْتَدُونَ إلى خير دينكم و دنياكم، عالمون بما فيه صلاح معاشكم و معادكم، فبيّن وجود المقتضي لاتّباعهم، و هو كونهم مهتدين و عالمين بالمصالح و المفاسد، و عدم المانع و هو الضرر المالي فيه.

سوره 36 (يس): آیه شماره 22 الی 24

ثمّ بالغ في ترغيبهم إلى اتّباعهم ببيان أنّهم لا يدعون إلاّ إلى ما يحكم به كلّ عقل سليم، و إن ما يرغّبهم فيه هو الذي اختاره لنفسه بقوله: وَ ما لِيَ و أي داع يدعوني إلى أن أعبد الأخشاب و الأحجار التي لا تنفعني و لا تضرّني و لا أَعْبُدُ الإله القادر اَلَّذِي فَطَرَنِي و أخرجني بقدرته من كتم العدم إلى عالم الوجود، و أنعم عليّ بنعمة الحياة في البدو؟ وَ أنتم إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الموت، و تعاقبون على الإشراك به و تكذيب رسله، فجمع بين غاية الترغيب و الترهيب.

وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)

ثمّ بيّن كون عبادة غير اللّه سفها لا يرتكبه من شمّ رائحة العقل بإنكاره من نفسه بقوله: أَ أَتَّخِذُ و أختار لنفسي غير الإله الذي فطرني و مِنْ دُونِهِ آلِهَةً و معبودين كالأصنام و الكواكب و غيرهما مع أنّه إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمنُ و الإله الواسع الرحمة بِضُرٍّ و مكروه لسوء عملي لا تُغْنِ عَنِّي و لا

ص: 261


1- . تفسير روح البيان 7:383.
2- . تفسير القرطبي 15:18.

تنفعني شَفاعَتُهُمْ عنده في حقّي شَيْئاً يسيرا من النفع، لعدم كونهم أهلين للشفاعة وَ لا هم بقدرتهم يُنْقِذُونِ ني و يخلّصونني من الضرّ، لكون عجزهم إلى الغاية.

ثمّ بيّن غاية ضلال عبدة الأصنام بألطف بيان بقوله: إِنِّي إِذاً و حين اتّخاذي إلها غير اللّه، و اللّه لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن طريق العقل و مسلك العقلاء، بحيث لا يخفى على أحد ممّن شمّ رائحة العقل و الإدراك.

سوره 36 (يس): آیه شماره 25 الی 27

ثمّ لمّا بيّن وجوب اتّباع الرسل الدّعاة إلى التوحيد، و كون الشّرك غاية السّفه و الضلال بالبرهان المطويّ في كلامه، أعلن بإيمانه بقوله: إِنِّي يا قوم آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي هو ربّي و ربّ كلّ شيء، فاسمعوني و أجيبوني في وعظي و نصحي، و أقبلوا قولي.

إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ (27)قيل: إنّه خاطب الرسل بذلك حين أراد القوم قتله، و مقصوده إصغاؤهم إلى إقراره بالتوحيد، ليشهدوا به عند اللّه (1).

قيل: أطال الكلام مع القوم ليشغلهم عن قتل الرسل، إلى أن قال: إني آمنت بربكم فَاسْمَعُونِ فوثبوا عليه فقتلوه، و باشتغالهم بقتله تخلّص الرسل (2).

قيل: إنّهم وطئوه حتى خرجت أمعاؤه من دبره (3). و قيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه (4)، و قيل: خرقوا خرقا في حلقه، ثمّ علقوه (5)من وراء سور المدينة (6). و قيل: ألقوه في بئر يقال له الرّس، و قبره في سوق أنطاكية (7).

قيل: إنّ اسم ابيه مري، و كان من نسل إسكندر الرومي (8).

روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «سبّاق الامم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين: علي بن أبي طالب، و صاحب يس، و مؤمن آل فرعون» (9).

أقول: هذا مناف لما حكوه من أنّه كان ينحت الأصنام و آمن في سنّ الشيخوخة على يدي الرسل،

ص: 262


1- . مجمع البيان 8:658.
2- . تفسير روح البيان 7:386.
3- . تفسير القرطبي 15:19.
4- . تفسير القرطبي 15:19، تفسير روح البيان 7:386.
5- . في تفسير القرطبي: حرقوه حرقا، و علقوه.
6- . تفسير القرطبي 15:19.
7- . تفسير روح البيان 7:386.
8- . تفسير روح البيان 7:383.
9- تفسير روح البيان 7:383.

و في (المجالس) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس الذي يقول: اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ، و حزقيل مؤمن آل فرعون، و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم» (1).

و في (الخصال) عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين: مؤمن آل يس، و علي بن أبي طالب، و آسية امرأة فرعون» (2).

ثمّ حكى سبحانه لطفه به بعد قتله بقوله تعالى: قِيلَ له بشارة من قبل اللّه بأنّه من أهل الجنة، أو إكراما، أو إذنا: يا حبيب اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ التي اعدّت للمتّقين، فلمّا رأى كرامته على اللّه بتوحيده و إيمانه قالَ تمنّيا لعلم قومه بما ناله من الكرامة و النّعم الدائمة: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي من ذنوبي وَ جَعَلَنِي عنده بلطفه مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ و المتنعمين في الجنة، فيحملهم علمهم بحالي على التوبة من الكفر، و قبول الايمان، و القيام بطاعة اللّه. في الحديث العامي: «نصح قومه حيا و ميتا» (3).

سوره 36 (يس): آیه شماره 28 الی 30

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إكرامه للمؤمن، بيّن قهره على أعدائه و كيفية اهلاكهم بقوله: وَ ما أَنْزَلْنا إذ قتل حبيب عَلى قَوْمِهِ الذين عادوه و قتلوه مِنْ بَعْدِهِ لإهلاكهم مِنْ جُنْدٍ و عسكر من الملائكة مِنَ اَلسَّماءِ كما أنزلنا يوم بدر و احد و الخندق وَ ما كُنّا و لم يكن مناسبا لقدرتنا و حكمتنا أن نكون مُنْزِلِينَ للملائكة لإهلاك قوم و نصرة نبي، بل كان إنزال الملائكة من خصائصك و كرامتك،

بل إِنْ كانَتْ و ما وجدت بأمرنا لاهلاكهم إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً.

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ ما كُنّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)روي أنّ اللّه بعث جبرئيل، فصاح عليهم صيحة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ و ميّتون، لا يسمع لهم حسيس، و لا ترى لهم حركة، و كانوا كسراج اطفي بريح، أو كنار خمدت بماء في السهولة السرعة (4). قيل: وقعت الصيحة في اليوم الذي قتلوه (5). و قيل: في الساعة التي عادوا فيها بعد قتله إلى منازلهم فرحين مستبشرين (6). و قيل: في اليوم الثالث من قتله (7).

ص: 263


1- . أمالي الصدوق:563/760، تفسير الصافي 4:250.
2- . الخصال:174/230، تفسير الصافي 4:250.
3- . تفسير روح البيان 7:387.
4- . تفسير روح البيان 7:388.
5- . تفسير روح البيان 7:389.
6- . تفسير روح البيان 7:389.
7- . تفسير روح البيان 7:388.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أربعة مدائن من مدائن النار: أنطاكية، و عمّورية، و قسطنطينة، و ظفار اليمن» . قيل: إنّه بلدة قريبة من صنعاء ينسب إليها الجزع (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إهلاك أهل أنطاكية، أظهر حبّه بعباده المخلوقين بقدرته بإظهار التحسّر على المكذّبين بالرّسل، و إراءة ذاته المقدّسة كالمتحسّر عليهم مع تقدّسه عن العوارض البشرية و الإمكانية بقوله: يا حَسْرَةً شديدة عَلَى اَلْعِبادِ المخلوقين في العالم لتحصيل العلوم و المعارف الإلهية، و تكميل النفوس لنيل الرحمة و النّعم الدائمة احضري، فانّ هذا الوقت الذي يصرّ العباد على الكفر وقت حضورك، فانّهم ما يَأْتِيهِمْ من قبل اللّه مِنْ رَسُولٍ لهدايتهم و تعليمهم و تربيتهم لطفا بهم و رحمة عليهم إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مع أنّ في قبولهم نصائحه و اتّباعهم أوامره سعادة الدارين.

قيل: إنّ بإنشاء هذا النداء حضرت محضر الحسرة في النفوس القدسية و الأوراح المجرّدة و القلوب الزاكية المطهّرة، بل في جميع الحيوانات و النباتات و الجمادات.

سوره 36 (يس): آیه شماره 31

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار الحسرة على المكذّبين بالرّسل الذين كانوا في القرون الماضية، و في عصر خاتم النبيين، أظهر العجب من عدم اعتبارهم من هلاك الامم المستهزئة بالرسل بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا أولئك المكذّبون و المستهزئون، و لم يعلموا علما يشابه الرؤية أنا كَمْ أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال قَبْلَهُمْ و في الأعصار و الأزمنة السابقة على عصرهم مِنَ اَلْقُرُونِ و الامم المكذبة بالرسل المستهزئة بهم؟ ! و لم يروا بعد إهلاكهم أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ في الدنيا لا يَرْجِعُونَ بل انقطعوا عن الدنيا بالكلية.

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31)و ممّا تضحك به الثكلى ما قاله إسماعيل الحقّي في (روح البيان) من أنّه يجب إكفار الروافض في قولهم بأنّ عليا و أصحابه يرجعون إلى الدنيا، فينتقمون من أعدائهم، و يملأون الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا، و ذلك القول مخالف للنصّ، نعم إنّ روحانية [علي رضى اللّه عنه]من وزراء المهدي في آخر الزمان على ما عليه أهل الحقائق (2). فانّ كلامه سخيف-لظهور فساده، و دلالته على عدم فهمه و عدم اطلاّعه على مذهب الطائفة المحقّة الذين هم أعلى شأنا من أن يجري اسمهم على لسان هذا الصوفي العاميّ-لا بأهل للجواب.

ص: 264


1- . تفسير روح البيان 7:377.
2- . تفسير روح البيان 7:390.

قيل: إنّ المراد أنّ الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب و لا ولادة، و هو كناية عن انقطاع نسلهم من الدنيا (1).

سوره 36 (يس): آیه شماره 32 الی 35

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم رجوعهم إلى الدنيا و انقطاعهم عنها، أخبر باجتماعهم مع الباقين في القيامة بقوله: وَ إِنْ كُلٌّ من المهلكين و الباقين، و ما واحد منهم لَمّا جَمِيعٌ و مجتمع مع الآخرين لَدَيْنا يوم القيامة مُحْضَرُونَ و إلى موقف الحساب يساقون للحساب و الجزاء.

وَ إِنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَ جَعَلْنا فِيها جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ اَلْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (35)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المشركين بما نزل على الامم المهلكة، و حضورهم بعد الموت في محضر عدله، ذكر بعض الآيات العظيمة الدالّة على وحدانيته و قدرته على البعث بعد الموت بقوله: وَ آيَةٌ عظيمة و دلالة واضحة لَهُمُ على التوحيد و كمال قدرته على البعث بعد الموت اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ و اليابسة التي لا نبات لها، أمّا كيفية آيتيتها هو أنّا أَحْيَيْناها و أنبتنا فيها نباتات مختلفة كثيرة، و من أهمّ منافع إحيائها أنّا أنبتنا وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا عظيم النفع كالبرّ و الشعير اللذين يتقوّت بهما فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ و به يتعيّشون

وَ جَعَلْنا في الأرض و خلقنا فِيها جَنّاتٍ و بساتين متشكّلة مِنْ نَخِيلٍ و أنواع مختلفة من شجر التمر وَ من أعناب متنوعة وَ فَجَّرْنا و شققنا فِيها كثيرا مِنَ اَلْعُيُونِ النابعة

لِيَأْكُلُوا بعد خلق ما ذكر من البساتين، أو بعد تفجير العيون مِنْ ثَمَرِهِ الحاصل منه، وَ من ما عَمِلَتْهُ و اتّخذته أَيْدِيهِمْ منه من العصير و الدّبس و نحوهما.

و قيل: إنّ كلمة (ما) نافية، و الحال أنّ الثمر ليس ممّا عملته أيديهم، بل يكون ممّا خلقه اللّه (2).

ثمّ وبّخ سبحانه الناس على ترك شكر هذه النعمة بقوله تعالى: أَ فَلا يَشْكُرُونَ المنعم بالإقرار بتوحيده تقديسه و تحميده، مع أنّ الواجب بحكم العقل شكر المنعم.

سوره 36 (يس): آیه شماره 36 الی 38

سُبْحانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (38)

ص: 265


1- . تفسير روح البيان 26:64.
2- . تفسير أبي السعود 7:166، تفسير روح البيان 7:394.

ثمّ لمّا كان المشركون كفروا هذه النّعم بجعل الشريك له تعالى، نزّه ذاته عن الشريك بقوله: سُبْحانَ الإله القادر اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته الكاملة اَلْأَزْواجَ و الأصناف من المخلوقات كُلَّها ثمّ فصّل سبحانه أنواع الممكنات و المخلوقات بقوله: مِمّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ كالأشجار و الثّمار و الزّروع و الحبوب و الحشائش و غيرها ممّا يأكل الناس و الأنعام وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ذكرانا و إناثا وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ به و لا يطّلعون عليه من المجرّدات و المادّيات و البرّيات و البحريات.

قيل: إنّ دوابّ البرّ و البحر ألف صنف لا يعلم الناس أكثرها (1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النّطفة تقع من السماء إلى الأرض على النبات و الثمر و الشجر، فيأكل الناس منه و البهائم، فتجري فيهم» (2).

وَ آيَةٌ عظيمة اخرى لَهُمُ تدلّ على وحدانية رّبهم، و هي اَللَّيْلُ المظلم و بيان كيفية آيتيته هو أنّا نَسْلَخُ و نزيل مِنْهُ اَلنَّهارَ بحيث لا يبقى منه شيء من ضوئه، كما يزال جلد الغنم منه فَإِذا هُمْ بعد كشف النهار عن مكانه مُظْلِمُونَ و محاطون بسواد الليل.

و عن الباقر-في تأويله- «يعني قبض محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ظهرت الظّلمة، فلم يبصروا فضل أهل بيته» (3).

وَ كذا اَلشَّمْسُ المضيئة المشرقة آية عظيمة لهم حيث إنّها تَجْرِي و تسير لِمُسْتَقَرٍّ لَها و إلى حدّ ينتهي إليه دورها في آخر السنة، كسير المسافر إلى المقصد الذي ينتهي إليه سيره.

و قيل: إنّ مستقرّها وسط السماء، فشبّه سبحانه بطء سيرها و حركتها هناك بالوقوف (4).

و قيل: إنّ مستقرّها هو البرج الذي يكون بعد البرج الذي تكون فيه، فانّ سيرها في برجها يترتّب عليه استقرارها في البرج الذي بعده شهرا (5).

و قيل: إنّ المستقرّ اسم زمان انقطاع سيرها، و هو عند خراب العالم، أو المراد وقت قرارها و تغير حالها بالطّلوع من مغربها (4)، كما عن أبي ذرّ في رواية عامية، قال: دخلت المسجد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس، فلمّا غابت الشمس قال: «يا أبا ذرّ، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟» فقلت: لا، اللّه و رسوله أعلم. فقال: «تذهب و تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، و يوشك أن تسجد و لا يقبل منها،

ص: 266


1- . تفسير روح البيان 7:395.
2- . تفسير القمي 2:215، تفسير الصافي 4:253.
3- . الكافي 8:380/574، تفسير الصافي 4:253. (4 و 5) . تفسير روح البيان 7:397.
4- . تفسير روح البيان 7:398.

و تستأذن فلا يؤذن لها، و يقال لها: أرجعي إلى حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله: وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» (1).

و في (المجمع) عنهما عليهما السّلام: «لا مستقرّ لها» (2).

ذلِكَ الجري البديع الموافق للحكم الكثيرة التي عجزت عن فهمها العقول و الأفهام تَقْدِيرُ الإله اَلْعَزِيزِ القاهر بقدرته لكلّ شيء، و بإرادته و تدبيره اَلْعَلِيمِ بمصالح العالم و جميع الحكم. قيل: إنّ من تفكّر في سير الشمس علم أنّه على الوجه الأنفع الأصلح لنظام العالم، و لا يكون ذلك إلاّ بتدبير العليم الحكيم، فانّ من المعلوم أنّها في كلّ يوم من ستة أشهر يكون خطّ سيرها غير خطّ السير الذي يكون لها في الأيام الاخر، لأنّه لو كان سيرها في جميع الأيام على خطّ واحد لا حترقت الأرض المسامتة لمسيرها، و فسدت الأراضي غير المسامتة لاستيلاء الرطوبات المجتمعة فيها في الأشياء، و لذا قدّر سبحانه قربها من جميع قطعات الأرض بالتدريج، لتخرج النباتات من قطعات الأرض، و الثّمار من أشجارها، و تنفتح و تجفّ، ثمّ تبعد كيلا تحترق الأرض و الأشجار (3).

سوره 36 (يس): آیه شماره 39 الی 40

ثمّ أنّه تعالى قدّر لها طلوعا و غروبا، لئلا تكلّ القوى بكثرة السير و التعب، و لا يختلّ النظام بسبب الظّلمة الدائمة، ثمّ أنّه تعالى قدّر لها سيرا أبطأ من سير القمر، و أسرع من سير زحل، فلو كانت بطيئة السير لدامت زمانا طويلا في مسامته شيء واحد فتحرقه، و لو كانت سريعة السير لما حصل منها النفع المقصود من تخفيف الرطوبات و نضج الأثمار و تربية المعادن و الأبدان و غيرها.

وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ (39) لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سابِقُ اَلنَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)وَ قدرنا اَلْقَمَرَ يعني قَدَّرْناهُ و عيّنا له مَنازِلَ كلّ ليلة ينزل في منزل لا يتخطّاه و لا يتقاصر عنه حَتّى عادَ في الدقّة و الصّفرة و التقوّس كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ و عود العذق العتيق من شمراخه و رأسه إلى منبته، فإنّه إذا يبس و عتق صار أدقّ و أقوس، و عود القمر إلى هذه الحالة في ليلة السابع و العشرين في عيون الناظرين، و إن كان في الواقع عظيما.

ثمّ بين سبحانه كون الشمس و القمر مسخّرين و سائرين على وفق الحكمة بقوله: لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي و يتيسّر و يصحّ لَها مع إرادة اللّه كونها أبطأ سيرا و متأخرة من القمر أَنْ تُدْرِكَ في

ص: 267


1- . تفسير روح البيان 7:398.
2- . مجمع البيان 8:663، و لم ينسبه إليهما عليهما السّلام، تفسير الصافي 4:253.
3- . تفسير الرازي 26:72.

سيرها اَلْقَمَرَ و تساوقه فيه، بأن تسير في بروجها الاثني عشر في شهر كما يسير القمر في بروجها الاثني عشر، و إلاّ يلزم حصول الفصول الأربعة فيه.

و احتمل بعض كون المراد من الإدراك البلوغ في الآثار، و إنّ لكلّ منهما أثرا يخصّه لا يمكن للآخر وجدان ذلك الأثر، أو المراد البلوغ في المكان، فانّ لكلّ منهما فلكا لا يمكن اجتماعهما في مكان واحد وَ لاَ اَللَّيْلُ سابِقُ اَلنَّهارِ و معجزه من أن يأتي بعده و ينتهي إليه، فتكون جميع الأوقات ليلا، بل النهار يناوبه.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «يقول الشمس سلطان النهار، و القمر سلطان الليل، لا ينبغي للشمس أن تكون مع ضوء القمر بالليل، و لا يسبق الليل النهار، يقول لا يذهب الليل حتى يدركه النهار» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «النهار خلق قبل الليل» و في قوله: وَ لاَ اَللَّيْلُ سابِقُ اَلنَّهارِ قال: «أي سبقه النهار» (2).

أقول: لأنّ الليل هو الظّلمة الحاصلة بعد غروب الشمس.

و قيل: إنّ المراد بالليل سلطان الليل، و هو القمر، و المراد بالنهار سلطان النهار، و هو الشمس، فيكون المعنى لا يسبق القمر الشمس في السير بأن يجتمعا في وقت واحد مع كونهما نيّرين، بل إذا كان القمر في افق المشرق، كانت الشمس في افق المغرب، و هذا في حركتهما اليومية، و لذا عبّر عنهما بالليل و النهار (3).

وَ كُلٌّ منهما فِي فَلَكٍ غير فلك الآخر، و سماء غير سماء الآخر يَسْبَحُونَ و يسيرون بسرعة و سهولة، كالسابح في الماء.

روت العامة: أنّ اللّه خلق بحرا دون السماء جاريا في سرعة السّهم، قائما في الهواء بأمر اللّه تعالى، لا تقطر منه قطرة تجري فيه الشمس و القمر و النجوم، فذلك قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ و القمر يدور دوران العجلة في لجّة غمر ذلك البحر، فاذا أحبّ اللّه أن يحدث الكسوف حرف الشمس عن العجلة، فتقع في غمر ذلك البحر، و يبقى سائرا على العجلة النصف أو الثلث، أو ما شاء الربّ (4).

و إتيان صيغة الجمع مع أنّ السابح اثنان، لاسناده إلى الكلّ الذي هو جمع في المعنى، أو للكثرة

ص: 268


1- . تفسير القمي 2:214، تفسير الصافي 4:253.
2- . مجمع البيان 8:664، و تفسير الصافي 4:253 عن الرضا عليه السّلام.
3- . تفسير الرازي 26:73.
4- . تفسير روح البيان 7:403.

العارضة لهما بسبب العوارض، أو كون المراد جميع الكواكب، و إتيانه بالواو و النون لتنزيل الكوكبين منزلة العقلاء، لاسناد السياحة التي هي فعلهم إليهما.

سوره 36 (يس): آیه شماره 41 الی 42

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر اختلاف الليل و النهار، ذكر نعمة اختلاف الفلك في البحر، أو لمّا ذكر نعمة سير النيّرين، ذكر نعمة تهيئة وسيلة سير الانسان في البرّ و البحر بقوله: وَ آيَةٌ عظيمة اخرى لَهُمْ و دلالة واضحة على توحيد ربّهم أَنّا حَمَلْنا و ركّبنا ذُرِّيَّتَهُمْ و نسلهم الضّعاف الذين يصعب عليهم السفر في البرّ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ و السفينة المملوءة منهم و من غيرهم

وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ نظير الفلك و مِثْلِهِ في سهوله السير به ما يَرْكَبُونَ عليه في البراري و الجبال من الإبل و سائر الحيوانات الحمولة.

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)قيل: إنّ المراد من الفلك فلك نوح (1)، و من ضمير الجمع نوع الانسان (2)، و المعنى أنّا حملنا ذرية بني آدم في فلك نوح المملوء منهم و من سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء، و لو لا حمل الذّرية في الفلك لما بقي لبني آدم نسل و عقب، و خلقنا لهم ممّا يماثل ذلك الفلك من السفن و الزوارق، و على هذا قوله: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ بدل (حملناهم) مشعر بكمال النعمة و عدم اختصاصها بهم، بل تكون متعدية إلى أعقابهم إلى يوم القيامة.

و قيل: في التخصيص بذريتهم إشارة إلى عدم الفائدة في حملهم، لكونهم كفارا، و إنّما الفائدة في حمل ذرّيتهم المؤمنين. و قيل: إنّ المراد بالذّرية جنس بني آدم، و يشمل الآباء و الأولاد (3).

سوره 36 (يس): آیه شماره 43 الی 47

وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاّ رَحْمَةً مِنّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)

ص: 269


1- . تفسير البيضاوي 2:282، تفسير أبي السعود 7:168.
2- . تفسير الرازي 26:79.
3- . تفسير الرازي 26:79.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الركوب ليس علّة للعبور من البحر بالسلامة، بل اللّه هو الحافظ للراكب و المركوب بقوله: وَ إِنْ نَشَأْ إغراقهم نُغْرِقْهُمْ في البحر مع كونهم في الفلك فَلا صَرِيخَ و لا معين لَهُمْ يحرسهم من الغرق قبله وَ لا هُمْ بعد الغرق في البحر يُنْقَذُونَ و يخلّصون منه بسبب من الأسباب

إِلاّ رَحْمَةً عظيمة كائنة مِنّا عليهم وَ مَتاعاً و انتفاعا منهم بالحياة و النّعم الدنيوية إِلى حِينٍ موتهم و الأجل المقدّر لهم، فانّ الرحمة و العيشة المقدّرة منجية و مغيثة لهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم اهتدائهم و اعتنائهم بالآيات، بيّن عدم تأثّرهم و اتّعاضهم بالمواعظ بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ نصحا وعظة أيّها المشركون آمنوا باللّه و اِتَّقُوا بايمانكم ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ و ما نزل من العذاب على الامم الذين كانوا من قبل بسبب الشرك و الطّغيان على اللّه و رسله، و احذروا من أن ينزل عليكم مثله وَ احذروا ما خَلْفَكُمْ و ما أعدّ لكم من العذاب الأليم الدائم في الآخرة. -عن الصادق عليه السّلام، قال: «معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب، و ما خلفكم من العذاب» (1). لَعَلَّكُمْ و يرجى أنكم بإيمانكم تُرْحَمُونَ من قبل اللّه، لأنّ النجاة من الشدائد لا تكون إلاّ برحمة اللّه، و لا تشملكم رحمته إلاّ بالايمان و التقوى-أعرضوا عن النّصح البليغ، بل عاندوا و كابروا الناصح الشفيق، و أعجب من ذلك أنّهم ما يرون

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ و معجزة من معجزات رسولهم إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ و بها غير معتنين

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ نصحا و إشفاقا على الفقراء: أَنْفِقُوا على الفقراء و المحتاجين بعضا و شيئا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ من الأموال، و أعطاكم من النعم تفضّلا و إحسانا، لتردّوا به البلاء عن أنفسكم و أهليكم قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا نعم اللّه، و أنكروا توحيده لِلَّذِينَ آمَنُوا و نصحوا إنكارا عليهم و استهزاء بهم: أَ نُطْعِمُ من أطعمتنا مَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ إطعامه أَطْعَمَهُ بقدرته كما أطعمنا على زعمكم أنّ اللّه أعطانا هذه الأموال، و تحسبون أنّه لو شاء لأغنى الفقراء و أعزّ الأذلاّء إِنْ أَنْتُمْ و ما تكونون إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن الحقّ، و خطأ ظاهر عن طريق الصواب، حيث لا تسألون اللّه الانفاق عليهم، و تأمروننا بما يخالف مشيئة اللّه.

سوره 36 (يس): آیه شماره 48 الی 50

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

ص: 270


1- . مجمع البيان 8:667، تفسير الصافي 4:254.

ثمّ حكى سبحانه عنهم إنكار البعث و استهزاءهم به بقوله: وَ يَقُولُونَ هؤلاء المشركون للرسول و المؤمنين إنكارا للمعاد و استهزاء بهم: مَتى و في أيّ وقت ينجز هذَا اَلْوَعْدُ الذي تعدوننا به من قيام الساعة و الحساب و الجزاء على الأعمال؟ عيّنوا وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الوعد به.

ثمّ لمّا كانت الحكمة البالغة مقتضية لاخفائها، أجابهم سبحانه من قبل المؤمنين بذكر علاماته الموحشة و أهواله العظيمة بقوله: ما يَنْظُرُونَ و ما ينتظرون في وقوعه إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً لا يحتاج معها إلى الثانية، و هي نفخ إسرافيل في الصّور المرة الاولى التي تكون نفخة الصّعق و الموت، و هي تَأْخُذُهُمْ و تنالهم مفاجأة بالقهر و سائر الناس وَ الحال أنّ هُمْ يَخِصِّمُونَ و يتنازعون في تجاراتهم و معاملاتهم، و في سائر امور دنياهم.

عن ابن عباس: تهيج الساعة و الرجلان يتبايعان [قد]نشرا أثوابهما فلا يطويانها، و الرجل يلوط حوضه فلا يستقي منه، و الرجل قد انصرف بلبن لفجته (1)فلا يطعمه، و الرجل قد رفع لقمته أو أكلته إلى فيه فلا يأكلها، ثمّ تلا هذه الآية تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (2).

و قيل: إنّ المراد أنّهم يختصمون في أمر البعث (3)فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً و لا يقدرون عليها لمفاجأتهم بالموت، فلا يدع لهم مجال الأمر بأداء الواجبات، أو ردّ مظلمة، فضلا عن فعله وَ لا يمهلهم كي إِلى أَهْلِهِمْ و أزواجهم و أولادهم يَرْجِعُونَ من السوق، بل يموتون في مكانهم.

القمي، قال: ذلك في آخر الزمان، يصاح فيهم صيحة و هم في أسواقهم يتخاصمون، فيموتون كلّهم في مكانهم، لا يرجع أحد إلى منزله، و لا يوصي وصية (4).

سوره 36 (يس): آیه شماره 51 الی 52

ثمّ بيّن سبحانه الأهوال التي بعد الصيحة و الموت بقوله: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ بعد موت كافة الناس النفخة الثانية فَإِذا هُمْ من غير لبث مِنَ اَلْأَجْداثِ و القبور التي دفنوا فيها إِلى محضر عدل رَبِّهِمْ و موقف حساب أعمالهم يَنْسِلُونَ و يسرعون جبرا و عنفا.

وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ اَلْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ اَلرَّحْمنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ (52)

ثمّ كأنه قيل: ما يقول المنكرون للمعاد و البعث بعد خروجهم من قبورهم و مشاهدتهم صدقه؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالُوا تأسّفا على إنكارهم البعث، و خوفا ممّا ينزل بهم من العذاب: يا

ص: 271


1- . كذا، و في تفسير روح البيان: لقحته.
2- . تفسير روح البيان 7:409.
3- . تفسير الرازي 26:87.
4- . تفسير القمي 2:215، تفسير الصافي 4:255.

وَيْلَنا و يا هلاكنا احضر في هذا الوقت، آن وقت حضورك، ثمّ لمّا يوهموا أنّهم كانوا نائمين، ثمّ تيقّظوا قالوا تعجبّا: مَنْ بَعَثَنا و أقامنا مِنْ مَرْقَدِنا و منامنا؟ ثمّ التفتوا إلى وعد الرسل بالبعث بعد الموت فقالوا: هذا البعث من القبر و الحياة بعد الموت هو ما وَعَدَ نا به اَلرَّحْمنُ في الدنيا بلسان الرسل وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ في إخبارهم عن اللّه بالعالم الآخرة و الحساب و الجزاء، و قلنا لهم استهزاء متى هذا الوعد؟

و قيل: إنّهم لمّا قالوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أجابهم الملائكة و المؤمنون: إنّ هذا البعث ليس التيقّظ من النوم، بل هو ما وعده الرحمن (1).

عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّ القوم كانوا في القبور، فلمّا قاموا حسبوا أنّهم كانوا نياما، قالوا: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا قالت الملائكة: هذا ما وَعَدَ اَلرَّحْمنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «كان أبو ذرّ يقول في خطبة: و ما بين الموت و البعث إلاّ كنومة نمتها، ثمّ استيقظت منها» (3).

سوره 36 (يس): آیه شماره 53 الی 55

ثمّ بيّن سبحانه سهولة إحيائهم و إحضارهم في محضر عدله بقوله: إِنْ كانَتْ النفخة الثانية للخلق، و ما صدرت من إسرافيل إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً غير محتاجة إلى الثانية فَإِذا هُمْ بتلك الصيحة من غير لبث ما جَمِيعٌ و مجموع لَدَيْنا و في موقف الحساب مُحْضَرُونَ.

إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55)

ثمّ أعلن سبحانه بعدله في المجازاة بقوله: فَالْيَوْمَ الذي حضرتم أيّها الناس عندنا لجزاء الأعمال لا تُظْلَمُ من قبلنا نَفْسٌ من النفوس مؤمنة كانت أو كافرة بنقص الثواب أو زيادة العقاب شَيْئاً يسيرا، و لو كانت مثقال ذرّة وَ لا تُجْزَوْنَ أيّها الكفار و الفجّار إِلاّ جزاء ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الكفر و العصيان، و أمّا المؤمنون، فانّهم يجزون اليوم بما لم يعملوا فضلا و رحمة عليهم، كما قال: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين في ذلك اليوم، ازديادا لحسرة الكفّار بقوله: إِنَّ المؤمنين

ص: 272


1- . تفسير البيضاوي 2:284، تفسير روح البيان 7:412.
2- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 4:255.
3- . الكافي 2:108/18، تفسير الصافي 4:256.

الذين يكونون أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ و أهلها اَلْيَوْمَ كائنون فِي شُغُلٍ عظيم و عمل يصرفهم عن الالتفات إلى أهوال اليوم و شدائده بحيث لا يحزنهم الفزع الأكبر فاكِهُونَ و متنعّمون بنعم الجنة، و متلذّذون بلذاتها، مسرورون بما نالوا من درجاتهم.

قيل: إنّ فاكهون تفسير لشغلهم، و المراد أنّهم شغلوا باللذّة و السرور، لا بالويل و الثبور (1).

القمي، قال: فِي شُغُلٍ يعني في افتضاض العذارى فاكِهُونَ قال: يفاكهون النساء و يلاعبونهنّ (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «شغلوا بافتضاض العذارى، قال: و حواجبهنّ كالأهلّة، و أشفار أعينهن كقوادم النّسر» (3).

و في الحديث العامي: «إنّ الرجل ليعطى مائة رجل في الأكل و الشرب و الجماع» (4).

و في الحديث: «أنّ أحدهم ليفتضّ في الغداة الواحدة مائة عذراء» (5).

و عن عكرمة: تكون الشهوة في اخراهنّ كالشهوة في أوّلهن، كلّما افتضّها رجعت على حالها عذراء (6).

روي أنّه جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه، أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهنّ في الدنيا؟ قال: «و الذي نفسي بيده إنّ المؤمن ليفضي في يوم واحد إلى ألف عذراء» (7).

و قيل: إنّ الشّغل هو سماع الأصوات الطيبة و النّغمات اللذيدة (8).

و قيل: إنّ المؤمن إذا اشتهى سماع الغناء أرسل اللّه تعالى إسرافيل فيقوم إلى الجانب الأيمن من المؤمن فيقرأ القرآن، و يقوم داود على جانبه الأيسر فيقرأ الزّبور (9).

و قيل: إنّ الشّغل هو التزاور، فانّ المؤمنين يتزاورون في الجنة (4).

سوره 36 (يس): آیه شماره 56 الی 58

ثمّ بيّن سبحانه كمال النعمة عليهم بقوله: هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ المؤمنات الّلاتي كنّ لهم في الدنيا مستقرّون فِي ظِلالٍ و راحة أبدية، لا يشوبها تعب و لا نصب.

هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى اَلْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)قيل: أي في عزّة و منعة (5)، متمكّنون عَلَى اَلْأَرائِكِ و السّرر المزيّنة التي تكون في الحجال

ص: 273


1- . تفسير الرازي 26:91.
2- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 4:256.
3- . مجمع البيان 8:671، تفسير الصافي 4:257. (4 و 5 و 6) . تفسير روح البيان 7:414. (7 و 8 و 9) . تفسير روح البيان 7:414.
4- . تفسير روح البيان 7:415.
5- . تفسير روح البيان 7:417.

مُتَّكِؤُنَ و معتمودن على النّمارق.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمة انسهم بأزواجهم، و استغراقهم في الراحة، و تمكّنهم على السّرر التي هي أحسن المجالس، و فراغهم من جميع المشاغل، بيّن مأكولهم في الجنة بقوله: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ و أغذية لذيذة غاية اللذّة، بلا اضطرار لهم إلى أكلها من جهة تألّمهم بالجوع و ضعف القوى و إصلاح المزاج وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ و يشتهون من المأكولات اللّذيذة و الأشربة الطيبة.

قيل: إنّ المراد لهم ما يدعون اللّه أن يعطيهم فيستجيب دعاءهم (1).

و قيل: لهم ما كانوا يدعونه في الدنيا من الجنّة و درجاتها (2)و نعمها، و على أيّ تقدير يكون في قوله: لَهُمْ دلالة على كون الفاكهة و غيرها من النّعم ملكا لهم و تحت سلطنتهم و اختيارهم.

ثمّ ختم سبحانه ذكر نعمه على المؤمنين بذكر أعلاها بقوله: سَلامٌ. قيل: إنّ التقدير سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (3)قَوْلاً كائنا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ بالمؤمنين عطوف بعباده الصالحين.

قيل: إنّ (سَلامٌ) بدل من (ما يَدَّعُونَ) و المعنى لهم سلام (4)و تحيّة، يقال لهم قولا من جهة ربّ رحيم بواسطة الملك أو بدون واسطة مبالغة في تعظيمهم (5).

في الحديث: «بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع نور فرفعوا رؤوسهم، فاذا الربّ تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقال: السّلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فينظر إليهم و ينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النّعم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، و يبقى نوره و بركته عليهم» (6).

أقول: المراد من إشرافه عليهم ظهور رحمته الخاصة بالخلّص (7)، و تجلّي النور الخاصّ الذي هو من آثار رضوانه، و من نظره إليهم إدامة ذلك التجلّي، و من نظرهم إليه محوهم فيه.

القمي، قال: السّلام منه هو الأمان (8).

و قيل: إنّه كلام منقطع عمّا قبله، و يكون ذلك إخبارا منه تعالى لنا في كلامه، فانّه لمّا بيّن كمال حسن حالهم قال: سَلامٌ عليهم كما قال: سَلامٌ عَلى نُوحٍ و سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ و سَلامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ فهو إحسان على عباده المؤمنين كإحسانه على المرسلين (9)، و إنّما وصف ذاته

ص: 274


1- . تفسير روح البيان 7:418.
2- . تفسير البيضاوي 2:285.
3- . تفسير روح البيان 7:419.
4- . تفسير الرازي 26:94.
5- . تفسير روح البيان 7:418.
6- . تفسير روح البيان 7:418.
7- . في النسخة: بالخلّصين.
8- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 4:257.
9- . تفسير الرازي 26:94.

بالربوبية المشعرة بمالكيته و سيادته، للدلالة على نهاية التعظيم المعجب، فانّ تسليم المالك المنعم العظيم الشأن على عبده الضعيف من العجائب الدالة على نهاية التعظيم و العطوفة.

سوره 36 (يس): آیه شماره 59 الی 61

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال حسن المؤمنين و إكرامهم في الآخرة، بيّن سوء حال الكفار و إهانتهم فيها بقوله: وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ و تفرّقوا عن المؤمنين أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ و العصاة، و ادخلوا مساكنكم التي اعدّت لكم في جهنم.

وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)و قيل: يعني تفرّقوا و تلاشوا من الحسرة و الندامة، لما ترون من رفعة منزلة المؤمنين و حسن حالهم، أو تفرق بعضكم من بعض على خلاف ما للمؤمنين من الاجتماع مع الأزواج و التزاور بينهم، و امتازوا و تفرّقوا من شفعائكم و قرنائكم، فما لكم اليوم من شفيع و لا حميم، أو امتازوا عمّا ترجون، و اعتزلوا من كلّ خير، أو امتازوا و تبيّنوا من بين الناس، فتظهر فيهم سيماء يعرفون بها، و هو السواد الذي يظهر في وجوهم (1).

أقول: المجرمون الذين يخلدون في النار هم المنكرون للصانع و توحيده، و المنكرون للرسالة، و المنكرون للولاية أو واحد من ضروريات الدين، كالشفاعة و ظهور المهدي عليه السّلام في آخر الزمان.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المجرمين بالامتياز، أخذهم بالتقريع و التبكيت بقوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ و لم أوص في عالم الذّر، أو في الدنيا بلسان الرسل إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا و لا تطيعوا اَلشَّيْطانَ الذي أخرج أبويكم من الجنة، و لم أقل إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ و مبغض ظاهر البغضاء بحيث لا تخفى عداوته على ذي مسكة؟ ! و إنّما نسب سبحانه إليهم عبادة الشيطان مع أنّ أحدا لا يعبده؛ لأنّ عبادة غير اللّه بأمره هي عبادته.

عن الصادق عليه السّلام: «من أطاع رجلا في معصية، فقد عبده» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق يروي (3)عن اللّه فقد عبد اللّه تعالى، و إن كان الناطق يروي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (4).

وَ ألم أعهد إليكم أَنِ اُعْبُدُونِي و أخلصوا لي العبادة هذا العهد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ

ص: 275


1- . تفسير الرازي 26:95.
2- . الكافي 2:293/8، تفسير الصافي 4:258.
3- . في الكافي: يؤدي، و كذا التي بعدها.
4- . الكافي 6:434/24، تفسير الصافي 4:258.

مؤصل لكم إلى كلّ خير و سعادة.

سوره 36 (يس): آیه شماره 62 الی 65

ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم، و بيّن أنّ خلافهم لم يكن منحصرا بنقض عهدي، بل كان به و بعدم اتعاظهم بما شاهدوا و علموا من العقوبات النازلة على الامم السابقة بطاعتهم الشيطان بقوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ الشيطان مِنْكُمْ أيّها المجرمون جِبِلاًّ و خلقا كَثِيراً فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة التي ملأ الآفاق أخبارها، و بقي مدى الدهر آثارها أَ فَلَمْ تَكُونُوا قيل: إنّ التقدير أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تَعْقِلُونَ و تفهمون أنّها لضلالهم و طاعتهم الشيطان، فترتدعوا عنها كيلا يحيق بكم العقاب؟ ! (1)

وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اِصْلَوْهَا اَلْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)

ثمّ أنّه تعالى بعد تقريع المجرمين، أراهم نتيجة ضلالتهم بقوله: هذِهِ النار الموقدة التي ترونها هي جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا تُوعَدُونَ هاو تهدّدون بها على ألسنة الرسل في أزمنة متطاولة.

قيل: ثمّ يقادون إلى شفيرها (2)

ثمّ يقال لهم: اِصْلَوْهَا و ألقوا أنفسكم فيها، و قاسوا حرّها اَلْيَوْمَ الذي يكون يوم المجازاة بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَكْفُرُونَ باللّه و برسله.

عن أبي هريرة، قال: أوقدت النار ألف عام فابيضّت، ثمّ اوقدت النار ألف عام فاحمرّت، ثمّ اوقدت ألف عام فاسودّت فهي سوداء كالليل المظلم، و هي سجن اللّه تعالى للمجرمين (3).

ثمّ لوى سبحانه الخطاب إلى الغيبة إيذانا بأنّ ذكر أحوالهم الفظيعة مقتضية للإعراض عنهم، ثمّ حكى أحوالهم القبيحة لغيرهم بقوله: اَلْيَوْمَ نمنعهم من التكلّم، كأنّا نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ فلا يقدرون على النّطق وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ و تعترف

جوارحهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ في الدنيا و يعملون من السيئات و القبائح، و ذلك حين عاينوا صحائف أعمالهم، و أنكروا شركهم و سيئاتهم.

عن أنس، قال: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضحك، فقال: «أتدرون مم ضحكت؟» قلنا: اللّه و رسوله أعلم. قال: «من مخاطبة العبد ربّه يقول: يا رب ألم تجزني (4)من الظّلم؟ يقول: بلى. فيقول: ما أجيز عن

ص: 276


1- . تفسير روح البيان 7:423.
2- . تفسير أبي السعود 7:176، تفسير روح البيان 7:424.
3- . تفسير روح البيان 7:424.
4- . في تفسير روح البيان: تجرني.

نفسي إلاّ شاهدا منّي. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، و بالكرام الكاتبين [شهودا]. فيختم على فيه، و يقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثمّ يخلّى بينه و بين الكلام، فيقول: بعدا لكنّ و سحقا، فعنكنّ كنت اناضل» (1).

القمي، قال: إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة، دفع إلى كلّ انسان كتابه فينظر فيه، فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئا، فتشهد عليهم الملائكة فيقول: يا ربّ، ملائكتك يشهدون لك، فيحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئا، و هو قول اللّه يوم يبعثهم اللّه جميعا، فيحلفون له كما يحلفون لكم، فاذا فعلوا ذلك ختم اللّه على ألسنتهم، و تنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون (2).

و في (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «ليست الجوارح تشهد على المؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال اللّه عزّ و جلّ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً» (3).

أقول: الرواية مختصّة بالشهادة على المؤمن، فلا ينافي ما ورد في الحديث: «أنّ اللّه تعالى يخاطب العبد المؤمن يوم القيامة و يقول: ما أتيت من العبادات و الخيرات؟ فيستحي المؤمن أن يعرض عباداته و حسناته، فينطق اللّه جوارحه فيشهدون بحسناته و أعماله الخيرية حتى أنّ أنامله تشهد بأنّه عدّ تسبيحاته بها» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لبعض النساء: «عليكنّ بالتسبيح و التهليل و التقديس، و اعقدن بالأنامل، فانّهنّ مسؤلات مستنطقات» (5).

اقول: لا ينافي هذا لما سبق، لأنّه شهادة له، بل لا ينافي شهادة جوارح بعض المؤمنين عليه، لإظهار فضله وسعة رحمته. كما ورد أنّ عبدا تشهد عليه أعضاؤه بالزلّة فتتطاير شعرة من جفن عينيه، فتستأذن بالشهادة له، فيقول اللّه: تكلّمي يا شعرة جفن عبدي، و احتجّي عن عبدي، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، فينادي مناد: هذا عتيق اللّه بشعرة (6).

سوره 36 (يس): آیه شماره 66 الی 67

وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّراطَ فَأَنّى يُبْصِرُونَ (66) وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ (67)

ص: 277


1- . تفسير روح البيان 7:425.
2- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 4:258.
3- . الكافي 2:27/1، تفسير الصافي 4:258، و الآية من سورة الإسراء:17/71.
4- . تفسير روح البيان 7:426.
5- . تفسير روح البيان 7:426.
6- . تفسير روح البيان 7:425.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ حكمته البالغة اقتضت إيكال الناس إلى اختيارهم في الكفر و العصيان و الايمان و الطاعة، و إلاّ كان قادرا على سلب قوى الكفّار و تعجيزهم عن العصيان بقوله تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ بالمشيئة التكوينية طمس أعينهم و محوها لَطَمَسْنا و جعلنا المحو عَلى أَعْيُنِهِمْ و سوّينا مكانها بحيث لا يبقى لها ضوء و لا يبدو لها شقّ و لا جفن، كما ختمنا على قلوبهم و محونا بصائرهم فَاسْتَبَقُوا اَلصِّراطَ و تبادروا إلى الصراط المستقيم الواسع الذي اعتادوا سلوكه فَأَنّى يُبْصِرُونَ ذلك الطريق، و كيف يرون موضع أقدامهم منه حتى يمكنهم المشي فيه؟ و فيه تهديد لمكذّبي الرسول بما فعل بقوم لوط حين كذّبوه و راودوه عن ضيفه.

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار قدرته و تهديد المشركين بقوله: وَ لَوْ نَشاءُ مسخهم و محو صورتهم النوعية لَمَسَخْناهُمْ و غيّرنا صورتهم بأن جعلناهم حجرا أو مدرا أو جمادا آخر، أو مسلوبي القوى عَلى مَكانَتِهِمْ و مقامهم و في محلهم بالفور بحيث لا يكون لهم مجال الانتقال منه فَمَا اِسْتَطاعُوا مُضِيًّا و ذهابا إلى أمامهم و بين أيديهم وَ لا يَرْجِعُونَ إلى ورائهم و خلفهم، و فيه إشعار باستحقاقهم تلك العقوبة في الدنيا، كاستحقاقهم عقوبة الختم في الآخرة، و إنّما المانع الحكمة المقتضية لإمهالهم، فلا يشاء ذلك.

سوره 36 (يس): آیه شماره 68 الی 70

ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على سلب قوتهم بما يرون من سلب قوى المعمّرين بقوله تعالى: وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ و نطيل مدّة حياته في الدنيا نُنَكِّسْهُ و نقلبه فِي اَلْخَلْقِ و الجسم و القوى الظاهرية و الباطنية، و نجعله بخلاف ما كان عليه في صباوة شبابه، فلا يزال تتغير جثّته و يتزايد ضعفه، و تتناقص قواه و بنيته، و يتغيّر شكله و صورته حتى يعود إلى حالة شبيهة بحال صباوته في ضعف بدنه و قلّة عقله و فهمه أَ فَلا يَعْقِلُونَ. قيل: إنّ التقدير أترون ذلك فلا تفهمون أنّ من قدر على ذلك قدر على ما ذكر من الطمس و المسخ؟ (1)

وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ (68) وَ ما عَلَّمْناهُ اَلشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكافِرِينَ (70)

ثمّ لما ذكر سبحانه المطالب العالية الراجعة إلى المبدأ و المعاد الدالة على كونها نازلة من اللّه القادر الحكيم، و كان المشركون يكذّبونها و ينسبونها إلى الشعر و يقولون: إنّ محمدا شاعر، فردّ اللّه عليهم

ص: 278


1- . تفسير روح البيان 7:428.

بقوله: وَ ما عَلَّمْناهُ اَلشِّعْرَ و الكلام المنظوم المزخرف المنسوج المبنيّ على التخيّلات و الوهميّات وَ ما يَنْبَغِي و لا يصلح لَهُ و لا يليق به الشعر و الكلام الموزون المركّب من الأوهام و الأكاذيب، لرفعة مقام النبوة عنه، بل إِنْ هذا الكتاب الذي اتي به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وعظة من اللّه للعالمين، و هداية للمهتدين وَ قُرْآنٌ و كتاب سماويّ مُبِينٌ و ظاهر أنّه من اللّه الحكيم، أو فارق بين الحقّ و الباطل، و موضح للعلوم و الحكم و الأحكام،

و إنّما أنزله اللّه تعالى لِيُنْذِرَ محمد صلّى اللّه عليه و آله و يخوّف بالعذاب على الشّرك و العصيان مَنْ كانَ حَيًّا و عاقلا فيهما منوّر الفكر و القلب وَ لئن يَحِقَّ اَلْقَوْلُ و يثبت بإيضاح الحقّ و إتمام الحجّة الوعد بالعذاب عَلَى القوم اَلْكافِرِينَ المصرّين على المعاندة للحقّ، فانّه بتمامية الحجّة عليهم يستحقّون العذاب و تنجيز الوعد به.

سوره 36 (يس): آیه شماره 71 الی 73

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات نبوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه، عاد إلى إثبات التوحيد بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا قيل: إنّ التقدير ألم يتفكّروا و لم يعلموا (1)؟ أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ و لانتفاعهم مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا و صنعت قدرتنا بغير إعانة الغير و مشاركته أَنْعاماً و أموالا راعية من الإبل و البقر و الغنم و المعز اللاّتي فيها فوائد كثيرة فَهُمْ لَها مالِكُونَ و عليها مسلّطون،

و فيها متصرّفون وَ ذَلَّلْناها و سخّرناها بقدرتنا لَهُمْ بحيث لا تستعصي عليهم في شيء ممّا يريدون بها، فانّ الابل و البقر مع عظمهما و قوّتهما يقودهما طفل صغير فَمِنْها رَكُوبُهُمْ و مركوبهم يقطعون عليها المسافات البعيدة وَ مِنْها يَأْكُلُونَ لحمها و شحمها

وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ كثيرة اخر غير الركوب و الأكل، كالجلود، و الأصواف، و الأشعار، و الأوبار، و النتائج و الحمل و الحرث وَ مَشارِبُ من الألبان أَ فَلا يَشْكُرُونَ المنعم بالإقرار بتوحيده و القيام بطاعته؟ !

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (73)

سوره 36 (يس): آیه شماره 74 الی 76

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (76)

ص: 279


1- . تفسير روح البيان 7:433.

ثمّ وبّخهم سبحانه على كفرانهم بقوله: وَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ و ما سواه آلِهَةً و معبودين من الأصنام لَعَلَّهُمْ و برجاء أنّهم يُنْصَرُونَ من جهتهم و يعاونون من قبلهم في الامور، أو برجاء أنّها يشفعون لهم يوم القيامة،

مع أنّ أولئك الأصنام لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ و لا يقدرون على إعانتهم في شيء، لا في الدنيا و لا في الآخرة، لغاية عجزهم وَ هُمْ باتّباعهم و عبادتهم الأصنام في الدنيا يكونون لَهُمْ في الآخرة جُنْدٌ و عسكر يتّبعونهم حين سوقهم إلى النار، و كلّهم العابد و المعبود مُحْضَرُونَ في جهنم مجتمعون فيها، أمّا العابد فلاستحقاقه، و أمّا المعبود فلأن يكون وقودا لها و حسرة لهم.

روي أنّه يؤتى بكلّ معبود من دون اللّه و معه أتباعه كأنّهم جنده، فيحضرون في النار (1).

أقول: هذا إذا كان المعبود جمادا، أو كان راضيا بعبادة غيره إيّاه، و فيه بيان غاية عجز الأصنام عن نصرتهم.

ثمّ لمّا كان عداوة المشركين و سوء أقوالهم مؤثرا في انكسار قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، سلّى سبحانه حبيبه بقوله: فَلا يَحْزُنْكَ و لا يؤلم قلبك عداوة المشركين و قَوْلُهُمْ إنّ محمدا شاعر أو مجنون إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ و يضمرون من بغضك و عداوتك وَ ما يُعْلِنُونَ من سبّك و شتمك، أو ما يسترون من النفاق، و ما يعلنون من الشّرك، أو ما يسرّون من العلم بنبوتك، و ما يعلنون من إنكار صدقك، أو ما يسرّون من العقائد الفاسدة، و ما يعلنون من الأعمال القبيحة.

سوره 36 (يس): آیه شماره 77 الی 79

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و النبوة، رفع شبهتهم في المعاد بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسانُ و لم يعلم أَنّا خَلَقْناهُ و صوّرناه بقدرتنا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا مع نضارته و بهجته، و كونه ذا أجزاء مختلفة بالماهية و الطبيعة مِنْ نُطْفَةٍ قذرة متشابهة الأجزاء، و جعلناه بعد افتقاده لجميع القوى ذا نطق و فطنة و عقل و فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ لنا و مجادلنا بالباطل مُبِينٌ و مظهر للحجّة علينا في خصومته.

أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)قيل: إنّ قوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ كناية عن صيرورته ناطقا، فإنّ إبداع الفهم و النّطق في الجماد

ص: 280


1- . تفسير روح البيان 7:434.

أغرب من خلق الجسم (1)، و ذكر الخصومة مكان النّطق لكونها أعلى منه؛ لأنّ الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبين كلامه مع غيره عند المخاصمة، فقوله: مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى أدنى ما كان عليه و قوله: خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارة إلى أعلى مرتبة كماله الظاهري.

ثمّ بيّن سبحانه خصومته مع ربّه بقوله: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً و تكلّم في ردّ المعاد الذي وعدنا به كلاما غريبا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ ابتداء من تراب، ثمّ من نطفة و قالَ استبعادا لصحّة المعاد حين أخذ عظم رميم بيده مَنْ يقدر على أن يُحْيِ هذه اَلْعِظامَ و يصيّرها إنسانا سويا وَ هِيَ الآن رَمِيمٌ بالية بعيدة من الحياة غايته

قُلْ يا محمّد، ردّا لهذا المخاصم الغبيّ، و تبكيتا له: يُحْيِيهَا الإله القادر اَلَّذِي أَنْشَأَها و خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ و حين لم يكن شيئا، فانّ الخلق ثانيا أهون من الخلق أولا مع قابلية المادة و بقاء القدرة، لاستحالة التغيّر في ذاته تعالى وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ من الإنشاء و الإعادة عَلِيمٌ و مبالغ في الاحاطة بتفاصيل كيفياته، و بجميع الأجزاء المتبدّدة المتفتّتة لكلّ من الأشخاص، و أوضاع بعضها من بعض من الاتصال و الانفصال و الاجتماع و الافتراق، فيعيد كلاّ على النّمط السابق مع القوى التي كانت لها قبل.

قيل: إنّ فيه رفع شبهة الآكل و المأكول، و هي أنّه إذا أكل إنسان إنسانا، و صار المأكول أجزاء للآكل، فان اعيدت أجزاء المأكول إليه لا تبقى أجزاء للآكل حتى يعاد، و إن اعيد إلى الآكل لا يبقى للمأكول شيء، فأبطلها اللّه بقوله: وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ و تقريره أنّ لكلّ من الآكل و المأكول أجزاء أصلية و أجزاء فضلية، و تصيّر الأجزاء الأصلية من المأكول أجزاء فضلية من الآكل، و اللّه تعالى عالم بالأجزاء الأصلية من كلّ منهما، فيجمعها و ينفخ فيها الروح، فيحيي الآكل و المأكول من الآجزاء الأصلية التي كانت لكلّ منهما (2).

روى بعض العامة أنّ الآيتين نزلت في أبي بن خلف حيث أخذ عظما باليا، و أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال: إنّك تقول: إنّ الهك يحيي هذه العظام؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «نعم و يدخلك جهنّم» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «جاء ابي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففتّته، ثمّ قال: يا محمد، إذا كنّا عظاما و رفاتا ءإنا لمبعوثون، فنزلت» (4).

و عنه عليه السّلام: «إنّ الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء و فسحة، و روح المسيء في ضيق

ص: 281


1- . تفسير الرازي 26:108.
2- . تفسير الرازي 26:109، تفسير روح البيان 7:438.
3- . تفسير أبي السعود 7:180، تفسير روح البيان 7:436.
4- . تفسير العياشي 3:56/2533، تفسير الصافي 4:261.

و ظلمة، و البدن يصير ترابا كما منه خلق، و ما تقذف به السباع و الهوام مما أكلته و فرّقته، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض، و يعلم عدد الأشياء و وزنها، و إنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، فاذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربو الأرض ثمّ تمخض مخض السقاء، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، و الزبد من اللبن إذا مخض، فيجمع تراب كلّ قالب إلى قالبه، فينتقل باذن اللّه القادر إلى حيث الروح، فتعود بإذن المصوّر كهيئتها، و تلج الروح فيها، فاذا استوى لا ينكر من نفسه شيئا» (1)

سوره 36 (يس): آیه شماره 80 الی 81

ثمّ لمّا كان من شبهات منكري البعث و المعاد عدم إمكان تعلّق الروح بالأجزاء الترابية اليابسة و العظام النخرة، دفعها سبحانه بتوصيف ذاته المقدّسة بالقدرة على الجمع بين النار و الشجر الرطب مع المضادة بينهما بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ و خلق بقدرته لَكُمْ و لنفعكم مِنَ اَلشَّجَرِ الرطب اَلْأَخْضَرِ مع انتشار الماء في أجزائه و خلله ناراً محرقة.

اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ اَلْخَلاّقُ اَلْعَلِيمُ (81)قيل: إنّ العرب تتخذ زنودهم من المرخ و العفار، و هما شجران في بواديهم، يقعطعون منهما غصنين كالمسواكين، فيسحق المرخ و هو الذكر على العفار و هو انثى، فتنقدح منهما النار (2)، مع كونهما أخضرين يقطر منهما الماء فَإِذا خرجت النار من الشجر أَنْتُمْ أيّها العرب مِنْهُ تُوقِدُونَ و تشعلون النار في الحطب، فكما لا مجال لأن تشكّوا في خروج النار من الشجر الرطب، ليس لكم أن تشكّوا في أنّ اللّه قادر على إيلاج الروح في الأجزاء اليابسة بأن يجعلها غضّة طرية كما كانت قبل الموت، و إحيائها كما كانت في الدنيا.

ثمّ أنكر سبحانه على من أنكر قدرته على جمع أجزاء البدن و إحيائها ثانيا بقوله: أَ وَ لَيْسَ الإله القادر اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ مع كبر جسمهما و عظم شأنها بِقادِرٍ في اعتقاد المشركين عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الحقارة و الصّغر بالنسبة إليهما بَلى قادر على أن يخلق مثلهم ببديهة العقل، بل أقدر وَ هُوَ اَلْخَلاّقُ للممكنات، و الموجد لجميع الموجودات اَلْعَلِيمُ بكيفياتها و كمياتها و مصالحها و مفاسدها.

ص: 282


1- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 4:261.
2- . تفسير روح البيان 7:439.

عن الصادق عليه السّلام: «أمّا الجدال بالتي هي أحسن، فهو ما أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجادل من جحد البعث بعد الموت و إحياءه له، فقال عزّ و جلّ حاكيا عنه: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ الآية، فأراد من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ان يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام و هي رميم! قال: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، أفيعجز من ابتدأه لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى؟ بلى ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته.

ثمّ قال: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً أي إذا كمنت النار الحارة في الشجر الأخضر الرّطب، ثمّ يستخرجها، فعرّفكم أنّه على إعادة من بلي أقدر. ثمّ قال: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقادِرٍ الآية، أي إذا كان خلق السماوات و الأرض أعظم و أبعد في أوهامكم و قدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوّزتم من اللّه خلق هذا الأعجب عندكم، و الأصعب لديكم، و لم تجوّزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي؟» (1).

سوره 36 (يس): آیه شماره 82 الی 83

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته على إيجاد كلّ شيء من الأشياء بلا حاجة إلى إله و معاون و عدّة مدّة بقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ عزّ شأنه إِذا أَرادَ و شاء أن يكون المعدوم شَيْئاً موجودا عظيما كان أو حقيرا، جليلا كان أو دقيقا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ و أن يريده بالإرادة التكوينية فَيَكُونُ و يوجد من غير ريث و تأخير.

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّما كلامه سبحانه فعل [منه]أنشأه، قال يقول لا بلفظ. . . و يريد و لا يضمر» (2).

و عن الرضا عليه السّلام: «كُنْ منه تعالى صنع، و ما يكون به المصنوع» (3).

و إنّما عبّر عن إرادته بقول: كُنْ تمثيلا لتأثير قدرته و إرادته تعالى فيما أراد وجوده بأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير توقّف على شيء ما، لوضوح أنّه لا يكون هنا قول و لا أمر و لا مأمور، إذ لا معنى لأمر المعدوم أن يوجد نفسه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال ذاته، و بيان قدرته الكاملة على الإنشاء و الإعادة و عدم تخلّف مراداته

ص: 283


1- . الاحتجاج:21، تفسير الصافي 4:262.
2- . نهج البلاغة:274 الخطبة 186، تفسير الصافي 4:262.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:173/1، تفسير الصافي 4:262.

عن إرادته، علّم الناس تنزيه ذاته المقدّسة و تسبيحه بقوله تبارك و تعالى: فَسُبْحانَ الإله القادر اَلَّذِي بِيَدِهِ و بإرادته و قدرته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ و وجود جميع الموجودات و جميع الممكنات، فانّ كلّ موجود مركب عن جزء ملكي و هو الماهية، و جزء ملكوتي و هو وجوده.

و قيل: إنّ المراد نزّهوا اللّه الذي تحت قدرته ملك كلّ شيء و ضبطه و تصرّفه عمّا و صفوه به من العجز، و تعجّبوا ممّا قالوه في شأنه من النّقصان (1).

و قيل: إنّ ملكوت الشيء ما يقوم به من الأرواح و الملائكة (2).

وَ إِلَيْهِ وحده أيّها الناس تُرْجَعُونَ بعد الموت للحساب و جزاء الأعمال.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة يس في عمره مرّة كتب اللّه له بكل خلق في الدنيا و بكلّ خلق في الآخرة و في السماء بكلّ واحد ألفي ألف حسنة، و محا عنه مثل ذلك، و لم يصبه غرم و لا هدم و لا نصب و لا جنون و لا جذام و لا وسواس و لا داء يضرّه، و خفّف اللّه عنه سكرات الموت و أهواله، و ولي قبض روحه، و كان ممّن يضمن اللّه له السّعة في معيشته، و الفرح عند لقائه، و الرضا بالثواب في آخرته، و قال اللّه لملائكته أجمعين من في السماوات و من في الأرضين: قد رضيت عن فلان، فاستغفروا له» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ لكلّ شيء قلبا، و إنّ قلب القرآن يس» (4).

أقول: لعلّ وجهه أنّ القلب به حياة الشيء، و لمّا كانت سورة يس مصدّرة بذكر خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و رسالته، و كانت حياة القرآن بوجوده و بعثته، صارت السورة بمنزلة القلب للقرآن.

و قيل: إنّ وجهه أنّ صحّة الايمان بالاعتراف بالحشر و الحشر مقرّر في هذه السورة بأبلغ وجه (5).

و قيل: إنّ وجهه أنّه ليس فيها إلاّ تقرير الاصول الثلاثة (6)بأقوى البراهين، فانّه تعالى ابتدأها بالرسالة بقوله تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ و دليلها ما قدّمه عليه من قوله وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ و ما أخرّه عنه من قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً و ختمها ببيان التوحيد و الحشر بقوله تعالى: فَسُبْحانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ إشارة إلى التوحيد، و بقوله: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى الحشر، و من حصّل هذه الثلاثة فقد حصّل نصيب قلبه، و هو التصديق بالجنان.

إلى أن قال: فلمّا لم يكن فيها إلاّ أعمال القلب سمّاها قلبا، و لهذا ورد أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ندب إلى تلقين

ص: 284


1- . تفسير روح البيان 7:442.
2- . تفسير الصافي 4:263.
3- . ثواب الاعمال:111، تفسير الصافي 4:263.
4- . مجمع البيان 8:646، تفسير الصافي 4:263.
5- . تفسير الرازي 26:113، تفسير روح البيان 7:442.
6- . تفسير الرازي 26:113.

يس لمن دنا منه الموت عند رأسه؛ لأنّ في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة، و الأعضاء الظاهرة ساقطة البنية، لكن القلب راجع إلى اللّه عن كلّ ما سواه، و مقبل إليه، فيقرأ عند رأسه ماتزداد به قوة قلبه، و يشتدّ تصديقه بالاصول (1).

قد تمّ تفسير السورة المباركة بتوفيق اللّه و عونه.

ص: 285


1- . تفسير الرازي 26:113.

ص: 286

في تفسير سورة الصافات

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة يس المبدوءة بذكر خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و تعظيمه و رسالته المتضمّنة للتوحيد و المعاد، المختتمة بردّ شبهة منكرية، نظمت بعدها سورة الصافات المبدوءة بتعظيم المؤمنين بالحلف بهم، المتضمّنة للأصلين المذكورين، و تجليل آل يس، و هم آل النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتسليم عليهم، فابتدأها على دأبه بقوله بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ اَلصَّافّاتِ صَفًّا (1) فَالزّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتّالِياتِ ذِكْراً (1)

ثمّ لمّا كانت عادة العرب تأكيد الدعوى بالحلف بالامور العظيمة الشريفة المحبوبة عندهم، حلف سبحانه بجماعات المؤمنين التالين للقرآن بقوله تبارك و تعالى: وَ اَلصَّافّاتِ للّه أقدامهم، و القائمات بعبادته صَفًّا محمودا عند اللّه، و هو الصفّ و القيام على خط مستقيم في جماعة الصلاة،

أو في ميدان الجهاد فَالزّاجِراتِ و الجماعات الناهيات للناس عن المنكرات، أو للشيطان عن الوساوس، أو المانعات للكفّار عن الاستيلاء على المسلمين زَجْراً بليغا

فَالتّالِياتِ و القارئات ذِكْراً عظيم الشأن، كالقرآن و التسبيح و التحميد و التهليل.

قيل: إنّ الفقرات الثلاث في المصلّين جماعة؛ الصافات عند أداء الصلاة جماعة، الزاجرات للشيطان بالاستعاذة بعد التكبير، التاليات للقرآن بعدها (1).

و قيل: إنّها صفات العلماء؛ الصافات الذين يقومون منهم للدعوة إلى دين اللّه، و الزاجرات الذين يزجرون العوامّ عن الضلال و يدفعون شبهاتهم، و يتلون عليهم ما يرغّبهم في العمل بشرائع اللّه تبارك و تعالى (2).

و قيل: إنّها صفات الملائكة حيث إنّهم يقفون صفوفا، أما في السماوات لأداء العبادة (3)، أو يصفّون

ص: 287


1- . تفسير الرازي 26:114.

أجنحتهم في الهواء و يقفون لانتظار أمر اللّه إليهم، و يزجرون الناس عن المعاصي بالإلهامات (1)، أو الشياطين عن التعرّض لبني آدم بالشرّ و الإيذاء (2)، أو عن استراق السمع (3)، أو يزجرون السّحاب للسوق من بلد إلى بلد (4)، و يتلون القرآن و التسبيحات.

و قيل: إنّ المراد بالصافات الطيور، و بالزاجرات كلّ ما يردع الناس عن المعاصي، و بالتاليات كلّ من يتلو كتاب اللّه (5).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 4 الی 10

ثمّ ذكر سبحانه المحلوف عليه بقوله: إِنَّ إِلهَكُمْ و معبودكم المستحقّ للعبادة لَواحِدٌ لا شريك له و لا ضدّ و لا ندّ،

و هو رَبُّ اَلسَّماواتِ السبع و ما فيها من الكواكب وَ اَلْأَرْضِ و ما عليها من الجبال وَ ما بَيْنَهُما من الملائكة و الثّقلين و الطيور و عجائب الخلق، و مالكها و حافظها و مبلغها إلى الكمالات اللائقة بها وَ رَبُّ اَلْمَشارِقِ العديدة التي تكون للكواكب، و هي ثلاثمائة و ستون بعدد أيام السنة، و بحسبها المغارب، و لذا اكتفى بذكرها.

إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ اَلْمَشارِقِ (5) إِنّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)

ثمّ لمّا كان من أدلّة التوحيد حسن نظام العالم، نبّه عليه بقوله: إِنّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا و القربى منكم و حسّنا منظرها بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ و النجوم من حيث تلألؤها و أوضاعها سواء أكانت مركوزة فيها،

أو فيما فوقها من السماوات وَ حفظناها حِفْظاً كاملا، أو لتكون حافظا مِنْ قرب كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ طاغ صاعد إليها برمي الشهب،

و لذا لا يَسَّمَّعُونَ و لا يستمعون، أو لا يصغون إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى و جماعة الملائكة الساكنين في السماوات العلى، المطّلعين على أسرار اللّوح المحفوظ على ما قيل (6).

و قيل: إنّ المراد بالملأ الأعلى أشراف الملائكة و كيفية حفظ السماء منهم (7)، و منعهم عن الاستماع أنّهم يرمون بالشّهب وَ يُقْذَفُونَ كما يقذف العدوّ بالحجارة مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء

ص: 288


1- . تفسير الرازي 26:114.
2- . تفسير الرازي 26:115.
3- . تفسير روح البيان 7:445.
4- . تفسير روح البيان 7:445.
5- . تفسير الرازي 26:116.
6- . تفسير روح البيان 7:449.
7- . تفسير روح البيان 7:449.

إذا قصدوا الصعود إليها،

ليكون القذف و الرمي بالشّهب دُحُوراً و طردا لهم عنها.

و قيل: إنّ التقدير يدحرون دحورا (1). قيل: إنّ الدّحور هو الطّرد مع أشدّ الصّغار و الذّلّ (2) .

وَ لَهُمْ في الآخرة مضافا إلى عذابهم في الدنيا بالشهب عَذابٌ واصِبٌ و دائم بالنار. القمي رحمه اللّه: أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم (2). و قيل: إنّ الرجم بالشّهب عذاب دائم لهم (3).

قال المفسّرون: إنّ الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء، فلمّا سمعوا كلام الملائكة، و عرفوا به ما سيكون، و كانوا يخبرون الكهنة به، و يوهمونهم أنّهم يعلمون الغيب، فمنعهم اللّه تعالى من الصّعود إلى قرب السماء بالشّهب (4)،

فلا يسمع شيطان كلام الملائكة إِلاّ مَنْ خَطِفَ من الشياطين، و اختلس كلام الملائكة، و أخذه بسرعة اَلْخَطْفَةَ الواحدة، و اختلاسا فاردا فَأَتْبَعَهُ بالفور و لحقه بسرعة شِهابٌ ثاقِبٌ و شعلة مضيئة من النار غاية الإضاءة، كأنّها تثقب بنورها الجوّ، و هو يحدث في النجوم ثم ينفصل منها، كما ينفصل السهم من القوس، فكون النجوم رجوما من جهة كونها سببا لرمي الشّهب، لا أن نفس النجوم تصير شهبا، لوضوح أنّ النجوم لا تنقص بالشّهب، و القول بأنّ الكواكب قسمان: قسم باق في الملك مدى الدهر، و قسم حادث لا يبقى، و هو الحادث بتصاعد الأجزاء الأرضية مع الأبخرة و احتراقها بالقرب من الأثير، أو باشتعال الهواء القريب من الأثير بالحركة، خلاف القرآن العظيم، لظهوره في كون تلك الكواكب التي تكون زينة للسماء تكون حفظا و رجوما للشياطين.

قال قتادة: جعل اللّه النجوم لثلاث: زينة للسماء، و رجوما للشياطين، و علامات يهتدى بها (5).

روي عن ابن عباس، أنه قال: بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس في نفر من أصحابه، إذ رمي بنجم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية؟» فقالوا: يموت عظيم، أو يولد عظيم. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه لا يرمى لموت أحد و لا لولادته، و لكن اللّه إذا قضى أمرا يسبّحه حملة العرش، و يقول أهل السماء السابعة لحملة العرش: ماذا قال ربّكم؟ فيخبرونهم، فيستخبر أهل كلّ سماء أهل سماء، حتى ينتهي الخبر إلى سماء الدنيا، فتخطفه الجنّ فيرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حقّ، و لكنّهم يزيدون و يكذبون، فما ظهر صدقه فهو من قسم ما سمع من الملائكة، و ما ظهر كذبه فهو من قسم ما قالوه منه (6).

ص: 289


1- . تفسير الرازي 26:123.
2- . تفسير القمي 2:221، و تفسير الصافي 4:265 عن الباقر عليه السّلام.
3- . تفسير أبي السعود 7:185.
4- . تفسير الرازي 26:120.
5- . تفسير روح البيان 7:450.
6- . تفسير روح البيان 7:449.

و من التواريخ و بيان الحكماء الذين كانوا قبل الاسلام، يظهر أنّ الشّهب كانت قبل الاسلام، و ظاهر الآيات أنّها لرجم الشياطين، و ظاهر قوله تعالى: أَنّا لَمَسْنَا اَلسَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (1)أن الشهب حدثت بعد بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلا بدّ من الحمل على كثرة الشّهب و شدّة المنع.

ثمّ أنّ مبدأ خلقة الجنّ من النار لا ينافي احتراقهم بها، لأنّ لازم كونهم جسما احتراقهم بها، لأنّ النار تحرق الجسم و إن كان لطيفا.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 11 الی 17

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده بخلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و خلق مشارق الكواكب، و تزيين السماء بها، شرع في إثبات الحشر و المعاد بقوله تبارك و تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أيّها الرسول و أسألهم بمحاجة توبيخا (2)أو تقريرا أَ هُمْ مع صغر جثّتهم و ضعف بنيتهم أَشَدُّ خَلْقاً و أمتن بنية، أو أصعب خلقا على خالقهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الملائكة و السماوات و الأرض و الكواكب و المشارق و الجنّ و الشياطين؟ و إنّما ذكر كلمة (من) لتغليب العقلاء. ثمّ نقول: لو فرضوا أنّهم كانوا أشدّ خلقا من السماوات و الأرض و غيرهما من الموجودات ألا يقرّون و لا يقولون: إِنّا خَلَقْناهُمْ بقدرتنا أول مرّة مِنْ طِينٍ لازِبٍ لاصق باليد، فاذا علموا أنّ الطين المركّب من التّراب و الماء قابل لأن يصيّره القادر الحكيم إنسانا ذا شعور و نطق و عقل، كان عليهم أن يعتقدوا إمكان خلقهم مرّة اخرى، لبقاء تلك القابلية في ترابهم، و عدم إمكان زوال القدرة عن الخالق القادر الذي خلقهم أول مرّة،

لكون قدرته ذاتية غير قابلة للزوال بَلْ لا تستفتهم لكونهم معاندين حيث إنّك عَجِبْتَ من إنكارهم إمكان البعث و وقوعه مع غاية وضوح دليله وَ هم يَسْخَرُونَ منك و يستهزئون بك حيث تدعوهم إلى الإقرار و الإيمان به مع كونهم مستبعدين إياه.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قالُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آباؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ (17)و عن قتادة: أنّه عجب نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذا القرآن حين انزل و ضلال بني آدم، و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يظنّ أنّ كلّ من يسمع القرآن يؤمن به، فلمّا سمع المشركون القرآن سخروا منه و لم يؤمنوا،

ص: 290


1- . الجن:72/8.
2- . في النسخة: بحاجة قريحا.

عجب من ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال اللّه تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (1)* وَ إِذا ذُكِّرُوا و وعظوا و هدّدوا على إنكارهم البعث أو القرآن لا يَذْكُرُونَ و لا يتّعظون، أو إذا نبّهوا على أدلّة البعث أو جهات إعجاز القرآن لا يتنبّهون لكثرة عنادهم و قلّة فهمهم و فكرهم

وَ إِذا رَأَوْا آيَةً و معجزة دالة على صدق رسالتك و إخبارك بوقوع الحشر و النشر يَسْتَسْخِرُونَ و يبالغون في الاستهزاء بك، أو يحملون غيرهم على الاستهزاء، فلا بالبراهين يلتزمون، و لا بالموعظة يتّعظون،

و لا بالمعجزة يؤمنون وَ قالُوا للمعجز الذي تأتيهم به: إِنْ هذا الفعل الخارق للعادة، و ما هو إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة بحيث لا يشكّ فيه أحد،

كيف يمكن أن يكون ما أتى به معجزة دالة على صدقه في دعوى البعث مع أنّها كذب ظاهر أَ نبعث إِذا مِتْنا و دفّنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً بالية.

ثمّ بالغوا في الإنكار بإعادة أداة الاستفهام، كأنّهم قالوا: أنصفوا أيّها العقلاء أَ إِنّا مع ذلك لمحيون بعد الموت لَمَبْعُوثُونَ و مخرجون من القبور،

فرضنا أنّا نبعث لقرب عهدنا بالحياة و اجتماع ترابنا في قبورنا أَ وَ يبعث آباؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ و أجدادنا الأقدمون مع تفرّق ترابهم في أطراف العالم، و محو أثر قبورهم، هيهات هيهات!

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 18 الی 23

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة الأدلة السابقة على إمكان البعث و الإعادة بعد الموت، و عدم المجال لإقامة البرهان، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بمعارضة إنكارهم بالاثبات بقوله تبارك و تعالى: قُلْ لهؤلاء المشركين المعاندين: نَعَمْ على رغم أنوفكم يبعثون جميعا وَ أَنْتُمْ أيضا تبعثون داخِرُونَ و صاغرون في المحشر و أذلاّء بين الناس، حيث منعكم التكبّر و الخيلاء عن تبعيّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و قبول قوله و تصديقه في ادّعاء إمكان البعث، مع أنّه مضافا إلى إمكانه ليس على اللّه بصعب،

بل في غاية السّهولة فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ و صيحة واحِدَةٌ من إسرافيل، و نفخة من الصّور من غير حاجة إلى الثانية فَإِذا هُمْ يحيون و يقومون من قبورهم يَنْظُرُونَ إلى أنفسهم و جوانبهم كالحيارى، أو ينظر بعضهم إلى بعض نظر الحيرة، و ينظرون كما كانوا يبصرون و ينظرون في زمان حياتهم في الدنيا،

أو

قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ اَلدِّينِ (20) هذا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اَللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ اَلْجَحِيمِ (23)

ص: 291


1- . تفسير روح البيان 7:451.

ينتظرون ما يفعل بهم وَ قالُوا حين رأوا أنّهم مبعوثون تحسّرا و ندامة: يا وَيْلَنا و يا هلاكنا احضر، فهذا أوان حضورك هذا اليوم يَوْمُ اَلدِّينِ و وقت الجزاء على الأعمال، و العقوبة على السيئات.

فيقول اللّه أو الملائكة، أو يقول بعضهم لبعض توبيخا و تقريعا: هذا اليوم يَوْمُ اَلْفَصْلِ و القضاء بما تستحقّون من الثواب أو العقاب، أو يوم الفرق بين المؤمنين و المهتدين و الكافرين و الضالين، و هو اليوم اَلَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تُكَذِّبُونَ و تقولون: لا بعث و لا حساب و لا عقاب.

فيقول اللّه للملائكة: اُحْشُرُوا و اجمعوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا على اللّه بكفرانهم نعمه و تضييعهم حقّه، و على أنفسهم بتعريضها للعقاب الدائم و الهلاك الأبد، وَ أحشروا أَزْواجَهُمْ و أشباههم من أهل الشّرك و الكفر و النفاق و العصيان، أو قرناءهم من الشياطين أو نساءهم اللاّتي كنّ على دينهم وَ احشروا ما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اَللّهِ من الأصنام و غيرها معهم لازدياد حسرتهم و تخجيلهم، أو الشياطين الذين زيّنوا لهم الكفر فَاهْدُوهُمْ و سوقوهم، أو أرشدوهم إِلى صِراطِ اَلْجَحِيمِ و الطريق المستقيم إليها، و فيه تهكّم بهم.

قيل: إنّ كلّ ظالم يحشر مع من كان معينا له و موافقا له، فاليهود مع اليهود، و النصارى مع النصارى، و المجوس مع المجوس، و شارب الخمر مع شارب الخمر، و الزاني مع الزاني (1)، و هكذا كلّ من كان على عقيدته.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 24 الی 26

ثمّ لمّا ساق الملائكة المجرمين إلى جهنّم نادى اللّه: يا ملائكة العذاب الذين يسوقون الكفار إلى جهنّم، احبسوهم وَ قِفُوهُمْ على الصراط، أو على شفير جهنّم.

وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)ثمّ بيّن سبحانه علّة توقيفهم بقوله: إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أعمالهم و عقائدهم في الدنيا سؤال توبيخ و تقريع.

و قيل: يسألهم خزنة جهنّم هناك و يقولون: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ بالبينات؟ فيقولون بَلى

ص: 292


1- . تفسير روح البيان 7:453.

وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذابِ عَلَى اَلْكافِرِينَ (1) .

و عن (العلل) عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال في تفسير الآية: «لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، و عن عمره فيما أفناه، و عن ماله من أين جمعه و فيما أنفقه، و عن حبّنا أهل البيت عليهم السّلام» (2).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «عن ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام» (3).

و يحتمل أنّ من السؤال قوله: ما لَكُمْ أيّها الكفرة، و لأيّ سبب لا تَناصَرُونَ؟ عن ابن عباس: أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا تتناصرون، و ذلك أنّ أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر. فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين؟

و قيل: يقال للكفار ما لشركائكم لا ينصرونكم، و لا يمنعونكم من العذاب؟ (4)و على أي تقدير لا ناصر لهم بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ منقطعون عن جميع الحيل في نجاتهم، و مُسْتَسْلِمُونَ و منقادون لحكم اللّه و متمكّنون لعذابه.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 27 الی 32

ثمّ بين سبحانه أنّهم مع عدم كونهم متناصرين كلّهم متخاصمون بقوله: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ و هم أتباع الرؤساء أو الشياطين عَلى بَعْضٍ الآخر و هم الرؤساء أو الشياطين يَتَساءَلُونَ و يتخاصمون.

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ اَلْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنّا كُنّا غاوِينَ (32)

ثمّ كأنّه قيل: كيف يكون تساؤلهم (5)و تخاصمهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالُوا الأتباع لرؤسائهم، أو الكفرة لقرنائهم من الشياطين: إِنَّكُمْ أيّها الرؤساء أو الشياطين كُنْتُمْ في الدنيا تَأْتُونَنا و تحملوننا على الكفر و العصيان عَنِ اَلْيَمِينِ و بالقوة القهرية على ما قيل (6)، و تجبروننا على الكفر و العصيان.

ص: 293


1- . تفسير الرازي 26:132، و الآية من سورة الزمر:39/71.
2- . علل الشرائع:218/2، تفسير الصافي 4:266.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:59/222، أمالي الطوسي:290/564، تفسير الصافي 4:266.
4- . تفسير الرازي 26:133.
5- . تفسير روح البيان 7:455.
6- . تفسير الرازي 26:134، تفسير البيضاوي 2:292.

و قيل: يعني عن ناحية الحلف و اليمين، فانّ روساءهم كانوا يحلفون لأتباعهم المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحقّ المبين، فكانوا يثقون بأيمانهم (1).

و قيل: إنّ المراد أنّكم كنتم تخدعوننا، و توهمون لنا أنّ دعوتكم إيّانا ليست إلاّ نصرة الحقّ و تقوية للصدق (2). فأجابهم الرؤساء و قالُوا لهم: ما أجبرناكم على الكفر و أضللناكم عن الايمان بَلْ لَمْ تَكُونُوا في الدنيا مُؤْمِنِينَ حتى تقولوا إنّا صرفناكم عن الايمان

وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ شيء مِنْ سُلْطانٍ و قهر و إجبار يسلب به اختياركم بَلْ كُنْتُمْ في الدنيا قَوْماً و جمعا طاغِينَ على اللّه باختياركم،

و مصرّين على العصيان بشهوة أنفسكم فَحَقَّ و ثبت و لزم عَلَيْنا في اليوم قَوْلُ رَبِّنا و وعيده بالعذاب على الكفر و العصيان، لعدم جواز خلف الوعد عليه، فاليوم إِنّا لَذائِقُونَ طعم ذلك العذاب باستحقاقنا،

و لمّا كنتم راغبين الى الكفر فَأَغْوَيْناكُمْ و دعوناكم إليه من غير إكراه و إجبار، فاستبجبتم لنا باختياركم و هوى أنفسكم، فليس لكم حق الاعتراض علينا إِنّا كُنّا غاوِينَ و ضالّين عن الحقّ، فأحببنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية و الضّلال.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 33 الی 39

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تخاصم الرؤساء و الأتباع، أخبر عن سوء حالهم في جهنّم بقوله: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذابِ و دخول النار و الابتلاء بالشدائد مُشْتَرِكُونَ لاشتراكهم في الغواية و الضلال و العصيان.

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَ يَقُولُونَ أَ إِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا اَلْعَذابِ اَلْأَلِيمِ (38) وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)

ثمّ بيّن سبحانه عدله و حكمته في تعذيبهم بقوله: إِنّا كَذلِكَ الفعل الفضيع، و مثل هذه المعاملة الهائلة نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ و نعامل معهم لإنكارهم التوحيد و الرسالة و المعاد،

كما نبّه سبحانه عليه بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا في الدنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق النّصح و العظة و الدّعوة إلى التوحيد. قولوا: لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ و يتأنّفون عن القول به، و يتعصّبون لآلهتهم،

و يصرّون على الشّرك وَ يَقُولُونَ في جواب الداعي إلى التوحيد و القائل به و هو النبي الامّي صلّى اللّه عليه و آله الآتي بالقرآن: أَ إِنّا لَتارِكُوا عبادة آلِهَتِنا و أصنامنا اتّباعا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ حيث إنّه يدّعي خلاف ما وجدنا عليه

ص: 294


1- . تفسير الرازي 26:134.
2- . تفسير الرازي 26:134.

آباءنا.

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: بَلْ جاءَ من جانب اللّه بِالْحَقِّ و ما هو ثابت بالبراهين القاطعة، و محقّق عند العقل السليم من التوحيد الذي أخبر به جميع الأنبياء وَ صَدَّقَ محمد صلّى اللّه عليه و آله بما أخبر به جميع اَلْمُرْسَلِينَ فيما أخبروا به من التوحيد

إِنَّكُمْ أيّها المشركون و اللّه لَذائِقُوا اَلْعَذابِ اَلْأَلِيمِ للاشتراك و الاستكبار و تكذيب الرسول الأمين، و في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب إظهار لشدّة الغضب عليهم.

ثمّ نبّه سبحانه على أن ليس في تعذيبهم (1)شائبة الظلم و العمل بخلاف الكرم، بل هو ما يستحقّونه بقوله: وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاّ مقدار جزاء ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الكفر و العصيان لا تزادون (2)و لا تنقصون.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ بيّن حسن حال المؤمنين بقوله: إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ له في العبادة.

إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42)قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكن عباد اللّه المخلصين (3)لا يذوقونه، و المخلصون بالفتح: الذين أخصلهم اللّه لعبادته، و برّأهم من عبادة غيره.

ثمّ بيّن سبحانه بعد خلاصهم من العذاب نيلهم بغاية الفضل بقوله: أُولئِكَ الأجلاء الرفيعو المقام، الممتازون عن غيرهم بطيب الطينة و حسن الفطرة و الخلوص في العبادة لَهُمْ بمقابل حسن عقيدتهم و أعمالهم رِزْقٌ لا يمكن وصف كماله و حسنه مَعْلُومٌ عندهم في الآخرة وجودا و قدرا و حسنا و لذة و طيبا،

و ذلك الرزق فَواكِهُ كثيرة و نعم لذيذة من الثّمار و غيرها تؤكل للّذّة لا للحاجة.

و قيل: إنّ المراد بالفواكه خصوص الثّمار؛ لأنّ رزق أهل الجنّة كلّه من الثّمار (4)، أو لأنّ ذكرها مغن عن ذكر غيرها، لأنّها من أتباع سائر الأطعمة (5)، فاذا كانت الفاكهة التي هي أدنى من غيرها حاضرة على الدوام، كان غيرها أولى بالحضور.

و قيل: لمّا كانت الفاكهة في بلاد العرب عزيزة الوجود، خصّها بالذّكر لازدياد التشويق (6).

ص: 295


1- . في النسخة: أن في تعذيبهم ليس.
2- . في النسخة: لا تزدادون.
3- . تفسير الرازي 26:136. (4 و 5 و 6) . تفسير روح البيان 7:458.

ثمّ لمّا كان الرزق المقرون بالإهانة غير معتن به عند النفوس الأبية و الهمم العالية، بيّن سبحانه إكرامهم بقوله: وَ هُمْ مُكْرَمُونَ عند اللّه تبارك و تعالى غاية الإكرام معظّمون نهاية التعظيم.

عن الباقر عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-في حديث- «أمّا قوله: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ بأن يعلمه الخدّام فيأتون به أولياء اللّه قبل أن يسألوهم إيّاه، و أمّا قوله: فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ قال: إنّهم لا يشتهون شيئا في الجنّة إلاّ اكرموا به» (1).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 43 الی 49

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر مأكولهم وصف كمال مجلسهم و مشروبهم بقوله: فِي جَنّاتِ و بساتين ذوات اَلنَّعِيمِ و هم متمكّنون فيها

عَلى سُرُرٍ حال كونهم مُتَقابِلِينَ و مواجهين، ليفرحوا بحسن حال الأحبّة و رؤيتهم و يتآنسوا (2). روي أنّهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم (3)،

ثمّ وصف سبحانه كمال مجلسهم و مشروبهم بقوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ و يدور الغلمان حولهم بِكَأْسٍ و إناء من زجاجة فيه خمر مِنْ نهر مَعِينٍ و جار على وجه أرض الجنّة، أو من شراب معين و ظاهر للعيون، أو جار من العيون،

و تلك الخمرة على خلاف خمور الدنيا بَيْضاءَ.

فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)قيل: إنّ خمرا منه أشدّ بياضا من اللّبن (4).

ثمّ بالغ سبحانه في بيان لذتها بقوله: لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ حيث إنّه تعالى جعلها عين اللّذة بخلاف خمور الدنيا، فانّها-على ما قيل-لا لذّه لها (3)

لا فِيها غَوْلٌ و صداع، أو فساد من صداع أو وجع بطن وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ و يسكرون. القمي، قال: لا يطردون عنها (4).

ثمّ وصف سبحانه منكوحهم بقوله: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ و حابسات الأبصار عن غير أزواجهن، بل يكون نظرهنّ إلى أزواجهن، لحسنهم في نظرهن و عفّتهن، و هن عِينٌ قيل: يعني حسان الأعين و عظامها (5)

كَأَنَّهُنَّ في البياض و النظافة بَيْضٌ مَكْنُونٌ و مستور مصون من الغبار. قيل: شبّههن سبحانه في البياض ببيض النّعام، لأنّ لونها بياض مخلوط بالصّفرة، و هو أحسن ألوان

ص: 296


1- . الكافي 8:100/69، تفسير الصافي 4:268.
2- . في النسخة: و يتوانسوا. (3 و 4) . تفسير الرازي 26:137.
3- . تفسير روح البيان 7:459.
4- . تفسير القمي 2:222، تفسير الصافي 4:268.
5- . تفسير روح البيان 7:461.

الأبدان (1).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 50 الی 57

ثمّ حكى سبحانه بعض محاورات أهل الجنّة، كما حكى بعض محاورات أهل النار بقوله: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ و يتحادثون.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ اَلْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ (57)قيل: إنّ الكلام عطف على قوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ (2)و المراد أنّ أهل الجنّة يشربون و يتحادثون على الشّرب، كما هو عادة أهل شرب الخمر في الدنيا، فيقبل بعضهم على بعض حال كونهم يتساءلون عمّا جرى عليهم في الدنيا (3)

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في تضاعيف محاوراته و أثناء كلامه: إِنِّي كانَ لِي في الدنيا قَرِينٌ و جليس

يَقُولُ على سبيل التوبيخ على إيماني بالبعث و الحساب: أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ بالبعث كيف تقرّ بما تستبعده العقول؟

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً بعد الموت منتشرا في وجه الأرض وَ عِظاماً بالية أَ إِنّا لمحيون ثانيا و لَمَدِينُونَ و مجزون على أعمالنا؟ ! هيهات هيهات لا يكون ذلك أبدا!

ثمّ قالَ ذلك القائل: هَلْ أَنْتُمْ يا أصحابي مُطَّلِعُونَ على أهل النار، و مشرفون عليهم حتى اريكم ذلك القرين المكذّب بالبعث؟

فَاطَّلَعَ القائل و أشرف على قرينه فَرَآهُ مستقرّا فِي سَواءِ اَلْجَحِيمِ و وسطها ثم

ّ قالَ ذلك القائل لقرينة الهالك تَاللّهِ إِنْ كِدْتَ و قد قاربت لَتُرْدِينِ و إلى أن تهلكني كما هلكت

وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي عليّ بالهداية و العصمة لَكُنْتُ معك مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ في العذاب، و المساقين إلى النار، كما احضرت أنت و أمثالك.

عن ابن عباس: في الجنّة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار و يناظرونهم، لأنّ لهم في توبيخ أهل النّار لذّة و سرورا (4).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 58 الی 61

أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ اَلْعامِلُونَ (61)

ص: 297


1- . تفسير أبي السعود 7:191، تفسير الصافي 4:269.
2- . الصافات:37/45.
3- . تفسير الرازي 26:138، تفسير البيضاوي 2:294، تفسير أبي السعود 7:191، تفسير روح البيان 7:461.
4- . تفسير روح البيان 7:462.

ثمّ أقبل القائل إلى جلسائه و قرنائه في الجنّة بعد الإعراض عن قرينة الذي رآه في النار، و حاورهم في الخلود في الجنّة سرورا بفضل اللّه، و التذاذا بتحديث [جلسائه عن]

نعمه، فقال لهم: أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ قيل: إنّ التقدير أنحن مخلّدون، فما نحن بميتين؟ (1)

إِلاّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى كانت في الدنيا، و قبل بعثنا من القبور. و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكن موتتنا الاولى قد كانت في الدنيا (2). و قيل: إنّ (إلاّ) هنا بمعنى بعد و سوى (3)(وَ ما نَحْنُ) كالكفّار بِمُعَذَّبِينَ أبدا.

عن الباقر عليه السّلام: «إذا دخل أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار، جيء بالموت فيذبح كالكبش بين الجنّة و النّار، ثمّ يقال: خلود فلا موت أبدا. فيقول أهل الجنّة: أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ* إِلاّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» (4).

إِنَّ هذا الخلود في الجنّة، و دوام النعمة، و الأمن من العذاب، و اللّه لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و الظّفر بأقصى المطالب،

و هو السعادة الأبدية التي لا سعادة فوقها و لِمِثْلِ هذا المقصد الأعلى فَلْيَعْمَلِ اَلْعامِلُونَ و ليجتهد المجتهدون، لا للمقاصد الدنيوية السريعة الزوال و الانقطاع.

قيل: إنّه من كلام اللّه ترغيبا للناس في طلب ثواب الآخرة (5).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعم أهل الجنّة و مأكلهم و مشربهم، ذكر سبحانه مأكول أهل النار و مشروبهم، بقوله: (قل) يا محمد، لقومك المشركين بعد تلاوة الآيات النازلة عليك في وصف نعم أهل الجنّة: أنصفوا يا قوم أَ ذلِكَ الرزق المعلوم الذي هو فاكهة الجنّة خَيْرٌ و أحسن من كونه نُزُلاً و تهيئة لورودكم يوم القيامة، أو خيرا حاصلا مع كون حاصلة اللّذة و السّرور أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ التي حاصلها الألم و الغمّ.

أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ (62) إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ (63)قيل: إنّ المفسرين لم يذكروا لشجرة الزّقّوم تفسيرا (6).

و قيل: إنّ الزّقّوم اسم شجرة صغيرة الورق مرّة كريهة الرائحة، تكون بتهامة، يعرفها المشركون (7).

ص: 298


1- . تفسير أبي السعود 7:193، تفسير روح البيان 7:462.
2- . تفسير روح البيان 7:463.
3- . تفسير روح البيان 7:463.
4- . تفسير القمي 2:223، تفسير الصافي 4:270.
5- . تفسير روح البيان 7:463.
6- . تفسير الرازي 26:141.
7- . تفسير روح البيان 7:464.

و قيل: إنّ شجرة الزّقّوم هي أطعمة كريهة في النار (1).

و قيل: إنّ ظاهر القرآن أنّها شجرة كريهة الطعم، نتنة الرائحة، شديدة الخشونة (2)

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال ابن الزّبعرى شاعر قريش: أكثر اللّه في بيوتكم الزّقّوم، فانّ اليمن يسمّون الزّبد و التمر بالزّقّوم. و قال أبو جهل لجاريته: زقّميني، فأتته بزبد و تمر، و قال تزقّموا (3).

و قيل: إنّ المشركين لمّا سمعوا الآية قالوا: كيف يعقل أن ينبت الشجر في جهنّم مع أنّ النار تحرق الشجر؟ (4)

فردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله تعالى: إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً و سببا لشبهة موجبة لتمادي الكفّار في كفّرهم لِلظّالِمِينَ و المشركين و قيل: إنّ المراد من الفتنة المحنة و العذاب (5). و قيل: إنّ المراد الامتحان و الابتلاء في الدنيا، حيث إنّ الكفار لمّا سمعوا كون الشجر في النار طعنوا في القرآن و النبوة، و إنّ المؤمنين لمّا سمعوا آمنوا و فوّضوا علمه إلى اللّه (6).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 64 الی 68

ثمّ وصف سبحانه الشجرة بقوله: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ و تنبت فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ و قعرها، و ترتفع أغصانها إلى دركاتها، و ما كان منبته النار لم يحترق بها.

و فيه ردّ على من قال: كيف يعقل أن ينبت الشجر في النّار مع أنّ النار تحرق الشجر طَلْعُها و ثمرها الذي يظهر منها في تناهي القبح و الايحاش كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّياطِينِ قيل: إنّه تشبيه بالمخيّل، فانّ الناس يتخيّلون أن صورة الشياطين أقبح الصّور و أكرهها، و لذا لو وصفوا شيئا بغاية القباحة، قالوا: كأنّه شيطان، كما أنّهم لو وصفوا شيئا بغاية الحسن قالوا: كأنّه ملك (7).

إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى اَلْجَحِيمِ (68)و قيل: إنّ الشيطان اسم حيّة لها رأس و عرف، و هي من أقبح الحيّات، و بها يضرب المثل في القبح (8).

و قيل: إن رؤوس الشياطين نبت معروف قبيح الرأس (9)فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها بالإكراه و الإجبار، أو

ص: 299


1- . تفسير روح البيان 7:464.
2- . تفسير الرازي 26:141.
3- . تفسير الرازي 26:141.
4- . تفسير الرازي 26:141، تفسير روح البيان 7:465.
5- . تفسير البيضاوي 2:295.
6- . تفسير الرازي 26:142.
7- . تفسير الرازي 26:142، تفسير روح البيان 7:465. (8 و 9) . تفسير الرازي 26:142.

لشدّة الجوع فَمالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ.

ثمّ لمّا كان لازم الشّبع و ملأ (1)البطن العطش و شدّته، بيّن سبحانه مشروبهم، كما بيّن مشروب أهل الجنّة بعد ذكر طعامهم بقوله: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ بعد الأكل من الشجرة و اشتداد العطش و طول الاستسقاء عَلَيْها لَشَوْباً و خليطا مِنْ حَمِيمٍ و ماء متناه في الحرارة.

قيل: يعني شربا من دم أو قيح أسود أو صديد ممزوجا و مشوبا بماء حار غاية الحرارة يقطع أمعاءهم (2).

قيل: إنّ كلمة (ثمّ) دالة على التراخي الزماني، فيفهم منها أنّ أهل النار يملأون بطونهم من شجرة الزّقّوم و هي حارة تحرق بطونهم، فيعظم عطشهم، فيستسقون فلا يسقون إلاّ بعد مدة طويلة ليكمل تعذيبهم. و قيل: إن كلمة (ثمّ) دالة على التراخي في الرّتبة، فتدلّ على أنّ مشروبهم في الشناعة أشدّ من مأكولهم (3).

ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ بعد أكل الزّقّوم و شرب الحميم، كما عن مقاتل (4)لَإِلَى اَلْجَحِيمِ قيل: إنّ موضع الحميم خارج من الجحيم، فهم يوردون الحميم لأجل الشّرب كما تورد الإبل إلى الماء، ثمّ يردّون إلى الجحيم، كما دلّ عليه قوله: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (5)و قيل: إنّ الزّقّوم و الحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخول الجحيم (6).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 69 الی 74

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم هذا العذاب الشديد بقوله: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا و وجدوا آباءَهُمْ و كبراءهم ضالِّينَ و منحرفين عن طريق الحقّ و الهدى بعبادتهم الأصنام

فَهُمْ بلا تدبّر في صحّة مذهب آبائهم، و تحصيل دليل على حقانية دينهم مع وضوح بطلانه بأدنى تفكّر عَلى آثارِهِمْ و عقبهم، أو إلى تقليدهم يُهْرَعُونَ و يسرعون بكمال الشدّة، و يتبعونهم مع غاية العصبية.

ثمّ لمّا كان إصرار الناس على الكفر و الضلال سببا لتألم قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حزنه، سلاّه سبحانه

إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ اَلْأَوَّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ (73) إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (74)

ص: 300


1- . في النسخة: و ملأنه.
2- . تفسير روح البيان 7:465.
3- . تفسير روح البيان 7:465.
4- . تفسير الرازي 26:143.
5- . تفسير الرازي 26:143، و الآية من سورة الرحمن:55/44.
6- . تفسير روح البيان 7:465.

بقوله: وَ لَقَدْ ضَلَّ و اللّه قَبْلَهُمْ بإضلال إبليس أَكْثَرُ القرون اَلْأَوَّلِينَ و الامم الماضين

وَ و اللّه لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ من قبلنا أنبياء مُنْذِرِينَ و مخوّفين لهم من العذاب على الشّرك و العصيان مع المعجزات الباهرة و البراهين القاطعة، فبيّنوا لهم بطلان عقائدهم، و سوء عاقبة كفرهم،

فما اعتنوا بإنذارهم فَانْظُرْ أيّها النبيّ، أو الناظر كَيْفَ كان عاقِبَةُ أمر الامم اَلْمُنْذَرِينَ و مآل كفرهم و طغيانهم،

فقد علمت أنّ عاقبتهم كانت أوخم العواقب و أسوأها إِلاّ عاقبة الذين كانوا عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ فانّ عاقبتهم خير العواقب و أحسنها.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 75 الی 80

ثمّ لمّا ذكر سبحانه إرساله الرسل إلى الامم الضالة، ذكر بعض الأنبياء العظام و لطفه بهم بقوله: وَ لَقَدْ نادانا و دعانا نُوحٌ لتخليصه من إيذاء قومه و قتلهم إياه، و الأمن [من]

الغرق بالطّوفان فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ نحن لدعائه.

وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْباقِينَ (77) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ (79) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (80)

ثمّ بيّن سبحانه حسن إجابته له لقوله: وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ و أقاربه مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ و الغمّ الشديد، و هو أذى قومه،

أو الغرق بالطّوفان وَ جَعَلْنا بعد هلاك الخلق بالطّوفان ذُرِّيَّتَهُ و نسله فقط هُمُ اَلْباقِينَ على وجه الأرض.

روي أنّه مات كلّ من معه في السفينة غير أبنائه و أزواجهم، و هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة (1).

وَ تَرَكْنا على نوح، و أبقينا عَلَيْهِ فِي الامم اَلْآخِرِينَ الثناء و حسن الذكر

سَلامٌ من اللّه، أو من الملائكة و الثّقلين عَلى نُوحٍ و ذلك السّلام و التحية باق عليه فِي اَلْعالَمِينَ و امّة بعد أمّة. قيل: إنّ المراد الدعاء بثبوت هذه فيهم جميعا، كأنّه أثبت اللّه التسليم على نوح و أدامه في الملائكة و الثقلين، فيسلّمون عليه بكليّتهم (2).

قال القرطبي: جاءت الحية و العقرب لدخول السفينة، فقال نوح: لا أحملكما لأنّكما سبب الضرر و البلاء. فقالا: احملنا و نحن نضمن لك أن لا نضرّ أحدا ذكرك، فمن قرأ حين يخاف مضرّتهما

ص: 301


1- . تفسير روح البيان 7:467.
2- . تفسير الرازي 26:145، تفسير روح البيان 7:468.

سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ لم يضرّاه (1).

عن الصادق عليه السّلام-في حديث-: «و بشّرهم نوح بهود، و أمرهم باتّباعه، و أن يقيموا الوصيّة كلّ عام فينظروا فيها، و يكون عيدا لهم، كما أمرهم آدم عليه السّلام، فظهرت الجبرية من ولد حام و يافث، فاستخفى ولد سام بما عندهم من العلم، و جرت على سام بعد نوح الدولة لحام و يافث، و هو قول اللّه عز و جل: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ يقول: تركت على نوح دولة الجبّارين، و يعزّي (2)اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بذلك. قال: و ولد لحام: السند و الهند و الحبش، و ولد لسام العرب و العجم، و جرت عليهم الدولة، و كانوا يتوارثون الوصية عالم بعد عالم حتى بعث اللّه هودا (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمه على نوح، بيّن استحقاقه لها بقوله: إِنّا كَذلِكَ و مثل تلك النّعم نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ و نفضّل عليهم بسبب إحسانهم.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 81 الی 85

ثمّ أثنى على نوح و ذكر إحسانه بقوله: إِنَّهُ كان أحدا مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ بتوحيدي و بما يجب الايمان به من البعث و غيره. و فيه بيان أنّ من أعظم درجات الانسان الايمان باللّه و الانقياد لطاعته.

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ (82) وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85)

ثمّ بين سبحانه غضبه على أعداء نوح بقوله: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بالطّوفان الأقوام اَلْآخَرِينَ المعاندين لنوح، و هم الكفار و المشركون.

قيل: إنّ كلمة (ثم) لبيان غاية البعد و تفاوت الرّتبة بين إنجاء نوح و أهله، و الإغراق المتراخي الزماني (4).

ثمّ بيّن سبحانه قصّة إبراهيم عليه السّلام الذي كان من اولي العزم بعد نوح عليه السّلام بقوله: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ و أتباعه و السالكين على منهاجه في التوحيد و الدعوة إليه، و الثبات على الحقّ، و تحمّل أذى القوم لَإِبْراهِيمَ. عن ابن عباس: من أهل دينه، و على سنته، أو ممّن شايعه في مصابرة المكذّبين (5).

قيل: كان بين نوح [و إبراهيم]ألفان و ستمائة و أربعون [سنة]و ما كان بينهما إلاّ نبيان: هود،

ص: 302


1- . تفسير القرطبي 9:32.
2- . في كمال الدين: و يعزّ.
3- . كمال الدين:135/3، تفسير الصافي 4:272.
4- . تفسير روح البيان 7:468.
5- . تفسير أبي السعود 7:196، تفسير روح البيان 7:468.

و صالح (1).

أقول: الظاهر أنّ المراد النبي المعروف، لأنّه لا شبهة أن الأرض لا تخلو من حجّة.

و عن الكلبي: أنّ المراد أنّ من شيعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله إبراهيم (2)، و إن لم يذكر اسمه الشريف قبل الآية، و كان إبراهيم قبل نبينا بكثير، لكنّه تابع له في الحقيقة (3).

إِذْ جاءَ رَبَّهُ و حين أقبل إلى خالقه و مالكه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الآفات النفسانية، و الهواجس الشيطانية، و العلائق الدنيوية. عن ابن عباس: إنّه يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه، و سلم جميع الناس من غشّه و ظلمة، و أسلمه اللّه تعالى فلم يعدل به أحدا (4).

و قيل: إنّ (إذ) متعلّق باذكر المقدّر (5).

و كان ظهور مجيئه ربّه و إقباله إلى مالكه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ الذين كانوا عبدة الأصنام إنكارا عليهم و توبيخا لهم ما ذا تَعْبُدُونَ و أيّ شيء هذه الأصنام التي لها تسجدون.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 86 الی 99

ثمّ بالغ في توبيخهم و لومهم بقوله: أَ إِفْكاً و كذبا أو باطلا آلِهَةً و معبودين دُونَ اَللّهِ و سوى المعبود المستحقّ للعبادة تُرِيدُونَ و تطلبون.

أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اَللّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ (98) وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)قيل: إنّ (إفكا) مفعولا له، و إنّما قدّمه لكون الأهمّ عنده أن يقرّر عندهم أنّهم على إفك و باطل في شركهم (6). و قيل: إنّه مفعول ل(تريدون) (7)أو حال، و المعنى أتريدون آلهة من دون اللّه آفكين (8).

فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ و حسبانكم في حقّه، أتظنون أنّه جعل لنفسه من الجمادات شركاء

ص: 303


1- . تفسير أبي السعود 7:197، تفسير روح البيان 7:469.
2- . تفسير الرازي 26:146، تفسير القرطبي 15:91.
3- . تفسير روح البيان 7:469.
4- . تفسير الرازي 26:146.
5- . تفسير البيضاوي 2:297.
6- . تفسير الرازي 26:147، تفسير روح البيان 7:469.
7- . تفسير الرازي 26:147.
8- . تفسير الرازي 26:147.

في العبادة، أو أنّه من جنس هذه الجمادات حتى جعلتموها مساوية له، أو تظنّون أنّه لا يؤاخذكم بإشراككم، أو أنّه غافل عن سيئات أعمالكم، و هو ربّ العالمين، لا يساويه (1)و ليس كمثله شيء، و لا يرضى بعبادة غيره، و لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

ثمّ صمّم إبراهيم عليه السّلام على أن يلزم قومه الحجّة على عدم قابلية (2)الأصنام للعبادة حتى خرج القوم إلى عيد لهم، فقالوا: يا إبراهيم، اخرج معنا إلى الصحراء و إلى عيدنا (3)، و كانوا على ما قيل يتعاطون علم النجوم (4)فَنَظَرَ إبراهيم نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فرآى موقعها و اتصالاتها، أو نظر في علم النجوم

فَقالَ اعتذارا من الخروج إِنِّي سَقِيمٌ و مريض لا يصلح لي الخروج.

عن ابن عباس: أنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم على مقتضى عادتهم، و ذلك أنّه أراد أن يكايدهم في أصنامهم، ليلزمهم الحجّة في أنّها غير معبودة، و كان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه، فأراد أن يتخلّف عنهم، ليبقى خاليا في بيت الأصنام، فيقدر على كسرها (5).

قيل: إنّ المراد من قوله: إِنِّي سَقِيمٌ إنّي سأسقم، و كانت تأتيه سقامة كالحمّى في بعض ساعات الليل و النهار (6).

و قيل: كان له نجم مخصوص، كلّما طلع على صفة مخصوصة مرض (7).

و قيل: إنّ هذا الكلام منه على سبيل التعريض، و مراده أنّ الإنسان في أكثر أحواله لا ينفكّ عن حالة مكروهة (8)إمّا في بدنه، و إمّا في قلبه، و كل ذلك سقم (9).

و قيل: يعني سقيم القلب غير عارف بربّي، و كان ذلك قبل بلوغه (10).

و قيل: يعني مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر و الشرك (11).

و عن الباقر عليه السّلام: «و اللّه ما كان سقيما و ما كذب» (12).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّه حسب فرأى ما يحلّ بالحسين عليه السّلام، فقال: إنّي سقيم لما يحلّ 0بالحسين» (13).

قيل: إنّ القوم توهّموا من قوله إِنِّي سَقِيمٌ أنّه ابتلي بالطاعون لكثرته في زمانه (14)

فَتَوَلَّوْا

ص: 304


1- . في النسخة: لا يساومه.
2- . يريد استحقاق.
3- . في النسخة: معيدنا.
4- . تفسير روح البيان 7:469.
5- . تفسير الرازي 26:147.
6- . تفسير الرازي 26:147.
7- . تفسير الرازي 26:147.
8- . في النسخة: مكرهة.
9- . تفسير الرازي 26:148.
10- . تفسير الرازي 26:147.
11- . تفسير الرازي 26:147.
12- . الكافي 8:100/70، تفسير الصافي 4:273.
13- . الكافي 1:387/5، تفسير الصافي 4:273.
14- . تفسير أبي السعود 7:107، تفسير الصافي 4:273، تفسير روح البيان 7:470.

و أعرضوا عَنْهُ حال كونهم مُدْبِرِينَ و هاربين منه، لخوف السّراية،

فلمّا ذهب القوم و تركوه جاء إلى بيت الأصنام فَراغَ و ذهب خفية إِلى آلِهَتِهِمْ فرآى أنّ القوم وضعوا عندهم الطّعام لتحصل له البركة على ما قيل (1)فَقالَ لهم استهزاء بهم: أَ لا تَأْكُلُونَ من هذا الطعام؟

ثمّ بالغ في الاستهزاء بهم و قال ما لَكُمْ و أي حال عرض لكم أنّكم لا تَنْطِقُونَ و لا تكلّمون معي و لا تجيبوني؟

فَراغَ و أقبل عَلَيْهِمْ خفية فضربهم ضَرْباً شديدا بِالْيَمِينِ و بتمام القوّة التي كانت له. قيل: إنّ المراد فأقبل عليهم حال كونه ضاربا لهم بسبب الحلف على ضربهم بقوله: تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فلمّا رجع القوم من عيدهم (2)جاءوا إلى الأصنام على حسب رسمهم، فوجدوها مكسورة، فظنّوا بالقرائن أنّه عمل إبراهيم (3)

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ و توجّهوا نحوه، و هم يَزِفُّونَ و يسرعون في المشي.

ثمّ أنّه بعد ما جرت بينه و بين القوم من المحاورات التي حكاها سبحانه في سورة الأنبياء قالَ توبيخا لهم: أَ تَعْبُدُونَ يا قوم، و أنتم عقلاء ما تَنْحِتُونَ بأيديكم من الأحجار و الأخشاب؟ !

وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ بقدرته مادة و صورة وَ خلق ما تَعْمَلُونَ من الأصنام بإقداركم على نحتها.

و لمّا عجز نمرود و خواصه من إبطال حجّته قالُوا: يا قوم اِبْنُوا لَهُ بُنْياناً رفيعا عظيما، و املأوه حطبا، و أشعلوا فيه النار لإحراق إبراهيم فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ و النار الشديدة الإيقاد. قيل: إنّ القائل رجل من أعراب فارس اسمه الهيزن (4).

عن ابن عباس، أنّه قال: بنوا حائطا من حجر، طوله في السماء ثلاثون ذراعا، و عرضه عشرون ذراعا، و ملأوه حطبا، و أشعلوا فيه نارا (5).

فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً و شرّا عظيما، و هو إحراقه بالنار فَجَعَلْناهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ و الأذلّين بإبطال كيدهم، و جعل النار عليه بردا و سلاما، و سعيهم في إهلاكه سببا لظهور حجّته و وضوح صدقه و علوّ رتبته

وَ قالَ للوط و لمن آمن به من بعد إنجاء اللّه إياه من النار: إِنِّي ذاهِبٌ و مهاجر من هذه القرية الظالم أهلها، و هي حرّان، أو بابل، أو هرمز بحرة (6)التي كانت بين البصرة و الكوفة إِلى بلاد الشام التي أمرني رَبِّي بالذّهاب إليها.

ص: 305


1- . تفسير روح البيان 7:470.
2- . في النسخة: معيدهم.
3- . تفسير روح البيان 7:470.
4- . تفسير روح البيان 7:471.
5- . تفسير روح البيان 7:471.
6- . الذي في معجم البلدان: هرمز جرد: ناحية في أطراف العراق، و هرمز قرة: قرية في طرف نواحي مرو، و لعل ما في المتن مصحف ما عن: هرمز جرد. معجم البلدان 5:463.

و قيل: أمر بالذّهاب إلى أرض فلسطين و هي بين الشام و مصر (1). أو المراد إلى موضع يكون فيه صلاح ديني (2)، أو إلى بيت المقدس، كما عن الصادق (1). و عن أمير المؤمنين عليهما السّلام في رواية: «فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه عبادة و اجتهادا و قربة إلى اللّه» (2). إنّه بلطفه سَيَهْدِينِ إلى الموضع الذي أمرني بالذّهاب إليه، و يرشدني إليه البتة على لطفه أو وعده.

روي أنّ إبراهيم لمّا جعل اللّه عليه النار بردا و سلاما، و أهلك عدوّة نمرود، و تزوّج بسارة، و كانت أحسن النساء وجها، و كانت تشبه حوّاء في حسنها، عزم الانتقال من أرض بابل إلى الشام (3).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 100 الی 111

ثمّ أن سارة اشترت هاجر، فوهبتها لإبراهيم (4)، فلمّا ملكها دعا ربّه بقوله: رَبِّ هَبْ لِي ولدا يكون مِنَ عبادك اَلصّالِحِينَ و الكاملين في العلم و العمل و الأخلاق، ليكون عونا لي على الطاعة و الدعوة،

و يؤنسني في الغربة فَبَشَّرْناهُ إجابة لدعائه بِغُلامٍ حَلِيمٍ و ولد صالح متحمّل للمشاقّ، صبور عند إصابة المكاره، لا يغلب عليه الغضب، و لا يعجل في الامور.

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي اَلْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّابِرِينَ (102) فَلَمّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْبَلاءُ اَلْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (111)قيل: إنّه تعالى جمع فيه بشارات ثلاث: الاولى: إنّه غلام، و الثانية: إنّه يبلغ أوان الحلم، و الثالثة: إنّه حليم، و من حلمه أنّه استسلم للذبح (5). قيل: ما نعت اللّه نبيا بالحلم لعزّة وجوده غير إبراهيم و ابنه (6).

فلما وهب له إسماعيل، و نشأ إلى أن بلغ رتبة [أن]

يعاون إبراهيم في حوائجه و مشاغله فَلَمّا بَلَغَ إبراهيم مَعَهُ اَلسَّعْيَ في مشاغله و مصالحه، أو السعي الذي هو أحد أعمال الحجّ، أراد اللّه أن

ص: 306


1- . الكافي 8:371/560، تفسير الصافي 4:274.
2- . التوحيد:266/5، تفسير الصافي 4:274.
3- . تفسير روح البيان 7:473.
4- . في النسخة: فوهبها من إبراهيم.
5- . تفسير الرازي 26:151، تفسير أبي السعود 7:199، تفسير روح البيان 7:473.
6- . تفسير البيضاوي 2:298، تفسير أبي السعود 7:199، تفسير الصافي 4:275.

يريه كمال حلم ولده، فأمره في المنام بذبحه.

قصة رؤيا إبراهيم،

و إقدامه بذبح ولده

روي أنّ إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأنّ قائلا يقول له: إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا، فلمّا أصبح تروّى في ذلك من الصباح إلى الرّواح، أمن اللّه هذا الحكم أم من الشيطان، فمن ثمّ سمّي يوم التروية، فلمّا أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنّه من اللّه، فسمّي يوم عرفة، ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره فسمّي يوم النحر (1).

و في (الكافي) عنهما عليهما السّلام: «لمّا كان يوم التروية قال جبرئيل لابراهيم: تروّ من الماء، فسمّي تروية، ثمّ أتى منى فأباته بها، ثمّ غدا إلى عرفات، فضرب خباءه بنمرة دون عرفة، و بنى مسجدا بأحجار بيض-إلى أن قال-: عمد به الى عرفات فقال: هذه عرفات، فاعرف بها مناسكك، و أعترف بذنبك، فسمّي عرفات. ثمّ أفاض إلى المزدلفة، فسمّيت المزدلفة لأنّه ازدلف إليها» (2).

و على أي تقدير، فجاء إبراهيم باسماعيل إلى منى، و هو ابن ثلاث عشر سنة على ما قيل (3)و قالَ له تلطّفا و إشفاقا يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي اَلْمَنامِ ما يوجب عليّ أَنِّي أَذْبَحُكَ قربانا للّه. و قيل: إنّه رأى أنّه يذبحه (4)فَانْظُرْ و تفكّر فيما قلت ما ذا تَرى و أيّ شيء هو رأيك و مختارك؟ و إنّما استكشف رأيه ليعلم أنّه صابر في البلاء و منقاد لأمر اللّه أو جزوع آب من التسليم، و ليكون سنة في المشاورة، أو ما ترى من نفسك من الصبر و التسليم؟ فلمّا سمع إسماعيل ذلك من أبيه قالَ بلا ريث و تأمّل يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ به من ذبحي، و إنّما قال ما تؤمر و لم يقل ما امرت، للدلالة على أنّ انقياده لا يختصّ بخصوص الذبح الذي امر به، بل يعمّ لكلّ ما يؤمر به في حقّه سَتَجِدُنِي يا أبه إِنْ شاءَ اَللّهُ أن أكون صابرا مِنَ اَلصّابِرِينَ على الذبح، أو قضاء اللّه، و من المنقادين لأمر اللّه.

فَلَمّا أَسْلَما و انقادا لأمر اللّه، عن قتادة: أسلم إبراهيم ابنه، و إسماعيل نفسه (5)وَ تَلَّهُ و صرعه إبراهيم لِلْجَبِينِ و ألقاه على شقّه بحيث وقع جبينه على الأرض لمباشرة الأمر بصبر و جلد وَ نادَيْناهُ من جانب الجبل، أو من ميسرة مسجد الخيف أَنْ يا إِبْراهِيمُ كفّ عن ذبح ولدك،

فانّك قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا و عملت بما رأيت في المنام من العزم على الذبح، و إتيان مقدّماته التي كانت تحت يدك و قدرتك. قيل: إنّه تعالى أمرّ السّكّين بقوّته على منحره فلم يقطع، ثمّ وضع السّكّين على قفاه فانقلب السكّين (6).

ص: 307


1- . تفسير الرازي 26:153، تفسير البيضاوي 2:298، تفسير أبي السعود 7:200، تفسير روح البيان 7:473.
2- . الكافي 4:207/9، تفسير الصافي 4:277.
3- . مجمع البيان 8:706، تفسير الرازي 26:152.
4- . تفسير الرازي 26:153.
5- . تفسير الرازي 26:157، تفسير روح البيان 7:474.
6- . تفسير روح البيان 7:475.

قيل: إنّ جواب (لمّا) محذوف، و التقدير لمّا فعل ذلك و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، سعد سعادة عظيمة، و آتاه اللّه نبوّة ولده، و أجزل له الثواب (1).

و قيل: إنّ التقدير كان ما كان ممّا لا يحيط (2)به نطاق البيان من استبشارهما و شكرهما اللّه على ما أنعم عليهما من رفع البلاء بعد حلوله، و التوفيق لما لم يوفقّ أحد لمثله، و إظهار فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثواب العظيم (3)إِنّا كما جزينا إبراهيم و ابنه بإحسانهما و طاعتهما كَذلِكَ نَجْزِي جميع اَلْمُحْسِنِينَ بالاحسان و الطاعة، أو إنّا كما فرّجنا عنهما الكربة بإحسانهما،

كذلك نجزي غيرهما من المحسنين إِنَّ هذا البلاء الذي ابتلينا به إبراهيم و ابنه و اللّه لَهُوَ اَلْبَلاءُ و الابتلاء اَلْمُبِينُ و المظهر للمخلص من غيره، أو إنّ ما فعلنا لهو المحنة البيّنة الصعوبة،

إذ لا شيء أصعب منها، و نجّينا إسماعيل من الذبح وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الجثّة أو عظيم القدر.

قيل: إنّ عظمة قدر هذا الفداء، لكونه فداء إسماعيل النبي و خاتم الأنبياء الذي كان في صلبه (4).

عن ابن عباس: أنّه الكبش الذي قرّبه هابيل فتقبّل منه، و كان يرعى في الجنّة حتى فدى به إسماعيل (5).

عن الصادق عليه السّلام في رواية: «فلمّا كان في الليل أتى إبراهيم آت من ربّه، فأراه في الرؤيا ذبح ابنه إسماعيل بموسم مكّة، فأصبح إبراهيم حزينا للرؤيا التي رآها، فلمّا حضر موسم ذلك العام حمل إبراهيم هاجر و إسماعيل في ذي الحجّة من أرض الشام، فانطلق بهما إلى مكّة ليذبحه في الموسم، فبدأ بقواعد البيت الحرام، فلمّا رفع قواعده خرج إلى منى حاجّا، و قضى نسكه بمنى، ثمّ رجع إلى مكّة، فطاف بالبيت اسبوعا، ثمّ انطلقا فلمّا صارا في السعي (6)، قال إبراهيم لاسماعيل: يا بني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك في الموسم عامي هذا، فما ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر. فلمّا فرغا من سعيهما انطلق به إبراهيم إلى منى، و ذلك يوم النحر، فلمّا انتهى إلى الجمرة الوسطى، أضجعه لجبينه الأيسر و أخذ الشّفرة ليذبحه، نودي: أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا إلى آخره، و فدي إسماعيل بكبش عظيم، فذبحه و تصدّق بلحمه على المساكين» (7).

و في رواية عنهما عليهما السّلام: «ثمّ قام على المشعر الحرام، فأمره اللّه أن يذبح ابنه، و قد رأى شمائله و خلائقه، و آنس ما كان إليه، فلمّا أصبح أفاض من المشعر إلى منى، فقال لامّه: زوري البيت أنت.

ص: 308


1- . تفسير الرازي:26:157 و في النسخة: و اجزاله الثواب.
2- . في النسخة: يطاق.
3- . تفسير و روح البيان 7:476.
4- . تفسير و روح البيان 7:476.
5- . تفسير أبي السعود 7:201، تفسير روح البيان 7:477.
6- . في مجمع البيان: المسعى.
7- . مجمع البيان 8:710، تفسير الصافي 4:276.

و احتبس الغلام، فقال: يا بني هات الحمار و السكّين حتى اقرّب القربان، فانّ ربّك أين هو يا بني أنت و اللّه هو، إنّ اللّه تعالى قد أمرني بذبحك، فانظر ما ذا ترى؟ قالَ يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّابِرِينَ فلمّا عزم على الذبح قال: يا أبه خمّر (1)وجهي و شدّ وثاقي. قال: يا بني الوثاق مع الذبح! و اللّه لا أجمعهما عليك اليوم» .

إلى أن قال الباقر عليه السّلام: «فأضجعه عند الجمرة الوسطى، ثمّ أخذ المدية فوضعها على حلقه، ثمّ رفع رأسه الى السماء، ثمّ انتحى (2)عليه بالمدية فقلبها جبرئيل عن حلقه، فنظر إبراهيم فاذا هي مقلوبة، فقلبها إبراهيم على حدّها، و قلبها جبرئيل على قفاها، ففعل ذلك مرارا، ثمّ نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا و اجتّر الغلام من تحته، و تناول جبرئيل الكبش من قلّة ثبير (3)فوضعه تحته» (4).

و في رواية القمّي: «و نزل الكبش على الجبل الذي عن يمين مسجد منى، نزل من السماء، و كان يأكل في سواد، و يمشي في سواد، أقرن» . قيل: ما كان لونه؟ قال: «أملح، أغبر» (5).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام: «فلمّا عزم على ذبحه، فداه اللّه بذبح عظيم؛ بكبش أملح، يأكل في سواد، و يشرب في سواد، و ينظر في سواد، و يمشي في سواد، و يبول و يبعر في سواد، و كان يرتع (6)قبل ذلك في رياض الجنّة أربعين عاما، ما خرج من رحم انثى، و إنّما قال اللّه له كن فكان، ليفتدى به إسماعيل، فكلّما يذبح بمنى فهو فدية لاسماعيل إلى يوم القيامة.

إلى أن قال: و العلّة التي لأجلها دفع اللّه عزّ و جلّ الذبح عن إسماعيل هي العلّة التي من أجلها دفع اللّه الذبح عن عبد اللّه، و هي كون النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة في صلبهما، فببركة النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة دفع اللّه الذبح عنهما، فلم تجر [السنّة]في الناس بقتل أولادهم، و لو لا ذلك لوجب على الناس كلّ أضحى التقرّب إلى اللّه تعالى ذكره بقتل أولادهم، و كلّ ما يتقرّب به الناس من اضحيّة فهو فداء لإسماعيل إلى يوم القيامة» (7).

و عنه عليه السّلام: «لو خلق اللّه مضغة أطيب من الضأن، لفدى بها إسماعيل عليه السّلام» (8).

و عن الرضا عليه السّلام، قال: «لمّا أمر اللّه إبراهيم أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه،

ص: 309


1- . في النسخة: غمّر.
2- . انتحى: أي اعتمد و مال.
3- . ثبير: هو أعلى جبال مكة و أعظمها.
4- . الكافي 4:207/9، تفسير الصافي 4:277.
5- . تفسير القمي 2:226، تفسير الصافي 4:279.
6- . في النسخة: يربع.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:210 و 212/1، تفسير الصافي 4:279.
8- . الكافي 6:310/1، تفسير الصافي 4:280.

تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده، و أنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه: يا إبراهيم، من أحبّ خلقي إليك؟ قال: يا ربّ، ما خلقت خلقا أحبّ إلي من حبيبك محمد. فأوحى اللّه إليه: يا إبراهيم، هو أحبّ إليك أم نفسك؟ قال: بل هو أحبّ إليّ من نفسي. قال: فولده أحبّ إليك أم ولدك؟ قال: بل ولده. قال: فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح بيدك في طاعتي؟ قال: يا رب، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال: يا إبراهيم، إنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما و عدوانا، كما يذبح الكبش، و يستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم لذلك، فتوجّع قلبه، و أقبل يبكي، فأوحى اللّه تعالى إليه: يا إبراهيم، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين و قتله، و أوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (1).

ثمّ بيّن سبحانه زيادة تشريفه لإبراهيم بقوله، وَ تَرَكْنا و أبقينا عَلَيْهِ فِي الامم اَلْآخِرِينَ حسن الذّكر و الثّناء الجميل إلى يوم القيامة،

أو التحية له بقولهم: سَلامٌ من اللّه، أو من الملائكة و الثقلين عَلى إِبْراهِيمَ كما أبقينا على نوح هذه التحية

كَذلِكَ الجزاء الجزيل، و مثل هذا الأجر الجميل نَجْزِي جميع اَلْمُحْسِنِينَ الذين منهم إبراهيم حيث

إِنَّهُ مِنْ جملة عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ و أوليائنا المخلصين، لا من عباد الدنيا و أتباع النفس و الهوى.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 112 الی 122

ثمّ بيّن سبحانه زيادة تفضّله و إنعامه على إبراهيم بقوله: وَ بَشَّرْناهُ مع غاية كبره و عقم زوجته سارة و يأسها من الولد بِإِسْحاقَ و جعلنا ذلك الولد نَبِيًّا صالحا مِنَ جملة الأنبياء

وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّالِحِينَ (112) وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (114) وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ اَلْغالِبِينَ (116) وَ آتَيْناهُمَا اَلْكِتابَ اَلْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْناهُمَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (118) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي اَلْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (122)

ص: 310


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:209/1، تفسير الصافي 4:279.

اَلصّالِحِينَ و في وصفه بالصلاح بعد النبوة غاية تعظيم لشأنه،

و دلالة على كونه أعلى مراتب كمال الانسانية وَ بارَكْنا على إبراهيم و أنعمنا عَلَيْهِ بكثرة الأولاد وَ كذا عَلى ابنه إِسْحاقَ حيث أخرجنا من صلبه بني إسرائيل وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما و نسلهما مُحْسِنٌ كأنبياء بني إسرائيل الذين منهم موسى و عيسى و غيرهما من الرسل، وَ منهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ باختيار الكفر و ارتكاب المعاصي مُبِينٌ و ظاهر ظلمه. و فيه ردّ على اليهود حيث افتخروا بكونهم من ولد إسحاق و يعقوب، و دلالة على أنّ النسب لا أثر له في الصلاح و الفساد و الطاعة و العصيان. و في الحديث: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم، و تأتوني بأنسابكم» (1).

ثمّ بيّن سبحانه تفضّله على موسى و أخيه هارون بقوله: وَ لَقَدْ مَنَنّا و أنعمنا عَلى مُوسى وَ أخيه هارُونَ بنعمة النبوة و الرسالة و غيرهما من النّعم الدينية و الدنيوية

وَ نَجَّيْناهُما برحمتنا وَ نجّينا ببركتهما و بتبعهما قَوْمَهُما بني إسرائيل مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ و الغمّ الشديد الذي كان لهم من تعذيب فرعون و قومه

وَ نَصَرْناهُمْ على أعدائهم فَكانُوا بنصرتنا هُمُ اَلْغالِبِينَ على عدوّهم بعد أن كانوا مغلوبين و مقهورين،

و أنزلنا على موسى و هارون وَ آتَيْناهُمَا بعد نجاتهما و قومهما و إهلاك عدوّهما اَلْكِتابَ اَلْمُسْتَبِينَ و التوراة الواضح لجميع ما يحتاج إليه الناس من المعارف و الأحكام و الأخلاق و غيرها

وَ هَدَيْناهُمَا بالوحي و إيتاء الكتاب اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ و دللناهما على الطريق الواضح إلى قربنا و خير الدنيا و الآخرة و جنات النعيم

وَ تَرَكْنا و أبقينا عَلَيْهِما حسن الذّكر و الثناء فِي الامم اَلْآخِرِينَ و هم امّة خاتم النبيين

سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ و هو كلام اللّه كما في نظائره

إِنّا كما جزيناهما النّعم العظام كَذلِكَ نَجْزِي جميع اَلْمُحْسِنِينَ بإحسانهم إِنَّهُما مِنْ جملة عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 123 الی 125

في بيان دعوة إلياس

و غيبته

ثمّ ذكر سبحانه رسالة إلياس و كيفية دعوة قومه بقوله: وَ إِنَّ إِلْياسَ بن ياسين من سبط هارون على ما قيل (2)لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ من جانب اللّه إلى قومه.

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخالِقِينَ (125)

و قيل: إنّه إدريس النبي (3)، و على أيّ تقدير: اذكر يا محمد إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ نصحا و إنكارا عليهم الشّرك: يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه و عذابه على الشّرك و العصيان.

ص: 311


1- . تفسير روح البيان 7:479. (2 و 3) . تفسير الرازي 26:161، تفسير روح البيان 7:481.

روي أنّه بعث بعد موسى يوشع بن نون، ثمّ كالب بن يوقنا، ثمّ حزقيل، فلمّا قبض حزقيل عظمت الأحداث في بني إسرائيل، و نسوا عهد اللّه، و عبدوا الأصنام و الأوثان، و كانت الأنبياء يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة، و بنو إسرائيل كانوا متفرّقين بأرض الشام، و كان سبط منهم حلّوا ببعلبك و نواحيها من أرض الشام، و هم السبط الذين كان منهم إلياس، فلمّا أشركوا و عبدوا الصنم و تركوا العمل بالتوراة، بعث اللّه إليهم إلياس نبيا (1).

فدعاهم إلى التوحيد، و قال لهم: ويلكم أَ تَدْعُونَ و تعبدون الجماد الذي سمّيتموه بَعْلاً مع أنّه لم يخلق ذبابا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخالِقِينَ و تتركون عبادته، مع أنّه خلق السماوات و الأرض و غيرهما بقدرته؟ !

قيل: إنّ بعلا كان اسم صنم لأهل بلدة بك من بلاد الشام، و هو اليوم معروف ببعلبك، و كان من ذهب طوله عشرون ذراعا و له أربعة أوجه، و في عينيه يا قوتتان كبيرتان، فتنوا به و عظّموه حتى أخدموه أربعمائة سادن، و جعلوهم أنبياء، فكان الشيطان يدخل جوفه، و يتكلّم بشريعة الضلالة، و السّدنة يحفظونها، و يعلّمونها الناس (2).

نقل كلام الفخر

وردّه

قال الفخر الرازي: هذا مشكل، لقدحه في كثير من معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله، كتكلّم الذئب و الجمل معه (3).

و فيه: أنّ المعجزة دليل الصدق في مورد إمكانه كنبوة نبينا، لا في مورد امتناع الصدق، فمن ادّعى النبوة، و دعا الناس إلى عبادة غير اللّه، هو كاذب و لو أتى بألف معجزة.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 126 الی 132

ثمّ صرّح الناس بالتوحيد و نفي الشرك، حيث فسّر أحسن الخالقين بقوله: اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ الذين كانوا قبل صنعكم هذا الصنم، فاذا لم يكن البعل ربّ آبائكم لا يكون ربّكم

فَكَذَّبُوهُ مع إتمامه الحجّة عليهم عنادا و لجاجا فَإِنَّهُمْ بتكذيب رسولهم و معارضتهم للحقّ لَمُحْضَرُونَ و يدخلون في النار يوم القيامة، و لا ينجو من اولئك القوم

إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ و الموحّدين الذين أخلصهم اللّه لنفسه

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ.

اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (128) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (132)

ص: 312


1- . تفسير روح البيان 7:482.
2- . تفسير روح البيان 7:481.
3- . تفسير الرازي 26:161.

سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. قيل: إنّ إلياس و إلياسين واحد، كما أنّ سيناء و سينين واحد (1). و قيل: إنّ ياسين اسم والد إلياس، و آله هو إلياس (2). و قيل: إنّه جمع اريد به إلياس و أتباعه المؤمنين به، كما يقال المهلّبيون (3).

و قال كثير من مفسّري العامة: إنّ (يس) اسم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و المراد من آل يس آله كما عن ابن عباس (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ اللّه سمّى النبي صلّى اللّه عليه و آله بهذا الاسم، حيث قال: يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ لعلمه أنّهم يسقطون السّلام على آل محمد كما أسقطوا غيره» (5).

و عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن علي عليهم السّلام-في هذه الآية-قال: «يس محمد، و نحن آل يس» (6).

أقول: على هذا الشكل ارتباط الآية بما قبلها و ما بعدها من قوله: إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ.

روى بعض العامة أن إلياس دعا على قومه فقحطوا ثلاث سنين، فلم يرتدعوا عن الشرك، فلمّا رأى إلياس منهم ذلك دعا اللّه أن يريحه منهم، فقيل له: اخرج يوم كذا إلى موضع كذا، فما جاءك من شيء فاركبه. فخرج إلياس في ذلك اليوم مع خادمه اليسع، فوصل الموضع الذي أمر، فاستقبله فرس من النار، فركب عليه، فانطلق الفرس به إلى جانب السماء، فناداه اليسع، ما تأمرني، فألقى كساءه إليه من الجوّ فرفع اللّه إلياس، و قطع عنه لذّة المطعم و المشرب، و كساه الريش (7).

و قيل: إنّه في الأرض غائب عن الانظار كالخضر، و هما آخر من يموت من بني آدم، و إلياس موكّل بالصحارى، و الخضر موكّل بالبحار (8).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 133 الی 138

قصة لوط عليه السّلام

ثمّ ذكر سبحانه لطفه بلوط، و غضبه على أعدائه و قومه بقوله: وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إلى أهل سدوم،

و اذكر يا محمد إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ و عياله

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاّ عَجُوزاً فِي اَلْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138)

ص: 313


1- . تفسير الصافي 4:282، تفسير روح البيان 7:482.
2- . تفسير الصافي 4:282، تفسير روح البيان 7:482.
3- . تفسير الرازي 26:162، تفسير أبي السعود 7:204.
4- . جوامع الجامع:401.
5- . الاحتجاج:253، تفسير الصافي 4:282.
6- . معاني الأخبار:122/2، تفسير الصافي 4:281.
7- . تفسير روح البيان 7:483.
8- . تفسير روح البيان 7:483.

أَجْمَعِينَ من العذاب

إِلاّ امرأة عَجُوزاً مسنّة، قدّرنا أن تكون فِي اَلْغابِرِينَ و الباقين في العذاب و الهلاك، أو في الماضين و الهالكين

ثُمَّ بعد انجائهم دَمَّرْنَا و أهلكنا بالعذاب اَلْآخَرِينَ من قومه بكفرهم و طغيانهم

وَ إِنَّكُمْ يا أهل مكّة و اللّه لَتَمُرُّونَ في أسفاركم إلى الشام عَلَيْهِمْ و على ديارهم المخروبة و منازلهم المنهدمة حال كونهم مُصْبِحِينَ وَ متلبّسين بِاللَّيْلِ قيل: إنّ المراد تعميم الأوقات يعني ليلا و نهار (1)أَ تشاهدون ذلك فَلا تَعْقِلُونَ و لا تدركون أنّهم كانوا مثكلم في الكفر و العصيان؟ فتخافوا أن ينزل بكم ما نزل بهم، و أن يصيبكم مثل ما أصابكم من العذاب.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «تمرّون عليهم في القرآن إذا قرأتم القرآن تقرأون ما قصّ اللّه عليكم من خبرهم» (2).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 139 الی 148

قصة يونس بن

متى عليه السّلام

ثمّ ذكر سبحانه قصة يونس بن متى بقوله: وَ إِنَّ يُونُسَ بن متّى، الملقب بذي النون من أولاد هود على ما قيل (3)لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ من اللّه إلى بقية قوم ثمود بنينوى من بلاد الموصل على ما قيل (4)، و عن ابن عباس: أنّه كان يسكن فلسطين (5).

و اذكر يا محمد إِذْ أَبَقَ و هرب يونس من قومه خجلا أو خوفا من أن يظنّوه كاذبا في وعيده بإهلاكهم بلا انتظار الوحي إلى ناحية البحر، فانتهى إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ و المملوء من الناس و المتاع.

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)روي أنّه لما دخل السفينة و توسّط البحر، و احتبست من الجري و وقفت، فقال الملاحون: هنا عبد آبق من سيده، و هذا رسم السفينة إذا كان آبق لا تجري (6).

و قيل: إنّهم قالوا: إنّ فيكم عاصيا، و إلاّ لم يحصل ما نراه من غير ريح و لا سبب ظاهر، و قال التجّار:

ص: 314


1- . تفسير روح البيان 7:485.
2- . الكافي 8:249/349، تفسير الصافي 4:282.
3- . تفسير روح البيان 7:486.
4- . تفسير روح البيان 7:486.
5- . تفسير الرازي 26:164.
6- . تفسير روح البيان 7:487.

قد جرّبنا مثل هذا، فاذا رأينا ذلك نقرع، فمن خرج اسمه نرميه في البحر، لأنّ غرق الواحد خير من غرق الكلّ (1).

فَساهَمَ و أقرع أهل السفينة، أو يونس مع أهل الفلك ثلاث مرات فَكانَ يونس مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ و المغلوبين بالقرعة، فقال يونس: أنا العبد الآبق، و أنا و اللّه العاصي، فتلفّف في كسائه، و قام على رأس السفينة، فرمى بنفسه في البحر (2).

فَالْتَقَمَهُ و ابتلعه اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ نفسه على خروجه من بين قومه بلا إذن من اللّه تعالى.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّه لمّا ركب مع القوم، فوقفت في اللّجّة، و استهموا فوقع السّهم على يونس ثلاث مرات، فمضى يونس إلى صدر السفينة، فاذا الحوت فاتح فاه، فرمى بنفسه» (3).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام: «فلمّا توسطوا البحر، بعث اللّه حوتا عظيما، فحبس عليهم السفينة، فنظر إليه يونس، ففزع منه، و صار إلى مؤخرّ السفينة، فدار إليه الحوت، ففتح فاه، فخرج أهل السفينة فقالوا: فينا عاص، فتساهموا فخرج سهم يونس، و هو قول اللّه تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ فأخرجوه، و ألقوه في البحر، فالتقمه الحوت، و مرّ به في الماء» (4).

روي أنّ اللّه تعالى أوحى إلى السمكة: أنّي لم أجعله لك رزقا، و لكن جعلت بطنك له وعاء، فلا تكسري منه عظما، و لا تقطعي منه وصلا (5).

قيل: فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى (6)، فمكث في بطنه أربعين ليلة (7). و قيل: شهرا، و قيل: عشرين يوما. و قيل: سبعة أيام. و قيل: ثلاثة أيام (8). و كان يسبّح اللّه بقوله: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ.

فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ و الذاكرين اللّه كثيرا بالتسبيح،

أو من القائمين بحقوق اللّه قبل البلاء لَلَبِثَ و مكث حيا أو ميتا فِي جوف الحوت و بَطْنِهِ من حين دخوله فيه إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ من القبور للحساب و جزاء الأعمال، أما ببقائهما حيّين أو ميتين فيكون بطن الحوت قبر يونس، و لكن لم يلبث لكونه من المسبّحين، و فيه الحثّ على ذكر اللّه بالتسبيح و التهليل.

ص: 315


1- . تفسير الرازي 26:164، تفسير روح البيان 7:487.
2- . تفسير الرازي 26:165، تفسير روح البيان 7:487.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:51/173، تفسير الصافي 4:283.
4- . تفسير القمي 1:318، تفسير الصافي 4:283.
5- . تفسير روح البيان 7:487.
6- . تفسير روح البيان 7:487.
7- . تفسير أبي السعود 7:206، تفسير روح البيان 7:487.
8- . تفسير الرازي 26:165.

روي عن ابن عباس أنّ السمكة أخرجته إلى نيل مصر، ثمّ إلى بحر فارس، ثمّ إلى بحر البطائح، ثمّ إلى دجلة (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ الحوت قد طاف به في أقطار الأرض و البحار، و مرّ بقارون» (2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يسبّح يونس في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربّنا إنّا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة؟ فقال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك [منه]في كلّ يوم و ليلة عمل صالح؟ فقال: نعم، فشفعوا له، فأمر الحوت فقدّمه في الساحل،

فذلك قوله تبارك و تعالى: فَنَبَذْناهُ» (3). و ألقيناه بِالْعَراءِ و المكان الخالي من الشجر و النبات وَ هُوَ سَقِيمٌ و عليل لضعف بدنه، حيث إنّه صار كالفرخ المنتوف لا لحم له و لا شعر. قيل: سقيم بمعنى سليب (4). قيل: ألقاه الحوت بأرض نصيبين (5)

وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ و قرع لتظلّه من الشمس، و تمنع بدنه من الذّباب، فانّه على ما قيل لا يقع عليه الذّباب (6). و كان يأكل من ثمرها حتى تشدّد.

روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّك تحب القرع؟ قال: «بلى، هي شجرة أخي يونس» (7).

عن الباقر عليه السّلام، قال: «لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيّام-إلى أن قال-: فاخرجه الحوت و ألقاه بالساحل، و أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين-و هو القرع-فكان يمصّه و يستظلّ به و بورقه، و كان تساقط شعره، ورقّ جلده» (8).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فأمر الحوت أن يلفظه على ساحل البحر، و قد ذهب جلده و لحمه، و أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين-و هي الدّبّاء-فأظلّته من الشمس فسكن، ثمّ أمر اللّه الشجرة فتنحّت عنه، و وقعت الشمس عليه فجزع، فأوحى اللّه إليه: يا يونس، لم ترحم مائة ألف أو يزيدون، و أنت تجزع من ألم ساعة! قال: ربّ عفوك عفوك، فرّد اللّه عليه بدنه» (9).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية-: «فلمّا قوي و أشتدّ بعث اللّه دودة فأكلت أسفل القرع، فذبلت القرعة، ثمّ يبست، فشقّ ذلك على يونس، فظلّ حزينا، ثمّ أوحى اللّه إليه مالك حزينا يا يونس؟ قال: يا ربّ هذه الشجرة التي كانت تنفعني، فسلّطت عليها دودة فيبست. قال: يا يونس، أحزنت لشجرة لم

ص: 316


1- . تفسير الرازي 26:165.
2- . تفسير نور الثقلين 4:435.
3- . تفسير الرازي 26:165، تفسير روح البيان 7:488.
4- . تفسير الرازي 26:166.
5- . تفسير روح البيان 7:488.
6- . تفسير البيضاوي 2:302، تفسير روح البيان 7:489.
7- . تفسير البيضاوي 2:302، تفسير أبي السعود 7:206، تفسير روح البيان 7:489.
8- . تفسير القمي 1:319، تفسير الصافي 4:284.
9- . تفسير القمي 1:319، تفسير الصافي 4:284.

تزرعها، و لم تسقها، و لم تعن (1)بها أن يبست حين استغنيت عنها، و لم تحزن لأهل نينوى، أكثر من مائة ألف أردت أن ينزل عليهم العذاب» (2).

و قيل: إنّ اليقطين كلّ شجرة لا تقوم على ساق، و تمتدّ على وجه الأرض كالدّبّاء و الحنظل و البطّيخ (3)و قيل: إنّه قيل عند ابن عباس هو ورق القرع. فقال: و من جعل القرع بين الشجر يقطينا؟ كلّ ورقة اتسعت و سترت فهي يقطين (4).

و قال: أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، فكان يستظلّ بها، و يأكل من ثمرها حتى تشدّد، ثمّ إنّ الأرضة أكلتها، فخرّت من أصلها، فحزن يونس لذلك حزنا شديدا، فقال: يا ربّ كنت استظلّ تحت هذه الشجرة من الشمس و الريح، و امصّ من ثمرها، و قد سقطت؟ فقيل له: يا يونس، تحزن على شجرة أنبتت في ساعة، و قلعت في ساعة، و لا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم، فانطلق إليهم (5).

و في الرواية الباقرية عليه السّلام: «قال اللّه تعالى: إنّ أهل نينوى آمنوا و اتّقوا، فارجع إليهم» (6). كما قال سبحانه: وَ أَرْسَلْناهُ ثانيا إلى قومه الذين خرج من بينهم، و كان عددهم بالغا إِلى مِائَةِ أَلْفٍ نفس أَوْ يَزِيدُونَ على مائة ألف بثلاثين ألف، كما عن الصادق عليه السّلام (7)، أو بعشرين ألف في نظر الرائي و تقديره (8).

قيل: إنّ المراد إرساله فيهم قبل التقامه الحوت حيث إنّه أخبر أولا بأنّه من المرسلين، و الواو لمطلق الجمع (9)، و ذكره بعد قصة هربه و ما بعده، للدلالة على مقدار من أرسل إليهم عددا. و قيل: إنّه لم يكن قبل التقامه الحوت نبيا، و كانت رسالته بعده (10).

عن ابن عباس، قال: إنّه كان يسكن مع قومه فلسطين، فغزاهم ملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا، و بقي سبطان و نصف، و كان اللّه أوحى إلى بني إسرائيل: إذا أسركم عدوّكم أو أصابتكم مصيبة، فادعوني استجب لكم. فلمّا نسوا ذلك و اسروا، أوحى تعالى بعد حين إلى نبيّ من أنبيائهم: أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام و قل له حتّى يبعث إلى بني إسرائيل نبيا. فاختار يونس [لقوّته] و أمانته. قال يونس: اللّه أمرك بهذا؟ قال: لا، و لكن امرت أن أبعث قويا أمينا و أنت كذلك. فقال

ص: 317


1- . في تفسير القمي: تعي.
2- . تفسير القمي 1:319، تفسير الصافي 4:284.
3- . تفسير الرازي 26:166، تفسير أبي السعود 7:206.
4- . تفسير الرازي 26:166.
5- . تفسير الرازي 26:165.
6- . تفسير القمي 1:320، تفسير الصافي 4:285.
7- . تفسير الصافي 4:284.
8- . تفسير روح البيان 7:489.
9- . تفسير الرازي 26:166.
10- . تفسير الرازي 26:163.

يونس: و في بني إسرائيل من هو أقوى منّي، فلم لا تبعثه؟ فألحّ الملك عليه، فغضب يونس منه، و خرج حتّى أتى بحر الروم، و وجد سفينة مشحونة (1). و ذكر قصة الحوت، قال: كانت رسالته بعد ما نبذه الحوت (2).

أقول: هذا مخالف لرواياتنا.

روي أنّ يونس خرج من العراء و مرّ بجانب نينوى، فرآى هناك غلاما يرعى، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: من قوم يونس. قال: فاذا رجعت إليهم فاقرأ عليهم منّي السّلام، و أخبرهم أنّك لقيت يونس و رأيته. فقال الغلام: إن تكن يونس [فقد]تعلم أنّ من يحدّث و لم تكن له بينة قتلوه، و كان في شريعتهم أن من كذّب قتل، فمن يشهد لي؟ فقال له يونس: تشهد لك هذه الشجرة و هذه البقعة. فقال الغلام ليونس: مرهما بذلك؟ فقال: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له. قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فأتى الملك، فقال: إني لقيت يونس، و هو يقرأ عليكم السّلام، فأمر الملك أن يقتل. فقال: إنّ لي بينة. فأرسل معه جماعة، فانتهوا إلى الشجرة و البقعة. فقال لهما الغلام: أنشدكما اللّه عزّ و جلّ هل أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم. فرجع القوم مذعورين، فأتو الملك فحدّثوه بما رأوا، فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في منزله، و قال له: أنت أحقّ مني بهذا المقام و الملك؟ فأقام بهم الغلام أربعين سنة (3).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية- «فانطلق يونس إلى قومه، فلمّا دنا من نينوى، استحيى أن يدخل، فقال لراع لقيه: إئت أهل نينوا فقل لهم: إنّ هذا يونس قد جاء. فقال الراعي: أتكذب، أما تستحي و يونس قد غرق في البحر و ذهب؟ قال يونس: اللهمّ إنّ هذه الشاة تشهد لك أنّي يونس. و انطقت الشاة له بأنّه يونس، فلما أتى الراعي و أخبرهم أخذوه و همّوا بضربه. فقال: إنّ لي بينة أقول. قالوا: فمن يشهد لك؟ قال: هذه الشاة تشهد. فشهدت بأنّه صادق و أن يونس قد ردّه اللّه إليكم.

فخرجوا يطلبونه، فوجدوه فجاءوا به فَآمَنُوا بيونس بعد رجوعه إليهم و حسن إيمانهم» كما عن الباقر عليه السّلام (4).

و روى بعض العامة أنّ قومه آمنوا فسألوه أن يرجع إليهم فابى يونس، لأنّ النبي إذا هاجر لم يرجع إليهم مقيما فيهم (5).

و قيل: إنّ المراد فآمنوا باللّه بعد مشاهدتهم آثار نزول العذاب (6)، و تابوا من الشرك و العصيان فَمَتَّعْناهُمْ و نفعناهم بالحياة الدنيا و نعمها إِلى حِينٍ قدّرناه لهم، و الوقت الذي جعلناه أجلا

ص: 318


1- . تفسير الرازي 26:164.
2- . تفسير الرازي 26:166.
3- . تفسير روح البيان 7:489.
4- . تفسير القمي 1:320، تفسير الصافي 4:285.
5- . تفسير روح البيان 7:490.
6- . تفسير أبي السعود 7:206، تفسير روح البيان 7:489.

لكلّ واحد منهم، و إنّما أخّر سبحانه قصة يونس، لأنّ في قصص سائر الأنبياء ترغيب إلى الصبر و تحمّل الأذى، و في قصته تهديد على قلّة الصبر، و الترغيب مقدّم على الترهيب، كذا قيل (1).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 149 الی 150

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أدلة التوحيد و المعاد، و وصف ذاته المقدسة بنعوت الكمال و غاية العظمة و الجلال و التفرّد بالخلق و الربوبية، و بّخ قريشا و بني مليح و جهينة و خزاعة و بني سلمة القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه بقوله: فَاسْتَفْتِهِمْ يا محمّد و استطلع رأيهم على سبيل التوبيخ و التجهيل أَ لِرَبِّكَ الخالق لجميع الموجودات الغنيّ عن الكائنات اَلْبَناتُ من الأولاد مع استنكافهم منهنّ بحيث يقتلونهنّ إذا ولدن لهم أو يدفنونهن أحياء وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ الذين هم أرفع الأولاد بحيث يفتخرون بهم؟ ! لا يمكن ذلك أبدا، فانّ الخالق لا يختار لنفسه الأحسن، و لمخلوقاته الأرفع.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَناتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (150)قيل: إنّهم قالوا: إنّ اللّه تعالى تزوّج من الجنّ، فخرجت منها الملائكة، فهم بنات اللّه، لذا سترن من العيون (2).

ثمّ بالغ سبحانه في توبيخهم و تبكيتهم بقوله: أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلائِكَةَ الذين هم أشرف الموجودات و أبعدهم من الصفات الجسمانية و الرذائل الطبيعية إِناثاً مع أنّ الانوثة من خسائس صفات البشرية وَ هُمْ شاهِدُونَ أنوثتهم، فانّ الحكم بانوثة حيوان لا يمكن إلاّ بالمشاهده، لعدم الطريق للعقل إلى درك الامور الجزئية، و عدم نقل ممّن شاهد الملائكة كالأنبياء و الرسل، مع أنّهم ينكرون رسالة البشر.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 151 الی 157

ثمّ أنّ الأقبح من إسناد الانوثة إلى الملائكة إسناد الولادة إلى اللّه الخالق لجميع الموجودات الغنيّ عن الكائنات، و لذا أعلن في العالم بغاية جهالتهم بقوله: أَلا تنبهّوا أيّها العقلاء إِنَّهُمْ مِنْ أجل

أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اَللّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى اَلْبَناتِ عَلَى اَلْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)

ص: 319


1- . تفسير الرازي 26:263، تفسير روح البيان 7:491.
2- . تفسير روح البيان 7:491.

إِفْكِهِمْ و توغّلهم في الباطل، و حرصهم على أسوأ الكذب و أقبح الافتراء لَيَقُولُونَ ما تشهد العقول على بطلانه و فساده،

و هو قولهم: إنّه وَلَدَ اَللّهُ الملائكة وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم كذبا لا يشكّ فيه ذو مسكة، لوضوح أنّ الولادة من خصائص الجسمانيات، و اللّه خالق جميع الأجسام و غيرها من الموجودات، مع أنّ طلب الولد من لوازم الحاجة، و اللّه تعالى هو الغنيّ المطلق له ما في السماوات و الأرض.

ثمّ على فرض المحال إمكان الولادة منه تعالى أَصْطَفَى و هل اختار لنفسه اَلْبَناتِ التي هي أحسن الأولاد عَلَى اَلْبَنِينَ الذين هم أكمل الأولاد، مع أنّه تعالى أكمل الموجودات، و لا يمكن للأكمل أن يختار لنفسه إلاّ الأكمل

ما لَكُمْ أيّها الجهّال كَيْفَ تَحْكُمُونَ على اللّه القادر على كلّ شيء الغنيّ عن كلّ شيء بهذا الحكم الذي تحكم ببطلانه بديهة العقل، و يتنفر منه جميع العقلاء؟

أَ تقولون ذلك القول فَلا تَذَكَّرُونَ و لا تفهمون شناعته، و لا تتنبّهون بنهاية قباحته؟ ! أتدّعون انوثة الملائكة بهوى أنفسكم، أو بتقليد آبائكم و كبرائكم

أَمْ لَكُمْ على هذه الدعوى سُلْطانٌ مُبِينٌ و حجّة واضحة، و دليل قاطع من أخبار نبيّ أو كتاب منزل عليكم من السماء، فيه بيان صفات الملائكة؟ !

فان نزل عليكم كتاب فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الناطق بصحّة دعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تدّعون من كون الملائكة إناثا، و في نزول الكتاب إليكم.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 158 الی 160

ثمّ أنّ جمعا من الزنادقة (1)كانوا قائلين على ما قيل بأنّ الشيطان أخ اللّه، فاللّه تعالى خالق الخير، و الشيطان خالق الشر (2). فوبّخهم اللّه سبحانه على هذا القول بقوله: وَ جَعَلُوا بهوى أنفسهم بَيْنَهُ تعالى وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ و الشياطين نَسَباً خاصا، و هو القرابة بالاخوة.

وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اَللّهِ عَمّا يَصِفُونَ (159) إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (160)و قيل: إنّ المراد بالجنّة جماعة الجنّ (3)، و بالنسب المصاهرة و المزاوجة، كما مرّ حكايته عن بعض المشركين. قيل: إنّ كفار قريش لمّا قالوا: الملائكة بنات اللّه. قال أبو بكر: فمن امهاتهم؟ قالوا: سروات

ص: 320


1- . و هم المجوس القائلون بيزدان و أهرمن، كما في تفسير الرازي.
2- . تفسير الرازي 26:168، تفسير أبي السعود 7:208.
3- . في النسخة: بالجنة الأجنة، و ما أثبتناه من تفسير روح البيان، ذلك لأن الأجنة جمع جنين، اما الجن فهي اسم جنس يدل على الجمع، و واحده جني. تفسير روح البيان 7:492.

الجن (1).

و قيل: إنّ المراد بالجنّة الملائكة، لاجتنانهم و اختفائهم عن الأبصار (2)، و النسب الولادة حيث قالوا: إنّ الملائكة بنات اللّه.

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ بالمعنى الأول و الثاني إِنَّهُمْ أنفسهم لَمُحْضَرُونَ في النار، و المعذّبون فيها، و لو كان الشياطين اخوة اللّه أو الجنّ (3)أزواجه ما احضروا في النار، و على الوجه الثالث يكون مرجع ضمير الجمع القائلون بكون الملائكة بنات اللّه،

ثمّ نزّه سبحانه ذاته المقدسة عن تلك النّسب القبيحة غير اللائقة بالالوهية بقوله: سُبْحانَ اَللّهِ و تنزّه واجب الوجود عَمّا يَصِفُونَ به و ينسبون إليه من الولد و الأخ و الزوج.

و قيل: إنّ التسبيح من الملائكة، و المراد: و لقد علمت الملائكة أنّ المشركين لمحضرون، و قالوا: سبحان اللّه عما يصفون (4).

ثمّ استثنوا أنفسهم عن أولئك الواصفين بقوله: إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ و المعنى: و لكن عباد اللّه المخلصين الذين نحن منهم براء من ذلك التوصيف، بل نصفه بالصفات العليا، و على كونه كلام اللّه يكون المعنى: و لكن عباد اللّه المخلصين لا يصفونه بتلك الصفات.

و قيل: إنّ الاستثناء راجع إلى ضمير الجمع في (محضرون) و المعنى لكن عباد اللّه المخلصين لا يحضرون، بل هم ناجون (5).

و قيل: إن الاستثناء من معنى ضمير الجمع في قوله: وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً (6)و الأقرب هو الوجه الثاني.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 161 الی 164

ثمّ عاد سبحانه إلى خطاب المشركين، و نبّههم بأنّ إضلالهم الناس لا أثر له إلاّ فيمن قدّر اللّه دخوله في النار بقوله: فَإِنَّكُمْ أيّها المشركون وَ ما تَعْبُدُونَ من دون اللّه من الأصنام و غيرها

ما أَنْتُمْ بتوصيفكم اللّه بصفات غير لائقة بجنابه عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ و مضلّين أحدا من الناس

إِلاّ مَنْ هُوَ في علم اللّه و تقديره صالِ اَلْجَحِيمِ و ملق نفسه فيها في الآخرة لخبث ذاته و سوء اختياره و رذالة

فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاّ مَنْ هُوَ صالِ اَلْجَحِيمِ (163) وَ ما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164)

ص: 321


1- . تفسير الرازي 26:168، تفسير أبي السعود 7:209.
2- . تفسير الرازي 26:168، تفسير روح البيان 7:493.
3- . في النسخة: أو الأجنة.
4- . تفسير أبي السعود 7:209، تفسير روح البيان 7:494.
5- . تفسير الرازي 26:169.
6- . تفسير الرازي 26:169.

صفاته.

قيل: إنّ كلمة (الواو) في قوله: وَ ما تَعْبُدُونَ بمعنى مع، و الجملة خبر كلمة (إنّ) (1)و المعنى: إنّكم دائما مع ما تعبدون لا تفارقونه و لا تتركون عبادته أبدا، و إنّ ضمير (عليه) راجع إلى كلمة (ما) في (وَ ما تَعْبُدُونَ) و المعنى: ما أنتم أيّها المشركون على ما تعبدون بفاتنين و بباعثين و حاملين على طريق الفتنة و الاضلال إلاّ من هو صال الجحيم مثلكم (2).

ثمّ ردّ اللّه سبحانه القائلين بكون الملائكة بنات اللّه بما يظهر الملائكة المقرّبون في مقام العبودية و الانقياد للخدمة من قولهم: وَ ما مِنّا أحد إِلاّ و يكون لَهُ مَقامٌ و شغل معين في إصلاح العالم، و عبادة موظّفة كلّها مَعْلُومٌ لنا لا نقدر أن نتجاوز و لا نستطيع أن ننزل منه خضوعا لعظمة اللّه، و خشوعا لهيبته و تواضعا لجلاله.

روي أنّ منهم راكعا لا يقيم صلبه، و ساجدا لا يرفع رأسه (3). و عن ابن عباس: ما في السماوات موضع شبر إلاّ و عليه ملك يصلّي و يسبّح (4).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 165 الی 170

ثمّ بيّنوا قيامهم للخدمة بقولهم: وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ لأداء الطاعة و الاشتغال بالخدمة وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ للّه، و منزّهونه عن الشريك و الولد، و سائر ما لا يليق بمقام ربوبيته و وجوب وجوده. قال بعض العامة: الأوّل إشارة إلى درجاتهم في الطاعة، و الثاني إلى درجاتهم في المعرفة (5).

وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ (165) وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ (166) وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ (168) لَكُنّا عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)و عن (نهج البلاغة) في وصف الملائكة: «صافّون لا يتزايلون، مسبّحون لا يسأمون» (6).

القمي رحمه اللّه: قال جبرئيل: إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ* وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «كنّا أنوارا صفوفا حول العرش، نسبّح فيسبّح أهل السماء بتسبيحنا، إلى أن هبطنا إلى الأرض فسبّحنا، فسبّح أهل الأرض بتسبيحنا وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ* وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ» (8).

ص: 322


1- . تفسير الرازي 26:169.
2- . تفسير الرازي 26:169.
3- . تفسير روح البيان 7:495.
4- . تفسير روح البيان 7:495.
5- . تفسير البيضاوي 2:304، تفسير الصافي 4:286.
6- . نهج البلاغة:41، تفسير الصافي 4:286.
7- . تفسير القمي 2:227، تفسير الصافي 4:286.
8- . تفسير القمي 2:228، تفسير الصافي 4:286.

قيل: إنّ في قولهم إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ* وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ دلالة على حصر الصفّ في العبادة، و التسبيح بهم، فدلّ على أنّ عبادة غيرهم من الثقلين و تسبيحهم بالنسبة إلى عبادتهم و تسبيحهم كالعدم (1).

و إن كان تأويله في الأئمة عليهم السّلام يدلّ على أنّ عباده الملائكة و تسبيحهم في جنب عبادتهم و تسبيحهم كالعدم، أو المراد العبادة الاستقلالية و الأولية لا التبعية.

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين بخلفهم و نقضهم العهد بقوله: وَ إِنْ كانُوا قبل بعثه النبي صلّى اللّه عليه و آله و نزول القرآن لَيَقُولُونَ اعتذارا عن شركهم و تقليد آبائهم

لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً و كتابا مِنَ كتب الامم اَلْأَوَّلِينَ كالتوراة و الإنجيل

لَكُنّا عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ و الموحّدين الخالصين، و لما خالفنا كتابنا كما خالفت الامم كتبهم، و لمّا لم ينزل علينا كتاب ناطق بالتوحيد و بطلان عبادة الأصنام، قلّدنا آباءنا الأقدمين، و قلنا بما قالوا. فلمّا جاءهم ذكر هو سيد الأذكار، و كتاب مهيمن على سائر الكتب متضمّن للتوحيد و المعارف و الحكم و الأحكام و دلائل الصدق

فَكَفَرُوا بِهِ و أنكروا صدقه، و نسبوه إلى الشعر و السحر و الكهانة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و خامة عاقبة كفرهم و سوء نتيجته، و هو الخذلان و القتل و الأسر في الدنيا، و العذاب الأليم الدائم في الآخرة.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 171 الی 175

ثمّ أنّ اللّه تبارك و تعالى بعد تهديد الكفّار و المشركين بالخذلان و العذاب، ذكر نصرته لانبيائه عليهم السّلام بقوله: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ و و اللّه لقد تقدّمت في الأزل، أو في اللّوح المحفوظ كَلِمَتُنا و وعدنا لِعِبادِنَا الخلّصين و أنبيائنا اَلْمُرْسَلِينَ إلى الناس لهدايتهم و دعوتهم إلى التوحيد، و معرفة اللّه بصفات الكمال و الجلال،

و تلك الكلمة و ذلك الوعد هو قولنا: إِنَّهُمْ فقط لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ من قبلنا في الدنيا و الآخرة على مخالفيهم

وَ إِنَّ جُنْدَنا و عسكرنا، و هم المرسلون و أتباعهم الذين يحامون عن ديننا و كتبنا لَهُمُ اَلْغالِبُونَ على أعدائهم بالمال، و إن فرضت الجولة و الدولة لغيرهم في برهة من الزمان، و أمّا الغلبة بالحجّة فهي لهم في جميع الأزمان و الأوان، و لا يكون لغيرهم و لو في آن.

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ اَلْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)

ثمّ أنّ اللّه تبارك و تعالى بعد تقوية قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنّصرة، أمره بترك مقاتلة أعدائه بقوله: فَتَوَلَّ

ص: 323


1- . تفسير الرازي 26:171.

يا محمّد، عن المشركين المعاندين، و أعرض عَنْهُمْ و اصبر على أذاهم، و لا تقاتلهم حَتّى حِينٍ و وقت معين نأمرك فيه بقتالهم قيل: هو يوم بدر، و قيل: يوم الفتح (1)،

وَ أَبْصِرْهُمْ في ذلك الوقت، أو في الحال على أسوأ حال و أفظع نكال حلّ بهم من القتل و الأسر و الأمر بالإبصار في الحال للإيذان بقربه، كأنّه بين يديه يبصره في الوقت فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ و عن قريب يعاينون ما يحلّ بهم من الشرور.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 176 الی 179

ثمّ لمّا كان في الآية تهديد المشركين بالعذاب، كانوا يقولون استهزاء به: متى ينزل ذلك العذاب؟ أنكر اللّه سبحانه عليهم استعجالهم الناشيء عن الجهل بقوله: أَ فَبِعَذابِنا المستأصل لهم يَسْتَعْجِلُونَ لا و اللّه لا ينبغي الاستعجال به فانّه جهل و سفة

فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ و حلّ بفنائهم ذلك العذاب الموعود كالجيش المغير على قوم فَساءَ و بئس صَباحُ اَلْمُنْذَرِينَ بالعذاب.

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ اَلْمُنْذَرِينَ (177) وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)قيل: إنّ الإغارة لمّا كثرت من العرب في الصباح، كنّى بالصباح (2)عن وقت الإغارة، و [إن كان]نزول البلاء و الشدة أي وقت كان (3).

ثمّ أنّه تبارك و تعالى بعد تهديد الكفّار بالعذاب، و كان فيه تقوية قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله في معارضة القوم، أكّد سبحانه الأمر بالتولّي و الإعراض عنهم إلى زمان نزول العذاب، أو نزول الأمر بقتالهم بقوله: وَ تَوَلَّ يا محمّد و أعرض عَنْهُمْ و لا تقدم على قتالهم حَتّى حِينٍ و إلى وقت معلوم

وَ أَبْصِرْ ما يفعل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ و عن قريب يرون ما يوعدون، و في إعادته غاية التهديد و التهويل.

و قيل: إنّ المراد من هذا الكلام فيما تقدّم أحوال الدنيا، و هنا أحوال الآخرة (4).

القمي رحمه اللّه: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ يعني العذاب إذا نزل ببني امية و أتباعهم في آخر الزمان، قوله:

فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قال: أبصروا حين لا ينفعهم البصر. قال: فهذه في أهل الشّبهات و الضلالات من أهل القبلة (5).

ص: 324


1- . تفسير الرازي 26:172، تفسير الصافي 4:287.
2- . في النسخة: الصباح.
3- . تفسير أبي السعود 7:211، تفسير الصافي 4:288، تفسير روح البيان 7:499.
4- . تفسير الرازي 26:173.
5- . تفسير القمي 2:227، تفسير الصافي 4:288.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 180 الی 182

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية مقالات المشركين و دفعها، و وعد الرسل بالغلبة و النّصرة، و أكّد تنزيه ذاته المقدّسة عمّا يقول الظالمون بقوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ يا محمّد، و نزّهه غاية التنزيه، و هو أيضا رَبِّ اَلْعِزَّةِ و الغلبة و العظمة و مالكها و صاحبها، فلا عزّة إلاّ له، و لا غلبة إلاّ منه، فهذا الربّ مستحقّ للتنزيه عَمّا يَصِفُونَ به اولئك المشركون، و ينسبون إليه ممّا لا يليق بساحة كبريائه من الشّركاء و الأزواج و الأولاد، و خلف الوعد بالعذاب على الأعداء و النّصرة للأولياء.

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ (180) وَ سَلامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ (181) وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (182)

ثمّ أعلن سبحانه بإكرامه لرسله، و إن أهانهم أعداؤهم، بالتسليم على عامّتهم من آدم إلى الخاتم بعد التسليم على عدّة من اولى العزم منهم، كنوح و إبراهيم و موسى بقوله: وَ سَلامٌ من اللّه المنبيء بالأمان من جميع المكاره الدنيوية و الاخروية، و الفوز بجميع المقامات العالية عَلَى جميع الأنبياء اَلْمُرْسَلِينَ و المبعوثين من جانب اللّه لهداية الخلق و نشر الشرائع.

في الحديث: «إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين، فانّما أنا منهم» (1).

وروي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا صلّيتم عليّ فعمّوا» (2).

ثمّ أتبع سبحانه تنزيه ذاته و لطفه و إكرامه بعباده المرسلين، بالثناء الجميل على نفسه بقوله: وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ على تكميل نعمه على المرسلين، و إفاضته عليهم من فنون الكرامات السّنية و الكمالات الدينية و الدنيوية، و على أتباعهم من الآلاء الظاهرية و الباطنية الموجبة لحمده.

قيل: إنّ اختصاص الحمد بذاته دالّ على اختصاص جميع الكمالات به، و أنّه لا كمال لأحد إلاّ و هو منه و راجع إليه، و كلّ النّعم منه فلا منعم غيره (1).

و قيل: في هذه الآية إشارة إلى وصفه بالصفات الثبوتية بعد التنبيه على اتّصافه بالصفات السّلبية، و إيذان باستثناء بالأفعال الجميلة التي منها إكرام الرسل و المؤمنين بهم بأسنى الكرامات، و فيها إشعار بتحقّق النصر و الغلبة للرسول. و في الآيات تعليم كيفية تسبيحه تبارك و تعالى، و التسليم على الرسل، و تحميده (2).

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم

ص: 325


1- . تفسير روح البيان 7:500.
2- . تفسير أبي السعود 7:212، تفسير روح البيان 7:500.

القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ* وَ سَلامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ* وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ» (1).

و في (الكافي) و (الفقيه) ما يقرب منه (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الصافات في كل يوم جمعة، لم يزل محفوظا من كلّ آفة، مدفوعا عنه كلّ بلية في الحياة الدنيا، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، و لم يصبه في ماله و ولده و لا بدنه سوء من الشيطان و لا من جبار عنيد، و إن مات في يوم أو ليلة بعثه اللّه شهيدا و أماته شهيدا و أدخله الجنة مع الشهداء في درجة من الجنة» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّها لم تقرأ عند مكروب من موت إلاّ عجّل اللّه راحته» (4).

قد تمّ تفسير السورة المباركة و للّه الحمد.

ص: 326


1- . تفسير البيضاوي 2:305، تفسير أبي السعود 7:212، تفسير روح البيان 7:500.
2- . الكافي 2:360/3، عن الباقر عليه السّلام، من لا يحضره الفقيه 1:213/954، تفسير الصافي 4:288.
3- . ثواب الأعمال:112، مجمع البيان 8:681، تفسير الصافي 4:288.
4- . الكافي 3:126/5، تفسير الصافي 4:289.

في تفسير سورة ص

سوره 38 (ص): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت سورة الصافّات المبدوءة بتعظيم التالين للذكر، و بيان التوحيد و المعاد بالأدلّة القاطعة، و تعجّب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من عدم إيمان المشركين بهما، المتضمنة لحكاية مخاصمة أهل النار بعضهم مع بعض، و ذكر مسكن المؤمنين في الآخرة و طعامهم و شرابهم و منكوحهم، و مسكن المشركين في الآخرة و مأكولهم و مشروبهم، و حكاية ألطاف اللّه بجماعة من الأنبياء كنوح و إبراهيم و موسى و هارون و إلياس و لوط و يونس، نظمت بعدها سورة ص المبدوءة بتعظيم القرآن بالحلف به، و بيان كونه الذكر، و تعجّب المشركين من رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و دعوته إلى التوحيد، و بيان ألطافه الخاصة بجماعة من الأنبياء كداود و سليمان و أيوب و إبراهيم و بعض آخر منهم، و ذكر مسكن المتّقين في الآخرة و مأكولهم و مشروبهم، و مسكن أهل النار و مأكولهم و مشروبهم، و حكاية مخاصمة بعضهم مع بعض، و غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة، فابتدأها على دأبه بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ:

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ (1) بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2)

ثمّ افتتحها بحرف ص من الحروف المقّطعة، لجلب توجّه الناس إلى المطالب المهمة التي بعدها، قيل: هو اسم للسورة (1). و قيل: رمز عن الأسماء الحسنى التي فيها حرف الصاد كصادق، و صمد، و بصير و نظائرها (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه اسم من أسماء اللّه، به أقسم اللّه» (1).

و قيل: إنّه رمز عن صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله في كلّ ما أخبر عن اللّه، و عليه يكون هو المقسم عليه، و كذا على الوجه الأوّل إذ التقدير بناء عليه: هذه ص أي السورة المنزلة من اللّه بطريق الإعجاز (2).

ص: 327


1- . مجمع البيان 8:726، تفسير الصافي 4:290.
2- . تفسير الرازي 26:174.

و عن ابن عباس: أنّ ص كان بحرا [بمكة و]كان عليه عرش الرحمن، إذ لا ليل و لا نهار (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «و أمّا ص فعين تنبع من تحت العرش، و هي التي توضّأ النبي صلّى اللّه عليه و آله منها لمّا عرج به، و يدخلها جبرئيل كلّ يوم دخلة فينغمس فيها، ثمّ يخرج منها فينفض أجنحته، فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلاّ خلق اللّه تبارك و تعالى منها ملكا يسبّح اللّه و يقدّسه و يكبّره و يحمده إلى يوم القيامة» (2).

و عنه عليه السّلام-في حديث المعراج-: «ثمّ أوحى اللّه إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله: ادن من صاد فاغسل مساجدك و طهّرها، وصلّ لربك. فدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من صاد، و هو ماء يسيل من ساق العرش الأيمن» الخبر (3).

و عن الكاظم عليه السّلام-في حديث-أنّه سئل ما صاد الذي امر أن يغتسل منه-يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-لمّا اسري به؟ فقال: «عين تنفجر من ركن من أركان العرش، يقال لها: ماء الحياة، و هو ما قال اللّه عز و جل: ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ» (4)و المواعظ و العبر، فانّ فيه قصص الأنبياء و الامم. و قيل: يعني ذي الشرف و الذّكر في ألسنة الناس إلى يوم القيامة (3). و قيل: إنّ المقسم عليه محذوف، و هو إنّه لحق، و إنّ محمدا لصادق (4).

بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء قريش و المصرّين على مخالفته كائنون فِي عِزَّةٍ و حمية و أنفة عن قبول تبعيته، و استكبار عن الاعتراف بنبوته و تصديق كتابه، وَ في شِقاقٍ بعيد و عداوة شديدة له.

سوره 38 (ص): آیه شماره 3 الی 4

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: كَمْ أَهْلَكْنا و كثيرا ما استأصلنا مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السابقة على عصرهم مِنْ قَرْنٍ و أهل عصر واحد بالعذاب على كفرهم و المشاقة مع رسولهم فَنادَوْا ربّهم أو أعوانهم حين نزول العذاب استغاثة أو توبة و استغفارا لينجوهم منه و يغيثوهم من الهلاك، وَ الحال أنّه لاتَ حِينَ مَناصٍ و ليس الوقت وقت الفرار و الخلاص.

كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ (5) وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ اَلْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ (6)قيل: إنّ قريشا إذا ضاقت عليهم الأرض في القتال نادوا: مناص مناص، أي اهربوا (7).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من العجائب أنّهم استبعدوا وَ عَجِبُوا من أَنْ جاءَهُمْ رسول مُنْذِرٌ

ص: 328


1- . تفسير روح البيان 8:2.
2- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:290.
3- . تفسير الرازي 26:175.
4- . تفسير البيضاوي 2:306.
5- . الكافي 3:485/1، تفسير الصافي 4:290.
6- . علل الشرائع:335/1، تفسير الصافي 4:290.
7- . تفسير روح البيان 8:4.

ينذرهم من عذاب اللّه، و هو مِنْهُمْ و بشر مثلهم يأكل و يمشي بينهم، و لم يتعجّبوا من أن تكون المنحوتات آلهة، مع أنّ الثاني من العجائب لا الأول، فلمّا رأوا المعجزات الصادرة منه وَ قالَ اَلْكافِرُونَ هذا هو ساحِرٌ فيما يظهره من الخوارق للعادة و كَذّابٌ في دعوى الرسالة و التوحيد و نزول الوحي و الآيات إليه من السماء، و كون ما يأتي به معجزة أقدره اللّه عليها للشهادة على صدقه.

سوره 38 (ص): آیه شماره 5 الی 7

ثمّ استشهدوا على كذبه بادّعائه التوحيد مع بعده في زعمهم بقوله: أَ جَعَلَ محمد اَلْآلِهَةَ الكثيرة التي نعبدها إِلهاً واحِداً في زعمه إِنَّ هذا [أي]

الدعوى لَشَيْءٌ عُجابٌ و أمر بعيد عن الأذهان لم يقل به أحد من آبائنا الأولين. قيل: إنّهم قالوا ثلاثمائة و ستين إلها لا تكفي لتنظيم امور أهل مكة، فكيف ينتظم أمر العالم بآله واحد (1).

أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اِخْتِلاقٌ (7)روي أنه بعد إسلام حمزة و عمر، جاء أشراف قريش كالوليد بن المغيرة، و أبي سفيان، و أبي جهل و أضرابهم إلى أبي طالب، و قالوا: يا عبد مناف، أنت شيخنا و كبيرنا، قد علمت ما فعل هؤلاء السّفهاء- يعنون المسلمين-فجئنا لتقضي بيننا و بين ابن أخيك. فاستحضر أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا بن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كلّ الميل على قومك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ماذا يسألونني؟» فقالوا: ارفضنا و ارفض ذكر آلهتنا، و ندعك و إلهك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أرايتم إن أعطيتكم ما سألتم، أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم العجم» . قالوا: نعم. قال: «تقولون لا إله إلاّ اللّه» فقاموا و قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا (2).

وَ اِنْطَلَقَ و ذهب اَلْمَلَأُ من قريش و الأشراف مِنْهُمْ و هم على ما قيل خمسة و عشرون من مجلس أبي طالب (3)بعد ما شاهدوا تصلّب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دينه، و يئسوا ممّا كانوا يرجونه من المصالحة بتوسّط أبي طالب، و قال لهم عقبة ابن أبي معيط على ما قيل: أَنِ اِمْشُوا يا قوم على طريقتكم، و سيروا على مذهبكم، و لا تكلّموا محمدا بعد، فانّه لا فائدة في مكالمته (4). وَ اِصْبِرُوا

ص: 329


1- . تفسير روح البيان 8:5.
2- . تفسير روح البيان 8:5، تفسير الرازي 26:177، تفسير البيضاوي 2:307، تفسير أبي السعود 7:215.
3- . تفسير الرازي 26:177، تفسير أبي السعود 7:215، تفسير روح البيان 8:5.
4- . تفسير روح البيان 8:6.

و اثبتوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ و أصنامكم إِنَّ هذا الصبر و الثبات على الدين لَشَيْءٌ يُرادُ و أمر يطلب.

قيل: يعني أنّ هذا الذي شاهدنا من محمد من أمر التوحيد و نفي آلهتنا لشيء يراد من جهة إمضائه و إنفاذه لا محالة من غير صارف يلويه و لا عاطف يثنيه، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه بواسطة أبي طالب و شفاعته، و حسبكم أن لا تمنعوا عن عبادة آلهتكم بالكلية، فاصبروا عليها، و تحمّلوا ما تسمعون في حقّها من القدح و سوء المقال (1).

و قيل: يعني أنّ هذا الهتك الذي نراه بآلهتنا، و القدح الذي نسمع فيهم، لأمر يراد بنا، و مكر يمكر علينا (2)، أو المراد أنّ دينكم لشيء يستحقّ أن يطلب، فيكون ترغيبا فيه، و تعليلا للأمر بالصبر (3). أو المراد أنّ هذا الذي نرى من محمد من المخالفة لديننا، هو شيء يراد بنا من حوادث الزمان الذي لا مناصّ منه (4).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «أقبل أبو جهل و معه قوم من قريش، فدخلوا على أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا و آذى آلهتنا، فادعه و أمره أن يكفّ عن آلهتنا، و نكفّ عن آلهته. فبعث أبو طالب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدعاه، فلمّا دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله لم ير في البيت إلاّ مشركا. فقال: السّلام على من أتّبع الهدى. ثمّ جلس، فخبّره أبو طالب بما جاءوا له. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و هل لهم في كلمة خير لهم من هذا، يسودون بها العرب و يطؤون أعناقهم (2)؟ فقال أبو جهل: نعم، و ما هذه الكلمة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: تقولون لا إله إلاّ اللّه، فوضعوا أصابعهم في آذانهم،

و خرجوا هرّابا و هم يقولون: ما سَمِعْنا بِهذا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ (3). قيل: أرادوا من الملّة ملّة قريش التي أدركوا آبائهم عليها (4). و قيل: أرادوا ملّة النصارى (8).

إِنْ هذا القول و ما هذه الكلمة إِلاَّ اِخْتِلاقٌ و كذب مخترع من قبل نفسه، و باطل لا يقول به عاقل، فانّه لو كان حقّا لقال به آباؤنا.

سوره 38 (ص): آیه شماره 8

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكارهم التوحيد تمسّكا بكونه خلاف ما عليه آباؤهم، حكى عنهم إنكار نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: أَ أُنْزِلَ من اللّه عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ و الكتاب السماويّ مِنْ بَيْنِنا و نحن أحقّ

أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذابِ (5)

ص: 330


1- . تفسير أبي السعود 7:215، تفسير روح البيان 8:6. (2و3و4) . تفسير روح البيان 8:6.
2- . في النسخة: أقدامهم.
3- . الكافي 2:474/5، تفسير الصافي 4:292.
4- . تفسير الرازي 26:178، تفسير روح البيان 8:6.
5- . تفسير الرازي 26:178، تفسير البيضاوي 2:307، تفسير أبي السعود 7:215.

بنزول الذكر منه، لكوننا أكبر (1)سنا، و أكثر سنا، و أكثر مالا و أعوانا، و أعظم شأنا، و أبسط يدا و أنفذ قولا من محمد الذي لا مال له و لا ولد و لا أعوان و لا رياسة، و كما فضّلنا اللّه عليه بتلك النّعم الظاهرة، كان عليه أن يفضّلنا عليه بإنزال الوحي و الكتاب و منصب الرسالة، و مع فرض كونه مساويا لنا فترجيحه علينا بتلك الكرامات ترجيح بغير مرجّح، و من الواضح أنّ هذا الاعتراض ليس إلاّ من جهة عدم التأمّل في جهات إعجاز القرآن الموجب لليقين بكونه كلام اللّه الخالق لكلّ شيء، و ليس ممّا اختلقه محمّد صلّى اللّه عليه و آله من قبل نفسه، و ليس ترك تأمّلهم فيه من جهة قطعهم بأنّه كلام البشر بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ و ترديد مِنْ ذِكْرِي و إعجاز كتابي، لا في نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لو تأمّلوا فيه علموا بأنّه كتابي، و محمّد رسولي، و مع الشكّ يجب عليهم التأمّل و التفكّر بحكم العقل بَلْ لَمّا يَذُوقُوا و لم يطعموا بعد عَذابِ فاذا ذاقوا و طعموا طعمه، علموا أنّ القرآن ذكري، و محمدا رسولي، و لمّا كانوا في شكّ و لم يذوقوا العذاب على ترك التدبّر، كانوا مذبذبين بين الأوهام، تارة يقولون إنّه سحر، و اخرى شعر، و ثالثة إنّه كهانة.

سوره 38 (ص): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ ردّهم سبحانه بأنّ منصب النبوة برحمة اللّه و اختياره و إعطائه بيده بقوله: أَمْ عِنْدَهُمْ و بيدهم خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهّابِ حتّى يعطوها من شاءوا، و يمنعوها عمّن شاءوا، و يحكموا فيها بآرائهم، فيختاروا للنبوة بعض زعمائهم و يمنعوك عنها، ليس الأمر كذلك، فانّ النبوة عطية من اللّه، و درجة عالية لا يقدر على إعطائها إلاّ من لا نهاية لقدرته، و لا غاية لجوده، و هو اللّه العزيز الوهّاب، فانّه الغالب الذي لا يغالب،

و الوهّاب الذي يهب ما يشاء لمن يشاء أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما حتّى يكون لهم التصرّف فيهما و فيما بينهما، كيف يشاءون فينصبون أحدا للنبوة، و يعزلون منها أحدا، و ينزلون من السماء ملكا بالوحي أو الكتاب على ما يشاءون؟ ! كلا ليس لهم ذلك، فان كان لهم ذلك فَلْيَرْتَقُوا و ليصعدوا فِي اَلْأَسْبابِ و المعارج التي يتوصّل بها إلى العرش حتّى يجلسوا عليه، و يدبّروا أمر العالم، و ينزلوا الوحي على من يرونه أهلا له. و فيه نهاية التهكّم، فاذا لم يكن لهم و في تصرّفهم ملك السماوات و الأرض و ما بينهما و السلطنة فيهما، لا يكون بيدهم خزائن الرحمة، و ليس لهم إنزال رحمة أو منعها، و لا نصب أحد و لا عزله.

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبابِ (10)

ص: 331


1- . في النسخة: أكثر.

و قيل: إنّ المراد بالأسباب الفلكيات، و أستدلّ به على أنّ الفلكيات أسباب للحوادث السّفلية (1).

سوره 38 (ص): آیه شماره 11 الی 16

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ المشركين لا يملكون السماوات و الأرض، بيّن عجز الجند منهم فضلا عن العشرة و العشرين بقوله: جُنْدٌ ما و عسكر قليل منهم كلّما كثروا هُنالِكَ و في ذلك المكان الذي أنكروا التوحيد، و عجبوا من رسالتك، و تكلّموا بالكلمات التي لا تليق بمقامك مَهْزُومٌ و منكسر و مغلوب عن قريب، و ذلك الجند مِنَ جملة اَلْأَحْزابِ و الجماعات القوية الذين (2)تحزّبوا و اجتمعوا على تكذيب الرسل و معارضتهم.

جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتادِ (12) وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ أُولئِكَ اَلْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسابِ (16)و قيل: إنّ (هُنالِكَ) إشارة إلى يوم بدر. قال قتادة: إنّ اللّه أخبر بمكة أنّه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر. و قيل: يوم الخندق. و قيل: يوم فتح مكة، فانّ مكة هو الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات (3). فهو إخبار بكونهم منهزمين في مكّة، و هو من المعجزات. و قيل: إنّ المعنى هم كجند ما من الكفار المتحزّبين على الرسل، مهزوم و مكسور عمّا قريب، فلا تبال بقولهم، و لا تكترث بهذيانهم (4).

ثمّ ذكر سبحانه الأحزاب الذين جعل قريش منهم بقوله: كَذَّبَتْ كما كذّبتك يا محمّد قومك قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ و نوحا وَ عادٌ هودا وَ فِرْعَوْنُ موسى، و هو من كثرة ظلمه، أو قوّته كان ذُو اَلْأَوْتادِ و إنّما وصف فرعون بهذا الوصف، لأنّه على رواية بعض العامة كانت له أوتاد من حديد يعذّب الناس عليها بأن يمدّ (5)من غضب عليه مستلقيا بين أربعة أوتاد و يشدّ (6)كلّ يد و رجل منه بسارية، و كان كذلك في الهواء بين السماء و الأرض حتّى يموت، أو كان يمدّ الرجل مستلقيا على الأرض، ثمّ يشدّ يديه و رجليه و رأسه على الأرض بالأوتاد (7).

و قيل: إنّه كان يمدّ المعذّب بين أربعة أوتاد في الأرض، و يرسل عليه العقارب و الحيّات (8).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن قوله: وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتادِ فقال عليه السّلام: «إنّه كان إذا عذّب رجلا

ص: 332


1- . تفسير الرازي 26:180.
2- . في النسخة: التي.
3- . تفسير الرازي 26:181.
4- . تفسير أبي السعود 7:216، تفسير روح البيان 8:8.
5- . في السخة: مدّ.
6- . في النسخة: شدّ.
7- . تفسير روح البيان 8:9.
8- . تفسير الرازي 26:182، تفسير أبي السعود 7:217.

بسطه على الأرض على وجهه، و مدّ يديه و رجليه و رأسه على الأرض، فأوتدها بأربعة أوتاد، و ربما بسطه على خشب منبسط (1)فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد، ثمّ تركه على حاله حتّى يموت» الخبر (2).

و قيل: ينصب الخشب في الهواء، و كان يمدّ يدي المعذّب و رجليه إلى تلك الخشب الأربع، و يضرب على [كلّ]واحد من هذه الأعضاء و تدا، و يتركه معلقا في الهواء إلى أن يموت (3).

و عن قتادة: كانت أوتادا و أرسانا و ملاعب يلعب بها عنده (4).

و قيل: إنّ عساكره كانوا كثيرين، و كانوا كثيري الاهبة عظيمي النّعم، و كانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام (5).

و قيل: إنّ المعنى ذو الجموع الكثيرة، و سمّى الجموع الكثيرة أوتادا لأنّهم يشدّون ملكه، كما يقوّي الوتد البناء (6).

و قيل: إنّ المعنى ذوا الملك الثابت، فانّه استقام له الأمر أربعمائة سنة من غير منازع (7)، و إنّما استعير الأوتاد لثبات الملك، لأنّ أكثر بيوت العرب كانت خياما و ثباتها بالأوتاد (8).

وَ كذّبت ثَمُودُ صالحا وَ قَوْمُ لُوطٍ لوطا، و كانوا-على ما قيل-أربعمائة ألف بيت في كلّ بيت عشرة (9)وَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ و أهل الغيظة شعيبا قيل: نسبوا إلى الغيظة لأنّهم كانوا يسكنونها (10). و قيل: الأيكة اسم بلد (11)أُولئِكَ الامم المذكورة هم اَلْأَحْزابُ الذين تجمّعوا على أنبيائهم

إِنْ كُلٌّ من هؤلاء الامم، و ما حزب منهم إِلاّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ الذين ارسلوا إليهم فَحَقَّ و ثبت عِقابِ كلّ منهم حسب استحقاقهم، منهم عوقبوا بالصيحة، و منهم بريح صرصر عاتية، و منهم بالغرق بالطّوفان، و منهم بالغرق في البحر، و منهم بالصاعقة، و منهم بالرّجفة، و منهم بتقليب بلادهم و إمطار الحجارة عليهم

وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ الكفرة الذين كذّبوك، و ما ينتظرون إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً و هي النفخة الثانية. و قيل: هي النفخة الاولى (3).

روي عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في هذه الآية: «يأمر اللّه إسرافيل فينفخ نفخة الفزع، فيمدّها و يطولها، و هي التي يقول: ما لَها مِنْ فَواقٍ» (4).

و قيل: إن المراد عذاب يفجأهم و يأخذهم بغتة و دفعة (5)ما لتلك الصيحة، و ليس لَها مِنْ تأخير و توقّف و لو مقدار فَواقٍ ناقة، و هو الفصل ما بين حلبتيها، و قيل: يعني ما لها من سكون أو

ص: 333


1- . في النسخة: الخشب ينبسط.
2- . علل الشرائع:69/1 باب 60، تفسير الصافي 4:293. (3 و 4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 26:182. (7 و 8) . تفسير روح البيان 8:9. (9 و 10 و 11) . تفسير روح البيان 8:9.
3- . تفسير الرازي 26:183، تفسير البيضاوي 2:308.
4- . تفسير الرازي 26:183.
5- . تفسير الرازي 26:182.

رجوع إلى السكون (1).

و في الآيتين تسلية قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، لئلا يحزن من تكذيبهم و عدم إيمانهم بأنّ قومه جند قليل من الأحزاب الذين كذبوا الرسل، فاستأصلهم اللّه بالعذاب، مع كونهم في غاية الكثرة و الشّوكة و القوّة، فكيف بقومه الذين هم ضعفاء قليلون، و تهديد لمكذّبيه و معارضيه وَ مع ذلك قالُوا استهزاء بالرسول حين سمعوا خبر تأخير العذاب إلى الآخرة: رَبَّنا و إلهنا عَجِّلْ لَنا بلطفك قِطَّنا و نصيبنا من العذاب الذي وعدنا محمّد قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسابِ و النفخ في الصّور، و لا تؤخّره إليه.

سوره 38 (ص): آیه شماره 17 الی 20

و لمّا كان في قولهم هذا زيادة السخرية و الاستهزاء به، (2)بالغ سبحانه في تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: و اِصْبِرْ يا محمد عَلى ما يَقُولُونَ من الاستهزاء و التكذيب، و طب نفسا بما فضّلناك على جميع الرسل من الكتاب و الحكمة و السّلطنة في الملك و الملكوت و جوامع الكلم و فصل الخطاب وَ اُذْكُرْ لتسلية قلبك ما أعطيناه عَبْدَنا المخلص لنا، أعني داوُدَ بن ايشا ذَا اَلْأَيْدِ و القوة في البدن و الدين، و مع ذلك إِنَّهُ أَوّابٌ و رجّاع إلى اللّه بالتضرّع و التوبة، و التسبيح و التقديس،

و لذا إِنّا بقدرتنا سَخَّرْنَا و ذللّنا اَلْجِبالَ له يسيرون مَعَهُ و تبعا له حال كونهنّ يُسَبِّحْنَ للّه حالا بعد حال كرامة له بِالْعَشِيِّ و آخر النهار وَ اَلْإِشْراقِ أوّل النهار،

وَ سخّرنا اَلطَّيْرَ بأنواعها حال كونها مَحْشُورَةً و مجموعة إليه من كلّ جانب، ثمّ كُلٌّ من الجبال و الطير حال تسبيح داود عليه السّلام لَهُ أَوّابٌ و رجّاع بالتسبيح و التقديس.

اِصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّابٌ (17) إِنّا سَخَّرْنَا اَلْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْراقِ (18) وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوّابٌ (19) وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطابِ (20)عن ابن عباس: كان داود عليه السّلام إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، و اجتمعت إليه الطير فسبّحت، و ذلك حشرها (3).

و قيل: إنّ ضمير (له) راجع الى اللّه، و المعنى: أنّ داود و الجبال و الطير للّه أواب و مسبّح (4).

روي أنّ اللّه تعالى لم يعط أحدا من خلقه ما أعطى داود من حسن الصوت، فلمّا وصل إلى الجبال ألحان داود تحرّكت من لذّة السّماع، فوافقته في الذّكر و التسبيح، و لما سمعت الطيور نغماته صفرت

ص: 334


1- . تفسير الرازي 26:183.
2- . زاد في النسخة: ثمّ. (3 و 4) . تفسير الرازي 26:186، تفسير روح البيان 8:13.

بصفير التنزيه و التقديس، و لمّا أصغت الوحوش إلى صوته دنت منه حتّى كانت تؤخذ بأعناقها (1).

وَ شَدَدْنا و قوّينا ملكه و سلطنته بالوزراء الناصحين، و بالهيبة و إلقاء الرعب في قلوب المخالفين، و بصنعة اللّبوس و سائر آلات الحرب، ممّا لم يكن لغيره من السلاطين، إلى غير ذلك ما يوجب استحكام مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ و أعطيناه اَلْحِكْمَةَ و المعارف الإلهية و أحكام الشريعة و العلم بحقائق الأشياء وَ فَصْلَ اَلْخِطابِ و وضوح البيان بحيث يفهمه كلّ أحد.

و عن الرضا عليه السّلام: «أنّه معرفة اللغات» (2).

و قيل: هو الافصاح بحقيقة الأمر، و قطع القضايا و الحكم باليقين (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو قوله البينة على المدّعي، و اليمين على المدّعى عليه» (4).

سوره 38 (ص): آیه شماره 21 الی 25

ثمّ لمّا ذكر سبحانه ألطافه بداود، حكى ابتلاءه بالحزن الشديد، لارتكابه ما لم يكن لائقا بمقامه، كابتلاء نبينا صلّى اللّه عليه و آله بالحزن على تكذيب القوم، و صدّر ذكر القضية بالاستفهام التعجّبي (5)المشوّق إلى سماعها الموذن بغرابتها بقوله: وَ هَلْ أَتاكَ يا محمّد، و قرع سمعك الشريف نَبَأُ اَلْخَصْمِ و الخبر العظيم الجدير بأن يسمعه كلّ أحد في موضوع تنازع الخصمين إِذْ تَسَوَّرُوا و تصعدوا اَلْمِحْرابَ و سور الغرفة التي كان يتعبّد فيها،

و نزلوا فيها إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ و وردوا عليه بغتة مع كون بابها مغلقا فَفَزِعَ و دهش مِنْهُمْ لكون ورودهما على خلاف العادة، فلمّا رأوا فزعه و دهشته قالُوا إزالة لفزعه: يا داود لا تَخَفْ منّا إنا خَصْمانِ و منازعان جئناك لتحكم

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اِهْدِنا إِلى سَواءِ اَلصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25)

ص: 335


1- . تفسير روح البيان 8:13.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:228/3، تفسير الصافي 4:294.
3- . تفسير روح البيان 8:15.
4- . جوامع الجامع:404، تفسير الصافي 4:294، تفسير روح البيان 8:15.
5- . في النسخة: التعجيبي.

بيننا، أمّا إجمال المخاصمة أنّه بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ و ظلم أحدنا الآخر فَاحْكُمْ بَيْنَنا و اقطع خصومتنا بِالْحَقِّ و العدل وَ لا تُشْطِطْ في الحكم و لا تجر في القضاء وَ اِهْدِنا بحكمك إِلى سَواءِ اَلصِّراطِ و وسط الطريق بزجر الباغي عن ما سلكه من طريق الجور، و إرشاده إلى منهج العدل،

ثمّ حكى سبحانه تفصيلها بقوله: إِنَّ هذا الرجل الذي يكون معي أَخِي في الدين، أو في الصحبة، أو في النسب على الفرض لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً و الضأن الانثى وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ليس لي غيرها فَقالَ مع اخوّته المقتضية لتعطّفه: أَكْفِلْنِيها و ملّكنيها لتكون لي مائة نعجة وَ عَزَّنِي و غلبني فِي اَلْخِطابِ و الحجج.

عن ابن عبّاس: كان أعزّ منّي و أقوى في مخاطبتي، لأنّه كان ملكا (1).

فلمّا سمع داود ذلك قالَ و اللّه لَقَدْ ظَلَمَكَ أخوك بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ الواحدة ليضمّها إِلى نِعاجِهِ الكثيرة وَ ليس هذا الظلم منه أمرا بديعا، بل إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطاءِ و الشركاء، أو المصاحبين لَيَبْغِي و يتعدّى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و لا يراعي حقّ الصحبة و الشّركة إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فانّهم يراعون حقوق الناس و لا يظلمون أحدا سواء أكان شريكا أو مصاحبا أو غيرهما، وَ لكن قَلِيلٌ ما و يسير في الغاية هُمْ في الأزمنة كلّها.

قصة داود و تزويجه

ميشاوع زوجة

اوريا

حكى بعض العامة أن أوريا خطب ميشاوع أو ميشاويع (2). بنت شايع، فأجابته قومها، ثمّ غاب أوريا و ذهب إلى قتال البلقاء قبل أن يعقد عليها، ثمّ خطبها داود فزوّجت منه لجلالة قدره، فاغتم لذلك أوريا، فعاتبه اللّه تعالى على أنه خطب على خطبة أخيه المسلم مع عدم حاجة، لأنّه كان تحته و في حبالته تسع و تسعون امرأة، و لم يكن لأوريا غير التي خطبها (3).

و قيل: إنّ داود رأى امرأة أوريا، فمال قلبه إليها، و ابتلي بحبّها، فسأله داود أن يطلّقها، فاستحيى أن يردّه، فتزوجها و ولد منها سليمان، و كان ذلك جابرا في شريعته معتادا بين امّته، خلا أنّه عليه السّلام لعظمة منزلته و علوّ شأنه نبّه بالتمثيل على أنّه لم يكن ينبغي له أن يسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها و يتزوجّها مع كثرة نسائه (4).

روي أنّ داود قال للخصم: إنّ رمت ذلك ضربنا منك هذا و هذا-و أشار إلى الأنف و الجبهة-فقال:

ص: 336


1- . تفسير روح البيان 8:17.
2- . في تفسير روح البيان 8:18: بنشاوع أو بنشاويع.
3- . تفسير روح البيان 8:19.
4- . تفسير أبي السعود 7:222، تفسير روح البيان 8:19.

يا داود، أنت أحقّ أن يضرب منك هذا و هذا، و قد فعلت كيت و كيت. ثمّ نظر داود فلم ير أحدا (1). وَ لذا ظَنَّ و علم داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ و أردنا تنبيهه على قبح ما صدر منه.

و قيل: إنّ سبب علمه أنّه لمّا قضى بينهما، نظر أحد المتخاصمين إلى الآخر فضحك، ثمّ صعد إلى السماء (2).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: وَ ظَنَّ داوُدُ: «أي علم، و ذكر عليه السّلام أنّ داود كتب إلى صاحبه أن لا تقدّم أوريا بين يدي التابوت و ردّه، فقدم أوريا إلى أهله، و مكث ثمانية أيام ثمّ مات» (3).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام قيل له: يابن رسول اللّه، ما قصّة داود مع أوريا؟ قال: «إنّ المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا، فأوّل من أباح اللّه تعالى أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود، فتزوج بامرأة أوريا لما قتل، و انقضت عدتها» (4).

و قال بعض العامة: كانت زلّة داود المسارعة في الحكم قبل السؤال عن المدّعى عليه (5).

و عن الرضا عليه السّلام-في رواية-فقيل: يابن رسول اللّه، فما كانت خطيئة داود؟ فقال: «ويحك! إنّ داود إنّما ظنّ أنّه ما خلق اللّه تعالى خلقا أعلم منه، فبعث اللّه الملكين فتسوّروا المحراب، فقالا له: خصمان بغى بعضنا على بعض-إلى أن قال-فعجل داود على المدعّى عليه، فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. و لم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، و لم يقبل على المدّعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئته» (6)و قالوا فيه وجوه اخر لا نطيل بذكرها.

و على أي تقدير فَاسْتَغْفَرَ داود رَبَّهُ من زلّته التي كانت بالنسبة إليه ذنبا بعد ما التفت إليه وَ خَرَّ و سقط على الأرض حال كونه راكِعاً قيل: إنّ المراد من الركوع هنا السجود (7)، و المعنى خرّ للسجود حال كونه مصليا تسمية للصلاة باسم الركوع، لكونه من أعظم أجزائها.

عن ابن عباس رضى اللّه عنه، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنه سجد في ص و قال: سجدها داود توبة، و نسجدها شكرا» (8).

وَ أَنابَ داود و رجع إلى ربّه بالتوبة. روي أنّه بقي في سجود أربعين يوما و ليلة لا يرفع رأسه إلاّ لصلاة مكتوبة، أو لما لا بدّ منه، و لا يرقأ دمعه حتى نبت منه العشب حول رأسه، و لم يشرب ماء إلاّ

ص: 337


1- . تفسير الرازي 26:196.
2- . تفسير الرازي 26:198، تفسير أبي السعود 7:221.
3- . تفسير القمي 2:234، تفسير الصافي 4:296.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:194/1، تفسير الصافي 4:296.
5- . تفسير الرازي 26:198.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:194/1، تفسير الصافي 4:295.
7- . تفسير روح البيان 8:18.
8- . تفسير روح البيان 8:18.

ثلثاه دمع، و جهد نفسه راغبا إلى اللّه في العفو عنه حتّى كاد يهلك، و اشتغل بذلك عن الملك حتّى وثب له ابن يقال له إيشا على ملكه،

و اجتمع إليه أهل الزيع من بني إسرائيل (1)فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الذنب الذي استغفر منه في شهر ذي الحجّة على ما قيل (2). فلمّا نزلت توبته حارب ولده فهزمه وَ إِنَّ لَهُ عليه السّلام عِنْدَنا بعد المغفرة لَزُلْفى و قربا و كرامة في الدنيا وَ حُسْنَ مَآبٍ و مرجع بعد الموت، و هو الجنّة العالية المعدّة للأنبياء.

سوره 38 (ص): آیه شماره 26

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفضّلاته الخاصة على داود، و ذكر ابتلائه بالحزن الشديد، بيّن زيادة إنعامه عليه بقوله: يا داوُدُ إِنّا بعد أن غفرنا لك جَعَلْناكَ خَلِيفَةً و ملكا نافذ الحكم فِي اَلْأَرْضِ و سلطانا مقتدرا على جميع الناس مع النبوة و الزّلفى، إذن فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ و العدل، و في منازعاتهم بحكم اللّه، كما هو مقتضى الخلافة الإلهية وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى في حكومتك، و لا تقض بميل نفسك فَيُضِلَّكَ و يحرفك الهوى و ميل النفس عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و طريق القرب إليه، و هو العدل في الحكم، فانّ هوى النفس يدعو إلى جلب المنافع الشخصية و رعاية القريب و الصديق، و إعمال البغضاء في حقّ من أساء إلى الحاكم، و كلّ ذلك يصرف نظر الحاكم عن الحقّ و إعطائه لمن هو له و يمنعه عن العدل.

يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ (26)ثمّ هدّد سبحانه متّبعي الهوى و الضالين عن الهدى بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ باتّباع الهوى و الجور في الحكومة، و تضييع الحقوق، معدّ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ بالنار بِما نَسُوا و لم يذكروا يَوْمَ اَلْحِسابِ و غفلوا عن أهوال القيامه و شدائدها، و كان نسيانهم ذلك اليوم و غفلتهم سببا لاستحقاقهم أشدّ العذاب و أشدّ العقاب، و لو كانوا متذكّرين له لتداركوا قبائح أعمالهم بالتوبة و أعدّوا له الاهبة.

سوره 38 (ص): آیه شماره 27 الی 28

وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ (28)

ص: 338


1- . تفسير أبي السعود 7:223، تفسير روح البيان 8:18.
2- . تفسير روح البيان 8:18.

ثمّ لمّا حكى سبحانه شدّة إنكار المشركين للحشر حتّى بلغوا في إنكارهم إلى أن استهزءوا بأخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله به، شرع في الاستدلال على لزوم الحشر بقوله: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما خلقا باطِلاً و عبثا بلا حكمة فيه ذلِكَ الخلق الباطل و العبث ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ و هلاك لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ عذاب اَلنّارِ لكفرهم و إنكارهم الحشر، بل إنّما كان خلق العالم عن حكمة بالغة، و هي تكميل الاستعدادات و فعليّتها، فالنفوس الزكية بالمعارف و العلم و العمل يرتقون إلى مدارج كمال الانسانية و السعادة، و النفوس الخبيثة ينحطّون إلى مهاوي دركات الحيوانية و الشقاوة، و من المعلوم أنّه لا بدّ لكلّ من الكمال و النقص و الإرتقاء و الانحطاط أثر و نتيجة، قابل لأن يصير منظورا للعقلاء، و متعلقا لهم، و لو لم يكن عالم آخر لاستوى الناقص و الكامل، و الشقي و السعيد،

و هذا في غاية القبح، كما أشار إليه سبحانه بقوله: أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ بالكفر و المعاصي، لا و اللّه لا نجعلهم سواء، لكونه خلاف العدل، و اللّه الحكيم منزّه عنه أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ من ربّهم و عذابه بالعمل بالطاعات و اجتناب السيئات كَالْفُجّارِ و أهل الفسوق و الطغيان، حاشا لا يجوز التسوية بينهما على اللّه لكونه قبيحا في الغاية، فلا بدّ من عالم آخر يثاب فيه المؤمن و المتقي بأفضل الثواب، و يجازى فيه المفسد و الفاجر بأسوأ الجزاء، و يرى كلّ منهم نتيجة أعمالهم.

روي أنّ كفّار قريش قالوا للمؤمنين: إنّا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون، بل أكثر، فردّهم اللّه بقوله: أَمْ نَجْعَلُ إلى آخره (1).

أقول: و يمكن كون قولهم هذا على سبيل الاستهزاء، أو على تقدير وقوع الآخر.

عن الصادق عليه السّلام قال: «لا ينبغي لأهل الحقّ أن ينزلوا أنفسهم منزلة أهل الباطل، لأن اللّه لم يجعل عنده أهل الحقّ بمنزلة أهل الباطل، ألم يعرفوا وجه قول اللّه في كتابه إذ يقول: أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا إلى آخره؟ !» (2).

سوره 38 (ص): آیه شماره 29 الی 33

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (29) وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصّافِناتُ اَلْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْناقِ (33)

ص: 339


1- . تفسير روح البيان 8:24.
2- . الكافي 8:12/1، تفسير الصافي 4:297.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه العلوم الكثيرة في القرآن من المعارف و أدلّة التوحيد و المعاد، و خصائص الأنبياء، و تفضلاّته عليهم، و قصصهم، بيّن فضل القرآن، و كونه نازلا منه، لدلالة ما فيه عليه بقوله: كِتابٌ قيل: إنّ التقدير هذا القرآن (1)كتاب أَنْزَلْناهُ بتوسّط جبرئيل إِلَيْكَ يا محمّد مُبارَكٌ و كثير الخير و النفع الديني و الدنيوي، لمن آمن به و صدّقه لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ و يتفكّروا فيها بالفكر السليم عن التعصّب و العناد، فيعرفوا ما فيها من المطالب العالية و اللطائف الفائقة و البيانات الرائقة، فيومنوا به وَ لِيَتَذَكَّرَ و يتّعظ بمواعظه و يعتبر بما فيه أُولُوا اَلْأَلْبابِ و أصحاب العقول السليمة عن شوائب الأوهام، و إنّما خصّ سبحانه الاتّعاظ به و العمل بما فيه باولي الألباب، لتوقّفه على العقل الغالب على الأهواء الزائغة و الشهوات المردية.

ذكر بعض أحوال

داود عليه السّلام

ثمّ عاد سبحانه تعالى بعد الاستدلال على المعاد و الرسالة إلى ذكر أعظم تفضلاّته على داود عليه السّلام بقوله تعالى: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ و أنعمنا عليه بذلك الولد الذي كان خليفة له و وارث نبوته و سلطنته.

روي أنّ داود عاش مائة سنة، و مات يوم السبت، و كان له غرفة و محراب يصعد فيه و ينزل، و كان يوم السبت في محرابه إذ جاءه ملك الموت و قال: جئتك لأقبض روحك فقال: دعني حتّى أنزل و ارتقي. فقال: مالي إلى ذلك سبيل، نفدت الأيام و الشهور و السنون و الآثار و الأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها، فسجد داود على مرقاة من الدّرج، فقبض نفسه على تلك الحالة، و أوصى لابنه سليمان بالخلافة (2).

ثمّ مدح سبحانه سليمان بقوله: نِعْمَ اَلْعَبْدُ سليمان إِنَّهُ كأبيه أَوّابٌ و رجّاع إلى اللّه في جميع الأحوال في النّعمة بالشكر،

و في المحنة بالصبر و التضرّع، و اذكر يا محمد إِذْ عُرِضَ و أظهر عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ و وقت العصر الخيول اَلصّافِناتُ و القائمات على قوائم ثلاث مع تثنية الرابعة أو وضعها على طرف السّنبك و اَلْجِيادُ و السريعات في العدو.

و عن ابن عباس: الجياد الخيل السوابق، و إذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها (3)، و الصفتان من أحمد صفات الخيل.

ص: 340


1- . تفسير روح البيان 8:25.
2- . تفسير روح البيان 8:26.
3- . تفسير روح البيان 8:27.

في ردّ العامة

قيل: إنّ سليمان غزا أهل دمشق و نصيبين، و هي قاعدة ديار ربيعة، فأصاب ألف فرس عربي (1). و قيل: أصابها أبوه من العمالقة و ورثها سليمان (2)على خلاف رواية أبي بكر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» (3).

و قيل: إنّها خيول بحرية جاء بها الجنّ لسليمان (4). و على أي تقدير قيل: قعد سليمان يوما بعد صلاة الظهر على كرسيّه، و كان يريد جهادا، فاستعرض تلك الخيول عليه، فلم يزل تعرض عليه و هو ينظر إليها و يتعجّب من حسنها حتّى ذهب وقت فضيلة العصر، أو وقت ذكر كان يواظب عليه (5).

ذكر فضيلة لأمير

المؤمنين عليه السّلام

و قال بعض العامة: حتى غربت الشمس وفات وقت صلاة العصر (6)فَقالَ تأسّفا و تحسّرا على ما صدر منه: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ و جعلت حبّ الخيل بدلا عَنْ ذِكْرِ رَبِّي و اشتغلت بالنظر إليه حَتّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ و سترت بستر افق المغرب،

فبعد غروب الشمس قال للملائكة: رُدُّوها عَلَيَّ فردّت الملائكة الشمس باذن اللّه إلى محلّ فضيلة العصر، فصلاّها في وقتها، كما ردّت الشمس لعلي بن أبي طالب عليه السّلام حين فات وقت صلاة العصر منه لنوم النبي صلّى اللّه عليه و آله في حجره على ما روته العامة و الخاصة (7)فَطَفِقَ و أخذ يمسح مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْناقِ.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّ سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال للملائكة: ردوا الشمس عليّ حتّى اصلّي صلاتي في وقتها، فردّوها. فقام فمسح ساقيه و عنقه، و أمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك، و كان ذلك وضوءهم للصلاة، ثمّ قام فصلّى، فلمّا فرغ غابت الشمس و طلعت النجوم، و ذلك قول اللّه عز و جل: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ إلى قوله: وَ اَلْأَعْناقِ» (8).

أقول: ظاهر الآية أنّ سليمان مسح بالسوق و الأعناق، لا هو و أصحابه.

ص: 341


1- . تفسير البيضاوي 2:312، تفسير أبي السعود 7:225، تفسير روح البيان 8:27.
2- . تفسير البيضاوي 2:312، تفسير أبي السعود 7:225، تفسير روح البيان 8:27.
3- . تفسير روح البيان 8:27.
4- . تفسير روح البيان 8:27.
5- . تفسير روح البيان 8:28.
6- . تفسير أبي السعود 7:225.
7- . فضيلة رد الشمس لعلي عليه السّلام مروية في البداية و النهاية 6:80، و ترجمة الامام علي عليه السّلام من تاريخ دمشق لابن عساكر 2:283، و الصواعق المحرقة:128، و مناقب ابن المغازلي:96/140 و:98/141، و مناقب الخوارزمي:217، و الرياض النضرة 3:140، و مجمع الزوائد 8:297 و تفسير روح البيان 8:31، و نور الأبصار:33، و اثبات الهداة 5: 58/427، و بحار الأنوار 41:166-190.
8- . من لا يحضره الفقيه 1:129/607، تفسير الصافي 4:298.

و عن ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: «ما بلغك فيها؟» قلت: بلى، سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتى فاتته الصلاة. فقال: ردّوها عليّ-يعني الأفراس-و كانت أربعة عشر، و أمر بضرب سوقها و أعناقها بالسيف فقتلها، فسلب اللّه ملكه أربعة عشر يوما، لأنّه ظلم الخيل بقتلها.

فقال عليّ عليه السّلام: «كذب كعب، لكن اشتغل سليمان بعرض أفراس ذات يوم، لأنّه أراد جهاد العدوّ حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر اللّه للملائكة الموكّلين بالشمس: ردّوها عليّ، فردّت فصلّى العصر في وقتها، و إنّ الأنبياء لا يظلمون و لا يأمرون بالظلم، لأنّهم معصومون مطهّرون» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن قول اللّه عز و جل: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً قال: «يعني مفروضا، و ليس معنى وقت فوتها إذا جاز ذلك ثمّ صلاها، لم تكن صلاته هذه مؤدّاة، و لو كان ذلك لهلك سليمان بن داود حين صلاها لغير وقتها» (2).

أقول: يمكن كون النظر إلى الخيول و الاطلاع بحالها للجهاد، كان أهمّ من الصلاة، و لمّا أحبّ أن يؤدّي الصلاة لوقتها أمر برّد الشمس، فكان حاله حال أمير المؤمنين عليه السّلام، و نظر سليمان إلى الأفراس كنوم النبي صلّى اللّه عليه و آله في حجر أمير المؤمنين عليه السّلام، و على أي تقدير ليست الروايات متواترة و لا حجّة في غير الأحكام الشرعية.

و قيل: إنّ رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينه كما في ديننا، و كان سليمان احتاج إلى الغزو، فجلس و أمر باحضار الخيل و إجرائها، و ذكر أنّي لا أحبّ الخيل لأجل الدنيا، و إنّما احبّها لأمر اللّه، و طلب تقوية دينه. و ذلك معنى إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ أي حبّ الخيل، و ذلك الحبّ الشديد حصل عن ذكري ربي و كتابة أوامره، لا عن الشهوة و الهوى، ثمّ إنّه أمر باعدائها و تسييرها حتّى توارت الخيل بالحجاب، و غابت عن نظره، ثمّ قال للرائضين: ردّوا الخيل عليّ، فلمّا عادت إليه جعل يمسح سوقها و أعناقها تشريفا لها و إظهارا لعزّتها (3)، أو ليعلم صحّتها و مرضها (4).

أقول: نعم التفسير هو، لو لا أن يكون بالرأي و مخالفا للروايات.

سوره 38 (ص): آیه شماره 34

وَ لَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)

ص: 342


1- . مجمع البيان 8:741، تفسير الصافي 4:298.
2- . الكافي 3:294/10، من لا يحضره الفقيه 1:129/606، تفسير الصافي 4:298.
3- . تفسير الرازي 26:206، تفسير روح البيان 8:29.
4- . تفسير الرازي 26:206.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر فتنة أبيه داود، ذكر فتنته بقوله: وَ لَقَدْ فَتَنّا و ابتلينا سُلَيْمانَ و كانت فتنته على ما روته بعض العامة أنّه قال يوما: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة أو تسعين أو تسع و تسعين أو مائة، تأتي كلّ واحدة بفارس يجاهد في سبيل اللّه، و لم يقل: إن شاء اللّه. فقال له صاحبه و وزيره آصف بن برخيا: قل إن شاء اللّه، فلم يقل، فطاف عليهنّ تلك الليلة فلم تحمل إلاّ امرأة واحدة جاءت بشقّ ولد له عين واحدة، و يد واحدة، و رجل واحدة، فألقته القابلة على كرسيّه (1)، و هو قوله تعالى: وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ و سريره الذي كان يقعد عليه جَسَداً.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون (2).

و روي أنّه نسي أن يقولها لينفذ مراد اللّه تعالى (3).

و في رواية اخرى: أنّ سليمان ولد له ابن، فاجتمعت الشياطين على قتله، و ذلك أنّهم كان يقدّرون في أنفسهم أنّهم يستريحون ممّا هم فيه من تسخير سليمان إياهم على التكاليف الشاقّة، فعلم سليمان بذلك، فأمر السّحاب بحمله، و كانت الريح تعطيه غذاءه، و ربّي فيه خوفا من مضرّة الشياطين، فابتلاه اللّه لأجل خوفه هذا و عدم توكّله في أمر ابنه على ربّه بموت ابنه حيث مات في السّحاب، و القي ميتا على كرسيّه» (1).

و قريب منه ما عن الصادق عليه السّلام، فانّه قال: «إنّ الجنّ و الشياطين لمّا ولد لسليمان ابن قال بعضهم لبعض: إن عاش له له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء، فأشفق منهم عليه، فاسترضعه في المزن-و هو السّحاب-فلم يشعر إلاّ و قد وضع على كرسيه ميتا، تنبيها على أنّ الحذر لا ينفع من القدر، و إنّما عوتب على خوفه من الشياطين» (2).

قيل: لمّا القي ابنه الميت على كرسيه جزع سليمان عليه، إذ لم يكن له إلاّ ابن واحد، فدخل عليه ملكان، فقال أحدهما: إنّ هذا مشى في زرعي فأفسده. فقال له سليمان: لم مشيت في زرعه؟ قال: لأنّ هذا الرجل زرع في طريق الناس، فلم أجد مسلكا غير ذلك. فقال سليمان: لم زرعت في طريق الناس. أما علمت أنّ الناس لا بدّ لهم من طريق يمشون فيه؟ فقال لسليمان: صدقت. لم ولدت على طريق الموت، أما علمت أنّ ممرّ الخلق على الموت، ثمّ غابا، فاستغفر سليمان (3)ثُمَّ أَنابَ و رجع إلى اللّه تعالى.

و قيل: إنّ ابتلاءه كان سبب ملكه، و ذلك أنّ سليمان بلغه خبر مدينة في البحر، فخرج إليها بجنوده

ص: 343


1- . تفسير روح البيان 8:32.
2- . مجمع البيان 8:741، تفسير الصافي 4:299.
3- . تفسير روح البيان 8:32.

تحمله الريح، فأخذها و قتل ملكها، و أخذ بنتا اسمها جرادة من أحسن النساء وجها، فاصطفاها لنفسه، و أسلمت فأحبّها، و كانت تبكي أبدا على أبيها، فأمر سليمان الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها، فكسوها مثل كسوة أبيها، و كانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة و عشيا مع جواريها تسجد لها، فأخبر آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة، و عاقب المرأة، ثمّ خرج إلى فلاة من الأرض، و فرش الرماد و جلس عليه تائبا إلى اللّه.

و كانت له امّ ولد يقال لها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، و كان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يوما، فأتاها الشيطان صاحب البحر على صورة سليمان، و قال: يا أمينة، خاتمي. فتختّم به و جلس على كرسي سليمان، فأتى عليه الطير و الجنّ و الإنس.

و تغيّرت هيئة سليمان، فأتى أمينة لطلب الخاتم. فأنكرته و طردته، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفّف، و إذا قال: أنا سليمان، حثوا التراب عليه و سبّوه، ثمّ أخذ يخدم السمّاكين، ينقل لهم فيعطونه كلّ يوم سمكتين، فمكث عليه بهذه الحالة أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف و عظماء بني إسرائيل حكم الشيطان، و سأل آصف نساء سليمان، فقلن: ما يدع امرأة منّا في دمها، و لا يغتسل من جنابة. و قيل: نفذ حكمه في كلّ شيء إلاّ فيهنّ. ثمّ طار الشيطان، و قذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة، و وقعت السمكة في يد سليمان، فشقّ بطنها، فاذا هو بالخاتم، فتختّم به، و وقع ساجدا للّه، و رجع إليه ملكه، و أخذ ذلك الشيطان، و أدخله في صخرة، و ألقاها في البحر (1).

أقول: عليه يكون الجسد الملقى على كرسيّه ذلك الشيطان بتأويلات، و هذه الرواية مردودة بوجوه كثيرة، منها: أنّ الشياطين لا يتصوّرون بصور الأنبياء، و أنّ سليمان لم يكن عاصيا حتى يعاقب عليه إلى غير ذلك.

و قيل: إنّ فتنته كانت بسبب مرض ابتلاه اللّه بحيث صار كالجسد الملقى على كرسيّه لا قوة له و لا روح، ثمّ أناب و رجع إلى الصحّة (2).

سوره 38 (ص): آیه شماره 35 الی 40

قالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَ اَلشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَ غَوّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40)

ص: 344


1- . تفسير الرازي 26:207.
2- . تفسير الرازي 26:209.

ثمّ سأل اللّه تبارك و تعالى أهمّ حوائجه الاخروية حيث قالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي زلاتي التي لا تليق بمقام نبوّتي، ثمّ أردفه بطلب ما فيه إصلاح امور دنياه و قوة ترويجه للدين بقوله: وَ هَبْ لِي يا ربّ، و أعطني مُلْكاً و سلطانا عظيما لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من خلقك مِنْ بَعْدِي و يكون أرفع من أن يناله غيري حتّى تكون لي معجزة دالة على صدق نبوتي، و وسيلة لا نجاح مقاصدي من هداية خلقك، و رفع الظلم و إشاعة العدل، و ترويج الدين إِنَّكَ لا تردّ دعائي و مسألتي لأنّك أَنْتَ اَلْوَهّابُ و كثير العطاء لا نقص في خزائنك، و لا بخل في ساحتك، و لا مانع من جودك

فَسَخَّرْنا و ذللّنا لَهُ اَلرِّيحَ إجابة لدعائه بحيث تَجْرِي بِأَمْرِهِ حال كونها رُخاءً أو طيبة حَيْثُ أَصابَ سليمان و قصد من البلاد و الأماكن البعيدة

وَ سخّرنا اَلشَّياطِينَ له، أعني كُلَّ بَنّاءٍ منهم، ليبني له ما أراد من الأبنية وَ كلّ غَوّاصٍ يغوص في البحر فيخرج له اللاليء و المرجان و النفائس

وَ آخَرِينَ منهم مُقَرَّنِينَ و مقيّدين فِي اَلْأَصْفادِ و القيود.

و من المعلوم أنّ لطافة أجسامهم لا تنافي صلابتها، بحيث يقدرون على تحمّل الأشياء الثقيلة، كحمل ملك بلاد قوم لوط، و نرى الرياح تحمل الأحجار الثقيلة في الغاية و تخريب الأبنية العظيمة، و لا ينافي تقييدهم بالقيود التي لا يقدرون على قطعها و كسرها.

و قيل: إنّ تقييدهم كناية عن منعهم من الشرور و الفساد (1)بحيث لا يقدرون على شيء منها.

ثمّ قلنا له: هذا الملك العظيم عَطاؤُنا الخاصّ بك، لم نعطه أحدا قبلك، و لا نعطه أحدا بعدك فَامْنُنْ و أعط ما شئت لمن شئت أَوْ أَمْسِكْ و امنع ما شئت عمّن شئت حال كونك متلبّسا بِغَيْرِ حِسابٍ و مأخذة على شيء من عطائك و منعك، لتفويض التصّرف إليك على الإطلاق.

عن ابن عباس: أعط من شئت و امنع من شئت بغير حساب، لا حرج عليك فيما أعطيت، و فيما أمسكت (2).

قيل: ما أنعم اللّه على أحد نعمة إلاّ كانت عليه تبعة إلاّ سليمان فان أعطى اجر عليه، و إن لم يعط لم يكن عليه تبعة (3).

و قيل: إنّ قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ متعلق بعطائنا، و المعنى أنّ هذا العطاء لا يمكن حسابه لغاية

ص: 345


1- . تفسير أبي السعود 7:227، تفسير روح البيان 8:37.
2- . تفسير الرازي 26:211.
3- . تفسير روح البيان 8:39.

كثرته (1).

و قيل: إنّ المراد من المنّ و الإمساك بالنسبة إلى الشياطين المقيّدين، و المعنى امنن على من شئت منهم بفكّه، و أمسك من شئت منهم في القيد (2)وَ مع ذلك إِنَّ لَهُ عِنْدَنا في الدنيا لَزُلْفى و قربة حيث إنّهمن المرسلين المكرمين وَ له حُسْنَ مَآبٍ بعد الموت، و في الآخرة.

سوره 38 (ص): آیه شماره 41 الی 44

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بافتتان داود و سليمان بزلّتهما مع ما كان لهما من النبوة و السلطنة، و سلامة نبينا منه، أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالصبر على الأذى ببيان صبر أيوب عليه السّلام بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد عَبْدَنا أَيُّوبَ بن آموص من ولد إسحاق إِذْ نادى رَبَّهُ و دعاه، و كان دعاؤه أَنِّي مَسَّنِيَ و أصابني اَلشَّيْطانُ بنفخة فيّ، أو بدعائه بِنُصْبٍ و تعب و مشقّة وَ عَذابٍ و مرض موجع و ألم شديد، و أنت أرحم الراحمين، كما في سورة الانبياء،

فاستجابنا و قلنا له: يا أيوب اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ و اضربها على الارض بقوة، فضربها فنبعت عين من محلّ ضرب رجله، فقلنا له: هذا الماء الذي خرج من العين مُغْتَسَلٌ بارِدٌ تغتسل به وَ شَرابٌ تشرب منه، فاغتسل في ذلك الماء يبرأ ظاهرك، و اشرب منه يبرأ باطنك.

وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (41) اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ (42) وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (43) وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ (44)و قيل: مغتسل بارد يبرّد حرارة الظاهر، و شراب يبرّد حرارة الباطن (3)فاغتسل من الماء و شرب منه، فذهب ما به [من]الداء من ظاهره و باطنه، فقام صحيحا سالما من الأمراض، و عاد إليه شبابه و جماله أحسن ما كان (4).

عن ابن عباس رحمه اللّه: مكث أيوب في البلاء سبع سنين و سبعة أشهر و سبعة أيام و سبع ساعات، لم يغمّض فيهنّ، و لم ينقلب في المدّة من جنب إلى جنب (5)، فكشفنا ما به من ضرّ وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ و أولاده الذين هلكوا حين ابتلائه بهدم البناء عليهم وَ وهبنا مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فكان له من الأولاد ضعف ما كان قبل البلاء.

ص: 346


1- . تفسير أبي السعود 7:228، تفسير روح البيان 8:39.
2- . تفسير الرازي 26:211.
3- . تفسير روح البيان 8:41. (4 و 5) . تفسير روح البيان 8:41.

عن الصادق عليه السّلام: أحيا اللّه أهله الذين ماتوا قبل البلية، و أحيا اللّه الذين ماتوا حين البلية» (1)و كان ذلك رَحْمَةً عظيمة مِنّا عليه. قيل: يعني لرحمة عظيمة عليه من عندنا (2)وَ ليكون ذِكْرى و عظة و عبرة لِأُولِي اَلْأَلْبابِ ليصبروا على الشدائد كما صبر أيوب، و يلجأوا إلى اللّه فيما نزل بهم كما لجأ أيوب إليه، ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة، كما تمّ لمّا حلف أيوب أن يضرب (رحمة) زوجته لتقصير توهّمه في حقّها، كما مرّ تفصيله في سورة الأنبياء، و كان مغتما على حلفه بعد اطّلاعه على عذرها فيه، كشف اللّه غمّه بقوله:

وَ خُذْ يا أيوب بِيَدِكَ ضِغْثاً و حزمة أو قبضة من ريحان أو حشيش يكون عدده مائة فَاضْرِبْ بِهِ رحمة و أبرّ قسمك وَ لا تَحْنَثْ في يمينك.

ثمّ مدحه سبحانه بالصبر و القيام بوظائف العبودية و الرجوع إلى اللّه و عدم الشكوى إلى غيره بقوله: إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً على البلايا (3)العظام التي أصابته في نفسه و أهله و ماله نِعْمَ اَلْعَبْدُ أيوب إِنَّهُ أَوّابٌ إلى اللّه رجّاع إليه لا إلى غيره.

روي عن ابن مسعود أنّه قال: أيوب رأس الصابرين إلى يوم القيامة (4).

روي أنّه لمّا كشف اللّه البلاء عن أيوب خطر في قلبه أنّه حسن صبره فيما نزل عليه من البلاء فنودي: يا أيوب، أأنت صبرت أم نحن صبّرناك؟ يا أيوب، لو لا أنّا وضعنا تحت كلّ شعرة من البلاء جبلا من الصبر لم تصبر (5).

و في قوله: إِنَّهُ أَوّابٌ دلالة على أنّه علّة مدحه بالعبودية. قيل: لمّا نزل نِعْمَ اَلْعَبْدُ في حقّ سليمان، و في حقّ أيوب، عظم الغمّ في قلوب المؤمنين، و قالوا: لا سبيل لنا إلى تحصيل هذا الشرف؛ لأنّ سليمان ناله بملك لا ينبغي لأحد بعده، و أيوب ناله بالصبر على البلايا (4)التي نزلت عليه، و لا نقدر على أحدهما. فأنزل اللّه تعالى: نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ (5)و المراد أنّك إن لم تكن نعم العبد، فانّا نعم المولى، و إن كان منك تقصير، فمنّي الرحمة و التيسير (6).

سوره 38 (ص): آیه شماره 45 الی 49

وَ اُذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصارِ (45) إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيارِ (47) وَ اُذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)

ص: 347


1- . تفسير القمي 2:242، تفسير الصافي 4:301.
2- . تفسير أبي السعود 7:229، تفسير روح البيان 8:42.
3- . في النسخة: البلاء. (4 و 5) . تفسير روح البيان 8:45.
4- . في النسخة: البلاء.
5- . الأنفال:8/40.
6- . تفسير الرازي 26:216.

ثمّ ذكر سبحانه أحوال جمع من الأنبياء العظام بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد عِبادَنا المخلصين إِبْراهِيمَ كيف ابتلي بنار نمرود وَ إِسْحاقَ كيف ابتلي بالمصائب العظيمة وَ يَعْقُوبَ كيف ابتلي بفراق يوسف حتّى ابيضّت عيناه من الحزن مع أنّهم كانوا أُولِي اَلْأَيْدِي و القوة في العبادة وَ ذوي اَلْأَبْصارِ و المعارف الإلهية

إِنّا أَخْلَصْناهُمْ و برّأناهم من حبّ الدنيا و الشهوات و رذائل الأخلاق، أو محّضناهم لنا بسبب صفة كريمة بِخالِصَةٍ من الخصال العالية التي لا شوب فيها، و هي ذِكْرَى اَلدّارِ الآخرة، بحيث نسوا الدنيا و ما فيها، بل نسوا أنفسهم.

و قيل: إنّ المراد خصصناهم بفضيلة و كرامة خالصة لهم، و هي ذكرهم بالعظمة و علوّ الرّتبة في الدار الآخرة، أو في الدنيا إلى يوم القيامة استجابة لدعائهم بقوله: وَ اِجْعَلْ لنا لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ (1).

وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا و في علمنا، أو في نظرنا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ و المختارين من أولاد آدم و المتجبين من الخلق، لكمال قربنا، و التمحّض لعبادتنا، و تحمّل أعباء رسالتنا، و من اَلْأَخْيارِ الذين لا يتمشّى منهم إلاّ ما فيه رضا ربهم و صلاح دينهم و نفع أبناء جنسهم،

و في الوصفين دلالة على عصمتهم وَ اُذْكُرْ يا محمّد جدّك إِسْماعِيلَ بن إبراهيم وَ اَلْيَسَعَ بن أخطوب خليفة إلياس-على ما قيل-نبيّ من أنبياء بني إسرائيل (2)وَ ذَا اَلْكِفْلِ قيل: هو إلياس (3). و قيل: إنّه ابن عمّ اليسع (4)و قيل: إنّه يوشع (5)و قيل: إنّه ابن ايوب (6)، كيف قاسوا الشدائد و الآفات، و صبروا على البلايا و الأذيات وَ كُلٌّ منهم مِنَ اَلْأَخْيارِ المشهورين بالخير و الصلاح

هذا المذكور من افتتان الانبياء و صبرهم على المحن ذِكْرٌ و عظة لك و تذكرة و تسلية لقلبك، حيث إنّ من شأنك أن تصبر على ما لا يصبر عليه غيرك.

قيل: إنّ المراد هذا الذي تلونا عليك ذكر جميل لهؤلاء الأنبياء يذكرون به إلى آخر الدهر (7).

ثمّ سلاّه سبحانه بذكر المثوبات التي تترتّب على التقوى و إطاعة أحكام اللّه الموجبة للصبر عليها بقوله: وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ و المطيعين لأوامر اللّه و نواهيه مع مالهم من الشرف و الذّكر الجميل لَحُسْنَ مَآبٍ و مرجع بعد الخروج من الدنيا.

ص: 348


1- . تفسير الرازي 26:217، و الآية من سورة الشعراء:26/84.
2- . تفسير البيضاوي 2:314، تفسير أبي السعود 7:230، تفسير روح البيان 8:47.
3- . تفسير روح البيان 8:47.
4- . تفسير البيضاوي 2:314، تفسير أبي السعود 7:231، تفسير روح البيان 8:47.
5- . تفسير روح البيان 8:47.
6- . تفسير البيضاوي 2:314، تفسير روح البيان 8:47.
7- . تفسير روح البيان 8:48.

سوره 38 (ص): آیه شماره 50 الی 58

ثمّ بيّن سبحانه حسن مآبهم بقوله: جَنّاتِ عَدْنٍ و بساتين تكون لهم الإقامة فيها أبدا. و قيل: إنّ عدن علم الجنات، لما روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أن اللّه تعالى بنى جنة عدن بيده، و بناها بلبنة من ذهب و لبنة من فضّة، و جعل ملاطها المسك، و ترابها الزعفران، و حصيائها الياقوت (1).

جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ اَلْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ (51) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ اَلْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَ إِنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ اَلْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)و على أيّ تقدير إذا جاءها المتّقون وجدوها مُفَتَّحَةً لَهُمُ اَلْأَبْوابُ منها فيدخلونها بلا انتظار لأن يفتحها البوّابون و أن يوذن لهم في الدخول، بل يستقبلهم الملائكة بالترحيب و التبجيل و التسليم.

و قيل: إنّ فتح ابوابها كناية عن عدم منعهم من الدخول (2)، فاذا دخلوا الجنة جلسوا على السرير كالملوك حال كونهم مُتَّكِئِينَ على النّمارق المصفوفة و معتمدين عليها فِيها مستريحين منعمّين يَدْعُونَ فِيها لتلذّذهم بِفاكِهَةٍ و أنواع كَثِيرَةٍ من ثمار الجنة وَ شَرابٍ من خمر و عسل و لبن و غيرها.

ثمّ بيّن سبحانه منكوحهم بقوله: وَ عِنْدَهُمْ فيها أزواج قاصِراتُ اَلطَّرْفِ على أزواجهنّ، لا ينظرون إلى غيرهم، و أَتْرابٌ و متساويات مع أزواجهنّ في السنّ، لا فيهن عجوزة و لا صغيرة. قيل: لأنّ التحابّ بين الأقران أرسخ (1).

في الحديث: «يدخل أهل الجنة [الجنة]جردا مكحّلين أبناء ثلاث و ثلاثين سنة، لكلّ رجل منهم زوجتان، على كلّ زوجة سبعون حلّة، يرى مخّ ساقيها من ورائها» (2).

و يقول لهم الملائكة: هذا الذي ترون من الثواب العظيم و النعمة الجسيمة هو ما كنتم تُوعَدُونَ في الدنيا على لسان نبيكم على الايمان و التقوى لِيَوْمِ اَلْحِسابِ و وقت جزاء الأعمال

إِنَّ هذا الذي أنتم فيه من أنواع النّعم و الكرامات لَرِزْقُنا و عطاؤنا لأوليائنا و المتّقين من عبادنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ و انقطاع أبدا و زوال أصلا.

عن ابن عباس: ليس لشيء نفاد، ما اكل من ثمارها خلّف مكانه مثله، و ما أكل من حيوانها و طيرها

ص: 349


1- . تفسير روح البيان 8:48.
2- . تفسير روح البيان 8:49.

عاد مكانه حيا (1).

هذا الذي قلنا للمتّقين في الآخرة، و أمّا الكفّار فبيّن سبحانه أنّهم في ضدّ حال المتّقين بقوله: وَ إِنَّ لِلطّاغِينَ على اللّه، و المكذّبين للرسل، و المتجاوزين عن الحدّ في العصيان لَشَرَّ مَآبٍ و أسوأ مرجع بعد الموت، و إن كانوا في الدنيا أحسن حالا من المؤمنين،

و اعلموا أنّ مآبهم جَهَنَّمَ التي لا شرّ منها، و هم يَصْلَوْنَها و يدخلون فيها بعنف، لأنّهم مهّدوها لأنفسهم في الدنيا فَبِئْسَ اَلْمِهادُ و الفراش جهنّم. قيل إطلاق المهاد و الفراش عليها من التهكّم و السّخرية (2).

هذا الذي هيّئناه لهم و أحضرناه عندهم فَلْيَذُوقُوهُ و ليطعموه، و هو حَمِيمٌ و مائع متناه في الحرارة و الحرقة وَ غَسّاقٌ و مائع متناه في البرودة. عن ابن عباس: هو الزّمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها (3). و قيل: إنّه ما يسيل من قيح أهل النار (4).

و قيل: إنّه مائع منتن لو قطرت قطرة منه في المشرق لأنتنت أهل المغرب (5).

و عن كعب: أنّه عين في جهنم يسيل إليها سمّ كلّ ذي سمّ من عقرب و حيّة (2).

و القمي، قال: الغسّاق: واد في جهنّم فيه ثلاثمائة و ثلاثون قصرا، في كلّ قصر ثلاثمائة بيت، في كلّ بيت أربعون زاوية، في كلّ زاوية شجاع (3)في كلّ شجاع ثلاثمائة و ثلاثون عقربا، في حمة (4)كلّ عقرب ثلاثمائة و ثلاثون قلّة من سمّ، لو أنّ عقربا منها نفحت سمّها على أهل جهنّم لوسعهم سمّها (5).

قيل: إنّ في الآية تقديما و تاخيرا، و المراد هذا حميم و غسّاق فليذوقوه (6).

وَ عذاب آخَرُ أو مذوق آخر من مثل هذا العذاب أو المذوق، و مِنْ شَكْلِهِ في التعذيب و الإيلام و الشدّة و الفظاعة أَزْواجٌ و أجناس مختلفة. قيل: إنّه صفة للحميم و الغسّاق و العذاب الآخر (7).

سوره 38 (ص): آیه شماره 59 الی 60

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء حال الكفّار في أنفسهم، بيّن حالهم مع أتباعهم و مواليهم الذين كانوا معهم

هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا اَلنّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ اَلْقَرارُ (60)

ص: 350


1- . تفسير روح البيان 8:50. (2 و 3) . تفسير روح البيان 8:51. (4 و 5) . تفسير الرازي 26:221، تفسير أبي السعود 7:232، تفسير روح البيان 8:51.
2- . تفسير الرازي 26:221.
3- . الشّجاع: ضرب من الحيات.
4- . الحمة: الإبرة التي تضرب بها العقرب.
5- . تفسير القمي 2:242، تفسير الصافي 4:306.
6- . تفسير الرازي 26:221.
7- . تفسير الرازي 26:221.

في الدنيا مخاطبا للرؤساء بقوله: هذا الفوج و الجمع السريع اللحوق بكم في دخول النار أيّها الرّؤساء فَوْجٌ و جمع مُقْتَحِمٌ و داخل مَعَكُمْ بالقهر و الشدّة في النار، كما كانوا يتبعونكم في الدنيا، و يسارعون في قبول قولكم في الكفر و الضلال بالاختيار. قيل: هو حكاية لقول الخزنة لرؤساء الكفار (1).

قيل: يضرب الزبانية المتبوعين و الأتباع معا بالمقامع، فيسقطون في النار خوفا من تلك المقامع (2).

ثمّ لمّا رأى الرّؤساء ضيق مكانهم بدخول الأتباع معهم قالوا في جواب الخزنة: لا مَرْحَباً بِهِمْ و لا كرامة لهم إِنَّهُمْ أيضا صالُوا اَلنّارِ و داخلوها فيضيّقون علينا المكان، و يسوئوننا بقبح منظرهم و سوء صحبتهم.

القمي، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ النار تضيق عليهم كضيق الزّجّ بالرمح» (3).

فلمّا سمع الأتباع سوء مقال الرؤساء في حقّهم قالُوا بَلْ أَنْتُمْ أيّها الرؤساء أحقّ بالدعاء عليكم، و أن يقال لكم: لا مَرْحَباً بِكُمْ و لا كرامة لكم إذ أَنْتُمْ تدعوننا إلى الكفر و تزيينه في نظرنا و ترغيبنا إليه، و ابتليتمونا بالعذاب و الصلي في النار و قَدَّمْتُمُوهُ لَنا و أوقعتمونا فيه، و جعلتم النار لنا مقرّا فَبِئْسَ اَلْقَرارُ و ساء المقرّ جهنّم.

سوره 38 (ص): آیه شماره 61 الی 64

ثمّ أعرض الاتباع عن مكالمة رؤسائهم و مخاصمتهم، و قالوا متضرّعين إلى اللّه بقولهم: قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا العذاب أو الصّلي فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً و مضاعفا فِي اَلنّارِ لضلالهم و إضلالهم.

قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي اَلنّارِ (61) وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ اَلنّارِ (64)عن القمي: تأويل الطاغين بالاول و الثاني و بني امية، و تأويل الأزواج ببني العباس، و قوله: لا مَرْحَباً بِكُمْ يقول بنو امية لا مرحبا بهم وَ قالُوا يعني بنو فلان: لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا يعني بدأتم بظلم آل محمد قالُوا يعني بنو امية: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا يعنون الأول و الثاني (4).

ص: 351


1- . تفسير أبي السعود 7:232، تفسير روح البيان 8:52.
2- . تفسير روح البيان 8:52.
3- . مجمع البيان 8:753، تفسير الصافي 4:307، و لم أعثر عليه في تفسير القمي، و الزّج: الحديدة في أسفل الرمح.
4- . تفسير القمي 2:242.

وَ أمّا شرح حال الطاغين مع أعدائه المؤمنين، فهو أنّهم إذا نظروا إلى أطراف جهنّم لا يرون المؤمنين قالُوا تعجّبا و توبيخا ما لَنا و أيّ حال عرض علينا بسببه لا نَرى في جهنم رِجالاً كانوا في الدنيا و كُنّا فيها نَعُدُّهُمْ و نحسبهم مِنَ اَلْأَشْرارِ و المفسدين لمخالفتهم إيّانا في الدين، و سبّهم آلهتنا، و تشتيت شملنا، و إلقاء البغضاء بيننا. و قيل: أرادوا بالأشرار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدّونهم من الأراذل و السّفلة الذين لا خير فيهم،

و يسخرون منهم كسلمان و بلال و أضرابهما (1)أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا و ما كانوا كما توهّمنا، فلم يدخلوا النار أَمْ دخلوها و زاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصارُ و انحرفت عنهم الأنظار، فلم نلتفت إليهم.

و قيل: إنّ المراد توبيخ أنفسهم عن الاستسخار منهم في الدنيا أو تحقيرهم فيها، و المعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أو الازدراء بهم و تحقيرهم، فأنكروا كلا من الفعلين على أنفسهم توبيخا لها (2).

و قيل: إنّ (أم) منقطعة، و المعنى اتخذناهم سخريا، بل زاغت عنهم أبصارنا في الدنيا تحقيرا لهم، و كانوا خيرا منّا و نحن لا نعلم (3)إِنَّ ذلِكَ الذي حكينا و أخبرنا بوقوعها يوم القيامة لَحَقٌّ و صدق و واقع البتة، و هو تَخاصُمُ أَهْلِ اَلنّارِ وجدا لهم فيها بعضهم مع بعض.

سوره 38 (ص): آیه شماره 65 الی 68

ثمّ لمّا ذكر سبحانه قصص الأنبياء الذين صبروا على البلايا و المحن، تسلية للنبي، و حثا له على الصبر على أذى قومه، و ذكر بعده ثواب الايمان و التقوى، و عقاب الكفر و العصيان لما ذكر، و ليصير داعيا للكفار الى الايمان، و رادعا لهم عن الكفر و مخالفة الرسول، عاد إلى بيان الرسالة و التوحيد بقوله تبارك و تعالى: قُلْ يا محمد، للمشركين إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ مخوّف لكم من عذاب اللّه على الكفر و العصيان، و قل لهم: ما مِنْ إِلهٍ و معبود بالاستحقاق في عالم الوجود إِلاَّ اَللّهُ الذي هو اَلْواحِدُ ذاتا و صفاة بحيث لا يمكن تصوّر الكثرة و التعدّد فيه بجهة من الجهات أصلا، و هو اَلْقَهّارُ لكلّ شيء، و الغالب على كلّ شيء بقدرته يعذّب من يشاء و يرحم من يشاء، فكيف تدّعون له شركاء و لا تخافون قهره و عقابه؟ !

قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (65) رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا اَلْعَزِيزُ اَلْغَفّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)

ص: 352


1- . تفسير روح البيان 8:53.
2- . تفسير أبي السعود 7:233، تفسير الصافي 8:54.
3- . تفسير روح البيان 8:54.

ثمّ أكّد سبحانه وحدته و قدرته بقوله: رَبُّ اَلسَّماواتِ السبع وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا من آلهتكم و غيرها، و مالك جميع الموجودات، و مدبّر جميع العوالم، و هو اَلْعَزِيزُ الذي لا يغلب في أمر من الامور، فلا يكون لشيء عزّة و لا قوة و لا غلبة بوجه من الوجوه.

ثمّ إنّه تعالى بعد ترهيب المشركين بتوصيف ذاته المقدسة بالقهارية، رغّبهم بالتوبة بتوصيف ذاته بالغفارية، كأنه قال: هو مع قهاريته، و عظمة سلطنته، و كمال قدرته على الانتقام اَلْغَفّارُ لمن خالفه و عصاه، و مع عفوه ستّار لقبائح أعماله إذا تاب و آمن و عمل صالحا. في الحديث: «إذا قال العبد: يا رب اغفر لي. قال اللّه: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أنّ له ربا يغفر الذنوب و ما يؤاخذ (1)به، أشهدكم أنّي قد غفرت له» (2). و إنّما قدّم ذكر وصف القهارية لمناسبته للانذار.

قُلْ يا محمد، للمشركين: إنّ القرآن الذي جئتكم به هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ و خبر ذو فائدة مهمة، و ذو شأن جسيم، نازل من اللّه الكريم، ينبّئكم بالتوحيد و النبوة و المعاد، و كيفية الحشر و الجنة و النار، و العلوم الكثيرة و الحكم الوفيرة، و الأحكام و الأخلاق و الآداب، و كلّ ما تحتاجون إليه من امور المعاش و المعاد و

أَنْتُمْ أيّها المشركون لانغماركم في الضلال عَنْهُ مُعْرِضُونَ و لتصلّبكم في دينكم به لا تعتنون، مع أنّ جميع الامور المذكورة من أعظم موجبات السعادة، و الجهل بها من أعظم أبواب الشّقاوة، و بداهة العقل تحكم بوجوب النظر و التفكّر فيها و عدم جواز المساهلة فيها و التغافل عنها.

سوره 38 (ص): آیه شماره 69 الی 70

ثمّ استدلّ سبحانه على أنّ القرآن كلام اللّه تعالى، و أنّه نازل منه إليه بالوحى بقوله: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ ما بوجه من الوجوه بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلى و أحوال الملائكة الساكنين في السماوات العلى، و مكالماتهم بطريق السماع من العلماء و قراءة الكتب و الحضور عندهم إِذْ يَخْتَصِمُونَ و حين يقولون للّه بعد قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً (3)أ تجعل فيها خلقا تغلب عليهم الشهوة و الغضب، فيفسدون فيه و يسفكون الدماء، و نحن مطهّرون من الرذيلتين و منزّهون ممّا يترتّب عليهما من قبائح الأعمال، و مع ذلك نسبّحك و نقدّس لك. فردّه اللّه بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (4)و إنّما

ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

ص: 353


1- . في تفسير روح البيان: و يأخذ.
2- . تفسير روح البيان 8:55.
3- . البقرة:2/30.
4- . البقرة:2/30.

عبّر سبحانه عن تلك المكالمة بالمخاصمة، لكونها بصورة الاعتراض و الردّ، و إن كان غرض الملائكة السؤال عن الحكمة.

عن الباقر عليه السّلام-في حديث المعراج-: «قال: يا محمّد. قلت: لبيك، قال: فيما اختصم الملأ و الأعلى؟ قال: قلت: سبحانك لا علم لي إلاّ ما علّمتني: قال: فوضع يده-أي يد القدرة-بين كتفيّ، فوجدت بردها بين ثدييّ. قال: فلم يسألني عمّا مضى و عمّا بقي إلاّ علمته، فقال: يا محمّد، فيما اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفارات و الدرجات و الحسنات» (1).

و في رواية (المجمع) : «فأمّا الكفارات فإسباغ الوضوء في السّبرات (2)، و نقل الأقدام إلى الجماعات، و انتظار الصلاة بعد الصلاة، و أمّا الدرجات فإفشاء السّلام، و إطعام الطعام، و الصلاة بالليل و الناس نيام» (3).

و على أي تقدير، لا يتصوّر لي طريق إلى العلم بهذه الامور المذكورة في الكتب السماوية إلاّ بالوحي من اللّه إليّ و إِنْ يُوحى إِلَيَّ و ما ينزل هذه المغيبات عليّ إِلاّ لأجل أَنَّما أَنَا رسول من اللّه إليكم نَذِيرٌ لكم من عذاب اللّه على الكفر و العصيان مُبِينٌ و ظاهر إنذارتي و رسالتي عندكم بالدلائل الموضّحة لها و المعجزات الباهرة.

سوره 38 (ص): آیه شماره 71 الی 85

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاّ إِبْلِيسَ اِسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

ص: 354


1- . تفسير القمي 2:243، تفسير الصافي 4:309.
2- . السّبرات: جمع سبرة، الغداة الباردة.
3- . مجمع البيان 8:756، تفسير الصافي 4:309.

ثمّ لمّا كان المانع عن إيمان المشركين الحسد و الكبر، و كان امتناع إبليس عن السجود لآدم ذلك المذكورين، حكى سبحانه خصومة الشيطان معه في أمره بالسجود له في الملأ الأعلى بقوله: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الساكنين في الأرض أو لعمومهم إِنِّي بعد حين خالِقٌ بقدرتي بَشَراً و إنسانا ظاهر الجلد في الأنظار مِنْ طِينٍ و تراب مبلول

فَإِذا سَوَّيْتُهُ و صنعت جسده، و أكملت خلق أجزائه، و صوّرته بالصورة الإنسانية وَ نَفَخْتُ فِيهِ بعد تسويته، و أفضت عليه الجوهر القدسي الذي كانه لشرفه و عظمته مِنْ رُوحِي و ليس لي روح فَقَعُوا أيّها الملائكة و خرّوا لَهُ حال كونكم ساجِدِينَ تكريما و تعظيما له، لاستحقاقه منصب الخلافة الإلهية.

ثمّ لمّا أتمّ اللّه تعالى خلقه، و نفخ فيه الروح، قام من مكانه فَسَجَدَ له اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ من غير ريث و تأخير طاعة للّه و تعظيما لآدم. قيل: أوّل من سجد إسرافيل، و لذا جوزي بولاية اللّوح المحفوظ (1).

ثمّ سجد سائر الملائكة إِلاّ إِبْلِيسَ لأنّه اِسْتَكْبَرَ و تأنّف من السجود له و تعظيمه وَ كانَ لذلك مِنَ اَلْكافِرِينَ لنعم ربّه، و منكري علمه و حكمته، أو كان في علم اللّه من بدو خلقته من الكافرين، و إن كان في الظاهر معدودا من الملائكة لكثرة عبادته،

فلمّا امتنع الملعون من السجود قالَ اللّه مشافهة له: يا إِبْلِيسُ أخبرني ما مَنَعَكَ و أي رادع ردعك من أَنْ تَسْجُدَ إكراما و تعظيما لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ و أوجدته بقدرتي بلا توسّط أب و امّ و دخالة شيء من الأسباب.

عن الرضا عليه السّلام، قال: «يعني بقدرتى و قوّتي» (2).

قيل: إنّ تثنية اليد كناية عن كمال القدرة في خلقه (3).

و قيل: اريد يد القدرة و يد النعمة (4).

و قيل: لمّا كان مباشرة السلطان حمل شيء بيده دليل على كمال عنايته به، كنّى سبحانه عن غاية عنايته بخلق آدم بقوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (5).

أَسْتَكْبَرْتَ الآن، و هل تعظّمت في نفسك بغير جهة أَمْ كُنْتَ في الواقع، أو من قبل مِنَ الأكابر و اَلْعالِينَ شأنا بالاستحقاق؟ !

قيل: إنّ المراد من العالين الملائكة الذين لم يؤمروا بالسجود، و هم الأرواح الجرّدة (6)، أو المراد

ص: 355


1- . تفسير روح البيان 8:59.
2- . التوحيد 153/2، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:120/13، تفسير الصافي 4:310.
3- . تفسير روح البيان 8:60.
4- . تفسير الرازي 26:230 و 231، تفسير روح البيان 8:60.
5- . تفسير الرازي 26:231.
6- . تفسير روح البيان 8:61.

أشباح محمد صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه الذين كانوا يعبدون اللّه عند ساق العرش (1).

قالَ إبليس: سجود الأفضل للمفضول قبيح، و أَنَا خَيْرٌ من آدم و أفضل مِنْهُ ذاتا و خلقة؛ لأنّك خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ متصاعدة بالطبع نوارنية لطيفة بالذات، و أين أنا من آدم الذي أوجدته وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هابط بالطبع ظلماني، كثيف بالذات!

بيان وجوه خيرية

التراب على النار

و الحاصل أن آدم لو كان مخلوقا من النار ما سجدت له، لكونه مثلي، فكيف أسجد و أخضع له و هو دوني، و هذا المانع الذي أبداه في الظاهر-و إن كان مانعه في الحقيقة الكبر و الحسد-في غاية الفساد؛ لأنّ مباشرته تعالى خلقته بذاته المقدّسة و نفخه فيه من روحه و إفاضة العلم الذي لا يعلمه الملائكة المقرّبون عليه، من أقوى الأدلّة على فضله عليه و على سائر الملائكة مع أنّه قيل: إنّ التراب خير من النار لوجوه.

منها: أنّ طبع النار الفساد و إتلاف ما تعلّقت به، بخلاف التراب فانّه إذا وضع فيه البذر أخرجه أضعاف ما وضع فيه، بخلاف النار فانّها آكلة له.

و منها: أنّ طبع النار الخفّة و الطّيش و الحدّة، بخلاف التراب فانّ طبعه الرّزانة و السّكون و الثّبات.

و منها: أنّ التّراب يتكوّن فيه و منه أرزاق الحيوانات و أقواتهم، و لباس الناس و زينتهم، و آلات معايشهم و مساكنهم، و ليس في النار تلك الفوائد.

و منها: أنّ التّراب ضروريّ للحيوانات لا يستغنون عنه في حال و لا عمّا يتكون فيه و منه، و النار يستغني عنها الحيوان مطلقا إلاّ الإنسان، و هو أيضا يستغني عنها أياما و شهورا، و منها أنّ النار لا تقوم بنفسها، بل هي مفتقرة إلى محلّ تقوم به يكون حاملا لها، و التراب يقوم بنفسه لا يفتقر إلى حامل.

أقول: فيه نظر ظاهر.

و منها: أنّ النار مفتقرة إلى التراب، لأنّ المحلّ الذي تقوم به لا يتكوّن إلاّ من تراب أو فيه، [فهي المفتقرة إلى التراب]و التراب غنيّ عنها.

أقول: و فيه نظر.

و منها: أنّ مادة إبليس هي المارج من نار، و هو ضعيف تتلاعب به الأهوية، فيميل معها كيف ما مالت، و لذا غلب الهوى على المخلوقين منه فأسره و قهره، بخلاف مادة آدم، و هي التراب، فهو قوّي لا يذهب مع الهواء أين ذهب، فهو قهر هواه و أسره، و رجع إلى ربّه فاجتباه، فكان الهواء الذي مع مادة آدم سريع الزوال فزال، و عاد آدم إلى الثبات و الرزانة التي كانت أصلا له، و كان إبليس بالعكس،

ص: 356


1- . فضائل الشيعة:49/7، تأويل الآيات 2:508/11.

فعاد كلّ إلى أصله و عنصره، آدم إلى أصله الطيب الشريف، و اللّعين إلى أصله الرديء الخبيث.

و منها: أنّ النار و إن كان لها بعض المنافع كالطبخ و التسخين و الاستضاءة بها، إلاّ أن الشرّ كامن فيها، لا يصدّها عنه إلاّ قسرها و حبسها، و لو لا ذلك لأفسدت الحرث و النسل، و أمّا التراب فالخير و البركة كامن فيه، كلّما اثير و قلب ظهر خيره و بركته و ثمرته.

و منها: أنّ اللّه تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه، و أخبر عن منافعها، و أنّه جعلها، مهادا و فراشا و بساطا و قرارا و كفاتا للأحياء و الأموات، و دعا عباده إلى التفكّر فيها، و النظر في آياتها و عجائبها و ما أودع فيها، و لم يذكر النار إلاّ في معرض العقوبة و التخويف و العذاب، إلاّ موضعا أو موضعين ذكرها فيه بأنّها تذكرة و متاع للمقوين، تذكرة بنار الآخرة، و تمتّع الآخرة، و تمتّع بها بعض الناس، و هم النازلون بالقواء، و هي الأرض الخالية، إذا نزل بها المسافر، فانّه يتمتّع بالنار في منزله.

و منها: أنّ اللّه تعالى وصف الأرض بالبركة في غير موضع من كتابه عموما، كما في قوله: وَ بارَكَ فِيها (1)و خصوصا كما في قوله: وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا فِيها (2)الآية، و نحوها. و أمّا النار فلم يخبر أنّ فيها بركة، بل المشهور أنّها مذهبة للبركات.

و منها: أنّ اللّه جعل الأرض محلّ بيوته التي يذكر فيها اسمه و يسبّح له فيها بالغدوّ و الآصال عموما، و بيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا و هدى للعالمين خصوصا، فلو لم يكن في الأرض إلاّ بيته الحرام لكفاها شرفا و فخرا على النار.

و منها: أنّ اللّه أودع في الأرض من المعادن و الأنهار و العيون و الثمرات و الحبوب و الأقوات و أصناف الحيوانات و أمتعتها، و الجبال و الرّياض و المراكب البهيّة و الصور البهيجة مالم يودع في النار.

و منها: أنّ غاية النار أنّها وضعت خادمة لما في الأرض، فانّ محلّها محلّ الخادم لهذه الأشياء فهي تابعة لها، فاذا استغنت عنها طردتها، و إذا احتاجت إليها استدعتها استدعاء المخدوم لخادمه (3).

فلمّا أظهر اللّعين التكبّر على آدم قالَ اللّه تعالى: فَاخْرُجْ يا إبليس من الجنّة، أو من السماوات، أو من بين الملائكة، و ابعد مِنْها قيل: تبيعده بإهباطه إلى الأرض (4).

ثمّ بيّن سبحانه علّة أمره بخروجه بقوله: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ و مطرود من ساحة رحمتي و كلّ خير و بركة، و إنّما كنّى عن الطرد بالرجم، لأنّ كلّ مطرود مهان يرجم بالحجارة. و قيل: إنّ المراد مرجوم

ص: 357


1- . فصلت:41/10.
2- . الأنبياء:21/71.
3- . تفسير روح البيان 8:62.
4- . تفسير روح البيان 8:64.

بالشّهب (1)

وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي و الانقطاع عن رحمتي و فيوضاتي مستمرا و إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ و وقت جزاء الأعمال، فلا توفّق لعمل يوجب نجاتك من النار، و من كان ملعونا قبل اليوم كان ملعونا إلى الأبد و مبتلى بعذاب شديد هو نتيجة اللعن في الدنيا

قالَ إبليس: رَبِّ إذا آل أمري إلى الطرد و اللعن فَأَنْظِرْنِي و مهّلني في الدنيا و لا تمتني إِلى يَوْمِ القيامة الذي يحيل فيه آدم و ذرّيته و يُبْعَثُونَ من قبورهم للحساب. و لمّا كان إمهاله إلى يوم البعث مستلزما لعدم موته أبدا، لم يجبه اللّه تعالى [إلى]

مسؤوله،

بل قالَ سبحانه: فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ و الممهلين جزاء لعبادتك، و لكن

إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ عند اللّه غير معلوم لغيره، و هو النفخة الاولى على قول، أو الرجعة لا إلى يوم البعث.

فلمّا ظهر قهر اللّه و طرده في الدنيا و تعذيبه في الآخرة قالَ: إذن فَبِعِزَّتِكَ و قهرك و سلطانك، لآخذ ثأري من ذريّة آدم لَأُغْوِيَنَّهُمْ أحملنهم على العصيان بالوساوس و التسويلات، و لأضلّنهم عن الحقّ بإلقاء الشكوك و الشّبهات فيهم أَجْمَعِينَ.

ثمّ لمّا رأى علوّ مقام الخلّصين من عباده و عجزه عن إغوائهم قال: إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ أعني اَلْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لنفسك و طاعتك، عصمتهم من الزلاّت و التوجه إلى غيرك، لئلا يقع الخلف في وعيده،

و الكذب في إخباره قالَ اللّه تعالى تهديدا لابليس و التابعين له من ذرّيته: فَالْحَقُّ قسمي، أو أنا الحقّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ و قيل: إنّ المعنى فالحقّ تقول،

و الحقّ أقول و عزّتي لَأَمْلَأَنَّ يوم القيامة جَهَنَّمَ مِنْكَ و من جنسك من الشياطين وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ من ذرّية آدم و أطاعك مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ لا أترك من التابعين و المتبوعين أحدا.

سوره 38 (ص): آیه شماره 86 الی 88

ثمّ إنّه تعالى بعد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالاستدلال على بنوّته، و صدق كتابه، باشتماله على المغيبات التي لا تعلم إلاّ بالوحي، من تخاصم الملائكة، و تمرّد الشيطان من أمره بالسجود لآدم، و هو المقتضي للايمان، أمره بالاعلان بعدم طمعه في أموال الناس المانع لايمانهم بقوله قُلْ يا محمد: أنا مأمور من قبل اللّه بتبليغ كتابه، و إرشادكم إلى التوحيد و الطريق الحقّ و ما أَسْئَلُكُمْ و لا أطمع منكم عَلَيْهِ شيئا يسيرا مِنْ أَجْرٍ و مال، لأنّ عملي للّه و أجري عليه وَ ما أَنَا في دعوتي بنبوتي

قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

ص: 358


1- . تفسير الرازي 26:234، تفسير روح البيان 8:64.

و كتابي مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ و المتعسّفين في دعوى شيء لا واقع له و لا حقيقة، بل دعوتكم إلى ما دلّ عليه البرهان و حكم به العقل السليم و المعجزات الباهرات.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنا برئ من التكلّف و صالح امّتي» (1).

و في حديث آخر: «أنا و الأتقياء من امّتي برآء من التكلّف» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، و يتعاطى ما لا ينال، و يقول ما لا يعلم» (1).

و عن ابن مسعود: يا أيّها الناس، من علم شيئا فليقل، و من لم يعلم شيئا فليقل: اللّه أعلم، فانّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: اللّه أعلم، فانّه تعالى قال لنبيه: وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ» (2).

عن الباقر عليه السّلام: «قال لأعداء اللّه أولياء الشيطان أهل التكذيب و الإنكار: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ يقول: متكلّفا أن أسألكم ما لستم بأهله» (3).

و عن الرضا عليه السّلام، عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ المسلمين قالوا لرسول اللّه: لو أكرهت يا رسول اللّه من قدرت عليه من الناس على الاسلام لكثر عددنا و قوينا على عدونا؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما كنت لألقى اللّه تعالى ببدعة لم يحدث لي فيها شيئا، و ما أنا من المتكلّفين» (4).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «المتكلّف يخطئ و إن أصاب، و المتكلّف لا يستجلب في عاقبة أمره إلاّ الهوان، في الوقت إلاّ التعب و العناء و الشّقاء، و المتكلّف ظاهره رياء، و باطنه نفاق، و هما جنّاحان بهما يطير المتكلّف، [و]ليس بالجملة من أخلاق الصالحين و لا من شعار المتّقين التكلّف في أيّ باب كان، قال اللّه لنبيه: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ» (5).

ثمّ أكّد سبحانه كون القرآن تنزيلا من اللّه، بأنّه لو كان من الخلق لكان فيه الترغيب إلى الدنيا، و الإلهاء عن ذكر اللّه، و القصص الكاذبة، و المطالب الباطلة. و إِنْ هذا القرآن، و ما هُوَ من أوله إلى آخره إِلاّ ذِكْرٌ وعظة لِلْعالَمِينَ و هدى و رحمة للمتقين من الجنّة و الناس أجمعين

وَ اللّه لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ و الخبر العظيم الشأن الذي فيه من الوعد و الوعيد و الترغيب و التهديد، أو خبره من حيث الصدق و الكذب بَعْدَ حِينٍ و زمان مبهم قريب. قيل: هو وقت الموت. و قيل: يوم القيامة (6). و كلّ آت قريب، أو عند خروج القائم عليه السّلام كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (7)، و في غاية التهديد (8).

ص: 359


1- . جوامع الجامع:408، تفسير الصافي 4:311، تفسير روح البيان 8:67.
2- . تفسير روح البيان 8:67.
3- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:311.
4- . التوحيد:342/11، تفسير الصافي 4:311.
5- . مصباح الشريعة:140، تفسير الصافي 4:311.
6- . تفسير أبي السعود 7:239، تفسير روح البيان 8:68.
7- . الكافي 8:287/432، تفسير الصافي 4:312.
8- . تفسير أبي السعود 7:239، تفسير روح البيان 8:68.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة «ص» في ليلة الجمعة اعطي من خير الدنيا و الآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلاّ نبي مرسل أو ملك مقرّب، و أدخله الجنة، و كل من أحبّ من أهل بيته حتى خادمه الذي يخدمه، و إن كان لم يكن في حدّ عياله و من يشفّع فيه» (1).

قد تمّ تفسير السورة بعون اللّه بتارك و تعالى.

ص: 360


1- . ثواب الاعمال:112، مجمع البيان 8:723، تفسير الصافي 4:312.

في تفسير سورة الزّمر

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا كانت سورة «ص» متضمنة لبيان التوحيد و النبوة و المعاد، باثبات كون القرآن نازلا من اللّه تبارك و تعالى، نظمت بعدها سورة الزّمر المتضمّنة لبيان التوحيد و المعاد، المبدوءة بعد افتتاحها بذكر الاسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ بكون القرآن منزلا من اللّه بقوله: تَنْزِيلُ هذا اَلْكِتابِ المسمّى بالقرآن يكون مِنَ جانب اَللّهِ اَلْعَزِيزِ القادر على كلّ شيء اَلْحَكِيمِ و العالم بجميع الأشياء و صلاحها، فبقدرته ألفّه من الحروف المتداولة في الإنس، بكيفية عجزت الإنس و الجنّ عن الإتيان بمثله، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا. و بحكمته جعله مشتملا على الحكم التي لا يحيط بها أحد، و على جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (1) إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اَللّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ (2)و قيل: إنّ الوصفين للكتاب (1)، و المعنى تنزيل الكتاب من اللّه، و هو كتاب عزيز حكيم لظهور الوصفين فيه، بجريان أحكامه، و نفاذ أوامره و نواهيه من غير مدافع و لا مانع، و ابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة.

ثمّ لمّا كان لازم الايمان بكون القرآن نازلا من اللّه القيام بعبوديته و ترك عبادة غيره، أكّد سبحانه نزوله من اللّه بقوله: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمّد اَلْكِتابَ المقرون بِالْحَقِّ و دلائل الصدق، من إعجاز البيان، و اشتماله على العلوم الكثيرة، و الامور الغيبية.

و قيل: إنّ الأول لبيان شأن المنزل، و الثاني لبيان شأن المنزل إليه، فلا تكرار، و ذكر لفظ الكتاب في موضع ضميره لبيان عظمته و علوّ شأنه (2).

ص: 361


1- . تفسير روح البيان 8:69.
2- . تفسير أبي السعود 7:240، تفسير روح البيان 8:69.

و قيل: إنّ معنى بالحقّ بسبب الحقّ و إثباته و إظهاره، أو المعنى كوننا محقّين في ذلك (1).

ثمّ رتّب عليه الأمر بالعبادة الخالصة له بقوله: فَاعْبُدِ اَللّهَ يا محمد، حال كونك مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ الذي أوحينا إليك، و ممحضا له الطاعة من شوائب الشرك و الرياء و الشك و الهوى، و من المعلوم أنّ المخاطب في الظاهر هو النبي صلّى اللّه عليه و آله، و في الحقيقة هو امّته.

[سوره 39 (الزمر): آیه شماره 3]

ثمّ كون الخطاب إلى العموم بقوله: أَلا أيّها العقلاء تنبّهوا على أنّ لِلّهِ خاصة اَلدِّينُ اَلْخالِصُ من الشرك و الشكّ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه أَوْلِياءَ و أربابا هم مشركون، و إذا قيل لهم: لم تعبدون الأصنام مع اعترافكم بأنّ اللّه خالقكم و خالق السماوات و الأرض و ما بينهما؟ قالوا: لا ندعوا الأصنام و ما نَعْبُدُهُمْ لغرض من الأغراض إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى و قربى، و ليكونوا وسيلة علوّ منزلتنا عنده.

أَلا لِلّهِ اَلدِّينُ اَلْخالِصُ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ (3)ثمّ هدّد سبحانه المشركين المعارضين و المخالفين للمخلصين بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ يوم القيامة بَيْنَهُمْ بعدله فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين بتعذيب المشركين و إكرام المخلصين، أو المراد يحكم بين المشركين و معبوديهم، حيث إنّ المشركين يرجون شفاعة أصنامهم و أصنامهم يلعنونهم.

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى يأتي يوم القيامة بكلّ شيء يعبد من دونه من شمس أو قمر أو غير ذلك، ثمّ يسأل كل إنسان عمّا كان يعبد، فيقول من عبد غيره: ربّنا إنّا كنّا نعبده ليقرّبنا إليك زلفى. قال: فيقول اللّه تبارك و تعالى للملائكة: أذهبوا و بما كانوا يعبدون إلى النار، ما خلا من استثنيت، فانّ اولئك عنها مبعدون» (2).

ثمّ هدّدهم بحرامانهم عن الحقّ، و وصولهم إلى المقصود في الدنيا بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يوفّق للوصول إلى الحقّ و المقصود مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ و لا يوفّق للوصول إلى الحقّ و المقصود مَنْ هُوَ كاذِبٌ في القول بألوهية الأصنام، و تقريبهم عبدتهم إلى اللّه، و شفاعتهم عنهم عند اللّه

ص: 362


1- . تفسير أبي السعود 7:240، تفسير روح البيان 8:69.
2- . قرب الإسناد:85/279، تفسير الصافي 4:313.

و كَفّارٌ و مبالغ في تضييع حقوق نعم اللّه، أو مصرّ في كفرهم و عبادتهم غير اللّه.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين شرع في إبطال مذاهبهم التي منها القول بأنّ الملائكة بنات اللّه بقوله: لَوْ أَرادَ اَللّهُ أَنْ يَتَّخِذَ و يختار لنفسه وَلَداً كما زعمه بعض المشركين و اليهود و النصارى لاَصْطَفى و انتخب مِمّا يَخْلُقُ و يقدر على اتخاذ ما يَشاءُ أن يكون ولده، و من الجواهر القدسية و العقول المجرّدة، لا عيسى و مريم و عزير، و لا البنات التي تكرهونها لأنفسكم سُبْحانَهُ و تقدّس ذاته عمّا نسبوا إليه من الولد، لا متناعه له، بل هُوَ اَللّهُ الواجب الوجود اَلْواحِدُ من جميع الجهات لا تركيب له و لا ثاني له و لا صاحبة و لا ولد، هو اَلْقَهّارُ الذي يقهر جميع الموجودات بقدرته، فلا يحتاج إلى ولد يعاونه في الامور و يقوم مقامه بعد الموت.

لَوْ أَرادَ اَللّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (4) خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ عَلَى اَلنَّهارِ وَ يُكَوِّرُ اَلنَّهارَ عَلَى اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفّارُ (5)

ثمّ أكّد سبحانه كمال قدرته و غناءه بقوله: خَلَقَ بقدرته الكاملة، بلا مشارك و لا معاون اَلسَّماواتِ السبع وَ اَلْأَرْضَ و ما بينهما، و الحال أنّ خلقها بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة، لا بالعبث و الباطل و يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ و يغلبه عَلَى اَلنَّهارِ بحيث يذهب النهار عن الأبصار وَ يُكَوِّرُ و يغلب اَلنَّهارِ بنوره عَلَى اَللَّيْلِ المظلم بحيث يزيل ظلمته، فشبّه سبحانه النور و الظلمة بعسكرين مهيبين عظيمين قد يغلب هذا ذاك، و قد يغلب ذاك هذا. و قيل: إنّ التكوير بمعنى الإقبال (1)، و على أي تقدير اريد زيادة أحدهما و نقص الآخر، و ذلك دليل على كونهما تحت تدبيره و قدرته وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ التي هي سلطان النهار وَ اَلْقَمَرَ الذي هو سلطان الليل، و ذلّلهما تحت قدرته و سلطانه، و جعلهما منقادين لأمره و إرادته، فبارادته كُلٌّ منهما يَجْرِي و يسير في الفلك على وفق صلاح العالم لِأَجَلٍ و وقت مُسَمًّى و معين قدّره اللّه بحكمته، و هو منتهى دورته في كلّ يوم، أو في كلّ شهر أو منتهى حركته و سيره، و هو يوم القيامة الذي فيه تطوى السماء كطيّ السّجّل للكتب.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه الآيات العظيمة على قدرته الكاملة، أعلن في الناس بانحصار القدره في ذاته

ص: 363


1- . تفسير الرازي 26:244.

المقدّسة بقوله، أَلا أيّها العقلاء اعلموا أنّ اللّه تعالى هُوَ اَلْعَزِيزُ و الغالب القادر على كلّ شيء.

ثمّ لما كانت قدرته موجبا لارعاب القلوب و ترهيب النفوس منه، أعلن بكمال رحمته و رأفته بعباده بقوله: اَلْغَفّارُ بعباده لا يقطع عنهم رحمته بعصيانهم، و لا يعاجل بالعقوبة على سيئاتهم.

قيل: الغفّار و هو ستّار القبائح، فكما ستر قبائح الأبدان و قذاراتهم في باطنهم، يستر خواطرهم المذمومة و إرادتهم السيئة، كارادة الغشّ و الخيانة و الظنون الرديئة في ضميرهم، مع أنّه لو كانت ظاهرة لمقتوا أصحابها، بل قتلوهم، و كذلك يستر ذنوبهم التي موجبة للافتضاح بها عن الناس، بتبديلها بالحسنات إذا مات على الإيمان (1).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 6

ثمّ إنه تعالى بعد استدلاله على التوحيد بالآيات الآفاقية، استدلّ عليه بالآيات الأنفسية بقوله: خَلَقَكُمْ اللّه بقدرته مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هي آدم أبو البشر ثُمَّ جَعَلَ و خلق من جنس تلك النفس أو من جزء مِنْها و هو الضلع الذي يلي الخاصرة، أو من بقية طينتها زَوْجَها حوّاء وَ أَنْزَلَ لَكُمْ إلى الأرض من الجنّة على قول (2)، أو خلق لانتفاعكم، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (3)مِنَ اَلْأَنْعامِ الأربعة: الإبل، و البقر، و الضأن، و المعز، للإبل قسمان: بخاتي (4)و عراب، و للثلاثة الاخر أيضا قسمان: أهلي، و وحشي، أو لكلّ قسمان: الذكر، و الأنثى، فيصير المجموع ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ و أصناف، و لمّا كان انتفاع الناس بالأنعام أكثر، أو لكونها أشرف الحيوانات، خصّها بالذّكر.

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُصْرَفُونَ (6)ثمّ لمّا ذكر سبحانه مبدأ خلق الانسان، و كونهم من نفس واحدة، ذكر كيفية خلقهم بقوله: يَخْلُقُكُمْ أيّها الناس فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ و أرحامهنّ خَلْقاً تدريجيا و متأخّرا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ سابق فخلقكم إنسانا سويا من بعد تكسية عظامكم بلحم، و ذلك بعد خلقكم عظاما، و ذلك بعد خلقكم مضغة، و ذلك بعد خلقكم علقة، و ذلك بعد خلقكم نطفة، و كلّ ذلك كائن فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ: ظلمة البطن، و ظلمة الرّحم، و ظلمة المشيمة، كما عن الباقر عليه السّلام (5)أو ظلمة الصّلب، و ظلمة

ص: 364


1- . تفسير روح البيان 8:73.
2- . تفسير الرازي 26:245.
3- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 4:314.
4- . البخاتي: الإبل الخراسانية.
5- . مجمع البيان 8:766، تفسير الصافي 4:315.

البطن، و ظلمة الرّحم (1).

ذلِكُمُ القادر الحكيم اَللّهُ و هو رَبُّكُمْ و مكمّل وجودكم في تلك الأطوار و ما بعدها، أو مالككم المنعم عليكم في جميع العوالم، المستحقّ لعبادتكم و لَهُ وحده اَلْمُلْكُ و السّلطنة المطلقة الكاملة لا لغيره، فاذن لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود سواه، فاذا عرفتم خالقكم و مالككم و المنعم عليكم، و السلطان المقتدر عليكم فَأَنّى تُصْرَفُونَ و كيف تردون عن عبادته، و تعرضون عن إطاعته، و تشتغلون بعبادة الأصنام و الجمادات؟ !

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 7

ثمّ أنتم-أيّها الناس-بعد الإحاطة بما تلونا عليكم من آيات وحدانيته و قدرته و حكمته، و تنزّهه عن الشريك و الولد إِنْ تَكْفُرُوا بوحدانيته و نعمه فَإِنَّ اَللّهَ بذاته غَنِيٌّ عَنْكُمْ و عن إيمانكم و عبادتكم، بل عن العالمين، فانّه واجب الوجود من جميع الجهات، و كامل الصفات بالذات، لا يتصوّر فيه الحاجة حتى يقضي بكم حاجته، وَ لكن لا يَرْضى لِعِبادِهِ اَلْكُفْرَ لطفا بهم و رحمة عليهم، حيث إنّ الكفر يضرّهم و يسقطهم عن أهلية الرحمة و الإنعام، و يحرمهم عن الفيوضات الابدية الدنيوية و الاخروية. القمي: هذا كفر النّعم (2).

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ اَلْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (7)وَ إِنْ تَشْكُرُوا نعمه بالايمان و القيام بالعبودية، روي أنّ الشكر الولاية و المعرفة (3)، يحبّ اللّه الشكر و يَرْضَهُ لَكُمْ لأنّه سبب فوزكم بسعادة الدارين و النشأتين لا لانتفاعه تعالى به.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه غضبه و سخطه على الكفر، نبّه بأنّ ضرره و تبعاته لا تتعدّى الكافر، و لا تسرى إلى غيره بقوله: وَ لا تَزِرُ و لا تحمل نفس وازِرَةٌ و حاملة للكفر و ثقل العصيان وِزْرَ نفس أُخْرى و حملها من الذنب و المعصية، بل كلّ نفس تحمل وزر نفسها و يعاقب عليه ثُمَّ بعد الموت إِلى رَبِّكُمْ و مالك أمركم وحده مَرْجِعُكُمْ و مصيركم بالبعث و النشور فَيُنَبِّئُكُمْ و يخبركم عند ذلك بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الكفر و الايمان و الطاعة و العصيان بالمحاسبة و المجازاة، و الثواب و العقاب، و فيه غاية التهديد على الكفر.

ص: 365


1- . مجمع البيان 8:766، تفسير الرازي 26:245، تفسير روح البيان 8:75.
2- . تفسير القمي 2:246، تفسير الصافي 4:315.
3- . المحاسن:149/65، تفسير الصافي 4:315.

ثمّ لمّا كان الخوف من العقاب متوقّفا على علم المعاقب بالعصيان، أعلن سبحانه بسعة علمه بقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و المضمرات في القلوب، فكيف بغيرها من الأعمال الظاهرة؟

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 8

ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال على التوحيد بالأدلة الواضحة و إظهار سخطه على الشرك، بيّن شدّة لجاج المشركين و كفرانهم نعمه بقوله: وَ إِذا مَسَّ و أصاب اَلْإِنْسانَ الجهول المشرك ضُرٌّ و سوء حال من فقر أو مرض أو غيرهما من الشدائد دَعا رَبَّهُ في كشف ذلك الضّرّ، و نادى مالكه القادر على دفعه للخلاص من تلك البلية حال كونه مُنِيباً و راجعا إِلَيْهِ بالتوبة و إخلاص العمل، و خاضعا له، و متضرّعا عنده ثُمَّ إِذا أزال اللّه عنه و خَوَّلَهُ و أعطاه نِعْمَةً عظيمة مِنْهُ من الغنى و الصحة و الراحة نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا اللّه إِلَيْهِ من الضّرّ يسأله كشفه مِنْ قَبْلُ أو نسي ربّه الذي كان ذلك الكافر يدعوه و يتضرّع اليه من قبل التحوّل و الإعطاء، و مرّ كأن لم يدعه لم يتضرّع إليه، و رجع إلى عبادة الاوثان وَ جَعَلَ في حسبانه تلك الأوثان لِلّهِ أَنْداداً و شركاء في العبارة، أو أمثالا في القدرة، أو أضدادا في الالوهية، و هذا من أعجب الأعاجيب، حيث إنّهم في حال الضرر يعتقدون توحيده و قدرته على جميع الامور، و في حال الرّخاء يعتقدون كون الجمادات امثالا له في القدرة، و شركاء له في الالوهية. و من الواضح أنّ ارتكاب هذين المتناقضين لا يكون إلاّ بهوى النفس و اتّباع الشهوة، ليضل بنفسه عن سبيل اللّه لِيُضِلَّ الناس أيضا عَنْ سَبِيلِهِ إلى قربه، و إلى كلّ خير و هو التوحيد.

وَ إِذا مَسَّ اَلْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ (8)ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهذا الكافر: تَمَتَّعْ و انتفع من نعم الدنيا بِكُفْرِكَ الذي تخيّلته وسيلة إلى نيل تلك النّعم و الانتفاع بها تمتّعا و انتفاعا قَلِيلاً أو زمانا يسيرا، و لكن لا تفرح بذلك إِنَّكَ في الآخرة مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ و ملازمها، و من الواضح أنّ لذة تمتّعك في تمام عمر الدنيا لا يعدّ في جنب عذاب الآخرة بشيء.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال عليه السّلام: «نزلت في أبي الفصيل، إنّه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنده ساحرا، فكان إذا مسّه الضرر، يعني السّقم دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ يعني تائبا إليه، من قوله في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يقول: ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً يعني العافية نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ يعني

ص: 366

نسي التوبة إلى اللّه تعالى ممّا يقول في رسول اللّه إنّه ساحر، و لذلك قال اللّه تعالى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ يعني إمرتك على الناس بغير حقّ من اللّه تعالى و من رسوله» (1).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 9

ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّ المشرك و تهديده، مدح الموحّد المنقطع إلى اللّه بقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ و عابد للّه آناءَ اَللَّيْلِ و ساعاته حال كونه ساجِداً للّه وَ قائِماً في الصلاة و باجتهاده في العبادة يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ و يتقّي من أهوالها، وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ و مغفرته، و فضله عليه بالجنة و نعمها الدائمة، لا إنّه يحذر ضرر الدنيا و يرجو منافعها فقط، كمن يعرض عن عبادة اللّه و يشرك به مخلوقاته الخسيسة، حاشا أن يكونا متساويين.

أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اَللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (9)عن ابن عباس: من أحبّ أن يهوّن اللّه عليه الموقف يوم القيامة، فليره اللّه في سواد الليل ساجدا و قائما، يحذر الآخرة، و يرجو رحمة ربّه» (2).

ثمّ أكّد سبحانه إنكار التساوي بين الموحدّين المطيعين و المشركين العاصين بقوله: قُلْ يا محمّد، للعقلاء المنصفين هَلْ يَسْتَوِي في نظركم و حكم عقلكم اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ المبدأ و المعاد، و ما ينجون به من المهالك، و ما فيه صلاحهم وَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ شيئا؟ بل في جهلهم و ضلالهم يعمهون، لا يستوون أبدا، بل بينهما بون بعيد، لوضوح أنّ الأولين في أعلى درجات السعادة و الخير، و الآخرين في أنزل دركات الشقاوة و الشرّ، و فيه تنبيه على أنّ القانتين هم العلماء، و غيرهم هم الجهّال، و إن حصّلوا العلوم الظاهرية.

قال بعض العامة: إنّ الآية نزلت في عثمان، لأنّه كان يحيي الليل في ركعة واحدة يقرأ القرآن فيها (3).

أقول: لا شبهة في أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان أعبد أصحاب الرسول و أعلمهم، فنزوله في شأنه أولى، كما عن الصادق عليه السّلام في الرواية السابقة. قال: «ثمّ عطف القول من اللّه في عليّ عليه السّلام يخبر بحاله و فضله عند اللّه، فقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ إلى أن قال: اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنّ محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أنّ محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو أنّه ساحر كذّاب» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ فهم التفاوت بينهم شأن العقلاء بقوله: إِنَّما يَتَذَكَّرُ و يفهم ذلك التفاوت

ص: 367


1- . الكافي 8:204/246، تفسير الصافي 4:315.
2- . تفسير روح البيان 8:81.
3- . تفسير الرازي 26:251.
4- . الكافي 8:204/246، تفسير الصافي 4:316.

بين الفرق، و قيل: يعني إنّما يتّعظ بهذه البينات الواضحة أُولُوا اَلْأَلْبابِ (1)و ذوو العقول الخالصة عن شوائب الأوهام.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّما نحن الذين يعلمون، و عدونا الذين لا يعلمون، و شيعتنا اولو الألباب» (2). و عن الصادق عليه السّلام ما يقرب من ذلك (3).

و عن المجتبى عليه السّلام: «اولوا الألباب هم اولو العقول» (4).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 10

ثمّ لمّا بيّن سبحانه علوّ رتبة المجتهدين في العبادة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بحثّ المؤمنين على التقوى و الطاعة بقوله: قُلْ يا محمد، للمؤمنين على حسب رسالتك: إنّ اللّه يقول لكم يا عِبادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيدي اِتَّقُوا رَبَّكُمْ و احذروا عذابه بالالتزام بطاعته و الاجتناب عن معصيته.

قُلْ يا عِبادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)ثمّ رغّبهم في طاعته بذكر فائدتها الدنيوية بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أعمالهم بالاخلاص و صدق النية فِي هذِهِ اَلدُّنْيا و مدّة العمر فيها فائدة حَسَنَةٌ من التوفيق و التأييد، و الانس باللّه، و اطمئنان القلب و بذكره، و الحبّ في قلوب المؤمنين، و العزّة عند الناس، و المهابة في قلوب الكفّار.

و قيل: إنّ المراد الصحة و العافية (5).

و قيل: الصحة و الأمن و الكفاية، لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن، و الصحّة، و الكفاية» (6).

و عن أمير المؤمنين: «أنّ المؤمن يعمل لثلاث من الثواب: أمّا الخير فانّ اللّه يثيبه بعمله في الدنيا- ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال-: فمن أعطاه اللّه في الدنيا لم يحاسبه به في الآخرة» (7).

و قيل: إنّ الظرف متعلّق بقوله: أَحْسَنُوا و المعنى: أنّ الذين أحسنوا في الدنيا فلهم حسنة في الآخرة، و هي الجنة و النّعم الدائمة (8).

ثمّ لمّا كان كثير من المقصّرين في الطاعة (9)و الاحسان في العمل، دفع اللّه سبحانه عذرهم بقوله: وَ أَرْضُ اَللّهِ و بلاده واسِعَةٌ و كثيرة، فمن تعسّر عليه توفير الطاعة (10)في بلدة و وطنه، فعليه أن

ص: 368


1- . تفسير أبي السعود 7:245.
2- . الكافي 1:166/2، تفسير الصافي 4:316.
3- . الكافي 8:35/6، تفسير الصافي 4:316.
4- . الكافي 1:15/12، تفسير الصافي 4:316.
5- . تفسير الرازي 26:252، تفسير البيضاوي 2:321، تفسير أبي السعود 7:246.
6- . تفسير الرازي 26:252.
7- . أمالي الطوسي:35/31، تفسير الصافي 4:316.
8- . تفسير الرازي 26:252. (9 و 10) . كذا، و الظاهر أن الصواب: التوفّر على الطاعة.

يهاجر منه إلى بلد آخر يتمكّن فيه من ذلك، كما هو سنّة الأنبياء و الصالحين، و يصير على مفارقة الوطن المألوف، و البعد من الأحبّة و الأقارب و مشاقّ الطاعة إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ على البلايا و المحن في حفظ دينه و العمل بطاعة اللّه و يعظون أَجْرَهُمْ كاملا بمقابلة ما كابدوا من الصبر بِغَيْرِ حِسابٍ و إحصاء لعجز المحاسبين عنه.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أنّه تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة و الصدقة و الحجّ، فيوفّون بها اجورهم، و لا تنصب لأهل البلاء، بل يصبّ عليهم الأجر صبّا حتى يتمنّى أهل المعافاة في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض ممّا يذهب به أهل البلاء من الفضل» (1).

قيل: لمّا نزل مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (2)قال النبي صلّى اللّه عليه و آله «ربّ زد لامّتي» فنزل: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ (3)إلى آخره. فقال: «ربّ زد لامّتي» فنزل: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً (4)فقال: «ربّ زد لامّتي» فنزل: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فانتهى رسول صلّى اللّه عليه و آله (5).

و عن الصادق عليه السّلام. قال «قال رسول صلّى اللّه عليه و آله: إذا نشرت الدواوين و نصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان، و لم ينشر لهم ديوان» (6).

في فضيلة الصبر

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس (7)فيأتون باب الجنة فيضربونه فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون كنا نصبر على طاعة اللّه، و نصبر على معاصي اللّه. فيقول اللّه عزّ و جلّ: صدقوا، ادخلوا الجنة، و هو قول اللّه عز و جل: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (8).

أقول: ظاهر الروايتين الأخيرتين أنّ المراد من قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ أنّهم لا يقومون يوم القيامة في مقام الحساب، و لا يحاسبون على شيء من أعمالهم.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 11 الی 13

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ (11) وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)

ص: 369


1- . تفسير الرازي 26:254، تفسير البيضاوي 2:321، تفسير أبي السعود 7:246، تفسير روح البيان 8:85.
2- . الأنعام:6/160.
3- . البقرة:2/261.
4- . البقرة 2:2/245.
5- . تفسير روح البيان 8:85.
6- . مجمع البيان 8:767، تفسير الصافي 4:317.
7- . أي جماعة منهم.
8- . الكافي 2:60/4، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 4:317.

ثمّ إنّه تعالى بعد الأمر بالتقوى، و التأكيد في ملازمة العبادة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ وجوب الاخلاص فيها بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين إِنِّي أُمِرْتُ من قبل ربّي أَنْ أَعْبُدَ اَللّهَ و امتثل أوامره و نواهيه حال كوني مُخْلِصاً و ممحضا لَهُ اَلدِّينَ و العبادة من الشرك الرياء و الأغراض الدنيوية

وَ أُمِرْتُ من قبله تعالى لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ و أقدمهم في التسليم و الانقياد له تعالى، كي أكون أقدمهم في الآخرة في نيل الثواب و الدخول في الجنة.

قيل: إنّ لام (لِأَنْ أَكُونَ) ليست زائدة، بل هي للتعليل. و المعنى: إنّما امرت بالعبادة و الإخلاص فيها، لأجل أن أكون مقدّما في الدنيا و الآخرة (1).

روى أنّ كفّار مكة قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما يحملك على الذي أتيتنا به؟ الاّ تنظر إلى ملة آبائك و سادات قومك يعبدون الّلات و العزّى، فتأخذ بتلك الملّة، فنزلت (2).

ثمّ هدّد سبحانه الناس على ترك العبادة الخاصة بأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله باظهار خوف نفسه من العقوبة على تركها مع كونه حبيب اللّه وصفيّه بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين إِنِّي مع عظم شأني و علوّ قدري عند اللّه أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك العبادة الخالصة و اشرك غيره فيها عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الدواهي و الأهوال، فأنتم أولى بالخوف منّي. و فيه غاية التهديد و الزجر عن العصيان.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 14 الی 16

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإخبار بالتزامه بامتثال ما أمر به من العبادة الخالصة، و إعراضه عما يعبد من دونه، قطعا لطمح المشركين من موافقته عليه السّلام لهم بقوله: قُلِ يا محمد اَللّهَ الذي خلقني و ربّاني و كفاني بالخصوص أَعْبُدُ امتثالا لأمره حال كوني مُخْلِصاً لَهُ دِينِي و عبادتي من شوب الشّرك و الرياء و الهوى، و أرى هذا صلاحي، فان وافقتموني عليه فقد نلتم سعادة الدارين،

و إلاّ فَاعْبُدُوا يا معشر الكفار ما شِئْتُمْ أن تعبدوه مِنْ دُونِهِ من الأصنام و الأوثان و الملائكة و الشمس و القمر و غيرها من مخلوقاته، و سترون سوء عاقبة عبادتكم.

قُلِ اَللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ اَلْخاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ اَلْخُسْرانُ اَلْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ اَلنّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اَللّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)ثمّ لمّا كان الكفّار يقولون: خسرت يا محمّد حيث خالفت دين آبائك. أمره سبحانه بجوابهم بقوله:

ص: 370


1- . تفسير أبي السعود 7:247.
2- . تفسير الرازي 26:254.

قُلْ يا محمد لهم إِنَّ اَلْخاسِرِينَ و المتضرّرين الذين هم أعظم خسرانا و ضررا في العالم هم اَلَّذِينَ خَسِرُوا و أضرّوا أَنْفُسَهُمْ و أهلكوها الهلاك الأبدي (1)بضلالها و اختيار الكفر لها وَ أهلكوا أَهْلِيهِمْ من الأزواج و الأولاد و الأقارب يَوْمَ اَلْقِيامَةِ.

عن ابن عباس: إنّ لكلّ رجل منزلا و أهلا و خدّاما في الجنّة، فان اطاع اعطي ذلك، و إنّ كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه و أهله و منزله، و ورثه غيره من المسلمين (2).

ثمّ بيّن سبحانه غاية فظاعة خسرانهم بقوله: أَلا اعلموا أيّها العقلاء ذلِكَ الخسران هُوَ اَلْخُسْرانُ اَلْمُبِينُ و الضرر و الغبن الفاحش الواضح الذي لا يشكّ فيه ذو مسكة، فانّ صرف العمر و العقل و القوى التي يمكن أن يستفاد منها الحياة الأبدية و الجنة و النّعم الدائمية و الراحة السرمدية في تحصيل الهلاكة الأبدية و العذاب الدائم، تضييع لرأس المال، و وقوع في أعظم الخسران الذي لا يتصوّر خسران مثله.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية خسران الخاسرين بقوله: لَهُمْ يوم القيامة في جهنّم مِنْ فَوْقِهِمْ و على رؤوسهم ظُلَلٌ و أغشية و طبقات مِنَ اَلنّارِ مانعة من نظرهم إلى الفوق لغلظها و كثافتها، و إنّما أطلق عليه الظّلل مع أنّ الظّلّة ما يستظلّ به من حرّ الشمس و يطلب للتبريد للتهكّم بهم وَ مِنْ تَحْتِهِمْ أيضا ظُلَلٌ و طبقات من النار، و إطلاق الظّلة عليها من باب إطلاق اسم أحد الضدّين على الآخر، أو لأجل المشابهة، أو لكونها ظلاّ لمن في الدّركات السافلة. و حاصل المعنى أنّهم بين طبقتين من النار محاطون بها من جميع الجوانب ذلِكَ العذاب الفضيع، و إن كان معدّا للكفّار، و لكن ذكره في القرآن لأنّه يُخَوِّفُ اَللّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين ليخلصوا إيمانهم، و يثبتوا عليه، و يتّقوه بالطاعة يا عِبادِ إذن فَاتَّقُونِ ي، و احذروا سخطي، و لا تتعرّضوا لما يوجب عقوبتي.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ لمّا أوعد اللّه عبدة الأصنام بالنار، و ذمّهم بالجهل و الخسران، وعد الموحّدين بالثواب، و مدحهم بالهداية إلى كلّ خير و سعادة، و الفضل و الكرامة و كمال العقل بقوله: وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها و أعرضوا عن عبادة الشيطان و الأوثان وَ أَنابُوا و رجعوا بالكلية إِلَى اَللّهِ وحده،

وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اَللّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (18)

ص: 371


1- . في النسخة: الأبدية.
2- . تفسير الرازي 26:255 و 256.

و أعرضوا عمّا سواه لَهُمُ خاصة اَلْبُشْرى بالثواب و الرّضوان من الرسل في الدنيا، و من الملائكة عند الموت و حين البعث بالجنة و النعم الدائمة فَبَشِّرْ أنت يا رسول اللّه حسب رسالتك بالهداية إلى كلّ خير و سعادة و الفضل و الكرامة عندي عِبادِ ي المؤمنين

اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ من أفواه الناس، فيتفكّرون فيما يستمعون، لتمييز الحق و الباطل، و الصواب و الخطأ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ و أصوبه و أحقه، فاذا سمعوا القول بالتوحيد و القول بالشّرك، و القول بوجوب إرسال الرسول على اللّه و نصب الامام عليه و القول بعدمه، و القول بكون محمد صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه و علي عليه السّلام الامام بعده و القول بانكارهما، و القول بوجوب جعل الثواب و العقاب على الأعمال و وجوب خلق العالم الآخر لجزاء الأعمال و القول بعدمها، و اختاروا التوحيد، و وجوب إرسال الرسول، و نصب الامام، و كون محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام هو الامام بعده، و وجوب جعل الثواب و العقاب على الناس و وجود دار الجزاء لقيام الأدلة القاطعة على كلّ منها، و ظهور كون أساس غيرها على التقليد و الهوى و العصبية.

قال بعض العامة: إنّ الآية نزلت في عثمان بن عفان، و عبد الرحمن بن عوف، و سعد، و سعيد، و طلحة، و الزبير، حين سألوا أبا بكر، فأخبرهم بايمانه فآمنوا (1).

أقول: لا يمكن القول بذلك مع ثبوت مطاعن كثيرة في حقّهم.

و مدحهم بما في ذيل الآية، عن ابن عباس: أنّ المراد منه الرجل يجلس مع القوم و يسمع الحديث، و فيه محاسن و مساوئ، فيحدّث بأحسن ما سمع، و يترك ما سواه (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الذي يسمع الحديث فيحدّث به كما سمع لا يزيد و لا ينقص منه» (3).

و في رواية: «هم المسلّمون لآل محمد صلّى اللّه عليه و آله الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه و لم ينقصوا منه، جاءوا به كما سمعوه» (4).

ثمّ مدحهم سبحانه بقوله: أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ إلى الدين الحقّ، و كلّ خير وَ أُولئِكَ هُمْ بالخصوص أُولُوا اَلْأَلْبابِ و ذوو العقول السليمة عن شوائب الأوهام الفاسدة و الأهواء الزائغة.

عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ اللّه بشّر أهل العقل و الفهم في كتابه فقال: فَبَشِّرْ الآية» (5).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 19 الی 20

أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اَلْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي اَلنّارِ (19) لكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَعْدَ اَللّهِ لا يُخْلِفُ اَللّهُ اَلْمِيعادَ (20)

ص: 372


1- . تفسير روح البيان 8:89.
2- . تفسير الرازي 26:262.
3- . الكافي 1:41/1، تفسير الصافي 4:318.
4- . الكافي 1:322/8، تفسير الصافي 4:318.
5- . الكافي 1:10/12، تفسير الصافي 4:318.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال المشركين و حسن حال الموحّدين، بيّن عدم تأثير الدعوة الى التوحيد في قلوب المصرّين على الإشراك، و عدم الفائدة في إتعاب النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه الشريفة في ترغيبهم إلى الإيمان بقوله: أَ فَمَنْ حَقَّ و وجب عَلَيْهِ بسوء فطرته و خبث طينته كَلِمَةُ اَلْعَذابِ و وعده من اللّه تعالى بقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ (1)إلى آخره. أنت يا محمد تهديه إلى الحقّ و تسوقه إلى الجنة أَ فَأَنْتَ يا نبي الرحمة تُنْقِذُ و تخرج مَنْ تمكّن فِي اَلنّارِ منها؟ ! لا و اللّه لا تهدي من أضله اللّه، و لا تخلّص من النار من جعله اللّه من أصحابها، فلا تتعب نفسك الزكية في دعوتهم، و لا تحزن على عدم إيمانهم.

ثمّ لمّا بيّن استحقاق المشركين للعذاب، استدرك حال المتّقين بقوله: لكِنِ المؤمنون اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ و احترزوا من الشّرك و العصيان لَهُمْ مع كونهم آمنين من العذاب غُرَفٌ في الجنة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ اخرى مَبْنِيَّةٌ (2)نحو بناء المنازل على الأرض في الرصانة و الاستحكام، كلّها من درّ و ياقوت و زبرجد.

عن الباقر عليه السّلام: «سأل علي عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير هذه الآية: بماذا بنيت هذه الغرف يا رسول اللّه؟ فقال: يا علي، تلك الغرف بناها اللّه لأوليائه بالدّرّ و الياقوت و الزّبرجد، سقوفها الذهب، محبوكة بالفضة، لكلّ غرفة ألف باب من ذهب، على كلّ باب منها ملك موكّل به، و فيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الدّيباج بألوان مختلفة، و حشوها المسك و العنبر و الكافور، و ذلك قول اللّه: وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» (3).

ثمّ أكّد سبحانه وعده للمتقين بقوله: وَعْدَ اَللّهِ الذي وعده لا يُخْلِفُ اَللّهُ اَلْمِيعادَ لقبح خلف الوعد عليه.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 21

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (21)

ص: 373


1- . الأعراف:7/18، هود:11/119.
2- . لم يذكر بقية الآية و هي: تجري من تحتها الأنهار.
3- . تفسير القمي 2:246، الكافي 8:97/69، تفسير الصافي 4:318.

ثمّ لمّا كان سبب الإعراض عن اللّه و عبادته حبّ الدنيا و شهواتها، بيّن سبحانه سرعة زوالها الموجبة للنّفرة منها بقوله: أَ لَمْ تَرَ أيّها الرائي أَنَّ اَللّهَ بقدرته الكاملة أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ، أو جهة العلوّ ماءً مباركا بطريق الأمطار فَسَلَكَهُ و أجراه في عروق الأرض، فيكون يَنابِيعَ و عيونا فِي اَلْأَرْضِ ليخرج منها شيئا فشيئا ثُمَّ يُخْرِجُ اللّه منها بذلك الماء، و ينبت بِهِ بقدرته زَرْعاً نافعا مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و أصنافه كالبرّ و الشعير و نحوهما، و كيفياته كالأحمر و الأبيض و الأصفر و غيرها، و طعومه كالحلو و غيره ثُمَّ يَهِيجُ ذلك الزرع و ييبس بعد طراوته و نضرته، أو يحضر فَتَراهُ مُصْفَرًّا من يبسه بعد أن كان مخضرّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ اللّه حُطاماً و فتاتا و متكسّرا من شدّة يبسه إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور مفصّلا لَذِكْرى و تنبيها على سرعة زوال الدنيا و تغيّر حالاتها لِأُولِي اَلْأَلْبابِ و ذوي العقول السليمة، فلا يغترّون بإقبالها و بهجتها، و لا يفتنون بزهرتها.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 22

ثمّ إنّه تعالى بعد ترغيب العباد الى الطاعة و التهديد بالعذاب على العصيان و بيان ثناء الدنيا بين ان تلك البيانات لا تؤثر إلاّ مع شرح الصدر و تنوّر القلب بقوله: أَ فَمَنْ قيل: إنّ التقدير أكل الناس سواء؟ (1)شَرَحَ اَللّهُ و وسّع صَدْرَهُ و ليّن قلبه، و أكمل استعداده لِلْإِسْلامِ و قبول دين الحقّ بأن خلقه من طينة طيبة، و جعله ذا فكرة صائبة فَهُوَ باقتضاء طينته، وسعة صدره، و نورانية قلبه، و إصابة فكره مستقر عَلى نُورٍ عظيم و بصيرة كاملة و هداية فائضة مِنْ رَبِّهِ اللطيف به.

أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)قيل: إنّ شرح الصدر بقوة الأدلة التي نصبها اللّه، و هو مختصّ بالعلماء و بالألطاف الخاصة التي تتجدّد حالا بعد حال، كما قال اللّه تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً (2)و بتأكّد الأدلة و حلّ الشّبهات و إلقاء الخواطر (3).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه قرأ هذه الآية فقال: «إنّ النور إذا وقع في القلب انفتح له و انشرح» قالوا: يا رسول اللّه، هل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: «التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت. قبل حلول الفوت» (4).

ص: 374


1- . تفسير أبي السعود 7:250.
2- . سورة محمد:47/17.
3- . مجمع البيان 8:722.
4- . تفسير أبي السعود 7:250، تفسير روح البيان 8:96.

و قيل: إنّ التقدير أفمن شرح اللّه صدره للاسلام كمن قسى قلبه من ذكر اللّه (1). و حاصل المعنى و اللّه أعلم: أنّه كما لا يستوي النور و الظّلمة و العلم و الجهل، لا يستوي من على النور و من على الظّلمة.

قال بعض العامة: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، و علي بن أبي طالب عليه السّلام (2).

و قال القمي: نزلت في أمير المؤمنين (3).

فَوَيْلٌ و هلاك لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ و الغليظة أفئدتهم الحاصلة تلك القوة مِنْ ذِكْرِ اَللّهِ و لأجله، فانّ النفوس الخبيثة و الأرواح الظّلمانية تزيد خبثها و كدورتها بسماع ذكر اللّه، كما أنّه في القلوب المنورة و الصدور المنشرحة يزيد تنورا و انشراحا و اطمئنانا، و لذا قال سبحانه: أُولئِكَ المتّصفون بقساوة القلب فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن طريق الحقّ و سبيل الخير، بحيث لا يشكّ فيه من له أدنى شعور و إدراك. قيل: إنّه نزل في أبي لهب و ولده (4).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 23

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كون من له شرح الصدر على نور و هداية عظيمة من ربّه، بيّن أعظم وسائل الهداية بقوله: اَللّهُ نَزَّلَ بلطفه بعباده لهدايتهم إلى كلّ خير أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ و أطيب الكلام من حيث الفصاحة و البلاغة، و الملاحة و الحزانة، و حسن الأسلوب و الاشتمال على العلوم الكثيرة و الحكم الوفيرة و المعارف و المواعظ النافعة، و القصص المنبّهة، و أحوال الامم الماضية، و كيفيات الآخرة، إلى غير ذلك ممّا لا يدانيه كتاب من الكتب السماوية، فضلا عن غيرها، و مع ذلك يكون كِتاباً مُتَشابِهاً متماثلة (5)آياته في الفصاحة و البلاغة و الإعجاز و صحة المعنى، و الدلالة على الحقّ، و استتباع المنافع الدنيوية و الأخروية مَثانِيَ و مكررات مواعظة و عبرة، و قصصه و أمثاله، و وعده و وعيده. و قيل: يعني مكررة (6)تلاوته مع عدم ذهاب رونقه و عدم زوال لذّة قراءته و استماعه، مع أنّ

اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اَللّهِ ذلِكَ هُدَى اَللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)

ص: 375


1- . تفسير الرازي 26:266.
2- . تفسير الصافي 4:319، تفسير أبي السعود 7:250، تفسير روح البيان 8:96.
3- . تفسير القمي 2:248، تفسير الصافي 4:319.
4- . تفسير روح البيان 8:96.
5- . في النسخة: و متماثلا.
6- . في النسخة: مكرر.

كلّ كلام يملّ تكراره (1).

و لظهور عظمة اللّه فيه، و غضبه على أعدائه و عصاته تَقْشَعِرُّ و ترتعد مِنْهُ جُلُودُ المؤمنين اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ و أبدان الذين عرفوا خالقهم بالعظمة و القهارية. قيل: هو مثل لشدة الخوف (2)ثُمَّ إذا تلوا، أو استمعوا آيات الوعد و الرحمة تَلِينُ جُلُودُهُمْ و لتسكن أبدانهم، و زال عنها ما كان بها من الخوف و الارتعاد، و تبدلت خشيتهم بالرجاء، و رهبتهم بالرغبة وَ قُلُوبُهُمْ تطمئن إِلى ذِكْرِ اَللّهِ و رحمته و غفرانه، فلذا ذلِكَ الكتاب الذي بيّنا أوصافه هُدَى اَللّهِ و ما به رشاد الخلق إلى الحقّ يَهْدِي اللّه و يرشد بِهِ إلى جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية مَنْ يَشاءُ هدايته و إرشاده من النفوس الزكية، و القلوب الطاهرة، و الذوات المستعدة القابلة لنيل الفيوضات الإلهية وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يخذله بسبب خبث ذاته، و قساوة قلبه، و رذالة صفاته و أخلاقه فَما لَهُ بعد اللّه مِنْ هادٍ يهديه إلى الحقّ و يخلّصه من ورطة الضلال.

روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية اللّه، تحاتّت عنه ذنوبه، كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها» و في رواية اخرى: «حرّمه اللّه على النار» (3).

«و عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن الزبير، قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول اللّه يفعلون إذا قرئ القرآن عليهم؟ قالت: كانوا كما نعتهم اللّه تدمع أعينهم و تقشعر جلودهم. قال: فقلت لها: إنّ ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم (4).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 24 الی 26

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه عجز جميع الخلق عن هداية من أراد اللّه ضلالته، بيّن عجز الضالّ عن دفع العذاب عن نفسه في الآخرة بقوله: أَ فَمَنْ قيل: إنّ التقدير أكل الناس سواء (5)؟ فمن يَتَّقِي

أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ اَلْعَذابِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اَللّهُ اَلْخِزْيَ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)

ص: 376


1- . تفسير روح البيان 8:98.
2- . الكشاف 4:124، تفسير الرازي 26:273.
3- . تفسير روح البيان 8:100.
4- . تفسير روح البيان 8:100.
5- . تفسير أبي السعود 7:252، تفسير روح البيان 8:101.

و يتوقّى بِوَجْهِهِ الذي هو أشرف أعضائه سُوءَ اَلْعَذابِ و شديدة يَوْمَ اَلْقِيامَةِ لعجزه عن الاتقاء بغيره، مع أنّ سائر الأعضاء تكون وقاية له، كمن هو آمن من العذاب في ذلك اليوم، و لا يعتريه مكروه حتى يحتاج إلى الأتقاء وَ قِيلَ بعد وقوعهم في النار من جهة خزنة جهنم لِلظّالِمِينَ الذين ضيّعوا حقوق اللّه، و كفروا نعمه، و وضعوا الكفر موضع الايمان، و تكذيب الرسول موضع تصديقه، و العصيان موضع الطاعة: أيّها الظالمون ذُوقُوا و أطعموا طعم ما كُنْتُمْ في الدنيا تَكْسِبُونَ و تحصلون لأنفسكم من العذاب بالكفر و العصيان.

ثمّ استشهد سبحانه على شدّة سخطه و عذابه على الظالمين المكذبين للرسل في الآخرة بانزال العذاب على كثير منهم في الدنيا بقوله: كَذَّبَ كثير من الامم اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم فَأَتاهُمُ و نزل عليهم اَلْعَذابُ المقدّر لكلّ امّة منهم بتكذيبهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ و من الجهة التي لا يحتسبون و لا يتوهّمون نزول العذاب منها، و كانوا آمنين. قيل: أشدّ العذاب ما يكون غير متوقع (1)و قيل: يعني لا يعرفون له مدفعا و لا مرّدا (2)

فَأَذاقَهُمُ اَللّهُ مع عذاب الاستئصال اَلْخِزْيَ و الذّلّ و الصّغار فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كالمسخ بصورة القردة و الخنازير، و الغرق و الخسف، و السبي و الإجلاء، و نحوها من فنون النّكال، و هو العذاب الأدنى لهم وَ و اللّه لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ بالنار المعدّ لهم أَكْبَرُ و أشدّ من العذاب الدنيوي كما و كيفا مدة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ كبره و شدّته لما تجرّءوا و ما عصوا اللّه و رسوله، و خلّصوا أنفسهم منه بالايمان و التوبة و القيام بالطاعة.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ما يوجب الاتعاظ من هوان الدنيا، و كون الهداية إلى الحقّ بانشراح و تنوّر القلب، و غير ذلك من المطالب العالية، و الإبلاغ في التخويف و الترهيب، بيّن سبحانه أنّ القرآن في المواعظ و العبر و سائر ما يحتاج إليه الناس من العلوم بالغ حدّ الكمال بقوله: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا و بيّنا لِلنّاسِ عموما و لأهل مكة خصوصا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ الذي أنزلناه مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و مطلب نافع هو في الحسن و كثرة النفع و الغرابة كالمثل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و ينبّهون لما هو خير لهم في دنياهم و آخرتهم، و يتّعظون به.

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)

ثمّ مدح القرآن الجامع لجميع المطالب المهمّة النافعة بقوله: قُرْآناً متصفا بكونه عَرَبِيًّا

ص: 377


1- . تفسير روح البيان 8:101.
2- . تفسير روح البيان 8:101.

يفهمه كلّ العرب. و قيل: يعني متلوّ في المحاريب إلى يوم القيامة بلسان العرب مع أنّه أعجز الفصحاء و البلغاء منهم عن معارضته و الإتيان بمثله (1)غَيْرَ ذِي عِوَجٍ و انحراف عن الحقّ و اختلاف و تناقض في مطالبه، كما قال تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً (2)لَعَلَّهُمْ بالتدبّر فيه و التفكّر في جهات إعجازه يَتَّقُونَ و يحترزون عن الكفر و العصيان.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 29 الی 31

ثمّ ضرب سبحانه مثلا لتوضيح فساد مذهب المشركين و قباحة طريقتهم بقوله: ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً معجبا يطابق حال المشركين و الموحدين، و هو أنّه يفرض المشرك الذي يدّعي لنفسه آلهة رَجُلاً مملوكا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ و منازعون في ذلك العبد المملوك يتجاذبونه و يتعاورونه في مهماتهم المتباينة، فانّ هذا العبد يكون متحيّرا متفرّق البال و متوزّع القلب وَ نفرض الموحّد الذي يعتقد أنّ إلهه واحد رَجُلاً سَلَماً و خالصا لِرَجُلٍ واحد لا سبيل لغيره عليه أصلا هَلْ العبدان يَسْتَوِيانِ و يتماثلان مَثَلاً و حالا؟ لا يستويان البتة، بل الأول في غاية التحيّر، و الثاني في غاية الاطمئنان و الراحة، فعلى المؤمنين أن يقولوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ على إظهاره الحجّة على المشركين و قطع خصومتهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك مع غاية ظهوره.

ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)عن أمير المؤمنين قال: «إني مخصوص في القرآن بأسماء، احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا فيّ، أنّا السّلم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول اللّه تعالى: وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «أنا ذلك الرجل السّلم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «الرجل السّلم للرجل حقّا عليّ عليه السّلام و شيعته» (5).

و عنه عليه السّلام: «أمّا الذي فيه شركاء متشاكسون، فلان الأول، يجمع المتفرقون ولايته، و هم في ذلك يلعن بعضهم بعضا، و يبرأ بعضهم من بعض، و أمّا رجل سلم لرجل فانّه فلان الثاني حقّا و شيعته» (6).

أقول: المراد من فلان الأول أبو بكر، و من فلان الثاني أمير المؤمنين عليه السّلام، و تخالف أصحاب أبي

ص: 378


1- . تفسير الرازي 26:276.
2- . النساء:4/82.
3- . معاني الأخبار:59 و 60/9، تفسير الصافي 4:321.
4- . مجمع البيان 8:775، شواهد التنزيل 2:119/807، تفسير الصافي 4:321.
5- . مجمع البيان 8:775، تفسير الصافي 4:321.
6- . الكافي 8:224/283، تفسير الصافي 4:321.

بكر من جهة كونهم متّبعي الهوى و الآراء.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بعذاب الدنيا، و بيّن حالهم و حال الموحّدين بضرب المثل، و لم تؤثر تلك البيانات في كثير من القلوب القاسية، و كان قلبه متأثّرا من لجاجهم، سلّى سبحانه حبيبه بقوله: إِنَّكَ يا محمد مَيِّتٌ لا محالة وَ إِنَّهُمْ أيضا مَيِّتُونَ عن قريب البتة

ثُمَّ إِنَّكُمْ جميعا أنت و خصماؤك يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ و مليككم، و في محضر عدل من بيده اموركم تَخْتَصِمُونَ و تحاجّون، فتقول: يا ربّ إنّي بلّغت ما ارسلت به و اجتهدت في دعوة هؤلاء المشركين حقّ الاجتهاد، فكذّبوني و أصرّوا على لجاجي و عنادي. و هؤلاء يقولون: ربّنا أطعنا ساداتنا و كبراءنا فأضلّونا السبيلا، فيحكم اللّه لك عليهم، فلا تبال اليوم بهم.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 32 الی 35

ثمّ حكم سبحانه على المشركين في الدنيا بكونهم أظلم الظالمين بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللّهِ في نسبة أنّه اتّخذ لنفسه شريكا و ولدا وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ و الأمر الذي هو عين الحقّ، و هو رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و كون القرآن كلام اللّه إِذْ جاءَهُ و حين أتاه من غير تدبّر فيه و النظر في جهات إعجازه، لا و اللّه لا أظلم و لا أكفر منه، ثمّ أردفه بالوعيد بقوله: أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ يوم القيامة أيّها العقلاء مَثْوىً و مستقرا أبديا لِلْكافِرِينَ الذين هؤلاء الظّلمة منهم، بل هي مثواهم بالاستحقاق، و بئس المثوى و بئس المصير.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَ اَلَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ اَلْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اَللّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ اَلَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)

ثمّ مدح سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به بقوله: وَ اَلَّذِي جاءَ من جانب اللّه بِالصِّدْقِ و القرآن المشتمل على المعارف الإلهية و الحكم الكثيرة و الأحكام و الآداب و الأخلاق وَ هو لمحمد الامّي و الذي صَدَّقَ بِهِ و أقرّ له و هو أمير المؤمنين عليه السّلام على ما روي عن المعصومين من ذرّيته (1)، بل روى العلامة في (نهج الحق) عن الجمهور عن مجاهد، أنّه قال: هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام (2). و رواها

ص: 379


1- . تفسير القمي 2:249، مجمع البيان 8:777، تفسير الصافي 4:322.
2- . نهج الحق:185/19، كفاية الطالب:233، الدر المنثور 7:228، روح المعاني 24:3.

أيضا في (كشف الغمة) (1)عن موسى بن مردويه، عنه. و عن الحافظ، عن جعفر بن محمد عليه السّلام (2).

في الردّ على فخر

الدين الرازي

أقول: يدلّ عليه قول النبي صلّى اللّه عليه و آله المسلم بين العامة و الخاصة: «سبّاق الامم أو الصدّيقون منهم ثلاثة: مؤمن آل فرعون، و مؤمن آل يس، و علي بن أبي طالب عليه السّلام، و هو أفضلهم» (3)مع أنّه روى أحمد بن حنبل أنّ آية وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ نزلت في علي (4)فلا يعتنى بقول فخر الذين الرازي (5)و بعض أصحابه من أنّه أبو بكر (6)، فانّه على تقدير كونه مصدّقا للرسول و كتابه، لم يكن تصديقه قائلا (7)للذّكر و المدح بقوله: أُولئِكَ المتّصفون بالصدق و التصديق هُمُ خاصّة اَلْمُتَّقُونَ الفائزون بالتقوى إلى أعلى درجة كمال الانسانية في الدنيا، و أعلى درجات الجنة في الآخرة

لَهُمْ بإزاء صدقهم و تصديقهم و تقواهم ما يَشاؤُنَ و يشتهون من النّعم الكائنة عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف به ذلِكَ الجزاء المذكور جَزاءُ اَلْمُحْسِنِينَ في عقائدهم و أعمالهم، المجتهدين في التقوى و عبادة ربّهم

لِيُكَفِّرَ اَللّهُ عَنْهُمْ و يستر عَنْهُمْ يوم القيامة أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا و أقبحه، فضلا عن السيئ و القبيح منه.

قيل: إنّ المعنى: وعدهم اللّه جميع ما يشاؤون من زوال المضارّ و حصول المسارّ (8)، ليكفّر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا دفعا لمضارّهم وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ و يعطيهم ثوابهم بِأَحْسَنِ من اَلَّذِي كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ إعطاء لمنافعهم و مسارّهم.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ لمّا كان الكفّار و المشركين يخوّفون المؤمنين بالتخويفات الكثيرة، بل روي أنّ قريشا قالت للنبي صلّى اللّه عليه و آله: نخاف أن تخبلك آلهتنا (9). آمن اللّه رسوله و المؤمنين بقوله: أَ لَيْسَ اَللّهُ القادر الرؤوف بِكافٍ عَبْدَهُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به، يدفع عنهم الآفات، و يحفظهم من البليات، كما كفى نوحا الغرق، و إبراهيم الحرق، بل هو كاف جميع مهماته.

أَ لَيْسَ اَللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اَللّهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقامٍ (37)ثمّ خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ يُخَوِّفُونَكَ يا محمد، هؤلاء المشركون بِالَّذِينَ

ص: 380


1- . كشف الغمة 1:313.
2- . مناقب ابن شهر آشوب 3:92.
3- . فضائل الصحابة لابن حنبل 2:627/1072، و 655/1117، كنز العمال 11/601/32898.
4- . مناقب ابن شهر آشوب 3:90.
5- . تفسير الرازي 26:279.
6- . تفسير الرازي 26:279، روح المعاني 24:3.
7- . في النسخة: قابلة.
8- . تفسير روح البيان 8:108.
9- . تفسير الرازي 26:281، تفسير البيضاوي 2:326، تفسير أبي السعود 7:255.

يعبدونهم مِنْ دُونِهِ من الأصنام و الأوثان الذين لا يقدرون على شيء لغاية جهلهم و ضلالهم وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يحرفه عن طريق الحقّ، كهؤلاء المشركين فَما لَهُ في العالم مِنْ هادٍ يهديه و يوصله إلى الحقّ

وَ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ و يوفّقه للسلوك على الصراط المستقيم فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يصرفه عن السلوك فيه بالحجّة و البرهان و التخويف و التطميع.

ثمّ هدّد سبحانه المشركين المخوّفين بقوله: أَ لَيْسَ اَللّهُ بِعَزِيزٍ و غالب على كلّ شيء و ذِي اِنْتِقامٍ من أعدائه لأوليائه؟ بلى و اللّه هو الغالب القادر المنتقم، ينتقم من هؤلاء المشركين أشدّ الانتقام.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 38

ثمّ بيّن سبحانه أنّ المشركين مع اعترافهم بأنّ اللّه هو القادر الذي خلق بقدرته جميع الموجودات، كيف يدّعون أنّ الجمادات التي لا قدرة لها و لا حسّ و لا شعور يضرّون عباد اللّه؟ ! مع أنّ اللّه عزّ و جلّ حافظهم بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ و قلت لهم أيّها العقلاء مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و ما بينهما؟ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ و ليعترفون بأنّ لا خالق غيره، فاذا اعترفوا بذلك قُلْ لهم: أَ فَرَأَيْتُمْ و أخبروني أنّ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و تعبدونه من الأصنام و الأوثان، على فرض كونهم قادرين، هل يمكنهم أن يعارضوا اللّه في إرادته مثلا إِنْ أَرادَنِيَ اَللّهُ بِضُرٍّ و مكروه كالمرض و الفقر و الذّلّ و نظائرها هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ و مزيلات سوء الحال الذي أراده أَوْ إن أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ و نعمة كالصحة و الغنى و الأمن و الراحة و أمثالها هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ و مانعات عن وصول نعمه إليّ؟ ! لا و اللّه لا هنّ كاشفات الضرّ، و لا ممسكات الرحمة، بل هنّ أعجز من كل شيء، و أضعف من كلّ ضعيف.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اَللّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اَللّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ (38)روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا سألهم سكتوا و لم يجيبوه بشيء فنزل (1). و إنّما أتى سبحانه بالجموع و الضمائر المؤنثة للاشارة إلى ضعف أصنامهم، أو لأنّهم سمّوا أصنامهم باسم الأناث كاللات و العزّى و مناة.

ثمّ أمر نبيّه بإظهار الاعتماد على ربّه بقوله: قُلْ يا محمد لهم: إن تظاهر عليّ أهل العالم، فانّي لا

ص: 381


1- . تفسير البيضاوي 2:326، تفسير أبي السعود 7:256.

ابالي، لأنّ حَسْبِيَ اَللّهُ و هو كاف في جميع اموري، و ناصري على أعدائي، و حافظي من كلّ شرّ و ضرّ عَلَيْهِ وحده يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ لعلمهم بأنّ ما سواه تحت قدرته و ملكوته و نفوذه و إرادته.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 39 الی 41

ثمّ أمره بالابلاغ في إظهار توكّله على اللّه و عدم مبالاته بالمشركين بقوله: قُلْ يا محمّد، مخاطبا لقريش: يا قَوْمِ اِعْمَلُوا و اسعوا في الاضرار عليّ، و إبطال أمري، و الإخلال في رسالتي، و اجتهدوا في مكركم و كيدكم، مع أنّكم عَلى ما تعتقدون من مَكانَتِكُمْ و حالتكم من القوة و الشوكة و العداوة إِنِّي أيضا عامِلٌ و ساع في التبليغ و الإنذار، و إعلاء كلمة التوحيد، و تقرير دين الاسلام ما استطعت، ما أنا عليه من مكانتي و حالتي من قلّة الناصر و عدم المال فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

من ينصره اللّه و يغلبه و مَنْ يَأْتِيهِ من قبله تعالى عَذابٌ يستأصله يُخْزِيهِ وَ يذلّه في الدنيا، و من يَحِلُّ و ينزل عَلَيْهِ في الآخرة عَذابٌ مُقِيمٌ و دائم لا يفارقه، لسعيه فيما يوجب غضب اللّه عليه من الكفر و الضلال.

قُلْ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعҙęΙřϙșƙΠ(39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ لِلنّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اِهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)

ثمّ لمّا بالغ سبحانه في إتمام الحجّة على المشركين المعاندين، و بيان بطلان مذهبهم بالأدلة الواضحة القاهرة، و ضرب المثل، و تهديدهم بالعذاب الدنيوي و الاخروي، ردع نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن الجدّ و الاهتمام في دعوتهم إلى التوحيد و الايمان بصدق كتابه بقوله: إِنّا بلطفنا و حكمتنا و مقام ربوبيتنا أَنْزَلْنا بتوسّط جبرئيل عَلَيْكَ يا نبي الرحمة اَلْكِتابَ العظيم الشأن الذي فيه المعارف و الحكم و الأحكام، إرشادا لِلنّاسِ إلى مصالحهم و منافعهم الدنيوية و الاخروية، و إتماما للحجّة حال كونه مقرونا بِالْحَقِّ و دلائل الصدق، أو حال كوننا محقّين في إنزاله فَمَنِ اِهْتَدى به إلى ما فيه فَلِنَفْسِهِ فوائد هدايته و عمله وَ مَنْ ضَلَّ عن سبيل الحقّ، بأن كذّبه و لم يعمل به فَإِنَّما يَضِلُّ و كان وبال ضلاله على نفسه، و ضرره عَلَيْها لا علينا و لا عليك وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ من قبل ربّك بِوَكِيلٍ و قيّم حتّى تجبرهم على الايمان به و اتباع أحكامه، بل إنّما عليك البلاغ، و قد بلّغت، فلا تتعب نفسك في معارضتهم و حثّهم على الإيمان، و استرح من كلفة تحملهم على قبول الحقّ و تصديق كتابك.

ص: 382

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 42

ثمّ لمّا كانت الهداية هي الحياة الحقيقية، و الضلال الدائم هو الموت و المؤقّت بمنزلة النوم، عاد سبحانه بعد ترويح قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الاستدلال على توحيده بكون النوم و اليقظة و الموت بيده، كما أنّ الهداية و الضلال بإرادته بقوله:

اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)اَللّهُ وحده يَتَوَفَّى بقدرته اَلْأَنْفُسَ و يميت الأشخاص حِينَ وصول وقت مَوْتِها وَ انقضاء أجل حياتها، و يتوفّى اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ و يقبض روحها فِي وقت مَنامِها لا كاملا، بل بحيث يبقى فيها شعاعها.

و قيل: إنّ المراد بالأنفس الأرواح، و المعنى يقبض الأرواح كاملا من أبدانها حين موت أبدانها، و يقبض الأرواح التي لم تمت أبدانها في وقت نوم الأبدان (1). و إنّما أطلق التوفّي على الإنامة لشباهتها في عدم العقل و التمييز بالإماتة، كما ورد أنّ النوم أخ الموت.

بيان كيفية النوم

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ الروح يخرج عند النوم، و يبقى شعاعه في الجسد، فلذلك ترى الرؤيا» (2)فَيُمْسِكُ اللّه الأنفس اَلَّتِي قَضى و حكم عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ و يمنعها من الرجوع إلى أبدانها وَ يُرْسِلُ الأنفس اَلْأُخْرى التي لم يقض عليها الموت عند الانتباه و اليقظة مرة بعد مرة إِلى انقضاء أَجَلٍ مُسَمًّى و مدّة حياتها المقدّرة.

عن سعيد بن جبير: أنّ أرواح الأحياء و أرواح الأموات تلتقي في المنام، فيتعارف منها ما شاء اللّه أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، و يرسل الاخرى إلى أجسادها إلى انقضاء مدّة حياتها (3).

عن الباقر عليه السّلام قال: «ما من أحد ينام إلاّ عرجت نفسه إلى السماء، و بقيت روحه في بدنه، و صار بينهما سبب كشعاع الشمس، فان أذن اللّه في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، و ان أذن اللّه في ردّ الرّوح أجابت النفس الروح، و هو قول اللّه: يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الآية» (4).

أقول: الظاهر أنّ المراد بالنفس في الرواية الرّوح الانساني، و بالرّوح الرّوح الحيوانى. و إسناد التوفّي إلى اللّه لأنّه الآمر، فلا ينافي إسناده إلى ملك الموت و أعوانه من الملائكة بالمباشرة. نعم.

ص: 383


1- . تفسير روح البيان 8:112 و 115.
2- . تفسير روح البيان 8:115.
3- . تفسير روح البيان 8:115.
4- . مجمع البيان 8:781، تفسير الصافي 4:323.

روي أنّ اللّه تعالى باشر قبض النفوس الطيبة الزكية كروح الحسين بن علي عليه السّلام (1).

و الصدّيقة الطاهرة، روى بعض العامة أنّ فاطمة الزهراء رضى اللّه عنه لمّا نزل عليها ملك الموت لم ترض بقبض روحها، فقبض اللّه تعالى روحها (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من التوفّي على الوجهين، و الامساك في أحدهما، و الإرسال في الآخر لَآياتٍ عجيبة و دلالات واضحة على كمال قدرة اللّه و حكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في آثار قدرة اللّه التي منها كيفية الموت و النوم، فيعلمون أنّ العاقل لا يعبد الجماد الذي لا قدرة له و لا إدراك، بل يعبد الإله الذي له القدرة الكاملة و الحكمة البالغة.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ لمّا كان قول مشركي مكّة: إنّا لا نعبدهم لكونهم آلهة، بل نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى، و يشفعوا لنا عند اللّه، أنكر سبحانه عليهم القول بقوله: أَمِ اِتَّخَذُوا قيل: كلمة (أم) منقطعة، و المعنى: بل اتّخذوا و اختاروا لأنفسهم (3)مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه شُفَعاءَ يشفعون لهم عند اللّه.

أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)ثمّ أمر سبحانه بتوبيخهم بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء السّفهاء أيشفعونكم أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من الأشياء، و لا يقدرون على دفع شيء عن أنفسهم، فضلا عن شفاعتكم عند اللّه، و دفع عذابه عنكم وَ لا يَعْقِلُونَ و لا يدركون شيئا حتّى نفع أنفسهم، فضلا عن عبادتكم التي لا نفع (4)لهم فيها

قُلْ يا محمّد إرشادا لهم لِلّهِ وحده اَلشَّفاعَةُ الصادرة عن كلّ شافع جَمِيعاً لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلاّ بإذنه، كما قال: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ (5)لأنّ لَهُ تعالى وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و ما بينهما و السّلطنة فيها، فلا يتنفّس متنفّس و لا يتحرّك متحرّك و لا يتكلّم متكلّم إلاّ بإذنه و إرادته ثُمَّ إِلَيْهِ بعد الموت تُرْجَعُونَ و إلى محضر عدله تردّون، فيحاسب أعمالكم و يجازيكم على حسب استحقاقكم، فاحذروا سخطه، و احترزوا عذابه.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 45 الی 46

وَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَحْدَهُ اِشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اَللّهُمَّ فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ عالِمَ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)

ص: 384


1- . تفسير روح البيان 8:114.
2- . تفسير روح البيان 8:114.
3- . تفسير روح البيان 8:117.
4- . في النسخة: يقع.
5- . البقرة:2/255.

ثمّ حكى سبحانه شدّة تعصّبهم في مذهبهم و غاية حمقهم بقوله: وَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَحْدَهُ عندهم بأن يقول أحد: لا اله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له اِشْمَأَزَّتْ و نفرت من ذكر التوحيد قُلُوبُ المشركين لأنّهم اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ و لا يصدّقون بِالْآخِرَةِ و امتلأت غيظا و غما، لعداوتهم للّه، و عدم خوفهم من عقوبته في القيامة وَ إِذا ذُكِرَ عندهم الأصنام اَلَّذِينَ يعبدونهم مِنْ دُونِهِ فرادى، أو مع ذكر اللّه إِذا هُمْ لفرط افتتانهم بها يَسْتَبْشِرُونَ و يسرّون حتى تبسط وجوههم له.

ثمّ إنّه تعالى بعد حكاية إصرارهم على ما يشهد العقل بفساده، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالالتجاء إلى اللّه من لجاجهم و عنادهم بقوله: قُلِ يا محمد، عند رؤيتك هذه الحالة العجيبة و عجزك عن هدايتهم: اَللّهُمَّ يا فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خالقهما على النحو البديع، و يا عالِمَ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ و المطّلع على ما لا تدركه الحواسّ و ما تدركه أَنْتَ تعلم ما عليه هؤلاء، و تقدر على الانتقام منهم تَحْكُمُ يوم القيامة بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فاحكم بيني و بين هؤلاء المشركين المصرّين على الباطل، المعاندين للحقّ.

روى بعض العامة عن أبي سلمة، قال: سألت عائشة: بم كان يفتتح رسول اللّه صلاته بالليل؟ قالت: كان يقول: «اللهم ربّ جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل، فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنّك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» (1).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ بيّن سبحانه حكمه يوم القيامة على المشركين بشدّة العذاب و عدم خلاصهم منه بقوله: وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ أشركوا و ظَلَمُوا على ربّهم بتضييع حقوقه، و على أنفسهم باهلاكها الدائم ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً من الأموال و الأمتعة و الأملاك وَ مِثْلَهُ مَعَهُ على سبيل الفرض لاَفْتَدَوْا بِهِ و بذلوه ليتخلّصوا مِنْ سُوءِ اَلْعَذابِ و شديد العقاب يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ما تخلّصوا منه، و لا يخفف عنهم و لو ساعة وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اَللّهِ و ظهر لهم من عذابه ما لَمْ يَكُونُوا في الدنيا يَحْتَسِبُونَ

وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ اَلْعَذابِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اَللّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)

ص: 385


1- . تفسير الرازي 26:286، تفسير روح البيان 8:120.

و يتوهّمون. و فيه بيان غاية شدّة عذابهم و كثرة أنواعه، كما أن في قوله صلّى اللّه عليه و آله في صفة ثوابهم في الجنة «بما لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر في قلب بشر» (1)بيان نهاية حسنه و كثرة أنواعه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ العذاب المذكور من آثار أعمالهم السيئة التي عملوها في الدنيا بقوله: وَ بَدا و ظهر لَهُمْ يوم القيامة سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و آثار قبائح أعمالهم التي عملوها حين عرض صحفه عليهم وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ من كلّ جانب ما كانُوا بِهِ في الدنيا يَسْتَهْزِؤُنَ من عذاب الآخرة عند إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله به، و كانوا يقولون: متى هذا الوعد؟

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 49 الی 51

ثمّ لمّا حكى سبحانه اشمئزاز المشركين عن ذكر اللّه وحده، و استبشارهم بذكر أصنامهم، بيّن أنّهم مع عداوتهم للّه يلتجأون إليه وحده عند ابتلائهم بالشدائد بقوله: فَإِذا مَسَّ اَلْإِنْسانَ و أصابه ضُرٌّ و مكروه و سوء حال كفقر أو مرض أو خوف أو نظائرها دَعانا و التجأ إلينا وحدنا، و سألنا كشفه، مع اشمئزازه عن ذكرنا متفرّدا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ و أعطيناه نِعْمَةً من غنى أو صحة و نحوهما تفضلا مِنّا عليه لم يرها منّا، بل قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ و وجدته عَلى عِلْمٍ كان لي بوجوه كسبه، أو لعلمي بأنّي ساعطاه لما لي من الفضل و الاستحقاق، و الحال أنّه ليس كذلك بَلْ تلك النّعمة إنّما هِيَ فِتْنَةٌ و اختبار له، أيشكر أم يكفر وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لحمقهم لا يَعْلَمُونَ أنّها استدراج و اختبار لهم.

فَإِذا مَسَّ اَلْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)

و اعلم أنّ تلك الكلمة الباطلة ليست مختصة بهم بل قَدْ قالَهَا جمع من الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقارون و قومه، حيث قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي (2)فابتلوا بالعذاب لقولهم ذلك فَما أَغْنى و ما دفع عَنْهُمْ العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأمتعة الدنيوية و يجمعون منها،

و لم تنفعهم النعمة في الخلاص من النّقمة فَأَصابَهُمْ و وصل إليهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و أسوأ جزاء ما عملوا في الدنيا من الكفر و القبائح و المعاصي.

ثمّ أوعد سبحانه كفّار مكة، أو من في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله منهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم

ص: 386


1- . تفسير الرازي 26:287.
2- . القصص:28/78.

باختيار الشرك و الغرور مِنْ هؤُلاءِ القوم الذين جاوروك في مكة، أو في زمانك، و عاندوك في الحقّ سَيُصِيبُهُمْ و عن قريب يصل إليهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و عقوبات ما عملوا من الكفر و المعاصي في الدنيا و الآخرة وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ اللّه القادر على كلّ شيء من تعذيبهم بالهرب و القوة و الشوكة.

قيل: قد أصابهم في الدنيا حيث قحطوا سبع سنين، و قتل أكابرهم في بدر (1)و سائر الغزوات.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 52 الی 59

ثمّ عاد سبحانه إلى جواب قولهم: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بقوله: أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا اولئك الحمقاء. قيل: إنّ التقدير أيقولون ذلك و لم يعلموا (2)بالتفكّر في أنّ الغنى و الفقر كثيرا يكونان على خلاف العادة، و يتبدّلان في شخص واحد بغير اختياره أَنَّ اَللّهَ بقدرته و حكمته يَبْسُطُ و يوسّع اَلرِّزْقَ و النّعمة لِمَنْ يَشاءُ أن يوسّعه عليه لصلاح في نظره من امتحان و جزاء عمل أو لغيرهما، لا لرفعة قدره عنده وَ يَقْدِرُ و يضيق على من يشاء أن يقدر و يضيّق عليه، لعلمه بصلاح في حقّه، أو لنظام العالم، لا لضعة قدره، و لا باختياره إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من البسط تارة و القبض اخرى، و في مورد دون مورد لَآياتٍ و دلالات على بسط الرزق و قبضة، بل كلّ الحوادث في العالم، بيد اللّه و إرادته وحده، لا بتدبير أحد، و لكن إنّما يكون نفع تلك الآيات و التفكّر فيها لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه، إذ هم المتفكّرون و المتدبّرون فيها، و المنتفعون بها، و أمّا غيرهم غافلون عنها غير

أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (53) وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ اَلسّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اَللّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اِسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (59)

ص: 387


1- . تفسير أبي السعود 7:259، تفسير روح البيان 8:122.
2- . تفسير روح البيان 8:122.

معتنين بها.

ثمّ إنّه تعالى بعد توعيد المشركين و الكفّار الظالمين على أنفسهم بالكفر و الشرك و العصيان، و تهديدهم بالعذاب الشديد، أعلن سبحانه بسعة رحمته بالنسبة إلى عباده المؤمنين بقوله: قُلْ يا نبي الرحمة للمؤمنين من قبلي يا عِبادِيَ المؤمنين اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا و أفرطوا في الخيانة عَلى أَنْفُسِهِمْ بتجاوز الحدّ في العصيان لا تَقْنَطُوا و لا تيأسوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ و تفضلّه عليكم بالعفو و المغفرة.

ثمّ كأنّه قيل: لم لا يقنطون مع كثرة المعاصي؟ فأجاب سبحانه بقوله: إِنَّ اَللّهَ بكرمه و تفضّله يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ للمؤمنين جَمِيعاً و لو كانت بعدد النجوم و الرمال و أوراق الأشجار.

ثمّ أكّد سبحانه وعده بقوله: إِنَّهُ بالخصوص هُوَ اَلْغَفُورُ للذنوب و ستّارها اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين بعد الغفران بإعطاء الثواب.

قيل: إنّ الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا لا يغفر لهم ما ارتكبوا من الذنوب العظام، كقتل النفس و الزنا و معاداة النبي صلّى اللّه عليه و آله و القتال معه، فأنزل اللّه هذه الآية (1)، ففرح النبي صلّى اللّه عليه و آله بها، و رآها أصحابه أنها أوسع الآيات في مغفرة الذنوب.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنه قال: «ما في القرآن آية أوسع من يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا» (2).

و روي أنّ وحشيا قاتل حمزة كتب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يسأله هل له من التوبة؟ و كتب أنّه سمع فيما أنزل اللّه بمكّة من القرآن آيتين أنستاه من كلّ خير و هما قوله: وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله: مُهاناً (3)فنزلت: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً (4)فكتب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فخاف وحشي و قال: لعليّ لا أبقى حتى أعمل صالحا، فأنزل اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (5). فقال وحشي: إني أخاف أن لا أكون في مشيئة اللّه، فأنزل اللّه: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى آخره فأقبل وحشي و أسلم (6).

القمي، قال: نزلت في شيعة علي بن أبي طالب عليه السّلام خاصة (7).

و عن الباقر عليه السّلام: «و في شيعة ولد فاطمة أنزل اللّه هذه الآية خاصة» (8).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «لقد ذكركم اللّه في كتابه إذ يقول: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية، قال:

ص: 388


1- . أسباب النزول للواحدي:208.
2- . مجمع البيان 8:784، تفسير الصافي 4:326.
3- . الفرقان:25/68 و 69.
4- . الفرقان:25/70.
5- . النساء:4/116.
6- . اسباب النزول للواحدي:190.
7- . تفسير القمي 2:250، تفسير الصافي 4:325.
8- . تفسير القمي 2:250، معاني الأخبار:107/4، تفسير الصافي 4:225.

و اللّه ما أراد بهذا غيركم» (1).

و عنه عليه السّلام: «ما على ملّة إبراهيم غيركم، و ما يقبل إلاّ منكم، و لا يغفر الذنوب إلاّ لكم» (2).

أقول: المراد من النزول في شيعة على نزولها في حقّ غير المرتدّين بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم شيعة علي و ولده، إذ هم الذين لم ينكروا النصّ الجليّ في عليّ عليه السّلام.

إن قيل: الآية موجبة لعدم خوف المؤمنين من اللّه و عقابه، مع أنّه ثبت أنّه يجب على المؤمن أن يكون خائفا راجيا، لوضوح أن الأمن من مكر اللّه و عقابه من المعاصي الكبيرة، كاليأس من رحمة اللّه.

قلنا: لا شبهة أن كثرة المعاصي قد تؤذي إلى الكفر و ذهاب الايمان، فالمؤمن لا يعلم أنّه يموت على الايمان، فيخاف من زوال إيمانه و لو حين الموت، مع أنّ الوعد بالمغفرة إنّما هو في القيامة، و المؤمن يخاف من عقوبة اللّه في البرزخ، كما ورد «أنّ أخوف ما أخاف عليكم البرزخ» مع أنّه يحتمل تقييدها، لأنّه بالتوبة المقبولة، و مع التوبة لا يعلم قبولها، كما قيل: إنّ ابن مسعود قرأ: (إنّ اللّه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء) (3).

و روي ذلك عن ابن عباس (4)أيضا.

فليس في الآية إغراء إلى المعصية كما توهّم، بل يجب على المؤمن الإنابة و التوبة إلى اللّه بقوله تعالى: وَ أَنِيبُوا أيّها الناس و ارجعوا إِلى رَبِّكُمْ

بالتوبة عن المعاصي وَ أَسْلِمُوا و اخلصوا لَهُ تعالى أعمالكم من شوب الشرك و الهوى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ في الدنيا و الآخرة ثُمَّ بعد نزوله لا تُنْصَرُونَ و لا تمنعون منه من قبل أحد

وَ اِتَّبِعُوا أيّها المؤمنون أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ و هو القرآن، و عملوا بما فيه.

و قيل: يعني ما هو أنجى و أسلم كالإنابة و المواظبة على الطاعة، أو المعنى الزموا طاعته و اجتنبوا معصيته (5)مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ الدنيوي، أو الاخروي بإتيان الموت بَغْتَةً و غفلة وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ لوقت مجيئه حتى تتداركوا و تتأهّبوا له،

و إنّما امرتكم بما ذكرت كراهة أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ حين نزول العذاب تحسّرا و استغاثة بها على ما هو دأب المتحسرين: يا حَسْرَتى و يا أسفاه عَلى ما فَرَّطْتُ و قصّرت فِي جَنْبِ اَللّهِ و ناحيته على تجاوزي عن الحدّ في عدم رعاية حقوقه، و عدم سلوك طريقه وَ إِنْ كُنْتُ في الدنيا و قد عددت فيها لَمِنَ اَلسّاخِرِينَ

ص: 389


1- . الكافي 8:35/5، تفسير الصافي 4:225.
2- . المحاسن:147/56، تفسير الصافي 4:225.
3- . تفسير الرازي 27:5، تفسير روح البيان 8:126.
4- . مجمع البيان 8:785، عن عبد اللّه.
5- . تفسير روح البيان 8:128.

و المستهزئين بدينه و برسوله و كتابه، و لم اكتف بترك طاعتهما أَوْ تَقُولَ نفس: لَوْ أَنَّ اَللّهَ هَدانِي و أرشدني إلى الحقّ لَكُنْتُ في الدنيا مِنَ اَلْمُتَّقِينَ عن الشّرك و المعاصي.

روي أنّه ما من أحد من أهل النار يدخل النار حتى يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أنّ اللّه هداني لكنت من المتّقين، فيكون عليه حسرة (1).

أَوْ تَقُولَ نفس تمنّيا حِينَ تَرَى اَلْعَذابَ عيانا و مشاهدة: لَوْ أَنَّ لِي الآن كَرَّةً و رجوعا إلى الدنيا فَأَكُونَ فيها مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ الصالحين في العقيدة و العمل. قيل: إنّ كلمة (أو) الدالة على الترديد، لها دلالة على أنّ كل نفس من الكفّار لا تخلو عن هذه الأقوال تحيّرا و تعللا ما لا طائل تحته، أو ندما حين لا ينفع (2).

و قيل: إنّها تتحسّر بالتفريط عند تطاير الكتب، ثمّ تتعلّل بفقد الهداية عند مشاهدة المتّقين و اغتباطهم، بتمنّي الرجعة عند الاطّلاع على النار و رؤية العذاب (3). و قيل: إنّ كلّ قول يكون لقوم (4).

ثمّ لمّا كان في القول الثاني إنكار الهداية من اللّه و نفيها، ردّها اللّه تعالى بقوله بَلى قد هديتك، فانّه قَدْ جاءَتْكَ آياتِي التي أنزلتها لهداية الناس مع دلائل الصدق بتوسّط رسولي فَكَذَّبْتَ بِها و أنكرت أنّها كلامي عنادا و لجاجا وَ اِسْتَكْبَرْتَ من قبولها و اتّباعها، و تعظّمت عن الايمان بها وَ كُنْتَ مِنَ اَلْكافِرِينَ لنعمي، و المضيّعين لحقوقي عليك من إرسال الرسول إنزال الكتاب بعد إعطائك العقل و الحواسّ و سائر القوى.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 60 الی 61

ثمّ لمّا حكى سبحانه كذب المشركين على اللّه بقولهم: إنّ اللّه ما هدانا، هدّد الكاذبين على اللّه بقوله: وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ تَرَى يا محمد، أو يأمن من شأنه الرؤية الكفّار اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللّهِ و نسبوا إليه ما لا يليق به من أخذه الشريك، أو أختياره الصاحبة و الولد، أو تركه هداية الناس و نحوها وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ و مظلمة لسواد قلوبهم و ظلمتها بسبب الكفر و الجهل.

وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ تَرَى اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَ يُنَجِّي اَللّهُ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ اَلسُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)و يحتمل أن يكون المراد بسواد الوجه الفضيحة بين الناس و الذلّة، كما يقال: الفقر سواد الوجه.

ص: 390


1- . تفسير روح البيان 8:129.
2- . تفسير روح البيان 8:129.
3- . تفسير روح البيان 8:130.
4- . تفسير روح البيان 8:129.

و يقال للكاذب: ثبت كذبك، و أسوّد وجهك.

ثمّ بيّن كمال استحقاقهم الخلود في جهنّم بقوله تبارك و تعالى: أَ لَيْسَ أيّها العقلاء فِي جَهَنَّمَ يوم القيامة مَثْوىً و مأوى أبديا لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الايمان باللّه و برسوله و إطاعته و اتّباع آياته.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «إن في جهنم لواد للمتكبرين يقال لها سقر، شكا إلى اللّه من شدّة حرّه، و سأله أن يتنّفس، فأذن له فتنفّس، فأحرق جهنّم (1).

اقول: على هذه الرواية يكون المراد من الآية أنّ في جهنم مثوى خاصا للمتكبرين أسوأ من مثوى غيرهم.

ثمّ إنّه تعالى بعد وعيده للمشركين وعد المتّقين من الشرك و الكذب بقوله تعالى: وَ يُنَجِّي اَللّهُ يوم القيامة المؤمنين اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا الشرك و الكذب على اللّه من جهنّم و عذابها مقرونين بِمَفازَتِهِمْ و نجاحهم بأعلى المطالب و هو الجنّة و نعمها.

و قيل: إنّ باء (بمفازة) سببية و المعنى أنّ اللّه ينجّى المتقين من العذاب (2)بسبب سعادتهم و فوزهم في الدنيا بالطاعات و الخيرات.

ثمّ كأنّه قيل: كيف ينجيّهم؟ فقال سبحانه: لا يَمَسُّهُمُ و لا يصيبهم اَلسُّوءُ و المكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من نعم الدنيا و لا يغمّم الفزع الأكبر.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ إنّه تعالى بعد شرح الوعد و الوعيد، بيّن كمال قدرته الدالّ على توحيده، و على إنجازهما بقوله: اَللّهُ وحده خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الممكنات وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الموجودات وَكِيلٌ و قيّم و وليّ، يتصرف فيه كيف يشاء، و متكفّل بمصالح عباده،

و الكافي لهم في جميع امورهم لَهُ وحده مَقالِيدُ خزائن اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مفاتيحها، لا يتصرّف فيها غيره، و يعطي منها ما يشاء لمن يشاء.

اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (63)قيل: إنّ خزائن السماوات المطر، و خزائن الأرض النبات (3).

ص: 391


1- . تفسير القمي 2:251، تفسير الصافي 4:327.
2- . تفسير أبي السعود 7:261.
3- . تفسير روح البيان 8:132.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن تفسير مقاليد السماوات و الأرض، فقال: «تفسيرها لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر، و سبحان اللّه و بحمده، و أستغفر اللّه، و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه العليّ العظيم، هو الأول و الآخر، و الظاهر و الباطن، بيده الخير، يحيي و يميت، و هو على كلّ شيء قدير» (1).

أقول: على هذه الرواية يكون معنى الآية له هذه الكلمات، و هي مفاتيح جميع الخيرات، فمن قالها أصاب خير الدنيا و الآخرة.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ربح المؤمن في سوق تجارة الدنيا، ذكر خسران الكفار بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ التنزيلية و التكوينية الآفاقية و الأنفسية الدالة على توحيد اللّه في ذاته و صفاته الجلالية و الجمالية أُولئِكَ البعيدون عن ساحة رحمة اللّه هُمُ اَلْخاسِرُونَ خسرانا لا خسارة ورائه، لأنّهم سدّوا على أنفسهم أبواب رحمته و لطفه، و فتحوا عليها أبواب سخطه و عذابه.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 64 الی 65

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أنّ ذاته المقدسة خالق كلّ شيء، و مدبّر امور عالم الوجود، و معطي الخيرات و مانعها، أمر نبيّه و حبيبه صلّى اللّه عليه و آله بالانكار على من توقّع منه عبادة غيره، و إظهار التعجّب من طمعهم بقوله: قُلْ يا محمد، في جواب من يتوقع منك الايمان بالأصنام، و يسأل منك الإقدام بعبادتها: أَ فَغَيْرَ اَللّهِ قيل: إنّ التقدير أبعد مشاهدة آيات قدرة اللّه (2)و حكمته و وحدانيته، و معرفتي إياه بجميع الصفات الكمالية، فغير اللّه من المخلوقات التي أنا أفضل و أكمل من جميعها تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ و تسألوني أن أقول بألوهيتها، و تقولون أن أستلمها.

قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجاهِلُونَ (64) وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (65)قيل: كانوا يقولون: يا محمد، استلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك (3). أَيُّهَا اَلْجاهِلُونَ بحكم العقل و العقلاء، فانّ من الواضح أنّ العقل حاكم بقبح عبادة الجماد الذي لا يضرّ و لا ينفع، و ترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ خير و شرّ و نفع و ضرّ.

ثمّ إنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوبيخ المشركين على طمعهم في إشراكه و إظهار أنه عين الجهل و الحمق، بالغ سبحانه في قطع طمعهم فيه، بتهديد حبيبه عليه بقوله: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ، يا محمد، من قبلنا وَ إِلَى الأنبياء اَلَّذِينَ جاءوا مِنْ قَبْلِكَ و كان ما اوحي إليك و إلى كلّ واحد منهم،

ص: 392


1- . تفسير الرازي 27:11، تفسير البيضاوي 2:330، تفسير أبي السعود 7:261، تفسير روح البيان 8:132.
2- . تفسير روح البيان 8:132.
3- . تفسير الرازي 27:12، تفسير أبي السعود 7:262.

هو أنّه و اللّه و لَئِنْ أَشْرَكْتَ بي على فرض المحال لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ و ليبطلنّ سعيك، و إن كنت أحبّ الخلق إليّ، و أكرمهم عليّ وَ اللّه لَتَكُونَنَّ البتّة مِنَ اَلْخاسِرِينَ في صفقتك، و فيه إيذان بغاية شناعة الشرك و قبحه، و كونه عبث ينهى عنه من يستحيل منه فضلا عن غيره.

و قيل: إنّ المخاطب هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد امّته (1).

و عن ابن عباس: هذا أدب لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و تهديده لغيره، لأنّ اللّه عصمة من الشرك و مداهنة الكفّار (2).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «تفسيرها لئن أمرت بولاية أحد مع لاية عليّ عليه السّلام من بعدك ليحبطنّ عملك، و لتكوننّ من الخاسرين» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني إن اشرك (4)في الولاية غيره» الخبر (5).

أقول: هذه الروايات تأويل للآية.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد التوحيد بقوله: بَلِ اَللّهَ وحده فَاعْبُدْ و قيل: إنّ التقدير لا تعبد ما آمرك المشركون بعبادته، بل إن عبدت شيئا فاعبد اللّه (6)وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ لنعمة هدايتك إلى توحيده و معرفته و عبادته بتقوية عقلك و نصب الأدلّة القاطعة و الوحي إليك.

بَلِ اَللّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (66) وَ ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ اَلسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (67)عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه بعث نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأياك أعني و اسمعي يا جارة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: بَلِ اَللّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ يعني بل اللّه فاعبد بالطاعة، و كن من الشاكرين أن عضدتك بأخيك و ابن عمّك» (7).

ثمّ إنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوصيف المشركين له بالشرك و الجهل، فسّر جهلهم بقوله: وَ ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ ما عرفوه حقّ معرفته، و اعظموه بما يليق بعظمته، حيث جعلوا له من مخلوقاته شركاء، و ساووه مع الجمادات التي لا شعور لها و لا قدرة على شيء، و الحال أنّه اَلْأَرْضُ بطبقاتها الظاهرة و الباطنة، و أجزائها الكبيرة و الصغيرة جَمِيعاً وكّلا قَبْضَتُهُ و في

ص: 393


1- . تفسير القمي 2:251، تفسير الصافي 4:328.
2- . تفسير روح البيان 8:133.
3- . تفسير القمي 2:251، تفسير الصافي 4:328.
4- . في الكافي: أشركت.
5- . الكافي 1:353/76، تفسير الصافي 4:328.
6- . تفسير روح البيان 8:133.
7- . تفسير القمي 2:251، إلى نهاية الآية، تفسير الصافي 4:328.

يد قدرته، و تحت تصرّفه يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يقلّبها مع غاية عظمتها، كما يقلّب الانسان حصاة أو خاتما في كفّه وَ اَلسَّماواتُ السبع مع سعتها و غاية ضخامتها مَطْوِيّاتٌ و مدرجات و ملفوفات كلفّ الثياب بِيَمِينِهِ و قدرته.

عن ابن عباس، قال: ما السماوات السبع و الأرضون السبع في يد اللّه إلاّ كخردلة في يد أحدكم (1).

عن الصادق عليه السّلام: «قبضته يعني ملكه، لا يملكها معه احد. . .» قال: «اليمين: اليد، و اليد: القدرة و القوة مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ يعني بقدرته و قوته» (2).

ثمّ إنه تعالى بعد بيان عظمته و سلطانه و قدرته، نزّه ذاته المقدّسة عن الشريك بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى و ترفّع عَمّا يُشْرِكُونَ من الشركاء و الأصنام.

عن ابن عباس و ابن مسعود: أنّ حبرا من اليهود أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا محمد، أشعرت أنّ اللّه يضع يوم القيامة السماوات على إصبع، و الجبال على إصبع، و الأرضين على إصبع، و الماء و الثرى و الأشجار على إصبع، و جميع الخلائق على إصبع، ثمّ يهزّهنّ و يقول: أنا الملك، و أين الملوك؟ فضحك رسول اللّه تعجبّا منه، و تصديقا له، فانزل اللّه [هذه الآية]» (3).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 68 الی 70

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار عظمته قدرته بقوله: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ نفخة واحدة فَصَعِقَ و فزع و مات مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الحيوانات إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ أن لا يصعق، قيل: هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، أو هم و حملة العرش، فانّهم لا يموتون عند النفخة الاولى (4). و قيل: هم الحور و الغلمان و خزنة الجنة و النار» (5).

وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سأل جبرئيل عن هذه الآية: «من الذين لم يشأ اللّه أن يصعقهم؟» قال: «هم الشهداء يتقلّدون أسيافهم حول العرش» (6).

ص: 394


1- . تفسير روح البيان 8:135.
2- . التوحيد:161/2، تفسير الصافي 4:329.
3- . تفسير الرازي 27:15، تفسير روح البيان 8:134.
4- . تفسير أبي السعود 7:263، تفسير روح البيان 8:137.
5- . تفسير روح البيان 8:137.
6- . تفسير الرازي 27:18، تفسير روح البيان 8:138.

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أهل الاستثناء محمّد و أهل بيته عليهم السّلام و أهل المعرفة» (1).

أقول: هذان الخبران مبنيّان على أنّ المراد بالصّعق أعمّ من الموت و الغشوة، كما نسب ذلك إلى بعض المحققين (2)، فالأحياء يموتون بالنفخة، و الأرواح الذين ذاقوا الموت يغشى عليهم، و عند ذلك يقول اللّه تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ، مع أنّه لا بعد في كون محمد و آله أهل الاستثناء، لأنّهم بوجه هو، كما روي أنّهم قالوا: «إنّ مع اللّه حالات، نحن هو، و هو نحن» (3).

ثُمَّ بعد أربعين سنة على رواية (4)نُفِخَ فِيهِ النفخة ال أُخْرى و هي نفخة الإحياء فَإِذا هُمْ قِيامٌ و ناهضون من قبورهم على أرجلهم، أو واقفون من شدّة الحيرة في مكانهم حال كونهم يَنْظُرُونَ إلى الأطراف و الجوانب كالمبهوتين، أو إلى السماء كيف غيّرت و طويت، إلى الأرض كيف بدّلت، و إلى الداعي كيف يدعوهم إلى الموقف، أو إلى الآباء و الامّهات و الأولاد كيف ذهبت شفقتهم و اشتغلوا بأنفسهم، أو إلى خصمائهم ما ذا يفعلون بهم.

و قيل: يعني ينتظرون ما يفعل بهم (5).

في بيان كيفية

الصور، و النفخ فيه،

و المدّة الكائنة بين

النفختين

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أوّل من ينشقّ عنه القبر» (6).

و عن السجاد عليه السّلام أنّه سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: «ما شاء اللّه» .

قيل: أخبرني يابن رسول اللّه كيف ينفخ فيه فقال: «أما النفخة الاولى» فانّ اللّه يأمر إسرافيل، فيهبط إلى الدنيا، و معه الصّور، و للصّور رأس واحد و طرفان، و بين رأس كل طرف منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض، و إذا رأت الملائكة إسرافيل قد هبط إلى الدنيا و معه الصّور قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، و في موت أهل السماء.

قال: فيهبط إسرافيل بحظيرة بيت المقدس، و هو مستقبل الكعبة، فاذا رأوه أهل الأرض قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، فينفخ فيه نفخة، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض، فلا يبقى في الارض ذو روح إلاّ صعق و مات، و يخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماء، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ صعق و مات إلاّ إسرافيل، فيقول اللّه لإسرافيل: مت فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، ثمّ يأمر السماوات فتمور، و يأمر الجبال فتسير، و هو قوله تعالى: يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّماءُ مَوْراً* وَ تَسِيرُ اَلْجِبالُ سَيْراً (5).

ص: 395


1- . تفسير روح البيان 8:138.
2- . تفسير روح البيان 8:137.
3- . لم نعثر عليه.
4- . تفسير الرازي 27:18. (5 و 6) . تفسير روح البيان 8:138.
5- . الطور:52/9 و 10.

إلى أن قال: «فينفخ الجبار نفخة اخرى في الصّور، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماوات، فلا يبقى في السماوات أحد إلاّ حي و قام كما كان، و يعود حملة العرش، و تحضر الجنة و النار، و يحشر الخلائق للحساب» (1).

قال الغزالي: اختلف الناس في أمد المدة الكائنة بين النفختين، فاستقرّ جمهورهم على أنّها أربعون سنة. قال: و حدثني من لا أشكّ في علمه: أنّ أمد ذلك لا يعلمه إلاّ اللّه، لأنّه من أسرار الربوبية، فاذا أراد اللّه إحياء الخلق يفتح خزانة من خزائن العرش، فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض-فاذا هو كمنيّ الرجال-بعد أن كانت عطشى، فتحيى و تهتزّ، و لا يزال المطر عليها حتى يعمّها، و يكون الماء فوقها أربعين ذراعا، فإذا الأجسام تنبت من عجب الذّنب (2)، و هو أول ما يخلق من الانسان، بدأ منه و منه يعود، و هو عظم على قدر الحمّصة، و ليس له مخّ، فاذا نبت كما ينبت البقل، تشتبك بعضها في بعض، فإذا رأس هذا في منكب هذا، و يد هذا في جنب هذا، أو فخذ هذا على حجر هذا لكثرة البشر، الصبىّ صبيّ، و الكهل كهل، و الشيخ شيخ، و الشاب شابّ، ثمّ تهبّ ريح من تحت العرش فيها نار، فتنسف ذلك عن الأرض، و تبقى الأرض بارزة مستوية، كأنّها صحيفة واحدة، ثمّ يحيي اللّه إسرافيل، فينفخ في الصّور من صخرة بيت المقدس، فتخرج الأرواح لها دويّ كدويّ النحل، فتملأ الخافقين، ثمّ تذهب كلّ نفس إلى جثّتها بإعلام اللّه تعالى حتى الوحش و الطير و كلّ ذي روح، فاذا الكلّ قيام ينظرون (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا اراد اللّه أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا، فتجمع الاوصال، و تنبت اللحوم» (4).

وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ و أضاءت بِنُورِ رَبِّها و الذي خلقه لإضاءة العرصة.

و قيل: إنّ المراد بالنور عدل ربّهم، و إنّما استعير له النور لأنّه يزيّن البقاع، و يظهر الحقوق، كما يسمّى الظّلم ظلمة (5).

و في الحديث: «الظّلم ظلمات يوم القيامة» (6).

و قيل: إنّ هذا من المكتوم الذي لا يفسّر (7).

عن الصادق عليه السّلام قال: «ربّ الأرض إمام الأرض» . قيل: إذا خرج يكون ما ذا؟ قال: «إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس و القمر، و يجتزون بنور الإمام» (8).

ص: 396


1- . تفسير القمي 2:252، تفسير الصافي 4:230.
2- . أي أصله عند رأس العصعص.
3- . تفسير روح البيان 8:139.
4- . تفسير القمي 2:253، تفسير الصافي 4:330.
5- . تفسير روح البيان 8:140.
6- . تفسير الرازي 27:19، تفسير أبي السعود 7:263.
7- . تفسير روح البيان 8:140.
8- . تفسير القمي 2:253، تفسير الصافي 4:331.

و عنه عليه السّلام: «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها، و استغنى العباد عن ضوء الشمس، و ذهبته الظّلمة» (1).

وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ و صحائف الأعمال في أيدي الناس.

قيل: هو كناية عن الشروع في حساب أعمال الناس، كما يضع المحاسب دفتر المحاسبة بين يديه عند الشروع في الحساب (2).

و قيل: إنّه اللّوح المحفوظ الذي فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى القيامة (3).

وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَداءِ الذين استشهدوا نصرة للدين، فاذا دعي النبيّون و الشهداء الذين هم أفضل الناس للحساب، فكيف يكون حال الامم.

و قيل: إنّ المراد بالشهداء الشهود على الامم من الملائكة و الأولياء (4).

القمي: الشهداء الأئمۀ و الدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الحجّ: لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا أنتم يا معشر الأئمّة شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ (5).

وَ قُضِيَ بين الناس و حكم بَيْنَهُمْ في ذلك اليوم بِالْحَقِّ و العدل؛ ثمّ بعد إثبات العدل نفي الظلم على العباد بقوله: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب عمّا وعد، و زيادة العقاب على ما أوعد.

ثمّ أكّد ذلك سبحانه بقوله: وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس و اعطيت كاملا جزاء ما عَمِلَتْ من الخير و الشرّ.

ثمّ لمّا كان إيفاء الحقّ متوقّفا على العلم الكامل بأعمال العباد و مقاديرها و كيفياتها، بيّن علمه بها مضافا إلى كونها مثبوتة في الكتاب بقوله: وَ هُوَ تعالى أَعْلَمُ من غيره حتى من العامل بِما كانوا في الدنيا يَفْعَلُونَ فيمتنع منه الخطأ في الحكم.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 71 الی 72

ثمّ بيّن سبحانه ما يحكم به يوم القيامة في حقّ الكفّار و المتقّين بقوله: وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذابِ عَلَى اَلْكافِرِينَ (71) قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ (72)

ص: 397


1- . إرشاد المفيد 2:381، تفسير الصافي 4:331.
2- . تفسير روح البيان 8:140.
3- . تفسير الرازي 27:20.
4- . تفسير روح البيان 8:140.
5- . تفسير القمي 2:253، تفسير الصافي 4:231.

و يذهب به بالعنف و الدفع إِلى جَهَنَّمَ بأمره بعد الحساب، و الحكم عليهم باستحقاق العقاب حال كونهم زُمَراً و جماعات و أفواجا متفرّقة بعضها في أثر بعض على حسب ترتّب طبقاتهم في الكفر و الشرارة حَتّى إِذا جاؤُها بالاكراه (1)و الاضطرار و فُتِحَتْ بأمر مالك خازن جهنّم أَبْوابُها السبعة ليدخلوها.

قيل: فائدة إغلاقها إلى وقت مجيئهم تهويل شأنها، كما هي حال المسجون، و إيقاد حرّها (2).

وَ قالَ لَهُمْ، تقريعا و توبيخا الملائكة الذين هم خَزَنَتُها و حفّاظها: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيّها الكفرة في الدنيا رُسُلٌ مِنْكُمْ و أنبياء من جنسكم، ليسهل عليكم مراجعتهم و فهم كلامهم، و هم يَتْلُونَ و يقرأون عَلَيْكُمْ و يؤدّون إليكم آياتِ رَبِّكُمْ التي أنزلت لهدايتكم وَ يُنْذِرُونَكُمْ و يخوّفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا و شدائده و أهواله؟

قالُوا للخزنة: بَلى قد أتونا، و تلوا علينا، و أنذرونا وَ لكِنْ ما اعتنينا بهم، و لذا حَقَّتْ و وجبت كَلِمَةُ اَلْعَذابِ و وعده من اللّه عَلَى اَلْكافِرِينَ الذين نحن منهم.

فلمّا اعترفوا باستحقاقهم للعذاب قِيلَ لهم: اُدْخُلُوا قهرا و قسرا أَبْوابَ جَهَنَّمَ حال كونكم خالِدِينَ فِيها ملازمين لعذابها، بحيث لا تنفكّون منه أبدا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ و ساء مأوى المستنكفين عن الايمان و طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله تعظّما، هذا المنزل و المأوى، و فيه دلالة على أنّه مع وفور آيات الحقّ و تمامية الحجّة، لم يكن لهم مانع عن الايمان به إلاّ التكبّر على الرسل، و التعظّم عن تبعيّتهم. قيل: إنّه إيهام القائل لتهويل المقول (3).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 73 الی 75

ثمّ ذكر سبحانه حسن حال المتقين بقوله تعالى: وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا و احترزوا من الاشراك به، و يذهب بهم الملائكة باسراع و إعزاز و إكرام بلا تعب و لا نصب ليوصلونهم إِلَى اَلْجَنَّةِ و دار

وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ (74) وَ تَرَى اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (75)

ص: 398


1- . في النسخة: بلا إكراه.
2- . تفسير روح البيان 8:142.
3- . تفسير روح البيان 8:142.

الراحة و الكرامة في أسرع وقت حال كونهم زُمَراً و جماعات متفاوتين حسب تفاوتهم في الإيمان و العبادة و المعرفة و الفضل، و تحمّل المشاقّ، و الصبر على المكاره و الشدائد، و حبّ الرسول و آله حَتّى إِذا جاؤُها و قد وَ فُتِحَتْ قبل وصولهم إليها أَبْوابُها الثمانية، فيدخلوها بلا توقّف عندها و رؤية وصب الانتظار لفتحها.

قيل: إنّ جواب (إذا) قوله: (فتحت) و زيادة الواو للايذان بكونها مفتّحة قبل مجيئهم، و لا ينافي ذلك (1)ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أوّل من يستفتح باب الجنة» (2). و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أول من يقرع باب الجنّة» (3)لإمكان أن يريد اللّه أن يعلم الناس بأنّه صلّى اللّه عليه و آله كما فتح عليكم في الدنيا أبواب المعرفة و العبادة و تكميل النفس و تهذيب الأخلاق، فتح له في الآخره أبواب الجنة و الرحمة و النّعم الدائمة، فيصير ببركته مفتوحا لهم قبل وصولهم إليه.

و قال عليه السّلام: «الجنّة محرّمة على جميع الامم حتى أدخلها أنا و امّتي الأوّل فالأول» (4).

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها الرضوان و اتباعه عن الملائكة الذين هم سدنة الجنة و حين استقبالهم إياهم دخلوهم فيها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أيّها المتّقون، و أمان لكم من كلّ آفة و مكروه طِبْتُمْ نفسا، أو نظفتم منا الاقذار الظاهرية و الباطنية، و صلحتم لدخول الجنة، إذن فَادْخُلُوها حال كونكم خالِدِينَ و مقيمين فيها أبدا لا خروج لكم منها.

عن الصادق، عن أبيه، عن جدّه، عن علي عليهم السّلام قال: «إنّ للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون و الصدّيقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا، فلا أزال واقفا على الصراط أدعوا و أقول: ربّ شيعتي و محبّي و أنصاري و أوليائي و من تولاني في دار الدنيا. فاذا النداء من بطنان العرش: قد أجبت دعوتك، و شفعت في شيعتك، و ليشفّع كلّ رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و لم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت» (5).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «أحسنوا الظّن باللّه، و اعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب، عرض كلّ باب منها مسيرة أربعة سنين» (6).

و في رواية عامية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «إنّ للجنة لثمانية أبواب، ما منها بابان إلاّ بينهما سير الراكب

ص: 399


1- . تفسير روح البيان 8:145.
2- . تفسير روح البيان 8:144.
3- . تفسير روح البيان 8:144.
4- . تفسير روح البيان 8:144.
5- . الخصال:407/6، تفسير الصافي 4:332.
6- . الخصال:408/7، تفسير الصافي 4:332.

سبعين عاما، و ما بين كلّ مصراعين من مصارع الجنّة مسيرة سبع سنين» (1).

و في رواية: «كما بين مكة و بصرى» (2).

و تحيّة الملائكة لهم بالسلام حين الدخول، و تحيّتهم من اللّه بالسلام بقوله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ إنّما هو بعد استقرارهم فيها. و قيل: إنّ سلام الملائكة لعوامّهم، و سلام اللّه لخواصّهم (1).

وَ قالُوا أولئك المتقون بعد دخولهم في الجنّة و نيلهم بنعمها العظام: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث و الثواب على الايمان الأعمال على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله: وَ أَوْرَثَنَا هذه اَلْأَرْضَ التي جعلها مقرّا لأوليائه-و قد مرّ تفسير التوريث في قوله تبارك و تعالى: أُولئِكَ هُمُ اَلْوارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ (2)- نَتَبَوَّأُ و نتمكّن مِنَ اَلْجَنَّةِ التي أعطانا و خصّنا بها حَيْثُ نَشاءُ و في أيّ مكان نريد. روي أنّ امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله تدخل أولا الجنّة، فتنزل حيث تشاء منها، ثمّ يدخل سائر الامم (3)فَنِعْمَ الأجر أَجْرُ العابدين اَلْعامِلِينَ له و هو الجنّة و نعمها.

ثمّ لمّا حكى اللّه سبحانه حمد المتقين إياه في الجنّة، حكى استغراق أقرب الملائكة إليه في التحميد و التسبيح له بقوله تعالى: وَ تَرَى يا محمّد اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ و محدقين مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ و جوانبه يُسَبِّحُونَ اللّه و ينزّهونه عمّا لا يليق به، حال كونهم مقرنين تسبيحه بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تلذّذا به وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بإقامة كلّ في مقامه اللائق به حسب التفاضل بينهم بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة.

و قيل: إنّه بيان خاتمة القسمة بالقضاء بين الخلق بالحقّ بادخال أهل الجنّة في الجنّة، و إدخال أهل النار في النار (4).

وَ قِيلَ: و القائل الملائكة على التفسير الأول، و المتقون على الثاني: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ على قضائه بالحقّ بين عباده.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الزّمر استخفاها (5)من لسانه، أعطاه اللّه شرف الدنيا و الآخرة، و أعزّه بلا مال و لا عشيرة حتى يهابه من يراه، و حرّم جسده على النار، و بنى له في الجنّة ألف مدينة، في كلّ مدينة ألف قصر، و في قصر مائة حوراء، و له مع هذا عينان تجريان، و عينان نضّاختان، و جنّتان مدهامّتان، و من كلّ فاكهة زوجان» (6).

الحمد للّه على توفيقه لاتمام السورة المباركة الشريفة.

ص: 400


1- . تفسير روح البيان 8:145.
2- . المؤمنون:23/10 و 11.
3- . تفسير روح البيان 8:147.
4- . تفسير روح البيان 8:148.
5- . في ثواب الاعمال: استحقها، و في تفسير الصافي: استخفافا.
6- . ثواب الاعمال:112، مجمع البيان 8:760، تفسير الصافي 4:333.

في تفسير سورة غافر

سوره 40 (غافر): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة الزّمر المبدوءة ببيان عظمة القرآن، و الأمر باخلاص الدين للّه، و الحكم بخسران المكذّبين بآيات اللّه و استحقاقهم للعذاب، و المختتمة ببيان أهوال القيامة، و قضاء اللّه فيه بالحقّ، و حكاية حمد الملائكة الحافّين حول العرش، نظمت سورة المؤمن البدوءة أيضا ببيان عظمة القرآن و تهديد المكذبين بالآيات، و بيان استحقاقهم للنار، و حكاية تحميد الملائكة الحاملين للعرش و المحيطين به، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة، فبابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله تعالى:

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (2) غافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقابِ ذِي اَلطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ (3)

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله: حم و قد مرّ أنّ الحرفين رمزان من اسمين من الأسماء الحسنى.

عن الصادق عليه السّلام: «معناه الحميد المجيد» (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه اسم من أسمائه تعالى» (2).

و قيل: إنّه اسم للسورة، و عليه هو مبتدأ و خبره قوله: تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ (3).

و إنزال هذا القرآن مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ القادر على كلّ شيء اَلْعَلِيمِ بكلّ شيء فبقدرته رتّبه من الحروف المتداولة على نحو عجز العاملون عن الاتيان بمثله، و بعلمه جعله حاويا للعلوم الكثيرة التي لا يحوي عشرها الكتب السماوية.

و قيل: إنّ العزيز بمعنى الذي لا مثل (4)له في حسن البيان و النّظم و الاسلوب، بحيث لا يدانيه كتاب

ص: 401


1- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:334.
2- . تفسير روح البيان 8:149.
3- . تفسير الرازي 27:26.
4- . تفسير الرازي 27:26، تفسير روح البيان 8:150.

سماويّ فضلا عن غيره، و يمكن كون النّكتة في توصيف ذاته هنا بالوصفين، التنبيه على قدرته على إثابة المؤمنين به العاملين بما فيه، و تعذيب المكذبين المعرضين عنه، و على علمه بأحوال العباد من الكفر و الايمان و الطاعة و العصيان.

ثمّ أعلن سبحانه بسعة رحمته و شدّة قهره و عذابه بقوله: غافِرِ اَلذَّنْبِ و ساتره حتى عن المذنب و إن لم يتب وَ قابِلِ اَلتَّوْبِ العذر من الذنب و العصيان، عاف عمّا يتب منه، و إن كان أكبر الكبائر. ثمّ أعلن بشدّة قهره و عذابه بقوله: شَدِيدِ اَلْعِقابِ على المشركين و العصاة.

ثمّ لمّا كانت رحمته سابقة على غضبه، عاد إلى ذكر كرمه بقوله: ذِي اَلطَّوْلِ و الفضل و الاحسان على جميع الخلق في الدنيا و على المؤمنين في الآخرة، فاذا كان ذاته المقدّسة بتلك الصفات الجليلة، ثبت أنه لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا مستحّق للعبادة في عالم الوجود إلاّ ذاته، فإذن فاعبدوه

و لا تعبدوا غيره، و اعلموا أنه إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ و المنقلب بعد خروجكم من الدنيا، فيجازيكم على عبادتكم إياه، يعاقبكم على عبادتكم غيره.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كون القرآن نازلا منه، ذمّ الكفّار الذين جادلوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيه و نسبوه إلى السحر أو الشعر أو الكهانة بقوله تعالى: ما يُجادِلُ و لا ينازع فِي آياتِ اَللّهِ المنزلة بالطعن فيها إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بها لجاجا و عنادا، و اصرّوا على محق الحقّ و تشييد الباطل، فاذا علمت يا محمد أنّهم كفار مطرودون عن ساحة الرحمة و مستحقّون للعذاب فَلا يَغْرُرْكَ و لا يوقفك في توهّم سلامتهم من عذابي إمهالهم و تَقَلُّبُهُمْ و تصرّفهم فِي اَلْبِلادِ كالشام و اليمن للتجارة و كسب المعاش و جمع الأموال، فانّي و إن امهلهم و لكن سآخذهم و أنتقم منهم، كما أخذت أمثالهم من الامم الماضية، فانّ تكذيب الرسول، و المجادلة في الآيات، ليس من خصائص قومك،

ص: 402

بالعذاب عقوبة على كفرهم و همّهم بالرسل فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ربّك الذي عاقبهم به بعد ما رأيت آثاره من خراب الديار و محو الآثار عبرة للنظّار، ألم يكن مهلكا مستأصلا لهم؟

ما يُجادِلُ فِي آياتِ اَللّهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)

سوره 40 (غافر): آیه شماره 6 الی 9

ثمّ وعد سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بأخذه قومه كما أخذ اولئك الامم بقوله: وَ كَذلِكَ العذاب الذي حقّ و ثبت على اولئك الامم حَقَّتْ و وجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ و وعده بالعذاب عَلَى قومك اَلَّذِينَ كَفَرُوا بربّهم، و تحّزبوا عليك، و جادلوك بالباطل لأجل أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلنّارِ و مستحقّوها أشدّ الاستحقاق.

وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلنّارِ (1) اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ اَلسَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ اَلسَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (9)و قيل: إنّ المراد مثل وجوب العذاب الدنيوي على الامم السابقة، وجبت كلمة ربّك على اولئك الكفرة، و هي كونهم أصحاب النار في الآخرة (2).

ثمّ لمّا حكى سبحانه شدّة استنكاف المشركين عن التوحيد، و عداوتهم للموحّدين، بيّن رأفة الملائكة بالموحّدين، و شفقتهم عليهم من أن يبتلوا بعذاب النار، و رحمتهم عليهم بقوله: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ و الجسم المحيط بعالم الوجود، منه ينزل قضاء اللّه و قدره، و اولئك الحملة في الدنيا أربعة على قول (3)، و ثمانية على آخر (4)، و في الآخرة ثمانية بالاتّفاق (5)وَ مَنْ حَوْلَهُ و في جوانبه من الملائكة المكرمين. قيل: هم سبعون ألف صفّ من مائة ألف صفّ، قد وضعوا أيمانهم على شمائلهم (6)يُسَبِّحُونَ اللّه و ينزّهونه من كلّ ما لا يليق بشأنه الجليل مقرنين تسبيحهم بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على نعمائه التي لا تتناهى. قيل: كلّ يسبّح بما لا يسبّح به الآخر (6)وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ إيمانا حقيقا بحالهم و مقامهم، و إنّما صرّح بايمانهم مع كفاية تسبيحهم و تحميدهم عنه، إظهارا لفضيلة الايمان

ص: 403


1- . تفسير روح البيان 8:156.
2- . تفسير الرازي 27:30.
3- . تفسير روح البيان 8:155.
4- . تفسير الرازي 27:31.
5- . تفسير الرازي 27:31، تفسير روح البيان 8:155.
6- . تفسير روح البيان 8:156.

و شرف أهله، و تنبيها على أنّ اللّه تعالى لا يكون حاضرا في العرش مشاهدا لهم، بل هم كغيرهم مؤمنون به و ممدوحون بايمانهم به، و لو كانوا مشاهدين إيّاه لم يمدحوا بايمانهم وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا من البشر شفقة عليهم. قيل: كمال السعادة في تعظيم اللّه و الشّفقة على خلق اللّه (1).

عن الرضا عليه السّلام: «للذين آمنوا بولايتنا» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ للّه ملائكة يسقطون عن ظهور شيعتنا الذنوب، كما يسقط الريح الورق في أوان سقوطه، و ذلك قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ» الآية (3).

و يقولون: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ و أحطت بكلّ شيء رَحْمَةً وَ عِلْماً قيل: يعني ملأ كلّ شيء نعمتك و علمك (4)، فإذا كنت واسع الرحمة فَاغْفِرْ برحمتك لِلَّذِينَ تابُوا و ندموا من الشرك و العصيان، وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ و عملوا بدينك و أحكامك و ما فيه رضاك وَ قِهِمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ و احفظهم منه، و هو تأكيد لطلب المغفرة التي بها النجاة من العذاب،

و يقولون بعد طلبهم النجاة من العذاب للمؤمنين رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ و بساتين إقامة، أو بساتين اسمها جنّات عدن اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ على لسان أنبيائك على الايمان بك وَ أدخل معهم مَنْ صَلَحَ لدخول الجنة مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ ليتمّ سرورهم، و يتضاعف ابتهاجهم إِنَّكَ أَنْتَ بالخصوص اَلْعَزِيزُ و القادر على إنجاز وعدك و إجابة دعاء كلّ داع اَلْحَكِيمُ الذي يمتنع منه خلف الوعد الذي هو من القبائح.

عن سعيد بن جبير، قال: يدخل المؤمن الجنّة فيقول: أين أبي، أين ولدي، أين زوجي؟ فيقال لهم: إنّهم لم يعملوا مثل عملك. فيقول: إنّي كنت أعمل لي و لهم؟ فيقال: أدخلوهم الجنة (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المسلمين أن أخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، فينادى: أن امضوا إلى الجنّة» (6)الخبر.

وَ قِهِمُ يا ربّ اَلسَّيِّئاتِ وَ احفظهم من جميع مكاره القيامة و أهوالها مَنْ تَقِ اَلسَّيِّئاتِ و تحفظه منها يَوْمَئِذٍ و في ذلك اليوم العظيم الشديد الأهوال فَقَدْ رَحِمْتَهُ و تفضّلت عليه غاية الرحمة و التفضّل.

قيل: إنّ المراد بالسيئات المعاصي في الدنيا، و المعنى: و قهم المعاصي في الدنيا، و من تقيه من

ص: 404


1- . تفسير روح البيان 8:157.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:262/22، تفسير الصافي 4:235.
3- . الكافي 8:304/470، تفسير الصافي 4:235.
4- . تفسير روح البيان 8:157.
5- . تفسير روح البيان 8:158.
6- . تفسير روح البيان 8:158.

المعاصي فيها فقد رحمته في الآخرة (1). وَ ذلِكَ المذكور من الوقاية و الرحمة هُوَ فقط اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و الظّفر بأعلى المقاصد، أو أهمّ المطالب الذي ليس وراءه مطمع لطامع.

القمي رحمه اللّه، قال في تأويل الآية: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأوصياء عليهم السّلام من بعده، يحملون علم اللّه عزّ و جلّ وَ مَنْ حَوْلَهُ يعني الملائكة وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يعني شيعة آل محمد صلّى اللّه عليه و آله لِلَّذِينَ تابُوا يعني من ولاية فلان و فلان و بني امية وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي ولاية وليّ اللّه وَ مَنْ صَلَحَ يعني تولّى عليا عليه السّلام، و ذلك صلاحهم فَقَدْ رَحِمْتَهُ يعني يوم القيامة وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ لمن نجّاه اللّه من ولاية فلان و فلان (2).

و روى الكلينى رحمه اللّه: «أنّ اللّه تعالى أعطى النائبين ثلاث خصال، لو اعطي كلّ خصلة منها أهل السماوات و الأرض لنجوا بها» ثمّ تلا الآية (3).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 10 الی 12

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان رأفة الملائكة المقرّبين بالمؤمنين، و دعائهم في حقّهم، حكى سبحانه غضبهم على الكافرين و نداءهم إيّاهم بما فيه توبيخهم و تقريعهم و تهويلهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بآيات اللّه و رسله و الدار الآخرة يُنادَوْنَ يوم القيامة بعد دخولهم في جهنّم و مقتهم و غيظهم على أنفسهم الأمّارة بالسوء، و المنادي الملائكة الذين هم خزنة جهنّم: أيّها الكفرة و اللّه لَمَقْتُ اَللّهِ و سخطه عليكم في الدنيا أَكْبَرُ و أشدّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ و سخطكم عليكم في هذا اليوم، و إنّما كان مقت اللّه و سخطه عليكم إِذْ تُدْعَوْنَ و حين تنادون من جهة الأنبياء إِلَى اَلْإِيمانِ بتوحيد اللّه و رسالة رسله فَتَكْفُرُونَ و تأبون من إجابتهم استكبارا عليهم و اتّباعا لهوى أنفسكم.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اَللّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى اَلْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اَللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ (12)قيل: إنّ كلمة (إذا) متعلّقة باذكروا المقدّر (4).

ثمّ حكى سبحانه عنهم الاعتراف بالذنب و استحقاقهم العذاب بقوله: قالُوا حين تقريع خزنة

ص: 405


1- . تفسير روح البيان 8:159.
2- . تفسير القمي 2:255، تفسير الصافي 4:235.
3- . الكافي 2:315/5، تفسير الصافي 4:336.
4- . تفسير روح البيان 8:160.

جهنّم إياهم رَبَّنا إنّا شاهدنا أنّك أَمَتَّنَا إماتتين اِثْنَتَيْنِ إحداهما حين انقضاء آجالنا في الدنيا، و الاخرى بعد إحيائنا في القبور لسؤال منكر و نكير وَ أَحْيَيْتَنَا احياءتين اِثْنَتَيْنِ إحداهما في القبور للسؤال و التعذيب، و الاخرى في القيامة، و كنّا ننكر جميعها.

و عن الصادق عليه السّلام: «ذلك في الرجعة» (1).

فَاعْتَرَفْنا لمّا شاهدناها بِذُنُوبِنا التي منها تكذيب الأنبياء، و إنكار الحياة بعد الموت، و دار الآخرة، و الثواب و العقاب فَهَلْ بعد اعترافنا هذا إِلى خُرُوجٍ سريع أو بطيء من النار، أو مِنْ هذه الدار إلى دار الدنيا و العمل سَبِيلٍ و طريق فنسلكه و نخلص من العذاب، أو نعمل غير الذي كنّا نعمل؟ فيقال لهم: لا سبيل إلى ذلك

ذلِكُمْ العذاب الذي أنتم فيه و ابتليتم به معلّل بِأَنَّهُ كان حالكم في الدنيا أنّه إِذا دُعِيَ اَللّهُ و ذكر، أو عبد وَحْدَهُ و بلا شريك و منزّها عنه كَفَرْتُمْ بتوحيده، و اشمأزّت منه قلوبكم وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ و يجعل له ندّ أو ولد تُؤْمِنُوا بالإشراك به، و لو رجعتم إلى الدنيا ثانيا فَالْحُكْمُ بأنّه لا غفران للمشرك و لا نجاة له من النار لِلّهِ الحاكم بالحقّ اَلْعَلِيِّ من أن يكون له شريك، المتعالي من أخذ الندّ و الصاحبة و الولد، و من خلف الوعد، الحكيم اَلْكَبِيرِ الذي ليس كمثله شيء.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 13 الی 15

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين بالعقوبة، أعلن بلطفه و منّته على الناس بنصب الأدلّة القاطعة على توحيده المحيى للقلوب، و بإنزال المطر الموجب لحياة الأبدان، ترغيبا لهم إلى الايمان به بقوله تعالى: هُوَ اللّه وحده اللطيف اَلَّذِي يُرِيكُمْ بلطفه آياتِهِ الدالة على وحدانيته و كمال ذاته و صفاته، و ليحيى بالتفكّر فيها قلوبكم وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ الأمطار النافعة ليوجد بها رِزْقاً و معاشا، فيحيي به أبدانكم وَ ما يَتَذَكَّرُ و ما يتنبّه بتلك الآيات، و ما يتّعظ بها إِلاّ مَنْ يُنِيبُ و يرجع إلى ربّه بالتفكّر فيها، فيعرف نعمه الظاهرة و الباطنة،

فاذا كان الأمر كذلك فَادْعُوا اَللّهَ و أعبدوه أيّها المؤمنون حال كونكم مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ و مخصّصين به العبادة و الدعاء وَ لَوْ كَرِهَ توحيدكم و إخلاصكم اَلْكافِرُونَ فانّه لا ينبغي أن يصدّكم عن التوحيد و الاخلاص له

هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ اَلدَّرَجاتِ ذُو اَلْعَرْشِ يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاقِ (15)

ص: 406


1- . تفسير القمي 2:256، تفسير الصافي 4:336.

غيظهم و غضبهم عليكم، لكونهم فيكم رفيعي المنزلة و عالي المقام،

فانّ اللّه تعالى رَفِيعُ اَلدَّرَجاتِ في الكمال، و أعلى الموجودات في صفات الجمال و الجلال.

قيل: إن الموجودات من العقل و النفس الكلّيين و الطبيعة الكلّية و العرش و الكرسي و السماوات و الكرات و الحيوانات و النباتات و المعادن، كلّها [من]الدرجات و المراتب الرحمانية، التي هو تعالى أعلى و أرفع من جميعها (1).

و قيل: إن المراد رافع درجات الأنبياء و العلماء و الأولياء و المؤمنين في الجنّة (2)، أو رافع درجة كلّ موجود من الموجودات في العالم، حيث إنّ للأنبياء درجة، و لكلّ من الملائكة درجة، و لكلّ من العلماء درجة، و لكلّ من الأجسام درجة، و لكلّ فرد من الانسان درجة في العلم و الرزق و الأجل و السعادة و الشقاوة (3). و الحاصل أنّ لكلّ شيء يكون له فضيلة و منقبة، فهو بايجاده تعالى و إعطائه.

و هو تعالى ذُو اَلْعَرْشِ العظيم، الذي له على ما قيل أربعمائة ركن، ما بين كلّ ركن إلى ركن أربعمائة ألف سنة، و هو فوق جميع الموجودات من الكرسيّ و السماوات، خلقه سبحانه إظهارا لعظمته و قدرته، لا مكانا لذاته، و جعله محلّ نزول بركاته و رحمته، و مطافا لملائكته، و قبلة لدعائه، و معراجا لخاتم أنبيائه، و ظلّة يوم الحشر لأوليائه (4).

و قيل: إنّ المراد من العرش هنا الملك العظيم، ذكره إظهارا لهيبته، و نفاذ قدرته، و استيلائه على جميع مخلوقاته (5).

و هو سبحانه يُلْقِي و ينزل اَلرُّوحَ و الوحي الذي به حياة القلوب، أو الملك المسمّى بالروح، و هو الخاصّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام على رواية القمي (6)، أو المسمى بجبرئيل كما عن بعض (7)، حال كون إنزاله ناشئا مِنْ أَمْرِهِ تعالى و إرادته عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ المصطفين للرسالة و تبليغ الوحي لِيُنْذِرَ ذلك الرسول الموحى إليه الناس يَوْمَ اَلتَّلاقِ و الحشر الذي تتلاقى فيه الأرواح و الأبدان، أو الأولون و الآخرون، أو أهل السماوات و أهل الأرض، كما عن الصادق عليه السّلام (8)، أو العاملون و الأعمال، أو الظالمونن و المظلومون، أو أهل النار و الزبانية، و يخوّفهم من أهواله و شدائده.

ص: 407


1- . تفسير روح البيان 8:165.
2- . تفسير روح البيان 8:164.
3- . تفسير روح البيان 8:164، تفسير الرازي 27:43.
4- . تفسير روح البيان 8:165.
5- . تفسير روح البيان 8:166.
6- . تفسير القمي 2:256، تفسير الصافي 4:337.
7- . تفسير روح البيان 8:166.
8- . تفسير القمي 2:256، معاني الأخبار:156/1، تفسير الصافي 4:337.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 16

ثمّ عرّف سبحانه ذلك ببيان ما فيه من الأهوال و الشدائد بقوله: يَوْمَ يحشر الناس و هُمْ بارِزُونَ و ظاهرون، و لا يسترهم جبل و لا أكمة و لا بناء، لكون الأرض مستوية، و لا ثياب لكونهم عراة، كما في الحديث: «يحشرون حفاة عراة، أو المراد هم بارزون و خارجون من قبورهم (1).

يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اَللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ (16)و قيل: بروزهم كناية عن ظهور أعمالهم و أسرارهم (2).

لا يَخْفى عَلَى اَللّهِ مِنْهُمْ مع كثرتهم شَيْءٌ من أعيانهم و أعمالهم الجليّة و الخفية السابقة و اللاحقة، فينادي مناد حين ظهورهم و ظهور أعمالهم: يا أهل المحشر لِمَنِ اَلْمُلْكُ و السّلطنة المطلقة اَلْيَوْمَ ثمّ يقول ذلك المنادي على قول (3)، أو أهل المحشر على قول (4)، أو اللّه تعالى على قول (5): الملك اليوم لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ.

قيل: يقول المؤمنون ذلك تلذّذا حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، و يقوله الكفّار تحسّرا و ندامة على فوت هذا الذّكر منهم في الدنيا (6).

و قيل: إنّ المجيب هو إدريس النبيّ، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (7)، و في رواية قال: «و يقول اللّه: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ثمّ تنطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون: لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ» (8).

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث إماتة اللّه أهل الأرض و أهل السماء و الملائكة-قال: «ثمّ لبث مثل ما خلق اللّه الخلق، و مثل ذلك كلّه، و أضعاف ذلك، ثمّ يقول اللّه تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ؟ ثمّ يردّ على نفسه: للّه الواحد القهار. أين الجبّارون، أين الذين ادّعوا معي إلها آخر، أين التكبّرون و نخوتهمّ ثمّ يبعث الخلق» (9)الخبر.

قيل: إنّما خصّ النداء بيوم القيامة مع أنّ ملك الوجود له تعالى من الأزل إلى الأبد، و أنّه قاهر الممكنات تحت إرادته من بدو الخلق إلى آخر الدهر، و نداء لِمَنِ اَلْمُلْكُ منه تعالى باق في المعنى في الدنيا و الآخرة؛ لأنّ الدنيا دار الأسباب، و لو لا الأسباب لما ارتاب المرتاب، و في القيامة

ص: 408


1- . تفسير روح البيان 8:167.
2- . تفسير الرازي 27:45.
3- . تفسير روح البيان 8:167.
4- . تفسير روح البيان 8:167.
5- . تفسير الرازي 27:47.
6- . تفسير الرازي 27:46.
7- . تفسير روح البيان 8:167، و لم نسبه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.
8- . التوحيد:23/1، تفسير الصافي 4:337.
9- . تفسير القمي 2:256 و 257، تفسير الصافي 4:337.

تزول الأسباب، و تنعزل الارباب، و لا يبقى غير حكم مسبّب الأسباب (1).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ أعلن سبحانه بعدله في المجازات بقوله: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من النفوس بِما كَسَبَتْ و عملت في الدنيا خيرا أو شرا لا ظُلْمَ اَلْيَوْمَ بوجه من الوجوه على أحد، لا بزيادة العقاب، و لا بنقص الثواب إِنَّ اَللّهَ تعالى مع كثرة الخلق سَرِيعُ اَلْحِسابِ بحيث يحاسب جميعهم في أقرب زمان، إذ لا يشغله شأن عن شأن.

اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اَلْيَوْمَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (17) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْآزِفَةِ إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ (18)عن ابن عباس رضى اللّه عنه: إذا أخذ اللّه في حسابهم، لم يقل أهل الجنّة إلاّ فيها، و لا أهل النار إلاّ فيها (2).

ثمّ بالغ سبحانه في تخويف الكفّار من أهوال القيامة بقوله: وَ أَنْذِرْهُمْ يا محمّد يَوْمَ القيامة اَلْآزِفَةِ و القريبة الوقوع؛ لأنّ كلّ آت قريب إِذِ اَلْقُلُوبُ فيه ترتفع من مكانها من شدّة الخوف و الفزع و تقف لَدَى اَلْحَناجِرِ و تلتصق بالحلقوم، فلا تعود فيتنفّسوا أو يستروحوا، و لا تخرج فيموتوا، قيل: تنتفح الرّئة من الفزع، فيرتفع القلب إلى الحنجرة (3)، حال كون أصحاب القلوب كاظِمِينَ و حابسين غيظهم في أنفسهم بالصبر، و ساكتين حال امتلائهم بالغمّ و الكرب، و عاجزين عن إظهارهما و النّطق بهما من شدّة غلبتهما عليهم، و عظم اضطرابهم من أهوال ذلك اليوم، و رؤية العذاب المعدّ لهم و ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم في الدنيا بالكفر و الطغيان ما به نجاتهم منه مِنْ حَمِيمٍ و قريب مشفق يدفع عنهم العذاب ببذل النفس و المال وَ لا لهم في ذلك اليوم من شَفِيعٍ يشفع لهم و يُطاعُ في شفاعته، و يقبل قولهم و التماسهم النجاة لهم. و فيه ردّ على المشركين الزاعمين أنّ الأصنام شفعائهم عند اللّه، و يقبل شفاعتهم البتة.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر أعظم موجبات الخوف، بيّن علمه بجميع أعمال العباد و ذنوبهم، بحيث لا

يَعْلَمُ خائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي اَلصُّدُورُ (19) وَ اَللّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (20)

ص: 409


1- . تفسير الرازي 27:47 قطعة منه.
2- . تفسير روح البيان 8:169.
3- . تفسير روح البيان 8:170.

يخفى عن علمه مثقال ذرّة بقوله: يَعْلَمُ اللّه خائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ و استراق النظر إلى ما لا يحلّ، مع كونه أخفى أعمال الجوارح، فكيف بغيره وَ يعلم ما تُخْفِي اَلصُّدُورُ و تضمره القلوب من الخطرات و النيّات السوء، و العقائد الفاسدة، و حبّ الأصنام و المعاصي،

و بغض التوحيد و الاخلاص و أهلهما وَ اَللّهُ الحكيم يَقْضِي و يحكم في عباده بِالْحَقِّ و العدل في كلّ ما دقّ و جلّ، و لا يغمض عنه بالهوى و الرّشاء. و فيه أعظم التخويف و التهويل.

ثمّ قطع رجاء المشركين من أصنامهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون هؤلاء المشركون مِنْ دُونِهِ تعالى، و ممّا سواه من الأصنام و غيرها لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ فكيف يرجون شفاعتهم؟ ! إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لمقالات المشركين من ثناء آلهتهم و طعنهم في التوحيد و اَلْبَصِيرُ الذي يبصر خضوعهم لها و عبادتهم إياها.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ إنّه تعالى بعد الابلاغ في تخويف المشركين بأهوال القيامة و عذابها، هدّدهم بعذاب الدنيا بقوله: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا و لم يسافروا للتجارة و غيرها فِي اَلْأَرْضِ التي تكون فيها طريقهم إلى الشام و اليمن فَيَنْظُرُوا بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الامم اَلَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، و مآل أمر القرون السابقة عليهم من الأحزاب المكذّبة للرسل، المهلكة بسبب شركهم و معارضتهم للحقّ، كعاد و ثمود و قوم لوط كانُوا هُمْ في عصرهم أعظم جثة من هؤلاء المشركين و أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أكثر آثاراً و أحكمها فِي اَلْأَرْضِ كالقلاع الحصينة، و القصور الرفيعة، و المدن المتينة فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ و عاقبهم بِذُنُوبِهِمْ و أهلكهم بمعاصيهم من الكفر و تكذيب الرسل وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ مِنْ واقٍ و حافظ يقيهم و يحفظهم

ذلِكَ الأخذ و العذاب إنّما كان معلّلا بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ من قبل اللّه رُسُلُهُمْ مستدلّين على صدقهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، أو مصاحبين للأحكام الظاهرات فَكَفَرُوا بها و كذّبوا الرسل و عارضوهم فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ أخذا شديدا عاجلا، و أهلكهم إهلاكا فظيعا إِنَّهُ تعالى قَوِيٌّ و قادر على إنفاذ إرادته شَدِيدُ اَلْعِقابِ على من كفر و عصاه.

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي اَلْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (22)

ص: 410

سوره 40 (غافر): آیه شماره 23 الی 27

ثمّ ذكر سبحانه من الرسل الذين أتوا قومهم بالبينات موسى بن عمران عليه السّلام، الذي كان عظيم الشأن، كثير المعجزات تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بن عمران عليه السّلام متمسّكا و مستدلا على صدقه في دعوى الرسالة و التوحيد بِآياتِنا الباهرات و المعجزات الظاهرات وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة عقلية واضحة.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ (24) فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اُقْتُلُوا أَبْناءَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اِسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ اَلْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (25) وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسادَ (26) وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسابِ (27)

و قيل: إنّ المراد به معجزة العصا خصّها بالذكر مع كونها من جملة الآيات تفخيما لشأنها (1)إِلى فِرْعَوْنَ سلطان مصر وَ هامانَ وزيره وَ قارُونَ الاسرائيلي الذي ارتدّ بعد إيمانه بموسى و حفظه التوراة، و أتباعهم من القبط و غيرهم، فدعاهم إلى الإيمان بالتوحيد و رسالته، و أظهر لهم المعجزات فَقالُوا عنادا و لجاجا: هو ساحِرٌ يظهر خوارق العادة بالسّحر كَذّابٌ في دعوى توحيد الإله و رسالة نفسه من قبله، و إنّما أتى بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة لتكرّر الدعوة منه، و لم يبالغوا في نسبة السحر إليه لعدم تكرّره منه، و لزعمهم أنّ سحرتهم أسحر منه، و لذا قالوا في حقّهم: سحّار عليم.

ثمّ بيّن سبحانه شدّة عناد القوم له بقوله: فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ و أظهر لهم المعجزات التي كانت له مِنْ عِنْدِنا و بأقدارنا قالُوا أيّها القبط: اُقْتُلُوا أَبْناءَ بني إسرائيل اَلَّذِينَ آمَنُوا بموسى و يكونون مَعَهُ في الايمان بالتوحيد، لئلا ينشأوا على دين موسى و يعينوه عليه وَ اِسْتَحْيُوا و أبقوا نِساءَهُمْ و بناتهم ليخدمنكم، كما تفعلون ذلك من قبل وَ ما كَيْدُ هؤلاء اَلْكافِرِينَ و مكرهم و سوء صنيعهم إِلاّ فِي ضَلالٍ و ضياع و بطلان، لا يفوزون به إلى مقصودهم، و لا يمنعون به عن نفوذ إرادة اللّه و جريان قضائه. و قيل: يعني ما كيدهم إلاّ في ازدياد ضلالهم (2).

وَ قالَ فِرْعَوْنُ لملئه ذَرُونِي و دعوني أَقْتُلْ مُوسى وَ خلّوه لْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يدّعي أنّه

ص: 411


1- . تفسير روح البيان 8:173.
2- . تفسير روح البيان 8:174.

أرسله حتى يخلّصه من القتل، فانّي أرى صلاح مملكتي في قتله إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله من أَنْ يُبَدِّلَ و يغيّر دِينَكُمْ الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام أَوْ أَنْ يفسد ديناكم و يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ التي تسكنونها، و المملكة التي تعيشون فيها اَلْفَسادَ و لا اختلاف بأن يجتمع عليه قومه، فيقع القتال و الخصومات، و تثار (1)الفتن.

قيل: إنّ ملأ فرعون كانوا يمنعونه من قتل موسى، و يقولون: لا تقتله إنّه ساحر ضعيف، لا يمكنه أن يغلب سحرتك، و إن قتلته دخلت الشّبهة على الناس، و قالوا: إنّه كان محقّا، و هم عجزوا عن جوابه (2).

و قيل: إنّه لم يمنعه أحد من قتله، و أوهم اللعين أنّهم كفّوه عن قتله، و لولاهم لقتله، و ما منعه عنه إلاّ ما في نفسه من الفزع الهائل العاجل إن همّ بقتله، لعلمه بنبوته (3).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن (4)هذه الآية: ما منعه؟ قال: «منعته رشدته، و لا يقتل الأنبياء و لا أولاد الأنبياء إلاّ أولاد الزّنا» (5).

وَ قالَ مُوسى لقومه بعد ما سمع حديث قتله: يا قوم إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ و التجأت إليه، و امتنع بحصنه المنيع مِنْ شرّ كُلِّ شخص مُتَكَبِّرٍ و متعظّم عن التسليم للّه و لرسوله، و الايمان بهما و لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسابِ فانّ المتكبّر المؤمن بالمعاد قد يرتدع من المعاصي العظام، لخوف المعاد، بخلاف المتكبر غير المؤمن فانّه لا يبالي من شيء، و إنّما لم يسمّ فرعون لتعميم الاستعاذة، و للتنبيه على علّة القساوة و الجرأة على اللّه، و لرعاية حقّ التربية التي كانت لفرعون عليه.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 28 الی 33

وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اَللّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ اَلرَّشادِ (29) وَ قالَ اَلَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

ص: 412


1- . في النسخة: و تثير.
2- . تفسير الرازي 27:54، تفسير روح البيان 8:174.
3- . تفسير روح البيان 8:175.
4- . في النسخة: في.
5- . علل الشرائع:57/1، تفسير الصافي 4:339.

فلمّا استعاذ موسى بربّه من شرّ فرعون، و انتشر همّه بقتل موسى، حكى سبحانه دفعه القتل عنه ببعث رجل يردّ عنه بقوله تعالى: وَ قالَ إذن رَجُلٌ كامل في صفات الرجولية مُؤْمِنٌ باللّه و بموسى في نفسه، كائن مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و أقاربه. قيل: كان ابن عمّه، يقال له شمعان (1). و قيل: جبر (2). و قيل: حبيب و هو النجّار الذي عمل التابوت الذي وضعت فيه امّ موسى و ألقته (1)في البحر (2). و قيل: حزقيل (3)بن نوحائيل (6). و قيل: حزقيل (7).

ذكر سبّاق الامم

فانّه روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «سبّاق الامم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين: حزقيل: مؤمن آل فرعون، و حبيب النجّار صاحب يس، و علي بن أبي طالب عليه السّلام، و هو أفضلهم (4).

و على أيّ حال كان يَكْتُمُ إِيمانَهُ باللّه و بموسى و يستره من فرعون و قومه، لكون قوله مقبولا عندهم، و كان إيمانه بعد بعثه موسى، و قيل: قبله بمائة سنة (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقيه له، و التقية ترس المؤمن (6)، فانّ مؤمن آل فرعون لو أظهر إيمانه (7)لقتل» (8).

يا قوم أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً لأجل أَنْ يَقُولَ أو كراهة قوله: رَبِّيَ اَللّهُ الذي خلقني و خلق السماوات و الأرض و ما بينهما لا غيره، وَ الحال أنّه قَدْ جاءَكُمْ و أتاكم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الظاهرات مِنْ رَبِّكُمْ و خالقكم اللطيف بكم.

ثمّ إنّه بعد القطع بكون موسى نبيا بالبينات و المعجزات، احتجّ على قبح قتله باحتمال الضرر في قتله بقوله: وَ إِنْ يَكُ موسى كاذِباً في دعواه فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ و وبال افترائه و ضرره، لا يتعدّى إلى غيره تحتاج في دفعه إلى قتله وَ إِنْ يَكُ صادِقاً فيما يدّعيه من التوحيد و الوعد بالعذاب على إنكاره و مخالفة قوله، فكذّبتموه و قصدتموه بسوء يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ به ان لم يصبكم

ص: 413


1- . في النسخة: و ألقاه.
2- . تفسير روح البيان 8:176.
3- . في النسخة: خربيل. (6 و 7) . تفسير روح البيان 8:176.
4- . تفسير روح البيان 8:176.
5- . تفسير روح البيان 8:176.
6- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: ترس اللّه في الأرض.
7- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: الإسلام.
8- . مجمع البيان 8:810، تفسير الصافي 4:340.

كلّه، فانّ في إصابتكم البعض كفاية في هلاككم.

و قيل: ان البعض هنا بعنى الكلّ، أو المراد من البعض العذاب الدنيوي، الذي هو بعض ما يعدهم؛ لأنّه كان يعدهم بالعذاب الدنيوي و الاخروي (1).

إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يوصل إلى الخير و المقصود مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ و متجاوز عن الحدّ في العصيان، و من هو كَذّابٌ على اللّه و كثير الافتراء عليه. قيل: هو احتجاج آخر عليهم، و المراد أنّه لو كان مسرفا كذّابا لما هداه اللّه إلى المعجزات القاهرة التي أظهرها لكم، أو المراد أنّه لو كان كذلك خذله اللّه و أهلكه، فلا حاجة إلى قتله (2).

ثمّ قال المؤمن: يا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ و السّلطنة اَلْيَوْمَ حال كونكم ظاهِرِينَ و غاليين على بني إسرائيل، أو على سائر الناس فِي هذه اَلْأَرْضِ و تلك المملكة، و هي مملكة مصر، لا يقاومكم في هذا الوقت أحد، و مع ذلك الاقتدار الذي يكون لكم فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اَللّهِ و أخذه، و من يدفع عنّا عذابه إِنْ جاءَنا فلا تتعرّضوا لقتله بعد ما علمتم أنّه إن جاءنا لا يمنعنا منه أحد، و إنّما نسب ما يسترهم من الملك و الغلبة إليهم لتطيب قلوبهم، و أدخل نفسه فيهم في الابتلاء بالعذاب ليؤذن بأنّه ناصح لهم، سارع في دفع ما يرديهم كسعيه في نفسه، ليقبلوا نصحه قالَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع نصح المؤمن: يا قوم ما أَراكُمْ و ما اشير عليكم إِلاّ ما أَرى و أعتقد صلاحه، و هو قتله، لتنحسم مادة الفساد و الفتنة وَ ما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي، و ما أرشدكم إِلاّ سَبِيلَ اَلرَّشادِ و الصواب.

قيل: كان كاذبا في إظهار الجلادة، لأنّه كان في غاية الخوف من موسى، و لولاه لما استشار في قتله أحدا (1).

في نصائح مؤمن آل

فرعون

وَ قالَ: الرجل اَلَّذِي آمَنَ من آل فرعون نصحا لقومه: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من أن ترون يوما يكون مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزابِ السالفة و الامم الماضية و الطوائف المختلفة المهلكة بالعذاب على تكذيب الرسل في الأزمنة السابقة، أعني

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ و حالهم وَ قوم عادٍ وَ قوم ثَمُودَ حيث أهلكوا بالطّوفان و الريح الصّرصر و الصّيحة وَ حال اَلَّذِينَ كانوا مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط و أضرابهم، و إنّما كان هلاكهم باستحقاقهم له وَ مَا اَللّهُ الحكيم العادل يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ بأن يعذّبهم قبل إتمام الحجّة، أو بغير ذنب.

ثمّ لمّا رأى إصرار فرعون على قتل موسى بقوله: ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى أظهر إيمانه بموسى،

ص: 414


1- . تفسير أبي السعود 7:275، تفسير روح البيان 8:179.

و خوّفهم أولا بعذاب الدنيا، ثمّ خوّفهم بعذاب الآخرة، بقوله: وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من عذاب اللّه تعالى يَوْمَ اَلتَّنادِ و التصايح بالويل و الثّبور، أو يوم ينادي بعضكم بعضا للاستغاثة كقولهم: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا (1)أو ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، و أصحاب النار أصحاب الجنّة،

و على أي تقدير المراد يوم القيامة، أعني يَوْمَ تُوَلُّونَ و تردّون من موقف الحساب حال كونكم مُدْبِرِينَ و منصرفين عنه إلى النار، أو فارين من النار، و الحال أنّه ما لَكُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ و بأسه مِنْ عاصِمٍ و حافظ يعصمكم و يحفظكم منه، فان قبلتم نصحى فقد هديتم إلى خيركم، و إن لم تقبلوه فقد أضلّكم اللّه و خذلكم وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى ما فيه رشده و صلاحه.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ بيّن المؤمن غاية ضلالهم و اتّباعهم الهوى بقوله: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يا أهل مصر يُوسُفُ بن يعقوب، و قيل: يعني يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب (2)مِنْ قَبْلُ بالرسالة من قبل اللّه مستدلا على دعوته إلى التوحيد و الرسالة بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الظاهرات القاهرات فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ و ترديد مِمّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين الحقّ و دمتم عليه حَتّى إِذا هَلَكَ و مات قُلْتُمْ تشهيّا و تكذيبا للرسل الذين بعده أيضا: لَنْ يَبْعَثَ اَللّهُ أبدا مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً قيل: إنّ مقصودهم أنّه لمّا لم نطع يوسف لن يجرأ أحد على دعوى الرسالة بعده (3)كَذلِكَ الضلال الفظيع يُضِلُّ اَللّهُ و يحرف عن طريق الحقّ بخذلانه مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ و متجاوز عن الحدّ في العصيان مُرْتابٌ و شاكّ في رسالة الرسل و معجزاتهم، لغلبة الهوى و عدم التفكّر في العواقب.

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اَللّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اَللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اَللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اَللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (35)

ثمّ عرّف المسرف المرتاب بقوله: اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ و ينازعون المؤمنين فِي آياتِ توحيد اَللّهِ و يطعنون فيها بِغَيْرِ سُلْطانٍ و حجّة و برهان أَتاهُمْ من قبل اللّه يصحّ التمسّك به كَبُرَ و عظم الجدال في آيات اللّه مَقْتاً و من جهة البغض و النفور عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ اَلَّذِينَ آمَنُوا

ص: 415


1- . الأعراف:7/53. (2 و 3) . تفسير روح البيان 8:181.

عن ابن عباس: يمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال (1)، و ليس هذا الجدال إلاّ من طبع القلب و كَذلِكَ الطبع الفظيع يَطْبَعُ اَللّهُ و يختم عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عن أتباع الرسل، أو قبول الحقّ جَبّارٍ و متعال على الناس بغير حقّ، أو ظالم عليهم.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 36 الی 38

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تكبّر فرعون و تجبّره، بيّن غاية حمقه و جهله بقوله: وَ قالَ فِرْعَوْنُ لوزيره هامان عتوّا و استكبارا و حمقا: يا هامانُ قيل: إنّ اللعين في أثناء مواعظ حزقيل (2)أراد قطع كلامه خوفا من أن يؤثّر في القلوب، فدعا هامان، و قال له (3): اِبْنِ لِي صَرْحاً و بناء عاليا مشيدا بالآجر لَعَلِّي بالصعود عليه أَبْلُغُ اَلْأَسْبابَ و أصل إلى الطّرق الموصلة إلى مقصودي،

أعنى أَسْبابَ اَلسَّماواتِ و طرقها من سماء إلى سماء عن ابن عباس، قال: منازلها (4)فَأَطَّلِعَ و استعلى عليه لانظر إِلى إِلهِ مُوسى لأنّه يمتنع العلم بصدق موسى إلاّ برؤية إلهه وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ في دعوى أنّه مرسل من قبله كاذِباً فاشتغل هامان ببنائه، كما مر في سورة القصص (5).

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ اَلسَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبابٍ (37) وَ قالَ اَلَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشادِ (38)و قيل: إنّه قال ذلك تمويها (6). و قيل: إنّه لم يرد بناء الصرح، لعلم كلّ عاقل بانّه يمتنع بناء صرح يتمكّن بالصعود عليه من دخول السماوات، بل كان مقصوده بيان امتناع رؤية إلهه، فلا يمكن العلم بوجوده (7).

و قيل: إنّ اللّه أعماه و خلاّه نفسه، ليتفرّغ لبناء الصّرح، ليرى منه آية اخرى له، و يتأكّد استحقاقه العقوبة بذلك (8)، كما أشار إليه تعالى بقوله: وَ كَذلِكَ التزيين البليغ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ و شنيع فعله، فانهمك فيه انهماكا لا يرعوي عنه وَ صُدَّ و منع عَنِ سلوك اَلسَّبِيلِ المنتهي إلى الخير و الصّلاح وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ و مكره ببناء الصرّح، و سعيه في إبطال الآيات إِلاّ فِي تَبابٍ و خسار و هلاك.

ص: 416


1- . تفسير روح البيان 8:181.
2- . في تفسير روح البيان: خربيل.
3- . تفسير روح البيان 8:183.
4- . مجمع البيان 8/815.
5- . القصص:28/38.
6- . تفسير روح البيان 8:183.
7- . تفسير الرازي 27:65، تفسير روح البيان 8:183.
8- . تفسير روح البيان 8:183.

ثمّ حكى سبحانه دعوة المؤمن إلى دين موسى بقوله: وَ قالَ الرجل اَلَّذِي آمَنَ بموسى نصحا لقومه: يا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ و اسمعوا قولي أَهْدِكُمْ و أرشدكم سَبِيلَ اَلرَّشادِ و طريقا يوصل سالكه إلى مصالح الدين و الدنيا، و لا تتّبعوا فرعون فانّه يسلك بكم سبيل الغيّ و الضلال.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 39 الی 42

ثمّ لمّا كان أقوى الصوارف عن اتّباع الحقّ حبّ الدنيا، بدأ بذمّها بقوله: يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و لذّاتها مَتاعٌ قليل و انتفاع يسير، يزول بأسرع وقت وَ إِنَّ دار اَلْآخِرَةَ بالخصوص هِيَ دارُ اَلْقَرارِ و البقاء، لخلودها و دوام ما فيها، فعليكم بالاعراض عن الدنيا، و الاقبال إلى الآخرة و العمل لها،

فانّه مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً في الدنيا فَلا يُجْزى في الآخرة إِلاّ مِثْلَها عدلا من اللّه سبحانه وَ مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً مرضيا عند اللّه، أيّ عمل كان مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و برسله و اليوم الآخر، فانّ قبول الأعمال مشروط بالايمان فَأُولئِكَ المؤمنون العاملون يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ في الآخرة جزاء لايمانهم و أعمالهم و يُرْزَقُونَ فِيها و يتنعّمون بِغَيْرِ حِسابٍ و بلا تقدير و تقتير و موازنة بالعمل، بل أضعافا مضاعفة فضلا من اللّه.

يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دارُ اَلْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلنَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى اَلنّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلْعَزِيزِ اَلْغَفّارِ (42)

ثمّ بالغ المؤمن في إظهار الشّفقة على قومه، و إيقاظهم من سنة الغفلة بتكرير ندائهم بقوله: وَ يا قَوْمِ ما لِي و العجب منّي و منكم حيث إنّي أَدْعُوكُمْ إِلَى سبب اَلنَّجاةِ من النار وَ تَدْعُونَنِي أنتم إِلَى سبب الدخول في اَلنّارِ ثمّ بين السببين بقوله:

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللّهِ و أنكر وجوده مع دلالة الآثار و الادلة القاطعة على وجوده و قدرته و حكمته، أو أقرّ به وَ أُشْرِكَ بِهِ في الوهيّته ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ و لم يقم على شركته له دليل قاطع. و هو سبب الدخول في النار وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الايمان بالإله اَلْعَزِيزِ القادر على كلّ شيء، و على الانتقام ممّن أنكره، أو اشرك به اَلْغَفّارِ لمن تاب عن العقائد الفاسدة و عصيانه، و رجع إليه بالايمان و الطاعة، و هو سبب النجاة، فلا ييأس الذين اصرّوا على الكفر و الطغيان مدّة مديدة من رحمته و إحسانه، فانّه يغفر كفر مائة سنة بايمان لحظة.

ص: 417

سوره 40 (غافر): آیه شماره 43 الی 45

ثمّ بالغ في إبطال الشرك بقوله: لا جَرَمَ قيل: هي كلمة مستقلّة في إثبات ما بعدها (1)أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ و تتوقّعون منّي عبادته من الأصنام لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي اَلدُّنْيا إلى عبادته بإرسال الرسول و إنزال الكتاب و النّطق و البيان، لأنّها جماد وَ لا فِي اَلْآخِرَةِ بل يتبرأ ممّن عبده.

لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لا فِي اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اَللّهِ وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ اَلنّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اَللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذابِ (45)قيل: إنّ المعنى حقّ و ثبت أنّ إلهكم ليس له استجابة دعوة عابدية في الدنيا بالبقاء و الصحّة و الغناء و غيرها، و لا في الآخرة بالنجاة (2)و رفعة الدرجات و نحوها، فكيف يكون مع غاية العجز، ربّا؟ ! أو المراد ليس له دعوة مستجابة.

وَ ثبت أَنَّ مَرَدَّنا و مرجعنا بعد الموت و الخروج من الدنيا إِلَى اَللّهِ وحده، فيجازينا على أعمالنا في الدنيا وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ و المتجاوزين عن حدود العقل بالاشراك و الظلم على الناس هُمْ بالخصوص أَصْحابُ اَلنّارِ و ملازموها يعذّبون فيها أبدا.

ثمّ قيل: لمّا خوّفه القوم بالقتل خوّفهم بقوله (3): فَسَتَذْكُرُونَ و عن قريب تعلمون ما أَقُولُ لَكُمْ من عدم الفائدة في عبادة الأصنام، و أن المرجع هو اللّه، و إنّ المشركين معذّبون في النار عند الموت، أو حين مشاهدة العذاب، وَ أنا أُفَوِّضُ أَمْرِي في دفع كيدكم و تظاهركم عليّ إِلَى اَللّهِ القادر على نصرة أوليائه، و أتوكّل عليه إِنَّ اَللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعلم المحقّ و المبطل، و من يعارضه و يتوكّل عليه فينصره، و يثيب المحقّ و المتوكّل، و يخذل المبطل و المعارض له و يعاقبه.

في بيان نجات

مؤمن آل فرعون من

القتل

ثمّ أمر فرعون بقتله فَوَقاهُ اَللّهُ حفظه من سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا و شدائد ما همّوا به من الايذاء و القتل.

قال بعض العامة: إنّ المؤمن هرب إلى جبل، و اشتغل بالصلاة و العبادة، فبعث اللّه السباع فأحاطوا به و حرسوه، و بعث فرعون جماعة من خواصه ليأخذوه، فجاؤا فوجدوه يصلّي و السباع محيطة به، فخافوا من السباع، و رجعوا إلى فرعون و أخبروه بما رأوا من حال المؤمن، فقتل

ص: 418


1- . تفسير أبي السعود 7:278، تفسير روح البيان 8:187.
2- . تفسير روح البيان 8:187.
3- . تفسير الرازي 27:71.

فرعون جميعهم، لئلا يفشوا الخبر (1).

و قيل: انّ بعضهم أكلته السباع، و بعضهم رجع إلى فرعون و أخبره بالقصة، فاتهمه و صلبه (2).

و عن مقاتل: إنّ القوم قصدوا قتله، فهرب إلى الجبل، فلم يقدروا عليه (3).

و قيل: نجا حزقيل مع موسى (4)وَ حاقَ و نزل بِآلِ فِرْعَوْنَ و بنفسه في الدنيا سُوءُ اَلْعَذابِ و شديده، و هو الغرق في البحر.

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث-أنّه قال: «كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد اللّه، و نبوة موسى، و تفضيل محمد على جميع الرسل و خلقه، و تفضيل علي بن أبي طالب عليه السّلام و الخيار من الأئمّة على سائر أوصياء النبيين، و إلى البراءة من ربوبية فرعون، فوشى به الواشون إلى فرعون، و قالوا: إن حزقيل يدعو إلى مخالفتك، و يعين أعداءك على مضادّتك. فقال لهم فرعون: ابن عمّي، و خليفتي على ملكي، و وليّ عهدي، إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره بنعمتي، و إن كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشدّ العذاب لإيثاركم الدخول في مساءته.

فجاء بحزقيل، و جاء بهم فكاشفوه، و قالوا: أنت تجحد ربوبية فرعون الملك و تكفر بنعمائه. فقال حزقيل: أيّها الملك، هل جرّبت عليّ ذنبا قطّ؟ قال: لا. قال: فسألهم من ربهم؟ قالوا: فرعون هذا. قال: و من خالقكم؟ قالوا: فرعون هذا. قال: و من رازقكم الكامل لمعايشكم، و الدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا: فرعون هذا. قال حزقيل: أيّها الملك، فأشهدك و كلّ من حضرك أنّ ربّهم هو ربّي، و خالقهم هو خالقي، و رازقهم هو رازقي، و مصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا ربّ لي و لا خالق و لا رازق غير ربّهم و خالقهم و رازقهم، و اشهدك و اشهد من حضرك أنّ كلّ ربّ و رازق و خالق سوى ربّهم و خالقهم و رازقهم، فأنا برىء منه و من ربوبيته، و كافر بإلهيته.

يقول حزقيل هذا، و هو يعني أنّ ربّهم هو اللّه ربّي، و لم يقل: إنّ الذي قالوا هو ربّهم ربّي، و خفي هذا على فرعون و من حضره، و توهّموا أنّه يقول: فرعون ربّي و خالقي و رازقي. فقال لهم فرعون: يا رجال السوء، و يا طلاّب الفساد في ملكي، و مريدي الفتنة بيني و بين ابن عمىّ، و هو عضدي، أنتم المستحقّون لعذابي، لإرادتكم فساد أمري، و إهلاك ابن عمي، و الفتّ في عضدي.

ثمّ أمر بالاوتاد، و جعل في ساق كلّ واحد منهم و تدا، و في صدره و تدا، و أمر أصحاب أمشاط

ص: 419


1- . تفسير أبي السعود 7:278، تفسير روح البيان 8:189.
2- . تفسير روح البيان 8:189.
3- . تفسير الرازي 27:72.
4- . تفسير روح البيان 8:189، و فيه: خربيل، بدل حزقيل.

الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم، فذلك ما قال تعالى: فَوَقاهُ اَللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا به لمّا وشوا إلى فرعون ليهلكوه وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذابِ و هم الذين وشوا بحزقيل إليه، لمّا أوتد فيهم الأوتاد، و مشّط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط (1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «و اللّه لقد قطّعوه إربا إربا، و لكن وقاه اللّه أن يفتنوه عن دينه» (2).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 46

ثمّ بيّن سبحانه تعذيبه القوم في البرزخ بقوله: اَلنّارُ بعد هلاك فرعون و قومه يُعْرَضُونَ عَلَيْها و يعذّبون و يحرقون بها في البرزخ غُدُوًّا وَ عَشِيًّا و في أول النهار و آخره.

اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذابِ (46)قيل: إمّا يعذّبون بين الوقتين بعذاب آخر، أو ينفّس عنهم (3).

و قيل: إنّه كناية عن الدوام، كما في قوله تعالى (4): وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (5). و قيل: إنّ المراد بالعرض الإظهار و الإراءة (6).

و عن ابن مسعود: أنّ أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار مرّتين، فيقال: يا آل فرعون، هذه داركم (7).

و في حديث عامي: «أنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشيّ، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة، و إن كان من أهل النار فمن النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه يوم القيامة» (8).

أقول: لعلّ المراد من الطير السود القوالب المثالية، و إنّما عبّر عنها بالطير لسرعة سيرها و ارتفاعها في الجوّ.

عن الصادق عليه السّلام: «ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة، لأنّ في النار القيامة لا يكون عذوّا و عشيا» ثمّ قال: «إن كانوا يعذّبون في النار غدوا و عشيا، ففيما بين ذلك هم [من]السعداء، و لكن هذا في نار البرزخ قبل يوم القيامة، ألم تسمع قوله تعالى: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ. . . ؟ !» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ للّه تعالى نارا بالمشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفّار، و يأكلون من زقّومها، و يشربون من حميمها ليلهم، فاذا طلع الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له برهوت، أشدّ حرّا من

ص: 420


1- . الاحتجاج:370، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:357/247، تفسير الصافي 4:343.
2- . تفسير القمي 2:258، تفسير الصافي 4:342.
3- . تفسير روح البيان 8:189.
4- . تفسير الرازي 27:73.
5- . مريم:19/62. (6و7و8) . تفسير روح البيان 8:189.
6- . مجمع البيان 8:818، تفسير الصافي 4:343.

نار الدنيا، كانوا فيه يتلاقون و يتعارفون، فاذا كان المساء عادوا إلى النار، فهم كذلك إلى يوم القيامة» (1).

وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ و وقت الحشر و الحساب يقول اللّه تعالى للملائكة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ جهنّم و عذّبوهم فيها أَشَدَّ اَلْعَذابِ.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ لمّا انتهى الكلام إلى ذكر القيامة، و دخول الكفّار في النار، حكى سبحانه مناظرة الأتباع و الرؤساء في النار بقوله: وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ و يتنازعون فِي اَلنّارِ.

وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي اَلنّارِ فَيَقُولُ اَلضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مِنَ اَلنّارِ (47) قالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اَللّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبادِ (48)ثمّ شرح سبحانه تخاصمهم فيها بقوله: فَيَقُولُ الكفّار اَلضُّعَفاءُ و الاقلّون في القدر و المنزلة و الثروة لِلَّذِينَ ترأسوا و اِسْتَكْبَرُوا عن اتّباع الرسل، و تعظّموا عن قبول الحقّ، و استتبعوا الضعفاء إِنّا كُنّا في الدنيا لَكُمْ تَبَعاً و مطيعين لأوامركم، و أجبناكم فيما دعوتمونا من الشرك و تكذيب الرسل، و فصار اتّباعنا إياكم سببا لدخولنا في جهنّم فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم مُغْنُونَ و دافعون عَنّا بالسعي و التحمّل نَصِيباً و بعضا مِنَ عذاب اَلنّارِ باتّباعنا إيّاكم، كما كنّا ندفع عنكم كثيرا من البليّات،

و نتحمّل عنكم الزّحمات في الدنيا قالَ الرؤساء اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا في جوابهم: كيف ندفع النار عنكم؟ أما ترون إِنّا و إياكم كُلٌّ داخلون فِيها و معذّبون بها، و لو قدرنا لدفعناه عن أنفسنا إِنَّ اَللّهَ الحكيم قَدْ حَكَمَ بالحقّ بَيْنَ اَلْعِبادِ بأن أدخل المؤمنين الجنّة، و الكافرين النار، و لا معقّب لحكمه.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ إنّهم لمّا يأسوا من رؤسائهم، حكى اللّه التماسهم إلى الخزنة بقوله: وَ قالَ جميع اَلَّذِينَ ادخلوا فِي اَلنّارِ من الضعفاء و المستكبرين لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ و الملائكة المأمورين بتعذيبهم: يا خزنة جهنّم اُدْعُوا رَبَّكُمْ شفاعة لنّا إنّه يُخَفِّفْ عَنّا في مقدار زمان يكون يَوْماً من أيام

وَ قالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذابِ (49) قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (50)

ص: 421


1- . الكافي 3:247/1، تفسير الصافي 4:344.

الدنيا شيئا مِنَ اَلْعَذابِ الذي نحن فيه. فأجابتهم الخزنة و قالُوا بعد مدة طويلة-على ما قيل- توبيخا لهم (1):

أَ وَ لَمْ تَكُ قيل: إنّ التقدير ألم تنبّهوا على هذا، و لم تك (2)تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ في الدنيا واحدا بعد واحد مستدلّين على صدقهم بِالْبَيِّناتِ و الحجج الظاهرة فيما أخبروكم من سوء عاقبة الكفر و التكذيب؟ ! قالُوا كلّهم: بَلى أتونا و أخبرونا فكذّبناهم، إذن قالُوا إقناطا لهم: إذا كان الأمر كذلك، فلا ترجوا منّا هذا الدعاء، لاستحالته علينا فَادْعُوا أنتم لأنفسكم ما تريدون وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ في حقّ أنفسهم، أو دعاء غيرهم لهم بتخفيف العذاب أو رفعه عنهم إِلاّ فِي ضَلالٍ و ضياع، لأنّه لا يجاب، لوجوب تعذيبهم على اللّه بمقتضى الحكمة و العدل.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 51 الی 52

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عدم إجابته دعاء الكفّار و إعراضه عنهم في الآخرة بيّن لطفه برسله و بالمؤمنين بهم بقوله: إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا كما نصرنا موسى وَ ننصر اَلَّذِينَ اتّبعوهم و آمَنُوا بهم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و نغلّبهم على أعدائهم بالظّفر بالحجّة و القوة، و لو في العاقبة.

إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ اَلظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ (52)عن ابن عباس: أنّه لم يقتل من الأنبياء إلاّ من لم يؤمر بقتال، و كلّ من امر بقتال نصر (1).

وَ ننصرهم يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهادُ بإعلاء درجتهم و إكرامهم في مجمع الخلق، أو المراد يوم إقامة الشهود على تبليغهم، و العمل بما كان وظيفتهم من الملائكة و النبيين، كما قال اللّه تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ (2)إلى آخره.

عن الصادق عليه السّلام: «ذلك في الرجعة، أمّا علمت أن أنبياء كثيرة لم ينصروا في الدنيا و قتلوا، و أئمّة من بعدهم قتلوا و لم ينصروا، و ذلك في الرجعة» (3).

ثمّ عرّف سبحانه اليوم بما فيه فرح الرسل و المؤمنين بقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ اَلظّالِمِينَ الذين هم أعداؤهم مَعْذِرَتُهُمْ عن كفرهم و طغيانهم على الرسل و المؤمنين، لعدم قبولها إن اعتذروا، و لذا لا يعتذرون، و لا يؤذن لهم فيعتذرون، و قيل: إنّهم يعتذرون في وقت، و لا يؤذن لهم في الاعتذار في وقت آخر (4)وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ و البعد عن الرحمة وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ و شرّ المقام، لكونهم أسوأ الناس و شرّ الخلق، بخلاف المؤمنين فانّهم تقبل معذرتهم عن خطاياهم، بل تقبّل شفاعتهم، و لهم الرحمة،

ص: 422


1- . تفسير روح البيان 8:193.
2- . النساء:4/41.
3- . تفسير القمي 2:259، تفسير الصافي 4:345.
4- . تفسير روح البيان 8:193.

و لهم حسن الدار.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 53 الی 55

ثمّ استشهد سبحانه على نصرته رسله و المؤمنين بنصرته موسى و قومه بقوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا بفضلنا و رحمتنا مُوسَى بن عمران اَلْهُدى و المعجزات الدالة على صدقه في دعوى نبوّته و صحة شريعته وَ أَوْرَثْنا قومه بَنِي إِسْرائِيلَ منه اَلْكِتابَ الذي انزل إليه-و هو التوراة- ليكون ذلك الكتاب

هُدىً من الضلال وَ ذِكْرى و موعظة لِأُولِي اَلْأَلْبابِ و ذوي العقول السليمة من شوائب الأوهام.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ اَلْكِتابَ (53) هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ (55)و قيل: إنّ الهدى ما يكون دليلا في نفسه، و الذكرى ما يذكر (1)في الكتب الإلهية المتقدّمة الذي صار منسيا (2).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه نصرته لموسى و سائر الأنبياء، سلّى نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَاصْبِرْ يا محمد، على مخالفة الكفّار و معارضة الأعداء بعد ما سمعت من وعدي بنصرة الرسل و نصرتي موسى و المؤمنين به إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بنصرك و ظهور دينك و إعلاء كلمتك حَقٌّ و صدق، لا يمكن الخلف فيه وَ اِسْتَغْفِرْ ربّك أولا لِذَنْبِكَ و ما صدر منك أحيانا من ترك الأفضل و الأولى وَ سَبِّحْ بعد الاستغفار مقرنا له بِحَمْدِ رَبِّكَ على نعمه عليك بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ قيل: إنّه كناية عن (3)الدوام (4). و قيل: إنّ الإبكار هو: أول النهار إلى نصفه. و العشيّ: من الزوال إلى أوّل يوم البعد، فيكون المعنى الحقيقي جميع الأوقات (5). و قيل: إنّ المراد طرفي النهار (6)، و هما أفضل أوقات التسبيح.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 56

ثمّ بيّن سبحانه أنّ لا علّة لمجادلتهم إلاّ الكبر بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ و يخاصمون الرسول و المؤمنين فِي إبطال آياتِ اَللّهِ الطعن فيها، و يجحدون بها بِغَيْرِ سُلْطانٍ و برهان أَتاهُمْ

إِنَّ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اَللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (56)

ص: 423


1- . زاد في النسخة: ما.
2- . تفسير الرازي 27:77، تفسير روح البيان 8:195.
3- . في النسخة: من.
4- . تفسير روح البيان 8:196.
5- . تفسير الرازي 27:78، تفسير روح البيان 8:196.
6- . تفسير الرازي 27:78.

من قبل اللّه مع أنّ التكلّم فيها و في أمر الدين لا بدّ أن يكون بسلطان مبين و برهان متين إِنْ فِي صُدُورِهِمْ و ما في قلوبهم إِلاّ كِبْرٌ و تعظّم من قبول الحقّ، و تبعية الرسول، و التفكّر و النظر الصحيح في معجزاته و كلماته، بل إرادة الرئاسة و التقدّم عليه، مع أنّه ما هُمْ بمدركي غرضهم من الكبر و التعظّم، و ليسوا بِبالِغِيهِ و هو إبطال الآيات و الإخلال في أمر نبوتك و إذلالك، فإنّي ناشر آياتك، و مشرق نورك، و رافع منزلتك في الناس، و معلّ قدرك في الآفاق فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ و التجأ إليه من شرّهم و كيدهم فانّه القادر على دفعهم و على كلّ شيء و إِنَّهُ تعالى هُوَ اَلسَّمِيعُ لمقالك و مقال أعدائك اَلْبَصِيرُ باهتمامك في التبليغ و اهتمام أعدائك في المنع عنه، فيجازيك أفضل الجزاء، و يجازي أعداءك أسوأه.

قيل: إنّ المراد بالمجادلين اليهود، فانّهم كانوا يقولون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لست صاحبنا المذكور في التوراة، بل هو المسيح بن داود، أو يوسف بن مسيح بن داود (1).

و قيل: إنّهم أرادوا الدجّال الذي يخرج في آخر الزمان و قالوا: إنّه يبلغ سلطانه البرّ و البحر، و تسير معه الأنهار، و هو آية من آيات اللّه، فيرجع إلينا الملك (2).

و قيل: إنّ المراد بقوله: فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ التجئ إليه من فتنة الدجّال، فإنّه ليس فتنة أعظم من فتنته (3). و روت العامة أحاديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الاستعاذة من فتنة الدجّال و خروجه و كيفية إفتتان الناس به (4).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 57 الی 58

ثمّ لمّا كان أكثر مجادلة المشركين في البعث و إمكان المعاد و إنكار الآيات الدالة عليه، استدلّ سبحانه عليه بقوله: لَخَلْقُ اَلسَّماواتِ السبع مع سعتها و عظمتها وَ خلق اَلْأَرْضِ بطبقاتها و ضخامتها أَكْبَرُ و أعظم مِنْ خَلْقِ اَلنّاسِ ثانيا، و من هو قادر على الأعظم قادر على خلق الأصغر و الأضعف، و هذا من أعظم البراهين على صحة المعاد و البعث و إمكانه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ المنكرين للمعاد لا يَعْلَمُونَ كون إعادة الناس أسهل و أهون، لقصور نظرهم، و فرط غفلتهم، و لذا يقولون: مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (1)؟

لَخَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ ما يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ لاَ اَلْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58)

ص: 424


1- . يس:36/78.

ثمّ بيّن سبحانه رفعة شأن المستدليّن بالآيات، و المتفكّرين فيها، و عدم تساويهم مع الجهّال المقلّدين بقوله: وَ ما يَسْتَوِي الكافر الذي هو اَلْأَعْمى قلبه عن رؤية الآيات وَ اَلْبَصِيرُ الذي يراها بعين قلبه، و يتفكّر فيها وَ كذا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ و بادروا إلى الحسنات وَ لاَ اَلْمُسِيءُ في العقائد و الأعمال، و هم الكفّار و العصاة، فلو لم يكن حشر و معاد و دار الجزاء، لزم تساوي الفريقين، و هو باطل ببديهة العقل، فأنتم-أيّها الكفار المجادلون-تعلمون عدم التساوي بين العالم و الجاهل و المحسن و المسيء، و لكن قَلِيلاً ما و مقدارا يسيرا تَتَذَكَّرُونَ و تتنبّهون إلى ما يلزمه من صحّة المعاد، و إنّما قدّم ذكر المؤمن المحسن على المسيء لمجاورة البصير.

و قيل: إنّ المراد أنّ المشركين يعلمون أنّ العلم خير من الجهل، و أنّ العمل الصالح خير من العمل السيء، و لكن لا يميّزون بين العلم و الجهل، و العمل الصالح و السيّء فيعتقدون الجهل و التقليد علما و معرفة، و الحسد و الكبر صالحا و طاعة (1).

و قيل: إنّ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ في معنى لا يتذكّرون أصلا، كما يقال: هو قليل الحياء، و المراد أنّه لا حياء له (2).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 59 الی 60

ثمّ لمّا أثبت سبحانه إمكان المعاد بتوضيح كمال قدرته و سهولته، أخبر بوقوعه بقوله: إِنَّ اَلسّاعَةَ و القيامة لَآتِيَةٌ البتة لا رَيْبَ و لا مجال للشك فِيها و في إتيانها، لوضوح شواهدها، و اتقان براهينها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ و هم الكفّار المنكرون له لا يُؤْمِنُونَ باتيانها، لقصور أنظارهم، و شدّة تعصّبهم، و إلفهم بما اعتقده آباؤهم.

إِنَّ اَلسّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَ قالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)

ثمّ إنّه تعالى بعد إتيان إمكان المعاد، و الإخبار بوقوعه، أمر الناس بعبادته المنجية من أهواله بقوله: وَ قالَ رَبُّكُمُ: أيّها الناس اُدْعُونِي وحدي لحوائجكم، و اعبدوني خالصا مخلصا لنجاتكم من الشدائد أَسْتَجِبْ لَكُمْ و دعاءكم، و اقض حوائجكم، إما في الدنيا أو في الآخرة، و انجكم من شدائدهما إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ و يستنكفون عَنْ عِبادَتِي التي منها الدعاء، و يتعظّمون عن

ص: 425


1- . تفسير الرازي 27:79.
2- . تفسير روح البيان 8:199.

طاعتي سَيَدْخُلُونَ في الآخرة جَهَنَّمَ حال كونهم داخِرِينَ و ذليلين جزاء لتكبّرهم على اللّه.

في فضيلة الدعاء

عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «هو الدعاء، و أفضل العبادة الدعاء» (1).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل: أي العبادة أفضل عند اللّه؟ قال: «أن يسأل و يطلب ما عنده، و ما من أحد أبغض إلى اللّه تعالى ممنّ يستكبر عن عبادته، و لا يسأل ما عنده» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «ادع و لا تقل: قد فرغ من الأمر، فانّ الدعاء هو العبادة، إنّ اللّه يقول. . .» و تلا هذه الآية (3).

و عن السجاد عليه السّلام-في (الصحيفة) بعد ذكر الآية-: «فسميّت دعاءك عبادة، و تركه استكبارا، و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين» (4).

و روي أنه سئل الصادق عليه السّلام: أ ليس اللّه يقول: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و قد نرى المضطرّ يدعوه و لا يجاب له، و المظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره؟ قال: ويحك ما يدعو أحد إلا استجاب له! أمّا الظالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب، و أمّا المحقّ فإذا دعاه استجاب له، و صرف عنه البلاء من حيث لا يعلم، أو ادّخر له ثوابا ليوم حاجته، و إن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيرا له إن أعطاه أمسك عنه، و المؤمن العارف باللّه ربما عزّ عليه أن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ (5).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 61

ثمّ ذكر سبحانه دلائل توحيده و استحقاقه للعبادة بقوله: اَللّهُ هو القادر اَلَّذِي جَعَلَ و خلق نفعا لَكُمُ أيها الناس اَللَّيْلَ المظلم لِتَسْكُنُوا و تستريحوا فِيهِ بسبب برودته المسكّنة للقوى المحرّكة، و المظلمة المسكّنة للحواسّ، وَ جعل اَلنَّهارَ بضوئه مُبْصِراً للأشياء، و طرق تحصيل المعاش، و إنّما لم يذكر لتبصروا فيه، و أسند الابصار إلى النهار مجازا، للاشعار بكون النور الذي به قوام النهار هو العلّة للرؤية عند البصير، و تكون دلالة تنوّر النهار على وحدانية اللّه أقوى من دلالة الفعل، و إنّما قدّم ذكر الليل لأنّه عدم النور، و العدم مقدّم على الوجود، و الليل سابق في الوجود على النهار.

اَللّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)ثمّ لمّا ذكر سبحانه النعمتين العظيمتين، نبّه (6)على فضله و إحسانه على الناس، و وبّخهم على ترك

ص: 426


1- . الكافي 2:338/1، تفسير الصافي 4:346.
2- . الكافي 2:338/2، تفسير الصافي 4:346.
3- . الكافي 2:339/5، تفسير الصافي 4:346.
4- . تفسير الصافي 4:346.
5- . الاحتجاج:343، تفسير الصافي 4:346.
6- . في النسخة: تنبّه.

شكره بقوله: إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ و إحسان عظيم عَلَى اَلنّاسِ يخلق الليل و النهار بحيث لا يوازيه فضل و إحسان وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لجهلهم بالمنعم و عدم التفاتهم إلى هذه النعمة لا يَشْكُرُونَ فضل اللّه و إنعامه، و إنّما كرّر سبحانه ذكر الناس للتنصيص بتخصيص الكفران بهم.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 62 الی 65

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان قدرته و نعمته و حكمته، أعلن بالوهيته و ربوبيته و وحدانيته بقوله تبارك و تعالى: ذلِكُمُ القادر الحكيم المنعم هو اَللّهُ الذي يتألّه إليه جميع الموجودات، و هو رَبُّكُمْ و ربّ العالمين و خالقكم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ممكن، و هو الإله الذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود سواه، إذن فَأَنّى تُؤْفَكُونَ أيّها المشركون، و كيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟

كَذلِكَ الإفك و الانصراف العجيب الذي يكون لقومك يُؤْفَكُ و يصرف عن عبادة اللّه الامم اَلَّذِينَ كانُوا قبل قومك بِآياتِ اَللّهِ و دلائل توحيده و كمال صفاته يَجْحَدُونَ و يكذّبون عنادا و لجاجا و تقليدا.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بقوله: اَللّهُ هو القادر الحكيم اَلَّذِي جَعَلَ بقدرته و حكمته لَكُمُ أيّها الناس اَلْأَرْضَ قَراراً وَ منزلا في حال حياتكم و مماتكم، كما عن ابن عباس (1)! و المراد جعلها ثابتة و ساكنة لتتمكّنوا من التصرّف فيها، و جعل اَلسَّماءَ بِناءً و سقفا مبنيا، و قبّة مرفوعة فوقكم.

ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ اَلَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اَللّهِ يَجْحَدُونَ (63) اَللّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ قَراراً وَ اَلسَّماءَ بِناءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (64) هُوَ اَلْحَيُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (65)ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات الآفاقية على توحيده، استدلّ بالآيات الأنفسية بقوله: وَ صَوَّرَكُمْ في الأرحام فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ حيث خلقكم منتصبي القامة، بادي البشرة، متناسبي الأعضاء. عن ابن عباس: خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل و يتناول بيده (2)وَ رَزَقَكُمْ مِنَ المأكولات اَلطَّيِّباتِ و اللذيذات ذلِكُمُ القادر المنعم عليكم بتلك النّعم هو اَللّهُ الذي هو رَبُّكُمْ لا ربّ سواه فَتَبارَكَ و تقدّس عن الشريك اَللّهُ الذي هو رَبُّ اَلْعالَمِينَ و مالك الملائكة و الجنّ و الإنس أجمعين، و رافع كلّ من حضيض النقص على أوج الكمال اللائق به، و كلّ تحت

ص: 427


1- . تفسير الرازي 27:84.
2- . تفسير روح البيان 8:205.

ملكوته،

و مفتقر إليه في ذاته و وجوده و ما به بقاؤه و كماله و هُوَ اَلْحَيُّ بالذات الذي به حياة كلّ حيّ، فمن له تلك الصفات الجمالية و الجلالية؟ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود بالاستحقاق سواه، فاذا عرفتموه بالتفرّد و القدرة و الحكمة و الرحمة فَادْعُوهُ وحده لحوائجكم، و اعبدوه مُخْلِصِينَ و ممحضين لَهُ اَلدِّينَ و العبادة، و لا تشركوا به شيئا، و قولوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ على ما هدانا و أنعم علينا بالنّعم العظام.

عن ابن عباس: من قال لا إله إلاّ اللّه، فليقل على أثرها: الحمد للّه ربّ العالمين (1).

و عن السجاد عليه السّلام: «إذا قال أحدكم لا اله الا اللّه، فليقل: الحمد للّه رب العالمين، فانّ اللّه يقول: هُوَ اَلْحَيُّ» (2)الآية.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 66

ثمّ لمّا أمر سبحانه الناس بعبادته خالصا من الشرك، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بترغيبهم فيها، باظهار أنّه اختار لهم ما اختاره لنفسه، التي هي أعزّ النفوس عنده بقوله تعالى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين، ترغيبا لهم إلى التوحيد: إِنِّي نُهِيتُ من قبل ربّي عن أَنْ أَعْبُدَ الأصنام اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ لَمّا جاءَنِي اَلْبَيِّناتُ القرآنية، أو الهمت بالشواهد و الأدلّة الواضحة مِنْ قبل رَبِّي و مالكي اللطيف بي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ أمري، و اخلص ديني لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ.

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لَمّا جاءَنِي اَلْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (66)

سوره 40 (غافر): آیه شماره 67 الی 68

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده بأطوار خلق الانسان بقوله: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ يا بني آدم أولا مِنْ تُرابٍ حيث إنّ الدم الذي يتكوّن منه المنيّ من الأغذية المتكونة من التّراب، أو إنه خلقكم منتهيا إلى خلق أبيكم آدم، و هو مخلوق من تراب ثُمَّ خلقكم مِنْ نُطْفَةٍ و ماء صاف متكوّن من الدم في صلب الرجل ثُمَّ خلقكم عَلَقَةٍ و دم جامد متكوّن من النّطفة في الرّحم، ثمّ

هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

ص: 428


1- . تفسير روح البيان 8:206.
2- . تفسير القمي 2:260، تفسير الصافي 4:347.

يخلق أعضاءكم منها، و يصوّركم فيه، و ينفخ فيكم الروح، و يحييكم ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من رحم امّكم حال كونكم طِفْلاً صغيرا عاجزا عن جلب نفع أو دفع ضرر ثُمَّ يبقيكم في الدنيا لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و كمال قوتكم الظاهرية و الباطنية، و هو حدّ الشباب.

قيل: هو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين (1). و قيل: من إحدى و عشرين سنة إلى ثلاث و ثلاثين (2). ثُمَّ يبقيكم لِتَكُونُوا شُيُوخاً قيل: إنّ الشيخوخة من خمسين أو إحدى و خمسين إلى الموت، أو إلى ثمانين (3)وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى و يقبض روحه مِنْ قَبْلُ أن يتولّد، فيسقط جنينا، أو من قبل بلوغ الأشدّ، أو من قبل الشيخوخة وَ ذلك الأطوار في الخلق لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى و وقتا معينا في تقدير اللّه لا تتجاوزونه وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون ما في ذلك الانتقال من طور إلى طور من فنون الحكم و العبر، و تستدلّون به على خالقكم القدير الحكيم.

ثمّ لمّا وصف سبحانه ذاته المقدسة بالحياة الذاتية، نبّه على أنّ حياة كلّ حي و موته بقدرته بقوله: هُوَ تعالى وحده القادر اَلَّذِي يُحْيِي كلّ ميت أراد احياءه وَ يُمِيتُ كلّ حيّ أراد إماتته.

ثمّ بيّن سبحانه نهاية سهولة خلق الأشياء و تغييرها و التصرّف فيما عليه بقوله: فَإِذا قَضى أَمْراً قدّر شيئا، أو أراد تكوينه و إيجاده فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ و يريد وجوده بالارادة التكوينية فَيَكُونُ و يوجد بلا ريث و تأخير و توقف على شيء، سواء كان ذلك الأمر عظيما كالسماوات و الأرضين، أو حقيرا كالذرّة، أو تغييرا كتغيير التّراب و صيرورته دما، و صيرورة الدم نطفة، و صيرورة النّطفة علقة، أو تبديلا كإعدام هذا العالم، أو إعدام الخلق و إيجاد عالم آخر، أو خلق آخر.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 69 الی 74

ثمّ إنّه تعالى بعد حكمه في أول السورة المباركة بكفر المجادلين في الآيات، و بيان كونهم مبغوضين عنده و عند المؤمنين، و كون قلوبهم مطبوعة، و بيان علّة جدالهم، و هو التعظّم و التكبّر عن طاعة اللّه و رسوله في وسطها، و بعد ذكر الآيات الدالة على توحيده، عاد إلى ذمّ المشركين المجادلين

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اَللّهِ أَنّى يُصْرَفُونَ (69) اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ اَلْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ اَلسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اَللّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اَللّهُ اَلْكافِرِينَ (74)

ص: 429


1- . تفسير روح البيان 8:208.
2- . تفسير روح البيان 8:208.
3- . تفسير روح البيان 8:208.

في الآيات، و تهديدهم بعذاب الآخرة بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد، أو أيّها الرائي، و لم تنظر نظر التعجّب و العبرة إِلَى المشركين اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ و يخاصمون فِي آياتِ اَللّهِ الواضحة المقتضية للإيمان بها، الزاجرة عن الجدال و المكابرة فيها، أنّهم أَنّى يُصْرَفُونَ عن تلك الآيات و التصديق بها، و كيف يعرضون عنها؟ أعني بالمجادلين المشركين

اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ المنزل من السماء مع دلائل الصدق وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب و الأحكام فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء عاقبة تكذيبهم و جدالهم، و عن قريب يرون مآل كفرهم و طغيانهم،

و ذلك إِذِ تجعل اَلْأَغْلالُ و حين توضع القيود من النار فِي أَعْناقِهِمْ. قيل: تغلّ أيديهم إلى أعناقهم مضمونة إليها (1)وَ اَلسَّلاسِلُ أيضا تجعل عليهم حال كونهم يُسْحَبُونَ و يخرّون على الأرض على وجوههم بعنف، يجرّهم الملائكة الزبانية و خزنة جهنّم فِي اَلْحَمِيمِ و المائع المتناهي في الحرارة.

قيل: في كلمة (في) إشعار بإحاطة حرارة النار أو الماء لجميع جوانبهم، كأنّهم في عين الحميم و يسحبون فيها (2).

و عن مقاتل: يُسْحَبُونَ* فِي اَلْحَمِيمِ أي في حرّ النار، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اَلنّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ (1).

ثُمَّ إنّه بعد جرّهم بالسلاسل إلى الحميم فِي اَلنّارِ يُسْجَرُونَ و يحرقون، ففي الآيات دلالة على أنّهم يعذّبون بأنواع العذاب.

ثُمَّ بعد إحراقهم في النار قِيلَ لَهُمْ تقريعا و توبيخا: أيّها المشركون أَيْنَ ما كُنْتُمْ في الدنيا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِ اَللّهِ رجاء شفاعتهم، أو إعانتهم إياكم في الشدائد، ادعوهم اليوم ليشفعو لكم، أو يعينوكم، و ينجوكم من العذاب قالُوا في جواب خزنة جهنّم تحسّرا و ندامة: إنّ أصنامنا ضَلُّوا عَنّا و غابوا عن أبصارنا، فلا نعرفهم، و ذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم و أصنامهم، أو المراد من الضلال الهلاك، و المعنى هلكوا و ضاعوا عنّا، فنزّل عدم نفعهم لهم منزلة عدمهم، ثمّ قالوا: بَلْ الآن تبيّن لنا أنّا لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا و نعبد مِنْ قَبْلُ و في الدنيا شَيْئاً قابلا للعبادة، بل الاعتناء و الاعتداد. قيل: إنّ المراد مما كنّا مشركين كَذلِكَ الضلال و التحيّر الذي يكون لهم في الآخرة حتى يفزعوا إلى الكذب، مع علمهم بأنّه لا ينفعهم يُضِلُّ اَللّهُ و يحيّر اَلْكافِرِينَ في الدنيا و المشركين

ص: 430


1- . تفسير روح البيان 8:211، و الآية من سورة القمر:54/48.

حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة.

قيل: إنّ المراد مثل ضلال آلهتهم عنهم، يضلّهم اللّه عن آلهتهم حتى أنّهم لو طلبوها أو طلبتهم لم يجد أحدهما الآخر (1)و قيل: يعني يضلّهم عن طريق الجنّة (2).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ التفت سبحانه من الغيبة إلى الخطاب إلى الكفّار في الدنيا مبالغة في توبيخهم و تقريعهم بقوله: ذلِكُمْ الضلال أيّها الكفرة، أو العذاب الشديد الذي ابتليتم به في الآخرة من الأغلال و السلاسل و الجرّ إلى الحميم و الحرق بالنار جزاء بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَفْرَحُونَ و تبطرون فِي وجه اَلْأَرْضِ و في زمن الحياة بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و بعين الباطل من الشرك باللّه الطّغيان عليه و على رسله وَ بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَمْرَحُونَ و تتكبّرون عن قبول دين الحقّ، أو تتوسّعون في البطر و الأشر بحيث تغفلون عن إتيان هذا اليوم و الابتلاء بشدائده و أهواله (3)،

فالحال اُدْخُلُوا أيّها الكفرة جزاء على كفركم و فرحكم بشرككم و بطركم في الباطل أَبْوابَ جَهَنَّمَ السبعة، و هي مفتوحة و مقسومة لكم من أيّ باب شئتم حال كونكم خالِدِينَ فِيها و مقيمين بها أبدا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ عن قبول الحقّ و إطاعة اللّه و رسله، و ساء منزلهم و مأواهم جهنّم.

ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) اُدْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ فَإِمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)

ثمّ لمّا كان جدال المشركين في آيات التوحيد و الرسالة سببا لتأثر قلب الرسول سلاّه سبحانه بقوله: فَاصْبِرْ يا محمد، على أذى المشركين و إيحاشهم إيّاك بتلك المجادلات، فانّا نخذلهم و ننصرك عليهم، و اعلم إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بنصرك و تعذيبهم حَقٌّ و صدق لا خلف فيه أبدا فَإِمّا نُرِيَنَّكَ في هذه الدنيا بَعْضَ العذاب اَلَّذِي نَعِدُهُمْ كالقتل و الأسر فذاك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ بعد الخروج من الدنيا، فنعذّبهم بأعمالهم أشدّ العذاب، و ننتقم منهم أشدّ الانتقام.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 78

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اَللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ (78)

ص: 431


1- . تفسير روح البيان 8:212.
2- . تفسير الرازي 27:88.
3- . في النسخة: بشدائدها و اهوالها.

ثمّ لمّا كان من جدال المجادلين نسبة معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى السحر، اقتراحهم عليه معجزات زائدة على ما أتى به، مع كونها فوق الكفاية، ردّهم سبحانه بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً كثيرة إلى أقوام كثيرة مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السابقة على بعثك بعضا مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أحوالهم و معجزاتهم، و كيفية دعوتهم، و صبرهم على أذى قومهم، كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام و أضرابهم، وَ بعضا مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ و لم نسمّيهم لك، و لم نخبرك بأحوالهم.

روي عن أبي ذرّ أنّه قال: قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كم عدد الأنبياء؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا» . فقال: قلت: فكم الرسل منهم؟ فقال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر جمّا غفيرا» (1).

و في (الخصال) عنهم عليهم السّلام: «أنّ عددهم مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا» (2).

و روى بعض العامة عن علي عليه السّلام: «بعث اللّه نبيا أسود لم يقصّ علينا قصّته» (3).

قيل: إنّ الذين قصّ اللّه قصّتهم على نبيه في القرآن ثمانية عشر (4)، وعدّ منهم ذا القرنين و لقمان، و لم تثبت نبوتهما، بل وردت روايات دالة على عدم نبوتهما.

وَ ما كانَ يصح لِرَسُولٍ من الرسل، و إن كان في غاية عظمة الشأن و علوّ المنزلة أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ و معجزة لقومه إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ لأنّها من عطاياه، قسّمها بينهم على ما أقتضته الحكمة، و لذا لم يأتوا بكلّ ما اقترح عليهم قومهم عنادا و لجاجا و تعنّتا، و ما كان ذلك قادحا في نبوتهم، كذلك ليس عدم إيتانك بما أقترح عليك قادحا في رسالتك، مع أنّك أتيت بما أقمت به الحجّة و أزيد، فليس بعد اتمام الحجّة إلاّ العذاب فَإِذا جاءَ أَمْرُ اَللّهِ بالعذاب في الدنيا، أو الآخرة قُضِيَ و حكم بين الرسل و مكذّبيهم بالرسالة بِالْحَقِّ و العدل، فعند ذلك ربح المحقّون وَ خَسِرَ هُنالِكَ و في تلك (5)المحكمة اَلْمُبْطِلُونَ منهم المجادلون في الآيات و المقترحون للمعجزات.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 79 الی 80

ثمّ بعد التوعيد على الشرك و تكذيب الرسل، عاد سبحانه إلى بيان آيات التوحيد بقوله: اَللّهُ

اَللّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)

ص: 432


1- . تفسير روح البيان 8:215.
2- . الخصال:524، تفسير الصافي 4:349.
3- . تفسير روح البيان 8:215، مجمع البيان 8:830، تفسير الصافي 4:349.
4- . تفسير روح البيان 8:215.
5- . في النسخة: ذلك.

تعالى هو اَلَّذِي جَعَلَ و خلق لَكُمُ اَلْأَنْعامَ الثمانية لِتَرْكَبُوا بعضا مِنْها كالإبل في الأسفار وَ بعضا مِنْها تَأْكُلُونَ كالبقر و الغنم و المعز، و إنّما غير النّظم في الجملة الثانية لرعاية الفواصل، و للإشعار بأصالة الركوب.

و قيل: إنّ المراد بالأنعام الإبل خاصّة (1)لكثرة استعمالها فيه وَ لَكُمْ أيّها الناس فِيها مَنافِعُ كثيرة غير الركوب و الأكل كالألبان و الأوبار و الأشعار و الجلود وَ لِتَبْلُغُوا بتوسّط الأنعام و حمل أثقالكم عَلَيْها و نقلها من بلد إلى بلد حاجَةً كائنة فِي صُدُورِكُمْ و قلوبكم من المعاملة و الاسترباح وَ عَلَيْها في البراري وَ عَلَى اَلْفُلْكِ في البحار تُحْمَلُونَ.

قيل: إنّ المراد بالحمل على الابل حمل النسوان و الولدان، و لذا فصل بينه و بين الركوب، و ذكر الفلك للمناسبة بينه و بين الإبل حتى قالوا: الابل سفينة البرّ، و إنّما لم يقل: في الفلك (2)، لصحّة استعمال (في) و (على) في المقام، و كون (على) هنا للمزاوجة، و إنّما أدخل على الركوب و البلوغ حرف التعليل، لأنّهما قد يكونان لأغراض دينية كالجهاد و الحجّ بخلاف الأكل و سائر المنافع، فانّها من المباحات، فلا يعدّان من الأغراض الإلهية.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 81 الی 82

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر الدلائل الكثيرة على توحيده و قدرته و حكمته، نبّه على ظهور تلك الآيات و الدلائل بقوله تعالى: وَ يُرِيكُمْ اللّه أيّها الناس بلطفه آياتِهِ و دلائل توحيده فَأَيَّ آياتِ اَللّهِ تُنْكِرُونَ فانّ كلا منها في (3)غاية الظهور بحيث لا يجترئ على إنكارها من له عقل، و إنّما أضاف الآيات إلى اسمه الجليل، لتربية المهابة، و تهويلا لانكارها.

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اَللّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي اَلْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)

ثمّ لمّا كان سبب إنكار الآيات ليس إلاّ الكبر و حبّ الدنيا و الرئاسة، و بخهم على ترك التفكّر في و خامة عاقبة المتكبّرين بقوله تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا قيل: إنّ التقدير اقعدوا في مكانهم، فلم يسيروا و لم يسافروا (4)فِي أقطار اَلْأَرْضِ للتجارة و غيرها فَيَنْظُرُوا نظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المتكبّرين و المتمرّدين اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ فانّها لم تكن إلاّ الهلاك و البوار مع

ص: 433


1- . تفسير الرازي 27:89، تفسير أبي السعود 7:286.
2- . تفسير روح البيان 8:218.
3- . في النسخة: من.
4- . تفسير روح البيان 8:219.

أنّهم كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وَ أَشَدَّ منهم قُوَّةً في الأبدان وَ أزيد منهم آثاراً باقية فِي اَلْأَرْضِ بعدهم من المدن و القصور و الحصون و البساتين و القنوات و الأنهار فَما أَغْنى و ما دفع عَنْهُمْ العذاب ما كانُوا في مدّة أعمارهم يَكْسِبُونَ و يحصلون من الأموال و الأولاد و العدد، فلمّا لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة و الدولة القاهرة إلاّ الخيبة و الخسار و البوار، فكيف يكون حال الفقراء و الضّعفة؟

و قيل: إنّ كلمة (ما) في قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ استفهامية، و في قوله: ما كانُوا مصدرية، و المعنى أي شيء أغنى عنهم كسبهم (1).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 83 الی 85

ثمّ بيّن سبحانه غرور المتكبّرين بقوله: فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ و دعوهم إلى دين الحقّ مستدلّين على صدقهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات فَرِحُوا و اغترّوا اولئك المتكبّرون بِما عِنْدَهُمْ و مالهم مِنَ اَلْعِلْمِ بعقائدهم الفاسدة و شبهاتهم الباطلة، أو بامور الدنيا و تدبيرها، و استحقروا علم الرسل و استهزءوا بهم و بما أخبروا به من عذاب الدنيا و الآخرة وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الأخبار بالعذاب الدنيوي و الاخروي.

فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ اَلْكافِرُونَ (85)و قيل: إنّ المراد فرح الرّسل بعلمهم، و المعنى أنّ الرّسل لمّا رأوا من قومهم غاية الجهل و الاغماض عن الحقّ، فرحوا بما أتوا من العلم، و شكروا اللّه عليه، و حاق بالكافرين جزاء جهلهم و استهزائهم (2).

و قيل: إنّ المراد فرح الكافرين بما عند الرسل من العلم، و معنى فرحهم ضحكهم و استهزائهم به (3).

فَلَمّا رَأَوْا اولئك الامم المهلكة بَأْسَنا و عذابنا الشديد النازل عليهم بأمرنا قالُوا اضطرارا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ و صدّقنا بتفرّده في الالوهية و استحقاق العبادة وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بسبب الايمان بِهِ و عبادته مُشْرِكِينَ باللّه من الأصنام و بترّأنا منهم

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ و لم يمكن أن يفيدهم

ص: 434


1- . تفسير الرازي 27:91، تفسير أبي السعود 7:287، تفسير روح البيان 8:220.
2- . تفسير الرازي 27:91، تفسير أبي السعود 7:287.
3- . تفسير الرازي 27:91، تفسير أبي السعود 7:287.

إِيمانُهُمْ الاضطراري لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا و عذابنا في الدنيا، أو عند الموت و رؤية أهوال الآخرة، لعدم قدرتهم على الكفر، كما لم ينفع إيمان فرعون بعد الغرق، و هذه المعاملة مع الكفّار المكذّبين للآيات و الرسل من عدم قبول إيمانهم عند معاينة العذاب، تكون سُنَّتَ اَللّهِ و عادته الجارية اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ و مضت فِي عِبادِهِ و الطّغاة المكذّبين من الامم السالفة وَ خَسِرَ و غبن أو هلك هُنالِكَ و في ذلك الوقت اَلْكافِرُونَ بوحدانية اللّه كما عن ابن عباس رضى اللّه عنه (1).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل: لأيّ علّة غرّق اللّه فرعون و قد آمن و اقرّ بوحيده؟ قال عليه السّلام: «لأنّه آمن عند رؤية البأس، و الايمان عند رؤية البأس غير مقبول، و ذلك حكم اللّه تعالى ذكره في السلف [و الخلف]، قال اللّه عز و جل: فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا الآيتان (2).

و في (الكافي) : قدّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحدّ. فأسلم، فقيل: قد هدم إيمانه شركه و فعله و قيل: يضرب ثلاثة حدود. و قيل غير ذلك، فأرسل المتوكّل إلى الامام الهادي عليه السّلام، و سأله عن ذلك، فكتب عليه السّلام: «يضرب حتى يموت» فأنكروا ذلك، و قالوا: هذا شيء لم ينطق به كتاب، و لم تجيء به سنّة، فسألوه ثانيا البيان، فكتب عليه السّلام هاتين الآيتين بعد البسملة، فأمر المتوكّل فضرب حتى مات (3).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ حم المؤمن في كلّ ليلة، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و ألزمه كلمة التقوى، و جعل الآخرة له خيرا من الدنيا» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «الحواميم رياحين القرآن» (5).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسير السورة المباركة و المسمّاة بالمؤمن، و نشكره على نعمه و آلائه.

ص: 435


1- . تفسير روح البيان 8:222.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:77/7، تفسير الصافي 4:350.
3- . الكافي 7:238/2، تفسير الصافي 4:350.
4- . ثواب الاعمال:130، تفسير الصافي 4:351.
5- . ثواب الاعمال:114، تفسير الصافي 4:451.

ص: 436

في تفسير سورة فصّلت

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لما ختمت سورة المؤمن البدوءة بتعظيم القرآن المتضمّنة لإثبات التوحيد و ذمّ المجادلين في الآيات، و ذكر أدلّة التوحيد و تهديد منكريه، نظم بعدها سورة حم السجدة المبدوءة أيضا بتعظيم القرآن، المشتملة على ذمّ المعرضين عن آياته، و المشركين المعارضين للرسول، و ذكر أدلّة التوحيد و تهديد المعرضين عنه و غيرها من المطالب العالية المناسبة لما في السورة المباركة السابقة، فابتدأ سبحانه على دأبه بذكر الأسماء المباركات تيمّنا و تبرّكا و تعليما للعباد بقوله تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله: حم جلبا للقلوب إلى المطالب التي بعدها، و قد مرّ أنّها رمز عن الأسماء الحسنى. و قيل: إنّها اسم للسورة (1)، أو القرآن (2).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)

ثمّ عظّم سبحانه القرآن حيث وصفه بقوله: تَنْزِيلٌ و منزل بتوسّط الروح الأمين مِنَ اللّه اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ على رسوله الذي هو رحمة للعالمين، رحمة منه على الخلق أجمعين إلى يوم الدين،

و هو كِتابٌ عظيم الشأن، جامع لعلوم الأولين و الآخرين، و لكلّ ما يحتاج إليه في المعاش و المعاد و الدنيا و الدين فُصِّلَتْ و فرّقت آياتُهُ و جعلت تفاصيل و تبيانا لصفات اللّه الجمالية و الجلالية، من كمال علمه و قدرته و حكمته و رحمته و قهاريته، و لبدو خلق السماوات و الأرض و الكواكب و الانسان و الجانّ و حكمته، و حكمة خلق الليل و النهار و تعاقبهما، و للأحكام و السّنن و الآداب، و أدلة المعاد و الوعد و الوعيد و الثواب و العقاب، و درجات أهل الجنّة و دركات أهل النار،

ص: 437


1- . تفسير روح البيان 8:225.
2- . تفسير روح البيان 8:225.

و المواعظ و العبر و غير ذلك من المطالب العالية المختلفة.

قيل: إنّه ليس بين الناس كتاب اجتمع فيه العلوم المختلفة و المطالب المتباينة مثل القرآن (1).

ثمّ بالغ سبحانه في مدح الكتاب بقوله: قُرْآناً قيل: إنّ المعنى اريد من هذا الكتاب المفصّل، أو حال كونه قرآنا (2)عَرَبِيًّا كائنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يفهمون اللغة العربية، كما قال تعالى: ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ (3)ليكون ذلك الكتاب

بَشِيراً و مبشّرا لمصدّقيه و المطيعين لأحكامه بالجنّة وَ نَذِيراً و محذّرا لمكذّبيه و مخالفيه بالنار.

ثمّ حكى سبحانه شقاوة القوم الذين نزل القرآن بلغتهم بقوله تعالى: فَأَعْرَضَ عنه أَكْثَرُهُمْ فلم يتدبّروا فيه مع كونه بلغتهم فَهُمْ كأنهم (4)صمّ لا يَسْمَعُونَ آياته، أو المراد فهم لا يسمعونه سماع القبول، و هم مع ذلك عارضوه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

وَ قالُوا يا محمّد، أنت تدعونا إلى الإيمان بكتابك و توحيد ربّك، و الحال أنّه قُلُوبُنا كائنة فِي أَكِنَّةٍ و أغطية متكاثفة تمنعها (من) فهم ما تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وَ كائن فِي آذانِنا وَقْرٌ و ثقل، أو صم لا يمكننا سماع صوتك و استماع آيات كتابك وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ مع ذلك حِجابٌ و ساتر و مانع من رؤيتك.

قيل: إنّ كلمة (من) دالة على قوّة الحجاب و استيعابه للمسافة الكائنة بينهم و بينه (5)، و لما كان القلب و السمع و البصر آلة للإدراك، و اقتصروا على ذكرها، و فيه بيان لغاية إعراضهم و نفرتهم عنه.

ثمّ قالوا: يا محمّد، إذن فَاعْمَلْ و اجتهد في ترويج دينك و تشييد رسالتك و إِنَّنا أيضا عامِلُونَ و ساعون في إبطال دينك و الإخلال في أمرك. و قيل: يعني اعمل أنت على دينك، و إنّا أيضا عاملون على ديننا (6).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ أمر سبحانه بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمد، لهم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا قدرة لي على إجباركم و قهركم على الايمان و قبول التوحيد، و إنّما المائز بيني و بينكم أنّه يُوحى إِلَيَّ من قبل ربّي و لا يوحى إليكم، و وظيفتي تبليغ ما يوحى إليّ، و هو أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و هو ربّ العالمين،

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)

ص: 438


1- . تفسير روح البيان 8:226.
2- . تفسير الرازي 27:94، تفسير روح البيان 8:226.
3- . إبراهيم:14/4.
4- . في النسخة: كأنّه.
5- . تفسير الرازي 27:97.
6- . مجمع البيان 9:5، تفسير روح البيان 8:228.

لا الأصنام المنحوتة و المصنوعة، و أقول: إذا كان هو ربّكم فَاسْتَقِيمُوا و توجّهوا إِلَيْهِ بقلوبكم و جوارحكم، و أخلصوا له دينكم وَ اِسْتَغْفِرُوهُ ممّا أنتم عليه من الشرك، و توبوا إليه من طغيانكم عليه.

ثمّ هدّدهم على الشرك بعد دعوتهم إلى التوحيد بقوله: وَ وَيْلٌ و عذاب شديد لِلْمُشْرِكِينَ بربّهم،

و هم اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ للّه، و يصرفون الأزيد منها من أموالهم للأصنام وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و دار جزاء الأعمال هُمْ بالخصوص كافِرُونَ جاحدون لا يرجون لأعمالهم ثوابا، و لا يخافون عقابا، و لذا ينهمكون في الشهوات و طلب الدنيا و لذّاتها.

قيل: إنّ اللّه قرن ترك الزكاة بالكفر بالآخرة، وصف المشركين به لزيادة التحذير من منعها (1).

و عن ابن عباس: أنّ تفسير (لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ) لا يقولون لا إله إلاّ اللّه، فانّها زكاة الأنفس (2). و المعنى لا يطهّرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، فانّما المشركون نجس.

و قيل: إنّ الزكاة إن كانت في القرآن مقرونة بالصلاة، كقوله: أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ (3)و قوله: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ (4)فالمراد بها زكاة المال؛ و إن كانت منفردة كقوله: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً (5)و قوله: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً (6)و قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (7)فالمراد بها طهارة النفس (8).

في الردّ على بعض

المفسّرين

أقول: في الثاني نظر، بل منع واضح لقوله: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ (9)ثمّ لا يخفى أنّ الآية بناء على التفسير الأول تدلّ على تكليف الكفّار بالزكاة، و ما عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «اترى أنّ اللّه طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به حيث يقول: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» .

قيل: جعلت فداك، فسّر لي. فقال: «ويل للمشركين الذين أشركوا بالامام الأول، و هم بالأئمة الآخرين كافرون، إنّما دعا اللّه العباد إلى الايمان به، فاذا آمنوا باللّه و برسوله افترض عليهم الفرائض» (10)مطروح أو مؤوّل، مع أنّ فيه حمل الاشراك على الاشراك بالامام، و حمل الآخرة على

ص: 439


1- . تفسير أبي السعود 8:3، تفسير روح البيان 8:229.
2- . تفسير أبي السعود 8:3، تفسير روح البيان 8:230.
3- . البقرة:2/43.
4- . المائدة:5/55.
5- . الكهف:18/81.
6- . مريم:19/13.
7- . الأعلى:87/14.
8- . تفسير روح البيان 8:230.
9- . الروم:30/39.
10- . تفسير القمي 2:262، تفسير الصافي 4:253.

الأئمة الآخرة، مع كونهما في الآية بقرينة الآيات السابقة و اللاحقة كالنصّ في الاشراك باللّه و الدار الآخرة.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 8 الی 11

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين، وعد المؤمنين الموحّدين بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية اللّه وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ المرضّيات عند اللّه، الخالصات من شوب الشرك الجليّ و الخفيّ لَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ عليهم، فينكدر بالمنّة، لأنّه سمّى ما يعطيهم أجرا، و لا منّة في الأجر.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ (10) ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)قيل: نزلت في المرضى و الزّمنى، إذا عجزوا عن الطاعة، كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون (1).

و قيل: إنّ المراد لهم أجر غير مقطوع، أو غير محسوب عليهم (2)، كما قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (3).

ثمّ لمّا هدد سبحانه المشركين، و بّخهم على إشراكهم مع دلالة الأدلّة القاطعة على توحيده بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين توبيخا لهم أَ إِنَّكُمْ أيّها المشركون لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ بقدرته و حكمته اَلْأَرْضَ مع عظمها و بسطها فِي مقدار يَوْمَيْنِ من أيّام الدنيا من الزمان تعليما للعباد التأنّي في الامور و ترك العجلة، و إلاّ فمن المعلوم إمكان إيجادها في آن واحد.

قيل: خلق اللّه الأرض في يوم الأحد، و بسطها في الاثنين (4). و قيل: إنّ المراد من اليومين دفعتين (5). و القمي قال: في وقتين؛ ابتداء الخلق و انقضاؤه (6).

وَ تَجْعَلُونَ لَهُ مع هذه القدرة الكاملة من الجمادات أَنْداداً و شركاء في الالوهية و العبادة،

ص: 440


1- . تفسير الرازي 27:100، تفسير البيضاوي 2:349، تفسير أبي السعود 8:4.
2- . تفسير روح البيان 8:230.
3- . الزمر:39/10، و في النسخة: لهم أجرهم بغير حساب.
4- . تفسير أبي السعود 8:6، تفسير روح البيان 8:231.
5- . تفسير أبي السعود 8:4، تفسير روح البيان 8:231.
6- . تفسير القمي 2:262، تفسير الصافي 4:353.

و الحال أنّه يمتنع أن يكون له ندّا و ضدّا ذلِكَ الاله القادر الحكيم هو رَبُّ اَلْعالَمِينَ و خالق الموجودات و مربّيها،

فكيف يتصوّر أن يكون أخسّ مخلوقاته ندا له و شريكا وَ جَعَلَ فِيها جبالا رَواسِيَ و ثوابت مِنْ فَوْقِها لتمنعها من الميلان، و لتكون منافعها ظاهرة.

في بيان بدو خلق

السماء و الأرض،

و ما فيهما، و عدد

الجبال

عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أوّل ما خلق اللّه من شي القلم، و قال له: اكتب-إلى أن قال-ثمّ بسط الأرض على ظهر النون، و فاضطرب النون، فمادت الأرض، فأوتدت بالجبال (1).

قيل: إنّ اللّه تعالى طوّق الأرض بجبل محيط بها، و هو من صخرة خضراء (2).

و قيل: أوّل جبل نصب على وجه الأرض جبل أبو قبيس (3)، و إنّ مجموع الجبال التي عرفت في الاقاليم السبعة مائة و ثمانية و سبعون جبلا (4). و قيل: عددها ستة آلاف و ستمائة و ثلاثة و سبعون جبلا سوى التّلول (5).

وَ بارَكَ سبحانه في الأرض و أكثر الخير فِيها بخلق أنواع الحيوانات و النباتات التي منها معايش الانسان وَ قَدَّرَ في الارض، و قسّم لمن يحتاج إلى القوت فِيها بقدرته و حكمته أَقْواتَها و الأرزاق التي تتولّد منها و توجد فيها من البرّ و الشعير و غيرهما.

و قيل: إنّ المراد أقوات نفسها من المطر حيث إنّ اللّه قدّر لكلّ أرض حظّها من المطر (6). و قيل: يعني الأقوات التي اختصّ حدوثها بأرض خاصة حيث إنّ اللّه جعل كلّ بلد معدنا لنوع من الأشياء المطلوبة لرغبة الناس في التجارة و الضرب في الأرض لكسب الأموال (7)، كل ذلك فِي تتمّة أَرْبَعَةِ أَيّامٍ كاملة من أيام الدنيا، و تلك الأيام استوت سَواءً بلا زيادة و نقصان.

القمي: يعني في أربعة أوقات، و هي التي تخرج فيها أقوات العالم من الناس و البهائم-إلى أن قال- : و هو الربيع، و الصيف، و الخريف، و الشتاء-إلى أن قال-: و جعل اللّه هذه الأقوات في أربعة أوقات في الشتاء، و الربيع، و الصيف، و الخريف، و قام به العالم و استوى و بقي، و سمّى اللّه هذه الأوقات أياما لِلسّائِلِينَ يعني المحتاجين؛ لأنّ كلّ محتاج سائل، و في العالم من خلق اللّه من لا يسأل و لا يقدر على السؤال من الحيوان، فهم سائلون و إن لم يسألوا (8).

و قيل: إنّ المراد أنّ الحصر في أربعة للسائلين عن مدّة خلق الأرض و ما فيها (9).

ص: 441


1- . تفسير روح البيان 8:232.
2- . تفسير روح البيان 8:232.
3- . تفسير روح البيان 8:233.
4- . تفسير روح البيان 8:232.
5- . تفسير روح البيان 8:233.
6- . تفسير الرازي 27:102.
7- . تفسير الرازي 27:103.
8- . تفسير القمي 2:262، تفسير الصافي 4:353.
9- . تفسير أبي السعود 8:5، تفسير روح البيان 8:234.

عن ابن عباس، قال: سمعت رسول اللّه و أنا رديفة يقول: «خلق اللّه الأرواح قبل الأجسام بأربعة آلاف سنة، و خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل و لمن لم يسأل، و أنا من الذين لم يسألوا، و من سأل جهل» (1).

أقول: فيه دلالة على أنّ لام السائلين متعلقة بسواء.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-: «الرزق أشدّ طلبا لصاحبه من صاحبه له» (2).

ثُمَّ بعد خلق الأرض اِسْتَوى سبحانه، و توجّه إِلَى خلق اَلسَّماءِ و قصد نحوها بإرادته و مشيئته وَ هِيَ في النظر دُخانٌ و أجزاء أرضية لطيفة متصاعدة في الهواء مع الحرارة، و في الواقع مادة ظلمانية. قيل: اريد به الأجزاء التي لا تتجزأ، و من ظلمتها إبهامها (3). و قيل: إنّ المراد من الدخان البخار المرتفع من الماء تشبيها له به (4).

عن ابن عباس في جواب نافع بن الأزرق الحروري: أنّ أول ما خلق اللّه العرش على الماء، و الماء من جوهرة خضراء أذابها اللّه، ثمّ ألقى فيها نارا، فصار الماء يقذف بالغثاء و الزّبد، فخلق الأرض من الغثاء، ثمّ استوى إلى الدّخان الذي صار من الماء، فسمكه سماء، ثمّ بسط الأرض، فكان خلق الأرض قبل خلق السماء، و بسط الأرض، و أرسى الجبال، و تقدير الأرزاق، و خلق الأشجار و الدوابّ و البحار و الأنهار بعد خلق السماء (2).

فَقالَ اللّه لَها وَ لِلْأَرْضِ حين اقتضاء الحكمة إيجادهما: اِئْتِيا من زاوية العدم إلى عالم الوجود، و كونا على ما ينبغي أن تأتيا و تكونا عليه من الشكل و الوصف، من كون الأرض مدحوّة و قرارا و مهادا، و السماء مقيية و سقفا، سواء كان إتيانكما و تكوّنكما طَوْعاً و رغبة إلى طاعة أمري أَوْ كَرْهاً و بغير رغبة قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ منقادين غير كارهين، و هذا تمثيل لتأثير قدرته و نفوذ إرادته في إيجادهما، و تشبيه له بالسلطان القاهر الذي يقول لأدنى رعيّته: لا بدّ لك من أن تفعل هذا شئت أم لم تشأ: فيقول: سمعا و طاعة.

ثمّ لا يخفى أنّ الآية مسوقة لبيان خلق السماء بعد خلق الأرض، و لكن لمّا لم يبن كيفية خلق الأرض مع كمال عظمتها، قرنه ببيان كيفية خلق السماء التي هي أعظم منها، و في بعض الروايات دلالة على أنّ الخطاب إلى السماء و الأرض بعد خلقهما.

في حديث: «أنّ موسى قال: يا ربّ لو أنّ السماوات و الأرض حيث قلت لهما: ائتينا طوعا أو كرها

ص: 442


1- . تفسير روح البيان 8:234. (2و3و4) . تفسير روح البيان 8:235.
2- . تفسير روح البيان 8:235.

عصياك، ما كنت صانعا بهما؟ قال: كنت آمر دابة من دوابي فتبلعهما» (1).

القمي رحمه اللّه: سئل الرضا عليه السّلام عمّن كلّم (2)اللّه لا من الجنّ و لا من الإنس؟ فقال: «السماوات و الأرض في قوله: اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (3).

أقول: عليه يكون المراد من إتيانهما طاعتهما إياه في الحركات و السكنات و غيرهما.

ثمّ قيل: إنّ أول ما أجاب اللّه تعالى من الأرض موضع الكعبة، و من السماء ما بحذائها، فجعل اللّه لها حرمة على سائر الأرض حتى كانت كعبة الاسلام و قبلة للأنام (4).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 12

ثمّ بيّن سبحانه ما أوجده بإرادته النافذة بقوله: فَقَضاهُنَّ و أتمّ خلقهنّ حال كونهن، أو كان قضاهن سَبْعَ سَماواتٍ طباق عظام بحيث تكون الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كنسبة حصاة صغيرة إلى الفلاة الواسعة، و كذا السماء الاولى بالنسبة إلى الثانية، و هكذا إلى السابعة فِي مقدار يَوْمَيْنِ من أيام الدنيا من الزمان.

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (12)قيل: خلق سبحانه ما في الأرض في يوم الثلاثاء و الأربعاء، و السماوات و ما فيهنّ في يوم الخميس إلى آخر ساعة من يوم الجمعة، و في الساعة الآخرة منها خلق آدم، و هي الساعة التي فيها القيامة (5).

وَ أَوْحى اللّه تعالى فِي كُلِّ سَماءٍ بعد خلقهن أَمْرَها قيل: يعني خلق فيها شمسها و قمرها و نجومها، و خلق في كلّ منها ما فيها من الملائكة و جبال البرد و البحار (6).

و قيل: يعني حكم في كلّ منها بما أراد، فانّ له تعالى على أهل كلّ سماء تكليفا خاصّا بأهلها، منهم قيام لا يقعدون، و منهم ركوع لا ينتصبون، و منهم سجود لا يرفعون رؤوسهم إلى غير ذلك (7)، و إضافة الأمر إلى نفس السماء للملابسة (8).

وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا و القريبة من الأرض بكواكب متلألئة تشبّه بِمَصابِيحَ مضيئة، بعضها ثوابت، و بعضها سيّارات، وَ حفظناها حِفْظاً بديعا من الآفات، و صعود الشياطين إليها،

ص: 443


1- . تفسير روح البيان 8:236.
2- . في النسخة: تكلم.
3- . تفسير القمي 2:263، تفسير الصافي 4:254.
4- . تفسير روح البيان 8:236.
5- . تفسير الرازي 27:107، تفسير أبي السعود 8:6، تفسير روح البيان 8:239.
6- . تفسير روح البيان 27:107.
7- . تفسير الرازي 27:107، تفسير روح البيان 8:238.
8- . تفسير روح البيان 8:238.

و استراق السمع منها، بالشّهب المنفصلة من الكواكب.

في فضيلة أهل

البيت عليهم السّلام

في (الإكمال) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «النجوم أمان لأهل السماء، فاذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، و أهل بيتي أمان لأهل الأرض، فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» (1).

ذلِكَ المذكور المفصّل من بدائع الخلق تَقْدِيرُ الإله اَلْعَزِيزِ و القدير الذي لا تناهي لقدرته اَلْعَلِيمِ الذي لا نهاية لعلمه، فيفعل ما يشاء، و يعلم مصالح الامور.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته، أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتهديد المشركين بقوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الايمان باللّه و بتوحيده، و لم يتفكّروا فيما خلقه اللّه إبداعا من الموجودات العلوية و السّفلية فَقُلْ لهم يا محمّد: إنّي أَنْذَرْتُكُمْ و خوّفتكم من أن ينزل اللّه عليكم صاعِقَةً من السماء و عذابا شديدا، يكون مِثْلَ صاعِقَةِ قوم عادٍ وَ قوم ثَمُودَ و العذاب النازل عليهم، لأنّكم إذن كالحطب اليابس الذي لا يليق إلاّ للاحراق بالنار، و إنّما خصّ سبحانه القبيلتين بالذكر لأنّ أهل مكّة كانوا كثيرا يمرّون في أسفارهم إلى الشام و اليمن على ديارهم،

و يرون آثار العذاب فيها إِذْ جاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ الذين أرسلوا إليهم، و حين دعوهم إلى الايمان بالتوحيد و المعاد مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ و اجتهدوا في إرشادهم من جميع الجهات و الجوانب.

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)قيل: هو كناية عن انحاء النصح من الرفق و العنف و الترغيب و الترهيب (2)، و يحتمل كونه كناية عن شدّة إصرارهم على دعوتهم، و تبليغ ما ارسلوا به، و هو أَلاّ تَعْبُدُوا أيّها القوم إِلاَّ اَللّهَ وحده، فاجابهم قومهم و قالُوا استخفافا بهم و تكذيبا لهم لَوْ شاءَ رَبُّنا إرسال رسول من قبله إلينا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً برسالته حتى لا نشكّ في صدقهم، و نسارع إلى الايمان بهم، فلمّا لم تكونوا ملائكة، بل تكونون بشرا مثلنا، لا فضيلة لكم علينا فَإِنّا برسالتكم و بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ من التوحيد على زعمكم كافِرُونَ و جاحدون.

روي أنّ ابا جهل قال يوما في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما

ص: 444


1- . كمال الدين:205/19، تفسير الصافي 4:354.
2- . تفسير روح البيان 8:242.

بالشعر و السّحر و الكهانة فكلّمه، ثمّ أتانا ببيان عن أمره. فقال عتبة بن ربيعة: و اللّه لقد سمعت السحر و الشعر و الكهانة، و علمت من ذلك علما، و ما يخفى عليّ. فأتاه فقال: يا محمد، أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد اللّه؟ لم تشتم آلهتنا و تضلّلنا؟ فان كنت تريد الرئاسة عقدنا لك اللواء، فكنت رئيسنا، و إن يكن بك الباء زوّجناك عشر نسوة تختارهنّ، أيّ بنات شئت من قريش، و إن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ساكت. فلمّا فرغ عتبة قال صلّى اللّه عليه و آله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم* تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ إلى قوله: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (1).

فأمسك عتبة على فيه، و ناشده بالرّحم، و رجع إلى أهله، و لم يخرج إلى قريش، فلمّا احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلاّ قد صبا، فانطلقوا إليه، و قالوا: يا عتبة، ما حبسك عنّا إلاّ أنّك قد صبأت. فغضب و أقسم أنّه لا يكلّم محمدا أبدا، ثمّ قال: و اللّه لقد كلّمته فأجابني بشيء ما هو بشعر و لا سحر و لا كهانة. فلمّا بلغ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ أمسكت بفي و ناشدته بالرّحم، و لقد علمت أنّ محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب (2).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 15 الی 18

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كفر عاد و ثمود، بيّن طغيانهم بقوله: فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا و تعظّموا في أنفسهم فِي وجه اَلْأَرْضِ التي كانوا فيها بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و بلا استحقاق للكبر و التعظّم، و إنّما رأوا عظم أجسامهم و شدّة قوّتهم وَ قالُوا اغترارا بها مَنْ هو أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً؟

فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى عَلَى اَلْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ اَلْعَذابِ اَلْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (18)ثمّ ردّهم سبحانه و وبّخهم على اغترارهم بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا لم يعلموا اولئك المغرورون أَنَّ اَللّهَ القادر اَلَّذِي خَلَقَهُمْ و أعطاهم تلك القوة هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً و أكثر منهم قدرة، إذ من الواضح أنّ قوة المخلوق من عطاء الخالق و كمال قوته و قدرته وَ كانُوا من غاية عتوّهم

ص: 445


1- . فصلت 41/1-13.
2- . تفسير الرازي 27:111، تفسير أبي السعود 8:8، تفسير روح البيان 8:242.

و استكبارهم بِآياتِنا المنزلة على الرسل، أو دلائل توحيدنا و قدرتنا يَجْحَدُونَ و ينكرون عنادا و لجاجا، فلمّا جمعوا بين التكبّر و الغرور و إنكار الآيات، صاروا مستحقين لعذاب الاستئصال

فَأَرْسَلْنا غضبا عَلَيْهِمْ رِيحاً عقيما صَرْصَراً و باردا كما عن الباقر عليه السّلام (1)، لها صوت شديد هائل في هبوبها فِي أَيّامٍ و ليال نَحِساتٍ و مشؤومات، ليس فيها خير-على ما قيل-من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء، الذي كان آخر الشهر (2). قيل: ما عذّب قوم إلاّ في الأربعاء (3).

قيل: أمسك اللّه عنهم المطر ثلاث سنين، و دامت عليهم الرياح من غير مطر (4).

عن جابر بن عبد اللّه: إذا أراد اللّه بقوم خيرا أرسل عليهم المطر، و حبس عنهم كثرة الرياح، و إذا أراد اللّه بقوم شرّا حبس عنهم المطر، و سلّط عليهم كثرة الرياح (5).

و على أيّ حال كان إرسال الريح عليهم لِنُذِيقَهُمْ اللّه بها عَذابَ الاستئصال الذي كان سبب اَلْخِزْيِ و الذّلّ لهم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا قبل عذاب الآخرة وَ و اللّه وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ الذي أعدّ لهم في القيامة أَخْزى و أكثر إذلالا لهم و افتضاحا حال كونه في مشهد خلق الأولين و الآخرين وَ هُمْ حين ابتلائهم لا يعاونون على دفعه و لا يُنْصَرُونَ من أحد بوجه من الوجوه، لا في الدنيا و لا في الآخرة.

و إنّما عذّبهم اللّه بالريح لأنّهم اغترّوا بعظم أجسادهم و شدّة قوّتهم، حتى ظنّوا أن شيئا لا يقاومهم، فسلّط اللّه عليهم الريح، لينبهّهم أنّهم لا يقاومون الريح التي هي أخفّ و ألطف من سائر الأشياء، فكيف بأجسام هي أثقل و أقوى منها؟ فصارت تلك الأجسام العظيمة كريشة طير أو تبن في الهواء.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح، و يقول: «اللهمّ اجعلها رحمة و لا تجعلها عذابا، اللهمّ اجعلها لنا رياحا و لا تجعلها ريحا» (4).

أقول: الظاهر أنّ (الرياح) إشارة إلى قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ (5)و إلى قوله: هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (6)و يُرْسِلَ اَلرِّياحَ مُبَشِّراتٍ (7)و قوله: رِيحاً إشارة إلى قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً.

وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ إلى الحقّ و إلى طريق الجنّة و الراحة الأبدية، بارسال الرسول و نصب

ص: 446


1- . تفسير القمي 2:263، تفسير الصافي 4:355.
2- . تفسير روح البيان 8:244.
3- . تفسير البيضاوي 2:351، تفسير أبي السعود 8:9، تفسير روح البيان 8:244. (4 و 5) . تفسير روح البيان 8:244.
4- . تفسير روح البيان 8:245.
5- . الحجر:15/22.
6- . الفرقان:25/48.
7- . الروم:30/46.

الدلائل عليه فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى و الضلال و عدم البصيرة، و آثروه عَلَى اَلْهُدى و البصيرة، و اختاروا الكفر و رجّحوه على الايمان.

عن الصادق عليه السّلام: «عرّفناهم فاستحبوا العمى على الهدى و هم يعرفون» (1).

و عنه عليه السّلام: «عرّفناهم وجوب الطاعة، و تحريم المعاصي، و هم يعرفون» (2).

فَأَخَذَتْهُمْ عقوبتنا على كفرهم و طغيانهم صاعِقَةُ اَلْعَذابِ و الداهية التي هي في إفادتها لهوانهم بلغت إلى مرتبة يصحّ أن يقال هي عين اَلْهُونِ و الذّلّ، و ذلك الأخذ معلّل بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و يعملون من ترجيح الضلالة على الهدى، و اختيار الكفر و العصيان على الايمان و الطاعة

وَ نَجَّيْنَا من ذلك العذاب اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و برسوله صالح وَ كانُوا يَتَّقُونَ الشّرك و العصيان.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 19 الی 21

ثمّ إنّه تعالى بعد حكاية عذابهم الدنيوي، أخبر عن عذابهم الاخروي بقوله: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ و التقدير و اذكر يا محمد لقومك يوم يحشر و يجمع الأقوام المذكورون الذين هم أَعْداءُ اَللّهِ و يساقون إِلَى شفير اَلنّارِ و باب من أبواب جهنّم فَهُمْ يُوزَعُونَ و يحبسون في الطريق ليتلاحقوا.

وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اَللّهِ إِلَى اَلنّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اَللّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)

عن الباقر عليه السّلام: «يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا» (3)فهم كذلك حَتّى إِذا ما حضروا النار، و جاؤُها أنكروا صدور الأعمال القبيحة منهم، و استحقاقهم النار، فعند ذلك شَهِدَ عَلَيْهِمْ على رؤوس الأشهاد سَمْعُهُمْ و اذنهم بما سمعت من الأقوال و الأصوات المحرّمة وَ أَبْصارُهُمْ بما بصرت من المحرمات وَ جُلُودُهُمْ و قشور أبدانهم بما لا مست من المحرّمات و بِما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الجرائم و الشرور.

قيل: إنّ المراد بالجلود سائر الجوارح و الأعضاء (4)، فتخبر كلّ جارحة بما صدر من الأعمال السيئة

ص: 447


1- . التوحيد:411/4، تفسير الصافي 4:355.
2- . اعتقادات الصدوق: ، تفسير الصافي 4:355.
3- . تفسير الصافي 4:356، مجمع البيان 9:12، و تفسير أبي السعود 8:9، لم ينسباه إلى أحد.
4- . تفسير روح البيان 8:247.

من صاحبها روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ضحك يوما حتى بدت نواجذه، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «ألا تسألون ممّ ضحكت؟» قالوا: ممّ ضحكت يا رسول اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، قال: يقول: يا رب، أ ليس قد وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: فانّ لك ذلك. قال: فإنّي لا أقبل شاهدا إلاّ من نفسي. قال اللّه تعالى: أو ليس كفى بي شهيدا، أو بالملائكة الكرام الكاتبين؟ فيقول: أي ربّ، أجرني من الظّلم، فلن أقبل شاهدا إلاّ من نفسي. فيختم على فيه، و تتكلّم الأركان بما [كان]يعمل، قال: فيقول: بعدا لكنّ و سحقا عنكنّ، كنت اجادل» (1). و قد مرّ ما يقرب منه في سورة يس.

عن القمي: نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها، و يقولون: ما عملنا شيئا منها فأشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم، قال: قال الصادق عليه السّلام: «فيقولون للّه: يا ربّ، هؤلاء ملائكتك يشهدون لك. ثمّ يحلفون اللّه ما فعلوا من ذلك شيئا-إلى أن قال-فعند ذلك يختم اللّه على ألسنتهم، و ينطق جوارحهم، فيشهد السمع بما سمع ممّا حرّم اللّه، و يشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم اللّه عز و جل، و تشهد اليدان بما أخذتا، و تشهد الرجلان بما سعتا فيما حرّم اللّه عزّ و جل، و يشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم اللّه» الخبر (2).

وَ قالُوا توبيخا لِجُلُودِهِمْ و أعضائهم، أو خصوص قشورهم: أيّها الجلود لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مع أنّا كنّا ندافع عنكم؟ قيل: إنّ تخصيص الجلود بالتوبيخ، لكونها بمرأى منه، أو أبعد من الشهادة، لعدم كون شأن الإدراك اللازم في الشهادة، و هو الادراك بالرؤية و السمع (3).

أقول: فيه ما فيه.

و عن ابن عباس: المراد بشهادة الجلود شهادة الفروج، لأنّها لا تخلو من الجلود، و اللّه حيّي يكنّي (4).

و عن الصدوق، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «يعني بالجلود الفروج» (5).

و عن الصادق عليه السّلام «يعني بالجلود الفروج و الأفخاذ» (6).

و إنّما خصّ الأعضاء الثلاثة بالشهادة بناء على إرادة القشور أو الفروج من الجلود، لكون المعاصي الصادرة بها أكبر و أعظم من المعاصي الصادرة بالشمّ و الذوق، بل ما يصدر بالذوق داخل في معاصي الجلود.

قالُوا لأصحابهم ببيان لائق بهم، كما أنّ لكلّ شيء نطقا و بيانا مناسبا لشأنه: أَنْطَقَنَا اَللّهُ اَلَّذِي

ص: 448


1- . تفسير روح البيان 8:248.
2- . تفسير القمي 2:264، تفسير الصافي 4:356.
3- . تفسير روح البيان 8:248.
4- . تفسير الرازي 27:116، تفسير روح البيان 8:248.
5- . من لا يحضره الفقيه 2:381/1627، تفسير الصافي 4:356.
6- . الكافي 2:30/1، تفسير الصافي 4:356.

أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ بتسبيحه و غيره، فمع قدرتنا على النّطق، لم يكن لنا أن نكتم الشهادة عند اللّه بما عملتم بواسطتنا من القبائح وَ هُوَ القادر الذي خَلَقَكُمْ و أوجدكم أَوَّلَ مَرَّةٍ في الدنيا وَ إِلَيْهِ بعد خروجكم منها تُرْجَعُونَ فكيف يستبعد منه إنطاق جوارحكم و أعضائكم.

و قيل: إنّه ابتداء كلام اللّه لا كلام الجلود (1).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 22 الی 25

ثمّ قرّر سبحانه كلام الجلود بتوبيخ أعدائه و تقريعهم في ذلك اليوم بقوله: وَ ما كُنْتُمْ في الدنيا تَسْتَتِرُونَ أعمالكم مخافة أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ في هذا اليوم سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ على قبائح أعمالكم عند اللّه، لعدم اعتقادكم بالبعث و جزاء الأعمال، و عدم تصوركم إمكان شهادتها عليكم وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ و توهّمتم حين استتاركم أَنَّ اَللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ من القبائح خفية و سرا، فلا يؤاخذكم بها في الآخرة على تقدير وقوعها و فرض إمكانها، و لذلك أجترأتم على ما فعلتم خفية.

وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ (22) وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ (24) وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)عن ابن مسعود، قال: كنت مستترا باستار الكعبة، فدخل ثلاثة نفر: ثقفيان و قرشي، أو قرشيان و ثقفي، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم. فقال أحدهم: أترون أنّ اللّه يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا، و لا يسمع إن أخفينا. فذكر ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى: وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ الآية (2).

وَ ذلِكُمْ الظنّ يا أعداء اللّه ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ المحيط بكم و بأعمالكم الخفية و الجلية أَرْداكُمْ و أهلككم فَأَصْبَحْتُمْ و صرتم بسببه مِنَ جملة اَلْخاسِرِينَ و المتضررين بأعظم الضرر في الآخرة، حيث ضيّعوا أعمارهم و عقولهم و جوارحهم التي سببا

ص: 449


1- . تفسير روح البيان 8:248.
2- . تفسير الرازي 27:117، تفسير أبي السعود 8:10، تفسير روح البيان 8:249.

لتحصيل سعادة الدارين،

و حصّلوا بها شقاوة النشأتين فَإِنْ يَصْبِرُوا على ألم النار، و لم يجزعوا، و لم يستغيثوا إلى أحد برجاء الفرج فَالنّارُ الموقدة مَثْوىً و مأوى لَهُمْ أبدا وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا و يطلبوا رضا ربّهم و يسألوا منه النجاة فَما هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ و المجابين إلى مسؤولهم، فيكون صبرهم و جزعهم سواء، لا يفيد شيء منهما خلاصهم من النار و نجاتهم من العذاب.

ثمّ إنّه تعالى بيّن سبب ابتلائهم بالكفر بقوله: وَ قَيَّضْنا و قدّرنا لَهُمْ في الدنيا قُرَناءَ و أصدقاء من شياطين الإنس و الجنّ بأن خلّينا بينهم و بين هؤلاء المعاندين، و سلبنا عنهم التوفيق فَزَيَّنُوا هؤلاء الشياطين القرناء لَهُمْ و حسّنوا في نظرهم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من امور الدنيا وَ ما خَلْفَهُمْ من امور الآخرة، بأن أروهم أن لا بعث و لا حساب.

و قيل: لمّا كان كلّ أحد مقبلا إلى الآخرة، كان ما بين أيديهم امور الآخرة، و ما خلفهم نسيان الذنوب (1).

وَ حَقَّ و ثبت عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ و الوعد بالعذاب فِي أُمَمٍ و قرون قَدْ خَلَتْ و مضت من الدنيا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ على الكفر و الطّغيان.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أن الظانّين باللّه ظنّ السوء من جملة الخاسرين، و في زمرة الامم الماضية المهلكة، قال: إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ الذين اولئك الظانّون من جملتهم و في زمرتهم.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 26 الی 29

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة أعدائه، و شدّة عذابهم في الآخرة، بيّن شدّة عداوة قريش للّه و لرسوله، و سعيهم في صرف الناس عن استماع القرآن و الايمان به بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء المشركين لأبتاعهم و ضعفائهم، أو بعضهم لبعض: لا تَسْمَعُوا لِهذَا اَلْقُرْآنِ إذا قرأ به محمد أو أحد من المؤمنين به وَ اِلْغَوْا فِيهِ و اشتغلوا حين قراءته بالأباطيل كقصص رستم و إسفنديار، و التصفيق و الصّفير و الرّقص، على ما قيل (2)لَعَلَّكُمْ بهذه الأفعال و الأقوال تَغْلِبُونَ على قراءته،

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اَللّهِ اَلنّارُ لَهُمْ فِيها دارُ اَلْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ (29)

ص: 450


1- . تفسير روح البيان 8:251.
2- . تفسير روح البيان 8:252.

فلا يتمكّن القارئ من القراءة، و لا المستمع من الاستماع، لتشتّت حواسّهم و التشويش و التلبيس عليهم.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: فَلَنُذِيقَنَّ هؤلاء اَلَّذِينَ كَفَرُوا و سعوا في تلبيس الحقّ بالباطل، و لغوا في القرآن عَذاباً شَدِيداً لا يقادر قدره، و لا يمكن في هذا العالم وصفه وَ و اللّه لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الجزاء اَلَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ.

عن ابن عباس: عذابا شديدا يوم بدر، و اسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة (1).

ذلِكَ الجزاء الأسوأ هو جَزاءُ أَعْداءِ اَللّهِ و هي اَلنّارُ و قيل: إنّ النار مبتدأ و خبره قوله: لَهُمْ، و على الوجه الأوّل من كون النار بيانا للجزاء، يكون المعنى لَهُمْ فِيها دارُ اَلْخُلْدِ و منزل الإقامة الأبدية (2).

و قيل: إنّ المراد أنّ لهم في النار المشتملة على الدركات دارا مخصوصة يخلّدون فيها (3)، أو اسمها دار الخلد.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ ذلك الجزاء هو مقتضى العدل بقوله: جَزاءً بِما كانُوا في الدنيا بِآياتِنا المنزلة تصديقا لرسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و هداية إلى الدين الحقّ يَجْحَدُونَ و يلغون فيها بسبب جحودهم إياها. قيل: إنّ التقدير يجزون جزاء (4)، و يحتمل كون (جزاء) مفعولا لأجله، و المعنى أنّ الخلود في النّار لأجل كونه جزاء بعوض جحودهم الآيات

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حين دخولهم في النار، و تقلّبهم في العذاب رَبَّنا أَرِنَا و عرّفنا الشياطين اَلَّذَيْنِ أَضَلاّنا و حرفانا عن صراط دينك مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ بالتسويل و التزيين.

و قيل: إنّ المراد من الإنس قابيل الذي سنّ القتل ظلما، و من الجنّ الشيطان الذي سنّ الكفر (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعنون إبليس الأبالسة، و قابيل بن آدم أوّل من أبدع المعصية» (6).

و عن السجاد عليه السّلام: «تأويل الإنس بفلان» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «تأويلهما بهما» (8).

ص: 451


1- . تفسير أبي السعود 8:12، تفسير روح البيان 8:252.
2- . تفسير روح البيان 8:252.
3- . تفسير أبي السعود 8:12، تفسير روح البيان 8:253.
4- . تفسير روح البيان 8:253.
5- . تفسير أبي السعود 8:12، تفسير روح البيان 8:253.
6- . مجمع البيان 9:17، تفسير الصافي 4:358.
7- . تفسير نور الثقلين ج 4:545.
8- . الكافي 8:334/523، تفسير الصافي 4:358، و فيهما: قال: هما، ثم قال: فلان شيطانا.

نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما (1)بها لِيَكُونا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ و الأذلّين أو الأنزلين منّا مكانا، و الأشدّين منّا عذابا، تشفيّا منهما بذلك، أو نجعلها في الدّرك الأسفل من النار.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 30

ثمّ لمّا بالغ سبحانه في وعيد أعدائه و المشركين، و أطنب في تهديدهم، بيّن لطفه بالموحّدين و إحسانه باوليائه المؤمنين بقوله: إِنَّ المؤمنين اَلَّذِينَ قالُوا بألسنتهم و قلوبهم: رَبُّنَا اَللّهُ وحده لا شريك له في الوهيته و ربوبيته ثُمَّ اِسْتَقامُوا على التوحيد، و ثبتوا على ذلك الاعتقاد و القول، لم يزلّ قدمهم عن صراط عبوديته، و أخلصوا دينهم له، و أعرضوا عمّا سواه، و عملوا بمقتضاه من اجتناب الكبائر، و أداء الفرائض إلى أن خرجوا من الدنيا.

إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «إنّي متكلّم بعدّة اللّه و حجّته، قال اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا الآية» . ثمّ قال: «فاستقيموا على كتابه، و على منهاج أمره، و على الطريقة الصالحة من عبادته، لا تمرقون منها، و لا تبتدعون فيها، و لا تتخلّفون عنها» (2).

و عن القمي: استقاموا على ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام (3).

و عن الرضا عليه السّلام، أنّه سئل ما الاستقامة؟ قال: «هي و اللّه ما أنتم عليه» (4).

تَتَنَزَّلُ من قبل اللّه عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ عند الموت-كما عن القمي (5)-بالبشارة، و هي أَلاّ تَخافُوا أيّها الموحّدون من إصابة مكروه بعد الموت و بعد اليوم وَ لا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من نعم الدنيا و مفارقة ما خلّفتم من الأهل و الأولاد و الأحبّة وَ أَبْشِرُوا و افرحوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا تُوعَدُونَ بها على إيمانكم و أعمالكم الصالحة في كتاب اللّه و على لسان رسوله.

عن العسكري عليه السّلام-في حديث يذكر حضور ملك الموت عند المؤمن حين نزعه-قال: «فيقول ملك الموت: فانظر فوقك، فينظر فيرى درجات الجنان و قصورها التي تقصر عندها الأماني، فيقول ملك الموت: تلك منازلك و نعمك و أموالك و أهلك و عيالك، و من كان من أهلك هاهنا و ذرّيتك صالحا فهم هنالك معك، أفترضى بهم بدلا ممّا هاهنا؟ فيقول: بلى و اللّه. ثمّ يقول: انظر فينظر فيرى محمدا و عليا صلوات اللّه عليهما و الطيّبين من آلهما في أعلى علّيين. فيقول: أتراهم هؤلاء ساداتك

ص: 452


1- . في النسخة: ندسهما.
2- . نهج البلاغة:253/176، تفسير الصافي 4:358.
3- . تفسير القمي 2:265، تفسير الصافي 4:358.
4- . مجمع البيان 9:17، تفسير الصافي 4:359.
5- . تفسير القمي 2:265، تفسير الصافي 4:358.

و أئمّتك؟ هم هنالك حلاّسك و انّاسك، أفما ترضى بهم بدلا ممّا تفارق هنا. فيقول: بلى و ربّي، فذلك ما قال اللّه عز و جل: إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ إلى قوله: أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا فما أمامكم من الأهوال قد كفيتموها و لا تحزنوا على ما تخلفونه من الذراري و العيال، فهذا الذي شاهدتموه في الجنان بدلا منهم وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ هذه منازلكم، و هؤلاء ساداتكم و أنّاسكم و جلاسكم» (1).

و قيل: إنّ البشارة في المواقف الثلاثة عند الموت، و في القبر، و عند البعث إلى القيامة» (2).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 31 الی 33

ثمّ لمّا أخبر سبحانه عن كون شياطين الإنس و الجنّ قرناء الكفّار و المشركين، بشّر بأنّ الملائكة أولياء الموحّدين المؤمنين، حيث حكى عن الملائكة أنّهم يقولون للمؤمن: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ و أصدقائكم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعماركم فيها، و أعوانكم في امور دينكم، بالهامكم الحقّ و إرشادكم إلى ما فيه خيركم و صلاحكم، و يحفظكم من الزّلات بدل و ساوس الشياطين و تسويلاتهم في قلوب الكفّار و إضلالهم إياهم.

نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اَللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (33)روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: من لاحظ في أعماله الثواب و الأغراض، كانت الملائكة أولياءه، و من عملها على مشاهدته تعالى فهو وليّه لأنّه يقول: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا (3).

وَ فِي اَلْآخِرَةِ بتبشيركم بالجنّة، و شفاعتكم، و تلقّيكم بالسلام و التحية و الإكرام، و هدايتكم إلى الجنّة وَ لَكُمْ فِيها من النّعم الجسمانية ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ و تلذّ أعينكم وَ لَكُمْ فِيها من الحظوظ الروحانية ما تَدَّعُونَ و ما تتمنّون، كما عن ابن عباس (4).

و في تكرار لَكُمْ فِيها و عدم الاقتصار بعطف (ما تدعون) على (ما تشهى) إيذان باستقلال كلّ منهما بالبشارة حال كونهما نُزُلاً و رزقا مهيئا للضيف مِنْ قبل إله غَفُورٍ للذنوب، و مبدّل للسيئات بالحسنات رَحِيمٍ بالمؤمنين الصالحين باعلاء درجاتهم، و فنون إكراماتهم، و في التعبير-كما ذكر-بالنّزل و تقديمه

ص: 453


1- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:239/117، تفسير الصافي 4:360.
2- . تفسير الرازي 27:122، تفسير روح البيان 8:255.
3- . تفسير روح البيان 8:256.
4- . تفسير الرازي 27:123.

الضيف، دلالة على أن ما أعدّ لهم بعد ذلك من عظائم الامور بالنسبة إلى ما ذكر أكثر بمراتب (1).

ثمّ لمّا حكى سبحانه الأقوال السيئة عن الكفّار، كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ . . . وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ (2)و قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا اَلْقُرْآنِ (3)أخبر بأنّ أقوال المسلمين أحسن الأقوال بقوله:

وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً من أطيب كلاما مِمَّنْ دَعا الناس إِلَى اَللّهِ و إلى توحيده، و معرفة صفاته الكمالية، و طاعته و عبادته وَ عَمِلَ نفسه عملا صالِحاً فانّ أعظم الطاعات دعوة الخلق إلى الحقّ، مع كون عمله موافقا لقوله، و اختار دين الاسلام الذي هو الدين المرضيّ عند اللّه وَ قالَ ابتهاجا به: إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ.

قيل: إنّ المراد من الداعي إلى اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (4). و قيل: هم المؤذّنون (5)، قيل: كان بلال يؤذّن و يقول اليهود: غراب أسود يدعو إلى الصلاة! فنزلت الآية (6).

و عن العياشي: أنّها في عليّ عليه السّلام (7). و قيل: إنّ المراد هو العموم (8).

أقول: من المعلوم أنّ أكمل مصاديق الداعي هو النبيّ و الوصيّ صلوات اللّه عليهما و الكمّلون من أصحابهما.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 34

ثمّ رغّب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في الدعوة إلى الحقّ بعد بيان كونها أحسن الأقوال بقوله: وَ لا تَسْتَوِي الأقوال اَلْحَسَنَةُ التي منها دعوتك إلى الدين الحقّ، و الصبر على أذى قومك وَ لا الأقوال اَلسَّيِّئَةُ و التي منها الصادرة من المشركين المعاندين للحقّ، كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ و نظائره في الجزاء و العاقبة، فانّ أقوالك الحسنة موجبة لعظمتك في الدنيا و علوّ درجاتك في الآخرة، و الأقوال السيئة من أعدائك موجبة لانحطاطهم و عقوبتهم في الدارين، فلا يفتّرك سيئات أقوالهم و أعمالهم في اجتهادك في الدعوة، بل عليك بالجدّ و الصبر على أذاهم و اِدْفَعْ سيئتهم التي اعترضتك بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و الطرق في دفعها، و هي الرفق و المداراة و مقابلة إساءتهم

وَ لا تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)

ص: 454


1- . تفسير روح البيان 8:257.
2- . فصلت:41/5.
3- . فصلت:41/26.
4- . تفسير الرازي 27:125، تفسير روح البيان 8:257.
5- . تفسير الرازي 27:125، تفسير أبي السعود 8:14، تفسير روح البيان 8:257، و في النسخة: هو المؤذنون.
6- . تفسير روح البيان 8:259.
7- . تفسير الصافي 4:361.
8- . تفسير أبي السعود 8:14.

بالاحسان، و سفاهتهم و سوء صنيعهم بالصبر و الحلم و حسن البشر و لين الكلام فَإِذَا قابلت إساءتهم بالاحسان، و خرقهم بالرّفق، و سفاهتهم بالحلم، و افعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة، يستحي منك العدوّ، و يترك أفعاله القبيحة، و انقلب من البغضة إلى المحبة، و يصير اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كأبي سفيان و أضرابه كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ و صديق قريب.

روى بعض العامة أنّها نزلت في أبي سفيان، و ذلك أنّه لان للمسلمين بعد الشدّة بالمصاهرة التي حصلت بينه و بين النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ أسلم فصار وليا بالاسلام، حميما بالقرابة» (1).

عن الصادق عليه السّلام-في الآية-قال: «الحسنة التقية، و السيئة الإذاعة» (2)الخبر.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 35 الی 37

ثمّ عظّم سبحانه تلك السجية بقوله: وَ ما يُلَقّاها و لا ينالها إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا على المكاره و الشدائد، و حبسوا أنفسهم عن إظهار الغضب، و لا يعطى تلك الخصلة و السّجية، أو خصلة الصبر وَ ما يُلَقّاها من قبل اللّه إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من كمال النفس و حسن الأخلاق و فضائل الانسانية، أو ذو حظّ عظيم من المثوبات الآخروية، أو من الجميع.

وَ ما يُلَقّاها إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (36) وَ مِنْ آياتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلّهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (37)عن الصادق عليه السّلام: «إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا في الدنيا على الأذى (3)وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الخير و كمال النفس» .

ثمّ لمّا كان الغضب و الخرق من الشيطان، ذكر سبحانه طريق دفعه بقوله: وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ و يهيّجنك إلى مقابلة الاساءة بالاساءة، و الإقدام على الانتقام مِنَ قبل اَلشَّيْطانِ الموسوس نَزْغٌ و مهيّج فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ من شرّه و وسوسته، و اسأل اللّه حفظك من تسويلاته إِنَّهُ تعالى وحده هُوَ اَلسَّمِيعُ لاستعاذتك، و المجيب لدعائك اَلْعَلِيمُ بخلوص نيّتك، و صميمية دعائك.

القمي، قال: المخاطبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى للناس (4).

ص: 455


1- . تفسير أبي السعود 8:14، تفسير روح البيان 8:262.
2- . الكافي 2:173/6، مجمع البيان 9:20، تفسير الصافي 4:361.
3- . مجمع البيان 9:20، تفسير الصافي 4:361.
4- . تفسير روح البيان 8:265.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «إذا غضبت و كنت قائما فاقعد، و إن كنت قاعدا فقم، و استعذ باللّه من الشيطان» (1).

ثمّ لما مدح سبحانه الدعوة إلى اللّه و إلى توحيده، شرع في بيان أدلّة توحيده و قدرته و حكمته بقوله: وَ مِنْ أدلّة توحيده و آياتِهِ الدالّة على قدرته و حكمته اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهارُ و تعاقبهما، و قد مرّ نكتة تقديم الليل.

ثمّ لمّا كان جمع من المشركين عبدة الشمس و القمر، ذكرهما لمناسبة الليل و النهار بقوله: وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ دائبان بأمره، ثمّ نهى عن عبادتهما بقوله تعالى: لا تَسْجُدُوا أيّها الناس لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ لأنّهما حادثان مربوبان مسخّران تحت أمر خالقهما وَ اُسْجُدُوا لِلّهِ القادر اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ بقدرته لنظام العالم إِنْ كُنْتُمْ بالسجود لهما للّه تسجدون و إِيّاهُ تَعْبُدُونَ فانّ السجود خضوع خاصّ بمقام الربوبية و الالوهية، لا يجوز لغير اللّه.

قيل: إنّ الصابئين كانوا يسجدون للنّيّرين (2)و يقولون: إنّا نسجد لها، و نقصد به السجود للّه، فنهوا عن عبادته بتلك الواسطة (3).

أقول: يمكن أن يقال: علّة سجودهم للنّيّران (4)أوّل ابتداعه ذلك، إلاّ أنّه انتهى الأمر إلى الاعتقاد بخالقيتهما.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ لمّا كان السجود لهما بهذا الاعتقاد من باب الاشتباه في المصداق، حيث إنّهم كانوا يعتقدون أنّ مصداق الخالق هو الشمس مثلا، و الحال أنّه هو اللّه، ففي الحقيقة كان سجودهم للّه، فيكون المراد إن كنتم تعبدون الخالق الذي هو اللّه في الواقع، لا تسجدوا للشمس، بل اسجدوا للّه الذي هو تكوّن الشمس من مخلوقاته فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا و تعظّموا عن عبادة اللّه الذي تقول بألوهيته، فانّه غنيّ عن عبادتهم و سجودهم له فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة المقرّبين يعبدونه دائما و يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ و ينزّهونه عن الشريك وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ و لا يملّون عن عبادته و تسبيحه.

فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ اَلَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ اَلْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

ص: 456


1- . تفسير روح البيان 8:265.
2- . النّيّرين: الشمس و القمر.
3- . تفسير روح البيان 8:266.
4- . في النسخة: لينروان.

قيل: إنّ المراد إن استكبروا عن إطاعة أمرك، و لم يسجدوا للّه، لا يقلّ بذلك عدد من يخلص عبادته للّه (1)، فانّ الملائكة المقرّبين مع كثرتهم و قربهم للشمس و القمر، يعبدون اللّه، و يسبّحونه دائما، و لا يسجدون لهما.

ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات الفلكية، استدلّ بالآيات الأرضية بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ أيّها الانسان الشاعر البصير تَرَى اَلْأَرْضَ قبل نزول المطر عليها خاشِعَةً و منحطّة يابسة لا نبات فيها و لا بركة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ بالأمطار اِهْتَزَّتْ و تحرّكت بالنبات و الزّرع وَ رَبَتْ و انتفخت بسبب انتشار اصول الحشائش و الزروع فيها، فتكون كالميت الذي نفخ فيه الروح فيحيي. ثمّ استدلّ سبحانه على المعاد بقوله: إِنَّ اَلَّذِي أَحْياها بقدرته لَمُحْيِ اَلْمَوْتى من الأولين و الآخرين يوم البعث إِنَّهُ من الأشياء من الإبداء و الاعادة قَدِيرٌ لا تناهي لقدرته.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 40 الی 43

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض آيات التوحيد، هدّد المجادلين فيها بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ و يحرفون عن سبيل الحقّ بالطعن فِي آياتِنا و إلقاء الشّبهات فيها لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا و لا يسترون منّا، و لا يغيبون عنا، فنسوقهم يوم القيامة إلى النار، و نلقيهم فيها، إذن فانظروا أيّها العقلاء أَ فَمَنْ يُلْقى بالعنف فِي اَلنّارِ على وجهه خَيْرٌ مألا و أحسن حالا أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً من كلّ مكروه يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و يدخل في جنّة عدن، لا شكّ أنّ الثاني خير.

إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي اَلنّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ اَلْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)ثمّ بالغ في التهديد بقوله: اِعْمَلُوا أيّها الكفّار ما شِئْتُمْ من القبائح و الفواحش، فانّكم لا تخرجون من سلطان اللّه، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يعزب عنه مثقال ذرة من أعمالكم، فيجازيكم عليها أسوأ الجزاء، و لم يمنع استعجاله في العذاب إلا الحكمة، فانّها اقتضت إمهالكم، و لا يخاف الفوت.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الملحدين في آياته ازديادا لإرعاب قلوبهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 457


1- . تفسير روح البيان 8:266.

بِالذِّكْرِ و ألحدوا في القرآن لَمّا جاءَهُمْ و حين قرى عليهم من غير تفكّر و تدبّر فيه من وجوه الإعجاز، سيعذّبون بكفرهم و إلحادهم أشدّ العذاب، و كيف يكفرون به وَ الحال إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ و قاهر بالحجّة على سائر الكتب، و مهيمن عليه، أو كثير النفع لعامة الناس،

أو بلا نظير و شبيه لعدم كون كتاب معجزا إلاّ هو لا يَأْتِيهِ اَلْباطِلُ و لا يتطرّق إليه المعارض مِنْ الكتب التي بَيْنِ يَدَيْهِ و من قبله وَ لا من الكتب و الدفاتر التي مِنْ خَلْفِهِ و من بعده، و إنّما اطلق الباطل على المعارض، تنبيها على أنّ كلّ معارض له باطل و فاسد.

قيل: إنّ المراد بالباطل الذي بين يديه النقيصة، و الذي من خلفه الزيادة (1).

و قيل: إنّ المعنى لا يجد الباطل إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يتصل به (2)، فعبّر عن جميع الجهات بأظهرها، و هو القدّام و الخلف، أو المراد لا يأتيه الباطل فيما أخبر به عمّا مضى، و لا فيما أخبر به عمّا يأتى (3).

و عنهما عليهما السّلام: «ليس في إخباره عمّا باطل، و لا في إخباره عمّا يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلّها موافقه لمخبراتها» (4)كلّ لأنّه تَنْزِيلٌ و كتاب منزل مِنْ إله حَكِيمٍ و عالم بحقائق الامور و مصالح الأشياء، لا يفعل و لا يقول شيئا إلاّ بالحكم الكثيرة، و لا ينزل كتابا على من يشاء إلاّ بمصالح و فيرة حَمِيدٍ في أحكامه و أفعاله، محمود على نعمه الجسمانية و الروحانية، التي منها هذا الكتاب العظيم.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ألا إنّها ستكون فتنة. فقلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه؟ قال: كتاب اللّه، فيه نبأ ما قبلكم، و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه اللّه، و من ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه، و هو حبل اللّه المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء، و لا تلتبس به الألسنة و لا يشبع منه العلماء، و لا يخلق من كثرة الردّ، و لا تنقضي عجائبه، و هو الذي لم تنته الجنّ حتى قالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ من قال به صدق، و من عمل به رشد، و من حكم به عدل، و من دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (5).

و من العجب أنّه مع عظمة هذا القرآن، و ظهور كونه معجزا نازلا إليك يا محمد ما يُقالُ لَكَ من

ص: 458


1- . تفسير الرازي 27:131.
2- . تفسير الرازي 27:132، تفسير روح البيان 8:270.
3- . تفسير روح البيان 8:270.
4- . مجمع البيان 9:23، تفسير الصافي 4:362.
5- . تفسير روح البيان 8:270.

جهة كفّار قومك في شأنك و شأن كتابك إِلاّ ما قَدْ قِيلَ من جهة الامم الماضية لِلرُّسُلِ العظام الذين كانوا مِنْ قَبْلِكَ في حقّهم من أنّهم سحرة، أو كهنة، أو مجانين. و في حقّ الكتب السماوية المنزلة عليهم من أنّها أساطير و نحوها.

و قيل: يعني ما يقال لك من قبل اللّه إلاّ ما قيل من قبله للرسل (1)من الأمر بالصبر على سفاهة القوم و أذاهم.

و إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لأوليائه المؤمنين بك و بهم وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لأعدائه الكافرين بك و بهم، المكذّبين لكتابك و كتبهم، فاسع أنت يا حبيبي في التبليغ و الدعوة إلى الحقّ، ثمّ فوّض أمر الناس إليّ، فانّي اعاملهم على حسب استحقاقهم.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 44

ثمّ بيّن سبحانه قطع عذر العرب في الايمان بالقرآن بقوله: وَ لَوْ أنزلنا القرآن و جَعَلْناهُ قُرْآناً و كتابا أَعْجَمِيًّا و منّظما بلغة العجم لَقالُوا اعتراضا عليك و توبيخا لك: لَوْ لا فُصِّلَتْ و هلاّ بيّنت آياتُهُ بلسان نفهمه ءَ كلام، أو كتاب أَعْجَمِيٌّ يوتى إلينا وَ نحن قوم عَرَبِيٌّ لا نفهم شيئا منه؟ و هذا من الغرائب الدالة على كذب كتابك.

وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنه ليس لمشركي العرب الاعتذار من عدم إيمانهم بعدم فهمهم القرآن، و كونه بغير لسانهم، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبيّن لهم علّة عدم إيمانهم، و كون قلوبهم منصرفة عنه، و عدم سماعهم آياته، كما قالوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ . . . وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ (2)بقوله: قُلْ يا محمد لهم: هُوَ لِلَّذِينَ لم يكن في قلوبهم تعصّب و عناد و لجاج و آمَنُوا بالطوع و الرغبة و طلبا للحقّ هُدىً من الضلال و رشاد إلى الحقّ و جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية وَ شِفاءٌ من الأمراض الباطنية كالشكّ و الأخلاق الرذيلة وَ اَلَّذِينَ يستكبرون عن قبول الحقّ، و يصرّون على تقليد الآباء و الكبراء و لا يُؤْمِنُونَ عنادا و لجاجا، كأنّه فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ و ثقل و صمم، لا يسمعون القرآن وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى و موجب لذهاب بصرهم و بصيرتهم، بحيث لا يرون ما فيه من الإعجاز، و ما في الرسول من دلائل الصدق، كما قالوا: بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ (3)بل أُولئِكَ البعداء عن ساحة

ص: 459


1- . مجمع البيان 9:25.
2- . فصلت:41/5.
3- . فصلت:41/5.

رحمة اللّه و سعادة الدارين، إذا تليت عليهم الآيات، أو ذكرت عندهم المواعظ و العبر، كأنّهم يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عنهم غايته، بحيث لا يكاد يسمع منه الكلام، بل إنّما يسمع النداء و الصوت.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ لمّا كان عناد المشركين و إنكارهم صدق القرآن و طعنهم فيه سببا لايذاء قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، سلاّه سبحانه بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى بن عمران التوراة، و أنزلنا إليه ذلك اَلْكِتابَ لهداية قومه فَاخْتُلِفَ فِيهِ فمنهم من آمن به، و منهم من كفر، كما اختلف قومك في كتابك، فمنهم من صدّقه، و منهم من كذّبه، فليس اختلاف قومك في صدق كتابك أمرا بديعا مختصا بقومك، بل هي عادة قديمة للامم وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ و عدة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في حقّ امّتك المكذّبة بالإمهال و عدم استئصالهم بالعذاب في الدنيا بقوله: بَلِ اَلسّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ (1)و قوله: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ (2)تاللّه لَقُضِيَ و حكم بَيْنَهُمْ باستئصال المكذّبين بالعذاب، كما فعل بمكذبي الامم السابقة وَ إِنَّهُمْ ليسوا بقاطعين بكذب كتابك، بل هم و اللّه لَفِي شَكٍّ من صدق كتابك و ترديد مِنْهُ ترديد مُرِيبٍ و موقع قلبهم في الغلق و الاضطراب، فلا تستعظم استيحاشك من تكذيبهم،

و اعلم أنّه مَنْ عَمِلَ صالِحاً من الايمان بكتابك و تعظيمه، و التمسّك به، و العمل بأحكامه فَلِنَفْسِهِ نفعه لا يتعدّى إلى غيره وَ مَنْ أَساءَ و أعرض عنه، و كفر به و طعن فيه فَعَلَيْها ضرره لا عليك و لا على أحد غيره.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)ثمّ قرّر ذلك سبحانه بقوله: وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ بل هو العادل الذي لا يمكن منه الجور، فلا يعذّب غير المسيء، و لا المسيء زائدا على استحقاقه، و لا يضيع أجر المحسنين، و لا ينقص منه. قيل: من ظلم و علم أنّه ظلم فهو ظلاّم. و قيل: إنّ صيغة المبالغة باعتبار كثرة العبيد، لا باعتبار كثرة الظلم. و قيل: إنّ اصله: و ما ربك بظالم، ثمّ نقل مع نفيه إلى صيغة المبالغة، فكانت المبالغة راجعة إلى النفي، و المعنى أنّ الظلم منفيّ عنه نفيا موكّدا مضاعفا (3).

ص: 460


1- . القمر:54/46.
2- . الأنفال:8/33.
3- . تفسير روح البيان 8:274.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ لمّا هدّد سبحانه الكفّار بأنّ ضرر كفرهم راجع إليهم، كان مجال السؤال عن وقته، فأجاب سبحانه تعالى بقوله: إِلَيْهِ تعالى وحده يُرَدُّ عِلْمُ وقت عذابهم، و هو يوم اَلسّاعَةِ و القيامة. ثمّ بيّن سبحانه إحاطته بالحوادث المستقبلة في هذا العالم بقوله تعالى: وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ ذات أكمام و قشور، أو أوعية مِنْ أَكْمامِها و أوعيتها أو قشورها العليا (1)كالجوز و اللوز و نظائرهما وَ ما تَحْمِلُ و لا تحبل مِنْ أُنْثى من الانسان و سائر الحيوانات وَ لا تَضَعُ حملها بِعِلْمِهِ و مقرونا باحاطته، و إنّه إذا سئل أحد عن (2)هذه الامور، لا بدّ له من ردّ علمه إلى اللّه، و يقول: اللّه يعلم، كما يرد العلم بسائر الحوادث الكونية إليه، و لعلّ ذكر الجمل الثلاث من خروج الأثمار و الحمل و الوضع لشباهتها بالبعث من القبور، فليس لأحد أن يسأل عن وقت الساعة من (3)أحد، و له أن يسأل عنها بأهوالها وَ هو يَوْمَ يُنادِيهِمْ قيل: إنّ التقدير: و اذكر يا محمد لقومك يوم يناديهم اللّه (4)، توبيخا لهم، و يقول: أيّها المشركون أَيْنَ شُرَكائِي الذين زعمتم فادعوهم ليخلّصوكم اليوم من عذابي قالُوا يا ربّ آذَنّاكَ و أسمعناك، كما عن ابن عباس (5)ما من أحد مِنّا مِنْ شَهِيدٍ يشهد بأنّ الأصنام شركاءك، إذ تبرّأنا منهم لمّا عاينّا الحال، أو المراد ما منّا أحد يشاهدهم، إذ ضلّوا عنّا،

كما قال سبحانه: وَ ضَلَّ و ضاع عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ و يعبدونه مِنْ قَبْلُ و في زمان حياتهم في الدنيا وَ ظَنُّوا و أيقنوا بأنّه ما لَهُمْ في ذلك اليوم مِنْ مَحِيصٍ و مهرب من العذاب، و مخلص من النار.

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنّاكَ ما مِنّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)و قيل: إنّ قوله: ما مِنّا مِنْ شَهِيدٍ كلام الأصنام، و المعنى ما منّا من شهيد بصحّة ما نسبوا إلينا من الشركة، و على هذا يكون معنى وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أنّه لا ينفعهم (6)، فيكون حضورهم كغيبتهم.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 49 الی 50

لا يَسْأَمُ اَلْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ اَلْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ اَلسّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)

ص: 461


1- . في النسخة: الأعلى.
2- . في النسخة: من.
3- . في النسخة: عن.
4- . تفسى روح البيان 8:276.
5- . تفسير الرازي 27:136.
6- . تفسير الرازي 27:137.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه يأس المشركين فى القيامة من الخلاص من العذاب، بيّن يأسهم في الدنيا من رحمة اللّه عند ابتلائهم بالضرر بقوله: لا يَسْأَمُ و لا يملّ اَلْإِنْسانُ بالطبع و الجبلّة مِنْ دُعاءِ اَلْخَيْرِ و طلب النفع الدنيوي و الاخروي وَ لكن إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ و أصابه الضرر فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ و مبالغ في قطع الرجاء من الرحمة، بحيث تظهر آثار اليأس في وجهه و أعضائه.

و حاصل المراد-و اللّه أعلم-أنّ حال جنس الانسان و طبيعته دائر بين الحرص إلى الفوائد بحيث لا يقف على حدّ كلّما وجد طلب الزيادة، و القنوط الذي هو شدّة اليأس.

ثمّ ذمّه سبحانه على سوء حاله و مقاله عند عود النعمة بقوله: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ و أنعمنا عليه رَحْمَةً و نعمة كائنة مِنّا و بتفضّلنا كالصحة و الغنى و الأمن و نحوها مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ و بلية أصابته من فقر و مرض و خوف و أمثالها لَيَقُولَنَّ غرورا و جهلا هذا الخير العائد إلى حقّ لِي وصل إليّ بفضلي و علميّ لا يزول عنّي أبدا، فيشتغل بالنعمة عن المنعم، و جهل أنّه عطاء من ربّه ليبلوه أيشكر أم يكفر، بل يبالغ في الكفر بقوله: وَ ما أَظُنُّ أنّ اَلسّاعَةَ قائِمَةً و القيامة آتية، كما يزعم المؤمنون بالمعاد وَ لَئِنْ رُجِعْتُ ورددت إِلى رَبِّي على تقدير قيامها و صحة قول القائلين بالمعاد و دار الجزاء، و بعثت من القبر للحساب عند اللّه إِنَّ لِي عِنْدَهُ و اللّه لَلْحُسْنى و الدرجة العليا من النّعم و الكرامة، لأنّ استحقاقي للنعم الدنيوية ملازم لاستحقاقي للنّعم الاخروية مع كون قياس أمر الآخرة على أمر الدنيا من الأوهام الفاسدة و الأماني الكاذبة فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و لنعلمنّهم يوم القيامة بِما عَمِلُوا من الكفر و المعاصي بتجسّم أعمالهم بالصور الواقعية التي تكون لها فينفر منها حتى يتمنّى أن بينه و بينها أمدا بعيدا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ و نطعمنّهم مِنْ طعم عَذابٍ غَلِيظٍ و عقاب شديد لا يمكن وصفه، و لا يعرف كنهه، بدل ما توهّموه من أنّ لهم عند اللّه المثوبة الحسنى و الكرامة العليا.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 51 الی 52

ص: 462

ثمّ بعد حكاية أقواله السيئة، حكى سبحانه أفعاله الشنيعة بقوله: وَ إِذا أَنْعَمْنا بنعمة عَلَى اَلْإِنْسانِ أبطرته و أَعْرَضَ عن الشكر، و كفر بتلك النعمة وَ نَأى بِجانِبِهِ و تباعد بكلّيته عن التّوجّه إلى منعمه تكبّرا و تعظّما، و تولّى بركنه عن طاعة ربّه وَ إِذا مَسَّهُ و أصابه اَلشَّرُّ و الضرر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ و تضرّع طويل.

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى اَلْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)

ثمّ بعد إثبات التوحيد، و حكاية إعراض المشركين عن القرآن و مجادلتهم، و تهديدهم بالعذاب، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالترغيب إلى الايمان بالقرآن بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء المشركين المعرضين عن القرآن أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني أيّها العقلاء إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و نازلا منه، ثمّ أنتم كَفَرْتُمْ بِهِ من غير نظر و تدبّر مع وضوح كونه منه بأدنى نظر، أ لستم في شقاق من اللّه و عناد معه؟ و مَنْ أَضَلُّ و أبعد من طريق الحقّ مِمَّنْ هُوَ كائن فِي شِقاقٍ و خلاف بَعِيدٍ عن الوفاق، و معاداة بعيدة عن الموالاة.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 53 الی 54

ثمّ لمّا كان عمدة أسباب إعراض المشركين عن القرآن نهيه عن الشرك، و دعوته إلى التوحيد، بيّن سبحانه أنّ جميع الموجودات أدلّة التوحيد بقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا و أدلّة توحيدنا أنّا بعد آن و مرة بعد اخرى بذكر أحوال الموجودات فِي اَلْآفاقِ و أقطار السماوات و الأرض، و التنبيه على ما فيها من عجائب الصّنع وَ فِي أَنْفُسِهِمْ و عجائب خلقتهم و أحوالهم حَتّى يَتَبَيَّنَ و يتّضح لَهُمْ توحيد خالقها، و أَنَّهُ اَلْحَقُّ الذي لا يمكن للعاقل الترديد فيه أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ و لم يغنه عن إراءة الآيات أن يروا بفكرهم أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ و كلّ موجود من النّقير القطمير شَهِيدٌ و ناظر، يدبّره كيف يشاء على وفق صلاحه، كما قيل: سبحان من هو عند كلّ شيء و قبله و بعده (1). و روي أنّه ما رأيت شيئا إلاّ و رأيت اللّه قبله و بعده و معه (2).

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)و عن الصادق عليه السّلام: «العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فقد من العبودية وجد في الربوبية، و ما خفي عن الربوبية اصيب في العبودية. قال اللّه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ إلى قوله: شَهِيدٌ أي موجود في غبيتك و حضرتك» (1).

ص: 463


1- . مصباح الشريعة:7، تفسير الصافي 4:365.

أقول: يحتمل أن يكون المراد أنّه يعرف حقيقة الربوبية بمعرفة العبودية، فما فقد من العبودية من الكبرياء و العزّة و الغنى المطلق و العلم بحقائق الأشياء و خفاياها و المغيبات و القدرة الكاملة و غيرها من الكمالات، وجد في الربوبية، فانّ العبودية ذلّة و مسكنة و فقر و جهل و عجز و عدم و فناء، و ما خفي من الربوبية من الكمالات اصيب في العبودية، فانّ العبد بالتفكّر فيما له من الصفات الكمالية، يعلم الكمالات الربوبية؛ لأنّه يرى الكمالات الحاصلة من ربّه، و لا يمكن أن يكون معطى الشيء فاقدا.

قيل: إنّ المراد بالآيات الآيات الدالة على حقّانية القرآن، و كونه من عند اللّه (1)، و المراد بالآيات الافاقية ما أخبر به النبي صلّى اللّه عليه و آله من الحوادث الآتية، كغلبة الروم على فارس في بضع سنين، و ما وقع في الامم الماضية الموافقة لما هو المضبوط في كتب التواريخ و الأنبياء السابقة، مع كون النبي اميا لم يقرأ و لم يتعلّم (2)، أو ما وقع له من الفتوحات و الغلبة على آفاق الدنيا على وجه خارق للعادة (3)، و من قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ هو القحط في مكّة و ما حلّ بأهلها من الخوف و القتل و الأسر (4).

و قيل: إنّ المراد من آيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة (3)، و من آيات أنفسهم فتح مكّة (4).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ عدم تفكّر المشركين في الآيات لجرأتهم على اللّه، لعدم اعتقادهم بالآخرة بقوله: أَلا أيّها العقلاء إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ و شكّ عظيم، و شبهة شديدة مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ بعد الموت، و حضورهم عنده للحساب و جزاء الأعمال، و لذا يجترئون على اللّه في مخالفته و ترك التفكر في آيات توحيده، و رسالة رسوله، و صدق كتابه، فيقولون ما يقولون، و يعملون ما يعملون أَلا أيّها المشركون باللّه، المنكرون للقائه إِنَّهُ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ ظاهره و باطنه مُحِيطٌ بحيث لا يخفى عليه منهم خافية، فيجازيكم على كفركم و سوء نياتكم و جدالكم في الحق أسوأ الجزاء.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ حم السجدة، كانت له نورا يوم القيامة لبصره و سرورا، و عاش في الدنيا محمودا مغبوطا» (5).

و عن (الخصال) عنه: «إنّ العزائم أربع» وعدّ منها هذه السورة (6).

الحمد للّه على إتمام تفسيرها.

ص: 464


1- . تفسير أبي السعود 8:19، تفسير روح البيان 8:281.
2- . تفسير روح البيان 8:281. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 8:19، تفسير روح البيان 8:281.
3- . تفسير الرازي 27:139.
4- . تفسير أبي السعود 8:19.
5- . ثواب الاعمال:113، تفسير الصافي 4:365.
6- . الخصال:252/124، تفسير الصافي 4:365.

في تفسير سورة الشورى

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت، و كانت مبتدئة ببيان عظمة القرآن، و كونه بلغة العرب، و بيان مجادلة المشركين فيه، و طعنهم عليه و ذمّهم، و الجواب عنهم، و بيان أدلّة التوحيد و المعاد و النبوة المختتمة بالوعد بإراءة الآيات الدالّة على التوحيد و صدق القرآن، نظمت سورة حمعسق المبدوءة بتعظيم ما أوحي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، المشتملة على بيان النبوة، و إظهار المنّة على العرب بإنزال القرآن بلسانهم، و ذكر الآيات الدالة على التوحيد، و تهديد المجادلين فيها بقوله: وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا (1)و غير ذلك من المطالب العالية المناسبة للسورة السابقة، فابتدأها بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (3)

ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله: حم* عسق جلبا لتوجّه القلوب إلى المطالب المهمة المذكورة بعدها، و قد مرّ مرارا أنّ كلّ حرف رمز عن الأسماء الحسنى.

عن الصادق عليه السّلام: «معناه الحكيم المثيب العالم السميع القادر القوي» (2). و أيضا رمز عن العلوم الكثيرة، ليستنبطها الراسخون في العلم، و قيل: كلّ واحد من حم و عسق اسم لهذه السورة، و لذا يفصل بينهما (3).

ثمّ عظّم سبحانه المطالب المذكورة في هذه السورة بقوله: كَذلِكَ الموحى في هذه السورة، و مثل ما بها من التوحيد و المعاد و النبوة، و ما فيه صلاح العباد في المعاش و المعاد، أو مثل ذلك الايحاء يُوحِي إِلَيْكَ في سائر السور إِلَى الرسل اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكَ في الكتب المنزلة عليهم اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ و الإله القادر العليم، الذي لا تناهي لعلمه و قدرته و حكمته، فانّ

ص: 465


1- . الشورى:42/35.
2- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:366.
3- . تفسير البيضاوي 2:358، تفسير أبي السعود 8:21، تفسير روح البيان 8:285.

إيحاء هذه المطالب العالية و المباحث القدسية الإلهية ببيان معجز، لا يصدر إلاّ ممّن له كمال القدرة و العلم، و إنّما أتى بصيغة المضارع مع أنّ المناسب ذكر لفظ الماضي، بلحاظ ذكر الرسل السابقة، للدلالة على أنّه عادته المستمرة و تجدّده وقتا بعد وقت.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم ما أوحي بتعظيم ذاته المقدسة بقوله: لَهُ تعالى بالملكية الإشراقية الإيجادية ما فِي اَلسَّماواتِ السبع وَ ما فِي اَلْأَرْضِ ظاهرها و باطنها وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ و المرتفع عن أن تدركه العقول و الأوهام اَلْعَظِيمُ الذي تصغر عنده العظماء

تَكادُ اَلسَّماواتُ مع عظمهنّ و غاية ثخونتهنّ يَتَفَطَّرْنَ و يتشققن من عظمته و خشيته و مهابته مِنْ العرش الذي هو في فَوْقِهِنَّ إلى السماء الدنيا التي هي أسفل من كلّهن، بأن لا تبقى سماء إلاّ سقطت، و إنّما خصّ بدو التفطّر بالعرش لظهور عظمته منه.

لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ (1) تَكادُ اَلسَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ اَلْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَلا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (2)قيل: إنّ المراد من قوله: مِنْ فَوْقِهِنَّ المبالغة في حصول الإشقاق إلى الجميع، كقوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ (3).

و قيل: إنّ ضمير (فوقهن) راجع إلى الأرضين (4)وَ اَلْمَلائِكَةُ الذين لا يعلم عددهم و عظمة خلقهم إلاّ اللّه يُسَبِّحُونَ و ينزّهون مقرونا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ عبودية و تعظيما له وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ من المؤمنين، كما عن الصادق عليه السّلام (5)، إشفاقا بهم.

في الحديث: «ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ و فيه ملك واضع جبهته ساجدا للّه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ (4).

و قيل: إنّ المراد بالملائكة حملة العرش خاصة (5).

أقول: في الآية دلالة على أنّ كمال العبادة التوجّه إلى اللّه، و الاشفاق على الخلق.

قيل: إنّ الجواهر الروحانية لها جهتان: جهة الاستفاضة من المبدأ الأعلى، وجهة الإفاضة إلى العالم الجسماني الأدنى (6)، فقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إشارة إلى الجهة الاولى، و قوله:

ص: 466


1- . تفسير روح البيان 8:287.
2- . تفسير روح البيان 8:287.
3- . تفسير الرازي 27:144.
4- . تفسير أبي السعود 8:22.
5- . جوامع الجامع:427، تفسير الصافي 4:367.
6- . الرازي 27:245.

وَ يَسْتَغْفِرُونَ إشارة إلى الجهة الثانية.

ثمّ لمّا كان تنزيه الذات عن النقائص الامكانية مقدّما على كونه مفيضا للخيرات، قدّم التسبيح الدالّ على التنزيه على الحمد الدالّ على فيّاضيّته.

و قيل: إنّ المراد باستغفارهم لأهل الأرض، تأثيرهم في نظم أحوال العالم على النحو الأصلح و الأصوب (1).

و قيل: هو شفاعتهم في حقّ المؤمنين، و دعاؤهم في حقّ الكفّار بأن لا يعجّل اللّه في عقوبتهم، أو يوفّقهم للإيمان (2).

ثمّ حثّ سبحانه الناس على طلب المغفرة للذنوب، و سؤال ما يحتاجون إليه في دينهم و دنياهم من اللّه تعالى بقوله: أَلا أيّها الناس إِنَّ اَللّهَ هُوَ وحده اَلْغَفُورُ للذنوب اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين، فتوجّهوا إليه و اسألوه غفران ذنوبكم و خير دنياكم و آخرتكم.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ ذمّ سبحانه المشركين الذين توجّهوا إلى غيره، و طلبوا الخير من الأصنام و هدّدهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ تعالى مع أنّه ولي المؤمنين أَوْلِياءَ و جعلوا له شركاء اَللّهُ العظيم حَفِيظٌ و رقيب عَلَيْهِمْ و على أحوالهم و أعمالهم لا يفوته شيء منها، يحاسبهم عليها وَ ما أَنْتَ يا محمد عَلَيْهِمْ من قبل اللّه بِوَكِيلٍ و مفوّض إليك أمرهم حتى تسأل عنهم و تؤاخذهم، إنّما أنت منذر،

و عليك البلاغ وَ كَذلِكَ الوحي الذي كان للأنبياء من قبلك بلسان قومهم أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد قُرْآناً عَرَبِيًّا و كتابا عظيم الشأن بلسان قومك لِتُنْذِرَ العرب الذين يسكنون أُمَّ اَلْقُرى و أصل البلدان، و هو مكّة، لكون الأرض مدحوّة من تحتها وَ مَنْ حَوْلَها و في أطرافها من سائر الأرض وَ تُنْذِرَ الناس و تخوّفهم يَوْمَ اَلْجَمْعِ و الحشر الذي يجتمع فيه أهل السماوات و أهل الأرضين من الأولين و الآخرين و الجنّة و الناس أجمعين، فانّه لظهور وجوب وقوعه لا رَيْبَ فيه، و لا مجال لشكّ يعتريه، ثمّ إنهم بعد الجمع يفترقون فرقتين: فَرِيقٌ منهم-و هم المؤمنون-يدخلون و يسكنون فِي اَلْجَنَّةِ بفضل اللّه وَ فَرِيقٌ آخر منهم-

وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اَللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ اَلْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ (7)

ص: 467


1- . تفسير الرازي 27:145.
2- . تفسير الرازي 27:145.

و هم الكفار-يصلون فِي اَلسَّعِيرِ و النار الملتهبة غضبا عليهم.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ لما قال سبحانه لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: لا تكون على المشركين وكيلا، و لا تقدر على جمعهم على الحقّ، بيّن أنّ تلك القدرة للّه بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ اجتماع جميع الناس على الحقّ لَجَعَلَهُمْ بالقهر أُمَّةً واحِدَةً و فريقا واحدا متّفقين على دين واحد، كما عن ابن عباس (1)وَ لكِنْ لم يشأ اللّه ذلك، لاختلاف طينتهم، و اقتضاء الحكمة ايكالهم إلى إرادتهم و اختيارهم، و جعل التكليف عليهم، ليميّز الخبيث من الطيّب، و الشقيّ من السعيد، فإذن يُدْخِلُ اللّه مَنْ يَشاءُ توفيقه لطيب طينته، و قوّة عقله، و سلامة نفسه فِي رَحْمَتِهِ و دينه الحقّ في الدنيا، و جنّته في الآخرة، لأنّه وليّه و ناصره وَ أمّا اَلظّالِمُونَ الذين اتّخذوا من دونه أولياء ما لَهُمْ في الدنيا، و لا في الآخرة مِنْ وَلِيٍّ و حافظ لصلاح، يعينهم على ما فيه خيرهم و صلاحهم وَ لا نَصِيرٍ يدفع عنهم العذاب الدنيوي و الاخروي.

وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (8) أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللّهُ هُوَ اَلْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ اَلْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

ثمّ أكّد سبحانه توبيخ المشركين على اتّخاذهم الاصنام أولياء بقوله: أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ لأنفسهم من الأصنام التي لا قدرة لها و لا شعور أَوْلِياءَ لا و اللّه هذا غاية السّفه و الحمق، فمن طلب وليا يستفيد من ولايته فَاللّهُ وحده هُوَ اَلْوَلِيُّ الحقيقي الذي بيده الامور كلّها من الخير و الشرّ وَ هُوَ يُحْيِ اَلْمَوْتى و ليس في عالم الوجود من له هذه القدرة، بل وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ إيجادا و إعداما و تصرّفا و تقلّبا قَدِيرٌ.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 10

ثمّ لمّا بيّن تفرّق الناس و اختلافهم في الدين، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بنهي المؤمنين عن مخاصمة الكفّار و منازعتهم في شيء و التوّكل على اللّه في دفع كيدهم بقوله: وَ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ قيل: إنّ التقدير: قل يا محمد للمؤمنين ما اختلفتم فيه أيّها المؤمنون مع الكفّار مِنْ شَيْءٍ من امور الدين فَحُكْمُهُ

وَ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللّهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10)

ص: 468


1- . تفسير أبي السعود 8:23، تفسير روح البيان 8:290.

راجع إِلَى اَللّهِ من إثابة المؤمنين المحقّين، و تعذيب الكفّار المبطلين يوم الفصل و القضاء (1).

قيل: إنّ المراد فما أختلفتم فيه، فتحاكموا إلى الرسول (2).

و قيل: يعني و ما اختلفتم فيه من الامور التي لا ترتبط بالأحكام كمسألة الروح، فقولوا: اللّه أعلم (3). و ما اختلفتم فيه من المتشابهات، فارجعوا إلى المحكمات ذلِكُمُ الحاكم بالحقّ اَللّهِ الذي هو رَبِّي و ربّكم عَلَيْهِ خاصّة تَوَكَّلْتُ في جميع اموري التي منها دفع شرّ الأعداء و المشركين وَ إِلَيْهِ وحده أُنِيبُ و أرجع في جميع المهمّات و المعضلات، و لمّا كان التوكّل أمرا وحدانيا مستمرا، أتى بصيغة الماضي، و أمّا الإنابة فهي متجدّدة حسب تجدّد الحوائج، و لذا أتى بصيغة المضارع، فكلوا أنتم يا أتباعي على اللّه، و أنيبوا إليه.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 11 الی 12

ثمّ لمّا كان التوكّل التامّ و الإنابة في جميع الامور و الحوائج موقوفا على العلم بكمال قدرة اللّه و لطفه و رأفته، عرّف سبحانه قدرته و رأفته. و علمه بقوله: فاطِرُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ خالقهما و جَعَلَ لَكُمْ و خلق لطفا بكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ و من جنسكم بقدرته و لطفه و إحسانه أَزْواجاً وَ حلائل، و خلق مِنَ اَلْأَنْعامِ للأنعام أَزْواجاً و قيل: يعني و خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا و إناثا (2)، لترتفقوا بها، و هو بسبب الإزدواج يَذْرَؤُكُمْ و يكثركم أيّها الناس و الأنعام، أو يبثّكم بهذا التدبير الذي به التوالد و التناسل، و فِيهِ و إنّما ذكر سبحانه كلمة (فيه) في محلّ (به) تنزيلا للتدبير و الازدواج منزلة المعدن للبثّ و التكثير، و في استعمال ضمير (كم) الذي هو للخطاب إلى جماعة العقلاء، مع أنّ الأنعام غير عقلاء، و غائبة لتغليب العقلاء، و الخطاب على غير العقلاء و الغيب (3).

فاطِرُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)لَيْسَ كَمِثْلِهِ و شبيه نظيره على تقدير وجود المثل و النظير له شَيْءٌ و موجود من الموجودات، فكيف بأن لا يكون له مثل و نظير؟ ففيه مبالغة في نفي المثل له تعالى. و قيل: إنّ الكاف

ص: 469


1- . تفسير أبي السعود 8:24. (2 و 3) . تفسير الرازي 27:149.
2- . تفسير أبي السعود 8:24، تفسير روح البيان 8:292.
3- . في تفسير روح البيان 8:293: ففيه تغليبان، تغليب المخاطب على الغائب، حيث لم يقل يذرأكم و أياهن لأن الأنعام ذكرت بلفظ الغيبة، و تغليب العقلاء على غيرهم، حيث لم يقل يذرأها و أياكم فان (كم) مخصوص بالعقلاء.

هنا زائدة (1).

و على أي تقدير لا شبهة أنّ مثل الشيء هو المشابه له في الذات و الصفات، و لا مشابهة بين الممكن و الواجب، لا في الذات و لا في الصفات، و إن تشاركا في صدق بعض المفاهيم كالموجود و العالم و القادر و السميع و البصير و نظائرها، إلاّ أن بين مناشيها في الواجب و الممكن غاية المغايرة، كما هو محقّق في محلّه.

و لمّا كان سمّاع الوكيل و مرجع الحوائج لمقال المتوكّل و المنيب و رؤية ابتلائهما معتبرا في قضاء الحوائج، وصف ذاته المقدّسة بقوله: وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لجميع المسموعات اَلْبَصِيرُ بكلّ المبصرات بغير جارحة، بل باحاطته بجميع الموجودات التي منها الأصوات و الأفعال و الكيفيات

لَهُ تعالى مَقالِيدُ خزائن خيرات اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مفاتيحها، لا يتصرّف فيها إلاّ هو يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ و يوسعه لِمَنْ يَشاءُ توسعة رزقه وَ يَقْدِرُ و يضيق على من يشاء ضيقه حسب علمه بمصالح نظام العالم و مصالح الأشخاص إِنَّهُ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء و مصالحها و مضارّها عَلِيمٌ و خبير.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 13

ثمّ لمّا أخبر سبحانه بأنّه عالم بالمصالح و المفاسد، و أنّه يوحي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إلى الأنبياء من قبله، بيّن ما أوحى إليه و رآه مصلحة للعباد (2)بقوله: شَرَعَ اللّه و سنّ لَكُمْ يأ امّة محمد مِنَ اَلدِّينِ المرضي عنده ما وَصّى بِهِ نُوحاً الذي [هو]

أول اولي العزم من الرسل، و أمره به أكيدا وَ الدين اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد و خاتم الرسل و آخر اولي العزم منهم، و في تلوين الخطاب من الغيبة إلى التكلّم، و التعبير عن الوصية بالايحاء إليه دلالة واضحة على تعظيمه و رسالته، ردا على المنكرين لها وَ ما وَصَّيْنا و أمرنا بِهِ أكيدا سائر أولي العزم من الرسل الذين بينهما، أعني إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى و ذلك الموصى به و الموحى إليك أمر واحد، و هو أَنْ أَقِيمُوا و أشيعوا متّفقا في النّاس اَلدِّينِ المرضيّ عند اللّه، و هو الاسلام المركّب من التوحيد، و المعارف

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اَللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)

ص: 470


1- . تفسير روح البيان 8:293.
2- . في النسخة: العباد.

الإلهية، و المعاد، و الأخلاق، و الزّهد في الدنيا، و الإقبال إلى الآخرة، و تظاهروا على حفظه و المواظبة عليه وَ لا تَتَفَرَّقُوا و لا تختلفوا فِيهِ.

أقول: فيه دلالة على أنّ أصل الدين من أول الدنيا الاسلام، و الأحكام فروعه التي تختلف باختلاف الاعصار.

و قيل: إنّ المراد اجتمعوا على التوحيد، و لا تتفرّقوا بآلهة كثيرة، فانّ ذلك خلاف العقل، و مع ذلك كَبُرَ و ثقل و شقّ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ قبول ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد و رفض عبادة الأصنام، لخبث طينتهم، و ضعف عقولهم و اَللّهُ يَجْتَبِي و يجمع و يجلب إِلَيْهِ و يوفّق لقبول توحيده مَنْ يَشاءُ توفيقه و جلبه وَ يَهْدِي إِلَيْهِ بالإرشاد و الإمداد و ألطافه الخاصّة مَنْ يُنِيبُ و يقبل إليه بقلب سليم.

روي أنّه تعالى قال: من تقرّب منّي شبرا، تقرّبت منه ذراعا، و من أتاني يمشي أتيته هرولة (1).

قيل: إنّ المعنى من أقبل إليّ بطاعته، أقبلت إليه بهدايتي و إرشادي بأن أشرح صدره و أسهّل أمره (2).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه بعث نوحا إلى قومه أن أعبدوا اللّه و اتّقوه و أطيعوني، ثمّ دعاهم إلى اللّه وحده، و أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا، ثمّ بعث الأنبياء على ذلك، إلى أن بلغوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله فدعاهم إلى أن يعبدو اللّه، و لا يشركوا به شيئا، و قال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ إلى قوله: مَنْ يُنِيبُ فبعث الأنبياء إلى قومهم بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و الإقرار بما جاء من عند اللّه، فمن آمن مخلصا، و مات على ذلك، أدخله اللّه الجنّة بذلك، و ذلك أنّ اللّه ليس بظلام للعبيد، و ذلك إن اللّه لم يكن يعذّب عبدا (1)حتى يغلّظ عليه في القتل و المعاصي التي أوجب اللّه عليه بها النار، فلمّا استجاب لكلّ نبيّ من استجاب له من قومه من المؤمنين، جعل لكلّ نبيّ شرعة و منهاجا، و الشرعة (2)و المنهاج سبيل و سنّة» (3).

و عن الرضا عليه السّلام في تأويله: «نحن الذين شرع اللّه لنا دينه، فقال في كتابه: شَرَعَ لَكُمْ يا آل محمد مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً و وصّينا بما وصّى به نوحا، وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى فقد أعلمنا و بلّغنا علم ما علمنا، و استودعنا علمهم، نحن ورثة أولوا العزم من الرسل أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ يا آل محمد وَ لا تَتَفَرَّقُوا و كونوا على جماعة كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ من أشرك بولاية عليّ ما تَدْعُوهُمْ من ولاية علي، إنّ اَللّهُ يا محمّد يَهْدِي

ص: 471


1- . في النسخة: أنه إن لم يكن يعذب أبدا.
2- . في النسخة: و الشرع.
3- . الكافي 2:24/1، تفسير الصافي 4:369.

إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ من يجيبك إلى ولاية عليّ» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ قال: «الامام وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كناية عن أمير المؤمنين ما تَدْعُوهُمْ من ولاية عليّ مَنْ يَشاءُ كناية عن عليّ عليه السّلام. . .» (2).

أقول: لا يخفى اغتشاش الروايتين على ما وجدتهما.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ بيّن سبحانه علّة اختلاف الامم بعد اتفاق الأنبياء في الدين، و نهي الناس عن التفرّق فيه بقوله: وَ ما تَفَرَّقُوا و ما اختلفوا في الدين الحقّ في وقت إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ و حصل لهم اَلْعِلْمُ بحقّانية ذلك الدين المتّفق عليه، بالحجج الظاهرة، و البراهين القاطعة بَغْياً و طلبا للدنيا و شهواتها و جاهها، أو ظلما و عنادا بَيْنَهُمْ لا لخفاء الحقّ و الشّبهة فيه وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ وعدة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بإمهالهم و تأخير عقوبتهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت معين عند اللّه، و هو يوم القيامة، أو آخر أعمارهم المقدّرة، و اللّه لَقُضِيَ و حكم بَيْنَهُمْ باستئصالهم بالعذاب لغاية استحقاقهم و عظمة عصيانهم بالكفر بالتوحيد، و إنكار رسالة الرسول، مع ظهور معجزاته و كثرة دلائل صدقه وَ إِنَّ اليهود و النصارى اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتابَ السماوي من سبابقيهم، و وصل إليهم التوراة و الإنجيل مِنْ بَعْدِهِمْ و في عصر نبيّكم، لا يكونون بقاطعين بكذب القرآن، بل هم و اللّه لَفِي شَكٍّ مِنْهُ و ترديد في صدقه مُرِيبٍ و موقع لقلوبهم في القلق و الاضطراب.

وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اَللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اَللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ (15)

و قيل: إنّ المراد أنّهم لفي شكّ من كتابهم لا يؤمنون به حقيقة (3)فَلِذلِكَ التفرّق و الشكّ الذي يكون لهم في كتابك، أو كتابهم فَادْعُ جميع الناس إلى دين اللّه و توحيده و كتابه وَ اِسْتَقِمْ و اثبت على الدعوة كما أُمِرْتَ من قبل ربّك وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ.

روي أنّه قال الوليد بن المغيرة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ارجع عمّا أنت عليه إلى دين آبائك، اعطك نصف مالي.

ص: 472


1- . بصائر الدرجات:139/1، الكافي 1:174/1، تفسير الصافي 4:368.
2- . تفسير القمي 2:274، تفسير الصافي 4:368.
3- . تفسير روح البيان 8:299.

و قال له شيبة بن ربيعة: إن رجعت إلى دين آبائك ازوّجك بنتي. فنزلت وَ اِسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ (1).

وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنْ كِتابٍ أيّ كتاب كان من الكتب المنزلة، و لست كالذين قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض وَ أُمِرْتُ أيضا من قبل ربّي لِأَعْدِلَ في الحكم بَيْنَكُمُ إذا تحاكمتم إليّ، أو المراد لاسوّي بين ضعيفكم و قويكم و وضيعكم و شريفكم في الدعوة و الهداية، أو اسوّي بينكم و بين نفسي بأن احبّ لكم ما احبّ لنفسي، و لا افرّق بين نفسي و بينكم، بأن آمركم بما لا أعمل به، و أنهاكم عمّا لا انتهي عنه اَللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ ليس ربي غير ربّكم لَنا أَعْمالُنا و جزاؤها، لا اعذّب بسيئاتكم، و لا تعذّبون بسيئاتي، فوجب أن يهتمّ كلّ أحد باصلاح عمل نفسه لا حُجَّةَ باقية، و لا مجال بعد للمحاجّة بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ لأنّه أقمت عليكم حجّتي، و وضح عندكم صدقي، فاذا جاء يوم القيامة اَللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا في صعيد واحد وَ إِلَيْهِ وحده اَلْمَصِيرُ و إلى حكمه المرجع، لا يحكم بين الخلق إلاّ هو، و لا يمتنع أحد عن نفوذ حكمه عليه، فيجازينا و إيّاكم على أعمالنا بعد تمامية الحجّة علينا في الدنيا.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 16 الی 18

ثمّ لمّا كان لليهود و النصارى مجال الاحتجاج على صحّة دينهم، بأنّه ممّا اتفق عليه، فلزم أن يكون حقا، ردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ و يخاصمون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين فِي دين اَللّهِ الذي دعا إليه الرسول مِنْ بَعْدِ ما اُسْتُجِيبَ لَهُ من قبل كثير من الناس، أو من قبل المحاجّين في عالم الذرّ و يوم الميثاق حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ و باطلة عِنْدَ رَبِّهِمْ لأنّهم اتّفقوا على وجوب الايمان بمن أدّعى الرسالة، و أتى بمعجزة دالة على صدقه، و لذا آمنوا بموسى و عيسى عليهما السّلام، فلزم من ذلك الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله حيث أتى بمعجزات شاهدوها دالة على صدق دعوى رسالته، فليس لهم التفكيك بين الايمان بموسى عليه السّلام و الايمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله.

وَ اَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اُسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اَللّهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ اَلْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ أَلا إِنَّ اَلَّذِينَ يُمارُونَ فِي اَلسّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)

ص: 473


1- . تفسير روح البيان 8:299.

ثمّ هدّدهم سبحانه على أباطيلهم بقوله: وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ شديد من اللّه لمكابرتهم الحقّ بعد ظهوره وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يوصف بالبيان على كفرهم.

ثمّ أكد نزول القرآن من اللّه بقوله: اَللّهُ هو اللطيف اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتابَ الجامع للعلوم و الأحكام مقرونا بِالْحَقِّ، و شواهد الصدق، وَ أنزل اَلْمِيزانَ قيل: هو الشرع الذي يوزن به الأعمال، و يعيّن به وزن الأشخاص، و يعتبر به الحقوق (1). و قيل: هو كناية عن نفس العدل في الحقوق، و إنزاله كناية عن الأمر به (2)، أو المراد به معناه الحقيقي لما (3)روي أنّ جبرئيل نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح، فقال له: مر قومك يزنوا به (4).

و قيل: إنّ المراد به خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله (1). و قال القمي: هو أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

أقول: لا شكّ أن المعنيين واحد، و إنّما قرن اللّه الميزان بالكتاب تنبيها على أن العدل في الحقوق أهمّ الامور بعد التوحيد، و أنّه المقصود المهمّ من الكتاب، و أنّ العدل و ميزان الأعمال هو المهمّ في القيامة، و لذا ذكرها بعده بقوله: وَ ما يُدْرِيكَ يا محمد، و أيّ شيء يعلمك بحال الساعة التي هي من العظم و الشدّة و الخفاء بحيث لا يعلم وقت وقوعها أحد إلاّ بإعلامنا لَعَلَّ تلك اَلسّاعَةَ التي نطق بمجيئها الكتاب شيء قَرِيبٌ مجيئها، فكونوا منها على حذر، و تهيئوا لها بأعمالكم، و العجب أنّه مع ذلك

يَسْتَعْجِلُ بِهَا و سأل سرعة مجيئها استهزاء بالكتاب و بالنبي المخبرين بوقوعها الكفّار اَلَّذِينَ لا يعتقدون بالساعة و لا يُؤْمِنُونَ بِها لعدم خوفهم منها، و يقولون: متى هي؟ ليتها قامت حتى يظهر أنّا على الحقّ أم محمد وَ لكن اَلَّذِينَ آمَنُوا بها بإخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه كلّهم مُشْفِقُونَ و خائفون مِنْها و يتداركون لها، و يتمنّون تأخيرها، لأنّهم يتيقّنون وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ الواقع لا محالة أَلا أيّها العقلاء اعلموا إِنَّ السّفهاء اَلَّذِينَ يُمارُونَ و يجادلون النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين فِي إمكان وقوع اَلسّاعَةِ و ينكرون مجيئها عنادا و لجاجا، و اللّه لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحقّ، لوضوح إمكانه، و كمال قدرة اللّه على إتيانها، و وضوح وجوب الوفاء بالوعد على اللّه، و وجوب وقوعها، لأنّ استيفاء حقّ المظلوم من الظالم، و عدم التسوية بين المطيع و العاصي واجب، فلو لم تجيء الساعة لزم تضييع حقّ المظلوم و المطيع، و هو محال على اللّه.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 19

اَللّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ (19)

ص: 474


1- . مجمع البيان 9:40، تفسير روح البيان 8:302.
2- . تفسير القمي 2:274، تفسير الصافي 4:370.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه إنزاله الكتاب و الميزان، نبّه كونه لطفا بعباده بقوله: اَللّهُ لَطِيفٌ و كثير الاحسان بِعِبادِهِ المؤمنين، حيث هداهم إلى الإيمان و الخيرات الدنيوية و الاخروية بإنزال الكتاب و إرسال الرسول.

ثمّ لمّا كان مجال القول بأنّ الرزق لطف، و هو للكفّار أكثر من المؤمنين، نبّه بأنّه ليس من جهة اللّطف بقوله: يَرْزُقُ من نعمه الدّنيوية مَنْ يَشاءُ أن يرزقه من المؤمن و الكافر وَ هُوَ اَلْقَوِيُّ القادر على ما يشاء اَلْعَزِيزُ الذي لا يغالب و لا يدافع، و يحتمل أن لا تكون قضية يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ لدفع الدّخل المقدّر، بل للاستشهاد بها على عموم لطفه، و المعنى أنّ شاهد لطفه أنّه يرزق من يشاء أن يرزقه كيفما يشاء، فيخصّ كلا من عباده بنوع من الرزق على حسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمة البالغة.

روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «لطفه في الرزق الحلال، و تقسيمه على الأحوال» (1).

و قيل: يرزق من يشاء بغير حساب (2).

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام. قيل له: اللّه لطيف بعباده يرزق من يشاء. قال: «ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام» (3).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 20

ثمّ إنّه تعالى بعد إظهار لطفه بعباده، حثّهم على العمل للآخرة بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله حَرْثَ اَلْآخِرَةِ فانّه كالبذر لفوائدها و الثمرات الأبدية نَزِدْ و نضاعف لَهُ فِي حَرْثِهِ و أجره و ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ اَلدُّنْيا و فوائدها من الأمتعة و الأموال و الجاه و الرئاسة نُؤْتِهِ شيئا مِنْها حسبما قسمنا له.

مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من كانت نيّته الآخرة، جمع اللّه شمله، و جعل غناه في قلبه، و أتته الدنيا و هي راغمة، و من كانت نيّته الدنيا، فرّق اللّه عليه أمره، و جعل فقره بين عينيه، و لم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب اللّه له» (4)وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ شيء مِنْ نَصِيبٍ من الثواب، و حظّ من النّعم، إذ كانت همّته مقصورة على الدنيا، و لكلّ امرئ ما نوى.

ص: 475


1- . تفسير روح البيان 8:305.
2- . تفسير روح البيان 8:304.
3- . الكافي 1:361/92، تفسير الصافي 4:371.
4- . مجمع البيان 9:41، تفسير الصافي 4:371.

عن الصادق عليه السّلام: «المال و البنون حرث الدنيا، و العمل الصالح حرث الآخرة، و قد يجمعها اللّه لأقوام» (1).

و عنه عليه السّلام: «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب، و من أراد به خير الآخرة أعطاه اللّه خير الدنيا و الآخرة» (2).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 21 الی 23

ثمّ إنّه تعالى بعد إظهار منّته على العباد، بتشريع الدين المرضيّ عنده لهم، و إنزال الكتاب و الميزان، و بّخ المشركين بقوله: أَمْ لَهُمْ من الأصنام. قيل: إنّ المعنى بل لهم من شياطين الانس و الجنّ (3)الذين زيّنوا لهم عبادة الأصنام شُرَكاءُ للّه شَرَعُوا و سنّوا لَهُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اَللّهُ و لم يرض به من الشرك و إنكار البعث و حرمة السائبة و الوصيلة و أخواتهما وَ لَوْ لا كَلِمَةُ اَلْفَصْلِ و الوعد السابق بإمهالهم و تأخير عذابهم إلى الموت، أو الوعد بأنّ الفصل يكون القيامة، و اللّه لَقُضِيَ بين الكافرين و المؤمنين، أو بين المشركين و شركائهم، و يحكم بَيْنَهُمْ بنزول العذاب وَ إِنَّ المشركين الذين هم أظلم اَلظّالِمِينَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ و عقاب موجع غايته.

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اَللّهُ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ اَلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى اَلظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ اَلْجَنّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ (22) ذلِكَ اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّهُ عِبادَهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

ثمّ شرح سبحانه حال المشركين و الموحّدين في الآخرة بقوله: تَرَى يا محمد، أو أيّها الرائي المشركين اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بإهلاكها بسبب سوء العقائد و الأعمال مُشْفِقِينَ و خائفين غاية الخوف (من) عذاب ما كَسَبُوا و عملوا من القبائح و السيئات وَ هُوَ لا محالة واقِعٌ بِهِمْ و هم واقعون فيه، [سواء]

كان مشفقين منه أم لا وَ أما اَلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد اللّه وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ فانّهم متمكّنون فِي رَوْضاتِ اَلْجَنّاتِ و أطيب البساتين و أنزهها لَهُمْ ما يَشاؤُنَ و يشتهون من النّعم و اللّذات المدّخرة عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف

ص: 476


1- . تفسير القمي 2:274، تفسير الصافي 4:371.
2- . الكافي 1:37/2، تفسير الصافي 4:371.
3- . تفسير روح البيان 8:308.

بهم ذلِكَ المذكور من المسكن الطيّب و النّعم الفائقة المعدّة للمؤمنين هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ و الإنعام العظيم الذي تصغر دونه الدنيا بحذافيرها ألف ألف مرّة

ذلِكَ الفضل الكبير هو الثواب اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّهُ به في الدنيا عِبادَهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ على لسان نبيه، و فيه غاية تعظيم الأجر المذكور على الايمان و العمل الصالح.

قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى ثمّ لمّا كان مجال توهّم الجاهل طمع النبي صلّى اللّه عليه و آله في الأجر على تبليغ الكتاب و تبشير المؤمنين بالأجر العظيم، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاعلان بأن لا طمع له في الأجر بالمال و الجاه من أحد بقوله: قُلْ يا محمد، للناس: إنّي لا أَسْئَلُكُمْ و لا أتوقّع منكم على التبليغ و التبشير عَلَيْهِ أَجْراً و عوضا دنيويا من مال و جاه و غيرهما، كما لا يطلب اللّه منكم على هدايتكم و إنعامه عليكم و لا الأنبياء السابقون على تبليغهم أجرا و عوضا إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ الكائنة فِي ذوى اَلْقُرْبى و من انتسب إليّ بالنسب.

روى بعض العامة أنّه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم: أترون أن محمدا لا يسأل على ما يتعاطاه أجرا، فنزلت (1).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع و قدم المدينة، أتته الأنصار، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ اللّه تعالى قد أحسن إلينا، و شرّفنا بك، و بنزولك بين ظهرانينا، فقد فرّح اللّه صديقنا، و كبت عدوّنا، و قد تأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم، فيشمت بك العدوّ، فنحبّ أن تأخذ ثلث أموالنا، حتى إذا قدم عليك وفد مكّة وجدت ما تعطيهم. فلم يرد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم شيئا، و كان ينتظر ما يأتيه من ربّه، فنزل جبرئيل عليه و قال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى و لم يقبل أموالهم. فقال المنافقون: ما أنزل اللّه هذا على محمد، و ما يريد إلاّ أن يرفع بضبع ابن عمّه، و يحمل علينا أهل بيته، يقول أمس من كنت مولاه، فعلي مولاه، و اليوم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى» (2).

روى بعض العامة: أنّها لمّا نزلت قيل: يا رسول اللّه، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: «علي و فاطمة و ابناي الحسن و الحسين» (3).

ص: 477


1- . تفسير أبي السعود 8:30، تفسير روح البيان 8:310.
2- . الكافي 1:234/3، تفسير الصافي 4:372.
3- . تفسير الرازي 27:166، تفسير البيضاوي 2:362، تفسير أبي السعود 8:30، تفسير روح البيان 8:311.

و روى العلامة عن الجمهور في الصحيحين، و أحمد بن حنبل في مسنده، الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس، قال: لمّا نزلت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى قالوا: يا رسول اللّه، من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «علي و فاطمة و ابناهما» (1).

و ردّ بعض العامة هذه الرواية بأنّ السورة مكّية من غير استثناء منها، و لم يكن لفاطمة حينئذ أولاد (2).

في ردّ بعض العامة

أقول: فيه أنّ الدعوى ممنوعة، لما روي عن الصادق عليه السّلام أنّها مدنية (3)، مع أنّه يحتمل تكرار نزولها، و كان السؤال بعد نزولها في المدينة.

و عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه: «لما نزلت هذه الآية، قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: أيّها الناس، إنّ اللّه تبارك و تعالى قد فرض عليكم فرضا، فهل أنتم مؤدّوه؟ فلم يجبه أحد منهم، فانصرف. فلمّا كان من الغد قام فقال مثل ذلك، فلم يجبه أحد، ثمّ قام فقال مثل ذلك في اليوم الثالث، فلم يتكلّم أحد، فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه ليس من ذهب و لا فضّة و لا مطعم و لا مشرب. قالوا: فألقه إذا. قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل عليّ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى فقالوا: أمّا هذه فنعم» .

قال الصادق عليه السّلام: «فو اللّه ما و فى بها إلاّ سبعة: سلمان، و أبو ذرّ، و عمّار، و المقداد بن الأسود الكندي، و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و مولى لرسول اللّه، و زيد بن أرقم» (4).

أقول: هذه الرواية منافية لما روي عنه عليه السّلام في شأن نزولها، إلاّ أن يقال إنّ قيامه كان في مجمع جمع من المنافقين، لم يكن فيهم أحد من الخلّصين كسلمان و أضرابه، و من الذين التمسوا منه قبول ثلث أموالهم للبذل للوفّاد.

و عن عليّ عليه السّلام، قال: «فينا في حم آية، لا يحفظ مودّتنا إلاّ كلّ مؤمن» ثمّ قرأ هذه الآية (5).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «ما يقول أهل البصرة في هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً الآية؟ قيل: إنّهم يقولون إنّها لأقارب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قال: «كذبوا، إنّما نزلت فينا خاصة؛ في أهل البيت عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين أصحاب الكساء» (6).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: «هم الأئمّة عليهم السّلام» (7).

و عن عليّ عليه السّلام، أنّه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لم يحبّ عترتي فهو لإحدى ثلاث: إمّا منافق،

ص: 478


1- . نهج الحق:175/4.
2- . تفسير روح البيان 8:311.
3- . لم نعثر عليه و على فرض وجود تلك الرواية اريد بها بعض آياتها كما هو معلوم و صرح به في بعض الروايات.
4- . قرب الإسناد:78/254، تفسير الصافي 4:372.
5- . مجمع البيان 9:43، تفسير الصافي 4:373.
6- . الكافي 8:93/66، تفسير الصافي 4:373.
7- . الكافي 1:342/7، تفسير الصافي 4:373.

و إمّا لزنية، و إمّا حملت به امه في غير طهر» (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى، و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة أنا أصلها، و علي فرعها، و فاطمة لقاحها، و الحسن و الحسين ثمارها، و أشياعنا أوراقها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، و من زاغ هوى، و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الصفا و المروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام حتى يصير كالشّنّ (2)البالي، ثمّ لو يدرك محبّتنا، أكبّه اللّه على منخريه في النار، ثمّ تلا: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى (3).

روى الزمخشري في (الكشاف) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من مات على حبّ آل محمد مات شيهدا، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات مغفورا له، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات تائبا، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات مستكمل الايمان، ألا و من مات على حبّ آل محمد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمد يزف إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حبّ آل محمد فتح له من قبره بابان إلى الجنّة، ألا و من مات على حبّ آل محمد، جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات على السنّة و الجماعة.

ألا و من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة اللّه، ألا و من مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا و من مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنة» (4).

و قال الفخر الرازي: أنا أقول: آل محمد هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أوّل امره إليه أشدّ و أكمل، كان هو الآل، و لا شكّ أنّ فاطمة و عليا و الحسن و الحسين كان التعلق بينهم و بين رسول اللّه أشدّ التعلّقات، و هذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل. إلى أن قال: فاذا ثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلّى اللّه عليه و آله، وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم. إلى أن قال: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، لذلك جعل خاتمة التشهّد في الصلاة، و هو قوله: «اللهمّ صلّ على محمد و آل محمد، و ارحم محمدا و آل محمد» و هذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل (5).

في ردّ فخر الرازي

أقول: جميع ما قال هذا الرجل يدلّ على تقدّم عليّ عليه السّلام على آئمّته، و على أفضلية فاطمة على عائشة، و كونها سيّدتها و سيّدة نساء العالمين.

ص: 479


1- . الخصال:110/82، تفسير الصافي 4:374.
2- . الشّن: القربة الخلق الصغيرة.
3- . مجمع البيان 9:43، تفسير الصافي 4:373.
4- . الكشاف 4:220، تفسير الرازي 27:165.
5- . تفسير الرازي 27:165.

ثمّ قال: قوله: إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى فيه منصب عظيم للصحابة، لأنّه قال: وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ (1)أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ (2)فكلّ من أطاع اللّه كان مقرّبا عند اللّه، فدخل تحت قوله: إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى.

أقول: هذا الكلام ممّا تضحك به الثكلى، لأنّه يتمّ بناء على كون المراد من القربى الذين تقرّبوا إلى اللّه و رسوله بالعبادة و الطاعة، لا القرب النسبي، و لا الأشخاص المعيّنة في الروايات النبوية بطرق عامية و خاصية، و لم يقل به أحد.

و على الثاني لا يدخل في الآية غير الأربعة، أو المعصومين من ذرّيته، بناء على التعدّي إلى نظائر الأربعة، و على الأول يدخل فيه الأشخاص الكثيرة، و لا اختصاص له بالسابقين من الصحابة.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 23

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين على مودّة ذوى القربى بقوله: وَ مَنْ يَقْتَرِفْ و يكتسب فعلة أو خصلة حَسَنَةً عظيمة، و هي مودّة المذكور نَزِدْ لَهُ في تلك الحسنة في الدنيا و الآخرة، و نضاعف فِيها حُسْناً أمّا في الدنيا فبالتوفيق و التأييد و الإخلاص، و أمّا في الآخرة فبالمغفره و الدرجات العالية و النّعم التي يكون فهمها و فهم حسنها خارجا من طوق البشر.

ذلِكَ اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّهُ عِبادَهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم هذه الحسنة باظهار شكره لها بقوله: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لذنوب محبّي ذوي القربى و شَكُورٌ لاحسانهم عليه بهذه المودة التي هي أحبّ الأمور عنده، فانّ الشكر هو فعل ما ينبيء عن تعظيم المنعم لكونه منعما، و الوادّ لآل الرسول صلّى اللّه عليه و آله كأنّه أنعم على اللّه بمودّته لهم، فشكر سبحانه هذه النعمة بتوفية ثوابها، و التفضّل عليه بما لا يقادر قدره، و بإكرامه غايته.

قال الفخر الرازي: قيل: إنّها نزلت في أبي بكر، و الظاهر أنّها للعموم في أي حسنة كانت، إلاّ أنّها لمّا كانت عقيب ذكر المودّة في القربى دلّ على أن المقصود التأكيد في تلك المودّة (3).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّها نزلت فينا أهل البيت، أصحاب الكساء» (4).

و عن الحسن المجتبى عليه السّلام، أنه قال في خطبة له: «إنّا من أهل بيت افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم، فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ إلى قوله: حُسْناً فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت» (5).

و عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «من توالى الأوصياء من آل محمد و تبع آثارهم، فذاك نزيده (4)

ص: 480


1- . التوبة:9/100.
2- . الواقعة:56/10.
3- . تفسير الرازي 27:167. (4 و 5) . مجمع البيان 9:44، تفسير الصافي 4:374.
4- . في الكافي: يزيده، و في النسخة: تزيده.

ولاية من مضى من البيين و المؤمنين الأولين حتى تتصّل ولايتهم إلى آدم» (1)و عنه عليه السّلام «الاقتراف التسليم لنا و الصدق علينا و لا يكذب علينا» (2).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 24

ثمّ لمّا بيّن سبحانه في أوّل السورة عظمة القرآن، و أنّه بوحي اللّه، و ذكر بعده المطالب العالية التي لا تصدر من النبي الامّي إلاّ بوحي، و بّخ المشركين على طعنهم فيه و نسبة الكذب إليه بقوله: أَمْ يَقُولُونَ قيل إنّ المعنى بل أيقول (3)هؤلاء المشركون: إنّ القرآن ليس وحيا من اللّه، بل اِفْتَرى محمد بدعوى الرسالة من اللّه، و نسبة القرآن إليه عَلَى اَللّهِ كَذِباً مع تسالمهم على كونه صادقا في سائر الامور، امينا من جميع الجهات، و أنّه امّي لا يقرأ كتابا، و لم يجالس عالما، و لم يتعلّم من أحد، فهذه النسبة إليه من غاية الحمق.

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اَللّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اَللّهُ اَلْباطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (24)ثمّ لوّن الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَإِنْ يَشَإِ اَللّهُ ختم قلبك يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ و يطبع عليه حتى تفتري على اللّه مثل هذا الافتراء العظيم، فانّه لا يصدر من أحد إلاّ كان مطبوع القلب مختوما عليه، و فيه غاية استبعاد الافتراء منه صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّ المراد إن يشأ اللّه يربط على قلبك بالصبر على أذى المشركين حتى لا يشقّ عليك نسبتهم الافتراء إليك (4).

و قيل: إنّ المعنى إن يشاء اللّه عدم صدور القرآن منك لمنعك عن التكلم بأن يختم على قلبك، فلا يخطر بقلبك معانية، و لا ينطق لسانك بحرف من حروفه، و حيث لم يكن الأمر كذلك، بل تواتر الوحي به حينا بعد حين، تبيّن أنّه من عند اللّه (5).

و بعبارة اخرى المراد أنّ اللّه قادر على أن يختم على قلبك، و لو كنت مفتريا عليه لختم على قلبك، و لمّا لم تكن مفتريا عليه، لم يختم على قلبك.

ثمّ أكّد سبحانه نفي الافتراء عن القرآن بقوله: وَ يَمْحُ اَللّهُ بلطفه الافتراء اَلْباطِلَ و يمحقه حتى لا يبقى على الأرض وَ يُحِقُّ و يثبت اَلْحَقَّ بين الناس إلى يوم القيامة بِكَلِماتِهِ و حججه و بيّناته، أو بوحيه و قضائه، أو بسبب مواعيده المكرّرة المؤكّدة.

ص: 481


1- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:374.
2- . الكافي 1:321/4، تفسير الصافي 4:374.
3- . تفسير أبي السعود 8:30، تفسير روح البيان 8:313.
4- . تفسير أبي السعود 8:31.
5- . تفسير أبي السعود 8:31، تفسير روح البيان 8:313.

أقول: يحتمل أن يكون هذا وعدا من اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله بأنّه يمحو الباطل الذي عليه المشركون من البهت و الفرية و التكذيب، و يثبت الحقّ الذي كان عليه محمد صلّى اللّه عليه و آله، أو القرآن الذي أتى به.

إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و مطّلع على الضمائر، فيعلم ما في قلبك و قلوب أعدائك، فيجري الأمر على حسب ذلك، و لا يخفى عليه صدق نيّتك و سوء ظنّ المشركين في حقّك، فيجزى كلاّ على حسب ما في قلبه.

عن الباقر عليه السّلام-تأويل الآية-يقول: «لو شئت حبست عنك الوحي، فلم تكلّم بفضل أهل بيتك و لا بمودّتهم، و قال اللّه: وَ يَمْحُ اَللّهُ اَلْباطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِماتِهِ يقول: يحقّ لأهل بيتك الولاية إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ يقول: بما ألقوه في صدورهم من العداوة لأهل بيتك و الظّلم بعدك» (1).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 25

ثمّ ندب سبحانه المشركين إلى التوبة ممّا هم فيه من الشرك و سوء الظنّ بالنبي بقوله: وَ هُوَ الإله العطوف اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ العاصين، و يتجاوز عن سيئاتهم التي تابوا منها، و ندموا عليها.

وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)عن ابن عباس: هي عامة للمؤمن و الكافر، و الوليّ و العدوّ، فمن تاب منهم قبل اللّه توبته (2).

في شرائط التوبة

المقبولة

روى بعض العامة عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري: أنّ أعرابيا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: اللهمّ إنّي استغفرك و أتوب إليك، و كبّر فلمّا فرغ من صلاته قال له علي عليه السّلام: «يا هذا، إنّ اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، و توبتك هذه تحتاج إلى التوبة» .

فقال: يا أمير المؤمنين، ما التوبة؟ قال: «التوبة تقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب بالندامة، و على تضييع الفرائض بالإعادة، و ردّ المظالم، و إذابة النفس في الطاعة كما ربيّتها في المعصية، و إذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، و البكاء بدل كلّ ضحك ضحكته» (3).

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار الرأفة بعباده بقوله: وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ صغيرها و كبيرها، لمن يشاء برحمته، و إن لم يتوبوا وَ إنّه تعالى يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من خير و شرّ، فيجازي التائب، و يتجاوز عن غير تائب حسبما تقتضيه مشيئته البليغة المبتنية على الحكم و المصالح.

عن الحسين بن علي سيد الشهداء عليه السّلام قال: «اجتمع المهاجرون و الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 482


1- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:374.
2- . تفسير روح البيان 8:314.
3- . تفسير الرازي 27:168، تفسير أبي السعود 8:31، تفسير روح البيان 8:314.

فقالوا: إنّ لك-يا رسول اللّه-في نفقتك، و فيمن يأتيك من الوفود حاجة، و هذه أموالنا مع دمائنا، فاحكم بارّا مأجورا، أعط ماشئت، و أمسك ما شئت من غير حرج.

قال: فأنزل اللّه قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى يعني أن تودّوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول اللّه على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحثنا (1)على قرابته من بعده، إن هو إلاّ شيء افتراه محمد في مجلسه. و كان ذلك من قولهم عظيما، فأنزل اللّه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اَللّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ (2)فبعث إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي و اللّه يا رسول اللّه، لقد قال بعضنا كلاما عظيما كرهناه، فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآية، فبكوا و اشتدّ بكائهم، فأنزل اللّه عز و جل: وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الآية» (3).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 26

ثمّ أعلن سبحانه بفضله على المطيعين من المؤمنين بقوله: وَ يَسْتَجِيبُ اللّه دعاء اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إذا دعوه، و يثيبهم على طاعتهم. قيل: شبّه سبحانه إثابة المؤمنين على طاعتهم باستجابة دعائهم؛ لأنّ في طاعته طلب الثواب (4)وَ يَزِيدُهُمْ على ما سألوه مِنْ فَضْلِهِ و كرمه.

وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَلْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)و قيل: يعني و يستجيب المؤمنون للّه بالطاعة، و يزيدهم اللّه على ما استحقّوه من الثواب تفضّلا (5)، كما قال: اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ فكأنّه قال تعالى: و اللّه يدعو إلى دار السّلام، و يستجيب الذين آمنوا.

و قال بعض العامة: الزيادة مفسّرة بالشفاعة لمن وجبت له النار (6). و رواه في (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (7).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا [قال:] «هو المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب، فيقول له الملك: آمين، و يقول العزيز الجبّار: و لك مثلا ما سألت، و قد أعطيت ما سألت لحبّك إياه» (8).

ثمّ إنّه تعالى بعد إظهار لطفه بالمؤمنين، أعلن بغضبه على الكفار بقوله: وَ اَلْكافِرُونَ باللّه و رسله

ص: 483


1- . في النسخة: ليحبنا.
2- . الاحقاف:46/8.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:235/1، تفسير الصافي 4:375.
4- . تفسير روح البيان 8:316.
5- . تفسير روح البيان 8:316.
6- . تفسير روح البيان 8:317.
7- . مجمع البيان 9:46، تفسير الصافي 4:376.
8- . الكافي 2:368/3، تفسير الصافي 4:376.

و كتبه و الدار الآخرة لَهُمْ فيها عَذابٌ شَدِيدٌ بالنار، و القول بأنّ الآية تدلّ بدليل الخطاب على ثبوت العذاب غير الشديد للمؤمن فاسد، لعدم حجّته دليل الخطاب.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 27

ثمّ لمّا وعد سبحانه إجابة دعاء المؤمن، كان مجال السؤال أنّه كيف يكون ذلك مع ضيق معيشة كثير من المؤمنين و ابتلائهم بالشدّة من جهتها مع استجابة دعائهم؟ فأجاب سبحانه عن ذلك بقوله تعالى: وَ لَوْ بَسَطَ اَللّهُ اَلرِّزْقَ لِعِبادِهِ وسّعه عليهم في الدنيا، و اللّه لَبَغَوْا و طغوا فِي وجه اَلْأَرْضِ و لهو عن ذكر اللّه، و انهمكوا في الشهوات و المعاصي، أو لتكبّروا في أنفسهم.

وَ لَوْ بَسَطَ اَللّهُ اَلرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)عن ابن عباس: بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة، و مركبا بعد مركب، و ملبسا بعد ملبس (1).

و قيل: يعني يظلم بعضهم بعضا (2).

وَ لكِنْ لطفا بالعباد يُنَزِّلُ اللّه رزقهم بِقَدَرٍ معين، وحدّ محدود في علمه ما يَشاءُ أن ينزله من الرزق بما تقتضيه مشيئته و حكمته، و ما يكون صلاحهم في دينهم و دنياهم.

عن الصادق عليه السّلام: «لو فعل لفعلوا، و لكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض، و استعبدهم بذلك، و لو جعلهم كلّهم أغنياء لبغوا» (1).

إِنَّهُ تعالى بِعِبادِهِ و بخفايا امورهم و مصالحهم و جلاياها خَبِيرٌ بَصِيرٌ.

ذكر حديث قدسي

عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، عن جبرئيل، عن اللّه تعالى، أنّه قال: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، و إنّي لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، و إنّي لأغضب لهم كما يغضب الليث الجريء، و ما تقرّب إليّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه، و ما زال عبدي المؤمن يتقرّب إلى بالنوافل حتى احبّه، فاذا أحببته كنت له سمعا و بصرا و يدا مؤيدا، إن دعاني أجبته، و إن سألني أعطيته» .

إلى أن قال: «و إنّ من عبادي المؤمنين لمن يسأل الباب من العبادة فأكفه عنه، لئلا يدخله عجب فيفسده ذلك، و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ الفقر، و لو أغنيته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ الغنى، و لو افقرته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ الصحّة، و لو اسقمته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح

ص: 484


1- . تفسير القمي 2:276، تفسير الصافي 4:376.

إيمانه إلاّ السّقم، و لو أصححته لأفسده ذلك، إنّي ادبّر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم، إنّي بعبادي خبير بصير» (1).

روي عن خبّاب بن الأرتّ: أنّ الآية فينا نزلت، و ذلك أنّا نظرنا إلى أموال بني قريظة و بني النّضير و بني قينقاع فتمنيناها (2). و قيل: نزلت في أهل الصّفّة، تمنّوا سعة الرزق و الغنى (3).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إنزال رزق العباد على حسب مصالحهم، بيّن سعة جوده و كرمه بقوله: وَ هُوَ القادر الجواد اَلَّذِي بجوده و قدرته يُنَزِّلُ من السماء اَلْغَيْثَ و المطر النافع لأهل الأرض حين احتاجوا إليه، و مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا و يأسوا من نزوله، و إنّما قيّد سبحانه نزوله بذلك لايجابه كمال الفرج و الشكر وَ يَنْشُرُ على عباده رَحْمَتَهُ و يبثّ عليهم أنواع بركاته. قيل: هي الشمس بعد المطر، فانّها عظيمة النفع و الوقع (4).

وَ هُوَ اَلَّذِي يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ اَلْوَلِيُّ اَلْحَمِيدُ (28) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)و في الحديث القدسيّ: لو أنّ عبادي أطاعوني أمطرتهم بالليل، و أطلعت عليهم الشمس بالنهار، و ما أسمعتهم صوت الرعد (5).

وَ هُوَ اَلْوَلِيُّ لهم الناظر في خيرهم و صلاحهم، و مالك امورهم اَلْحَمِيدُ و المستحقّ للحمد على إنعامه، المحمود على افعاله و إحسانه.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه آية قدرته و رحمته، ذكر آية اخرى على قدرته و الوهيته بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ و أدلّة قدرته و الوهيته خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ على عظمتها، و ما هما عليه من تعاجيب الصّنع الدالة على عظمته وَ خلق ما بَثَّ و فرّق فِيهِما مِنْ دابَّةٍ و موجودات فيه متحركة بالارادة من الملائكة و الجّن و الإنس و سائر الحيوانات، فانّ الملائكة ماشون كما يطيرون وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ جمعهم لمصلحة فيه كالمحاسبة قَدِيرٌ.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 30 الی 31

وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (31)

ص: 485


1- . تفسير روح البيان 8:318، مجمع البيان 9:46 «قطعة» .
2- . تفسير الرازي 27:171، تفسير روح البيان 8:319، و في النسخة: فتمناها.
3- . تفسير الرازي 27:171، تفسير روح البيان 8:319.
4- . تفسير روح البيان 8:319.
5- . تفسير روح البيان 8:320.

ثمّ لمّا بيّن رأفته و رحمته على الناس، بيّن علّة ابتلائهم بالمصائب بقوله: وَ ما أَصابَكُمْ أيّها الناس، و إن نزلت بكم مِنْ مُصِيبَةٍ و بلية، كالفقر و المرض و غيرهما فَبِما كَسَبَتْ و عملت أَيْدِيكُمْ و جوارحكم من المعاصي و الذنوب، و إنّما نسب الكسب إلى اليد، لكون غالب الأعمال بها. روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يصيب بن آدم خدش عود إلاّ بذنب» (1).

وَ يَعْفُوا اللّه عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب. عن الصادق عليه السّلام: «ليس من التواء عرق و لا نكبة حجر (2)و لا عثرة قدم و لا خدش عود إلاّ بذنب، و أمّا ما يعفو اللّه أكثر ممّا عجلّ اللّه عقوبته في الدنيا، فانّ اللّه أجل و أكرم و أعظم من أن يعود في عقوبته في الآخرة» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل: أرايت ما أصاب عليا و أهل بيته من بعده، أهو بما كسبت أيديهم و هم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتوب إلى اللّه و يستغفره في كلّ يوم مائة مرة من غير دنب، و إنّ اللّه تعالى يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم من غير ذنب» (4).

و عن (المجمع) عن علي عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خير آية في كتاب اللّه هذه الآية. يا علي، ما من خدش عود و لا نكبة قدم إلاّ بذنب، و ما عفاه اللّه عنه في الدنيا أكثر، فهو أكرم من أن يعود فيه، و ما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثنّي على عبده» (5).

ثمّ اعلم أنّ الخطاب للمكلّفين، فلا يشمل البهائم و الأطفال و المجانين، نعم قد تكون مصائبهم [في]

مالكي البهائم و والدي الأطفال و المجانين و أقاربهم، فتكون كفّارة لذنوبهم وَ ما أَنْتُمْ أيّها العصاة بِمُعْجِزِينَ اللّه فِي اَلْأَرْضِ و فائتين منه بالهرب، إن أراد ابتلاءكم و عقوبتكم بذنوبكم وَ ما لَكُمْ في العالم مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه مِنْ وَلِيٍّ يدفع عنكم العقوبة بالموالاة وَ لا نَصِيرٍ و معين يدفعها عنكم بالقوة.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 32 الی 35

وَ مِنْ آياتِهِ اَلْجَوارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

ص: 486


1- . تفسير الرازي 27:172.
2- . نكبت الحجارة رجله: لثمتها و أدمتها.
3- . الكافي 2:323/6، تفسير الصافي 4:377.
4- . تفسير القمي 2:277، الكافي 2:326/2، تفسير الصافي 4:377.
5- . مجمع البيان 9:47، تفسير الصافي 4:377.

ثمّ نبّه سبحانه على آية اخرى داله على قدرته و رحمته بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على كمال عظمته و رحمته السفن اَلْجَوارِ و السائرات فِي اَلْبَحْرِ بالرياح الطيبة كَالْأَعْلامِ و الجبال العظيمة

إِنْ يَشَأْ اللّه يُسْكِنِ اَلرِّيحَ التي تجري السفن بها فَيَظْلَلْنَ و يبقين رَواكِدَ و ثوابت و غير جاريات في البحر، و غير سائرات عَلى ظَهْرِهِ فلا يقدر أحد على تحريك الريح و إجراء السفن، فيقع سكّانها في الاضطراب و خوف الغرق إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من كون جري السّفن و ركودها بإرادة اللّه لَآياتٍ عديدة و أدلة واضحة على قدره اللّه و رحمته، و إنّما الاستدلال و الانتفاع بها لِكُلِّ صَبّارٍ على البلايا و المحن شَكُورٍ لنعم اللّه، فانّ المؤمن إذا كان صبورا في البلاء شكورا لنعم اللّه، لا يصرفه الابتلاء بركود السفن و البطر بجريها عن التفكّر في تلك الآيات.

و قيل: إنّ المراد من الصبّار الشكور المؤمن الكامل الايمان، فانّ الايمان نصفه الصبر عن المعاصي، و نصفه الشكر باتيان الواجبات (1).

أَوْ يُوبِقْهُنَّ قيل: هو عطف على (يسكن) و المعنى إن يشأ يسكن الريح أو يرسلها عاصفة فيغرقهنّ و يغرق أهلهنّ جميعا (2)بِما كَسَبُوا و عملوا و يهلك بعضهم وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ من أهلهنّ، فينجيهم من الغرق، و ذلك الايباق و الاهلاك لينتقم من العاصي (1)

وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ و ينازعون فِي آياتِنا بأنّه ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ و مخلص من عذابنا، إذا وقفت السّفن، أو عصفت الرياح، فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأنّ الضارّ و النافع هو اللّه لا غيره.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 36 الی 39

ثمّ لمّا كان عدم التفكّر في الآيات و المجادلة فيها بسبب حبّ الدنيا، و الانهماك في شهواتنا، و الحرص على جميع أمتعتها، بيّن سبحانه حقارة الدنيا، و سرعة زوالها المقتضية لعدم الاعتناء بها و الإعراض عنها بقوله: فَما أُوتِيتُمْ أيّها الناس، و اعطيتم من قبل ربّكم مِنْ شَيْءٍ ترغبون إليه و تتنافسون فيه من الأموال و المزارع و الأولاد و الرئاسة و الجاه فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا تتمتّعون بها

فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَ اَلَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ اَلْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

ص: 487


1- . في النسخة: المعاصي.

في مدّة أعمارهم فيها، و انتفاعات قليلة تنقطع بخروجكم منها وَ ما عِنْدَ اَللّهِ من المثوبات الاخروية خَيْرٌ من جميع الدنيا و ما فيها وَ أَبْقى و أدوم منها، حيث لا انقطاع و لا زوال له أبدا، و هي خالصة لِلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و أخلصوا له دينهم وَ عَلى رَبِّهِمْ وحده في جميع امورهم يَتَوَكَّلُونَ و يعتمدون

وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ و يحترزون كَبائِرَ اَلْإِثْمِ و عظائم الذنوب، و هي التي أوعد اللّه عليها النار.

و عن ابن عباس: كبير الإثم هو الشرك (1)، و لعلّ المراد الشرك الخفي حتى يجتمع مع الايمان.

وَ يحترزون اَلْفَواحِشَ و المعاصي المتناهية في القبح، و هي من عطف الخاصّ على العام، للإيذان بغاية شناعته، و قيل: الكبائر و الفواحش واحد، و إنّما التغاير باعتبار الوصف (2)وَ إِذا ما غَضِبُوا على أحد هُمْ يَغْفِرُونَ و يحلمون و لا ينتقمون.

عن الباقر عليه السّلام: «من كظم غيضا و هو يقدر على إمضائه، حشى اللّه قلبه أمنا و إيمانا يوم القيامة، و من ملك نفسه إذا رغب و إذا رهب و إذا غضب، حرّم اللّه جسده على النار» (3).

وَ اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ حين دعاهم بلسان رسوله إلى الايمان و التسليم و الطاعة، و إنّما خصّه بالذكر مع أنّه عين الايمان المذكور في السابق، لمزيد التشريف.

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى الايمان، فاستجابوا له (4).

و قيل: إنّ المراد الاستجابة عن صميم القلب، و هو الرضا بقضاء اللّه، بحيث لا تكون في قلبه منازعة في أمر من الامور (5).

وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ اليومية التي هي أهمّ الواجبات و رأسها، إن قبلت قبل ما سواها. في الحديث: أوّل ما يحاسب العبد يوم القيامة بصلاته، فان صلحت أفلح و انجح، و إن فسدت خاب و خسر (6).

وَ أَمْرُهُمْ إذا وقعت واقعة شُورى و تشاور بَيْنَهُمْ لا يتفرّدون برأي، و لا يقدمون على عمل إلاّ بعد تبادل الآراء، و اجتماع ذوي الرأي منهم عليه، و تصويبهم إيّاه.

في الحثّ على

المشاورة في الامور

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نعم الموازنة المشاورة، و بئس الاستعداد الاستبداد» (7).

ص: 488


1- . تفسير الرازي 27:176، تفسير أبي السعود 8:34، تفسير الصافي 8:327.
2- . تفسير روح البيان 8:330.
3- . تفسير القمي 2:277، تفسير الصافي 4:378.
4- . تفسير أبي السعود 8:34، تفسير روح البيان 8:331.
5- . تفسير الرازي 27:176، تفسير روح البيان 8:331.
6- . تفسير روح البيان 8:331.
7- . تفسير روح البيان 8:331.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ما من رجل يشاور أحدا إلاّ هدي إلى الرّشد» (1).

و عن القمي: يشاورون الإمام [فيما يحتاجون إليه]من أمر دينهم (2).

وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ من الأموال و الأمتعة و النّعم يُنْفِقُونَ في مرضاة اللّه، و يحتمل كون المراد من قوله: مِمّا رَزَقْناهُمْ مطلق البرّ و المعروف. عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ معروف صدقة» (3).

وَ اَلَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ اَلْبَغْيُ و وقع عليهم الظّلم من ذي شوكة جريء على اللّه، لا يرضون بالذّلّ و الهوان لأنفسهم بتحمّل الظّلم، بل هُمْ يَنْتَصِرُونَ و ينتقمون من الظالم على الوجه الذي جعل اللّه له و رخّصه فيه، لدفع الذّلّ عن نفسه، و ردع الظالم من الجرأة على الضعفاء، و هو وصفهم بالشجاعة و الصلابة في الدين بعد وصفهم بسائر امّهات الفضائل، و لا تنافي بين مدحهم بالعفو عند الغضب و كظم الغيض، و بين مدحهم بعدم الرضا بالظلم عليهم، و تحمّل الذّلّ، و تضييع حقّهم، و إقدامهم على إحقاق حقّهم من الظالم، فانّه من إباء النفس الذي هو من الفضائل.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 40

ثمّ لمّا رخّص سبحانه في الانتقام من الظالم، بيّن حكمه بقوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ و جناية صادرة من المسيء و الجاني إن أردتم المجازاة سَيِّئَةٍ و جناية مِثْلُها لا تزيد عليها، و إنّما اطلق اسم السيئة على الجزاء باعتبار أنّه يسوء الآخر فَمَنْ عَفا عن المسيىء، و لم يقابل إساءته بإساءة وَ أَصْلَحَ بينه و بين من يعاديه بالعفو و الإغضاء فَأَجْرُهُ العظيم عَلَى اَللّهِ و في إيهام الأجر إشعار بغاية عظمته، بحيث لا يمكن وصفه و تحديده.

وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (40)

في فضيلة العفو عن

المسيىء

روي أنّ أبا بكر كان عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، و رجل من المنافقين يسبّه، و أبو بكر لم يجبه، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ساكت يتبسّم، فأجابه أبو بكر، فقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و ذهب. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، ما دام يسبّني كنت جالسا، فلمّا أجبته قمت؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ ملكا يجيبه عنك، فلمّا أجبته ذهب و جاء الشيطان، و أنا لا أكون في مجلس يكون هناك الشيطان» فنزل فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ (4).

و في حديث عامي: «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين العافون عن الناس؟ هلمّوا إلى ربّكم،

ص: 489


1- . مجمع البيان 9:51، تفسير الصافي 4:378.
2- . تفسير القمي 2:277، تفسير الصافي 4:378.
3- . صحيح مسلم 2:697/1005، صحيح البخاري 8:20/51، تفسير روح البيان 8:332.
4- . تفسير روح البيان 8:235.

و خذوا اجوركم، و حقّ لكلّ مسلم إذا عفا أن يدخله الجنّة» (1).

و عنه عليه السّلام: «إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة نادى مناد: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس، و هم قليلون، فينطلقون سراعا إلى الجنّة، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إنّا نراكم سراعا إلى الجنّة، فمن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: و ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظلمنا صبرنا، و إذا سيء إلينا اغتفرنا، و إذا جهل علينا حلمنا، فيقولون لهم: ادخلوا الجنّة، فنعم أجر العاملين» (2).

و عن (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على اللّه فليدخل الجنّة؟ فيقال: من ذا الذي أجره على اللّه؟ فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنّة بغير حساب» (3).

و عن الصادق عليه السّلام. قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليكم بالعفو، فان العفو لا يزيد العبد إلاّ عزّا، فتعارفوا يعزّكم اللّه» (4).

ثمّ أعلن سبحانه بغضبه على الظالمين الذين منهم من اقتصّ زائدا على المثل بقوله: إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ و يقطع عنهم رحمته، سواء كانوا مبتدئين بالظلم، أو متجاوزين في القصاص على المثل.

قيل: في إخباره تعالى بعدم حبّه للظالمين بعد الحثّ على العفو عنه، تنبيه على أنّ العفو عن المؤمن-الذي هو حبيب اللّه-أولى، و فيه ما لا يخفى (5).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 41 الی 43

ثمّ نبّه سبحانه على أنّه لا مؤاخذة على المظلوم في انتصاره و انتقامه بقوله: وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ و انتقم من الظالم بَعْدَ ظُلْمِهِ و إسائته إليه فَأُولئِكَ المنتصرون ما عَلَيْهِمْ لأحد مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة أو المؤاخذة؛

لأنّهم فعلوا ما ابيح لهم من الانتصار (6)إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ بالمعاقبة عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ بأن يبدؤهم بالظلم، أو يعتدوا في الانتقام وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ و يتجبّرون فيها بِغَيْرِ اَلْحَقِّ بأن يدّعوا الالوهية أو النبوة أو الامامة أُولئِكَ الظالمون و الباغون لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لظلمهم و بغيهم مضافا إلى القصاص و الحدّ في الدنيا

وَ و اللّه لَمَنْ صَبَرَ

وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (43)

ص: 490


1- . تفسير روح البيان 8:235.
2- . تفسير روح البيان 8:236.
3- . مجمع البيان 9:51، تفسير الصافي 4:379.
4- . الكافي 2:88/5، تفسير الصافي 4:379.
5- . تفسير الرازي 27:181.
6- . في النسخة: الانصار.

على أذى المؤمنين و إساءتهم إليه وَ غَفَرَ لمن ظلمه و آذاه و لم ينتصر، و فوّض أمره إلى اللّه إِنَّ ذلِكَ الصبر لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ و واجبات الأعمال، لكونه من كمال النفس، و صفات الربّ، و كرائم الأخلاق، و في تأكيد الخبر باللام دلالة على غاية محبوبيته عند اللّه.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 44 الی 46

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الظالمين بقوله: وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ عن طريق الجنّة بخذلانه حتى يرتكب الظلم على المؤمنين فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ و مراعي صلاح يوفّقه للخير و سلوك طريق الصواب و الجنّة مِنْ بَعْدِهِ تعالى و بعد خذلانه وَ تَرَى يا محمد، أو يأمن له البصر اَلظّالِمِينَ على أنفسهم، و على المؤمنين لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ يوم القيامة يَقُولُونَ تحسّرا و تمنّيا: يا ربّ هَلْ إِلى مَرَدٍّ و رجوع إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ حتى نتدارك ما فاتنا من الأعمال الصالحة،

و نتوب ممّا ارتكبنا من الظلم و الأعمال السيئة وَ تَراهُمْ أيّها الرائي أنّهم يساقون إلى النّار و يُعْرَضُونَ عَلَيْها حال كونهم خاشِعِينَ و حقيرين، أو مرخين أجفانهم بسبب مالهم مِنَ اَلذُّلِّ و الهوان، و هم يَنْظُرُونَ إلى النّار مِنْ طَرْفٍ و تحريك ضعيف لأجفانهم خَفِيٍّ على غيرهم نظرهم إليها، يعبّر عن هذا النظر باستراق النظر، لأنّهم لا يقدرون على أن يملأوا عيونهم منها من شدّة الخوف و غاية الذلّ.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى اَلظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ اَلذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قالَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَلْخاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَلا إِنَّ اَلظّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)و قيل: إنّ المراد أنّهم ينظرون النار بابصار قلوبهم لا بأعينهم؛ لأنّهم يحشرون عميا، أو يسحبون على وجوههم (1). و قيل: لا يرفعون أجفانهم من خجلة المؤمنين (2).

وَ قالَ اَلَّذِينَ آمَنُوا حين رأوهم على تلك الحالة توبيخا لهم: إِنَّ اَلْخاسِرِينَ أشدّ الخسران هم الكفّار و العصاة اَلَّذِينَ خَسِرُوا و أضرّوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للعذاب بسبب اختيارهم الشرك، و ارتكابهم العصيان وَ أضرّوا أَهْلِيهِمْ من أزواجهم و أولادهم و أقاربهم، بمنعهم عن الايمان، و ترغيبهم إلى الكفر و الطّغيان، و لم يقوهم من النار يَوْمَ اَلْقِيامَةِ.

ص: 491


1- . تفسير روح البيان 8:338.
2- . تفسير روح البيان 8:338.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية خسرانهم بقوله تبارك و تعالى: أَلا اعلموا أيّها العقلاء إِنَّ اَلظّالِمِينَ و الكافرين في الآخرة متمكّنون فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم لا انقطاع له أبدا. قيل: إنّه من تمام كلام المؤمنين (1)

وَ ما كانَ لَهُمْ في ذلك اليوم مِنْ أَوْلِياءَ و أصدقاء يَنْصُرُونَهُمْ بدفع العذاب مِنْ دُونِ اَللّهِ حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا من أصنامهم وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يحرفه عن طريق الحقّ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ يؤدّي سلوكه إلى النجاة من العذاب.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ إنّه تعالى بعد التهديدات الشديدة، وعظ الناس بقوله تبارك و تعالى: اِسْتَجِيبُوا أيّها الناس لِرَبِّكُمْ اللطيف بكم حين دعاكم بلسان رسوله إلى الايمان مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ كم يَوْمٌ كثير الأهوال لا مَرَدَّ و لا دافع لَهُ مِنَ قبل اَللّهِ القادر العظيم بعد ما حكم و وعد به، أو المراد من قبل أن يأتي من اللّه يوم لا يمكن ردّه لأحد.

اِسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ اَلْبَلاغُ وَ إِنّا إِذا أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ اَلْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)و قيل: إنّه يوم الموت، و معنى لا مَرَدَّ لَهُ أنّه لا يقبل التقديم و التأخير (2).

و قيل: إنّه يوم القيامة، و معنى (لا مردّ له) أنّه لا يمكن فيه الردّ إلى الدنيا (3). ما لَكُمْ أيّها العصاة من عذاب اللّه مِنْ مَلْجَإٍ و مخلص يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ينكر علينا تعذيبكم، فيرفع العذاب عنكم باعتراضه علينا، أو المراد ليس لكم إنكار ما اقترحتموه من المعاصي؛ لأنّها مدوّنة في صحائف أعمالكم، و تشهد عليها الكرام الكاتبين و جوارحكم (4).

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله كي لا يتأثّر قلبه الشريف من اعتراض المشركين و المعاندين عن دعوة اللّه إيّاهم إلى الإيمان و وعده و وعيده بقوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن استجابة دعوة اللّه إلى الايمان، و لم يعتنوا بدعائك إليه فَما أَرْسَلْناكَ إليهم لتكون عَلَيْهِمْ حَفِيظاً و رقيبا تمنعهم عن الكفر و الأعمال السيئة، و تقهرهم على الاستجابة إِنْ عَلَيْكَ و ما شأنك و وظيفتك إِلاَّ اَلْبَلاغُ و أداء ما ارسلت به إليهم، و قد أدّيت بأكمل الأداء، فلا يهمّك إعراضهم، فانّ ضرره عليهم لا عليك.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 48

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ اَلْبَلاغُ وَ إِنّا إِذا أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ اَلْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)

ص: 492


1- . تفسير أبي السعود 8:36.
2- . مجمع البيان 9:54، تفسير الرازي 27:183.
3- . مجمع البيان 9:54، تفسير الرازي 27:183.
4- . تفسير أبي السعود 8:36.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ سبب إعراضهم ليس إلاّ الغرور بالدنيا، و الانهماك في شهواتها، و كفرانهم نعم اللّه بقوله: إِنّا إِذا أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا و بلطفنا رَحْمَةً و نعمة من الصحة و الغنى و الأمن و الأولاد و الرئاسة و الجاه فَرِحَ و اغترّ بِها و بطر لأجلها، و يظنّ أنّه بهذا القدر من نعم الدنيا فاز بكلّ المنى، و وصل إلى أعلى السعادات، لعدم تصوّره السعادة الاخروية التي جميع الدنيا و ما فيها بالنسبة إلى أقلّ قليل منها كالقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط وَ إِنْ تُصِبْهُمْ و وردت عليهم سَيِّئَةٌ و بلية كالفقر و المرض و الخوف و نحوهما بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و بسبب ما أرتكبته جوارحهم من المعاصي و القبائح فَإِنَّ اَلْإِنْسانَ لاستعظامه تلك البلية ينسى النعم الإلهية، لأنّه بالطبع كَفُورٌ مبالغ في الإعراض عن الشكر، إلاّ من وفّقه اللّه لأدائه، و عصمه من الكفران.

قيل: في تصدير الشرطية الاولى بإذا، و إسناد الإذاقة إلى نون العظمة، تنبيه على أنّ إيصال النعمة محقّق كثير الوقوع، و أنّه مقتضى ذاته المقدسة، و في تصدير الثانية بأن الشرطية، و إسناد الإصابة إلى السيئة، و تعليلها بأعمالهم السيئة إيذان بندرة وقوعها، و أنّها بالعارض في وضع الظاهر موضع الضمير دلالة على أنّ الكفران مقتضى طبع الانسان (1).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ نعم الدنيا على الانسان برحمته، و ابتلائه بالبليات بمعاصيه و سيئاته، بيّن قدرته الكاملة على التصرّف في جميع الموجودات السماوية و الأرضية، و سلطنته المطلقة بقوله تعالى: لِلّهِ وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السلطنة التامّة في عوالم الملك و الملكوت، ليس لغيره فيها ملك و ملك يغترّ به، بل كلّما كان لغيره من النّعم فهو بعطائه، و عليه الشّكر، و كلّما أصابه من البلية فهو بارادته تعالى، و عليه الصبر و التسليم و الرضا، و من دلائل سلطنته أنّه تعالى يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه، و لا يقدر غيره على خلق شيء، و من أظهر تصرّفاته أنّه بقدرته و حكمته يَهَبُ و يعطي بلا عوض لِمَنْ يَشاءُ من نوع الانسان أولادا إِناثاً فقط وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ منهم اَلذُّكُورَ من الأولاد فقط.

لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ اَلذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

ص: 493


1- . تفسير البيضاوي 2:366، تفسير أبي السعود 8:36، تفسير روح البيان 8:341.

عن الباقر عليه السّلام: «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني ليس معهنّ ذكر (1)وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ اَلذُّكُورَ يعني ليس معهم انثى» .

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً و يجعلهما معا لشخص واحد، فيكون له البنين و البنات. و في الرواية الباقرية: «أي يهب لمن يشاء ذكرانا و إناثا جميعا، يجمع له البنين و البنات» (2)الخبر.

في فضيلة احسان

الوالدين إلى البنات

و إنّما قدّم سبحانه ذكر الإناث أولا على ذكر الذكور، قيل: لأنّها أكثر، لتكثير النسل، و لتطييب قلوب آبائهنّ، باظهار العناية بهنّ، و التشريف لهنّ، و التوبيخ لمن كان يكرهها و يدفنها في التراب في [حال حياتها]، و لرعاية الترتيب الواقع في الوجود حيث وهب اللّه لآدم أولا حوّاء (3).

و في الحديث: «من بركة المرأة تبكيرها بالبنات، ألم تسمع قوله: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ اَلذُّكُورَ حيث بدأ بالإناث (4)، و للتنبيه بأنّ الالتفات إلى الضعيف أولى، و الإحسان إليه ألزم. و في الحديث: «من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهنّ، كنّ له سترا من النار» (5).

و في تقديم الذّكور على الإناث في الآية إيماء إلى فضيلة الذكور على الإناث، كما أنّ في تعريف الذكور في الآية الاولى إيماء إلى ذلك، مضافا إلى المحافظة على الفواصل، و إنّما لم يذكر الهبة في إعطائهما؛ لأنّ المقصود بيان نعمة اقترانهما لشخص واحد بعد بيان كون كلّ واحد منهما من مواهب اللّه وَ يَجْعَلُ اللّه بقدرته مَنْ يَشاءُ عقمه و عدم التولّد منه عَقِيماً لا تلد و لا يولد له إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بحقائق الأشياء و مصالحها، و الحكم الكامنة فيها قَدِيرٌ على إنقاذ إرادته، فيفعل بحكمته و قدرته كلّما فيه حكمة و صلاح.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 51

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و سلطنته و حكمته، بيّن علوّ شأنه، و رفعه مقامه من أن يواجهه أحد بالكلام، و كيفية تعليمه الأنبياء و الرسل العلوم و الحقائق بقوله تبارك و تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ و ما صحّ، و ما أمكن لإنسان أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّهُ و يخاطبه إِلاّ بأحد الوجوه الثلاثة: إمّا يكلّمه وَحْياً و إلهاما و قذفا في القلب في اليقظة أو النوم باراءته الرؤيا أَوْ يشافهه بالكلام في اليقظة

وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

ص: 494


1- . في النسخة: الذكور.
2- . تفسير القمي 2:278، تفسير الصافي 4:381.
3- . تفسير روح البيان 8:342.
4- . تفسير روح البيان 8:342.
5- . تفسير روح البيان 8:342.

بايجاد الصوت و الكلام من غير رؤية المتكلّم كتكلّم من يتكلّم مِنْ وَراءِ حِجابٍ و ستر أَوْ يكلمه بتوسّط الملك بأن يُرْسِلَ من قبله رَسُولاً من الملائكة كجبرئيل عليه السّلام فَيُوحِيَ ذلك الملك إلى البشر الذي أرسله اللّه إليه بِإِذْنِهِ و أمره ما يَشاءُ أن يوحيه إليه من المطالب و الحقائق.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من الأنبياء من يسمع الصوت فيكون بذلك نبيا، و منهم من ينفث في اذنه و قلبه فيكون بذلك نبيا، و إنّ جبرئيل يأتيني فيكلّمني كما يكلّم أحد صاحبه» (1).

و عن عائشة: أنّ الحارث بن هشام سأل رسول اللّه: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، و هو أشدّه عليّ، فيفصم (2)عنّي و قد وعيت عنه ما قال، و أحيانا يتمثّل الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» قالت: و لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم (3)عنه و إنّ جبينه ليتفصّد عرقا (4).

إِنَّهُ تعالى عَلِيٌّ عن مواجهة الناس و مشابهة المخلوقين، متعال عن صفاتهم، فلا يكون المفاوضة بينه و بينهم إلاّ بالوجوه المذكورة حَكِيمٌ و عليم بجميع المصالح و قابليات الأشخاص، فيكلّم بعض الأنبياء بلا واسطة، و بعضهم بالواسطة، و بعضهم إلهاما على حسب اختلاف درجاتهم و كمالهم.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 52 الی 53

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كيفية الإيحاء إلى الأنبياء، عظّم شأن ما أوحى إلى رسوله بقوله: وَ كَذلِكَ الإيحاء البديع الذي كان لسائر الأنبياء و مثله أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد، القرآن الذي يكون رُوحاً و سببا للحياة الطيبة الأبدية للقلوب الميتة بالجهل و الضلال و الكفر. قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل، و إيحاءه إليه إرساله إليه بالوحي (5).

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتابُ وَ لاَ اَلْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اَللّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ أَلا إِلَى اَللّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ (53)

ص: 495


1- . تفسير روح البيان 8:345.
2- . أفصم الشيء: ذهب و انكشف.
3- . في النسخة: فيفصد.
4- . تفسير روح البيان 8:345، و فيه: جبينيه لينفصد عرقا.
5- . تفسير أبي السعود 8:38، تفسير روح البيان 8:347.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه خلق من خلق اللّه أعظم من جبرئيل و ميكائيل، كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخبره و يسدّده، و هو مع الأئمّة من بعده» (1).

و على أي تقدير، كان ذلك الإيحاء بالقرآن مِنْ أَمْرِنا في وقت ما كُنْتَ تَدْرِي في ذلك الوقت مَا اَلْكِتابُ و أيّ شيء القرآن وَ لاَ تدري ما اَلْإِيمانُ و تضاعيف ذلك من الامور التي لا يدركها البشر إلاّ بالوحي وَ لكِنْ أنزلنا القرآن و جَعَلْناهُ نُوراً و ضياء نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا بالتوفيق لتصديقه، و النظر فيه وَ إِنَّكَ يا محمد لَتَهْدِي بالدعوة و التبليغ عموم الناس إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الدين القويم الذي لا أعوجاج فيه.

ثمّ عظّم سبحانه ذلك الصراط و مدحه بقوله تعالى: صِراطِ اَللّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ خلقا و ملكا و تصرّفا، و فيه تقرير استقامته، و تقرير وجوب سلوكه.

ثمّ هدّد الناس على التخلّف عنه بقوله تعالى: أَلا اعلموا أيّها الناس أنّه إِلَى اَللّهِ العظيم المالك لعالم الملك و الملكوت تَصِيرُ و ترجع اَلْأُمُورُ المتعلّقة بجميع الموجودات، و بيده في الدنيا و الآخرة تدبيرها، لا يخرج شيء عن حكمه، و لا يمتنع من قضائه، فيجازيكم بأعمالكم، و يعاقبكم على عصيانكم.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة حم عسق بعثه اللّه يوم القيامة كالثلج، أو كالشمس، حتى يقف بين يدي اللّه عز و جل فيقول: عبدي أدمنت قراءة حمعسق و لم تدر ثوابها، أما لو دريت ما هي و ما ثوابها ما مللت من قراءتها، و لكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنة، و له فيها قصر من ياقوتة حمراء، أبوابها و شرفها و درجها، يرى ظاهرها من باطنها، و باطنها من ظاهرها، و له فيها حوراوان من حور العين، و ألف جارية و ألف غلام من الغلمان المخلّدين الذين وصفهم اللّه تعالى» (2).

الحمد للّه على التوفيق لإتمام تفسرها و تلاوتها

ص: 496


1- . الكافي 1:214/1، تفسير الصافي 4:381.
2- . ثواب الأعمال:113، مجمع البيان 9:31، تفسير الصافي 4:383.

في تفسير سورة الزخرف

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة الشورى المبدوءة بتعظيم القرآن و مدحه، المتضمّنة للمنّة على العرب بإنزاله بلغتهم و لسانهم، و للاستدلال على التوحيد و المعاد، و ذمّ المجادلين في الآيات المختصّة بمدح القرآن، و التهديد على مخالفته، نظمت سورة الزخرف المبدوءة بتعظيم القرآن و مدحه، و إظهار المنّة على العرب بانزاله بلغتهم و لسانهم، ثمّ تهديد المعارضين له و الطاعنين فيه، المتضمّنة لأدلة التوحيد و ذمّ المجادلين فيه، و غير ذلك من المطالب العالية المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (2) إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)

ثمّ افتتحها جلّ شأنه بلفظ حم و قد مرّ أنّ الحرفين رمزان من اسمين من الاسماء الحسنى، أو أنّها اسم للسورة، أو القرآن، و على هذين القولين يكون المعنى هذه السورة أو هذا القرآن حم.

ثمّ حلف سبحانه بكتابه إظهارا لعظمته بقوله: وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و الواضح الدلالة للذين انزل اليهم، أو المظهر للدين الحقّ، و الصراط المستقيم، أو المبين للهدى من الضلال و الحقّ من الباطل، و الخير من الشرّ، و السعادة من الشقاوة.

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله: إِنّا أنزلنا و جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا و ركبّناه من الكلمات المتداولة على ألسنتكم أيّها العرب على نحو عجزت جميع الفصحاء عن إتيان سورة مثله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون ما فيه من العقائد الحقّة، و الأحكام المحكمة، و العلوم النافعة، و الحكم البالغة، و المواعظ الشافية، و العبر الوافية.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 4

ثمّ بالغ سبحانه في مدحه بقوله: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتابِ و اللّوح المحفوظ الذي هو أصل الكتب السماوية مثبوت و مضبوط، و هو لَدَيْنا و عندنا و اللّه لَعَلِيٌّ قدرا، و رفيع شأنا، أو لعليّ عن طروّ

ص: 497

الفساد و البطلان، أو لعليّ على سائر الكتب السماوية، لكونه معجزة باقية إلى آخر الدهر و حَكِيمٌ و محكم لا يتطرّق إليه النّسخ، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، أو محكم في البلاغة و البداعة، أو ذو حكمة بالغة، و قيل: إنّ الوصفين للوّح المحفوظ-كما عن ابن عباس رحمه اللّه-و إنّما خصّه اللّه بالتشريف لكونه جامعا لأحوال جميع المحدثات (1).

وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (1)عن ابن عباس: إنّ أول ما خلق اللّه القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق (2).

قيل: إنّ ذلك ليشاهد الملائكة موافقة المحدثات لما في ذلك اللّوح، فيعلموا كمال علم اللّه و حكمته (2).

و قيل: إنّ المراد من امّ الكتاب الآيات المحكمات، و المعنى أنّ حم واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأصل و الامّ (4).

و عن الصادق عليه السّلام في تأويله: «هو أمير المؤمنين عليه السّلام في امّ الكتاب، يعني الفاتحة، فانّه مكتوب فيها في قوله: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (5)قال: الصراط المستقيم هو أمير المؤمنين عليه السّلام و معرفته» .

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 5 الی 8

ثمّ أنكر سبحانه على نفسه بعد بيان جعل القرآن عربيا أن يترك اللّطف بالعرب، أو بقريش بقوله: أَ فَنَضْرِبُ و نصرف عَنْكُمُ. قيل: إنّ التقدير أنهلككم أيّها العرب، أو يا قريش؟ فننحّي اَلذِّكْرَ و نبعد القرآن عنكم، و نترك الأمر و النهي و الوعد و الوعيد (3)بالنسبة إليكم، أو نردّ عنكم المواعظ و النصائح (4)، أو ذكر العذاب (5)صَفْحاً و إعراضا عنكم لأجل أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ و متجاوزين عن الحدّ في الإصرار على الشرك و العصيان. و لا و اللّه لا نفعل ذلك لسعة رحمتنا، بل نتمّ الحجّة عليكم بإرسال الرسول و إنزال الكتاب بلسانكم، لئلاّ تقولوا يوم القيامة: إِنَّما أُنْزِلَ اَلْكِتابُ

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (6) وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي اَلْأَوَّلِينَ (6) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى مَثَلُ اَلْأَوَّلِينَ (8)

ص: 498


1- . تفسير الرازي 27:194.
2- . تفسير الرازي 27:194.
3- . تفسير روح البيان 8:351.
4- . تفسير الرازي 27:195.
5- . تفسير الرازي 27:195.
6- . معاني الأخبار:32/3، «بتقديم و تأخير» ، تفسير الصافي 4:384.

عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (1) .

عن قتادة: لو أنّ هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمّة لهلكوا، و لكن اللّه برحمته كرّره عليهم و دعاهم إليه عشرين سنة (2).

و الحاصل و اللّه أعلم: إنا لا نترككم مع سوء اخيتاركم، بل نذكّركم و نعظكم كي ترجعوا عمّا أنتم عليه إلى الدين الحقّ.

ثمّ ذكر سبحانه عادة الامم السابقة في تكذيب الرسل و الكتب السماوية و إهلاكهم بالعذاب عظة للمشركين و تهديدا لهم و تسلية للرسول بقوله: وَ كَمْ أَرْسَلْنا و كثيرا ما بعثنا مِنْ نَبِيٍّ من قبلنا فِي الامم اَلْأَوَّلِينَ و القرون الماضين

وَ كان دأبهم أنّه ما يَأْتِيهِمْ من قبلنا مِنْ نَبِيٍّ يدعوهم إلى الإيمان بالتوحيد و العمل بالدين الحقّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و منه يسخرون، فلا تتأذّيا محمد من تكذيب قومك و استهزائهم بك، فانّ البلية إذا عمّت طابت

فَأَهْلَكْنا هم بالعذاب مع أنّهم كانوا أَشَدَّ من قومك و أكثر مِنْهُمْ بَطْشاً و قوة و عدة، و لم يمنعنا عن إهلاكهم بطشهم و قوّتهم، و ما قدروا على معارضتنا وَ مَضى و سلف في القرآن مَثَلُ الامم اَلْأَوَّلِينَ و حكينا لك قصّتهم التي حقّها أن يضرب بها المثل في الغرابة، كقصة عاد و ثمود و قوم لوط و إضرابهم، فعلى قومك أن يعتبروا بهم، و يتركوا اتّباعهم.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 9 الی 12

ثمّ إنّه تعالى بعد إسراف المشركين و إصرارهم على الشرك، بيّن اعترافهم بالفطرة بالتوحيد بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد، تقريرا لهم مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و عوالم الملك و الملكوت؟ و اللّه لَيَقُولُنَّ بالفطرة في الجواب و يعترفن البتة بأنّه خَلَقَهُنَّ اللّه الذي هو اَلْعَزِيزُ الغالب على ملكه اَلْعَلِيمُ بجميع مخلوقاته و أحوالهم، لعدم إمكان خلقهنّ من العاجز الجاهل كالأصنام و الأوثان.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ (9) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَ اَلَّذِي نَزَّلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12)

ص: 499


1- . الأنعام:6/156.
2- . تفسير الرازي 27:195.

قيل: جوابهم خلقهن اللّه (1)، و لمّا كان لازم اعترافهم كون الخلق واجدا للقدرة و العلم، وصف سبحانه ذاته المقدّسة بالوصفين، و فيه توبيخهم بأنّه مع اعترافهم بذلك يعبدون غيره و ينكرون قدرته على البعث.

ثمّ شرع سبحانه في وصف ذاته بكمال القدرة و الحكمة مخاطبا للمشركين بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ و صيّر لَكُمُ أيّها المشركون اَلْأَرْضَ مَهْداً و مكانا تستقرّون عليه، و مسكنا تنامون و تتقلّبون عليه، كما يتقلّب أحدكم على فراشه وَ جَعَلَ بلطفه لَكُمْ فِيها سُبُلاً و طرقا سهّل العبور منها، تسلكونها في أسفاركم للتجارة و سائر المقاصد الدينية و الدنيوية لَعَلَّكُمْ بسلوكها تَهْتَدُونَ إلى مقاصدكم، و كي تصلوا إلى البلاد التي فيها محاويجكم، أو لكي تهتدوا بالتفكّر فيها إلى توحيد ربّكم الذي هو المقصد الأسنى

وَ اَلَّذِي نَزَّلَ بقدرته و رحمته مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ، أو من جهة العلوّ ماءً نافعا بالأمطار بِقَدَرٍ و حدّ ينفعكم و لا يضرّكم فَأَنْشَرْنا بذلك الماء و أحيينا بِهِ بَلْدَةً و مكانا مَيْتاً و يابسا لا نبات له، و لا انتفاع به كَذلِكَ الإحياء تحيون ثانيا، و مثل إخراج النبات من الأرض تُخْرَجُونَ من القبور، و تحشّرون للحساب،

و في التعبير عن إحيائهم بالإخراج تهوين لأمر البعث وَ اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته اَلْأَزْواجَ و الأنواع المختلفة من الموجودات كُلَّها كالأبيض و الأسود، و الذكر و الانثى، و الحلو و الحامض، كما عن ابن عباس (2).

قيل: إنّ جميع ما سوى اللّه زوج كالفوق و التحت، و اليمين و الشمال، و القدّام و الخلف، و الماضي و المستقبل، و الذوات و الصفات، و الصيف و الشتاء، و الربيع و الخريف، و الليل و النهار، إلى غير ذلك (3).

أقول: جميع الممكنات زوج تركيبي مركّب من الماهية و الوجود و الجنس و الفصل و المادّة، و الصورة، فالتفرّد مختصّ بالذات الواجب الوجود.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ إنّه تعالى بعد إظهار المنّة على العباد بجعل السبيل، بيّن تسهيله السير بخلق المركب للسير بقوله: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ و السفن الجارية في البحار وَ من اَلْأَنْعامِ كالإبل و الأفراس و البغال و الحمير ما تَرْكَبُونَ عليه في البحر و البرّ، و تقديم الفلك على الأنعام، لكون الفلك أدلّ

وَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَ إِنّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

ص: 500


1- . تفسير روح البيان 8:353. (2 و 3) . تفسير الرازي 27:197، تفسير أبي السعود 8:41.

على قدرة اللّه و حكمته

لِتَسْتَوُوا و تستعلوا عَلى ظُهُورِهِ و تستقرّوا عليه، و إفراده الضمير باعتبار اللفظ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ عليكم إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ و استعليتم عَلَيْهِ و تحمدوه و تشكروه وَ تَقُولُوا مستعظمين قدرته و إنعامه حين الركوب سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ و ذلّل لَنا هذا المركوب بقدرته و إحسانه مع كونه أقوى منّا وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ و مماثلين في القوة و الشدّة،

و قادرين على تذليله و ضبطه إذا استصعب علينا وَ إِنّا حين انقضاء آجالنا إِلى رَبِّنا على مركب الخشب لَمُنْقَلِبُونَ و راجعون و مسافرون، كما ينقلب من بلد إلى بلد على هذا المركب، أو كما جئنا في الدنيا من عند ربّنا و بقدرته في أوّل الأمر، ننقلب إليه و نرجع.

قيل: لمّا كان ركوب الفلك و الدابة تعريض النفس للهلاك بانكسار الفلك و عثار الدابة و شموسها، أمرنا بتذكّر الموت و الانقلاب إلى اللّه و التوجّه إليه (1).

في دعاء الركوب

و السفر

روى الزمخشري عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا وضع رجليه في الرّكاب قال: «بسم اللّه» فاذا استوى على الدابة قال: «الحمد للّه على كلّ حال سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله: لَمُنْقَلِبُونَ» (2).

و روى القاضي أبو بكر أنّ الحسن بن علي عليهما السّلام رأى رجلا ركب الدابة، و قال: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا فقال له: «ما بهذا امرت، امرت أن تقول: الحمد للّه الذي هدانا للاسلام، الحمد للّه الذي منّ علينا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، و الحمد الذي جعلنا من خير امّة اخرجت للناس، ثمّ تقول: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» (3).

و روى الفخر الرازي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا سافر و ركب راحلته كبّر ثلاثا، ثم يقول: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ثمّ قال: اللهمّ إنّي أسألك في سفري هذا البرّ و التقوى، و من العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر، و أطوعنا بعد الأرض، اللهمّ أنت الصاحب في السفر، و الخليفة على الأهل، اللهمّ أصحبنا في سفرنا، و أخلفنا في أهلنا» و كان إذا رجع إلى أهله يقول: «آيبون تائبون، لربّنا حامدون» (4).

في (الكافي) عن الرضا عليه السّلام: «إن ركبت الظهر فقل سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا الآية» (5).

و عن أبيه عليه السّلام: «هي إن خرجت برّا فقل الذي قال اللّه عز و جل: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا

ص: 501


1- . تفسير روح البيان 8:356.
2- . الكشاف 4:239، تفسير الرازي 27:199.
3- . تفسير الرازي 27:199.
4- . تفسير الرازي 27:199.
5- . الكافي 5:256/3، تفسير الصافي 4:385.

الآية، فانّه ليس من عبد يقولها عند ركوبه، فيقع من بعير أو دابّة، فيصيبه شيء بإذن اللّه» (1).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات أنّه خالق الممكنات و الموجودات، و اعتراف المشركين بذلك، و بّخهم على القول بأنّ الملائكة أولاده بقوله: وَ جَعَلُوا و أثبتوا لَهُ تعالى مِنْ عِبادِهِ و هم الملائكة جُزْءاً و ولدا مع أنّ الولد الذي جزء من والده منفصل عنه، لا يمكن أن يكون عبده و ملكه، و هذا القول ليس منهم ببعيد و عجيب إِنَّ اَلْإِنْسانَ بالطبع لَكَفُورٌ مبالغ في الكفر و مُبِينٌ و مظهر لكفره، و لذا يقول ما يقول.

وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اِتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)

ثمّ ذمّهم بأنّهم لم يقنعوا بهذا القول الشنيع، بل أثبتوا له أخسّ الأولاد، و هو البنات، و أنكر ذلك عليهم بقوله: أَمِ اِتَّخَذَ اللّه و اختار لنفسه مِمّا يَخْلُقُ بقدرته يا قريش بَناتٍ موهونة عندكم، مكروهة في طباعكم وَ أَصْفاكُمْ و آثركم على نفسه بتفضيلكم بِالْبَنِينَ الذين هم خير الأولاد و أكملهم و أشرفهم، و هذا ممّا لا يقول به ذو مسكة، و إنّما نبّه على حقارة البنات بتنكير اللفظ، و على فخامة البنين بتعريفه، و إنّما قدّم ذكر نسبة البنات إلى اللّه، لكونها أنكر من اصطفائهم البنين، و في تلوين الخطاب تأكيد الإلزام و تشديد التوبيخ.

و حاصل المراد و اللّه العالم: حيث إنّكم قلتم: إنّ للّه ولدا، مع وضوح امتناعه و استحالته، كيف أمكن منكم القول بأنّه اختار لنفسه أخسّ الأولاد، و آثركم على نفسه بخيرهم و أشرفهم و أفضلهم، فانّه خلاف بديهة العقل.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ بيّن شدّة كراهتهم للبنات بقوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ و أخبر بِما ضَرَبَ و جعل لِلرَّحْمنِ و الإله الفيّاض على الممكنات مَثَلاً و شبيها، فانّ الولد يجانس و يماثل والده ظَلَّ و صار وَجْهُهُ من سوء ما بشّر به و شدّة الغيظ عليه مُسْوَدًّا و أسود في الغاية. و قيل: إنّ اسوداد الوجه

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي اَلْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)

ص: 502


1- . الكافي 3:472/5، عن الرضا عليه السّلام، تفسير الصافي 4:385.

كناية عن شدّة كراهته (1)لما اخبر به من تولّد البنت له وَ هُوَ بسبب إخباره لولادة البنت كَظِيمٌ و مملوء من الكرب و الحزن و الغضب، فاذا نقص البنت بهذه الدرجة، كيف يختارها اللّه لنفسه، و كيف ينسبونها إليه، و هل يجوز للعاقل إثباتها له؟

ثمّ بالغ سبحانه في الإنكار و التوبيخ عليهم بنسبة البنات إليه بقوله: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا و يربّى فِي اَلْحِلْيَةِ و الزّينة. قيل: إنّ التقدير اجترءوا و جعلوا له تعالى (2)من شأنه أن يربّى في الزّينة لنقص نفسه و هُوَ مع ذلك فِي اَلْخِصامِ و مواقع الجدال مع غيره غَيْرُ مُبِينٍ و غير قادر على تقرير دعواه، و تبيين حجّته، لضعف لسانه، و قلّة عقله، و بلادة ذهنه. قيل: قلّما أرادت المرأة أن تتكلّم بحجّتها إلاّ تكلّمت بما كان حجّة عليها (3).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ ذمّهم سبحانه بنسبة الانوثة إلى الملائكة الذين هم أشرف المخلوقات بعد الأنبياء و الرسل و الأولياء بقوله تعالى: وَ جَعَلُوا و حكموا بأنّ اَلْمَلائِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبادُ اَلرَّحْمنِ و أكمل الخلق و أكرمهم على اللّه إِناثاً و الحال أنّه لا يمكن الاطلاع على انوثتهم بإدراك العقول، بل لا بدّ من أن يكون اطّلاعهم على ذلك بإخبار نبيّ، و هم لا يقولون به، أو برؤية خلقة الملائكة، إذا فاسألوهم أيّها العقلاء أَ شَهِدُوا و حضروا خَلْقَهُمْ و رأوا انوثتهم حتى يحكموا بها؟ لا و اللّه ما شهدوا و ما رأوا، بل كان حكمهم بتقليد آبائهم الكاذبين، و نحن سَتُكْتَبُ البتة في ديوان أعمالهم شَهادَتُهُمْ هذه وَ يُسْئَلُونَ يوم القيامة عنها، و يعذّبون بها، فعلم من تفسيرنا أنّ السين للتأكيد. و قيل: إنّها للاستقبال و الاستعطاف إلى التوبة قبل الكتابة (4).

وَ جَعَلُوا اَلْمَلائِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبادُ اَلرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ (19) وَ قالُوا لَوْ شاءَ اَلرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ (20)

ثمّ حكى سبحانه استدلالهم على صحّة عبادتهم الملائكة الموجب لازدياد كفرهم بقوله تبارك و تعالى: وَ قالُوا استدلالا على صحّة عبادتهم الملائكة، و كونها مرضية عند اللّه لَوْ شاءَ اَلرَّحْمنُ أن لا نعبد الملائكة ما عَبَدْناهُمْ فلمّا عبدناهم علمنا أنّه شاء منّا عبادتهم. ثمّ ردّهم سبحانه بأنّه ما لَهُمْ بِذلِكَ التلازم بين فعلهم و إرادة اللّه التشريعية مِنْ عِلْمٍ مستند إلى الدليل

ص: 503


1- . تفسير روح البيان 8:358.
2- . تفسير روح البيان 8:358.
3- . مجمع البيان 9:66، تفسير الرازي 27:202.
4- . تفسير روح البيان 8:360.

إِنْ هُمْ و ما اولئك الكافرون إِلاّ يَخْرُصُونَ و يكذبون كذبا مستندا إلى الحدّس الباطل، لوضوح أنّ الإرادة التكوينية غير الإرادة التشريعية، و غير مستلزمة لها، و إلاّ لما عذّب المشركين في الدنيا بشركهم.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 21 الی 24

ثمّ لمّا أبطل سبحانه دليلهم المذكور، بيّن كون الملائكة بنات اللّه لا بدّ أن يستند إلى كتاب سماويّ من قبله تعالى، و أنكره عليهم بقوله: أَمْ آتَيْناهُمْ و أنزلنا عليهم كِتاباً من السماء ناطقا بأنّ الملائكة بنات اللّه، و يجوز عبادتهم، خلافا للقرآن المبطل لها و الناهي عنها، سابقا على نزول القرآن و مِنْ قَبْلِهِ و قيل: يعني من قبل [القرآن أو]

الرسول، أو من قبل ادعّائهم أنّ الملائكة بنات اللّه (1)فَهُمْ في ادّعائهم ذلك بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ و مستدلّون، و عليه معتمدون؟ لا و اللّه ما آتيناهم كتابا، فلا دليل لهم على مدّعاهم،

لا عقلا و لا نقلا بَلْ لا مستمسك لهم إلاّ تقليد آبائهم و اسلافهم حيث إنّهم قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا الأقدمين ثابتين عَلى أُمَّةٍ و دين مجتمع عليه، و هو عبادة الملائكة و اعتقاد أنّهم بنات اللّه وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ و سنّتهم و طريقتهم مُهْتَدُونَ و في مواضع أقدامهم سالكون، و لخطواتهم متّبعون.

أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ تمسّك الجهّال بالتقليد ليس أمرا بدعيا مختصّا بقومك، بل كان دأبهم من قديم الدهر بقوله: وَ كَذلِكَ القول الصادر من قومك ما أَرْسَلْنا في القرون التي مضت مِنْ قَبْلِكَ و قبل إرسالك فِي قَرْيَةٍ من قرى الأرض و بلدة من البلدان مِنْ نبيّ نَذِيرٍ و مخوّف قومه من العذاب على الشرك إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها و جبابرتها و رؤساؤها المتنعمّون الذين أبطرتهم النّعمة، و صرفتهم إلى التقليد في جواب ذلك الرسول: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا و أسلافنا الذين كانوا أعقل و أعلم منّا ثابتين عَلى أُمَّةٍ و دين اتّفقوا على صحّته وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ و سنّتهم الباقية منهم مُقْتَدُونَ و لهم (2)مقلّدون

قالَ كلّ رسول لقومه الذين تمسّكوا بالتقليد أَ تقلّدونهم وَ لَوْ جِئْتُكُمْ من

ص: 504


1- . تفسير روح البيان 8:361.
2- . في النسخة: و بهم.

قبل اللّه بِأَهْدى و أرشد إلى الحقّ مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من الدين؟ على فرض كونه هداية و رشادا، مع أنّه ليس كذلك قالُوا عنادا و لجاجا و تعصّبا: يا أيها الرسل إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ من التوحيد كافِرُونَ و منكرون، و إن كان أهدى و أرشد ممّا وجدنا عليه آباءنا.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 25 الی 28

فلمّا أعلنوا بالتعصّب و الإصرار على دينهم، و تبعية آبائهم، و بارزوا الرسل بالتكذيب و الاستهزاء، و يأس الرسل من إيمانهم فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ باستئصالهم بالعذاب، و أهلكناهم بأفظع الهلاك فَانْظُرْ يا محمّد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر الأمم اَلْمُكَذِّبِينَ لرسلهم، و إلى ما صار مآلهم، فلا تكترث بتكذيب قومك، فانّ اللّه سينتقم منهم كما أنتقم من الامم المكذّبة لرسلهم.

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (25) وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)

ثمّ حكى سبحانه قصّة دعوة إبراهيم الذي كان يفتخر العرب بانتسابهم إليه، و أنّه تبرّأ من التقليد، و تمسّك في دينه بالبرهان، مع كونه أعقل الناس و أعظمهم شانا، و أمتنهم رأيا، و أصوبهم طريقة في اعتقاد الكلّ بقوله: وَ إِذْ قالَ قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد لقومك وقتا (1)قال إِبْراهِيمُ الذي يجب عليكم أيّها العرب اتّباعه، دعوة إلى التوحيد، و تنفيرا من الشرك لِأَبِيهِ آذر وَ قَوْمِهِ الذين كانوا يعبدون الكواكب و الأصنام تقليدا لأبائهم: يا قوم إِنَّنِي بَراءٌ و منزجر قلبا (من) عبادة جميع ما تَعْبُدُونَ من الكواكب و الأصنام و غيرها،

فلا أعبد شيئا إِلاَّ اللّه، لأنّه اَلَّذِي فَطَرَنِي و بدأ خلقي من غير مثال.

قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى أنّي بري من عبادة الأصنام، لكن الذي خلقني لا أبرأ من عبادته (2)فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ و يرشدني إلى معالم دينه، و كيفية عبادته و طاعته، و درجات قربه، و عليه يكون السين للتأكيد، و قيل: إنّه للتسويف، و المعنى سيثبّتني على الهداية، و سيهديني إلى ما وراء الذي هداني إليه إلى الآن (1).

و قيل: إنّ في قوله في سورة الشعراء: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (2)و قوله هنا: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ دلالة على استمرار الهداية في الحال و الاستقبال (3).

ص: 505


1- . تفسير البيضاوي 2:371، تفسير أبي السعود 8:44، تفسير روح البيان 8:363.
2- . الشعراء 26:78.
3- . تفسير الرازي 27:208.

و على أيّ تقدير أنّه عليه السّلام دعا الناس إلى كلمة التوحيد، و هو قول: لا إله إلاّ اللّه، المستفاد من تبريّة من جميع ما يعبدون إلاّ خالقه

وَ جَعَلَها -بقوله: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ (1)- كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ و نسله و ذرّيته إلى يوم القيامة لَعَلَّهُمْ بدعوة الموحّدين منهم يَرْجِعُونَ من الشرك إلى التوحيد، فيكون فيهم أبدا من يوحّد اللّه و يدعو إلى التوحيد، و يكون إماما و حجّة على الخلق.

عن السجّاد عليه السّلام قال: «فينا نزلت هذه الآية وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ و الإمامة في عقب الحسين عليه السّلام باقية إلى يوم القيامة» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خطبة الغدير: «معاشر الناس، القرآن يعرفكم أنّ الأئمة من بعده ولده، و إنّي عرّفتكم أنّهم منّي و [أنا]منه، حيث يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ» (3).

و في (المناقب) عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «الامامة في عقب الحسين عليه السّلام، يخرج من صلبه تسعة من الأئمة، منهم مهدي هذه الامّة» (4).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 29 الی 30

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع جعله لإبراهيم كلمة التوحيد باقية في ذرّيته، لم يؤمن به كلّهم بقوله: بَلْ مَتَّعْتُ و نفعت بالنّعم الدنيوية من الصحة و طول العمر، و كثرة المال و الأولاد و غيرها هؤُلاءِ المشركين المعاصرين للرسول من أهل مكّة وَ آباءَهُمْ السابقين، فمع أنّ حقّ تلك النّعم أن يشكروا المنعم و يوحدّوه و يعبدوه، انهمكوا في الشهوات، و اغترّوا و اشتغلوا بها عن كلمة التوحيد، و استمرّوا على الشرك حَتّى جاءَهُمُ من قبل اللّه القرآن الذي هو اَلْحَقُّ و عين الصدق وَ رَسُولٌ مُبِينٌ و ظاهر الرسالة بالمعجزات الباهرات، أو مظهر للتوحيد بالحجج القاهرات

وَ لَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ و القرآن الذي فيه وجوه من الاعجاز ليوقظهم عن نوم الغفلة، و يرشدهم إلى التوحيد، عاندوا الحقّ، و طعنوا في القرآن، و كونه معجزة، و قالُوا هذا القرآن الذي لا نقدر على الإتيان بمثله سِحْرٌ لا معجزة وَ إِنّا بِهِ و بكونه من جانب اللّه و كلامه كافِرُونَ و عنه معرضون.

بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتّى جاءَهُمُ اَلْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنّا بِهِ كافِرُونَ (30)

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 31

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)

ص: 506


1- . إبراهيم:14/35.
2- . كمال الدين:323/8، تفسير الصافي 4:387.
3- . الاحتجاج:65، تفسير الصافي 4:388.
4- . مناقب ابن شهر آشوب 4:46، تفسير الصافي 4/488.

ثمّ حكى سبحانه عنهم الاعتراض على الرسالة و دعوى نزول القرآن من اللّه بقوله: وَ قالُوا جهلا بملاك الرسالة، و خطأ في تطبيق العظمة عند اللّه على العظمة عند الناس: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ إن كان منزلا من اللّه عَلى رَجُلٍ مِنَ أهالي إحدى اَلْقَرْيَتَيْنِ مكة و الطائف عَظِيمٍ عند الناس بالمال و الجاه، كالوليد بن المغيرة المخزومي الساكن في مكّة، و عروة بن مسعود الثقفي الساكن في الطائف.

و قيل: إنّ المراد من الرجل خصوص عروة بن مسعود، فانّه كان يسكن كلتا القريتين، حيث إنّه كان في الطائف بساتينه و ضياعه، و في مكة تجارته و أمواله، و لذا كان يتردّد إليهما (1)، و يحسب من أهلهما.

و حاصل المراد-و اللّه أعلم-أنّ الرسالة منصب جليل عظيم لا يليق به إلاّ العظيم بين الناس، و هو من له جاه و مال كعروة و الوليد، لا محمد فانّه ليس له مال و رئاسة، فهو كاذب في دعوى الرسالة و نزول القرآن عليه.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 32

ثمّ ردّ سبحانه اعتراضهم بإنكار قابليتهم للرأي و التكلّم في المناصب الإليهة من النبوة و الامامة بقوله: أَ هُمْ مع ضعف عقولهم و غاية عجزهم و قصورهم يَقْسِمُونَ بين الناس رَحْمَتَ رَبِّكَ و فضله بالنبوة و الامامة، و يضعونها حيث شاءوا؟ لا و اللّه هم أعجز و أحقر من أن يتصرّفوا في تفضّلاته الدنيوية، و يقسّموا نعمه الظاهرية، بأن يفقروا الغني، و يغنوا الفقير، و يعزّوا الذليل، و يذلّوا العزيز نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ و أرزاقهم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعمارهم فيها وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ في الرزق و سائر النّعم فَوْقَ بَعْضٍ إلى دَرَجاتٍ كثيرة متفاوتة حسبما تقتضيه الحكمة، فمن ضعيف و قويّ، و فقير و غنيّ، و وضيع و شريف، و جاهل و عالم، و غبيّ و ذكيّ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً في مصالحهم سُخْرِيًّا ذليلا و مطيعا، و لو سوّينا بينهم في جميع الامور لم يصر أحد مسخّرا لغيره، و لم يخدم أحد غيره، فيختلّ نظام العالم، و ينتهي إلى خرابه وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ و رسالته، و ما فيه سعادة الدارين خَيْرٌ و أفضل لأهلها مِمّا يَجْمَعُونَ الناس من الحطام الدنيوية الزائلة، و إنّما العظمة المعتبرة في إعطاء تلك الرحمة العظيمة، هي عظمة النفس بالصفاء و النورانية،

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (32)

ص: 507


1- . تفسير روح البيان 8:365.

و التخلّق بأخلاق اللّه، و التنزّه عن الرذائل، و كمال العقل و الذكاء، و الإعراض عن الدنيا و عمّا سوى اللّه، و الاقبال إلى اللّه و الدار الآخرة. و قليل من تلك المكارم خير من الدنيا بحذافيرها، و لا يلازم وجود النّعم الدنيوية وجود تلك الكمالات النفسانية و قرب واجدها إلى اللّه، بل كثيرا ما لا يجتمعان.

في مخاصمة

النبي صلّى اللّه عليه و آله مع

المشركين

روى في (الاحتجاج) أنّ عبد اللّه بن أبي امية قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مجمع سائر قريش: لو أراد اللّه أن يبعث إلينا رسولا، لبعث أجلّ من فيما بيننا مالا، و أحسن حالا، فهلاّ نزّل هذا القرآن الذي تزعم أنّ اللّه أنزله عليك، و أنّه بعثك به رسولا، على رجل من القريتين عظيم؛ إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة، و إمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟ ثمّ ذكر اشياء اخر.

إلى أن قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «و أمّا قولك: لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة، و إمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف، فانّ اللّه ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت، و لا خطر عنده كما له عندك، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به شربة ماء، و ليس قسمة اللّه إليك، بل اللّه القاسم للرحمات، و الفاعل لما يشاء في عبيده و إمائه، و ليس هو عزّ و جلّ ممّن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله و حاله فعرفته بالنبوّة لذلك، و لا ممّن يطمع في أحد في ماله و حاله كما تطمع فتخصّه بالنبوّة لذلك، و لا ممّن يحبّ أحدا محبّة الهوى كما تحبّ أنت فتقدّم من لا يستحقّ التقديم، و إنّما معاملته بالعدل، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين و جلاله إلاّ الأفضل في طاعته، و الأجدّ في خدمته، و كذلك لا يؤخّر في مراتب الدين و جلاله إلاّ أشدّهم تباطؤا عن طاعته، و إذا كان هذا صفته، لم ينظر إلى مال، و لا إلى حال، هذا المال و الحال من تفضّله، و ليس لأحد من عباده [عليه]ضربة لازب (1).

فلا يقال له: إذا تفضّلت بالمال على عبد، فلا بدّ أن تتفضّل عليه بالنبوة أيضا، لأنّه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده، و لا إلزامه تفضلا، لأنّه تفضّل قبله بنعمة، ألا ترى-يا عبد اللّه-كيف أغنى واحدا و أقبح صورته، و كيف أحسن صورة واحد و أفقره، و كيف أغنى واحدا، و كيف شرّف واحدا و أفقره و وضعه؟

ثمّ ليس لهذا الغنيّ أن يقول: هلاّ اضيف إلى يساري جمال فلان؟ و لا للجميل أن يقول: هلاّ اضيف إلى جمالي مال فلان؟ و لا للشريف أن يقول: هلاّ اضيف إلى شرفي مال فلان؟ و لا للوضيع أن يقول: هلاّ أعطيتني شرف فلان؟ و لكن الحكم للّه، يقسم كيف يشاء، و يفعل كما يشاء، و هو حكيم في

ص: 508


1- . صار الأمر ضربة لازب، أي لازما ثابتا.

افعاله محمود في أعماله، و ذلك قوله: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. قال اللّه تعالى: أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يا محمد نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فأحوجنا بعضا إلى بعض، أحوج هذا إلى مال ذلك، و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته، فترى أجلّ الملوك و أغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب، إمّا سلعة منه، و إمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلاّ به، و إمّا باب من العلوم و الحكم، و هو فقير إلى أن يستفيده من ذلك الفقير، فهذا الفقير يحتاج إلى ذلك الملك الغنيّ، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير و رأيه أو معرفته، ثمّ ليس للملك أن يقول: هلاّ اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير؟ و ليس للفقير أن يقول: هلاّ اجتمع إلي رأيي و علمي و ما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنيّ؟» (1).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 33 الی 35

ثمّ بيّن سبحانه حقارة الدنيا و حطامها عنده، ردّا لمن استعظمها و ادّعى أولوية واجدها بالرسالة بقوله تعالى: وَ لَوْ لا كراهة أَنْ يَكُونَ اَلنّاسُ في الكفر أُمَّةً واحِدَةً و جماعة متّفقة على الشرك لرغبتهم فيه، إذا رأوا جميع الكفّار في التنعّم و السّعة، و اللّه لَجَعَلْنا لحقارة الدنيا و هوانها عندنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ و يشرك به مع كونه شرّ الخلائق و أقلّهم قدرا، أعني لِبُيُوتِهِمْ و مساكنهم سُقُفاً معمولة مِنْ جنس فِضَّةٍ خالصة وَ مَعارِجَ و مدارج و مصاعد من فضة أيضا عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ يعلمون السطوح و القصور،

و جعلنا لِبُيُوتِهِمْ و مساكنهم أَبْواباً من فضّة وَ سُرُراً أيضا من فضّة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ و يعتمدون حال الجلوس

وَ و جعلنا زُخْرُفاً و زينة عظيمة من الذهب لهم.

وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)و قيل: إنّ المعنى و نجعل لهم مع ذلك ذهبا كثيرا (2). و قيل: إنّه عطف على محلّ (مِنْ فِضَّةٍ) و المعنى سقفا من فضّة و زخرف بمعنى الذهب، أي سقفا بعضها من فضة و بعضها من ذهب (3).

ص: 509


1- . الاحتجاج:30-33، تفسير الصافي 4:389.
2- . تفسير الرازي 27:211.
3- . جوامع الجامع:434.

عن الصادق عليه السّلام: «لو فعل اللّه ذلك بهم لما آمن أحد، و لكنّه جعل في المؤمنين أغنياء، و في الكافرين فقراء، و جعل في المؤمنين فقراء، و في الكافرين أغنياء، ثمّ امتحنهم بالأمر و النهي، و الصبر و الرضا» (1).

و عن السجاد عليه السّلام-في رواية- «لو فعل اللّه ذلك بامّة محمد صلّى اللّه عليه و آله لحزن المؤمنون و غمّهم، و لم يناكحوهم، و لم يوارثوهم» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما كان من ولد آدم مؤمن إلاّ فقيرا و لا كان كافر إلاّ غنيا، حتى جاء إبراهيم فقال: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا (3)فصيّر اللّه في هؤلاء أموالا و حاجة، و في هؤلاء أموالا و حاجة» (4).

ثمّ بيّن سبحانه سرعة زوال تلك النّعم بقوله: وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ و ما جميع هذه النّعم لَمّا مَتاعُ اَلْحَياةِ و إلاّ امور ينتفع بها في مدّة العمر لا بقاء لها، بل تزول بالموت و الخروج من الدنيا وَ اَلْآخِرَةُ بما فيها من أنواع النّعم التي لا توصف بالبيان باقية أبدية لا زوال لها، و هي عِنْدَ رَبِّكَ و في حكمه لِلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن الكفر و الشرك و العصيان، و لمّا كانت الدنيا دار الامتحان، ليميز الخبيث من الطيب، لم يوفّر النّعم على المؤمنين حتى يجتمع الناس على الايمان، لعدم حصول الامتحان، و عدم تبيّن المخلص عن المنافق.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ بيّن سبحانه أنّ طعن المشركين في القرآن و إعراضهم عن الرسول من تسويل الشياطين و إلقائهم بقوله تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَعْشُ و تعامى عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمنِ و كتابه المنزل لوعظ الناس -و هو القرآن-أو عن التوجّه إلى اللّه نُقَيِّضْ لَهُ و نسلّط عليه، و نضمّ إليه شَيْطاناً يغويه فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ و مصاحب لا يفارقه، و لا يزال يوسوسه، و يزيّن له العمى على الهدى، و الكفر على الايمان.

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا أراد اللّه بعبد شرا، قيّض له شيطانا قبل موته بسنة، فلا يرى حسنا إلاّ قبّحه عنده حتى لا يعمل به و لا يرى قبيحا إلاّ حسّنه حتى يعمل به» (5).

ص: 510


1- . تفسير القمي 2:284، تفسير الصافي 4:390.
2- . علل الشرائع:589/33، تفسير الصافي 4:390.
3- . الممتحنة:60/5.
4- . الكافي 2:202/10، تفسير الصافي 4:391.
5- . تفسير روح البيان 8:369.

و في (الخصال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من تصدّى بالإثم عمي (1)عن ذكر اللّه تبارك و تعالى، و من ترك الأخذ بمن أمر اللّه بطاعته، قيّض له شيطانا فهو له قرين» (2).

ثمّ بيّن سبحانه ضرر الشياطين بقوله تعالى: وَ إِنَّهُمْ بتسويلاتهم و إغوائهم لقرنائهم، و اللّه لَيَصُدُّونَهُمْ و يمنعونهم عَنِ سلوك اَلسَّبِيلِ المودّي إلى الحقّ، و إلى جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية، وَ الحال أنّ العاشين يَحْسَبُونَ و يتوهّمون في أنفسهم، لشدة ضلالتهم أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ إلى الحقّ. قيل: إنّ مرجع الضمير [إلى]

الشياطين (3). و المعنى أنّهم يحسبون أنّ الشياطين الذين اتّبعوهم مهتدون.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ إنّهم مستمرون على مصاحبة الشياطين و حسبانهم الباطل حَتّى إِذا جاءَنا كلّ واحد منهم مع قرينه يوم القيامة و رأى وخامة عاقبة اتّباعه للشيطان الذي قارنه قالَ مخاطبا له: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ في الدنيا بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ و فصل ما بينهما.

حَتّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)قيل: إنّ التثنية على التغليب، و المراد منها المشرق و المغرب (4). و قيل: على الحقيقة، و المراد مشرق الشمس و مشرق الكواكب، و هو مغرب الشمس. و قيل: مشرق الشمس في الصيف و الشتاء، و بينهما بعد عظيم (5).

و على أيّ تقدير المقصود تمنّي البعد الذي لا أبعد منه فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ أنت يا شيطان،

ثمّ يقال له من قبل اللّه تعالى توبيخا و تقريعا: وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ تمنّي التباعد إِذْ ظَلَمْتُمْ أنفسكم، و لأجل أن عصيتم ربّكم باتّباعكم في الدنيا إياهم في الكفر و الطغيان أَنَّكُمْ أيّها التابعون و المتبوعون فِي اَلْعَذابِ الأليم مُشْتَرِكُونَ كما كنتم في الدنيا مشركين في سببه، و هو العصيان.

و قيل: إنّ فاعل (لَنْ يَنْفَعَكُمُ) قوله: أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ و المعنى أنّ اشتراككم في العذاب لا ينفعكم في التشفّي، إذ تقولون رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذابِ (6)و لا في التخفيف عنكم؛ لأنّ شدّة العذاب تذهل كلا عن الآخر.

ص: 511


1- . في المصدر: صدىء بالاثم عشى.
2- . الخصال:633، تفسير الصافي 4:391.
3- . تفسير أبي السعود 8:47، تفسير روح البيان 8:370.
4- . تفسير أبي السعود 8:47، تفسير روح البيان 8:370.
5- . تفسير الرازي 27:213.
6- . تفسير أبي السعود 8:48، تفسير روح البيان 8:370، و الآية من سورة الأحزاب:33/68.

فحاصل الآيات أنّ كثرة المال و النّعم الدنيوية تعمي الإنسان عن مطالعة آيات اللّه و كتابه، و ذلك العمى يجعل الانسان قرينا للشيطان، و هو يضلّه عن الهدى، فيشتركان في العذاب، كما كانا مشتركين في الكفر و العصيان.

عن الباقر عليه السّلام-في تأويله- «نزلت هاتان الآيتان هكذا: حَتّى إِذا جاءَنا يعني فلانا و فلانا، يقول أحدهما لصاحبه حين يراه: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ فقال اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: قل لفلان و فلان و أتباعهما لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ آل محمد» (1).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ لمّا وصف اللّه سبحانه المصرّين على الكفر و الشرك بالعمى و العشيّ و التعامي، بالغ في ذمّهم بأن وصفهم بالعمى و الصّمم، فلا يمكن هدايتهم إلى الطريق الحقّ بالدعوة و البيان بقوله: أَ فَأَنْتَ يا محمد تُسْمِعُ اَلصُّمَّ و فاقدي قوّة السّمع دعوتك و آيات كتابك أَوْ تَهْدِي و تدلّ اَلْعُمْيَ و فاقدي قوّة البصر إلى الطريق الحقّ و دين الاسلام وَ تدلّ مَنْ كانَ غائرا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح لجميع العقلاء عن الحقّ و سبيل الخير؟ لا و اللّه لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم مع كمال نبوتك، و شماخة مقامك، فلا تتعب نفسك الشريفة في دعوتهم إلى الايمان، و فيه إشعار بأنّ الوصفين لتمكّنهم في الضلال المفرط.

أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ اَلَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يتعب نفسه في دعاء قومه، و هم لا يزيدون إلاّ غيا و تعاميا ممّا يشاهدونه من المعجزات، و تصامما عما يسمعونه من الآيات، فنزلت (2).

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ من الدنيا إلى جوار رحمتنا قبل أن نريك عذابهم، و نشفي غليل صدرك و صدر المؤمنين باهلاكهم فَإِنّا لا محالة مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ في الدنيا و الآخرة بعد ذهابك من الدنيا.

روى العلامة في (نهج الحق) عن ابن عباس في الآية، أنّه قال: بعليّ عليه السّلام (3).

و قال القاضي: الرواية عن طريق ابن عباس قد رواها ابن مردويه.

ص: 512


1- . تفسير القمي 2:286، تفسير الصافي 4:392.
2- . تفسير روح البيان 8:371.
3- . نهج الحق:205، مناقب ابن المغازلي:275/321، و شواهد التنزيل 2:153/852، عن جابر الانصاري.

روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: اري ما يصيب امّته بعده، فما رؤي مستبشرا ضاحكا حتى قبض.

و روى القاضي التّستري، عن الطبرسي، عن جابر بن عبد اللّه، قال: إنّي لأدناهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجة الوداع بمنى حين قال: «لألقينكم» ثمّ التفت إلى خلفه و قال: «أو علي» ثلاث مرات، فرأينا أن جبرئيل عمزه، فأنزل اللّه تعالى على أثر ذلك: فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعلي.

و في رواية اخرى عنه، قال: إنّي لادناهم من رسول اللّه في حجّة الوداع بمنى، حتى قال: «لألقينكم ترجعون بعدي كفّارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم» ثمّ التفت إلى خلفه فقال: «أو علي» ثلاث مرات، فرأينا أنّ جبرئيل غمزه، فأنزل اللّه فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعلي بن أبي طالب (1).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «فإمّا نذهبنّ بك يا محمد من مكّة إلى المدينة، فانّا رادّوك إليها، و منهم منتقمون بعلي بن أبي طالب» (2).

أَوْ نُرِيَنَّكَ قيل: إنّ المعنى أو ان أردنا أن نريك (3)اَلَّذِي وَعَدْناهُمْ من العذاب فَإِنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ لا يفوتوننا و لا يخرجون من سلطاننا.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في معارضة قومه، أمره بالثّبات على ما هو عليه بقوله: فَاسْتَمْسِكْ يا محمد بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من القرآن الذي لم يوح إلى أحد من الرسل مثله في الفصاحة و البلاغة، و تضمّن العلوم و الحكم و الأحكام، و التزم بما فيه، و لا تعتن بمعارضة قومك، و تكذيبهم إيّاه، و طعنهم فيه، سواء عجّلنا لك عذابهم، أو أخّرناه إِنَّكَ بلطف ربّك كائن، أو مارّ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق سوّي لا عوج له، و هو التوحيد، و دين الاسلام،

و أحكام القرآن وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ و شرف عظيم لَكَ خصوصا وَ لِقَوْمِكَ و امّتك عموما، كما روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ لكلّ شيء شرفا يباهي به، و إنّ بهاء امّتي و شرفها بالقرآن» (4).

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)و قيل: إنّ المراد من قومه خصوص قريش، حيث يقال: إنّ هذا الكتاب العظيم نزل على رجل من هؤلاء (5).

ص: 513


1- . إحقاق الحق 3:445.
2- . تفسير القمي 2:284، تفسير الصافي 4:392.
3- . تفسير أبي السعود 8:48، تفسير روح البيان 8:372.
4- . تفسير روح البيان 8:373.
5- . تفسير روح البيان 8:373.

ثمّ جمع سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قومه في الخطاب التهديدي بقوله: وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ هل أدّيتم شكر إنعامنا عليكم بإنزال القرآن و الذّكر الجميل، أو هل حفظتموه و عملتم بما فيه من الأحكام، و أديتموه إلى الناس.

عن الصادق عليه السّلام: «الذّكر القرآن، و نحن قومه، و نحن المسؤولون» (1).

و عنه عليه السّلام: «إيّانا عنّى، و نحن أهل الذّكر، و نحن المسؤولون» (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 45

ثمّ لمّا كان معارضة القوم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و طعنهم في القرآن، لتصريحهما ببطلان الشرك و الدعوة إلى التوحيد، بيّن سبحانه أنّه ليس من خواصّك و خواصّ كتابك، بل جميع الأنبياء و الرسل مطبقون على التوحيد و إنكار الشرك بقوله: وَ سْئَلْ يا محمد مَنْ أَرْسَلْنا قيل: إنّ التقدير امم من أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا و علمائهم الذين يقرأون كتبهم (3)أَ جَعَلْنا لهم مِنْ دُونِ اَلرَّحْمنِ و ممّا سواه آلِهَةً يُعْبَدُونَ و هل حكمنا في ملّة من الملل بجواز عبادة غير اللّه.

وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)روي عن عائشة: لمّا نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أنا بالذي أشكّ، و لا أنا بالذي أسأل» (4).

و قيل: إنّ المراد السؤال من أشخاص الرسل، لمّا روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا اسري به إلى المسجد الحرام حشر إليه الأنبياء و المرسلون من قبورهم، و مثّلوا له، فأذّن جبرئيل و أقام، و قال: يا محمد، تقدّم وصلّ بإخوانك الأنبياء و المرسلين، فلمّا فرغ من صلاته قال له جبرئيل: زعمت قريش أن للّه شريكا، و زعمت اليهود و النصارى أنّ للّه ولدا، سل يا محمد هؤلاء النبيين: هل كان للّه شريك؟ ثمّ قرأ وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا إلى آخره فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا أسأل، و قد اكتفيت، و ليس بشاكّ فيه» فلم يشكّ و لم يسأل (5).

و قال بعض مفسري العامة: إنّ هذه الآية نزلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله ببيت المقدس ليلة المعراج، فلمّا نزلت و سمعها الأنبياء أقروا للّه بالوحدانية و قالوا: بعثنا بالتوحيد (6). و عن عطاء، عن ابن عباس: لمّا اسري به إلى المسجد الأقصى بعث له آدم و جميع المرسلين من ولده فأذّن جبرئيل ثمّ أقام فقال: يا

ص: 514


1- . الكافي 1:164/5، تفسير الصافي 4:393.
2- . الكافي 1:164/2، تفسير الصافي 4:393.
3- . تفسير أبي السعود 8:49، تفسير روح البيان 8:374.
4- . تفسير روح البيان 8:374.
5- . تفسير روح البيان 8:374.
6- . تفسير روح البيان 8:374.

محمد، تقدّم وصلّ بهم. فلمّا فرغ قال له جبرئيل: وَ سْئَلْ يا محمد مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا الآية. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا أسأل لأنّي لست شاكّا فيه» (1).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية: من ذا الذي سأله محمد، و كان بينه و بين عيسى خمسمائة سنة، فتلا هذه الآية: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا (2)فكان [من]الآيات التي أراها اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله حين أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر اللّه له الأولين و الآخرين من النبيين و المرسلين، ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعا، و أقام شفعا، ثمّ قال في إقامته: حيّ على خير العمل، ثمّ تقدّم محمد صلّى اللّه عليه و آله فصلّى بالقوم، فأنزل اللّه عليه: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا الآية، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: على ما تشهدون، و ما كنت تعبدون؟ فقالوا: نشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، و أنّك رسول اللّه، أخذت (3)على ذلك مواثيقنا و عهودنا» (4).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 46 الی 52

ثمّ حكى سبحانه إرساله موسى مع كونه عديم المال و الجاه، إلى فرعون الذي كان له ملك مصر و أموال كثيرة، ردّا على قريش الذين قالوا: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ (5)الآية، بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى مع كونه فقيرا و مهينا عند القبط حال كونه مستدلا على صدقه بِآياتِنا و معجزاته التي أعطيناه إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر وَ مَلاَئِهِ و أشراف قومه المطاعين عند القبط فَقالَ لهم موسى: يا قوم إِنِّي رَسُولُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ إليكم، لأدعوكم إلى توحيده و طاعته،

و جئتكم بآيات و معجزات من ربّكم فَلَمّا جاءَهُمْ بِآياتِنا و أراهم المعجزات الدالّة على صدقه إِذا هُمْ مِنْها

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (46) فَلَمّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا اَلسّاحِرُ اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ اَلْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ اَلْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52)

ص: 515


1- . تفسير الرازي 27:216.
2- . الإسراء:17/1.
3- . في الكافي: أخذ.
4- . تفسير القمي 2:285، الكافي 8:121/93، تفسير الصافي 4:393.
5- . الزخرف:43/31.

يَضْحَكُونَ كذبا، و بها يستهزئون، فكان يريهم آية بعد آية،

و يأتيهم بمعجزة بعد معجزة وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات و معجزة من المعجزات إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ و أعظم مِنْ أُخْتِها و قرينتها وَ أَخَذْناهُمْ و ابتليناهم بعد أن يستهزئوا بالمعجزات بِالْعَذابِ و البلاء من الطوفان، و الجراد، و القمل، و الدم، و الطمس لَعَلَّهُمْ بسبب العذاب و البلاء يَرْجِعُونَ عما هم عليه من الكفر و الطغيان إلى الايمان و التسليم، فلما اشتد الأمر على فرعون و ملئه،

جزعوا وَ قالُوا تضرعا إلى موسى: يا أَيُّهَا اَلسّاحِرُ في زعم الناس. و قيل: إنهم كانوا يقولون للعالم [الماهر]

ساحر (1)، و المعنى: أيها العالم، إن تك صادقا في دعوى الرسالة اُدْعُ لَنا رَبَّكَ الذي أرسلك ليكشف عنا العذاب بِما عَهِدَ من النبوة المحفوظة عِنْدَكَ أو من استجابة دعوتك، أو من كشف العذاب عمن آمن بك، و الباء على هذا للسببية، أو المعنى بحق ما عهد عندك من النبوة إِنَّنا على تقدير كشف العذاب لَمُهْتَدُونَ و مؤمنون بك.

فَلَمّا كَشَفْنا و رفعنا عَنْهُمُ اَلْعَذابَ بدعاء موسى إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ و ينقضون عهدهم بالاهتداء و الايمان، و بادروا إليه من غير ريث،

و أصروا على الكفر و العناد وَ كان من نقضهم أنه نادى فِرْعَوْنُ بنفسه، أو بمناد من قبله فِي ما بين قَوْمِهِ و هم القبط، قالَ تعظما و افتخارا: يا قَوْمِ إن كان إله غيري كنت أولى بالرسالة من قبله أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ و هي على ما قيل أربعون فرسخا في أربعين (2). وَ أ ليس هذِهِ اَلْأَنْهارُ الأربعة المتشعبة من النيل، و هي على ما قيل نهر الإسكندرية، و نهر طولون، و نهر دمياط، و نهر تنيس (3). تَجْرِي مِنْ تَحْتِي قيل: كانت تلك الأنهار تجري في بستان له فيه قصره. و قيل: يعني تجري من أمري (4). أَ فَلا تُبْصِرُونَ يا قوم سلطنتي و جاهي و ما لي، يا قوم أموسى خير مني مع ما تبصرون من سلطنتي و عظمتي

أَمْ أَنَا خَيْرٌ و أفضل مِنْ هذَا الرجل اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ و ضعيف و حقير بينكم؟

و قيل: إن المعنى أَ فَلا تُبْصِرُونَ أنا خير منه (5). و قيل: (أنا خير) لابتداء الكلام، و المعنى (أَ فَلا تُبْصِرُونَ) أم تبصرون (6)ما يكون.

ثم قال: (أنا خير منه) و قيل: إن كلمة (أم) بمعنى بل (7). و قيل: بمعنى الاستفهام و بل، فكأنه قال أثر

ص: 516


1- . تفسير الرازي 27:218.
2- . تفسير روح البيان 8:377.
3- . تفسير الرازي 27:218، تفسير روح البيان 8:377.
4- . تفسير روح البيان 8:377.
5- . تفسير روح البيان 8:377.
6- . تفسير الرازي 27:218.
7- . تفسير الرازي 27:218، تفسير روح البيان 8:378.

تعديد موجبات فضله و مبادئ خيريته: يا قوم، أثبت عندكم ما قلت؟ بل أنا خير منه (1). وَ الحال أنه لا يَكادُ يُبِينُ و يوضح كلامه، لرتة في لسانه، فكيف يليق للرسالة؟ و قيل: إنه قال ذلك بلحاظ اطلاعه على حاله السابق، و ما كان يعلم زوال رتته منه بدعائه. و قيل: إن المراد لا يكاد يبين حجته على رسالته، لا أنه لا يقدر على الكلام (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 53 الی 56

ثم قيل: إن عادة القبط كانت جارية بأن من جعلوه رئيسا مطاعا سوروه بسوار من ذهب، و طوقوه بطوق من ذهب (3)، فلذا قال فرعون توبيخا لموسى: فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ من قبل ربه أَسْوِرَةٌ و أقلبه مِنْ ذَهَبٍ التي هي مقاليد الملك، إن كان صادقا في دعوى الرسالة؟ أَوْ جاءَ مَعَهُ اَلْمَلائِكَةُ حال كونهم مُقْتَرِنِينَ لموسى و منضمين إليه، أو منقادين له؟ كي يعينونه على أمره، و يصدقونه في دعوى رسالته.

فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ اَلْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمّا آسَفُونا اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

فَاسْتَخَفَّ فرعون بما ذكر من التلبيسات قَوْمَهُ و أراد بالتمويهات خفة عقولهم، و حملهم على الجهل، كي يطيعوه فيما أراد منهم مما يأباه أرباب العقول السليمة. و قيل: طلب منهم خفة الأبدان، و هي كناية عن إسراعهم في طاعته، أو المراد وجد أحلامهم خفيفة، يغترون بالتسويلات و التمويهات الباطلة (4)، أو وجدهم خفافا في أبدانهم و عزائمهم (5). فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به من معارضة موسى، و الأعراض عنه، لفرط ضلالهم.

إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ و خارجين عن حدود العقل و عبودية الله، فلذلك استعظموا فرعون بماله و ملكه، و سارعوا إلى طاعته، و استحقروا موسى لفقر و ضعفه، فخالفوه أمنا من ضرره.

عن أمير المؤمنين عليه السلام: «و لقد دخل موسى و معه أخاه هارون على فرعون، و عليهما مدارع الصوف، و بأيديهما عصا، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه، فقال: ألا تعجبون من هذين، يشترطان لي دوام العز، و بقاء الملك، و هما بما ترون من حال الفقر و الذل، فهلا القي عليهما أساور من ذهب؟ ! إعظاما للذهب و جمعه، و احتقارا للصوف و للبسه. و لو أراد الله لأنبيائه حيث بعثهم كنوز

ص: 517


1- . تفسير أبي السعود 8:50، تفسير روح البيان 8:378.
2- . تفسير الرازي 27:219.
3- . تفسير الرازي 27:219.
4- . تفسير روح البيان 8:379.
5- . تفسير روح البيان 8:380.

الذهبان و معادن الأقيان و مغارس الجنان، و أن يحشر معهم طيور السماء و و حوش الأرضين لفعل، و لو فعل لسقط البلاء و بطل الجزاء» .

إلى أن قال: «و لكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، و ضعفه فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب و العيون غنى، و خصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذى، و لو كانت الأنبياأ أهل قوة لا ترام، و عزة لا تضام، و ملك تمد نحوه أعناق الرجال و تشد إليه عقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، و أبعد لهم عن الاستكبار، و لآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، و كانت السيئات مشتركة، و الحسنات مقتسمة، و لكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله، و التصديق بكتبه، و الخشوع لوجهه، و الاستكانة لأمره، و الاستسلام لطاعته امورا له خاصة، لا يشوبها من غيرها شائبة، و كلما كانت البلوى و الاختبار أعظم، كانت المثوبة و الجزاء أجزل» (1).

فَلَمّا آسَفُونا و شددوا عليهم سخطنا بالافراط في الطغيان و العناد للحق اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ و عجلنا في إنزال العذاب عليهم فَأَغْرَقْناهُمْ في البحر المطاع و المطيعين أَجْمَعِينَ بحيث لم نترك منهم أحدا.

قيل: لما افتخر فرعون بجريان الماء من تحته، غرقه الله في الماء (2).

عن الصادق عليه السلام، قال في هذه الآية: «إن الله تبارك و تعالى لا يأسف كأسفنا، و لكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون، و هم مخلوقون و مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه، و سخطهم سخط نفسه، و ذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه، و الأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك» .

إلى أن قال: «و لو كان يصل إلى الملكوت الأسف و الضجر، و هو الذي أحدثهما و أنشأهما، لجاز لقائل أن يقول: إن الملكوت يبيد يوما، لأنه إذا دخله الضجر و الأسف، دخله التغير، و إذا دخله التغير، لم يؤمن عليه الإبادة» (3)الخبر.

و قيل: إن الأسف و الغضب من الله إرادة العذاب الذي هو أثر الغضب، و الانتقام هو التعذيب لجرم سابق (4).

ثم بين سبحانه أن فائدة إهلاكهم صيرورتهم عبرة لمن بعدهم بقوله: فَجَعَلْناهُمْ وصيرناهم سَلَفاً و قدوة لمن بعدهم من الكفار الذين يسلكون مسلكهم في استيجاب ما حل به من العذاب،

ص: 518


1- . نهج البلاغة:291 الخطبة 192، تفسير الصافي 4:395.
2- . تفسير روح البيان 8:381.
3- . الكافي 1:112/6، التوحيد:168/2، تفسير الصافي 4:396.
4- . تفسير الرازي 27:219.

أو سلفا و قدوة في دخول النار أ وَ مَثَلاً وعظة لِلْآخِرِينَ من الناس، لئلا يسلكوا مسلكهم.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 57

ثم إنه تعالى بعد حكاية جدال قريش مع النبي صلى الله عليه و آله بقولهم: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (1)حكى جدالهم الآخر بقوله: وَ لَمّا ضُرِبَ و جعل عيسى اِبْنُ مَرْيَمَ في إبطال قول النبي صلى الله عليه و آله مَثَلاً و مقياسا؛ روي أنه لما نزل: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (2)قرأه رسول الله صلى الله عليه و آله على قريش، فامتعضوا و غضبوا غضبا شديدا، و شق عليهم ذلك، فقال عبد الله بن الزبعرى بطريق الجدال: هذا لنا و لآلهتنا، أو لجميع الامم؟ فقال: «هو لكم و لا لهتكم و لجميع الامم» فقال: خصمتك و رب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح، و أنت تزعم أنه نبي و تثني عليه و على امه، و قد علمت أن النصارى يعبدونهما، و اليهود يعبدون عزيزا، و بنو المليح يعبدون الملائكة، فان كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم، فسكت رسول الله صلى الله عليه و آله فنزلت (3).

وَ لَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)و لما ضرب ابن مريم مثلا إِذا قَوْمُكَ قريش يا محمد، لما سمعوا المثل مِنْهُ يَصِدُّونَ و يضجون، و يرفعون أصواتهم فزعا و سرورا لظنهم أنك صرت ملزما بذلك المثل.

و عن (المعاني) عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال في الآية «الصدود في العربية الضحك» (4).

و في روآية فضل بن روزبهان: أن النبي صلى الله عليه و آله قال في جواب ابن الزبعرى: «ما أجهلك بلسان قومك!» (5)فان (ما) لا يراد به ذوو العقول، و عيسى من ذوي العقول، فأنزل الله: وَ لَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إلى آخره.

في فضيلة أمير

المؤمنين عليه السلام

و روى العلامة في (نهج الحق) عن العامة: أن النبي صلى الله عليه و آله قال لعلي عليه السلام: «أن فيك مثلا من عيسى، أحبه قوم فهلكوا فيه، و أبغضه قوم فهلكوا فيه» فقال المنافقون: أما ترى له مثلا إلا عيسى ابن مريم؟ فنزلت هذه الآية (6).

و قال القاضي نور الله: قد روى أحمد بن حنبل في مسنده ما في الحديث الذكور من طرق ثمانية، منها: ما رواه مسندا إلى علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: «يا علي، إن فيك مثلا من عيسى، أبغضه اليهود حتى بهتوا امه، و أحبه النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له» . قال: قال علي عليه السلام: «يهلك

ص: 519


1- . الزخرف:43/31.
2- . الأنبياء:21/98.
3- . تفسير الرازي 27:221، تفسير روح البيان 8:381.
4- . معاني الأخبار:220/1، تفسير الصافي 4:396.
5- . تفسير روح البيان 8:382، و ليست عن ابن روزبهان.
6- . نهج الحق:202/62.

في رجلان: محب يفرطني بما ليس في، و مبغض شنأني على أن يبهتني» .

و كذا ابن المغازلي في كتاب (المناقب) ، و محمد بن عبد الواحد في (جواهر الكلام) ، و ابن عبد ربه في (العقد) ذكروا ما في معناه (1). و قريب من هذا المضمون روآيات عديدة بطرق أصحابنا.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 58 الی 60

و احتمل الفخر الرازي أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى، قالوا: إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى، و إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة (2). فحكى سبحانه قولهم بقوله: وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ من عيسى أَمْ هُوَ خير من آلهتنا؟ و ما قالوا ذلك المثل و ما ضَرَبُوهُ لَكَ يا محمد لغرض من الأغراض إِلاّ جَدَلاً و لأجل الخصام و الغلبة عليك، لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك بَلْ هُمْ و ما اولئك المجادلون إلا قَوْمٌ خَصِمُونَ و مصرون على الجدال، و مبالغون في الخصومة.

وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

ثم بين سبحانه منزلة عيسى ردا على من قال بألوهيته بقوله: إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ من عبادنا مربوب بتربيتنا أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بنعمة النبوة، و تفضلنا عليه بفضيلة الرسالة، لا هو ابننا و لا شريكنا في الالوهية و استحقاق العبادة وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً و عبرة عجيبة حقيقة بكونها كالمثل السائر لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعتبرون به، إنا خلقناه من غير أب، كما خلقنا آدم، و آتيناه معجزات كثيرة.

ثم لما ذكر سبحانه كون عيسى عبرة و آية من حيث تولده من غير أب، بين كمال قدرته في أمر الو لا دة بقوله: وَ لَوْ نَشاءُ و الله لَجَعَلْنا و لخلقنا بطريق الو لا دة مِنْكُمْ مع أنكم رجال من الإنس ليس من شأنكم الو لا دة مَلائِكَةً مستقرين فِي اَلْأَرْضِ أمثال أولادكم يَخْلُفُونَ كم، و يقومون مقامكم في مباشرة أعمالكم التي تباشرونها، كما خلقناهم بطريق الابداع، و أسكناهم في السماوات يسبحون و يقدسون، و من الواضح أن توليد الملائكة من رجال الانس أبدع من توليد عيسى من الانثى الإنسية من غير أب، و فيه تنبيه على أنهم غير أهلين للعبادة، لأنهم مخلوقون مربوبون.

في (الكافي) عن أبي بصير، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه و آله ذات يوم جالس، إذ أقبل أمير المؤمنين عليه السلام،

ص: 520


1- . إحقاق الحق 3:403.
2- . تفسير الرازي 27:220.

فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: «إن فيك شبها من عيسى ابن مريم، لو لا أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى ابن مريم، لقلت فيك قولا لا تمر بملأ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك، يلتمسون بذلك البركة» قال: فغضب الأعرابيان و المغيرة بن شعبة وعدة من قريش معهم، فقالوا: ما رضي أن يضرب لا بن عمه إلا عيسى، فأنزل الله على نبيه: وَ لَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إلى قوله: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي من بني هاشم مَلائِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (1).

و قيل: إن الله تعالى بعد حكاية جدال القوم مع الرسول صلى الله عليه و آله هددهم و قال: لو نشاء لأهلكناكم و جعلنا بدلا منكم ملائكة يسكنون الأرض بعدكم و يعمرونها و يعبدونني (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 61 الی 62

ثم بين سبحانه خصيصة عيسى عليه السلام بقوله: وَ إِنَّهُ عليه السلام بنزوله من السماء لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ و علامة لقربها، و شرط من أشراطها فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أيها الناس، و لا تشكن فيها، و لا تجادلن بوقوعها لوجوب إتيانها علي وَ اِتَّبِعُونِ و آمنوا برسولي، و اعملوا بشريعتي، فان هذا الاتباع الذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ و عن القمي رحمه الله في تأويله: ثم ذكر خطر أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ و في قوله: وَ اِتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ قال: يعني أمير المؤمنين عليه السلام (3).

وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اِتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ اَلشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ عن اتباعي و لا يمنعكم عن سلوك صراطي اَلشَّيْطانُ و إعلموا إِنَّهُ لَكُمْ أيها الناس عَدُوٌّ مُبِينٌ و مبغض ظاهر العداوة و البغض.

في الحديث العامي: «أنّ عيسى ينزل على ثنيّة بالأرض المقدّسة يقال لها أفيق أغبر (4).

و في حديث آخر: «الأنبياء أولاد علات (5)، و أنا أولى الناس بعيسى بن مريم، ليس بيني و بينه نبي، إنّه أول ما ينزل يكسر الصليب، و يقتل الخنزير، و يقاتل على الاسلام» (6).

أقول: يعني ليس بينه و بين نبينا صلّى اللّه عليه و آله نبيّ [من]اولي العزم، لأنّه لا تخلو الأرض من حجّة.

و في حديث آخر: «ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب» (7)الخبر.

ص: 521


1- . الكافي 8:57/18، تفسير الصافي 4:397.
2- . تفسير روح البيان 8:383.
3- . تفسير القمي 2:286، تفسير الصافي 4:398.
4- . تفسير روح البيان 8:384.
5- . العلّة: الضرّة، و بنو العلاّت: بنو رجل واحد من امّهات شتّى، و يريد بالحديث أن الانبياء عليهم السّلام إيمانهم واحد و شرائعهم مختلفة.
6- . تفسير روح البيان 8:384.
7- . تفسير روح البيان 8:384.

و رووا أنه يجتمع عيسى و المهدي، فيقوم عيسى بالشريعة، و المهدي بالسيف (1). و قال بعضهم: أنّ عيسى يصلّي بالناس، و المهدي يقتدي به (2)، و قال بعضهم: يؤمّ المهدي، و يقتدي به عيسى (3)، و اتّفق أصحابنا على أنّ عيسى يقتدي بالمهدى عليه السّلام فانّ السلطنة الإلهية للمهدي، و عيسى معينة و تبعة.

و قيل: إنّ ضمير (إنه) راجع إلى القرآن (4)، و المعنى أنّ القرآن لعلم للساعة، لما فيه من الإعلام بها، و الدلالة عليها.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 63 الی 66

ثمّ لمّا بيّن سبحانه عظمة شأن عيسى، حكى دعوته إلى التوحيد و المعارف الإلهية بقوله: وَ لَمّا جاءَ عِيسى من جانب اللّه إلى بني إسرائيل مستدلا على رسالته بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات كاحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و غيرهما قالَ يا بني إسرائيل، إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ و المعارف الإلهية التي يجب عليكم تعلّمها وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ و تتنازعون فِيهِ من الامور الدينية التي بيانها وظيفة الأنبياء. و عن ابن عباس: أنّ البعض هنا بمعنى الكلّ (5).

وَ لَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اَللّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)فَاتَّقُوا اَللّهَ يا بني إسرائيل، و خافوه في مخالفتي وَ أَطِيعُونِ و اقبلوا منّي ما ابلّغكم من ربي، و اعملوا به، و اعلموا أنّ أهمّ ما ابلّغكم به التوحيد،

فانّي أقول: إِنَّ اَللّهَ تعالى وحده هُوَ بالخصوص رَبِّي وَ رَبُّكُمْ و ربّ كلّ شيء، لا شريك له في الالوهية و استحقاق العبادة، إذا علمتم ذلك فَاعْبُدُوهُ وحده بخلوص النية، و لا تعبدوني و لا تعبدوا غيري ممّا سواه هذا التوحيد و الإخلاص في عبادته صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يوصل سالكه إلى جميع الخيرات،

و يؤدّيه إلى أكمل السعادات فَاخْتَلَفَ اليهود و النصارى في أمر اللّه و شأن عيسى بعد ثلاثمائة سنة من رفعه، على ما قيل (6)، و حدثت اَلْأَحْزابُ و الفرق العديدة مِنْ بَيْنِهِمْ فحزب قالوا: إنّه رسول اللّه و عبده،

ص: 522


1- . تفسير روح البيان 8:384.
2- . تفسير روح البيان 8:385.
3- . تفسير روح البيان 8:385.
4- . جوامع الجامع:436، تفسير أبي السعود 8:53.
5- . تفسير روح البيان 8:385.
6- . تفسير روح البيان 8:386.

و حزب قالوا: إنه ابن اللّه، و حزب قالوا: إنّه ثالث ثلاثة، و حزب قالوا: إنّه هو اللّه، و حزب قالوا: إنّه- نعوذ باللّه-ولد زنا، و جميعهم إلاّ الفرقة الاولى ظلموه فَوَيْلٌ و أسوأ الأحوال في القيامة لِلَّذِينَ ظَلَمُوا و كفروا به، و خالفوا قوله مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ عذابه، و هو يوم القيامة، و هؤلاء الظالمون

هَلْ يَنْظُرُونَ و ينتظرون شيئا في ابتلائهم بالعذاب إِلاَّ اَلسّاعَةَ و القيامة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً و فجاءة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و لا يحتملون إتيانها، لكونهم منكرين له.

قيل: ذكر إيتانها بغتة لم يكن مغنيا عن ذكر عدم شعورهم به، لأن إتيانها بغتة يجتمع مع الشعور بوقوعه و الاستعداد له (1).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 67

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال الساعة بقوله: اَلْأَخِلاّءُ و الأصدقاء يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ و مبغض، لظهور مضارّ الخلّة، و التحابب بينهم إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ الذين كانوا منتفعين في الآخرة بخلّتهم و موادّتهم، لكونهم في الدنيا متعاونين على البرّ و التقوى، فتكون خلّتهم في الدنيا باقية إلى القيامة، بل تزداد بمشاهدة آثارها من الثواب و الشفاعة و رفع الدرجات.

اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ (67)و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال في هذه الآية: «كان خليلان مؤمنان، و خليلان كافران، فمات أحد المؤمنين، فقال: يا ربّ، إنّ فلانا كان يأمرني بطاعتك و طاعة رسولك، و يأمرني بالخير و ينهاني عن الشرّ، و يخبرني أنّي ملاقيك، يا ربّ فلا تضلّه بعدي، و اهده كما هديتني، و أكرمه كما أكرمتني. فاذا مات خليله المؤمن، يجمع بينهما، فيقول كلّ واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ و نعم الصاحب، فيثني عليه خيرا.

قال و يموت أحد الكافرين فيقول: إنّ فلانا كان ينهاني عن طاعتك و طاعة رسولك، و يأمرني بالشرّ، و ينهاني عن الخير، و يخبرني أنّي غير ملاقيك، فلا تهده بعدي و أضلله كما أضللتني، و أهنه كما أهنتني، فاذا مات خليله الكافر جمع بينهما، فيقول كلّ واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ و بئس الخليل، فيثني عليه شرّا» (2).

و في الحديث: «أنّ اللّه يقول يوم القيامة: أين المتحابّون بجلالي، اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي» (3).

ص: 523


1- . تفسير روح البيان 8:386.
2- . تفسير روح البيان 8:388.
3- . تفسير روح البيان 8:388.

و في رواية اخرى: «يقول اللّه تعالى: المتحابّون فيّ [أي في اللّه]بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون و الشهداء» (1).

و عن ابن عباس: يقول أحبّ للّه، و أبغض للّه، و وال للّه، و عاد للّه، فانّه ينال ما عند اللّه بهذا، و لن ينفع أحدا كثرة صومه و صلاته و حجّه حتى يكون هكذا، و قد صار الناس اليوم يحبّون و يبغضون للدنيا، و لن ينفع ذلك أهله، ثمّ قرأ الآية (2).

في فضيلة مؤاخاة

المتّقين

و عن الصادق عليه السّلام: «و اطلب مؤاخاة الأتقياء، و لو في ظلمات الأرض، و إن أفنيت عمرك في طلبهم، فانّ اللّه عز و جل لم يخلق أفضل منهم على وجه الأرض بعد النبيين، و ما أنعم اللّه على عبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم، قال اللّه تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ (3).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 68 الی 71

ثمّ بيّن سبحانه إكرامه و لطفه بالمتّقين يوم القيامة بأن يباشر مخاطبتهم فيه بقوله: يا عِبادِ الموحّدين لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ من أهوال اَلْيَوْمَ و شدائده وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ على ما فاتكم من نعم الدنيا و الحرمان عن الدرجات العالية في الجنّة.

يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ (69) اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)

ثمّ عرّف سبحانه عباده المبشرين بتلك البشارة بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا و كمال صفاتنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ و منقادين لأحكامنا،

مطيعين لأوامرنا و نواهينا اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ التي كنتم توعدون بها في الدنيا أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ المؤمنات حال كونكم تُحْبَرُونَ و تسرّون (4)سرورا نظهر أثره في وجوهكم، أو تزيّنون بثياب من سندس و إستبرق، و أساور من ذهب و فضّة،

أو تكرمون، فاذا دخلوا الجنة فرحين مسرورين و مكرمين و مزيّنين يُطافُ و يدار عَلَيْهِمْ بأيدي الغلمان و الولدان بِصِحافٍ و قصاع واسعة مدوّرة الأفواه مصنوعة مِنْ ذَهَبٍ فيها طعامهم وَ أَكْوابٍ و كوز من ذهب لا عروة لها و لا خرطوم، فيها شرابهم، يشربون منها حيث يشاءوا.

ص: 524


1- . تفسير روح البيان 8:388.
2- . تفسير روح البيان 8:388.
3- . مصباح الشريعة:150، تفسير الصافي 4:399.
4- . في النسخة: و تسترون.

عن ابن عباس: يطاف بسبعين ألف صحفة من ذهب، في كلّ صحفة سبعون ألف لون، كلّ لون له طعم غير طعم الألوان الاخر، هذا لأسفل درجة، و أما الأعلى فيوتى بسبعمائة الف صحفة (1).

و في الحديث: «أنّ أدنى أهل الجنة منزلة من له سبع درجات، و هو على السادسة، و فوقها السابعة، و إنّ له ثلاثمائة خادم، و إنه يغدى عليه و يراح في كلّ يوم بثلاثمائة صحفة، في كلّ صحفة لون من الطعام ليس في الأخرى، و إنّه ليلذّ أوله كما يلذّ آخره، و إن له من الأشربة ثلاثمائة إناء، في كلّ إناء شراب ليس في الآخر، و إنّه ليلذّ أوله كما يلذّ آخره، و إنّه ليقول: يا ربّ، لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنّة و سقيتهم، و لم ينقص ذلك ما عندي شيئا، و إن له من الحور العين ثنتين و سبعون زوجة سوى أزواجه من الدنيا» (2).

وَ لكم يا أهل الجنّة فِيها بتفضل اللّه ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ من أنواع المشتهيات كالمطاعم و المشارب و المناكح و الملابس و نحوها وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ بمشاهدته وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ و دائمون لا تموتون، و لا منها تخرجون.

عن القائم عجّل اللّه فرجه: أنّه سئل عن أهل الجنّة، هل يتوالدون إذا دخلوها؟

فأجاب: «أنّ الجنة لا حمل فيها للنساء و لا ولادة، و لا طمث و لا نفاس، و لا شقاء بالطفولية، و فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين، كما قال اللّه، فاذا اشتهى المؤمن ولدا خلقه اللّه بغير حمل و لا ولادة على الصورة التي يريد، كما خلق آدم عبرة» (3).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 72 الی 76

ثمّ قرّر سبحانه خلودهم فيها بقوله: وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوها و ملكتموها ملك الوارث عن مورّثه بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة و

لَكُمْ سوى الطعام و الشراب فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بحسب الأنواع و الأصناف، وافر كل صنف مِنْها تَأْكُلُونَ.

وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ اَلظّالِمِينَ (76)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه حسن حال المتّقين في الآخرة من حيث المطعم و المشرب و المسكن و سائر اللذائذ و خلودهم فيها، بيّن سوء حال المشركين و الطّغاة في الآخرة بقوله: إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ

ص: 525


1- . تفسير روح البيان 8:390.
2- . تفسير روح البيان 8:391.
3- . الاحتجاج:488، تفسير الصافي 4:399.

و العصاة فِي عَذابِ جَهَنَّمَ و شدائدها خالِدُونَ و مقيمون أبدا، لا ينقطع عنهم لحظة و

لا يُفَتَّرُ و لا يخفّف عَنْهُمْ ساعة وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ و آيسون من الخلاص. عن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من النار، ثمّ يقفل عليه، فيبقى فيه لا يرى و لا يرى (1).

ثمّ نبّه سبحانه بأن عذابهم بمقتضى العدل بقوله: وَ ما ظَلَمْناهُمْ بإخلادهم في العذاب الشديد وَ لكِنْ كانُوا في الدنيا هُمُ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للعذاب الدائم، حيث اختاروا الكفر و العصيان.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 77 الی 78

ثمّ بيّن سبحانه شدّة عذابهم بقوله: وَ نادَوْا تمنّيا أربعين سنة، أو مائة، أو الف سنة، كما عن ابن عباس (2)يا مالِكُ جهنّم لِيَقْضِ عَلَيْنا و ليميتنا رَبُّكَ حتى نستريح.

وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)روي أنّه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكا، فيدعون: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ (3)و لا ينافي هذه الاستغاثة إياسهم من الخلاص، فانّ الإياس يكون من الخروج و العفو، و السؤال راجع إلى الموت، و قيل في رفع التنافي: إنّ أوقاتهم و أحوالهم مختلفة، فيسكتون أوقاتا لغلبة يأسهم، و يستغيثون أوقاتا لشدّة عذابهم (4).

و على أي تقدير قالَ مالك في جوابهم بعد مدة إهانة لهم: يا أهل النار إِنَّكُمْ إلى الأبد ماكِثُونَ و مقيمون فيها، لا خلاص لكم منها بموت و لا بغيره.

ثمّ قال لهم من قبل اللّه: و اللّه لَقَدْ جِئْناكُمْ في الدنيا بِالْحَقِّ و أعلمناكم بتوسّط الرسول و الكتاب السماوي بالدين المرضي عند ربّكم وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ و ذلك الدين كارِهُونَ و منه متنفّرون، و عنه معرضون، لمنافاته لشهواتكم، فكان تماديكم في الكفر و انهما ككم في الشهوات سببا لبقائكم في العذاب و خلودكم في النار، فلا مجال لتوقّع النجاة.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 79 الی 81

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعابِدِينَ (81)

ص: 526


1- . تفسير روح البيان 8:393، و لم ينسب إلى أحد.
2- . تفسير الرازي 27:227، تفسير أبي السعود 8:55.
3- . تفسير الرازي 27:227.
4- . تفسير الرازي 27:227.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان شدّة عذاب الكفار في الآخرة لكراهتهم الحقّ في الدنيا، ذكر سعيهم في الدنيا مع ذلك في إطفاء نور الحقّ، و مكرهم بالرسول، و تعاهدهم على قتله بقوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا و بل أحكموا أَمْراً معهودا، و هو كيدهم و مكرهم بالرسول. عن مقاتل: نزلت في تدبيرهم في دار الندوة (1)، في المكر بالرسول و تشاورهم في قتله فَإِنّا مُبْرِمُونَ و متقنون كيدنا بهم حقيقة لا هم

أَمْ يَحْسَبُونَ و بل يتوهّمون أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ و ما حدّثوا به في أنفسهم من الكيد في أمر الرسول وَ نَجْواهُمْ و تشاورهم خفية من الرسول و المؤمنين بَلى نحن نسمعهما و نطلع عليهما وَ رُسُلُنا الحافظون عليهم أعمالهم حاضرون لَدَيْهِمْ أينما كانوا و يَكْتُبُونَ في ديوان أعمالهم كلّما يصدر عنهم من الاعمال و الأقوال سرّا و علانية، ثمّ تعرض عليهم يوم القيامة، و يعاقبون عليها أشدّ العقاب.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه عناد المشركين للرسول، و همّهم بقتله لقوله بتوحيد اللّه، و تنزّهه عن الولد، أمره بإعلامهم بأنّ عدم موافقته لهم في الاعتقادات الفاسدة ليس لأجل العناد الموجب للقتل، بل إنّما لعلمه بامتناع وجود الشريك و الولد له تعالى بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين إِنْ كانَ في الواقع و نفس الأمر لِلرَّحْمنِ الخالق لجميع الموجودات وَلَدٌ ذكرا كان أم انثى، كما تزعمون أنّ الملائكة بنات اللّه فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعابِدِينَ لذلك الولد، و أسبقكم إلى تعظيمه و الانقياد له، لأنّي أعلم الناس بعظمة اللّه الموجبة لتعظيم ولده، لكونه من لوازم تعظيم الوالد، حيث إنّ الولد جزء منفصل من الوالد، و لكن لمّا حكم عقلي بامتناع التركيب في الواجب الوجود حتى ينفصل منه الجزء، امتنع منّي القول بثبوت الولد له و عبادتي إياه، فليس إنكاري كون الملائكة بنات اللّه للعناد و اللّجاج حتى استحقّ القتل و الطرد.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 82 الی 83

ثمّ أعلن بتنزّهه تعالى عن الولد و الشريك بقوله: سُبْحانَ رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ ربّ اَلْأَرْضِ و ما فيهما و رَبِّ اَلْعَرْشِ الذي هو اعظم من جميع الموجودات، و تنزّه عَمّا يَصِفُونَ و ينسبون إليه من الولد و الشريك.

سُبْحانَ رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ (83)و قيل: يعني سبّحوا ربّ هذه الأجسام العظام؛ لأنّ مثل هذه الربوبية توجب التسبيح على كلّ

ص: 527


1- . تفسير الرازي 27:228.

مربوب، و نزّهوه عن كلّ ما يصفه الكافرون به من صفات الأجسام، فانّه لو كان جسما لم يقدر على خلق هذا العالم و تدبيره (1).

ثمّ هدّدهم سبحانه على عدم إذعانهم للحقّ بعد إلزامهم عليه بالبرهان القاطع بقوله: فَذَرْهُمْ يا محمد، و اتركهم حتى يَخُوضُوا وَ يستغرقوا في أباطيلهم و شهواتهم يَلْعَبُوا بدنياهم و يشتغلوا بملاهيهم ليزدادوا شقاوة و استحقاقا للعقوبة حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ و يصلوا إلى وقتهم اَلَّذِي كانوا يُوعَدُونَ فيه بالعذاب من قبلنا، فيروا صدق وعدنا و سوء عاقبة خوضهم و لعبهم، أو يوعدون على لسانك بمجيئه، و هو يوم القيامة، و هم ينكرون مجيئه.

و قيل: هو يوم موتهم، لأنه متّصل بيوم القيامة، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «من مات فقد قامت قيامته» و لذا جعل خوضهم و لعبهم منتهيين إليه (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 84 الی 86

ثمّ أعلن سبحانه بتوحيده بقوله تعالى: وَ هُوَ تعالى وحده اَلَّذِي فِي اَلسَّماءِ إِلهٌ وَ معبود بالحقّ فِي اَلْأَرْضِ أيضا إِلهٌ و معبود لا معبود فيهما سواه وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ الذي يدبّر بحكمته البالغة امور العوالم اَلْعَلِيمُ بأحوال جميع الموجودات أزلا و أبدا

وَ تَبارَكَ و تعالى عن الولد و الشريك، أو كثر خير الاله اَلَّذِي لَهُ بالإشراق و الإيجاد مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات و السلطنة التامة عليها إيجادا و إعداما و تصرّفا و تدبيرا وَ عِنْدَهُ و خاصته وحده عِلْمُ اَلسّاعَةِ التي تقوم فيها القيامة وَ إِلَيْهِ أيّها الناس تُرْجَعُونَ بالموت و تردّون للحساب و الجزاء، فاستعدوا للقائه، و بادروا إلى تحصيل مرضاته.

وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّماءِ إِلهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ (84) وَ تَبارَكَ اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86)

ثمّ إنّه تعالى بعد إبطال القول بأنّ الملائكة بنات اللّه، نفى كونهم و كون غيرهم من المعبودين شفعاء عنده بقوله: وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ هؤلاء المشركون و يعبدونهم مِنْ دُونِهِ تعالى اَلشَّفاعَةَ عند اللّه للعصاة، و لا يقدر عليها إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ و أعترف بتوحيد اللّه في الالوهية و العبادة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ما يشهدون به عن بصيرة، و يوقنون به عن شهود أو برهان، كالملائكة،

ص: 528


1- . تفسير روح البيان 8:396.
2- . تفسير روح البيان 8:397.

و عيسى، و عزير. و من الواضح أنّهم لا يشفعون لمن خالفهم في العقائد.

و قيل: إنّ المعنى أنّهم لا يقدرون على الشفاعة إلاّ لمن شهد بالحق (1)، و اعترف به، من اختصاص استحقاق العبادة باللّه، و هم المؤمنون الموحّدون، فليس للمشركين أن يرجوا الشفاعة.

روي أنّ النّضر بن الحارث و نفرا معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولّى الملائكة، فهم أحقّ بالشفاعة من محمد، فأنزل اللّه هذه الآية (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 87 الی 89

ثمّ بيّن سبحانه أنّ المشركين مجبولون على التوحيد بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ و أخرجهم من كتم العدم إلى الوجود، و اللّه لَيَقُولُنَّ اَللّهُ خلقنا، لعدم إمكان غير ذلك لأحد ممّن يشمّ [منه]

رائحة العقل فَأَنّى يُؤْفَكُونَ و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، مع اعترافهم بأنّهم كلّهم مخلوقون له، أو المراد لم يكذّبون على اللّه بأنّه أمرهم بعبادة الأصنام؟

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر علمه بالسعة التي لا يعلمها غيره ذكر علمه بشكوى نبيه صلّى اللّه عليه و آله من قومه بقوله: وَ قِيلِهِ و شكواه من قومه بقوله: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ الكفّار قَوْمٌ و جمع لا يُؤْمِنُونَ بي و بكتابي.

و قيل: إنّ واو (و قيله) واو القسم (3)، و المعنى: اقسم بقول رسولي يا ربّ، و جواب القسم: إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون، فيكون المجموع كلام اللّه. و في حلفه تعالى بقول رسوله إظهار لكمال عظمته، و رفعة شأنه، و تفخيم دعائه، و التجائه إليه.

و عن ابن عباس: أنّ المعنى: و قيل يا ربّ، و الهاء زائدة (4).

ثمّ سلّى سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَاصْفَحْ يا حبيبي، و أعرض عَنْهُمْ و اقنط عن إيمانهم وَ قُلْ متاركة لهم سَلامٌ عليكم، تسلمون أنتم من إيذائي، و أسلم أنا من كيدكم، لا خلاف بيني و بينكم.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و خامة عاقبة كفرهم، و متاركة إياهم، و إن تأخّر ذلك، فانّ كلّ آت قريب.

ص: 529


1- . تفسير الرازي 27:232.
2- . تفسير الرازي 27:232.
3- . تفسير أبي السعود 8:57، تفسير روح البيان 8:399.
4- . تفسير الرازي 27:234.

عن ابن عباس: أنّ قوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ منسوخ بآية السيف (1).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة الزخرف آمنه اللّه في قبره من هوامّ الأرض و ضغطة القبر حتى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ، ثمّ جاءت به حتى تدخله الجنة» (2).

الحمد للّه ربّ العالمين على إنعامه عليّ بالتوفيق لإتمام السورة المباركة الزخرف.

ص: 530


1- . تفسير الرازي 27:235.
2- . ثواب الأعمال:113، مجمع البيان 9:59، تفسير الصافي 4:402.

في تفسير سورة الدخان

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة الزخرف المبدوءة بتعظيم القرآن، و بإظهار المنّة على العرب بإنزاله بلسانهم، المختتمة بذكر أدلّة التوحيد و تهديد منكريه، و حكاية شكاية الرسول صلّى اللّه عليه و آله من عدم إيمان قومه، و أمره تعالى إياه بمتاركتهم المتوسطة بذكر دعوة موسى إلى التوحيد، و معارضة فرعون ملأه معه، نظمت سورة الدخان المبدوءة بتعظيم القرآن، و إنزاله في أشرف الأوقات، و بيان أدلّة التوحيد، و تهديد منكريه، و تسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله بحكاية معارضة فرعون و قومه موسى عليه السّلام، و شكاية موسى من عدم إيمان قومه، و سؤاله منهم المتاركة، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأها بذكر أسمائه المباركة بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ثمّ افتتحها بذكر كلمة حم المركّبة من حرفين، و قد مرّ أنّ كلّ حرف منها رمز من اسم من الأسماء الحسنى، و قلنا إنّها اسم للسورة عند بعض، و اسم للقرآن عند آخر، و قيل: إنّ المعنى على هذا القول بحقّ حم (1).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (2) إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (3)

وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و القرآن الواضح المعنى للعرب، لكونه بلسانهم. و قيل: إن حم خبر لمبتدأ محذوف (2)، و المعنى هذه السورة حم، ثمّ أقسم بالقرآن بقوله: وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ.

إِنّا أَنْزَلْناهُ بلطفنا على الخلق فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ و هي ليلة القدر. عن قتادة، قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، و التوراة لستّ ليال منه، و الزّبور لاثنتي عشرة مضت منه، و الإنجيل لثمان عشرة مضت منه، و القرآن لأربع و عشرين مضت من رمضان، و هي ليلة القدر (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «أي أنزلنا القرآن، و الليلة المباركة هي ليلة القدر» (4).

و عن الكاظم عليه السّلام مثله، و زاد: «أنزل اللّه سبحانه القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثمّ

ص: 531


1- . تفسير روح البيان 8:400.
2- . مجمع البيان 9:92.
3- . تفسير الرازي 27:238.
4- . مجمع البيان 9:92، تفسير الصافي 4:403.

نزل من البيت المعمور على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طول عشرين سنة» (1).

و روى بعض العامة أنّ عطية الحروري سأل ابن عباس عن قوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ و قوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ (2)كيف يصحّ ذلك، مع أنّ اللّه أنزل القرآن في جميع الشهور؟ فقال ابن عباس: يا بن الأسود، لو هلكت أنا، و وقع هذا في نفسك، و لم تجد جوابه لهلكت، نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور، و هو في السماء الدنيا، ثمّ نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالا بعد حال (3).

و عن الكاظم عليه السّلام أنه سأله نصراني عن تفسير هذه الآية في الباطن فقال: «أما حم فهو محمد، و هو في كتاب هود الذي انزل عليه [و هو]منقوص الحروف، و الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، و أمّا الليلة ففاطمة» (4).

ثمّ ذكر سبحانه علّة إنزاله بقوله: إِنّا كُنّا من بدو الخلق مُنْذِرِينَ للناس و مخوّفيهم من العذاب على الشرك و العصيان، و شأننا هدايتهم إلى الحقّ.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 4 الی 6

ثمّ بيّن سبحانه فضيلة الليلة بقوله: فِيها يُفْرَقُ و يفصل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ و متقن من الآجال و الأرزاق و سائر الامور من الليلة إلى مثلها من السنة القابلة.

فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (6)عن الكاظم عليه السّلام: «فِيها يُفْرَقُ يعني في ليلة القدر كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي يقدّر اللّه عزّ و جلّ كلّ أمر من الحقّ و الباطل، و ما يكون في تلك السنة، و له فيه البداء و المشيئة، يقدّم ما يشاء، و يؤخّر ما يشاء من الآجال و الأرزاق، و البلايا و الأعراض و الأمراض، و يزيد فيه ما يشاء، و ينقص ما يشاء، و يلقيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و يلقيه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الأئمّة بعده، حتى ينتهي ذلك إلى صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه الشريف، و يشترط له فيه البداء و المشيئة و التقديم و التأخير» (5).

ثمّ بيّن سبحانه الأمر الحكيم بقوله تعالى: أَمْراً حاصلا مِنْ عِنْدِنا على مقتضى حكمتنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ رسلنا بالكتاب، لإنذار الخلق،

و لتكمل عليهم رَحْمَةً كائنة مِنْ رَبِّكَ بمقتضى

ص: 532


1- . تفسير القمي 2:290، و لم ينسب إلى احد، تفسير الصافي 4:403.
2- . القدر:97/1.
3- . تفسير الرازي 27:239.
4- . الكافي 1:399/4، تفسير الصافي 4:404.
5- . تفسير القمي 2:290، لم ينسب إلى أحد، تفسير الصافي 4:401.

ربوبيته على وفق حاجات المحتاجين إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ لتضرّعاتهم اَلْعَلِيمُ بحاجاتهم.

فتحصّل من الآيات المباركات بيان شرف القرآن و عظمته، ذاتا بقسمه تعالى به، و توصيفه بكونه مبينا، و انتسابا بنسبة إنزاله إلى ذاته المقدّسة، و بيان زمان نزوله، و هو أشرف الأزمنة، و غاية هي إنذار الخلق و تكميل الرحمة عليهم.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم كتابه بتعظيم نفسه الذي أنزله بقوله: رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنّ لها ربا، أو موقنين بشيء، فانّ اليقين بهذا أولى من اليقين بسائر الأشياء لغاية وضوحه. و قيل: يعني إن كنتم طالبين لليقين، فأيقنوا بذلك (1).

رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ (8)

فاذا كان اللّه تعالى خالق جميع الموجودات العلوية و السّفلية، ثبت أنّه لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود بالاستحقاق سواه و هو يُحْيِي الموتى وَ يُمِيتُ الأحياء، و هو رَبُّكُمْ و خالقكم و مكمّل وجودكم وَ رَبُّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ و أجدادكم السابقين من آدم و من بعده من أولاده.

روى بعض العامة عن الباقر عليه السّلام: «أنّه قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف آدم و أكثر» (2).

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 9 الی 12

ثمّ أضرب سبحانه عن كونهم موقنين بقوله: بَلْ هُمْ مع تلك الآيات الدالة على التوحيد فِي شَكٍّ ممّا ذكر من التوحيد و سائر شؤونه تعالى غير موقنين في إقرارهم بأنّه ربّ السماوات و الأرض يَلْعَبُونَ بإقرارهم، و يهزؤون باعترافهم، و لا يقولون عن جدّ و إذعان. و قيل: إنّ المعنى بل هم حال شكّ مستقر في قلوبهم، يلعبون (3)بزخارف الدنيا، و لا يكونون بصدد إزالة شكّهم.

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى اَلنّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذابَ إِنّا مُؤْمِنُونَ (12)

إذا كان ذلك حال الكفار فَارْتَقِبْ يا محمد، و انتظر لهم يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّماءُ أو المراد فانتظر وعد اللّه في يوم تأتي السماء بِدُخانٍ مُبِينٍ ظاهر لا يشك أحد في أنّه دخان.

قيل: إن الدخان كناية عن المجاعة و القحط، فانّ الجائع يرى بينه و بين السماء كهيئة الدّخان من

ص: 533


1- . تفسير روح البيان 8:405.
2- . تفسير روح البيان 8:405.
3- . تفسير روح البيان 8:406.

شدّة الجوع، أو لأنّ في عام القحط يظلمّ الهواء لقلة الأمطار و كثرة الغبار، أو لأنّ العرب تسمّي الشرّ الغالب دخانا، و إسناد إتيانه إلى السماء؛ لأنّه بسبب كفّها عن الأمطار (1).

روي هذا عن ابن عباس، و ابن مسعود، و قالا: ذلك لمّا دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أهل مكّة حين أصرّوا على تكذيبه و إيذائه بقوله: «اللهمّ اشدد و طأتك على مضر، و اجعلها عليهم سنينا كسنيّ يوسف» فأصابتهم سنة حتى أكلوا الجيف و الجلود و العظام و العلهز (2)و الكلاب، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و ناشده باللّه و الرّحم، و وعده إن دعا لهم و أزال عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به (3)، فلمّا أزال اللّه عنهم ذلك رجعوا إلى الكفر و الشرك.

في ذكر بعض

اشراط الساعة

و قيل: إنّه الدّخان الذي عدّ من أشراط الساعة، فانّه يظهر في العالم، فيحصل لأهل الايمان منه حالة تشبه الزّكام، و لأهل الكفر السّكر، و تصير رؤوسهم كالحنيذ (4). روى بعض العامة هذا القول عن علي عليه السّلام و ابن عباس (5).

و رووا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أول الآيات الدّخان، و نزول عيسى بن مريم، و نار تخرج من قعر عدن، تسوق الناس إلى المحشر» قال حذيفة: يا رسول اللّه، و ما الدّخان؟ فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه الآية، و قال: «دخان يملأ ما بين المغرب و المشرق، يمكث أربعين يوما و ليلة، أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزّكمة، و أما الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه و اذنيه و دبره» (6).

و في رواية اخرى ذكر صلّى اللّه عليه و آله من الآيات طلوع الشمس من مغربها، و الدجّال، و الدّخان، و الدابّة (7).

و روى في (الجوامع) عن علي عليه السّلام أنّه قال: «دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة، يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالحنيذ، و يعتري المؤمن كهيئة الزّكام، و تكون الأرض كلّها كبيت اوقد فيه، ليس فيه خصاص (8)و يمتد ذلك أربعين يوما» (9).

يَغْشَى ذلك الدّخان اَلنّاسَ و يشملهم من كلّ جانب، و هم يقولون: هذا الدّخان عَذابٌ أَلِيمٌ عظيم،

ثمّ يقولون تضرّعا إلى اللّه: رَبَّنَا اِكْشِفْ و ارفع عَنَّا هذا اَلْعَذابَ

ص: 534


1- . تفسير روح البيان 8:406.
2- . العلهز: القراد الضخم، و طعامه من الدم و الوبر كان يتّخذ في المجاعة.
3- . تفسير روح البيان 8:406، و لم ينسبه إلى أحد.
4- . الحنيذ: الشيء المشوي، فعيل بمعنى مفعول، و منه لحم حنيذ، و عجل حنيذ، أي محنوذ.
5- . تفسير الرازي 27:242.
6- . تفسير الرازي 27:242.
7- . تفسير الرازي 27:243.
8- . الخصاص: جمع خصّ. و هو البيت المتّخذ من الشجر أو القصب، أو الذي سقفه من الخشب.
9- . جوامع الجامع:438.

الذي أحاط بنا إِنّا بعد رفعه مُؤْمِنُونَ بك و برسولك.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 13 الی 16

ثمّ يقول اللّه تعالى ردّا عليهم: أَنّى لَهُمُ اَلذِّكْرى وَ كيف لهم الاتعاظ برؤية هذه الداهية، و الحال أنه قَدْ جاءَهُمْ من قبل اللّه رَسُولٌ عظيم الشأن مُبِينٌ و مظهر لهم رسالته بالمعجزات الباهرة، أو مظهر لهم مناهج الحقّ،

و أتاهم من المواعظ و العبر ما يحرّك صمّ الجبال ثُمَّ مع ذلك تَوَلَّوْا و أعرضوا عَنْهُ بل لم يقنعوا بالتولّي و الإعراض حتى أطالوا اللسان عليه وَ قالُوا تارة مُعَلَّمٌ يعلّمه بشر، و يفتري على اللّه بأنّ كتابه كتاب اللّه و كلامه أنزله إليه بالوحي، و تارة قالوا: إنّه مَجْنُونٌ و خفيف العقل حيث يدّعي ما لم يقل به عقلاء قومه، أو يصيبه الجنّ حين يعرض له (1)الغشي، فيلقون إليه ما يدّعي أنّه كلام اللّه. و قيل: إنّ بعضهم قالوا: معلم، و بعضهم قالوا: إنّه مجنون (2)، فإذا كان خبث ذاتهم و رذالة صفاتهم بهذه المرتبة، لا يتوقّع منهم الايمان و الاتّعاظ.

أَنّى لَهُمُ اَلذِّكْرى وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنّا كاشِفُوا اَلْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرى إِنّا مُنْتَقِمُونَ (16)

ثمّ لوّن سبحانه الخطاب إليهم تسجيلا عليهم الخلف بقوله: إِنّا كاشِفُوا و رافعو اَلْعَذابِ الذي تسألون كشفه و رفعه زمانا قَلِيلاً و هو بقية مدّة أعمارهم إلى القيامة، أو كشفا قليلا، و لكن إِنَّكُمْ بعد كشفه عائِدُونَ و راجعون البتة إلى الكفر و العتوّ و الطّغيان، و اذكر يا محمد،

أو ذكّرهم يَوْمَ نَبْطِشُ فيه و نأخذ الكفّار بعنف و صولة اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرى و نعاقبهم العقوبة العظمى، و في ذلك اليوم إِنّا مُنْتَقِمُونَ منهم أشدّ الانتقام.

عن ابن عباس: أنّه قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر، و أنا أقول هي يوم القيامة (3).

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 17 الی 19

ثمّ حكى سبحانه حال قوم فرعون، و معارضتهم موسى بن عمران، و إهلاكهم بالعذاب، تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و تهديدا لقومه بقوله: وَ لَقَدْ فَتَنّا و امتحنّا في العصر السابق على عصر قومك و قَبْلَهُمْ بزمان طويل قَوْمَ فِرْعَوْنَ و كان امتحانهم بأن أتاهم وَ جاءَهُمْ من قبلنا لهدايتهم إلى

وَ لَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اَللّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اَللّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19)

ص: 535


1- . في النسخة: يعرضه.
2- . تفسير الرازي 27:243 و 244.
3- . تفسير الرازي 27:244.

الحقّ موسى بن عمران الذي هو رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللّه عظيم الشأن عنده، أو كريم و شريف عند الناس، أو حسن الخلق،

فقال: أَنْ أَدُّوا يا قوم، و سلّموا إِلَيَّ بني إسرائيل الذين هم يكونون عِبادَ اَللّهِ و ارسلوهم معى و لا تعذبوهم. قيل ان المعنى ادو إلى عباد اللّه ما هو واجب عليكم من الايمان باللّه، و قبول دعوتي و طاعتي (1).

ثمّ ذكر علّة أمره بتأدية بني إسرائيل، أو تأدية حقّ اللّه إليه بقوله: إِنِّي يا قوم لَكُمْ و إليكم رَسُولٌ من قبل اللّه أَمِينٌ على وحيه و رسالته،

غير متّهم بالكذب و الخيانة وَ أَنْ لا تَعْلُوا و لا تتكبّروا عَلَى اَللّهِ بالإهانة بوحيه و برسوله و بعباده، أو لا تتأنّفوا من طاعته و الإيمان به.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 19 الی 28

ثمّ ذكر علّة نهيه بقوله: إِنِّي آتِيكُمْ من جانب اللّه بِسُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة واضحة على رسالتي من قبله، و صدقي فيما دعوتكم إليه، و هي المعجزات الباهرات، و في تعليل وجوب التأدية عليهم بأمانة نفسه، و حرمة العلوّ على اللّه بإتيان السلطان المبين، ما لا يخفى من اللّطافة و الجزالة

وَ إِنِّي يا قوم عُذْتُ و التجأت بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ القادر على دفع كلّ شرّ و خير من أَنْ تَرْجُمُونِ بالحجارة، الذي هو أفظع القتل، أو بالقول السيء من الشتم و السبّ و النسبة إلى الكذب و السحر، أو من أن تؤذونني بالضرب و الشتم.

وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اَللّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28)و قيل: لمّا قال: وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اَللّهِ توعدّوه بالقتل (2).

وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا و تذعنوا لِي و كابرتم عقولكم، و لم تصدّقوني فيما أقول فَاعْتَزِلُونِ و اتركوني على ما أنا عليه، و لا تتعرّضوا لي بشرّ و لا أذى،

فأصرّ القبط على تكذيبه و إيذائه فَدَعا موسى رَبَّهُ و كان دعاؤه: أَنَّ هؤُلاءِ القبط قَوْمٌ مُجْرِمُونَ و طاغون مصرّون على الكفر بك و تكذيبي، فافعل بهم ما يستحقون بجرمهم.

فأوحى اللّه إليه إذا كان حال القبط ذلك فَأَسْرِ أنت يا موسى بِعِبادِي بني إسرائيل لَيْلاً

ص: 536


1- . تفسير الرازي 27:245.
2- . تفسير روح البيان 8:410.

من مصر، و أخرجهم منها على غفلة من أعدائهم إِنَّكُمْ بعد خروجكم من مصر مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون و جنوده، إن علموا بخروجكم ليقتلوكم، فاذا قربوا منكم، و وصلتم إلى بحر القلزم، فاضرب بعصاك البحر فينفلق،

و جاوز ببني إسرائيل البحر وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ حال كونه رَهْواً و ساكنا على هيئته بعد ما جاوزته، و لا تضربه بعصاك لينطبق.

و قيل: إنّ الرّهو الفرجة الواسعة (1). و المعنى: اتركه حال كونه ذا فرجة واسعة حتى يدخله القبط إِنَّهُمْ إذا جُنْدٌ مُغْرَقُونَ في البحر، لانطباق الماء عليهم بعد دخولهم فيه.

ثمّ فعل موسى عليه السّلام ما أمره اللّه من إخراج قومه من مصر ليلا، فاتّبعه فرعون و جنوده، فأدركهم الغرق فغرقوا و كَمْ تَرَكُوا و كثيرا أبقوا في الدنيا ما حصّلوه في مدّة أعمارهم مِنْ جَنّاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار وَ عُيُونٍ و أنهار كثيرة الماء المنشعبة من النّيل،

على ما قيل (2)وَ زُرُوعٍ من الحبوب و الثمار وَ مَقامٍ كَرِيمٍ و محافل مرتّبة، و منازل مستحسنة، أو منابر كانوا يمدحون فرعون عليها (3)

وَ نَعْمَةٍ و نضارة عيش كانُوا فِيها فاكِهِينَ و متنعمّين و متلذّذين

كَذلِكَ السلب سلبناهم إياها، و مثل ذلك الخروج أخرجناهم منها وَ أَوْرَثْناها و ملّكناها قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم في شيء من قرابة و لا دين و لا ولاء، و هم بنو إسرائيل الذين كانوا مستعبدين في أيديهم أذلاّء بينهم.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 29

ثمّ بيّن سبحانه هوان القبط عليه، و عدم اكتراثه بهلاكهم بقوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ بعد هلاكهم اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ قيل: هو كناية عن عدم الاعتداد بوجودهم (4).

فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)و قيل: هو من التهكّم و السّخرية، حيث إنّهم كانوا يستعظمون أنفسهم، و يتخيّلون أنّهم إذا ماتوا بكت السماء و الأرض عليهم، فأخبر اللّه أنّهم ما كانوا في القدر و الشأن بهذا الحدّ الذي كانوا يتخيّلون لأنفسهم، بل كانوا أدون من ذلك (5).

و قيل: إنّ المعنى فما بكت أهل السماء و أهل الأرض من المؤمنين عليهم، بل كانوا مسرورين بهلاكهم (6).

ص: 537


1- . تفسير الرازي 27:246.
2- . تفسير روح البيان 8:411.
3- . تفسير الرازي 27:246.
4- . تفسير أبي السعود 8:63، تفسير روح البيان 8:413.
5- . تفسير الرازي 27:247.
6- . تفسير الرازي 27:247.

و قيل: إنّ الكلام على حقيقته (1)من غير حذف و إضمار، لرواية أنس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «ما من عبد إلاّ و له في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، و باب يدخل فيه عمله، فاذا مات فقداه، و بكيا عليه» و تلا هذه الآية، قال: «و ذلك لأنّهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا، فتبكي عليهم، و لم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب و لا عمل صالح، فتبكي عليهم» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه مرّ عليه رجل عدوّ للّه و لرسوله، فقال فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ و قال: «و ما بكت السماء و الأرض إلاّ على يحيى بن زكريا، و على الحسين» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «بكت السماء على يحيى بن زكريا و على الحسين ابن علي عليه السّلام أربعين صباحا، و لم تبك إلاّ عليهما» قيل: فما بكاؤهما؟ قال: «تطلع حمراء، و تغيب حمراء» (4).

و روى بعض العامة عن زيد بن أبي زياد: لمّا قتل الحسين بن علي عليه السّلام أحمرّ له آفاق السماء أشهرا، و احمرارها بكاؤها (5).

و عن ابن سيرين، قال: أخبرونا أنّ الحمرة التي مع الشّفق لم تكن حتّى قتل الحسين (6).

ثمّ بيّن سبحانه عدم إمهاله القبط بقوله: وَ ما كانُوا لمّا جاء وقت هلاكهم مُنْظَرِينَ و ممهلين ساعة، بل عجّل إهلاكهم، فاجتمع لهم عذاب الدنيا و الآخرة.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 30 الی 33

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر غضبه على القبط، ذكر لطفه ببني إسرائيل بقوله تبارك و تعالى: وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ بإغراق أعدائهم من القبط مِنَ اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ و المذلّ الذي كانوا معذبين به،

أعني مِنْ عذاب فِرْعَوْنَ أو من العذاب المهين الذي كان يصيبهم من فرعون إِنَّهُ كانَ عالِياً و متكبّرا، و كان مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ على أنفسهم بالظلم،

المتجاوزين عن الحدّ في الكفر و الطّغيان وَ و اللّه لَقَدِ اِخْتَرْناهُمْ و اصطفيناهم حال كوننا عَلى عِلْمٍ باستحقاقهم للاختيار و التفضّل، أو على علم بجناياتهم و فرطاتهم عَلَى اَلْعالَمِينَ و الجماعات الكثيرة في أعصارهم، بأن آتيناهم الكتاب و النبوة و الملك

وَ آتَيْناهُمْ مِنَ اَلْآياتِ و دلائل التوحيد و القدرة و الحكمة،

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اِخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى اَلْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ اَلْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)

ص: 538


1- . تفسير روح البيان 8:413.
2- . تفسير الرازي 27:246.
3- . تفسير القمي 2:291، تفسير الصافي 4:407.
4- . مجمع البيان 9:98، تفسير الصافي 4:407.
5- . تفسير روح البيان 8:413.
6- . تفسير روح البيان 8:413.

كفلق البحر، و تظليل الغمام، و إنزال المنّ و السّلوى، التي لم يعهد مثلها في غيرهم ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ و نعمة عظيمة ظاهرة، أو ما فيه امتحان و اختبار لهم، أنّهم كيف يعملون، هل يشكرون أو يكفرون؟

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 34 الی 37

ثمّ لمّا كان الكلام في ذمّ أهل مكّة و إصرارهم على الكفر، و إنّما ذكر قصة موسى تسلية للنبي و تهديدا لهم، عاد سبحانه إلى ذمّ أهل مكّة بقوله: إِنَّ هؤُلاءِ المشركين المنكرين للبعث لَيَقُولُونَ في جواب المؤمنين القائلين بأنّ عاقبة حياتهم الموت ثمّ البعث للحساب:

إِنْ العاقبة، و ما هِيَ عندنا إِلاّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولى المزيلة للحياة الدنيوية وَ ما نَحْنُ بعدها بِمُنْشَرِينَ و مبعوثين.

إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)و قيل: إنّ المعنى و ما الحياة إلاّ حياة موتتنا الاولى (1).

و قيل: يعني ما الحالة إلاّ حالة موتتنا الاولى، و إن كان البعث و النشور ممكنا. فَأْتُوا ايّها المدّعون للبعث بعد الموت بِآبائِنا و أحيوهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تعدوننا من البعث.

قيل: كانوا يطلبون من الرسول و المؤمنين أن يدعوا اللّه فينشر لهم قصيّ بن كلاب، ليشاوروه و يسألوا منه أحوال الموت و صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى النبوة و البعث في الآخرة (2)، و هم طلبوه في الدنيا جهلا و عنادا،

فبادر سبحانه في جوابهم أولا بتهديدهم بقوله: أَ هُمْ خَيْرٌ و أفضل في القوة و الشوكة التي بها يدفع الضرّ و الشرّ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ملك اليمن الذين كانوا قريب الدار منهم وَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقوم عاد و ثمود و أضرابهم من الجبابرة الذين كانوا أولي قوة و بأس، لا شكّ أنّ قوم تبّع و أضرابهم كانوا أشدّ من كفّار مكة قوة و شوكة، و مع ذلك أَهْلَكْناهُمْ بعذاب الاستئصال بحيث لم يبق منهم أحد.

كأنّه قيل: ما سبب إهلاكهم؟ فقال سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا في عصرهم مُجْرِمِينَ و مصرّين على الكفر و الطّغيان، فاذا أهلك هؤلاء الأقوام الكثيرة القوية بسبب إجرامهم، كان إهلاك أهل مكّة مع ضعفهم أولى.

ص: 539


1- . تفسير روح البيان 8:417.
2- . تفسير الرازي 27:249، تفسير روح البيان 8:417.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 38 الی 42

ثمّ استدلّ سبحانه على صحّة البعث ثانيا بقوله: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات حال كوننا لاعِبِينَ بخلقها،

و قاصدين عملا لا حكمة فيه ما خَلَقْناهُما و ما بينهما بداع من الدواعي، و غرض من الأغراض إِلاّ بِالْحَقِّ و داع الحكمة، و غرض الايمان و الطاعة المكمّلين للنفوس المستعدّة للكمال، و لازم ذلك خلق عالم آخر للحساب و الجزاء و بعث الناس، و الإلزام تساوي الكامل و الناقص، و المطيع و العاصي، بل يلزم أن يكون المطيع أسوء حالا من العاصي وَ لكِنَّ أهل مكّة أَكْثَرَهُمْ بسبب إنهماكهم في الشهوات و عدم تفكّرهم في الآيات لا يَعْلَمُونَ أنّ لازم خلق هذا العالم خلق آخر و بعث الناس فيه، و لذا ينكرونه.

وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاّ مَنْ رَحِمَ اَللّهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (42)

ثمّ صرّح سبحانه نتيجة الدليل المذكور بقوله: إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ و القضاء بين الحقّ و الباطل، و تمييز الأعمال الصحيحة و الفاسدة، و هو يوم القيامة، موعد الخلائق و مِيقاتُهُمْ و وقت اجتماعهم أَجْمَعِينَ لا يشذّ منهم أحد،

أعني يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى و محبّ من الأقرباء و الأصدقاء عَنْ مَوْلًى شَيْئاً من الإغناء، و لا يدفع أحد عن أحد قليلا من العذاب، و لا تنفع نفس نفسا يسيرا من النفع وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و يمنعون ممّا ينزل بهم من الشدائد

إِلاّ مَنْ رَحِمَ اَللّهُ عليه بالعفو و قبول الشفاعة في حقّه، و هم المؤمنون إِنَّهُ تعالى هُوَ وحده اَلْعَزِيزُ القاهر الذي لا ينصر من أراد تعذيبه اَلرَّحِيمُ بمن أراد أن يرحمه.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 43 الی 50

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر اجتماع الناس في القيامة، و عدم نفع أحد أحدا، ذكر سوء حال الكفّار بقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ التي منبتها قعر جهنم، ثمرتها التي في غاية المرارة و الحرارة

طَعامُ اَلْأَثِيمِ و غذاء الكافر الكثير العصيان،

و ذلك الثمر في شدّة الحرارة كَالْمُهْلِ و الصّفر أو النّحاس المذاب، فاذا أكل يَغْلِي ذلك الثمر فِي اَلْبُطُونِ و الأجواف

ص: 540

الشديد الحرارة. قيل: إنّه يقطّع الأمعاء (1).

إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ (43) طَعامُ اَلْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي اَلْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ اَلْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ اَلْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ اَلْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

ثمّ يقول اللّه للملائكة الغلاظ الشداد غضبا على الكافر الأثيم: خُذُوهُ بالنواصي و الأقدام فَاعْتِلُوهُ و جرّوه بالعنف و القهر إِلى سَواءِ اَلْجَحِيمِ و وسط جهنّم

ثُمَّ صُبُّوا و أهريقوا فَوْقَ رَأْسِهِ و من أعلى جسده مِنْ عَذابِ ذلك اَلْحَمِيمِ و في نسبة الصبّ إلى العذاب دون الحميم مع أنّه المصبوب غاية المبالغة، فيعذّب ظاهره بالحميم، و باطنه بالزّقّوم.

روي أنّه إذا دخل الكافر النار يطعم الزقّوم، ثمّ إنّ خازن النار يضرب على رأسه بمقمعة يسيل منها دماغه على جسده، ثمّ يصبّ الحميم فوق رأسه، فينفذ إلى جوفه، فيقطع الأمعاء و الأحشاء (2)،

و يقال له استهزاء و تقريعا: ذُقْ هذا العذاب المهين المذلّ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ على زعمك و زعم قومك،

مع أنّك بخلاف ما زعمت إِنَّ هذا العذاب الذي تذوقه هو ما كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تَمْتَرُونَ و فيه تشكّون، أو فيه تمارون و تجادلون.

روي أنّ أبا جهل قال: ما بين جبلي مكة أعزّ و أكرم منّي، فو اللّه ما تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعل بي شيئا، فنزلت الآية (3).

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 51 الی 55

ثمّ إنّه تعالى بعد وعيد الكفّار، وعد المؤمنين المتقين بقوله: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن الشّرك و العصيان، متمكّنون في الآخرة فِي مَقامٍ و منزل أَمِينٍ و مأمون من الآفات و المكاره و الزوال،

و أعني فِي جَنّاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار وَ عُيُونٍ و أنهار لا يمكن توصيفها من حيث النزاهة و الصفا،

يَلْبَسُونَ فيها ألبسة مِنْ سُندُسٍ و حرير رقيق وَ إِسْتَبْرَقٍ و حرير غليظ، و هما من أرفع أنواع اللباس، حال كونهم في المجالس مُتَقابِلِينَ و مواجهين، ليأنس بعضهم ببعض. و قيل: إنّ المراد متقابلين بالمحبة، غير متدابرين بالبغض و الحسد (4).

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)

ثمّ عظّم سبحانه ذلك الثواب بقوله: كَذلِكَ قيل: يعني الأمر كذلك (5)الذي ذكرنا، أو مثل ذلك

ص: 541


1- . تفسير روح البيان 8:427.
2- . تفسير روح البيان 8:428.
3- . تفسير الرازي 27:252، تفسير روح البيان 8:428.
4- . تفسير روح البيان 8:430.
5- . تفسير روح البيان 8:430.

الثواب العظيم آتيناهم وَ زَوَّجْناهُمْ و قرناهم بِحُورٍ عِينٍ و نسوة بيض (1)واسعة الأعين حسانها، أو الشديدات بياض أعينهن و سوادها.

عن الباقر عليه السّلام: «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، بعث ربّ العزة عليا فأنزلهم منازلهم من الجنّة و زوّجهم، فعليّ و اللّه الذي يزوّج أهل الجنّة في الجنة، و ما ذاك إلى أحد غيره، كرامة من اللّه، و فضلا فضّله اللّه، و منّ به عليه» (2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «المؤمن يزوّج ثمانمائة عذراء و ألف ثيّب (3)، و زوجتين من الحور العين» (4).

و قيل: إنّ الحور العين من نساء الدنيا (5).

و عن أبي هريرة: أنّهنّ لسن من نساء الدنيا (6).

ثمّ بيّن سبحانه مأكول أهل الايمان بعد منازلهم و ملابسهم و مناكحهم بقوله: يَدْعُونَ و يطلبون فِيها في أيّ مكان كانوا بِكُلِّ فاكِهَةٍ أرادوا حال كونهم آمِنِينَ من ضررها و انقطاعها و زوالها و الاعتراض من اكثارها.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 56 الی 59

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان نعم الجنة، و تنعّمات المتّقين و أزواجهم، و تلذّذاتهم فيها، بشّر بخلودهم فيها بقوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ أبدا، أيّ نحو كان إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولى التي ذاقوها في الدنيا، إن أمكن ذوقها في الآخرة، مع أنّه محال، فيستحيل موتهم فيها.

لا يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)و قيل: إنّ المعنى إلاّ ذوق تذكّر الموتة الاولى، فكما يصحّ نسبة الذوق إلى شيء إذا علم به، يصحّ نسبته إليه إذا تذكّره. و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى و لكن الموتة الاولى قد ذاقوها (7).

ثمّ نبّه سبحانه على أعظم التفضّلات عليهم بقوله: وَ وَقاهُمْ و حفظهم أوّل الأمر، و قبل النّعم المذكورة عَذابَ اَلْجَحِيمِ و نجّاهم منه، كلّ ذلك من النجاة من النار، و الدخول في الجنّة، و التنعم بالنّعم الأبدية،

يكون فَضْلاً و إحسانا مِنْ رَبِّكَ يا محمد على المتقين المستحقين للإحسان

ص: 542


1- . في النسخة: بيضاء.
2- . الكافي 8:159/154، تفسير الصافي 4:410.
3- . في تفسير القمي: و أربعة آلاف ثيّب.
4- . تفسير القمي 2:82، تفسير الصافي 4:410.
5- . تفسير روح البيان 8:431.
6- . تفسير روح البيان 8:431.
7- . تفسير الرازي 27:254.

و التفضّل ذلِكَ المذكور الذي خصّ اللّه المتّقين به هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و النيل بأعلى المقاصد.

ثمّ بيّن سبحانه الغرض من إنزال الكتاب المبين و القرآن المجيد، و ذكر دلائل التوحيد و المعاد و الوعد و الوعيد بقوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ و لسان قومك، و أنزلناه بلغتكم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و يفهمون ما فيه، و يتّعظون و يعملون به، و مع ذلك هم ينكرونه و يكذّبونك و يخاصمونك

فَارْتَقِبْ و انتظر لما يحلّ بهم من العذاب إِنَّهُمْ أيضا مُرْتَقِبُونَ لما يحلّ بك من الدوائر و المضارّ، و سترى ما يحلّ بهم، و لا ينالون ما يأملون فيك.

روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة، أصبح مغفورا له» (1).

و رووا أيضا عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة، أو يوم الجمعة، بنى اللّه له بيتا في الجنّة» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «من أدمن سورة الدخان في فرائضه و نوافله، بعثه اللّه من الآمنين يوم القيامة، و ظلّله تحت عرشه، و حاسبه حسابا يسيرا، و أعطاه كتابه بيمينه» (3).

في الكافي عنه عليه السّلام، أنّه سئل: كيف أعرف أنّ ليلة القدر تكون في كلّ سنة؟ قال: «إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كل ليلة مائة مرّة، فاذا أتت ليلة ثلاث و عشرين فانّك ناظر إلى تصديق ما سألت عنه» (4).

الحمد للّه على التوفيق.

ص: 543


1- . تفسير البيضاوي 2:385، تفسير روح البيان 8:433.
2- . تفسير روح البيان 8:433.
3- . ثواب الأعمال:114، مجمع البيان 9:91، تفسير الصافي 4:411.
4- . الكافي 1:196/8، تفسير الصافي 4:411.

ص: 544

في تفسير سورة الجاثية

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لمّا ختمت سورة حم الدخان المشتملة على تعظيم القرآن، و بيان أدلة التوحيد و المعاد، و التفضّلات العظيمة ببني إسرائيل، نظمت سورة حم الجاثية المشتملة على تلك المطالب، فابتدأها بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ثمّ افتتحها بذكر كلمة حم و قد مرّ تأويلها مرارا.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

ثمّ بين عظمة شأن القرآن الكريم بقوله: تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ العظيم الشأن مِنَ جانب اَللّهِ اَلْعَزِيزِ القادر على إيجاد الممكنات التي منها جعل القرآن من أعظم المعجزات اَلْحَكِيمِ المطّلع على جميع العلومات، و لذا اشتمل كتابه على حكم كثيرة و علوم و فيرة.

قيل: إن حم قسم، و المعنى اقسم بحم الذي هو تنزيل الكتاب، و جواب القسم قوله: إِنَّ فِي خلق اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ (1)أو في أنفسهما خلقا و مقدارا و كيفية لَآياتٍ و أدلّة واضحة على توحيد خالقهما، و كمال قدرته و ربوبيته، و لكن الانتفاع بها لِلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم يتفكّرون فيها، و يستدلّون بالخلق على الخالق،

و بالمصنوع على الصانع و توحيده و قدرته و حكمته وَ فِي خَلْقِكُمْ أيّها الناس من التّراب أولا، و من النطفة، ثمّ من علقة، ثمّ من المضغة إلى تمام الخلق وَ في ما يَبُثُّ و يفرّق في الأرض مِنْ دابَّةٍ و ذي حياة متحرّك على اختلاف أنواعها و أصنافها و صورها و هيآتها آياتٌ و شواهد مقتضية لليقين بتوحيد موجودها و مفرّقها و حكمته و قدرته لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بشيء في العالم، فانّ من لم يكن شكّاكا، بل كان ممّن يحصل له اليقين بشىء، يحصل له

ص: 545


1- . تفسير الرازي 27:256.

اليقين بما دلّت عليه تلك الآيات بطريق أولى،

لأنّه من الظهور كالشمس في رائعة النهار وَ في اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ في ما أَنْزَلَ اَللّهُ بقدرته و حكمته مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ ماء نافع هو سبب رِزْقٍ الانسان و سائر الحيوانات بأصنافها فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بإخراج أنواع الزروع و الأشجار و الثّمار و النباتات منها بَعْدَ مَوْتِها و يبسها و عدم الانتفاع بها وَ في تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ و تحويلها من جهة إلى جهة، و تبديلها من حال إلى حال آياتٌ و براهين متقنة على قدرة اللّه و رحمته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يدركون واقعيات الامور غير المحسوسة بالنظر إلى المحسوسات.

قيل: إنّ في اختلاف الفواصل إشارة إلى أنّ الناس إن كانوا مؤمنين، فعليهم أن يفهموا هذه الدلائل بقوة إيمانهم، و إن لم يكونوا من أهل الايمان، بل كانوا طلاب الحقّ و اليقين به، فعليهم أيضا أن يتفكّروا في تلك الآيات، و يطلبوا اليقين بقوّة النظر و الفكر، و إن لم يكونوا من أهل الايمان، و لا من طلاّب اليقين، فلا أقلّ يكونون من زمرة العقلاء، فعليهم أيضا أن يتفكّروا فيها، و يدركوا الحقّ بقوّة عقلهم (1).

أقول: و الأولى أن يقال إنّ حدوث السماوات و الأرض، لمّا لم يكن من المحسوسات، و كان محتاجا إلى التأمّل التامّ أدلّة حدوثهما، و لا باعث إلى ذلك التأمّل إلاّ الايمان، خصّ دلالتهما بأهل الايمان، و أمّا الآيات الاخر من خلق الانسان و الحيوانات و نزول الغيث و تصريف الرياح، فلمّا كان حدوثها محسوسا و مشاهدا لكلّ أحد، كان دليلا على وجود القادر الحكيم من غير حاجة إلى ترتيب القياس، لوضوح احتياج الحادث إلى المحدث، إلاّ أنّ بعضها لمّا أمكن إسنادها إلى الأسباب الطبيعية، كنزول المطر الذي يمكن إسناده إلى تصاعد الأبخرة، و كتصريف الريح الممكن إسناده إلى سقوط الأدخنة، لا بدّ من قوّة عقل يدرك بها أنّ العلل لا بدّ أن تنتهي إلى علّة العلل، و إن كان الاستدلال بكلّ آية محتاجا إلى العقل و لذا ذكر سبحانه الآيات جميعها في آية واحدة و ذيلها بقوله: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ عظّم سبحانه تلك الآيات لتوجيه النفوس إليها، و توبيخ من لا يتفكّر فيها بقوله: تِلْكَ الآيات التكوينية العظيمة التي ذكرناها في الآيات السابقة القرآنية آياتُ اَللّهِ و دلائل وجوده و توحيده،

تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (7)

ص: 546


1- . تفسير الرازي 27:259.

و كمال صفاته التي نَتْلُوها عَلَيْكَ يا محمد، بتوسّط جبرئيل، حال كونها مقرونة بِالْحَقِّ و دلائل الصدق بعيدة عن الباطل و الكذب.

ثمّ ذمّ المشركين بقوله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ و بيان يحثّهم إلى الايمان، أو أي برهان على التوحيد بَعْدَ حديث اَللّهِ وَ آياتِهِ المنزلة على سبيل الاعجاز، و المبينة للدلائل الواضحة، أولئك المشركون يُؤْمِنُونَ بالتوحيد، فانّه ليست آية و معجزة أعظم من تلك الآيات، و ليس برهان على التوحيد أتقن من تلك البراهين، و ليس بيان أوضح و أفصح من بيان اللّه، فاذا لم يؤمنوا بها لم يؤمنوا بغيرها أبدا. قيل: إنّ المعنى فبأيّ حديث بعد آياته يؤمنون (1)و انما ذكر سبحانه اسم الجلالة في الآية تعظيما للآيات.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إصرار المشركين على الشرك، و امتناعهم عن الايمان، هدّدهم سبحانه بقوله: وَيْلٌ و عذاب شديد لِكُلِّ أَفّاكٍ و كذّاب في إخباره بأنّ القرآن سحر أو شعر أو كلام بشر أَثِيمٍ و مصرّ على الذنب و العصيان.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 8

ثمّ ذكر سبحانه من عظام ذنوبه أنّه يَسْمَعُ آياتِ القرآن المنزل من اَللّهِ حين تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِ لأن يؤمن بها، و ينقاد لما فيها ثُمَّ يُصِرُّ على كفره، و يدوم على ضلالته و معارضته، مع أنّ حقّها الإذعان و الانقياد لها، لما فيها من جهات الاعجاز، و هو يعرض عنها حال كونه مُسْتَكْبِراً و متأنّفا عن الايمان بها، و تعظّما نفسه عن التسليم لما فيها، معجبا بما عنده من الأباطيل، و هو في عدم تأثّر قلبه بها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها و في عدم الانتفاع بها كأن لم يشعر بها فَبَشِّرْهُ يا محمد، و سرّ قلبه بإخباره بِعَذابٍ أَلِيمٍ حيث إنّه باصراره بما يوجبه، وجده في إيجاد أسبابه، كأنّه طالب و شائق إليه.

يَسْمَعُ آياتِ اَللّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8)قيل: نزلت في النّضر بن الحارث بن عبد الدار، كان يشترى من أحاديث الأعاجم كحديث رستم و إسفنديار، و يشغل الناس بها عن استماع القرآن (2).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 9 الی 11

وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اِتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَ لا مَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْلِياءَ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

ص: 547


1- . تفسير أبي السعود 8:68، تفسير روح البيان 8:437.
2- . تفسير روح البيان 8:438.

ثمّ ذمّه سبحانه بعدم قناعته بالتكذيب و الإصرار على الكفر، بل يستهزئ بالآيات بقوله: وَ إِذا عَلِمَ ذلك الأفاك مِنْ آياتِنا المنزلة شَيْئاً قليلا كان، أو كثيرا اِتَّخَذَها هُزُواً و جعلها مهزوءا بها و مورد للسّخرية أُولئِكَ المستهزئون بالآيات، المستكبرون عن الايمان بها لَهُمْ بسبب كبرهم الباعث على الاستهزاء عَذابٌ مُهِينٌ و مذلّ لهم، مذهب لعزّهم الذي تخيّلوه لأنفسهم،

ثمّ فسّر سبحانه العذاب المهين الذي هدّد به هؤلاء المقبلين بقلوبهم إلى الدنيا بقوله: مِنْ وَرائِهِمْ و في خلفهم، و هو الدار الآخرة التي ولّوا عنها جَهَنَّمُ و قيل: إنّ الوراء هنا بمعنى القدّام (1)وَ لا يُغْنِي و لا يدفع العذاب عَنْهُمْ في الآخرة ما كَسَبُوا و حصّلوا في الدنيا من الأموال و الزخارف شَيْئاً قليلا وَ لا مَا اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْلِياءَ من الأصنام و الأوثان، على خلاف زعمهم من أنّهم شفعاء عند اللّه وَ لَهُمْ في جهنم (2)عَذابٌ عَظِيمٌ و شديد في الغاية مضافا إلى كونه مهينا.

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المعرضين عن آيات القرآن و المستهزئين بها، بالغ في توصيف القرآن بالهداية، باخباره عنه بأنه عينها بقوله: هذا القرآن هُدىً و عين رشاد إلى مصالح الدين و الدنيا، و دالّ إلى كلّ خير، و إلى أعلى الكمالات الائقة بالبشر وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ القرآن النازلة من رَبِّهِمْ اللطيف بهم لَهُمْ في الآخرة استحقاق و عدل عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ و شديدة أَلِيمٌ ذلك العذاب غايته.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر كثير من الآيات الدالة على توحيده و قدرته و حكمته، و تهديد المعرضين عنها و المستهزئين بها، عاد إلى ذكر آيات و أدلة اخر على توحيده بقوله: اَللّهُ تعالى هو القادر اَلَّذِي سَخَّرَ و ذلّل لَكُمُ اَلْبَحْرَ بأن جعله ليّنا مائعا ساكنا لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ و السّفن فِيهِ بِأَمْرِهِ

اَللّهُ اَلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ اَلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

ص: 548


1- . تفسير الرازي 27:261، تفسير أبي السعود 8:69.
2- . في النسخة: في تلك الجهنم.

و إرادته وَ لِتَبْتَغُوا و تطلبوا بالركوب في السفن للتجارة، و بالغوص في البحر و إخراج اللؤلؤ و المرجان منه، و بصيد السّموك مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه،

و لكي تؤدّون حقّ إحسانه وَ سَخَّرَ و ذلّل أيضا لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ من الموجودات، بأن جعلها نافعة لكم في حياتكم و بقائكم و معاشكم، و معارفكم و كمال أنفسكم حال كونها جَمِيعاً و كلا كائنة مِنْهُ تعالى موجودة بقدرته و مشيئته إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة على توحيد خالقها و مسخّرها و إنما كماله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنع اللّه و عظائم نعمه.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 14

ثمّ إنه تعالى بعد ذكر الأدلّة المتقنة على توحيده و تهديد المشركين، أمر المؤمنين بالمداراة معهم و العفو عن إساءتهم بقوله: قُلْ يا محمد لِلَّذِينَ آمَنُوا بك يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اَللّهِ و ثوابه، و لا يخافون عقابه، و لا يخشون نزول مثل ما نزل على الامم الماضية، كما عن ابن عباس (1).

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اَللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)و هم الكفّار و المشركون المنكرون للمعاد، إذا أساءوا إليهم باللسان و اليد لِيَجْزِيَ اللّه قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.

قيل: إنّ المراد من القوم المؤمنون، و تنكيره لتعظيم شأنهم، و المراد ممّا يكسبون مغفرتهم للمسيئين إليهم، و المعنى أمرهم بالمغفرة ليجزي اللّه يوم القيامة قوما، أي قوم كانوا بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذى الكفّار و إساءتهم، و الإغضاء عنهم بكظم الغيظ و احتمال المكروه (2).

و قيل: إنّ المراد الكفار، و تنكيره للتحقير، و المعنى: قل للمؤمنين يتجازوا عن إساءة الكفّار، ليجزي اللّه الكفّار بما كسبوا من الإثم و الإساءة، و المراد لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن (3).

قيل: إنّ الآية منسوخة بآية السيف و القتال (4).

روى بعض العامة عن ابن عباس: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني عمر يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اَللّهِ يعني عبد اللّه بن ابي، و ذلك أنّهم نزلوا في عزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع،

ص: 549


1- . تفسير الرازي 27:263.
2- . تفسير أبي السعود 8:70، تفسير روح البيان 8:442.
3- . تفسير الرازي 27:263.
4- . تفسير البيضاوي 2:388، تفسير روح البيان 8:441.

فأرسل عبد اللّه غلامه ليستقي الماء، فابطأ عليه، فلمّا أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف البئر، فما ترك احدا يستقى حتى ملأ قرب النبي و قرب أبي بكر و ملأ لمولاه. فقال عبد اللّه: ما مثلنا و مثل هؤلاء إلاّ كما قيل: سمّن كلبك يأكلك، فبلغ قوله عمر، فاشتمل بسيفه يريد التوجّه إليه، فنزلت (1).

و قيل: شتم رجل من كفّار قريش عمر بمكة، فهمّ أن يبطش به، فأمر اللّه بالعفو و التجاوز، و أنزل اللّه هذه الآية (2).

و روى ميمون بن مهران أنّ فنحاس (3)بن عازورا اليهودي، لمّا نزل قوله: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً (4)قال: ربّ محمد احتاج، فسمع بذلك عمر، فاشتمل على سيفه، و خرج في طلبه، فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله في طلبه وردّه (5).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 15 الی 18

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يجزي كلّ أحد جزاء عمله، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ، بقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً و مرضيا عند اللّه فَلِنَفْسِهِ عمله و نفعه، و إليه عائد ثوابه، لا إلى اللّه، و لا إلى غيره وَ مَنْ أَساءَ و عصى ربّه، و تبع هوى نفسه فَعَلَيْها وزره و ضرره و عقابه، لا على نفس غيره، فأوامره تعالى و نواهيه ألطاف منه تعالى إلى العبيد، و تقريب إلى مصالحهم، تبعيد عن مضارّهم و مفاسدهم ثُمَّ بعد خروجكم من الدنيا، و دخولكم في دار الجزاء إِلى رَبِّكُمْ و مالك اموركم تُرْجَعُونَ و إلى محكمة عدله تساقون، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ، ففيه حثّ على العمل الصالح، و منه العفو عن المسييء، و تحذير عن العمل السيء.

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (16) وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ طريقة قوم خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله طريقة قوم موسى في الايمان و الكفر مع نزول

ص: 550


1- . تفسير الرازي 27:263، تفسير روح البيان 8:441.
2- . تفسير الرازي 27:263.
3- . في تفسير الرازي: فنحاص.
4- . البقرة:2/245.
5- . تفسير الرازي 27:263.

الكتاب إليهم، و إتيان المعجزات لهم، و وفور النّعم عليهم بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ و أعطيناهم بفضلنا اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ قيل: هي العلم بالأحكام (1). و قيل: إنّها العلم بفصل القضاء (2). و قيل: إنّها المعارف الإلهية (3)وَ اَلنُّبُوَّةَ فانّ إبراهيم كان شجرة الأنبياء، و كان أكثر الأنبياء في نسله.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان نعمه الدينية بيّن نعمه الدنيوية التي أعطاهم بقوله: وَ رَزَقْناهُمْ في الدنيا مِنَ اَلطَّيِّباتِ و اللذائذ كالمنّ و السّلوى و أموال القبط وَ فَضَّلْناهُمْ بفلق البحر لهم، و تظليل الغمام عليهم و نظائرهما عَلَى اَلْعالَمِينَ قيل: إنّ المراد عالمي زمانهم (1)

وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ و أدلّة ظاهرة مِنَ اَلْأَمْرِ و الدين، أو معجزات ظاهرة على صحّة نبوتهم.

عن ابن عباس: يعني بيّن لهم من أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، و يكون أنصاره من أهل يثرب (2)، و مع ذلك اختلفوا في أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو في التوحيد، فمنهم من آمن، و منهم من كفر فَمَا اِخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بحقيته و حقيقته، فجعلوا ما يرفع الخلاف سببا لوجوده، و لم يكن هذا الاختلاف لحدوث شكّ في قلوبهم، بل كان لأجل أن أحدثوا بَغْياً و عداوة بَيْنَهُمْ لطلبهم الدنيا و الرئاسة، فصار ذلك العدوان سببا لاختلافهم و تنازعهم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي يوم القيامة بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين بإثابة المحقّين، و تعذيب المبطلين.

ثُمَّ بعد انقضاء نبوة بني إسرائيل جَعَلْناكَ يا محمد-لكرامتك عليّ، و نورانية قلبك، و كمال عقلك و عظمة خلقك-مستويا عَلى شَرِيعَةٍ و طريقة عظيمة الشأن مِنَ اَلْأَمْرِ و الدين الذي خصصناك به فَاتَّبِعْها و اعمل بأحكامها، و بلّغها إلى الناس وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الضالين اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ شيئا من الحقائق، و لا تأخذ بآراء قوم يجهلون الدين، بل لا دين لهم إلاّ ما يشتهون من غير حجّة على ما يتديّنون.

عن الكلبي: أنّ رؤساء قريش قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكة: ارجع إلى دين آبائك، فهم كانوا أفضل منك، و أسنّ فنزلت (3).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 19 الی 20

إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

ص: 551


1- . تفسير الرازي 27:265، تفسير روح البيان 8:443.
2- . تفسير الرازي 27:265.
3- . تفسير الرازي 27:265.

ثمّ هدّد سبحانه حبيبه صلّى اللّه عليه و آله على اتباع أهواء قومه بقوله: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ و لا يفيدوك لو ملت إلى أديانهم الباطلة، و لن يمنعوك مِنَ عذاب اَللّهِ على اتّباعك شهواتهم التي سمّوه دينا شَيْئاً قليلا من الإغناء، و بوجه من الوجوه وَ إِنَّ المشركين اَلظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الكفر بَعْضُهُمْ في الدنيا و الآخرة أَوْلِياءُ بَعْضٍ و أتباعه، للتجانس في الخبث، و رذالة الصفات و الأخلاق، و لا تنفعهم تلك الولاية، و أنت وليّ اللّه وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ من الشرك و اتّباع الهوى و الأديان الباطلة، و أنت قدوتهم، و هو بولايته لهم وصّلهم إلى جميع الخيرات و السعادات الدنيوية و الاخروية، و ما أبين الفرق بين الولايتين!

ثمّ بيّن سبحانه فوائد القرآن المشتملة على ادلّة دين الحق بقوله: هذا القرآن العظيم المشتمل على البيانات الشافية و المواعظ الوافية آياته بَصائِرُ للقلوب و أنوار للعيون النازلة لِلنّاسِ من ربكم و مالك أمركم اللطيف بكم وَ هُدىً و رشاد من الضلال وَ رَحْمَةٌ و نعمة عظيمة من اللّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بصدقه و بأنّه كلام ربّه.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «القرآن يدلّ على دائكم و دوائكم» (1).

أقول: الداء الشرك، و أعظم دوائه التفكّر في أدلّة التوحيد، ثمّ بعده الذنوب و دواؤه الاستغفار، ثمّ حبّ الدنيا و دواؤه التفكّر في فنائها.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 21

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ولايته للمتقين، بيّن علّة ذلك، و هو وضوح فضيلة المتقين على الظالمين بقوله: أَمْ حَسِبَ الكفّار اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا و اكتسبوا اَلسَّيِّئاتِ و الأعمال الشنيعة، و اشتغلوا بها، و غفلوا عن اللّه و الدار الآخرة أَنْ نَجْعَلَهُمْ و نصيّرهم في الألطاف و الإكرام كَالَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الايمان به من التوحيد و رسالة الرسول و الدار الآخرة وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ المرضيات عندنا، و نعاملهم معاملتهم، و يكون سَواءً و مساويا مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ و دنياهم و آخرتهم؟ كلا ليس الظالمون كالمتقين، و العصاة المسيئون كالمطيعين الصالحين، بل الطائفة الاولى في ذلّ الكفر و العصيان، و الثانية في عزّ الايمان و الطاعة، و لا تستوي حياتهم و موتهم، فانّ الطائفة الاولى حياتهم أسوأ الحياة، لابتلائهم فيها بالتعب لجمع الأموال و حفظها، و اشتغال قلوبهم بحبّ

أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21)

ص: 552


1- . تفسير روح البيان 8:444.

الدنيا و الأموال و الأولاد و الرئاسة و كونهم في خوف من العدوّ و الضرر و المرض و الذلّ، و في حزن ممّا يفوتهم ممّا يأملون، و موتهم أسوأ الموت، لصعوبة انقطاعهم من الدنيا، و شدّة ابتلائهم بالعذاب. و الطائفة الثانية حياتهم حياة طيبة، لأنسهم باللّه، و قناعتهم بما رزقهم اللّه، و توكلّهم على اللّه، و فراغ قلبهم من همّ الدنيا، و أمنهم من الأعداء، و سرورهم بما أعدّ اللّه لهم من الكرامة و الثواب.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمّا رأى أصحاب الصّفّة (1)في المسجد: «المحيي محياكم و الممات مماتكم» (2).

عن ابن عباس: يعني أحسبوا أنّ حياتهم و مماتهم كحياة المؤمنين و مماتهم؟ كلا فإنهم يعيشون كافرين و يموتون كافرين، و المؤمنون يعيشون مؤمنين و يموتون مؤمنين، و ذلك لأنّ المؤمن ما دام في الدنيا يكون وليه اللّه، و أنصاره المؤمنون، و حجّة اللّه معه، و الكافر بالضدّ (3).

و قيل: إنّ المعنى أحسبوا أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة؟ فانّ المؤمنين يستوون [مع]الكفّار في الرزق و الصحة و الكفاية، بل قد يكون الكافر أحسن حالا من المؤمن، و إنّما الفرق بينهما في الممات (4).

و قيل: إنّ الجملة مستأنفة، و المعنى الكافر محياه و مماته سواء، و المؤمن كذلك فكل يموت على ما عاش عليه (5).

ثمّ لمّا كان المشركون يقولون: نحن أحسن حالا من المؤمنين في الآخرة، ردّهم اللّه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ و بئس شيئا يقولون عن جزم من أنهم أحسن حالا من المؤمنين.

قال الفخر الرازي: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في عليّ و حمزة و أبي عبيدة بن الجرّاح، و في ثلاثة من المشركين: عتبة و شيبة و الوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: و اللّه ما أنتم على شيء، و لو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنّا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر اللّه عليهم هذا الكلام (3).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 22 الی 23

وَ خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23)

ص: 553


1- . الصّفّة: مكان مظلّل في مسجد المدينة، كان يأوي إليه فقراء المهاجرين، و يرعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هم أصحاب الصّفّة.
2- . تفسير روح البيان 8:446. (3و4و5) . تفسير الرازي 27:267.
3- . تفسير الرازي 27:266.

ثمّ لمّا حكم اللّه سبحانه بعد مساواة الكافر و المؤمن في الحياة و في الممات، استدلّ على وجود عالم آخر، و هي دار الجزاء بقوله: وَ خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لا للّغو و العبث، بل معلّلا بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة، و هو تكميل النفوس و ظهور استعداداتها، بسبب جعل التكاليف و الأحكام وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من النفوس بِما كَسَبَتْ و حصلت لها من الأعمال الصالحة و السيئة. و قيل: إنّ التقدير ليدلّ بها على قدرته و لتجزى (1). و قيل: إنّه معطوف على قوله: بِالْحَقِّ و المعنى: لأجل إظهار الحقّ و لتجزى، و على أيّ تقدير يكون الحاصل أنّ المقصود من خلق العالم إظهار العدل و الرحمة، و لا يتمّ إلاّ إذا حصل البعث و التفاوت في الدرجات و الدركات بين المحقّين و المبطلين (2)، و المحسنين و المسيئين وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بتنقيص الثواب و زيادة العقاب على الاستحقاق.

ثمّ إنّه تعالى بعد نهي نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن اتّباع هوى المشركين الجهّال، ذمّ المشركين باتّباعهم الهوى، و أظهر التعجّب من سفههم بقوله: أَ فَرَأَيْتَ يا محمد، قيل: إنّ التقدير أنظرت فرأيت (1)مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ و معبوده هَواهُ و شهوة نفسه، و ترك الهدى و طاعة ربّه، و ذلك ممّا يقضي التعجّب. قيل: كانوا يستحسنون حجرا فيعبدونه، فاذا أرادوا أحسن منه رفضوه (2).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه بخذلانه بقوله: وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ و حرفه عن طريق الهدى بخذلانه عَلى عِلْمٍ من إيصال بالطريق الحقّ و الصواب، أو علم من اللّه بأنّ ذاته الخبيثة غير قابلة للهداية وَ خَتَمَ و طبع عَلى سَمْعِهِ بحيث لا تدخله المواعظ، و لا يسمع الحقّ وَ على قَلْبِهِ بحيث لا يفهم كلام اللّه، و لا يتفكّر في آياته، و لا يتأثّر بالنّذر وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً و غطاء مانعا عن رؤية المعجزات و بدائع الصّنع الدالة على توحيد الصانع فَمَنْ يَهْدِيهِ و أي شخص و مرشد يرشده إلى الحقّ مِنْ بَعْدِ اَللّهِ و ممّا سواه، أو من بعد إضلاله إياه، لا و اللّه لا يهديه أحد غير اللّه أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ذلك و تنبّهون؟ قيل: إنّ التقدير ألا تلاحظون فلا تذكّرون و لا تتفكّرون، فتعلموا أن الهداية بيد اللّه؟ (3).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 24

وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ (24)

ص: 554


1- . تفسير أبي السعود 8:73، تفسير روح البيان 8:448.
2- . تفسير البيضاوي 2:389، تفسير أبي السعود 8:73.
3- . تفسير أبي السعود 8:573، تفسير روح البيان 8:449.

ثمّ و بّخهم سبحانه على إنكارهم البعث و المعاد بقوله: وَ قالُوا من غاية جهلهم و ضلالهم: ليس حياتنا و ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا في اَلدُّنْيا التي نحن فيها نَمُوتُ فيها تارة وَ نَحْيا فيها اخرى، و ليس وراء ذلك حياة في عالم آخر، كما تدّعون، و تأخير (نحيى) لمراعاة شبه الفواصل، و الواو لمطلق الجمع، كذا قيل (1). و قيل: إنّهم كانوا يقولون بالتناسخ (2). و قيل: إنّ المراد بالموت كونهم نطفا في أصلاب الآباء و أرحام الامهات (3). و قيل: إنّ المراد بالحياة المذكورة بعد الموت حياتهم بسبب بقاء الأولاد (4). و قيل: إنّ المراد موت بعض، و حياة بعض (5).

ثمّ حكى سبحانه إنكارهم كون الموت بقبض ملك الموت أرواح الناس، بل هو بالطبيعة بقوله حكاية عنهم: وَ ما يُهْلِكُنا و يميتنا شيء إِلاَّ اَلدَّهْرُ و طول زمان الحياة، أو حركات الأفلاك و تأثير الطبائع، فليس الموت بيد الفاعل المختار، فجمعوا بين إنكار الإله و إنكار المعاد، فردّهم سبحانه بقوله: وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ القول من حصر الحياة بالحياة الدنيوية، و كون الموت بتأثير الطبيعة و الدهر شيء مِنْ عِلْمٍ و حجّة قاطعة تورث اليقين، بل إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ بسبب تقليد آبائهم، و لا ينبغي للعاقل أن يعتمد في هذه العقائد التي في خطئها خطر عظيم على الظنّ و الحسبان، بل لا بدّ من الحجّة القاطعة العقلية و النقلية، كما هو طريقة المؤمنين.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 25 الی 27

ثمّ حكى سبحانه معارضتهم الآيات الدالة على البعث، فردّهم إياها بما يكون فساده أظهر من الشمس بقوله: وَ إِذا تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِمْ لإثبات البعث آياتُنا الدالة على إمكانه و وقوعه مع كونها بَيِّناتٍ و واضحات الدلالات عليه، و كقولنا: إِنَّ اَلَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ اَلْمَوْتى (3)و قولنا: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (4)و قولنا: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ (5).

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا اِئْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اَللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ اَلْمُبْطِلُونَ (27)ما كانَ حُجَّتَهُمْ بزعمهم و دليلهم على إبطال ما نطقت به الآيات شيء إِلاّ أَنْ قالُوا سفها

ص: 555


1- . تفسير روح البيان 8:449.
2- . تفسير البيضاوي 2:389، تفسير أبي السعود 8:73، تفسير روح البيان 8:449. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 27:269.
3- . فصلت:41/39.
4- . الروم:30/27.
5- . يس:36/79.

و عنادا و لجاجا: أيّها المدّعون للحياة بعد الموت اِئْتُوا بِآبائِنا و أحيوهم ثانيا، و أحضروهم عندنا يشهدون بصحّة قولكم بالبعث و الحساب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إخباركم به.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلِ يا محمد لهم: أيّها الجهّال اَللّهُ القادر على خلق كلّ شيء يُحْيِيكُمْ في الدنيا بقدرته و حكمته ثُمَّ بعد انقضاء آجالكم هو يُمِيتُكُمْ بقدرته، لا الطبيعة و الدهر، و لا حركات الأفلاك، و لا تأثير الكواكب ثُمَّ بعد إحياكم في القبور يَجْمَعُكُمْ حال كونكم منتهين إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ للحساب و جزاء الأعمال لا رَيْبَ في جمعكم في ذلك اليوم، و لا شكّ للعاقل فِيهِ لوجوبه على اللّه بحكم العقل، و من الواضح عدم التلازم بين إمكان الإحياء في الآخرة، و إمكانه في الدنيا، و لا يلزم من قدرة اللّه على ذلك قدرة المخبرين به عن اللّه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ دلالة حدوث الانسان و سائر الموجودات على وجود الإله القادر الحكيم، و على قدرته على الإحياء ثانيا و وجوبه عليه،

ثمّ بيّن قدرته الكاملة على إيجاد جميع الموجودات، وسعة سلطنته بقوله: وَ لِلّهِ وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السلطنة التامة على جميع الموجودات علويا و سفليا، إيجادا و إعداما، و تصرّفا و تدبيرا، فمن كان بهذه القدرة لا يعجز عن إيجاد الانسان و إحيائه ثانيا بعد موته و صيرورته رميما و ترابا، فثبت المعاد بالدليل القاطع.

ثمّ هدّد المنكرين بقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ و القيامة يَوْمَئِذٍ و وقت قيامها يَخْسَرُ و يتضرّر اَلْمُبْطِلُونَ و القائلون بأن لا إله و لا بعث، لأنّهم ضّيعوا أعمارهم و عقولهم و قواهم التي أنعم اللّه بها عليهم، و جعلها بمنزلة رأس مالهم في سوق الدنيا، كرأس مال التجار، ففي إتلافها و تضييعها خسارة لا خسارة فوقها.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ ذكر بعض أهوال القيامة بقوله: وَ تَرى يا محمد، أو أيّها الرائي كُلَّ أُمَّةٍ من الاممّ و جماعة من الجماعات مؤمنيهم و كفّارهم من هول ذلك اليوم جاثِيَةً و باركة على ركبهم، لذهاب قوة القيام عنهم.

وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)عن كعب الأحبار أنّه قال لعمر: ان جهنّم تزفر زفرة يوم القيامة فلا يبقى ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلاّ جثا على ركبتيه، حتى يقول إبراهيم الخليل: يا ربّ، أسألك اليوم إلاّ نفسي (1).

ص: 556


1- . تفسير روح البيان 8:453.

و قيل: يجثون لإظهار الخضوع و الخشوع (1).

و قيل: جاثية: يعني قائمة على اطراف الأصابع (2)، ليروا ما ينزل بهم.

قيل: إنّ المؤمن و الكافر مشاركون في الخوف حتى يظهر المحقّ و المبطل (3).

و عن ابن عباس، قال: يعني مجتمعة (4)، لا يخلط بعضهم بعض، و عند ذلك كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا و صحيفة أعمالها لتقرأها، و تكرير كلمة (كل امة) للاغلاظ و الوعيد، ثمّ يقال لهم: اَلْيَوْمَ يوم تُجْزَوْنَ فيه أيتها الامم ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من خير أو شرّ، و طاعة أو عصيان.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة جاء الايمان و الشرك فيجثيان بين يدي الربّ تعالى، فيقول اللّه للايمان: أنطلق أنت و أهلك إلى الجنّة، و يقال للشرك: انطلق أنت و أهلك إلى النار» (3).

ثمّ يقال للامم بعد إعطاء كلّ كتابه بيده: هذا الكتاب الذي فيه أعمالكم كِتابُنا الذي كتبه الكرام الكاتبين بأمرنا يَنْطِقُ بأعمالكم في الدنيا، و يشهد عَلَيْكُمْ بما فعلتم و أرتكبتم مقرونا بِالْحَقِّ و الصدق بلا زيادة و لا نقصان إِنّا كُنّا في الدنيا الدنيّة نَسْتَنْسِخُ و نستكتب بتوسّط الملائكة ما كُنْتُمْ في مدّة أعماركم تَعْمَلُونَ من الحسنات و السيئات صغيرة و كبيرة.

قيل: ما من صباح و مساء إلاّ و ينزل فيه ملك من عند إسرافيل إلى كاتب أعمال كلّ إنسان، ينسخ عمله الذي يعمله في يومه و ليلته، و ما هو لاق فيهما (4).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أول ما خلق اللّه القلم، و كتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول برّ أو فجور، و أحصاه في الذكر، و اقرءوا إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهل يكون النسخ إلاّ من شيء قد فرغ منه» (5).

و عن ابن عباس: أنّ اللّه و كلّ ملائكة يستنسخون من ذلك الكتاب المكتوب عنده كلّ عام في شهر رمضان ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيعارضون به حفظة اللّه على عباده كلّ عشية خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقا لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة و لا نقصان، فإذا أفنى الورق ممّا قدّر و انقطع الأمر و انقضى الأجل، أتت الحفظة الخزنة، و قالوا: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا، فيرجع الحفظة فيجدونه قد مات.

ثمّ قال ابن عباس: أ لستم قوما عربا؟ هل يكون الاستنساخ إلاّ من أصل و هو اللّوح المحفوظ من

ص: 557


1- . تفسير الجامع 16:174.
2- . تفسير روح البيان 8:453. (3 و 4) . تفسير الرازي 27:272، تفسير روح البيان 8:453.
3- . تفسير روح البيان 8:454.
4- . تفسير روح البيان 8:454.
5- . تفسير روح البيان 8:454.

التغيير و التبديل و الزيادة و النقصان على ما عليه مما كتبه القلم الأعلى؟ (1)

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن نون وَ اَلْقَلَمِ قال: «إنّ اللّه خلق القلم من شجرة في الجنة، يقال لها الخلد، ثمّ قال لنهر في الجنة: كن مدادا، فجمد النهر، و كان أشدّ بياضا من الثلج، و أحلى من الشهّد، ثمّ قال للقلم: اكتب، قال: يا رب، ما أكتب؟ قال عزّ و جلّ: اكتب ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب القلم في ورق أشدّ بياضا من الفضّة، و أصفى من الياقوت، ثمّ طواه فجعله في ركن العرش، ثمّ ختم على فم القلم، فلم ينطق و لا ينطق أبدا، فهو الكتاب المكنون الذي منه النّسخ كلّها، أو لستم عربا فكيف لا تعرفون معنى الكلام، و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب، أو ليس إنّما ينسخ من كتاب آخر من الأصل، و هو قوله: إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (2).

و في حديث ذكر فيه الملكين الموكّلين بالعبد، قال: «إنّهما إذا أرادا النزول صباحا و مساء، ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللّوح المحفوظ، فيعطيهما ذلك، فاذا صعدا صباحا و مساء بديوان العبد، قابله إسرافيل بالنّسخ التي استنسخ لهما حتى يظهر أنّه كان كما نسخ منه» (3).

قيل: إلزام الحجّة على العبد يوم القيامة بشهود الملائكة صدور الطاعة أو العصيان من العبد في وقته المخصوص و كتابتهم أعمالهم (4).

و قيل: إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال العبيد، ثمّ يقابلونها بما في اللّوح المحفوظ، فما فيه ثواب أو عقاب أثبت، و ما لم يكن فيه شيء منهما محي، و ذلك قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ (5).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 30 الی 35

فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ (30) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ اَلسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا اَلسّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

ص: 558


1- . تفسير روح البيان 8:454.
2- . تفسير القمي 2:379، تفسير الصافي 5:9.
3- . سعد السعود:226، تفسير الصافي 5:9.
4- . تفسير روح البيان 8:454.
5- . تفسير روح البيان 8:454، و الآية من سورة الرعد:13/39.

ثمّ بيّن سبحانه معاملته مع المؤمنين بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ من كلّ امة من الامم فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ بفضله فِي جنّته التي هي محلّ رَحْمَتِهِ و مظهرها و ذلِكَ الإدخال في الجنّة هُوَ اَلْفَوْزُ و الظّفر اَلْمُبِينُ و الظاهر على المقصد الأعلى، بحيث لا فوز وراءه، و لا ظفر على مقصود فوقه.

ثم ذكر سبحانه عتابه على الكفار بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فيقول اللّه لهم تقريعا و توبيخا: أيّها الكفّار أَ فَلَمْ تَكُنْ قيل: إنّ التقدير ألم يكن تأتيكم رسلي، فلم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ (1)؟ بلى، قد كانت تتلى عليكم فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الايمان بها، و كذّبتموها وَ كُنْتُمْ بسبب الاستكبار و التكذيب قَوْماً مُجْرِمِينَ و جمعا معاقبين، أو المراد قوما عادتهم الإجرام.

ثمّ إنّه تعالى بعد توبيخهم على الكفر باللّه و بآياته، و استكبارهم عن الايمان بالمبدأ، و بّخهم على إنكارهم البعث و المعاد بقوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ في الدنيا لكم إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالحشر و البعث و جزاء الأعمال حَقٌّ و صدق لا ريب فيه وَ إنّ اَلسّاعَةُ و القيامة قائمة لا محالة و لا رَيْبَ فِيها و لا شكّ في صّحة وقوعها، قُلْتُمْ أيّها العتاة استغرابا و إنكارا لها: إنّا ما نَدْرِي مَا اَلسّاعَةُ و لا نعلم أي شيء هي إِنْ نَظُنُّ بقيامها و ما نحسب إتيانها إِلاّ ظَنًّا ضعيفا و حسبانا واهنا، لكثرة ما سمعنا من الرسول من الوعد بها و الاستدلال عليها وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ بقيامها، و عالمين بوقوعها، لما رأينا من إنكار آبائنا و أكابرنا إيّاها.

أقول: الظاهر أنّ الطائفة المظهرين للشكّ غير الطائفة الذين قالوا: ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ (2)عن يقين و جزم.

وَ بعد ذلك بَدا للكفّار، و ظهر لَهُمْ صور البرزخيّة التي تكون عليها سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا و قبائحه، و هم في الدنيا كانوا يعدّونه حسنات، أو المراد و خامة عاقبته.

و قيل: إنّ المراد جزاء أعمالهم القبيحة، كالشرك و المعاصي (3)وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ من كلّ جانب ما كانُوا في الدنيا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و منه يسخرون من جزاء أعمالهم، و العقاب الموعود على شركهم و عتوّهم و معاصيهم، و فيه إيذان بأنّ قولهم: إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا كان على سبيل الاستهزاء و السّخرية.

وَ قِيلَ لهم من جانب اللّه تعالى: اَلْيَوْمَ نَنْساكُمْ أيّها الكفّار، و نترككم في جهنم و عذابها،

ص: 559


1- . تفسير البيضاوي 2:390، تفسير روح البيان 8:455.
2- . الجاثية:45/24.
3- . تفسير روح البيان 8:458.

كترك الشيء المنسيّ الذي لا يبالي به كَما نَسِيتُمْ و ما راعيتم لِقاءَ عذاب اللّه في يَوْمِكُمْ هذا و لم تلتفتوا إليه، و لم تبالوا به، بأن تركتم ما يدفع به من الايمان و الأعمال الصالحة وَ مَأْواكُمُ و منزلكم، أو مرجعكم اَلنّارُ لأنّها مأوى من نسيناه وَ ما لَكُمْ اليوم أبدا أحد مِنْ ناصِرِينَ ينصركم، و يدفع عذاب النار عنكم، و يخلّصكم عنه.

ذلِكُمْ الترك في العذاب، و تمكّنكم في النار معلّل بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ و براهين توحيده و ما ينزل من كتابه الناطق بالحقّ هُزُواً و جعلتموها ممّا يسخر به وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و خدعتكم شهواتها، فشغلتم بها، و انهمكتم فيها، و غفلتم عن اللّه و الدار الآخرة، حتى أنّكم أنكرتم اللّه و دار الجزاء، و حسبتم أن لا حياة بعد الموت، و لا حساب و لا جزاء.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 35 الی 37

ثمّ أعرض سبحانه عن مخاطبتهم إيذانا بغاية مهانتهم، و خروجهم عن أهلية الخطاب، و وجّه خطابه إلى العقلاء بقوله: فَالْيَوْمَ و في هذا العالم لا يُخْرَجُونَ من النار و لا يخلّصون مِنْها أبدا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و يطالبون بأن يرضوا عنهم ربّهم بالتوبة و الإنابة و الطاعة، لفوات وقته و أوانه، ثمّ لما كان المطالب العالية و الوعد و الوعيد المفصّلة في هذه السورة من ألطاف اللّه بعباده و نعمه الروحانية عليهم، و من شؤون ربوبيته لهم، ختم سبحانه السورة بحمد ذاته المقدّسة على نعمه بقوله:

فَلِلّهِ وحده اَلْحَمْدُ بأنواعه و أصنافه لأنّه رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ رَبِّ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ كلّها من عالم الجبروت، و عالم الملكوت، و عالم الملك.

ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلّهِ اَلْحَمْدُ رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ رَبِّ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (36) وَ لَهُ اَلْكِبْرِياءُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (37)

ثمّ أثنى سبحانه على نفسه بقوله تعالى: وَ لَهُ اَلْكِبْرِياءُ و العظمة و السّلطنة المطلقة فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و جميع عوالم الوجود وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ الذي لا عزّة لغيره إلاّ به، و القادر الذي لا قدرة لغيره إلاّ بإعطائه و اَلْحَكِيمُ الذي لا يصدر منه إلاّ ما فيه أكمل الصلاح و أتمّ الحكمة، فلإختصاص الحمد به أحمدوه على نعمه، و لاختصاص العظمة و الكبرياء به كبروه، و لاختصاص العزّة و الحكمة به وحدّوه و اعبدوه.

في الحديث: «أنّ للّه ثلاثة أثواب: أتّزر بالعزّة، و أرتدى بالكبرياء، و تسربل بالرحمة، فمن تعزّز

ص: 560

بغير اللّه أذلّه اللّه، فذلك الذي يقول اللّه تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ (1)، و من تكبّر فقد نازع اللّه، إنّ اللّه تعالى يقول: لا ينبغي لمن نازعني أن ادخله الجنّة، و من يرحم الناس يرحمه اللّه، فذلك الذي سربله اللّه سرباله الذي ينبغي له» (2).

و في الحديث القدسي: «يقول اللّه: الكبرياء ردائي، و العظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم» (3).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا، و لا يسمع زفير جهنّم و شهيقها، و هو في الجنّة مع محمد صلّى اللّه عليه و آله» (2).

الحمد للّه على التوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 561


1- . الدخان:44/49. (2 و 3) . تفسير روح البيان 8:459.
2- . ثواب الأعمال:114، مجمع البيان 9:106، تفسير الصافي 5:10.

ص: 562

في تفسير سورة الأحقاف

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ بعد ختم سورة الجاثية المتضمّنة لبيان عظمة القرآن، و أدلّة التوحيد و المعاد، و ذمّ المشركين الذين أعرضوا عن الرسول و كتابه، و تهديدهم بالعذاب، و الإخبار بوقوع القيامة و شدّة أهوالها، نظمت سورة الأحقاف المتضمّنة لجميع تلك المطالب العالية النافعة، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)

ثمّ افتتحها بما افتتح به السورة السابقة من الحروف المقطّعة، و هو قوله: حم ثمّ عظّم القرآن

بقوله: تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ و قد مرّ تفسيره.

ثمّ شرع في ذكر دليل التوحيد و المعاد بقوله: ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات العلوية و السّفلية بداع من الدواعي إِلاّ بِالْحَقِّ و داعي الحكمة و الصلاح الأتم، و هو تكميل النفوس بالمعرفة و العلم و الأخلاق و الأعمال الصالحة، ليصرن (1)قابلات للفيوضات الأبدية و النعم غير المتناهية و الرحمة الموصولة وَ مقرونات بتقدير أَجَلٍ و وقت مُسَمًّى و معين ينتهي إليه الكلّ، و هو يوم القيامة، و عالم الآخرة، و دار الجزاء، و تميّز النفوس الزكية و الخبيثة، لا لتبقى أبدا.

ثمّ ذمّ المشركين على غفلتهم عن عالم الآخرة، و دليل وجوبه، و عدم اعتنائهم بما وعظوا به من المجازاة فيه بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أشركوا باللّه، و أنكروا دار الجزاء عَمّا أُنْذِرُوا به و خوّفوا من يوم القيامة و أهوالها مُعْرِضُونَ و بما وعظوا به من عذاب الآخرة على الشرك و العصيان لا

ص: 563


1- . في النسخة: ليصيروا.

يعتنون و لا يبالون، مع قيام البراهين القاطعة على صحّته، و إخبار الرّسل بوقوعه، و نطق الكتب السماوية به.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 4

ثمّ إنه تعالى بعد إثبات التوحيد، ردّ مذهب الشرك بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء المشركين أَ رَأَيْتُمْ أيها المشركون، و أخبروني ما تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ من الأصنام و الأوثان أَرُونِي و بيّنوا لي ما ذا خَلَقُوا و أيّ جزء أوجدوا مِنْ أجزاء اَلْأَرْضِ متفردين بخلقه و إيجاده؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ مع اللّه و دخل فِي إيجاد اَلسَّماواتِ أو ملكها أو تدبيرها حتى يكون لهم شأنية استحقاق للعبادة؟ لا و اللّه ليس لهم دخل في وجود شيء منهما، فإذن تكون عبادتهم محض السّفه، لعدم استحقاقهم لها، بل الاستحقاق لخالقهما و خالق غيرهما من الموجودات، و إنّ قلتم: إنّ الخالق المستحقّ بالذات للعبادة أمرنا بعبادة هذه الجمادات اِئْتُونِي بِكِتابٍ و سند على ما تدّعون من قبل اللّه نازل عليكم مِنْ قَبْلِ هذا القرآن الناطق بالتوحيد و النهي عن عبادة غيره أَوْ أَثارَةٍ و بقية بقت عندكم من علم مختصّ بالأنبياء و الرسل، أو رواية رويتم مِنْ عِلْمٍ الأولين خصصتم به، و لم يطّلع عليها غيركم.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّماواتِ اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)عن ابن عباس، أنّه قال: أَوْ أَثارَةٍ علم الخطّ الذي يخطّ في الرمل (1).

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى أمر اللّه بهذا، فإذا لم يكن في الكتب السماوية، و لا فيما نقل عن الأنبياء ما يدلّ على صحّة دينكم، كان بطلانه ظاهرا واضحا، مع أنّه قد دلّت الأدلّة القطعية العقلية و النقلية على خلافه.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 5 الی 7

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَ إِذا حُشِرَ اَلنّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

ص: 564


1- . تفسير الرازي 28:5.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه عدم استحقاق غير اللّه العبادة بالذات، و لا يأمر اللّه، بيّن غاية ضلال المشركين بعبادتهم ما لا شعور له و لا إدراك بقوله: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يترك عبادة اللّه و دعاءه و يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ القادر على كل شيء، العالم بالخفيات مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ دعاءه إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لعدم قدرتهم على الجواب وَ هُمْ مع عجزهم عن إجابة دعاء الداعين عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ و به غير شاعرين، لكونهم جمادات، و فيه تهكّم بالأصنام و بعبدتها.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عدم نفع الأصنام بعابديهم في الدنيا، بيّن عدم نفعهم إياهم في الآخرة بقوله: وَ إِذا حُشِرَ اَلنّاسُ حين قيام الساعة، و جمعوا في عرصة القيامة، و أحيا اللّه الأصنام كانُوا لَهُمْ أَعْداءً و أنكروا عبادة المشركين وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ و مكذّبين، و قالوا: ما كنتم إيّانا تعبدون، بل كنتم تعبدون أهواءكم.

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و إبطال الشرك، حكى إنكار المشركين معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذا تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية المشتملة على جهات من الاعجاز ليؤمنوا بها و بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله حال كون تلك الآيات بَيِّناتٍ و واضحات الدلالة على كونها من اللّه، و على رسالة محمد، و حشر الناس للجزاء قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عنادا لِلْحَقِّ أو كفروا لأجل الحقّ و شأنه، و هو الآيات المتلوّة عليهم لَمّا جاءَهُمْ ذلك الحقّ، و بمحض سماع الآيات من غير تدبّر فيها و تأمّل: هذا الذي جاءنا و تلي علينا سِحْرٌ مُبِينٌ و باطل ظاهر بطلانه، و واضح أنّه لا حقيقة له.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 8

ثمّ أنكر سبحانه عليهم قولهم الآخر الأعجب من الأول بقوله: أَمْ يَقُولُونَ إنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله اختلق هذا القرآن و اِفْتَراهُ على اللّه، و نسبه كذبا إليه.

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اَللّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (8)ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء الكفّار: إِنِ اختلقت القرآن من قبل نفسي و اِفْتَرَيْتُهُ على اللّه على سبيل الفرض كما تقولون، فانّ اللّه يعاجلني بعقوبة هذا الافتراء، و إن عاجلني بالعقوبة فَلا تَمْلِكُونَ لِي و لا تقدرون على أن تدفعوا عنّي مِنَ عذاب اَللّهِ شَيْئاً يسيرا إن كنتم مؤمنين بي و مدافعين عنّي، فكيف يمكن أن اقدم على الافتراء، و أعرّض نفسي للعقوبة التي لا مخلص منها!

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: هُوَ تعالى أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ و ما تخوضون

ص: 565

فِيهِ من القدح و الطعن في القرآن، و نسبته إلى السحر تارة، و إلى الافتراء اخرى كَفى بِهِ تعالى شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فانّه يشهد بصدقي في دعوى الرسالة، حيث أنزل عليّ أفضل الكتب السماوية، و صدّق كتابي حيث جعله محتويا لجهات من الإعجاز، فيجازيني على صدقي أفضل الجزاء، و يعاقبكم على تكذيبي أشدّ العقوبة وَ هُوَ اَلْغَفُورُ لمن رجع عن الكفر و آمن بتوحيده اَلرَّحِيمُ بمن تاب و عمل صالحا بإعطاء جزيل الثواب، و بمن أصرّ على الكفر بتأخير عقوبته إلى يوم الحساب.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 9

ثمّ لمّا اقترح المشركون على النبي صلّى اللّه عليه و آله معجزات غير ما أتى به، أو بإخباره بالمغيبات على ما قيل (1)، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء المقترحين ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ و أوّل من أرسل إلى البشر، لوضوح أنّه أرسل قبلي كثير من الرسل، و كلّهم دعوا الناس إلى ما أدعوكم إليه من توحيد اللّه و عبادته و طاعته، و ما أتوا إلاّ بما آتاهم اللّه من المعجزات، و لم يجيبوا اممهم بجميع ما سألوهم من خوارق العادات، و لم يخبروهم إلاّ بما اوحي إليهم من ربّهم، فكيف تنكرون منّي أن دعوتكم إلى ما دعا إليه من قبلي من الرسل؟ و كيف تقترحون عليّ ما لم يؤتيه اللّه إياي؟

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)وَ ما أَدْرِي و لا أعلم بغير الوحي من اللّه ما يُفْعَلُ بِي و أي شيء يصيبني فيما يغير من الحوادث وَ لا بِكُمْ و إلى ما يصير أمري و أمركم في الدنيا، و إنّما اخبركم ببعض الحوادث من هجرتي، و غلبتي عليكم، و ظهور ديني على سائر الأديان بالوحي من اللّه إِنْ أَتَّبِعُ و ما أقول و ما أفعل إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ من ربّي، لا أتجاوزه وَ ما أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ و مخوّف من عقاب اللّه مُبِينٌ و موضح إنذاري لكم بلسانكم، و بالمعجزات الدالة على صدقي.

عن ابن عباس: لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله بمكّة، رأى في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخل و شجر و ماء، فقصّها على أصحابه، فاستبشروا بذلك، و رأوا أنّ ذلك فرج ممّا هم فيه من اذى المشركين ثمّ انهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك، فقالوا: يا رسول اللّه، ما رأينا الذي قلت، متى تهاجر الى الأرض التي رأيتها في المنام؟ فسكت النبي صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ و هو شيء رأيته في المنام، و أنا لا أتّبع إلاّ ما أوحاه اللّه إليّ (2).

ص: 566


1- . تفسير الرازي 28:7.
2- . تفسير الرازي 28:8.

و قيل: إنّ المراد لا أدري ما يفعل بي في الدنيا، أموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي، و لا أدري ما يفعل بكم أيّها المكذبون، أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم يفعل بكم ما فعل بسائر الامم (1).

و روي أيضا عن ابن عباس: أنّه لمّا نزلت هذه الآية، فرح المشركون و المنافقون و اليهود، و قالوا: كيف نتّبع نبيا لا يدري ما يفعل به و بنا؟ فأنزل اللّه إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ إلى قوله: وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اَللّهِ فَوْزاً عَظِيماً (2)، فبيّن تعالى ما يفعل به و بمن اتّبعه، و نسخت هذه الآية، و أرغم اللّه أنف المنافقين و المشركين (3).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 10

ثمّ حثّ سبحانه المشركين على الايمان بالقرآن بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين: أَ رَأَيْتُمْ أيّها المشركون، و أخبروني إِنْ كانَ ما أتيتكم به من القرآن نازلا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و بوحيه كما أقول، لا سحر و لا مفترى كما تزعمون وَ أنتم كَفَرْتُمْ بِهِ و جحدتم بنزوله من عند اللّه وَ شَهِدَ شاهِدٌ عظيم الشأن مِنْ علماء بَنِي إِسْرائِيلَ الواقفين على ما في التوراة من التوحيد و الوعد و الوعيد على الايمان و الكفر و كيفية المعاد عَلى انطواء التوراة بنظير ما في القرآن و مِثْلِهِ فعلم بسبب مطابقة القرآن للتوراة أن القرآن من جنس الوحي الناطق بالحقّ.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (10)و قيل: إنّ المراد إن كان القرآن من عند اللّه و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما أقول (4)لدلالة المعجزات فَآمَنَ بالقرآن أنّه كلام اللّه و ليس من اختلاق البشر وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ و تأنّفتم عن الإقرار به، أ لستم أضلّ الناس و أظلمهم على أنفسكم، حيث وضعتم الجحود و الإنكار موضع الايمان، و الاقرار عنادا و لجاجا؟ فبذلك الظلم سلب عنهم التوفيق للايمان و الهداية إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يوفّق للايمان اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالإصرار على الكفر.

في ذكر إيمان

عبد اللّه ابن سلام

عن سعد بن أبي وقّاص، قال: ما سمعت رسول اللّه يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنّه من أهل الجنّة إلاّ لعبد اللّه بن سلاّم، و فيه نزل وَ شَهِدَ شاهِدٌ إلى آخره (5). كان من أحبار اليهود، و كان اسمه الحصين (6)، فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه،

ص: 567


1- . تفسير الرازي 28:8.
2- . الفتح:48/1-5.
3- . تفسير الرازي 28:8.
4- . تفسير الرازي 28:10.
5- . تفسير الرازي 28:9، تفسير روح البيان 8:470.
6- . في النسخة: الحفتين.

قيل: إنّه لمّا سمع بمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة أتاه فنظر إلى وجهه الكريم، فعلم أنّه ليس بوجه كذّاب، و تأمّله فتحقّق أنّه النبي الموعود المنتظر، فقال له: إنّي أسألك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلاّ نبي: ما أول أشراط الساعة، و أول طعام يأكله أهل الجنّة، و الولد ينزع إلى أبيه أو إلى امّه؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أمّا أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من الشرق إلى الغرب، و أمّا أوّل طعام أهل الجنّة فزيادة كبد الحوت، و أمّا الولد فان سبق ماء الرجل نزعه، و إن سبق ماء المرأة نزعته» .

فقال: أشهد أنّك رسول اللّه حقا، فقام ثمّ قال: يا رسول اللّه، إنّ اليهود قوم بهت، فان علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك. فجاءت اليهود و هم خمسون فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أيّ رجل عبد اللّه فيكم؟» قالو: خيّرنا و ابن خيّرنا، و سيدنا و ابن سيدنا، و أعلمنا و ابن أعلمنا.

فقال: «أرايتم إن أسلم عبد اللّه؟» قالوا: أعاذه اللّه من ذلك. فخرج عبد اللّه إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أشهد أنّ محمدا رسول اللّه. فقالوا: شرّنا و ابن شرّنا و انتقصوه. قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه و أحذر (1).

و قيل: إنّ المراد بالشاهد غير عبد اللّه؛ لأنّ الحواميم كلّها مكيّة، و كان إسلام عبد اللّه بعد الهجرة قبل وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعامين، و ورد بأنّ الحواميم و إن كان مكية إلاّ هذه الآية، فانّها مدنية، وضعت في السورة المكية بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: إنّ الشاهد موسى بن عمران، و شهادته ما في التوراة من بعث (3)الرسول، و نزول القرآن عليه (4).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 11

ثمّ بيّن سبحانه شدّة كفر المشركين بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من عتاة قريش تعظيما لأنفسهم مخاطبة لِلَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و هم في نظرهم من أدنى الناس و فقرائهم، ثمّ ترك سبحانه حكاية خطابهم، و انتقل إلى الغيبة بقوله تعالى: لَوْ كانَ دين الاسلام حقا و القرآن خَيْراً و نافعا ما سَبَقُونا اولئك الأرذال و السّفلة إِلَيْهِ و إلى الايمان به.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)و قيل: إنّ معنى لِلَّذِينَ آمَنُوا لأجل إيمان الذين آمنوا (5)، فليس الكلام للمشافهة و المخاطبة.

و قيل: إنّ الكفّار لمّا سمعوا إيمان جماعة من الفقراء بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و القرآن قالوا للمؤمنين

ص: 568


1- . تفسير روح البيان 8:469.
2- . تفسير الرازي 28:10، تفسير روح البيان 8:470.
3- . في تفسير البيضاوي: نعت.
4- . تفسير البيضاوي 2:393، تفسير أبي السعود 8:81.
5- . تفسير الرازي 28:11.

الحاضرين عندهم، لو كان خيرا ما سبقنا إليه اولئك الفقراء الغائبون (1).

قيل: إنّ هذا كلام كفّار مكّة (2)، و قيل: لمّا أسلمت جهنية و مزنية و غفّار و أسلم، قالت بنو عامر و غطفان و أسد و أشجع: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء اليهم (3).

و قيل: إنّ أمّة لعمر أسلمت، و كان عمر يضربها حتى يفتر، و يقول: لو لا إنّي فترت لزدتك ضربا، فكان كفّار قريش يقولون: لو كان ما يدعو إليه محمد حقّا، ما سبقنا إليه أمة عمر (4).

و قيل: لمّا أسلم عبد اللّه بن سلام قالت اليهود ذلك (3).

ثمّ ردّهم بقوله: وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بالقرآن، كما اهتدى به المؤمنون، و لم يرشدوا إلى الحقّ بِهِ لعدم تدبّرهم فيه، و عدم وقوفهم على جهات إعجزاه، ظهر عنادهم و قالوا ما قالوا فَسَيَقُولُونَ بعد نفيهم الخير في القرآن: هذا القرآن إِفْكٌ و كذب قَدِيمٌ دائر في ألسنة السابقين.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ ردّ سبحانه تكذيبهم القرآن بقوله: وَ مِنْ قَبْلِهِ نزل كِتابُ مُوسى و هو التوراة حال كونه إِماماً يؤتمّ به، و مقتدى يقتدى به في دين اللّه وَ رَحْمَةً و نعمة عظيمة من اللّه. لمن آمن به و عمل بأحكامه، و قد سلّم جميع أهل الكتاب حقّانيته و صدقه وَ هذا القرآن الذي يكذّبونه كِتابُ عظيم الشأن مُصَدِّقٌ لذلك الكتاب الذي جاء به موسى، و مطابق له، و لما بين يديه من الكتب السماوية في العلوم و المعارف، و بيان أحوال المعاد و المواعظ و العبر، و التزهيد عن الدنيا، و الترغيب إلى الآخرة.

وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)و لمّا كان قوم النبي صلّى اللّه عليه و آله عربا جعل لسانه لِساناً عَرَبِيًّا لتفهم العرب ما فيه و لِيُنْذِرَ و يخوّف ذلك الكتاب بالوعد بالعذاب اَلَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالكفر و العصيان وَ ليكون بُشْرى بالثواب العظيم في الآخرة لِلْمُحْسِنِينَ في العقائد و الأعمال المطيعين للّه مخلصين.

و حاصل المراد-و اللّه أعلم-أنّ الغرض من إنزال الكتاب إنذار العاصين، و بشارة المطيعين، فلا

ص: 569


1- . تفسير الرازي 28:11.
2- . الكشاف 4:300، تفسير الرازي 28:11. (3 و 4) . الكشاف 4:300، تفسير الرازي 28:11.
3- . الكشاف 4:300، تفسير الرازي 28:11.

يمكن أن يكون مثل هذا الكتاب كذبا.

ثمّ بيّن سبحانه المحسنين المبشرين بالثواب بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا بألسنتهم و قلوبهم رَبُّنَا اَللّهُ وحده لا شريك له في الربوبية و العبادة ثُمَّ اِسْتَقامُوا و ثبتوا على شريعته و دينه من الأحكام، و اجتهدوا في العمل بمقتضى عبوديته و توحيده، فلم يروا منعما و لا مطاعا غيره، و لا مستحقا للشكر و الطاعة سواه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بعد الموت من عذاب و مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب

أُولئِكَ الموحّدون المستقيمون على وظائف العبودية إلى الموت أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ و أهاليها، حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا لا يخرجون منها و لا يموتون أصلا، و إنّما يعطون ذلك ليكون جَزاءً لهم بِما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الإيمان و الحسنات.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 15

ثمّ بيّن سبحانه أنواع الحسنات بقوله: وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ و أمرناه بأن يحسن بِوالِدَيْهِ إِحْساناً بليغا.

وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (15)ثمّ بيّن سبحانه علّة وجوب الإحسان إلى الامّ مع كونها وعاء و كون الأب هو الأصل و المنعم بقوله: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ في (1)بطنها كُرْهاً و على مشقّة لثقله بعد أربعة أشهر إلى وضعه وَ وَضَعَتْهُ من بطنها على الأرض كُرْهاً و على مشقّة لشدة وجع المخاض عليها وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ و فطامه من المدّة ثَلاثُونَ شَهْراً تمضي عليها بمقاساة الشدائد لأجله.

و فيه دلالة على أنّ أقلّ الحمل ستة أشهر، بالنظر إلى الآية التي حدّ فيها الرّضاع التامّ بحولين كاملين، فاذا أتت المرأة بالولد لستة أشهر من دخول الزوج بها، يلحق بالزوج و لا تتّهم المرأة.

في ذكر خبط عمر

في الحكم

بالرجم

روى الفخر الرازي أنّ امرأة رفعت إلى عمر، و كانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال علي عليه السّلام: «لا رجم عليها» و استدلّ بالآية على النحو الذي ذكرنا (2).

و قال المفيد في (الارشاد) : رووا أنّ عمر اتي بأمرأة ولدت لستة أشهر، فهمّ برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: «إن خاصمتك بكتاب اللّه خصمتك، إنّ اللّه يقول: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً و يقول: وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ (3)فاذا أتمّت الرّضاعة لسنتين، و كان حمله و فصاله ثلاثين شهرا، كان الحمل منها ستة أشهر، فخلّى عمر

ص: 570


1- . في النسخة: على.
2- . تفسير الرازي 28:15.
3- . البقرة:2/233.

سبيل المرأة، و ثبت الحكم بذلك، يعمل به الصحابة و التابعون، و من أخذ عنه إلى يومنا هذا (1).

أقول: و العجب أنّ مع ظهور هذا الخبط و الغلط و الحكم بغير العلم في دين اللّه من عمر، و بيان الحكم الحقّ من أمير المؤمنين عليه السّلام و شيوعه بين الصحابة و التابعين، وقع عين هذا الخبط و الحكم بغير ما أنزل اللّه به من عثمان.

فان الفخر الرازي روى عن عثمان أنّه همّ بذلك، فقرأ ابن عباس عليه ذلك (2).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ بيّن سبحانه حال الولد البارّ المحسن بوالديه بقوله: حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ قيل: إنّ الانسان أخذ ما وصّيناه به من البرّ و الاحسان بوالديه حتى إذا بلغ وقت كمال قواه و عقله (3)وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً و هو أكثر مدّة بلوغ الأشدّ، كما عن الصادق عليه السّلام، قال: «إذا بلغ العبد ثلاث و ثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، و إذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه» الخبر (4).

وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ اَلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ اَلْجَنَّةِ وَعْدَ اَلصِّدْقِ اَلَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)و قيل: هو آخر سنّ الكهولة (5)، و قيل: بلوغ الاشدّ هو آخر سنّ النشوء و النماء، و الأربعين آخر الشباب، و من ذلك الوقت تأخذ القوى الحيوانية في الانتقاص، و القوة العقلية في الاستكمال (6).

فعند ذلك قالَ تضرّعا إلى اللّه رَبِّ أَوْزِعْنِي و ألهمني، كما عن ابن عباس (7)، أو وفّقني (8)أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من الوجود و العقل و كمال الأعضاء، و الرزق و الصحة و الأمان و غيرها ممّا لا يحصى وَ عَلى والِدَيَّ الذين نعمتها عليّ أعظم بعد نعمتك عليّ، فانّي لا أقدر على مكافأة نعمهما عليّ إلاّ بالدعاء في حقّهما وَ أَنْ أَعْمَلَ عملا صالِحاً تَرْضاهُ و تقبله منّي، فانّه لا يمكنني ذلك إلاّ بتوفيقك.

وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي بان تجعل الايمان و العمل الصالح ساريا و راسخا فيهم، و لا تجعل

ص: 571


1- . إرشاد المفيد 1:206، تفسير الصافي 5:14.
2- . تفسير الرازي 28:15.
3- . تفسير روح البيان 8:474.
4- . الخصال:545/23، تفسير الصافي 5:14.
5- . تفسير الرازي 28:17.
6- . تفسير الرازي 28:18.
7- . تفسير الرازي 28:20.
8- . تفسير روح البيان 8:474.

للشيطان فيهم نصيبا و سبيلا، يا رب إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ مما فرط منّي من الزلاّت و المعاصي قبل أن أدعوك وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ الذين أخصلوا لك دينهم.

أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجليلة اَلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا من الطاعات التي كلّها أحسن الأعمال وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ و زلاّتهم بأنواعها، تابوا عنها أو لم يتوبوا، لكونها مكفورة بأعمالهم الحسنة، بل مبدّلة بالحسنات حال كونهم فِي زمرة أَصْحابِ اَلْجَنَّةِ و منتظمين في سلكهم في الآخرة، كلّ ذلك يكون وَعْدَ اَلصِّدْقِ من اللّه لهم اَلَّذِي كانُوا في الدنيا يُوعَدُونَ به على ألسنة الرسل.

في نقل كلام

مفسري العامة في

نزول الآية وردّه

حكى الفخر الرازي عن الواحدي أنّه حكى عن كثير من مفسّري العامة أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر (1)، ثمّ قال قالوا: و الدليل عليه أنّ اللّه تعالى قد وقّت الحمل و الفصال هاهنا بمقدار يعلم أنّه قد ينقص و قد يزيد عنه بحسب اختلاف الناس في هذه الأحوال، فوجب أن يكون المقصود شخصا واحدا حتى يقال: إنّ هذا التقدير إخبار عن حاله، فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله و فصاله هذا المقدار.

أقول: فيما ذكر ما لا يخفى من الوهن، فانّ ذكر الوقتين لبيان اقلّ الحمل و أكثر مدّة الرّضاع، و لا يختلف الناس فيهما و في تعيينهما حكم و أحكام كثيرة مذكورة في محلّه، ثمّ على تقدير كون المراد شخصا خاصا، و إمكان كون حمل أبي بكر و فصاله هذا المقدار من المدّة، لا بوجوب كون المراد منه ذلك الرجل، لوجود هذا الاحتمال في كثير من الصحابة الخلّصين.

ثمّ قالوا: ثمّ قال اللّه تعالى في صفة ذلك الانسان: حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي إلى آخره، و معلوم أنّه ليس كلّ إنسان يقول ذلك القول، فوجب أن يكون المراد إنسانا معينا. قال هذا القول، و أمّا أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السنّ، لأنّه كان أقلّ سنا من النبي صلّى اللّه عليه و آله بسنتين و شيء، و النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث عند الأربعين، و كان أبو بكر قريبا من الأربعين، و هو قد صدّق النبي صلّى اللّه عليه و آله و آمن به، فثبت بما ذكرناه أنّ هذه الآية صالحة لأن يكون المراد منها أبا بكر.

أقول: فيه أنّه قد ذكرنا أنّ المراد بيان حال الانسان الذي أخذ بوصية اللّه في حقّ الوالدين في تمام عمره بالبّر و الإحسان، و رأى النّعم التي على والديه نعما على نفسه، و ناب عنهما في الشكر عند اكمال أربعين سنة و كمال قوّة عقله، و ليس المراد بيان حال شخص معين، كما أنّ الآية التي فيها بيان حال الولد العاقّ لوالديه ليس المراد منها شخصا معينا، مع أنّ أبا بكر لم يكن له وقت إيمانه أربعين سنة باعترافهم، كما أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا لم يكن له ذلك السنّ وقت إيمانه، و القرب و البعد لا

ص: 572


1- . تفسير الرازي 18:21، أسباب النزول:213.

يوجب الصلاحية للقريب و عدمها للبعيد، بعد أن لم يكونا بالغين ذلك الحدّ من السنّ، مع أن الظاهر نيابة الولد الشكر عن الوالدين غير الكافرين، و أبو بكر كان أبواه كافرين، و لا ينفع شكر الولد في حقّها، و علي عليه السّلام كان أبواه مؤمنين في اعتقادنا.

ثمّ قالوا: و إذا ثبت القول بهذه الصلاحية، فنقول: ندّعي أنّه هو المراد من هذه الآية، و يدلّ عليه أنّه تعالى قال في آخر هذه الآية: أُولئِكَ اَلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ اَلْجَنَّةِ و هذا يدلّ على أنّ المراد من هذه الآية أفضل الخلق، لأنّ الذي يتقبّل اللّه عنه أحسن أعماله، و يتجاوز عن سيئاته، يجب أن يكون أفضل الخلق، و أجمعت الامّة على أنّ أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إمّا أبو بكر و إمّا عليّ، و لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية علي بن أبي طالب، لأنّ هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد، و عند القرب من أربعين سنة، و علي بن أبي طالب ما كان كذلك، انتهى.

أقول: هذا الاستدلال ممّا يضحك به الثكلى، لوضوح أنّ من تقبّل اللّه أحسن أعماله، و يجاوز عن سيئاته، لا يجب أن يكون أفضل الخلق، فانّ كلّ من يدخل الجنة يكون كذلك، لأنّه لا يمكن أن لا يتقبّل اللّه أحسن الأعمال، و لا يمكن أن يدخل الجنة من له ذنب غير مغفور، ثمّ لا شبهة أنّ عليا عليه السّلام كان أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا ينكره إلاّ من كان له عناد و عصبية، و لا في أنّ الآية إنّما تليق بمن أتى بهذه الكلمة بعد بلوغ أربعين سنة، لا عند القرب منه.

و إنّما الغرض من نقل كلامهم بطوله الذي لا ينبغي التفوّه به من عاقل، فضلا من عالم و فاضل، وضوح أنّ القول بنزول الآية في حقّ أبي بكر لا مستند له إلاّ الاجتهاد الفاسد، المبني على حبّ ترويج الباطل، و إطفاء نور الحقّ، و اللّه متمّ نوره و لو كره المشركون.

ذكر فضيلة

الحسين عليه السّلام

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا حملت فاطمة عليها السّلام بالحسين عليه السّلام، جاء جبرئيل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ فاطمة ستلد غلاما تقتله امّتك من بعدك، فلمّا حملت فاطمة بالحسين عليهما السّلام كرهت حمله، و حين وضعته كرهت وضعه، ثمّ قال: «لم تر امّ تلد غلاما تكرهه، و لكنّها كرهته لمّا علمت أنّه سيقتل» قال: «و فيه نزلت هذه الآية» (1).

أقول: لعلّ المراد أنّه لم يكن لهذا الكلي الذي تضمّنته الآية مصداق تامّ المطابقة إلاّ الحسين عليه السّلام و فاطمة عليها السّلام.

و في رواية اخرى، قال: «ثمّ هبط جبرئيل فقال: يا محمد، إنّ ربّك يقرئك السّلام، و يبشّرك بأنّه

ص: 573


1- . الكافي 1:386/3، تفسير الصافي 5:14.

جاعل في ذرّيته الإمامة و الولاية و الوصية، فقال: إنّي رضيت، ثمّ بشّر فاطمة بذلك فرضيت» (1).

أقول: يحتمل الجمع بأنّ بشارة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و رضا فاطمة عليها السّلام كانا بعد وضعه عليه السّلام.

ثمّ قال الصادق عليه السّلام: «فلو لا أنّه قال: وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي لكانت ذرّيته كلّهم أئمة» قال: «و لم يرتضع الحسين من فاطمة عليها السّلام و لا من انثى، كان يؤتى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيضع إبهامه في فيه، فيمصّ منها ما يكفيه اليومين و الثلاث، فنبت لحم الحسين عليه السّلام من لحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دمه» (2).

أقول: قال السيد الأجل بحر العلوم:

للّه مرتضع لم يرتضع أبدا *** من ثدي انثى و من طه مراضعه (3)

و قال الصادق عليه السّلام: و لم يولد لستة أشهر إلاّ عيسى بن مريم، و الحسين عليه السّلام» (4).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان برّ الولد الصالح بوالديه، و أخذه بوصية اللّه في حقّهما، بيّن سبحانه حال الإنسان العاقّ لوالديه، الكافر بربّه و بالدار الآخرة بقوله: وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما له إلى الايمان باللّه و بالدار الآخرة شفقة عليه و إحسانا إليه، تضجّرا من قولهما و كراهة له، يا والدي أُفٍّ لَكُما و النكبة الدائمة عليكما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ حيا من القبر بعد الموت و صيرورتي ترابا و عظاما رميما، و ابعث حيا وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ و مضت أهالي الأعصار السابقة من الدنيا مِنْ قَبْلِي و لم يبعث منهم أحد، و لم تحيا منهم نفس وَ هُما حرصا على إيمان ولدهما يَسْتَغِيثانِ اَللّهَ و يدعوانه أن يغيثه و يوفقه للايمان، و يقولان لذلك الولد: وَيْلَكَ آمِنْ بالبعث و الحساب، و صدّق بالاخراج من القبر للجزاء إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالبعث و النشور للحساب و جزاء الأعمال حَقٌّ و صدق، لا يمكن الخلف فيه، لتنزّهه تعالى عنه فَيَقُولُ الولد تكذيبا لوالديه: ما هذا الوعد الذي تنسبانه إلى اللّه إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و أكاذيب الامم السابقين التي كانوا يسطّرونها في دفاترهم، كأحاديث رستم و إسفنديار.

وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اَللّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18)

ص: 574


1- . الكافي 1:386/4، تفسير الصافي 5:14.
2- . الكافي 1:386/4، تفسير الصافي 5:14.
3- . أدب الطف 6:50.
4- . الكافي 1:386/4، تفسير الصافي 5:14.

قيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، كان أبواه يدعوانه إلى الاسلام فيأبى (1).

روي أنّه لمّا دعاه أبواه إلى الاسلام، و أخبراه بالبعث بعد الموت، قال: أتعدانني أن أخرج من القبر، و قد خلت القرون من قبلي، فلم أر أحدا منهم بعث؟ فأين عبد اللّه بن جدعان، و أين فلان، و أين فلان؟ (2).

و روي أنّه لمّا كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هر قلية، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: أيّها الناس، هو الذي قال اللّه فيه: وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما و به قال الكلبي من العامة، و القمي رحمه اللّه (3).

و قيل: إنّه لم يرد به شخصا معينا (4).

ثمّ قال سبحانه: أُولئِكَ العاقون الكافرون باللّه، المنكرون للحشر، هم اَلَّذِينَ حَقَّ و ثبت عَلَيْهِمُ في علم اللّه اَلْقَوْلُ و الوعد بالعذاب الأبد بقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (5)و هم فِي زمرة أُمَمٍ مستحقّة للعذاب قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ من الدنيا إِنَّهُمْ السابقين و اللاحقين جميعا كانُوا خاسِرِينَ في سوق الدنيا، لإتلافهم ما هو بمنزلة رأس مال تجارتهم من الفطرة الأصلية، و العقل السليم، و العمر و النّعم التي تفضّل اللّه عليهم بها.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان فريقين من الأولاد البارّين بالوالدين و العاقّين لهما، بيّن أن لكلّ فريق مراتب و درجات مختلفة بقوله: وَ لِكُلٍّ من الفريقين المذكورين دَرَجاتٌ مختلفة في الايمان و الكفر و الطاعة و العصيان، أو في الثواب و دركات متفاوتة في العقاب مسبّبة مِمّا عَمِلُوا في الدنيا من الخير و الشرّ وَ لِيُوَفِّيَهُمْ ربّهم أَعْمالَهُمْ و يعطيهم أجرة طاعاتهم و معاصيهم وافية تامة وَ هُمْ لا

وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

ص: 575


1- . تفسير الرازي 28:23.
2- . تفسير الرازي 28:23.
3- . تفسير الرازي 28:23، تفسير القمي 2:297، تفسير الصافي 5:15.
4- . تفسير الرازي 28:23.
5- . السجدة:32/13.

يُظْلَمُونَ بنقص ثواب المطيعين، و زيادة عقاب العاصين.

قيل: إنّ (ليوفيهم) علّة لمقدّر، يدلّ الكلام عليه، و المعنى: قدّر جزاء أعمالهم، و جعل الثواب درجات، و العقاب دركات، ليوفيهم و لا يظلمهم (1).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّه يوصل حقّ كلّ أحد إليه، بيّن أحوال أهل العقاب بقوله تعالى: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ و يقربون منها، و يوقفون عليها، ليروا أهوالها. أو المراد يصلون فيها، فيقول لهم: ايّها الكفّار أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ و أصبتم حظوظكم و لذائذكم التي قدّرت لكم فِي حَياتِكُمُ في اَلدُّنْيا و عمّركم فيها وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بنعم اللّه، و انتفعتم بِها فلم يبق لكم في الآخرة منها شيء فَالْيَوْمَ و في هذا الوقت تُجْزَوْنَ من اللّه عَذابَ اَلْهُونِ و جزاء بالنار فيه ذلّ و حقارة بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَسْتَكْبِرُونَ على الناس فِي اَلْأَرْضِ و تتأنّفون عن الايمان و طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و بلا مقتضى للاستكبار و التأنّف وَ بِما كُنْتُمْ فيها تَفْسُقُونَ و تعصون بترك الواجبات و إيتان المحرّمات.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه دخل على أصحاب الصّفّة، و هم يرقعون ثيابهم بالأدم، ما يجدون لها رقاعا، فقال: «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة و يروح في اخرى، و يغدى عليه بجفنة و يراح عنه باخرى، و يستر بيته كما تستر الكعبة؟» . قالوا: نحن يومئذ خير. قال: «بل [أنتم]اليوم [خير]» (2)

روي عن عمر أنّه دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو على سرير، و قد أثر بجنبيه الشريط، فبكى عمر، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما يبكيك يا عمر؟» قال: ذكرت كسرى و قيصر، و ما كانا فيه من الدنيا، و أنت رسول ربّ العالمين، قد أثّر بجنبيك الشريط! فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اولئك قوم قد عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، و نحن قوم قد اخّرت طيباتنا في الآخرة» .

قالت عائشة: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول اللّه، و أول بدعة حدثت بعده الشّبع.

و قالت أيضا: و قد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، و ما هو إلاّ الماء و التمر، غير أنّه جزى اللّه عنّا نساء الأنصار، كنّ ربما أهدين لنا شيئا من اللّبن (3).

عن أبي هريرة قال: رأيت سبعين من أصحاب الصّفّة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار أو كساء، قد

ص: 576


1- . تفسير الرازي 28:25.
2- . تفسير الرازي 28:25.
3- . تفسير روح البيان 8:480.

ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، و منها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته (1).

عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، قال: «اتي النبي صلّى اللّه عليه و آله بخبيص (2)، فأبى أن يأكله، فقيل: أتحرّمه؟ قال: لا، و لكني أكره ما تتوق إليه نفسي، ثمّ تلا هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا» (3).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 21 الی 25

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد، و توعيد الكفّار المنهمكين في الشهوات، ذكر قصّة قوم عاد، الذين كانوا أقوى و أكثر نعمة من أهل مكّة، ليعتبروا بهم بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمد، لقومك هود الذي كان أَخا عادٍ و من قومه، ليعتبروا من حال قومه إِذْ أَنْذَرَ و خوّف قَوْمَهُ الذين كانوا يسكنون بِالْأَحْقافِ و هو أرض قريبة من حضرموت من بلاد اليمن، على ما قيل (4)، و كانوا من قبيلة إرم. و قيل: إنّ بلاد عاد كانت في اليمن، و لهم كانت إرم ذات العماد، و الأحقاف جبل مستطيل معوجّ من الرّمل (5).

وَ اُذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ (25)أقول: هذا مناف لقول علي عليه السّلام: «شرّ واد بين الناس وادي الأحقاف» إلاّ أن يقال: إنّ الوادي سمّي باسم الجبل الذي فيه، قال: «و واد بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفّار» (6).

وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ و مضت الرّسل من الدنيا من قبل هود و مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ و بعده، و كان إنذاره (ان) يا قوم لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ و لا تشركوا به شيئا إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يا قوم إن أشركتم به عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أهواله،

و شديد بلاؤه قالُوا في جواب هود: يا هود أَ جِئْتَنا

ص: 577


1- . تفسير روح البيان 8:480.
2- . الخبيص: الحلواء المخلوطة من التمر و السمن.
3- . المحاسن:409/133، تفسير الصافي 5:15.
4- . تفسير روح البيان 8:480.
5- . تفسير روح البيان 8:481.
6- . تفسير روح البيان 8:481.

لِتَأْفِكَنا و تصرفنا عَنْ

عبادة آلِهَتِنا إلى عبادة إلهك، و هذا لا يكون أبدا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب العظيم على عبادة أصنامنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في وعدك به

قالَ هود: لا شكّ في وقوعه، و إِنَّمَا اَلْعِلْمُ بوقت نزوله عِنْدَ اَللّهِ و مختصّ به، و هو يأتيكم به في الوقت الذي يعلمه، و يرى فيه صلاح إتيانه به، و ليس في قدرتي شيء، و إنّما أنا رسول من اللّه إليكم وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من واجب الرسالة التي من جملتها تحذيركم بنزول العذاب عليكم، إن لم تنتهوا عن الشرك وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ خيركم و صلاحكم، و لا تعلمون وظيفة الرسول، إنّها التبليغ لا إتيان العذاب.

في حكاية نزول

العذاب على قوم

عاد

ثمّ قيل: إنّ اللّه تعالى حبس عنهم المطر أياما، ثمّ ساق إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث (1)فَلَمّا رَأَوْهُ حال كونه عارِضاً يعرض في السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ و متوجّها إلى أراضيهم قالُوا مستبشرين و مسرورين بعروضه و استقباله: يا قوم هذا السّحاب عارِضٌ و ظاهر في السماء و هو مُمْطِرُنا و منزل الغيث علينا. قال هود: ليس الأمر كما توهّمتم بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب، و هو رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ فاذا جاءتهم ريح عقيم كانت

تُدَمِّرُ و تهلك كُلَّ شَيْءٍ من نفوسهم و أموالهم و مواشيهم بِأَمْرِ رَبِّها و إرادته، كالجند الذي لا يسير و لا يقف إلاّ بأمر الرئيس و الأمير فَأَصْبَحُوا و صاروا من ذلك العذاب هالكين بحيث لا يُرى من آثارهم إِلاّ مَساكِنُهُمْ الخالية منهم كَذلِكَ الجزاء الفظيع، و بمثل ذلك العذاب المستأصل نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ و الطاغين على ربّهم.

قيل: جاءت ريح باردة من قبل المغرب، و أوّل ما عرفوا أنّه عذاب، أن راوا ما كان في الصحراء من رحالهم و مواشيهم تطير بها الريح بين السماء و الأرض، و ترفع الظعينة في الجوّ حتى ترى كأنّها جرادة، فتدمغها بالحجارة، فدخلوا بيوتهم، و أغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب و صرعتهم، فأمال اللّه الأحقاف عليهم، فكانوا تحتها سبع ليال و ثمانية أيام، لهم أنين، ثمّ كشفت الريح عنهم الأحقاف، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر (2).

و قيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار (3).

ص: 578


1- . تفسير روح البيان 8:482.
2- . تفسير الرازي 28:28، تفسير أبي السعود 8:86، تفسير روح البيان 8:483.
3- . تفسير الرازي 28:28، تفسير أبي السعود 8:86.

و روي أنّ هودا لمّا أحسّ بالريح، خطّ على نفسه و على المؤمنين خطّا إلى جنب عين تبنع، فكانت الريح التي تصيبهم ريحا لينة هاوية طيبة، و الريح التي تصيب القوم ترفعهم من الأرض، و تطير بهم إلى السماء، و تضربهم على الأرض (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «ما أمر اللّه خازن الرياح أن يرسل إلى عاد إلاّ مثل مقدار الخاتم» ثمّ انّ ذلك المقدار أهلكهم بكلّيتهم (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا رأى الريح فزع، و قال: «اللهم إنّي أسألك خيها و خير ما أرسلت به، و أعوذ بك من شرّها و شرّ ما أرسلت به» (3).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 26 الی 28

ثمّ بيّن سبحانه فضل قوم عاد على كفّار أهل مكّة بكمال القوة و كثرة النعم و الأموال بقوله: وَ لَقَدْ مَكَّنّاهُمْ و اقدرناهم و ملّكناهم فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ من السّعة و البسطة و القوّة و سائر التصرفات، و إنّما لم يقل: فيما ما مكّناكم فيه، لركاكة التّكرار. و قيل: إنّ كلمة (إن) زائدة (4). و قيل: شرطية، و جزاء الشرط كان بغيكم أكثر (5).

وَ لَقَدْ مَكَّنّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْقُرى وَ صَرَّفْنَا اَلْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)أقول: لا يفيد القولان ما هو المقصود من بيان كونهم أقوى و أقدر منكم، و مع ذلك لم ينجوا من العذاب، فكيف بكم؟

وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً ليستعملوها في سماع دلائل التوحيد و المواعظ و العبر وَ أَبْصاراً ليستعملوها في النّظر إلى بدائع صنع اللّه، و ما فيه دلائل توحيده و كمال صفاته و معجزات الرسول وَ أَفْئِدَةً يتفكّرون بها في عجائب الخلق و عواقب الامور فَما أَغْنى عَنْهُمْ و لم يفدهم سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ في كمال نفوسهم و حصول سعادتهم و ارقتائهم عن حضيض الحيوانية

ص: 579


1- . تفسير الرازي 28:28.
2- . تفسير الرازي 28:28.
3- . تفسير الرازي 28:28.
4- . تفسير الرازي 28:29، تفسير روح البيان 8:484.
5- . تفسير روح البيان 8:484.

مِنْ شَيْءٍ من الإغناء و الفائدة، حيث إنّهم لم يستعملوا شيئا منها فيما خلقت له، و لم يؤدّوا شكرها.

إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اَللّهِ و يتعصّبون في إنكار دلائل التوحيد و المعاد و رسالة الرسول وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، حيث كانوا يستعجلونه سخرية و أستهزاء.

وَ تاللّه لَقَدْ أَهْلَكْنا يا أهل مكة بأنواع مختلفة من العذاب ما حَوْلَكُمْ و في أطرافكم مِنَ أهالي اَلْقُرى و البلدان الكثيرة كقرى عاد و ثمود و قوم لوط باليمن و الشام، بسبب شركهم و طغيانهم وَ صَرَّفْنَا اَلْآياتِ و كرّرنا عليهم الحجج و أنواع العبر، لكي يعتبر بها اولئك الأهالي لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عمّا هم عليه من الشّرك و الطّغيان، و يتوبوا من معاصيهم،

و مع ذلك لم يرجع أحد منهم فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ و هلاّ خلّصهم من العذاب الأصنام اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه، لكونهم بزعمهم قُرْباناً و وسائل للزّلفى إلى اللّه آلِهَةً و معبودين.

و قيل: إنّ المعنى اتّخذوهم آلهة حال كونهم متقرّبين بعبادتهم إلى اللّه، حيث كانوا يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى (1).

و قيل: إنّ المفعول الثاني لا تخذوا هو (قربانا) و (آلهة) عطف بيان له (2). و على كلّ تقدير فيه غاية التقريع.

ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم بقوله: بَلْ ضَلُّوا و غابوا، أو ضاعوا عَنْهُمْ فحرموا عن نصرتهم و شفاعتهم، لعجزهم عن ذلك وَ ذلِكَ المذكور من اتخاذهم الأصنام قربانا آلهة إِفْكُهُمْ و قولهم الباطل الذي صرفهم عن الحقّ وَ ما كانُوا في الدنيا يَفْتَرُونَ على اللّه من أنّ اللّه جعل الأصنام شفعاءهم و رضى بعبادتها.

قيل: يعني: و ذلك الضياع أثر إفكهم و أثر ما يفترون (3).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 29 الی 31

وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ اَلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ اَلْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اَللّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)

ص: 580


1- . تفسير روح البيان 8:485.
2- . تفسير الرازي 28:30، تفسير البيضاوي 2:397.
3- . تفسير أبي السعود 8:88.

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد أهل مكة على الكفر و مخالفة الحقّ، رغّبهم في الايمان بالقرآن بذكر إيمان الجنّ به بقوله: وَ إِذْ صَرَفْنا و وجّهنا إِلَيْكَ يا محمد نَفَراً و جماعة مِنَ اَلْجِنِّ و ألقينا في قلوبهم الميل و الرغبة إلى الحضور عندك يَسْتَمِعُونَ اَلْقُرْآنَ حين تلاوتك إيّاه فَلَمّا حَضَرُوهُ عند تلاوته قالُوا اولئك النّفر بعضهم لبعض أَنْصِتُوا و اسكتوا لسماعه فَلَمّا قُضِيَ القرآن و فرغت من تلاوته، آمنوا به و أجابوا إلى ما سمعوه، و وَلَّوْا عنك و رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ حال كونهم مُنْذِرِينَ لهم و داعين إيّاهم إلى الإيمان به.

في إيمان الجن

بالقرآن، و دعوة

قومهم إليه

روى بعض العامة: أنّ الجن كانت تسترق السمع، فلمّا حرست السماء و رجموا بالشّهب قالوا: ما هذا إلاّ لنبأ حدث، فنهض سبعة نفر من أشراف جنّ نصيبين و رؤسائهم (1)، و قيل: كانوا من ملوك جنّ نينوى بالموصل (2).

و عن ابن عباس: أنّهم كانوا تسعة، و أسماؤهم سليط، و شاصر، و باصر (1)، و حاصر، و حسا، و مسا، و عليم، و أرقم، و أدرس، فضربوا في الأرض حتى بلغوا تهامة، ثمّ اندفعوا إلى وادي نحلة بين مكة و الطائف، فوافوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو قائم في جوف الليل (2)-و في رواية: يصلّي صلاة الفجر- فاستمعوا لقراءته و هو يقرأ طه (3)، فجاءوا إلى قومهم،

و قالُوا يا قَوْمَنا إِنّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ كتاب مُوسى من السماء، يكون مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ و موافقا لما قبله من الكتب الإلهية السماوية في التوحيد و المعارف و النبوة و المعاد، و التزهيد في الدنيا و الترغيب إلى الآخرة، و تهذيب الأخلاق و غيرها من المطالب العالية، و هو يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ من العقائد وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى قرب اللّه و الجنّة من الشرائع و الأعمال الصالحة.

قيل: إنّما قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسى لأنّهم كانوا يهودا (6). و عن ابن عباس: أنّهم لم يسمعوا بأمر عيسى (7). و قيل: لأنّ شريعة عيسى مقرّرة لشريعة موسى لا ناسخة (4). و يحتمل أنّه من جهة عظمة التوراة من بين الكتب السماوية.

ثمّ قالوا: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اَللّهِ و كتابه أو رسوله الذي يدعوكم إلى كلّ خير و سعادة وَ آمِنُوا

ص: 581


1- . في تفسير روح البيان: و ماصر.
2- . تفسير روح البيان 8:487.
3- . تفسير روح البيان 8:487. (6 و 7) . تفسير روح البيان 8:489.
4- . تفسير روح البيان 8:489.

بِهِ يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ بعضا مِنْ ذُنُوبِكُمْ و هو ما كان من حقوق اللّه على ما قيل (1)وَ يُجِرْكُمْ و يعذبكم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ معدّ للكفار.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 32

ثمّ بعد ذكر المرغبّات إلى الايمان تبيّنوا مضارّ تركه بقوله: وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اَللّهِ و لا يؤمن برسوله أو كتابه فَلَيْسَ بقادر على دفع عذاب اللّه، و لا بِمُعْجِزٍ ه تعالى عن تعذيبه فِي اَلْأَرْضِ بالهرب من أقطارها، أو الدخول في أعماقها وَ لَيْسَ لَهُ ممّا سوى اللّه مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ و أنصار يدفعون عنه العذاب بالمعارضة و الشفاعة أُولئِكَ الذين لا يجيبون داعي اللّه، و لا يؤمنون به، متمكّنون، أو ثابتون فِي ضَلالٍ و انحراف مُبِينٍ عن الحقّ و الطريق المستقيم بحيث لا يخفى على عاقل.

وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اَللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)روي أنّه سئل ابن عباس: هل للجنّ ثواب؟ قال: نعم، لهم ثواب، و عليهم عقاب، يلتقون في الجنّة، و يزدحمون على أبوابها (2).

في بيان تشرف

الجن بحضور

الرسول و ايمانهم به

روي أنّ النفر من الجنّ لمّا انصرفوا من بطن نخلة، جاءوا إلى قومهم منذرين، ثمّ جاءوا مع قومهم وافدين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكّة، و هم ثلاثمائة، أو اثنا عشر ألفا، فانتهوا إلى الحجون-و هو موضع فيه مقابر مكة-فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك، فوعده صلّى اللّه عليه و آله ساعة من الليل، ثمّ قال لأصحابه، : «إنّي امرت أن أقرأ على الجنّ الليلة و انذرهم، فمن يتبعني؟» قالها ثلاثا، فأطرقوا إلاّ عبد اللّه بن مسعود، فقام معه قال: فانطلقنا حتى إذا كنّا بأعلى مكّة في شعب الحجون، خطّ لي صلّى اللّه عليه و آله خطّا برجله، و قال لي: «لا تخرج منه حتى أعود إليك، فانّك إن خرجت لن تراني إلى يوم القيامة (3). -و في رواية: لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم» -ثمّ جلس و قرأ عليهم: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أو سورة الرحمن، و سمعت لغطا شديدا، و غشيته صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ انقطعوا كقطع السحاب، فقال لي: «هل رأيت شيئا؟» قلت: نعم، رجالا سودا كأنّهم رجال الزّطّ. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أولئك جنّ نصيبين» قلت: سمعت لغطا شديدا حتى خفت عليك، إلى أن سمعتك تقرعهم بعصاك، و تقول: اجلسوا؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ

ص: 582


1- . تفسير روح البيان 8:489.
2- . تفسير الرازي 28:31.
3- . تفسير روح البيان 8:488.

الجنّ تداعت في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ، فحكمت بينهم بالحقّ» (1).

أقول: اللّغط: اختلاط أصوات الكلام حتى لا يفهم، و الزّطّ: طائفة من السودان.

القمي رحمه اللّه، قال بعد ذكر الآيات: فهذا كلّه حكاية الجنّ، و كان سبب نزول هذه الآية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج من مكّة إلى سوق عكاظ، و معه زيد بن حارثة، يدعو الناس إلى الاسلام، فلم يجبه أحد، و لم يجد أحدا يقبله، ثمّ رجع إلى مكّة، فلمّا بلغ موضعا يقال له: وادي مجنّة تهجّد بالقرآن في جوف الليل، فمرّ به نفر من الجنّ، فلمّا سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: أَنْصِتُوا يعني اسكتوا فَلَمّا قُضِيَ أي فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من القراءة وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إلى قوله: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فجاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأسلموا و آمنوا، و علّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شرائع الإسلام، فأنزل اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ اَلْجِنِّ (2)السورة كلّها، فحكى اللّه عزّ و جلّ قولهم، و ولّى عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهم، و كانوا يعودون إلى رسول اللّه في كلّ وقت، فأمر رسول اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعلّمهم و يفقّهم، فمنهم مؤمنون و كافرون و ناصبون و يهود و نصارى و مجوس، و هم ولد الجانّ، انتهى.

و سئل العالم عليه السّلام عن مؤمني الجنّ أيدخلون الجنّة؟ فقال: «لا، و لكن للّه حظائر بين الجنّة و النار، يكون فيها مؤمنو الجنّ و فسّاق الشيعة» (3)أقول: و به قال بعض العامّة (4).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 33 الی 35

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و النبوة، و استدلّ على المعاد بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا قيل: إنّ التقدير و المعنى: أو لم يتفكّروا و لم يعلموا علما جازما يكون بمنزلة الرؤية (5)أَنَّ اَللّهَ اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ (35)

ص: 583


1- . تفسير روح البيان 8:488.
2- . الجن:72/1.
3- . تفسير القمي 2:299، تفسير الصافي 2:18.
4- . تفسير روح البيان 8:491.
5- . تفسير أبي السعود 8:89، تفسير روح البيان 8:492.

الكاملة اَلسَّماواتِ السبع وَ اَلْأَرْضَ و أبدعهما من غير مثال سابق وَ لَمْ يَعْيَ و لم يتعب بِخَلْقِهِنَّ مع غاية عظمهنّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى و يخلقهم على المثال الأول مع صغرهم بَلى قادر على ذلك إِنَّهُ تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء قَدِيرٌ لا تختصّ قدرته بشيء دون شيء.

ثمّ هدّد سبحانه منكري المعاد بقوله: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ و يوفقون عليها، ثمّ يقال لهم توبيخا و تقريعا: أَ لَيْسَ هذا العذاب الذي ترونه بِالْحَقِّ و الصدق و أنتم كنتم في الدنيا تكذّبونه و تستهزوئون به؟ ! قالُوا بَلى إنّه الحقّ، و وعده مطابق للواقع وَ اللّه رَبِّنا قيل: أكدّوا جوابهم بالقسم طمعا في الخلاص بسبب الاعتراف به (1)قالَ اللّه أو خازن النار فَذُوقُوا اليوم اَلْعَذابَ الذي كنتم تستعجلونه مستلذّين بذوقه و طعمه، و لا تتوهّموا ابتلاءكم به بلا علّة، و لا سبب، بل هو بِما كُنْتُمْ في الدنيا به تَكْفُرُونَ و الكفر به أعظم أسباب الاستحقاق، و تكذيب وعد اللّه أقوى مقتضات الابتلاء به.

فاذا علمت-يا محمد-وخامة عاقبة تكذيبهم و استهزائهم بك فَاصْبِرْ عليهما كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ و ذوو الثبات و الجزم مِنَ اَلرُّسُلِ الذين جاءوا من قبلك، كابراهيم و نوح و موسى و عيسى، فانّك من جملتهم، بل أفضلهم و خاتمهم.

في ذكر اولي العزم

من الرسل و عددهم

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلوات اللّه عليهم» .

قيل: كيف صاروا اولي العزم؟ قال: «لأن نوحا بعث بكتاب و شريعة، و كلّ من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح و شريعته و منهاجه، حتى جاء إبراهيم بالصّحف و بعزيمة ترك كتاب نوح، لا كفرا به، فكلّ من جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم و منهاجه و بالصّحف، حتى جاء موسى بالتوراة و شريعته و منهاجه و بعزيمة ترك الصّحف، فكلّ نبى جاء بعد موسى أخذ بالتوراة و منهاجه، حتى جاء المسيح بالإنجيل، و بعزيمة ترك شريعة موسى و منهاجه، فكلّ نبيّ جاء بعد المسيح أخذ بشريعته و منهاجه، حتى جاء محمد صلّى اللّه عليه و آله فجاء بالقرآن و بشريعته و منهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء اولو العزم من الرسل» (2).

عن الباقر عليه السّلام: «إنّما سمّوا اولى العزم، لأنّه عهد إليهم في محمد صلّى اللّه عليه و آله و لأوصيائه من بعده

ص: 584


1- . تفسير روح البيان 8:493.
2- . الكافي 2:14/2، تفسير الصافي 5:18.

و المهديّ عليه السّلام و سيرته، فأجمع عزمهم على أنّ ذلك كذلك» (1).

وَ لا تَسْتَعْجِلْ يا محمد بالعذاب لَهُمْ فانّه على شرف النزول عليهم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا و لم يمكثوا في الدنيا، و لو عمّروا ألف سنة أو أكثر فيها إِلاّ ساعَةً و زمانا قليلا مِنْ نَهارٍ لأنّ الزمان الطويل في الغاية بعد انقضائه يكون في النظر كالزمان القصير، بل يكون كأن لم يكن، مع أنّ طول عمر الدنيا بالنسبة إلى عمر الآخرة و طول بقائها كالساعة، و الآن هذا الذي ذكرناه في السورة، أو في القرآن بَلاغٌ و كفاية لهم في الوعظ و النّصح و إتمام الحجّة، فان اتّعظوا به فقد هدوا إلى كلّ خير، و حازوا السعادة الأبدية، و نالوا الحياة (2)الدائمة، و إن أعرضوا عنه فَهَلْ يُهْلَكُ بالعذاب إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ و الجماعة الخارجون عن قابلية الاتّعاظ و طاعة اللّه.

ذكر ما يوجب

سهولة الولادة

للمرأة التي عسرت

ولادتها

عن ابن عباس، قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا عسرت على المرأة ولادتها، اخذ إناء نظيف و كتب عليه: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ إلى آخره، و قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (3)و آية: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (4)ثمّ يغسل الإناء، و تسقى منه المرأة، و ينضح على بطنها و فرجها» (5).

و في رواية اخرى، عن ابن عباس: إذا عسرت على المرأة الولادة، فليكتب هاتان الآيتان في صحيفة، ثمّ تسقى، و هي هذه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا إله إلاّ اللّه الحكيم الكريم، لا إله إلاّ اللّه العلي العظيم، سبحان اللّه ربّ السماوات السبع و ربّ العرش العظيم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (6).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ كل ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف، لم يصبه اللّه بروعة في الحياة الدنيا، و آمنه من فزع يوم القيامة» (7).

ص: 585


1- . الكافي 1:344/22، علل الشرائع:122/1، تفسير الصافي 5:19، و زاد في المصادر: و الإقرار به.
2- . في النسخة: بالحياة.
3- . النازعات:79/46.
4- . يوسف:12/111.
5- . تفسير روح البيان 8:495.
6- . تفسير روح البيان 8:496.
7- . ثواب الأعمال:114، مجمع البيان 9:123، تفسير الصافي 5:19.

ص: 586

في تفسير سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله

سوره 47 (محمد): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة الأحقاف ببيان إيمان الجنّ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، و كفر أهل مكّة بهما، و تهديد الكفّار بالعذاب الدنيوي و الاخروي، نظمت سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله المتضمّنة لذمّ الكفّار، و منعهم الناس عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و دينه و كتابه، و بيان سوء عاقبتهم، و مدح المؤمنين و بيان حسن عاقبتهم، و تحريضهم على قتال الكفّار، و أمرهم بجهادهم، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

ثمّ شرع في ذمّ الكفّار الصادّين عن سبيل اللّه بقوله: اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على كفرهم، كأبي جهل و أضرابه من قريش و اليهود و غيرهم وَ صَدُّوا و منعوا أنفسهم أو الناس عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و اتّباع أدلّة الحقّ و دين الاسلام أَضَلَّ اللّه و أبطل أَعْمالَهُمْ الحسنة بالذات، كصلة الرّحم، و الانفاق على الفقراء، و إعانة المظلومين و إغاثه الملهوفين و نظائرها، بحيث لا يبقى لهم عمل يؤجرون (1)عليه.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1)قيل: لمّا قال في آخر السورة المباركة السابقة فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ كان مجال أن يقال: كيف يهلك الفاسقون مع أنّ لهم في طول أعمارهم صالحة كإطعام الطعام، وصلة الرحم و نحو ذلك، فيكون في إهلاكهم إهدار أعمالهم، مع أنّه تعالى قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ؟ فقال اللّه تعالى: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي لم يبق لهم عمل، و لم يوجد، فلم يمنع إهلاكهم؛ (2)لأنّ الايمان شرط قبول العمل و ترتب الأجر عليه، فما لا يقبل كما لا يوجد، أو لأنّ الكفر يترجّح في الميزان على جميع الحسنات، كما أنّ الايمان بترجّح على جميع السيئات، أو لأن خيرية العمل بحيث يترتّب عليه الأجر، إنّما يكون بقصد العامل إيجاده للّه، و الكافر لا يقصد بأعماله التقرّب إلى اللّه، و تحصيل رضاه، فلا يصدر منه خير حتى يراه.

ص: 587


1- . في النسخة: يؤجر.
2- . تفسير الرازي 28:36.

قيل: إنّ المراد من سبيل اللّه هو الانفاق على المؤمنين (1). و قيل: هو الجهاد (2). و الحق أنّه الاسلام و اتّباع النبي الذي هو الصراط المستقيم.

عن الباقر عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام بعد وفاة رسول اللّه في المسجد و الناس مجتمعون بصوت عال: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ فقال له ابن عباس: يا أبا الحسن، لم قلت؟ ما قلت؟ قال: قرأت شيئا من القرآن. قال: لقد قلته لأمر؟ قال: نعم، إنّ اللّه يقول: وَ ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (3)فتشهد على رسول اللّه أنّه استخلف أبا بكر؟ قال: ما سمعت رسول اللّه أوصى إلاّ إليك. قال: فهلا بايعتني؟ قال: اجتمع الناس على أبي بكر، فكنت منهم. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «كما اجتمع أهل العجل على العجل، هاهنا. فتنتم، و مثلكم كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ» (1).

أقول: تدلّ الرواية على عموم الكفر للأصلي و الارتدادي الذي حصل بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار، بيّن حسن حال المؤمنين بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و كتبه و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و الأعمال المرضيات عند اللّه وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ من القرآن و شرائع الاسلام و عن الصادق عليه السّلام، قال: «بما نزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله في علي عليه السّلام» (2).

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اِتَّبَعُوا اَلْباطِلَ وَ أَنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبَعُوا اَلْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللّهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)وَ هُوَ اَلْحَقُّ النازل مِنْ رَبِّهِمْ الحقيق بالايمان به، و تخصيصه بالذكر لتعظيم شأنه كَفَّرَ و ستر عَنْهُمْ بسبب هذا الايمان سَيِّئاتِهِمْ و معاصيهم في الآخرة وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ و حالهم في الدين و الدنيا بالتأييد و التوفيق.

ص: 588


1- . تفسير القمي 2:301، تفسير الصافي 5:20، و الآيتان من سورة البقرة:2/17 و 18.
2- . تفسير القمي 2:301، تفسير الصافي 5:21.
3- . الحشر:59/7.

القمي رحمه اللّه قال: نزلت في أبي ذرّ و سلمان و عمّار و المقدار، لم ينقضوا العهد قال: وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أي ثبتوا على الولاية التي أنزلها اللّه وَ هُوَ اَلْحَقُّ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام بالَهُمْ أي حالهم (1).

ثمّ بيّن سبحانه علّة هذا التفاوت بين الفريقين بقوله: ذلِكَ المذكور من إبطال أعمال الكفار، و تكفير سيئات المؤمنين، و إصلاح حالهم بِأَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اِتَّبَعُوا اَلْباطِلَ و أطاعوا الشيطان و كبراءهم، و عملوا بدين آبائهم عن تقليد و عصبية، ففعلوا ما فعلوا من الكفر و الصدّ عن سبيل اللّه وَ أَنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبَعُوا اَلْحَقَّ النازل مِنْ رَبِّهِمْ و الرسول المبعوث من قبل خالقهم، ففعلوا ما فعلوا من الايمان و الأعمال الصالحات كَذلِكَ الضرب البديع الفصيح الوافي يَضْرِبُ اَللّهُ و يبيّن لِلنّاسِ عامة أَمْثالَهُمْ.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 4

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كون الكفّار غير نافعين لأنفسهم و لغيرهم لضلال أعمالهم، و ضارّين للناس بصدّهم عن سبيل اللّه، أمر المؤمنين بقتلهم و إعدامهم بقوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ و صادفتم أيّها المسلمون اَلَّذِينَ كَفَرُوا في أيّ مكان و أيّ حال فَضَرْبَ اَلرِّقابِ و قطع الأعناق عنهم بالسيف واجب عليكم، و هذا الحكم مستمرّ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ و كسرتم جيشهم بإكثار القتل فيهم، أو أعجزتموهم عن الحركة و المقاومة في قتالكم فَشُدُّوا و استحكموا اَلْوَثاقَ و القيد بأيديهم و أرجلهم، و أسروهم كيلا يفرّوا من أيديكم، فاذا قهرتموهم و أسرتموهم فَإِمّا تمنّون عليهم مَنًّا و تطلقونهم من غير أخذ شيء منهم بَعْدُ الأسر و شدّ الوثاق وَ إِمّا تفدون و تأخذون منهم فِداءً و مالا و تطلقونهم بعوضه.

فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)و حاصل الآية-و اللّه أعلم-أنّه ما دام الحرب قائمة، فالحكم القتل حال المبارزة، فاذا انكسر جيش الكفر و غلب المسلمون عليهم بإكثار القتل فيهم، فالحكم الأسر، و بعد الأسر يتخيّر بين القتل و بين الإطلاق بلا أخذ شيء، و بين الاطلاق مع أخذ شيء، و هذا الحكم باق حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها آلاتها و أثقالها التي لا تقوم إلاّ بها، كالسلاح و الكراع.

و قيل: يعني حتى يضع أهل الحرب أثامهم و شركهم و معاصيهم ظاهرا بحيث لا يبقى إلاّ مسلم أو

ص: 589


1- . تفسير القمي 2:301، تفسير الصافي 5:21.

مسالم (1).

و في التعبير عن القتل بضرب الرقبة إشعار بأنّه ينبغي أن يكون القتل بذلك، و فيه أيضا تصوير له بأشنع صوره.

في ذكر بعض

أحكام الجهاد

عن الصادق عليه السّلام، قال: «كان أبي يقول: إنّ للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها و لم يثخن أهلها، فكلّ أسير اخذ في تلك الحال فانّ الامام فيه بالخيار، إن شاء ضرب عنقه، و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف بغير حسم، و تركه يتشحّط في دمه حتى يموت، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ (2)الاية. و الحكم الآخر: إذا وضعت الحرب أوزارها، و اثخن اهلها، فكلّ اسير اخذ على تلك الحال، فكان في أيديهم، فالامام فيه بالخيار، إن شاء منّ عليهم فأرسلهم، و إن شاء فاداهم أنفسهم، و إن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا» (3).

أقول: قال الحسن البصري من العامة: إنّ الامام بعد الأسر مخيّر بين المنّ و الفداء و الاسترقاق، و ليس له القتل (4).

و قال الفاضل المقداد في آيات أحكامه: المنقول من أهل البيت عليهم السّلام أن الأسير إن اخذ و الحرب قائمة، تعيّن قتله، إمّا بضرب عنقه، أو قطع يديه و رجليه، و يترك حتى ينزف و يموت، و إن اخذ بعد تقضيّ الحرب تخيّر الامام بين المن و الفداء و الاسترقاق، و لا يجوز القتل، و لو حصل منه الاسلام منع القتل خاصّة (5).

أقول: على ما ذكر لا بدّ من القول بالتقديم و التأخير في الآية، و لا بأس به، فتكون الآية: فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثمّ قال: حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً ثمّ في نسبة قطع اليدين و الرجلين إلى أهل البيت عليهم السّلام إشكال، و أمّا حكم الاسترقاق فيعلم من الرواية.

ثمّ قال الفاضل المذكور اختلف القائلون بأنّ الآية لا تقديم فيها و لا تأخير في قوله: حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها قيل: هو غاية لضرب الأعناق، و قيل: غاية لشدّ الوثاق، و قيل: للمنّ و الفداء، و قيل: للمجموع بمعنى أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا تكون حرب بين المشركين بزوال شوكتهم.

ص: 590


1- . تفسير البيضاوي 2:401.
2- . المائدة:5/33.
3- . الكافي 5:32/1، التهذيب 6:143/245، تفسير الصافي 5:21.
4- . كنز العرفان 1:365/2.
5- . كنز العرفان 1:365/3.

و قيل: حتى لا يبقى أحد من المشركين. و قيل: حتى لا يبقى غير دين الاسلام. و قيل: حتى ينزل عيسى (1).

ثمّ أكّد سبحانه الأحكام بقوله: ذلِكَ قيل: إنّ التقدير الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك (2).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 4 الی 6

ثمّ بيّن سبحانه قدرته على إهلاك الكفّار و عدم حاجته إلى قتال المسلمين معهم بقوله: وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ من الكفّار، و انتقم مِنْهُمْ بإهلاكهم بالخسف أو الرجفة أو الصاعقة أو غيرها من الأسباب، أو بإقباض أرواحهم بلا واسطة سبب من حاجة إلى القتال، أو بقتل الملائكة إياهم من غير حاجة إليكم وَ لكِنْ لم يشأ ذلك لِيَبْلُوَا و يمتحن بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أمركم بقتالهم و الجهاد معهم، فتستوجبوا الثواب العظيم، و يرتدع الكفّار عن كفرهم بظهور شوكتكم و غلبتكم عليهم وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا منكم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لمرضاته في جهاد أعدائه فَلَنْ يُضِلَّ و لن يضيع أبدا أَعْمالَهُمْ بل يثيبهم أعظم الثواب، و يكون حالهم ضدّ حال الكفّار الذين أضلّ اللّه أعمالهم.

فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ اَلْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)

ثمّ فصّل سبحانه ثواب المجاهدين بقوله: سَيَهْدِيهِمْ و يرشدهم البتة في الدنيا إلى درجات قربه، و طرق تحصيل رضاه وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ و شأنهم بالتوفيق لتهذيب أخلاقهم و تكميل نفوسهم و معارفهم و يقينهم.

و قيل: إنّه وعد لخصوص المقتولين (3)، و يكون المراد سيهديهم في القيامة إلى الجنّة من غير توقّف، و المراد باصلاح بالهم تبديل سيئاتهم بالحسنات.

وَ يُدْخِلُهُمُ في الآخرة اَلْجَنَّةَ التي عَرَّفَها و وصفها لَهُمْ في الدنيا، أو بيّنها لهم بحيث يعلم كلّ أحد حين دخوله الجنة منزله فيها، و يهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق، كما قيل (4). و في الحديث: «لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا» (5).

و قيل: (عرّفها) جعل لها عرفا، أي رائحة طيبة، و المعنى زيّنها و طيّبها لهم (6) . و قيل: يعني حدّدها و أفرزها، يعني أنّ جنة كلّ أحد محدودة مفروزة (7) .

ص: 591


1- . كنز العرفان 1:366/4.
2- . تفسير روح البيان 8:499.
3- . تفسير الرازي 28:48. (4-5) . تفسير روح البيان 8:500.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 7 الی 9

ثمّ شجّع سبحانه المؤمنين في جهاد الكفار بقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّهَ و تعينوه في إنجاح مقصوده، و هو إعلاء كلمته، و رواج توحيده، و قمع الكفر يَنْصُرْكُمْ في حرب أعدائكم بتقوية قلوبكم، و إرعاب أعدائكم، و حفظكم من بأسهم، و تأييدكم بالملائكة، و تهيئة الأسباب الغيبية وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في حربهم، و يزلّ أقدام أعدائكم بحيث لا يقدرون على المقاومة في نزالكم. قيل: يثبّت أقدامكم في معارضة الكفّار بالحجّة و القيام بحقوق الإسلام (1).

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً و هلاكا دائما، أو ذلاّ و هوانا، أو عثورا و خيبة لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ و أبطل مساعيهم في النيل بالمقاصد الدنيوية و الاخروية على خلاف المؤمنين، حيث إنّه تعالى لن يضلّ أعمالهم

ذلِكَ المذكور من التّعس و الإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا و أبغضوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ من الكتاب الداعي إلى التوحيد و طاعة اللّه، و لمخافة هوى أنفسهم فَأَحْبَطَ اللّه من درجة القبول أَعْمالَهُمْ كائنا ما كان.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 10 الی 12

ثمّ هدّد سبحانه الكفّار المعارضين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و الكارهين لدينه بقوله تبارك و تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا و لم يسافروا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا في أسفارهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الامم اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود و قوم سبأ و قوم لوط.

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اَللّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ اَلْأَنْعامُ وَ اَلنّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)ثمّ كأنّه قيل: كيف كان عاقبتهم؟ فقال سبحانه: دَمَّرَ اَللّهُ و أنزل الهلاك عَلَيْهِمْ بكفرهم، و معارضة الرسل وَ لِلْكافِرِينَ الذين ينكرون التوحيد و الرسالة في عصرك نظائر تلك العواقب

ص: 592


1- . تفسير البيضاوي 2:401.

و أَمْثالُها لكونهم أمثال اولئك

ذلِكَ الهلاك الذي هو نقمة على الكافرين و نعمة على المؤمنين، أو ذلك المذكور من نصر المؤمنين و تدمير الكافرين بِأَنَّ اَللّهَ بلطفه مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا و حافظ صلاحهم، و معينهم في كلّ خير، و ناصرهم على أعدائهم وَ أَنَّ اَلْكافِرِينَ الذين هم مظهر قهره تعالى لا مَوْلى لَهُمْ و لا راعي لصلاحهم، و لا معين يدفع العذاب و الشّرور عنهم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من شؤون ولايته للمؤمنين حسن حالهم في الآخرة بقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ تعالى بفضله يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ في الآخرة جَنّاتٍ كثيرة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ يتنعّمون فيها بنعم لا قدر لنعم الدنيا عندها، و لذا لم يذكر سبحانه تمتّعهم بنعم الدنيا وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حيث إنّهم لا مولى لهم يَتَمَتَّعُونَ و ينتفعون بنعم الدنيا أياما قلائل كالبهائم، لا همّ لهم إلاّ ذلك وَ يَأْكُلُونَ حريصين على الأكل، مهتميّن به، غافلين عن النّعم، و عن عواقبهم كَما تَأْكُلُ اَلْأَنْعامُ في مسارحها و معالفها حريصة عليه غافلة عمّا يراد بها من النحر و الذبح، غير عارفة بالمنعم عليها وَ اَلنّارُ في الآخرة مَثْوىً و منزل إقامة لَهُمْ باستحقاقهم و سوء أعمالهم.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد الكفّار المعارضين للرسول صلّى اللّه عليه و آله بما جرى على الامم الماضية، سلّى رسوله بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كثيرا من بلدة كانت هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً و أكثر أهلا و شوكة مِنْ قَرْيَتِكَ و بلدتك اَلَّتِي أَخْرَجَتْكَ أهاليها منها أَهْلَكْناهُمْ بعتوّهم و طغيانهم أنواع العذاب فَلا ناصِرَ لَهُمْ يدفع عنهم العذاب و يمنعهم من الهلاك، و أهل قريتك أولى بذلك لضعفهم و قوّة جنايتهم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ اَلَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)عن ابن عباس: لمّا خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله من مكة إلى الغار، التفت إلى مكة و قال: «أنت أحبّ البلاد إلى اللّه و إليّ، و لو لا أنّ المشركين أخرجوني ما خرجت عنك» فأنزل اللّه هذه الآية (1).

ثمّ بيّن سبحانه استحقاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين للنّصرة و الإكرام، و استحقاق الكفّار للخذلان و الهوان بإنكار التساوي بينهم بقوله: أَ فَمَنْ كانَ مستقرا عَلى بَيِّنَةٍ و حجّة ظاهرة و برهان باهر كالقرآن و المعجزات التي تكون له مِنْ رَبِّهِ و مالك أمره كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ من قبل الشيطان و النفس

ص: 593


1- . تفسير روح البيان 8:505.

الأمّارة سُوءُ عَمَلِهِ و قبيح فعله كالشرك و غيره من المعاصي وَ اِتَّبَعُوا بسبب ذلك التزيين أَهْواءَهُمْ الزائغة، و انهمكوا في فنون الضلالات من غير شبهة توهم صحّة ما عليه، لا و اللّه لا تساوي بينهما عند اللّه، و إفراد ضمير (له) و (عمله) باعتبار لفظ (من) و جمع ضمير (اتبعوا) و (اهوائهم) باعتبار معناه.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 15

ثمّ بعد بيان الفرق بين الفريقين عنده، بيّن عاقبتهما في الآخرة بقوله: مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ و المؤمنون العاملون بوظائف الايمان من قبل اللّه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله و وصفها العجيب الشأن أن فِيها أَنْهارٌ كثيرة مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ و غير متغيّر الطّعم و اللون و الرائحة بطول المكث في منابعه و أوانيه، مع أنّ مياه الدنيا تتغيّر وَ أَنْهارٌ كثيرة مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بالحموضة و غيرها من الطّعوم المكروهة وَ أَنْهارٌ كثيرة مِنْ خَمْرٍ و مسكر عنبي أو غيره لَذَّةٍ و لذيذة لِلشّارِبِينَ كلّهم، ليس فيها كراهة طعم و ريح و خمار (1)، و غائلة سكر و غمار (2)، على خلاف خمر الدنيا.

مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي اَلنّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)و قيل: إنّ (لذة) مصدر وصف به الخمر للمبالغة (3).

وَ أَنْهارٌ كثيرة مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى من الشّمع و فضلات النحل و غيرها غير مختلطة بشيء منها. قيل: إنّ الفرق بين الخالص و المصفّى، أنّ الأول يقال لما زال عنه شوبه، و الثاني يقال لما لا شوب فيه أصلا (4).

قيل: إنّما وصف الجنّة بما يستلذّ من أشربة الدنيان لغاية شوق العرب إلى هذه المائعات المجرّدة عمّا ينقصها و ينغّصها، مع وصفها بالغزارة و الاستمرار، و إنّما قدّم أنهار الماء لغرابتها في الحجاز، و شدّة حاجة العرب إليها، و إنّما ثنى باللّبن لكون حاجتهم إليه بعد الماء أكثر، ثمّ ثلّثه بالخمر لكونها

ص: 594


1- . الخمار: صداع الخمر و أذاها.
2- . يقال: اغتمر السكر فلانا: غطّى على عقله و ستره.
3- . تفسير روح البيان 8:506.
4- . تفسير روح البيان 8:507.

عندهم أعزّ، ثمّ ختم بالعسل لكونه أشرف (1).

عن كعب الأحبار، قال: قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كيف أنهار الجنة؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «على حافتها كراسي و قباب مضروبة، و ماؤها أصفى من الدمع، و أحلى من الشّهد، و الين من الزّبد، ألذّ من كلّ شيء، و عرض كلّ نهر مسيرة خمسمائة عام، تدور تحت القصور و الحجال، لا ترطب ثيابهم، و لا توجع بطونهم، و أكبر أنهارها نهر الكوثر، طينه المسك الأذفر، و حافتاه الدّرّ و الياقوت» (2).

عن ابن عباس: ليس هنا ممّا في الجنّة سوى الأسامي (3).

وَ لَهُمْ فِيها مضافا إلى الأنهار الأربعة مِنْ كُلِّ صنف من اَلثَّمَراتِ و الفواكه التي تشتهيها الأنفس. قيل: لمّا كان الأكل في الجنّة للذّة لا للحاجة، لم يذكر من المأكولات إلاّ الثمرات التي تؤكل للذّة (1).

ثمّ بيّن سبحانه بعد إكمال النعمة عليهم، أمنيّتهم من العقوبة و المؤاخذة بقوله: وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ و التقدير: و لهم المغفرة لذنوبهم قبل دخول الجنة، أو في الجنّة، لعدم التكليف فيها، فيأكلون فيها و يشربون من غير حساب و مؤاخذة بخلاف الدنيا، فانّ في الأكل و الشرب فيها حساب أو عقاب أو عتاب.

ثمّ كأنه قال سبحانه: انظر أيّها العاقل، أمّن هو خالد في هذه الجنة و متنعّم فيها بفنون النعم، و يسقون من تلك الأنهار الأربعة كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي اَلنّارِ أبدا، و معذّب فيها دائما. و قيل: إنّ التقدير هذه الجنة التي مثلها و صفتها ما ذكر، كمقام من هو خالد في النار (2).

وَ سُقُوا بدل الأشربة التي تكون لأهل الجنّة ماءً حَمِيماً و حارا غاية الحرارة فَقَطَّعَ ذلك الماء من غاية حرارته و سموميته أَمْعاءَهُمْ و أحشاءهم. قيل: إذا دنا منهم شوى وجوههم، و انعزلت فروة وجوههم (3)، فاذا شربوه قطّع أمعاءهم فخرجت من أدبارهم (4). ثمّ اعلم أنّ قطع الأمعاء ليس من أثر الحرارة، و لعلّه من أثر مسمومية الماء، أو أثر خصوص ذلك الماء.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 16 الی 17

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)

ص: 595


1- . تفسير الرازي 28:55.
2- . تفسير الرازي 28:56.
3- . الصحيح: فروة رؤوسهم. راجع روح البيان 8:508.
4- . تفسير روح البيان 8:508.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه حال المؤمن و الكافر أردفها بذكر حال المنافق بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يحضر مجلسك و يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يا محمد، و يصغي [إلى]

كلامك، و لا يتأمل فيه تهاونا به حَتّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا استهزاء و سخرية لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ من الصحابة الخلّصين كسلمان و أبي ذرّ و ابن مسعود: ما ذا قالَ محمد آنِفاً و قبلا أو الساعة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «إنّا كنّا عند رسول اللّه، فيخبرنا بالوحي فأعيه [أنا]و من يعيه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا» (1).

أُولئِكَ المستهزئون بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و بكلامه، هم اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ و ختم عَلى قُلُوبِهِمْ لا يتوجّهون إلى الحقّ، و لا يميلون إلى خير أصلا وَ اِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الفاسدة و نفوسهم الأمّارة الخبيثة، و لذا فعلوا ما فعلوا من الإهانة و الاستهزاء.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعو أصحابه، فمن أراد اللّه به خيرا سمع و عرف ما يدعوه إليه، و من أراد اللّه به شرا طبع على قلبه، و لا يسمع و لا يعقل، و هو قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ (2).

وَ اَلَّذِينَ آمنوا بالرسول عن صميم القلب و اِهْتَدَوْا ببركته إلى دين الحقّ زادَهُمْ اللّه باستماع كلمات الرسول و مواعظه، أو باستهزاء المنافقين هُدىً و رشادا حيث إنّهم فهموا المطالب العالية التي ألقاها إليهم الرسول، أو استقبحوا استهزاء المنافقين، فصار سببا لكمال توجّههم إلى كلام الرسول و مواعظه وَ آتاهُمْ اللّه تَقْواهُمْ و توفيق العمل بما علموا من وظائف دينهم، أو المراد آتاهم ثواب تقواهم، أو جنّبهم من القول في القرآن بغير حجّة و برهان و التفسير بالرأي، أو ألقى الخشية من القيامة في قلوبهم.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 18

ثمّ هدّد سبحانه الكفّار و المنافقين بقوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ و ما ينتظرون إِلاَّ اَلسّاعَةَ و القيامة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً و مفاجأة، أو المعنى فانّهم لا يتّعظون بأخبار الامم السابقة المهلكة، و لا بالإخبار بإتيان الساعة و القيامة، بل ينتظرون في تذكّرهم و اتّعاضهم إتيانها، و ليس ببعيد فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها و ظهرت أماراتها فَأَنّى لَهُمْ و كيف تنفعهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ و اتّعاظهم لاستحالة

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)

ص: 596


1- . مجمع البيان 9:154، تفسير الصافي 5:24.
2- . تفسير القمي 2:303، تفسير الصافي 5:24.

نفعه لانقضاء وقته و عدم قبول التوبة فيه.

في ذكر علائم

القيامة

عن حذيفة بن اليمان، قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنه بأعلم من السائل، و لكن لها أشراط: تقارب الأسواق.

أقول: يعنى كسادها و مطر لا نبات له، و تفشو الفتنة، و تظهر أولاد البغية، و يعظّم ربّ المال، و تعلو أصوات الفسقة في المساجد، و يظهر أهل المنكر على أهل الحقّ» (1).

و في الحديث: «إذا ضيّعت الأمانة، فانتظر الساعة» فقيل: كيف إضاعتها؟ فقال: «إذا وسّد الأمر (2)إلى غير أهله، فانتظر الساعة» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: من أشراط الساعة أن يفشو الفالج و موت الفجأة» (4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من أشراط الساعة أن يرفع العلم، و يظهر الجهل، و يشرب الخمر، و يفشو الزنا، و يقلّ الرجال، و تكثر النساء» (5)إلى غير ذلك من الروايات التي لا يهمّنا استقصاء ذكرها، لعدم ارتباطها بمقصودنا من التفسير.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 19

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قرب مجيء الساعة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالالتزام بالتوحيد و الاستغفار من الذنوب، ترغيبا للمؤمنين بقوله تعالى: فَاعْلَمْ يا محمد أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ و التزم بالتوحيد، فانّه المنجي من أهوال الساعة وَ اِسْتَغْفِرْ ربّك لِذَنْبِكَ و ترك الأولى و الأفضل الصادر منك. و قيل: إنّ المراد لذنب أهل بيتك وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ الذين ليسوا من أهلك (6).

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ (19)و قيل: لمّا حكى اللّه سبحانه إصرار قوم النبي صلّى اللّه عليه و آله على الشرك، و عدم اتّعاظهم إلاّ بقيام الساعة، و كان ذلك ممّا يقتضي حزن حبيبه صلّى اللّه عليه و آله سلاّه سبحانه بأنّ كفر قومك لا يضرّك، فاثبت أنت على التوحيد و تكميل نفسك و نفوس المؤمنين بك بالاستغفار، فانّه يحصل لك ما ترجوه من علوّ الدرجة و رفعة المقام و القرب الكامل إلى اللّه (7).

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ و الأمكنة التي تذهبون إليها و ترجعون منها لمعاشكم و معادكم، و أعمالكم

ص: 597


1- . تفسير روح البيان 8:510.
2- . وسّد الأمر إليه: أسنده.
3- . تفسير روح البيان 8:510.
4- . الكافي 3:261/39، تفسير الصافي 5:24.
5- . روضة الواعظين:485، تفسير الصافي 5:24.
6- . تفسير الرازي 28:61.
7- . تفسير الرازي 28:61.

التي تشتغلون بها في حوائجكم الدنيوية و الاخروية وَ مَثْواكُمْ و منزل إقامتكم في الآخرة، فلا يأمركم إلاّ بما فيه خيركم و صلاحكم في الدنيا و الآخرة، فبادروا إلى امتثال ما أمركم به، فانّه المهمّ لكم في المقامين.

عن الصادق عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الاستغفار، و قول لا إله إلاّ اللّه خير العبادة، قال العزيز الجبار: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» (1).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 20 الی 22

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان التباين بين المؤمنين و المنافقين في فهم كلمات الرسول و الاتّعاظ بها و الاستفادة منها، بيّن الفرق بينهم في الأخذ بما يوحي إليه من التكاليف العملية بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب اشتياقا إلى الوحي، و حرصا على الجهاد الذي فيه شرف الدنيا و الآخرة: لَوْ لا نُزِّلَتْ و هلاّ جاءت من جانب اللّه سُورَةٌ فيها الأمر بجهاد الكفّار حتى نمتثله و نفدي نفوسنا في سبيل اللّه؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ من جانب اللّه سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ واضحة الدلالة على ما فيها وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتالُ و أمر اللّه به، رأيت المؤمنين يفرحون و يستبشرون بها شوقا إلى الشهادة و لقاء اللّه و رَأَيْتَ المنافقين اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشكّ و النفاق و حبّ الحياة الدنيا و زخارفها يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ من شدّة الجبن نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ و من سلب شعوره و قواه مِنَ جهة عروض اَلْمَوْتِ عليه، أو من خوف الموت فَأَوْلى و أحقّ لَهُمْ الموت الذي لا فرار منه؛ لأنّ الموت خير من الحياة التي ليست في طاعة اللّه و رسوله.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتالُ رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ اَلْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اَللّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)و قيل: إنّ (أولى لهم) دعاء عليهم بأن يليهم المكروه (2). و قيل: إنّه بمعنى فويل لهم (3). و قيل: إنّ المعنى الطاعة أولى لهم (4)،

كما قال سبحانه: طاعَةٌ خالصة وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ مستحسن عند العقلاء، خير لهم و أحسن.

ص: 598


1- . الكافي 2:366/6، تفسير الصافي 5:27.
2- . تفسير روح البيان 8:516.
3- . تفسير الرازي 28:62، تفسير روح البيان 8:516.
4- . تفسير الرازي 28:62.

و قيل: إنّ المعنى أمرهم و شأنهم طاعة للّه و لرسوله و قول معروف أن يجيبوا لما امروا به من الجهاد (1). أو المراد أنّهم يقولون أمرنا طاعة و قول معروف (2)

فَإِذا عَزَمَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو اللّه اَلْأَمْرُ وجدّ في الجهاد، خالفوا و قعدوا مع المتخلّفين فَلَوْ صَدَقُوا اَللّهَ في إخبارهم بايمانهم و طاعتهم أوامره لَكانَ الصدق و اللّه خَيْراً لَهُمْ و أفضل و أنفع من الكذب و النفاق و القعود عن الجهاد.

ثمّ قيل: إنّ المنافقين كانوا يعتذرون بالقتال و الجهاد، و يقولون: كيف و القتل إفساد، و العرب قبائلنا و أرحامنا (3)، فردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ و هل يتوقّع منكم أيّها المنافقون إِنْ تَوَلَّيْتُمْ امور الناس، و تأمّرتم عليهم، و صار بيدكم زمام امورهم أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ حرصا على الملك، و تهالكا على الدنيا.

و قيل: إنّ المراد يتوقّع منكم إن تولّيتم و أعرضتم عن الجهاد، لكراهة الفساد و قطع الأرحام، أن تفسدوا في الأرض بالسرقة و الغارة، و تقاتلوا على أدنى شيء، و تقطعوا أرحامكم، كما كان عادة العرب في الجاهلية (4).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّها نزلت في بني اميّة» (5).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ أعرض سبحانه عن مخاطبتهم إظهارا لعدم قابليتهم للمكالمة بقوله: أُولئِكَ المعرضون عن طاعة اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله هم اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ و أطردهم عن ساحة رحمته، و عن كلّ خير و سعادة فَأَصَمَّهُمْ و سلب عنهم قوّة استماع الحقّ و مواعظ اللّه و رسوله وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ عمّا يشاهدونه من الآيات الآفاقية و الأنفسية على التوحيد و المعجزات الدالّة على صدق الرسول، و لما كان العمى أقوى في السببية للضلال أطنب فيه تسجيلا له.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)و قيل: إنّ البصر آلة الرؤية، فاذا أصابته آفة حصل العمى بخلاف الاذن، فانّها ليست آلة للسماع، لوضوح أنّ قوة السمع لا يذهب بقطع الاذن، و لذا لم يقل: أصمّ آذانهم، و قال: (أَعْمى أَبْصارَهُمْ) (6).

ص: 599


1- . تفسير روح البيان 8:516.
2- . تفسير الرازي 28:63، تفسير روح البيان 8:516.
3- . تفسير الرازي 28:63.
4- . الكشاف 4:325، تفسير الرازي 28:64.
5- . تفسير القمي 2:308، و الكافي 8:103/76، و تفسير الصافي 5:28، عن الامام علي عليه السّلام.
6- . تفسير الرازي 28:65.

ثمّ لمّا كان التدبّر في القرآن شفاء لما في الصدور من مرض الكفر و الشكّ و النفاق، و بّخ سبحانه المنافقين و الكفّار على ترك تداوي أمراضهم بالتدبّر فيه بقوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ قيل: إنّ التقدير ألا يلاحظون القرآن فلا يتصفحون ما فيه من المواعظ و العبر و الزواجر حتى تشفى أمراضهم، و لا يقعوا في المعاصي الموبقة (1)، لكونهم ملعونين مبعدين من كلّ خير.

و عن الصادق عليه السّلام: «فيقضوا ما عليهم من الحق» (2).

أَمْ يتدبّرون و يتفكّرون فيه، و لكن عَلى قُلُوبٍ قاسية أَقْفالُها الخاصة بها، و هي أقفال اللّجاج و العناد و العصبية، فلا تدخل فيها معانية.

قيل: إن تنكير القلوب لإفادة البعض (3)، أو للتنبيه على أنّ القلوب لعدم استفادتهم بها كأنّها ليست لهم (4)و لا صاحب لها، أو لتهويل حالها، و تفظيع شأنها في الفساد، و الجهالة بابهامها، كأنّه قيل: على قلوب منكرة لا يعرف حالها و لا يقادر قدرها في القسوة (5).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ لك قلبا و مسامع، و إن أراد اللّه أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه، و إن أراد غير ذلك ختم مسامع قلبه، فلا يصلح أبدا، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (6).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 25 الی 26

ثمّ بيّن سبحانه غاية ضلال المنافقين و المصرّين على الكفر من أهل الكتاب بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا و رجعوا عَلى أَدْبارِهِمْ و كفرهم السابق الذي كانوا عليه، و أصرّوا عليه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ و وضح لَهُمُ اَلْهُدَى و طريق الحقّ، و هو نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة دين الاسلام بالدلائل و المعجزات، و رؤية نعت محمد صلّى اللّه عليه و آله في التوراة و سائر الكتب السماوية.

إِنَّ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدَى اَلشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اَللّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)اَلشَّيْطانُ المغوي سَوَّلَ و سهّل لَهُمُ مخالفة الحقّ، و زيّن لهم ارتكاب العظائم وَ أَمْلى و أمدّ لَهُمُ في الأماني بأن يقولوا نعيش أياما، و نؤمن به بعد نيلنا بمقاصدنا الدنيوية.

و قيل: يعني أملى اللّه لهم و أمهلهم، فلم يعاجلهم بالعقوبة (7)ذلِكَ الارتداد و التسويل، أو الإملاء

ص: 600


1- . تفسير روح البيان 8:518.
2- . مجمع البيان 9:158، و تفسير الصافي 5:28، عن الصادق و الكاظم عليهما السّلام.
3- . تفسير الرازي 28:65.
4- . تفسير الرازي 28:66.
5- . تفسير روح البيان 8:518.
6- . المحاسن:200/35، تفسير الصافي 5:28.
7- . تفسير أبي السعود 8:99، تفسير روح البيان 8:519.

لهم، يكون بِأَنَّهُمْ قالُوا سرّا و خفية لِلَّذِينَ كَرِهُوا و أبغضوا ما نَزَّلَ اَللّهُ من القرآن و رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله-قيل: هم اليهود الذين كرهوا نزول القرآن على محمد (1)-: سَنُطِيعُكُمْ و نوافقكم فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ الذي تتوقعون منّا.

قيل: إنّ المنافقين قالوا لليهود: إنّا نوافقكم في إنكار محمد و تكذيبه، و لا نوافقكم في إظهار الكفر و إعلان أمرنا بالفعل قبل قتالهم و إخراجهم من ديارنا، و إنّما لم يوافقوهم في ذلك لما كان لهم في إظهار الايمان من المنافع الدنيوية (2).

و قيل: إنّ القائلين هم اليهود، فانّهم قالوا للمشركين الذين كرهوا ما أنزل اللّه من القرآن الناطق بالتوحيد و الرسالة و الحشر: سنطيعكم في بعض الأمر، و هو إنكار رسالة محمد و تكذيبه، و لا نوافقكم في إنكار مطلق الرسالة و الحشر و إشراك الأصنام باللّه (3).

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ و الأقاويل التي قالوها خفية. و قيل: يعني و اللّه يعلم ما في قلوبهم من العلم بصدق النبي صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة ما أتى به من القرآن و الدين، فانّهم كانوا مكابرين معاندين (4).

و عن الصادق عليه السّلام في تأويل هذه الآية، قال: «فلان و فلان ارتدّوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام» .

قال: «نزلت و اللّه فيهما و في أتباعهما، و هو قول اللّه عزّ و جلّ الذي نزل به جبرئيل على محمد صلّى اللّه عليه و آله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اَللّهُ في عليّ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ قال: دعوا بني امية إلى ميثاقهم أن لا يصيّروا هذا الأمر فينا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا يعطونا من الخمس شيئا، و قالوا: إن أعطيناهم إياه لم يحتاجوا إلى شيء، و لم يبالوا أن لا يكون الأمر فيهم. فقالوا: سنطيعكم في بعض الأمر الذي دعوتمونا إليه، و هو الخمس، أن لا نعطيهم منه شيئا، و الذي نزّل اللّه ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان معهم أبو عبيدة، و كان كاتبهم» الخبر (3).

و عنهما عليهما السّلام: «أنّهم بنوا امية، كرهوا ما أنزل اللّه في عليّ عليه السّلام» (4).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 27 الی 28

فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ اَلْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اِتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اَللّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)

ص: 601


1- . تفسير أبي السعود 8:100، تفسير روح البيان 8:519.
2- . تفسير أبي السعود 8:100، تفسير روح البيان 8:519. (3 و 4) . تفسير الرازي 28:67.
3- . الكافي 1:348/43، تفسير الصافي 5:28.
4- . مجمع البيان 9:160، تفسير الصافي 5:29.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: فَكَيْفَ حالهم إِذا تَوَفَّتْهُمُ اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون بقبض الأرواح، و قبضوا أرواحهم.

قيل: إنّ المراد يفعلون في حياتهم ما يفعلون، فكيف يفعلون إذا قبض روحهم الملائكة (1). و قيل: يعني هب أنّهم يسرّون كفرهم، و اللّه لا يظهره في حياتهم، فكيف يخفونه إذا قبض أرواحهم ملائكة (2)العذاب حال كونهم يَضْرِبُونَ بمقامع الحديد أو النار وُجُوهَهُمْ التي أقبلوا بها إلى ما أسخط اللّه، و حوّلوها عن الحقّ وَ أَدْبارَهُمْ و أقفيتهم التي ولّوها عن أهله، و عمّا فيه رضا ربهم.

ذلِكَ التوفّي الهائل، أو الضرب بالمقامع بِأَنَّهُمُ لخبث باطنهم اِتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اَللّهَ و أغضبه عليهم من الكفر و الطغيان و المعاصي وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ و ما يوجب حبّه لهم و رحمته عليهم من الايمان و الطاعة فَأَحْبَطَ اللّه لذلك أَعْمالَهُمْ الحسنة، فلا يفيدهم شيء من نفقاتهم على الفقراء و إحسانهم إلى الناس و نظائرهما من الخيرات و المبرّات التي فعلوها حال إيمانهم، أو حال كفرهم، و لأنّهم لم يطلبوا بها رضا اللّه و طاعته، بل طلبوا رضا الشيطان و الأصنام و موافقة هوى أنفسهم.

عن الباقر عليه السّلام في تأويله قال: «كرهوا عليا عليه السّلام و قد أمر اللّه بولايته يوم بدر، و يوم حنين، و ببطن نخلة، و يوم التروية، و يوم عرفة، نزلت فيه خمس عشرة آية في الحجّة التي صدّ فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن المسجد الحرام، و بالجحفة، و بخم» (3).

القمي رحمه اللّه: ما أَسْخَطَ اَللّهَ يعني موالاة فلان و فلان و ظالمي أمير المؤمنين عليه السّلام فَأَحْبَطَ اللّه أَعْمالَهُمْ يعني التي عملوها من الخيرات (4).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 29 الی 31

ثمّ بيّن اللّه سبحانه بعد تهديد المنافقين و الكفّار علّة جرأتهم على ما هم عليه من النفاق بقوله: أَمْ حَسِبَ و بل توهّم المنافقون اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشكّ و عناد الرسول و العصبية أَنْ لَنْ

أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اَللّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ اَلْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)

ص: 602


1- . تفسير روح البيان 8:519.
2- . تفسير الرازي 28:67.
3- . روضة الواعظين:106، تفسير الصافي 5:29.
4- . تفسير القمي 2:309، تفسير الصافي 5:29.

يُخْرِجَ اَللّهُ و لن يظهر للمؤمنين أبدا أَضْغانَهُمْ و أحقادهم وعداوتهم للرسول و المؤمنين، فيبقى كفرهم و حقدهم لهم مستورا، و هذا لا يمكن أبدا.

قيل: إن كلمة (أم) استفهامية متصلة، و التقدير: أ حسب الذين كفروا أن لن يعلم الله إسرارهم، أم حسب المنافقون أن لن يظهرها الله (1).

وَ لَوْ نَشاءُ إراءتهم لَأَرَيْناكَهُمْ و لعرفناكهم بأعيانهم و أشخاصهم بالأمارات و الدلائل فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ و علامات في وجوههم دالة على نفاقهم.

عن أنس، قال: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه و آله بعد هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، و لقد كنا في بعض الغزوات و فينا تسعة من المنافقين، يشك فيهم الناس، فناموا ذات ليلة و أصبحوا و على وجه كل منهم مكتوب: هذا منافق (2).

وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ و الله يا محمد فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ و فحوى كلامه، و اسلوب محاورته، و صرف الكلام عن سننه الجارية عليه، إما بازالة الإعراب، أو التصحيف، و إما بازالته عن التصريح و صرفه بمعناه إلى التعريض، كقولهم: لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ (3)أو المراد لتعرفنهم في معنى قول الله، كقوله: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا (4)و قيل: لحن القول: الوجه الخفي من القول الذي يعرفه النبي صلى الله عليه و آله دون غيره (5).

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ أيها المؤمنون أَعْمالَكُمْ ظاهرها و باطنها، فيجازيكم على حسب قصودكم و نياتكم.

عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «قلت أربع كلمات أنزل الله تصديقهن، قلت: المرء مخبوء تحت لسانه، فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله: وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ» (6).

و عن أبي سعيد الخدري، قال: لحن القول: بغض علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب عليه السلام (7).

وَ بالله لَنَبْلُوَنَّكُمْ و لنختبرن إيمانكم بالأمر بالجهاد و نحوه من التكاليف الشاقة حَتّى نَعْلَمَ اَلْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ و نميزهم من غير المجاهدين وَ اَلصّابِرِينَ على مشاق الجهاد و سائر التكاليف، و تميزوا من غير الصابرين و الثابتين في المعارك من المولين و الفارين وَ نَبْلُوَا و

ص: 603


1- . تفسير الرازي 28:69.
2- . تفسير أبي السعود 8:101، تفسير روح البيان 8:520.
3- . المنافقون:63/8.
4- . النور:24/62.
5- . تفسير الرازي 28:70.
6- . أما لي الطوسي:494/1082، تفسير الصافي 5:29.
7- . مجمع البيان 9:160، تفسير الصافي 5:30.

نمتحن أَخْبارَكُمْ بأنكم صادقون في الايمان، و أنكم ثابتون في نزال الأعداء، إنه صدق أو كذب.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 32 الی 33

ثم هدد سبحانه الكفار و المنافقين بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله في الباطن، أظهر الايمان أو الكفر وَ صَدُّوا و منعوا انفسهم أو غيرهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و العمل بدين الاسلام وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ و عاندوه و عارضوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ و و ضح لَهُمُ اَلْهُدى و الحق من رسالة محمد صلى الله عليه و آله و صحة دينه، بما شاهدوا من معجزاته و نعوته في الكتاب السماواة. قيل: اريد منهم بنو قريظة و النضير من اليهود، و رؤساء قريش المطعمون يوم بدر، أولئك (1)لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ تعالى بكفرهم و صدهم و شقاقهم مع الله بشقاقهم مع الرسول شَيْئاً يسيرا من الضرر، بل يضرون أنفسهم أشد الضرر وَ سَيُحْبِطُ الله و يبطل البتة أَعْمالَهُمْ و مكائدهم في إطفاء نور الحق، و اضمحلال كلمة التوحيد، و إبطال دين الاسلام.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)و قيل: إن المراد من الذين كفروا خصوص أهل الكتاب و من أعمالهم الخيرية التي كانوا يعملونها قبل الكفر برسالة النبي صلى الله عليه و آله (2).

ثم لما بين سبحانه أن الكفر و مشاقة الرسول صلى الله عليه و آله يوجب بطلان الأعمال الخيرية، حث المؤمنين على طاعة الله و رسوله، و التحذير عن إبطال الأعمال بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ في جميع ما أمراكم به و نهياكم عنه وَ لا تُبْطِلُوا بمخالفة الرسول صلى الله عليه و آله و الرياء و السمعة و العجب أَعْمالَكُمْ كما أبطل الكفار بالكفر و مشاقة الرسول صلى الله عليه و آله أعمالهم. و قيل: إن المعنى لا تبطلوا بالشرك أعمالكم (3).

عن الباقر عليه السلام. قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله: من قال: سبحان الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: الحمد لله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: لا إله إلا الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: الله أكبر، غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله، إن شجرنا في الجنة كثير؟ فقال: نعم، و لكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، و ذلك أن الله تعالى

ص: 604


1- . تفسير روح البيان 8:522.
2- . تفسير الرازي 28:71.
3- . تفسير الرازي 28:72.

يقول: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» (1).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 34 الی 35

ثم إنه تعالى بعد بيان بطلان أعمالهم الخيرية وعدم فائدتها لهم، بين عدم العفو عن ذنوبهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ ماتُوا و خرجوا من الدنيا وَ الحال أن هُمْ كُفّارٌ حين موتهم فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ ذنوبهم التي اقترفوها في الدنيا، كثيرة كانت أو صغيرة، لعدم أهليتهم للمغفرة و الرحمة، فاذا علمتم أن الله يعادي الكفار، و لا يقبل أعمالهم الخيرية، و لا يغفر ذنوبهم،

و لا يرحمهم فَلا تَهِنُوا وَ لا تتوانوا في قتالهم، و لا تضعفوا في جهادهم، بل جدوا و اجتهدوا فيه، و لا تجعلوا المشاغل الدنيوية مانعة عنه، و لا تَدْعُوا هم إِلَى اَلسَّلْمِ وَ الصلح. و لا تسئلوا منهم متاركة القتال، فان فيه ذلكم، و الحال أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ و الغالبون عليهم.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)ثم بين سبحانه علة علوهم و غلبتهم بقوله: وَ اَللّهُ مَعَكُمْ و ناصركم في الدارين وَ لَنْ يَتِرَكُمْ و لن يضيع أَعْمالَكُمْ بل يعطيكم أجرها فوق ما تتوقعون، فيكون لكم في جهادهم شرف الدنيا و ثواب الآخرة، فلا ينبغي لمن له عقل أن يتهاون فيه.

لما بين سبحانه أن الغلبة على الكفار بنصرة الله لا بقوتهم و شوكتهم، كان مجال أن يتوهم أن أجر جهادهم ينقص بسبب كون الغلبة بنصرته تعالى، فدفعه سبحانه و قال: لم ينقص أجر جهادكم بسبب نصرته، بل يعطيكم أجركم كاملا (2).

قيل: إن الآية ناسخة لقوله وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها (3)و فيه: أنه لا تنافي بين الحكمين، فان الآية ظاهرة في حرمة طلب المسلمين الصلح مع الكفار أولا، و الآية الاخرى إذن في إجابة الكفار إن طلبوا الصلح، فان في طلب الصلح منهم ذل و مهانة للمسلمين (4)، و في إجابة دعائهم إلى الصلح شرف و كرامة لهم.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 36 الی 37

إِنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)

ص: 605


1- . ثواب الأعمال:11، تفسير الصافي 5:30.
2- . تفسير الرازي 28:73.
3- . الأنفال:8/61.
4- . تفسير القرطبي 16:256.

ثم بالغ سبحانه في حث المؤمنين على الجهاد ببيان مهانة الدنيا و عظمة أجر الآخرة بقوله: إِنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و العمر فيها و الاشتغال بزخارفها و زينتها لَعِبٌ وَ لَهْوٌ و باطل و عمل سفهائي عند العقلاء و أهل البصيرة وَ إِنْ تُؤْمِنُوا أيها الناس بما يجب الايمان به وَ تَتَّقُوا الكفر و العصيان و مخالفة أحكام الله يُؤْتِكُمْ الله أُجُورَكُمْ و مثوبات أعمالكم الصالحة من الايمان و التقوى في الآخرة، كما وعدكم به وَ لا يَسْئَلْكُمْ الله أَمْوالَكُمْ جميعا، فتتضررون في الدنيا بسبب الايمان و التقوى، و يختل معاشكم، حتى يصير الضرر مانعا من الايمان و التقوى، و إنما يسألكم جزءا يسيرا منها بعنوان الزكاة كالعشر و نصف العشر.

و قيل: إن المراد لا يسألكم أموالكم لأنه ليس لكم مال، بل جميع ما في ايديكم مال الله، أو دعه عندكم، و أجازكم في صرفه في محاويجكم تفضلا عليكم، فلا ينبغي أن تمتنعوا عن صرفه فيما أمركم مالكه بصرفه (1).

ثم قرر سبحانه لطفه بالمؤمنين بأن لم يرض بضررهم و حرجهم و فساد باطنهم و ضمائرهم بقوله: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها و يأمركم بصرفها فَيُحْفِكُمْ و يجهدكم بأمركم بصرف الكل في سبيله تَبْخَلُوا و تمتنعوا عن صرف الكل وَ يُخْرِجْ الله بسبب ذلك الأمر و السؤال أو البخل أَضْغانَكُمْ و أحقادكم الحادثة بذلك السؤال، فان ابن آدم ينقم و يبغض من يطمع في ماله، و يوقعه في الضرر، و لذا لم يسالكم جميع أموالكم.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 38

ثم و بخهم سبحانه على بخلهم بصرف اليسير من أموالهم بقوله تعالى: ها أَنْتُمْ و تنبهوا أيها المؤمنون بأنكم هؤُلاءِ البخلاء الذين تُدْعَوْنَ من قبل الله لِتُنْفِقُوا يسيرا من أموالكم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و ترويج دينه، و اعانة أوليائه فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ و يمتنع ببخله عن الانفاق، و الحال أن وَ مَنْ يَبْخَلْ بماله على الفقراء و المجاهدين و سائر الوجوه البرية فَإِنَّما يَبْخَلُ و يمسك الخير عَنْ نَفْسِهِ وَ يحرم من منافعه.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اَللّهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)اَللّهِ تعالى هو اَلْغَنِيُّ بذاته عنكم و عن أموالكم و صدقاتكم وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إليه و إلى ما

ص: 606


1- . تفسير الرازي 28:74.

عنده من الخيرات، فما يأمركم به هو عين خيركم و صلاحكم، و فائدته راجعة إليكم.

ثم هدد سبحانه العصاة و المخالفين بقوله: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا و تعرضوا عن الايمان و الطاعة و الانفاق يهلككم و يَسْتَبْدِلْ و يخلف في أرضكم و مساكنكم قَوْماً آخرين و جماعة غَيْرَكُمْ يعيشون في دياركم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في العصيان و الإعراض عن الايمان و الطاعة، بل يكونون مؤمنين مجدين في التقوى و الطاعة.

قيل: إن كلمة (ثم) دالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطب (1).

قيل: إن المخاطب قريش، و البدل الأنصار. و قيل: إن المخاطب العرب، و البدل أهل فارس (2)، لما روي أن النبي صلى الله عليه و آله سئل عن القوم و سلمان كان إلى جنبه، فضرب على فخذه، فقال: «هذا و قومه، و الذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» (3)، و رواه (المجمع) أيضا، و فيه فضيلة عظيمة لأهل فارس (4).

و في الحديث: «خيرتان من خلقه في أرضه: قريش خيرة الله من العرب، و فارس خيرة الله من العجم» (5).

و عن أبي الدرداأ أنه كان يقول بعد قراءة هذه الآية: أكثروا يا بني فروح (6). قيل: إن فروح إن فروح كتنور، أخو إسماعيل و إسحاق، أبو العجم الذين في و سط البلاد (7).

عن الباقر عليه السلام، قال: «إِنْ تَتَوَلَّوْا يا معشر العرب يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني الموالي» (5).

ص: 607


1- . تفسير روح البيان 8:526.
2- . تفسير روح البيان 8:526.
3- . تفسير الرازي 28:76، تفسير أبي السعود 8:103، تفسير روح البيان 8:526.
4- . مجمع البيان 9:164. (5و6و7) . تفسير روح البيان 8:526.
5- . مجمع البيان 9:164، عن الصادق عليه السلام، تفسير الصافي 5:32.

ص: 608

في تفسير سورة الفتح

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 1

ثم لما ختمت سورة محمد صلى الله عليه و آله المتضمنة لبيان فضيلة المؤمنين به باتباعهم دينه الحق، و تفضله عليهم بتكفير ذنوبهم و إصلاح امور دينهم و دنياهم، و أمرهم بنصرته، و الانفاق في ترويج دينه، و الجهاد لإعلاء كلمته و دفع أعدائه، و البشارة بغلبتهم على الكفار، نظمت سورة الفتح المبدوءة ببشارة رسوله صلى الله عليه و آله بفتح مكة أو الحديبية، و نصرته على أعدائه، الموقوف على ثبات المؤمنين في نصره، و الانفاق في الجهاد معه، و بغفران ذنوبه، و سائر تفضلاته عليه صلى الله عليه و آله و على المؤمنين به، فافتتحها عز و جل بذكر أسمائه الحسنى على دأبه تعالى تيمنا و تعليما للعباد و المؤمنين بقوله تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)

ثم ابتدئها بالبشارة بقوله: إِنّا فَتَحْنا لَكَ يا محمد، مكة و غلبناك على أهلها، و ظفرناك بها عنوة فَتْحاً و ظفرا مُبِيناً ظاهرا، مكشوف الحال لكل أحد، إنه بقدرتنا و تأييدنا.

عن أنس بشر به رسول الله صلى الله عليه و آله عند انصرافه من الحديبية، و إنما أتى سبحانه بصيغة الماضي إيذانا تحقق و قوعه (1).

روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه و آله: «لقد نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا و ما فيها» (2).

و في روآية اخرى: «لقد نزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم (3).

و في ثالثة أنه صلى الله عليه و آله قال لأصحابه: «انزلت علي سورة أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» (4)ثم قرأ السورة عليهم، و هنأهم و هنأوه، و في الآية و الروآيات دلالة و اضحة على عظمة شأن هذا الفتح الذي

ص: 609


1- . تفسير أبي السعود 8:103، تفسير روح البيان 9:2.
2- . مجمع البيان 9:165، و فيه: الدنيا كلها، تفسير الصافي 5:33.
3- . تفسير القرطبي 16:260، تفسير روح البيان 9:6 و 7.
4- . تفسير روح البيان 9:6.

فيه قوة الإسلام و رواج شرعه.

روت العامة أن النبي صلى الله عليه و آله رأى في المنام أنه مع أصحابه دخلوا مكة آمنين محلقين رؤسهم و مقصرين، و أنه دخل البيت و أخذ مفتاحه، وطائف هو و أصحابه و اعتمر، فأخبر بتلك الرؤيا أصحابه ففرحوا، ثم أخبرهم أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر، فخرج عليه الصلاة [و السلام ]بعد أن اغتسل في بيته، و لبس ثوبين، و ركب راحلته القصوى من عند بابه، و معه ألف و أربعمائة من المسلمين على روآية، و أبطأ عليه كثير من أهل البواد خشية من قريش، و سائق عليه السلام معه الهدي سبعين بدنة (1)، و كان خروجه يوم الاثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة، فلما و صل إلى ذي الحليفة (2)، و هو ميقات المدنيين، صلى بالمسجد الذي فيه ركعتين، و أحرم بالعمرة هو و غالب أصحابه، و منهم من أخر الإحرام إلى الجحفة (3)، ثم نفد الماء في الطريق بين أصحابه، فأقبلوا نحوه، و كان بين يديه ركوة (4)يتوضأ منها، فقال: «ما لكم؟» قالوا: يا رسول الله. ليس عندنا ماء نشرب أو نتوضأ منه إلا في ركوتك. فوضع يده في الركوة، ففار الماء من أصابعه الشريفة أمثال العيون، فشربوا و توضأوا، و قال جابر: لو كنا مائة ألف لكفانا (5).

ثم أرسل صلى الله عليه و آله بشر بن سفيان إلى مكة عينا له، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و هو بعسفان (6)، قال: يا رسول الله، قد سمعت قريش بخروجك، فلبسوا النمر-قيل: هو كناية عن إظهار شدة العداوة و الحقد له -و استنفروا من أطاعهم من الأحابيش، و معهم زادهم و نساؤهم و أولادهم، و نزلوا بذي طوى (7)، و تعاهدوا على أن لا تدخلها عليهم أبدا. فقال صلى الله عليه و آله: «أشيروا علي-أيها الناس -أتريدون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؟» فقال المقداد: يا رسول الله، إنا لا نقول ما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (8)و لكن نقول: اذهب أنت و ربّك [فقاتلا]إنا معكما مقاتلون. فقال صلّى اللّه عليه و آله «امضوا على اسم اللّه» فساروا.

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «هل رجل [يخرجنا]من طريق إلى غير طريقهم التي هم بها» فقال رجل من أسلم اسمه ناجية بن جندب: أنا يا رسول اللّه. فسلك بهم طريقا وعرا، ثمّ أفاضوا إلى أرض سهلة.

ص: 610


1- . البدنة: ناقة أو بقرة تنح قربانا بمكّة.
2- . ذو الحليفة: قرية بينها و بين المدينة ستة أميال أو سبعة.
3- . الجحفة: قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكة على أربعة مراحل.
4- . الرّكوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
5- . تفسير روح البيان 9:3.
6- . عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة و مكة.
7- . ذو طوى: موضع عند مكة.
8- . المائدة:5/24.

ثمّ أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يسلكوا طريقا يخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكّة، فسلكوا ذلك الطريق، فلمّا نزلوا بالحديبية نزح (1)ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ماء، فشكا الناس إلى رسول اللّه العطش، و كان الحرّ شديدا، فأخرج صلّى اللّه عليه و آله سهما من كنانته، و دفعه إلى البراء بن عازب، و أمره أن يغرزه في جوف البئر (2)-و قيل: تمضمض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ مجّه في البئر-فجاش الماء حتى امتلأت البئر، فشربوا جميعا، وروت إبلهم، و لم ينفد ماؤها (3).

و قيل: لمّا ارتحلوا من الحديبية أخذ البراء السّهم من البئر، فخفضت كأن لم يكن فيها ماء.

فلمّا أطمأن صلّى اللّه عليه و آله بالحديبية، جاءه بديل بن ورقاء، و كان سيد قومه، فسأله ما الذي جاء به؟ فأخبره أنّه لم يأت يريد حربا، إنّما جاء زائرا للبيت، فلمّا رجع إلى قريش و أخبرهم بما قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يطمئنوا بقوله، ثمّ أرسلوا الحليس بن علقمة، و كان سيد الأحابيش، فلم يعتمدوا عليه أيضا، فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي عظيم الطائف، فلمّا قام بالخبر من عنده صلّى اللّه عليه و آله، و قد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يغسل يديه إلاّ ابتدروا وضوءه، و لا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، و لا يسقط من شعره شيء إلاّ أخذوه، و إذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، و لا يحدّون النظر إليه تعظيما له.

فقال: يا معشر قريش، إنّي جئت كسرى في ملكه، و قيصر في ملكه، و النجاشي في ملكه، ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمد في أصحابه، أخاف أن لا تنصروا عليه.

فقالت له قريش: لا تتكلّم بهذا يا أبا يعفور، لكن نردّه عامنا هذا، أو يرجع من قابل. فقال: ما أراكم إلا سيصيبكم قارعة، ثمّ انصرف هو و من معه إلى الطائف.

ثمّ دعا صلّى اللّه عليه و آله خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش، و حمله على بعير له، يقال له الثعلب، ليبلّغ اشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا جمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أرادوا قتل خراش، فمنعه الأحابيش، فخلّوا سبيله حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما لقي.

ثمّ دعا عمر بن الخطاب، و أمره أن يبلّغ أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول اللّه، إنّي أخاف قريشا على نفسي، و ما بمكّة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، و قد عرفت قريش عداوتي إياها و غلظتي عليها، و لكن أدلّك على رجل أعزّ بها منّي؛ عثمان بن عفان، فانّ بني عمّه يمنعونه.

فدعا عثمان، فبعثه إلى أشراف قريش، و أمره أن يأتي رجالا مسلمين بمكّة و نساء مسلمات، و يدخل عليهم و يخبرهم أنّ اللّه قرب أن يظهر دينه بمكّة حتى لا يستخفى فيها بالايمان، فخرج

ص: 611


1- . يقال: نزح البئر: قل ماؤها أو نفد.
2- . تفسير روح البيان 9:3.
3- . تفسير روح البيان 9:4.

عثمان إلى مكّة و معه عشرة رجال من الصحابة بإذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليزوروا أهاليهم هناك، فلقي عثمان قبل أن يدخل مكّة أبان بن سعيد، فأجاره حتى يبلّغ رسالته، و جعله بين يديه، فأتى عظماء قريش، فبلّغهم الرسالة، و هم يقولون: إنّ محمدا لا يدخل علينا أبدا.

فلمّا فرغ عثمان من الرسالة، قالوا له: إن شئت فطف بالبيت، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول اللّه. و كانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ عثمان و من معه قتلوا كلّهم، فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم» فأمره اللّه بالبيعة، فنادى مناديه: أيّها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس، فاخرجوا على اسم اللّه، فثاروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو تحت شجرة من أشجار السّمر (1)، فبايعوه على عدم الفرار، و قالوا لها بيعة الرّضوان (2).

أقول: لعلّ وجه التسمية أنّ اللّه قال: لَقَدْ رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ (3).

و أول من بايع سنان بن سنان الأسدي، فقال: يا رسول اللّه، ابايعك على ما في نفسك. قال: «و ما في نفسي؟» قال: أضرب بسيفي حتى ينصرك اللّه أو اقتل، و صار الناس يقولون: نبايعك على ما بايعك عليه سنان (4). و روي أن عثمان رجع بعد ثلاثة أيام، فبايع هو أيضا.

و كان محمد بن مسلمة على حرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبعثت قريش أربعين رجلا، عليهم مكرز بن حفص، ليطوفوا بعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلا، رجاء أن يصيبوا منهم أحدا، و يجدوا منهم غفلة، فأخذهم محمد بن مسلمة إلا مكرز فانّه أفلت، و أتى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فحبسوا، فبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنّبل و الحجارة، و قتل من المسلمين ابن رسم رمي بسهم، فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا.

و عند ذلك بعثت قريش إلى رسول اللّه جمعا فيهم سهيل بن عمرو، فلمّا رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تفاءل، و قال لأصحابه: «سهل أمركم» فقال سهيل: يا محمد، إنّ ما كان من حبس أصحابك، و ما كان من قتال من قاتل، لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنّا كارهين له حين بلغنا، و كان من سفهائنا، فابعث إلينا أصحابنا الذين اسروا أولا و ثانيا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إني لا ارسلهم حتى ترسلوا أصحابي» فقالوا: نفعل فبعث سهيل و من معه إلى قريش بذلك، فبعثت قريش عثمان و العشرة، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابهم.

و لمّا سمعت قريش بهذه البيعة، كبرت عليهم، و خافوا أن يحاربوا، و أشار أهل الرأي منهم بالصّلح

ص: 612


1- . السّمر: ضرب من شجر الطّلح، واحدته سمرة.
2- . تفسير روح البيان 9:4.
3- . الفتح 48/18.
4- . تفسير روح البيان 9:5.

على أن يرجع و يعود من قابل، و يقيم ثلاثا، فبعثوا سهيلا و مكرز أو حويطب بن عبد العزّى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للصّلح، فلمّا رآه مقبلا قال: «أراد القوم الصّلح» فلمّا أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله الصّلح لم يرض بعض الأصحاب به، و قالوا: علام نعطي الدنية في ديننا، و نحن المسلمون، و هم مشركون؟ فأشار صلّى اللّه عليه و آله بالرضا و متابعة الرسول.

ثمّ دعا عليا عليه السّلام، فقال: «اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم» . فقال سهيل: لا نعرف هذه، و لكن اكتب: باسمك اللهم، فكتبها لأنّ قريشا كانت تقولها.

ثمّ قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللّه سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك، و لم اصدّك عن البيت، و لكن اكتب اسمك و أسم أبيك. فقال صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: «امح رسول اللّه» . فقال علي عليه السّلام: «و اللّه لا أمحوك» . فقال: «أرنيه» فأراه إياه، فمحاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده الشريفة، و قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو» و قال: «أنا و اللّه رسول اللّه، و إن كذّبتموني» .

و كان الصّلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، و من أتى من قريش ممّن هو على دين محمد صلّى اللّه عليه و آله بغير إذن وليه ردّه إليه ذكرا كان أم انثى، و من أتى قريشا ممّن كان مع محمدا ذكرا كان أو انثى لم ترده إليه، و من أحبّ أن يدخل في عقد محمد صلّى اللّه عليه و آله و عهده دخل فيه، و من أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه، و أنّ بيننا و بينكم عيبة مكفوفة (1)، لا إسلال و لا إغلال (2)، و أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله يرجع عامة هذا، فلا يدخل مكّة، و إذا كان عام قابل خرج منها قريش و دخلها محمد بأصحابه، و أقاموا بها ثلاثة أيام معهم سلاك الراكب السيوف في القرب و القوس، لا يدخلونها بغيرهما.

فلمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الصّلح، و أشهد عليه رجالا من المسلمين، قام إلى هدية فنحره، و فرّق لحمه على الفقراء، فلمّا رأى المسلمون الصّلح و ما تحملّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، دخلهم من ذلك أمر عظيم، و كانوا لا يشكّون في دخولهم مكّة و طوافهم بالبيت ذلك العام للرؤيا التي رآها النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قال عمر: ألم تقل إنّك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟» قال المسلمون: لا، قال صلّى اللّه عليه و آله: «فهو كما قال جبرئيل، إنّكم تأتونه و تطوفون به» (3).

و روي أنه صلّى اللّه عليه و آله لمّا دخل في العام القابل، و حلق رأسه، قال: «هذا الذي وعدتكم» فلمّا كان يوم

ص: 613


1- . أي صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة. أو منطوية على الوفاء بالصلح.
2- . أي لا سرقة و لا خيانة.
3- . تفسير روح البيان 9:5.

الفتح و أخذ المفتاح قال: «هذا الذي قلت لكم» (1).

أقول: يعلم من تلك الرواية حال عمر و حال كثير من الأصحاب و حال بيعتهم هنا من فرار أكثرهم يوم حنين.

قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله أقام بالحديبية تسعة عشر أو عشرين يوما، ثمّ انصرف إلى المدينة، فلمّا بلغ بكراع الغميم (2)نزلت عليه سورة الفتح، قال بعض الصحابة: ما هو بفتح، لقد صدّونا عن البيت، و صدّوا هدينا، فلمّا بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلامهم السوء، قال صلّى اللّه عليه و آله: «بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح (3)عن بلادهم، و سألوكم الصّلح، و التجأوا إليكم في الأمان، و رأوا منكم ما كرهوا، و ظفركم اللّه عليهم، و ردّكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم احد، و أنا أدعوكم في اخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاؤكم من فوقكم و من أسفل منكم؟ و إذ زاغت الأبصار، و بلغت القلوب الحناجر، و تظنّون باللّه الظنونا؟» .

فقال المسلمون: صدق اللّه و رسوله، هو أعظم الفتح، و اللّه يا نبي اللّه ما فكّرنا فيما فكّرت فيه، و لأنت أعلم باللّه و بأمره.

ثمّ أصاب الناس مجاعة شديدة، و همّوا أن ينحروا ظهورهم (4)، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ابسطوا أنطاعكم و عباءكم» ففعلوا ثمّ قال: «من كان عنده بقية من زاد و طعام فلينشره» ثمّ دعا لهم، ثمّ قال: «قرّبوا أوعيتكم» فأخذوا ما شاءوا، ملأوا أوعيتهم، و أكلوا حتى شبعوا؟ و بقي مثله، و قال صلّى اللّه عليه و آله لرجل من أصحابه: «هل من وضوء؟» (5)فجاءه بأداوة فيها ماء قليل، فأفرغها في قدح، و وضع راحلته الشريفة في ذلك الماء، فتوضأ المسلمون كلّهم به (6).

و روى القمي رحمه اللّه عن الصادق عليه السّلام، قال: «سبب نزول هذه السورة و هذا الفتح العظيم، أنّ اللّه عزّ و جلّ أمر رسوله في النوم أن يدخل المسجد الحرام و يطوف، و يحلق مع المحلّقين، فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا، فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن، و ساق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ستة و ستين بدنة، و أشعرها عند إحرامه، أحرموا من ذي الحليفة ملبيّن بالعمرة، و قد ساق من ساق منهم الهدي مشعرات مجلّلات.

فلمّا بلغ قريشا ذلك، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا، ليستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان

ص: 614


1- . تفسير روح البيان 9:7.
2- . كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز بين مكة و المدينة.
3- . البراح: الزوال و المغادرة.
4- . أي الدوابّ التي يركبونها أو تحمل أثقالهم.
5- . الوضوء-بالفتح-: الماء.
6- . تفسير روح البيان 9:6 و 7.

يعارضه على الجبال، فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر، فأذّن بلال، فصلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالناس، فقال خالد بن الوليد، لو حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم، فانّهم لا يقطعون صلاتهم، و لكن تجبيء لهم صلاة اخرى أحب إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصلاة الخوف.

فلمّا كان في اليوم الثاني نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالحديبية، و هي على طرف الحرم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستنفر الأعراب في طريقه معه، فلم يتبعه أحد، و يقولون: أيطمع محمد و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، إنّه لا يرجع محمد و أصحابه إلى المدينة أبدا.

فلمّا نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحديبية، خرجت قريش يحلفون باللات و العزّى لا يدعون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدخل مكّة و فيهم عين تطرف، فبعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنّي لم آت للحرب، و إنّما جئت لأقضي مناسكي، و أنحر بدني، و اخلّي بينكم و بين لحماتها.

فبعثوا عروة بن مسعود الثقفي، و كان عاقلا لبيبا، و هو الذي أنزل اللّه فيه: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فلمّا أقبلوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عظّم ذلك، و قال: يا محمد، تركت قومك و قد ضربوا الأبنية، و أخرجوا العوذ المطافيل (1)، يحلفون باللات و العزّى لا يدعوك تدخل مكّة و فيهم عين تطرف، أفتريد أن تبير أهلك و قومك يا محمد؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما جئت للحرب، و إنّما جئت لاقضي مناسكي، و أنحر بدني، و أخلّي بينهم و بين لحماتها. فقال عروة: و اللّه ما رأيت أحدا صدّكما صددت.

فرجع إلى قريش، فأخبرهم، فقالت قريش: و اللّه لئن دخل محمد مكّة، و تسامعت به العرب، لنذلنّ و لتجترئنّ علينا العرب. فبعثوا حفص بن الأحنف و سهيل بن عمرو، فلمّا نظر إليهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ويح قريش، قد نهكتهم الحرب، ألا خلّوا بيني و بين العرب، فإن أك صادقا فانّما أجر الملك إليهم مع النبوة، و إن أك كاذبا كفتهم ذؤبان العرب، لا يسألني اليوم امرؤ من قريش خطّة للّه فيها رضى (2)إلاّ أجبتهم إليه.

فلمّا وافوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قالوا: يا محمد، ألا ترجع عامك هذا إلى أن ننظر إلى ما يصير أمرك و أمر العرب، فانّ العرب تسامعت بمسيرك، فاذا دخلت بلادنا و حرمنا استذلّتنا العرب و اجترأت علينا، و نخلي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك و تنصرف عنّا.

ص: 615


1- . العوذ: الحديثة العهد بالنتاج من الابل و الخيل، و المطافيل: ذوات الطفل.
2- . في المصدر، و تفسير الصافي: سخط.

فأجابهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ذلك.

و قالوا: تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا، و نردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيهم، و لكن على أنّ المسلمين بمكة لا يؤذون في إظهارهم الاسلام، و لا يكرهون، و لا ينكرون عليهم شيئا يفعلونه من شرائع الاسلام، فقبلوا ذلك.

فلمّا أجابهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الصّلح أنكر عامة أصحابه، و اشدّ ما كان إنكار عمر، فقال: يا رسول اللّه، ألسنا على الحقّ، و عدوّنا على الباطل؟ قال نعم. قال: فنعطى الذلّة في ديننا؟ فقال: إنّ اللّه عز و جل وعدني و لن يخلفني. قال: لو أنّ معي أربعين رجلا لخالفته.

و رجع سهيل بن عمر و حفص بن الأحنف إلى قريش، و أخبراهم بالصّلح، فقال عمر: يا رسول اللّه، ألم تقل لنا: إنّا ندخل المسجد و نحلق مع المحلّقين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أمن عامنا هذا وعدتك؟ قلت لك: إنّ اللّه عز و جل قد وعدني أن أفتح مكة و أطوف و أسعى و أحلق مع المحلّقين فلمّا أكثروا عليه قال لهم: إن لم تقبلوا الصّلح فحاربوهم، فمرّوا نحو قريش و هم مستعدون للحرب، و حملوا عليهم، فانهزم أصحاب رسول اللّه ثمّ قال: يا علي، خذ السيف و استقبل قريشا، و أخذ أمير المؤمنين عليه السّلام سيفه، و حمل على قريش، فلمّا نظروا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام تراجعوا، ثمّ قالوا: يا علي، بدا لمحمد فيما أعطانا. قال: لا.

و تراجع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستحيين، و أقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ لستم أصحابي يوم بدر، و أنزل اللّه عز و جل فيكم إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ؟ (1)أ لستم أصحابي يوم احد إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ؟ (2)أ لستم أصحابي يوم كذا؟ فاعتذروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ندموا على ما كان منهم، و قالوا: اللّه أعلم و رسوله، فاصنع ما بدا لك.

و رجع سهيل بن عمرو و حفص بن الأحنف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالا: يا محمد، قد أجابت قريش إلى ما أشترطت من إظهار الإسلام، و أن لا يكره أحد على دينه. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمكتب (3)، و دعا أمير المؤمنين عليه السّلام، قال له: اكتب، فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو: لا نعرف الرحمن، اكتب كما كان يكتب آباؤك: باسمك اللهمّ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اكتب باسمك اللهم، فانّه اسم من أسماء اللّه، ثمّ كتب: هذا ما تقاضى عليه محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الملأ من قريش. فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنّك رسول اللّه ما حاربناك، أكتب: هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد اللّه،

ص: 616


1- . الأنفال:8/9.
2- . آل عمران:3/153.
3- . المكتب: قطعة أثاث يجلس عليها للكتابة.

أتانف من نسبك يا محمد؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنا رسول اللّه، و إن لم تقرّءوا. ثمّ قال: يا علي امح و اكتب: محمد بن عبد اللّه. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما أمحو اسمك من النبوة أبدا، فمحاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده، ثمّ كتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللّه و الملأ من قريش، و سهيل بن عمرو، اصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين، و على أن يكفّ بعض من بعض، و على أنّه لا إسلال و لا إغلال، و أنّ بيننا و بينهم عيبة مكفوفة، و أن من أحبّ أن يدخل في عهد محمد و عقده فعل، و من أحبّ أن يدخل في عهد قريش و عقدها فعل، و أنه من أتى محمدا بغير إذن وليه ردّه إليه، و أنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم تردّه إليه، و أن يكون الاسلام ظاهرا بمكة، و لا يكره أحد على دينه، و لا يؤذى و لا يعيّر، و أنّ محمدا يرجع عنهم عامه هذا و أصحابه، ثمّ يدخل عليها في العام القابل مكّة، فيقيم فيها ثلاثة أيام، و لا يدخل عليها بسلاح إلاّ سلاح المسافر: السيوف في القرب. و كتب علي بن أبي طالب و شهد على الكتابة المهاجرون و الأنصار.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة، فو الذي بعثني بالحقّ نبيا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها و أنت مضيض (1)مضطهد، فلمّا كان يوم صفيّن و رضوا بالحكمين، كتب: هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين على بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان. فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك، و لكن اكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب و معاويه بن أبي سفيان. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: صدق اللّه و صدق رسوله، أخبرني رسول اللّه بذلك.

قال: فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة، فقالت: نحن في عهد محمد رسول اللّه و عقده، و قامت بنو بكر و قالت: نحن في عهد قريش و عقدها، و كتبوا نسختين: نسخة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نسخة عند سهيل بن عمر، و رجع سهيل بن عمرو و حفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انحروا بدنكم، و احلقوا رؤوسكم، فامتنعوا و قالوا: ننحر و نحلق و لم نطف بالبيت، و لم نسع بين الصفا و المروة؟ ! فاغتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لذلك، و شكا ذلك عند امّ سلمة، فقالت: يا رسول اللّه، انحر أنت و احلق. فنحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حلق، فنحر القوم على حيث يقين و شكّ و ارتياب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعظيما للبدن: رحم اللّه المحلّقين. و قال: قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول اللّه، و المقصّرين؟ لأنّ من يسق هديا لم يجب عليه الحلق. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثانيا: رحم اللّه المحلّقين الذين لم يسوقوا البدن. فقالوا: يا رسول اللّه، و المقصّرين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: رحم اللّه المقصّرين.

ثمّ رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نحو المدينة، فرجع إلى التنعيم بمنزل تحت الشجرة، فجاء اصحابه الذين

ص: 617


1- . مضّ فلان من الشيء: ألم من وجع المصيبة، و أمضّه الشيء: بلغ من قلبه الحزن به، أي أحرقه و شقّ عليه.

انكروا عليه الصّلح، و اعتذروا و أظهروا الندامة على ما كان منهم، و سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستغفر لهم، فنزلت آية الرّضوان (1).

قال جمع من المفسرين: إنّ المراد بالفتح هو فتح الحديبية (2)، كما هو مدلول الروايتين السابقتين العامية و الصادقية.

و عن ابن عباس: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم (3). و عن الكلبي: ظهروا عليهم حتى سألوا الصّلح (4).

و عن الشّعبي: أنّ السورة نزلت بالحديبية، و أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك العزوة ما لم يصب في غزوة، حيث أصاب أن بويع بيعة الرّضوان، و غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و بلغ الهدي محلّه، و ظهرت الروم على فارس، ففرح به المسلمون (3).

و عن مجاهد: أنّه ما حصل له في تلك السنة من فتح خيبر (4). و قيل: هو جميع الفتوحات التي حصلت له صلّى اللّه عليه و آله (5).

و قيل: هو ما فتح من الاسلام و النبوة و الدعوة بالحجّة و السيف، و لا فتح أبين و أعظم منه، و هو رأس الفتوح كافّة، إذ لا فتح من فتوح الاسلام إلاّ و هو شعبة من شعبه و فرع من فروعه (6).

و عن قتادة: أنّه بمعنى الحكم و القضاء، و المعنى أنّا قضينا لك أن تدخل مكّة من قابل (7). و الأظهر هو الأول، و قد أيّد بوجوه تعدّ من وجوه النّظم:

منها: أنّ فتح مكّة كان فيه غنائم كثيرة اضعاف ما أنفقوا، فكان مناسبا لما في آخر السورة السابقة وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ (8)لضياع تلك الغنائم الكثيرة عليه و حرمانه منها بسبب بخله عن الانفاق.

و منها: أنّه تعالى قال في السورة السابقة: فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ (9)يعني لا تسألوا الصّلح، بل اصبروا حتى يسأل المشركون منكم الصّلح و الأمان، كما كان في فتح مكّة حيث أنّ صناديد قريش جاءوا إلى المسلمين مؤمنين أو مستأمنين.

و منها: أنه تعالى قال في السورة السابقة: وَ اَللّهُ مَعَكُمْ و قال: وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ و يكون فتح مكّة

ص: 618


1- . تفسير القمي 2:309، تفسير الصافي 5:33.
2- . تفسير الرازي 28:77. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 8:103.
3- . تفسير أبي السعود 8:104.
4- . تفسير أبي السعود 8:103.
5- . تفسير أبي السعود 8:104.
6- . تفسير أبي السعود 8:104.
7- . تفسير أبي السعود 8:104.
8- . محمد صلّى اللّه عليه و آله:47/38.
9- . محمد صلّى اللّه عليه و آله:47/35.

شاهدا عليه.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ بيّن سبحانه غاية الفتح و فائدته المترتّبة عليه بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ يا محمد اَللّهُ العظيم القادر على كلّ شيء بسبب الفتح الذي فيه إعلاء كلمته و ترويج دينه بمكابدة مشاقّ الحروب و اقتحام موارد الخطوب ما تَقَدَّمَ على الفتح مِنْ ذَنْبِكَ و ما فرط منك من إقبالك إلى عالم الخلق و توجّهك إلى غيره لأداء وظيفة الرسالة، أو من تركك الأولى و الأفضل الذي هو ذنب في حقّك وَ ما تَأَخَّرَ منه.

لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (1) وَ يَنْصُرَكَ اَللّهُ نَصْراً عَزِيزاً (2)و قيل: إنّ المعنى ليعرف أنّ اللّه يغفر لك ذنوبك، فانّ الناس كانوا يعتقدون بعد عام الفيل أنّ اللّه لا يسلّط على مكة عدوّه المسخوط عليه، بل لا يفتحها و لا يسلّط عليها إلاّ حبيبه المغفور له (3).

و قيل: إنّ فتح مكّة لمّا صار سببا لتسهيل الحجّ عليه و على امّته، و يكون الحجّ سببا لغفران الذنوب، بيّن سبحانه أنّ الفتح سبب لغفران ذنوبك إن كان لك ذنب، حتى يعلم الناس ما في الحجّ من الثواب (2).

قيل: إنّه بعد ما ثبت عصمته لا بدّ من القول بكون المراد ذنب امّته، و خطابه من باب: إياك أعني و اسمعي يا جارة (3).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال عليه السّلام: «ما كان له ذنب، و لا همّ بذنب، و لكن اللّه حملّه ذنوب شيعته، ثمّ غفرها له» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عنها. فقال: «و اللّه ما كان له ذنب، و لكن اللّه تعالى ضمن له أن يغفر ذنوب شيعته على ما تقدّم من ذنبهم و ما تأخر» (5).

ثمّ بيّن سبحانه فائدته الاخرى بقوله: وَ يُتِمَّ و يكمل بفضله نِعْمَتَهُ التي أعظمها إعلاء كلمة الحقّ و ضمّ الملك و النبوة، أو إتمام التكاليف عَلَيْكَ فانّ جميع ذلك حصل بعد فتح مكّة وَ يَهْدِيَكَ في تبليغ الرسالة، و إقامة مراسم الرئاسة صِراطاً مُسْتَقِيماً.

ص: 619


1- . مجمع البيان 9:168، تفسير الرازي 28:78.
2- . تفسير الصافي 5:37.
3- . تفسير الرازي 28:78.
4- . تفسير القمي 2:314 مجمع البيان 9:168، تفسير الصافي 5:37.
5- . مجمع البيان 9:168، جوامع الجامع:452، تفسير الصافي 5:37.

قيل: إنّه حصل بعد فتح مكّة من اتّضاح سبيل الحقّ و استقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا قبله (1)

وَ يَنْصُرَكَ اَللّهُ يا محمد، بذلك الفتح العظيم، على أعدائك نَصْراً عَزِيزاً و قويا و منيعا، أو عزيزا صاحبه، أو نفيسا يقلّ مثله، و إنّما ذكر سبحانه الاسم الجليل لإظهار كمال العناية بذلك النصر، و لكونه خاتمة الغايات.

قيل: إنّه لم يبق بعد الفتح عدوّ يعتنى به، فانّ أغلب العرب صاروا مؤمنين أو مستأمنين (2).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ بيّن سبحانه ما هو وسيلة نصره في الظاهر بقوله: هُوَ المتفضّل اَلَّذِي أَنْزَلَ برحمته و فضله اَلسَّكِينَةَ و الطّمأنينة.

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اَللّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)و عنهما عليهما السّلام: «هو الايمان» فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ (3)و جعل فيها بلطفه ثباتا و قرارا، لا تماجّ و لا تزلزل من مشاهدة شوكة العدوّ و قوته و كثرته لِيَزْدادُوا إِيماناً و يقينا بنصر اللّه، فكأنه صار إيمان مقرونا مَعَ إِيمانِهِمْ وَ يقين مضافا إلى يقينهم، أو المراد لينضمّ يقينهم بالأحكام الإلهية بيقينهم بالتوحيد و المعاد، أو يزداد إيمانهم بصدق الرسول على إيمانهم بالتوحيد، أو يزداد إيمانهم الاستدلالي بايمانهم الفطري، و الحال أن لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الملائكة و الجنّ و سائر الحيوانات، بل سائر الموجودات من المياه و الرياح و النار و الرعود و الصواعق و الزلازل و غيرها، فلا حاجة له في نصرة نبيه إلى المؤمنين، بل هو قادر على إهلاك أعدائه بإرادته من غير حاجة إلى الجنود من خلقه.

ثمّ بيّن علمه و إحاطته بالقلوب القابلة لنزول السكينة فيها، و مقدار إيمان المؤمنين و عدد جنوده من الموجودات بقوله: وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بكلّ شيء ذاتا و قابلية و عددا و حَكِيماً في تقديره و تدبيره، يوجد كلّ شيء في محلّه، و يعامل مع كلّ شيء بما يستحقّه،

و إنّما أراد ازدياد الايمان في القلوب لِيُدْخِلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ يوم القيامة بإزاء إيمانهم جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار

ص: 620


1- . تفسير أبي السعود 8:104، تفسير روح البيان 9:10.
2- . تفسير نور الثقلين 5:56.
3- . الكافي 2:12/1، و:13/4، تفسير الصافي 5:39.

كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، ليزداد صفاؤها و بهاؤها و طراوتها (1)وَ يُكَفِّرَ و يستر عَنْهُمْ في تلك الجنّات سَيِّئاتِهِمْ و خطاياهم و زلاّتهم، لئلا يذكرونها فينقص عيشهم الخجلة و الانفعال من ربّهم، و ان صارت مغفورة.

و قيل: يعني يستر عنهم فيها الأدناس الجسمانية كالفضلات، و النفسانية كالغضب و الكبر و الحسد و غيرها، و سترها بازالتها عنهم (2). أو المراد مغفرة ذنوبهم في الآخرة قبل دخول الجنة، و إنما قدّم دخولهم في الجنة على تكفير معاصيهم، مع أنّ وجودهما بالعكس للمسارعة إلى بيان الطلب الأعلى (3).

قيل: إنّ الجملتين متعلقان بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ بناء على أن المراد من ذنبه ذنب امّته، و المعنى ليغفر لك اللّه ذنب امّتك، ليدخل المؤمنين إلى آخره (4).

و قيل: إنّهما متعلّقان بقوله تعالى: وَ يَنْصُرَكَ اَللّهُ و المعنى لينصرك اللّه بالمؤمنين، ليدخل المؤمنين و المؤمنات (5)إلى آخره.

و احتمل تعلّقهما بقوله: إِنّا فَتَحْنا لَكَ حيث روي أنّ المؤمنين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله: هنيئا لك، إن اللّه غفر لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخرن فما ذا لنا؟ فنزلت هذه الآية، و المعنى: فتحنا لك ليدخل المؤمنين (6).

و لا يخفى أنّ الكلّ في غاية البعد غير الأول، و الأبعد من الكلّ، ما قاله أبو السعود من تعلّقهما بما يدلّ عليه قوله: وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من معنى التصرّف و التدبير، و المعنى أنّه تعالى دبّر ما دبّر من تسليط المؤمنين، ليعرفوا نعمة اللّه في ذلك و يشكروها، فيدخلهم الجنة، و يكفّر عنهم سيئاتهم (4).

وَ كانَ ذلِكَ المذكور من دخول الجنة، تكفير السيئات عِنْدَ اَللّهِ و في علمه فَوْزاً عَظِيماً و ظفرا كاملا بأعلى المقاصد.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 6

وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكاتِ اَلظّانِّينَ بِاللّهِ ظَنَّ اَلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6)

ص: 621


1- . لم يذكر المصنف تفسير قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها.
2- . تفسير الرازي 28:83.
3- . تفسير روح البيان 9:14. (4و5و6) . تفسير الرازي 28:83.
4- . تفسير أبي السعود 8:105.

ثمّ بيّن سبحانه غاية اخرى لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين و ازدياد إيمانهم بقوله: وَ يُعَذِّبَ اللّه بسبب إنزال السّكينة في قلوبهم و ازدياد إيمانهم و قوّتهم و كثرتهم اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ من أهل المدينة وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكاتِ من أهل مكة اَلظّانِّينَ بِاللّهِ في حقّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به ظَنَّ اَلسَّوْءِ و الحسبان القبيح الفاسد، أو حسبان الأمر السوء و الفاسد، و هو ظنّهم و حسبانهم أنّ اللّه لا ينصر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، بما قدّمهم على المشركين، حيث حسبوا أنه لا ينصرهم، و أنّه لا يرجع أحد منهم إلى أهله أبدا، و لذا تخلّف عنه المنافقون الذين هم أسوأ حالا من المشركين، و أولى بالعذاب منهم، و لذا قدّمهم على المشركين في الذكر.

ثمّ أكذب اللّه ظنّهم، و قلب ما يظنّونه بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين عليهم بقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ في الدنيا، و حائق بهم ما يكرهونه من الفساد و الخذلان و الحرمان عن جميع المطالب. و قيل: إنّه دعاء عليهم (1)، كقوله: قاتَلَهُمُ اَللّهُ.

وَ غَضِبَ اَللّهُ في الدنيا و الآخرة عَلَيْهِمْ أشدّ الغضب وَ لَعَنَهُمْ و طردهم عن ساحة رحمته وَ أَعَدَّ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة جَهَنَّمَ يصلونها وَ ساءَتْ جهنّم مَصِيراً و مرجعا لهم، و في عطف اللعن و ما بعده بالواو مع اقتضاء كون اللّعن مسبّبا عن الغضب، و إعداد جهنّم لهم مسبّبا عن اللعن، عطفهما بإلفاء إشعار باستقلال كلّ من الثلاثة في الوعيد.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ إنه تعالى بعد بيان قدرته على نصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بكون جنود السماوات و الأرض له، بيّن قدرته على تعذيب المنافقين و المشركين في الدنيا و الآخرة بقوله: وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ.

وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (8)قيل: إنّ المراد بالجنود في الآية الاولى جنود الرحمة، و لذا وصف ذاته المقدّسة بالعلم باستحقاق النفوس الزكية، بالحكمة البالغة، و المراد منها في الآية جنود العذاب، و لذا وصف ذاته بالعزّة و الحكمة (2).

وَ كانَ اَللّهُ أزلا و أبدا عَزِيزاً و قديرا على كلّ شيء و حَكِيماً في افعاله، لا يعذّب أحدا إلاّ باستحقاقه، و لا يفعل شيئا إلاّ على مقتضى الحكمة و الصواب، فانّ عادته تعالى توصيف ذاته

ص: 622


1- . تفسير روح البيان 9:15.
2- . تفسير أبي السعود 8:106، تفسير روح البيان 9:16.

بالعزّة في مقام ذكر العذاب و الانتقام.

روي أنّ عبد اللّه بن أبي بن أبي سلول، قال: هب أنّ محمدا هزم اليهود و غلب عليهم، فكيف استطاعته بفارس و الروم؟ فقال اللّه تعالى: وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و هم أكثر عددا و أقوى من فارس و الروم (1).

ثمّ إنّه تعالى بعد بشارة رسوله صلّى اللّه عليه و آله بالفتح، بيّن مناصبة الجليلة الموجبة لغاية الإلطاف بقوله: إِنّا أَرْسَلْناكَ يا محمد، و بعثناك على أمّتك لتكون شاهِداً على تصديق من صدّقك، و تكذيب من كذّبك و عصى من أمّتك يوم القيامة، أو شاهدا بين الناس على وحدانية اللّه كما في آية شَهِدَ اَللّهُ (2)وَ مُبَشِّراً للمؤمنين المطيعين بالثواب وَ نَذِيراً للكفّار و العاصين بالعذاب.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب إلى الناس، و بيّن غاية الإرسال و التبشير بقوله: لِتُؤْمِنُوا أيّها الناس بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ الذي أرسله إليكم، و تنصروا اللّه وَ تُعَزِّرُوهُ و تقوّوه بتقوية رسوله و نصرة دينه وَ تُوَقِّرُوهُ و تعظّموه بإطاعة أوامره و السجود له وَ تُسَبِّحُوهُ و تنزّهوه من كلّ ما لا يليق به بقوله سبحان اللّه بُكْرَةً و صباحا وَ أَصِيلاً و مساء و غدوّا و عشيا.

لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (9) إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اَللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)قيل: إنّما خصّ سبحانه الوقتين بالتسبيح، لشرافتهما، و لظهور آثار القدرة فيهما، و لذا ورد عن الأئمّة الأطهار عليه السّلام تأكّد استحباب التسبيح قبل طلوع الشمس و قبل غروبها (3).

و قيل: لما كان المشركون يجتمعون لعبادة الأصنام في الكعبة في الوقتين، أمر اللّه عباده بخلاف ما كان عليه المشركون (4).

و عن ابن عباس: اريد من التسبيح بكرة صلاة الفجر، و بالأصيل صلاة الظهر و العصر (5).

و قيل: اريد بالبكرة صلاة الفجر، و بالأصيل بقية الصلاة (6).

و قيل: إنّ ذكر الوقتين كناية عن الدوام (7).

ص: 623


1- . تفسير روح البيان 9:16.
2- . آل عمران:3/18.
3- . وسائل الشيعة 7: باب 25 و 47.
4- . تفسير الرازي 28:86.
5- . تفسير أبي السعود 8:106، تفسير روح البيان 9:18.
6- . تفسير روح البيان 9:18.
7- . تفسير الرازي 28:86، تفسير روح البيان 9:18.

و قيل: إنّ الضمائر كلّها راجعة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ليس بشيء (1).

ثمّ لمّا أعلن سبحانه برسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله بيّن أنّ يده بمنزلة يده، و بيعته بمنزلة بيعته بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ و يعاهدون معك يا محمد على اتّباعك و طاعتك، و تفدية أنفسهم دونك إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ لأنّك نائبة و مظهره، و قصدك من أخذ بيعتهم أخذ بيعتهم للّه على طاعته و الجهاد في سبيله، فيدك حين البيعة فوق أيديهم، كأنّها يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ و فيه غاية التعظيم ليد الرسول.

عن ابن عباس: يعني يد اللّه بالثواب، و ما وعدهم على بيعتهم من الجزاء، فوق أيديهم بالتصديق و الوفاء (2).

و قيل: يعني قوّة اللّه في نصرة نبيه صلّى اللّه عليه و آله فوق نصرتهم إيّاه، و المراد ثق بنصرة اللّه لا بنصرتهم و إن بايعوك (3).

و قيل: يعني نعمة اللّه عليهم بنبيه صلّى اللّه عليه و آله فوق أيديهم بالطاعة بالمبايعة (4).

و قيل: إنّه كناية عن حفظ اللّه تلك البيعة، فانّ العرب كانوا إذا تصافقوا للبيع وضع ثالث يده على أيدي المتبايعين، و يحفظ يديهما إلى أن يتمّ العقد لا يترك احدهما ان يقبض يده إلى نفسه و يفارق صاحبه قبل اتمام البيع (5).

ثمّ هدّد سبحانه ناقضين العهد و البيعة بقوله: فَمَنْ نَكَثَ البيعة، و نقض عهده مع النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أعرض عن طاعته و اتّباعه و فرض الجهاد معه فَإِنَّما يَنْكُثُ بيعته و ينقض عهده، و كان ضرره عَلى نَفْسِهِ لا يتخطّاه إلى غيره وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اَللّهَ من الطاعة و ضرب السيوف بين يدي نبيّه صلّى اللّه عليه و آله حتى يظهره اللّه على عدوّه أو يقتلوا، و استقام عليه و ثبت فَسَيُؤْتِيهِ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا لا يقادر قدره.

قيل: أبقى ضمّ هاء (عليه) توسّلا إلى تفخيم لام الجلالة (3).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 11

ثمّ لمّا ذكر سبحانه وجوب الثبات على بيعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و حرمة ظنّ السوء باللّه تعالى، ذكر نقض

سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)

ص: 624


1- . تفسير روح البيان 9:18.
2- . مجمع البيان 9:172. (3و4و5) . تفسير روح البيان 9:20.
3- . تفسير روح البيان 9:21.

المنافقين بيعته و ظنّهم السوء باللّه بقوله: سَيَقُولُ لَكَ المنافقون اَلْمُخَلَّفُونَ و المتقاعدون عن الخروج مع النبي صلّى اللّه عليه و آله مِنَ اَلْأَعْرابِ قيل: هم أسلم (1). و قيل: جهنية و مزينة و غفّار، فانّهم استنفرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبية فتخلّفوا، و اعتلّوا بعد مراجعة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و اعتذروا بأنّا (2)شَغَلَتْنا و منعتنا عن متابعتك في سفرك أَمْوالُنا التي تكون بأيدينا، فانّا لو كنّا خرجنا معك تلفت و تشتّت و فاتت عنّا منافعها، و كذا منعتنا عيالاتنا وَ أَهْلُونا عن الخروج، فانّه لم يكن لنا من يخلفنا فيهم، و يقوم بامورهم و مصالحهم، و يحميهم عن الضياع و الهلاك، مع أنّ حفظهم أهمّ الامور، و إن كان في القعود عنك ذنب و تقصير منّا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ربّنا ليغفر لنا ذلك الذنب و التقصير.

ثمّ كذّب سبحانه اعتذارهم، و طلب استغفارهم بقوله: يَقُولُونَ لك بِأَلْسِنَتِهِمْ و أفواههم ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ من الايمان و العذر و النّدم، بل ما أقعدهم إلاّ الشكّ و النفاق و سوء الظنّ باللّه، حيث كانوا يقولون: إنّ قريش كانوا يقاتلون عن باب المدينة، فكيف حالهم إذا دخل المسلمون في بلادهم. ثمّ أمر اللّه رسوله بإبطال عذرهم بقوله: قُلْ يا محمد لهم، إن كنتم تخلّفتم لحفظ أموالكم و أهليكم فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ و يقدّر لأجلكم مِنَ مشيئة اَللّهِ و قضائه شَيْئاً يسيرا من النفع إِنْ أَرادَ اللّه ان يحل بِكُمْ ضَرًّا من هلاك الأهل و المال و ضياعهما حتى تتخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لحفظهما و دفع الضرر الوارد عليكم بتلفهما أَوْ من يقدر على إضراركم إن أَرادَ اللّه أن يوصل بِكُمْ نَفْعاً من حفظ أموالكم و أهليكم، فاذا كان الضرر و النفع بارادة اللّه و مشيئته، فلا ينفع القعود عن متابعة النبي صلّى اللّه عليه و آله في حفظ أموالكم و أهليكم من الضّياع، و لا يؤثر خروجكم في هلاكهما، ليس الأمر كما تقولون بَلْ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال التي من جملتها تخلّفكم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله خَبِيراً و بصيرا.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ أخبر سبحانه بما في قلوبهم بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ و توهّمتم أيّها المتخلّفون لعدم إيمانكم أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ و لن يرجع اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ به الذين اتّبعوه في الخروج إلى مكّة إِلى أَهْلِيهِمْ و عشائرهم الذين كانوا في المدينة أَبَداً و أصلا، و تخيّلتم إن كنتم معهم أن يصيبكم مثل ما

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)

ص: 625


1- . تفسير البيضاوي 2:408، تفسير أبي السعود 8:106، تفسير روح البيان 9:26.
2- . تفسير البيضاوي 2:408، تفسير أبي السعود 8:106، تفسير روح البيان 9:26.

يصيبهم وَ زُيِّنَ من قبل الشيطان ذلِكَ الظنّ و التوهّم فِي قُلُوبِكُمْ حتى قطعتم به.

ثمّ قبح سبحانه ذلك الظنّ بقوله: وَ ظَنَنْتُمْ أيّها المخلّفون ظَنَّ اَلسَّوْءِ و توهّمتم التوهّم القبيح الفاسد وَ كُنْتُمْ بذلك الظنّ، و صرتم بهذا التوهّم قَوْماً بُوراً و جمعا هالكين.

و قيل: إنّه بيان لعلّة ظنّهم، و هي كونهم في الأصل قوما هالكين فاسدين مستوجبين سخط اللّه و عقابه (1)، لخبث ذواتهم و نيّاتهم.

ثمّ هدّدهم سبحانه بعذاب الآخرة بقوله: وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ إيمانا خالصا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ عن صميم القلب، سواء أظهر الكفر كالمشركين، أو أظهر الايمان كالمنافقين، فهو كافر فَإِنّا أَعْتَدْنا و هيّأنا لِلْكافِرِينَ مطلقا في الآخرة سَعِيراً و نارا ملتهبة لا يدرك أحد في الدنيا شدّة حرّها.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ إنّه تعالى بعد وعد المؤمنين بالمغفرة و الجنّة، و وعيد المنافقين و المشركين بالعذاب، نبّه على سعة قدرته تهويلا للقلوب بقوله: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السّلطنة المطلقة التامة في عالم الوجود بحيث يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، فهو تعالى يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذّبه بمقتضى عدله و حكمته، بلا دخل لأحد في شيء منهما إيجادا و إعداما.

وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً (15)ثمّ أعلن سبحانه بسعة رحمته، لترغيب الناس إلى التوبة و الرجوع إليه بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً لذنوب التائبين رَحِيماً بمن آمن و أصلح.

قيل: إنّه عليه السّلام لمّا تمّ صلح الحديبية أخبر أصحابه بفتح خيبر، و اختصاص غنائمه بالحاضرين في الحديبية من المؤمنين (2).

ثمّ رجع صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه إلى المدينة في ذي الحجّة سنة ستّ، و أقام بها بقية الشهر من سنة سبع، ثمّ عزم في محرم سنة سبع على الخروج إلى خيبر، فاستدعى المنافقون أن يخرجوا مع المؤمنين، فأكذب سبحانه اعتذارهم عن الخروج إلى مكّة بقوله: سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ المذكورون لكم: ايّها

ص: 626


1- . تفسير أبي السعود 8:107، تفسير روح البيان 9:28.
2- . تفسير أبي السعود 8:108، تفسير روح البيان 9:29.

النبي و المؤمنون إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ و حين ذهبتم إِلى مَغانِمَ خيبر لِتَأْخُذُوها و تحوزوها ذَرُونا و اتركونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر و نشهد معكم قتال أهلها، فانّهم إن كانوا حين خروجكم إلى مكّة صادقين في اعتذارهم باشتغالهم بحفظ أموالهم و أهليهم، فما بالهم يسألونكم ذلك مع بقاء عذرهم اليوم أيضا، فظهر أنّهم كانوا كاذبين في اعتذارهم بعد رجوعكم من مكة، و ليس غرضهم من سؤالهم ذلك أن يعينوكم في الجهاد مع الكفّار بل يُرِيدُونَ أَنْ يشاركوكم في الغنائم و يُبَدِّلُوا و يغيّروا كَلامَ اَللّهِ و وعده باختصاص غنائم خيبر بأهل الحديبية، كما عن ابن عباس (1). أو أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن لا يكون معه إلاّ أهل الحديبية (2)، أو قوله تعالى: غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ و أنّه يعاقبهم، فانّهم لو اتّبعوهم كانوا ممّن رضى اللّه عنه.

فأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأنّ ينهاهم عن الخروج معه بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: لَنْ تَتَّبِعُونا و لا تكونون معنا في سفرنا إلى خيبر كَذلِكُمْ القول الذي قلت لكم قالَ اَللّهُ مِنْ قَبْلُ عند انصرافي من الحديبية فَسَيَقُولُونَ للمؤمنين عند سماع هذا النهي: ليس ذلك النهي حكم اللّه بَلْ أنتم تَحْسُدُونَنا و تريدون منعنا من هذه النعمة التي نستحقّها.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ ردّ اللّه عليهم كما ردّوا على المؤمنين بقوله: بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ و لا يفهمون إِلاّ قَلِيلاً و هو ظاهر النهي لا حكمته و واقعه، فلذا حملوه على ما أرادوا، و علّلوه بالحسد، أو إلاّ فهما قليلا،

و هو فطنتهم لامور الدنيا دون امور الدين قُلْ يا محمد لِلْمُخَلَّفِينَ عن متابعتك عند الخروج إلى مكّة مِنَ اَلْأَعْرابِ المنافقين الذين سألوا الإذن في متابعتك إلى خيبر، و إنّما ذكر الوصف مقام الضمير إيذانا بغاية ذمّهم و شناعة تخلّفهم: إن كنتم تشتاقون إلى الجهاد في سبيل اللّه، فاعلموا أنّكم سَتُدْعَوْنَ من قبلي إِلى جهاد قَوْمٍ من الكفّار أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ و ذوي قوّة و نجدة و شهامة في الحرب. قيل: هم قبيلة هوازن و ثقيف (3). و قيل: هم بنو حنيفة، كانوا من أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذّاب (4)، فانّه كان أوّل غزوهم في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إن طال إلى زمان أبي بكر.

سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)

ص: 627


1- . مجمع البيان 9:174.
2- . مجمع البيان 9:174.
3- . مجمع البيان 9:176، تفسير الصافي 5:41، تفسير روح البيان 9:31.
4- . تفسير أبي السعود 8:109، تفسير روح البيان 9:30.

في ردّ استدلال

بعض العامة على

إمامة أبي بكر

ثمّ كأنه قيل: لماذا ندعى، فأجاب سبحانه بقوله: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ لا يكون إلاّ أحد الأمرين، إمّا المقاتلة، و إمّا الاسلام فَإِنْ تُطِيعُوا أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله، و تجيبوا دعوته يُؤْتِكُمُ اَللّهُ على طاعتكم أَجْراً حَسَناً في الدنيا و هو الغنيمة و حسن الذّكر، و في الآخرة و هو الجنّة و نعمها وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عن إجابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و تعرضوا عن إطاعته كَما تَوَلَّيْتُمْ عن دعوته و تخلّفتم عن الخروج معه مِنْ قَبْلُ في الحديبية كفرا و نفاقا يُعَذِّبْكُمْ اللّه عَذاباً أَلِيماً في الدنيا بالخزي و الحرمان من كلّ خير، و في الآخرة بالنار، فجعل اللّه لصدقهم في الايمان و دعوى الخلوص علامة، و هي إجابة دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الجهاد، لا دعوة غيره كأبي بكر كما ادّعاه بعض العامة، فاستدلال بعضهم بالآية على إمامة أبي بكر بتقريب أنّ اللّه وعد الأجر الحسن على إطاعة دعوة الداعي إلى الجهاد قوم أولي بأس، و كان الداعي إليه أبو بكر، فكانت إطاعته واجبة، في غاية الوهن و الفساد (1).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 17 الی 19

ثمّ إنّه تعالى بعد إيجاب إجابته دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الجهاد، رخّص للمعذورين التخلّف بقوله:

لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ و إثم في التخلّف عن الجهاد وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ و من برجله شلل حَرَجٌ و ضيق و إثم وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ الذي يكون به الضّعف عن القتال حَرَجٌ و إثم لعجز الفرق الثلاث عن الكرّ و الفرّ في القتال وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في أوامرهما و نواهيهما يُدْخِلْهُ اللّه في الآخرة جَنّاتٍ ذات قصور و أشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة وَ مَنْ يَتَوَلَّ عن طاعة أحكامهما، و يعصي أوامرهما يُعَذِّبْهُ اللّه في الآخرة عَذاباً أَلِيماً لا يمكن وصفه إلاّ بنهاية الإيلام.

ثمّ لمّا ذكر اللّه غضبه على الكفّار و المنافقين، أعلن برضاه عن المؤمنين المخلصين بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ و شملتهم الرحمة الخاصّة إِذْ يُبايِعُونَكَ و حين يعاهدونك على

ص: 628


1- . تفسير روح البيان 9:31.

طاعتك، و جهاد أعدائك (1)، و الضرب بالسيف دونك حتى يظهرك اللّه على عدوّك تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ المعهودة. قيل: هي شجرة السّدر (2). و قيل: هي شجرة سمرة، و هي أم غيلان (3). روى بعض العامة: أنّ عمر قطعها (4)، و هو من مطاعنه.

فَعَلِمَ اللّه ما فِي قُلُوبِهِمْ من الصدق و الاخلاص حين مبايعتهم، فصارت هذه البيعة المقرونة بعلم اللّه بصدقهم سببا لرضا ربّهم عنهم فَأَنْزَلَ اللّه اَلسَّكِينَةَ و الطمأنينة بالنصر و الثبات على الايمان عَلَيْهِمْ بتقوية إيمانهم حتى بايعوك على الموت.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنا أول من بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحت الشجرة» (5).

وَ أَثابَهُمْ اللّه و جازاهم على بيعتهم عن الصدق و الاخلاص فَتْحاً قَرِيباً و هو فتح خيبر الذي حصل لهم بعد انصرافهم من الحديبية

وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً من اليهود يَأْخُذُونَها و يحوزونها عوض ما فات منهم من غنائم مكّة وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً كامل القدرة لا يحتاج إلى إعانتكم إياه حَكِيماً حيث جعل إذلالكم أعداءكم بأيديكم لتفوز و بالثواب، و تنالوا عزّ الدنيا و الآخرة.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 20

ثمّ لمّا كانت العرب كثيرة الطمع في الغنيمة، و كان مجال توهّم أن لا تكون لهم إلاّ غنيمة خيبر، دفع اللّه سبحانه هذا التوهّم مخاطبا لهم بقوله: وَعَدَكُمُ اَللّهُ أيّها المسلمون مضافا إلى غنيمة خيبر مَغانِمَ اخرى كَثِيرَةً من العرب كهوازن و ثقيف تَأْخُذُونَها و تحوزونها في أوقاتها المقدّرة لكلّ منها فَعَجَّلَ اللّه لَكُمْ يا أهل الحديبية هذِهِ الغنائم التي تأخذونها من أهل خيبر وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّاسِ عَنْكُمْ و منعهم مع كثرتهم من قتالكم إتماما للمنّة عليكم، لتطيب بهذه الغنيمة الباردة نفوسكم من غير مسّ مرّ القتال، لئلا تقولوا إنّ هذه الغنيمة فائدة قتالنا و تعبنا.

وَعَدَكُمُ اَللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)و قيل: إنّ المراد كفّ أيدي قبائل أسد و غطفان أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بعد خروجهم إلى خيبر بالقاء الرّعب في قلوبهم (6).

وَ لِتَكُونَ هذه الغنيمة آيَةً و علامة لِلْمُؤْمِنِينَ كافة، يعرفون بها صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله في وعده إياهم بخير الدنيا و الآخرة، كما صدق وعده إياكم بفتح خيبر و غنائمه وَ يَهْدِيَكُمْ بلطفه

ص: 629


1- . في النسخة: و الجهاد مع أعدائك.
2- . تفسير أبي السعود 8:110، تفسير روح البيان 9:33.
3- . تفسير روح البيان 9:33.
4- . تفسير روح البيان 9:34.
5- . تفسير القمي 2:268، تفسير الصافي 5:42.
6- . تفسير أبي السعود 8:110، تفسير روح البيان 9:35.

صِراطاً مُسْتَقِيماً و طريقا موصلا إلى قربه و مرضاته، و هو التوكّل عليه و التفويض إليه.

في كيفية غزوة

خيبر و فتحها

قيل: إنّ خيبر اسم حصن معروف سمي باسم رجل من العماليق نزلها، و كان أخا يثرب الذي سميّت المدينة الطيبة باسمه (1).

و قيل: إنّ خيبر بلسان اليهود هو الحصن، و كانت مدينة كبيرة بينها و بين المدينة اثنان و ثلاثون فرسخا، و فيها حصون و مزارع و نخل كثير.

ثمّ رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الحديبية إلى المدينة فأقام بها قريبا من الشهر، ثمّ استنفر من حوله ممّن شهد الحديبية، و أمر مناديا ينادي: لا يخرج الضعيف، و لا من له مركب صعب، فخالف واحد من الصحابة، فنفر مركوبه فصرعه فكسر فخذه فمات، و جاء المخلّفون عنه في الخروج إلى الحديبية، فسألوا الإذن في الخروج معه رجاء الغنيمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، أمّا الغنيمة فلا، و أخرج معه من نسائه امّ سلمة، فلمّا أشرف على خيبر، و كان وقت الصبح، رأى عمّالها و قد خرجوا بمساحيهم و قففهم، قالوا: محمد و جيشه العظيم! و أدبروا هربا إلى حصونهم، و كان بها عشرة آلاف مقاتل (2). و قيل: سبعون ألفا، و معهم حلفاؤهم من بني أسد و غطفان، فقذف اللّه في قلوبهم الرّعب (3).

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اللّه أكبر، خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباحهم، و ابتدأ من حصونهم بحصون النطاة، و أمر بقطع نخلها، فقطعوا أربعمائة نخلة، ثمّ نهاهم عن القطع، فمكث سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة، فلم يرجع من أعطى له الراية بفتح، ثمّ قال: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبانه، يفتح اللّه على يديه» فتطاول لها أبو بكر و عمر و بعض الصحابة من قريش، فدعا عليا عليه السّلام و به رمد، فتفل في عينيه، ثم أعطاه الراية، و كانت بيضاء مكتوب فيها لا إله إلاّ اللّه، محمد رسول اللّه، بالسواد. فقال علي عليه السّلام: «على ما اقاتلهم يا رسول اللّه؟» قال: «على أن يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّي رسول اللّه، فاذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم و أموالهم» .

و ألبسه صلّى اللّه عليه و آله درعه الحديد، و شدّ سيفه ذا الفقار في وسطه، و وجّهه إلى الحصن، و قال: «لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم [أي من الابل النفيسة التي]تصّدّق بها في سبيل اللّه» .

فخرج علي عليه السّلام بالراية يهرول حتى ركزها تحت حصن الحارث أخي مرحب، و كان معروفا بالشجاعة، فتضاربا فقلته علي عليه السّلام، و انهزم اليهود إلى الحصن، ثمّ خرج إليه مرحب سيد اليهود، و هو

ص: 630


1- . تفسير روح البيان 9:36.
2- . تفسير روح البيان 9:36.
3- . تفسير روح البيان 9:35.

يرتجز و يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحب *** شاكي السلاح البطل المجرّب

و ارتجز علي عليه السّلام، و قال:

أنا الذي سمّتني امّي حيدرة *** ضرغام آجام و ليث قسورة

فضرب عليا عليه السّلام فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ عليه السّلام بابا كان عند الحصن، فتترّس به عن نفسه، فلم يزل يقاتل و هو في يده حتى قتل مرحبا، و فتح اللّه عليه الحصن، و هو حصن ناعم من حصون النطاة، و ألقى الباب من وراء ظهره ثمانين شبرا.

ثمّ انتقل النبي صلّى اللّه عليه و آله من حصن ناعم إلى حصن العصب من حصون النطاة، فاقاموا على محاصرته يومين حتى فتحه اللّه، و ما بخيبر حصن أكثر طعاما منه، كالشعير و السّمن و التمر و الزيت و الشحم و الماشية و المتاع.

ثمّ انتقلوا إلى حصن قلة، و هو حصن منيع، آخر حصون النطاة، فقطعوا عنهم ماءهم، ففتحه اللّه. ثمّ سار المسلمون إلى حصار الشق، ففتحوا الحصن الأول من حصونه، ثمّ حاصروا حصن البراء و هو الحصن الثاني من حصون الشق، فقاتلوا قتالا شديدا حتى فتحه اللّه.

ثمّ حاصروا حصون الكتيبة، و هي ثلاثة حصون: القموص، و الوطيح، و سلالم، و كان أعظم حصون خيبر القموص، و كان منيعا، فحاصره المسلمون عشرين ليلة، ثمّ فتحه اللّه على يد علي عليه السّلام، و منه سبيت صفية، و أنتهت المسلمون إلى حصار الوطيح و سلالم آخر حصون خيبر، و مكثوا على حصارهما أربعة عشر يوما، فهذان الحصنان فتحا صلحا، لأنّ أهلهما لمّا أيقنوا بالهلاك سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الصلح على حقن دماء المقاتلة، و ترك الذّرية لهم، و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم، و أن لا يصحب أحد منهم إلاّ ثوبا واحدا على ظهره، فصالحهم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و وجدوا في الحصنين المذكورين مائة درع، و أربعمائة سيف، و ألف رمح، و خمسمائة قوس عربية بجعابها، و أشياء اخر غاليه القيمة.

في بيان قضية

فدك

ثمّ أرسل النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى أهل فدك-و هي قرية بخيبر-يدعوهم إلى الاسلام و يخوّفهم، فتصالحوا معه على أن يحقن دماءهم و يخلّيهم و يخلّون بينه و بين الأموال، ففعل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فصارت فدك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه لم توخذ بمقاتلة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينفق منها، و يعود منها على صغار بني هاشم، و يزوج منها أيمهم، فلمّا مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ولي أبو بكر الخلافة أرسل إلى فدك و تصرّفها، و سألته فاطمة أن يجعل فدك

ص: 631

لها فأبى، و روى لها أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (1).

أقول: ليت شعري كيف يمكن أن يخفي الرسول صلّى اللّه عليه و آله هذا الحكم عن ابنته فاطمة المعصومة التي أذهب اللّه عنها الرجس و طهّرها تطهيرا، مع أنّه متعلّق بها، حتى تطلب ما ليس لها فيه حقّ، و تفتضح بين الأصحاب بجهلها بتكليف نفسها، و تتوّقع ملكا يحرم عليها تصرّفها فيه، و عن علي بن أبي طالب عليه السّلام الذي هو عيبة علمه، و باب حكمته، و عن سائر الصحابة الذين هم شعاره و دثاره و أسرّه إلى أبي بكر مع كونه جاهلا بأغلب الأحكام؟ ! و أيّ عاقل يحتمل مع ذلك صدق هذه الرواية؟

ثمّ إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر بالغنائم التي غنمت قبل الصّلح فجمعت، و أصاب منها سبايا منها صفية بنت حيي بن أخطب، من سبط هارون أخي موسى بن عمران، فأسلمت ثمّ أعتقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ تزوّجها، و كانت رأت في المنام أنّ القمر وقع في حجرها، فعبّرت بذلك، و نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن إتيان الحبالى و عن غير الحبالى حتى تستبرئ بحيضة.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 21 الی 23

ثمّ وعد سبحانه المسلمين بغنائم غير تلك الغنيمة بقوله: وَ أُخْرى من الغنائم و غير ما ذكرنا لَمْ تَقْدِرُوا في حال كفركم، أو قبل فتح مكة عَلَيْها و لكن قَدْ أَحاطَ اَللّهُ بِها و قدر عليها أو حفظها لكم، و هي كما عن ابن عباس غنائم قسطنطينية و رومية و عمورية و مدائن فارس و الروم و الشام (2).

وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اَللّهُ بِها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَ لَوْ قاتَلَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا اَلْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّهِ تَبْدِيلاً (23)و إنّما لم يقيّد غنائم العرب بعدم قدرتهم عليها؛ لأنّ الغلبة و الغارة على العرب كانت عادتهم القديمة، و لم تكن منهم ببعيد، و أما الاغتنام من الروم و فارس فكان في غاية البعد منهم؛ لأنّ العرب كانت في ذلك الزمان من أذلّ الطوائف و اضعفهم على وجه الأرض، و كان كلّ من الروم و الفرس في غاية القوة و الشوكة، و كانت غلبة العرب عليهم من المحالات العادية (3)، و لذا وصف سبحانه الغنيمة

ص: 632


1- . تفسير روح البيان 9:37.
2- . تفسير روح البيان 9:41.
3- . هذا الاستنتاج غير صحيح، لأنه يقوم على تعليق عدم القدرة في زمان الجاهلية، و ليس هو مراد الآية باتفاق أغلب المفسرين الذين قالوا: إنّ المراد بالغنائم التي لم يقدروا عليها، هي غنائم هوازن، فانّهم لم يقدروا عليها إلى عام الحديبية، و إنّما قدروا عليها عقيب فتح مكّة. كالرازي في تفسيره 28:97، و أبي السعود في تفسيره 8:110، و البروسوي في روح البيان 9:40، و الزمخشري في الكشاف 4:341 و غيرهم. أمّا قوله: (أذلّ الطوائف و أضعفهم على وجه الأرض) فلم يقل به أحد من المفسرين أو المؤرخين، و ليس له ما يؤيده من أدلة الشريعة، بل الواقع التاريخي يناقضه و يعارضه، لأنه يثبت بسالتهم و نجدتهم و شدّة بأسهم و إقدامهم، و أنفتهم من الذلّ و الصغار. و قوله: (من المحالات العادية) غير صحيح، لأن التاريخ يحدثنا عن انتصار قبيلة واحدة، و هي ربيعة، على جيش الفرس الذي أنفذه كسرى لحربهم، في وقعة ذي قار، التي حصلوا فيها على غنائم و فيرة، فضلا عمن قتلوا و أسروا من قادة جيشهم و مقاتليهم، و ذلك في أيام جاهليتهم. راجع الكامل في التاريخ 1:482-490، و تاريخ الطبري 2: 193-212.

منهم بكونها غير مقدورة للمسلمين.

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بالقدرة الكاملة بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بذاته أزلا و أبدا عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الممكنات قَدِيراً.

و قيل: إنّ المراد من (مَغانِمَ كَثِيرَةً) في الآية السابقة جميع الغنائم التي تحصل للمسلمين إلى يوم القيامة (1)، و من الغنيمة الاخرى غنيمة هوازن (2)، و الأظهر ما ذكرنا.

ثمّ أكّد سبحانه نصرته للمؤمنين بإدخال الرّعب في قلوب الكفّار من غير حاجة إلى بيعة المؤمنين و نصرتهم بقوله: وَ لَوْ قاتَلَكُمُ أيّها المؤمنون اَلَّذِينَ كَفَرُوا جميعهم، أو من أهل مكّة، أو حلفاء أهل خيبر من بني أسد و غطفان لَوَلَّوُا اَلْأَدْبارَ و انهزموا من قتالكم رعبا منكم ثُمَّ لا يَجِدُونَ بعد التولّي لهم وَلِيًّا و صديقا يحرسهم من الهلاك باللّطف وَ لا نَصِيراً و معينا يدفع عنهم بالعنف.

ثمّ أعلم أنّ دفع الكفّار عن المؤمنين و نصرة المؤمنين على الكفّار ليس مختصّا بكم، بل يكون سُنَّةَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ و مضت في الامم السابقة و الأنبياء الماضية مِنْ قَبْلُ و من بدو الدنيا إلى فنائها وَ لَنْ تَجِدَ يا محمد لِسُنَّةِ اَللّهِ و عادته الجارية القديمة تَبْدِيلاً و تغييرا، فلا تحتمل أن يخذلك و لا ينصرك.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 24

ثمّ استشهد سبحانه على فرار الكفّار إذا قاتلوا المؤمنين بفرارهم يوم الحديبية بقوله: وَ هُوَ القادر اَلَّذِي بقدرته أرعب قلوب كفّار مكّة و كَفَّ عن قتالكم أَيْدِيَهُمْ و منعهم عن نزالكم، بأن حملهم على الفرار عَنْكُمْ مع كثرة عددهم، و كونهم في بلدهم مهتمّين للذبّ عن أهليهم

وَ هُوَ اَلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)

ص: 633


1- . تفسير أبي السعود 8:110، تفسير روح البيان 9:35.
2- . تفسير أبي السعود 8:110، تفسير روح البيان 9:40.

و ذراريهم وَ كف أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ و منعكم عن قتالهم، بأن حملكم على تركهم و الرجوع عنهم بِبَطْنِ مَكَّةَ و في داخلها مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ مع قوة داعيكم إلى قتلهم و استئصالهم، حيث إنّ العادة جارية فيمن ظفر بعدوّه أن يقتله و يستأصله.

روى بعض العامة: أنّ جماعة من مشركي مكّة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين، فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكّة (1).

و عن ابن عباس: أنّ اللّه أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت (2).

و قيل: إنّ المراد من بطن مكة أسفل واديها، و هي الحديبية (3)، حيث إنّها في جانب جدّة.

قيل: إنّ جماعة من المشركين خرجوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبل التنعيم (2)عند صلاة الصبح، ليأخذوه و يقتلوا أصحابه، فأسرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ خلّى سبيلهم (5).

و قيل: إنّ المراد من الكفّين ببطن مكة هو ما وقع يوم فتح مكة، و الآية إخبار بالغيب، بناء على نزولها عام الحديبية (6).

وَ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و كفّكم عن قتال الكفّار بَصِيراً و عالما فيجازيكم بذلك أحسن الجزاء.

قيل: إنّ فتح مكّة كان لنقض قريش عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ رجلا من بني بكر هجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يتغنّى به، فسمعه غلام من خزاعة و كان مسلما، فضربه و شجّه، فثار الشرّ بين الحيّين فأمدّت قريش بني بكر، فبيّتوا على خزاعة، فقتلوا عشرين منهم، فكره ذلك أبو سفيان، و كان رأس قريش، فقال إن زوجتي هند رأت رؤيا كرهتها، رأت دما اقبل من الحجون-و هو جبل في أعلى مكة -يسيل حتى وقف بخندمة و هو اسم جبل آخر بمكة و قال ليغزونا محمد، فكره القوم ذلك.

ثمّ جاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بنقض قريش عهدهم، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «نصرت يا عمرو بن سالم» و دمعت عيناه، و كان يقول: «خزاعة منّي، و أنا منهم» و قالت عائشة: أترى قريشا تجترئ على العهد الذي بينك و بينهم؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «نقضوا لأمر يريده اللّه» .

فقالت: خير. قال: خير.

فلمّا ندمت قريش على نقض العهد، أرسلوا أبا سفيان ليشدّ العهد و يزيد في مدّته، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 634


1- . تفسير روح البيان 9:44. (2 و 3) . تفسير روح البيان 9:44.
2- . التّنعيم: موضع بمكة في الحل، و هو بيت مكة و سرف، على فرسخين من مكة. (5 و 6) . تفسير روح البيان 9:44.

«نحن على عهدنا و مدّته» و لم يقبل ذلك من أبي سفيان، فرجع إلى قريش، و أخبرهم بما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: إنّي تتبّعت اصحابه، فما رأيت قوما أطوع لملكهم من أصحاب محمد له.

ثمّ أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالجهاز، و أرسل إلى أهل البادية و من حوله من المسلمين في كل ناحية، يقول لهم: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليحضر في شهر رمضان بالمدينة. فلمّا قدموا قال صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ خذ العيون و الأخبار من قريش حتى نبلغها (1)في بلادها» .

ثمّ خرج من المدينة لعشر خلون من شهر رمضان، و أفطر بالكديد-و هو محلّ بين عسفان و قديد- و أمر أصحابه بالإفطار، و كان عددهم عشرة آلاف، فيهم المهاجرون و الأنصار، و عقد صلّى اللّه عليه و آله بالقديد الألوية و الرايات، و دفعها للقبائل، ثمّ سار صلّى اللّه عليه و آله حتى نزل بمرّ الظّهران و هو على مرحلة من مكة، و قد أعمى اللّه تعالى أخباره عن قريش إجابة لدعائه، و أمر صلّى اللّه عليه و آله أصحابه أن يوقد كلّ أحد منهم نارا.

فلمّا سمعت قريش بتوجّه النبي صلّى اللّه عليه و آله اليهم أرسلوا أبا سفيان ليأخذ منه الأمان لهم، فوصل إلى مرّ الظّهران ليلا، قال: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ و لا عسكرا، و كان بينه و بين العباس عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله صداقة، فلمّا لقيه أخذ العباس بيده، و جاء به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله ليأخذ منه الأمان له، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فاذا أصبحت فأتني به، فلمّا أتى به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله عرض عليه الإسلام فتوقّف، فقال له العباس: ويحك أسلم و اشهد أنّه لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه قبل أن يضرب عنقك، فشهد الشهادتين و أسلم.

ثمّ قال: يا رسول اللّه، إن اعتزلت قريش فكفّت أيديها أهم مؤمنون؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم، من كفّ يده و أغلق باب داره فهو آمن» فقال العباس: يا رسول اللّه، إنّ أبا سفيان يحبّ الفخر، فاجعل له شيئا. قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، و من دخل المسجد الحرام فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن، و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من دخل دار حكيم فهو آمن» و استثنى جماعة من الرجال و النساء، و أمر بقتلهم، و إن وجدوا متعلّقين باستار الكعبة، منهم ابن خطل و نحوه، فانّهم كانوا طغاة مردة مؤذين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشدّ الأذى.

و قال صلّى اللّه عليه و آله للعباس: «احبس أبا سفيان في مضيق الوادي حتى تمرّ به جنود اللّه فيراها» فأول من مرّ به خالد بن الوليد في بني سليم، ثمّ قبيلة بعد قبيلة براياتهم، حتى مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه المهاجرون و الأنصار، فقال أبو سفيان: سبحان اللّه يا عباس، من هؤلاء؟ فقال العباس: هذا رسول اللّه في الأنصار، و كان عليهم سعد بن عبادة و معه الراية، و كان المهاجرون سبعمائة و معهم ثلاثمائة فرس، و الأنصار

ص: 635


1- . في تفسير روح البيان: نبغتها.

أربعة آلاف و معهم خمسمائة فرس. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء من قبل و لا طاقة، يا عباس لقد أصبح ملك ابن اخيك اليوم عظيما. فقال العباس: إنّها النبوّة.

ثمّ أمر صلّى اللّه عليه و آله أن يدخل خالد بن الوليد مع جملة من قبائل العرب من أسفل مكة، و قال: لا تقاتلوا إلاّ من قاتلكم، و جمع قريش ناسا بالخندمة ليقاتلوا، فلّما لقيهم خالد منعوه من الدخول و رموه بالنبل، فصاح خالد في أصحابه، فقتل من قتل، و انهزم من لم يقتل، فوصل خالد إلى باب المسجد، و دخل صلّى اللّه عليه و آله بمكة و هو راكب على ناقته القصوى مردفا اسامة بن زيد في صبيحة يوم الجمعة، أو يوم الاثنين، معتمّا بعمامة سوداء، واضعا رأسه الشريف على راحلته تواضعا للّه تعالى ممّا رأى من كثرة المسلمين و فتح مكّة. ثمّ قال: «لا عيش إلاّ عيش الآخرة» و سار و هو يقرأ سورة الفتح، حتى جاء البيت و طاف به اسبوعا على راحلته، و محمد بن مسلمة آخذ بزمامها، و استلم الحجر بمخجن في يده الشريفة، و صلّى بالمقام ركعتين.

و كان في داخل الكعبة و خارجها و فوقها ثلاثمائة و ستون صنما، لكلّ حي من أحياء العرب صنم، و كان هبل و هو أعظم الأصنام، و كان من عقيق في جنب البيت من جهة بابه، فجاء صلّى اللّه عليه و آله و في يده قضيب، فجعل يهوي به إلى كل صنم، فيخرّ لوجهه، و هو يقول: «جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل كان زهوقا» و أمر عليا عليه السّلام فصعد الكعبة، و كسر ما فوقها.

ثمّ أرسل صلّى اللّه عليه و آله بلالا إلى عثمان بن أبي طلحة يأتي بمفتاح الكعبة، فدخلها و صلى فيها ركعتين، و دعا في نواحيها، ثمّ جلس على الصفا يبايع الناس، فجاء أهل مكّة صغارهم و كبارهم، و رجالهم و نساؤهم، فبايعهم على شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و على العمل بأحكام الإسلام، فدخل الناس في دين اللّه افواجا، و عفا عن عامتهم، و قال: «أيها الناس، إنّ اللّه حرّم مكة يوم خلق السماوات و الأرض و يوم خلق الشمس و القمر، فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحلّ لامرىء يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يسفك فيها دما، و لا يعضد (1)فيها شجرة، لم يحلّ لأحد قبلي و لا لأحد بعدي، و لا يحلّ لي إلاّ هذه الساعة غضبا على أهلها، ألا قد رجعت اليوم كحرمتها بالأمس، فليلّغ الشاهد منكم الغائب» (2).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 25

هُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اَللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)

ص: 636


1- . عضد الشجرة: قطعها بالمعضد.
2- . تفسير روح البيان 9:44.

ثمّ بيّن سبحانه علّة كفّ يد المسلمين عن قتل كفّار مكة مع استحقاقهم القتل و الاستئصال بقوله تبارك و تعالى: هُمُ الأشقياء اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ صَدُّوكُمْ و منعوكم أيها المؤمنون عَنِ دخول اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و الصلاة فيه، و الطّواف بالبيت، وَ منعوا اَلْهَدْيَ و النّعم التي جعلتموها للّه تقربا إليه، حال كون الهدي مَعْكُوفاً و محبوسا من أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الذي يجب نحره فيه، و هو للمعتمر عند الصفا، فصاروا بتلك الأعمال القبيحة مستحقين للقتل و الاستئصال وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ في مكة، و أنتم لَمْ تَعْلَمُوهُمْ بأعيانهم، و لم تعرفوهم باشخاصهم، و هم على ما قيل اثنان و سبعون نفس، كانوا يكتمون إيمانهم (1)، و لو لا كراهة أَنْ تَطَؤُهُمْ و تهلكوهم فَتُصِيبَكُمْ و تصل إليكم مِنْهُمْ و من جهة إهلاكهم مَعَرَّةٌ و مشقّة و مكروه بِغَيْرِ عِلْمٍ منكم بهم، لوجوب الدّية و الكفّارة، و الأسف عليهم، و الإثم بترك الفحص عنهم و التقصير فيه، و تعبير الكفار عليكم بقتلكم إخوانكم في الدين، و معاملتكم مع أحبائكم معاملتكم مع أعدائكم، لمّا كفّ اللّه أيدكم عنهم، أو لفعل بهم ما أراد، أو لعجّل اللّه في إهلاكهم، و إنّما كفّها عنهم، أو لم يعجّل في إهلاكهم لِيُدْخِلَ اَللّهُ بلطفه فِي رَحْمَتِهِ بهذا الكفّ، أو ترك تعجيل إهلاكهم مَنْ يَشاءُ إدخاله في الرحمة بتوفيقه للدخول في الإسلام، أو لتعلّم أحكامه و العمل بها بلا تقية لَوْ تَزَيَّلُوا و افترقوا اولئك المؤمنون و الكفّار و امتازوا لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ بكفرهم و قبائح أعمالهم عَذاباً أَلِيماً من القتل و الاستئصال حسب استحقاقهم.

و عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآية: أنّه سئل ألم يكن علي عليه السّلام قويا في بدنه، قويا في أمر اللّه؟ فقال: «بلى» قيل: فما منعه أن يدفع أو يمتنع؟ قال عليه السّلام: «سألت فافهم الجواب، منع عليا من ذلك آية من كتاب اللّه» فقيل: و أي آية؟ فقرأ لَوْ تَزَيَّلُوا. . . الآية، إنه كان للّه ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين و منافقين، فلم يكن علي عليه السّلام ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلمّا خرجت ظهر على من ظهر و قتله، و كذلك قائمنا أهل البيت، لم يظهر أبدا حتى تخرج و دائع اللّه، فاذا خرجت ظهر على من ظهر فيقتله» (2).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 26

إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اَلْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)

ص: 637


1- . تفسير روح البيان 9:48.
2- . تفسير القمي 2:316، تفسير الصافي 5:43.

ثمّ بيّن سبحانه وقت غاية استحقاق الكفّار للتعذيب و نزول العذاب عليهم بقوله: إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكّة و حين مكّنوا فِي قُلُوبِهِمُ القاسية و رسّخوا فيها اَلْحَمِيَّةَ و العصبية و الأنفة من الإقرار للنبي صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة، و استفتاح كتاب الصلح ببسم اللّه الرحمن الرحيم او منعهم إياكم من دخول مكة، حيث قالوا على ما قيل: إنّ المسلمين قتلوا أبناءنا و إخواننا، ثمّ يدخلون علينا، فتتحدّث العرب أنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، و اللاّت و العزّى لا يدخلون علينا، فكانت هذه الحمية حَمِيَّةَ الملّة اَلْجاهِلِيَّةِ التي دخلت في قلوبهم (1)، الحمية الناشئة من الجاهلية التي تمنع من الإذعان للحقّ (2).

و قيل: إنّ الظرف متعلّق بقوله: وَ صَدُّوكُمْ (3)و قيل: فاذكر المقدّر (4).

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر سوء صنيع الكفّار، ذكر حسن صنيع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بتوفيق اللّه بقوله: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ و الطّمأنينة الكائنة من قبله عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ بتبعه، و زاد في ثباتهم على التسليم لأمر اللّه و اتّباع مرضاته، أو ألبسهم الوقار حتى تحمّلوا حميّتهم و صالحوهم و رضوا ان يكتب كتاب الصّلح على ما أرادوا، [و]لم يلحقهم ما لحق الكفّار وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى و قول لا إله إلاّ اللّه، الذي به يتّقى عن الشّرك في الدنيا، و عن النار في الآخرة، و ثبّتهم عليها، و المشركون أبوا منها.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أول القول كلمة التقوى» (1).

و عن (العلل) عنه عليه السّلام أنّه قال في تفسير لا إله إلاّ اللّه: «و هي كلمة التقوى، تثقل بها الموازين يوم القيامة» (2).

و قيل: هي (بسم اللّه الرحمن الرحيم) و (محمد رسول اللّه) الذي امتنع المشركون من كتبهما في كتاب الصّلح في الحديبية (3).

و قيل: هو الوفاء بالعهد، فانّ المؤمنين وفوا بعهدهم، و المشركون نقضوه، حيث عاونوا بني بكر على خزاعة (4).

ص: 638


1- . تفسير القمي 1:290، تفسير الصافي 5:44.
2- . علل الشرائع: ، تفسير الصافي 5:44.
3- . تفسير روح البيان 9:50.
4- . تفسير روح البيان 9:50.

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «هو الايمان» (1).

و عن (المجالس) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «إنّ عليا راية الهدى، و إمام أوليائي، و نور من أطاعني، و هو الكلمة التي ألزمتها المتّقين» (2).

و عن (الخصال) قال صلّى اللّه عليه و آله: «نحن كلمة التقوى، و سبيل الهدى» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «أنا العروة الوثقى و كلمة التقوى» (4).

و عن الرضا عليه السّلام، قال: «نحن كلمة التقوى و العروة الوثقى» (5).

ثمّ بيّن سبحانه استحقاق الرسول و المؤمنين و استئهالهم لهذه النعمة بقوله: وَ كانُوا أَحَقَّ بكلمة التقوى و أولى بِها من الكفّار الذين خلقوا من سجيّن وَ كانوا أَهْلَها و اللائق بها، لحسن فطرتهم و طيب طينتهم وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الموجودات و استعداداتها و قابلياتها عَلِيماً.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 27

ثمّ لمّا أنزل اللّه سكينته على الرسول و المؤمنين، و وقع الصّلح على الرجوع من الحديبية إلى المدينة، قال المنافقون: كذب النبي في إخباره بدخول المسلمين مسجد الحرام محلّقين و مقصّرين، فإنا ما دخلنا المسجد الحرام و لا حلقنا و لا قصّرنا، فردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: لَقَدْ صَدَقَ اَللّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيا التي أريناه مقرونا بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة، و جعلها مطابقة للواقع، و كائنة لا محالة في الوقت المقدّر لوقوعها، و قد مرّ تفصيل الرؤيا في أوّل السورة.

لَقَدْ صَدَقَ اَللّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ إِنْ شاءَ اَللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)و قيل: إنّ معنى صدق الرؤيا: أتى بما يدلّ على صدق الرؤيا (6).

و قيل: إن قوله: بِالْحَقِّ صفة للرسول، و المعنى: أنّ اللّه صدّق رسوله بالحقّ الرؤيا (7). و قيل: ففيه تقديم و تأخير (8).

و قيل: إنّ كلمة (بالحق) قسم، فان الحقّ اسم من أسمائه تعالى (9). و المعنى: اقسم بالحقّ لقد صدق،

ص: 639


1- . الكافي 2:13/5، تفسير الصافي 5:44.
2- . أمالي الصدوق:565/765، تفسير الصافي 5:44.
3- . الخصال:432/14، تفسير الصافي 5:44.
4- . التوحيد:165/2، تفسير الصافي 5:44.
5- . كمال الدين:202/6، تفسير الصافي 5:44.
6- . تفسير الرازي 28:105.
7- . تفسير الرازي 28:105.
8- . تفسير الرازي 28:104.
9- . تفسير الرازي 28:104.

و و اللّه لَتَدْخُلُنَّ أيّها المؤمنون في العام القابل اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ لا بمشيئتكم و قدرتكم، بل إِنْ شاءَ و أراد دخولكم فيه، و فيه تعليم للعباد و تنبيه على أنّ إرادة أهل مكّة منعكم من دخوله لا يزاحم إرادة اللّه، و أنكم تدخلونه حال كونكم آمِنِينَ من أعدائكم، و يدوم أمنكم إلى أن تصيروا مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ و مزيلين جميع شعرها وَ مُقَصِّرِينَ و مزيلين بعضه و لا تَخافُونَ من أحد بعد الحلق و التقصير و إحلالكم من الاحرام، مع أن قريش لا يحرّمون من أحلّ من إحرامه.

فَعَلِمَ اللّه بعد ما أرى نبيه صلّى اللّه عليه و آله الرؤيا في تأخير وقوع تعبيرها، أو في تقديم ما يشهد على صدقها ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة و المصلحة فَجَعَلَ سبحانه لأجل تلك المصلحة و استرواح قلوب المؤمنين مِنْ دُونِ وقوع ذلِكَ الموعود من دخول مكّة فَتْحاً وافر الغنيمة قَرِيباً من صلح الحديبية، و هو فتح خيبر.

قيل: إنّه كان بعد خمس عشرة ليلة من الحديبية (1).

و قيل: إنّ المراد من الفتح القريب صلح الحديبية (2)، فانّه أعظم الفتوح كما مرّ.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ أكّد سبحانه صدق رؤيا النبي صلّى اللّه عليه و آله و عدم إمكان كذبها بقوله: هُوَ اللّه الحكيم اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمد إلى الناس جائيا لهم بِالْهُدى و الرّشاد إلى الصراط المستقيم. و قيل: يعني بالقرآن (3)، أو ما اتّفق عليه الرسل (4)، أو بالمعجزات (5)الباهرة وَ دِينِ اَلْحَقِّ و الثابت الذي لا ينسخ إلى يوم القيامة، و هو الاسلام، فإذا كان إرساله للهدايه لا يمكن أن يخبر الناس بوقوع ما لا يقع، فيضلّوا بكذبه في إخباره.

هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)و قيل: إنّ باء (بالهدى) للسببية (6)، و المعنى: أرسله بسبب الهدى و لأجله، فلا يصدر عنه ما هو سبب الضلال، و ليس فتح مكة منه ببعيد، مع أن اللّه ارسله بالدين الثابت لِيُظْهِرَهُ و يغلبه و يعليه عَلَى

ص: 640


1- . تفسير روح البيان 9:53.
2- . مجمع البيان 9:191، تفسير الرازي 28:106.
3- . مجمع البيان 9:191، جوامع الجامع:455.
4- . تفسير الرازي 28:106.
5- . تفسير البيضاوي 2:413، تفسير أبي السعود 8:114.
6- . تفسير أبي السعود 8:113، تفسير روح البيان 9:55.

غيره من اَلدِّينِ كُلِّهِ و بجميع أفراده بنسخ ما كان منه حقا من بعض الأحكام المتبدّلة بتبديل الأعصار، و إظهار بطلان ما كان باطلا، أو بتسليط المسلمين على أهل سائر الأديان و قهر ملوكهم و فتح بلادهم، و قد أنجز اللّه وعده حيث أعطى المسلمين من الفتح و الغلبة على ممالك الكفرة ما يستقلّ إليه فتح مكة، أو بذهاب سائر الأديان من وجه الأرض في زمان ظهور الحجة و الإمام الغائب.

وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً على صدق رسوله صلّى اللّه عليه و آله في وعده بدخول المسلمين المسجد الحرام، أو على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى الرسالة، و إن أبت قريش من أنّ يكتب في كتاب الصّلح رسالته.

عن ابن عباس: شهد له بالرسالة (1)بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ إلى كافة الناس إلى القيامة وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بالايمان، و اتّبعوه عن صميم القلب، و أطاعوه عن خلوص النيّة، كأمير المؤمنين و سلمان و أضرابهما، يكون من أخلاقهم الحميدة أنّهم أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ غلاظ عليهم، لا لغلظة قلوبهم و فظاظة خلقهم، بل لما بينهم من التضادّ، كتضادّ النور و الظلمة، و الايمان و الكفر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ متعاطفون بعضهم على بعض كالوالد مع ولده، فهو كقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ (2).

قيل: إنّهم بلغوا من الشدّة على الكفّار أنّهم كانوا يتحرّزون من أن تلزق ثيابهم بثيابهم، و أن تمسّ أبدانهم بأبدانهم، و من ترحمّهم بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه و عانقه (3).

أقول: من شدّتهم على الكفّار أن يتحرّزوا من أن يقع نظرهم إلى وجه الكافر، و من عطوفتهم على المؤمنين أن اشتاقوا إلى النظر إلى وجوههم، و يحزنون لحزنهم، و يفرحون لفرحهم، و يحبّون لهم ما يحبّون لأنفسهم، هذا حال المؤمنين مع الناس، و أما حالهم مع اللّه، فانك تَراهُمْ أيها الرائي رُكَّعاً سُجَّداً للّه في حال اشتغالهم بضروريات معاشهم يَبْتَغُونَ و يطلبون بركوعهم و سجودهم و سائر عباداتهم فَضْلاً و إنعاما مِنَ اَللّهِ عليهم من النار و الدخول في الجنّة وَ رِضْواناً و تحنّنا منه إليهم بالرحمة بخلاف المشركين و المرائين، فانّهم يطلبون بركوعهم و سجودهم رضا غير اللّه سِيماهُمْ و علامة كونهم من أتباع محمد صلّى اللّه عليه و آله أنّك ترى فِي وُجُوهِهِمْ و جباههم شيئا مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ كثفنة البعير، كما كان لزين العابدين عليه السّلام، فانّه يقال له ذو الثّفنات (4).

و قيل: هو التّراب على الجباه (5).

ص: 641


1- . تفسير روح البيان 9:55.
2- . المائدة:5/54.
3- . مجمع البيان 9:192، جوامع الجامع:456، تفسير روح البيان 9:57.
4- . جوامع الجامع:456، تفسير أبي السعود 8:114، تفسير روح البيان 9:58.
5- . مجمع البيان 9:192.

و عن ابن عباس: سيماهم في القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشدّ بياضا (1). قيل: تكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر (2).

و قيل: أثر السجود بالليل الحسن الظاهر في وجه الساجد بالنهار. روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من كثر صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار» (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «هو السهر في الصلاة» (4)، ذلِكَ المذكور من نعوتهم الجليلة مَثَلُهُمْ و وصفهم العجيب الشأن المذكور فِي اَلتَّوْراةِ المنزلة على موسى وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ المنزل على عيسى عليهما السّلام.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 29

ثمّ بيّن سبحانه قوّة اصحابه بعد ضعفهم، و كثرتهم بعد قلّتهم، بتشبيههم بالزّرع بقوله: كَزَرْعٍ و التقدير: هم كزرع أَخْرَجَ و أنبت شَطْأَهُ و فرخه و فرعه النابت من جانبه حال كونه أولا في غاية الدقّة و الضّعف فَآزَرَهُ و قوّاه ذلك الزرع فَاسْتَغْلَظَ و صار شديدا و مستحكما بعد ما كان ليّنا، و غليظا بعد ما كان دقيقا فَاسْتَوى الشّطأ، و استقام الفرع لقوّته عَلى سُوقِهِ و أصله بحيث يُعْجِبُ و يسرّ اَلزُّرّاعَ بقوته و غلظته و حسن منظره.

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)و عن الحسن البصرى: استوى الاسلام بسيف عليّ (5).

و حاصل المثل أنّ أصحاب خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله قليلون و ضعفاء في بدو الاسلام، ثمّ كثروا و قووا يوما فيوما، بحيث أعجب الناس قوّتهم و كثرتهم.

و قيل: مكتوب في التوراة يخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، و ينهون عن المنكر (6).

قيل: إنّ ذلك إشارة إلى هذا المثل، و المعنى: أنّ تشبيه أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله بالزرع مذكور في التوراة و الإنجيل (7).

ص: 642


1- . مجمع البيان 9:192.
2- . مجمع البيان 9:192، تفسير روح البيان 9:58.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:300/1373، تفسير أبي السعود 8:114، تفسير روح البيان 9:58.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:299/1369، تفسير الصافي 5:45.
5- . نهج الحق:195.
6- . تفسير أبي السعود 8:115، تفسير روح البيان 9:59.
7- . تفسير أبي السعود 8:115، تفسير روح البيان 9:59.

و قيل: إنّ الكلام قد تمّ عند قوله: مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ و قوله: وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ مبتدأ خبره (كزرع) (1). و على أيّ تقدير إنّما قوّى اللّه أصحاب محمد و كثّرهم لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ و يشتدّ غضبهم بإرغام انوفهم و خزيهم.

و قيل: هو علّة لقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا (2)باللّه و رسوله عن صميم القلب وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ خالصا مِنْهُمْ راجع إلى الكفّار، فيكون الوعد للكفّار الذين يؤمنون بالرسول، فتكون كلمة (من) للتبيين على الأول، و للتبعيض على الثاني (3).

روى الصدوق عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل فيمن نزلت هذه الآية؟ قال: «إذا كان يوم القيامة عقد لواء من نور أنور، و نادى مناد: ليقم سيد المؤمنين و معه الذين آمنوا، و قد بعث اللّه محمدا. فيقوم علي بن أبي طالب، فيعطي اللّه اللواء من النور الأبيض بيده، تحته جميع السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار، لا يخالطهم غيرهم، حتى يجلس عليّ على منبر من نور ربّ العزّة، و يعرض الجميع عليه رجلا بعد رجل، فيعطى أجره و نوره، فاذا أتى على آخرهم قيل لهم: قد عرفتم موقفكم و منزلكم من الجنّة، إنّ ربّكم يقول لكم: عندي لكم مغفرة و أجر عظيم-يعني في الجنّة-فيقوم علي بن أبي طالب و القوم تحت لوائه معهم، حتى يدخلهم الجنّة، ثمّ يرجع إلى منبره، و لا يزال يعرض عليه جميع المؤمنين، فيأخذ نصيبه منهم، و يذهب بهم إلى الجنة، و يترك أقواما على النار» (4).

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال «من قرأ سورة الفتح، [فكأنّما]كان ممّن شهد (5)[مع محمد]رسول اللّه فتح مكّة» (6).

و عن الصادق عليه السّلام. قال: «حصّنوا أموالكم و نساءكم و ما ملكت أيمانكم من التّلف بقراءة سورة (إنّا فتحنا) فانّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق: أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي، و أسكنوه جنات النعيم، و أسقوه من الرحيق المختوم بمزاج الكافور» (7).

الحمد للّه على التوفيق.

ص: 643


1- . تفسير الرازي 28:108.
2- . تفسير روح البيان 9:60.
3- . تفسير الرازي 28:109.
4- . أمالي الطوسي:378/810، تفسير الصافي 5:46.
5- . في النسخة: يشهد.
6- . تفسير روح البيان 9:61.
7- . ثواب الأعمال:115، مجمع البيان 9:165، تفسير الصافي 5:46.

ص: 644

فهرس المحتوى

في تفسير سورة القصص 5

[1-6]بسم الله الرحمن الرحيم طسم*تلك آيات الكتاب المبين*نتلوا عليك من نبإ5

[7-11]و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم و لا7

[12 و 13]و حرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه10

[14-16]و لما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما و كذلك نجزى المحسنين*11

[17]قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين13

[18]فأصبح فى المدينة خائفا يترقب فإذا الذى استنصره بالأمس يستصرخه14

[19-22]فلما أن أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلنى15

[23-25]و لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون و وجد من دونهم17

[26 و 27]قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين*19

[27-29]ستجدنى إن شاء الله من الصالحين*قال ذلك بينى و بينك أيما الأجلين20

[30-31]فلما أتاها نودى من شاطئ الواد الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة23

[32-35]اسلك يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء و اضمم إليك جناحك24

[36-38]فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى و ما سمعنا25

[38-40]فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى26

[40-42]فانظر كيف كان عاقبة الظالمين*و جعلناهم أئمة يدعون إلى النار و يوم28

[43 و 44]و لقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس29

[45 و 46]و لكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر و ما كنت ثاويا فى أهل مدين تتلوا30

[47 و 48]و لو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لو لا أرسلت إلينا32

[48-50]أ و لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا و قالوا إنا بكل32

[50 و 51]و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم33

[52 و 53]الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون*و إذا يتلى عليهم قالوا آمنا34

[54 و 55]أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا و يدرؤن بالحسنة السيئة و مما35

[56]إنك لا تهدى من أحببت و لكن الله يهدى من يشاء و هو أعلم36

ص: 645

[57]و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أ و لم نمكن لهم حرما آمنا39

[58 و 59]و كم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم40

[60 و 61]و ما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا و زينتها و ما عند الله خير و أبقى41

[62-66]و يوم يناديهم فيقول أين شركائى الذين كنتم تزعمون*قال الذين حق42

[67]فأما من تاب و آمن و عمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين43

[68 و 69]و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله و تعالى عما43

[70-73]و هو الله لا إله إلا هو له الحمد فى الأولى و الآخرة و له الحكم و إليه44

[74 و 75]و يوم يناديهم فيقول أين شركائى الذين كنتم تزعمون*و نزعنا من كل45

[76]إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه46

[76 و 77]إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين*و ابتغ فيما آتاك الله الدار47

[78-80]قال إنما أوتيته على علم عندى أ و لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من48

[81 و 82]فخسفنا به و بداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان50

[83]تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض و لا فسادا53

[84 و 85]من جاء بالحسنة فله خير منها و من جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا54

[86-88]و ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا55

في تفسير سورة العنكبوت 59

[2-1]بسم الله الرحمن الرحيم ا لم*أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون59

[3]و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن61

[4 و 5]أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون*من كان62

[6 و 7]و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين*و الذين آمنوا63

[8]و وصينا الإنسان بوالديه حسنا و إن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم64

[9-11]و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لندخلنهم فى الصالحين*و من الناس64

[12 و 13]و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم و ما هم66

[14 و 15]و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخدهم66

[16-18]و إبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله و اتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون*67

[19-22]أ و لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير*قل68

[23 و 24]و الذين كفروا بآيات الله و لقائه أولئك يئسوا من رحمتى و أولئك لهم69

[25-27]و قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم70

[28-33]و لوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من72

[34 و 35]إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون*74.

ص: 646

[36-39]و إلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله و ارجوا اليوم الآخر و لا74

[40 و 41]فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته76

[42-44]إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء و هو العزيز الحكيم*و تلك76

[45]اتل ما أوحى إليك من الكتاب و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن77

[46]و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم79

[47]و كذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به و من هؤلاء79

[48 و 49]و ما كنت تتلوا من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون*80

[50-52]و قالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله و إنما أنا نذير81

[53-55]و يستعجلونك بالعذاب و لو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب و ليأتينهم بغتة82

[56-60]يا عبادى الذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون*كل نفس ذائقة83

[61-63]و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض و سخر الشمس و القمر ليقولن84

[64-66]و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهى الحيوان لو85

[67-69]أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا و يتخطف الناس من حولهم أ فبالباطل86

في تفسير سورة الروم 89

[1-6]بسم الله الرحمن الرحيم ا لم*غلبت الروم*فى أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم89

[7 و 8]يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون*أ و لم92

[9-10]أ و لم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا93

[11-16]الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون*و يوم تقوم الساعة يبلس93

[17-19]فسبحان الله حين تمسون و حين تصبحون*و له الحمد فى السماوات94

[20-25]و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون*و من آياته أن95

[26-27]و له من فى السماوات و الأرض كل له قانتون*و هو الذى يبدأ الخلق ثم97

[28]ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فى98

[29-32]بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله و ما لهم99

[33-35]و إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا100

[36 و 37]و إذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها و إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا101

[38]فآت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون101

[39 و 40]و ما آتيتم من ربا ليربوا فى أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من102

[41-43]ظهر الفساد فى البر و البحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى103

[44 و 45]من كفر فعليه كفره و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون*ليجزى الذين104

[46]و من آياته أن يرسل الرياح مبشرات و ليذيقكم من رحمته و لتجرى الفلك104

ص: 647

[47]و لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من105

[48 و 49]الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه فى السماء كيف يشاء106

[50-53]فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيى107

[54-57]الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد108

[58-60]و لقد ضربنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل و لئن جئتهم بآية ليقولن109

في تفسير سورة لقمان 111

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم ا لم*تلك آيات الكتاب الحكيم*هدى و رحمة111

[6 و 7]و من الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم111

[8-11]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم جنات النعيم*خالدين فيها وعد113

[12]و لقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله و من يشكر فإنما يشكر لنفسه و من115

[13-15]و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم*118

[16]يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو فى السماوات121

[17-19]يا بني أقم الصلاة و أمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما121

[20 و 21]أ لم تروا أن الله سخر لكم ما فى السماوات و ما فى الأرض و أسبغ عليكم123

[22-24]و من يسلم وجهه إلى الله و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى و إلى124

[25 و 26]و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل125

[27]و لو أنما فى الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما126

[28-30]ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير*أ لم تر أن الله127

[31-32]أ لم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن فى ذلك128

[33]يا أيها الناس اتقوا ربكم و اخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده و لا مولود129

[34]إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما فى الأرحام و ما تدرى130

في تفسير سورة السجدة 133

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم ا لم*تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين133

[4 و 5]الله الذى خلق السماوات و الأرض و ما بينهما فى ستة أيام ثم استوى134

[6-9]ذلك عالم الغيب و الشهادة العزيز الرحيم*الذى أحسن كل شيء خلقه135

[10 و 11]و قالوا ءإذا ضللنا فى الأرض أءنا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم136

[13-12]و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا ابصرنا و سمعنا137

[14-17]فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم و ذوقوا عذاب الخلد بما138

[18-20]ا فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون*أما الذين آمنوا و عملوا141

[21 و 22]و لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون*و من142

ص: 648

[23-27]و لقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقائه و جعلناه هدى لبنى142

[28-30]و يقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين*قل يوم الفتح لا ينفع الذين144

في تفسير سورة الأحزاب 147

[1]بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين147

[2-4]و اتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا*و توكل على148

[4-5]و ما جعل أزواجكم اللآئى تظاهرون منهن أمهاتكم و ما جعل أدعياءكم149

[6]النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم و أولوا الأرحام150

[7-8]و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى152

[9-13]يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم153

[14 و 15]و لو دخلت عليهم من اقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها و ما تلبثوا بها إلا158

[16-17]قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلا قليلا159

[18-20]قد يعلم الله المعوقين منكم و القائلين لإخوانهم هلم إلينا و لا يأتون البأس159

[21-22]لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر162

[23 و 24]من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه163

[25-27]و رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفى الله المؤمنين القتال165

[28 و 29]يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين169

[30 و 31]يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين171

[32 و 33]يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول172

[33]إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا173

[34 و 35]و اذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله و الحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا176

[36-39]و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة178

[40]ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين و كان182

[41-42]يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا*و سبحوه بكرة182

[43-44]هو الذى يصلى عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان183

[45-48]يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا*و داعيا إلى الله بإذنه184

[49]يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن184

[50]يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن و ما ملكت185

[51]ترجى من تشاء منهن و تؤى إليك من تشاء و من ابتغيت ممن عزلت فلا187

[52]لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج و لو أعجبك188

[53]يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير189

ص: 649

[53]و إذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم190

[54]إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما191

[55-56]لا جناح عليهن فى آبائهن و لا أبنائهن و لا إخوانهن و لا أبناء إخوانهن و لا192

[57]إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله فى الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا194

[58]و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا194

[59]يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من195

[60-62]لئن لم ينته المنافقون و الذين فى قلوبهم مرض و المرجفون فى المدينة196

[63-68]يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله و ما يدريك لعل الساعة197

[69]يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا و كان198

[70-71]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا*يصلح لكم أعمالكم200

[72]إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها200

[73]ليعذب الله المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات و يتوب الله202

في تفسير سورة سبأ 205

[1-2]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى له ما فى السماوات و ما فى الأرض و له205

[3 و 4]و قال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى و ربى لتأتينكم عالم الغيب لا206

[5-6]و الذين سعو فى آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم*و يرى206

[7 و 8]و قال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم207

[9-13]أ فلم يروا إلى ما بين أيديهم و ما خلفهم من السماء و الأرض إن نشأ208

[13 و 14]اعملوا آل داود شكرا و قليل من عبادى الشكور*فلما قضينا عليه الموت210

[15-17]لقد كان لسبإ فى مسكنهم آية جنتان عن يمين و شمال كلوا من رزق ربكم213

[18 و 19]و جعلنا بينهم و بين القرى التى باركنا فيها قرى ظاهرة و قدرنا فيها السير215

[20 و 21]و لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين*و ما كان له216

[22 و 23]قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات217

[24-26]قل من يرزقكم من السماوات و الأرض قل الله و إنا أو إياكم لعلى هدى أو218

[27-28]قل أرونى الذين الحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم*و ما219

[29-33]و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين*قل لكم ميعاد يوم لا220

[34-36]و ما أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون*222

[37-39]و ما أموالكم و لا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن و عمل222

[40-42]و يوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أ هؤلاء إياكم كانوا يعبدون*223

[43-45]و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما224

ص: 650

[46]قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادى ثم تتفكروا ما225

[47 و 48]قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله و هو على كل شيء226

[49 و 50]قل جاء الحق و ما يبدئ الباطل و ما يعيد*قل إن ضللت فإنما أضل على227

[51-54]و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت و أخذوا من مكان قريب*و قالوا آمنا به و أنى227

في تفسير سورة فاطر 229

[1]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله فاطر السماوات و الأرض جاعل الملائكة رسلا229

[2-4]ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من231

[5 و 6]يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم بالله232

[7-8]الذين كفروا لهم عذاب شديد و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة233

[9]و الله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به234

[10]من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب و العمل234

[11]و الله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا و ما تحمل من أنثى235

[12]و ما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح أجاج و من237

[13 و 14]يولج الليل فى النهار و يولج النهار فى الليل و سخر الشمس و القمر كل237

[15-18]يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد*إن يشأ238

[18-21]إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب و أقاموا الصلاة و من تزكى فإنما239

[22-26]و ما يستوى الأحياء و لا الأموات إن الله يسمع من يشاء و ما أنت بمسمع240

[27-28]أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها و من241

[28-30]إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور*إن الذين يتلون242

[31 و 32]و الذى أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله243

[33-35]جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم244

[36 و 37]و الذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من245

[38 و 39]إن الله عالم غيب السماوات و الأرض إنه عليم بذات الصدور*هو الذى24690

[40 و 41]قل أ رأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ما ذا خلقوا من247

[42 و 43]و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى248

[44-45]أ و لم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم و كانوا249

في تفسير سورة يس 251

[1-6]بسم الله الرحمن الرحيم يس*و القرآن الحكيم*إنك لمن المرسلين251

[7-9]لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون*إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا252

[10 و 11]و سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون*إنما تنذر من اتبع254

ص: 651

[12]إنا نحن نحي الموتى و نكتب ما قدموا و آثارهم و كل شيء أحصيناه في255

[13-15]و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون*إذ أرسلنا إليهم256

[16 و 17]قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون*و ما علينا إلا البلاغ المبين257

[18-21]قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب أليم*260

[22-24]و ما لى لا أعبد الذى فطرنى و إليه ترجعون*أ أتخذ من دونه آلهة إن261

[25-27]إنى آمنت بربكم فاسمعون*قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومى يعلمون*262

[28-30]و ما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء و ما كنا منزلين263

[31]ا لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون264

[32-35]و إن كل لما جميع لدينا محضرون*و آية لهم الأرض الميتة أحييناها265

[36-38]سبحان الذى خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض و من أنفسهم و مما لا265

[39 و 40]و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم*لا الشمس ينبغى لها267

[41-42]و آية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون*و خلقنا لهم من مثله ما269

[43-47]و إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم و لا هم ينقذون*إلا رحمة منا و متاعا إلى269

[48-50]و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين*ما ينظرون إلا صيحة واحدة270

[51 و 52]و نفخ فى الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون*قالوا يا ويلنا من271

[53-55]إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون*فاليوم لا تظلم272

[56-58]هم و أزواجهم فى ظلال على الأرائك متكئون*لهم فيها فاكهة و لهم ما273

[59-61]و امتازوا اليوم أيها المجرمون*أ لم أعهد إليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا275

[62-65]و لقد أضل منكم جبلا كثيرا أ فلم تكونوا تعقلون*هذه جهنم التى كنتم276

[66-67]و لو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون*و لو نشاء277

[68-70]و من نعمره ننكسه فى الخلق أ فلا يعقلون*و ما علمناه الشعر و ما ينبغى278

[71-73]أ و لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون*279

[74-76]و اتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون*لا يستطيعون نصرهم و هم لهم279

[77-79]أ و لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين*و ضرب لنا280

[80 و 81]الذى جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون*أ و ليس282

[82-83]إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون*فسبحان الذى بيده283

في تفسير سورة الصافات 287

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم و الصافات صفا*فالزاجرات زجرا*فالتاليات ذكرا287

[4-10]إن إلهكم لواحد*رب السماوات و الأرض و ما بينهما و رب المشارق*288

[11-17]فاستفتهم أ هم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب*بل290

ص: 652

[18-23]قل نعم و أنتم داخرون*فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون*و قالوا291

[24-26]و قفوهم إنهم مسؤلون*ما لكم لا تناصرون*بل هم اليوم292

[27-32]و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون*قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين293

[33-39]فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون*إنا كذلك نفعل بالمجرمين*إنهم294

[40-42]إلا عباد الله المخلصين*أولئك لهم رزق معلوم*فواكه و هم295

[43-49]فى جنات النعيم*على سرر متقابلين*يطاف عليهم بكأس من معين*296

[50-57]فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون*قال قائل منهم إنى كان لى قرين*297

[58-61]أ فما نحن بميتين*إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين*إن هذا لهو297

[62-63]أ ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم*إنا جعلناها فتنة للظالمين298

[64-68]إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم*طلعها كأنه رؤس الشياطين*299

[69-74]إنهم ألفوا آباءهم ضالين*فهم على آثارهم يهرعون*و لقد ضل قبلهم300

[75-80]و لقد نادانا نوح فلنعم المجيبون*و نجيناه و أهله من الكرب العظيم*301

[81-85]إنه من عبادنا المؤمنين*ثم أغرقنا الآخرين*و إن من شيعته لإبراهيم*302

[86-99]ءإفكا آلهة دون الله تريدون*فما ظنكم برب العالمين*فنظر نظرة فى303

[100-111]رب هب لى من الصالحين*فبشرناه بغلام حليم*فلما بلغ معه السعى306

[112-122]و بشرناه بإسحاق نبيا و بشرناه من الصالحين*و باركنا عليه و على إسحاق310

[123-125]و إن إلياس لمن المرسلين*إذ قال لقومه ألا تتقون*أتدعون بعلا311

[126-132]الله ربكم و رب آبائكم الأولين*فكذبوه فإنهم لمحضرون*إلا عباد الله312

[133-138]و إن لوطا لمن المرسلين*إذ نجيناه و أهله أجمعين*إلا عجوزا فى313

[139-148]و إن يونس لمن المرسلين*إذ أبق إلى الفلك المشحون*فساهم فكان314

[149 و 150]فاستفتهم ألربك البنات و لهم البنون*أم خلقنا الملائكة إناثا و هم319

[151-157]ألا إنهم من إفكهم ليقولون*ولد الله و إنهم لكاذبون*أصطفى البنات319

[158-160]و جعلوا بينه و بين الجنة نسبا و لقد علمت الجنة إنهم لمحضرون*320

[161-164]فإنكم و ما تعبدون*ما أنتم عليه بفاتنين*إلا من هو صال الجحيم*321

[165-170]و إنا لنحن الصافون*و إنا لنحن المسبحون*و إن كانوا ليقولون*لو أن322

[171-175]و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين*إنهم لهم المنصورون*و إن جندنا323

[176-179]أ فبعذابنا يستعجلون*فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين*و تول324

[180-182]سبحان ربك رب العزة عما يصفون*و سلام على المرسلين*و الحمد لله325

في تفسير سورة ص 327

[1-2]بسم الله الرحمن الرحيم ص و القرآن ذى الذكر*بل الذين كفروا فى عزة327

ص: 653

[3-4]كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا و لات حين مناص*و عجبوا أن328

[5-7]أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب*و انطلق الملأ منهم أن329

[8]أ أنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا330

[9 و 10]أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب*أم لهم ملك السماوات331

[11-16]جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب*كذبت قبلهم قوم نوح و عاد و فرعون332

[17-20]اصبر على ما يقولون و اذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب*إنا سخرنا334

[21-25]و هل أتاك نبا الخصم إذ تسوروا المحراب*إذ دخلوا على داود ففزع335

[26]يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع338

[27 و 28]و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل338

[29-33]كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولوا الألباب*و وهبنا339

[34]و لقد فتنا سليمان و ألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب342

[35-40]قال رب اغفر لى و هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إنك أنت344

[41-44]و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب و عذاب*346

[45-49]و اذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب أولى الأيدى و الأبصار*إنا347

[50-58]جنات عدن مفتحة لهم الأبواب*متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة349

[59 و 60]هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار*قالوا بل أنتم لا350

[61-64]قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا فى النار*و قالوا ما لنا لا نرى351

[65-68]قل إنما أنا منذر و ما من إله إلا الله الواحد القهار*رب السماوات352

[69 و 70]ما كان لى من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون*إن يوحى إلي إلا أنما أنا353

[71-85]إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين*فإذا سويته و نفخت فيه354

[86-88]قل ما أسئلكم عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين*إن هو إلا ذكر358

في تفسير سورة الزّمر 361

[1 و 2]بسم الله الرحمن الرحيم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم*إنا أنزلنا إليك361

[3]ألا لله الدين الخالص و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا362

[4 و 5]لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله363

[6]خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها و أنزل لكم من الأنعام ثمانية364

[7]إن تكفروا فإن الله غني عنكم و لا يرضى لعباده الكفر و إن تشكروا يرضه365

[8]و إذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان366

[9]أمن هو قانت آناء الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة و يرجوا رحمة ربه قل367

[10]قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى هذه الدنيا حسنة368

ص: 654

[13-11]قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين*و أمرت لأن أكون أول369

[14-16]قل الله أعبد مخلصا له دينى*فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين370

[17 و 18]و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر371

[19 و 20]ا فمن حق عليه كلمة العذاب أ فأنت تنقذ من فى النار*لكن الذين اتقوا372

[21]أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الأرض ثم يخرج به373

[22]ا فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم374

[23]الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين375

[24-26]ا فمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة و قيل للظالمين ذوقوا ما كنتم376

[27 و 28]و لقد ضربنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون*قرآنا عربيا377

[29-31]ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون و رجلا سلما لرجل هل378

[32-35]فمن أظلم ممن كذب على الله و كذب بالصدق إذ جاءه أ ليس فى جهنم379

[36 و 37]أ ليس الله بكاف عبده و يخوفونك بالذين من دونه و من يضلل الله فما له380

[38]و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله قل أ فرأيتم ما381

[39-41]قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون*من يأتيه382

[42]الله يتوفى الأنفس حين موتها و التى لم تمت فى منامها فيمسك التى383

[43 و 44]أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولوا كانوا لا يملكون شيئا و لا يعقلون*384

[45 و 46]و إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة و إذا ذكر384

[47 و 48]و لو أن للذين ظلموا ما فى الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به من سوء385

[49-51]فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم386

[52-59]أ و لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر إن فى ذلك لآيات لقوم387

[60 و 61]و يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أ ليس فى جهنم390

[62 و 63]الله خالق كل شيء و هو على كل شيء وكيل*له مقاليد السماوات391

[64 و 65]قل أ فغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون*و لقد أوحى إليك و إلى392

[66 و 67]بل الله فاعبد و كن من الشاكرين*و ما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعا393

[68-70]و نفخ فى الصور فصعق من فى السماوات و من فى الأرض إلا من شاء الله394

[71 و 72]و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها و قال397

[73-75]و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها و فتحت أبوابها398

في تفسير سورة غافر 401

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم*غافر401

[4 و 5]ما يجادل فى آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم فى البلاد*402

ص: 655

[6-9]و كذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار*الذين403

[10-12]إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى405

[13-15]هو الذى يريكم آياته و ينزل لكم من السماء رزقا و ما يتذكر إلا من ينيب*406

[16]يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد408

[17 و 18]اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب*409

[19 و 20]يعلم خائنة الأعين و ما تخفى الصدور*و الله يقضى بالحق و الذين409

[21 و 22]أ و لم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم410

[23-27]و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين*إلى فرعون و هامان و قارون411

[28-33]و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أ تقتلون رجلا أن يقول ربى412

[34-35]و لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جاءكم به حتى415

[36-38]و قال فرعون يا هامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الأسباب*أسباب416

[39-42]يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هى دار القرار*من عمل417

[43-45]لا جرم أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا و لا فى الآخرة و أن418

[46]النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون420

[47-48]و إذ يتحاجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا421

[49-50]و قال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من421

[51 و 52]إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا فى الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد*يوم422

[53-55]و لقد آتينا موسى الهدى و أورثنا بنى إسرائيل الكتاب*هدى و ذكرى423

[56]إن الذين يجادلون فى آيات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم ألا كبر423

[57-58]لخلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس و لكن أكثر الناس لا424

[59-60]إن الساعة لآتية لا ريب فيها و لكن أكثر الناس لا يؤمنون*و قال ربكم425

[61]الله الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا إن الله لذو فضل على426

[62-65]ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون*كذلك يؤفك427

[66]قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءنى البينات من428

[67 و 68]هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم428

[69-74]أ لم تر إلى الذين يجادلون فى آيات الله أنى يصرفون*الذين كذبوا429

[75-77]ذلكم بما كنتم تفرحون فى الأرض بغير الحق و بما كنتم تمرحون*431

[78]و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص431

[79-80]الله الذى جعل لكم الأنعام لتركبوا منها و منها تأكلون*و لكم فيها منافع432

[81 و 82]و يريكم آياته فأي آيات الله تنكرون*أ فلم يسيروا فى الأرض فينظروا433

ص: 656

[83-85]فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما434

في تفسير سورة فصّلت 437

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم حم*تنزيل من الرحمن الرحيم*كتاب فصلت آياته437

[6-7]قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه438

[8-11]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون*قل ءإنكم440

[12]فقضاهن سبع سماوات فى يومين و أوحى فى كل سماء أمرها و زينا442

[13-14]فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود*إذ جاءتهم444

[15-18]فأما عاد فاستكبروا فى الأرض بغير الحق و قالوا من أشد منا قوة أ و لم445

[19 و 21]و يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون*حتى إذا ما جاؤها شهد447

[22-25]و ما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم449

[26-29]و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون*450

[30]إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا452

[31-33]نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا و فى الآخرة و لكم فيها ما تشتهى453

[34]و لا تستوى الحسنة و لا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك454

[35-37]و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم*و إما ينزغنك من455

[38-39]فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون456

[40-43]إن الذين يلحدون فى آياتنا لا يخفون علينا ا فمن يلقى فى النار خير أم457

[44]و لو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته أ أعجمي و عربي قل هو459

[45 و 46]و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضى460

[47 و 48]إليه يرد علم الساعة و ما تخرج من ثمرات من أكمامها و ما تحمل من أنثى461

[49 و 50]لا يسأم الإنسان من دعاء الخير و إن مسه الشر فيؤس قنوط*و لئن461

[51 و 52]و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه و إذا مسه الشر فذو دعاء462

[53 و 54]سنريهم آياتنا فى الآفاق و فى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أ و لم463

في تفسير سورة الشورى 465

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*عسق*كذلك يوحى إليك و إلى الذين من قبلك465

[4 و 5]له ما فى السماوات و ما فى الأرض و هو العلي العظيم*تكاد السماوات466

[6 و 7]و الذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم و ما أنت عليهم بوكيل*467

[8 و 9]و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة و لكن يدخل من يشاء فى رحمته468

[10]و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت و إليه468

[11 و 12]فاطر السماوات و الأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا و من الأنعام469

ص: 657

[13]شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذى أوحينا إليك و ما وصينا به470

[14 و 15]و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم و لو لا كلمة سبقت من472

[16-18]و الذين يحاجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم473

[19]الله لطيف بعباده يرزق من يشاء و هو القوي العزيز474

[20]من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه و من كان يريد حرث الدنيا475

[21-23]أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله و لو لا كلمة الفصل476

[23]قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى477

[23]و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور480

[24]أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك و يمح الله481

[25]و هو الذى يقبل التوبة عن عباده و يعفوا عن السيئات و يعلم ما482

[26]و يستجيب الذين آمنوا و عملوا الصالحات و يزيدهم من فضله و الكافرون483

[27]و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الأرض و لكن ينزل بقدر ما يشاء إنه484

[28 و 29]و هو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا و ينشر رحمته و هو الولي الحميد485

[30 و 31]و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير*و ما أنتم485

[32-35]و من آياته الجوار فى البحر كالأعلام*إن يشأ يسكن الريح فيظللن486

[36-39]فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا و ما عند الله خير و أبقى للذين487

[40]و جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا و أصلح فأجره على الله إنه لا يحب489

[41-43]و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل*إنما السبيل على490

[44-46]و من يضلل الله فما له من و لي من بعده و ترى الظالمين لما رأوا العذاب491

[47 و 48]استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ492

[48]إنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها و إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم492

[49 و 50]لله ملك السماوات و الأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن493

[51]و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا494

[52 و 53]و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب و لا الإيمان495

في تفسير سورة الزخرف 497

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*و الكتاب المبين*إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم497

[4]و إنه فى أم الكتاب لدينا لعلي حكيم497

[5-8]أ فنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين*و كم أرسلنا من نبي498

[9-12]و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم*499

[12-14]و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون*لتستووا على ظهوره ثم500

ص: 658

[15 و 16]و جعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين*أم اتخذ مما يخلق502

[17 و 18]و إذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا و هو كظيم*502

[19 و 20]و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب503

[21-24]أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون*بل قالوا إنا وجدنا آباءنا504

[25-28]فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين*و إذ قال إبراهيم لأبيه505

[29 و 30]بل متعت هؤلاء و آباءهم حتى جاءهم الحق و رسول مبين*و لما جاءهم506

[31]و قالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم506

[32]أ هم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا507

[33-35]و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا509

[36 و 37]و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين*و إنهم510

[38 و 39]حتى إذا جاءنا قال يا ليت بينى و بينك بعد المشرقين فبئس القرين*511

[40-42]أ فأنت تسمع الصم أو تهدى العمى و من كان فى ضلال مبين*فإما512

[43 و 44]فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم*و إنه لذكر لك513

[45]و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة514

[46-52]و لقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون و ملئه فقال إنى رسول رب العالمين515

[53-56]فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين*517

[57]و لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون519

[58-60]و قالوا آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون*إن520

[61 و 62]و إنه لعلم للساعة فلا تمترن بها و اتبعون هذا صراط مستقيم*و لا521

[63-66]و لما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذى522

[67]الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين523

[68-71]يا عباد لا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون*الذين آمنوا بآياتنا524

[72-76]و تلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون*لكم فيها فاكهة كثيرة منها525

[77 و 78]و نادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون*لقد جئناكم بالحق526

[79-81]أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون*أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم و نجواهم بلى526

[82-83]سبحان رب السماوات و الأرض رب العرش عما يصفون*فذرهم527

[84-86]و هو الذى فى السماء إله و فى الأرض إله و هو الحكيم العليم*و تبارك528

[87-89]و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون*و قيله يا رب إن هؤلاء529

في تفسير سورة الدخان 531

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*و الكتاب المبين*إنا أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا531

ص: 659

[4-6]فيها يفرق كل أمر حكيم*أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين*رحمة من532

[7 و 8]رب السماوات و الأرض و ما بينهما إن كنتم موقنين*لا إله إلا هو يحيى533

[9-12]بل هم فى شك يلعبون*فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين*يغشى533

[13-16]أنى لهم الذكرى و قد جاءهم رسول مبين*ثم تولوا عنه و قالوا معلم535

[17-19]و لقد فتنا قبلهم قوم فرعون و جاءهم رسول كريم*أن أدوا إلي عباد الله535

[19-28]إنى آتيكم بسلطان مبين*و إنى عذت بربى و ربكم أن ترجمون*و إن لم536

[29]فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظرين537

[30-33]و لقد نجينا بنى إسرائيل من العذاب المهين*من فرعون إنه كان عاليا من538

[34-37]إن هؤلاء ليقولون*إن هى إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمنشرين*فأتوا539

[38-42]و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين*ما خلقناهما إلا540

[43-50]إن شجرة الزقوم*طعام الأثيم*كالمهل يغلى فى البطون*كغلي540

[51-55]إن المتقين فى مقام أمين*فى جنات و عيون*يلبسون من سندس541

[56-59]لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى و وقاهم عذاب الجحيم*فضلا542

في تفسير سورة الجاثية 545

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم حم*تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم545

[6 و 7]تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون*546

[8]يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب547

[9-11]و إذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين*من547

[12 و 13]الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره و لتبتغوا من فضله548

[14]قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا549

[15-18]من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون*و لقد550

[19 و 20]إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله551

[21]أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا552

[22 و 23]و خلق الله السماوات و الأرض بالحق و لتجزى كل نفس بما كسبت و هم لا553

[24]و قالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر و ما لهم554

[25-27]و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن555

[28 و 29]و ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون556

[30-35]فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم فى رحمته ذلك هو558

[35-37]فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون*فلله الحمد رب السماوات560

في تفسير سورة الأحقاف 563

ص: 660

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم*ما خلقنا563

[4]قل أ رأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ما ذا خلقوا من الأرض أم لهم564

[5-7]و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة و هم564

[8]أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا هو أعلم بما565

[9]قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدرى ما يفعل بى و لا بكم إن أتبع إلا ما566

[10]قل أ رأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بنى إسرائيل567

[11]و قال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه و إذ لم يهتدوا به568

[12-14]و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر569

[15]و وصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها و وضعته كرها و حمله570

[15-16]حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك571

[17 و 18]و الذى قال لوالديه أف لكما أ تعداننى أن أخرج و قد خلت القرون من574

[19 و 20]و لكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون*و يوم575

[21-25]و اذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف و قد خلت النذر من بين يديه و من577

[26-28]و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه و جعلنا لهم سمعا و أبصارا و أفئدة فما579

[29-31]و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا580

[32]و من لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض و ليس له من دونه أولياء582

[33-35]أ و لم يروا أن الله الذى خلق السماوات و الأرض و لم يعى بخلقهن بقادر583

في تفسير سورة محمد 587

[1]بسم الله الرحمن الرحيم الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم587

[2 و 3]و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد و هو الحق من588

[4]فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا589

[4-6]و لو يشاء الله لانتصر منهم و لكن ليبلوا بعضكم ببعض و الذين قتلوا فى591

[7-9]يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم*و الذين592

[10-12]أ فلم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله592

[13 و 14]و كأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك أهلكناهم فلا593

[15]مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن و أنهار من لبن594

[16 و 17]و منهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم595

[18]فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا596

[19]فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات و الله يعلم597

[20-22]و يقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها598

ص: 661

[23 و 24]أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم*أ فلا يتدبرون599

[25-26]إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول600

[27 و 28]فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم*ذلك بأنهم601

[29-31]أم حسب الذين فى قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم*و لو نشاء602

[32-33]إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم604

[34 و 35]إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله ثم ماتوا و هم كفار فلن يغفر الله لهم605

[36 و 37]إنما الحياة الدنيا لعب و لهو و إن تؤمنوا و تتقوا يؤتكم أجوركم و لا يسألكم605

[38]ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا فى سبيل الله فمنكم من يبخل و من يبخل606

في تفسير سورة الفتح 609

[1]بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحا مبينا609

[2 و 3]ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك619

[4-5]هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله620

[6]و يعذب المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات الظانين بالله ظن621

[7 و 8]و لله جنود السماوات و الأرض و كان الله عزيزا حكيما*إنا أرسلناك622

[9 و 10]لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توقروه و تسبحوه بكرة و أصيلا*إن الذين623

[11]سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا و أهلونا فاستغفر لنا624

[12 و 13]بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبدا و زين ذلك فى625

[14 و 15]و لله ملك السماوات و الأرض يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و كان الله626

[15 و 16]بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا*قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم627

[17-19]ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج628

[20]وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه و كف أيدى الناس629

[21 و 23]و أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها و كان الله على كل شيء قديرا*632

[24]و هو الذى كف أيديهم عنكم و أيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن633

[25]هم الذين كفروا و صدوكم عن المسجد الحرام و الهدى معكوفا أن يبلغ636

[26]إذ جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته637

[27]لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله639

[28 و 29]هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و كفى640

[29]كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ642

فهرس المحتوى 645

ص: 662

المجلد 6

هویة الکتاب

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 1

اشارة

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن ج6

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

جمیع الحقوق محفوظة و مسجلة لمؤسسة البعثة

ص: 2

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

ص: 3

ص: 4

في تفسير سورة الحجرات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة الفتح المبتدئة ببيان فتح مكّة و ألطاف اللّه على النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً (1) و المختتمة ببيان علوّ مقامه، و بيان فضائل أصحابه، و كونهم رحماء بينهم، اردفت بسورة الحجرات المبتدئة بايجاب حفظ احترام النبي صلّى اللّه عليه و آله و تعظيمه، و تعليم أدب حضوره، و بيان وظيفة المؤمنين و تعليم كيفية سلوك بعضهم مع بعض، و وجوب الاصلاح بينهم إذا تخاصموا و تنازعوا، و غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى حسب دأبه تعالى تعليما للعباد و تبرّكا بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ لمّا كانت السورة مشتملة على التكاليف الشاقة، ابتدأها بالنداء شفاهية للمؤمنين بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ليزيل التعب و العناء بلذّة النداء، و لينشّط قلوبهم بتوصيفهم بالايمان، و ليبين أن امتثالها من لوازمه، و أن الايمان باعث على المحافظة عليها، رادع عن الإخلال بها.

ثمّ شرع سبحانه في بيان وظائف المؤمنين مع النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: لاٰ تُقَدِّمُوا أنفسكم في المشي، أو أمر من الامور، و لا تقطعوه بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ و أمامهما، و ذكر ذاته المقدسة باسم الجلالة لتعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، أو المراد بحضرتهما و في منظرهما، إلاّ بعد أن يحكما به و يأذنا فيه وَ اتَّقُوا اللّٰهَ العظيم الذي أنتم بين يديه و في منظره في جميع أقوالكم و أفعالكم إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم و أعمالكم، فيجازيكم عليها إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ.

قيل: نزلت الآية في النهي عن الذبح يوم الأضحى قيل الصلاة، فانّ ناسا ذبحوا قبل صلاة النبي صلّى اللّه عليه و آله(2).

ص: 5


1- . الفتح: 2/48.
2- . تفسير روح البيان 62:9.

و عن البراء أنّه خطبنا النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم النحر، فقال: «إنّ أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ثمّ نرجع و ننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، و من ذبح قبل أن نصلّي فانّما هو لحم عجّله لأهله، ليس من النّسك في شيء»(1).

و عن عائشة: أنّها نزلت في النهي عن صوم يوم الشكّ، و المعنى لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم(2).

و عن الحسن: لمّا استقرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة، أتته الوفود من الآفاق، فأكثروا عليه بالمسائل، فنهوا عن أن يبتدءوا بالمسألة حتى يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله هو المبتدئ(3) ، و الظاهر و الاعتبار مقتضي لأن يكون النهي عن كلّ ما يقدّم عليه سواء كان بالقول أو بالفعل، كالأكل و المشي و غيرهما.

كرّر النداء بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ازديادا لاظهار اللّطف بهم و الاهتمام بالمنادى له و استقلاله لاٰ تَرْفَعُوا و لا تعلوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ في تكلّمكم عنده تعظيما له و تأدّبا منه.

روى بعض العامة عن عبد اللّه بن الزبير: أنّ الأقرع بن حابس من بني تميم، قدم على النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، استعمله على قومه. فقال عمر: لا نستعمله يا رسول اللّه، بل استعمل القعقاع بن معبد. فتكلّما عند النبي صلّى اللّه عليه و آله حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فنزلت الآية، فكان عمر بعد ذلك إذا تكلّم عند النبي صلّى اللّه عليه و آله لا يسمع كلامه حتى يستفهمه، و قال أبو بكر: آليت على نفسي أن لا اكلّم النبي صلّى اللّه عليه و آله إلاّ سرّا(4).

أقول: العجب من العامة القائلين بأفضلية الرجلين على أمير المؤمنين عليه السّلام، و روايتهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ما طلعت شمس، و ما غربت على أحد بعد النبيين و المرسلين خير - أو أفضل - من أبي بكر»(5) مع أنّهم رووا نزول كثير من الآيات في ردع الرجلين عن زلاتهما، و لم يرو نزول آية في ردع أمير المؤمنين عليه السّلام عن زلّة، بل ما نزلت آية فيه إلاّ و فيها مدحة و بيان فضله.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ (2) ثمّ إنّه تعالى بعد النهي عن تعلية الصوت على صوت النبي صلّى اللّه عليه و آله حين مكالمته، نهى عن تسوية الصوت في الجهر لصوته بقوله: وَ لاٰ تَجْهَرُوا أيّها المؤمنون بالنبي صلّى اللّه عليه و آله لَهُ بصوتكم

ص: 6


1- . تفسير روح البيان 62:9.
2- . تفسير روح البيان 62:9.
3- . تفسير روح البيان 62:9.
4- . تفسير روح البيان 63:9.
5- . تفسير روح البيان 62:9.

بِالْقَوْلِ إذا كلمتموه(1) و كلّمكم كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ بصوته عند مخاطبتكم لِبَعْضٍ آخر، بل أ جعلوا أصواتكم عند مكالمته أخفض من صوته، مراعاة لجلالته و عظمته، كما هو الدأب في مخاطبة العبد الذليل لسيده العظيم المهيب كراهة أَنْ تَحْبَطَ و تبطل أَعْمٰالُكُمْ فانّ عدم الاعتناء بشأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و تحقيره مؤدّ الى الارتداد الموجب لردّ الأعمال و عدم قبولها وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ بأنّ مخالفة هذا النهي مؤدّ إلى الكفر حبط الأعمال.

روى بعض العامة عن ابن عباس: أنّها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، فانّه كان في اذنيه و قرّ، و كان جهوري الصوت، و ربما كان يكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيتأذّى بصوته(2).

و عن أنس: أنّه لمّا نزلت هذه الآية فقد ثابت، فتفقّده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأخبر بشأنه، فدعاه صلّى اللّه عليه و آله فسأله، فقال: يا رسول اللّه، لقد انزلت إليك هذه الآية، و إنّي رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط. فقال: «لست هناك، إنّك تعيش بخير، و تموت بخير، و إنّك من أهل الجنّة»(3).

قيل: إنّه قتل شهيدا يوم مسيلمة الكذّاب(4).

و قيل: إنّ الفرق بين النهيين، أنّ النهي عن رفع الصوت فيما إذا تكلّمتم و تكلّم النبي صلّى اللّه عليه و آله، فعلى المؤمنين أن لا يبلغوا بأصواتهم فوق الحدّ الذي يبلغ إليه صوت النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أن يغضّوا من أصواتهم بحيث يكون صوت النبي عاليا على أصواتهم، و النهي عن الجهر فيما إذا كلّمه المؤمنون و هو ساكت، فنهي المؤمنين عن أن يبلغوا بالجهر في القول الجهر الدائر بينهم، بل يجب عليهم أن يلينوا القول لينا يقارب الهمس(5).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قدم المدينة، و كثر حوله المهاجرون و الأنصار، كثرت عليه المسائل، و كانوا يخاطبونه بالخطاب العظيم الذي لا يليق به، و لذلك قال اللّه تعالى: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ... الآية و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهم رحيما، و عليهم

عطوفا، و في إزالة الآثام عنهم مجتهدا، حتى إنّه كان ينظر إلى من يخاطبه، فيعمد على أن يكون صوته مرتفعا على صوته، ليزيل عنه ما توعّده اللّه من حبط أعماله، حتى إنّ رجلا أعرابيا ناداه يوما من خلف حائط بصوت جهوري: يا محمد، فأجابه بأرفع من صوته، يريد أن لا يأثم الأعرابي بارتفاع

ص: 7


1- . في النسخة: تكلمتموه.
2- . جوامع الجامع: 456، تفسير روح البيان 64:9، تفسير الصافي 47:5.
3- . جوامع الجامع: 456، تفسير روح البيان 65:9، تفسير الصافي 48:5.
4- . تفسير روح البيان 65:9.
5- . تفسير روح البيان 64:9.

صوته»(1).

و عن القمي رحمه اللّه: نزلت في وفد من بني تميم، كانوا إذا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وقفوا على باب حجرته، و نادوا يا محمد، اخرج إلينا، و كانوا إذا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تقدّموه في المشي، و كانوا إذا كلّموه(2) رفعوا أصواتهم فوق صوته، و يقولون: يا محمد، يا محمد، ما تقول في كذا؟ كما يكلّمون بعضهم بعضا، فأنزل اللّه [الآية](3).

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ الْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّٰى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ثمّ إنه تعالى بعد ترهيب المؤمنين من مخالفة نهية، رغّبهم في امتثاله بقوله تبارك و تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ و يخفضون أَصْوٰاتَهُمْ حين تكلّمهم عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ و في حضوره مراعاة للأدب، و خشية من مخالفته نهي اللّه عن رفع الصوت فوق صوته، و الجهر له بالقول أُولٰئِكَ المؤمنون هم اَلَّذِينَ امْتَحَنَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ و أخلصها لِلتَّقْوىٰ و وسعها له، أو مرّنها عليه لَهُمْ في الآخرة مَغْفِرَةٌ و ستر كامل لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يسع البيان حسنه و قدره.

ثمّ ذمّ اللّه سبحانه الرافعين أصواتهم المسيئين للأدب بالنسبة إلى النبي بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ يُنٰادُونَكَ يا محمد مِنْ وَرٰاءِ الْحُجُرٰاتِ و خارج البيوت المسكونة لأزواجك حين استراحتك فيها أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ و لا يدركون قباحة سوء الأدب بالنسبة إلى من لا يدانيه أحد من الأولين و الآخرين في الجلالة و العظمة و وخامة عاقبته. و قيل: الأكثر هنا بمعنى الكلّ (4)

وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا و توقّفوا خارج الحجرات، و لم ينادونك حَتّٰى تَخْرُجَ من حجرتك متوجّها إِلَيْهِمْ لا إلى غيرهم، و اللّه لَكٰانَ ذلك الصبر و التّوقف، و ترك التعجيل و النداء خَيْراً لَهُمْ و أصلح و أنفع في الدنيا و الآخرة من التعجيل في لقائك، و رفع الصوت بندائك وَ اللّٰهُ غَفُورٌ لذنب أولئك المسيئين للأدب إن تابوا و ندموا على ما صدر منهم رَحِيمٌ بهم إن صلحوا.

قيل: إنّ الذين نادوا الرسول عيينة بن الحصين الفزاري، و الأقرع بن حابس التميمي، وفدا على

ص: 8


1- . التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام: 305/477، تفسير الصافي 48:5.
2- . في النسخة تكلموه.
3- . تفسير القمي 318:2، تفسير الصافي 47:5.
4- . تفسير روح البيان 68:9.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة، و هو راقد، فقالا: يا محمد، اخرج إلينا، فنحن الذين مدحنا زين و ذمّنا شين، فاستيقظ صلّى اللّه عليه و آله، فخرج و قال لهم: «ويحكم ذلكم اللّه»(1).

و روي أنّه سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهم فقال: «هم جفاة بني تميم، لو لا أنّهم من أشدّ الناس قتالا للأعور الدجّال، لدعوت اللّه أن يهلكهم، فنزلت الآية ذمّا لهم(2).

و عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أنّه بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سريّة إلى حي بني العنبر، و أمرّ عليهم عيينة بن الحصين، فلمّا علموا أنّه توجّه نحوهم هربوا و تركوا عيالهم، فسباهم عيينة، و قدم بهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجاء بعد ذاك رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة، فوافوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا في أهله، فلمّا رأتهم الذرارى أجهشوا إلى آبائهم يبكون، و كان لكلّ امرأة من نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله بيت و حجرة، فجعلوا ينادون: يا محمد، اخرج إلينا، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم فقالوا: يا محمد، فادنا عيالنا. فنزل جبرئيل فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تجعل بينك و بينهم رجلا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ ترضون أن يكون بيني و بينكم سبرة بن عمرو، و هو على دينكم؟» قالوا: نعم. قال سبرة: أنا لا أحكم بينهم و عمي شاهد، و هو أعور بن بشامة بن ضرار. فرضوا به.

فقال الأعور: فأنا أرى أن تفادي نصفهم، و تعتق نصفهم. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «قد رضيت» ففادى نصفهم، و أعتق نصفهم. و قال مقاتل: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّٰى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ لأنّك كنت تعتقهم جميعا و تطلقهم بلا فداء(3).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ (6) ثمّ إنّه تعالى بعد تعليم المؤمنين الأدب مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله علّمهم كيفية معاملتهم مع سائر الناس، فابتدأ بكيفية معاملتهم مع الفسّاق بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ و أنبأكم فٰاسِقٌ من الفسّاق بِنَبَإٍ و أخبركم بخبر يعظم وقعه في القلوب، كالإخبار بإرادة قوم قتالكم فَتَبَيَّنُوا و تفحّصوا عن صدقه و كذبه حتى تظهر حقيقة الحال، و لا تعتمدوا على خبره، فانّ من لا يحترز عن الفسق لا يؤمن منه الكذب، فيكون في تحقيق الحال من الحذر أَنْ تُصِيبُوا أيّها المؤمنون و تضرّوا قَوْماً من المسلمين بِجَهٰالَةٍ و بسبب عدم العلم بواقع الحال، و عدم طريق عقلائي دالّ

ص: 9


1- . تفسير روح البيان 67:9.
2- . تفسير روح البيان 68:9.
3- . تفسير روح البيان 68:9.

عليه، أو بسفاهة و عدم رعاية حكم العقل فَتُصْبِحُوا و تصيروا بعد ظهور خطئكم عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ من الإضرار على القوم نٰادِمِينَ مغتمّين متمنّين عدم صدور ذلك الفعل منكم.

في بعض مطاعن

عثمان

روي أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخا عثمان بن عفان لأمّه، بعثه النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى بني المصطلق ليأخذ صدقاتهم و يجبي زكاتهم، و كان بينه و بينهم إحنة(1) و حقد كامن في الجاهلية بسبب دم، فلمّا سمعوا بقدومه استقبلوه ركبانا، فحسب أنّهم مقاتلوه، فرجع هاربا منهم، و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّهم قد ارتدّوا، و منعوا الزكاة، و همّوا بقتلي، فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الظاهر بقتالهم، فنزلت الآية(2).

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث إليهم خالد بن الوليد بعد رجوع الوليد بن عقبة عنهم في عسكر، و قال له:

اخف عنهم قدومك بالعسكر، و ادخل عليهم ليلا متجسّسا، هل ترى فيهم شعائر الاسلام و آدابه، فان رأيت منهم ذلك فخذ منهم زكاة أموالهم، و إن لم تر ذلك فافعل بهم ما يفعل بالكفّار، فجاءهم خالد وقت المغرب فسمع منهم أذان المغرب و العشاء، و وجدهم مجتهدين باذلين وسعهم و مجهودهم في امتثال أمر اللّه، فأخذ منهم صدقاتهم، و انصرف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [و أخبره الخبر فنزلت: أَنْ تُصِيبُوا... ](3).

أقول: من مطاعن عثمان أنّه ولّى هذا الوليد الفاسق الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلّى بالناس و هو سكران صلاة الفجر أربعا، ثمّ قال: هل أزيدكم؟ و من الواضح أنّه لم يكن حاله خفيا على عثمان مع كونه أخاه.

و يدلّ على كون المراد من الفاسق هو الوليد بن عقبة ما روى في (الاحتجاج) عن الحسن المجتبى عليه السّلام - في حديث - أنه قال: «و أما أنت يا وليد بن عقبة، فو اللّه ما ألومك على ألومك على أن تبغض عليا و قد جلدك في الخمر ثمانين جلدة، و قتل أباك صبرا بيده يوم بدر، أم كيف لا تسبّه و قد سمّاه اللّه مؤمنا في عشر آيات من القرآن، و سمّاك فاسقا و هو قوله: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا. .. الآية»(2).

و عن القمي رحمه اللّه: نزلت في عائشة حين رمت مارية القبطية، و اتّهمها بجريح القبطي، فأمر رسول اللّه بقتل جريح ليظهر كذبها، و ترجع عن ذنبها(3).

أقول: لعلّ المراد من النزول جريانها في حقّها.

في الاستدلال على

حجية خبر الواحد

ثمّ اعلم أن العامة و كثيرا من الخاصة استدلّوا بالآية المباركة على حجية خبر العدل

ص: 10


1- . الإحنة: الحقد و الضّغن. (2و3) . تفسير روح البيان 70:9.
2- . الاحتجاج: 276، تفسير الصافي 49:5.
3- . تفسير القمي 318:2، تفسير الصافي 49:5.

الواحد، حيث رتّب وجوب التبيين على كون المخبر فاسقا، و لو لم يجز قبول خبر العادل، لما كان للترتيب على خبر الفاسق فائدة، و تقريره أنّ تعليق وجوب التبيين على خبر الفاسق، يقتضي انتفاء الوجوب عند انتفاء الفسق في المخبر، و هو بكون المخبر عادلا، و حينئذ فإمّا نقول بعدم قبول خبره و لو مع التبيين، بمعنى كون التبيين لغوا في مورده، فيلزم كون خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق، و هو باطل، مع أنّ التبيّن سبب لليقين بصدقه، و لا معنى لعدم قبول الخبر المتيقّن الصدق. و إمّا نقول بوجوب قبول خبره بلا تبيّن، فهو المطلوب، و فيه أنّ الاستدلال مبني على القول بحجيّة مفهوم الوصف، و تعليق الحكم عليه، و هو ممنوع، كما حقّق في محلّه.

نعم لو تمسّك بمفهوم الشرط، بأن يقال: إنّ الآية نظير قولك: إن جاءك زيد سائلا فأعطه درهما، فانّ مفهومه إن جاءك غير سائل فلا تعطه، و فيه: أن الشرط هنا لبيان تحقّق الموضوع، كقولك: إن رزقت ولدا فاختنه، و هذه القضية الشرطية لا مفهوم لها إلاّ أن يقال الموضوع هو النبأ، و المعنى: النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا، و إن جاء به غير الفاسق، و هو العادل، فلا تبيّنوا.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّٰهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيٰانَ أُولٰئِكَ هُمُ الرّٰاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللّٰهِ وَ نِعْمَةً وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) ثمّ لمّا أخبر الوليد بقيام بني المصطلق لقتال المسلمين، رأى جمع من الأصحاب تجهيز الجيش و إصابتهم، و كانوا يتوقّعون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتّبع رأيهم، فردعهم عن هذا التوقّع بقوله:

ص: 11

إِلَيْكُمُ و أبغض لديكم اَلْكُفْرَ و الشّرك وَ الْفُسُوقَ و الكذب على ما روي عن الباقر عليه السّلام(1)وَ الْعِصْيٰانَ و مخالفة أحكام اللّه كافّة.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الحبّ و البغض أ هو من الايمان؟ قال: «و هل الإيمان إلاّ الحبّ و البغض» ثمّ تلا هذه الآية(2).

ثمّ مدح سبحانه المحبّين للايمان، المبغضين للكفر و العصيان بقوله: أُولٰئِكَ الموصوفون بتلك الصفتين الجليلتين هُمُ الرّٰاشِدُونَ و المهتدون إلى الطريق الموصل إلى قرب اللّه و جنّته التي وعد المتّقون، و إنّما ذلكم الحبّ و البغض يكون

فَضْلاً و إحسانا مِنَ اللّٰهِ وَ نِعْمَةً عظيمة منه تعالى وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بقابليات الأشخاص و حَكِيمٌ في أفعاله، لا يعطي أحدا إلاّ بالاستحقاق.

عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآية: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيٰانَ يعني الأول و الثاني و الثالث»(3).

أقول: تحقيقه أنّ حبّ الايمان عين حبّ أمير المؤمنين عليه السّلام، لكونه عليه السّلام مجسّمة الايمان، و بغض أعمال الثلاثة عين بغض الثلاثة الذين هم مجسّمتها.

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) ثمّ لمّا بيّن سبحانه عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق المورث لإثارة الفتنة بين المسلمين و وقوع القتال فيهم، بيّن حكم القتال الواقع بينهم، و رغّب في الإصلاح بقوله:

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و جمعان منهم اِقْتَتَلُوا و تنازعوا في أمر من الأمور الدينية أو الدنيوية، و الجمع باعتبار الأفراد، فانّهم يقتتلون فَأَصْلِحُوا بالوعظ و النّصح و التهديد و بذل المال و غيرها بَيْنَهُمٰا حفظا لنفوسهما، و ردعا لهم عن المنكر.

بيان فضيلة الاصلاح

بين المؤمنين

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أ لا أخبركم بأفضل من الصيام و الصلاة و الصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «إصلاح ذات البين»(4).

فَإِنْ بَغَتْ و تعدّت إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الطائفة اَلْأُخْرىٰ و لم ترتدع بالوعظ

ص: 12


1- . مجمع البيان 200:9، تفسير الصافي 49:5.
2- . الكافي 5/102:2، تفسير الصافي 50:5.
3- . تفسير القمي 319:2، الكافي 71/352:1، تفسير الصافي 50:5.
4- . تفسير روح البيان 73:9.

و النّصح و غيرهما فَقٰاتِلُوا أيّها المؤمنون الطائفة اَلَّتِي تَبْغِي و تتعدّى على الطائفة الأخرى حَتّٰى تَفِيءَ و ترجع الطائفة الباغية إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ جبرا، فَإِنْ فٰاءَتْ و انقادت لحكمه قهرا، من وجوب كفّ اليد عن قتال المؤمنين، و التحذّر عن البغي عليهم، فاذا انصرفوا عن القتال فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ و الانصاف، و احسموا مادة النزاع و الفساد بإجراء حكم اللّه، و إحقاق حقّ المظلوم، و منع الظالم عن ظلمه، على كتاب اللّه و سنّة نبيه.

و لمّا كان بعد القتال مظنّة الحقد و الحيف، قيّد الصّلح بالعدل، و أكّده بقوله تعالى: وَ أَقْسِطُوا و اعدلوا في هذا الأمر و سائر الأمور إِنَّ اللّٰهَ عادل يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ و العادلين.

عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أنّ النبي مرّ يوما على ملأ من الأنصار، فيهم عبد اللّه بن أبي المنافق، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله راكب على حماره، فوقف عليهم يعظهم، فبال حماره - أو راث - فأمسك عبد اللّه بن أبي بأنفه، و قال: نحّ عنا نتن حمارك. فقد آذيتنا بنتنه، فمن جاء منّا فعظه. فسمع ذلك عبد اللّه بن رواحة، فقال: أ لحمار رسول اللّه تقول هذا؟! و اللّه إن بول حمار رسول اللّه أطيب رائحة منك. فمرّ صلّى اللّه عليه و آله، و طال الكلام بين عبد اللّه بن ابي الخزرجي المنافق، و بين عبد اللّه بن رواحة الأوسي، حتى استبّا و تجالدا، و جاء قوم كلّ منهما من الأوس و الخزرج، و تجالدوا بالعصيّ، أو بالنعال و الأيدي، أو بالسيف، فنزلت الآية، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم، فقرأها عليهم و أصلح بينهم(1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ منكم من يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل: من هو؟ قال: خاصف النّعل - يعني أمير المؤمنين عليه السّلام - فقال عمّار بن ياسر: قاتلت بهذه الراية مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثا، و هذه الرابعة، و اللّه لو ضربونا حتى يبلغوننا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على الحقّ، و أنّهم على الباطل. و كانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين عليه السّلام ما كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أهل مكّة يوم فتح [مكة]»(2).

عن الصادق عليه السّلام: «إنّما جاء تأويل الآية يوم البصرة، و هم أهل هذه الآية، و هم الذين بغوا على أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان الواجب قتالهم و قتلهم حتى يفيئوا إلى أمر اللّه». إلى أن قال: «فكان الواجب على أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعدل فيهم، حيث كان ظفر بهم، كما عدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أهل مكّة، إنّما منّ و عفا، و كذلك صنع أمير المؤمنين بأهل البصرة»(3).

ص: 13


1- . تفسير روح البيان 74:9.
2- . تفسير القمي 321:2، الكافي 2/11:5، التهذيب 230/137:6، تفسير الصافي 50:5.
3- . الكافي 202/180:8، تفسير الصافي 51:5.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين إلى الاصلاح بين المقاتلين و المنازعين منهم بقوله:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فقط إِخْوَةٌ و أشخاص متحابّون، كالمنتسبين إلى أب واحد و ام واحدة.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يشتمه، و من كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته، و من فرّج [عن] مسلم كربة فرّج اللّه عنه بها كربة من كربات يوم القيامة، و من ستر مسلما ستره اللّه يوم القيامة»(1).

عن الصادق عليه السّلام: «المؤمن أخو المؤمن لأبيه و امّه، لأنّ اللّه خلق المؤمنين من طينة الجنان، و أجرى في صوركم من ريح الجنة»(2).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن تفسير هذا الحديث: «المؤمن ينظر بنور اللّه» فقال: «إنّ اللّه خلق المؤمنين من نوره، و صبغهم في رحمته، و أخذ ميثاقهم لنا بالولاية على معرفته يوم عرّفهم نفسه، فالمؤمن أخ المؤمن لأبيه و امّه، أبوه النور، و امّه الرحمة، و إنّما ينظر بذلك النور الذي خلق منه»(3).

أقول: يمكن أن يكون وجه آخر لاخوّتهم، و هو أن ولادتهم الايمانية من الرسول و الوصي عليهما السّلام، كما قال: «أنا و عليّ أبوا هذه الامّة»(4).

و عنه عليه السّلام: المؤمن أخ المؤمن، عينه و دليله، لا يخونه و لا يظلمه و لا يعيبه، و لا يعده عدة فيخلفه(5).

ثمّ رتّب سبحانه على أخوّتهم ما هو من لوازمها، و هو كون كلّ منهم مجدّا في تحصيل صلاح الآخر بقوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ و ارفعوا التنازع منهم، و حصّلوا التوادّ و الرحمة فيهم وَ اتَّقُوا اللّٰهَ في جميع الامور التي منها ما امرتم به من الاصلاح و إيجاد التراحم بين المؤمنين لَعَلَّكُمْ من قبل ربّكم تُرْحَمُونَ على إحسانكم بهم و تقواكم من اللّه.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمٰانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ (11) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان وظيفة المؤمنين بالنسبة إلى الظالم و المظلوم منهم، و وجوب إحقاق حقّ المظلوم، نهى عن إهانة المؤمن بذكر ما يوجب وهنه و تحقيره بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اعلموا

ص: 14


1- . مجمع البيان 200:9، تفسير روح البيان 78:9.
2- . الكافي 7/133:2، و تفسير الصافي 51:5، عن الباقر عليه السّلام.
3- . بصائر الدرجات: 2/100، تفسير الصافي 51:5.
4- . سعد السعود: 275، تفسير الصافي 52:5.
5- . الكافي 3/133:2، تفسير الصافي 51:5.

أنّ من وظائف الإيمان أن لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ و جمع من رجالكم مِنْ قَوْمٍ و جمع آخرين منهم، و يستهزئ بعضكم ببعض عَسىٰ و يرجى أَنْ يَكُونُوا اولئك المسخورون و المستهزءون بهم(1) أفضل من الساخرين، و خَيْراً مِنْهُمْ و أقرب عند اللّه وَ لاٰ تسخر نِسٰاءٌ منكم مِنْ نِسٰاءٍ أخر منكم، و لا تستهزئ بعض المؤمنات ببعض آخر عَسىٰ و يرجى أَنْ يَكُنَّ اولئك المسخورات و المستهزءات بهنّ(2) أفضل من الساخرات و المهزّءات(3) و خَيْراً مِنْهُنَّ عند اللّه، فانّ ملاك القرب و البعد عند اللّه مستور عنكم، ليس ممّا يظهر من الأشكال و الصّور، و لا الأوضاع و لا الأطوار التي يدور عليها أمر السّخرية غالبا، فليس لأحد أن يحقّر أحدا، فيكون قد حقّر من عظمة اللّه، و أهان من وقره اللّه، كإبليس الذي حقّر آدم فحقّره اللّه و طرده من رحمته، و لذا روي: أنّ اللّه تعالى قال: «أوليائي تحت قبابي، لا يعرفهم غيري»(4).

و إنّما لم يذكر سبحانه سخرية الرجال للنساء و بالعكس، لأنّهما نادران(5) و يحتمل أنّه تعالى أراد من (يكون) معنى (يصير) فالمعنى: أن يصيروا خيرا منهم، و يصرن خير منهنّ، فانّ الغنيّ الذي يستهزئ بالفقير لفقره، يحتمل ان يصير الغني المهزّئ(6) فقير، و يصير الفقير المهزّأ به(7) غنيا، و هكذا.

عن ابن عباس: أنّ الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس، كان في اذنه و قرأ، فكان إذا أتى مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وسّعوا له حتى يجلس إلى جنبه، يسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم و قد فاتته ركعة من صلاة الفجر، فلمّا انصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله من الصلاة اقبل نحو رسول اللّه يتخطّى رقاب الناس و هو يقول: تفسّحوا تفسّحوا، فجعلوا يتفسّحون حتى انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينه و بينه رجل، فقال له: تفسّح، فلم يفعل، فقال: من هذا؟ فقال له الرجل: إنا فلان بن فلان؟ فقال: بل أنت ابن فلانة، يريد أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية، فخجل الرجل، و نكّس رأسه، فأنزل اللّه هذه الآية(8).

و روي أنّ عائشة قالت: إنّ امّ سلمة جميلة لو لا أنّها قصيرة(9).

و عن القمي: أنّها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أن عائشة و حفصة كانتا تؤذيانها و تشتمانها، و تقولان لها: يا بنت اليهودية، فشكت ذلك إلى رسول اللّه، فقال:

«أ لا تجيبيهما؟» فقالت: بما ذا يا رسول اللّه؟ قال: قولي إنّ أبي هارون نبي اللّه، و عمّي موسى كليم اللّه، و زوجي محمد رسول اللّه، فما تنكران منّي؟!» فقالت لهما، فقالتا: هذا ما علّمك رسول اللّه. فأنزل اللّه

ص: 15


1- . كذا، و الصواب: المسخور منهم، و المستهزأ بهم.
2- . كذا، و الصواب: المسخور منهنّ، و المستهزأ بهنّ.
3- . كذا، و الصواب: المستهزءات.
4- . تفسير روح البيان 80:9.
5- . في النسخة: نادر.
6- . كذا، و الصواب: المستهزئ.
7- . كذا، و الصواب: المستهزأ به. (8و9) . تفسير روح البيان 80:9.

في ذلك: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ. .. الآية(1).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمٰانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ (11) ثمّ نهى سبحانه عن إيذاء المؤمنين و المؤمنات بالقول بقوله: وَ لاٰ تَلْمِزُوا و لا تعيبوا غيركم من المؤمنين، أو لا تطعنوهم فكأنّهم تعيبون أَنْفُسَكُمْ لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، فما يصيب واحدا منهم كأنّه يصيب جميعهم.

و قيل: إنّ المعنى لا تعيبوا غيركم، فانّه يكون سببا لأن يبحث من عبتموه عن عيوبكم فيعيبكم، فبالتعييب عبتم أنفسكم(2).

و قيل: إنّ المراد لا تفعلوا ما تعيبون به، فكأنّكم تعيبون أنفسكم(3).

وَ لاٰ تَنٰابَزُوا و لا يدعوا غيركم من المؤمنين بِالْأَلْقٰابِ السوء بِئْسَ الاِسْمُ و ساء الذكر المرتفع بين الناس اَلْفُسُوقُ و الذكر الذي يخرج المذكور من الايمان بَعْدَ كونهم داخلين في اَلْإِيمٰانِ.

في ذكر بعض

مطاعن عائشة

و حفصة

روت العامة أنّ الآية نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باكية، فقالت: إنّ عائشة قالت لي: يا يهودية بنت اليهوديين، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هلا قلت إن أبي هارون، و عمّي موسى، و زوجي محمد؟!»(4).

أقول: انظروا إلى هذه البذيّة، كيف يطهّرها العامة من الذنوب و العيوب، و يفضّلونها على فاطمة المعصومة، ليت الرسول علّمها أن تقول لها: يا مشركة بنت المشركين، و في الحديث «من عيّر مؤمنا بذنب تاب منه» كان حقا على اللّه أن يبتليه به، و يفضحه بين الناس»(5).

أقول: قد حقّق مضمون الحديث في عائشة، فانّها عيّرت صفية بكفرها، فابتلاها اللّه بالقتال مع عليّ عليه السّلام الذي كان نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و هو كفر، أو بمنزلة الكفر.

ثمّ حثّ سبحانه الناس على التوبة من تلك المنهيات التي كلّها ظلم على المؤمنين بقوله: وَ مَنْ ارتكب تلك المعاصي و لَمْ يَتُبْ إلى اللّه تعالى منها فَأُولٰئِكَ العصاة هُمُ الظّٰالِمُونَ على ربّهم بخروجهم عن طاعته، و كفران نعمته، و تضييع حقوقه، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك

ص: 16


1- . تفسير القمي 321:2، تفسير الصافي 52:5.
2- . تفسير الرازي 132:28.
3- . تفسير الرازي 132:28، تفسير روح البيان 81:9.
4- . تفسير روح البيان 82:9.
5- . تفسير روح البيان 82:9.

و العذاب.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لاٰ تَجَسَّسُوا وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ تَوّٰابٌ رَحِيمٌ (12) ثمّ علّم سبحانه المؤمنين أدب العشرة بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا و احترزوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ بالرسول و بالمؤمنين، و ابعدوا أنفسكم من الحسبان السوء، و الحسبان الذي لا تعلمون أنه حسن أو سيء، و هو كثير، و في مقابلة الظنّ الذي تعلمون أنّه حسن، و هو بالنسبة إلى غيره قليل، و ذلك إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ بهم، و هو ظنّ السوء إِثْمٌ و حرام تتبعه عقوبة و عذاب، فعليكم الاحتياط و التروّي حتى تعلموا من أي القبيل من الظنّ سوء أو حسن.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال «ظنّوا بالمؤمن خيرا»(1).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك(2) منه، و لا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا، و أنت تجد لها في الخير محملا»(3).

وَ لاٰ تَجَسَّسُوا و لا تفتّشوا عن معايبهم المستورة، و زلاّتهم الخفية، و لا تبحثوا عن عوراتهم.

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فانّه من تتبّع عثرات أخيه تتبّع اللّه عثرته، و من تتبّع اللّه عثرته يفضحه و لو في جوف بيته»(4). و رواه بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(5).

و رووا أن جبرئيل قال: يا محمد، لو كانت عبادتنا على وجه الأرض، لعملنا ثلاث خصال: سقي الماء للمسلمين، و إعانة أصحاب القتال، و ستر الذنوب على المسلمين(6).

في ذكر بعض

مطاعن عمر

و روى بعض العامة أنّ عمر يعسّ ذات ليلة، فنظر إلى مصباح من خلل باب، فاطّلع فاذا قوم على شراب لهم، لم يدر كيف يصنع، فدخل المسجد، فأخرج عبد الرحمن بن عوف، فجاء به إلى الباب، فنظر و قال له: كيف ترى أن نعمل؟ فقال: أرى و اللّه أنّا قد أتينا إلى ما نهانا اللّه عنه، لأنّا تجسّسنا و اطّلعنا على عورة قوم ستروا دوننا، و ما كان لنا أن نكشف ستر اللّه. فقال عمر: ما أراك إلاّ و قد صدقت، فانصرفا(7).

ص: 17


1- . تفسير الرازي 134:28.
2- . في الكافي: يغلبك.
3- . الكافي 3/369:2، تفسير الصافي 53:5.
4- . الكافي 5/265:2، تفسير الصافي 53:5.
5- . تفسير روح البيان 86:9.
6- . تفسير روح البيان 86:9.
7- . تفسير روح البيان 87:9.

أقول: فيه طعن عظيم على عمر، حيث دلّ على أنّه أجهل الناس بأحكام الكتاب، و تكليف نفسه، و أرتكب كثيرا من المعاصي، و ليس ذلك ببعيد ممّن قال: كلّ الناس افقه من عمر حتى المخدّرات في الحجال.

وَ لاٰ يَغْتَبْ أيّها المؤمنون، و لا يذكر بالسوء بَعْضُكُمْ بَعْضاً في غيابه.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن الغيبة، فقال: «أن تذكر أخاك بما يكره، فان كان فيه فقد اغتبته، و إن لم يكن فيه فقد بهتّه»(1).

في حرمة الغيبة

و أحكامها

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الغيبة، فقال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، و تبثّ أمرا ستره اللّه عليه، لم يقم عليه فيه الحدّ»(2).

و في رواية: «و أمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة و العجلة فلا»(3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، و من ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه، و من ذكره بما ليس فيه فقد بهته»(4).

و روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إياكم و الغيبة، فانّ الغيبة أشدّ من الزنا».

ثمّ قال: «إن الرجل يزني و يتوب، فيتوب اللّه عليه، و إن صاحب الغيبة لا يغفر له إلاّ أن يغفر له صاحبه». و عن ابن عباس: الغيبة أدام كلاب النار(5).

و روي «أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنّة، و إن لم يتب أول من يدخل النار»(6). إلى غير ذلك من الأخبار.

ثمّ شبّه سبحانه تناول عرض المؤمن بأكل لحمه بعد موته مبالغة في الزجر عنه بقوله: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ و يرغب في أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ جسد أَخِيهِ النسبي

حال كونه مَيْتاً و جيفة، و من الواضح أنكم إذا ابتليتم بأكل هذا اللحم فَكَرِهْتُمُوهُ و تنفر منه طباعكم، و اشمأزّت منه نفوسكم، و حكم بقبحه عقولكم، فكذا تناول عرض المؤمن الذي هو أخوكم في الايمان حال غيبته.

قيل: لمّا كان مجال توهّم أنّ اللّمز و النّبز حرامان، لاطلاع المؤمن عليهما و تألّمه بهما غايته، و أمّا الغيبة فلا وجه لحرمتها و قبحها، لعدم تألم المغتاب منها؛ لأنّه لا يطّلع عليها، دفعه سبحانه بأن أكل

ص: 18


1- . تفسير روح البيان 87:9.
2- . الكافي 3/266:2، تفسير الصافي 53:5.
3- . الكافي 7/267:2، تفسير الصافي 53:5.
4- . الكافي 6/266:2، تفسير الصافي 53:5.
5- . تفسير روح البيان 89:9.
6- . مصباح الشريعة: 205.

لحم الأخ الميت لا يؤلمه أيضا، مع أنّه في غاية القبح(1) ، لكونه في غاية البعد عن رعاية حقّ الأخوة(2).

و في الآية و الروايات دلالة واضحة على كونها من الكبائر، و لذا أكّد سبحانه حرمتها بقوله: وَ اتَّقُوا اللّٰهَ و احذروا عقابه في ارتكابها.

ثمّ حثّ سبحانه على التوبة منها بقوله: إِنَّ اللّٰهَ تَوّٰابٌ سريع القبول لتوبة التائبين ممّا فرط منهم رَحِيمٌ بمن اتّقى ما نهى عنه، و متفضّل عليه بالثواب.

روى بعض العامة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا عزا أو سافر، ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما و يتقدّمهما إلى المنزل، فيهيئ لهما طعامهما و شرابهما، فضمّ سلمان إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدّم سلمان إلى المنزل، فغلبته عيناه، فلم يهيّئ لهما شيئا، فلمّا قدما قالا له: ما صنعت شيئا؟ قال: لا، غلبتني عيناي. قالا له: انطلق إلى رسول اللّه و اسأله طعاما. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «انطلق إلى اسامة بن زيد، و قل له إن كان عنده فضل من الطعام فليعطك» و كان اسامة خازن رسول اللّه على رحله و طعامه، فأتاه فقال له اسامة: ما عندي شيء، فرجع سلمان إلى الرجلين فأخبرهما، فقالا: كان عند اسامة شيء، و لكن بخل به، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلمّا رجع قالوا: لو بعثناه إلى بئر سميحة(3) لغار ماؤها ثمّ انطلقا إلى اسامة يتجسّسان هل عنده ما أمر لهما به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الطعام، فلمّا جاءا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لهما: «ما لي أرى خرة اللحم في أفواهكما؟» قالوا: و اللّه يا رسول اللّه، ما تناولنا يومنا هذا لحما؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «ظللتما تأكلان لحم اسامة و سلمان» فأنزل اللّه الآية(4).

و قد عيّن الرجلين في رواية (الجوامع) فانّه روى أنّ أبا بكر و عمر بعثا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليأتي لهما بطعام، فبعثه إلى اسامة بن زيد، و كان خازن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رحله، فقال: ما عندي فعاد إليهما فقالا: بخل اسامة، و لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثمّ انطلقا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لهما: «ما لي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما» قالا: يا رسول اللّه، ما تناولنا اليوم لحما. قال:

«ظللتم تفكّهون لحم سلمان و اسامة» فنزلت(5).

و عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم و صدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هم الذين يأكلون لحوم الناس، و يقعون في

ص: 19


1- . في النسخة: الفتح.
2- . تفسير الرازي 135/28.
3- . سميحة: بئر بالمدينة غزيرة الماء.
4- . تفسير روح البيان 88:9.
5- . جوامع الجامع: 459، تفسير الصافي 54:5.

أعراضهم»(1) فظهر من ذلك أنّه لا يحرم ذكر مساوئ غير المؤمن و غير المميّز، بل غير البالغين، لانصراف الأخ في الآية و الأخبار إليهم، و إن الاحتراز أحوط، و كذا غير المتستّرين، فمن كان عيبه ظاهرا، أو بفسقه متجاهرا فلا غيبة له في عيوبه الظاهرة، و ما تجاهر به لتوصيف المذكور بما ستره اللّه عليه، و لمّا روي «أنّ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له»(2). بل إطلاق الرواية تدلّ على جواز غيبة المتجاهر بفسق في غير ما تجاهر به.

و كما أنّه تحرم الغيبة يحرم استماعها، لما روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «المغتاب و المستمع شريكان في الاثم»(3).

و الظاهر منه و من غيره من الأخبار أنّ ذكر عيب شخص لا يكون غيبة إذا لم يكن له مستمع، فانّ الظاهر من الأدلة حرمة كشف العورة و هتك ما ستره اللّه، و منه يظهر اشتراط كون المغتاب بالفتح معروفا عند المستمع، فانّ ذكر عيبه لا يكون كشفا للمستور، إلاّ إذا كان معروفا بالتفصيل أو بالاجمال في المحصورين كالاثنين و الثلاث و نظائرهما، و كذا عدم اختصاصه بالذكر باللسان، بل يعم ذلك و الكتابة و الاشارة، و لا بالتصريح بل تعمّ التعريض و الكناية، و لا يعتبر في حرمتها قصد الازراء و التنقيص و الذمّ. نعم، إذا صدرت بتلك المقصود، كانت حرمتها أشدّ و آكد، و كذا لا فرق بين كون العيب المذكور في بدنه أو خلقه أو نسبه أو فعله أو قوله أو دينه أو امور دنياه حتى ثوبه أو داره، كلّ ذلك إذا لم يكن ظاهرا مكشوفا لمن رآه، أو للمستمع.

و إذا احتمل المستمع جواز الغيبة في حقّ المغتاب بالكسر، لظهور العيب أو للتجاهر أو لكونه مظلوما أو غير ذلك، كان عليه حمل فعله على الصحة و الجواز، فلا يحرم عليه استماعها، لتلازم جواز الغيبة و جواز استماعها، و كذا العكس، و إنّما صدّر الآية بالخطاب للمؤمنين تنبيها على أنّ امتثال الأحكام المذكورة من لوازم الايمان.

ثمّ لمّا نهى سبحانه عن سوء الظّن بالمؤمنين و تنقيصهم بالظّن فضلا عن الشكّ و الترديد، و كان مجال أن يقول أحد: إذا ظننّا بهم سوء ان نتفحّص عن واقع أمرهم حتى نتيقّن بما ظننّا، ثمّ نقول فيهم باليقين، نهى سبحانه عن التجسّس و التفحّص عن معايبهم و زلاّتهم، و تحصيل العلم بها، ثمّ نهى عن ذكر ما علم اتفاقا أو حصّله عصيانا.

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا

ص: 20


1- . تفسير روح البيان 89:9.
2- . تفسير روح البيان 90:9.
3- . تفسير روح البيان 89:9.

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

ثمّ لمّا كان الاستهزاء بالغير و لمزه و نبزه و اغتيابه لتحقيره و التفاخر عليه، بيّن سبحانه أنّه لا تفاوت بين الناس في الشرف و الرفعة إلاّ من حيث الايمان و التقوى الذي أمر به بقوله:

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ و أولدناكم مِنْ ذَكَرٍ و هو آدم وَ أُنْثىٰ و هي حوّاء، فليس لأحد أن يفتخر على أحد بالنسب؛ لأنّ جميعكم أبناء رجل و أب واحد، و امرأة و امّ واحدة.

و قيل: إنّ المراد من الذّكر الأب المتّصل، و من الانثى الامّ المتصلة، و المقصود أنّ كلّكم في الخلق سيّان، و من جنس واحد، حيث إنّ كلّ واحد منكم ولدكما ولد غيره، و خالقه خالق غيره، فلا مزيّة لأحد على أحد في أصله(1).

وَ جَعَلْنٰاكُمْ و صيّرناكم شُعُوباً و جماعات عظماء منتسبين إلى أب واحد وَ قَبٰائِلَ و طوائف منشعبة من كلّ شعب.

قيل: إنّ الشعوب جماعات لا يدري من يجمعهم كالعجم، و القبائل جماعات منتسبون إلى أب واحد معلوم كالعرب(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «الشعوب العجم، و القبائل العرب»(3).

و قيل: إنّ الشعوب داخلة في القبائل، فانّ القبيلة تحتها شعوب، و الشعوب تحتها بطون(4).

و إنّما كان ذلك الجعل لِتَعٰارَفُوا و يعرف بعضكم بعضا بحسب الأنساب، لا لتفاخروا بالآباء و القبائل، و تدّعون الشرف و التفاضل.

و قيل: لا لتناكروا بالسّخرية و اللّمز و النّبز و الغيبة، فانّ كلّ واحد منها يؤدّي إلى التناكر(5).

في فضيلة التقوى

و قيل: إنّ المعنى إنّا خلقناكم من ذكر و انثى لتعبدوا، و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا(6).

و اعلموا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ و اعلاكم شأنا عِنْدَ اللّٰهِ و في نظره أَتْقٰاكُمْ و أعلمكم بطاعته، و إن كان عبدا حبشيا.

روي أنّها نزلت حين أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بلالا بعد فتح مكّة ليؤذّن، فعلا ظهر الكعبة. فاذّن، فقال عتّاب بن اسيد، و كان من الطّلقاء: الحمد للّه الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، و لم يسمع هذا الصوت.

ص: 21


1- . تفسير الرازي 137/28، تفسير روح البيان 90/9.
2- . تفسير الرازي 138:28.
3- . تفسير القمي 322:2، و تفسير الصافي 54:5، و لم ينسباه إلى أحد.
4- . تفسير الرازي 138:28.
5- . تفسير الرازي 138:28.
6- . تفسير الرازي 138/28.

و قال الحارث بن هشام: أ ما وجد رسول اللّه سوى هذا الغراب الأسود(1).

و قيل: إنّ الآية نزلت في أبي هند من الصحابة، حين أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني بياضة أن يزوّجوه امرأة منهم، فقالوا: يا رسول اللّه، نزوّج بناتنا موالينا(2).

و روي أنّ رسول اللّه مرّ في سوق المدينة، فرأى غلاما أسود يباع، و هو يقول: من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول اللّه: فاشتراه رجل، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراه عند كلّ صلاة فقعده فسأل عنه صاحبه، فقال: هو محموم فعاده، ثمّ سأل عنه بعد أيام فقيل! هو مشرف على الموت، فجاءه و هو في بقية حركة، فتولّى غسله و دفنه، فدخل على المهاجرين و الأنصار أمر عظيم، فنزلت(3).

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال يوم فتح مكّة: «إنّ اللّه قد أذهب عنكم بالاسلام نخوة الجاهلية و تفاخرها بآبائها، إنّ العربية ليست بأب والد، و إنّما هو لسان ناطق، فمن تكلّم به فهو عربي، إلاّ أنكم من آدم، و آدم من التراب، و إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ ربّكم واحد، و أبوكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، و لا لعجمي على عربي، و لا أحمر على اسود، و لا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى»(5).

و إنّما ذكر سبحانه من أسباب التفاخر الدنيوي النسب، مع أن أسبابه كثيرة كالمال و الأولاد و غيرهما، لأنّ النسب أعلاها من حيث أنّه ثابت مستمر غير مقدور التحصيل بخلاف غيره؛ و لأنّه كان بين العرب من أعظم أسباب الافتخار، و كان دأبهم الشائع الافتخار به.

روي أنّه سئل عيسى عليه السّلام: أي الناس أشرف؟ فقبض قبضتين من التراب، ثمّ قال: أي هذين أشرف؟ ثمّ جمعهما فطرحهما، و قال: الناس من تراب، و أكرمهم عند اللّه أتقاهم(6).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «يقول اللّه يوم القيامة: أمرتكم فضيّعتم ما عهدت إليكم فيه، و رفعتم أنسابكم، اليوم أرفع نسبي و أضع أنسابكم، أين المتّقون؟ إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(7).

و عن أبي هريرة: أنّ الناس يحشرون يوم القيامة، ثمّ يوقفون، ثمّ يقول اللّه لهم: طالما كنتم تكلّمون و أنا ساكت، فاسكتوا اليوم حتى أتكلّم، إنّي رفعت نسبي و أبيتم إلاّ أنسابكم، قلت إنّ أكرمكم أتقاكم، و أبيتم أنتم، و قلتم: لا بل فلان بن فلان و فلان بن فلان، فرفعتم أنسابكم، و وضعتم نسبي، فاليوم أرفع

ص: 22


1- . تفسير روح البيان 90:9.
2- . تفسير روح البيان 90:9.
3- . تفسير روح البيان 91:9.
4- . تفسير القمي 322:2، تفسير الصافي 54:5.
5- . تفسير روح البيان 91:9.
6- . تفسير روح البيان 91:9.
7- . مجمع البيان 207:9، تفسير الصافي 54:5.

نسبي، و أضع أنسابكم، سيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتّقون(1).

و عن الصادق، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: اتقى الناس من قال الحقّ فيما له و عليه»(2).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ قال: «أعملكم بالتقية»(3).

إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ بأنسابكم و أعمالكم خَبِيرٌ ببواطنكم و ضمائركم، لا يخفى عليه إسراركم.

قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لاٰ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمٰالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ثمّ لمّا كان التقوى متوقّفا على الايمان الراسخ في القلب بالتوحيد و رسالة الرسول، ردّ اللّه سبحانه دعوى مدّعى الايمان مع كون إيمانهم صوريا بقوله:

قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ و سكنة البوادي لك: آمَنّٰا بتوحيد اللّه و رسالتك قُلْ يا محمد لهم ردّا عليهم: لَمْ تُؤْمِنُوا عن صميم القلب، فلا تقولوا:

آمنا وَ لٰكِنْ لمّا أسلمتم و أظهرتم الشهادتين باللسان، و تركتم المقاتلة: قُولُوا أَسْلَمْنٰا و دخلنا في السلم و الانقياد مخافة أنفسنا و أعراضنا. كيف تقولون آمنا وَ الحال أنّه لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ بعد فِي قُلُوبِكُمْ و ما باشر اليقين بالتوحيد و رسالة الرسول أفئدتكم.

قيل: نزلت في نفر من بني أسد، قدموا المدينة في سنة جدب، فأظهروا الشهادتين، و قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، و أتيناك باثقالنا و عيالنا و ذرارينا، و لم نقاتلك كما قاتلت بنو فلان، يريدون الصدقة(4) ، و يمنّون عليه ما فعلوا(5).

في بيان الاختلاف

في الفرق بين

الايمان و الاسلام

أقول: ذهب بعض العامة إلى أنّه لا فرق بين الاسلام و الايمان(6) ، و قال بعضهم:

الإسلام أعمّ من الايمان، فانّ الايمان لا يحصل إلاّ في القلب، و الاسلام يحصل باللسان(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «الايمان: هو الاقرار باللسان، و عقد القلب، و عمل بالاركان» إلى أن قال: «فقد

ص: 23


1- . تفسير روح البيان 92:9.
2- . من لا يحضره الفقيه 836/282:4، تفسير الصافي 55:5.
3- . اعتقادات الصدوق: 108، تفسير الصافي 55:5.
4- . في تفسير روح البيان: يرون الصدق.
5- . تفسير أبي السعود 123:8، تفسير روح البيان 92:9.
6- . تفسير الرازي 141:28.
7- . تفسير الرازي 142:28.

يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا، و لا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالاسلام قبل الايمان، و هو يشارك الايمان» الخبر(1).

و عن الباقر عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «الاسلام علانية، و الايمان في القلب» و أشار إلى صدره(2).

و في رواية: «الاسلام: هو الظاهر الذي عليه الناس، و هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و حجّ البيت، و صيام شهر رمضان، فهذا الاسلام و الايمان: معرفة هذا الأمر مع هذا، فإن أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر، كان مسلما، و كان ضالا»(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الاسلام قبل الايمان، و عليه يتوارثون و يتناكحون، و الايمان عليه يثابون»(4) و لذا قال سبحانه: وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ عن الايمان الخالص و ترك النفاق لاٰ يَلِتْكُمْ و لا ينقصكم مِنْ اجور أَعْمٰالِكُمْ و ثوابها شَيْئاً يسيرا.

و قيل: إن أتيتم بما يليق بضعفكم من الأعمال الحسنة المقرونة بالاخلاص و ترك النفاق، فهو تعالى يأتكم بما يليق بفضله من الجزاء، لا ينقص منه شيئا، نظرا إلى ما في حسناتكم من النّقصان و التقصير(5).

إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ و ستّار لما فرط من المطيعين رَحِيمٌ بهم و متفضّل عليهم بالثواب العظيم.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ (15) قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللّٰهَ بِدِينِكُمْ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاٰ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ بَلِ اللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (17) إِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّٰهُ بَصِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (18) ثمّ وصف سبحانه حقيقة الايمان إرشادا للأعراب القائلين: آمنا بقوله:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الذين يحقّ منهم دعوى الايمان، و يصدقون في دعواه، هم اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ بالتوحيد و الرسالة ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا و لم يشكّوا بسبب تشكيك المشكّك، و لم يختلج

ص: 24


1- . الكافي 1/23:2، تفسير الصافي 55:5.
2- . مجمع البيان 208:9، و تفسير الصافي 56:5، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.
3- . الكافي 4/20:2، تفسير الصافي 55:5.
4- . الكافي 4/132:1، تفسير الصافي 55:5.
5- . تفسير روح البيان 93:9.

ببالهم كذب الرسول في دعوى الرسالة و فيما أخبر عن اللّه وَ جٰاهَدُوا الكفّار و المنافقين بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وفدوهما فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و طلبا لمرضاته و ترويج شريعته أُولٰئِكَ الموصوفون بتلك الصفات الجليلة بِأَمْوٰالِهِمْ بالخصوص اَلصّٰادِقُونَ في دعوى الايمان لا غيرهم.

قيل: لمّا نزلت الآية جاءت الأعراب، و حلفوا أنّهم مؤمنون صادقون، فنزل (1)

قُلْ يا محمد لهم ردا عليهم: أيّها الأعراب أَ تُعَلِّمُونَ اللّٰهَ و تخبرونه بِدِينِكُمْ الذي أنتم عليه بقولكم: آمنا وَ اللّٰهُ باحاطته بجميع الموجودات و كلّ مخلوقاته يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ لا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْءٍ جليل و حقير، خفيّ أو أخفى عَلِيمٌ فكيف تخفى عليه ضمائركم حتى يحتاج في الاطّلاع عليها إلى إخباركم؟! و فيه توبيخ لهم على اجتهادهم في إخفاء نفاقهم.

ثمّ لمّا أظهر الأعراب المنّة على الرسول بإسلامهم ن حيث قالوا: إنا أتيناك بأثقالنا و عيالنا و ذرارينا و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، و كان قولهم ذلك في غاية القبح و الشناعة، وبّخهم اللّه سبحانه عليه بقوله:

يَمُنُّونَ هؤلاء الأعراب، و يظهرون التفضّل عَلَيْكَ يا محمد أَنْ أَسْلَمُوا و حسبوا بجهلهم أنّ إسلامهم نعمة عليك قُلْ يا محمد لهؤلاء الجهّال: لاٰ تَمُنُّوا و لا تعدّوا النعمة عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ الظاهري المقرون بالنفاق، لأنّه ليس بنعمة عليّ، و لا منّة لي عليكم بدعوتكم إليه، لأنّي عملت بوظيفة رسالتي من قبل ربّي بَلِ اللّٰهُ المنّان يَمُنُّ و يتفضّل عَلَيْكُمْ بأعظم النّعم، و هو أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ و أرشدكم إليه بتبليغي و دعوتي، و وفّقكم لقبوله إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في دعوى الايمان.

عن القمي رحمه اللّه: أنّها نزلت في عثمان يوم الخندق، و قد ارتفع الغبار من الحفرة، فوضع عثمان كمّه على أنفه، فقال عمار:

لا يستوي من يعمر المساجدا فيصلي(2) فيها راكعا و ساجدا

و من يمرّ بالغبار حائدا يعرض عنه جاحدا معاندا

فالتفت عثمان إليه، و قال: يا ابن السوداء، إياي تعني؟ ثمّ أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: لم ندخل معك لتسبّ أعراضنا؟ فقال رسول اللّه: «قد أقلتك إسلامك» فأنزل اللّه تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا (3).

ثمّ أكّد اللّه سبحانه علمه بالمغيبات التي منها ما في ضمائر الناس من اعتقاد حقّانية الاسلام و عدمه

ص: 25


1- . تفسير روح البيان 96:9.
2- . كذا، و الظاهر: يصلّي.
3- . تفسير القمي 322:2، تفسير الصافي 56:5.

بقوله:

إِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ بذاته غَيْبَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و خفياتها التي لا يعلم بها غيره أحد، فكيف يخفى عليه إسراركم و ما في ضمائركم من الكفر و الايمان وَ اللّٰهُ بَصِيرٌ بغير جارحة بِمٰا تَعْمَلُونَ بجوارحكم من الخيرات و الشرور و الطاعة و العصيان.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو كلّ يوم، كان من زوّار محمد صلّى اللّه عليه و آله»(1).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 26


1- . ثواب الاعمال: 115، مجمع البيان 193:9، تفسير الصافي 57:5.

في تفسير سورة ق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جٰاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقٰالَ الْكٰافِرُونَ هٰذٰا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الحجرات ببيان منّة الأعراب على النبي صلّى اللّه عليه و آله باسلامهم الدالّ على عدم إيمانهم برسوله و كتابه و اليوم الآخر، نظمت بعدها سورة (ق) المبتدئة ببيان عظمة القرآن و جلالته، و بيان رسالة رسوله و أدلّة التوحيد، و تهديد مكذّبي رسوله بما نزل على الامم الماضية من العذاب، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بذكر حرف

ق جلبا لتوجّه القلوب إلى ما يرد عليها فلا يفوتها حلاوة الكلمات الرائقة، و فهم المعاني الفائقة، و قدّ مرّ أنّ تلك الحروف رموز.

عن ابن عباس: هو اسم من اسماء اللّه، أقسم اللّه به(1).

و قيل: هو رمز عن كلّ اسم من الأسماء الحسنى المصدّرة بالقاف، كالقادر و القدير و القديم و القاهر و القهّار و القائم بالقسط و القاضي بالحقّ و القريب و القابض(2) و القدّوس نحوها(3) ، فانّ العرب قد ترمز عن كلمة بحرف.

و قيل: هو قسم بقوة قلب حبيبه(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «و أمّا ق فهو جبل محيط [بالأرض] و خضرة السماء منه، و به يمسك اللّه الارض أن تميد بأهلها»(5).

و قال جمع من العامة: هو جبل محيط بالأرض كاحاطة بياض العين بسوادها، و هو أعظم جبال الدنيا، خلقه اللّه من زمرّد أخضر، أو زبرجد أخضر، منه خضرة السماء، و السماء ملتزقة به، و ليس

ص: 27


1- . تفسير روح البيان 99:9.
2- . في تفسير روح البيان: و القهّار و القريب و القابض و القاضي.
3- . تفسير روح البيان 99:9.
4- . تفسير روح البيان 100:9.
5- . معاني الاخبار: 1/22، تفسير الصافي 58:5.

مدينة من المدائن أو قرية من القرى إلاّ و فيها عرق من عروقه، و ملك موكّل به، واضع يديه على تلك العروق، فاذا أراد اللّه بقوم هلاكا أوحى إلى ذلك الملك فحرّك عرقا، فخسف بأهلها، و الشياطين ينطلقون إلى ذلك الزّبرجد، فيأخذون منه، فيبثّونه في الناس(1) ، و نسب ذلك القول إلى ابن عباس(2).

و الظاهر أن حرف (ق) رمز من كلمة قاف التي هي اسم للجبل، فلا يرد اعتراض الفخر الرازي أنّه لو كان اسما للجبل لكتب (قاف) بالألف و الفاء(3).

ثمّ عظّم القرآن بالحلف به و توصيفه بالعظمة بقوله: وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ و الكتاب العظيم لعظم فوائده و كونه من اللّه العظيم، و آية عظمته حيث عجز الخلق عن الإتيان بمثله.

و قيل: إنّ المجيد بمعنى الكريم، و توصيفه بكثرة الكرم، لأنّه لا يطلب أحد مقصودا منه إلاّ وجده، و لا يتمسّك به محتاج إلاّ أغناه(4). و إنّما لم يذكر قبل (ق) أداة القسم، قيل: لوكالة(5) دخول الحرف على الحرف(6).

و حاصل المفاد أقسم بالجبل العظيم الذي به بقاء دنياكم، و بالقرآن الذي به بقاء دينكم، أنّ محمدا رسول منذر من جانب اللّه، و العجب أنّ قريشا أنكروا رسالته مع دلالة المعجزات الباهرات على صدقه، و لم يكتفوا بالانكار

بَلْ عَجِبُوا لخبث ذاتهم و قلّة عقولهم من أَنْ جٰاءَهُمْ رسول مُنْذِرٌ مع كونه رجلا مِنْهُمْ يأكل الطعام، و يمشي في الأسواق، و ليس من جنس الملائكة فَقٰالَ اولئك اَلْكٰافِرُونَ لنعم ربّهم بعضهم لبعض عنادا و لجاجا: هٰذٰا الأمر الذي يدّعيه محمد من رسالته مع كونه بشرا شَيْءٌ عَجِيبٌ يحقّ أن يتعجّب منه، مضافا إلى أنه يقول بما لا يقبله العقلاء من أنّا نحيا بعد موتنا مرّة اخرى، أنصفوا أيّها العقلاء

أَ إِذٰا مِتْنٰا و اقبرنا وَ كُنّٰا بعد سنين تُرٰاباً نرجع إلى ما كنّا عليه من الحياة؟ لا يكون ذلك أبدا، لأنّ ذٰلِكَ الرجوع الذي يدّعيه محمد رَجْعٌ و ردّ بَعِيدٌ عن العادة أو الإمكان و الصدق، لاختلاط أجزاء الموتى عند صيرورتهم ترابا بعضها ببعض، و عدم تميّز أجزاء كلّ ميت عن أجزاء الآخرين، فكيف يمكن جمعها و إعادة خلق كلّ ميت من أجزائه التي كانت له حال حياته؟!

قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمٰاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنٰاهٰا

ص: 28


1- . تفسير روح البيان 101:9.
2- . تفسير الجامع للقرطبي 2:17.
3- . تفسير الرازي 147:28.
4- . تفسير الرازي 148:28.
5- . كذا، و الظاهر: لركاكة.
6- . تفسير الرازي 146:28 فيه اشارة إلى هذا.

وَ زَيَّنّٰاهٰا وَ مٰا لَهٰا مِنْ فُرُوجٍ (6) ثمّ ردّ سبحانه استبعادهم بأنّ عدم تميّز الأجزاء إنّما هو عندكم، لقصور علمكم، و أمّا نحن فانّا

قَدْ عَلِمْنٰا و ميّزنا كلّ ذرة من تراب مٰا تَنْقُصُ و تأكل اَلْأَرْضُ من أجزاء كلّ جسد مِنْهُمْ و تصيّر من لحومهم و عظامهم و تغيّرنا ترابا مع التفرّق في اقطارها و تخومها، و اختلاط بعضها مع بعض وَ مع ذلك عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ و مصون من الغلط و التغيير و السهو، فيه تفاصيل الأشياء كلّها جزءا جزءا، و هو اللوح المحفوظ.

و قيل: إنّ المراد تمثيل علمه تعالى بعلم من عنده كتاب مضبوط فيه تفاصيل جميع الموجودات في العالم(1) ، يعلم الناظر فيه بخصوصيات كلّ ذرّة منها، بحيث لا يشتبه عليه جزء بجزء، فكيف يستبعد ممّن كان علمه بهذه السّعة و الكمال رجعهم و إعادتهم أحياء؟ لا و اللّه ليس الإعادة عندهم بذلك البعيد

بَلْ كَذَّبُوا عنادا و لجاجا بِالْحَقِّ و رسالة محمد الثابتة بالمعجزات الباهرات، أو القرآن الثابت كونه كلام اللّه باشتماله على وجوه من الإعجاز لَمّٰا جٰاءَهُمْ من غير تفكّر و تأمّل في براهين صدقه فَهُمْ كائنون فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ قيل: إنّ المراد في رأي مختلف و قول مختلط، حيث قالوا تارة إنّه شاعر أو شعر، و تارة إنّه كاهن أو كهانة(2).

و قيل: يعني في حال مضطرب، فانّهم تارة يظهرون الشكّ في صدقه، و تارة يظهرون الظنّ بكذبه، و يتعجّبون من دعوته، و تارة يظهرون الجزم بكذبه(3).

ثمّ إنّه تعالى بعد إبطال استبعادهم بقوله: قَدْ عَلِمْنٰا إلى آخره، استبعد منهم ذلك الاستبعاد مع ظهور قدرته بقوله:

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا قيل: إنّ التقدير أ كان المنكرون للبعث عميانا فلم ينظروا نظرا منهيا (4)إِلَى السَّمٰاءِ و هي ظاهرة عندهم غير غائبة عنهم حيث إنّها فَوْقَهُمْ فيروا أنّا كَيْفَ بَنَيْنٰاهٰا و رفعناها مع عظمتها بغير عمد؟! و من المعلوم أنّ بناءها أصعب من نباء أساس أبدانهم وَ كيف زَيَّنّٰاهٰا بزينة الكواكب مع أنّ تزيينها أصعب و أكمل من تزيين أبدانهم باللحم و الجلد و السمع و البصر وَ الحال أنّه مٰا لَهٰا مِنْ فُرُوجٍ و فتوق و مسام و خلل، و لبدن الانسان خلل و مسامات، و من الواضح أنّ تأليف ما خلل له و لا مسامّ أصعب من تأليف ما له خلل و فرج و مسام، فكيف تستبعدون خلق الأبدان ثانيا مع كونه أهون؟!

ص: 29


1- . تفسير البيضاوي 420:2، تفسير أبي السعود 126:8، تفسير روح البيان 105:9.
2- . تفسير الرازي 154:28.
3- . تفسير الرازي 154:28.
4- . تفسير روح البيان 106:9.

وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَ نَزَّلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9) ثمّ بالغ سبحانه في الاستدلال على قدرته الموجب لرفع استبعاد المعاد بقوله تعالى:

وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا فوق الماء، و بسطناها كالفراش، كما رفعنا السماء كالسقف وَ أَلْقَيْنٰا في الأرض، كما تلقى الحصاة فِيهٰا جبالا رَوٰاسِيَ و ثوابت، لترسو الأرض، و تمنعها من الحركة و الاضطراب فوق الماء.

روي أنّه لمّا خلق اللّه الأرض جعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها، فأصبحت و قد ارسيت بالجبال (1)وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا بقدرتنا بعد يبسها و زلاقها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ و صنف من النباتات بَهِيجٍ و ذي حسن و نظارة، و إنّما فعلنا تلك الأفعال البديعة، و خلقنا تلك الأشياء العجيبة، لتكون

تَبْصِرَةً و مسببا لمعرفة خالقهم، و منبّه بالتفكّر فيها وَ ذِكْرىٰ و عظة و داعية إلى شكرها للناس، و إنّما الانتفاع بها لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ و راجع إلى ربّه بالتفكّر في بدائع صنعه و نعمه الموجبة لشكره و أداء حقّه

وَ نَزَّلْنٰا برحمتنا مِنَ السَّمٰاءِ بالأمطار مٰاءً مُبٰارَكاً كثير النفع، حيث إنّه به حياة كلّ شيء من الأرض و النبات و الحيوان و الناس فَأَنْبَتْنٰا بِهِ في الأرض جَنّٰاتٍ و بساتين من حيث أشجارها المثمرة و غير المثمرة و أنبتنا وَ حَبَّ الزرع اَلْحَصِيدِ في كلّ سنة من البرّ و الشعير و الدّخن و غيرها.

وَ النَّخْلَ بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبٰادِ وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذٰلِكَ الْخُرُوجُ (11) ثمّ خصّ النخل بالذكر مع دخولها في الجنات، لكثرة منافعها و شرفها على سائر الأشجار المثمرة بقوله:

وَ انبتنا اَلنَّخْلَ التي تكون بٰاسِقٰاتٍ و طوالا، أو حوامل بالثمار لَهٰا طَلْعٌ و عنقود نَضِيدٌ و موضوع بعض الحبوب على بعض أكمامها، كسنبلة البرّ، فان كانت انثى تصير تلك الحبوب بسرا و تمرا، و هو من العجائب، فانّ الأشجار الطوال أثمارها بارزة متميزة بعضها من بعض، لكلّ واحد منها أصل يخرج منه، كالجوز و اللوز و غيرهما، و إنّما أنبتنا الحبوب و الثمار و النخل ليكون

رِزْقاً و معاشا لِلْعِبٰادِ.

ص: 30


1- . تفسير روح البيان 107:9.

و قيل: إنّ الرزق بمعنى الإنبات، و المعنى أنبتنا إنباتا للعباد(1).

و على أي تقدير إنّما علّل سبحانه خلق الثمار بكونها رزقا مع أنّ فيها أيضا تبصرة و ذكرى، لكون الارتزاق بها عند الناس أظهر فوائدها، و لأنّ اللّه تعالى بعد بيان كونه قادرا على خلق أجسادهم، بيّن نعمه عليهم المقتضية لغاية قبح تكذيبهم منعمهم.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على إحيائهم بعد خلق أجسادهم بقوله: وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً و أرضا يابسة جدبة لا نبات و لا نماء فيها، فتشقّقت و خرج منها بالمطر أنواع النبات و الأزهار كَذٰلِكَ الإحياء للأرض إحياؤكم في القبور، و كخروج النباتات اَلْخُرُوجُ منها للحشر و الحساب.

روي أنّ اللّه يمطر السماء أربعين ليلة كمنيّ الرجال، يدخل في الأرض، فينبت لحومهم و عروقهم و عظامهم، ثمّ يحييهم و يخرجهم من تحت الأرض(2).

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحٰابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عٰادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوٰانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحٰابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) ثمّ هدّد سبحانه المكذّبين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و المنكرين للمعاد من كفّار قريش و غيرهم بما نزل من العذاب على أمثالهم من الامم الماضية بقوله:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ بالرسول و المعاد قَوْمُ نُوحٍ من بني شيث و بني قابيل وَ كذب أَصْحٰابُ الرَّسِّ.

في قصة أصحاب

الرّسّ

قيل: كان الرّسّ بئرا بعدن لامّة من بقايا ثمود، و كان لهم ملك عادل حسن السيرة، اسمه عليس، و كانت البئر كثيرة الماء بحيث تسقي المدينة و باديتها و جميع ما فيها من أهاليها و دوابّها و أنعامها، و لم يكن لهم ماء غيره، فطال عمر الملك، فلمّا مات ضجّوا جميعا بالبكاء، لمّا رأوا أن أمرهم قد فسد، ثمّ طلوا جسده بالدّهن لتبقى صورته، و لا يتغير، و اغتنم الشيطان ذلك منهم، فدخل في جثّة الملك بعد موته بأيام كثيرة فكلّمهم، و قال: إنّي لم أمت، و لكنّي تغيّبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي. ففرحوا أشدّ الفرح، و أمر خاصته أن يضربوا حجابا بينه و بينهم، و يكلّمهم من ورائه كيلا يعرف الموت في صورته، فنصبوه صنما من وراء الحجاب، لا يأكل و لا يشرب، و أخبرهم أنّه لا يموت ابدا، و أنّه إلههم، و يتكلم الشيطان ذلك كلّه على لسانه، فصدّق كثير منهم، و ارتاب بعضهم، و كان المؤمن المكذّب أقلّ من المصدّق. فكلّما تكلّم ناصح

ص: 31


1- . تفسير الرازي 157:28 و 158.
2- . تفسير روح البيان 109:9.

منهم زجر و قهر، فاتّفقوا على عبادته، فبعث اللّه لهم نبيّاً كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، و كان اسمه حنظلة بن صفوان، فاعلمهم أنّ الصورة صنم لا روح له، و أنّ الشيطان فيه، و أنّ اللّه لا يتمثّل بالخلق، و أنّ الملك لا يكون شريكا للّه تعالى، و نصحهم و حذرهم سطوة ربّهم و نقمته، فآذوه و عادوه، و هو يبالغ في نصحهم و وعظهم، حتى قتلوه و طرحوه في بئر، و عند ذلك حلّت عليهم النقمة، و أصبحوا و البئر [قد] غار ماؤها، فصاحوا بأجمعهم، و ضجّ النساء و الولدان و البهائم عطشا حتى هلكوا، و تبدّلت اشجارهم المثمرة بالسّدر و الشوك(1).

و قيل: إنّ الرّسّ بئر قريب من اليمامة(2).

و قيل: بئر آذربايجان(3) ، أو اسم واد(2) ، و قد سبقت قصتهم في سورة الفرقان.

وَ كذّبت ثَمُودُ * وَ عٰادٌ وَ فِرْعَوْنُ الذي كان مفتر و مستخفا بقومه فأطاعوه و اتّبعوه، و لذا لم يقل: قوم فرعون وَ إِخْوٰانُ لُوطٍ و إنّما عبّر سبحانه عن قوم لوط بإخوان، لأنّهم كانوا طائفة من قوم إبراهيم، لهم سابقة معروفة بلوط، و كذا قيل (3)

وَ أَصْحٰابُ الْأَيْكَةِ و الغيظة، و هم من قوم شعيب وَ قَوْمُ تُبَّعٍ الحميري ملك اليمن كُلٌّ من أفراد هؤلاء الأقوام كَذَّبَ الرُّسُلَ المبعوثين إليهم، أو الرسل جميعا فيما ارسلوا به من التوحيد و البعث و الشرائع فَحَقَّ و ثبت، أو حلّ عليهم وَعِيدِ اللّه، و ما أنذروهم به من العذاب، و في الآية تسلية للرسول، لئلا يحزن بتكذيب قومه، و يصبر على أذاهم، كما صبر الرّسل على أذى قومهم، و يطمئنّ بالظّفر على أعدائه كما ظفروا.

أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد الآيات الآفاقية الدالة على التوحيد و صحّة البعث عاطفا بعضها على بعض بالواو لكون جميعها من جنس واحد، استدلّ بخلق أنفسهم عاطفا له بالفاء لتأخّره في الرّتبة عن تلك الآيات بقوله:

أَ فَعَيِينٰا و عجزنا عن خلقكم ثاني مرّة بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ و بسبب إيجادهم في الدنيا أو بخلق السماوات و الأرض؟! لا و اللّه إنّهم لا ينكرون أنّا خلقنا السماوات و الأرض، و أنّا خلقناهم في الدنيا بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ و شكّ و شبهة مِنْ خَلْقٍ لهم جَدِيدٍ و ثاني مرة، لكونه على خلاف العادة في الدنيا، و يقولون: أ يكرّر و يجدّد خلقنا، و نرجع ثانيا أحياء؟! ذلك رجع بعيد.

قال بعض المتكلمين: إنّ ابن آدم في كلّ زمان متلبّس بخلق جديد، فإنّه تتحلّل أجزاؤه، و يخلق لها

ص: 32


1- . تفسير روح البيان 109:9. (2و3) . تفسير روح البيان 110:9.
2- . تفسير روح البيان 110:9.
3- . تفسير الرازي 161:28.

بدل ما يتحلّل، فهو في هذا العالم يتجدّد خلقه، و اللّه تعالى في كلّ يوم من خلقه، بل من خلق العالم في شأن، و عليه يكون معنى الآية أنّه لا يختصّ تجديد خلقهم بما بعد خروجهم من الدنيا، بل هم في هذه الدنيا متلبّسون في كلّ يوم بخلق آخر جديد(1).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «تأويل ذلك أن اللّه تعالى إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم، و سكن أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار، جدّد اللّه عالما آخر غير هذا العالم، و جدّد خلقا من غير فحوله و لا إناث يعبدونه و يوحّدونه، و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم، و سماء غير هذه السماء تظلّلهم، لعلك ترى أن اللّه إنّما خلق هذا العالم الواحد، أو ترى أنّ اللّه لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى و اللّه لقد خلق اللّه ألف ألف عالم، و ألف ألف آدم، و أنت في آخر تلك العوالم، و اولئك الآدميين»(2).

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمٰالِ قَعِيدٌ (17) مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته و سعة علمه المبنيين لإمكان الخلق الجديد بقوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا بقدرتنا الكاملة اَلْإِنْسٰانَ في الدنيا من غير مثال سابق وَ نَعْلَمُ بذاتنا مٰا تُوَسْوِسُ و تحدّث بِهِ نَفْسُهُ و تخطر على قلبه من خير أو شر، أو خطرات السوء الحاصلة بإلقاء الشيطان وَ نَحْنُ أَقْرَبُ علما إِلَيْهِ من كلّ قريب حتى مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ و العرق المتّصل بقلبه المخالط للحمه، و فيه مجاري روحه الحيواني، و هو كناية عن نهاية القرب، و المعنى أنّ اللّه تعالى أقرب إلى الانسان من روحه و نفسه

إِذْ يَتَلَقَّى و حين يتلقّن الملكان اَلْمُتَلَقِّيٰانِ و الآخذان من الانسان فعله و قوله، و كاتبان عليه كلّما يصدر منه، فليس توكيلهما عليه لكتابة أعماله للحاجة في الاطلاع على أعماله إلى ضبطهما و ثبتهما أعماله، لأنّا أقرب إليه من كلّ قريب، و أعلم بحاله من نفسه، بل لكونه بعد الاطلاع على أنّ عليه ملكين موكلين لكتابة أعماله، أدعى له إلى الطاعة، و أزجر له عن المعصية، و كلّ منهما عَنِ الْيَمِينِ من الانسان وَ عَنِ الشِّمٰالِ منه قَعِيدٌ و جالس.

مٰا يَلْفِظُ و ما يرمى به مِنْ قَوْلٍ و كلام خير أو شرّ إِلاّٰ لَدَيْهِ ملك رَقِيبٌ يراقب ذلك القول و يكتبه في صحيفته، و هو عَتِيدٌ و مهيأ لكتابته، أو هو حاضر عنده أينما كان، لا يفارقه و لا

ص: 33


1- . تفسير روح البيان 111:9.
2- . التوحيد: 2/277، تفسير الصافي 60:5.

يغفل عنه.

روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «نقّوا أفواهكم بالخلال، فانّها مجلس الملكين الكريمين الحافظين، و إنّ مدادهما الرّيق، و قلمهما اللسان، و ليس عليهما شيء أمرّ من بقايا الطعام بين الأسنان»(1).

و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ قال: «عند نابيه»(2).

و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، و كاتب السيئات على يسار الرجل، و كاتب الحسنات أمير و أمين على كاتب السيئات، فاذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، و إذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح و يستغفر»(3) و روى أصحابنا عن الصادق عليه السّلام ما يقرب منه(4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ ملائكة الليل و ملائكة النهار يصلّون معكم العصر، فتصعد ملائكة النهار و تمكث ملائكة الليل، فاذا كان الفجر نزل ملائكة النهار و يصلّون الصبح، فتصعد ملائكة الليل و تمكث ملائكة النهار، و ما من حافظين يرفعان إلى اللّه ما حفظا فيرى اللّه في أول الصحيفة خيرا و في آخرها خيرا إلاّ قال لملائكته: اشهدوا أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة»(5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تبارك و تعالى وكّل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فاذا مات قال الملكان للذين يكتبان عمله: قد مات فلان، فتأذن لنا أن نصعد إلى السماء. فيقول اللّه تعالى: إنّ سمائي مملوءة من ملائكتي يسبّحون. فيقولان: فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي فكبّراني و هلّلاني: و اكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة»(6).

و قيل: إنّ التلقّي بمعنى الاستقبال، و المعنى بناء عليه: أنّ لكل إنسان ملكين يستقبلان روحه حين موته، فيأخذان روحه من ملك الموت، أحدهما يأخذ أرواح الصالحين، و ينقلها إلى دار السرور، و الآخر يأخذ أرواح الطالحين، و ينقلها الى الويل و الثبور، و عنده ملكان يكتبان أعماله، فاذا نزل المتلقيان يسألان الكاتبين أن الذي مات من الصالحين، أو من الصالحين، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور، و يرجع إلى الآخر مسرورا، و إن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب، و يرجع إلى الآخر محزونا»(7).

ص: 34


1- . تفسير روح البيان 116:9.
2- . تفسير روح البيان 116:9.
3- . جوامع الجامع: 461، تفسير الصافي 61:5، تفسير روح البيان 115:9.
4- . الكافي 4/313:2، تفسير الصافي 61:5.
5- . تفسير روح البيان 116:9.
6- . تفسير روح البيان 117:9.
7- . تفسير الرازي 163:28.

أقول: فيه أنّ الظاهر أنّ الآيتين بيان لحال الانسان قبل خروج روحه.

وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ مٰا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) ثمّ لمّا استبعدوا البعث بيّن سبحانه بعض أهوال النّزع و قيام الساعة بقوله:

وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ و شدّته المذهبة للعقول المزيلة للفطن الجاعلة للانسان كالسكران بِالْحَقِّ و الموت الثابت الذي لا محيص عنه.

نقل رواية عامية في

فضيلة علي عليه السّلام

و جهل عمر

كما حكى بعض العامة أنّ رجلا أتى عمر و قال: إنّي أحبّ الفتنة، و أكره الحقّ، و أشهد بما لم أره. فحبسه عمر، فبلغت قصّته أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: «يا عمر حبسته ظلما» فقال: كيف ذلك؟ قال: «لأنّه يحبّ المال و الولد، و قال اللّه تعالى: إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ (1) و يكره الموت و هو الحقّ، قال تعالى: وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ و يشهد بأنّ اللّه واحد و هو لم يره» فقال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر(2) انتهى.

فيقول له ملك الموت، أو لسان حاله: يا إنسان ذٰلِكَ الموت الذي نزل بك هو مٰا كُنْتَ في الدنيا مِنْهُ تَحِيدُ و تميل و تهرب، بل تحسب أن لا ينزل عليك لانغمارك في شهوات الدنيا و حبّها، و التعبير بالماضي للإيذان بتحقّقه و قربه، و إسناد إتيان الموت إلى سكرته لبيان غاية شدّتها، فكأنّ شدّة حال النزع اقتضت الموت، و أمات ذلك الانسان.

و قيل: إنّ المراد بالحقّ الدين الذي جاء به الرسول(3) ، فانّ الانسان حال احتضاره يظهر له حقّانيته، فكنّى سبحانه عن ظهور الحقّ بالسّكرة باتيانها به، أو المراد من الحقّ العذاب المعدّ للكفّار، فإنّه ينزل عليه بالموت، أو يراه في حال الاحتضار و ميله عن الحقّ على التقديرين إنكاره إياه.

عن القمي رحمه اللّه، قال: نزلت في الأول(4).

أقول: يعني أنّه أظهر من تنطبق عليه الآية، روت العامة عن عائشة، أنّها قالت: أخذت أبا بكر غشية من الموت، فبكيت عليه، فأفاق أبو بكر، فقال: وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ مٰا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (5).

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَ جٰاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهٰا سٰائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَ قٰالَ

ص: 35


1- . التغابن: 15/64.
2- . تفسير روح البيان 118:9.
3- . تفسير الرازي 164:28.
4- . تفسير القمي 324:2، تفسير الصافي 61:5.
5- . تفسير روح البيان 118:9.

قَرِينُهُ هٰذٰا مٰا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ (24) مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) اَلَّذِي جَعَلَ مَعَ اللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيٰاهُ فِي الْعَذٰابِ الشَّدِيدِ (26) قٰالَ قَرِينُهُ رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ وَ لٰكِنْ كٰانَ فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ (27) قٰالَ لاٰ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مٰا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مٰا أَنَا بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ (29) ثمّ ذكر سبحانه أهوال البعث بعد الموت بقوله:

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الثانية، و هي نفخة البعث و النشور، فيقول لهم الملك تهويلا: ذٰلِكَ الوقت الذى بعثتم فيه يَوْمُ إنجاز اَلْوَعِيدِ الذي أوعدكم اللّه على لسان رسله به من العذاب و الأهوال

وَ جٰاءَتْ من القبور إلى المحشر كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرّة و الفاجرة و مَعَهٰا ملك سٰائِقٌ له يسوقه إلى المحشر، و إن اختلفت كيفية سوق المؤمن و الكافر، و المطيع و العاصي وَ ملك شَهِيدٌ على أعمالها أنّها خير تستحقّ بها الجنّة، أو شرّ تستحق بها النار.

و في (نهج البلاغة): «سائق يسوقها إلى المحشر، و شاهد يشهد عليها بعملها»(1).

قيل: إنهما الملكان الكاتبان(2). و قيل: ملك واحد يسوقها و يشهد على عملها(3). و قيل: السائق ملك، و الشهيد جوارحه(4).

ثمّ يقال لذلك المسوق:

لَقَدْ كُنْتَ في الدنيا غائرا فِي غَفْلَةٍ عظيمة مِنْ هٰذٰا اليوم و ما فيه من الأهوال فَكَشَفْنٰا و أزلنا عَنْكَ غفلتك التي كانت غِطٰاءَكَ و حجابك الذي يمنعك عن اليقين بمجيء هذا اليوم، و يحتمل كون المراد من الغطاء الجهل و الشهوة و حبّ الدنيا فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ لانكشاف الغطاء عنه حَدِيدٌ و نافذ، تبصر ما كنت منكره و تستبعده و تتعجّب ممّن يخبر به، و لكن لا ينفعك اليوم إبصار

وَ قٰالَ الملك الذي هو قَرِينُهُ في الدنيا يكتب أعماله، أو الملك الشهيد عليه، كما عنهما عليهما السّلام(3): هٰذٰا الكتاب الذي فيه أعمالك مٰا لَدَيَّ و هو الذي عندي عَتِيدٌ و حاضر، أو مهيّأ جميعا للعرض.

و قيل: إنّ المراد بالقرين الشيطان المقيّض له(4). يقول هذا الشخص العاصي الطاغي: ما لدي و الذي عندي و في ملكتي و مقدوري عتيد و مهيأ لورود جهنّم، قد هيأته له بإغوائي و إضلالي، فيقول اللّه تعالى للسائق و الشهيد، أو الملكين من خزنة النار:

أَلْقِيٰا أيّها الملكان فِي جَهَنَّمَ هذا الكافر

ص: 36


1- . نهج البلاغة: 116، الخطبة 85، تفسير الصافي 61:5.
2- . تفسير روح البيان 121:9. (3و4) . تفسير البيضاوي 422:2.
3- . مجمع البيان 220:9، تفسير الصافي 62:5.
4- . تفسير أبي السعود 131:9، و في النسخة: المقبض له.

و كُلَّ كَفّٰارٍ و كثير الطغيان على المنعم و مبالغ في التضييع لحقوقه بانكار توحيده و نعمه.

و قيل: يعني كلّ كافر حامل غيره على كفره(1) ، عنيد و مبغض للحقّ، أو منحرف عن الطاعة، أو معجب بما عنده.

و عن القمي: أنّه خطاب للنبي صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام(2).

و عن السجاد عليه السّلام، عن أبيه، عن جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تبارك و تعالى إذا جمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد كنت أنا و أنت عن يمين العرش، ثمّ يقول اللّه تبارك و تعالى لي و لك: قوما فالقيا من أبغضكما و كذّبكما في النار»(3).

و في (المجمع) و (الأمالي) من طرق العامة مثله، و زادا: «و أدخلا في الجنّة من أحبكما، و ذلك قوله تعالى: أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ (4).

مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ و كثير البخل بالمال، الممتنع عن أداء حقوق اللّه من الزكاة و الخمس و غيرهما من الواجبات المالية.

و قيل: إنّ المراد بالخير الاسلام. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة لمّا منع بني أخيه منه، و كان يقول:

من دخل منكم في الاسلام لم أنفعه بخير ما عشت(5).

مُعْتَدٍ و مجاوز عن حدود العقل، ظالم على نفسه و على العباد، و معاند لآيات اللّه و لأهل الحقّ مُرِيبٍ و شاكّ في دين الاسلام، أو في البعث

اَلَّذِي جَعَلَ و اختلق من قبل نفسه و هواه مَعَ اللّٰهِ و أشرك به في العبادة إِلٰهاً آخَرَ و معبودا غيره من مخلوقاته، كالكواكب و الأصنام، فكلّ من كان من الناس بهذه الصفات فَأَلْقِيٰاهُ فِي الْعَذٰابِ الشَّدِيدِ هذا الأمر تأكيد لما سبق.

ثمّ قيل: إنّ الكفار يعتذرون إلى اللّه بأنّ الشيطان الذي كان قريننا في الدنيا أضلّنا و أطغانا، فهو المستحقّ للعذاب دوننا

قٰالَ الشيطان الذي هو قَرِينُهُ و مصاحبه في الدنيا رَبَّنٰا ما أضللته و مٰا أَطْغَيْتُهُ بالقهر و الجبر وَ لٰكِنْ كٰانَ هو لخبث ذاته و سوء أخلاقه مستقرا فِي ضَلاٰلٍ و انحراف ظاهر عن صراطك المستقيم بَعِيدٍ عن طريق الحقّ القويم، بحيث لا يرجى منه الرجوع إليه، و أنا أعنته على ضلاله و طغيانه بالإغواء و الدعوة لا عن قهر و إلجاء.

قٰالَ اللّه تعالى لاٰ تَخْتَصِمُوا و لا تنازعوا لَدَيَّ و في محضر عدلي و موقف حكومتي، إذ لا فائدة فيه، و لا عذر

ص: 37


1- . تفسير روح البيان 123:9.
2- . تفسير القمي 324:2، تفسير الصافي 62:5.
3- . تفسير القمي 324:2، تفسير الصافي 62:5.
4- . أمالي الطوسي: 563/290، مجمع البيان 220:9، تفسير الصافي 62:5.
5- . تفسير روح البيان 124:9.

مقبول وَ الحال أنّي قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ و أعلمتكم في دار الدنيا بتوسّط رسلي و كتبي بِالْوَعِيدِ و العذاب الشديد على الشرك و الطغيان، و أتممت الحجّة عليكم، و قطعت عذركم، فاليوم

مٰا يُبَدَّلُ و لا يغيّر اَلْقَوْلُ الذي قلته، و الوعيد الذي وعدته على الشرك و الكفر و الطغيان في كتابي بقولي: إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (1) و قولي: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ (2)فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (3).

لَدَيَّ بوقوع الخلف فيه وَ مٰا أَنَا بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ بتعذيبهم بغير استحقاق أشدّ العذاب مع كونهم أهلين للرحمة و العطوفة و إنّما نفى كثرة الظلم عن نفسه مع أنّه لا يصدر منه أقلّه؛ لأنّه لو عذّبهم بهذا العذاب الشديد بغير استحقاق، كان أكثر ظلما من كلّ ظالم.

قيل: إنّ كثرة الظلم المنفي باعتبار كثرة العبيد(4). و قيل: إنّ المبالغة راجعة إلى النفي، لا إن النفي وارد على صيغة المبالغة(5). و قيل: إنّ الظلاّم بمعنى الظالم، كالتمّار بمعنى التامر.

و قيل: إنّ الظلام تقديري، و المعنى أنّي لو ظلمت عبدي الضعيف المستحقّ لغاية الرحمة، لكان ذلك غاية الظلم، و ما أنا بذلك(6). و قيل: إنّ نفي كونه ظلاّما لا ينافي نفي كونه ظالما، و نفيه للعبيد لا ينافي عدم كونه ظالما لغيرهم(5).

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هٰذٰا مٰا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّٰابٍ حَفِيظٍ (32) و ذكر العبيد و التخصيص بهم لكونهم أقرب إليه، و كونه أقبح منه، كما أنّه لا ينافي نفي كونه ظالما في جميع الأزمنة تخصيص نفيه بيوم القيامة بقوله:

يَوْمَ و المعنى ما أنا بظلام للعبيد في يوم نَقُولُ في ذلك اليوم مع عظمتنا، طلبا(6) لتصديقنا في أخبارنا، و تحقيق وعدنا، و تقريع أهل العذاب لِجَهَنَّمَ و دار العذاب بعد إلقاء جميع الكفّار من الجنّ و الإنس فيها: هَلِ امْتَلَأْتِ بمن ألقينا فيك، و هل وفينا بوعدنا إيّاك أن نملأك من الجنّة و الناس؟ وَ تَقُولُ جهنّم مجيبة لنا، و استكثارا لما القي فيها مع غاية سعتها و تباعد أقطارها و أطرافها: يا رب هَلْ مِنْ مَزِيدٍ و موضع يمكن أن يلقى فيه(7) زيادة على ما القي فيّ، لا و عزّتك لم يبق فيّ موضع يسع إبرة.

و قيل: إنّ الاستفهام لطلب الزيادة غيظا على الكفّار و العصاة، و كان السؤال قبل إدخال الكلّ فيها، أو

ص: 38


1- . النساء: 48/4 و 116.
2- . النساء: 48/4 و 116.
3- . البقرة: 81/2.
4- . تفسير روح البيان 126:9. (5و6) . تفسير الرازي 172:28.
5- . تفسير الرازي 173:28.
6- . في النسخة: طالبا.
7- . في النسخة: في.

كان بعد إدخال الكلّ، و هي تطلب الزيادة في سعتها و إلقاء الكفّار فيها(1).

و قيل: إنّه لا يكون سؤال و جواب، و إنّما ذكر اللّه سبحانه ذلك على سبيل التمثيل و التخيّل(2).

إظهارا لامتلاء جهنّم، و اشتياقها إلى الكفّار، و الحقّ أنّه بيان الحقيقة و الواقع، حيث إنّ جهنّم بل جميع ما في عالم الآخرة لها شعور و حياة و قوة نطق، كما دلّ عليه بعض الأخبار.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان شدة غضبه و عذابه على الكفّار، بيّن كثرة لطفه و رحمته للمؤمنين المتقين بقوله:

وَ أُزْلِفَتِ و قربت اَلْجَنَّةُ في ذلك اليوم لِلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن الشرك و الكفر و العصيان، بحيث يرونها من الموقف، و يطّلعون على ما فيها من المحاسن و البهجة و النّعم، ليزيد فرحهم و ابتهاجهم، و هي تكون شيئا غَيْرَ بَعِيدٍ عنهم، و فيه تأكيد لكمال قربها منهم و إكرامه لهم، و أيضا في صدر الآية دلالة على أنّ الجنة تقرب إليهم، لا أنّهم يقربون إلى الجنّة، و يحتمل أن يكون المراد بالقرب هنا كناية عن سهولة دخولهم فيها.

و عن القمي رحمه اللّه: أنّ المعنى زيّنت الجنّة للمتقين بسرعة(3).

ثمّ يقال لهم تفريحا لقلوبهم:

هٰذٰا الذي تشاهدونه من الجنّة و نعيمها مٰا كنتم في الدنيا تُوعَدُونَ و تبشّرون به على إيمانكم و طاعتكم، في كتابنا المنزل على لسان النبي المرسل. ثمّ ابدل سبحانه عن المتّقين بقوله: لِكُلِّ أَوّٰابٍ و رجّاع إلى ربّه بالتوبة و الاستغفار من ذنوبه حَفِيظٍ يحفظ توبته من النقض، و عهده مع اللّه بالطاعة من الرفض، و قيل: الرجّاع إلى اللّه بالفكر(4) و التوجّه بالقلب، شديد التحفّظ على طاعة أحكامه و أوامره و نواهيه.

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمٰنَ بِالْغَيْبِ وَ جٰاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ ذٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ فِيهٰا وَ لَدَيْنٰا مَزِيدٌ (35) ثمّ بالغ سبحانه في توضيح المتّقين بقوله:

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمٰنَ و خاف من اللّه العظيم، مع كونه الرحمن المبالغ في الرحمة و العطوفة بعبده حال كونه بِالْغَيْبِ من خلقه لا يرونه بالحواسّ الظاهرة، أو خشى الرحمن من أن يعاقبه حال كون عقابه بالغيب لم يره بعينه وَ جٰاءَ ربه في الآخرة بِقَلْبٍ مُنِيبٍ و حضر عنده مع قلب سليم من الشرك و رذائل الأخلاق و الشكّ و النفاق.

ثمّ يقال لهم على رءوس الأشهاد من قبل اللّه تبارك و تعالى: أيّها المتقون، اذهبوا إلى الجنة التي

ص: 39


1- . تفسير الرازي 174:28.
2- . تفسير البيضاوي 424:2، تفسير أبي السعود 132:8، تفسير روح البيان 127:9.
3- . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 63:5.
4- . تفسير الرازي 176:28.

ترونها و

اُدْخُلُوهٰا حال كونكم مكرمين بِسَلاٰمٍ من اللّه و ملائكته، أو متلبّسين بسلامة من العذاب و الآفات و زوال النعم و حلول النقم، آمنين منها ذٰلِكَ اليوم الذي أنتم فيه يَوْمُ الْخُلُودِ في الجنّة و نعمها و البقاء فيها أبدا.

ثمّ بشّر اللّه سبحانه في الدنيا المتّقين بنعمه التي أعدّت لهم في الجنّة بقوله:

لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ و يشتهون فِيهٰا من المآكل اللذيذة، و الأشربة الطيبة، و الملابس الناعمة الفاخرة، و الحور و القصور، و السّرر المرفوعة، و النّمارق المصفوفة و غيرها في أيّ زمان و حال. و يحتمل أن يكون ذلك خطابا للملائكة الموكّلين بخدمتهم، و المراد اعلموا يا ملائكتي أن لهم ما يشاءون، فأحضروا عندهم ما يشتهون وَ لَدَيْنٰا على ذلك مَزِيدٌ ممّا لا يخطر ببالهم، و لا تقدرون أنتم عليه، و لا يندرج تحت مشيئتهم من أنواع اللّذات و الكرامات.

قيل: إنّهم يسألون اللّه حتى تنتهي مسألتهم فيعطيهم ما شاءوا، ثمّ يزيدهم من عنده ما لم يسألوه، و لم تبلغه أمانيهم(1).

قيل: إنّ السّحاب تمرّ بأهل الجنّة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال اللّه تعالى:

وَ لَدَيْنٰا مَزِيدٌ (2) . و روي أنّ هذه الزيادة النظر إلى وجه اللّه تعالى(3). و عن القمي رحمه اللّه، قال: النظر إلى رحمة اللّه(2).

وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاٰدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين المنكرين للبعث بعذاب الآخرة و أهوالها، و ترغيبهم إلى الايمان و التقوى ببيان حسن عاقبة المتّقين، هدّدهم بما نزل على أمثالهم من الامم الماضية من العذاب بقوله:

وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا و كثيرا ما عذّبنا بعذاب الاستئصال قَبْلَهُمْ و في الأعصار السابقة على عصر قومك مِنْ قَرْنٍ و جماعات مقترنين في العصر هُمْ أَشَدُّ من قومك و أكثر مِنْهُمْ بَطْشاً و قوة في الجسم، كعاد و ثمود و غيرهم، لكفرهم و تكذيبهم الرسل و إنكارهم البعث فَنَقَّبُوا و بحثوا و تصرّفوا، أو جالوا فِي الْبِلاٰدِ و أذلّوا أهلها و قهروهم و استولوا عليهم، و هم قائلون حين نزول

ص: 40


1- . تفسير روح البيان 132:9. (2و3) . تفسير روح البيان 132:9.
2- . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 64:5.

العذاب عليهم هَلْ مِنْ مَحِيصٍ و مفرّ أو ملجأ منه؟ و لم يجدوه.

و قيل: إنّه من كلام اللّه تعالى مخاطبا لقوم النبي صلّى اللّه عليه و آله(1) ، و المعنى: أنّ الامم الماضية اهلكوا مع قوة بطشهم، فهل لكم يا قوم محمد من محيص و مهرب عن العذاب؟

إِنَّ فِي ذٰلِكَ المذكور من إهلاك الامم لكفرهم و طغياهم، و اللّه لَذِكْرىٰ و عظة لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ يفقه به و يتفكّر فيما يرد فيها، و يدرك سوء عاقبة الكفر و الطغيان، أو لمن كان له عقل، كما عن الكاظم عليه السّلام. و عن ابن عباس (2)أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ و لم يمسكه عن سماع ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم وَ هُوَ شَهِيدٌ و حاضر بذهنه ليفهم معانيه، أو شاهد بصدقه فيتّعظ بظواهره و ينزجر بزواجره.

و قيل: يعني و المنذر الذي تعجّبتم منه شهيد، كما قال: إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً (3).

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَ مٰا مَسَّنٰا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ (40) وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنٰادِ الْمُنٰادِ مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ (41) ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على إمكان إعادة الخلق للحساب بقوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ السبع وَ الْأَرْضَ بطبقاتها وَ مٰا بَيْنَهُمٰا من الموجودات فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ و أوقات بلا استعانة بالغير وَ مٰا مَسَّنٰا و ما أصابنا بذلك شيء مِنْ لُغُوبٍ و تعب و نصب حتى نعجز من إعادة الخلق ثانيا، فانّ خلق كلّ منها بالارادة المعبّر عنها بأمر (كن) بلا حاجة إلى حركة و تحمّل كلفة و مشقّة، لاستحالة الحاجة في الواجب، و فيه أيضا ردّ على اليهود حيث زعموا أنّ اللّه بدأ خلق العالم يوم الأحد، و فرغ منه يوم الجمعة، و استلقى يوم السبت على العرش و استراح.

ثمّ لمّا كان شدّة إنكار المشركين رسالة الرسول و البعث و المعاد ثقيلا على قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، أمره سبحانه بالصبر و تنزيهه تعالى عن العجز بقوله:

فَاصْبِرْ يا محمد عَلىٰ أذى المشركين و مٰا يَقُولُونَ في شأنك و شأن البعث من التعجّب من رسالتك و استبعاد البعث و الإعادة بعد الموت، كما

ص: 41


1- . تفسير الرازي 182:28.
2- . الكافي 12/12:1، تفسير الصافي 64:5، تفسير روح البيان 135:9.
3- . تفسير الرازي 183:28، و الآية من سورة الفتح: 8/48.

صبر اولو العزم من الرسل، فانّك تظفر على أعدائك كما ظفروا وَ سَبِّحْ و نزّه اللّه من العجز من تجديد الخلق و سائر الصفات الممكنات، و أقرن تسبيحه بِحَمْدِ رَبِّكَ على ما أنعم عليك من الرسالة و إصابة الحقّ في الوقتين قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ و هو وقت العصر، فأنهما أشرف الأوقات

وَ مِنَ أول اَللَّيْلِ أو بعضه فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ و أعقابه.

قيل: إنّ المراد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بإظهار عظمة اللّه و تنزيهه من العجز بالبرهان في مجامع العرب، و أن لا يسأم عن التبليغ بسبب أقاويلهم الباطلة، فانّ العرب كانوا يجتمعون في تلك الأوقات(1).

و قيل: إنّ المراد بالتسبيح قبل طلوع الشمس صلاة الفجر، و قبل الغروب صلاة الظهر و العصر، و في بعض الليل أو أوله صلاة المغرب و العشاء، و بالتسبيح في أدبار السجود صلاة النوافل أدبار الفرائض(2).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن قوله: وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ قال: «ركعتان بعد المغرب»(3).

و عن الرضا عليه السّلام، قال: «أربع ركعات بعد المغرب»(4).

و عن الصادق عليه السّلام «أنّه الوتر في آخر الليل»(5).

و قيل: إنّ المراد بالتسبيح و التحميد قول: سبحان اللّه و الحمد للّه(6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «تقول حين تمسي و حين تصبح عشر مرات: لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت، و هو على كلّ شيء قدير»(7).

قيل: إنّ وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و آله هداية الخلق و عبادة الحقّ(8) ، و المراد من الآية إذا لم يهتدوا بهدايتك، فاشتغل بعبادة ربك

وَ اسْتَمِعْ يا محمد ما اوحي إليك، و لا تكن من المعرضين عنه، أو استمع النداء يَوْمَ يُنٰادِ الْمُنٰادِ بقوله: اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوٰاجَهُمْ (9) أو بقوله: أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ (10) و قوله للمتقين: اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ (11) أو بقوله: أَيْنَ شُرَكٰاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (12) و اعلم أنّ هذه الوجوه مبنية على كون المنادي هو اللّه عز و جلّ.

أو بقوله: ايتها العظام النخرة، اجتمعن و اتّصلن و احشرن للحساب، بناء على كون المنادي إسرافيل.

ص: 42


1- . تفسير الرازي 185:28.
2- . تفسير روح البيان 140:9.
3- . الكافي 11/444:3، تفسير الصافي 65:5.
4- . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 65:5.
5- . مجمع البيان 225:9، تفسير الصافي 65:5.
6- . تفسير الرازي 185:28.
7- . مجمع البيان 225:9، تفسير الصافي 65:5.
8- . تفسير الرازي 185:28.
9- . الصافات: 22/37.
10- . سورة ق: 24/50.
11- . سورة ق: 34/50.
12- . الأنعام: 22/6.

قيل: إن إسرافيل يقوم على الصخرة و ينادي: أيتها العظام البالية، و الأوصال المتقطّعة، و اللحوم المتمزّقة، و الشعور المتفرّقة، إنّ اللّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء(1).

و قيل: إنّ جبرئيل ينادي بالحشر(2). مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ من جميع الناس يسمعه كلّهم على حدّ سواء.

يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرٰاعاً ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ (45) ثمّ بيّن سبحانه يوم نداء المنادي بقوله:

يَوْمَ يخرج جميع الناس من القبور و يَسْمَعُونَ من إسرافيل اَلصَّيْحَةَ و النفخة الثانية في الصّور، و هي مقرونة و متلبّسة بِالْحَقِّ و التحقّق، أو مصحوبة باليقين و القطع، لا بالظنّ و الشكّ، أو المراد بالصيحة بالحشر الذي هو الحقّ بقوله: يا عظام اجتمعي.

أقول: هذا التفسير لا يوافق سماع الناس تلك الصيحة.

ذٰلِكَ اليوم الذي تسمع فيه الصيحة يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور و السوق إلى المحشر و الحساب، ثمّ إلى الجنّة، أو النار.

و عن القمي يُنٰادِ الْمُنٰادِ باسم القائم و اسم أبيه (3)مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ بحيث [يصل] نداؤه إلى الكلّ سواء يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ قال: صيحة القائم من السماء ذٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (4).

و عنه، عن الصادق عليه السّلام قال: «هي الرجعة»(5).

أقول: هذا تأويل الآية لا تفسيرها.

ثمّ قرّر سبحانه دليل البعث و النشور بقوله:

إِنّٰا نَحْنُ بقدرتنا الكاملة نُحْيِي الناس جميعا في الدنيا وَ نُمِيتُ جميعهم فيها وَ بعد ذلك إِلَيْنَا لا إلى غيرنا اَلْمَصِيرُ و المرجع في الآخرة لحساب أعمالهم و جزائها، و ذلك الرجوع إلينا يكون

يَوْمَ يحيا الناس في قبورهم تَشَقَّقُ

ص: 43


1- . تفسير روح البيان 142:9.
2- . تفسير روح البيان 142:9.
3- . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 65:5، و في النسخة: و اسم اللّه. (4و5) . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 65:5.

اَلْأَرْضُ و نكشف حجاب التّراب عَنْهُمْ و يخرجون من القبور سِرٰاعاً بلا ريث و بطء ذٰلِكَ الإحياء و الخروج حَشْرٌ و بعث عود، و هو عَلَيْنٰا يَسِيرٌ و هيّن لا عسر و صعب.

ثمّ سلّى سبحانه نبيه و حبيبه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

نَحْنُ أَعْلَمُ من كلّ أحد بِمٰا يَقُولُونَ هؤلاء الكفّار من إنكار الرسالة، و استبعاد البعث بعد الموت، و تكذيب الآيات الناطقة به، و أنت لا تتعب نفسك بدعوتهم إلى الايمان بك و بكتابك و بالآخرة، لأنّك لا تكون عليهم رقيبا وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ تجبرهم على تصديقك، و تقهر على الاقرار بالمعاد و البعث، و إنّما عليك البلاغ و التذكير فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ الذي انزل إليك، المشتمل على أدلّة رسالتك بجهات إعجازه، و أدلّة قاطعة و براهين واضحة على صحة البعث و جزاء الأعمال، وعظ بما فيه من المواعظ الشافية و العبر الوافية مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ اللّه و تهديده بالعذاب الاخروي و الدنيوي، فانّهم المنتفعون بمواعظ اللّه و رسله، و أمّا من عداهم ففوّض أمرهم إلينا، فانّا نعاملهم بما يستحقّون، و نفعل بهم ما يستوجبون له.

قيل: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخطب في كثير من الأوقات بسورة (ق) لاشتمالها على ذكر اللّه و الثناء عليه، و علمه بما توسوس به النفوس، و ما تكتبه الملائكة، و تذكير الموت و سكرته و شدّته، و تذكير القيامة و أهوالها، و الشهادة على الخلائق بأعمالهم، و تذكير الجنّة و النار و الصّيحة و النّشور و الخروج من القبور، و المواظبة على الصلوات(1).

و في الحديث: «من قرأ سورة (ق) هوّن اللّه عليه تارات الموت و سكراته»(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «من أدمن في فرائضه و نوافله سورة (ق) وسّع اللّه عليه في رزقه، و أعطاه كتابه بيمينه، و حاسبه حسابا يسيرا»(3).

الحمد للّه الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة، و أسأله التوفيق لإدمان قراءتها.

ص: 44


1- . تفسير روح البيان 145:9.
2- . تفسير روح البيان 145:9، و نقل عن حواشي سعدى المفتي، تارات الموت: إفاقاته و غشياته.
3- . ثواب الأعمال: 115، مجمع البيان 210:9، تفسير الصافي 66:5.

في تفسير سورة الذاريات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الذّٰارِيٰاتِ ذَرْواً (1) فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً (2) فَالْجٰارِيٰاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمٰاتِ أَمْراً (4) ثمّ لمّا ختمت سورة (ق) المصدّرة بالحلف على صدق رسالة رسوله و إثباته، و إثبات البعث، و تهديد المكذّبين بما نزل على قوم نوح و عاد و ثمود و فرعون و قوم لوط، و إثبات التوحيد ببناء السماء و مدّ الأرض و غيرها من الآيات، اردفت بسورة الذاريات المصدّرة بالحلف على صدق المعاد، و تهديد المنكرين بما نزل على اولئك الامم مع شرذمة من تفصيل العذاب الواقع بهم، و اثبات التوحيد ببناء السماء و فرش الأرض، و بعض آخر من المطالب المهمة المربوطة بمطالب السورة السابقة.

قيل: لمّا بيّن اللّه الحشر بدلائله في السورة السابقة، و قال: ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ (1) و ذكر إصرار المشركين على الإنكار بقوله: وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ (2) لم يبق إلاّ اليمين، فنظمت بعدها سورة و الذاريات(3) ، المصدّرة بالحلف على المعاد، و صدق البعث و الحساب، فابتدأها بذكر الاسماء الحسنى، بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه بالحلف على صدق المعاد، فابتدأ بالحلف بالرياح التي تذرّ التراب و تفرّقه في أقطار الأرض بقوله:

وَ الذّٰارِيٰاتِ و المطيرات للتّراب و الأشياء الخفاف كالحشائش و التبن(4) في أطراف الأرض ذَرْواً و إطارة خاصة بها، و إنّما قدّم سبحانه الحلف بها لكونها أدلّ على كمال قدرته، ثمّ حلف بقطعات السّحاب الحاملات للأمطار بقوله:

فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً و حملا ثقيلا من الماء، و إنّما قدّمها لكونها أنفع للناس بعد الرياح، ثمّ حلف سبحانه بالسّفن الجارية بتوسّط الرياح

ص: 45


1- . سورة ق: 44/50.
2- . سورة ق: 45/50.
3- . تفسير الرازي 193:28.
4- . في النسخة التبين.

بقوله:

فَالْجٰارِيٰاتِ في البحار جريانا يُسْراً و سهلا. ثم حلف بالملائكة الذين يقسّمون الأمطار و الأرزاق بقوله:

فَالْمُقَسِّمٰاتِ أَمْراً و المراد بالأمر جنسه، فيشمل جميع الأمور المنقسمة بين الخلائق.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «الذاريات هي الرياح، و الحاملات هي السّحاب، و الجاريات هي السّفن، و المقسمات هي الملائكة الذين يقسّمون الأرزاق»(1).

و عن القمي رحمه اللّه، عن الصادق عليه السّلام: «أن أمير المؤمنين سئل عن (الذاريات ذروا) قال: الريح، و عن (الحاملات وقرا) قال: السّحاب، و عن (الجاريات يسرا) قال: هي السّفن، و عن (المقسمات امرا) قال: الملائكة»(2). و عن (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين عليه السّلام مثله(3).

و العجب من الفخر الرازي أنّه نقل هذا التفسير عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و مع ذلك اختار غيره، مع رواية العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أنا مدينة العلم، و عليّ بابها»(4) و أنّه مع الحقّ و الحقّ معه»(5).

قال الناصب: الأقرب أنّ هذه صفات أربع للرياح التي تنشئ السّحاب أولا، و الحاملات هي الرياح التي تحمل السّحب التي هي بخار المياه التي إذا سحت جرت السيول العظيمة، و هي أوقار أثقل من الجبال، و الجاريات هي الرياح التي تجري بالسّحب بعد حملها، و المقسمات هي الرياح التي تفرّق الأمطار على الأقطار(6).

و فيه مع أنّه تفسير بالرأي و من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار و مخالف لما فسّره به نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و لسانه و عيبة علمه، على تقدير ثبوته، فاسد في نفسه لظهور أنّ الذاريات غير المنشئات، و السائقات غير الحاملات، و الجاريات غير المجريات، و المقسمات مطلق الأمر الشامل للأمطار و الأرزاق و غيرها، غير مقسمات خصوص المطر، فالمقسمات أمرا كالمدبرات أمرا، قيل:

هم أربعة: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل، و عزرائيل(7). و الظاهر أنّ هؤلاء عمد المدبّرات، و إلاّ فالمدبّرات أكثر.

قيل: إنّ هذه الامور دلائل التوحيد أخرجها بصورة القسم(8).

ص: 46


1- . تفسير الرازي 195:28.
2- . تفسير القمي: 327:2، تفسير الصافي 67:5.
3- . الاحتجاج: 259، تفسير الصافي 67:5.
4- . مستدرك الحاكم 126:3 و 127، جامع الاصول 6489/473:9، أسد الغابة 22:4، تاريخ بغداد 49:11 و 50.
5- . مناقب الخوارزمي: 57، ترجمة الامام علي عليه السّلام من تاريخ دمشق 1172/53:3.
6- . تفسير الرازي 195:28.
7- . تفسير روح البيان 148:9.
8- . تفسير الرازي 194:28.

قيل: إنّ الرياح في الدلالة على كمال القدرة أتمّ لكونها أسبابا للسّحب، و السّحب أتمّ دلالة عليه من السفن لكونها أغرب ماهية و أكثر نفعا، و هذه الثلاثة لكونها من المحسوسات غير القابلة للانكار أتمّ دلالة من الملائكة، لإمكان إنكار المنكر وجودهم، و لذا صدّر الثلاثة بالفاء(1).

و قيل: إنّ الترتيب المترقّي من الأضعف إلى الأقوى، فانّ السّحب أقوى دلالة على كمال القدرة من الرياح، لتألّفها من الأجزاء المائية و الهوائية. و قليل من الأجزاء الأرضية و النارية، و فيها غرائب من الآثار العلوية، و السّفن أقوى دلالة من السّحب، لتألفها [من] جميع العناصر على ما فيها من الصنعة البديعة و الامور العجيبة من حمل الأثقال مع خفّة الحامل، و قطعها المسافة البعيدة في زمان يسير بهبوب الرياح العاصفة، و الأدلّ من الجميع إقداره الروحانيات مع لطافتهم على التصرّف في الجسمانيات مع كثافته، و لا اعتبار بانكار من لا عبرة به(2).

و قيل: إنّ وجه الترتيب كون حركة السّحاب و السفن من آثار الرياح، و بعد الحلف بما يكون سببا للرزق ذكر مقسّمات الأرزاق(3).

و قيل: إنّ المراد بالذاريات الكواكب السريعة في السير من ذرا يذرو، بمعنى أسرع. و قيل: إنّ المراد الملائكة. و قيل: إنّ التقدير: و ربّ الذاريات(4).

إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَوٰاقِعٌ (6) وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّمٰا تُوعَدُونَ أيّها المشركون من البعث و الحشر و الحساب لَصٰادِقٌ و مطابق للواقع، لا مجال للشكّ فيه. قيل: إنّ الصادق بمعنى ذو صدق(5). و قيل: إنّ في وصف المصدر بما يوصف به الفاعل غاية المبالغة(6).

وَ إِنَّ الدِّينَ و جزاء الأعمال في الآخرة لَوٰاقِعٌ و كائن لا محالة.

ثمّ حكى سبحانه اختلاف طريقة المشركين في تكذيب الرسول و المعاد و القرآن، مؤكّدا بالحلف بقوله:

وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْحُبُكِ و الطرائق المختلفة للكواكب، أو ذات الأشكال المختلفة بسبب النجوم.

و عن ابن عباس: ذات الخلق الحسن المستوي(7).

ص: 47


1- . تفسير روح البيان 148:9.
2- . تفسير روح البيان 148:9.
3- . تفسير روح البيان 148:9.
4- . تفسير الرازي 195:28.
5- . تفسير الرازي 196:28.
6- . تفسير الرازي 196:28.
7- . تفسير أبي السعود 137:8، تفسير روح البيان 150:9.

إِنَّكُمْ أيّها المشركون لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ و متناقض في شأن الرسول، فتارة تقولون: إنّه ساحر، و تارة تقولون: إنّه كاهن، و تارة تقولون: إنّه شاعر، و تارة تقولون: إنّه مجنون، و مرّة تقولون: إنّه مجادل و نحن عاجزون من الجدل، و سادسة تقولون: إنّه أمين، و سابعة تقولون: إنّه كاذب.

و في شأن القرآن تارة تقولون: إنّه سحر، و تارة تقولون: إنّه شعر، و تارة تقولون: إنّه كهانة، و تارة تقولون: إنّه أساطير.

و في شأن المعاد تارة تقولون: إنّه متيقّن و الأصنام شفعاؤنا عند اللّه، و تارة تقولون: إنّه مظنون، و تارة تقولون: إنّه مشكوك، و تارة تقولون: إنّه مقطوع العدم.

و قيل: إنّ المراد أنّكم غير ثابتين على قول، و من يكون كذلك لا يكون متيقنا في اعتقاده(1).

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم بقوله:

يُؤْفَكُ عن الرسول، أو عن القرآن، أو عن القول بالحشر، و يصرف عَنْهُ مع كونه حقا يجب الايمان به مَنْ أُفِكَ و صرف عن كلّ خير و سعادة، إذا لا صرف أفظع و أشنع منه.

و قيل: إنّه مدح للمؤمنين، فإنّهم يصرفون عن القول المختلف [و يصرفون] من صرف عن كلّ باطل، و يرشدون إلى القول المستوي(2) ، و فيه ما لا يخفى من الضّعف.

قُتِلَ الْخَرّٰاصُونَ (10) اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سٰاهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيّٰانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النّٰارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) ثمّ أظهر سبحانه الغضب على منكري رسالة الرسول و القرآن بالدعاء عليهم بقوله:

قُتِلَ و لعن اَلْخَرّٰاصُونَ و المعتمدون على الحدس و التخمين في دينهم، و المتّبعون فيه لهوى أنفسهم، مع أنّ الدين لا بدّ فيه من اليقين و الاعتماد على البراهين.

ثمّ لمّا كانت توصيفهم بالخرص غير صريح في الذمّ، وصفهم بما فيه التصريح به بقوله:

اَلَّذِينَ هُمْ كائنون فِي غَمْرَةٍ و شدّة جهل و ضلال و سٰاهُونَ و غافلون عمّا يراد بهم، بل عن أنفسهم، أو عمّا امروا به من قبل ربّهم.

ثمّ حكى سبحانه ما يدلّ على شدّة جهالتهم و بغضهم للحقّ بقوله:

يَسْئَلُونَ أولئك المشركون عنك استهزاء بقولك: (انّ الدين لواقع) و يقولون: يا محمد أَيّٰانَ و متى يقع يَوْمُ الدِّينِ و وقت

ص: 48


1- . تفسير الرازي 197:28.
2- . تفسير الرازي 198:28.

جزاء الأعمال و ابتلائنا بالعذاب.

ثمّ لمّا كان غرضهم من السؤال الاستهزاء، هدّدهم بما يشبه الجواب و ليس بجواب بقوله:

يَوْمَ هُمْ فيه عَلَى النّٰارِ يُفْتَنُونَ و يعذّبون بها، كما يفتن الذهب بالنار و يحرق خبثه. قيل: يعني يعرضون على النار كعرض المجرّب للذهب المذهّب عليها(1) ، كأنّهم يجرّبون عليها، و تقول لهم خزنة جهنّم حين تعذيبهم:

ذُوقُوا أيّها المنكرون للحشر فِتْنَتَكُمْ و عذابكم، أو ما به امتحانكم و ابتلاؤكم في الدنيا من العقائد و الأعمال هٰذَا العذاب اَلَّذِي يتذوّقونه الآن ما كُنْتُمْ بِهِ في الدنيا تَسْتَعْجِلُونَ استهزاءً بالرسول و بإخبارنا به في كتابنا، و سخرية منه حيث كنتم تقولون: متى هذا الوعد، أو أيّان يوم الدين.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ مٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كٰانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ (17) وَ بِالْأَسْحٰارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة المشركين و شدّة عذابهم في الآخرة، بيّن حسن عاقبة المتّقين و المجتنبين عن الشرك و الكفر و العصيان في الدنيا، المحترزين من عذاب اللّه في الآخرة بقوله:

إِنَّ المؤمنين اَلْمُتَّقِينَ عن الشرك و العصيان في الدنيا، متمكّنون في الآخرة فِي جَنّٰاتٍ و بساتين ذات قصور و بهاء و بهجة لا يمكن توصيفها وَ في ظلال عُيُونٍ غريزة، و أنهار جارية في أطرافهم بحيث يرونها و يفرحون بالنظر إليها حال كونهم

آخِذِينَ و قابلين مٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ بفضله من النّعم الجسام، و راضين به لغاية جودته و كماله.

قيل: في قوله: مٰا آتٰاهُمْ بصيغة الماضي، دلالة على أنّ الإعطاء و التمليك كان في الدنيا، و القبول و الأخذ كان منهم في الآخرة(2).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه علّة الإنعام على المتّقين بتلك النّعم العظيمة الجسمية بقوله: إِنَّهُمْ كٰانُوا في العالم الذي كان قَبْلَ ذٰلِكَ العالم، و هو عالم الدنيا مُحْسِنِينَ في عقائدهم و أعمالهم و أقوالهم، فأعطوا بذلك أحسن الجزاء، و كان من حسناتهم أنّهم

كٰانُوا في الدنيا مقدارا و زمانا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ و وقت نوم جميع الناس مٰا يَهْجَعُونَ و ينامون، و زمانا كثيرا منه يذكرون اللّه، و يصلّون و يعبدون.

ص: 49


1- . تفسير الرازي 199:28.
2- . تفسير الرازي 201:28.

قيل: إن كلمة (ما) في (ما يهجعون) زائدة مؤكّدة للقلّة(1). و قيل: إنّها مصدرية، و المعنى قليلا من الليل هجوعهم و نومهم(2).

قيل: نزلت في شأن الأنصار حيث كانوا يصلّون في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ يمضون إلى قبا، و بينهما ميلان(3). و قيل: إنّهم كانوا لا ينامون حتى يصلّون العشاء الآخرة(4).

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام، أنه قال: «من يهجع ما بين المغرب و العشاء حتى يشهد العشاء فهو منهم»(5).

و في (الكافي) عنه عليه السّلام: «كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان القوم ينامون، و لكن كلّما انقلب أحدهم قال: الحمد للّه، و لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر»(4).

وَ بِالْأَسْحٰارِ و الثّلث الآخر من الليالي هُمْ على الدوام يَسْتَغْفِرُونَ ربّهم لذنوبهم. و قيل:

يعني بالأسحار يصلّون طلبا لمغفرة ذنوبهم(5).

* في فضيلة الاستغفار في الأسحار

روي أنّ اللّه تعالى قال: «إنّ أحبّ أحبّائي إليّ هم الذين يستغفرون بالأسحار أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض شيئا ذكرتهم فصرفت بهم عنهم»(6).

قيل: يا رسول اللّه، كيف الاستغفار؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «قولوا: اللهمّ اغفر لنا، و ارحمنا، و تب علينا، إنّك أنت التواب الرحيم»(7).

وَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19) وَ فِي الْأَرْضِ آيٰاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ (21) ثمّ إنّه تعالى بعد مدح المتّقين بعبادة ربّهم و تعظيمه، و شفقتهم على أنفسهم بطلب مغفرة ذنوبهم، مدحهم بشفقتهم على الخلق و إحسانهم إلى العباد بقوله:

وَ فِي أَمْوٰالِهِمْ التي أعطاهم اللّه إياها، و خصّهم اللّه بها حَقٌّ عظيم و نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم لِلسّٰائِلِ و الفقير الذي يستعطيهم وَ الفقير اَلْمَحْرُومِ الذي لا يستعطيهم، بل يتعفّف عن السؤال و الطلب، بحيث يحسبه الناس غنيا فيحرم الصدقات.

ص: 50


1- . تفسير الرازي 201:28، تفسير روح البيان 153:9.
2- . تفسير الرازي 202:28، تفسير أبي السعود 138:8. (3-4-5) . تفسير روح البيان 153:9.
3- . الكافي 18/446:3، تفسير الصافي 69:5.
4- . التهذيب 1384/335:2، تفسير الصافي 69:5.
5- . تفسير الرازي 205:28، تفسير روح البيان 155:9.
6- . تفسير روح البيان 154:9.
7- . تفسير روح البيان 154:9.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «المحروم المحارف(1) الذي حرم كدّ يده من الشراء و البيع»(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «المحروم الذي ليس بعقله بأس، و لا يبسط له الرزق، و هو محارف»(3).

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عبادة المتقين و حسن أعمالهم و حسن جزائهم، بيّن استحقاقه للعبادة و الجهد في الطاعة و طلب مرضاته بقوله:

وَ فِي الْأَرْضِ سهلها و جبلها، و برّها و بحرها، و عيونها و أنهارها، و مسالكها و فجاجها، و نباتها و أشجارها، و أثمارها و معادنها، و ما رتّب فيها و دبّر لمنافعها لسكّانها آيٰاتٌ عظيمة، و دلائل واضحة على وجود صانعها و وحدانيته، و قدرته و علمه و حكمته، و إرادته و رحمته، و إنّما يكون الانتفاع بتلك الآيات لِلْمُوقِنِينَ بتوحيد اللّه، فانّهم لا يغفلون عنه في حال، و يرون له في كلّ شيء آية

وَ فِي أَنْفُسِكُمْ خصوصا آيات و دلائل على أن لها صانعا مستجمعا لجميع الكمالات، حيث إنّه انطوى في كلّ فرد منكم نظير كلّ موجود يكون في العالم، مع ما له من الأفعال البديعة و الصنائع المختلفة العجيبة، و العلوم الشريفة، و المعارف العالية، و الكمالات النفسانية الانسانية، أ أنتم عمون أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ تلك الآيات بعين البصيرة حتى تعتبروا و تستدلّوا بالصنعة على الصانع و بالنقش على النقّاش و كماله.

فى فضيلة

علي عليه السّلام

روى بعض العامة: أنّ عليا عليه السّلام صعد يوما على المنبر فقال: «سلوني عمّا دون العرش، فانّ ما بين جوانحي علم جمّ، هذا لعاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فمي، هذا ما رزقني اللّه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رزقا» و في رواية: «هذا ما رقّني رسول اللّه زقّا، فو الذي نفسي بيده، لو اذن اللّه للتوراة و الانجيل أن يتكلّما، فأخبرت بما فيهما لصدقاني».

و كان في المجلس رجل يماني، فقال: ادّعى هذا الرجل دعوى عريضة لأفضحنّه. فقام و قال: يا علي، أسأل؟ قال «سلّ تفقّها و لا تسأل تعنّتا».

فقال: أنت حملتني على ذلك، هل رأيت ربّك يا علي؟ قال: «ما كنت أعبد ربا لم أره». فقال: كيف رأيت؟ فقال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان، و لكن رأت القلوب بحقيقة الإيمان، ربّي واحد لا شريك له، أحد لا ثاني له، فرد لا مثل له، لا يحويه مكان، و لا يداوله زمان، و لا يدرك بالحواسّ، و لا يقاس بالقياس» فسقط اليماني مغشيا عليه، فلمّا أفاق، قال: عاهدت اللّه أن لا أسال تعنّتا(4).

وَ فِي السَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مٰا

ص: 51


1- . المحارف: المحروم يطلب فلا يرزق.
2- . الكافي 12/500:3، تفسير الصافي 70:5.
3- . الكافي 12/500:3، و تفسير الصافي 70:5، عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.
4- . تفسير روح البيان 159:9.

أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرٰاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ سَلاٰمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرٰاغَ إِلىٰ أَهْلِهِ فَجٰاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قٰالَ أَ لاٰ تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قٰالُوا لاٰ تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهٰا وَ قٰالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قٰالُوا كَذٰلِكَ قٰالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قٰالَ فَمٰا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قٰالُوا إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجٰارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) ثمّ لمّا مدح اللّه سبحانه المتّقين بأنّ في أموالهم حقا معلوما، حثّ الناس على إنفاق أموالهم بقوله تعالى:

وَ فِي السَّمٰاءِ مكتوب و مقدّر رِزْقُكُمْ و ما يلزم لمعايشكم، و لو لا التقدير لما حصل لكم في الأرض حبّة قوت، و لو بذلتم في تحصيله غاية الجهد. و قيل: يعني أسباب رزقكم(1) من المطر و غيره وَ مٰا تُوعَدُونَ من خير و شرّ و رخاء و ثواب و عقاب.

و عن المجتبى عليه السّلام أنّه سئل عن أرزاق الخلائق، فقال: «في السماء الرابعة، تنزل بقدر و تبسط بقدر»(2).

فَوَ رَبِّ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ الذي يربّيهما و يربّي ما فيهما بإيصال ما يوجب بقاءها و كمالها إِنَّهُ لَحَقٌّ و صدق.

قيل: الضمير راجع إلى (يوم الدين) حيث قالوا: (ايان يوم الدين)(3).

و قيل: إنّه راجع إلى القرآن حيث قال سبحانه: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ و معنى المقسم عليه أنّه حقّ يكلّم به الملك من قبل اللّه، و ينطق(4) به مِثْلَ مٰا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ و تتكلّمون(5). و قيل: إنّه راجع إلى ما يوعدون من الجنّة(6). و المعنى كما أنّكم تتكلّمون و لا تشكّون في كلامكم.

و قيل: إنّه راجع إلى ما أخبر به من كون الأرزاق في السماء(5) ، و هو الأظهر.

في الحديث: «أبى ابن آدم أن يصدّق ربّه حتى أقسم له فقال: فَوَ رَبِّ السَّمٰاءِ» الآية(6).

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «قاتل اللّه أقواما أقسم اللّه لهم بنفسه فلم يصدّقوه» انتهى(7).

ص: 52


1- . تفسير روح البيان 159:9.
2- . تفسير القمي 271:2، تفسير الصافي 71:5.
3- . تفسير الرازي 209:28.
4- . في النسخة: و نطق. (5-6) . تفسير الرازي 209:28.
5- . تفسير روح البيان 159:9.
6- . تفسير روح البيان 159:9.
7- . تفسير روح البيان 159:9.

قيل: لو أنّ يهوديا وعد لانسان رزقه، و أقسم به عليه، لاعتمد بوعده و قسمه، فقاتله اللّه كيف لا يعتمد على وعد اللّه و قسمه برزقه؟!(1)

حكي أنّ هرم بن سنان قال لاويس القرني: أين تأمرني أن أكون؟ فأومأ إلى الشام، فقال هرم: كيف المعيشة بها؟ قال اويس: أفّ لهذه القلوب التي قد خالطها الشك، فما تنفعها العظة(2).

قصة ضيف إبراهيم

و بشارتهم باسحاق

ثمّ شرع سبحانه في تهديد الكفّار بما نزل على الامم السابقة المهلكة، بكفرهم و طغيانهم من العذاب بقوله:

هَلْ أَتٰاكَ يا محمد و سمعت من أحد حَدِيثُ ضَيْفِ جدّك إِبْرٰاهِيمَ الذين كانوا عند اللّه من اَلْمُكْرَمِينَ و معظّمين بالعصمة و الاصطفاء و القرب، حيث كانوا من الملائكة الذين وصفهم اللّه بأنّهم عباد مكرمون.

و قيل: يعني كانوا مكرمين عند إبراهيم عليه السّلام حيث خدمهم بنفسه بحسبان أنّهم ضيف(3). قيل: لم يكذّبه اللّه في حسبانه إكراما له(4).

إِذْ دَخَلُوا و حين وردوا عَلَيْهِ فَقٰالُوا بعد دخولهم تأدّبا و تحية له: نسلّم عليك سَلاٰماً فردّ إبراهيم تحيّتهم و قٰالَ سَلاٰمٌ عليكم. قيل: إنّه عليه السّلام لمّا ردّ عليهم قال في نفسه: هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ غير معروفين في هذا البلد، حيث كان أهله كفّارا، و لم تكن تحيتهم السّلام(5).

و قيل: إنّه عليه السّلام قال لهم: أنتم قوم منكرون، لم أر مثلكم في حسن الصورة و القامة، فعرّفوني أنفسكم. قالوا: نحن أضيافك(6).

فَرٰاغَ و ذهب إِلىٰ أَهْلِهِ و زوجته سارة خفية من أضيافه، لئلا يمنعوه من إتيان الطعام و تحمّل الكلفة فَجٰاءَ إليهم بِعِجْلٍ و ولد بقر سَمِينٍ كثير اللحم مشويّ؛ لأنّه كان عامة ماله البقر

فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ و وضعه بين أيديهم ليأكلوا منه، فلم يمدّوا أيديهم إليه، و لم يأكلوا منه قٰالَ إبراهيم حثّا لهم على الأكل: أَ لاٰ تَأْكُلُونَ من اللحم المشوي؟

روي أنّهم قالوا: لا نأكل منه بغير ثمن. قال إبراهيم: كلوا و أعطوا ثمنه. قالوا: و ما ثمنه؟ قال إبراهيم:

إذا أكلتم فقولوا: بسم اللّه، و إذا فرغتم فقولوا: الحمد للّه، فتعجّبوا من قوله، ثمّ أنّهم مع ذلك لم يأكلوا منه

فَأَوْجَسَ و أضمر في نفسه مِنْهُمْ خِيفَةً لتوهّمه أنهم أعداؤه جاءوا بالشرّ، لكون العادة أنّ من يجيء بالشرّ ما كان يأكل من طعام من يريد إضراره(7). و قيل: وقع في نفسه أنّهم ملائكة ارسلوا

ص: 53


1- . تفسير روح البيان 160:9.
2- . تفسير روح البيان 160:9.
3- . تفسير روح البيان 161:9.
4- . تفسير الرازي 210:28.
5- . تفسير روح البيان 162:9.
6- . تفسير روح البيان 162:9.
7- . تفسير روح البيان 162:9.

للعذاب(1) ، فلمّا أحسّوا بخوفه قٰالُوا يا إبراهيم لاٰ تَخَفْ من شرّنا و ضرّنا، إنّا رسل ربّك. قيل:

مسح جبرئيل العجل بجناحه فقام يمشى حتى لحق بامّه، فعرفهم و أمن منهم(2).

وَ بَشَّرُوهُ تطييبا لقلبه بِغُلاٰمٍ و ولد ذكر عَلِيمٍ من سارة عقيمة لم تلد له

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة على أهلها لمّا سمعت البشارة، و هي فِي صَرَّةٍ و صيحة تقول: يا ويلتا. و عن الصادق عليه السّلام:

«في جماعة(3) من نسائها» فَصَكَّتْ و لطمت وَجْهَهٰا تعجّبا من قولهم، كما هو عادة النساء إذا أنكرن و تعجّبن من شيء وَ قٰالَتْ استبعادا لما بشّرت به بحكم العادة: كيف ألد الآن و أنا عَجُوزٌ قد بلغت من العمر تسعا و تسعين سنة، على ما قيل(4): عَقِيمٌ لم ألد مدّة عمري قطّ؟ فأجابها الملائكة و

قٰالُوا لها ردعا لها عن الاستبعاد و التعجّب: ما قلنا ذلك من قبل أنفسنا، بل كَذٰلِكَ الذي بشّرناك قٰالَ رَبُّكِ الذي خلقك بقدرته، و بلّغك برحمته إلى المرتبة العالية من الكمالات الجسمانية و الروحانية، و نحن أخبرناك بما قال إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في فعاله اَلْعَلِيمُ بأحوال عباده، فلا محالة يكون حقا، و فعله محكما، فليس لك أن تقولي: لم يعطيني الولد في شبابي، و بشّرني به في زمان كبري و عجزي.

روي أنّ جبرئيل قال لها: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعة مورقة و مثمرة، فأيقنت(5).

قيل: لمّا عرف إبراهيم الرسل و أنس بهم، استعجلوا في الخروج من عنده

قٰالَ لهم: فَمٰا خَطْبُكُمْ و أي الأمر العظيم عجّل بكم بعد هذا الانس (6)أَيُّهَا الملائكة اَلْمُرْسَلُونَ لبشارتي؟

قٰالُوا ما ارسلنا لبشارتك فقط، بل إِنّٰا أُرْسِلْنٰا من جانب ربّك إِلىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ و مصرّين على الكفر و الطّغيان، و هم قوم لوط

لِنُرْسِلَ و نمطر عَلَيْهِمْ من السماء حِجٰارَةً مخلوقة مِنْ طِينٍ متحجّر مطبوخ بنار جهنّم، على ما قيل(7) ، فلا يتوهّم أنّها من برد، كما قيل(8) إنّ الحجارة قد تطلق عليه، و تلك الحجارة تكون

مُسَوَّمَةً و معلّمة كلّ واحدة منها باسم من يقتل بها، أو المراد مخلوقة لتعذيبهم عِنْدَ رَبِّكَ و بقدرته، لا للانتفاع بها كسائر الأحجار، أو مرسلة في علم اللّه لِلْمُسْرِفِينَ و لإهلاك المجاوزين عن الحدّ في الفجور.

ص: 54


1- . تفسير أبي السعود 140:8، تفسير روح البيان 162:9.
2- . تفسير أبي السعود 140:8، تفسير روح البيان 162:9.
3- . مجمع البيان 238:9، تفسير الصافي 71:5، تفسير القمي 330:2، لم ينسبه إلى أحد.
4- . تفسير روح البيان 163:9.
5- . تفسير أبي السعود 140:8، تفسير روح البيان 163:9.
6- . تفسير الرازي 216:28.
7- . تفسير روح البيان 164:9.
8- . تفسير الرازي 217:28، تفسير روح البيان 164:9.

عن ابن عباس: أي للمشركين، فانّ الشّرك أسرف الذنوب و أعظمها(1).

فَأَخْرَجْنٰا مَنْ كٰانَ فِيهٰا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمٰا وَجَدْنٰا فِيهٰا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنٰا فِيهٰا آيَةً لِلَّذِينَ يَخٰافُونَ الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ (37) وَ فِي مُوسىٰ إِذْ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلّٰى بِرُكْنِهِ وَ قٰالَ سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنٰاهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40) وَ فِي عٰادٍ إِذْ أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مٰا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّٰ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتّٰى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصّٰاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطٰاعُوا مِنْ قِيٰامٍ وَ مٰا كٰانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْماً فٰاسِقِينَ (46) ثمّ أخبر اللّه سبحانه بلطفه بلوط بقوله:

فَأَخْرَجْنٰا قبل نزول العذاب على القرى الخمسة، أو السبعة مَنْ كٰانَ فِيهٰا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن قلنا للوط: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ (2).

فَمٰا وَجَدْنٰا فِيهٰا أهلا للنجاة من العذاب غَيْرَ أهل بَيْتٍ واحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ و هم لوط و أهله، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(3) ، قيل: أهله بنتاه(4) ، و قيل: كانوا ثلاثة عشر سوى امرأته الكافرة(5) ،

وَ تَرَكْنٰا بتعذيب أهل القرى فِيهٰا آيَةً عظيمة و دلالة واضحة على التوحيد و بطلان الشرك، و هي تلك الحجارة المسوّمة، أو ماء أسود منتن خرج من أرضهم لِلَّذِينَ يَخٰافُونَ الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ فانّهم يرون آثار العذاب آية، و يعتبرون بها، لسلامة فطرتهم، و تنوّر قلوبهم، و قوّة بصيرتهم دون من عداهم.

وَ فِي حديث مُوسىٰ بن عمران عليه السّلام أيضا آية و عبرة - و قيل: إنّه عطف على قوله: وَ فِي الْأَرْضِ آيٰاتٌ (6)- إِذْ أَرْسَلْنٰاهُ من جانب الطور الأيمن إِلىٰ فِرْعَوْنَ ملك مصر مستدلا على رسالته بِسُلْطٰانٍ و معجز باهر مُبِينٍ كالعصا و اليد و البيضاء و غيرهما

فَتَوَلّٰى فرعون، و أعرض عن دعوة موسى عليه السّلام بِرُكْنِهِ و جانبه، و لم يقبل دعوته، و لم يعتن به. و قيل: يعني و تقوّى على معارضة موسى بقومه و جنده(7) ، أو تصدّى لدفع(8) موسى بقوّة نفسه حيث قال: ذروني أقتل

ص: 55


1- . تفسير روح البيان 164:9.
2- . هود: 81/11.
3- . علل الشرائع: 5/550، تفسير الصافي 72:5.
4- . مجمع البيان 238:9، تفسير روح البيان 164:9.
5- . تفسير أبي السعود 141:8، تفسير روح البيان 165:9.
6- . تفسير روح البيان 165:9.
7- . تفسير روح البيان 166:9.
8- . في النسخة: دفع.

موسى و من معه قٰالَ لقومه في حقّ موسى عليه السّلام: إنّه سٰاحِرٌ يفعل ما يفعل من خوارق العادات بالسحر و الشّعبذة، أَوْ هو مَجْنُونٌ فاقد العقل حيث يقول قولا لا يقبله(1) منه عاقل، مع أن فيه هلاك نفسه و قومه.

قيل: إنّ الساحر و المجنون كلاهما يستعينان بالجنّ، و الفرق أنّ الساحر يأتي الجنّ باختياره، و المجنون يأتيه الجنّ بغير اختياره، و غرضه من الترديد صيانة كلامه من الكذب(2).

و قيل: إنّه لغاية جهله طعن على موسى عليه السّلام بالمتضادين، حيث إنّ السحر مستلزم للعقل و جودة الذهن و كمال الحذاقة و الجنون هو زوال العقل و عدم الفهم و الدراك، و هما ضدّان(3).

و قيل: إنّ كلمة (أو) بمعنى الواو؛ لأنّه نسبه إليهما جميعا(4) ، و على أي تقدير عصى فرعون و طغى

فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ بذنبهم، كما يأخذ أحدكم الحصيات الصغار بكفّه فَنَبَذْنٰاهُمْ و طرحناهم فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ و مستحق للملامة عند العقلاء و عند نفسه بما ارتكب من معارضة موسى عليه السّلام و طغيانه بالكفر و العصيان.

وَ فِي قصّة قوم عٰادٍ الذين عارضوا هود آيات و عبر للناس إلى يوم القيامة إِذْ أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ عقوبة على كفرهم و طغيانهم و معارضة رسولهم هود اَلرِّيحَ الْعَقِيمَ و الصّرصر العاتية التي لم تلد خيرا من إنشاء مطر أو تلقيح شجر، و كيف يتوقّع منها الخير؟ و قيل: وصفت بالعقيم لأنّها قطعت دابرهم(3) ، فشبّهت بالنساء العقيمات اللاتي لا يلدن، لأنّها كانت سبب قطع الأرحام من الولادة بإهلاكهم، و الحال أنّها

مٰا تَذَرُ و ما تترك مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ و جرت عَلَيْهِ من انفسهم و أموالهم و أبنيتهم و مواشيهم إِلاّٰ جَعَلَتْهُ و صيّرته لشدّتها كَالرَّمِيمِ و مثل الحشيش اليابس المتفتّت.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الرياح خمسة: الريح العقيم، فتعوّذوا باللّه من شرّها»(4).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ للّه جنودا من الريح، يعذّب بها من عصاه»(5).

وَ فِي حديث قوم ثَمُودَ و هم قوم صالح آيات أو آية إِذْ قِيلَ لَهُمْ و القائل صالح بعد عقرهم ناقة اللّه: تَمَتَّعُوا و انتفعوا أيّها القوم بالحياة حَتّٰى حِينٍ و إلى وقت نزول العذاب، و هو آخر ثلاثة أيام، أو إلى انقضاء آجالكم المقدّرة، فإن أحسنتم حصل لكم التمتّع في الدارين، و إلاّ فما لكم في الآخرة من نصيب

فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ و طغوا على خالقهم و نبيّهم، و لم يعتنوا بإنذاره،

ص: 56


1- . في النسخة: لا يقبل.
2- . تفسير الرازي 221:28. (3-4) . تفسير روح البيان 166:9.
3- . تفسير روح البيان 167:9.
4- . من لا يحضره الفقيه 1527/345:1، تفسير الصافي 73:5.
5- . الكافي 63/91:8، من لا يحضره الفقيه 1525/344:1، تفسير الصافي 73:5.

حيث قال لهم صالح: تصبح غدا وجوهكم مصفرّة، و بعد غد محمرّة، و في اليوم الثالث مسوّدة، ثمّ يصبّحكم العذاب.

قيل: لمّا رأوا وجوههم كما قال صالح، عمدوا إلى قتله، فنجّاه اللّه إلى ارض فلسطين، و لمّا كان اليوم الرابع تحنّطوا و تكفّنوا (1)فَأَخَذَتْهُمُ الصّٰاعِقَةُ و النار النازلة من السماء وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إليها حين نزولها.

و قيل: انّ المراد بالصاعقة صيحة جبرئيل مجازا، و يحتمل أنّه كانت الصاعقة مع الصيحة، فانّ الصيحة لا ينظر إليها، بل تسمع بالاذن(2).

و قيل: هو من الانتظار، و المعنى: هم ينتظرون ما أوعدوا به من العذاب، حيث شاهدوا علامات نزوله(3).

و قيل: إنّ معنى ينظرون يتحيّرون(4) ، فاهلكوا جميعا

فَمَا اسْتَطٰاعُوا شيئا قليلا مِنْ قِيٰامٍ و ما قدروا عليه، فضلا عن الهرب، أو المراد ما قدروا على قليل من المقاومة و الثّبات له وَ مٰا كٰانُوا حينئذ مُنْتَصِرِينَ بغيرهم في دفع العذاب، أو ما كانوا مدافعين عن أنفسهم، أو ممّن له شائبة الدفاع.

وَ أهلكنا قَوْمَ نُوحٍ بالغرق، أو اذكرهم مِنْ قَبْلُ و في عصر سابق على أعصار هؤلاء المهلكين، ثمّ ذكر سبحانه سبب إهلاكهم بقوله: إِنَّهُمْ كٰانُوا حال حياتهم قَوْماً فٰاسِقِينَ و خارجين عن طاعة اللّه و رسوله، و في ذكر القضايا الخمسة تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله، كيلا لا يشقّ عليه كفر و عنادهم، فانّ البلية إذا عمّت طابت.

وَ السَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ وَ إِنّٰا لَمُوسِعُونَ (47) وَ الْأَرْضَ فَرَشْنٰاهٰا فَنِعْمَ الْمٰاهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللّٰهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَ لاٰ تَجْعَلُوا مَعَ اللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات الحشر و تهديد منكريه، شرع في إثبات التوحيد بالموجودات بقوله:

وَ السَّمٰاءَ المرفوعة التي ترونها لهذا العام و الدار الدنيا سقفا محفوظا، لا شكّ في أنّه ما بنتها الكواكب التي فيها، و لا الأصنام التي تنحتونها، بل نحن بَنَيْنٰاهٰا و رفعناها بِأَيْدٍ و قوة و قدرة لنا

ص: 57


1- . تفسير أبي السعود 142:8، تفسير روح البيان 169:9. (2-3-4) . تفسير روح البيان 169:9.

وَ إِنّٰا لَمُوسِعُونَ ها بحيث تحيط بجميع كرات العناصر، بل كلّها بالنسبة إليها كحلقة في فلاة، أو لموسعون الرزق على الخلق منها، أو المراد لقادرون على خلق أمثالها

وَ الْأَرْضَ البسيطة التي تسكنونها، نحن فَرَشْنٰاهٰا و بسطناها تحتكم، لتستقرّوا عليها، و مهدناها لكم كالفراش، تنامون و تتقلبون عليها فَنِعْمَ الْمٰاهِدُونَ نحن، أو ماهدها.

وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و جنس من الاجناس خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ و نوعين، أو صنفين، كالجوهر و العرض، و المجرّد و المادي، و الجماد و النامي، و المدرك و النبات، و الناطق و الصامت، و الذكر و الانثى، إلى غير ذلك، و إنّما فعلنا جميع ذلك لَعَلَّكُمْ أيّها الناس تَذَكَّرُونَ و تتنبّهون أنّ ربكم قادر على كلّ شيء، و فرد لا زوج له، و أنّه خلق للدنيا زوجا، و هو الآخرة، و أنّه مستحق للعبادة، و متفرّد في الالوهية، فقل يا محمد إذا ظهر لكم أنّ الامر كذلك:

فَفِرُّوا و اهربوا من العذاب، و من كلّ ما تخافون منه إِلَى اللّٰهِ القادر المنعم عليكم وحده، و اسرعوا في الايمان بتوحيده و التسليم لأحكامه، و بادروا إلى عبادته، كي تنجوا من عقابه، و تفوزوا بثوابه إِنِّي لَكُمْ يا عباد اللّه مِنْهُ نَذِيرٌ و مخوّف من عذابه على الشرك مُبِينٌ و ظاهر رسالتي عنه ببرهان قاطع و معجز باهر، لا عذر لكم في تكذيبي و عدم اتّباع قولي.

ثمّ أكّد الأمر بالتوحيد بالنهي عن الشرك بقوله:

وَ لاٰ تَجْعَلُوا بهوى أنفسكم مَعَ اللّٰهِ الواحد الأحد في الالوهية و الربوبية و المعبودية إِلٰهاً و معبودا آخَرَ من مخلوقاته، كالكواكب و الأصنام و غيرهما، و لا تدعوا معه غيره إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ.

كَذٰلِكَ مٰا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ قٰالُوا سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَ تَوٰاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمٰا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) ثمّ لمّا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله كلّما دعا قومه إلى التوحيد و الايمان بالبعث بعد الموت، قالوا إنّه مجنون و كلّما أتى بالمعجزات قالوا: إنّه ساحر، و كان يتأثّر قلبه الشريف من ذلك، سلاّه سبحانه بالإخبار بأنّ سائر الأمم كان دأبهم ذلك بقوله:

كَذٰلِكَ أمر سائر الامم، فانّه مٰا أَتَى الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ من زمان نوح مِنْ رَسُولٍ مبعوث لهدايتهم إِلاّٰ قٰالُوا في حقّه إذا أتاهم بمعجزة:

إنّه سٰاحِرٌ أَوْ إذا دعاهم إلى التوحيد و المعاد: إنّه مَجْنُونٌ فلا تحزن على ما قال قومك في حقّك.

و العجب من اتّفاق جميع الامم على هذا القول الشنيع في حقّ رسلهم

ص: 58

بعضهم مع بعض أن يقولوا هذا القول، لا ليس توافقهم عليه لتوصيتهم بذلك، لبعد زمانهم، و عدم تلاقيهم في وقت بَلْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ مشركون في عداوة اللّه و الإعراض عن الحقّ، فاشتركوا في التفوّه بتلك الكلمة الشنيعة

فَتَوَلَّ يا محمد و أعرض عَنْهُمْ فإنّك قد بالغت في دعوتهم، و أتعبت نفسك في نصحهم و وعظهم، و أتممت الحجّة عليهم فَمٰا أَنْتَ بعد ذلك بِمَلُومٍ في تركهم و الإعراض عنهم، فان كنت رحيما و عطوفا بهم، و لا تريد أن تدعهم بالكلية

وَ ذَكِّرْ وعظ الناس فَإِنَّ الذِّكْرىٰ و العظة و بيان العلوم و المعارف و امور الآخرة تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ حيث إنّها تنوّر قلوبهم، و تزيد في إيمانهم و رغبتهم إلى الطاعة و العبادة.

عنهما عليهما السّلام قالا: «إنّ الناس لمّا كذبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله همّ اللّه بإهلاك أهل الأرض إلاّ عليا فما سواه بقوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمٰا أَنْتَ بِمَلُومٍ ثمّ بدا له فرحم المؤمنين، ثمّ قال لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام «لمّا نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لم يبق أحد منّا إلاّ أيقن بالهلكة، فلمّا نزل وَ ذَكِّرْ. .. الآية طابت أنفسنا»(2).

وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (56) ثمّ لمّا كان ازدياد المعرفة و رغبة المؤمنين في العبادة من منافع التذكير، بيّن سبحانه أنّ معرفته و عبادته هو الغرض من الخلقة بقوله:

وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ أولا و هم أعمّ من الملك وَ الْإِنْسَ بعدهم لغرض من الأغراض و حكمة من الحكم إِلاّٰ ليعرفون ربّهم بالوجود و الحكمة و القدرة و سائر الصفات الجمالية و الجلالية و لِيَعْبُدُونِ خالقهم، فيستكملوا بالعلم و العبادة، و يستعدّوا للنيل بالفيوضات الأبدية، و يستأهلوا للحياة الدائمة و النّعم الباقية، و الكرامات الفائقة غير المتناهية.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «خرج الحسين بن علي عليه السّلام على أصحابه، فقال: أيّها الناس، إنّ اللّه ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فاذا عرفوه عبدوه، و إذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه» فقال رجل: يا ابن رسول اللّه، بأبي أنت و أمّي، فما معرفة اللّه؟ قال: «معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته»(3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «خلقهم ليأمرهم بالعبادة» قيل: قوله تعالى: وَ لاٰ

ص: 59


1- . الكافي 78/103:8، تفسير الصافي 74:5.
2- . مجمع البيان 243:9، تفسير الصافي 75:5.
3- . علل الشرائع: 1/9، تفسير الصافي 75:5.

يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ؟ قال: «خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون رحمته [فيرحمهم]»(1).

تحقيق في الجمع

بين الروايات

أقول: بعد ما بينا أنّ معرفة اللّه مستلزمة لعبادته، و عبادته مستلزمة لاستحقاق رحمته، و الغرض من الخلق أن يستكملوا أنفسهم و تترقّى من حضيض الحيوانية إلى كمال الانسانية حتى تستأهل للرحمة الدائمة و الفيوضات الأبدية، صحّ أن يقال: خلقهم اللّه لمعرفته و لعبادته، و لمّا كان حصول العبادة متوقّفا على أمر اللّه و نهيه، و تعليمه كيفية عبادته، كتوقّفه على معرفته، صحّ أن يقال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، للتنبيه على أنّ العبادة التي هي المقصودة من الخلق، هي العبادة الاختيارية لا الجبرية و الاضطرارية، فظهر ممّا ذكر صحّة تعليل الخلق بكلّ من المعرفة و الأمر بالعبادة، و العبادة و الرحمة، و لمّا كان ظاهر الآية المباركة كون العبادة غاية الغايات، بيّن سبحانه بقوله: وَ لِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ أنّ غاية الغايات نيلهم بالرحمة و النعم لا نفس العبادة، و من ذلك يصحّ إطلاق الناسخ على الآية الثانية، كما ورد في حديث «أنّ الآية منسوخة بقوله: وَ لاٰ يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (2) فلا تنافي بين الروايات.

مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحٰابِهِمْ فَلاٰ يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) ثمّ لمّا كانت الآية موهمة لحاجته تعالى إلى عبادة خلقه، صرّح سبحانه بأنّ الغرض استكمال الخلق لا استكمال نفسه بقوله:

مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ شيئا مِنْ رِزْقٍ و مال يكتسبون لي لأنظم به أمور معيشتي، كما يريد الموالي من عبيدهم ذلك وَ مٰا أُرِيدُ منهم أقلّ من ذلك، مثل أَنْ يطبخوا لي طعاما يُطْعِمُونِ و حاصل مفاد الآية و اللّه أعلم: إنّي لا اريد منهم مالا ارتزق به، أو عملا أقضي به حاجتي

إِنَّ اللّٰهَ الذي هو خالق كلّ شيء هُوَ الرَّزّٰاقُ لعباده، فكيف يريد منهم الرزق و هو ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ و الشديد على جميع خلقه، فكيف يحتاج إلى عملهم له؟

و إذا علم أنّ خلق الثقلين للعبادة

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا و لم يعتنوا بالغرض الذي خلقوا له، و وضعوا عبادتهم في غير موضعها، بأن عبدوا غير اللّه، و وضعوا مكان تصديق النبي صلّى اللّه عليه و آله تكذيبه، أو ضيّعوا

ص: 60


1- . علل الشرائع: 10/13، تفسير الصافي 75:5.
2- . تفسير القمي 331:2، تفسير الصافي 75:5، و الآية من سورة هود: 118/11.

حقّ أنفسهم بتعريضها للعذاب الدائم ذَنُوباً و نصيبا وافرا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحٰابِهِمْ و أنصباء نظرائهم من الامم المهلكة، أو المراد أنّ لهم تبعات من العذاب مثل تبعات أضرابهم من الطّغاة الذين أستأصلهم العذاب فَلاٰ يَسْتَعْجِلُونِ و لا يسألون سرعة مجيئه بقولهم: فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا (1) أو مَتىٰ هٰذَا الْوَعْدُ (2) فانّه نازل بهم في الوقت المعيّن عندنا.

ثمّ عظّم سبحانه ذلك العذاب الموعود تهويلا لهم بقوله:

فَوَيْلٌ أي ويل لِلَّذِينَ استحقّوا أشدّ العذاب، لأنّهم كَفَرُوا باللّه و رسوله مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ بعد خروجهم من الدنيا من يوم القيامة، أو زمان الرجعة، فوافق أوّل السورة آخرها، حيث قال في أولها: إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ (3) و في آخرها: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة و الذاريات في يومه أو ليلته، أصلح اللّه له معيشته، و آتاه برزق واسع، و نوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة»(4).

ص: 61


1- . الأعراف: 70/7.
2- . الأنبياء: 38/21.
3- . الذاريات: 5/51.
4- . ثواب الأعمال: 115، مجمع البيان 228:9، تفسير الصافي 76:5.

ص: 62

في تفسير سورة الطور

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الطُّورِ (1) وَ كِتٰابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) ثمّ لمّا ختمت سورة و الذاريات المبتدئة بأربعة أيمان على أنّ وعد اللّه بالعذاب و الحشر صادق، و بيان كون يوم القيامة يوم يفتنون على النار، المتضمّنة بسوء عاقبة الكفار، و حسن عاقبة المتّقين، المختتمة بذكر الويل للكافرين، اردفت بسورة الطور المبتدئة بخمسة أيمان على أنّ العذاب في القيامة واقع لا محالة، و بيان كون القيامة فيه أهوال عظيمة، و ذكر الويل للمكذّبين بيوم الدين، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تبارك و تعالى:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ لمّا كان العرب يتحرّزون عن الأيمان الكاذبة، و أنّ الشخص العظيم لا يحلف إلاّ على الأمر العظيم الذي لا يرتدع(1) المنكر بالبرهان لنسبته إلى الجدل، أكّد سبحانه البرهان على الحشر بالأيمان بقوله:

وَ الطُّورِ و هو على ما قيل: الجبل الذي كلّم اللّه عليه موسى بن عمران، أو طور سينين، أو مطلق الجبل(2). و عن ابن عباس: الطور كلّ جبل ينبت(3).

وَ كِتٰابٍ كريم مَسْطُورٍ و مكتوب على وجه الانتظام. قيل: هو التوراة المكتوب في الألواح(4). و قيل: هو القرآن(5) المكتوب

فِي رَقٍّ و جلد رقيق مَنْشُورٍ و مبسوط و قيل: هو اللّوح المحفوظ(6). و قيل: هو صحائف الأعمال(7) المبسوطة للناس يوم القيامة، أو مفتوحة له لا ختم عليها(4).

وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الذي يكون تحت العرش، أو في السماء السابعة، أو الرابعة بحيال الكعبة، و عمرانه بطواف الملائكة، يطوف به كلّ يوم سبعون ألف ملك، و يصلّون فيه، و لا يعودون إليه أبدا،

ص: 63


1- . كذا، و الظاهر لا يردع.
2- . تفسير الرازي 239:28.
3- . تفسير روح البيان 184:9. (4و5) . تفسير روح البيان 185:9. (6و7) . جوامع الجامع: 466.
4- . تفسير روح البيان 185:9.

و حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه وضع تحت العرش أربع أساطين، و سمّاهن الضّراح، و هو البيت المعمور، و قال للملائكة: طوفوا به، ثم بعث ملائكة، و قال: ابنوا في الارض بيتا بمثاله و قدره، و أمر [من] في الأرض أن يطوفوا بالبيت»(1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث المعراج: «أنّه في السماء السابعة»(2). و عن القمي: أنّه في السماء الرابعة(3). و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في رواية: «أنّه في السماء»(4). و في رواية اخرى عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه في السماء الدنيا»(5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «البيت الذي في السماء يقال له الضّراح، و هو بفناء البيت الحرام، لو سقط لسقط عليه، يدخله كلّ يوم ألف ملك لا يعودون فيه أبدا»(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «و يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، ثمّ لا يعودون اليه أبدا»(7). و قيل:

إنّ المراد منه بيت اللّه الحرام(8).

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ عن الأرض، و هو السماء، أو العرش، و في إرداف السقف بالبيت ما لا يخفى من الحسن

وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ و المملوء من الماء. قيل: هو البحر المحيط الذي هو مادة سائر البحار(9).

و روى بعض العامة، عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو بحر تحت العرش، عمقه كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين، فيه ماء غليظ، يقال له بحر الحيوان، و هو بحر مكفوف، يمطر منه على الموتى ماء كالمنيّ بعد النّفحة الاولى أربعين صباحا، فينبتون في قبورهم»(10).

و قيل: هو بحر في السماء الدنيا، لولاه لأحرقت الشمس الدنيا(11). و قيل: المسجور بمعنى الموقد، لما روي أن اللّه تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا، يسجّر بها نار جهنّم(12).

إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ لَوٰاقِعٌ (7) مٰا لَهُ مِنْ دٰافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمٰاءُ مَوْراً (9) وَ تَسِيرُ

ص: 64


1- . مجمع البيان 389:1، تفسير الصافي 77:5.
2- . تفسير القمي 9:2، تفسير الصافي 77:5.
3- . تفسير القمي 331:2، تفسير الصافي 77:5.
4- . الجامع للقرطبي 59:17، مجمع البيان 247:9.
5- . مجمع البيان 247:9، تفسير الصافي 77:5.
6- . مجمع البيان 247:9، تفسير الصافي 77:5، عن أمير المؤمنين عليه السّلام.
7- . مجمع البيان 247:9، تفسير الصافي 77:5.
8- . تفسير الرازي 239:28.
9- . تفسير روح البيان 186:9.
10- . تفسير روح البيان 186:9.
11- . تفسير روح البيان 186:9.
12- . تفسير الصافي 78:5، تفسير روح البيان 186:9.

اَلْجِبٰالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) اَلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلىٰ نٰارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ لَوٰاقِعٌ و نازل لا محالة، و في لفظ (ربّك) تأمين للرسول منه.

قيل: إنّ الحلف بالطّور و البيت المعمور الذي هو ملاذ الملائكة، و بالسماء و البحر، مع أن وجود كلّ منها و بقائه بقدرة اللّه، مشعر بأن لا مهرب من ذلك العذاب(1) ، كما صرح به سبحانه بقوله:

مٰا لَهُ مِنْ دٰافِعٍ حيث إنّ التحصّن منه إما بالذّهاب إلى شاهق الجبل، أو بالتحصين في البيت، أو بالصعود إلى السماء، أو بالغوص في البحر، و من المعلوم أنّ كلّها تحت قدرة اللّه و إحاطته، حيث وصف زمان وقوع ذلك العذاب بقوله:

يَوْمَ تَمُورُ السَّمٰاءُ و تضطرب، و تجيء و تذهب مَوْراً و اضطرابا شديدا عجيبا. قيل: تدور السماء كما تدور الرّحى، و تتكفّأ بأهلها تكفّؤ السفينة (2)

وَ تَسِيرُ الْجِبٰالُ كالريح كما عن القمي(3) ، أو كالسّحاب كما عن بعض العامة (4)سَيْراً سريعا، ثمّ تصير كالعهن، و ذلك لانقضاء الدنيا، و عدم انتفاع بني آدم بها، و عدم عودهم إليها، فاذا كان الأمر كذلك

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بتوحيد اللّه و رسله.

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله:

اَلَّذِينَ هُمْ مستقرّون فِي خَوْضٍ و اندفاع عجيب عظيم، و انغماس في الأباطيل و الأكاذيب، كما يغاص في الماء و يَلْعَبُونَ و يلهون بالدنيا و يتشاغلون بما يصرفهم عمّا فيه خيرهم و سعادتهم الأبدية، ثمّ وصف سبحانه ذلك اليوم الذي فيه الويل للمكذبين بقوله:

يَوْمَ كأنّه قال ذلك اليوم يكون يوم يُدَعُّونَ و يدفع المكذّبون بالعنف و الشّدّة إِلىٰ نٰارِ جَهَنَّمَ دَعًّا و دفعا شديدا حتى يصلون فيها على وجوههم و أقفيتهم. و قيل: إنّ اليوم بدل عن قوله: يَوْمَ تَمُورُ أو ظرف للقول المقدّر فيما بعد(5).

هٰذِهِ النّٰارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهٰا تُكَذِّبُونَ (14) أَ فَسِحْرٌ هٰذٰا أَمْ أَنْتُمْ لاٰ تُبْصِرُونَ (15) اِصْلَوْهٰا فَاصْبِرُوا أَوْ لاٰ تَصْبِرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَعِيمٍ (17) فٰاكِهِينَ بِمٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ عَذٰابَ

ص: 65


1- . مجمع البيان 248:9.
2- . تفسير أبي السعود 147:8، تفسير روح البيان 189:9.
3- . تفسير القمي 332:2، تفسير الصافي 78:5.
4- . تفسير روح البيان 189:9.
5- . تفسير أبي السعود 147:8، تفسير روح البيان 189:9.

اَلْجَحِيمِ (18) ثمّ يقول لهم خازن النار تقريعا و توبيخا:

هٰذِهِ النّٰارُ التي تصلونها هي النار اَلَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا بالنبي الذي كان يهدّدكم بِهٰا تُكَذِّبُونَ و تستهزءون، و كنتم تنسبون القرآن الناطق به إلى السّحر

أَ فَسِحْرٌ هٰذٰا الذي ترون أَمْ أَنْتُمْ عمي لاٰ تُبْصِرُونَ النار التي وعدتم بها، كما كنتم في الدنيا عميا عن معجزات الرسول و آيات التوحيد و المعاد. فلمّا ثبت أنها نار في الواقع و لا خلل في أبصاركم، ذوقوا حرّها و ألمها

اِصْلَوْهٰا فَاصْبِرُوا أيّها المكذّبون على النار و شدائدها أَوْ لاٰ تَصْبِرُوا لا خلاص لكم منها أبدا سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ الأمران الصبر و الجزع، لا الصبر ينجيكم منها، و لا الجزع يدفعها عنكم.

و اعلموا أنّ تعذيبكم بها ليس ظلما عليكم، بل هو ما اخترتم لأنفسكم بأعمالكم إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ و ترتكبون من الكفر و العصيان، بلا زيادة و لا نقصان.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفار المكذّبين للآيات في الآخرة، بيّن حسن حال [المتقين بقوله

: إِنَّ] الْمُتَّقِينَ من الكفر و العصيان، و المصدّقين بالرسول و المعاد، يومئذ طوبى لهم، فانّهم حين ابتلاء الكفّار بعذاب النار في جهنّم، متمكّنون فِي جَنّٰاتٍ وَ بساتين عديدة، و مستغرقون في نَعِيمٍ دائم لا نهاية له حال كونهم

فٰاكِهِينَ و متلذّذين بِمٰا آتٰاهُمْ و أعطاهم رَبُّهُمْ اللطيف بهم من خزائن رحمته، و مسرورين به، وَ بأنّه وَقٰاهُمْ و حفظهم رَبُّهُمْ عَذٰابَ الْجَحِيمِ و الاحتراق بالنار الجاحمة(1).

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلىٰ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْنٰاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) ثمّ يقول له خازن الجنة أو خالقها إذنا و اباحة و إكراما لهم:

كُلُوا أيّها المؤمنون المتّقون من أيّ مأكول اشتهيتم وَ اشْرَبُوا من أيّ مشروب أحببتم، أكلا و شربا هَنِيئاً سائغا لا تكدير فيه من التّخم و السّقم و المرض و النّكب و خوف الانقطاع بِمٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الايمان و الأعمال الصالحة و ترك المشتهيات المحرّمة، فان اللّه لا يضيع أجر المحسنين، و يكون أكلهم و شربهم حال كونهم

مُتَّكِئِينَ و مستندين كالسلاطين على نمارق و وسائد موضوعة عَلىٰ سُرُرٍ و عروش متعدّدة مَصْفُوفَةٍ و مصطفّة متصلة بعضها ببعض. قيل: طول كلّ سرير في السماء

ص: 66


1- . النار الجاحمة: الشديدة الحرّ، و في النسخة: الماحجة.

مائة ذراع، إذا أراد المؤمن الصعود عليه اتّضع له، فاذا قعد عليه ارتفع إلى أصل حاله(1). و قيل: إنّ المصفوفة بمعنى المزيّنة بالذهب و الفضة و الجواهر(2).

وَ زَوَّجْنٰاهُمْ و قرنّاهم بِحُورٍ و نساء يحار الناظر في حسنهنّ عِينٍ واسعات الأحداق، و فيه إظهار غاية اللطف بهم، حيث نسب تزويجهم إلى نفسه، و بيّن أنّه المتصدّي له، ثمّ وصف أزواجهم بغاية الحسن، فانّ أحسن الأعضاء الوجه، و أحسن ما في الوجه العين، و أحسن العيون العين الواسعة. قيل: إنّ سعة العين سبب كثرة الروح المصوّبة(3) إليها(4).

فبيّن سبحانه إتمام النّعم على المتّقين، فانّ أول ما يحتاج إليه المسكن، ثمّ المأكول و المشروب، ثمّ الفرش و البسط، ثمّ الأزواج، فذكر سبحانه جميعها على الترتيب، و وصف كلاّ منها بغاية الكمال.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ (21) ثمّ لمّا كان شفقة المؤمنين في الآخرة على الأولاد كشفقتهم في الدنيا عليهم، طيّب سبحانه قلوب المؤمنين بأنّه يجمع بينهم في الجنّ بقوله:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بل إنّه عطف على قوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ و قيل: على قوله: بِحُورٍ عِينٍ و المعنى: و قرنّاهم بحور عين و بالذين آمنوا (5)وَ اتَّبَعَتْهُمْ و وافقتهم ذُرِّيَّتُهُمْ و أولادهم بِإِيمٰانٍ حكمي كما في غير المميز، أو حقيقي كما في المميّز، و لو كان قليلا و ضعيفا أَلْحَقْنٰا بِهِمْ و جعلنا في درجتهم ذُرِّيَّتُهُمْ يتنعّمون بما يتنعمون به آباؤهم وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ و ما أنقصنا بالحاق أولادهم بهم مِنْ ثواب عَمَلِهِمْ في الدنيا مِنْ شَيْءٍ قليل، بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم، بل لا يكون رفعهم إلى درجة آبائهم إلاّ بالاحسان و التفضّل عليهم، لكون فطرتهم فطرة الاسلام، و التفضّل عليهم تفضيل على والديهم.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يرفع ذرية المؤمن في درجته، و إن كانوا دونه، لتقرّ بهم عينه» ثمّ تلا هذه الآية(6).

و روي أنّه سألت خديجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ولدين لها ماتا في الجاهلية، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هما في النار» فكرهت. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت: فالذي منك؟ قال: «في الجنة، إن

ص: 67


1- . تفسير روح البيان 191:9.
2- . تفسير روح البيان 191:9.
3- . في النسخة: المصبوبة.
4- . تفسير الرازي 249:28.
5- . تفسير الرازي 251:28.
6- . تفسير الصافي 79:5، تفسير روح البيان 192:9.

المؤمنين و أولادهم في الجنّة، و إنّ المشركين و أولادهم في النار»(1).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة»(2).

و عنه عليه السّلام: «قصرت الأبناء عن عمل الآباء، فألحقوا(3) الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم»(4).

و عنه عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعال كفّل إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين، يغذونهم بشجرة في الجنّة، لها أخلاف كأخلاف البقر، في قصر من درّة، فاذا كان يوم القيامة البسوا و طيّبوا و اهدوا إلى آبائهم، فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم، و هذا قول اللّه: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ» الآية(5).

أقول: الظاهر أنّ الوعد لا يختصّ بالآباء المؤمنين، بل إذا كانت الامّ مسلمة، و لحق بها الولد في الدنيا، لحق بها في الآخرة أيضا.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه لحقوق الأولاد بآبائهم في درجة الجنة، و إن لم يكن لهم إيمان حقيقي و عمل صالح، بل إيمان تبعيّ و حكميّ، بيّن سبحانه أنّ الايمان الحقيقي و العمل الصالح لا يطلب إلاّ ممّن بلغ مبلغ الرجال بقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ و رجل بالغ بِمٰا كَسَبَ من الايمان و العمل الصالح رَهِينٌ و محتبس عند اللّه، فان أدّى ما عليه من الاحسان و صالح الأعمال فك و خلّص من الرهانة و الحبس و دخل الجنة، و كذا المرأة، دون الصبي و الصبية، فانّهما يدخلان الجنّة بعمل الآباء و الامّهات.

وَ أَمْدَدْنٰاهُمْ بِفٰاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمّٰا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنٰازَعُونَ فِيهٰا كَأْساً لاٰ لَغْوٌ فِيهٰا وَ لاٰ تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمٰانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ (25) قٰالُوا إِنّٰا كُنّٰا قَبْلُ فِي أَهْلِنٰا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْنٰا وَ وَقٰانٰا عَذٰابَ السَّمُومِ (27) إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) ثمّ لمّا ذكر سبحانه عدم تنقيص ثواب أعمال المؤمنين بالحاق أولادهم بهم، بيّن أنّه لا يقتصر على إعطاء ثواب أعمالهم، بل يزيدهم آنا فآنا من فضله بقوله:

وَ أَمْدَدْنٰاهُمْ و زدناهم على ما ذكر من النّعم بأن نتفضّل عليهم بِفٰاكِهَةٍ كثيرة طيبة دائمة من ثمار الجنة وَ لَحْمٍ كثير طيب، و هما أرفع

ص: 68


1- . تفسير روح البيان 193:9.
2- . تفسير القمي 332:2، مجمع البيان 251:9، تفسير الصافي 79:5.
3- . في التوحيد و من لا يحضره الفقيه: فألحق اللّه عزّ و جلّ.
4- . التوحيد: 7/394، من لا يحضره الفقيه 1537/316:3، الكافي 5/249:3، تفسير الصافي 79:5.
5- . من لا يحضره الفقيه 1536/316:3، تفسير الصافي 79:5.

أنواع المأكولات للمتنعّمين، و لا يقتصر على نوع خاص، بل يعطون مِمّٰا يَشْتَهُونَ و يرغبون إليه من أنواع الفواكه و اللحوم. روي أنّ المؤمن إذا اشتهى الطير يخرّ بين يديه مشويا (1)

يَتَنٰازَعُونَ و يتعاطون فِيهٰا بنحو التجاذب و التلاعب كَأْساً مملوءة من خمر الجنة، لكن لاٰ لَغْوٌ و كلام باطل و واه فِيهٰا كما يكون في شرب خمر الدنيا وَ لاٰ يكون فيها تَأْثِيمٌ و فعل قبيح من السبّ و الفحش، كما هو لازم السّكر في الدنيا، بل لا يتكلّمون إلاّ بأحاسن الكلام، و لا يفعلون إلاّ ما يفعله الكرام، لعدم حصول نقص في عقولهم، فضلا من زوالها. و قيل: لا يكون في شربها إثم و عصيان(2).

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ و يدور حولهم لخدمتهم، أو بكئوسهم غِلْمٰانٌ و خدم حسان الوجوه، مخلوقون لَهُمْ في الجنّة كَأَنَّهُمْ في البياض و الصفاء لُؤْلُؤٌ رطب مَكْنُونٌ و مصون في الصّدف عن الغبار و مسّ الأيدي، أو مخزون فانّه لا يخزن إلاّ الثمين الغالي القيمة.

روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذا لخادم، فكيف المخدوم! فقال: «و الذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(3).

و روى أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إن أدنى أهل الجنّة منزلة من ينادي الخادم من خدّامه، فيجيبه ألف ببابه: لبيك لبيك»(4).

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ آخر، و توجّه إليه، و هم يتحادثون و يَتَسٰاءَلُونَ تلذّذا و تفكّها و استئناسا، و يتذاكرون أحوالهم و أعمالهم في الدنيا، و بأنّه نالوا الكرامة في الآخرة

قٰالُوا جوابا للسائلين عن أحوالهم: يا إخواننا إِنّٰا كُنّٰا في زمان حياتنا قَبْلُ و في دار الدنيا فِي أَهْلِنٰا و أقاربنا مُشْفِقِينَ و خائفين من مخالفة أحكام اللّه و سوء عاقبتنا و أهوال الآخرة

فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْنٰا بالتوفيق لطاعته وَ وَقٰانٰا بذلك و حفظنا به من عَذٰابَ السَّمُومِ و الاحتراق بالنار الحارة النافذة في منافذ الجسد، كالريح الحارة النافذة فيها

إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلُ و في دار الدنيا نعبد اللّه و نَدْعُوهُ أن يقينا من العذاب، فوقانا و استجاب دعاءنا، و أدخلنا في جنته و رحمته إِنَّهُ تعالى هُوَ الْبَرُّ و المحسن بعباده اَلرَّحِيمُ بمن آمن به و أطاعه، الكثير الرحمة على من أقبل إليه.

فَذَكِّرْ فَمٰا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكٰاهِنٍ وَ لاٰ مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شٰاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ

ص: 69


1- . تفسير روح البيان 195:9.
2- . مجمع البيان 251:9.
3- . مجمع البيان 251:9، تفسير الصافي 80:5.
4- . تفسير أبي السعود 149:8، تفسير روح البيان 196:9.

رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاٰمُهُمْ بِهٰذٰا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ (32) ثمّ لمّا أمر سبحانه في آخر السورة السابقة بتذكير الخائفين من الوعيد، و ذكر هنا حال الخائفين من عذابه، أمره بوعظهم و تذكيرهم بقوله تعالى:

فَذَكِّرْ يا محمد وعظ الخائفين من اللّه بآيات الكتاب الكريم، و لا تعتن بما يقوله الكفار من أنّ محمدا كاهن أو مجنون فَمٰا أَنْتَ بحمد اللّه و بِنِعْمَةِ رَبِّكَ التي أنعمها عليك من كمال العقل و منصب الرسالة بِكٰاهِنٍ و مخبر بالغيب بتوسّط الجنّ وَ لاٰ مَجْنُونٍ و فاسد العقل.

ثمّ وبّخهم سبحانه على بعض أقاويلهم الشنيعة تعجّبا منها بقوله:

أَمْ يَقُولُونَ اولئك الطّغاة إذا سمعوا القرآن: إنّ محمدا شٰاعِرٌ و ملفّق الكلمات الموزونة المزينة المموّهة(1) لطلب المال، و لا نعارضه خوفا من أن يغلبنا بقوة شعره، أو يهجونا، بل نَتَرَبَّصُ و ننتظر بِهِ في خلاصنا من شرّه رَيْبَ الْمَنُونِ و حوادث الدهر، أو موته و هلاكه

قُلْ يا محمد، لهؤلاء المعاندين: تَرَبَّصُوا و انتظروا هلاكي بحوادث الدهر فَإِنِّي مَعَكُمْ أيضا متربص مِنَ جملة اَلْمُتَرَبِّصِينَ لهلاككم بالعذاب النازل عليكم من اللّه أو بأيدينا.

ثمّ وبّخهم سبحانه على ضعف عقولهم بقوله:

أَمْ تَأْمُرُهُمْ و تبعثهم أَحْلاٰمُهُمْ و عقولهم بِهٰذٰا القول الشنيع، و إلى التكلّم بالمتناقضات، حيث إنّ لازم الكهانة الفطنة و العقل و الدقّة في الامور، و لازم الجنون عدم الفهم و اختلال الفكر، و لازم الشاعر القدرة على الكلام الموزون المتّسق المخيّل بقوة الفكر، و لا يمكن اجتماع الثلاثة في شخص واحد، لا و اللّه لا يجوّز العقل التكلّم بها أَمْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ و هل هم إلاّ طائفة معاندون للّه و لكلّ حقّ و صواب، يبعثهم عنادهم إلى التكلّم بالخرافات التي لا تصدر من ذي شعور، و المكابرة بالتفوّه بكلّ كلام باطل لإطفاء الحقّ مع ظهوره.

أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاٰ يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخٰالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لاٰ يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ (38)

ص: 70


1- . في النسخة: المموّهمة.

ثمّ وبّخهم سبحانه على الطعن على القرآن الذي فيه وجوه من الاعجاز بقوله:

أَمْ يَقُولُونَ: إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل مما تَقَوَّلَهُ محمد، و اختلقه من قبل نفسه، و ينسبه كذبا إلى اللّه؟ لا و اللّه ليس كذلك، و لا يعتقدون ذلك بَلْ هم قوم ختم اللّه على قلوبهم، فهم لاٰ يُؤْمِنُونَ بآية من الآيات، و لا يصدّقون معجزة من المعجزات، فان كان القرآن ممّا تقوّله محمد كما يقولون الكفّار

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ و كلام مركّب مِثْلِهِ في الفصاحة و البلاغة و حسن الاسلوب، و الاشتمال على العلوم و المعارف، من عند أنفسهم إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ في ما يقولون من أنّه كلام البشر، مع أنّهم مهرة الكلام و فرسان ميدان الفصاحة و البلاغة، و طول ممارستهم الخطب و الأشعار، و كثرة مزاولتهم لأساليب النّظم و النثر، و شدّة اهتمامهم بحفظ الوقائع و الأيام و لا يمكنهم الإتيان بسورة منه فضلا عن جميعه.

ثمّ إنّه تعالى بعد توبيخ المشركين على الطعن على رسوله و كتابه، وبّخهم على إنكار اللّه تعالى بقوله:

أَمْ خُلِقُوا قيل: إنّ التقدير أ ما خلقوا أصلا(1) ، أم خلقوا و قدّروا و وجدوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يكون خالقهم و مقدّرا و موجدا لهم أَمْ لهم موجد و خالق، و لكن هُمُ أنفسهم اَلْخٰالِقُونَ لأنفسهم؟ و كل الصور الثلاث باطل بالبداهة، لتحقّق خلقهم، و امتناع وجود المخلوق بغير خالق، و امتناع كون أنفسهم خالقا لهم.

و قيل: إنّ المراد من قوله: خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير حكمة، و عبثا لا لشيء(2). و قيل: يعني خلقوا من غير أب و أمّ(3).

و قيل: في وجه ارتباط الآية: إنّه لمّا كذّبوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و نسبوه إلى الكهانة و الجنون و الشعر، ذكر الدليل على صدقه(4) ، حيث إنّه يدّعي التوحيد و الرسالة و الحشر، و دليل كلّ منها ظاهر في أنفسهم، أمّا دلالة وجودهم على التوحيد فظاهر، و أما دلالته على الحشر فلأنّ الخلق الأوّل دليل على الخلق الثاني، و المراد: أ ما خلقوا أصلا، فينكرون التوحيد لانتفاء الايجاد، و ينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول، أم يقولون: إنّهم ما خلقوا لشيء فلا إعادة، أو ما خلقوا من تراب و ماء أو من نطفة حتى يخفى عليهم أنّ لهم خالقا و يقولون: إنّ خلقنا كان اتّفاقيا، أم هم الخالقون للموجودات، فيعجزون بكثرة العمل عن الخلق الثاني مرّة، كما أن الإعياء(5) دأب الانسان؟

ص: 71


1- . تفسير الرازي 260:28.
2- . تفسير الرازي 260:28.
3- . تفسير الرازي 260:28، تفسير روح البيان 202:9.
4- . تفسير الرازي 259:28.
5- . في النسخة الأعباء.

أَمْ هم خَلَقُوا بقدرتهم اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ فلا يستدلّون بهما على وجود الصانع القادر الحكيم؟ لا و اللّه لا يقولون بأنّهم خالقهما بَلْ يشكّون في خالقهما و لاٰ يُوقِنُونَ بالنظر إلى الآيات الآفاقية و الأنفسية المذكورة بأنّ اللّه خالقهما و خالق كلّ شيء، و إلاّ لما أعرضوا عن عبادته، و ما أنكروا قدرته على البعث

أَمْ عِنْدَهُمْ و تحت تصرّفهم خَزٰائِنُ رحمة رَبِّكَ حتى يعطوا النبوة من شاءوا و يمنعوها عمّن شاءوا؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ و الغالبون على من له الخزائن حتى يجبروه على الاعطاء و المنع على وفق إرادتهم و هوى أنفسهم؟

أَمْ لا يحتاجون إلى الرسول، بل لَهُمْ سُلَّمٌ يصعدون فيه إلى السماء، و يَسْتَمِعُونَ من الملائكة ما يحتاجون إلى العلم به من الأحكام و سائر الأمور حال كونهم صاعدين فِيهِ؟ فان كانوا يدّعون ذلك فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ من الملائكة بصعوده إلى السماء بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ و برهان واضح على استماعه و صدقه في دعواه.

أَمْ لَهُ الْبَنٰاتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلٰهٌ غَيْرُ اللّٰهِ سُبْحٰانَ اللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (43) ثمّ وبّخ جماعة من قريش على قولهم: إنّ الملائكة بنات اللّه، و عبادتهم إياهم لكونهم أولاده بقوله:

أَمْ لَهُ الْبَنٰاتُ اللاتي هنّ أخسّ الأولاد عندكم وَ لَكُمُ أيّها السّفهاء اَلْبَنُونَ الذين هم أشرف الأولاد؟ قيل: إنّ الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد و التوبيخ(1). قيل: فيه إيذان بأنّ من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء فضلا من أن يرقى إلى السماء و يطّلع على الأسرار الغيبية(2).

ثمّ لمّا كان ظهور نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله بحيث لم يبق لأحد مجال الشكّ و الانكار، أعرض سبحانه عن المشركين، و وجّه خطابه للنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

أَمْ تَسْئَلُهُمْ و تطلب منهم على تبليغ الرسالة أَجْراً و جعلا من المال فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ و مال ألزمتهم بأدائه إليك مُثْقَلُونَ و متقاعدون عن الايمان بك و اتّباعك، الثقل أجرك عليهم؟ و فيه تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله و إظهار عدم تقصيره في أداء وظيفته

أَمْ لا يحتاجون إلى الرسول؛ لأنّ عِنْدَهُمُ اللوح المحفوظ الذي فيه اَلْغَيْبُ و ما لا يعلم به إلاّ بإعلام اللّه فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه ليبقى في حفظهم، و يراجعون إليه عند نسيانهم شيئا منه، و لذا لا يتّبعونك؟ أ يكتف المشركون بتلك التّرّهات و لا أقاويل الباطلة

أَمْ يُرِيدُونَ مع ذلك

ص: 72


1- . تفسير أبي السعود 151:8.
2- . تفسير أبي السعود 151:8.

كَيْداً و إساءة إليك في الخفاء منك، كالقتل و الحبس و الاخراج من البلد، أو حيلة و تدبير سوء في إطفاء نورك و الاخلال في أمر رسالتك؟

فَالَّذِينَ كَفَرُوا و أنكروا رسالتك هُمُ الْمَكِيدُونَ و مستحقّون لما ينزل بهم من العذاب غفلة و بغتة، أو هم الذين يعود إليهم وبال مكرهم و كيدهم من القتل و العذاب بعلّة كفرهم، لا من يريدون أن يكيدوه، فانّه المنصور من اللّه قولا و فعلا و حجّة و سيفا، أو هم المغلوبون في الكيد، ألهم صبر على ما ينزل عليهم من العذاب

أَمْ لَهُمْ إِلٰهٌ غَيْرُ اللّٰهِ يحرسهم منه؟ سُبْحٰانَ اللّٰهِ و ننزّهه (عن) شركة ما يُشْرِكُونَ به، أو عن إشراكهم.

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمٰاءِ سٰاقِطاً يَقُولُوا سَحٰابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتّٰى يُلاٰقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لاٰ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذٰاباً دُونَ ذٰلِكَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ (47) ثمّ بيّن كيفية نزول العذاب عليهم غفلة و بغتة بقوله تعالى:

وَ إِنْ يَرَوْا حين انقضاء مدّة إمهالهم كِسْفاً و قطعة من العذاب، نازلا عليهم مِنَ السَّمٰاءِ أو قطعة منها، سٰاقِطاً عليهم يَقُولُوا من فرط الغفلة: هذا الذي نرى سَحٰابٌ غليظ مَرْكُومٌ و منضم بعضه ببعض، أو ملقى بعضه فوق بعض يمطرنا الساعة.

و قيل: إنّه بيان لغاية لجاجهم و عنادهم، و المراد أنّهم في اللّجاج و العناد بحيث لو أسقطنا عليهم قطعة من السماء حسبما قالوا: (أو تسقط علينا كسفا من السماء لقالوا هذا سحاب مركوم) و لم يصدّقوا أنّه كسف من السماء ساقط عليهم لتعذيبهم(1). فاذا كان لجاجهم و عنادهم إلى هذا الحدّ

فَذَرْهُمْ و اتركهم على حالهم، و لا تتعب نفسك بالاصرار على دعوتهم حَتّٰى يُلاٰقُوا و يعاينوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ و يهلكون بالعذاب، أعني

يَوْمَ لاٰ يُغْنِي و لا يكفي في دفع العذاب عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ و مكرهم و تدبيرهم شَيْئاً من الإغناء وَ لاٰ هُمْ من جهة الغير يُنْصَرُونَ و يحفظون من العذاب.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يقتصر في حقّ المصرّين على العناد و اللّجاج على عذاب الآخرة، بل لهم في الدنيا عذاب أخف من عذاب الآخرة بقوله:

وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالإصرار على الكفر و العناد، و على اللّه تعالى بتضييع حقّ ربوبيته و نعمته، و على الرسول بتكذيبه و كفران نعمة هدايته.

ص: 73


1- . تفسير الصافي 82:5، تفسير الكشاف 415:4.

القمي: ظلموا آل محمد (1)عَذٰاباً أليما في الدنيا دُونَ ذٰلِكَ العذاب الموعود في الآخرة و قبله، أو أخفّ منه. عن القمي: عذاب الرجعة بالسيف(2). و قيل: يعني عذابا أخفّ قيل العذاب بالقتل، و هو العذاب بالقحط(3). و قيل: يعني وراء عذاب الدنيا، و هو عذاب الآخرة(4).

وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لفرط جهلهم و عنادهم لاٰ يَعْلَمُونَ ذلك، و إنّما يعلمه أقلّهم، و هم الذين آمنوا. و قيل: يعني أنّهم في أكثر أحوالهم - و هو حال اشتغالهم بالدنيا - لا يعلمون، و في أقلها - و هو حال احتضارهم - يعلمون. و قيل: إنّ أكثر هنا بمعنى الكلّ(5).

وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ (49) ثمّ لمّا ذكر سبحانه عناد القوم و كيدهم في شأن رسوله، سلاّه بقوله:

وَ اصْبِرْ يا محمد، على عناد القوم و أذاهم لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى اليوم الموعود، و لا يضيق صدرك بما يقولون، و لا تخف من كيدهم فَإِنَّكَ محفوظ من الآفات جميعها بِأَعْيُنِنٰا و في مرآنا، أو بحفظنا و في حمايتنا.

و جمع العين لجمع الضمير، و للإيذان بغاية الاعتناء بحفظه و بكثرة أسبابه.

و لا تدع على أعدائك، و لا تشغل قلبك بالتفكّر في سوء فعالهم و أقوالهم، بل فرّغه للعبادة وَ سَبِّحْ اللّه و نزّهه عن النقائص الإمكانية، و اقرن تسبيحك بِحَمْدِ رَبِّكَ على نعمه عليك حِينَ تَقُومُ من النوم لصلاة الليل، كما عن القمي(6). أو تقوم من النوم في أيّ وقت، كما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يسبّح بعد الانتباه(7). أو تقوم من مجلسك، لما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهمّ و بحمدك، أشهد أنّ لا إله إلاّ أنت، استغفرك و أتوب إليك، كان كفارة لما بينهما»(8). أو تقوم إلى الصلاة، لمّا روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قمت إلى الصلاة، فقل:

سبحانك اللهمّ و بحمدك، و تبارك اسمك، و تعالى جدّك، و لا إله غيرك»(9).

أقول: أو في جميع تلك الأوقات المذكورة في الروايات.

وَ بعضا مِنَ اللَّيْلِ أوله، أو آخره فَسَبِّحْهُ فانّه أفضل أوقات العبادة. و قيل: القدر الذي

ص: 74


1- . تفسير القمي 333:2، تفسير الصافي 83:5.
2- . تفسير القمي 333:2، تفسير الصافي 83:5.
3- . تفسير أبي السعود 152:8، تفسير روح البيان 205:9.
4- . تفسير الرازي 273:28، تفسير أبي السعود 153:8، تفسير روح البيان 105:9.
5- . تفسير الرازي 274:28.
6- . تفسير القمي 333:2، تفسير الصافي 83:5.
7- . تفسير الرازي 275:28.
8- . تفسير روح البيان 207:9.
9- . تفسير الرازي 275:28.

يكون فيه يقظان(1). و عن القمي: صلاة الليل(2). وَ كذا إِدْبٰارَ النُّجُومِ و حين يخفى ضياؤها و هو وقت الصبح. و قيل: إنّ المراد من التسبيح في الليل صلاة العشاءين، و من التسبيح إدبار النجوم صلاة الفجر(3). و قيل: إنّه ركعتان قبل الفجر(4).

و عنهما عليهما السّلام: «وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ يعني الرّكعتين قبل صلاة الفجر»(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الطور جمع اللّه له خير الدنيا و الآخرة»(6).

الحمد للّه الذي وفقني لتفسيرها.

ص: 75


1- . تفسير الرازي 276:28.
2- . تفسير القمي 333:2، تفسير الصافي 83:5.
3- . تفسير أبي السعود 153:8، تفسير روح البيان 208:9.
4- . تفسير روح البيان 208:9.
5- . مجمع البيان 257:9، تفسير الصافي 83:5.
6- . ثواب الأعمال: 116، عن الباقر و الصادق عليهما السّلام، مجمع البيان 245:9، عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 83:5.

ص: 76

في تفسير سورة النجم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ (1) مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ (2) وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (4) ثمّ لمّا ختمت سورة الطّور المتضمّنة لبيان إنعام اللّه على النبي بنعمة الرسالة، و ردّ من قال إنّه صلّى اللّه عليه و آله كاهن أو مجنون أو شاعر، و من قال بأنّ القرآن اختلقه محمد صلّى اللّه عليه و آله، و توبيخ المشركين على إنكارهم توحيد اللّه، و قولهم بأنّ له البنات و لهم البنون، و ردّ قولهم بعدم حاجتهم إلى الرسول بأنّهم لا يعلمون الغيب حتى لا يحتاجوا إلى المبلّغ عن اللّه، و أمر الرسول بالاعراض عن المصرّين على الكفر بقوله:

فَذَرْهُمْ حَتّٰى يُلاٰقُوا (1) نظمت سورة النجم المتضمّنة لإثبات نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و نفي الضلالة و الغواية عنه، و أنّ ما يقوله ليس إلاّ ما يوحى إليه، و أنّ ما يعلمه ليس إلاّ ما علّمه اللّه بتوسّط جبرئيل لا بالكهانة، و إثبات التوحيد و نفي الوهية اللات و العزى و سائر الأصنام، و توبيخ المشركين على قولهم بأنّ لهم الذكر و له الانثى، و إنكار كونهم عالمين بالغيب حتى لا يحتاجون إلى الرسول بقوله: أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ (2) ، و أمر الرسول بالإعراض عن المعرضين عن ذكر اللّه، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بالحلف على صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله في الرسالة بقوله:

وَ النَّجْمِ قيل: هو الثّريا، و الحلف به لكونه أحسن النجوم عند قريش و أظهرها للرائي، لأنّه له علامة لا يلتبس بغيره(3) ، و تخصيص الحلف بحال هويه بقوله: إِذٰا هَوىٰ و سقط و مال إلى الغروب؛ لأنّه يهتدي الساري به حين الزوال، كما يهتدى بالنبي بخفض جناحه و لين جانبه.

قيل: لمّا كان بعض المشركين يعبدونه، فقرن سبحانه تعظيمه بالحلف به بما يدلّ على عدم قابليته

ص: 77


1- . الطور: 45/52.
2- . النجم: 35/53.
3- . تفسير الرازي 279:28.

للعبادة، لكونه هاويا آفلا، كما قال إبراهيم: لاٰ أُحِبُّ الْآفِلِينَ (1).

و قيل: إنّ المراد بالنجم جنسه الثابت في السماء للاهتداء(2).

و قيل: جنس النجوم المنقضّة التي هي رجوم للشياطين(3) ، كما أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله منجي المؤمنين من همزات الشياطين.

و قيل: إنّ الحلف بربّ النجم، و التقدير: و ربّ النجم(4) و عن ابن عباس: قال: يقول: و خالق النجم(5).

و قيل: إنّ المراد بالنجم النباتات التي لا ساق لها(6) ، و هواه سقوطه على الأرض(7) ، و هو سجوده.

و قيل: إنّه نجوم القرآن(8) ، و الحلف به استدلال بأعظم معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله على صدقه.

ثمّ ذكر سبحانه المحلوف عليه بقوله:

مٰا ضَلَّ و ما عدل عن الصراط المستقيم الموصل إلى كلّ خير، و ما انحرف عن طريق القرب إلى اللّه و النيل بنعم الآخرة لنقص عقله محمد صلّى اللّه عليه و آله الذي هو صٰاحِبُكُمْ و معاشركم من أول عمره إلى الآن، و ما رأيتم منه كذبا و لا خيانة. و قيل: يعني سيدكم(9) و مالك اموركم وَ مٰا غَوىٰ و ما وقع في أمر باطل و فاسد باغواء الشياطين

وَ مٰا يَنْطِقُ بشيء و لا يتكلم بكلمة صادرة عَنِ الْهَوىٰ و ميل نفسه و شهوته.

و قيل: إنّه دليل على عدم ضلالته، و المراد أنّه كيف يضلّ و يغوي و هو لا ينطق عن الهوى؟ و إنّما يضلّ من اتّبع الهوى، كما قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ لاٰ تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ (10).

و قيل: إنّ كلمة (عن) بمعنى باء، و المعنى لا ينطق بسبب الهوى(11).

إِنْ الذي ينطق به، و ما هُوَ شيء إِلاّٰ وَحْيٌ من اللّه تعالى يُوحىٰ إليه حقيقة بواسطة جبرئيل لا مجازا، و ما هو بكاهن و لا شاعر و لا مجنون.

ذكر فضيلة

لعلي عليه السّلام و نصّ

الامامة

و قال العلامة رحمه اللّه في (نهج البلاغة): روى الجمهور عن ابن عباس، قال: كنت جالسا مع فتية من بني هاشم عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، إذ انقض كوكب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من انقضّ هذا النجم في منزله فهو الوصيّ من بعدي» فقام فتية من بني هاشم فنظروا، فإذا الكواكب انقضّ في منزل علي بن أبي طالب عليه السّلام. فقالوا: يا رسول اللّه، غويت في حبّ علي.

ص: 78


1- . تفسير الرازي 280:28، و الآية من سورة الأنعام: 76/6.
2- . تفسير الرازي 279:28.
3- . تفسير الرازي 279:28.
4- . تفسير روح البيان 209:9.
5- . أمالي الصدوق: 893/660، تفسير الصافي 84:5.
6- . تفسير روح البيان 211:9.
7- . تفسير روح البيان 211:9.
8- . جوامع الجامع: 468، تفسير الرازي 279:28.
9- . تفسير الرازي 280:28.
10- . تفسير الرازي 280:28، و الآية من سورة ص: 26/38.
11- . تفسير روح البيان 213:9.

فأنزل اللّه تعالى: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ * مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ (1).

و عن (المجالس) عن ابن عباس، قال: صلّينا العشاء الآخرة مع رسول اللّه، فلمّا سلّم أقبل علينا بوجهه ثمّ قال: «سينقضّ كوكب من السماء مع طلوع الفجر، فيسقط في دار أحدكم، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي و خليفتي و الامام بعدي» فلمّا قرب الفجر، جلس كلّ أحد منا في داره، و كان أطمع القوم في ذلك أبي العباس بن عبد المطلب، فلمّا طلع الفجر انقضّ الكوكب من الهواء، فسقط في دار علي بن أبي طالب عليه السّلام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي: «يا علي، و الذي بعثني بالنبوة، لقد وجبت لك الوصية و الخلافة و الامامة بعدي». فقال المنافقون عبد اللّه بن ابي و أصحابه: لقد ضلّ محمد في محبّة ابن عمّه و غوى، و ما ينطق في شأنه إلاّ بالهوى. فأنزل اللّه تبارك و تعالى: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ * مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ في محبّة علي بن أبي طالب وَ مٰا غَوىٰ * وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ في شأنه إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (2). و روى ما يقرب منه عن الصادق عليه السّلام(3).

و روي عن الباقر عليه السّلام قال: «ما ضلّ في عليّ و ما غوى، و ما ينطق فيه عن الهوى، و ما كان ما قاله فيه إلاّ بالوحي الذي اوحي إليه»(4).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّ رضى الناس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط، و كيف يسلمون ممّا لا يسلم منه أنبياء اللّه و رسله و حجج اللّه... أ لم ينسبوا نبيّنا محمد صلّى اللّه عليه و آله إلى أنه ينطق عن الهوى في ابن عمّه عليّ عليه السّلام حتى كذّبهم اللّه فقال تعالى: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ» (5).

و عن الرضا عليه السّلام في تأويل الآية: «النجم رسول اللّه»(6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أقسم اللّه بمحمد صلّى اللّه عليه و آله(7) إذا قبض مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ لتفضيله أهل بيته وَ مٰا غَوىٰ * وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ يقول: ما يتكلّم بفضل أهل بيته بهواه، و هو قول اللّه: إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ» (8).

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوىٰ (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلىٰ (7) ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى (8) فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ (9) فَأَوْحىٰ إِلىٰ عَبْدِهِ مٰا أَوْحىٰ (10) مٰا كَذَبَ الْفُؤٰادُ

ص: 79


1- . نهج الحق: 193.
2- . أمالي الصدوق: 893/659، تفسير الصافي 84:5.
3- . أمالي الصدوق: 894/660، تفسير الصافي 85:5.
4- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 85:5.
5- . أمالي الصدوق: 163/164، تفسير الصافي 85:5.
6- . تفسير القمي 333:2، و لم ينسبه إلى أحد، تفسير الصافي 85:5.
7- . في الكافي: أقسم بقبض محمد، في تفسير الصافي: أقسم بقبر محمد.
8- . الكافي 574/380:8، تفسير الصافي 85:5.

مٰا رَأىٰ (11) ثمّ لمّا كان بعض المشركين يقولون: إنّما علّم محمدا ما ينطق و ما يقول من العلوم بعض أهل الكتاب في أسفاره إلى الشام، ردّهم اللّه سبحانه بقوله:

عَلَّمَهُ جبرئيل الذي هو شَدِيدُ الْقُوىٰ في العلوم و الأعمال، لا البشر الذي هو ضعيف القوة و قليل العلم، و ذلك الملك

ذُو مِرَّةٍ و كمال في الجسم و العقل و الدين و حسن الأخلاق و استحكام الأركان فَاسْتَوىٰ ذلك الملك و استقام متوجّها إلى تعليم محمد صلّى اللّه عليه و آله، و استقر على صورته الأصلية التي خلق عليها، أو استقرّ محمد صلّى اللّه عليه و آله على التعلّم منه، كما عن القمي(1).

و قيل: إنّ فاعل (علّمه) اللّه، و المعنى علّمه اللّه الذي هو شديد القوى في العلوم، و ما بعده أوصاف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المعنى: أنّ الرسول ذو مرّة، فاستوى: و استقام للتعلّم من اللّه(2).

عن الرضا عليه السّلام: «ما بعث اللّه نبيا إلاّ صاحب مرّة سوداء صافية»(3).

وَ هُوَ متمكّن بِالْأُفُقِ الْأَعْلىٰ أو المقام الأرفع من الكمالات الانسانية، و المرتبة الأسنى من الفضائل الجسمانية و الروحانية بحيث لا يدانيه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل

ثُمَّ دَنٰا رسول اللّه و قرب من اللّه بالعلم و الكمال الصفاتي فَتَدَلّٰى اللّه و قرب منه.

عن الكاظم عليه السّلام، قال: «هذه لغة قريش، إذا أراد الرجل أن يقول: سمعت، يقول: تدلّيت، و إنّما التدلّي: الفهم»(4).

أقول: و عليه يكون المعنى: ثمّ دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسمع و فهم من اللّه.

فَكٰانَ مقدار المسافة بين اللّه و بين رسوله قٰابَ قَوْسَيْنِ و قدر ما بين سية(5) القوس إلى رأسها، كما عن الصادق عليه السّلام(6). و قيل: مقدار ما بين الوتر و القوس(7). و هو حدّ الفصل في مجالسة الأحبّاء المتأدّبين(8).

قيل: مثل لغاية القرب، و أصله أنّ الحليفين كانا إذا أراد عقد الصفاء أخرجا قوسيهما، فألصقا بينهما، و هو إشارة إلى كونهما متظاهرين يحامي كلّ منهما عن صاحبه(9).

و قيل: إن الكبيرين من العرب إذا اصطلحا و تعاهدا، أخرجا قوسيهما، و وتر كلّ واحد منهما طرف

ص: 80


1- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 85:5.
2- . تفسير القمي 234:2.
3- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 85:5.
4- . الاحتجاج: 387، تفسير الصافي 87:5.
5- . سية القوس: ما عطف من طرفيها.
6- . الكافي 13/368:1، تفسير الصافي 87:5.
7- . تفسير روح البيان 217:9.
8- . تفسير روح البيان 218:9.
9- . تفسير روح البيان 217:9.

قوسه بطرف قوس صاحبه(1). فجعل سبحانه نفسه و نبيه صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة أميرين كبيرين اجتمعا للتعاهد و التصافي و التعاضد.

في (الامالي) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لمّا عرج بي إلى السماء دنوت من ربي عز و جلّ حتى كان بيني و بينه قاب قوسين أو أدنى، فقال: يا محمد، من تحبّ من الخلق؟ قلت: يا ربّ، عليا. قال: فالتفت يا محمد. فالتفت عن يساري، فاذا علي بن أبي طالب»(2).

و عن السجاد صلّى اللّه عليه و آله: «أنا بن من علا فاستعلى، فجاز سدرة المنتهى، فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى»(3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، و عرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة، حتى انتهى إلى ساق العرش، فدنا بالعلم فتدلّى، فدنا له من الجنّة رفرف أخضر، و غشي النور بصره، فرأى عظمة اللّه بفؤاده، و لم يرها بعينه، فكان قاب قوسين بينهما و بينه أو أدنى»(4).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام، قال: «و كان كما قال اللّه قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ قيل: ما قاب قوسين؟ قال: «ما بين سيتها إلى رأسها» قال: «فكان بينهما حجاب يتلألأ يخفق - و لا أعلمه إلاّ و قد قال: زبرجد - فنظر في مثل سمّ الإبرة إلى ما شاء اللّه من نور العظمة، فقال اللّه تعالى: يا محمد، قال:

لبيك ربّي. قال: من لامّتك من بعدك؟ قال: اللّه تعالى أعلم. قال: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، و سيد المسلمين، و قائد الغرّ المحجّلين».

ثمّ قال الصادق عليه السّلام: «ما جاءت ولاية عليّ عليه السّلام من الأرض، و لكن جاءت من السماء مشافهة»(5).

أقول: الظاهر أنّ أول حضوره في الحضرة كان قربه قاب قوسين، ثمّ صار أقرب، و لذا أضرب سبحانه عن الحدّ الأول بقوله تعالى: أَوْ أَدْنىٰ و أقرب. عن الصادق عليه السّلام في رواية: «و كان من اللّه عزّ و جلّ كما قال: قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ أي بل أدنى»(6).

و قيل: كلمة (او) للترديد، و المعنى: أو أقرب على تقديركم أيّها المخاطبون، كما في قوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ (7) فالترديد و الشكّ من جهة العباد، لا من اللّه، لامتناع الشكّ(8).

و قيل: إنّ المعنى فدنا من جبرئيل فتدلّى و استرسل جبرئيل نفسه من الافق الأعلى، و هو مطلع

ص: 81


1- . تفسير الرازي 286:28.
2- . أمالي الطوسي: 727/352، تفسير الصافي 86:5.
3- . الاحتجاج: 311، تفسير الصافي 86:5.
4- . الاحتجاج: 220، تفسير الصافي 87:5.
5- . الكافي 13/368:1، تفسير الصافي 87:5.
6- . تفسير الصافي 86:5.
7- . الصافات: 147/37.
8- . تفسير روح البيان 218:9.

الشمس، كما أنّ افق المغرب الأدنى، فدنا من النبي صلّى اللّه عليه و آله(1).

و قيل: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أحبّ أن، يرى جبرئيل في صورته التي خلق عليها، و كان صلّى اللّه عليه و آله بجبل حراء، المسمى بجبل النور في قرب مكة، فقال جبرئيل: إنّ الارض لا تسعني، و لكن انظر إلى السماء، فطلع له جبرئيل من المشرق، فسدّ الأرض من المغرب، و ملأ الافق، فخرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما خرّ موسى في الطور، فنزل جبرئيل في صور الأدميين، فضمّه إلى نفسه، و جعل يمسح الغبار عن وجهه(2).

و قيل: إنّ اللّه تعالى نزّل جبرئيل و النبي صلّى اللّه عليه و آله في لقائهما منزلة كبيرين من الناس، إذا قربا للتعاهد و التعاضد، ثمّ لمّا كان جبرئيل بالنسبة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة الرعية إذا أراد أن يبايع السلطان، فانّه يقرب منه و يمدّ يده ليضعها في كفّ السلطان، فانّه يقرب منه بقدر الباع، و هو أقصر من القوسين(3).

و قيل: إنّ البعد المقدّر بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و جبرئيل هو بعد البشرية عن حقيقة الملكية، فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و إن تنزّه عن نقائص البشرية [و زال عن الصفات التي تخالف صفات الملك] من الشهوة و الغضب و الجهل و البعد عن اللّه و غيرها من الرذائل [لكن بشريته باقية]، و جبرئيل [و ان ترك الكمال و اللطف الذي يمنع الرؤية و الاحتجاب، لكن لم يخرج عن كونه ملكا، فارتفع النبي صلّى اللّه عليه و آله حتى بلغ الافق الأعلى من البشرية و جبرئيل] تدلّى إلى الافق الأدنى من الملكية، فتقاربا و لم يبق بينهما إلاّ [اختلاف] حقيقتهما(4).

قيل: إنّ معنى الآيات: علّم النبي صلّى اللّه عليه و آله جبرئيل الذي هو كامل القوى للتعليم، و ذو حصافة(5) في العقل، فاستوى محمد صلّى اللّه عليه و آله و تكامل للرسالة، أو استقام جبرئيل على صورته الأصلية في حال كان محمد صلّى اللّه عليه و آله في الافق الأعلى من مراتب كمال الانسانية، و هو مرتبة النبوة، ثم دنا من جبرئيل و تخلّع بخلعة الرسالة، ثمّ تدلى إلى امّته بالرفق و اللين(6).

عن السجاد عليه السّلام - في رواية - «فتدلّى فنظر في تحته ملكوت الأرض حتى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى»(7).

فَأَوْحىٰ اللّه بلا واسطة جبرئيل إِلىٰ عَبْدِهِ محمد، أو جبرئيل إلى رسول اللّه و عبده مٰا أَوْحىٰ من عظائم الأمور التي لا تسعها العبائر على الأوّل، أو ما أوحى اللّه إلى جبرئيل على الثاني.

قيل: إنّ ما أوحى هو الصلاة(8).

ص: 82


1- . تفسير أبي السعود 155:8.
2- . تفسير أبي السعود 155:8، تفسير روح البيان 214:9.
3- . تفسير الرازي 286:28 و 287.
4- . تفسير الرازي 287:28.
5- . الحصافة: استحكام العقل و جودة الرأي.
6- . تفسير الرازي 286:28.
7- . علل الشرائع: 1/132، تفسير الصافي 86:5.
8- . تفسير الرازي 287:28.

و عن (الاحتجاج): هو آية لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اللّٰهُ. .. الآية(1).

و قيل: كلّما جاء به جبرئيل(2).

و يحتمل أنّه الولاية، عن القمي: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك الوحي، فقال: «أوحى اللّه إلي أنّ عليا سيد المؤمنين، و إمام المتّقين، و قائد الغرّ المحجلين، و أول خليفة يخلفه خاتم النبيين»(3).

مٰا كَذَبَ و ما أخطأ الفؤاد الذي لمحمد مٰا رَأىٰ محمد صلّى اللّه عليه و آله من نور عظمة اللّه في العرش، كما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(4) ، أو جبرئيل في الأرض على صورته الأصلية(5).

و عن الرضا عليه السّلام: «ما رأت عيناه [ثمّ أخبر بما رأى] فقال: لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ الْكُبْرىٰ فآيات اللّه غير اللّه(6).

و قيل: ما رأى فؤاد محمد صلّى اللّه عليه و آله بحقيقة الايمان هو ربّه(7) ، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لم أعبد ربّا لم أره»(8).

عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل: هل رأى رسول اللّه ربّه عزّ و جلّ؟ فقال «نعم، بقلبه رآه، أ ما سمعت اللّه يقول: مٰا كَذَبَ الْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ؟ ما رآه بالبصر، و لكن رآه بفؤاده»(9).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله رأى ربّه بفؤاده»(10).

أَ فَتُمٰارُونَهُ عَلىٰ مٰا يَرىٰ (12) وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهىٰ (14) ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على مجادلتهم رسوله فيما أخبر به من رؤيته جبرئيل بقوله:

أَ فَتُمٰارُونَهُ و تجادلونه أيّها المشركون عَلىٰ مٰا يَرىٰ من جبرئيل على صورته.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أخبر برؤيته جبرئيل تعجّبوا منه و أنكروا(11).

و عن القمي: بعد الإخبار بما قال اللّه في عليّ عليه السّلام دخل القوم في الكلام، فقالوا: أ من اللّه، أو من رسوله؟ فقال جلّ ذكره لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: قل لهم: مٰا كَذَبَ الْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ ثمّ ردّ عليهم فقال:

ص: 83


1- . الاحتجاج: 220، تفسير الصافي 88:5، و الآية من سورة البقرة: 284/2.
2- . تفسير الرازي 288:28.
3- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 89:5.
4- . مجمع البيان 265:9، تفسير الصافي 89:5.
5- . مجمع البيان 266:9.
6- . الكافي 2/75:1، التوحيد: 9/111، تفسير الصافي 89:5.
7- . تفسير الرازي 290:28، تفسير روح البيان 222:9.
8- . التوحيد: 1/305، و: 2/308، أمالي الصدوق: 560/423.
9- . التوحيد: 17/116، تفسير الصافي 89:5.
10- . مجمع البيان 264:9، تفسير الصافي 89:5.
11- . تفسير روح البيان 218:9.

أَ فَتُمٰارُونَهُ عَلىٰ مٰا يَرىٰ (1) .

و قيل: إنّ المعنى: كيف توردون الشكّ على ما يراه بعين اليقين، و لا شكّ بعد الرؤية، و أنتم تقولون أصابه الجنّ(2).

ثمّ أكّد سبحانه رؤية محمد صلّى اللّه عليه و آله ربّه بقوله:

وَ لَقَدْ رَآهُ محمّد صلّى اللّه عليه و آله نَزْلَةً و مرّة أُخْرىٰ حين رجوعه من العرش، فانّ له نزولات و عروجات لسؤال التخفيف على ما قيل(3). و عن كعب: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله رأى ربّه مرّتين (4)

عِنْدَ شجرة سِدْرَةِ كانت في السماء السادسة أو السابعة اَلْمُنْتَهىٰ إليها صعود الملائكة و أعمال العباد، و هو مقام جبرئيل بحيث لا يمكنه التجاوز، و لذا تخلّف عن النبي صلّى اللّه عليه و آله حين عروجه إلى العرش، و قال: لو دنوت أنملة لاحترقت.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «فلمّا انتهى إلى سدرة المنتهى تخلّف عنه جبرئيل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، في مثل هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدّم أمامك، فو اللّه لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق [اللّه] قبلك، فرأيت من نور ربّي، و حال بيني و بينه السّبحة، قيل: و ما السّبحة؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض، و بيده إلى السماء، و هو يقول: جلال ربّي، جلال ربّي، ثلاث مرات»(5).

و عنه عليه السّلام، قال: «وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهىٰ يعني عندها وافى به جبرئيل حين صعد إلى السماء، فلمّا انتهى إلى محلّ السّدرة وقف جبرئيل دونها، و قال: يا محمد، إنّ هذا موقفي الذي وضعني اللّه عزّ و جلّ فيه، و لم أقدر على أن أتقدّسه، و لكن أمض أنت أمامك إلى السّدرة، فوقف عندها» قال: «فتقدّم رسول اللّه إلى السّدرة، و تخلّف جبرئيل».

قال: «إنّما سمّيت سدرة المنتهى؛ لأنّ أعمال أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محلّ السدرة، و الحفظة الكرام البررة دون السّدرة يكتبون ما يرفع إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض». قال: «فينتهون بها إلى محلّ السّدرة».

قال: «فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرأى أغصانها تحت العرش و حوله، فتجلّى لمحمد صلّى اللّه عليه و آله نور الجبّار عزّ و جلّ، فلمّا غشي النور محمد صلّى اللّه عليه و آله شخص بصره، و ارتعدت فرائصه» قال: «فشدّ اللّه عزّ و جلّ لمحمد صلّى اللّه عليه و آله قلبه، و قوّى له بصره حتى رأى من آيات ربّه ما رأى، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهىٰ.

ص: 84


1- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 89:5.
2- . تفسير الرازي 290:28.
3- . تفسير روح البيان 224:9.
4- . تفسير روح البيان 225:9، و لم ينسبه إلى أحد.
5- . تفسير القمي 243:2، تفسير الصافي 90:5.

إلى أن قال: «و إنّ غلظ السدرة لمسيرة مائة عام من أيام الدنيا، و إنّ الورقة منها تغطّى أهل الدنيا»(1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «رأيت على كلّ ورقة منها ملكا قائما يسبّح اللّه»(2).

و قيل: إنّها شجرة طوبى(3) ، و قيل: إنّها في منتهى الجنة(4). و قيل: ينتهي إليها ما يهبط من فوقها من الأحكام، و يصعد من تحتها من الآثار(5).

و عن أبي هريرة: لمّا اسرى بالنبي صلّى اللّه عليه و آله انتهى إلى السّدرة، فقيل له صلّى اللّه عليه و آله: هذه السّدرة ينتهي إليها كلّ أحد من أمّتك مات على سنّتك(6).

و عن كعب الأحبار: أنّها سدرة في أصل العرش على رءوس حملة العرش، و إليها ينتهي الخلائق، و ما خلفها غيب لا يعلمه إلاّ اللّه(7).

و قيل: إنّه منتهى العلوم(8).

و قيل: إنّ ضمير (رآه) راجع إلى جبرئيل و المعنى: و اللّه لقد رأى محمد صلّى اللّه عليه و آله جبرئيل بصورته الأصلية مرة اخرى من نزوله(9).

نقل عن عائشة أنّها قالت: أنا سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك، فقال: «رأيت جبرئيل نازلا في الافق على خلقته و صورته»(10).

عِنْدَهٰا جَنَّةُ الْمَأْوىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مٰا يَغْشىٰ (16) مٰا زٰاغَ الْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ (17) لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ الْكُبْرىٰ (18) ثمّ عظّم سبحانه السّدرة بقوله:

عِنْدَهٰا جَنَّةُ هي اَلْمَأْوىٰ و المرجع و المقرّ للمتّقين و الشهداء و الصالحين: أو مأوى آدم و حوّاء.

ثم بالغ سبحانه في تعظيم السّدرة ببيان وقت رؤية النبي صلّى اللّه عليه و آله ما رأى من نور عظمة اللّه، أو جبرئيل، بقوله:

إِذْ يَغْشَى قيل: معناه لقد رآه حين يغطّي و يستر (11)اَلسِّدْرَةَ مٰا يَغْشىٰ و يغطّيها ما لا يفي البيان كيفا و لا كمّا من نور عظمة اللّه. قيل: لمّا وصل النبي صلّى اللّه عليه و آله إليها تجلّى ربّه لها، كما تجلّى للجبل، و لمّا كانت أقوى من الجبل، و قلب محمد صلّى اللّه عليه و آله أربط من قلب موسى عليه السّلام لم تندكّ السّدرة، و لم

ص: 85


1- . علل الشرائع: 1/277، تفسير الصافي 90:5.
2- . مجمع البيان 265:9، تفسير الصافي 90:5.
3- . تفسير روح البيان 225:9.
4- . تفسير أبي السعود 156:8، تفسير روح البيان 224:9.
5- . تفسير روح البيان 224:9.
6- . تفسير روح البيان 225:9.
7- . تفسير روح البيان 225:9.
8- . تفسير روح البيان 225:9.
9- . تفسير روح البيان 224:9.
10- . تفسير روح البيان 225:9.
11- . تفسير روح البيان 227:9.

يتزلزل محمد صلّى اللّه عليه و آله. كما اندكّ الجبل، و خرّ موسى صعقا(1).

و عن القمي رحمه اللّه، لمّا رفع الحجاب بينه و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غشي نوره السّدرة(2).

و قيل: غشّتها الملائكة(3).

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «رأيت السّدرة يغشّيها فراش من ذهب، و رأيت على كلّ ورقة منها ملكا قائما يسبّح اللّه»(4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «يغشّيها رفرف من طيور خضر»(5).

و قيل: يغشّيها جبرئيل(6).

و هو صلّى اللّه عليه و آله ما شاهد هناك من الامور المحيّرة

مٰا زٰاغَ و ما مال منه اَلْبَصَرُ أدنى ميل عمّا رآه من العجائب، و ما التفت إلى يمين و شمال لعظمة الهيبة وَ مٰا طَغىٰ محمد صلّى اللّه عليه و آله و ما جاوز عن حدّ الاستقامة و الثبات، و لم يتوجّه إلى شيء سواه، بل استغرق في التوجّه إلى الحقّ و اسمائه و صفاته و تجلّياته، أو إلى عجائب مبدعاته باللّه

لَقَدْ رَأىٰ محمد صلّى اللّه عليه و آله في عروجه إلى السماء مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ الآية اَلْكُبْرىٰ أو آيات هنّ أكبر الآيات. عن الباقر عليه السّلام: «يعني أكبر الآيات»(7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال بعد ذكر الآية: «رأى جبرئيل في صورته مرّتين، هذه المرة، و مرة اخرى، و ذلك أنّ خلق جبرئيل عظيم، و هو من الرّوحانيين الذين لا يدرك خلقهم و صفتهم إلاّ اللّه ربّ العالمين»(8).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «رأى جبرئيل على ساقة الدّرّ، مثل القطر على البقل، له ستمائة جناح، قد ملأ ما بين السماء و الأرض»(9).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما للّه آية أكبر منّي»(10).

عن القمي، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال لعلي: «يا علي، إنّ اللّه أشهدك معي في سبعة مواطن، أمّا أوّل ذلك فليلة اسري بي إلى السماء، قال لي جبرئيل: أين أخوك؟ فقلت: خلّفته ورائي. قال: ادع اللّه فليأتك به. فدعوت اللّه، فاذا مثالك معي، و إذ الملائكة وقوف صفوف، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال: هم

ص: 86


1- . تفسير الرازي 293:28.
2- . تفسير القمي 338:2، تفسير الصافي 91:5.
3- . الرازي 293:28، تفسير البيضاوي 439:2، تفسير أبي السعود 157:8.
4- . تفسير أبي السعود 157:8، تفسير روح البيان 227:9.
5- . تفسير أبي السعود 157:8، تفسير روح البيان 227:9.
6- . مجمع البيان 266:9.
7- . علل الشرائع: 1/278، تفسير الصافي 90:5.
8- . التوحيد: 5/263، تفسير الصافي 91:5.
9- . التوحيد: 18/116، تفسير الصافي 91:5.
10- . الكافي 3/161:1، تفسير الصافي 92:5.

الذين يباهيهم اللّه بك يوم القيامة فدنوت فنطقت بما كان و ما يكون إلى يوم القيامة، و الثاني حين اسر بي في المرّة الثانية، فقال لي جبرئيل: أين أخوك؟ قلت: خلّفته ورائي. قال: ادع اللّه فليأتك به.

فدعوت اللّه، فاذا مثالك معي، فكشط لي عن سبع سماوات حتى رأيت سكّانها و عمّارها و موضع كلّ ملك منها» الخبر(1).

أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّٰتَ وَ الْعُزّٰى (19) وَ مَنٰاةَ الثّٰالِثَةَ الْأُخْرىٰ (20) أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثىٰ (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزىٰ (22) إِنْ هِيَ إِلاّٰ أَسْمٰاءٌ سَمَّيْتُمُوهٰا أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ مٰا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدىٰ (23) ثمّ لمّا قرّر سبحانه النبوّة، ذكر بطلان الشّرك الذي هو أهم ما يكون الرسول مأمورا بتبليغه، بإظهار سفه القائلين بألوهية الأصنام المعروفة بقوله تعالى:

أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّٰتَ و هي صنم ثقيف في الطائف وَ الْعُزّٰى و هي صنم، أو سمرة عبدتها قبيلة غطفان

وَ مَنٰاةَ و هي صخرة يعبدها هذيل و خزاعة، أو صنم للأوس و الخزرج، و هي تكون اَلثّٰالِثَةَ للأوّلين اَلْأُخْرىٰ و الأدون و الأذلّ منهما بنات اللّه و أهلات للعبادة، أو إنّكم رأيتم حقارتها، فكيف تشركون بها مع اللّه تعالى مع كمال عظمته؟

عن القمي رحمه اللّه: اللات رجل، و العزّى امرأته، و مناة صنم بالمسلك الخارج عن الحرم على ستة أميال(2).

قيل: إنّ كون مناة أذلّ من الأولين؛ لأنّ اللات على صورة الآدمي، و العزّى على صورة نبات، و مناة على صورة صخرة، و الجماد أدون و أذل من الآدمي و النبات، و متأخّر رتبة منهما(3).

و قيل: إنّ المعنى أ فرأيتم اللات و العزّى المعبودين بالباطل و مناة الثالثة المعبودة الاخرى(4).

ثمّ لمّا كان محال أن يقول المشركون: نحن نعترف بأنّ اللّه تعالى أعظم من كلّ شيء، و لكن لمّا كانت الملائكة بنات اللّه صوّرنا لهنّ صورا نعبدها تعظيما لهنّ، فوبّخهم اللّه على ذلك القول الشنيع بقوله:

أَ لَكُمُ أيّها الجهّال الولد اَلذَّكَرُ الذي هو أشرف الاولاد و أكملهم و أنفعهم مع كونكم مخلوق اللّه و عبيده وَ لَهُ تعالى مع كمال عظمته و قدرته الولد اَلْأُنْثىٰ الذي هو أخسّ الأولاد و أنقصهم(5) بحيث إذا بشّر أحدكم به ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم

تِلْكَ القسمة أو نسبة البنات إلى اللّه مع اعتقادكم أنّهنّ ناقصات، و اختياركم البنين مع اعتقادكم أنّهم كاملون إِذاً و في حال كونكم

ص: 87


1- . تفسير القمي 335:2، تفسير الصافي 91:5.
2- . تفسير القمي 338:2، تفسير الصافي 92:5.
3- . تفسير الرازي 296:28.
4- . تفسير الرازي 296:28.
5- . في النسخة: و أنقصه.

في غاية النقص و الحقارة، و كون اللّه تعالى في نهاية الكمال و العظمة قِسْمَةٌ ضِيزىٰ و جائرة، حيث إنّ العقل حاكم بأنّ اللّه لا يلد، و على فرض الولادة لا يختار لنفسه إلاّ الولد الكامل

إِنْ الالفاظ التي تديرونها على ألسنتكم من قولكم: إنّ الملائكة بنات اللّه و شفعاؤكم، و إنّ الأصنام آلهة، و ما هِيَ في الواقع و الحقيقة إِلاّٰ أَسْمٰاءٌ لا مسمّيات لها، و الألفاظ لا معنى تحتها سَمَّيْتُمُوهٰا و وضعتموها أَنْتُمْ تقليدا لآبائكم، وَ وضعها آبٰاؤُكُمْ تبعا لكبرائهم، و الحال أنّه مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ و حجة و برهان تتمسكون به و تعتمدون عليه.

إِنْ هِيَ إِلاّٰ أَسْمٰاءٌ سَمَّيْتُمُوهٰا أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ مٰا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدىٰ (23) أَمْ لِلْإِنْسٰانِ مٰا تَمَنّٰى (24) فَلِلّٰهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولىٰ (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمٰاوٰاتِ لاٰ تُغْنِي شَفٰاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّٰهُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَرْضىٰ (26) ثمّ أعرض سبحانه عنهم إيذانا بسقوطهم عن قابلية الخطاب بسفههم، و وجّه الخطاب إلى العقلاء بقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ هؤلاء السّفهاء في تسمية الملائكة الذين هم عباد اللّه المكرمون بنات اللّه، و اللات و العزّى و مناة اللاتي كلّهن عجزة و غير شاعرات بالآلهة إِلاَّ الظَّنَّ السيئ و الحسبان الباطل وَ مٰا تَهْوَى و تشتهي اَلْأَنْفُسُ الأمّارة بالسوء وَ الحال أنّه باللّه لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنْ جانب رَبِّهِمُ اللطيف بهم اَلْهُدىٰ و أسباب الرّشاد إلى الحقّ من رسول عليم كريم و كتاب حكيم، و هم لكثرة جهلهم و عنادهم كذبوهما و استهزءوا بهما.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم اتّباع الهوى و اشتهاء الأنفس بقوله:

أَمْ لِلْإِنْسٰانِ و هل له مٰا تَمَنّٰى و تشتهيه من القول بأنّ الملائكة بنات اللّه و الشفعاء عنده، و أنّ الاصنام آلهة، لا و اللّه لا يحصل لهم ما يشتهونه.

و يحتمل أن لا تكون كلمة (أم) منقطعة، بل متّصلة، و المعنى: اللّه القادر على كلّ شيء ما أراد، أم للانسان العاجز عن كلّ ما يشتهيه، فاذا كانوا متّبعين لهواهم و ظنونهم

فَلِلّٰهِ وحده الدار اَلْآخِرَةُ وَ الْأُولىٰ يعاقبهم فيهما على مخالفتهم للّه.

قيل: إنّ الآية بيان العلّة لانتفاء أن يكون للانسان ما تمنّاه(1) ، و المعنى: ليس للانسان ما تمنّاه، لاختصاص امور العالمين به، فيعطي من أيّهما ما يريد لمن يريد، و ليس لأحد أن يحكم عليه في شيء منهما.

ص: 88


1- . تفسير أبي السعود 159:8، تفسير الصافي 236:9.

ثمّ أقنطهم سبحانه عن الطمع في شفاعة الملائكة فضلا عن الأصنام بقوله تعالى:

وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ و كثير من الروحانيين الساكنين فِي السَّمٰاوٰاتِ السبع لاٰ تُغْنِي و لا تنفع شَفٰاعَتُهُمْ عند اللّه لأحد شَيْئاً من الإغناء و النفع، و في وقت من الأوقات إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّٰهُ لهم في الشفاعة لِمَنْ يَشٰاءُ أن يشفعوا له وَ يَرْضىٰ عنه بتديّنه بالدين المرضي عنده، و هو الاسلام.

و قيل: يعني من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة، و لا يؤذن لهم إلاّ في الشفاعة لأهل الايمان بالتوحيد(1) و رسالة خاتم النبيين، فانّهم آهلين للشفاعة دون الكفّار و المشركين، هذا حال أعظم المخلوقات عند اللّه، فكيف حال الأصنام اللاّتي هنّ أخسّها؟

إِنَّ الَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثىٰ (27) وَ مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّٰى عَنْ ذِكْرِنٰا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا (29) ذٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدىٰ (30) ثمّ ذمّ سبحانه القائلين بانوثة الملائكة بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ عن صميم القلب و خلوص النية بِالْآخِرَةِ و دار الجزاء لَيُسَمُّونَ الْمَلاٰئِكَةَ الذين هم عباد الرحمن تسمية تشبه تَسْمِيَةَ الْأُنْثىٰ و يقولون لهم بنات اللّه.

قيل: إن القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه، لم يكونوا معتقدين بالمعاد و دار الجزاء، بل كانوا يقولون لا حشر و لا بعث(2) ، و لو فرض تحقيقه كانت الملائكة و الأصنام شفعاءنا، و لذا اجترءوا على هذا القول

وَ الحال أنّه مٰا لَهُمْ بِهِ شيء مِنْ عِلْمٍ و أقلّ مرتبة من اليقين، بل إِنْ يَتَّبِعُونَ و لا يوافقون في قولهم هذا إِلاَّ الظَّنَّ و الحسبان، كما لم يتّبعوا في القول بألوهية الأصنام إلاّ ذلك وَ إِنَّ الظَّنَّ مطلقا، أيّ ظنّ كان لاٰ يُغْنِي و لا يكفي مِنْ الوصول إلى اَلْحَقِّ و الواقع في العقائد شَيْئاً يسيرا من الاغناء و الكفاية. قيل: إنّ المعنى: لا يغني الظنّ شيئا من الحقّ، فانّ الحقائق لا تدرك إلاّ بالعلم(3).

فلمّا رأيتهم لا يصغون إلى البرهان، و لا يعتنون بالقرآن، و لا ينصرفون عن اتّباع الظنّ و الحسبان

فَأَعْرِضْ يا محمد عَنْ دعوتهم إلى الحقّ بالحكمة و الموعظة الحسنة، لعدم التأثير في

ص: 89


1- . تفسير أبي السعود 160:8، تفسير روح البيان 237:9.
2- . تفسير الرازي 308:28، تفسير روح البيان 237:9.
3- . تفسير أبي السعود 160:8، تفسير روح البيان 238:9.

قلوبهم، فانّهم (1)مَنْ تَوَلّٰى و أعرض بقلبه عَنْ ذِكْرِنٰا و المنبّهات النازلة منّا من القرآن الذي فيه تبيان كلّ شىء، و البراهين المتقنة المثبتة للحقّ وَ ذلك لأنّه لَمْ يُرِدْ و لم يطلب إِلاَّ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا و مشتهياتها، فأغفلته شدّة طلبها و الانهماك في لذّاتها عن التفكّر في مآلها و تبعاتها، و الاعتقاد بعالم الآخرة و دار الجزاء، و من غفل عن الآخرة و ترك التفكّر فيها، لا يخاف العقوبة على سيئاته، و لا يرجع عمّا هو عليه من الباطل

ذٰلِكَ المذكور من حياة الدنيا و شهواتها المحسوسة مَبْلَغُهُمْ و حدّ ما وصلوا إليه مِنَ الْعِلْمِ و الادراك، لا يكاد يجاوزونه إلى المعقولات حتى ينفعهم التعليم و الارشاد إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ خبثت طينته، و قلّ عقله، و ساءت أخلاقه من كلّ عالم لو فرض وجوده، و لذا ضَلَّ و انحراف عَنْ دين اللّه الذي هو سَبِيلِهِ المؤدّي إلى قربه و رحمته ضلالا أبديا بحيث لا يرجى أن يرجع إليه وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ طابت طينته، و تنوّر قلبه، و انشرح صدره، و حسنت اخلاقه، و لذا اِهْتَدىٰ إلى دين الحقّ، و سلك سبيله، و نال خير الدنيا و الآخرة، و في تكرير قوله: وَ هُوَ أَعْلَمُ زيادة التقرير و الايذان بتباين المعلومين.

قيل: إنّ معنى (أعلم) هنا العالم الذي لا عالم مثله(2) ، و إنّما قدّم سبحانه بيان علمه بضلال الضالين؛ لأنّ المقصود تهديدهم و تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله.

وَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا بِمٰا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ فَلاٰ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ (32) ثمّ لمّا لم يكن العلم بالضلال مرعبا إلاّ مع القدرة على العقوبة، بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله:

وَ لِلّٰهِ تعالى وحده مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ إيجادا و إعداما و تصرّفا، و من الواضح أنّه لم يكن خلقهما عبثا، بل إنّما خلق جميع ذلك لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السوء بِمٰا عَمِلُوا في الدنيا. و قيل: إنّ التقدير بعقوبة ما عملوا (3)وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا و أطاعوا ربّهم بِالْحُسْنَى و المثوبة العظيمة، و هي الجنّة و النّعم الدائمة. و قيل: يعني بالأعمال الحسنى(4).

ثمّ بيّن سبحانه المحسنين بقوله تعالى:

اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ الأفعال التي تكون كَبٰائِرَ الْإِثْمِ و عظائم المعاصي من حين بلوغهم أو اسلامهم إلى الموت سواء كانت ترك الواجبات أو إتيان

ص: 90


1- . في النسخة: فان هم.
2- . تفسير الرازي 3:29.
3- . تفسير أبي السعود 161:8.
4- . تفسير الرازي 6:29.

المحرّمات. و يحتمل أن تكون الجملة لبيان اشتراط قبول الحسنات بالاجتناب عن المعاصي الكبيرة.

و قيل: إنّه لمّا بيّن سبحانه حال المسيئين و حال المحسنين، بيّن حال من لم يأت بالحسنات و لم يرتكب المحرّمات الكبيرة (1)وَ الْفَوٰاحِشَ و القبائح الشديدة القبح، كالشرك و الزنا و اللواط و قتل النفس المحترمة و سبّ النبي أو أحد من المعصومين، فانّها أكبر الكبائر إِلاَّ اللَّمَمَ و ما يفعله مرّة و اتّفاقا من غير عادة و لا استمرار عليه.

عن ابن عباس، قال: معناه إلاّ أن يلمّ بالفاحشة مرّة ثمّ يتوب، و لم يثبت عليه، فانّ اللّه يقبل توبته(2).

عن الصادق عليه السّلام. قال: «الفواحش: الزنا و السرقة، و اللّمم: الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر اللّه منه»(3).

أقول: يلمّ بالذنب. أي يقربه و يرتكبه و لا يقيم عليه.

و عنه عليه السّلام: «ما من ذنب إلاّ و قد طبع عليه المؤمن، يهجره الزمان ثمّ يلمّ به و هو قول اللّه تعالى:

اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» قال: «اللّمّام: العبد الذي يلمّ بالذنب بعد الذنب، ليس بسليقته» أي من طبعه(4).

أقول: «و قد طبع عليه المؤمن» أي يرغب إليه بطبعه و قوله: «ثمّ يلمّ به» أي يرتكبه و يقع فيه اتفاقا، و قوله «يلمّ بالذنب بعد الذنب» أي يقربه مرة بعد مرة من باب الاتفاق لا للعادة كما عن بعض، قال:

اللّمم و الإلمام: ما يعمله الانسان الحين بعد الحين، و لا يكون له عادة و لا إقامة عليه(5).

أقول: على ذلك يكون الاستثناء متّصلا، و قيل: إنّ كلمة (إلاّ) بمعنى غير، و المعنى و الفواحش غير اللّمم(6). و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المراد باللّمم المعاصي الصغيرة(7).

و روي أنّ نبهان التمّار أتته امرأة لتشتري التمر، فقال لها: ادخلي الحانوت، فعانقها و قبّلها، فقالت المرأة: خنت أخاك و لم تصب حاجتك، فندم و ذهب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت(8).

أقول: نزول الآية في مورد الصغيرة الواقعة من باب الاتفاق، لا ينافي شمولها لكبيرة الاتفاقية، و دلالة الآية على قبول التوبة من جميعها، بل مغفرته بلا توبة إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ لا تضيق مغفرته عن ذنوب جميع الخلق، إلاّ أنّه تعالى أوجب التوبة و وعد بقبولها.

اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ فَلاٰ

ص: 91


1- . تفسير الرازي 6:29.
2- . تفسير روح البيان 242:9.
3- . الكافي 7/212:2، تفسير الصافي 94:5.
4- . الكافي 5/320:2، تفسير الصافي 94:5.
5- . تفسير روح البيان 242:9.
6- . تفسير الرازي 8:29. (7و8) . تفسير روح البيان 242:9.

تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ (32) ثمّ قرر سبحانه علمه بأعمال عباده و أحوالهم بقوله: هُوَ تعالى أَعْلَمُ من كلّ أحد بِكُمْ أيّها الناس و بأحوالكم إِذْ أَنْشَأَكُمْ و حين خلقكم في ضمن خلق أبيكم آدم مِنَ تراب اَلْأَرْضِ ثمّ من نطفة وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ و وقت كونكم أولادا مستورين و متمكّنين فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ و ظلمات أرحامهنّ على أطوار مختلفة، فاذا كان الأمر كذلك فَلاٰ تُزَكُّوا و لا تنزّهوا أَنْفُسَكُمْ من الضلالة و المعصية و ذمائم الأخلاق هُوَ تعالى أَعْلَمُ من كلّ أحد بِمَنِ اتَّقىٰ و أحترز من الضلالة و الشرك و المعاصي قبل أن يخرجه من صلب آدم. قيل: كان ناس يعملون أعمالا حسنة، ثمّ يقولون: صلاتنا و صيامنا و حجّنا، فنزلت الآية(1).

عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «لا يفخر أحدكم بكثرة صلاته و صيامه و زكاته و نسكه؛ لأنّ اللّه يقول: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: «قول الانسان: صليت البارحة، و صمت أمس، و نحو هذا» ثمّ قال: «إنّ قوما يصبحون فيقولون: صلينا البارحة، و صمنا أمس، فقال عليّ: لكنّي أنام الليل و النهار، و لو أجد بينهما شيئا لنمته»(3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لو لا ما نهى اللّه عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة، تعرفها قلوب المؤمنين، و تمجّها آذان السامعين»(4).

قيل: لمّا نزل فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّٰى قال لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: قد علم اللّه كونك و من معك على الحقّ، و كون المشركين على الباطل، فأعرضوا(5) عنهم، و لا تقولوا: نحن على الحقّ و أنتم على الضلال؛ لأنّهم يقابلونكم بمثل ذلك، و فوّض الأمر إلى اللّه فانّه أعلم بمن اتقى و من طغى(6).

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلّٰى (33) وَ أَعْطىٰ قَلِيلاً وَ أَكْدىٰ (34) ثمّ لمّا أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتولّي عن المتولّين عن ذكره، أظهر العجب من غاية شقاء بعض المتولّين عن ذكره بقوله:

أَ فَرَأَيْتَ يا محمد، الكافر اَلَّذِي تَوَلّٰى و أعرض عن ذكرنا حتى تتعجّب من أنّه كيف تولّى توليا فظيعا، و أعرض إعراضا شنيعا

وَ أَعْطىٰ شيئا قَلِيلاً من ماله

ص: 92


1- . تفسير أبي السعود 162:8، تفسير روح البيان 244:9.
2- . علل الشرائع: 81/610، تفسير الصافي 94:5.
3- . معاني الأخبار: 1/243، تفسير الصافي 94:5.
4- . الاحتجاج: 177، تفسير الصافي 95:5.
5- . في تفسير الرازي: فأعرض.
6- . تفسير الرازي 10:29.

لغيره، ليتحمّل عنه وزره و عذاب الآخرة وَ أَكْدىٰ و بخل بإعطاء باقي ما شرط إعطاءه فخالف حكم العقل؛ لأنّه أعطى ليحمل الوزر، و هو لا يحصل له، و خالف العرف لأنّه خالف عهده.

ذكر طعن في عثمان

و ردّ الفخر

الرازي

حكى الفخر الرازي عن بعض المفسرين: أنّها نزلت في الوليد بن المغيرة، قالوا: إنّه جلس عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، و سمع و عظة، فأثّرت الحكمة فيه تأثيرا قويا، فقال له رجل:

لم تترك دين آبائك؟ ثمّ قال له: لا تخف أعطني كذا و أنا أتحمّل أوزارك، فأعطاه بعض ما التزمه، و تولّى عن الوعظ و سماع الكلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ قال الفخر: و قال بعض المفسرين: نزلت في عثمان، كان يعطي من ماله عطاء كثيرا، فقال له أخوه من امّه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح: يوشك أن يفنى مالك، فأمسك. فقال عثمان: إنّ لي ذنوبا أرجو أن تغفر لي بسبب العطاء فقال له أخوه: أنا اتحمّل عنك ذنوبك على أن تعطيني ناقتك مع كذا.

فأعطاه ما طلب، و أمسك يده عن العطاء، فنزلت.

ثمّ قال الفخر: و هذا قول باطل؛ لأنّه لم يتواتر ذلك، و لا اشتهر، و ظاهر حال عثمان يأبى ذلك(1).

أقول: ظاهر حال عثمان من شدّة حماقته مؤيد لصدق الرواية، لوضوح أنّ عثمان كان أشدّ حمقا من الوليد بن المغيرة الذي كان عند قريش مشهورا بالعقل و الرّزانة و الفطنة، فكيف يقبل هذا العمل من الوليد، و لا يقبل من عثمان مع صدور ما هو أقبح منه، حيث إنّ السّدّي الذي كان من قدماء المفسرين و عظمائهم روى في تفسير قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنٰا ثُمَّ يَتَوَلّٰى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ إلى آخر الآيات أنّه نزلت في عثمان بن عفان، قال: لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني النّضير، فقسّم أموالهم، فقال عثمان لعلي: ائت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اسأله أرض كذا و كذا، فانّ أعطاكها فأشركني فيها، و أنا آتيه و أساله، فأنت شريكي فيها، فسأله عثمان أولا فأعطاه إياها، فقال علي عليه السّلام: «أشركني» فأبى عثمان، فقال: بيني و بينك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأبى أن يخاصمه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقيل له: لم لا تنطلق معه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال: هو ابن عمّه، فاخاف أن يقضي له، فنزلت وَ إِذٰا دُعُوا إِلَى اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إلى قوله أُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ الخبر(2).

أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرىٰ (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمٰا فِي صُحُفِ مُوسىٰ (36) وَ إِبْرٰاهِيمَ الَّذِي وَفّٰى (37) أَلاّٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىٰ (40) ثُمَّ يُجْزٰاهُ الْجَزٰاءَ الْأَوْفىٰ (41) وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ (42)

ص: 93


1- . تفسير الرازي 11:29.
2- . و الآيتان من سورة النور: 47/24 و 48.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم اعتقادهم، بتحمّل الغير وزرهم بقوله:

أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ من أنّه يحمل الغير وزره يوم القيامة مع أنّه غائب عنهم فَهُوَ يَرىٰ بقلبه و يعتقد بجنانه أنّه يتخلّص من العقوبة على سيّئاته بتحمّلها غيره

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ و لم يخبر بتوسّط النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو غيره من أهل الكتاب بِمٰا فِي صُحُفِ مُوسىٰ و أسفار التوراة أو ألواحها

وَ بما في صحف إِبْرٰاهِيمَ الَّذِي وَفّٰى بما عاهد اللّه، و بالغ في العمل بأوامره. و قيل: يعني وفّى و أتمّ ما ابتلي به من الكلمات(1).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل ما عنى بقوله: وَ إِبْرٰاهِيمَ الَّذِي وَفّٰى؟ قال: «كلمات بالغ فيهنّ» قيل: و ما هنّ؟ قال: «كان إذا أصبح قال: أصبحت و ربّي محمود، أصبحت لا اشرك باللّه شيئا، و لا ادعو مع اللّه إلها، و لا أجد من دونه وليا - ثلاثا - و إذا أمسى قال ثلاثا»(2).

و روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أ لا اخبركم لم سمّى اللّه الخليل الذي وفّى؟ كان يقول إذا أصبح و أمسى: فَسُبْحٰانَ اللّٰهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ * وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ» (3).

ثمّ بيّن سبحانه ما في صحفهما بقوله:

أَلاّٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ و لا يعاقب أحد بذنب غيره

وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ ثواب و أجر إِلاّٰ ثواب مٰا سَعىٰ و له جدّ في تحصيله، فلا يثاب أحد على عمل غيره، و أما إثابتهم على عمل من ناب عنهم، فان كانت النيابة باستدعاء المناب عنه فهو ثواب على عملهم، و إن كان عمل النائب تبرعا و بغير الاستدعاء فهو من آثار إيمانهم المكتسبة بسعيهم.

و عن ابن عباس و عكرمة: أنّه منسوخ في شريعة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله، فانّ المؤمنين يثابون بصدقات إخوانهم المؤمنين و عباداتهم عنهم في هذه الشريعة(4).

و قيل: إنّ الاثابة في المورد و أمثاله بالتفضل(5) ، فلا نسخ على هذا و على الأول.

وَ فيها أَنَّ سَعْيَهُ و عين ما عمله محفوظ عند ربّه و سَوْفَ يُرىٰ و يعاين ذلك العمل بصورته الواقعية في القيامة

ثُمَّ يُجْزٰاهُ و يثاب عليه في ذلك اليوم اَلْجَزٰاءَ الْأَوْفىٰ و الثواب الأكمل الأوفر الذي لا يمكن أكمل و لا أوفر منه

وَ فيها أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ يا محمد، أو أيها العاقل، لا إلى غيره اَلْمُنْتَهىٰ أو المصير لجميع الخلائق بعد الموت و حين البعث، فيجازي كلا منهم على

ص: 94


1- . تفسير روح البيان 246:9.
2- . الكافي 38/388:2، تفسير الصافي 95:5.
3- . تفسير روح البيان 246:9، و الآيتان من سورة الروم: 17/30 و 18.
4- . تفسير روح البيان 247:9.
5- . تفسير روح البيان 248:9.

حسب أعمالهم، إنّ خيرا فخير، و إنّ شرا فشرّا.

و قيل: إنّ المراد أنّ منتهى جميع الممكنات في الوجود إلى الواجب، و لو بالوسائط، لوضوح أنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات(1).

و عن ابي بن كعب: أنّه قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ لا فكرة في الربّ»(2).

و عن أنس، عنه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «إذا ذكر الربّ فانتهوا» أي اقطعوا التكلّم فيه(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه يقول: وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ فاذا انتهى الكلام إلى اللّه فأمسكوا»(4).

و عن الباقر عليه السّلام: قيل له: إن الناس قبلنا قد أكثروا في الصفة، فما تقول؟ قال: «مكروه، أ ما تسمع اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ تكلّموا دون ذلك»(5).

أقول: يعني النظر في ذاته و صفاته، فانّه لا تزيد إلاّ تحيّرا لقصور العقول بالغة ما بلغت عن إدراكها بكنهها، فاذا انتهى النظر إليها فقفوا.

وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ (43) وَ أَنَّهُ هُوَ أَمٰاتَ وَ أَحْيٰا (44) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذٰا تُمْنىٰ (46) وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرىٰ (47) وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنىٰ وَ أَقْنىٰ (48) وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرىٰ (49) وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عٰاداً الْأُولىٰ (50) وَ ثَمُودَ فَمٰا أَبْقىٰ (51) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كٰانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغىٰ (52) وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوىٰ (53) فَغَشّٰاهٰا مٰا غَشّٰى (54) ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته الموجبة لإرعاب القلوب بقوله:

وَ أَنَّهُ هُوَ تعالى بقدرته الكاملة أَضْحَكَ الانسان وَ أَبْكىٰ روي عن عائشة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّ على قوم يضحكون، فقال: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، و لضحكتم قليلا» فنزل جبرئيل فقال: إنّ اللّه يقول: وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ فرجع صلّى اللّه عليه و آله إليهم، فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبرئيل فقال: ائت هؤلاء القوم، فقل لهم: إنّ اللّه يقول: هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ (6).

قيل: أي أضحك الأرض بالنبات و الأشجار و الأنوار، و أبكى السماء بالأمطار، كما عن القمي(7). فمن قدر على إيجاد الضدّين، لا نهاية لقدرته؟

ص: 95


1- . تفسير الرازي 17:29.
2- . تفسير الرازي 17:29.
3- . تفسير الرازي 17:29.
4- . الكافي 2/72:1، التوحيد: 9/456، تفسير الصافي 96:5.
5- . التوحيد: 18/457، تفسير الصافي 96:5.
6- . تفسير روح البيان 254:9.
7- . تفسير القمي 339:2، تفسير الصافي 96:5.

وَ أَنَّهُ تعالى وحده هُوَ أَمٰاتَ الأحياء وَ أَحْيٰا الموتى، و لا يقدر عليهما غيره

وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ و الصنفين من كلّ حيوان اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ مع كونهما متضادّين

مِنْ نُطْفَةٍ و ماء متكوّن في الصّلب إِذٰا تُمْنىٰ و تدفق في الرّحم، أو تتحوّل من الدم مع اتخاذ صورتها. و قيل: معنى (إذا تمنى) إذا قدّر منها الولد(1).

وَ أَنَّ اللّه يجب عَلَيْهِ بحكم العقل و بمقتضى الحكمة أن يوجد اَلنَّشْأَةَ الْأُخْرىٰ و يعيد الخلق فيها تارة اخرى، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى.

و قيل: إنّ المراد من النشأة الاخرى نفخ الروح الانساني في الجسد(2) بعد خلقه و تكميل أجزائه و صورته، كما قال سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ (3).

وَ أَنَّهُ تعالى هُوَ أَغْنىٰ الانسان، و أعطاه جميع ما يحتاج إليه في تعيّشه وَ أَقْنىٰ و أعطاه القنية و الأموال المدّخرة الباقية كالإبل و البقر و الغنم و المرعى الطيّب و الرياض النّضرة.

و عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في هذه الآية. قال: «أغنى كلّ إنسان بمعيشته، و أرضاه بكسب يده»(4).

وَ أَنَّهُ تعالى هُوَ بالخصوص رَبُّ الكوكب اَلشِّعْرىٰ قيل: إنّه كوكب يطلع خلف الجوزاء، تعبده خزاعة(5).

و عن القمي رحمه اللّه، قال: نجم في السماء يسمّى الشّعرى، و كانت قريش و قوم من العرب يعبدونه، و هو نجم يطلع في آخر الليل(6). و المعنى: اعبدوا الربّ دون المربوب.

و قيل: في النجوم شعريان: إحداهما شامية، و الاخرى يمانية، و كان العرب يعبدون اليمانية(7).

وَ أَنَّهُ تعالى أَهْلَكَ بالعذاب عٰاداً الْأُولىٰ و هم قوم هود، قدّم ذكرهم و وصفهم بالاولى؛ لأنّهم أولى الامم هلاكا بعد قوم نوح. و قيل: إنّ عادا الاخرى من نسلهم، و هي التي قاتلها موسى بأريحا(8).

وَ أهلك ثَمُودَ بالصيحة فَمٰا أَبْقىٰ على وجه الأرض منهم، أو من الفريقين أحدا، لكفرانهم نعم ربّهم، و طغيانهم عليه بعد إغنائهم و إقنائهم

وَ إنّه أهلك قَوْمَ نُوحٍ بالطّوفان و الغرق مِنْ قَبْلُ و في العصر السابق على أعصار سائر الامم المهلكة إِنَّهُمْ كٰانُوا على نبيّهم

ص: 96


1- . تفسير روح البيان 255:9.
2- . تفسير الرازي 21:29.
3- . المؤمنون: 14/23.
4- . تفسير القمي 339:2، معاني الأخبار: 1/214، تفسير الصافي 97:5.
5- . تفسير روح البيان 257:9.
6- . تفسير القمي 339:2، تفسير الصافي 97:5.
7- . تفسير الرازي 23:29، تفسير روح البيان 257:9.
8- . تفسير روح البيان 257:9.

نوح هُمْ أَظْلَمَ من الفريقين، حيث كانوا يؤذونه و يضربونه حتى لا يبقى له حراك وَ أَطْغىٰ عليه، أو على ربّهم منهم. قيل: كانوا ينفّرون الناس عنه، و يحذّرون صبيانهم من أن يقربوا منه و يستمعوا وعظه(1).

وَ أهلك القرى

اَلْمُؤْتَفِكَةَ و المنقلبة بأهلها بحيث جعل عاليها سافلها، و هي قرى قوم لوط، فانّ اللّه أَهْوىٰ و أسقطها إلى الأرض بعد رفعها إلى السماء على جناح جبرئيل. و قيل: يعني ألقاها في الهاوية(2). و قيل: كانت بيوتهم مرتفعة، فأهواها اللّه بالزّلزلة، و جعل عاليها سافلها(3).

و قيل: إنّ المراد من المؤتفكة كلّ قوم انقلبت مساكنهم، و خربت منازلهم(4) ، و هو خلاف الظاهر، بل الظاهر أنّ المراد القرى المعهودة لقوم لوط.

فَغَشّٰاهٰا و احاط بها مٰا غَشّٰى ها، و أحاط بها من أنواع العذاب، و في إبهام عذابهم ما لا نهاية له من التهويل.

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكَ تَتَمٰارىٰ (55) هٰذٰا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولىٰ (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهٰا مِنْ دُونِ اللّٰهِ كٰاشِفَةٌ (58) ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد نعمه على الانسان من خلق الذكر و الانثى، و إغنائه و إقنائه، و إهلاك الظّلمة و الطّغاة، و نصرة انبيائه و رسله، نبّه على أنّه لا مجال للشكّ في نعمه بقوله تعالى:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكَ و نعمه أيّها الانسان تَتَمٰارىٰ و تشكّ أو تجادل إنكارا له.

و قيل: إنّ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و آله من باب التعريض بالغير(5) على طريقة: إياك أعني و اسمعي يا جارة.

قيل: إنّ اللّه عدّ النّقم التي ذكرها قبل الآلاء نعما من أجل أنّها عبر للمعتبرين، و نصرة للأنبياء و المرسلين و المؤمنين(6).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه إهلاك الامم المكذّبة لرسلهم أشار إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

هٰذٰا الشخص الشريف الذي يدعوكم أيّها الناس إلى التوحيد و دين الحقّ، و يرشدكم إلى سعادة الدارين نَذِيرٌ لكم من اللّه تعالى، و رسول مبعوث من قبله مِنَ جملة اَلنُّذُرِ الْأُولىٰ و من قبيل الرسل السابقة، فلا تكذّبوه فانّه يصيبكم ما اصاب الامم المكذّبة لرسلهم.

ص: 97


1- . تفسير أبي السعود 165:8، تفسير روح البيان 258:9.
2- . تفسير روح البيان 258:9.
3- . تفسير الرازي 24:29.
4- . تفسير الرازي 24:29.
5- . تفسير أبي السعود 165:8، تفسير روح البيان 258:9.
6- . تفسير البيضاوي 443:2، تفسير أبي السعود 165:8، تفسير روح البيان 258:9.

عن الصادق عليه السّلام - في رواية -: أنّه سئل عن الآية، فقال: «يعني محمدا»(1).

و قيل: إنّ كلمة (هذا) إشارة إلى القرآن، و المعنى أنّ هذا القرآن الذي تشاهدونه و تسمعونه إنذار من قبيل الانذارات المتقدّمة التي سمعتم عاقبتها(2) ، فان اتّعظتم به فهو خير لكم و سعادتكم، و إلاّ فلو فرض أنّا لا نعذّبكم في الدنيا نعذّبكم بالعذاب الشديد في القيامة، فانّه قد

أَزِفَتِ و قربت تلك القيامة التي هي اَلْآزِفَةُ و القريبة منكم كل يوم و كلّ ساعة بحيث تتضيق عليكم وقت التدارك لها و

لَيْسَ في عالم الوجود لَهٰا مِنْ دُونِ اللّٰهِ و من قبل غيره نفس كٰاشِفَةٌ و مخبرة عنها كما هي و متى يكون وقتها، أو المعنى: ليس لها نفس قادرة على ردّها و إزالتها عند وقوعها في الوقت المقدّر لها إلاّ اللّه.

أَ فَمِنْ هٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَ تَضْحَكُونَ وَ لاٰ تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سٰامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلّٰهِ وَ اعْبُدُوا (62) ثمّ أنكر سبحانه على المشركين المستهزئين بالقرآن، أو بالأخبار بقرب القيامة بقوله تبارك و تعالى:

أَ فَمِنْ هٰذَا القرآن الذي هو أحسن اَلْحَدِيثِ أو من حديث قرب القيامة، أو ممّا تقدّم من الأخبار، كما عن الصادق عليه السّلام(3).

أنتم تَعْجَبُونَ إنكارا

وَ تَضْحَكُونَ سخرية و استهزاء وَ لاٰ تَبْكُونَ على سوء حالكم و وخامة عاقبتكم و قرب ابتلائكم بالعذاب و الشدائد

وَ أَنْتُمْ سٰامِدُونَ و غافلون عن نتائج أعمالكم القبيحة، أو مستكبرون عن الايمان بالرسول و القرآن و الحشر، مع أن الحقّ أن تبكوا كثيرا، و تضحكوا قليلا، و تؤمنوا به سريعا، و تخشع له قلوبكم، و تخضع له جوارحكم.

روى أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لم ير ضاحكا بعد نزول هذه الآية(4).

عن أبي هريرة: لمّا نزلت الآية بكى أهل الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلمّا سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حنينهم بكى معهم، و بكينا لبكائه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا يلج النار من بكى من خشية اللّه، و لا يدخل الجنّة مصرّ على معصية اللّه».. الخبر(5).

سجدة واجبة

ثمّ لمّا وبّخ سبحانه المشركين على التعجّب من كون القرآن من جانب اللّه تعالى، و على استهزائهم به، أمر المؤمنين بأداء شكر نعمة نزوله عليهم بقوله:

فَاسْجُدُوا لِلّٰهِ أيّها المؤمنون

ص: 98


1- . تفسير القمي 340:2، تفسير الصافي 98:5.
2- . تفسير أبي السعود 165:8، تفسير روح البيان 259:9.
3- . مجمع البيان 277:9، تفسير الصافي 98:5.
4- . تفسير روح البيان 260:9.
5- . تفسير روح البيان 260:9.

شكرا على هدايتكم بالقرآن وَ اعْبُدُوا اللّه خالصا مخلصا له الدين، و لا تعبدوا غيره.

قد حكى كثير من الأصحاب وجوب السجود على من تلاها، أو استمع تلاوتها، و دلت عليه الأخبار المعتبرة.

عن الصادق عليه السّلام: «من كان يدمن قراءة سورة النجم في كلّ يوم، أو في كلّ ليلة، عاش محمودا بين الناس، و كان مغفورا له(1) و محبوبا بين الناس، أو عند اللّه تعالى»(2).

ص: 99


1- . في ثواب الاعمال: موفورا له.
2- . ثواب الاعمال: 116، مجمع البيان 258:9، تفسير الصافي 98:5، في ثواب الاعمال إلى كلمة: الناس، و في تفسير الصافي: الناس إن شاء اللّه.

ص: 100

في تفسير سورة القمر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اِقْتَرَبَتِ السّٰاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1)

ذكر معجزة شقّ

القمر

ثمّ لمّا ختمت سورة النجم المختتمة باثبات النبوة، و الإخبار بقرب القيامة، و توبيخ المشركين على إنكارها، نظمت سورة القمر المبدوءة بالإخبار بقرب يوم القيامة، و الاستدلال عليه بانشقاق القمر باعجاز النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي هو من أشراط الساعة، و توبيخ المشركين على إنكار بنوّته، و نسبة معجزاته إلى السحر و اتّباعهم هوى أنفسهم، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بالإخبار بقرب القيامة بقوله:

اِقْتَرَبَتِ السّٰاعَةُ و دنت القيامة، و قرب قيامها و وقوعها.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أنا و الساعة كهاتين»(1) و ضمّ و جمع بين سبابته و وسطاه.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه جعل الدنيا قليلا، فما بقي منها قليل من قليل»(2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «مثلي و مثل الساعة كفرسي رهان»(3).

ثمّ لما كان انشقاق القمر من أشراط الساعة، قرن سبحانه الإخبار به باقترابها بقوله: وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ و صار فلقتين، و حصلت آية اقترابها.

روي أنّه خطب حذيفة بن اليمان بالمدائن، و كان من خطبته: ألا إنّ الساعة قد اقتربت، و إنّ القمر قد انشقّ على عهد نبيّكم(2).

و عن ابن عباس رضوان اللّه عليه: أنّه اجتمع المشركون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين. فقال لهم: «إن فعلت تؤمنوا؟» فقالوا: نعم. و كانت ليلة بدر، فسأل ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فرقتين، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينادي: «يا فلان، يا فلان، اشهدوا»(3).

ص: 101


1- . تفسير الرازي 29:29 و 30. (2و3) . تفسير روح البيان 262:9.
2- . تفسير روح البيان 263:9.
3- . مجمع البيان 281:9، تفسير الصافي 99:5.

و في رواية: فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إصبعه، و أمر القمر بأن ينشقّ نصفين، فانفلق فلقتين: فلقة ذهبت عن موضع القمر، و فلقة بقيت في موضعه(1).

و عن جبير بن مطعم: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى صار فرقتين على هذا الجبل، فقال ناس: سحرنا محمد. فقال رجل: إن كان سحركم، فلم يسحر الناس كلّهم(2).

و في رواية، قال كفّار قريش: سحركم ابن أبي كبشة، فقال رجل منهم: إن كان محمد سحر القمر بالنسبة إليكم، فانّه لا يبلغ من سحره أن يسحر جميع أهل الأرض، فاسألوا من يأتيكم من البلاد، فسألوا أهل الآفاق فأخبروا كلّهم بذلك(3).

و عن ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر(4).

قال بعض العامة: عليه عامة الصحابة و جلّ المفسّرين(5).

و عن (شرح المواقف): أنّ خبر انشقاق القمر متواتر(6).

في ردّ التشكيك في

صحّة شقّ القمر

اقول: كفى في ثبوته اشتهاره بين المسلمين من قديم الدهر، بحيث كان من المسلّمات، و التشكيك فيه بأنّه لو كان واقعا لنقله جميع الفرق و أهل التواريخ من سائر الأديان، لكونه من عظائم الامور، و توفّر الدواعي إلى نقله، ساقط عن الاعتبار، لوضوح عدم التفات كثير من الناس إلى الأوضاع الفلكية، كما نرى أنّ كثيرا ما لا يلتفتون إلى كسوف القمر، كما أنّه يمكن وقوعه في وقت كان أكثر الناس نياما، أو اختفاؤه(7) عن قوم دون قوم بسبب الغيم و اختلاف الافق، و اقتضاء حكمته تعالى صرف كثير من الناس عن التوجّه إليه، لتتمّ الحجّة على الحاضرين و المقترحين، و يقع الاختلاف في غيرهم، مع اخبار اللّه به في كتابه و نقل الثقات إياه.

وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبٰاءِ مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بٰالِغَةٌ فَمٰا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدّٰاعِ إِلىٰ شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصٰارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدٰاثِ كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدّٰاعِ يَقُولُ الْكٰافِرُونَ هٰذٰا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

ص: 102


1- . تفسير روح البيان 264:9.
2- . مجمع البيان 282:9، تفسير الصافي 99:5.
3- . تفسير روح البيان 264:9.
4- . تفسير أبي السعود 167:8، تفسير روح البيان 264:9.
5- . تفسير روح البيان 263:9.
6- . تفسير روح البيان 263:9.
7- . في النسخة: و اختفاؤه.

ثمّ إنّه تعالى بعد إخباره بهذه الآية العظيمة و المعجزة الباهرة، وبّخ الكفّار على إنكاره و نسبتها إلى السّحر بقوله:

وَ إِنْ يَرَوْا بأعينهم آيَةً و معجزة عظيمة دالة على صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله كشقّ القمر، و حنين الجذع اليابس، و الإخبار بالمغيبات و غيرها يُعْرِضُوا عن التأمّل فيها، و لا يعتنوا بها عنادا و لجاجا وَ يَقُولُوا دفعا لدلالتها على صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله: هذه الخوارق للعادات التي يعجز الناس عن الاتيان بمثلها سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ و مطّرد يأتي به محمد على مرّ الزمان بحيث يتبع بعضه بعضا، أو سحر قويّ محكم بحيث يؤثر في السماويات و الفلكيات، أو سحر مارّ ذاهب لا بقاء له، و ذلك القول لأنّهم أنكروا نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله عنادا و لجاجا

وَ كَذَّبُوا ه في دعوى رسالته، أو في إخباره بقرب الساعة، أو كذّبوا معجزاته و نسبوها إلى السحر و الكهانة وَ اتَّبَعُوا في تكذيبه أَهْوٰاءَهُمْ و شهوات أنفسهم على عادتهم القديمة وَ كُلُّ أَمْرٍ من الخير و الشرّ مُسْتَقِرٌّ و ثابت منته بالآخرة(1) إلى خذلان و نصرة في الدنيا و شقاوة و سعادة في الآخرة.

ثمّ لمّا حثّهم سبحانه إلى الايمان و العمل ببيان اقتراب الساعة و إقامة الدليل عليه بوقوع انشقاق القمر، و هو من أشراط الساعة، و توبيخهم على إنكار المعجزات و تكذيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتباعهم هوى أنفسهم، بيّن سبحانه غاية خبثهم و عدم تأثّرهم بالمواعظ بقوله:

وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ في القرآن و سائر الكتب السماوية مِنَ الْأَنْبٰاءِ الموحشة و الأخبار العظيمة الهائلة من ابتلاء الامم الماضية بأنواع العذاب في الدنيا على تكذيبهم الرسل مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ و رادع عن التكذيب و العصيان، و مانع عن السوء و الطّغيان، و صارف عن اتّباع الهوى، و من الواضح أنّ تلك الامور التي فيها عظة، أو الأنباء التي في القرآن

حِكْمَةٌ بٰالِغَةٌ غايتها لا خلل فيها، أو بالغة غاية الإنذار و الوعظ فَمٰا تُغْنِ و لا تفيد هداية النفوس الخبيثة و القلوب القاسية اَلنُّذُرُ و الرسل و المواعظ و التخويفات شيئا.

و قيل: إنّ كلمة (ما) استفهامية إنكارية، و المعنى أيّ إغناء و فائدة في النذر إذا خالفوا و كذّبوا(2) ، و عاندوا و لجّوا، إذن لا تتعب نفسك الشريفة بالاصرار في دعوتهم إلى الايمان و الاتّعاظ

فَتَوَلَّ و أعرض عَنْهُمْ و لا تعتن بهم، و انتظر يَوْمَ يَدْعُ إسرافيل الذي هو اَلدّٰاعِ لجميع الخلق بنفخة في الصّور إِلىٰ المحشر و شَيْءٍ نُكُرٍ و فظيع لا سابقة لهم به، و هو أهوال يوم القيامة، و هم يجيبونه في حال كونهم

خُشَّعاً أَبْصٰارُهُمْ و أذلّة جوارحهم عند رؤية العذاب، و إجابتهم له بأنّهم يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدٰاثِ و القبور انقيادا له، و ينتشرون في الأرض، و يتفرّقون في أقطارها كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ و متفرّق فيها كثرة و تفرّقا و هم مع ذلك يكونون

مُهْطِعِينَ و مسرعين في

ص: 103


1- . أي في آخر الأمر.
2- . تفسير روح البيان 269:9.

المشي إِلَى جهة اَلدّٰاعِ مادّين أعناقهم إليه، أو ناظرين إليه غير قالعين أبصارهم عنه، و عند ذلك يَقُولُ الْكٰافِرُونَ باللّه و الرسول و اليوم الآخر: هٰذٰا اليوم الذي ابتلينا به يَوْمٌ عَسِرٌ و صعب علينا، شديدة أهواله لنا، و أمّا المؤمنون فانّهم يقولون: هذا يوم يسير.

عن السجّاد عليه السّلام، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام - في حديث - يذكر [فيه] أهوال يوم القيامة:

«فيشرف الجبّار تبارك و تعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة، فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم: يا معشر الخلائق، أنصتوا و استمعوا منادي الجبار» قال: «فيستمع آخرهم كما يستمع أولهم فتنكسر أصواتهم عند ذلك، و تخشع أبصارهم، و تضطرب فرائصهم، و تفزغ قلوبهم، و يرفعون رءوسهم إلى ناحية الصوت مهطعين إلى الداعي قال: «فعند ذلك يقول الكافرون: هذا يوم عسر»(1).

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنٰا وَ قٰالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعٰا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنٰا أَبْوٰابَ السَّمٰاءِ بِمٰاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمٰاءُ عَلىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْنٰاهُ عَلىٰ ذٰاتِ أَلْوٰاحٍ وَ دُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا جَزٰاءً لِمَنْ كٰانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْنٰاهٰا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) ثمّ لمّا ذكر سبحانه المشركين نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و نسبتهم معجزاته إلى السّحر، ذكر حال الامم المهلكة الذين كانوا قبل كفّار مكّة تهويلا لهم و تسلية لحبيبه محمد صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ بالرسل و الآيات قَوْمُ نُوحٍ في دعوى رسالته و توحيد اللّه، كما كذّبت قومك رسالتك و آية انشقاق القمر فَكَذَّبُوا لتكذيبهم جميع الرسل عَبْدَنٰا و رسولنا نوح في دعوى رسالته مع علوّ شأنه، و بالغوا في تكذيبه حتى رموه بزوال العقل وَ قٰالُوا إنّه مَجْنُونٌ حيث يتكلّم بما لا يتكلّم به عاقل، و يدعوا إلى ما لا يقبله أحد وَ ازْدُجِرَ و منع عن تبليغ رسالته بالشتم و الضرب و أنواع الأذى، حين يئس من إيمانهم، و ترك دعوتهم. و قيل: إنّه من كلام القوم، و المعنى: ازدجره الجنّ، و تخبّطه و أفسدته(2).

فَدَعٰا رَبَّهُ بعد يأسه عن إيمانهم، و كان دعاؤه أَنِّي يا ربّ مَغْلُوبٌ من جهة قومي، و لا أقدر على دفعهم و منعهم عن إيذائي، و عيل صبري فَانْتَصِرْ إذن لعبدك(3) نوح، و انتقم له من أعدائه، أو انتصر لنفسك من أعدائك، فاستجبنا دعاءه

فَفَتَحْنٰا لاهلاك قومه أَبْوٰابَ السَّمٰاءِ

ص: 104


1- . الكافي 79/104:8، تفسير الصافي 100:5.
2- . تفسير روح البيان 271:9.
3- . في النسخة: عبدك.

و طرقها من طرف المجرّة على ما روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) و كان فتحها بِمٰاءٍ كثير مُنْهَمِرٍ و منصبّ على الأرض انصبابا شديدا، فصار صبّ الماء كالمفتاح للأبواب. قيل: كان القوم يطلبون المطر سنين، فكأنّ مطلوبهم جاء إلى الباب ففتحه(2) ، أو المراد فتحنا الأبواب مقرونة بماء منصبّ(3)

وَ فَجَّرْنَا و شققنا اَلْأَرْضَ بحيث صارت كلّها عُيُوناً تجري منها الماء.

فَالْتَقَى الْمٰاءُ النازل من السماء، و الماء النابع من الأرض، و اتّصلا و اختلطا، فصارا عَلىٰ أَمْرٍ و حال قَدْ قُدِرَ من جانب اللّه لإهلاك القوم، أو على حال صار كلّ من الماءين بقدر الآخر، أو على قدره لا يعلم مقداره كانا متساويين، أو أحدهما أزيد من الآخر.

فلمّا غرقت الأرض بدعاء نوح نجيناه

وَ حَمَلْنٰاهُ و من آمن معه عَلىٰ سفينة ذٰاتِ أَلْوٰاحٍ و صاحبة قطعات من الخشب، وَ ذات دُسُرٍ و مسامير، فهي مع سهولة انفكاكها

تَجْرِي و تسير في الطّوفان بِأَعْيُنِنٰا و حفظنا، أو بمرأى منّا، و إنّما كان ذلك الحمل و النجاة من الغرق، أو حفظ السفينة من الانفكاك و الغرق، أو إجابة دعائه و فتح أبواب السماء، أو جميع ما ذكر جَزٰاءً لِمَنْ كٰانَ وجوده و بعثه في الخلق نعمة عظيمة من اللّه تعالى، ثمّ كُفِرَ ذلك الشخص بترك إطاعته، و القيام بعداوته، و التظاهر على إيذائه، فصبر على جميع ذلك، فنصر على أعدائه بغرقهم، و إنجائه بوسيلة السفينة.

وَ لَقَدْ تَرَكْنٰاهٰا و أبقيناها على وجه الأرض دهرا طويلا، لتكون آيَةً و عبرة يعتبر بها من نظر إليها. قيل: بقيت إلى أوائل هذه الامّة(4). و قيل: يعني جعلناها آية عظيمة يعتبر بها من يقف على خبرها (5)فَهَلْ في الناس مِنْ مُدَّكِرٍ و معتبر بالعبر و متّعظ بالمواعظ الإلهية، فيخاف من اللّه المنتقم، و يترك عصيانه.

فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عٰادٌ فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (18) إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النّٰاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (21)

ص: 105


1- . تفسير روح البيان 272:9.
2- . تفسير الرازي 37:29.
3- . تفسير الرازي 37:29.
4- . تفسير أبي السعود 170:8، تفسير روح البيان 273:9.
5- . تفسير أبي السعود 170:8، تفسير روح البيان 273:9.

ثمّ أظهر سبحانه عظمة عذابه، و التعجّب منه، و من كيفية إنذاراته بقوله:

فَكَيْفَ كٰانَ يا محمد، أو أيّها الناس بعد اطّلاعهم على غرق أهل الأرض عَذٰابِي في العظمة و الشدّة وَ نُذُرِ ي و مواعظي التي أنزلتها إليكم في الكثرة و الكمال، أو رسلي في عظمة الشأن، و الصبر على أذى قومهم، و صدق مواعيدهم، فاصبر أنت يا محمد، فانّ عاقبة أمرك كعاقبة أولئك الرسل وَ تاللّه

لَقَدْ يَسَّرْنَا و سهّلنا اَلْقُرْآنَ النازل عليكم، بأن جعلناه بلسانكم، و صرفنا فيه من أنواع المواعظ و الوعيد لِلذِّكْرِ و الاتّعاظ، حيث أتينا فيه بكلّ حكمة، أو للحفظ على ظهر القلب فَهَلْ منكم مِنْ مُدَّكِرٍ و متعظ بالقرآن، أو حافظ له.

ثمّ وعظ سبحانه بذكر قصّة قوم عاد بقوله تعالى:

كَذَّبَتْ قوم هود، و اسمهم عٰادٌ بجميع الرسل، و إنّما لم يذكر سبحانه هنا تكذيبهم هودا للاختصار، و إنّما ذكر فيما قبل اسم نوح و تكذيبه(1) لبيان شأنه، و طول مدّة دعوته، و تحمّله أذى قومه، كذا قيل(2).

ثمّ سأل سبحانه عن كيفية تعذيبهم، توجيها للسامعين إلى إصغاء ما يلقى إليهم بقوله فَكَيْفَ كٰانَ أيّها المستمعون عَذٰابِي النازل عليهم وَ نُذُرِ ي لهم، و تخويفاتي إياهم؟ ثمّ كأنّه قيل: بيّن لنا يا رب كيف كان عذابهم، فقال:

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا و سلّطنا عَلَيْهِمْ غضبا و سخطا رِيحاً صَرْصَراً شديدة الصوت و الهبوب، أو باردة فِي يَوْمِ نَحْسٍ و شؤم مُسْتَمِرٍّ شؤمه عليهم، أو إلى آخر الدهر، و هو آخر أربعاء من الشهر. عن ابن عباس: آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّه كان في يوم الأربعاء، في آخر الشهر لا يدور»(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأربعاء يوم نحس مستمر؛ لأنّه أول يوم و آخر يوم من الأيام التي قال اللّه عزّ و جلّ: سَخَّرَهٰا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيٰالٍ وَ ثَمٰانِيَةَ أَيّٰامٍ حُسُوماً» (5).

و كانت شدّة تلك الريح بحيث

تَنْزِعُ النّٰاسَ و تقلعهم من الأرض، و تضرعهم موتى كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ و اصوله مُنْقَعِرٍ و منقلع عن مغرسه، أو ذاهب في قعر الأرض.

روى الكلبي(6): أنّه كان طول كلّ واحد سبعين ذراعا، فاستهزءوا حين ذكر لهم الريح، فخرجوا إلى الفضاء، و ضربوا بأرجلهم و غيبوها في الأرض إلى قريب من الرّكبة، فقالوا لهود: قل للريح حتى ترفعنا، فجاءت الريح، فدخلت تحت الأرض، و جعلت ترفع كلّ اثنين، و تضرب أحدهما بالآخر

ص: 106


1- . أي تكذيبهم إياه.
2- . تفسير الرازي 43:29.
3- . تفسير روح البيان 275:9.
4- . مجمع البيان 287:9، تفسير الصافي 102:5.
5- . علل الشرائع: 2/381، تفسير الصافي 101:5، و الآية من سورة الحاقة: 7/69.
6- . في النسخة: الكليني.

بعد ما ترفعهما في الهواء، ثمّ تلقيهما على الأرض، و الباقون ينظرون إليهما، حتى رفعتهم كلّهم، ثمّ رمت بالرّمل و التّراب عليهم(1).

و قيل: شبّهت أجسادهم بالنخل لطول قامتهم، و لأنّ الريح كان تقلعهم و تصرعهم على رءوسهم، فتدقّ رقابهم، فتبين الرءوس من أجسادهم، فتبقى أجسادا بلا رءوس(2).

ثمّ كرّر سبحانه قوله:

فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ تهويلا لهما، و تعجيبا من أمرهما(3). و قيل: إنّ الأول في الدنيا، و الثاني في العقبى(4).

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقٰالُوا أَ بَشَراً مِنّٰا وٰاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنّٰا إِذاً لَفِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ (24) ثمّ أكّد سبحانه كون القرآن أكمل المذكّرات و أوفى المواعظ بتكرار قوله:

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.

ثمّ ذكر سبحانه طغيان قوم صالح بقوله:

كَذَّبَتْ ثوم صالح، اسمهم ثَمُودُ بِالنُّذُرِ و المواعظ التي استمعوها من صالح، أو بالرسل جميعا من صالح و من قبله من الرسل، لانكارهم صلاحية:

البشر للرسالة، كما حكاه سبحانه بقوله:

فَقٰالُوا إنكارا و استعجابا أَ بَشَراً مِنّٰا و إنسانا كائنا من جنسنا مع كونه وٰاحِداً منّا، لا فضيلة له علينا، حيث إنّه يأكل و يمشي في الأسواق، أو واحدا لا تبع له، و منفردا لا أحد من الملائكة معه نَتَّبِعُهُ و نطيعه في أوامره و نواهيه، و نقتدي به في عقائده و أعماله إِنّٰا مع كثرتنا و شوكتنا إِذاً و على تقدير انقيادنا له و اتّباعنا إياه مع تفرّده في الرأي و الاعتقاد، و كونه مثلنا في البشرية و الحاجة لَفِي ضَلاٰلٍ و انحراف عن طريق الصلاح و الصواب وَ سُعُرٍ و نيران الذلّ و الهوان. قيل: كان صالح يقول لهم: إن لم تتّبعوني تكونوا في ضلال عن الحقّ في الدنيا، و نيران في الآخرة، فعكسوا عليه عتوا و قالوا: إن اتّبعناه كنّا في ضلال و سعر(3) ، أو المراد كنّا في سعر و جنون، لكون اتّباعه خلاف حكم العقل.

أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنٰا بَلْ هُوَ كَذّٰابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّٰابُ الْأَشِرُ (26) إِنّٰا مُرْسِلُوا النّٰاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27) وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمٰاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنٰادَوْا صٰاحِبَهُمْ فَتَعٰاطىٰ فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كٰانَ

ص: 107


1- . تفسير روح البيان 276:9.
2- . تفسير روح البيان 275:9. (3و4) . تفسير روح البيان 276:9.
3- . تفسير أبي السعود 171:8، تفسير روح البيان 277:9.

عَذٰابِي وَ نُذُرِ (30) إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَكٰانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (30) إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَكٰانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) ثمّ بالغوا في إنكار رسالته بقولهم:

أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ و انزلت الرسالة و الوحي عَلَيْهِ و انتخب لهذا المنصب الجليل مِنْ بَيْنِنٰا و فينا من هو فوقه في الشرف و أحقّ به؟ لا و اللّه ليس كما يقول بَلْ هُوَ كَذّٰابٌ و مصرّ على القول بخلاف الواقع و الدعوى الباطل، و أَشِرٌ و بطرفي كذبه حمله عليه حبّ الترفع و الرئاسة علينا، لا ضرورة و حاجة، أو متجبّر.

ثمّ هدّدهم سبحانه حين قولهم ذلك بالوحي إلى صالح بقوله:

ص: 108

و سهلنا لكم فهمه، بأن جعلناه بلسانكم أيّها العرب لِلذِّكْرِ و الاتّعاظ، أو للحفظ على ظهر القلب فَهَلْ فيكم مِنْ مُدَّكِرٍ و متّعظ فيرتدع عن الكفر و العصيان، و في التكرار تأكيد و مبالغة في التّذكار.

قيل: إنّ اللّه تعالى أطال قصة صالح من بين القصص الخمس التي ذكرها في هذه السورة، لكون معجزة صالح - و هي إخراج الناقة العظيمة من الجبل، أو الصخرة غير القابلة للحياة - أعجب من معجزات سائر الأنبياء، كما أنّ شقّ القمر الذي هو معجزة نبينا صلّى اللّه عليه و آله، و المصدّرة به السورة أعجب من معجزاتهم، حيث إنّ جميع معجزاتهم كانت أرضية، و معجزة نبينا صلّى اللّه عليه و آله كانت سماوية، مع أنّ المشركين و الفلاسفة قائلون بامتناع تصرّف أحد في السماويات، و استحالة الشقّ و الخرق فيها، فأشبه حال صالح حال نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، فكان تسلية ببيان حال صالح أتمّ و أكمل فأطاله(1).

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ حٰاصِباً إِلاّٰ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنٰاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنٰا فَتَمٰارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَ لَقَدْ رٰاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنٰا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذٰابِي وَ نُذُرِ (37) ثمّ ذكر سبحانه قصة قوم لوط، و إلطافه به، و ابتلائهم بالعذاب بقوله تعالى:

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ و التخويفات و المواعظ الإلهية، أو بالمنذرين و الرسل.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية تعذيبهم بقوله:

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ غضبا و انتقاما منهم عذابا أو ريحا حٰاصِباً و راميا لهم بالحجارة الصغار إِلاّٰ آلَ لُوطٍ و أهله، فانّا نَجَّيْنٰاهُمْ من العذاب بِسَحَرٍ من الأسحار، و إنّما كان إنجاؤهم

نِعْمَةً عظيمة كائنة مِنْ عِنْدِنٰا و تفضلا عليهم من قبلنا لايمانهم و طاعتهم لنا، كما أنّ تعذيب القوم كان عدلا منّا، و أداء لما يستحقّون علينا كَذٰلِكَ الإنجاء من العذاب الذي كان نعمة نَجْزِي في الدنيا مَنْ شَكَرَ نعمنا بالايمان و الطاعة من أيّ قوم و أية أمّة كان.

و قيل: يعني كما نجّيناهم من عذاب الدنيا، نجزي من آمن بالنجاة من عذاب الآخرة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ عذابهم كان بعد إتمام الحجة عليهم و طغيانهم بقوله:

وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ و خوّفهم لوط بَطْشَتَنٰا و أخذتنا الشديدة بالعذاب فَتَمٰارَوْا اولئك الطّغاة و كذّبونا بِالنُّذُرِ

ص: 109


1- . تفسير الرازي 52:29.

و التخويفات بالعذاب الدنيوي و الاخروي، مع كونهم شاكّين فيه.

ثمّ إنّ القوم لمّا سمعوا بورود شبّان حسان الوجوه على لوط ضيفا له، و طمعوا في أن يمكّنهم لوط من عمل الفحشاء بهم

وَ تاللّه لَقَدْ رٰاوَدُوهُ و طالبوه عن تمكينهم عَنْ ضَيْفِهِ و هم الملائكة أن يفجروا بهم و معهم جبرئيل فَطَمَسْنٰا و مسحنا أَعْيُنَهُمْ و سوّيناها كسائر وجوههم بحيث لم ير لها شقّ، بضرب جبرئيل جناحه عليها، أو باشارته إليها، أو بضرب كفّ من البطحاء على وجوههم، و قلنا لهم بلسان الملائكة: إذا بلغ طغيانكم إلى هذا الحدّ فَذُوقُوا أيّها الطّغاة عَذٰابِي و هو الطّمس وَ نُذُرِ ي، و مآل تخويفاتي بلسان لوط إيّاكم، لا خلاص لكم منه بالصّراخ و الضّراعة.

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذٰابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذٰابِي وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَ لَقَدْ جٰاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا كُلِّهٰا فَأَخَذْنٰاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) قيل: إنّ المراد بمآل الانذارات عذاب الآخرة، فانّ أوّله متصل بآخر عذاب الدنيا، فهما كالواقع في زمان واحد(1).

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر العذاب الخاصّ بالداخلين على لوط المراودين له عن ضيفه، ذكر العذاب العام لجميع القوم بقوله تبارك و تعالى:

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ و جاءهم حين طلوع الفجر بُكْرَةً من البكر، أو أوّل طلوعه بلا تأخير عَذٰابٌ عام مُسْتَقِرٌّ و ثابت و دائم عليهم، متّصل بعذاب الآخرة، أو ثابت لا مدفع له، أو ثابت عليهم لا يتعدّى غيرهم، و هو جعل أعلى قريتهم أسفلها، و إمطار الحجارة عليهم، و قلنا لهم تشديدا لعذابهم: إذن

فَذُوقُوا أيّها الكفرة الطّغاة عَذٰابِي على كفركم و طغيانكم وَ نُذُرِ ي و إيعاداتي.

ثمّ بالغ سبحانه في التنبيه على كون القرآن المشتمل على تلك القصص أكمل المواعظ بتكرار قوله:

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ و العظة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فانّ في التكرير مبالغة في التنبيه و الايقاظ، و تقريرا للمعاني في الأسماع و القلوب، و تثبيتا لها في الصدور، و كلّما زاد ازدادت للامور المذكورة.

ثمّ ذكر سبحانه شدّة طغيان فرعون و قومه، و ابتلاءهم بالعذاب بقوله:

وَ لَقَدْ جٰاءَ آلَ فِرْعَوْنَ و أشراف قومه الذين شاركوه في الطّغيان و إضلال الناس اَلنُّذُرُ و الإيعادات و التخويفات من قبل

ص: 110


1- . تفسير الرازي 61:29.

اللّه على لسان موسى، أو المنذرون و الرسل كموسى و هارون.

ثمّ كأنّه قيل: فما فعلوا حينئذ؟ فأجاب سبحانه بقوله:

كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا و معجزات رسلنا كُلِّهٰا عنادا و لجاجا فَأَخَذْنٰاهُمْ بالعذاب بسبب تكذيبهم أَخْذَ ملك عَزِيزٍ و قاهر لا يقهر و مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء.

أَ كُفّٰارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرٰاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السّٰاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السّٰاعَةُ أَدْهىٰ وَ أَمَرُّ (46) ثمّ لمّا بيّن سبحانه ابتلاء مكذّبي الرسل بأنواع العذاب، وجّه الخطاب إلى كفّار العرب، أو المكذّبين لخاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله من قريش و أهل مكّة، و بيّن أنّهم في استحقاق العذاب كمن تقدّمهم من الامم المهلكة المكذّبة للرسل بقوله تعالى:

أَ كُفّٰارُكُمْ أيّها العرب المصرّون على تكذيب رسولنا، أو يا أهل مكّة خَيْرٌ عند اللّه، و أقلّ استحقاقا للعذاب مِنْ أُولٰئِكُمْ الطّغاة الذين اهلكوا بما سمعتم من أنواع العذاب حتى تأمنوا منه أَمْ لا تكونون خيرا منهم، و لكن لَكُمْ من جانب اللّه بَرٰاءَةٌ و أمان من عذاب اللّه مكتوب فِي الزُّبُرِ و الكتب السماوية التي نزلت على الرسل إن أصررتم على الكفر و تكذيب الرسل، فلذا تصرّون على الشرك و تكذيب محمد صلّى اللّه عليه و آله و تجترءون على المعاصي، و لا تخافون من نزول العذاب عليكم، و أن يكون حالكم حال الامم الذين كانوا قبلكم، لا و اللّه ليس لكم تلك البراءة في كتاب من الكتب السماوية فضلا عن جميعها.

ثمّ أعرض سبحانه عن خطابهم إيذانا بعدم قابليتهم للخطاب لغاية الجهل، و وجّه خطابه إلى العقلاء بقوله:

أَمْ يَقُولُونَ أولئك الجهّال الحمقاء: إن نزل العذاب فانّا نَحْنُ جَمِيعٌ و كثير متّفقون على دفعه مُنْتَصِرٌ و متعاون بعضنا مع بعض(1) ، أو ممتنع بقوّتنا عن الابتلاء به، و إنّما أفرد لفظ المنتصر إمّا باعتبار لفظ (الجميع)، و المعنى نحن جميع جنس منتصر، أو باعتبار أنّ (جميع) بمعنى كلّ واحد، و المعنى كلّ واحد منّا منتصر يغلب محمدا، أو يدفع عن نفسه العذاب.

ثمّ ردّ اللّه قولهم الفرضي(2) بقوله تعالى:

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ و تنكسر البتة شوكتهم وَ يُوَلُّونَ و ينصرفون في حرب محمد صلّى اللّه عليه و آله اَلدُّبُرَ و إفراده لإرادة الجنس، كما وقع يوم بدر.

عن عمر بن الخطاب، قال: لمّا نزلت (سيهزم الجمع) كنت لا أدري أي جمع، فلمّا كان يوم بدر

ص: 111


1- . في النسخة: ببعض.
2- . في النسخة: الفرضية.

رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلبس الدّرع و يقول: (سيهزم الجمع)(1).

و قال ابن عباس: كان بين نزول الآية و بين يوم بدر سبع سنين(2). و هذا من معجزاته صلّى اللّه عليه و آله، حيث أخبر عن الغيب، فكان كما أخبر.

و قيل: إنّ الدّبر بملاحظة كلّ واحد، أو لتنزيل فرار جميعهم منزلة فرار شخص واحد، و المراد أنّهم في التولية كنفس واحد لا يتخلّف أحدهم من الجميع(3).

ثمّ أخبر سبحانه بأنّه ليس ذلك تمام عقوبتهم بقوله تعالى:

بَلِ السّٰاعَةُ و يوم القيامة مَوْعِدُهُمْ و وقت عذابهم، و هذا العذاب في الدنيا من طلائعه وَ السّٰاعَةُ أَدْهىٰ و أعظم فظيعة وَ أَمَرُّ و أشدّ عذابا من يوم بدر و أدوم.

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّٰارِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (49) ثمّ بيّن سبحانه حال المشركين المعارضين للنبي صلّى اللّه عليه و آله في ذلك اليوم بقوله:

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ و الطّغاة في ذلك اليوم مستقرّون فِي ضَلاٰلٍ و هلاك، أو بعد من طريق الوصول إلى الرحمة و الجنة وَ في سُعُرٍ و نيران موقدة. و قيل: إنّ المراد أنّ المشركين المجرمين في الدنيا في ضلال و جنون لا يعقلون و لا يهتدون إلى الحقّ، و في الآخرة في سعر و نيران(4).

و يقال لهم

يَوْمَ يُسْحَبُونَ و يجرّون فِي النّٰارِ بعنف عَلىٰ وُجُوهِهِمْ أيّها المجرمون ذُوقُوا و أدركوا أكمل الإدراك مَسَّ سَقَرَ و لمس نار جهنم و ألمها.

قيل: إنّ سقر علم لجهنّم(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ في جهنم لواديا [للمتكبرين] يقال له سقر، شكا إلى اللّه شدّة حرّه، و سأله أن يأذن له أن يتنفّس، فتنفس فأحرق جهنّم»(6).

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته لتهويل العباد بقوله تعالى:

إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ و موجود في عالم الأجسام و الأرواح و الملك و الملكوت من الجواهر و الأعراض نحن خَلَقْنٰاهُ و أوجدناه بِقَدَرٍ و حدّ معين اقتضته الحكمة، مكتوب في اللّوح المحفوظ قبل وجوده.

ص: 112


1- . تفسير أبي السعود 174:8، تفسير روح البيان 282:9.
2- . تفسير روح البيان 282:9.
3- . تفسير الرازي 68:29.
4- . تفسير الرازي 71:29.
5- . تفسير أبي السعود 174:8، تفسير روح البيان 283:9.
6- . عقاب الأعمال: 222، تفسير روح البيان 104:5.

في الحديث: «كتب اللّه مقادير الخلائق كلّها قبل أن يخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة، و عرشه على الماء»(1).

و قيل: إنّ المراد بالقدر القدر المستعمل في جنب القضاء و القضاء علمه بصلاح إيجاد الموجودات المكتوب في اللّوح المحفوظ و القدر إرادة إيجاد كلّ موجود(2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّي رسول اللّه بعثت بالحقّ، و يؤمن بالبعث، و يؤمن بالقدر خيره و شرّه»(3).

أقول: الظاهر أنّ المراد الايمان بأنّ كلّ ما يوجد بإرادة اللّه.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «القدر خيره و شرّه من اللّه»(4).

قيل: إنّ أكثر المفسرين اتّفقوا على أنّ آية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ نزلت في القدرية(5).

و عن أبي هريرة، قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في القدر، فانزل اللّه تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (6).

و عن عائشة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «مجوس هذه الامة القدرية» و هم المجرمون الذين سمّاهم اللّه تعالى في قوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ (7).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ القدرية مجوس هذه الامّة، و هم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله فأخرجوه عن سلطانه، و فيهم نزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ إلى قوله: بِقَدَرٍ (5).

و سئل عن الرّقى(6) أ تدفع من القدر شيئا؟ فقال: «هي من القدر»(7).

و عنه عليه السّلام قال: «ما أنزل اللّه هذه الآيات إلاّ في القدرية إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: بِقَدَرٍ (8).

و عن الباقر عليه السّلام: «نزلت هذه الآية في القدرية ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ» (9).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «وجدت لأهل القدر اسما في كتاب اللّه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله:

بِقَدَرٍ» قال: «فهم المجرمون»(10).

أقول: مقتضى قول الصادق عليه السّلام: «هم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه» كون

ص: 113


1- . تفسير روح البيان 284:9.
2- . تفسير روح البيان 284:9.
3- . تفسير روح البيان 284:9.
4- . تفسير روح البيان 284:9. (5-6) . تفسير الرازي 69:29.
5- . التوحيد: 29/382، تفسير الصافي 105:5.
6- . الرّقى: جمع رقية، و هي العوذة التي يرقى بها.
7- . بحار الأنوار 24/98:5.
8- . عقاب الأعمال: 212، تفسير الصافي 105:5.
9- . عقاب الأعمال: 213، تفسير الصافي 105:5.
10- . تفسير القمي 342:2، تفسير الصافي 105:5.

المعتزلة القائلين بأنّ العبد مستقل في أفعاله، و لا يقدر اللّه على منعه منها و صرفه عنها، هم القدرية، لأنّهم اشركوا باللّه خلقه في افعالهم.

و مقتضى حديث أمير المؤمنين عليه السّلام مع الشيخ الذي منعه عن المسير إلى الشام - حيث قال: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أ لقضاء(1) من اللّه و قدر؟ فقال علي عليه السّلام: «يا شيخ، ما علوتم تلعة، و لا هبطتم بطن واد، إلاّ بقضاء من اللّه و قدر».

فقال الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي.

فقال علي عليه السّلام: «و تظنّ أنّه قضاء حتم، أو قدر لازم، لا إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب، و الأمر و النهي، و الزجر من اللّه، و سقط معنى الوعد و الوعيد، فلم تكن لائمة من اللّه للمذنب، و لا محمدة للمحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، و خصماء الرحمن، و قدرية هذه الأمّة»(2) - أن الأشاعرة القائلين بأن افعال العباد مخلوقة للّه.

و قال بعض الأفاضل: «تلك مقالة عبدة الأوثان» إشارة إلى الأشاعرة. و قوله: «قدرية هذه الامّة» إشارة إلى المعتزلة(3).

و قال بعض الأجلّة: «القدرية هم المنسوبون إلى القدر، و يزعمون أنّ كلّ عبد خالق فعله، و لا يرون الكفر و المعاصي بتقدير اللّه و مشيئته، فنسبوا إلى القدر لأنّه بدعتهم و ضلالتهم(4).

و قال شارح (المواقف): قيل: القدرية هم المعتزلة لاسنادهم أفعالهم إلى قدرتهم.

و في الحديث: «لا يدخل الجنّة قدريّ، و هو الذي يقول: لا يكون ما شاء اللّه، و يكون ما شاء إبليس».

وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلاّٰ وٰاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنٰا أَشْيٰاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله:

وَ مٰا أَمْرُنٰا لشيء إذا نريد إيجاده إِلاّٰ كلمة وٰاحِدَةٌ لا تكرار فيها، و هي كلمة (كن) التي يعبّر بها عن الإرادة التكوينية، فاذا يكون الشيء المراد وجوده و يوجد بسرعة و يسير كَلَمْحٍ و نظر سريع بِالْبَصَرِ.

قيل: لمّا اشتملت الآيات السابقة على وعيد الكفار بالاهلاك عاجلا و آجلا، و الوعد للمؤمنين

ص: 114


1- . في الاحتجاج: أ بقضاء.
2- . الاحتجاج: 208.
3- . تفسير الرازي 70/29.
4- . تفسير الرازي 69/29.

بالانتصار منهم جيء بقوله: إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ تأكيدا للوعيد و الوعد، يعني أنّ الوعيد و الوعد حقّ و صدق، و الموعود مثبت في اللوح المحفوظ، مقدّر عند اللّه، لا يزيد و لا ينقص، و ذلك على اللّه يسير، لأنّ قضاءه في خلقه أسرع من لمح البصر(1).

وَ تاللّه لَقَدْ أَهْلَكْنٰا بأنواع العذاب في الأعصار السابقة أَشْيٰاعَكُمْ و أشباهكم في الكفر و الطّغيان من الامم الذين كانوا أقوى منكم فَهَلْ فيكم أيّها الكفّار الحاضرون مِنْ مُدَّكِرٍ و متّعظ بما نزل عليهم

وَ كُلُّ شَيْءٍ و عمل من الكفر و العصيان فَعَلُوهُ في الليل و النهار و الخلوة و الجلوة مكتوب فِي الزُّبُرِ و دواوين الحفظة الكرام البررة

وَ كُلُّ صَغِيرٍ من أعمالهم و أعمال غيرهم في مدّة أعمارهم وَ كَبِيرٍ منها، كلّ بتفاصيلها مُسْتَطَرٌ و مثبوت في كتاب لا يترك كتب عمل صغير لصغره، و لا كبير للاعتقاد بعدم نسيانه.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ضرب لصغائر الذنوب مثلا، و قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ مثل محقّرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض، و حضر جميع القوم، فانطلق كلّ واحد منهم يحطب، فجعل الرجل يجيء بالعود و الآخر بالعود حتى جمعوا سوادا، و أججوا نارا، فشووا خبزهم، و إنّ ذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه، إلاّ أن يغفر اللّه، اتّقوا محقّرات الذنوب، فانّ لها من اللّه طالبا»(2).

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار في الآخرة، و أنّهم يسحبون على وجوههم في النار، بيّن حسن حال المتقين و المحترزين من الكفر و العصيان بقوله تعالى:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ و المعرضين عن الكفر و العصيان في الدنيا مستقرّون في الآخرة فِي جَنّٰاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار، لا يوصف حسنها و نظارتها و نعمها وَ في خلال نَهَرٍ أعظم الأنهار و أصفاها، جار من الكوثر على قول، أو من عين الرضوان على آخر(3).

و قيل: إنّ المراد من النهر جنسه، و إفراده لرعاية الفواصل(4).

و هو قاعد

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ و مجلس صالح مرضيّ، أو مجلس حقّ لا لغو فيه و لا تأثيم، و كائن عِنْدَ مَلِيكٍ و سلطان عظيم الشأن، و في قرب من مالك الملوك مُقْتَدِرٍ لا نهاية لقدرته و ملكه و سلطانه، فأيّ منزلة أكرم من تلك المنزلة، و أجمع للغبطة و السعادة، و ألذّ و اشرف منها.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة (اقتربت) أخرجه اللّه من قبره على ناقة من نوق الجنة»(5).

ص: 115


1- . تفسير روح البيان 284:9.
2- . تفسير روح البيان 285:9.
3- . تفسير الرازي 79:29.
4- . تفسير أبي السعود 175:8، تفسير روح البيان 285:9.
5- . ثواب الأعمال: 116، مجمع البيان 279:9، تفسير الصافي 105:5.

ص: 116

في تفسير سورة الرحمن

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اَلرَّحْمٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسٰانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ (4) ثمّ لمّا ختم سبحانه سورة القمر المبتدئة باظهار المهابة بالإخبار باقتراب الساعة، و ذكر أعظم معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو انشقاق القمر، و تكرار ذكر تسهيل نعمة القرآن للذّكر و الاتعاظ به، و تكرار شدّة عذابه و كثرة إنذاره بقوله تعالى: فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (1) مرّة بعد مرة، و تعداد ما نزل على الامم السالفة من أنواع العذاب، و ختمها بذكر أسمائه الدالّة على كمال عظمته و اقتداره المشعر بشدّة انتقامه، نظمت سورة الرحمن المبتدئة باظهار كمال رحمته، و ذكر أعظم المعجزات العقلية لنبينا، و هو تعليم القرآن الذي فيه صفاء القلوب و شفاء الصدور، و تكرار تذكير آلائه و نعمه بقوله: فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (2) و تعداد تفصيل نعمه الدنيوية و الاخروية على المؤمنين، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ أعلن برحمته الواسعة لجميع الموجودات بقوله تعالى:

اَلرَّحْمٰنُ و الذات العطوف على جميع الخلق بالايجاد أولا، و الرزق و تهيئة أسباب البقاء ثانيا، و موجبات السعادة و الهداية ثالثا.

و إنّما خصّ هذا الاسم الاعظم بذاته المقدّسة بحيث لا يجوز إطلاقه على غيره، لكون سائر أسمائه تحت هذا الاسم، و لا يكون أحد قابلا لتسميته به، كاسم اللّه الدالّ على الذات، و المستجمع لجميع الصفات الكمالية، و لذا أقرنهما في قوله: قُلِ ادْعُوا اللّٰهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمٰنَ (3).

ثمّ شرع سبحانه في تعداد نعمه الدنيوية و الاخروية و الجسمانية و الروحانية اللاتي كلّها من شئون الرحمانية، و لمّا كان أعظمها قدرا و أرفعها شأنا القرآن الذي هو مدار السعادة الدنيوية و الاخروية، و مظهر لحقائق الكتب السماوية، و مناط لكون سائر النّعم نعما، بدأ بإظهار المنّة بتعليمه بقوله:

عَلَّمَ بتوسّط جبرئيل محمدا صلّى اللّه عليه و آله، و بتوسّطه غيره اَلْقُرْآنَ العظيم الشأن.

ص: 117


1- . القمر: 16/54.
2- . الرحمن: 13/55.
3- . الإسراء: 110/17.

قيل: يعني الذي علّم آدم الأسماء و فضّله بها على الملائكة، هو الذي علّمكم القرآن، و فضّلكم به على جميع الامم(1).

و قيل: إنّ المعنى جعل القرآن علامة لنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و معجزة له، كما جعل شقّ القمر الذي أخبر به في أوّل السورة السابقة علامة لنبوته و معجزة له(2).

و قيل: إنّ المراد أنّه تعالى علّم القرآن أولا ملائكته المقرّبين(3) ، ثمّ بيّن أنّه علّمه ثانيا الانسان بقوله تعالى:

خَلَقَ الْإِنْسٰانَ. قيل: إنّ المراد جنسه(4) ، و قيل: إنّ المراد محمد(5). و

عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ و هو القرآن الذي فيه تبيان كلّ شيء.

و قيل: إنّه تعالى ذكر أولا أعظم النّعم، و هو تعليم القرآن(6) ، و لم يذكر من علمه لعظم نعمة التعليم، ثمّ بيّن من علمه بقوله: خَلَقَ الْإِنْسٰانَ ثمّ بيّن كيفية تعليمه بقوله: عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ و طريق كشف ما في الضمير بالنّطق و فهمه، و الحقّ أنّ المراد تعداد عظائم نعمه على الانسان و مطالبته بالشكر فذكر أولا أعظم النّعم التي(7) لا نعمة لأحد مع فقدها، ثمّ أعظم النّعم الداخلية بعدها، و هو نعمة وجود الانسان، ثمّ أعظم النّعم بعد نعمة الوجود، و هو نعمة البيان و المنطق، فانّه به يمتاز عن غيره من الحيوانات.

اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدٰانِ (6) ثمّ ذكر بعد النعمتين الداخلتين نعمتين خارجتين ظاهريتين سماويتين بقوله:

اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بجريانهما بِحُسْبٰانٍ و حركات مقدّرة في برجهما و منازلهما، آتيين لها في فلكيهما، بحيث ينتظم بها امور العالم السّفلى، و تختلف الفصول و الأوقات، و يعلم بها السنون و الشهور، مع أنّ لوجودهما و كونهما فوق الأرض منافع مهمّة لا تحصى، كزوال الظّلمة، و تربية الأجسام، و تنمية النباتات و الأشجار، و تربية المعادن و الزراعات، و نضج الثّمار و غير ذلك.

ثمّ بيّن نعمتين ظاهرتين أرضيتين، بهما بقاء الانسان و الحيوان و معاشهما بقوله:

وَ النَّجْمُ و هو النبات الذي لا ساق له، كالبقول و الحشيش و العشب المنبسطة على الأرض وَ الشَّجَرُ و هو النبات الذي له ساق كالحنطة و الشعير و الشجر و النخل و غيرها يَسْجُدٰانِ و ينقادان لأمره تعالى و إرادته

ص: 118


1- . تفسير روح البيان 288:9.
2- . تفسير الرازي 82:29.
3- . تفسير الرازي 84:29.
4- . تفسير الرازي 85:29، تفسير روح البيان 289:9.
5- . تفسير الرازي 85:29.
6- . تفسير الرازي 85:29.
7- . في النسخة: الذي.

انقياد الساجد، و قيل: إنّ المراد من سجودهما سجود ظلالهما. و قيل: غير ذلك(1).

و إخلاء الجملة الاولى عن العاطف، لكون النظر فيها إلى تعداد النعم، و ذكره في هذه الجملة لتناسبها مع سابقتها من حيث التقابل؛ لأنّ الشمس و القمر علويان، و النجم و الشجر سفليان، و كون فعل الجميع من الجريان و السجود من باب الانقياد لأمر اللّه، و إنّما قدّم النجم لمناسبته اللفظية مع الشمس و القمر، و لأنّ حال السجود فيه أظهر لانبساطه على الأرض، كما أنّ تقديم الشمس على القمر لأشرفيتها منه، و لأنّ الحساب فيها أظهر.

وَ السَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ (7) أَلاّٰ تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لاٰ تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ (9) ثمّ ذكر واحدا من نعمه المهمة السماوية بقوله:

وَ السَّمٰاءَ المطلّة رَفَعَهٰا و خلقها فوق الأرض، لتكون سقفا محفوظا. و قيل: اريد من رفعها رفع رتبتها، لكونها محلّ ملائكته، و منشأ اقضيته، و متنزّل أوامره و أحكامه(2).

ثمّ ذكر واحدا من نعمه المهمة الأرضية بقوله: وَ وَضَعَ في الأرض، و جعل فيها اَلْمِيزٰانَ لتعيين الحقوق و تسويتها، و لولاه لوقع بين الناس العداوة و البغضاء، فانّ العدل سبب لبقاء عمارة العالم، و أخص أسبابه الميزان، و لذا عدّه من النّعم العظيمة، فكأنّه قال: نشر سبحانه العدل الذي أخصّ أسبابه الميزان، و إنّما جعل ذلك لأجل

أَلاّٰ تَطْغَوْا و لا تجاوزوا عن الحدّ الواجب من الحقوق فِي الْمِيزٰانِ بأن لا تنقصوا من(3) حقّ الغير، و لا تتعدّوا على(4) الغير بأخذ الزائد عن حقّكم.

ثمّ قرّر سبحانه ذلك بقوله:

وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ و داروا معرفة قدر الحقوق بِالْقِسْطِ و العدل وَ لاٰ تُخْسِرُوا و لا تنقصوا اَلْمِيزٰانَ قيل: لا تنقصوا الموزون في الميزان، و إنّما كرّر لفظ الميزان تشديدا للوصية به، و حثّا على استعماله(3).

و قيل: إنّ لفظ (ميزان) اريد به فى كلّ آية معنى، ففي الآية الاولى اريد به الآلة أو العدل، و في الثانية اريد به الوزن أو الآلة، و في الثالثة اريد به الموزون(4).

و عن الرضا عليه السّلام - في تأويل الآيات و بيان بطنها في رواية - قيل له: خَلَقَ الْإِنْسٰانَ؟ قال: «ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام» قيل: عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ؟ قال: «علّمه بيان كلّ شىء يحتاج إليه الناس».

ص: 119


1- . تفسير الرازي 89:29.
2- . تفسير أبي السعود 177:8، تفسير روح البيان 29:9. (3و4) . في النسخة: عن.
3- . تفسير أبي السعود 177:8.
4- . تفسير الرازي 90:29.

قيل: اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ قال: «هما بعذاب اللّه». قيل: الشمس و القمر يعذّبان؟ قال:

«سألت عن شيء فأتقنه، إنّ الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه تجريان بأمره، مطيعان له، ضوؤهما من نور عرشه، و حرّهما من جهنم، فاذا كانت القيامة عاد إلى العرش نورهما، و عاد إلى النار حرّهما، فلا يكون شمس و لا قمر، و إنّما عناهما لعنهما اللّه، أو ليس قد روى الناس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال «الشمس و القمر نوران في النار» قيل: بلى. قال: «أ ما سمعت قول الناس: فلان و فلان شمسا هذه الامّة و نورهما؟ فهما في النار، و اللّه ما عنى غيرهما».

قيل: اَلنَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدٰانِ؟ قال: «النجم: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد سمّاه اللّه في غير موضع فقال: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ (1) و قال: وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (2) فالعلامات الأوصياء، و النجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله». قيل: يَسْجُدٰانِ؟ قال: «يعبدان».

قيل: وَ السَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ؟ قال: «السماء: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، رفعه اللّه إليه، و الميزان:

أمير المؤمنين عليه السّلام، نصبه في خلقه».

قيل: أَلاّٰ تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ؟ قال: «لا تعصوا الامام». قيل: وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ؟ قال:

«أقيموا الامام بالعدل». قيل: وَ لاٰ تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ؟

قال: «لا تخسروا الإمام حقّه و لا تظلموه» الخبر(3).

وَ الْأَرْضَ وَضَعَهٰا لِلْأَنٰامِ (10) فِيهٰا فٰاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذٰاتُ الْأَكْمٰامِ (11) ثمّ بعد المنّة بذكر وضع الميزان منّ سبحانه على الناس بذكر وضع الأرض بقوله تعالى:

وَ الْأَرْضَ وَضَعَهٰا و بسطها لتكون مهادا و فراشا لِلْأَنٰامِ من الجنّ و الانس على قول(4). و عن الرضا عليه السّلام قال: «للناس»(5). و قيل: إنّ الأرض موضوعة لكلّ ما عليها، و إنّما خصّ الانسان بالذكر، لأنّ انتفاعه بها أكثر(6).

قيل: كلّما كان من النّعم العظام مختصّا بالانسان، قدّم سبحانه الفعل بالآية كقوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسٰانَ * عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ * وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ و كلّما لم يكن مختصا بالانسان، أو لم يكن نفعه عظيما كثيرا، قدّم الاسم كقوله: اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ إلى قوله: وَ الْأَرْضَ وَضَعَهٰا لِلْأَنٰامِ فانّ نفع الأرض مشترك بين الانسان و سائر الحيوانات(7).

ص: 120


1- . النجم: 1/53.
2- . النحل: 16/16.
3- . تفسير القمي 343:2، تفسير الصافي 107:5.
4- . تفسير روح البيان 291:9.
5- . تفسير القمي 343:2، تفسير الصافي 108:5.
6- . تفسير الرازي 92:29.
7- . تفسير الرازي 92:29.

فِيهٰا فٰاكِهَةٌ و أشجار كثيرة تلتذّ النفوس بثمارها الطيبة وَ فيها اَلنَّخْلُ بأصنافها، و إنّما نكّر الفاكهة لإظهار قلّة نفعها بالنسبة إلى النخل، أو للاشارة إلى كثرة أنواعها، و إنّما ذكر الفاكهة دون شجرها بخلاف النخل فانّ منافعها كثيرة جدا.

ثمّ نبّه سبحانه على تكميل نعمة النخل بتوصيفها بقوله: ذٰاتُ الْأَكْمٰامِ و الأوعية للتمر، فانّ في جعل ثمارها في الأوعية سهولة جمعها و الانتفاع بها، حيث إنّ النخل شجرة عظيمة لا تسقط ثمارها بهزّها، فلا بدّ من قطفها، فلو كان حبّات ثمرها متفرّقة لصعب قطفها واحدة بعد واحدة(1) ، فجعله اللّه في وعاء إذا اقتطف ذلك الوعاء و الكمّ اقتطف قدر كثير من الرّطب و التمر.

و قيل: إنّ الكمّ بالضمّ: كلّما يغطّي النخل من ليف و سعف و غيرهما(2) ، فانه ينتفع به كما ينتفع بجذوعهما.

وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحٰانُ (12) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (13) ثمّ ذكر سبحانه بعد نعمة الأشجار نعمة الزرع، ارتقاء من النّعمة الأنزل و هي الفاكهة و النخل إلى النّعمة الأعلى بقوله:

وَ الْحَبُّ من البرّ و الشعير و الأرز و غيرهما ممّا يقتات به أو يؤدم به ذُو الْعَصْفِ و التبن، كما عن الرضا عليه السّلام(3). وَ الرَّيْحٰانُ قيل: إنّ الريحان هنا بمعنى الرزق، كما عن ابن عباس(4). و قيل: إنّه الحبّ المأكول(5). و قيل: إنّه كلّما طابت رائحته من النباتات(6). و قيل: هو الريحان المعروف، فانّ بزره من الأدوية النافعة، فالعصف علف الدواب و الريحان دواء الانسان(4).

ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد نعمه طالب من الثقلين الإقرار بنعمه و الشّكر عليها بقوله تعالى:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا أيّها الجنّ و الانس، و بأيّ النعم الظاهرة و الباطنة التي أنعم عليكما مالككما و مربّيكما تُكَذِّبٰانِ و تكفران؟ عن الصادق عليه السّلام - في تأويل الآية - «فبأيّ النّعمتين تكفران؟ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله أم بعلي عليه السّلام»(5). و في رواية (الكافي): «أبا لنبي، أم بالوصيّ»(6).

عن جابر، أنّه قال: قرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سورة الرحمن حتى ختمها، ثمّ قال: «ما لي أراكم سكوتا؟ فانّ الجنّ أحسن منكم ردّا ما قرئت عليهم هذه الآية مرة فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ إلاّ قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فللّه الحمد»(7).

ص: 121


1- . في النسخة: واحدا بعد واحد.
2- . تفسير أبي السعود 178:8.
3- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 108:5. (4-5-6) . تفسير روح البيان 292:9.
4- . تفسير الرازي 94:29.
5- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 108:5.
6- . الكافي 2/169:1، تفسير الصافي 108:5.
7- . تفسير روح البيان 293:9، و فيه: فلك الحمد.

و قيل: إنّ الخطاب للعدوّ و الولي بقوله فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ. و قيل: إنّ الخطاب للذكر و الانثى. و قيل: غير ذلك(1).

قيل: كرّرت الآية في هذه السورة المباركة إحدى و ثلاثين مرة، ثمان منها بعد تعداد عجائب خلق اللّه و بدائع صنعه و مبدأ الخلق و معادهم مبالغة في الحثّ على الشكر، ثمّ سبع منها عقيب آيات فيها ذكر النار و شدائدها بعدد أبواب جهنّم، و ذكر الآلاء عقيبه؛ لانّ في التخويف بها و البعث على دفعها نعمة توازى النّعم المذكورة، أو لأنّ ابتلاء الأعداء بها نعمة على المؤمنين، ثمّ ثمان منها بعد ذكر الجنات و نعمها على عدد أبواب الجنة، و ثمان منها بعد ذكر الجنّتين اللتين دونها و نعمها(2).

و قيل: إنّما التفت سبحانه من الغيبة إلى الخطاب، لكونه أبلغ في التقريع و الزجر عن الكفران و التكذيب، حيث إنّه تعالى نبّه المكذّب الغافل على أنّه كالواقف بين يدي ربّه، و هو يقول له: إنّي أنعمت عليك بكذا و كذا، فكيف تكذّب نعمائي؟ و لا شكّ أن المكذّب يكون عند ذلك أشدّ استحياء(3) ، و إنّما وصف سبحانه ذاته المقدّسة بالربوبية في الآية، لكونه المناسب لتعداد نعمائه التي من شئون ربوبيته.

خَلَقَ الْإِنْسٰانَ مِنْ صَلْصٰالٍ كَالْفَخّٰارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مٰارِجٍ مِنْ نٰارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (16) ثمّ لمّا ذكر سبحانه نعمة خلق الانسان و بسط الأرض لانتفاع الجنّ و الانس، ذكر مبدأ خلقهما إظهارا لكمال قدرته، و بيانا لاتمام نعمته بقوله:

خَلَقَ الْإِنْسٰانَ أولا و في البدو مِنْ صَلْصٰالٍ و طين نتن أو يابس، له صليل و صوت إذا وقع بعضه على بعض كَالْفَخّٰارِ و الطين المطبوخ بالنار، فانّ مبدأ خلق آدم من تراب جعله طينا، ثمّ صيّره حمأ مسنونا، ثمّ صيّره صلصالا

وَ خَلَقَ الْجَانَّ و هو أبو الجنّ، أو جنسه مِنْ مٰارِجٍ و خالص مِنْ نٰارٍ لا يخالطها دخان، أو من مختلط منها بالدخان، أو الهواء. قيل: خلق الجن من عنصرين: النار و الهواء، و خلق الانسان من عنصرين: التّراب و الماء(4).

و عن مجاهد: المارج هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر و الأصفر و الأخضر الذي يعلو النار(5).

ص: 122


1- . تفسير الرازي 95:29.
2- . تفسير روح البيان 293:9.
3- . تفسير الرازي 96:29.
4- . تفسير روح البيان 294:9.
5- . تفسير روح البيان 294:9.

ثمّ أنكر سبحانه عليهما الكفران لنعمه بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا أيّها الجنّ و الانس تُكَذِّبٰانِ و تكفران؟

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ (19) بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ (20) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ (22) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (23) ثمّ من المعلوم أنّ الربّ الذي له هذه المرتبة من القدرة لا يختصّ ربوبيته بكما، بل هو

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الصيف و مشرق الشتاء، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) ، أو مشرق الشمس و مشرق القمر.

و عن الصادق عليه السّلام: «تأويل المشرقين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام»(2).

وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ لكلّ من المشرقين، و عنه عليه السّلام: «المغربين الحسن و الحسين عليهما السّلام»(3).

و من المعلوم أنّ لازم ربوبيته لها ربوبيته لجميع ما بينها من الموجودات و النّعم التي لا تحصى

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا و نعمه أيّها الثقلان تُكَذِّبٰانِ و أيّها تنكران؟

ثمّ لمّا ذكر الشمس و القمر اللذين لهما جريان، ذكر نعمة البحر الذي له جريان بقوله:

مَرَجَ و أرسل اَلْبَحْرَيْنِ بحر السماء و بحر الأرض، أو بحر العذب و بحر الملح الاجاج، أو بحر الروم و بحر فارس أحدهما إلى الآخر بحيث يَلْتَقِيٰانِ و يتماسّ سطحاهما، أو بحيث يكون من شأنهما الالتقاء و الاختلاط، و مع ذلك

بَيْنَهُمٰا في الواقع من الأرض أو غيرها بقدرة اللّه بَرْزَخٌ و حاجز و مانع من الاختلاط.

قيل: إنّ الماء ينجذب بعضه إلى بعض كأجزاء الزئبق(4). و لذا لا يكون له إلاّ حيّز و مكان واحد، فلذا من طبع البحرين و شأنهما أن يلتقيا و يختلطا، و مع ذلك يبقى كلّ في مكان متميّز لمانع جعله اللّه بقدرته الكاملة، و قد روي في صورة جريان الماء العذب في الماء المالح أو بالعكس، و في جريان الماء الصافي في الماء المختلط بالطين و بالعكس، لا يختلطان في مقدار من الزمان أو مطلقا، لمانع جعله اللّه بينهما بقدرته، كقطعة من الأرض لاٰ يَبْغِيٰانِ و لا يتجاوزان حدّيهما حتى يمتزجا أو يغرقا ما بينهما من الأرض، و لا يطلبان غير ما قدر لهما.

ص: 123


1- . الاحتجاج: 259، تفسير الصافي 108:5.
2- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 108:5.
3- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 108:5.
4- . تفسير الرازي 100:29.

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مع أنّه ليس شيء ممّا ذكر قابلا للتكذيب لظهوره و ظهور منافعه

يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ و هو الكبار من الدّرّ وَ الْمَرْجٰانُ و هو صغاره، أو الخرز الأحمر.

قيل: إنّ المشهور بين الغواصين أنّهما يخرجان من البحر الاجاج، من الموضع الذي يقع فيه النهر من الماء العذب(1).

و عن ابن عباس: أنّه يكون اللؤلؤ و المرجان في البحر بنزول المطر، لأنّ الصّدف تفتح أفواهها للمطر(2).

و عن الصادق عليه السّلام عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا قال: «من ماء السماء، و من ماء البحر، فاذا أمطرت فتحت الأصداف أفواهها [في البحر] فيقع فيها من ماء المطر، فيخلق اللؤلؤ، الصغير من القطرة الصغيرة، و اللؤلؤ الكبير من القطرة الكبيرة»(3).

أقول: و يؤيد ذلك ما أشتهر من أنّه إذا أجدبت السنة هزلت الحيتان و قلّت الأصداف و الجواهر.

ذكر منقبة على

و فاطمة و ابنيهما عليهم السّلام

و عن الصادق عليه السّلام في بيان بطن الآية قال: «علي و فاطمة عليهما السّلام بحران يلتقيان، لا يبغي أحدهما صاحبه يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ» قال: «الحسن و الحسين عليهما السّلام»(4).

و قال العلامة في (نهج الحق) روى الجمهور عن ابن عباس، أنه قال: البحران علي و فاطمة عليهما السّلام الحسن و الحسين، و لم

ص: 124


1- . تفسير روح البيان 295:9.
2- . تفسير روح البيان 296:9.
3- . قرب الاسناد: 485/137، تفسير الصافي 109:5.
4- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 109:5.

خديجة بفاطمة كانت فاطمة عليها السّلام تحدّثها من بطنها، و تؤنسها في وحدتها، و كانت تكتم ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدخل النبي صلّى اللّه عليه و آله يومان فسمع خديجة تحدّث فاطمة، فقال لها: «يا خديجة، لمن تحدثين؟» قالت: احدّث الجنين الذي في بطني، فانّه يحدّثني و يؤنسني. قال: «يا خديجة، أبشري فانّها انثى، و إنّها النسلة الطاهرة الميمونة، فانّ اللّه تعالى قد جعلها من نسلي، و سيجعل من نسلها خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه».

فما برح ذلك النور يعلو، و أشعته في الآفاق تنمو، حتى جاءه الملك فقال: يا محمد، أنا الملك المحمود، و إنّ اللّه بعثني أن أزوّج النور من نور. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ممّن» قال: علي من فاطمة، فانّ اللّه قد زوّجها من فوق سبع سماواته، و قد شهد ملاكها جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في سبعين ألفا من الكروبيين، و سبعين ألفا من الملائكة الكرام الذين إذا سجد أحدهم سجدة لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، أوحى اللّه تبارك و تعالى إليهم: أن ارفعوا رءوسكم، و اشهدوا ملاك عليّ بفاطمة، فكان الخاطب جبرئيل، و الشاهدان ميكائيل و إسرافيل.

ثمّ أمر اللّه عزّ و جلّ بحور العين أن يحضرن تحت شجرة طوبى، و أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما فيك، فنثرت ما فيها من جوز و لوز و سكّر، فاللّوز من درّ، و الجوز من ياقوت، و السّكّر من سكّر الجنّة، فالتقطته حور العين، فهو عندهنّ في الاطباق يتهادينه، يقلن: هذا من نثار تزويج فاطمه بعلي.

فعند ذلك أحضر النبي أصحابه، و قال: «أشهدكم أنّي زوّجت فاطمة من علي» فلما التقى البحران:

بحر ماء النبوة من فاطمة، و بحر ماء الفتوّة من علي كرم اللّه وجهه، هناك مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ * بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ برزخ التقوى، لا يبغي علي عليه السّلام على فاطمة بدعوى، و لا فاطمة على علي عليه السّلام بشكوى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ اللؤلؤ الحسن، و المرجان: الحسين عليهما السّلام، فجاء السبطين شهيدين حبيبين إلى سيد الكونين، فهما روحاه و ريحانتاه، كلّما راح عليهما و ارتاح إليهما يقوله: «هذان ريحانتاي من الدنيا» و كلّما اشتاق إليهما يقول: «ولداي هذان سيدا شباب أهل الجنّة، و أبوهما خير منهما و فاطمة بضعة منّي يريبني ما رابها، و يؤذيني ما يؤذيها، و يسرّني ما يسرّها قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ (1)».

ثمّ قال القاضي رحمه اللّه: و به ظهر أيضا وجه كون النبي صلّى اللّه عليه و آله برزخا بينهما، فانّ وجوده صلّى اللّه عليه و آله مؤكّد لعصمتها و عدم صدور خلاف الأولى من أحدهما على الآخر(2).

ص: 125


1- . الشورى: 23/42.
2- . إحقاق الحق 277:3.

و قال شارح (نقش الفصوص في شرح كلمة حكمة إلهية في كلمة آدمية) على ما حكاه القاضي رحمه اللّه قالوا: الانسان الكامل البرزخ بين البحرين، و الحاجز بين العالمين، و إليه الاشارة بقوله سبحانه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ * بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ (1).

و قال إسماعيل حقي في (تفسير روح البيان) قيل: البحران علي و فاطمة رضي اللّه عنهما، و البرزخ النبي صلّى اللّه عليه و آله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما، انتهى(2).

ثمّ طالب سبحانه بعد ذكر النعمة العظيمة الشكر عليها، و أنكر الكفران بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

وَ لَهُ الْجَوٰارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ (24) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ (26) وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاٰلِ وَ الْإِكْرٰامِ (27) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (28) ثمّ بعد ذكر نعمة البحر ذكر سبحانه نعمة السّفن بقوله:

وَ لَهُ تعالى السّفن اَلْجَوٰارِ و السائرات و اَلْمُنْشَآتُ و المخلوقات لنفع العباد، أو مرفوعات الشّرع، أو المرفوعات على الماء فِي الْبَحْرِ و هنّ في الارتفاع و العظمة كَالْأَعْلاٰمِ و الجبال الطوال، فالسفن في البحر كالجبال، كما أنّ الابل في البرّ كالسّفن في البحر.

ثمّ لمّا كان في خلق مواد السّفن و أجزائها، و الإرشاد إلى تركيبها و صنعها، و إجرائها في البحر بقطع المسافات البعيدة في الأوقات القليلة، و حمل الأشياء النافعة الكثيرة إلى البلاد النائية، و تيسير المعاملات و التجارات بسببها، نعم عظيمة لا مدخل لغير اللّه تعالى فيها، حثّ الثقلين على الإقرار بها و شكرها بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه البحر الذي هو من المهالك للبشر؛ و نبّه على أنّ النجاة منه بالسّفن من نعم اللّه تعالى، نبّه سبحانه على أنّه ليس لأحد أن يغترّ بالنجاة من المهالك في مدّة عمره المقدّر له، فانّ مآل كلّ أحد إلى الفناء و الموت بقوله:

كُلُّ مَنْ تمكّن في الأرض، و استقرّ عَلَيْهٰا من الموجودات:

العقلاء و غيرهم فٰانٍ و زائل من وجه الأرض لا محالة، فلا يغترّ العاقل ببقائه في الدنيا و بقاء ماله من الصحة و العزّ و الغنى و المال و الولد، فانّ الذي يدوم

وَ يَبْقىٰ و لا يزول و لا يفنى وَجْهُ رَبِّكَ أيّها الانسان و ذاته المقدّسة عن الحاجة و النقائص الامكانية، و وجوده المنزّه عن شوب العدم

ص: 126


1- . احقاق الحق 276:3.
2- . تفسير روح البيان 296:9.

و العوارض الجسمانية و الروحانية، المتّصف بصفة الربوبية التي من شئونها الإنعام على خلقه، و الاحسان على عباده، فذلك الباقي بعد فناء كلّ شيء، و المنعم على ما سواه، و هو ذُو الْجَلاٰلِ و العظمة التي لا نهاية لها وَ ذو اَلْإِكْرٰامِ و الفضل الذي لا حدّ له و لا إحصاء، فعلى الخلق أن يخضعوا له و يتضرّعوا إليه.

عن الجواد عليه السّلام في حديث: «و إذا أفنى اللّه الأشياء أفنى الصّور و الهجاء و التقطيع(1) ، و لا يزال من لم يزل عالما»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ نحن وجه اللّه»(3).

و عن السجاد عليه السّلام: «نحن وجه اللّه الذي يؤتى منه»(4).

قيل: إنّ وصفه بالوصفين مرتب على الأمرين السابقين، فذو الجلال مرتّب على فناء ما في الأرض، و ذو الإكرام مرتّب على بقائه بعد فناء كلّ شيء، فيوجد من يريد و يفيض عليه بعد إعادته أنواع رحمته و نعمه(5).

ثمّ لمّا كان الموت و الخروج من الدنيا الدنية، و التنبيه على ذلك، و الإعلام ببقاء ذاته المقدّسة و غاية عظمته و إفضاله من النّعم العظام، حثّ سبحانه على الإقرار بنعمه و شكرها بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (30) ثمّ بيّن سبحانه سعة كرمه و إنعامه و كمال قدرته و جوده و غناه بقوله:

يَسْئَلُهُ و يطلب منه مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ السبع من الملائكة و سائر الموجودات التي فيها وَ من في اَلْأَرْضِ من الانس و الجنّ و سائر الحيوانات و الموجودات بلسان الحال و المقال جميع ما يحتاجون إليه في بقائهم و كمالهم فيعطيهم ما يسألونه من خزائن كرمه.

عن ابن عباس: فأهل السماوات يسألونه المغفرة، و أهل الارض يسألونه الرزق و المغفرة(6) ، فهو كُلَّ

ص: 127


1- . في النسخة: و ينقطع، و في التوحيد: و لا ينقطع، و ما أثبتناه من الكافي، و المراد صور الحروف و هجاؤها و تقطيعها، كما في صدر الرواية.
2- . الكافي 7/91:1، التوحيد: 7/193، تفسير الصافي 110:5.
3- . مناقب ابن شهرآشوب 272:3، تفسير الصافي 110:5.
4- . تفسير القمي 345:2، تفسير الصافي 110:5.
5- . تفسير الرازي 107:29.
6- . تفسير روح البيان 299:9.

يَوْمٍ و آن كائن هُوَ فِي شَأْنٍ من شئون رحمانيته و ربوبيته و فيّاضيته، و لا يشغله شأن عن شأن.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الربّ لينظر إلى عباده كلّ يوم ثلاثمائة و ستين نظرة، يخلق و يرزق و يحيي و يميت» و يعزّ و يذلّ، و يفعل ما يشاء، فذلك قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (1).

و في الحديث: «من شأنه أن يغفر ذنبا، و يفرّج كربا، و يرفع قوما، و يضع آخرين»(2).

عن مقاتل، قال: نزلت الآية في اليهود حين قالوا: إنّ اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا، ففيها رد لهم(3).

و قيل: إنّ قوله: هُوَ فِي شَأْنٍ صفة اليوم، و المعنى: أنّ في كلّ يوم هو في شأن، يسأله من في السماوات و الأرض، لا اليوم الذي فيه في شأن، و هو اليوم الذي يهلك جميع الموجودات، و يقول:

لِمَنِ الْمُلْكُ (4) فانّ فيه لا يبقى أحد يسأله، فهو السائل و هو المجيب(5).

أقول: الظاهر أنّه إخبار بعد إخبار. ثمّ إنّه تعالى لمّا ذكر إفاضته إلى جميع الخلق بنعمه التي لا تحصى، طالبهم بالإقرار و الشّكر بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاٰنِ (31) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (32) ثمّ لمّا أخبر سبحانه بتوجّهه في الدنيا إلى شئون خلقه، أخبر بأنّه في الآخرة يصرف عن تلك الشئون الدنيوية و بتوجّه إلى شئونهم من الحساب و جزاء الأعمال بقوله:

سَنَفْرُغُ لَكُمْ و عن قريب نتجرّد عن الاشتغال بامور دنياكم لحساب أعمالكم و مجازاتكم عليها أَيُّهَ الثَّقَلاٰنِ و سنقصدكم أيّها الجنّ و الإنس.

و إنّما سمّيا بالثّقلين لرزانة رأيهما على قول، أو لعلو قدرهما في الموجودات على آخر، أو لتشبيه الأرض بالحمولة، و جعل الإنس و الجنّ أثقالا محمولة عليها على ثالث(6).

و عن الصادق عليه السّلام: «سمّيا ثقلين لأنّهما يثقلان بالذنوب»(7).

و قيل: إنّ الكلام مسوق للتهديد(8) بشدّة الاهتمام بأمرهم، و ليس المقصود حقيقة الفراغ، فانّ السيّد يقول عند الغضب لعبده: سأفرغ لك، مع كونه فارغا جالسا لا يمنعه شغل(9).

ثمّ لمّا كان تعذيب الكفّار في القيامة، و صرفه عن المؤمنين نعمة عظيمة عليهم، و التنبيه عليهما

ص: 128


1- . مجمع البيان 306:9، تفسير روح البيان 300:9.
2- . مجمع البيان 306:9، تفسير الصافي 110:5، تفسير روح البيان، 300:9.
3- . مجمع البيان 306:9، تفسير الصافي 110:5، تفسير روح البيان، 300:9.
4- . غافر: 16/40.
5- . تفسير الرازي 109:29.
6- . تفسير روح البيان 301:9.
7- . تفسير روح البيان 301:9.
8- . تفسير الرازي 110:29.
9- . تفسير الرازي 111:29.

نعمة عظيمة اخرى، حثّ الناس على الإقرار بها و الشكر عليها بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطٰارِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاٰ تَنْفُذُونَ إِلاّٰ بِسُلْطٰانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (34) ثمّ بيّن سبحانه لطفا بالعباد بعض أهوال القيامة و شدائدها بقوله:

يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و أيتها الجماعة العظيمة من الجنسين إِنِ اسْتَطَعْتُمْ و قدرتم أَنْ تَنْفُذُوا و تخرجوا مِنْ أَقْطٰارِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و جوانبهما و أطرافهما فرارا من عذاب اللّه و نكاله، و تهربوا من ملك اللّه و سلطانه فَانْفُذُوا أو اخرجوا فارّين منه، و من الواضح أنّكم لاٰ تَنْفُذُونَ و لا تخرجون منهما و لا تتخلّصون من أخذ اللّه و عذابه إِلاّٰ بِسُلْطٰانٍ و قوّة و قهر، و أنى لكم ذلك؟ و إنّما قدّم الجنّ على الإنس لكونهم أقدم خلقا، و أقوى نفوذا، و أشد بطشا من الإنس.

روي أنّ الملائكة تنزل و تحيط بجميع الخلائق، فيهرب الإنس و الجنّ، فلا يأتون وجها إلاّ وجدوا الملائكة أحاطت به، فيقول لهم الملائكة ذلك(1).

و عن (المجمع): قد جاء في الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة و بلسان من نار، ثمّ ينادون: يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إلى قوله: شُوٰاظٌ مِنْ نٰارٍ (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه العباد في صعيد واحد، و ذلك أنّه يوحي إلى السماء الدنيا: أن اهبطي بمن فيك، فيهبط اهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ و الإنس و الملائكة، فلا يزالون كذلك حتى يهبط(3) أهل سبع سماوات، فيصير الجنّ و الإنس في سبع سرادقات من الملائكة، ثمّ ينادي مناد يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الآية، فينظرون فإذا أحاط بهم سبع أطواق(4) من الملائكة»(5).

ثمّ لمّا ذكر قال سبحانه:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ من التنبيه و التحذير و المساهلة و العفو مع كمال القدرة.

يُرْسَلُ عَلَيْكُمٰا شُوٰاظٌ مِنْ نٰارٍ وَ نُحٰاسٌ فَلاٰ تَنْتَصِرٰانِ (35) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمٰاءُ فَكٰانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهٰانِ (37)

ص: 129


1- . تفسير روح البيان 302:9.
2- . مجمع البيان 311:9، تفسير الصافي 111:5.
3- . في النسخة: يحيط.
4- . في مجمع البيان: سرادقات.
5- . مجمع البيان 311:9، تفسير الصافي 111:5.

ثمّ يقول المنادي لهم تهويلا في ذلك اليوم:

يُرْسَلُ عَلَيْكُمٰا يا عصاة الجنّ و الإنس شُوٰاظٌ و لهب عظيم بلا دخان متصاعد مِنْ نٰارٍ ليسوقكم إلى المحشر، كما عن ابن عباس(1).

و قيل: إنّ الشواظ هو اللّهب المختلط بالدّخان (2)وَ نُحٰاسٌ و قطر مذاب يصبّ من فوق رءوسهم.

و قيل: إنّه الدّخان الخالص (3)فَلاٰ تَنْتَصِرٰانِ و لا تمتنعان من العذاب.

و قيل: إنّ قوله: لاٰ تَنْفُذُونَ إشارة إلى أنّه لا مهرب لهم من العذاب قبل نزوله(4). و قوله: فَلاٰ تَنْتَصِرٰانِ إشارة إلى أنّه لا ناصر و لا منج لهم منه بعد نزوله.

ثمّ لمّا كان بيان عاقبة الكفر و العصيان و التحذير عنها من الالطاف العظيمة و النّعم الجسيمة قال سبحانه:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ بالغ سبحانه في إرعاب القلوب بقوله:

فَإِذَا انْشَقَّتِ و انصدعت اَلسَّمٰاءُ و انفكّ بعضها من بعض لعدم الحاجة إليها و الدلالة على انقراض الدنيا المحتاجة إلى السقف و الكواكب، أو لنزول الملائكة فَكٰانَتْ و صارت حمراء تشبه وَرْدَةً حمراء - و الزهرة المعروفة التي تشم - في اللون قيل: إنّ السماء لونها في الواقع الحمرة، و إنّما ترى زرقاء للبعد(5). و قيل: يعني تتقلّب حمراء بعد أن كانت صفراء كَالدِّهٰانِ، أو صارت كلون الورد تتلوّن كالادّهان المختلفة. و قيل: يعني تصير حمراء كالورد من حرارة جهنّم، و تذوب و تجري كالدّهن المذاب(6). و جواب (إذا) محذوف، و المعنى: إذا صارت السماء كذلك، يكون من الأحوال و الأهوال ما لا تحيط به دائرة المقال، أو رأيت أمرا عظيما هائلا.

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لاٰ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لاٰ جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمٰاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوٰاصِي وَ الْأَقْدٰامِ (41) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (42) هٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهٰا وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (45) و لمّا كان الإخبار بما ذكر من الزواجر التي هي أعظم النّعم، قال سبحانه:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا

ص: 130


1- . تفسير روح البيان 302:9.
2- . تفسير الرازي 114:29، تفسير أبي السعود 182:8.
3- . تفسير أبي السعود 182:8، تفسير روح البيان 302:9، و فيهما: اللهب الخالص.
4- . تفسير الرازي 114:29. (5و6) . تفسير روح البيان 302:9.

تُكَذِّبٰانِ مع غاية ظهورها

فَيَوْمَئِذٍ و حينئذ لاٰ يُسْئَلُ أحد من قبل اللّه أو غيره عَنْ ذَنْبِهِ الذي ارتكبه في الدنيا، لا إِنْسٌ وَ لاٰ جَانٌّ لأنّ العصاة معروفون بسيماهم، فلا يحتاج عرفانهم إلى السؤال عن ذنبهم. قيل: لا يسألون في أول حشرهم إلى الموقف، و يسألون حين المحاسبة. عن ابن عباس: لا يسألهم: هل عملتم كذا و كذا؟ فانّه أعلم بذلك، و لكن يسألهم لم عملتم كذا و كذا؟(1) و عنه أيضا: لا يسألون سؤال شفاء و راحة، و إنّما يسألون سؤال تقريع و توبيخ(2).

عن الرضا عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «من اعتقد الحقّ ثمّ أذنب و لم يتب في الدنيا عذّب [في البرزخ و يخرج يوم القيامة و ليس له ذنب يسأل عنه]» (3)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم السؤال من الجن و الإنس عن ذنبه بقوله:

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ و العصاة في ذلك اليوم بِسِيمٰاهُمْ و علامة الذنب الظاهرة في وجوههم من السواد و زرقة العين و الغبرة و القترة و الحزن و النكاية فَيُؤْخَذُ اولئك العصاة بِالنَّوٰاصِي و شعور مقدّم رءوسهم وَ الْأَقْدٰامِ قيل: يأخذ الملائكة بشعر رءوسهم و أقدامهم، فيقذفونهم في النار(4). أو المراد تسحبهم الملائكة و تجرّهم إلى النار تارة بالأخذ بنواصيهم و تارة بالأخذ بأقدامهم (5)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ من المواعظ و الزواجر مع كون منافعها في غاية الظهور؟ ثمّ يقال لهم توبيخا و تقريعا

هٰذِهِ النار التي ترونها و تدخلونها هي جَهَنَّمُ الَّتِي وعد اللّه بها العصاة في الدنيا على لسان رسله، و كان يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ و المصرّون على الكفر و العصيان، فانظروا اليوم إلى المكذّبين أنّهم

يَطُوفُونَ و يدورون بَيْنَهٰا وَ بَيْنَ حَمِيمٍ و ماء حارّ آنٍ و بالغ منتهى الحرارة و أقصاها، يصبّ عليهم، أو يسقون منه.

عن كعب الأحبار: أنّ واديا من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار، فينطلق بهم في الأغلال، فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثمّ يخرجون منه، و قد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا، فيلقون في النار(6). و من الواضح أنّ الإخبار بهذه الامور العظام من نعم اللّه على الأنام

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا أيها الثقلان تُكَذِّبٰانِ و قيل: يعني فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا ممّا عددناه من أوّل السورة تُكَذِّبٰانِ فتستحقّان هذا العذاب الشديد(7).

ص: 131


1- . تفسير روح البيان 303:9.
2- . تفسير روح البيان 303:9.
3- . مجمع البيان 312:9، تفسير الصافي 112:5.
4- . تفسير روح البيان 303:9.
5- . تفسير الرازي 121:29، تفسير أبي السعود 183:9، تفسير روح البيان 303:9.
6- . تفسير روح البيان 303:9 و 304.
7- . تفسير الرازي 121:29.

وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ جَنَّتٰانِ (46) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (47) ذَوٰاتٰا أَفْنٰانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (49) ثمّ لمّا حذّر اللّه العصاة بذكر سوء عاقبتهم و عذاب عصيانهم، زجرا لهم عمّا هم عليه، بيّن سبحانه حسن عاقبة المؤمنين الخائفين من عصيانه، ترغيبا لهم إلى طاعته بقوله:

وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ و حين الحضور في موقف فصل قضائه في القيامة، و ظهور آثار قدرته و سطوته و سلطانه، و هتك السور، و كشف حقائق الامور، و قيام الأشهاد، فاجتنب لخوفه ذلك مخالفته و عصيانه في الدنيا جَنَّتٰانِ قيل: جنة لتركه المعاصي و الشهوات، و جنّة لفعل الطاعات(1). و قيل: جنّة لإيمانه، و جنّة لعمله(2) ، و أمّا الجنتان فجنّة عدن، و جنّة نعيم(3). و قيل: جنة داخل القصر، و جنّة خارجة(4). و قيل: جنّة لسكونته، و جنّة لسكونة أزواجه و خدمه(5). و قيل: جنّة من ذهب، و جنّة من فضة(6) ، يطوف بينهما كما يطوف المجرم بين جهنّم و حميم، و إنّما لم يقل يطوف بينهما الخائفون، لوضوحه و لإظهار أنّهم ملوك يطاف عليهم احتراما لهم و إكراما في حقّهم، و لا يطاف بهم.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «من علم أنّ اللّه يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شر، فحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربّه [و نهى النفس عن الهوى]»(3).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها من مخافة اللّه، حرّم اللّه عليه النار، و آمنه من الفزع الأكبر، و أنجز له ما وعده في كتابه في قوله تعالى: وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ جَنَّتٰانِ» (4).

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من نعم الدنيا و الآخرة تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ وصف سبحانه الجنّتين بقوله:

ذَوٰاتٰا أَفْنٰانٍ و صاحبتا أغصان منشعبة من الشجرة، عليها أوراق عجيبة، و أثمار طيبة من غير سوق غلاظ، مانعة عن التردّد فيها كيف شاء، كذا قيل(5). و قيل:

يعني صاحبتا أنواع من الأشجار المثمرة

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من الآلاء الدنيوية و الاخروية تُكَذِّبٰانِ.

فِيهِمٰا عَيْنٰانِ تَجْرِيٰانِ (50) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (51) فِيهِمٰا مِنْ كُلِّ فٰاكِهَةٍ زَوْجٰانِ (52) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلىٰ فُرُشٍ بَطٰائِنُهٰا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى

ص: 132


1- . تفسير الرازي 123:29، تفسير روح البيان 304:9.
2- . تفسير روح البيان 304:9، و فيه: لعقيدته، بدل لإيمانه. (3-4-5-6) . مجمع البيان 314:9.
3- . الكافي 10/57:2، تفسير الصافي 113:5.
4- . من لا يحضره الفقيه 1/7:4، تفسير الصافي 113:5.
5- . تفسير الرازي 124:29.

اَلْجَنَّتَيْنِ دٰانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (55) ثمّ وصف سبحانه الجنتين بغاية الصفاء و النّزاهة بقوله:

فِيهِمٰا عَيْنٰانِ من ماء غير آسن تَجْرِيٰانِ من جبل من مسك على ما قيل(1) ، و عن ابن عباس: تجريان بالماء الزّلال، إحداهما التّسنيم، و الآخر السّلسبيل(2). قيل: تجري في كلّ جنة عين(3) ، كما قال تعالى: فِيهٰا عَيْنٌ جٰارِيَةٌ (2).

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ لمّا وصف الجنتين بغاية النّزاهة التي هي الأهمّ في نظر المتنعّمين، وصفها باستجماعهما لجميع الفواكه بقوله:

فِيهِمٰا مِنْ كُلِّ نوع من فٰاكِهَةٍ متصوّرة من الفواكه زَوْجٰانِ و صنفان: حلو و حامض، أو رطب و يابس، أو معهود و غير معهود.

عن ابن عباس: ما في الدنيا حلوة و لا مرّة إلاّ و هي في الجنّة حتى الحنظل، إلاّ أنه حلو (3)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ بيّن سبحانه حال استراحة الخائفين في الجنّة بقوله:

مُتَّكِئِينَ و معتمدين كالملوك حال جلوسهم عَلىٰ فُرُشٍ مبسوطة تحتهم بعضها على بعض، و تلك الفرش بَطٰائِنُهٰا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ و ديباج ثخين، فما ظنكم بظهائرها التي لا بدّ أن تكون أعلى و أشرف من البطائن قيل: إنّ ظهائرها من سندس(6) و حرير رقيق، و قيل: من نور (7)وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ و ثمارها التي تقطف دٰانٍ و قريب بحيث يجتنى في كلّ حال بلا كلفة القيام و المشي و استعمال الآلة.

عن ابن عباس. قال: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي اللّه، إن شاء قائما، و إن شاء قاعدا و إن شاء مضطجعا (8)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

فِيهِنَّ قٰاصِرٰاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيٰاقُوتُ وَ الْمَرْجٰانُ (58) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (59) هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلاَّ الْإِحْسٰانُ (60) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (61) ثمّ وصف سبحانه أزواجهم في الجنة بقوله:

فِيهِنَّ قٰاصِرٰاتُ الطَّرْفِ على أزواجهن، لا تتجاوز أعينهنّ إلى غيرهم، و لا ينظرن إلى سواهم لشدّة حبّهن لهم. قيل: تقول كلّ منهنّ لزوجها: و عزّة ربّي

ص: 133


1- . تفسير أبي السعود 184:8، تفسير روح البيان 306:9. (2و3) . تفسير أبي السعود 184:8، تفسير روح البيان 306:9.
2- . الغاشية: 12/88.
3- . تفسير روح البيان 306:9 و 307. (6-7-8) . تفسير أبي السعود 185:8، تفسير روح البيان 307:9.

ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد للّه الذي جعلك زوجي، و جعلني زوجك(1).

و عن القمي: الحور العين يقصر الطرف عنها من ضوء نورها(2). و قيل: إنّ قصر الطّرف كناية عن الحياء و الدّلال(3). و قيل: إنّ المراد أنّهن مانعات أبصارهنّ عند الخروج عن النظر إلى اليمين و الشمال لغاية عفّتهن(4).

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ و لم يمسّهن، أو لم يفضضهنّ إِنْسٌ غير أزواجهنّ قَبْلَهُمْ في الجنّة وَ لاٰ جَانٌّ بل هن باكرات غير ملموسات

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ بيّن سبحانه كمال جمالهنّ بقوله:

كَأَنَّهُنَّ في الصّفاء و الحسن اَلْيٰاقُوتُ الأحمر وَ الْمَرْجٰانُ و اللؤلؤ الصّغار الأبيض، فانّه أصفى من اللؤلؤ الكبار.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ المرأة من أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّة و مخّها، إنّ اللّه يقول: كَأَنَّهُنَّ الْيٰاقُوتُ وَ الْمَرْجٰانُ (5)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ أكّد سبحانه وعده المؤمنين بالجنّة و النّعم المذكورة ببيان حكم العقل بوجوب كون جزاء المحسن هو الاحسان بقوله:

هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إلى الغير بحكم العقل السليم أيّها العقلاء إِلاَّ الْإِحْسٰانُ إلى المحسن، لا و اللّه لا يكون جزاء المحسن على إحسانه إلاّ الاحسان إليه، فلا بدّ من أن يجازي المؤمن المحسن بعمله من اللّه بالجنّة و النّعم الدائمة.

عن أنس، قال: قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ... الآية، ثمّ قال: «هل تدرون ما قال ربّكم؟» قالوا: اللّه و رسوله أعلم. قال: «يقول هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي و توحيدي إلاّ أن اسكنه جنّتي و حظيرة قدسي برحمتي»(6).

و عن الحسن بن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «هل جزاء من قال لا إله إلاّ اللّه إلاّ الجنّة»(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «أن هذه الآية جرت في الكافر و المؤمن و البرّ و الفاجر، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به، و ليس المكافأة أن تصنع كما صنع حتى تربي، فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء»(8).

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من النّعم العقلانية و النفسانية و الروحانية و الجسمانية تُكَذِّبٰانِ.

ص: 134


1- . مجمع البيان 315:9، تفسير روح البيان 307:9.
2- . تفسير القمي 346:2، تفسير الصافي 113:5.
3- . تفسير روح البيان 308:9.
4- . تفسير الرازي 129:29.
5- . تفسير روح البيان 309:9.
6- . تفسير روح البيان 309:9.
7- . علل الشرائع: 8/251، تفسير الصافي 114:5.
8- . مجمع البيان 316:9، تفسير الصافي 114:5.

وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ (62) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (63) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان جزاء الخائفين المقرّبين بأنّ لهم جنتين موصوفتين بأعلى مراتب الحسن، بيّن جزاء من دونهم في القرب بقوله:

وَ مِنْ دُونِهِمٰا و أنزل منهما شرفا و حسنا جَنَّتٰانِ اخريان لمن دون الخائفين رتبة و منزلة عند اللّه.

قال بعض المفسرين: من دون الجنتين الأوليين جنتان اخريان من فضّة آنيتهما و ما فيهما، و جنتان من ذهب آنيتهما و ما فيهما(1).

و روى (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ما يقرب منه(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا تقولنّ الجنّة واحدة، إنّ اللّه تعالى يقول: وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ و لا تقولن واحدة، إن اللّه يقول: (درجات بعضها فوق بعض)(3) إنّما تفاضل القوم بالأعمال»(4).

و عنه عليه السّلام قيل له: الناس يتعجّبون منّا، كنّا إذا قلنا يخرج قوم من النار فيدخلون الجنّة، فيقولون لنا:

فيكونون مع اولياء اللّه في الجنّة؟ فقال عليه السّلام: «إنّ اللّه يقول: وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ لا و اللّه ما يكونون مع اولياء اللّه»(5).

و قيل: إنّ الجنّتين الأدنيين(4) لذرّيتهم الذين ألحقهم بهم و لأتباعهم، و إنّما جعلهما اللّه لهم إنعاما على المؤمنين، كأنّه يقول اللّه لهم: هاتان الأخريان لكم، أسكنوا فيهما من تريدون(5).

و قيل: إنّ لكلّ من المؤمن و المؤمنة أربع جنات عن يمين و يسار، و قدّام و خلف، ليتضاعف له السرور بالانتقال من جنة إلى جنة، فإنّه ابعد من الملل فيما طبع عليه من البشرية(6).

و عن القمي، عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن قوله تعالى: وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ قال: «خضراوان في الدنيا يأكل المؤمنون منهما حتى يفرغوا من الحساب»(7).

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من الآلاء الاخروية و الجنّات العديدة تُكَذِّبٰانِ.

مُدْهٰامَّتٰانِ (64) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (65) فِيهِمٰا عَيْنٰانِ نَضّٰاخَتٰانِ (66) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (67) فِيهِمٰا فٰاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّٰانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا

ص: 135


1- . تفسير روح البيان 310:9، و في النسخة: أبنيتهما و ما فيهما، و جنتان أوليان من ذهب أبنيتها.
2- . مجمع البيان 318:9، تفسير الصافي 114:5.
3- . في سورة الانعام: 165/6 وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ. (4و5) . مجمع البيان 318:9، تفسير الصافي 115:5.
4- . في النسخة: الأدونين.
5- . تفسير الرازي 133:29.
6- . تفسير روح البيان 310:9.
7- . تفسير القمي 345:2، تفسير الصافي 115:5.

تُكَذِّبٰانِ (69) ثمّ وصف سبحانه الجنّتين الادنيين(1) بصفات أدون من صفات الجنتين الاوليين، حيث وصف الاوليين بقوله: ذَوٰاتٰا أَفْنٰانٍ و وصف الأخريين بقوله:

مُدْهٰامَّتٰانِ و مخضرّتان غاية الخضرة بحيث تضربان الى السواد.

قيل: هذا الوصف يدلّ على أنّ الاخريين دون الاوليين مكانا(2) ، فالمؤمنون إذا نظروا إلى فوقهم يرون الأفنان و الأغصان تظلّهم، و إذا نظروا إلى تحتهم يرون أرضا مخضرة

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من خضرة نباتات هاتين الجنّتين، فتتمتع أبصاركم بهما، و انتفاع انوفكم بشمّ رياحينهما تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ وصف سبحانه نزاهتهما و صفائهما بقوله: تعالى:

فِيهِمٰا عَيْنٰانِ نَضّٰاخَتٰانِ و فوّارتان إلى جهة الفوق بالماء. و قيل: بالخير و البركة(3). و عن ابن عباس: بالمسك و العنبر (4)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من ربّكم بالشراب، و التذاذكم بنزهة الجنّتين تُكَذِّبٰانِ.

في مدح الرّمان

ثمّ وصف سبحانه المأكول فيهما بقوله:

فِيهِمٰا فٰاكِهَةٌ كثيرة، و ما يتلذّذ به من ثمار الأشجار، ثمّ خصّ النوعين منهما بالذكر بقوله: وَ نَخْلٌ وَ رُمّٰانٌ لفضلهما على سائر الفواكه، فانّ الرّطب و التمر فاكهة و غذاء، و الرمان فاكهة و دواء. قيل: إنّ الفواكه أرضية و شجرية، فالأرضية كالبطّيخ داخلة في قوله: مُدْهٰامَّتٰانِ و الشجرية كالتفاح و السّفرجل و العنب و غيرها(3) ، هي المراد من الآية.

عن ابن عباس: نخل الجنة جذوعها من زمرّد أخضر، و كربها من ذهب أحمر، و سعفها كسورة لأهل الجنّة، و ثمرها أمثال القلال(4) أو الدّلا، أشدّ بياضا من اللّبن، و أحلى من العسل، و ألين من الزّبد، ليس له عجم(5) ، كلّما نزعت ثمرة عادت مكانها اخرى(8).

و عنه: ما لقحت رمّانة قطّ إلاّ بحبّة من الجنّة(9).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا أكلتم الرمان، فكلوه ببعض شحمه، فانّه دباغ للمعدة، و ما من حبّة منه تقيم في جوف مؤمن إلاّ أنارت قلبه، و أخرجت شيطان الوسوسة منه أربعين يوما»(10).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من أكل رمانا أنار اللّه قلبه أربعين يوما»(6).

ص: 136


1- . في النسخة: الأدونين.
2- . تفسير روح البيان 311:9. (3و4) . تفسير روح البيان 311:9.
3- . تفسير الرازي 134:29.
4- . القلال: جمع قلّة، و هي إناء من الفخّار يشرب منه.
5- . العجم: جمع عجمة، و هي نواة التمر أو الرمان أو العنب و غيرها. (8-9-10) . تفسير روح البيان 312:9.
6- . تفسير روح البيان 312:9.

و عن الصادق عليه السّلام: «الفاكهة مائة و عشرون لونا، سيّدها الرّمّان»(1).

و عنه عليه السّلام: «خمس من فواكه الجنّة في الدنيا: الرّمّان الإمليس» (2)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

فِيهِنَّ خَيْرٰاتٌ حِسٰانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (71) حُورٌ مَقْصُورٰاتٌ فِي الْخِيٰامِ (72) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (73) ثمّ وصف سبحانه المنكوحات في الجنتين بقوله:

فِيهِنَّ خَيْرٰاتٌ أخلاقهن حِسٰانٌ وجوههنّ. عن (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أي نساء خيرات الأخلاق، حسان الوجوه»(3).

و قيل في تفسير الخيرات: لسن بدمرات و لا بخرات و لا متطلّعات و لا متشوّفات و لا ذربات و لا سليطات و لا طمحات و لا طوّافات في الطرق(4). و في تفسير الحسان: حسان الخلق و الخلق(5).

عن الصادق عليه السّلام: «هن صوالح المؤمنات العارفات»(6).

و عنه عليه السّلام: «الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا، و هنّ أجمل من حور العين»(7).

روى بعض العامة: أن حور العين يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كنّا له؛ فاذا قلن هذه [المقالة] أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصلّيات و ما صليتنّ، و نحن الصائمات و ما صمتنّ، و نحن المتصدقات و ما تصدّقتنّ، فغلبنهنّ، و اللّه غلبنهنّ(8).

و قيل: إنّ المراد من الخيرات الحور العين (9)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ و قد أنعم اللّه عليكم بالخيرات الحسان.

ثمّ بالغ سبحانه في وصف نساء الجنة بقوله:

حُورٌ و نساء بيض مَقْصُورٰاتٌ و مخدّرات فِي الْخِيٰامِ و الخدور، أو مستورات في الحجال، لا يظهرن لغير أزواجهن، و لا يخرجن من سورهنّ لغاية عظمتهنّ و عفّتهن على ما قيل(10).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «الحور هنّ البيض، و المقصورات المخدّرات في خيام الدّرّ و الياقوت

ص: 137


1- . الكافي 2/352:6، تفسير الصافي 115:5.
2- . الكافي 1/349:6، تفسير الصافي 115:5، و في النسخة: الأملس، و الرمان الإمليس، أو الإمليسي، هو رمان حلو طيب لا عجم له.
3- . مجمع البيان 319:9، تفسير الصافي 116:5.
4- . تفسير روح البيان 312:9، و الدمر: النتن، و البخر: النتن في الفم و الابط و غيرهما، و الذرية: السليطة اللسان، و الطمحات، يقال: طمح بصره إليه، كمنع: ارتفع، و الطوافات في الطرق: دوارات.
5- . تفسير روح البيان 312:9.
6- . الكافي 147/156:8، تفسير الصافي 116:5.
7- . من لا يحضره الفقيه 1432/299:3، تفسير الصافي 116:5.
8- . تفسير روح البيان 313:9.
9- . تفسير الطبري 91:27.
10- . مجمع البيان 320:9.

و المرجان، لكلّ خيمة أربعة أبواب، على كلّ باب سبعون ملكا، حجّابا لهنّ، و تأتيهنّ في كل يوم كرامة من اللّه عزّ ذكره، يبشّر اللّه عز و جلّ بهن المؤمنين»(1).

و عن ابن مسعود: لكلّ زوجة خيمة طولها ستون ميلا(2).

و قيل: إنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة عرضها ستون ميلا، في كلّ زاوية منها أهلون لا يرون إلاّ حين يطوف عليهنّ المؤمنون (3)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مع أنّه خلق لكما من النساء المقصورات المحبوسات.

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسٰانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (77) تَبٰارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاٰلِ وَ الْإِكْرٰامِ (78) ثمّ بيّن سبحانه أنّ أزواج المؤمنين كأزواج المقرّبين في البكارة و عدم مسّ غير أزواجهنّ بقوله:

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ و لم يمسّهنّ، أو لم يفتضّهن غير أزواجهن، لا إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ أحد جَانٌّ بل كلّهن باكرات غير ملموسات

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مع إنعامه عليكما بأعلى النّعم.

ثمّ بيّن سبحانه راحة المؤمنين في الجنّتين بقوله:

مُتَّكِئِينَ و معتمدين فيهما عَلىٰ رَفْرَفٍ و فرش مرتفعة، كما عن بعض(4) ، أو مجالس(5) ، كما عن ابن عباس، أو مرافق(6) و مساند خُضْرٍ لكونه أحسن الالوان وَ عَبْقَرِيٍّ و فرش حِسٰانٍ أو بسط موشّاة(4) ، أو فيها صور، و هي على كلّ تقدير في غاية الجودة

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مع أنّه قد هيّأ لكم ما به نهاية الراحة و الكرامة.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه نعمه الدنيوية و الاخروية التي كلّها من شئون رحمانيته و فيّاضيته على جميع الموجودات، وصف ذاته بعلوّ الشأن أو بكثرة الخير و البركة بقوله:

تَبٰارَكَ و تعالى شأنا، أو كثر خيرا، أو دام اِسْمُ رَبِّكَ و ما يحكي عن ذاته كالرحمن الذي افتتحت به السورة المباركة، فكيف بذاته المقدّسة، فانّ عظمة الاسم دالة على عظمة المسمّى.

ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد النّعم الدنيوية و التنبيه على فناء العالم أخبر ببقاء ذاته، و عبّر عنها بالوجه، و المراد به وجوده الواجب غير القابل للعدم و الزوال، و بعد تعداد نعمه الدائمة الاخروية أخبر بدوام اسمه المبارك في ألسنة الذاكرين في الجنّة، أو كثرة خيراته و بركاته، أو علوّ شأنه اللازم لتوجّه الخلق

ص: 138


1- . الكافي 147/156:8، تفسير الصافي 116:5.
2- . مجمع البيان 320:9، تفسير روح البيان 313:9.
3- . تفسير روح البيان 313:9. (4-5-6) . مجمع البيان 320:9.
4- . في النسخة: موشّى.

إليه و تعظيمه.

و قيل: إنّ المراد بالاسم صفته الرحمانية و الرحيمية(1). و قيل: إنّ المراد ذاته المقدسة(2).

و في كلا الموضعين نبّه على جلالته، و تنزّهه عن النقائص، و وفور كرمه، و نهاية كبريائه بقوله:

ذِي الْجَلاٰلِ وَ الْإِكْرٰامِ إرعابا للقلوب، لمكان الجلال، و إيناسا لها به لمكان الإكرام، ففي هذين الوصفين تربية للخوف و الرجاء.

قيل: من اللطائف أنّه تعالى ختم السورة السابقة ببيان سعة ملكه و كمال قدرته بقوله تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (3) و ختم هذه السورة ببيان نهاية جلالته التي من آثار سعة ملكه، و نهاية إكرامه التي من آثار كمال قدرته.

عن الباقر عليه السّلام - في هذه الآية - «نحن جلال اللّه و كرامته التي أكرم اللّه تبارك و تعالى العباد بطاعتنا و محبّتنا»(4).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الرحمن فقال عند كلّ آية فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ لا بشيء من آلائك ربّ أكذّب، فان قرأها ليلا ثمّ مات مات شهيدا، و إن قرأها نهارا ثمّ مات مات شهيدا»(5).

قيل: إن آيات أوّل هذه السورة المباركة أول ما قرئ من القرآن على قريش(6).

ص: 139


1- . تفسير روح البيان 315:9.
2- . مجمع البيان 320:9.
3- . تفسير الرازي 137:29، و الآية من سورة القمر: 55/54.
4- . تفسير القمي 346:2، تفسير الصافي 117:5.
5- . ثواب الأعمال: 116، تفسير الصافي 118:5.
6- . تفسير روح البيان 315:9.

ص: 140

في تفسير سورة الواقعة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذٰا وَقَعَتِ الْوٰاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهٰا كٰاذِبَةٌ (2) خٰافِضَةٌ رٰافِعَةٌ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الرحمن المبتدئة بالاعلان بسعة الرحمة، ثمّ عظمة القرآن المحتوية لبيان النّعم الدنيوية و الاخروية، و بيان فناء الموجودات الجسمانية، و أهوال القيامة، و كون الناس فيها فرقا ثلاث: المجرمين، و المقرّبين، و المؤمنين الأبرار، نظمت بعدها سورة الواقعة المبتدئة بإظهار المهابة ببيان أهوال القيامة، و بيان فناء الدنيا و خرابها فيها، و كون الناس فيها فرقا ثلاث: السابقين المقربين، و أصحاب اليمين، و أصحاب الشمال، و غير ذلك من المطالب المربوطة بالسورة السابقة، فابتدأها بذكر أسمائه الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه فيها ببيان أهوال القيامة الموجبة للخوف عن مقامه و إرعاب القلوب من مهابته بقوله:

إِذٰا وَقَعَتِ القيامة التي هي اَلْوٰاقِعَةُ لا محالة، أو هي الواقعة العظيمة التي من عظمتها و شدائدها لا يتصوّر لها نظير، أو الزلزلة التي تضع لهو لها كلّ ذات حمل حملها. قيل: إنّ جواب (إذا) محذوف، و التقدير: تكون أهوال و شدائد(1).

لَيْسَ لِوَقْعَتِهٰا و حدوثها نفس كٰاذِبَةٌ و منكرة إيّاها لشهودها و شهود أهوالها، أو لا يوجد نفس كاذبة لأجل شدّتها و أهوالها، و من عظمتها أنّها

خٰافِضَةٌ لأقوام، و رٰافِعَةٌ لآخرين عن ابن عباس: تخفض أقواما كانوا مرتفعين في الدنيا، و ترفع أقواما كانوا متّضعين فيها(2).

و عن السجاد عليه السّلام: «إِذٰا وَقَعَتِ الْوٰاقِعَةُ يعني القيامة خٰافِضَةٌ خفضت و اللّه بأعداء اللّه إلى النار رٰافِعَةٌ رفعت و اللّه أولياء اللّه إلى الجنّة»(3).

و قيل: إنّه بيان لنفي وجود الكاذب في ذلك اليوم(4) ، و المعنى: ليس فيها نفس كاذبة تغيّر الكلام

ص: 141


1- . تفسير الرازي 140:29، تفسير أبي السعود 188:8.
2- . مجمع البيان 324:9، تفسير روح البيان 316:9.
3- . الخصال: 95/64، تفسير الصافي 119:5.
4- . تفسير الرازي 141:29.

و تخفض كلمة أو ترفعها، أو المراد أنّ تلك الواقعة تخفض بعض الأشياء، و ترفع بعضا، تحطّ الأشقياء، و ترفع السّعداء، و تزيل الأجرام عن مقارّها بنثر الكواكب و إسقاط السماء كسفا، و تسيير الجبال في الجو كالسّحاب، و صيرورتها بعد الرفع عن الأرض [كثيبا] مهيلا منبسطا، و صيرورة الأرض كثيبا مرتفعا، و إنّما قدّم الخفض للتشديد و التهويل.

إِذٰا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَ بُسَّتِ الْجِبٰالُ بَسًّا (5) فَكٰانَتْ هَبٰاءً مُنْبَثًّا (6) وَ كُنْتُمْ أَزْوٰاجاً ثَلاٰثَةً (7) فَأَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ مٰا أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَ أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ مٰا أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَ السّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ (10) أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) ثمّ بيّن سبحانه وقت كون القيامة خافضة رافعة بقوله:

إِذٰا رُجَّتِ و زلزلت اَلْأَرْضُ رَجًّا و زلزالا عظيما، و حرّكت تحريكا شديدا بحيث لا يبقى فوقها بناء

وَ بُسَّتِ و فتّتت اَلْجِبٰالُ أو سيقت و سيّرت من أماكنها بَسًّا و تفتينا عجيبا، أو سوقا و سيرا سريعا

فَكٰانَتْ و صارت جميع الجبال بسبب ذلك التفتت أو السوق هَبٰاءً أو غبارا مرتفعا، أو كالذرّات التي ترى في شعاع الشمس، أو ما يتطاير من شرر النار، أو ما ذرّت الريح من الأوراق مُنْبَثًّا و متفرّقا و منتشرا في الجوّ.

قيل: إنّ اللّه تعالى يبعث ريحا، فتحمل الأرض و الجبال، و تضرب بعضها ببعض، و لا تزال كذلك حتى تصير غبارا(1).

وَ كُنْتُمْ أيّها الناس، من الأولين و الآخرين في ذلك اليوم أَزْوٰاجاً و أصنافا ثَلاٰثَةً حسب اختلاف عقائدهم و أعمالهم في الدنيا، أما الصنف الأول

فَأَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ و البركة و السعادة، أو أهل المنزلة الرفيعة، أو ذوي الصحائف التي يعطونها بأيمانهم، أو الجماعة الذين(2) يقومون عن يمين العرش، أو كانوا على يمين آدم في عالم الذّر و يوم الميثاق، و ما تدرون أيّها العقلاء مٰا أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ و أيّ شيء هم في الفخامة و علوّ الرّتبة؟ فتتعجبون من حسن حالهم، لكونهم مؤمنين صالحين، و إن كان لهم تبعات يقومون بها للحساب

وَ الصنف الثاني وَ أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ و الشرّ و الشقاوة، و أهل الذّلة و الشراسة و النّكبة و الدّناءة و مٰا تدرون ما أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ و أيّ شيء هم في سوء الحظّ و حطّ المنزلة؟ فتتعجبون من سوء حالهم لكونهم كفّارا طغاة مستحقّين للعذاب

وَ الثالث اَلسّٰابِقُونَ و المبادرون إلى الايمان و الطاعة، و المسارعون إلى الخيرات، و هم اَلسّٰابِقُونَ و المبادرون إلى الجنة بغير حساب، و المسارعون إلى الدرجات العاليات.

ص: 142


1- . تفسير روح البيان 317:9.
2- . في النسخة: التي.

و قيل: إنّ المراد أنّ (السّٰابِقُونَ) هم السابقون المعروفون بحسن الحال(1). أو هم الذين لا يمكن الإخبار عن عظمتهم إلاّ بأن يقال: هم السابقون، لكون حسن حالهم و علوّ مقامهم فوق أن يحيط به علم البشر(2). و قيل: إنّ (السّٰابِقُونَ) الثاني تأكيد للأول(3). و قيل: إنّ المعنى: السابقون ما السابقون؟ فحذفت كلمة (ما) لدلالة الجملتين السابقتين عليها(4). و قيل: إنّ (السابقون) الثاني مبتدأ، و خبره قوله:

أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (5) إلى اللّه بأعلى درجات القرب الذي يكون للبشر، أو المقربون إلى العرش، لأنّ درجاتهم فوق درجات غيرهم في الجنّة التي سقفها عرش الرحمن، لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فانّه أوسط الجنّة و أعلاها، و فوقه عرش الرحمن»(4).

و قيل: إنّهم مقربون إلى الجنّة حين كون أصحاب الميمنة في مقام الحساب(5).

قيل: قدّم سبحانه عند ذكر الأصناف أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة، لأنّهم الذين ينفعهم ذكر أهوال القيامة دون السابقين الذين لا يختلف حالهم بالخوف و الرجاء(6).

نقل كلام بعض

العامة و ردّه

قال بعض العامة: السابقون اربعة: سابق امّة موسى عليه السّلام و هو جزبيل(7) أو حزقيل مؤمن آل فرعون، و سابق امّة عيسى و هو حبيب النجار صاحب أنطاكية، و سابقا امّة محمد و هما أبو بكر و عمر(8).

أقول: هذا القول مما تضحك به الثكلى، لوضوح أنّ الرجلين لا سبق لهما لا في الإيمان و لا في الطاعة، للاتفاق على أنّ إسلام أبي بكر كان بعد إسلام ثلاثة أو أربعة(9) ، و إسلام عمر كان بعد إسلام تسعة و ثلاثين أو أربعين من الصحابة، مع أنّه روى الجمهور عن ابن عباس، أنّه قال: سابق هذه الامة علي بن أبي طالب عليه السّلام(10).

و قال فضل بن روزبهان الناصب: جاء في رواية أهل السنّة: «سباق الامم ثلاثة: مؤمن آل فرعون، و حبيب النجّار، و علي بن أبي طالب»(11). و فيما رواه الفخر الرازي: «هو أفضلهم»(12).

ص: 143


1- . تفسير أبي السعود 190:8.
2- . تفسير الرازي 145:29.
3- . تفسير الرازي 146:29، تفسير روح البيان 318:9، و في النسخة: تأكيد الأول. (4و5) . تفسير روح البيان 318:9.
4- . تفسير روح البيان 318:9.
5- . تفسير الرازي 146:29.
6- . تفسير الرازي 142:29
7- . في تفسير روح البيان: خربيل.
8- . تفسير روح البيان 318:9.
9- . و روى الطبري مسندا عن محمد بن سعد، قال: قلت لأبي: أ كان أبو بكر أولكم إسلاما؟ فقال: لا، و لقد أسلم قبله أكثر من خمسين. تاريخ الطبري 316:2.
10- . نهج الحق: 13/181، مناقب ابن المغازلي: 365/320، الصواعق المحرقة: 29/25، ينابيع المودة: 60، مناقب الخوارزمي: 20، شواهد التنزيل 924/213:2-931.
11- . إحقاق الحق 121:3.
12- . تفسير الرازي 57:27.

و عن الباقر عليه السّلام: «السابقون أربعة: ابن آدم المقتول، و سابق امّة موسى و هو مؤمن آل فرعون، و سابق امّة عيسى و هو حبيب النجّار، و السابق في امّة محمد و هو علي بن أبي طالب عليه السّلام»(1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «اَلسّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ * أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فيّ نزلت»(2).

و عنه عليه السّلام قال: «خلق اللّه الناس على ثلاث طبقات، و أنزلهم ثلاث منازل، و ذلك قول اللّه:

(اصحاب الميمنة و اصحاب المشأمة و السابقون) و أمّا السابقون فهم أنبياء مرسلون و غير مرسلين، جعل اللّه فيهم خمسة أرواح: روح القدس، و بها بعثوا أنبياء مرسلين و غير مرسلين، و بها علموا الأشياء، و روح الايمان و بها عبدوا اللّه، و لم يشركوا به شيئا، و روح القوّة و بها جاهدوا عدوّهم و عالجوا معاشهم، و روح الشهوة و بها أصابوا لذيذ الطعام، و نكحوا الحلال من شباب النساء، و روح البدن و بها دبّوا و درجوا، و أمّا أصحاب الميمنة، و هم المؤمنون حقّا، جعل اللّه فيهم أربعة أرواح: روح الايمان، و روح القوة، و روح الشهوة، و روح البدن - إلى أن قال - وَ أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ فهم اليهود و النصارى... جحدوا ما عرفوا، فسلبهم اللّه تعالى روح الايمان»(3) و روي عن الصادق عليه السّلام ما يقرب منه(4).

و عن (الامالي) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «قال جبرئيل: ذلك عليّ و شيعته هم السابقون إلى الجنّة، المقربون الى اللّه بكرامته [لهم]»(5).

و عن الباقر عليه السّلام - في حديث -: «نحن السابقون السابقون إلى الجنّة، و نحن الآخرون»(6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «قال أبي لاناس من الشيعة: أنتم شيعة اللّه، و أنتم أنصار اللّه، و أنتم السابقون الأولون، و السابقون الآخرون، و السابقون في الدنيا إلى ولايتنا، و السابقون في الآخرة إلى الجنّة»(7).

فِي جَنّٰاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهٰا مُتَقٰابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوٰابٍ وَ أَبٰارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لاٰ يُصَدَّعُونَ عَنْهٰا وَ لاٰ يُنْزِفُونَ (19) ثمّ قدّم سبحانه ذكر حال السابقين بقوله:

فِي جَنّٰاتِ و التقدير: هم كائنون أو مستقرّون في جنات مشتملة على اَلنَّعِيمِ و أنواع اللذات الجسمانية و الروحانية، و هم

ثُلَّةٌ و جماعة عظيمة

ص: 144


1- . مجمع البيان 325:9، تفسير الصافي 120:5.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 288/65:2، تفسير الصافي 120:5.
3- . الكافي 16/214:2.
4- . الكافي 1/213:1، تفسير الصافي 120:5.
5- . أمالي الطوسي: 104/72، تفسير الصافي 120:5.
6- . كمال الدين: 20/206، تفسير الصافي 120:5.
7- . الكافي 259/213:8، تفسير الصافي 120:5.

مِنَ المؤمنين اَلْأَوَّلِينَ من لدن آدم عليه السّلام إلى بعث الخاتم

وَ قَلِيلٌ مِنَ المؤمنين اَلْآخِرِينَ من أمّة خاتم النبيين، كلّهم قاعدون في الجنّة

عَلىٰ سُرُرٍ و مجالس مرتفعة من الأرض معدّة لحال السرور، و تجعل للملوك مَوْضُونَةٍ و منسوجة بعضها على بعض، أو منسوجة بالحرير، أو باليواقيت و الجواهر، أو بالذهب.

قيل: قوائمها من الجواهر، و أرضها من الذهب(1). عن ابن عباس: ألواحها من الذهب، مكلّلة بالزّبرجد و الدّرّ و الياقوت، مرتفعة ما لم يجئ صاحبها، فاذا أراد صاحبها الجلوس عليها تواضعت حتى يجلس عليها، ثمّ ترفع إلى موضعها(2).

حال كونهم

مُتَّكِئِينَ و معتمدين عَلَيْهٰا كالملوك، و كونهم مُتَقٰابِلِينَ و متوجّهين بعضهم إلى بعض و مستأنسين بعضهم ببعض

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ و يدور حولهم للخدمة وِلْدٰانٌ و غلمان مُخَلَّدُونَ و مبقون على شكلهم و طراوتهم أبدا.

قيل: إنّهم مخلوقون [للخدمة] في الجنة(3) ، و المخلّدون بمعنى مقرّطون، أو مسوّرون(4).

و قيل: إنّهم أطفال المشركين(5) ، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أولاد الكفّار خدّام أهل الجنّة»(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هم أولاد أهل الدنيا»(7).

و يكون طوافهم

بِأَكْوٰابٍ و أوان - لا عروة لها و لا خرطوم - من الذهب و الجواهر. و قيل: إنّها الأقداح الكبيرة (8)وَ أَبٰارِيقَ و أوان لها عرى و خرطوم تبرق من صفائها وَ كَأْسٍ مملوء من خمر جارية مِنْ مَعِينٍ و منبع في الجنّة.

و قيل: إنّ المعنى كأس مملوء من خمر ظاهره يعاين بالأبصار(9) ، و جمع الأكواب و الأباريق للدلالة على الكثرة، و إفراد الكأس لعدم حاجة شخص واحد إلى أكثر من واحد.

قيل: إنّه يصبّ الخمر من الأكواب في الأباريق، و من الأباريق في الكأس(10).

ثمّ وصف سبحانه خمر الجنة بقوله:

لاٰ يُصَدَّعُونَ و لا يصيبهم وجع الرأس المسبّب منها الصادرة عَنْهٰا كما يصيبهم ذلك من خمر الدنيا وَ لاٰ يُنْزِفُونَ و لا يسكرون.

عن ابن عبّاس: في الخمر أربعة خصال: السّكر، و الصّداع، و القيء، و البول، و ليست في خمر

ص: 145


1- . تفسير الرازي 149:29.
2- . تفسير القرطبي 202:17.
3- . مجمع البيان 327:9.
4- . تفسير روح البيان 321:9.
5- . مجمع البيان 327:9، تفسير الصافي 121:5، تفسير روح البيان 321:9.
6- . تفسير روح البيان 321:9.
7- . مجمع البيان 327:9، تفسير الصافي 121:5.
8- . مجمع البيان 327:9، تفسير الرازي 150:29.
9- . تفسير روح البيان 322:9.
10- . تفسير الرازي 150:29.

الجنّة، بل هي لذّة بلا أذى(1). و قيل: (لا ينزفون) بمعنى لا يفقدون الشراب(2).

وَ فٰاكِهَةٍ مِمّٰا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمّٰا يَشْتَهُونَ (21) وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثٰالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (24) ثمّ لمّا كان دأب شاربي خمر الدنيا أكل شيء بعد الشرب من فاكهة أو لحم أو غيرهما، ممّا يغيّر الذائقة، و ساقي الخمر يأتي للشارب بعد الشّرب بأحد الاشياء اللذيذة، عطف سبحانه على قوله:

بِأَكْوٰابٍ وَ أَبٰارِيقَ بقوله

وَ فٰاكِهَةٍ و ثمار لذيذة مِمّٰا يَتَخَيَّرُونَ و يختارون، مع أنّ كلّها خيار

وَ لَحْمِ طَيْرٍ من طيور الجنّة مِمّٰا يَشْتَهُونَ و تميل إليه طباعهم مشويا أو مطبوخا

وَ عندهم حُورٌ و نساء بيض، أو شديد بياض عيونهنّ(3) و سوادها عِينٌ و واسعات الأحداق و هنّ في الصفاء و البياض

كَأَمْثٰالِ اللُّؤْلُؤِ و الدّر اَلْمَكْنُونِ و المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي، و لم تره الأعين، أو المصون ممّا يضرّ بصفاته و شدّة بياضه، و إنّما ننعم عليهم بتلك النّعم العظام لكونها

جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الأعمال الحسنة الصالحة.

لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ تَأْثِيماً (25) إِلاّٰ قِيلاً سَلاٰماً سَلاٰماً (26) وَ أَصْحٰابُ الْيَمِينِ مٰا أَصْحٰابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَ مٰاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَ فٰاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لاٰ مَقْطُوعَةٍ وَ لاٰ مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنّٰا أَنْشَأْنٰاهُنَّ إِنْشٰاءً (35) فَجَعَلْنٰاهُنَّ أَبْكٰاراً (36) عُرُباً أَتْرٰاباً (37) لِأَصْحٰابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) ثمّ ذكر سبحانه ما تلتذ به اسماعهم في الجنّة بقوله:

لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً و باطلا، و كلاما لا ينتفع و لا يعتدّ به وَ لاٰ تَأْثِيماً و كلاما فيه نسبتهم إلى الباطل و المعصية، كقول: أنت فاسق أو سارق، أو شارب خمر محرّم، كما قيل(4).

و عن ابن عباس، قال: لا يقول بعضهم لبعض: أثمت(5).

و عن القمي: يعني الفحش و الكذب [و الغناء](6).

و الحاصل أنّه ليس في الجنة كلام لغو و لا مؤلم لا محقّقا و لا فرضا

إِلاّٰ قِيلاً و كلاما مفروض

ص: 146


1- . تفسير روح البيان 322:9.
2- . تفسير الرازي 152:29، تفسير روح البيان 322:9.
3- . في النسخة: شديدة بياض عيونهم.
4- . تفسير الرازي 158:29 و 159.
5- . مجمع البيان 328:9.
6- . تفسير القمي 348:2، تفسير الصافي 122:5.

اللغوية على الفرض المحال، و هو قول بعض لبعض عند الملاقاة في الجنة، أو حين التوجه، أو قول الملائكة لهم: سلّمت سَلاٰماً أو سلّمك اللّه سَلاٰماً.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكن يسمعون سلاما بعد سلام(1) من اللّه، كما قال سبحانه سَلاٰمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (2) أو من الملائكة، كما قال تعالى: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بٰابٍ * سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ بِمٰا صَبَرْتُمْ (3) أو بعضهم على بعض، كما قال تعالى: فَسَلاٰمٌ لَكَ مِنْ أَصْحٰابِ الْيَمِينِ (4) أو المراد أنّهم يفشون السّلام، أو لا يسمع المسلّم و المسلّم عليه إلاّ السّلام بدءا و ردّا(5).

ثمّ شرع سبحانه في بيان حسن حال اصحاب الميمنة بقوله تعالى:

وَ أَصْحٰابُ الْيَمِينِ و ما تدرون مٰا أَصْحٰابُ الْيَمِينِ و أيّ اشخاص هم في العظمة و الكرامة عند اللّه؟ هم يوم القيامة متمكّنون

فِي جنة ذات سِدْرٍ و شجر نبق، و هو عزيز عند العرب، ورقه في غاية الصّغر، و ثمره محبوب عندهم، و لكن يخالف سدر الدنيا في أنّ له شوكا كثيرا يكسر ورقه، و لولاه لكان أصفى الشجر عند العرب لكثرة أوراقه، و دخول بعضها في بعض، و سدر الجنة بلا شوك، و هو معنى مَخْضُودٍ على ما قيل(6). و قيل: إنّ معنى مخضود منعطف الأغصان إلى الأسفل لكثرة ثمره(7).

وَ ذات طَلْحٍ و شجر موز ورقه في غاية الكبر و مَنْضُودٍ بعضه فوق بعض بحيث لا يكون فصل بين أوراقه. و قيل: منضود حمله و راكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه، ليس له ساق بارز(8).

و قيل: الطلح: شجر أمّ غيلان، له أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة، تقصد العرب منه النّزهة و الزّينة(9).

و عن مجاهد: كان لأهل الطائف واد معجب، فيه الطّلح و السّدر، فقالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية(10).

وَ ذات ظِلٍّ مَمْدُودٍ عريض لا ينتقص أبدا، كظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

روى أنّ أوقات الجنة كغدرات الصيف لا يكون فيه حر و لا برد(6).

و في الحديث: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها»(7).

و عن الباقر عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث يصف أهل الجنة قال: «و يتنعمون في جنّاتهم في ظلّ ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و أطيب من ذلك»(8).

ص: 147


1- . تفسير روح البيان 323:9.
2- . يس: 58/36.
3- . الرعد: 23/13 و 24.
4- . الواقعة: 91/56.
5- . تفسير أبي السعود 192:8، تفسير روح البيان 324:9. (6-7-8-9-10) . تفسير روح البيان 324:9.
6- . مجمع البيان 330:9.
7- . تفسير روح البيان 325:9.
8- . الكافي 69/99:8، تفسير الصافي 123:5.

و قيل: إنّ الظّل الممدود كناية عن الراحة الدائمة(1).

وَ ذات مٰاءٍ كثير مَسْكُوبٍ و مصبوب من فوق أينما شاء، و كيفما أراد، فانّ العرب لم يكن لهم مياه ساكبة من العيون التي في الجبال، بل كان مياههم في الآبار و البرك.

و قيل: إن المسكوب بمعنى الجاري في غير اخدود(2). و قيل: إنّه كناية عن الكثرة(3) ، لأنّ الماء لعزّته عند العرب لا يسكب و لا يراق، بل يحفظ و يشرب.

وَ ذات فٰاكِهَةٍ دائمة مبذولة كَثِيرَةٍ * لاٰ مَقْطُوعَةٍ و معدومة في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا صيفيها لا يكون في الشتاء، و شتويها لا يكون في الصيف وَ لاٰ مَمْنُوعَةٍ عن أهلها بسبب من الأسباب.

و في الحديث: «ما قطعت ثمرة من ثمار الجنّة إلاّ أبدل اللّه مكانها ضعفين»(4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لمّا دخلت الجنة رأيت في الجنة شجرة طوبى أصلها في دار علي، و ما في الجنة قصر و لا منزل إلاّ و فيها فنن [منها] عليها(5) أسفاط حلل من سندس و استبرق، يكون للعبد المؤمن ألف ألف سفط، و في كلّ سفط مائة حلّة، و ما فيها حلّة تشبه الاخرى، على ألوان مختلفة، و ثياب أهل الجنّة وسطها ظلّ ممدود في عرض الجنة، و عرض الجنة كعرض السماء و الأرض اعدّت للذين آمنوا باللّه و رسله، يسير الراكب في ذلك الظلّ مسيرة مائتي عام فلا يقطعه، و ذلك قوله تعالى: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ و أسفلها ثمار أهل الجنة و طعامهم متدل في بيوتهم، يكون في القضيب منها مائة لون من الفاكهة ممّا رأيتم في دار الدنيا و ممّا لم تروه و ما سمعتم به و ما لم تسمعوا مثلها(6) ، و كلّما يجتنى منها شيء نبتت مكانها اخرى لا مقطوعة و لا ممنوعة»(7).

وَ ذات فُرُشٍ و بسط مَرْفُوعَةٍ القدر على السرر، أو بعضها على بعض من الحرير و الدّيباج، بألوان مختلفة، و حشوها المسك و العنبر و الكافور، رواه في (الكافي)(8) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث صفة أهل الجنّة.

و قيل: ارتفاعها كما بين السماء و الأرض(9).

ص: 148


1- . تفسير روح البيان 325:9.
2- . مجمع البيان 330:9، تفسير أبي السعود 193:8، تفسير روح البيان 325:9.
3- . تفسير الرازي 164:29، تفسير روح البيان 325:9.
4- . تفسير روح البيان 325:9.
5- . في النسخة: و فيها قتر عليها، و في تفسير القمي: و فيها فرع منها أعلاها.
6- . في تفسير الصافي: تسمعوه منها.
7- . تفسير القمي 336:2، تفسير الصافي 123:5.
8- . الكافي 69/97:8، تفسير الصافي 318:4، و 124:5.
9- . تفسير روح البيان 325:9.

و قيل: إنّ الفرش كناية عن الأزواج(1) ، و ارتفاعهنّ كونهنّ على الأرائك، أو رفعتهنّ في الجمال و الكمال، و يؤيده إرجاع الضمير إليهنّ في قوله تعالى:

إِنّٰا أَنْشَأْنٰاهُنَّ و خلقناهنّ بغير ولادة إِنْشٰاءً و خلقا عجيبا.

و قيل: إن الفرش بمعناه(2) ، و لمّا كان الفرش التي هي المضاجع دليلة بالالتزام على الأزواج، ذكر أوصافهنّ بلا تصريح بذكرهنّ إشعارا بصونهن و تخدّرهن.

و قيل: إنّ المراد بهنّ حور العين، كما عن القمي و بعض مفسري العامة(3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل من أي شيء خلقن الحور العين؟ قال: «من تربة الجنّة النورانية»(4).

و قيل: إنّ المراد نساء الدنيا، و المراد من إنشائهنّ إعادة خلقهنّ في الآخرة، لقوله تعالى

فَجَعَلْنٰاهُنَّ أَبْكٰاراً (5) و لو كان المراد حور العين كان ذلك الوصف توضيح الواضح.

و في الحديث: «هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا، جعلهن اللّه بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء، كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا»... الخبر(6).

و روى أنّه قالت عجوز من بني عامر: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يدخلني الجنّة. فقال صلّى اللّه عليه و آله مزاحا: «يا امّ فلان، إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز» فولّت و هي تبكي، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أخبروها أنّها لست يومئذ بعجوز» و قرأ: فَجَعَلْنٰاهُنَّ أَبْكٰاراً (7).

عُرُباً متحنّنات إلى أزواجهنّ، و متحبّبات إليهم.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن العروبة(8) فقال: «هي الغنجة الرضية الشهية»(9).

و عن القمي، قال: يتكلّمن بلسان العربية(10). و قال به بعض مفسري العامة(11).

أَتْرٰاباً و مستويات في السنّ لأزواجهن، أو بعضهم لبعض، لا تفاوت بينهنّ بصغر و لا كبر، كلّهنّ بنات ثلاث و ثلاثين سنة، أو متماثلات في النّظر إليهنّ. و قيل: يعني متساويات في السن(12)

لِأَصْحٰابِ الْيَمِينِ كما ذكرنا لا يعيّرون ازواجهنّ بكبر السنّ و على التفسيرين الأولين قوله:

لِأَصْحٰابِ الْيَمِينِ متعلق بقوله: إِنّٰا أَنْشَأْنٰاهُنَّ و المعنى خلقناهنّ لأصحاب اليمين.

ص: 149


1- . تفسير أبي السعود 193:8، تفسير روح البيان 325:9.
2- . تفسير روح البيان 325:9.
3- . تفسير القمي 348:2، تفسير الصافي 124:5.
4- . تفسير القمي 82:2، تفسير الصافي 124:5.
5- . تفسير روح البيان 326:9.
6- . جوامع الجامع 478، تفسير روح البيان 325:9.
7- . تفسير روح البيان 326:9.
8- . في النسخة: العربي.
9- . تفسير الصافي 124:5.
10- . تفسير القمي 348:2، تفسير الصافي 124:5.
11- . تفسير روح البيان 326:9.
12- . تفسير الرازي 166:29، تفسير أبي السعود 194:8.

ثمّ لمّا نزل قوله في السابقين السابقين

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ بكى بعض الصحابة و قال: يا نبي اللّه، نحن آمنا بك صدّقناك، و لا ينجو منّا إلا قليل! فنزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (1).

قيل: إنّ الثّلّتين من أمّة نبينا صلّى اللّه عليه و آله، الثلة الاولى الذين كانوا في زمانه، و الثلّة الاخرى الذين جاءوا بعد زمانه(2).

و في الحديث: «أ ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة؟» قالوا: نعم قال: «أ ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟» قالوا: نعم، قال: «و الذي نفس محمد بيده إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة»(3).

و في رواية عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ جميع الثّلّتين من أمّتي»(4).

أقول: الأظهر أنّ المراد من الأولين امم الأنبياء السابقين من آدم إلى زمان خاتم النبيين، و من الآخرين امّة نبينا صلّى اللّه عليه و آله، كما قلنا أولا، لوضوح أنّ في سائر الامم أصحاب اليمين أيضا، كما أنّ فيهم السابقين، و لدلالة قوله: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» و لما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنّة» ثمّ تلا هذه الآية»(5) ، لوضوح أنّ النصف الآخر و الشطر الآخر لا بدّ أن يكون من سائر الامم.

وَ أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ مٰا أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لاٰ بٰارِدٍ وَ لاٰ كَرِيمٍ (44) ثمّ ذكر سبحانه سوء حال الفرقة الثالثة الذين عبّر سبحانه عنهم أولا بأصحاب المشأمة، لأنّ فساد الدنيا إنّما هو لشؤم كفرهم و عصيانهم، و عبّر عنهم هنا بقوله:

وَ أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ قيل: لكونهم في شمال العرش(6). و قيل: في شمال المحشر. و قيل: لإعطاء كتاب أعمالهم بشمالهم(7) فيه.

و ما تدرون مٰا أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ و أيّ شيء هم في الذلّة و سوء العاقبة و الحال في الآخرة و شدّة العذاب؟ أولئك الملعونون في القيامة مستقرّون

فِي سَمُومٍ و نار نافذ في ثقب أجسادهم و منافذ أبدانهم. و قيل: إنّ السّموم ريح حارة عفنة قتّالة وَ في حَمِيمٍ و ماء بالغ منتهى الحرارة

وَ في ظِلٍّ و فيء مِنْ جنس يَحْمُومٍ و دخان أسود كالفحم، أو ظلّ ناشئ من نار

ص: 150


1- . تفسير روح البيان 320:9.
2- . تفسير روح البيان 327:9.
3- . تفسير روح البيان 320:9.
4- . مجمع البيان 331:9، تفسير الصافي 125:5.
5- . مجمع البيان 332:9، تفسير الصافي 125:5، تفسير روح البيان 327:9.
6- . لم نعثر عليه.
7- . مجمع البيان 333:9، تفسير أبى السعود 194:8، تفسير الرازي 168:29.

سوداء. و قيل: إنّ يحموم من أسماء جهنّم(1).

و لمّا كان الظلّ مطلوبا لبرده و استفادة الراحة فيه، وصف الظلّ بضدّ ما يكون مطلوبا له بقوله:

لاٰ بٰارِدٍ ذلك الظلّ وَ لاٰ كَرِيمٍ و نافع و مريح من أذى الحرّ.

قيل: لمّا كان المترفون و المتنعمون يطلبون أحسن الأهوية، و أعذب المياه و أبردها(2) ، القعود في الظلال، بيّن سبحانه أنّهم إذا طلبوا الهواء الطيب يهبّ عليهم السّموم، و إذا أرادوا دفع حرقته بالماء البارد كان ماؤهم حميما، و إذا أرادوا أن يستكنوا و يدفعوا عن أنفسهم السّموم يكونون في ظلّ من يحموم.

و قيل: إنّ السموم يحرقهم فيعطشون، فيشربون من الحميم فيقطّع أمعاءهم، و يستظلّون منه، فيكون ظلّهم من يحموم(3).

إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَ كٰانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كٰانُوا يَقُولُونَ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَ وَ آبٰاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلىٰ مِيقٰاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّٰالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشٰارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشٰارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) ثمّ بيّن سبحانه سبب استحقاقهم ذلك العذاب بقوله:

إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ اليوم في الدنيا مُتْرَفِينَ و متنعّمين بالنّعم الدنيوية فألهتهم عن ذكر اللّه و كفروا نعمه

وَ كٰانُوا مع ذلك يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ و الذنب اَلْعَظِيمِ و هو الشّرك باللّه العظيم، و يكذّبون الأنبياء الذين يدعونهم إلى التوحيد و الإقرار بالمعاد

وَ كٰانُوا يَقُولُونَ إنكارا لهم و استبعادا لقولهم بالبعث بعد الموت: أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا بعد الموت تُرٰاباً وَ عِظٰاماً نخرة بالية أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ من القبور، و مخرجون منها أحياء؟

أَ وَ يبعث آبٰاؤُنَا الْأَوَّلُونَ و أجدادنا السابقون بعد تفرّق أجزاء ترابهم في أقطار الأرض، و اختلاطها بغيرها من التراب؟ و في إعادة الاستفهام مبالغة في الإنكار.

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله:

قُلْ يا محمد لهم: نعم إِنَّ الامم اَلْأَوَّلِينَ و السابقين من لدن آدم إلى زمانكم هذا وَ الامم اَلْآخِرِينَ الذين يأتون إلى يوم فناء الدنيا

ص: 151


1- . مجمع البيان 333:9، تفسير أبى السعود 194:8، تفسير الرازي 168:29.
2- . مجمع البيان 333:9، تفسير أبى السعود 194:8، تفسير الرازي 168:29.
3- . تفسير الرازي 168:29.

لَمَجْمُوعُونَ بعد الاحياء في المحشر، و مبعوثون لا محالة إِلىٰ مِيقٰاتِ يَوْمٍ و وقت واحد معين مَعْلُومٍ عند اللّه لا يعلمه غيره، و هو يوم القيامة.

ثُمَّ بعد الإحياء و البعث إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّٰالُّونَ عن طريق الحقّ و المنحرفون عن مسلك الصواب اَلْمُكَذِّبُونَ للرسل إخبارهم بالبعث بعد الموت، و اللّه

لَآكِلُونَ بعد البعث و الجمع و دخول جهنّم مِنْ شَجَرٍ من أشجار جهنّم، أعني مِنْ شجر زَقُّومٍ و هو شجر كريه المنظر، مرّ الطعم، حار في اللّمس منتن في الرائحة، و لا يقنع منه بالأكل من تلك الأشجار و الثمار، بل يجبرون على الإكثار من أكلها

فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا كرها اَلْبُطُونَ أو لشدّة الجوع، فيعطشون من حرارة الزّقّوم و حرقته

فَشٰارِبُونَ أنتم بعد أكله عَلَيْهِ شرابا مِنَ الْحَمِيمِ و الماء الحار البالغ منتهى الحرارة

فَشٰارِبُونَ أنتم منه كرها و جبرا شُرْبَ الْهِيمِ و الجمال التي بها داء الاستسقاء، لا تروي من الماء حتى تموت، أو مثل شرب الرمال التي لا تتماسك.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الهيم، قال: «الابل»(1) و في رواية: «إنّه الرّمل»(2).

و حاصل المعنى على ما قيل: أنّه يسلّط عليكم أيّها الضالّون من الجوع ما يضطرّكم إلى أكل الزقّوم الذي هو كالمهل، فاذا ملأتم منه بطونكم، و هو في غاية المرارة و الحرارة، سلّط عليكم من العطش ما يضطرّكم إلى شرب الحميم الذي يقطّع أمعاءكم ثمّ يلزمونكم على أن تشربوا منه، و لا يكون شربكم شربا معتادا، بل يكون شربكم مثل شرب الجمل الذي به مرض العطاش، أو مثل شرب كثيب الرّمل.

هٰذٰا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنٰاكُمْ فَلَوْ لاٰ تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخٰالِقُونَ (59) ثمّ بيّن سبحانه أن ما ذكر ليس جميع عذابهم، بل هو أوّل ما يلقونه يوم القيامة بقوله:

هٰذٰا المذكور نُزُلُهُمْ و أوّل ما يهيّأ لهم يَوْمَ الدِّينِ و وقت الجزاء على الضلال و تكذيب الرسل و البعث، و بعد ما استقروا في الجحيم أشدّ و أشقّ، و فيه من التهكّم ما لا يخفى، فانّ النّزل ما يعدّ تكرمة للضيف أوّل وروده.

ثمّ أخذ سبحانه في الاستدلال على صحّة البعث و صدق الرسل في إخبارهم به بقوله:

نَحْنُ

ص: 152


1- . المحاسن: 32/576-34، معاني الأخبار: 3/150، تفسير الصافي 126:5.
2- . المحاسن: 36/577، معاني الأخبار: 3/150، تفسير الصافي 126:5.

بقدرتنا خَلَقْنٰاكُمْ أوّل مرة، فاذا علمتم ذلك فَلَوْ لاٰ تُصَدِّقُونَ الرسل في قولهم بالبعث، و هلا تقرّون بخلقكم ثاني مرّة؟ مع أنّه في نظركم أهون و أسهل، و إن أنكرتم أنّكم مخلوقون بقدرتنا، و قلتم: إنّا موجودون من المنيّ بتأثير الطبيعة أو الكواكب فيه، نقول:

أَ فَرَأَيْتُمْ و أخبروني عن مٰا تُمْنُونَ و تدفقون من المنيّ في ارحام النساء، فانّه لا بدّ له من خالق يخلقه في أصلابكم

أَ أَنْتُمْ بقدرتكم تَخْلُقُونَهُ في أصلابكم أَمْ نَحْنُ الْخٰالِقُونَ لذلك المنيّ من غير دخل شيء في خلقه و تقديره في الأصلاب و أطواره و تصويره في الأرحام؟ لا مجال لأحد إلاّ القول بأنّا خالقه، و إلا لتسلسل، فمن خلقه و صوّره في ظلمات ثلاث و أحياه، قادر على إحيائكم ثانيا بعد موتكم.

نَحْنُ قَدَّرْنٰا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثٰالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (61) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولىٰ فَلَوْ لاٰ تَذَكَّرُونَ (62) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات أن الخلق بقدرته، لا دخل لأحد فيه، أثبت أنّ الموت أيضا بقدرته، ليس قدرته على الخلق و الإحياء فقط، بل الحياة و الموت كلاهما بقدرته و إرادته بقوله:

نَحْنُ قَدَّرْنٰا و جعلنا، أو قسّمنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ بقدرتنا و مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة وَ مٰا نَحْنُ في آن من الآنات بِمَسْبُوقِينَ و غير قادرين

عَلىٰ أَنْ نعدمكم و نميتكم و نُبَدِّلَ منكم أَمْثٰالَكُمْ و نخلق عوضا منكم في مكانكم أشباهكم في الخلق.

و قيل: قوله: عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ متعلق بقوله: نَحْنُ قَدَّرْنٰا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ (1) و المعنى: نحن قدّرنا بينكم الموت، لكن لا بأن نهلككم دفعة واحدة، بل قدّرنا بأن نميتكم و نجعل بدلكم في الأرض مثلكم مدّة طويلة ثم نهلككم جميعا وَ نُنْشِئَكُمْ و نخلقكم ثانيا فِي مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ من الوقت و الزمان و فيه تحريص على الايمان و العمل الصالح، و الإعداد ليوم لا يعلم وقوعه في أي وقت.

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولىٰ و الخلق الأول في دار الدنيا، حيث إنّه خلقكم أولا من تراب، ثمّ من نطفة، ثمّ من علقة، ثمّ من مضغة ثمّ جعلكم عظاما، ثمّ كسا العظام لحما، ثمّ جعلكم خلقا ذا حياة و قوة و قدرة و شعور فَلَوْ لاٰ و هلاّ تَذَكَّرُونَ و تعتبرون أنّ من قدر عليها قدر على النشأة الاخرى و الخلق الآخر؟

في الخبر: «عجبا كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الآخرة، و هوى يرى النشأة الاولى»(2). و عن

ص: 153


1- . تفسير الرازي 179:9.
2- . تفسير روح البيان 331:9.

السجاد عليه السّلام ما يقرب منه(1).

أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّٰارِعُونَ (64) ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال على المعاد بقدرته على الخلق الأول، استدلّ بقدرته على خلق ما يحتاجون إليه في بقائهم من المأكول بقوله:

أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ و أخبروني عمّا تبذرون من الحبوب كالحنطة و الشعير و نحوهما

أَ أَنْتُمْ بقدرتكم تَزْرَعُونَهُ و تنبتونه من الأرض، و تبلغونه إلى الثمر المقصود أَمْ نَحْنُ الزّٰارِعُونَ و المنبتون له من الأرض، و المبلغون له إلى الثمر بحيث تنتفعون به و تأكلونه؟

في الحديث «لا يقولنّ أحدكم: زرعت، بل يقول: حرثت، فانّ الزارع هو اللّه تعالى»(2).

قيل: يستحبّ لمن ألقى في الأرض بذرا أن يقرأ بعد الاستعاذة: أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ إلى قوله:

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (3) ثمّ يقول اللّه الزارع و المنبت و المبلغ اللهم صلّ على محمد و آل محمد، و ارزقنا ثمره، و اجنبنا ضرره، و اجعلنا لأنعمك من الشاكرين فانّ الدعاء أمان لذلك الزرع من جميع الآفات(4).

و حاصل الآية أنّ من قدر على إنبات الزرع من الأرض، قادر على خلق الانسان من النّطفة المستديرة الباقية في القبر.

لَوْ نَشٰاءُ لَجَعَلْنٰاهُ حُطٰاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنّٰا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَ فَرَأَيْتُمُ الْمٰاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشٰاءُ جَعَلْنٰاهُ أُجٰاجاً فَلَوْ لاٰ تَشْكُرُونَ (70) ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على حفظ الزرع إلى بلوغ الثمر بقوله:

لَوْ نَشٰاءُ بعد إنبات الزرع و استوائه على سوقه لَجَعَلْنٰاهُ و صيّرناه حُطٰاماً و يابسا منكسرا متفتّتا فَظَلْتُمْ و بقيتم بسبب فساد زرعكم تَفَكَّهُونَ و تتحدّثون بعجيب ما رأيتم من فساد الزرع بعد ما كان على أحسن الحال من النمو و الاشراف على الثمر، أو تندمون على ما انفقتم فيه، و ما بذلتم فيه من غاية الجهد، و تقولون:

يا قوم

إِنّٰا لَمُغْرَمُونَ و متضرّرون بفساد زرعنا أو مهلكون بهلاك رزقنا

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ من

ص: 154


1- . الكافي 28/258:3، تفسير الصافي 127:5.
2- . مجمع البيان 337:9، تفسير الصافي 127:5، تفسير روح البيان 332:9.
3- . الواقعة: 67/56.
4- . تفسير روح البيان 332:9.

حظّنا، و ممنوعون من رزقنا.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته الكاملة بإنزال ما يشربونه من الماء العذب بقوله:

أَ فَرَأَيْتُمُ الْمٰاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ و أخبروني عنه

أَ أَنْتُمْ بقدرتكم أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ و السّحاب المتّصل بالماء أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ له بقدرتنا لشربكم الذي هو أهمّ منافعكم، و به بقائكم؟

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار قدرته بقوله:

لَوْ نَشٰاءُ عدم استقائكم جَعَلْنٰاهُ و صيّرناه أُجٰاجاً و مرّا من شدّة الملوحة، فلا يمكنكم شربه فَلَوْ لاٰ و هلاّ تَشْكُرُونَ اللّه على إكمال نعمة مأكولكم بنعمة مشروبكم؟ قيل: تصدير جزاء الشرطية الأولى باللام للدلالة على أن سلب نعمة المأكول أشدّ على [الانسان من سلب] نعمة المشروب، لكون الحاجة إلى المشروب تبع للحاجة إلى المأكول(1).

عن ابن عباس: أنّ تحت العرش بحر تنزل [منه] أرزاق الحيوانات ن يوحي اللّه إليه ما شاء من السماء إلى السماء، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، ثمّ يوحي اللّه إلى سماء الدنيا أن غربليه فتغربله، فليس من قطرة تقطر إلاّ و معها ملك يضعها موضعها، و لا تنزل من السماء قطرة إلاّ بكيل معلوم و وزن معلوم، إلاّ ما كان من يوم الطّوفان، فانّه نزل بغير كيل و وزن(2).

أَ فَرَأَيْتُمُ النّٰارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهٰا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْنٰاهٰا تَذْكِرَةً وَ مَتٰاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) ثمّ استدلّ سبحانه بالنار المنقدحة من الزّناد بقوله:

أَ فَرَأَيْتُمُ النّٰارَ الَّتِي تُورُونَ و أخبروني عن البرقة التي تقدحونها و تخرجونها من عودين يحك أحدهما بآخر

أَ أَنْتُمْ أيّها العرب أَنْشَأْتُمْ و أوجدتم بقدرتكم شَجَرَتَهٰا التي منها الزّند و الزّندة، و هي المرخ و العفار(3) ؟ و قيل: اريد مطلق الشجر الذي يصلح للإيقاد (4)أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ و الموجدون لها بقدرتنا؟

ثمّ بيّن سبحانه منافع النار بقوله:

نَحْنُ بقدرتنا و حكمتنا جَعَلْنٰاهٰا تَذْكِرَةً و منبها لصحة البعث، حيث إنّ من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر، قادر على أن يخلق في بدن الميت حرارة غريزية يحيا بها الميت، أو تذكرة لنار القيامة، فيخشى العاقل من عذاب ربّه إذا رأى النار الموقدة وَ مَتٰاعاً و منفعة مهمة لِلْمُقْوِينَ و المسافرين الذين ينزلون البوادي و القفار، فانّهم اشدّ

ص: 155


1- . تفسير روح البيان 334:9.
2- . تفسير روح البيان 334:9.
3- . المرخ: شجر سريع الوري يقتدح به. و العفار: شجر يتّخذ منه الزّناد.
4- . تفسير الرازي 184:29.

حاجة بالنار لحفظهم من السباع و دفع البرد و غير ذلك. و قيل: يعني للذين أوقدوها و قوّوها(1) ، أو للذين خلت بطونهم، أو مزاودهم(2) من الطعام، و في تقديم التذكرة إشعار بأهمية المنافع العقلية من المنافع الجسمانية.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ (75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ثمّ لمّا أثبت سبحانه التوحيد و المعاد، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتنزيهه عن الشريك و ترك إعادة الخلق للحساب بقوله تعالى:

فَسَبِّحْ يا محمد بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ و ذاته المقدسة عمّا لا يليق به من الشريك، و خلق العالم عبثا، و عدم إعادة الخلق للحساب و الجزاء، و في إضافة التسبيح إلى اسمه دلالة على نهاية عظمة المسمّى، و الظاهر أنّ المراد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتسبيح اللّه و إقران تسبيحه بذكر اسم ربّه العظيم، بأن يقول: سبحانه ربّي العظيم.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا نزلت الآية قال: «اجعلوها في ركوعكم»(3).

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و المعاد بالأدلة القاطعة، و كان ذلك دليلا على صحّة نبوة نبينا صلّى اللّه عليه و آله و صدق القرآن، و لم يبق مجال للاستدلال عليهما لوضوحهما، أقسم سبحانه عليهما بقوله:

فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ التي في السماء و مساقطها. قيل: هي مشارقها و مغاربها، أو مغاربها وحدها، أو منازلها و بروجها، أو مساقطها في اتّباع الشياطين، أو في القيامة حين انتشارها(4).

و قيل: إنّ المراد بالنجوم معاني الآيات و أحكامها التي وردت فيها.

قيل: إن كلمة (لا) زائدة يجاء بها لتأكيد القسم(5). و قيل: إنّ الأصل لأقسم بلام التأكيد، اشبعت فتحتها فصارت (لا)(6) و قيل: إنّها نافية على أصلها(7) ، و المنفي محذوف، و التقدير: فلا صحة لقول الكفار من انكار البعث، أو كون القرآن كلام البشر، اقسم عليه بمواقع النجوم: و قيل: إنّ المعنى لا اقسم لظهور الأمر و وضوحه(5) ، و إلا لكنت اقسم بمواقع النجوم، و فيه دلالة بناء عليه على ظهور الأمر و الحلف عليه. و عن الصادق عليه السّلام قال: «كان أهل الجاهلية يحلفون بها، فقال اللّه عزّ و جلّ: فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ (6).

ص: 156


1- . تفسير الرازي 184:29.
2- . المزاود: جمع مزود: وعاء الزاد.
3- . مجمع البيان 339:9، تفسير الصافي 128:5.
4- . تفسير الرازي 188:29. (5-6-7) . تفسير الرازي 187:29.
5- . تفسير أبي السعود 199:8، تفسير روح البيان 336:9.
6- . الكافي 4/450:7، تفسير الصافي 128:5.

و عنهما عليهما السّلام: «أن مواقع النجوم رجومها للشياطين، فكان المشركون يقسمون بها، فقال سبحانه:

فلا اقسم بها»(1).

و قال الطريحي: في الحديث يعني به اليمين بالبراءة من الأئمة عليهم السّلام، يحلف بها الرجل، يقول: إنّ ذلك عند اللّه عظيم(2) ، و هو قوله:

وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (3) .

قيل: إنّ المعنى: ليس تركي للقسم بمواقع النجوم لأجل أنّه ليس بقسم(4) ، أو ليس بقسم عظيم، بل لأنّي أريد بتركي القسم به أن اقسم بأعظم منه لغاية جزمي بصحّة المقسم عليه(5) ، و إنّ القسم بمواقع النجوم عظيم لو تعلمون عظمته، أو لو كنتم من أهل العلم لصدّقتموني(6).

و لمّا كان المقسم به - و هو اختلاف مواقع النجوم و مغاربها - دليلا على كمال قدرة اللّه، استدلّ بها بصورة القسم، كأنّ المعنى: لو تعلمون أنّ اختلافها ليس إلاّ لكونها تحت قدرة القادر المختار الحكيم، لاعترفتم بمدلوله، و هو توحيد اللّه و قدرته على كلّ شيء، و منه حشر الأجساد البالية.

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ (78) لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ (80) أَ فَبِهٰذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه، و هو كون القرآن كلام اللّه بقوله:

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ متلوّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله من جانب اللّه، و هو كَرِيمٌ و ذو فضل عميم و نفع عظيم في الدنيا و الآخرة، لاشتماله على اصول العلوم و صلاح المعاش و المعاد، أو حسن مرضيّ من الكتب، أو ذو كرامة عند اللّه، و لذا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و هو مكتوب

فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ و مصون عن أن تناله أيدي الثقلين، أو محفوظ عن التغيير و التبديل، أو مستور عن أعين غير المقرّبين من الملائكة، و هو اللّوح المحفوظ، و فيه ردّ على المشركين القائلين بأنّه كلام البشر، أو شعر أو سحر و كهانة.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان عظمة شأنه عنده بقوله:

لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ من الأخباث و الأحداث، و هم الملائكة المنزهون عن الادناس الجسمانية، و المؤمنون المنظفون عن الأحداث البشرية.

ص: 157


1- . مجمع البيان 341:9، تفسير الصافي 128:5.
2- . من لا يحضره الفقيه 1123/237:3، تفسير الصافي 128:5.
3- . مجمع البحرين 1961:3 - وقع -
4- . تفسير الرازي 190:29.
5- . تفسير الرازي 190:29.
6- . تفسير الرازي 189:29.

عن الكاظم عليه السّلام قال: «المصحف لا تمسّه على غير طهر و لا جنبا، و لا تمسّ خيطه، و لا تعلّقه، إنّ اللّه تعالى يقول: لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ» (1).

و في (الاحتجاج): لمّا استخلف عمر سأل عليا عليه السّلام أن يدفع إليهم القرآن فيحرّفوه فيما بينهم، فقال: يا أبا الحسن، إن جئت بالقرآن الذي جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه؟ فقال عليه السّلام:

«هيهات، ليس إلى ذلك سبيل، إنّما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجّة عليكم، و لا تقولوا يوم القيامة:

إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو تقولوا: ما جئتنا به، فانّ القرآن الذي عندي لا يمسّه إلاّ المطهّرون، و هم الأوصياء من ولدي. فقال عمر: فهل لإظهاره وقت معلوم؟ فقال: نعم، إذا قام القائم من ولدي يظهره و يحمل الناس عليه، فتجري السنة به»(2).

أقول: المراد من التحريف تغيير ما كتبه أمير المؤمنين من التفسير و التأويل، لا تغيير ألفاظ الآيات التي نزلت من السماء، و من و قوله (لا يمسّه إلاّ المطهّرون و هم الأوصياء) بيان تأويله و بطنه لا تنزيله.

و قيل: إنّه وصف الكتاب المكنون، و هو اللوح المحفوظ(3) ، و الأصحّ الأول، لقوله:

تَنْزِيلٌ و منزّل هذا القرآن مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ و في نسبة تنزيله إلى ذاته مع توصيفها بربّ العالمين دلالة على غاية عظمة القرآن المنزّل منه، و كونه من شئون ربوبيته لجميع الموجودات.

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على إهانتهم بهذا الكتاب العظيم بقوله:

أَ فَبِهٰذَا الْحَدِيثِ الذي هو أحسن الحديث، و هذا القرآن الذي هو أعظم الكتب السماوية أَنْتُمْ ايّها المشركون مُدْهِنُونَ و تكذّبون، أو تهينون

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ و معاشكم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ محمدا و كتابه، أو المراد تجعلون شكر رزقكم و نعم ربّكم تكذيبكم بمن أنزله عليكم و رزقكم نعمه بأن تنسبونها إلى الأنواء.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قرأ الواقعة فقال: (تجعلون شكركم أنّكم تكذّبون) فلمّا انصرف قال:

«إنّي قد عرفت أنّه سيقول قائل: لم قرأ هكذا قرأتها، لأني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرؤها كذلك، و كانوا إذا امطروا قالوا: امطرنا بنوء كذا، فأنزل اللّه تعالى: (تجعلون شكركم أنكم تكذبون)(4).

و عن الصادق عليه السّلام في الآية قال: (و تجعلون شكركم)(5).

أقول: في الرواية العلوية دلالة واضحة على اشتهار قراءة وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ في الصدر الأول، فيمكن أن تكون قراءة (? شكركم) تفسيرا للآية، كما فسّرها به كثير من المفسّرين، أو يكون نزول

ص: 158


1- . التهذيب 344/127:1، تفسير الصافي 129:5.
2- . الاحتجاج: 156، تفسير الصافي 129:5.
3- . تفسير الرازي 192:29.
4- . تفسير القمي 349:2، تفسير الصافي 129:5.
5- . تفسير القمي 350:2، تفسير الصافي 130:5.

الآية على النحوين (رزقكم) و (شكركم).

و الذي يهوّن الخطب أن الروايتين لا حجّية فيهما، لكونهما أخبار آحاد، و غير قطعيتين، و عدم ترتّب عمل عليهما، بل عدم جوازه، لوضوح عدم حرمة مسّ (شكركم) إذا كتب بدل (رزقكم) و عدم جواز قراءته في الصلاة، أو في غير الصلاة بقصد القرآنية.

و من المعلوم أنّ هذا النحو من الحذف و الوصل كثير في القرآن المجيد، و قد ورد أنّ الآية توبيخ لمن نسب الأمطار و الأرزاق إلى الأنواء، و هي منازل القمر، أو النجوم التي يسقط واحد منها عند طلوع الفجر في جانب المغرب، و يطلع رقيبه من ساعته في جانب المشرق، و كانت العرب تنسب الأمطار و الرياح إلى الساقط أو إلى الطالع منها، و هو الشّرك باللّه العظيم، و تكذيب لقوله: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ (1) و قوله: أَ فَرَأَيْتُمُ الْمٰاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (2) إلى غير ذلك.

فَلَوْ لاٰ إِذٰا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لٰكِنْ لاٰ تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لاٰ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (87) ثمّ بيّن سبحانه أنّهم لا يبقون على ذلك التكذيب و القول بالأنواء عند الموت و حين انكشاف حقائق الامور بقوله:

فَلَوْ لاٰ و هلاّ تقولون أيّها المشركون هذه الأقوال الشنيعة إِذٰا بَلَغَتِ أرواحكم اَلْحُلْقُومَ و مجرى النفس، و تداعت إلى الخروج من أبدانكم

وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إلى ما أنتم فيه من غمرات الموت، و لو كان ما تقولونه لكان الواجب أن تقولنه في ذلك الوقت الذي هو زمان ظهور الواقعيات و رفع حجاب الجهل و الشّبهات.

و قيل: إنّ الخطاب للحاضرين عند المحتضر(3) ، و المعنى و الحال أنّكم في ذلك الوقت حاضرون عند من بلغت الروح حلقه، و تنظرون إلى ما هو فيه من سكرات الموت، و تعطفون عليه غاية العطوفة، و تشتاقون إلى أن تنجونه من الموت و الهلاك

وَ مع كمال قربكم منه نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ في تلك الحال، و في جميع الأحوال علما و قدرة و تصرفا، حيث إنّا متولّون لجميع أحواله وَ لٰكِنْ لاٰ تُبْصِرُونَ و لا تدركون قربنا إليه و إحاطتنا به، و كونه بشراشر وجوده تحت قدرتنا و تصرفنا.

ص: 159


1- . الشورى: 28/42.
2- . الواقعة: 68/56.
3- . تفسير البيضاوي 464:2، تفسير الصافي 130:5، تفسير روح البيان 339:9.

ثمّ أكّد سبحانه تحضيضهم بتكرار كلمة التحضيض بقوله:

فَلَوْ لاٰ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ و غير مملوكين و مقهورين تحت قدرتنا، أو غير مجزيين بأعمالكم في الآخرة، تعيدون أنفسكم و

تَرْجِعُونَهٰا إلى الدنيا كما كنتم في الدنيا مختارين في الذهاب، و الإياب و القعود في الأماكن، و حاصل المعنى، و اللّه أعلم: إنّ كنتم غير مملوكين و مخلوقين لنا، أو غير مجزيين في دار الآخرة، أو غير مقيمين فيها لاستيفاء جزاء الأعمال، لم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا، لوضوح أنّه لو لا المقهورية تحت قدرتنا، أو إرادتنا بقاءكم في الآخرة للجزاء، لكنتم مختارين في الرجوع إلى الدنيا، أو إرجاع أنفسكم بعد بلوغها إلى الحلقوم إلى ابدانكم، كما كنتم مختارين في الرجوع إلى أيّ مكان تريدون، أو أي عمل تهوون إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في دعوى كونكم غير مخلوقين للّه، أو غير مجازين في الآخرة، أو غير مقيمين في العذاب، كما قالت اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النّٰارُ إِلاّٰ أَيّٰاماً مَعْدُودَةً.

فَأَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحٰانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنْ أَصْحٰابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلاٰمٌ لَكَ مِنْ أَصْحٰابِ الْيَمِينِ (91) وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضّٰالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات الحشر، و ذكر حال النّزع، بيّن حال الفرق من الناس بعد خروج روحهم، أو في المحشر بقوله تعالى:

فَأَمّٰا إِنْ كٰانَ الذي بلغت روحه حلقومه، أو حشر في المحشر مِنَ الْمُقَرَّبِينَ من اللّه، السابقين إلى الإيمان و الطاعة في الدنيا

فَرَوْحٌ و راحة دائمة، أو رحمة أبدية، أو فرح بسبب لقاء اللّه وَ رَيْحٰانٌ و رزق طيب مرضيّ، أو ورق، أو زهر طيب الرائحة وَ جَنَّةُ الخلد التي ذات نَعِيمٍ لا يوصف.

عن الصادق عليه السّلام قال: «فَرَوْحٌ وَ رَيْحٰانٌ يعني في قبره وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ يعني في الآخرة»(1).

وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ المتوفّى مِنْ جملة أَصْحٰابِ الْيَمِينِ و أهل اليمن و السعادة، أو الواقفين عن يمين العرش، أو يمين المحشر، أو الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم

فَسَلاٰمٌ و أمان ابدي من جميع الآفات و المكروهات لَكَ يا صاحب اليمن و السعادة و الكرامة مِنْ أَصْحٰابِ الْيَمِينِ.

قيل: إنّ المراد أنّ اصحاب اليمين كلّ يبشّر الآخر بالسلامة من المكاره، كما دلّ عليه قوله تعالى: لاٰ

ص: 160


1- . تفسير القمي 350:2، أمالي الصدوق: 455/365 و: 753/561، تفسير الصافي 130:5.

يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ تَأْثِيماً إِلاّٰ قِيلاً سَلاٰماً سَلاٰماً (1) أو المراد سلام التحية، و المقصود أنّ أصحاب اليمين يسلّم بعضهم على بعض(2).

و قيل: إنّ خطاب (لك) إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و المراد بيان عدم حاجتهم إلى الشفاعة، و المعنى: فسلام لك يا محمد لا يهمّك أمرهم، فانّهم في سلامة و عافية(3). أو المراد أنّ أصحاب اليمين يسلّمون عليك يا محمد، و فيه دلالة على عظمتهم، فانّ العظيم لا يسلم عليه إلاّ العظيم - كذا قيل - (4) و على أنّ أصحاب اليمين و إن كان مكانهم دون المقرّبين، إلاّ أنه لا ينقطع بينهم التسليم و المكالمة، كما أنّهم يسلمون عليك.

وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ المتوفّى مِنَ الكفار اَلْمُكَذِّبِينَ للرسل في دعوى الرسالة و التوحيد و البعث من جهة كونهم من اَلضّٰالِّينَ و المنحرفين عن طريق الحق و الهدى، أو الواقفين عن شمال العرش، أو المحشر، المؤتين كتابهم(5) بشمالهم.

عن الباقر عليه السّلام: «فهولاء المشركون»(6).

فَنُزُلٌ و ما أعد لهم حين ورودهم علينا، كائن مِنْ حَمِيمٍ و ماء متناه في الحرارة تقطّع به أمعاءهم. قيل: هذا في قبره

وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ و إلقاء في النار، و هذا في الآخرة، كما عن الصادق عليه السّلام(7).

إِنَّ هٰذٰا المذكور في هذه السورة المباركة، أو أصناف الناس و جزاؤهم في الآخرة، و اللّه لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ و الثابت الذي لا ريب فيه(8) ، و الثابت المتيقن أو حقّ الخبر(9) اليقين، أو الثابت الذي لا يطرأ عليه التبديل و التغيير. و قيل: يعني يقين حق اليقين(10).

ثمّ لمّا كان حقّية ما في السورة الكريمة ممّا يوجب تنزّهه تعالى عن الشرك و الكذب و سائر ما لا يليق بربوبيته تعالى، رتّب على بيان ما في السورة أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتسبيحه و تنزيهه بقوله تعالى:

فَسَبِّحْ يا محمد بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ و قد مرّ تفسيره أو المراد فسبّح شكرا لما أنزلت إليك من المطالب العالية التي ما نزلت على غيرك من الرسل.

و قيل: لمّا بيّن سبحانه الحقّ، و امتنع الكفّار عن قبوله، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتسبيحه و تنزيهه(11) ، و المراد إن امتنع الكفّار من قبول ما فصّل في السورة، فلا تتركهم و لا تعرض عنهم، و سبّح ربّك في نفسك، و ما

ص: 161


1- . تفسير الرازي 202:29، و الآية من سورة الواقعة: 25/56.
2- . تفسير روح البيان 341:9.
3- . تفسير الرازي 202:29.
4- . تفسير الرازي 202:29.
5- . في النسخة المؤتون كتابتهم.
6- . الكافي 1/25:2، تفسير الصافي 131:5.
7- . تفسير القمي 350:2، امالي الصدوق: 455/366، و: 753/561، تفسير الصافي 131:5.
8- . في النسخة: التي لا ريب فيها.
9- . في النسخة: بالخبر.
10- . تفسير روح البيان 342:9.
11- . تفسير الرازي 204:29.

عليك إن صدّقوك أو كذّبوك.

روي أنّ عثمان بن عفان عاد عبد اللّه بن مسعود في مرض موته، فقال له: ممّا تشتكي؟ قال: أشتكي من ذنوبي. قال: عثمان: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربّي. قال: أ فلا تدعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني.

قال: أ فلا آمر لك بعطائك؟ قال: منعتنيه و أنا محتاج إليه، تعطينيه و أنا مستغن عنه! قال: أجعل عطاءك بعدك لبناتك؟ قال: لا حاجة لهن فيه؛ لأنّي علمتهنّ سورة الواقعة يقرأنها بعد العشاء، و إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من قرأ سورة الواقعة بعد العشاء لم تصبه فاقة»(1).

و في رواية، قال: «من قرأ سورة الواقعة [في كل ليلة] لم تصبه فاقة أبدا»(2).

و في حديث آخر: «من داوم على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبدا»(3).

و عن الغزالي: أنّ قراءة هذه السورة عند الشدّة في أمر الرزق و الخصاصة شيء وردت به الأخبار المأثورة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و عن الصحابة(4).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ الواقعة كلّ ليلة قبل أن ينام لقي اللّه عزّ و جلّ و وجهه كالقمر ليلة البدر»(5).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسيرها، و أسأله التوفيق لتلاوتها.

ص: 162


1- . مجمع البيان 321:9، تفسير روح البيان 343:9.
2- . مجمع البيان 321:9، تفسير البيضاوي 465:2، تفسير أبي السعود 202:8.
3- . تفسير روح البيان 344:9.
4- . تفسير روح البيان 344:9.
5- . ثواب الأعمال: 117، مجمع البيان 321:9، تفسير الصافي 131:5.

في تفسير سورة الحديد

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لأحوال الفرق الثلاثة المقرّبين، و أصحاب اليمين، و المكذّبين الضالين، المختتمة بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتسبيح، نظمت سورة الحديد المتضمّنة لأحوال الفرق الثلاث المؤمنين المخلصين، و المنافقين، و الكفّار، المبدوءة ببيان تسبيح الموجودات، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ثمّ شرع فيها ببيان تسبيح جميع الموجودات بقوله:

سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ كأنّه قال تعالى: سبّح يا محمد باسم ربك العظيم، كما أنّ جميع الموجودات سبّحته خالصة(1) له بلسان الحال و المقال، كما سمع حنين الجذع، و ذكر بعض الجمادات. و قيل: إنّ المراد بما في السماوات و الأرض الموجودات الأحياء العقلاء، كالملائكة و حملة العرش و الجنّ و الإنس(2).

ثمّ بيّن سبحانه صفاته الموجبة لتسبيحه و تنزيهه عن النقائص الإمكانية بقوله: وَ هُوَ الْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء، و لا يغلبه شيء اَلْحَكِيمُ و العالم بجميع مصالح الأشياء و مفاسدها، و الفاعل لما هو الأصلح و الأصوب بنظام العالم

لَهُ خاصة مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و السلطنة التامة المطلقة على جميع الممكنات، و التصرّف الكلّي، و نفوذ الإرادة فيها إيجادا و إعداما، و تغييرا و تقلّبا، و من آثار سلطنته أنّه يُحْيِي الميت وَ يُمِيتُ الحيّ، كما تشاهدون في حياة النّطف و موت الحيوانات.

ثمّ نبّه على عدم اختصاص قدرته بالاحياء و الاماتة بقوله: وَ هُوَ تعالى عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء المتصوّرة و غير المتصوّرة، و كلّ فعل من الأفعال الممكنة قَدِيرٌ بذاته، بلا حاجة إلى

ص: 163


1- . في النسخة: سبّحه خالصا.
2- . تفسير الرازي 207:29.

معاون و معاضد و إله و مادة و مدة، و من المعلوم أنّ من له هذه القدرة الكاملة و العلم الشامل، و الغناء و السلطان الدائم، مستحقّا للتنزيه عن العجز و الجهل و الحاجة و الفقر بحكم العقل.

هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّٰاهِرُ وَ الْبٰاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (1) ثمّ وصف سبحانه ذاته بالأزلية و الأبدية المساوقتين لوجوب الوجود بقوله:

هُوَ تعالى الموجود اَلْأَوَّلُ الذي لا أول له، و السابق الذي لم يسبقه شيء في الوجود، و الكائن الذي لا كينونية لشيء قبل كينونيّته وَ الْآخِرُ الذي لا آخر له و لا متأخّر عنه، و الباقي الذي لا فناء له و لا زوال وَ الظّٰاهِرُ و المشهود بالصفات و الآثار وَ الْبٰاطِنُ و الخفيّ بالذات و الكنه.

قيل: يعني هو الأول في سلسلة الموجودات، و الآخر لها بحيث ينتهي إليه كلّ شيء، و الظاهر يعني الغالب على كلّ شيء، و الباطن يعني العالم ببواطن كلّ شيء(2).

و قيل: إنّه أول لأنّه قبل كلّ شيء، و إنّه آخر لأنّه بعد كلّ شيء(3) ، و إنّه ظاهر بحسب الدلائل، و إنّه باطن لأنّه لا يدرك بالحواس.

روي أنّ فاطمة الزهراء عليها السّلام دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألته خادما فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لا أدلّك على ما هو خير لك من ذلك؟» قالت: «نعم». قال: «قولي: اللهم ربّ السماوات السبع و رب العرش العظيم، و ربّنا و ربّ كلّ شيء، منزل التوراة و الانجيل و الفرقان، فالق الحبّ و النّوى، أعوذ بك من شرّ كلّ ذي شرّ أنت آخذ بناصيته - أو من شرّ كل دابة أنت آخذ بناصيتها - أنت الأول فليس قبلك شيء، و أنت الآخر فليس بعدك شيء، و أنت الظاهر فليس فوقك شيء، و أنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنّي الدين، و أغنني من الفقر»(3).

و في رواية: «صلّ على محمد و آله، و اقض عنّي الدين، و أغنني من الفقر، و يسّر لي كلّ الأمر برحمتك يا أرحم الراحمين»(4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «الذي ليس لأوّليته نهاية، و لا لآخريته حدّ و لا غاية» و قال: «الذي بطن من خفيّاته الامور، و ظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير»(5).

و قيل: يعني هو الأول بالأزلية، و الآخر بالأبدية، و الظاهر بالأحدية، و الباطن بالصّمدية(6) ، و حاصل الجميع أنّه لا ابتداء لوجوده، و لا اختتام له، لاستحالة عدمه بدوا و ختما، و كلّ شيء منه بدأ و إليه

ص: 164


1- . تفسير روح البيان 347:9.
2- . تفسير الرازي 204:29.
3- . تفسير روح البيان 346:9.
4- . بحار الأنوار 406:95.
5- . الكافي 7/109:1، تفسير الصافي 132:5.
6- . مجمع البيان 347:9، تفسير روح البيان 349:9.

يعود، و الظاهر الواضح للالوهية و الربوبية بالآثار و الدلائل، و الباطن المحتجب كنهه عن العقول و الأوهام.

قيل: يجب أن ينعدم جميع ما يكون من الجنّة و النار و أهلها حتى يصحّ كونه آخرا(1). و فيه: أنه بعد ثبوت بقاء الموجودات الاخروية، مع حكم العقل بإمكانه، لا بدّ من حمل آخريته على معنى اختصاص شأنيتها به تعالى، و إن لم يقع انعدام غيره بقدرته، أو آخريته بعد فناء الدنيا.

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ ظاهره و باطنه عَلِيمٌ لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء، إذ ما من موجود إلاّ و هو بشراشره مخلوقه و مصنوعه.

قيل: من قرأ هذه الآية بعد صلاة ركعتين خمسا و أربعين مرّة قضى اللّه حاجته(2).

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ السَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللّٰهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهٰارِ وَ يُولِجُ النَّهٰارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ (6) ثمّ بيّن سبحانه علّة كون جميع الموجودات ملكا له تعالى و تحت سلطانه بقوله:

هُوَ الإله القادر اَلَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ و أوجدهما بقدرته الكاملة و حكمته البالغة فِي مدّة مقدّرة ب سِتَّةِ أَيّٰامٍ من أيام الدنيا، أولها يوم الأحد، و آخرها يوم الجمعة، ليتعلم العباد التأنّي في الامور ثُمَّ اسْتَوىٰ و استولى بالعلم و القدرة عَلَى الْعَرْشِ المفسّر في آية الكرسيّ.

ثمّ صرّح سبحانه بإحاطته العلمية بقوله: يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ و يدخل فِي الْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ السَّمٰاءِ إلى الأرض وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا و ما يصعد من الأرض إليها، و قد مرّ تفسيرها في سورة سبأ (3)وَ هُوَ بذاته مَعَكُمْ بالاحاطة و القدرة أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ و في أيّ مكان تمكّنتم من الأرض، تحتها أو فوقها، خلوتها أو جلوتها وَ اللّٰهُ العظيم حسب الوهيته بِمٰا تَعْمَلُونَ من الطاعة و العصيان بَصِيرٌ و شهيد، فيجازيكم عليه بالثواب الجزيل و العقاب الشديد.

ثمّ أعاد سبحانه بيان سلطنته التامة المطلقة على جميع الموجودات بقوله:

لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ

ص: 165


1- . تفسير الرازي 212:29.
2- . تفسير روح البيان 350:9.
3- . تقدّم في سورة سبأ: 2/34.

وَ الْأَرْضِ تمهيدا لإثبات المعاد بقوله: وَ إِلَى اللّٰهِ القادر على كلّ شيء تُرْجَعُ و تردّ اَلْأُمُورُ كلّها من الأعمال الصالحة و الطالحة، فيجازيكم عليها، فاستعدّوا للقائه باختيار الأعمال الصالحة و أحسنها عنده.

ثمّ استدلّ سبحانه على إعادة الخلق بإعادة كلّ من الليل و النهار إلى ما كانا عليه بعد إذهاب جزء من الليل و جعله من النهار و بالعكس بقوله:

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهٰارِ بجعل ساعات منه جزءا من النهار حتى يصير خمس عشرة ساعة وَ يُولِجُ النَّهٰارَ فِي اللَّيْلِ بجعل ساعات منه جزءا من الليل حتى يصير خمس عشرة ساعة، و يعود كلّ منها إلى ما كان عليه قبل الادخال، فمن كان قادرا على إذهاب ساعات من الليل حتّى يصير تسع ساعات، ثمّ إعادة تلك الساعات الذاهبة حتّى يصير الليل مثل ما كان قبل و بالعكس، قادر على إعادة خلق الانسان بعد صيرورته ترابا.

ثمّ بعد إحاطته سبحانه بالأعمال الجوارحية، بيّن إحاطته بالأعمال الجوانحية بقوله: وَ هُوَ عَلِيمٌ و محيط غاية الإحاطة بِذٰاتِ الصُّدُورِ و المخفيّات في القلوب من العقائد الفاسدة، و النيات السيئة، و المكنونات القبيحة.

عن ابن عباس: اسم اللّه الأعظم في ستّ من أول سورة الحديد، فإذا علّقت على المقاتل في الصفّ لم ينفذ إليه حديد(1).

آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمّٰا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَ مٰا لَكُمْ لاٰ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثٰاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) ثمّ لمّا بيّن سبحانه دلائل توحيده و قدرته و علمه، و كونه مبدأ للخلق و معادهم، دعاهم إلى الايمان به و برسوله بقوله:

آمِنُوا أيّها الناس بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ عن صميم القلب ثمّ دعاهم إلى أهمّ الأعمال بقوله تعالى: وَ أَنْفِقُوا في سبيل اللّه مِمّٰا أعطاكم اللّه من فضله، و جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ و نائبين عنه في التصرّف فِيهِ من غير أن تملكوه حقيقة، فلا ينبغي أن يشقّ عليكم إنفاق ما هو في أيديكم بعنوان النيابة و الوكالة عن مالكه الحقيقي، كما لا يشقّ على أحد إنفاق مال الغير إذا أذن له فيه، أو المراد جعلكم مستخلفين ممّن كان قبلكم، حيث إنّ ما بأيديكم من الأموال كان لغيركم زمانا، ثمّ انتقل إليكم بالإرث و غيره، فإذا بخلتم به ينتقل منكم إلى غيركم، كما انتقل من غيركم إليكم، فلا يبقى

ص: 166


1- . تفسير روح البيان 353:9.

لكم عينه و لا منافعه، و أما إذا انفقتم في سبيل اللّه يبقى لكم إلى الأبد، بل يربو و يضاعف أضعافا كثيرة بشرط الإيمان الحقيقي، كما نبّه سبحانه عليه بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [إيمانا] خالصا للّه وَ أَنْفِقُوا في سبيله و طلبا لمرضاته بعنوان الزكاة أو غيرها من الوجوه البرّية لَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ كَبِيرٌ و ثواب عظيم.

قيل: نزلت الآية في غزوة تبوك(1).

ثمّ وبّخ سبحانه على ترك الايمان مع تأكّد مقتضياته بقوله:

وَ مٰا لَكُمْ و أيّ فائدة أو عذر في ترك الايمان تتصوّرون، و لذا لاٰ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ مع حكم العقل و العقلاء بوجوبه؟ وَ الرَّسُولُ المرسل من جانب اللّه لدعوتكم إلى الايمان يَدْعُوكُمْ إليه، و يبعثكم عليه بالحجج و المواعظ الحسنة لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ اللطيف بكم، المنعم عليكم وَ قَدْ أَخَذَ اللّه مِيثٰاقَكُمْ و العهد الأكيد منكم على الايمان به في عالم الذرّ، على ما قاله جمع من المفسرين(2) ، أو بإقامة الحجج و البراهين القاطعة على توحيده، و نصب الدلائل الواضحة، و تمكينكم من النظر فيها، و ذلك أوثق من الحلف و العهد اللفظي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشيء لأجل الدليل عليه، فتوحيد اللّه شيء لا يساويه شيء في كثرة الدليل عليه.

و قيل: يعني إن كنتم مصدّقين بالميثاق(3).

هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلىٰ عَبْدِهِ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللّٰهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَ مٰا لَكُمْ أَلاّٰ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ لِلّٰهِ مِيرٰاثُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ لاٰ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قٰاتَلَ أُولٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قٰاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّٰهُ الْحُسْنىٰ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) ثمّ بيّن سبحانه دليل ربوبيته و رسالة رسوله و رجوع(4) فائدة الايمان إليهم بقوله:

هُوَ الرب اللطيف اَلَّذِي يُنَزِّلُ من قبله، أو من اللّوح المحفوظ عَلىٰ عَبْدِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله بتوسّط جبرئيل آيٰاتٍ عظيمة الشأن بَيِّنٰاتٍ و واضحات الدلالات على كلّ حقّ و حقيقة، و إنّما فعل ذلك لِيُخْرِجَكُمْ أيّها الناس، أو العرب، أو الحاضرين في مكّة بسبب ذلك مِنَ الظُّلُمٰاتِ ظلمة

ص: 167


1- . تفسير روح البيان 353:9.
2- . تفسير الرازي 217:29.
3- . تفسير روح البيان 354:9.
4- . كذا الظاهر، و الكلمة غير واضحة في النسخة.

الكفر، و ظلمة الجهل، و ظلمة الأخلاق السيئة إِلَى النُّورِ نور العلم، و نور الايمان في الدنيا، و نور الرحمة و المغفرة و الرضوان في الآخرة وَ إِنَّ اللّٰهَ بِكُمْ أيّها الناس لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لا يرضى بضلالكم و حرمانكم من الخيرات الدنيوية و الاخروية، بل يحبّ أن يهديكم إلى الكمالات النفسانية و المقامات العالية العلمية و الأخلاقية في الدنيا، و الدرجات العالية في الجنّة و النّعم الدائمة في الآخرة.

ثمّ لا مهم سبحانه على ترك الانفاق في سبيله مع كثرة فوائده الدنيوية و الاخروية بقوله:

وَ مٰا لَكُمْ أيّها المؤمنون، و أيّ عذر تتصوّرون في أَلاّٰ تُنْفِقُوا و لا تصرفوا بعض أموالكم التي هي في الواقع ليست لكم فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و تحصيل مرضاته، وَ الحال أنّ اَللّٰهِ وحده مِيرٰاثُ أهل اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ أهل اَلْأَرْضِ بعد موتهم، فانّه ينتقل بموتهم جميع ما في أيديهم إلى اللّه، فإذا علم أنّه لا تبقى هذه الأموال في ملككم و تحت تصرّفكم، بل تخرج من أيديكم لا محالة بالموت، كان إخراجها بالانفاق الموجب للمدح و الثواب العظيم خير في حكم العقل و العقلاء من ترك الانفاق و إبقائها حتّى تخرج قهرا من ملككم بالموت فتستحقّون اللعن و العقاب، أو المراد إنّ أمركم بالانفاق ليس لحاجة اللّه إلى أموالكم، فانّ للّه جميع ما لأهل السماوات و الأرض، ينقل إليه بموتهم، أوله ما يرثونه من الأموال في زمان حياتهم، و إنّما يأمركم بالانفاق لحاجتكم إليه في الآخرة، و كون فوائده لكم.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وجوب الانفاق و فضيلته، بيّن أفضلية المبادرة إليه حين ضعف الاسلام بقوله:

لاٰ يَسْتَوِي مِنْكُمْ أيّها المؤمنون في الفضيلة مَنْ أَنْفَقَ من أمواله في سبيل اللّه و نصرة دين الاسلام مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ قيل: يعني فتح مكة(1). و قيل: فتح الحديبية (2)وَ من قٰاتَلَ أعداء اللّه، و من أنفق من بعد الفتح و قاتلهم أُولٰئِكَ المؤمنون المنفقون و المقاتلون من قبل الفتح، و في زمان ضعف الاسلام أَعْظَمُ دَرَجَةً و أرفع منزلة، و أعلى رتبة عند اللّه في الدنيا و الآخرة مَنْ المؤمنين اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قٰاتَلُوا و جاهدوا بأنفسهم في حال قوة الاسلام و كثرة المسلمين وَ كُلاًّ من الفريقين وَعَدَ اَللّٰهِ المثوبة اَلْحُسْنىٰ و الدرجة العليا في الجنّة.

ثمّ لمّا كان الوفاء بالوعد موقوفا على العلم بالأعمال و خصوصياتها، أخبر سبحانه بعلمه بجميع أعمال العباد بقوله: وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ من الأعمال ظاهرة و باطنة و مزاياه و خصوصياته خَبِيرٌ

ص: 168


1- . تفسير الرازي 218:29، مجمع البيان 350:9، تفسير روح البيان 356:9.
2- . مجمع البيان 350:9، تفسير روح البيان 356:9.

و بصير، فيجازيكم بحسبه.

روي أنّ جماعة من الصحابة أنفقوا نفقات كثيرة حتّى قال ناس: هؤلاء أعظم أجرا من كلّ من أنفق قديما، فنزلت الآية(1) ، و بيّن سبحانه أنّ النفقة قبل فتح مكة أعظم أجرا.

روى الفخر الرازي عن الكلبي أنّه قال: نزلت هذه الآية في فضل أبي بكر؛ لأنّه أول من أنفق المال على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سبيل اللّه. قال عمر: كنت قاعدا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده أبو بكر، و عليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال، فنزل جبرئيل فقال: ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة خلّلها في صدره، فقال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح(2) ،... انتهى.

في نقد كلام بعض

العامة في فضيلة

أبي بكر و ردّه

أقول: ليث شعري من أين علم الكلبي أنّ أبا بكر أول من أنفق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه لم يعلم له مال، بل علم فقره، فانّه كان معلم أطفال، و كان أبوه من فقراء مكّة، بل المعلوم أنّ أول من أنفق ماله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خديجة ثم أبو طالب.

و قول عمر - على فرض صدقه - لا يدلّ على نزول الآية في فضل خصوص أبي بكر، بل يدلّ على أنّ أبا بكر كان من المنفقين من قبل الفتح، و من المعلوم أنّ المنفقين قبل الفتح كثير من الصحابة، و ليس في الرواية أنّ الآية نزلت حين قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه أنفق قبل الفتح.

و أعجب من ذلك أنّ الفخر حكى عن الواحدي أنّه قال: إنّ أبا بكر كان أوّل من قاتل على الاسلام، و ذلك لأنّ عليا في أول ظهور الاسلام كان صبيا صغيرا، و لم يكن صاحب قتال، و أما أبو بكر فإنّه كان شيخا مقدّما، و كان يذبّ عن الاسلام حتى ضرب بسببه ضربا أشرف [به] على الموت(3)... انتهى.

فإنّه حين كان عليّ عليه السّلام صبيا لم يكن قتال، و لم يكن ذبّ أبي بكر - على تقدير التسليم - إلاّ باللسان، و ضربه حتى أشرف على الموت لا يدلّ على قتاله، بل يدلّ على ضعفه و عدم قدرته على الدفاع عن نفسه، فضلا عن القتال، كما أن قتل والد عمار لا يدلّ على قتاله.

و أعجب العجائب أنّهم يتمسّكون بهذه الترّهات على فضيلة أبي بكر، و يغمضون على الروايات المتواترة الدالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السّلام على جميع الصحابة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يؤولون الروايات الناصّة على خلافته و إمامته.

ثمّ اعلم أنّ تقديم ذكر من أنفق قبل الفتح على من قاتل لا يدلّ على تقدّم صاحب الانفاق على صاحب القتال، كما ادّعاه الفخر الرازي؛ لأنّ الكلام في الحثّ على الانفاق، و إنّما ذكر صاحب القتال

ص: 169


1- . تفسير روح البيان 356:9.
2- . تفسير الرازي 219:29.
3- . تفسير الرازي 219:29.

هنا لأهميته و شدّة الاعتناء به، فما قال الفخر - من أنّ صاحب الانفاق أبو بكر، و صاحب القتال عليّ عليه السّلام، و في تقديم صاحب الإنفاق إيماء إلى تقديم أبي بكر - من ترّهات الكلام.

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ بُشْرٰاكُمُ الْيَوْمَ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا ذٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الانفاق في نصرة المسلمين و مواساة فقرائهم بقوله:

مَنْ ذَا الَّذِي ينفق ماله في سبيل اللّه رجاء أن يأخذ عوضه، فإنّه كمن يُقْرِضُ اللّٰهَ ماله قَرْضاً حَسَناً و خالصا لوجه اللّه، أو يقرض اللّه مالا حسنا، و هو المال الحلال الطيب فَيُضٰاعِفَهُ اللّه، و يزيد ذلك المال أمثاله اَللّٰهَ من فضله وَ لَهُ مضافا إلى ذلك أَجْرٌ كَرِيمٌ و ثواب مرضيّ لا يوصف بالبيان.

في فضيلة الانفاق

في سبيل اللّه

روي أنه لمّا نزلت الآية جعل أبو الدّحداح يتصدّق بنصف كلّ شيء يملكه في سبيل اللّه، حتى إنّه خلع إحدى نعليه، ثمّ جاء إلى امّ الدّحداح فقال: إنّي بايعت ربّي فقالت:

ربح بيعك. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «كم من نخلة مدلاّة عذوقها في الجنّة لأبي الدّحداح»(1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى لم يسأل خلقه من حاجة به إلى ذلك، و ما كان للّه من حقّ فإنّما هو لوليّه»(2).

و عن الكاظم عليه السّلام: «نزلت في صلة الإمام»(3).

ثمّ عيّن سبحانه يوم تأدية ذلك القرض بقوله:

يَوْمَ تَرَى يا محمد، أو يا من له شأنية الرؤية اَلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ في ذلك اليوم إذا خرجوا من قبورهم، يسعون إلى المحشر و يَسْعىٰ و يسير سريعا نُورُهُمْ الحاصل لهم بإيمانهم، و معرفتهم باللّه، و أعمالهم الصالحة بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و في قدّامهم وَ بِأَيْمٰانِهِمْ لأنّهم أصحاب اليمين، و يكون مسيرهم إلى الجنّة من جانب اليمين، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أنّ كلّ مثاب يحصل له النور على قدر عمله»(4). و قيل: إنّ المراد بالنور ما يهتدى به إلى الجنّة(5).

و يقول لهم الملائكة: أيّها المؤمنون بُشْرٰاكُمُ و الخبر الذي يسرّ قلوبكم، هو أنّ لكم اَلْيَوْمَ

ص: 170


1- . تفسير روح البيان 359:9.
2- . الكافي 3/451:1، تفسير الصافي 134:5.
3- . الكافي 4/451:1، تفسير الصافي 134:5. (4و5) . تفسير الرازي 222:29.

جَنّٰاتٌ كثيرة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ حال كونكم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا أبدا، لا تخرجون منها طرفة عين ذٰلِكَ الثواب العظيم الذي أعدّه اللّه لكم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و النّيل بأعلى المطالب و أقصى المقاصد.

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونٰا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرٰاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بٰابٌ بٰاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظٰاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذٰابُ (13) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين المخلصين، بيّن سوء حال المنافقين بقوله:

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ لمّا رأوا أنفسهم في ظلمة لا يمكنهم المشي فيها، و رأوا المؤمنين تتلألأ وجوههم نورا يمشون بنورهم كالبرق الخاطف لِلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب: يا أيّها المؤمنون اُنْظُرُونٰا و استقبلونا بوجوهكم، أو انتظرونا نَقْتَبِسْ و نستضيء مِنْ نُورِكُمْ و نمشي فيه معكم قِيلَ تخييبا(1) لهم و تهكّما بهم من جهة المؤمنين: أو الملائكة أيّها المنافقون و المنافقات، ليس لكم من النور الذي حصّلناه في الدنيا بالايمان الخالص و الأعمال الحسنة حظّ و نصيب، فإن أردتم النور اِرْجِعُوا إلى الدنيا التي خلّفتموها وَرٰاءَكُمْ إن أمكنكم الرجوع إليها فَالْتَمِسُوا و حصّلوا لأنفسكم بالايمان الخالص و العلم و المعرفة نُوراً كنورنا تمشونا فيه.

قيل: إنّ الناس يكونون في ظلمة شديدة، ثمّ المؤمنون يعطون الأنوار، فإذا أسرع المؤمن في الذّهاب، قال المنافقون: انظرونا نقتبس من نوركم. فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. و هي خدعة خدع بها المنافقون. كما قال اللّه تعالى: يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ (2) فيرجعون إلى المكان الذي قسّم فيه النور، فلا يجدون شيئا فينظرون إليهم(3).

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ و بين المؤمنون بِسُورٍ و حائط عريض مرتفع، كسور البلد لَهُ بٰابٌ يدخل فيه المؤمنون، و داخل ذلك السّور الذي يلي المؤمنين و بٰاطِنُهُ و جوّه (4)فِيهِ الرَّحْمَةُ الالهية، و هي الجنّة وَ ظٰاهِرُهُ و خارجه الذي يلي المنافقين مِنْ قِبَلِهِ يأتيهم اَلْعَذٰابُ و حاصله: أنّ بين الجنّة و النار سورا و حائطا، قيل: هو حجاب الأعراف، له باب يدخل المؤمنون من ذلك الباب الجنة،

ص: 171


1- . في النسخة: تجنيتا.
2- . النساء: 142/4.
3- . تفسير الرازي 235:29، تفسير روح البيان 361:9.
4- . جوّ كلّ شيء: باطنه و داخله.

و المنافقون يمنعون من الدخول، و يبقون في العذاب و النار(1).

يُنٰادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قٰالُوا بَلىٰ وَ لٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمٰانِيُّ حَتّٰى جٰاءَ أَمْرُ اللّٰهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّٰهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاٰ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوٰاكُمُ النّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15) فلمّا رأى المنافقون أنّ المؤمنين يدخلون الجنّة

يُنٰادُونَهُمْ و يقولون لهم: أيها المؤمنون أَ لَمْ نَكُنْ في الدنيا مَعَكُمْ في العبادات و المساجد و الصلوات و الغزوات؟ فأجابهم المؤمنون و قٰالُوا بَلىٰ كنتم معنا في إظهار الايمان، و الاشتغال بالعبادات وَ لٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ و أضررتم أَنْفُسَكُمْ بالكفر و ارتكاب المعاصي، وَ تَرَبَّصْتُمْ بالتوبة، و أخّرتموها، كما عن ابن عباس(2) ، أو تربّصتم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله الموت، و قلتم: يوشك أن يموت محمد فنستريح منه(3). أو دائرة السوء، فتلتحقوا بالكفار، و تتخلّصوا من النفاق (4)وَ ارْتَبْتُمْ و شككتم في نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و صحّة البعث و القيامة، و صدق وعيد اللّه بالعذاب وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمٰانِيُّ و شغلتكم أباطيل الدنيا و شهواتها، و خدع الشيطان حَتّٰى جٰاءَ كم أَمْرُ اللّٰهِ و قضاؤه بموتكم وَ غَرَّكُمْ و خدعكم بِاللّٰهِ و أطمعكم في عفوه الشيطان اَلْغَرُورُ الخداع

فَالْيَوْمَ الذي تكونون فيه أيّها المنافقون هو يوم القيامة لاٰ يُؤْخَذُ و لا يقبل مِنْكُمْ فِدْيَةٌ و مال تدفعون به العذاب عن أنفسكم وَ لاٰ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهرا و باطنا بل مَأْوٰاكُمُ و مرجعكم اَلنّٰارُ و مسكنكم جهنّم هِيَ مَوْلاٰكُمْ و مصيركم، كما عن ابن عباس(5). أو أولى بالتصرّف فيكم، و السّكونة لكم وَ هي بِئْسَ الْمَصِيرُ و ساء المنقلب لكم.

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّٰهِ وَ مٰا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لاٰ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلُ فَطٰالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ (16)

ص: 172


1- . تفسير الرازي 226:29.
2- . تفسير الرازي 226:29.
3- . تفسير الرازي 226:29، مجمع البيان 355:9، تفسير روح البيان 362:9.
4- . تفسير الرازي 226:29.
5- . تفسير الرازي 227:29.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض أهوال القيامة حثّ المؤمنين على الخشية و الخشوع للّه بقوله:

أَ لَمْ يَأْنِ و أ ما حان لِلَّذِينَ آمَنُوا بعد أن عمّروا طويلا في الايمان، و شاهدوا آثار عظمة اللّه، و علموا عظم عصيانه و شدّة عقابه أَنْ تَخْشَعَ و تضرع و ترقّ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّٰهِ و التنبيه لعظمته، فيسارعوا إلى طاعته بلا توان و فتور، أو لموعظته وَ مٰا نَزَلَ مِنَ القرآن اَلْحَقِّ و الصدق، فيبادرون إلى العمل بما فيه من الأحكام التي منها الانفاق في سبيل اللّه.

روي أنّ المؤمنين كانوا مجدبين بمكة، فلمّا هاجروا أصابوا الرزق و النعمة، ففتروا عمّا كانوا عليه من الخشوع، فنزلت(1).

و قيل: إنّه لمّا بدا في الصحابة شيء من المزاح فنزلت(2).

عن ابن عباس: أنّ اللّه استبطأ خشوع قلوب فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة من نزول القرآن(3).

و عن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا و بين أن عوتبنا بهذه الآية أربع سنين(4).

وَ لم يأن أن لاٰ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلُ كاليهود و النصارى فَطٰالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ و الزمان الذي بينهم و بين أنبيائهم فَقَسَتْ و صلبت قُلُوبُهُمْ و ذهب عنهم الخوف ورقة القلب التي كانت تأتيهم بتلاوة التوراة و الانجيل وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ اليوم لشدّة قساوة قلوبهم فٰاسِقُونَ و خارجون عن حدود دينهم، و رافضون لما في كتبهم من الأحكام، و فيه إشعار بأنّ عدم الخشوع في أوّل الأمر يفضي إلى الفسق و الخروج من الدين في الآخر.

اِعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ الْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقٰاتِ وَ أَقْرَضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) ثمّ بالغ سبحانه في الترغيب في الخشوع، بتمثيل القلوب في إحيائها بالخشوع بالأرض الميتة التي تحيا بالمطر بقوله:

اِعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّ اللّٰهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالمطر الذي ينزل من السماء بَعْدَ مَوْتِهٰا و يبسها، فكذلك القلوب تحيا بالخشوع و الذكر و تلاوة القرآن بعد موتها بالقساوة.

و قيل: رغّب سبحانه في الخشوع و الخضوع بالتذكير بإحياء الأرض ببعث الأموات (5)قَدْ بَيَّنّٰا و أوضحنا لَكُمُ أيّها الناس اَلْآيٰاتِ التي فيها بيان موجبات سعادتكم في الدارين لَعَلَّكُمْ

ص: 173


1- . تفسير أبي السعود 208:8، تفسير روح البيان 363:9.
2- . تفسير روح البيان 364:9.
3- . تفسير أبي السعود 208:8، تفسير روح البيان 364:9.
4- . تفسير روح البيان 364:9.
5- . تفسير الرازي 230:29، تفسير روح البيان 365:9.

تَعْقِلُونَ و تفهمون ما فيها، و تعملون به، و تفوزون بالدرجات العالية، و الراحة الأبدية، و النّعم الدائمة و قيل: يعني كي تكمل عقولكم(1).

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الانفاق لوجهه بقوله:

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ و المنفقين أموالهم في وجوه الخير وَ الْمُصَّدِّقٰاتِ و المنفقات وَ هم أَقْرَضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً و سلّموا أموالهم إلى اللّه بإنفاقهم في سبيله برجاء العوض و الأجر يُضٰاعَفُ ذلك المال المنفق لَهُمْ و يتزايد مقداره في ميزانهم على ما كان في الدنيا مرّات وَ لَهُمْ مع التضاعف أَجْرٌ و ثواب كَرِيمٌ مرضيّ.

و قيل: إنّ المصدّقين بمعنى الذين تصدّقوا، و لذا صحّ عطف الجملة الفعلية عليه(2).

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَدٰاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ (19) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المؤمنين و المنافقين، بيّن حال المؤمنين و الكفّار المتظاهرين بالكفر بقوله تبارك و تعالى:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بِاللّٰهِ وَ بجميع رُسُلِهِ من آدم إلى الخاتم أُولٰئِكَ العالون في الشأن و المنزلة هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَدٰاءُ و الكاملون في الايمان، أو بمنزلة المستشهدين في سبيل اللّه في عظمة الأجر عِنْدَ رَبِّهِمْ و في حكمه و نظره.

عن السجاد عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام، قال: «ما من شيعتنا إلاّ صديق شهيد. قيل: أنّى يكون ذلك، و عامّتهم يموتون على فرشهم؟ فقال عليه السّلام: أ ما تتلو كتاب اللّه في الحديد وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَدٰاءُ قال: «لو كان الشهداء كما يقولون، كان الشهداء قليلا»(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «العارف منكم هذا الأمر، المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد و اللّه مع القائم بسيفه» ثمّ قال: «بل و اللّه كمن جاهد مع رسول اللّه بسيفه» ثم قال الثالثة: «بل و اللّه كمن استشهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فسطاطه، و فيكم آية من كتاب اللّه.

قيل: و أيّة آية؟ قال: «قول اللّه: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ... الآية» ثمّ قال: «صرتم و اللّه الصديقون و الشهداء عند ربكم»(4).

أقول: حاصل الروايات أنّ المؤمن بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و منه الولاية بمنزلة الصدّيقين و الشّهداء في المعركة لنصرة الإسلام لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ الموعودان لهم المعروفان بالعظمة و الكمال.

ص: 174


1- . تفسير الصافي 135:5.
2- . تفسير أبي السعود 209:8.
3- . المحاسن: 115/163، تفسير الصافي 136:5.
4- . مجمع البيان 359:9، تفسير الصافي 136:5.

ثمّ بيّن حال الكفّار بقوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسله وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا المنزلة أُولٰئِكَ البعداء عن الرحمة أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ و ملازمو النار، لاخلاص لهم منها.

اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلاٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطٰاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰانٌ وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ الْغُرُورِ (20) ثمّ لمّا كان الكفر و النفاق بسبب حبّ الدنيا و شهواتها، أخبر سبحانه بحقارتها و سرعة زوالها بقوله:

اِعْلَمُوا أيّها الناس أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا و مشتهياتها التي لا يراد بها التوصّل إلى السعادة الاخروية لَعِبٌ و عمل يتعب الانسان نفسه فيه بغير غرض عقلاني، كعمل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم فيه بغير فائدة وَ لَهْوٌ و اشتغال باللذائذ السريعة الزوال، السيئة العاقبة، و الوخيمة المآل، الموجبة للحسرة و الندامة، كاشتغال الشّبّان التي ليس غرضهم منها إلاّ التذاذ النفس مع الغفلة عن وخامة عاقبتها وَ زِينَةٌ و تحسين للظاهر في الأوهام مع عدم حقيقة و واقعية له، كلبس الملابس الفاخرة، و ركوب المراكب الفارهة، و السكونة في المساكن البهية الحسنة، و نظائرها كتزيين النّسوان صورهنّ للرجال وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالمزايا الجسمانية الزائلة بالأمراض و الموت، كالقوة و القدرة و الجمال و النسب و الرئاسة و نظائرها وَ تَكٰاثُرٌ و تزايد فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلاٰدِ.

و من الواضح أنّ هذه الامور الجامعة للمشتهيات النفسانية الدنيوية، ممّا يستحقرها العقل السليم، و لا يعتني به العاقل الفهيم، لسرعة زوالها، و عدم فائدة مهمة لها، مع استلزام توجّه النفس إليها فوات فوائد عظيمة باقية.

ثمّ أكّد سبحانه حقارة المشاغل الدنيوية السريعة الزوال، المفوّتة للمنافع الاخروية بضرب مثل لسرعة زوال الدنيا بقوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ و نظير مطر نافع أنبت بنزوله من الأرض اليابسة النباتات النافعة بحيث أَعْجَبَ الْكُفّٰارَ و الزارعين الذين يكفرون و يسترون البذور بالتّراب نَبٰاتُهُ و ما يخرج من الأرض بسببه.

و قيل: إنّ المراد بالكفار الكافرون باللّه، فانّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا(1). بل إعجابه مختصّ بهم، لأنّ نظرهم إلى المحسوسات، و أمّا المؤمنون فإنّهم لا يعجبهم نموّه و خضرته، و إنّما يعجبهم قدرة

ص: 175


1- . تفسير الرازي 234:29، تفسير البيضاوي 470:2.

خالقهم و ربّهم.

ثُمَّ بعد النمو و الخضرة و النّظارة يَهِيجُ و ييبس و تزول خضرته و نظارته فَتَرٰاهُ أيّها الرائي بعد مدّة قليلة مُصْفَرًّا بعد ما رأيته ناضرا مونقا ثُمَّ يَكُونُ بعد اصفراره و يبسه حُطٰاماً و منكسرا و متفتّتا وَ يكون فِي الْآخِرَةِ لمن أعجبه الدنيا و أقبل عليها، و لم يطلب بها الآخرة عَذٰابٌ شَدِيدٌ لا يقادر قدره وَ لمن طلب الآخرة بها مَغْفِرَةٌ عظيمة كائنة مِنَ اللّٰهِ العظيم الغفور وَ رِضْوٰانٌ منه تعالى، المستلزم لدخول الجنّة و التنعّم بالنّعم الدائمة.

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة شرح المشاغل الدنيوية و حاصل المثل الذي ضرب للدنيا وَ زينتها بقوله:

أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا و لذائذها إِلاّٰ مَتٰاعُ الْغُرُورِ و انتفاع يخدع الانسان الجاهل به، و فيه غاية تحقير الدنيا، و الحثّ على الإعراض عنها، و تعظيم الآخرة.

سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ ذٰلِكَ فَضْلُ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ثمّ حثّ على الجدّ في تحصيل ما ينتفع به فيها بقوله:

سٰابِقُوا أيّها المؤمنون، و اجتهدوا في التقدّم على الأقران، و سارعوا مسارعة السابقين في المضمار إِلىٰ موجبات مَغْفِرَةٍ عظيمة كائنة مِنْ رَبِّكُمْ و خالقكم اللطيف بكم، و إتيان الأعمال الموجبة للدخول في بستان وَ جَنَّةٍ وسيعة عَرْضُهٰا و سعتها كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ و سعتهما إذا بسطا أُعِدَّتْ و هيئت تلك الجنّة من قبل اللّه تعالى لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ جميعا، و لا يقول: نؤمن ببعض، و نكفر ببعض.

عن ابن عباس: إنّ الجنان أربعة، قال اللّه تعالى: وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ جَنَّتٰانِ (1) ثمّ قال: وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ (2) فذكر اللّه هنا تشبيه واحدة من الجنات الأربع في العرض بالسماوات السبع(3).

و عنه أيضا: أنّ لكلّ من المطيعين جنّة بهذه الصفة(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أن أدنى أهل الجنّة منزلا من لو نزل به الثقلان الجنّ و الانس لوسعهم طعاما و شرابا»(5).

ذٰلِكَ الثواب العظيم المذكور فَضْلُ اللّٰهِ و إنعامه يُؤْتِيهِ و يعطيه مَنْ يَشٰاءُ إعطاءه إياه

ص: 176


1- . الرحمن: 46/55.
2- . الرحمن: 62/55.
3- . تفسير الرازي 235:29.
4- . تفسير الرازي 234:29.
5- . تفسير القمي 82:2، تفسير الصافي 137:5.

من عباده المؤمنين وَ اللّٰهُ العظيم ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و الإحسان الجسيم.

في الرّد على

الأشاعرة

ثمّ لا يخفى أنّ استحقاق الأجر بالعمل لا يوجب على اللّه إعطاء الجنة بهذه الصفة، فإعطاؤها فضل من اللّه، مع أنّ الفضل لا يكون إلاّ في المحلّ القابل، و المراد بالاستحقاق القابلية التي لا يجوز البخل مع وجودها، و بالوجوب على اللّه كونه مقتضى الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه، فظهر أنّ استدلال الاشاعرة بالآية على عدم استحقاق العبد على اللّه شيئا - و أنّ كلّما يعطي اللّه بإزاء العمل تفضّل منه تعالى، يجوز له في حكم العقل منعه و البخل به - فاسد جدّا.

مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لاٰ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اللّٰهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ وَ اللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ (23) ثمّ لمّا كان الحزن على الامور الدنيوية و الفرح بها شاغلا للقلب عن الإقبال على العبادة و التوجّه إلى الآخرة، نبّه سبحانه على أنّ الحوادث كلّها بتقدير اللّه بقوله:

مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ و لا حدث عن حادث فِي الْأَرْضِ من قحط أو فساد وَ لاٰ عارضة فِي أَنْفُسِكُمْ من(1) المرض و الجرح و الصحّة و الغنى و الفقر و غيرها إِلاّٰ و هو مكتوب فِي كِتٰابٍ مكنون و لوح محفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نخلق هذه الحوادث و نَبْرَأَهٰا و نوجدها. و قيل: يعني من قبل أن نوجد الأنفس، أو نوجد الأرض(2).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ ملك الأرحام يكتب كلّ ما يصيب الانسان في الدنيا بين عينيه، فذلك قول اللّه عز و جلّ: مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ الآية(3).

عن الصادق عليه السّلام في رواية: «كتابه في السماء علمه [بها]، و كتابه في الأرض علومنا في ليلة القدر و في غيرها»(4).

إِنَّ ذٰلِكَ المذكور من كتب الحوادث من الخير و الشرّ قبل إيجادهما عَلَى اللّٰهِ العالم بالامور يَسِيرٌ و سهل، و ذلك التقدير و كتب المقدرات قبل وجودها و الإخبار بها

لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا و لأجل أن لا تحزنوا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ و لم يقبل إليكم، أو ذهب منكم من النّعم الدنيوية كالمال و الجاه

ص: 177


1- . زاد في النسخة: الفقر و.
2- . تفسير الرازي 237:29.
3- . علل الشرائع: 4/95، تفسير الصافي 138:5.
4- . تفسير القمي 351:2، تفسير الصافي 137:5.

و الصحّة و الأمان و نظائرها وَ لاٰ تَفْرَحُوا و لا تسرّوا بِمٰا آتٰاكُمْ اللّه و أعطاكم منها، فانّ من علم أنّ إقبال الدنيا و إدبارها بتقدير اللّه لا بسعي الانسان و كدّه، لا يشتدّ جزعه على إدبارها، لعلمه بكونه لصلاح أنفع منه، و لا فرحه بإقبالها لتجويزه ذهابه في أسرع وقت، أو كونه امتحانا و استدراجا.

و عن بعض الحكماء: لا التأسّف يردّ فائتا، و لا الفرح يقرّب معدوما و يديم آتيا(1).

و عن ابن مسعود: لأن أمسّ جمرة أحرقت ما أحرقت و أبقت ما أبقت، أحبّ إلي من أن أقول لشيء لم يكن ليته كان(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الزّهد كلّه بين كلمتين في(3) القرآن قال اللّه تعالى: لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ و من لم يأس على الماضي، و لم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزّهد بطرفيه»(4).

و عن السجاد عليه السّلام: «ألا إنّ الزّهد في آية من كتاب اللّه» ثمّ تلا هذه الآية(5).

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الأسى المذموم هو المانع عن التسليم لأمر اللّه، و الفرح المبغوض هو الفرح الموجب للاختيال و الفخر بقوله: وَ اللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ بل يبغض كُلَّ شخص مُخْتٰالٍ و متكبّر فَخُورٍ و متطاول على عباده، فانّ من عظمت عنده الحظوظ الدنيوية و فرح بها، اختال و افتخر بها لا محالة، و أمّا الفرح بنعمة اللّه و الشّكر عليها فغير مذموم.

عن ابن عباس، قال: ليس أحد إلاّ و هو يفرح و يحزن، و لكن اجعلوا للمصيبة صبرا، و للخير شكرا(6).

اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النّٰاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) ثمّ لمّا كان التكبّر و التطاول على الناس بالأموال و كثرة النّعم الدنيوية لعظمتها في نفسه و شدّة حبّه لها ملازما للبخل بها، وصف سبحانه المختال و الفخور بقوله:

اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأموالهم، و لا

ص: 178


1- . تفسير روح البيان 376:9.
2- . تفسير روح البيان 376:9.
3- . في نهج البلاغة: من.
4- . نهج البلاغة: 439/553، تفسير الصافي 138:5.
5- . الكافي 4/105:2، الخصال: 26/437، تفسير الصافي 138:5.
6- . تفسير الرازي 239:29.

ينفقونها على الفقراء، و في سبيل اللّه، لحبّهم لها، و لعزّتها عندهم، ثمّ لا يقنعون ببخلهم، بل يبعثون وَ يَأْمُرُونَ النّٰاسَ بِالْبُخْلِ بأموالهم و إمساكها و عدم صرفها في وجوه الخير، و هذا غاية الذمّ وَ مَنْ يَتَوَلَّ و يعرض عن الإنفاق، أو عن إطاعة أوامر اللّه و نواهيه فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن إنفاقهم و طاعتهم لا يضرّه بخلهم و عصيانهم، و لا ينفعه إنفاقهم و شكرهم و طاعتهم اَلْحَمِيدُ في ذاته، المحمود في فعاله التي منها فتح أبواب نعمه على البخلاء، لأنّ فيه نظام العالم، و امتحان الخلق، و وبال بخلهم عائد إليهم.

ثمّ لمّا كان نظام العالم بالعلم و القواعد المقرّرة لحفظ النظام و قيام العدل و قوّة دفاع الظالمين، بيّن سبحانه إتمام نعمه على الناس حثّا لهم على طاعته بقوله:

لَقَدْ أَرْسَلْنٰا إليكم أيّها الناس أَرْسَلْنٰا في كلّ عصر و قرن، مستدلّين على رسالتهم من قبلنا بِالْبَيِّنٰاتِ و المعجزات الظاهرات، و الحجج الباهرات، لئلا يشكّ أحد في صدق دعواهم الرسالة وَ أَنْزَلْنٰا إتماما للّطف مَعَهُمُ الْكِتٰابَ السماوي الذي فيه بيان كلّما يحتاجون إليه من العلوم المربوطة بمعاشهم و معادهم. عن الصادق عليه السّلام:

«الكتاب الاسم الأكبر الذي يعلم به علم كلّ شيء الذي كان مع الأنبياء...» الخبر(1). وَ الْمِيزٰانَ و ما يعيّن به الحقوق. روي أنّ جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح، و قال: مر قومك يزنوا به(2). و قيل: إنّ المراد بالميزان العدل و الانصاف(3). القمي، قال: الميزان الامام(4).

لِيَقُومَ النّٰاسُ في معاملاتهم و حقوقهم بِالْقِسْطِ و العدل، و لا يظلم أحدا في إيفاء حقوقهم و استيفائها، كما أنّه تعالى قائم في عباده بالقسط و العدل، فوفاهم حقوقهم بلا حيف وَ أَنْزَلْنٰا من السماء اَلْحَدِيدَ عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني السلاح»(5) الذي فِيهِ بَأْسٌ و عذاب شَدِيدٌ على من لم يعمل بالكتاب و أخسر الميزان.

و قيل: يعني قوّة شديدة عليهم، فان آلات الحرب كلّها من حديد(6).

عن ابن عمر: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ اللّه تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض؛ أنزل الحديد، و النار، [و الماء]، و الملح»(7).

ص: 179


1- . الكافي 3/232:1، تفسير الصافي 138:5.
2- . جوامع الجامع: 482، تفسير الصافي 139:5، تفسير الرازي 241:9، تفسير أبي السعود 212:8.
3- . تفسير جوامع الجامع: 482.
4- . تفسير القمي 274:2 و 352، تفسير الصافي 139:5.
5- . التوحيد: 266، تفسير الصافي 139:5.
6- . تفسير روح البيان 380:9.
7- . مجمع البيان 363:9، تفسير الرازي 242:29، تفسير الصافي 139:5، و تفسير روح البيان 380:9، و لم ينسباه إلى أحد من الرواة.

و عن ابن عباس: نزل آدم من الجنة و معه خمسة أشياء من الحديد: السّندان، و الكلبتان، و الميقعة(1) أو المقمعة - و المطرقة، و الإبرة(2).

و قيل: إنّ الإنزال التهيئة(3). و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنزاله خلقه»(4).

وَ فيه مع ذلك مَنٰافِعُ كثيرة لِلنّٰاسِ كافة، فانّ انتظام العالم و مصالحه بالزراعة و الحياكة و البناء و السلطنة، و لا يتمّ شيء منها إلاّ بالحديد، فلو لم يكن الحديد لاختلّ جميع مصالح العالم، و لذلك جعله اللّه تعالى بجوده و رحمته سهل الوجدان كثير الوجود ليستعملوه وَ لِيَعْلَمَ اللّٰهُ و يميّز في الخارج مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ و من يحامي عن دينه و أنبيائه بالسيوف و السّنان و النّبال، مع أنّه تعالى بِالْغَيْبِ و الستر عن نظر ذلك الناظر، و هو مؤمن به بالدلائل و اَلْمِيزٰانَ كان اَللّٰهُ العظيم لا يحتاج إلى نصرتكم و حمايتكم عن دينه و رسله؛ لأنّه قَوِيٌّ بذاته شديد البطش عَزِيزٌ و غالب غير مغلوب، و إنّما يأمركم بذلك لحاجتكم إليه، و عود نفعه إليكم في العاجل و الآجل.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً وَ إِبْرٰاهِيمَ وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتٰابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ بِرُسُلِنٰا وَ قَفَّيْنٰا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْنٰاهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنٰا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبٰانِيَّةً ابْتَدَعُوهٰا مٰا كَتَبْنٰاهٰا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغٰاءَ رِضْوٰانِ اللّٰهِ فَمٰا رَعَوْهٰا حَقَّ رِعٰايَتِهٰا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ (27) ثمّ لمّا أمر بنصرة رسله، ذكر عظمة شأن بعض اولى العزم منهم بقوله:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً الذي هو أول اولي العزم من الرسل وَ إِبْرٰاهِيمَ الذي هو الثاني منهم وَ جَعَلْنٰا و قرّرنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا و نسلهما طبقة بعد طبقة اَلنُّبُوَّةَ وَ الْكِتٰابَ و لم يك نبي إلاّ من نسلهما، و لم ينزل كتاب إلاّ إليهم فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ إلى الحقّ مؤمن بالكتاب وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ و خارجون عن طاعة اللّه؛ إما بالكفر، و إمّا بالعصيان

ثُمَّ لمّا مات نوح و إبراهيم قَفَّيْنٰا و اتّبعنا عَلىٰ آثٰارِهِمْ و أعقابهم بِرُسُلِنٰا كهود و صالح و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و أضرابهم واحدا بعد واحد حتّى انتهى إلى زمان عيسى عليه السّلام وَ قَفَّيْنٰا و اتبعناهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ و هو آخر أنبياء بني إسرائيل وَ آتَيْنٰاهُ

ص: 180


1- . الميقعة: خشبة القصّار يدقّ عليها، و المسنّ الطويل يحدّد به، و المطرقة.
2- . تفسير الرازي 241:29، تفسير أبي السعود 212:8، و تفسير روح البيان 379:9، و قد نسباه إلى القيل.
3- . تفسير الرازي 242:29.
4- . الاحتجاج: 250، تفسير الصافي 139:9.

و أعطيناه اَلْإِنْجِيلَ الذي فيه هدى و نور وَ جَعَلْنٰا فِي قُلُوبِ المؤمنين اَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في دينه بهدايته و تربيته رَأْفَةً و مودّة للمؤمنين وَ رَحْمَةً و عطوفة عليهم وَ رَهْبٰانِيَّةً و إعراضا عن الدنيا و لذائذها، و لكن ما أوجبناها عليهم، و إنّما اِبْتَدَعُوهٰا و أحدثوها من عند أنفسهم مٰا كَتَبْنٰاهٰا عَلَيْهِمْ و ما شرّعناها لهم لطريق النّدب على ما قيل (1)إِلاَّ ابْتِغٰاءَ رِضْوٰانِ اللّٰهِ و طلبا للقرب منه. قيل: إنّ الاستثناء منقطع(2) ، و المعنى: ما أوجبناها عليهم في كتابهم و لسان رسوله لهم، و لكن التزموها لابتغاء مرضاة اللّه.

عن ابن عباس: أنّ في أيام الفترة بين عيسى و محمد صلّى اللّه عليه و آله غيّر الملوك التوراة و الإنجيل، فساح قوم في الأرض و لبسوا الصّوف(3).

و عن ابن مسعود، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يا ابن مسعود، أ ما علمت أنّ بني إسرائيل تفرّقوا ثلاث و(4) سبعين فرقة كلّها في النار، إلاّ ثلاث فرق؛ فرقة آمنوا بعيسى عليه السّلام و قاتلوا أعداء اللّه في نصرته حتى قتلوا، و فرقة لم يكن لها طاقة بالقتال، فأمروا بالمعروف، و نهوا عن المنكر، و فرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين، فلبسوا العباء، و خرجوا إلى القفار و الفيافي، و هو قوله تعالى: وَ جَعَلْنٰا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ... الآية»(5).

و قيل: إنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السّلام فقاتلوا ثلاث مرات، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلاّ قليل، فخافوا أن يفتنوا في دينهم، فاختاروا الرّهبانية في قلل الجبال، فارّين بدينهم، مخلصين أنفسهم للعبادة، منتظرين للبعثة النبوية التي وعدها عيسى عليه السّلام(6).

و روي أنّ اللّه لمّا أغرق فرعون و جنوده؛ استاذن الذين كانوا آمنوا من السّحرة موسى عليه السّلام في الرجوع إلى الأهل و المال بمصر، فأذن لهم، و دعا لهم، فترهّبوا في رءوس الجبال، فكانوا أول من ترهّب، و بقيت طائفة منهم مع موسى عليه السّلام حتى توفّاه اللّه، ثمّ انقطعت الرّهبانية بعدهم حتّى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السّلام(7).

فَمٰا رَعَوْهٰا و لم يحفظوها قيل: يعني المقتدين بهم بعدهم (8)حَقَّ رِعٰايَتِهٰا و كمال حفظها، بل خلطوها و أفسدوها بالقول بالتثليث، و أكل الخنزير، و شرب الخمر، و قصد الرياء و السّمعة، و الكفر

ص: 181


1- . تفسير جوامع الجامع: 483.
2- . تفسير الرازي 246:29، تفسير البيضاوي 471:2، تفسير روح البيان 382:9.
3- . تفسير الرازي 245:29.
4- . (ثلاث و) ليست في تفسير الرازي.
5- . تفسير الرازي 245:29.
6- . تفسير أبي السعود 213:8، تفسير روح البيان 282:9. (7و8) . تفسير روح البيان 382:9.

بمحمد صلّى اللّه عليه و آله.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «من آمن بي و صدّقني، فقد رعاها حقّ رعايتها، و من لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون»(1).

فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا برسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الذي يليق بهم على رهبانيتهم و إيمانهم بالرسول، و هو المغفرة و الجنّة و الرضوان وَ الأسف أنّه كَثِيرٌ مِنْهُمْ و هم الذين ابتدعوها ثمّ ضيّعوها، و كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله فٰاسِقُونَ و خارجون عن حدّ الاتّباع و العقل.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاّٰ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتٰابِ أَلاّٰ يَقْدِرُونَ عَلىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ الذين آمنوا من أتباع عيسى عليه السّلام بمحمد صلّى اللّه عليه و آله اتوا أجرهم و كثير منهم لم يؤمنوا، دعاهم سبحانه إلى الايمان به بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعيسى و سائر الرسل اِتَّقُوا اللّٰهَ و احذروا عقابه وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ النبي الامّي يُؤْتِكُمْ اللّه بإزاء إيمانكم بسائر الرسل و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله كِفْلَيْنِ و نصيبين من الأجر مِنْ رَحْمَتِهِ و فضله و جوده وَ يَجْعَلْ لَكُمْ يوم القيامة نُوراً من بين أيديكم و أيمانكم تَمْشُونَ بِهِ في ظلمات العرصة إلى الجنّة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ جميع ذنوبكم التي ارتكبتموها في حياتكم الدنيا وَ اللّٰهُ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ بعباده المؤمنين.

عن ابن عباس: أنّه نزل في قوم جاءوا من اليمن من أهل الكتاب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أسلموا، فجعل اللّه لهم أجرين(2).

روي أنّ أهل الكتاب افتخروا بذلك على المسلمين(3).

و عن الصادق عليه السّلام كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، قال: «الحسن و الحسين عليهما السّلام و نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني إماما تاتمّون به»(4) و في رواية، قال: «و النور علي»(5).

ثمّ أنّه تعالى بعد دعوة أهل الكتاب بالايمان بنبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله، و كانوا يدّعون أنّ النبوة و الرسالة

ص: 182


1- . مجمع البيان 366:9، تفسير الصافي 140:5، تفسير روح البيان 382:9.
2- . تفسير الرازي 247:29.
3- . تفسير أبي السعود 214:8، تفسير روح البيان 387:9.
4- . تفسير القمي 352:2، الكافي 86/356:1، تفسير الصافي 140:5.
5- . مناقب ابن شهرآشوب 381:3، تفسير الصافي 140:5.

مختصة بهم، لكونهم أهل النسب الشريف، و العلم بالكتاب، بيّن سبحانه أنّ جعل الرسالة لمحمد صلّى اللّه عليه و آله الذي ليس من بني إسرائيل، و وعد الأجر الجزيل على الايمان به، و نصيبين من الأجر على إيمان أهل الكتاب به

لِئَلاّٰ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتٰابِ الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله لعدم كونه من بني إسرائيل، و المشهور زيادة (لا) و المعنى لأن يعلموا أَلاّٰ يَقْدِرُونَ عَلىٰ نيل شَيْءٍ قليل مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ و إحسانه، أو تخصيصه و حصره في أقوام معيّنين وَ يعلموا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّٰهِ و بقدرته يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ و قيل: إنّ (لا) نافية، و ضمير يَقْدِرُونَ راجع إلى الرسول و أصحابه(1) ، و المعنى: لئلا يعتقدوا أهل الكتاب أنّ محمدا و أصحابه لا يقدرون على شيء من فضل اللّه، فقد علموا أنّهم يقدرون عليه، و المراد تعظيم النبي صلّى اللّه عليه و آله في نبوته و شرعه و كتابه، و ليعتقدوا أنّ الفضل بيد اللّه و في تصرّفه و سلطانه وَ اللّٰهُ العظيم ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فانّ العظيم لا يكون فضله إلاّ عظيما.

روي: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ التسبيحات قبل أن يرقد و يقول: «إنّ فيهن آية أفضل من ألف آية»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الحديد و المجادلة في صلاة فريضة [و أدمنها]، لم يعذّبه اللّه حتّى يموت أبدا، و لا يرى في نفسه و لا في أهله سوءا أبدا، و لا خصاصة في بدنه»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام، لم يمت حتى يدرك القائم، و إن مات كان في جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»(4).

الحمد للّه الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 183


1- . تفسير الرازي 248:29.
2- . مجمع البيان 345:9، تفسير روح البيان 387:9.
3- . ثواب الاعمال: 117، مجمع البيان 345:9، تفسير الصافي 141:5.
4- . مجمع البيان 345:9، تفسير الصافي 141:5.

ص: 184

في تفسير سورة المجادلة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الحديد المتضمّنة لبيان ابتداع الرّهبانية التي من أركانها ترك التزوّج و العشرة مع الناس في دين المسيح، و المختتمة بدعوة الناس إلى الايمان بخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله الناسخ للرّهبانية بقوله: «لا رهبانية في الاسلام»(1) و الآمر بالتزويج حيث قال: «النكاح سنّتي، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»(2) الباعث إلى مصادقة الناس و المعاشرة معهم، نظمت سورة المجادلة المتضمّنة لبيان بعض أحكام الأزواج و المباشرة التي يكون الالتزام بها من شئون الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و التحذير عن موادة الكفار، فابتدأها بذكر أسمائه بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بذكر مقدّمة نسخ حكم الظهار بين الزوج و الزوجة بقوله:

قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ المرأة اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ و تكالمك يا محمد فِي شأن زَوْجِهٰا و تراجعك بالكلام فيه وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّٰهِ ممّا لقيته من ظهار زوجها وَ اللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا و تخاطبكما فيه إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ لكلّ مقال بَصِيرٌ بكلّ حال.

في بيان شأن

نزول آيات الظهار

روي أنّ خولة بنت ثعلبة(3) بن مالك بن خزاعة الخزرجية كانت حسنة البدن، رآها زوجها أوس بن الصامت أخو عبادة و هي تصلّي، فاشتهى مواقعتها، فلمّا سلّمت راودها فأبت، فغضب أوس، و كان به خفّة، و قال: أنت عليّ كظهر امّي، ثمّ ندم و قال لها: ما أظنّك إلاّ و قد حرمت عليّ، فشقّ ذلك عليها، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عائشة تغسل شقّ رأسه عليه السّلام فقالت: يا رسول اللّه، إنّ زوجي أوس بن الصامت أبو ولدي و ابن عمّي و أحبّ الناس إليّ،

ص: 185


1- . النهاية لابن الأثير 280:2.
2- . جامع الاخبار: 737/271.
3- . في النسخة: تغلب، و ما في المتن من مجمع البيان، راجع: اسد الغابة 442:5.

ظاهر منّي و ندم(1). و في رواية قالت: إنّ أوسا تزوّجني و أنا شابة مرغوب فيّ، فلمّا علا سنّي و كثر ولدي جعلني كامّه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله لها: «ما عندي في أمرك شيء»(2). و في رواية قال: «حرمت عليه» فقالت: لا تقل ذلك يا رسول اللّه، إنّ لي صبية صغار إن ضممتم إليّ جاعوا، و إن ضممتهم إلى أبيهم ضاعوا.

فأعاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قوله الأول فجعلت تراجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقالتها الاولى، و كلّما قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوله الأول هتفت و قالت: أشكو إلى اللّه ممّا لقيت من زوجي حال فاقتي و وحدتي، و قد طالت معه صحبتي، و نفضت له بطني. و كانت ترفع في كلّ ذلك رأسها إلى السماء و تقول: اللهمّ أنزل على لسان نبيّك صلّى اللّه عليه و آله، فقامت عائشة تغسل الشّقّ الآخر من رأسه و هي ما زالت في مراجعة الكلام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بثّ الشكوى إلى اللّه حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات الأربع(3).

و في رواية: كلّما قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «حرمت عليه» هتفت و شكت إلى اللّه، فبينما هي كذلك إذ تربّد وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت هذه الآيات(4) ، و قريب من الروايتين مروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و الصادقين عليهما السّلام(5).

اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسٰائِهِمْ مٰا هُنَّ أُمَّهٰاتِهِمْ إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ إِلاَّ اللاّٰئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللّٰهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَ الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا ذٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (4) ثمّ بيّن اللّه بطلان حكم الجاهلية في امرأة ظاهر منها زوجها أنها تصير حراما أبديا على زوجها، و نسخه بقوله:

اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ أيّها المسلمون، و يقولون لأزواجهم: أنت عليّ كظهر أمّي، اجتنابا مِنْ نِسٰائِهِمْ و أزواجهم، لا يحرمن على أزواجهنّ بجهة الامومة، و مٰا هُنَّ أُمَّهٰاتِهِمْ لا حقيقة و لا تنزيلا من اللّه إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ الحقيقية، و ما والداتهم الواقعية إِلاَّ النساء اَللاّٰئِي

ص: 186


1- . تفسير روح البيان 388:9، مجمع البيان 371:9.
2- . تفسير الرازي 249:29.
3- . تفسير روح البيان 388:9.
4- . تفسير الرازي 249:29.
5- . تفسير القمي 353:2، الكافي 1/152:6، من لا يحضره الفقيه 1641/340:3، تفسير الصافي 143:5.

وَلَدْنَهُمْ و وضعنهم من بطنهنّ على الأرض وَ إِنَّهُمْ الأزواج لَيَقُولُونَ بقولهم: إنّهنّ كامّهم في الحرمة الأبدية مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ و مخالفا للشرع و العقل من الكلام وَ زُوراً و باطلا وَ إِنَّ اللّٰهَ لَعَفُوٌّ و كثير التجاوز عن الذنوب التي منها هذا القول، إن تاب أو إن لم يتب غَفُورٌ و ستّار للمعاصي بجوده و كرمه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم تأثيره [في] تأييد حرمة الزوجة على الزوج، بيّن ما يترتّب عليه في دين الاسلام بقوله:

وَ الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ و يقولون لهنّ هذا القول المنكر ثُمَّ يندمون و يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا من الظّهار، و يرجعون عمّا عزموا عليه من الاجتناب من الزوجة بقولهم ذلك إلى إلغائه و الاستمتاع منها. و قيل: يعني يعودون إلى ما حرّموا على أنفسهم بلفظ الظّهار من الاستمتاع(1) ، و عليه نزّل القول منزلة المقول فيه فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و اعتاق إنسان مملوك من قيد الملكية واجب عليه، سواء أ كان المملوك ذكرا أو انثى، صغيرا أو كبيرا، مؤمنا أو كافرا، و لا بدّ أن يكون التحرير مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا و يتلاقيا بشهوة و استمتاع ذٰلِكُمْ التحرير أيّها المؤمنون ليس لتعريضكم للثواب بالتحرير، بل الغرض إنّكم تُوعَظُونَ و تنزجرون رَقَبَةٍ ممّا ارتكبتم من القول المنكر و الزّور، و ترتدعون عنه، أو تؤمرون به وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ من الظّهار و التكفير و نحو ذلك من القليل و الكثير خَبِيرٌ و مطّلع، و مجازيكم عليه

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ من المظاهرين الرقبة بأن لا يملكها و لا يمكنه تملّكها بالعوض لفقره، أو لعدم وجودها(2) في بلده و نواحيه حين إرادة التكفير فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ هلاليين مُتَتٰابِعَيْنِ واجب عليه بأن يصوم شهرا هلاليا و يوما من الشهر الآخر متواليين بلا فصل بين الأيام، ثمّ يتمّ الشهر الآخر متواليا أو متفرقا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا و يتجامعا(3) و يتقاربا بشهوة فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صيام شهرين بالكيفية المذكورة، و لم يطق ذلك لضعف البنية أو للهرم أو للمرض أو لخوفه فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً و إشباع هذا العدد من الفقراء بالإباحة أو بتمليك كلّ واحد مدّا من الطعام قبل أن يتماسّا، و إنّما جعلنا ذٰلِكَ الحكم الموافق للحكمة بالبيان المعجز لِتُؤْمِنُوا و تصدّقوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ و لا تستمرّوا على حكم الجاهلية، من القول بأنّ الظّهار أشدّ أنواع الطلاق، و كونه محرّما أبديا للزوجة وَ تِلْكَ الأحكام حُدُودُ اللّٰهِ و شرائعه المقرّرة في دينه الذي هو مرتضيه(4) ، لا بدّ من إطاعتها و العمل بها وَ لِلْكٰافِرِينَ و المنكرين لها في الآخرة عَذٰابٌ أَلِيمٌ و موجع غايته.

ص: 187


1- . تفسير الرازي 256:29، تفسير أبي السعود 216:8.
2- . في النسخة: وجوده.
3- . في النسخة: يجامعا.
4- . في النسخة: مرضيّة.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أرسل إلى أوس بن الصامت، و قال: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال الشيطان:

فهل من رخصة؟ فقال: نعم. و قرأ عليه الأربع آيات، و قال له: هل تستطيع العتق؟ فقال: لا و اللّه(1). و في رواية: قال: إذن يذهب جلّ مالي.

فقال: «هل تستطيع الصوم؟» فقال: لا و اللّه، لو لا إنّي كل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري و لظننت أني أموت(2). و في رواية قال: فصيام شهرين متتابعين؟ قال: يا رسول اللّه، إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كلّ بصري، و خشيت أن تعشو عيني.

فقال له: «هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه، إلاّ أن تعينني منك بصدقة، فأعانه بخمسة عشر صاعا، و أخرج أوس من عنده مثله(3). و في رواية: قال صلّى اللّه عليه و آله: «اعينك بخمسة عشر صاعا، و أنا أدعو لك بالبركة» و تلك البركة بقيت في آله(4).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ امراة من المسلمات أتت النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، إنّ فلانا زوجي، و قد نثرت له بطني(3) ، و أعنته على دنياه و آخرته، لم ير منّي مكروها، أشكوه إلى اللّه و إليك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: ممّا تشتكيه؟ قال: إنّه قال أنت عليّ كظهر امّي، و قد أخرجني من منزلي، فانظر في أمري.

فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أنزل اللّه تبارك و تعالى كتابا أقضي فيه بينك و بين زوجك، و أنا أكره أن أكون من المتكلّفين، فجعلت تبكي و تشتكي ما بها إلى اللّه عز و جلّ، و إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و انصرفت.

قال: «فسمع اللّه مجادلتها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في زوجها، و ما شكت إليه، فأنزل اللّه عز و جلّ ذلك قرآنا: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ * قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا يعني محاورتها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في زوجها إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ... الآية».

قال: «فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المرأة فأتته، فقال لها: جيئيني بزوجك، فأتته به، فقال له: اقلت لامرأتك هذه أنت عليّ كظهر امّي؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قد أنزل اللّه تبارك و تعالى فيك و في امرأتك قرآنا، فقرأ عليه ما أنزل اللّه قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ إلى قوله: لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

ص: 188


1- . تفسير الرازي 249:29.
2- . تفسير الرازي 249:29، تفسير روح البيان 395:9. (3و4) . مجمع البيان 371:9، تفسير روح البيان 395:9.
3- . نثرت المرأة بطنها: كثر ولدها.

ثمّ قال: فضمّ إليك امرأتك، فانّك قد قلت منكرا من القول و زورا، و قد عفا اللّه عنك و غفر لك و لا تعد. قال: فانصرف الرجل و هو نادم على ما قاله لامرأته.

و كره اللّه ذلك للمؤمنين بعد، و أنزل اللّه اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا يعني ما قال الرجل الأوّل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي. قال: فمن قال بعد ما عفا اللّه و غفر للرجل الأول، فانّ عليه فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا يعني مجامعتها ذٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فجعل اللّه عقوبة من ظاهر بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا، ثمّ قال: ذٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ قال: هذا حدّ الظهار».

ثمّ قال: «لا يكون ظهار في يمين و إضرار، و لا في غضب، و لا يكون ظهار إلاّ على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين»(1).

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَمٰا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا أَحْصٰاهُ اللّٰهُ وَ نَسُوهُ وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) ثمّ لمّا كان تغيير حكم الجاهلية ثقيلا على المشركين، و سببا لشدّة عداوتهم، هدّد سبحانه المعاندين للرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و يعاندونهما، أو يضعون حدودا و أحكاما غير حدودهما و أحكامهما كُبِتُوا و اخزوا و اذلّوا في الدنيا كَمٰا كُبِتَ و اخزي و اذلّ الأقوام اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ بمعاندتهم لرسلهم استكبارا عليهم، كقوم نوح و عاد و ثمود وَ الحال إنّا قَدْ أَنْزَلْنٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ و دلائل واضحات على صدق الرسول و صحّة ما جاء به من الأحكام و الحدود وَ لِلْكٰافِرِينَ باللّه و الرسول و المنكرين لأحكامهما أو الكافرين بتلك الآيات في الآخرة عَذٰابٌ مُهِينٌ و مذلّ يذهب بعزّهم و كبرهم.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله:

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ و يخرجهم من القبور أحياء جَمِيعاً لا يترك منهم أحدا، أو مجتمعين في حالة واحدة فَيُنَبِّئُهُمْ اللّه في ذلك اليوم، و ينبّههم على رءوس الأشهاد تخجيلا و توبيخا لهم و تشهيرا لحالهم بِمٰا عَمِلُوا في الدنيا و ارتكبوا فيها من الكفر و معاندة الرسول و غيرهما من العصيان الذي أَحْصٰاهُ اللّٰهُ و أحاط به من الكمية و الكيفية و الزمان

ص: 189


1- . الكافي 1/152:6، تفسير الصافي 143:5.

و المكان و سائر مشخّصاته وَ هم نَسُوهُ استحقارا له و تهاونا به وَ اللّٰهُ العظيم الخالق لكلّ شيء عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الموجودات و مخلوقاته و أحوالها، و على جميع أحوال عباده و أفعالهم و ضمائرهم و المكتومات في خواطرهم شَهِيدٌ و مطّلع لا تخفى عليه خافية.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ وَ لاٰ خَمْسَةٍ إِلاّٰ هُوَ سٰادِسُهُمْ وَ لاٰ أَدْنىٰ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْثَرَ إِلاّٰ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مٰا كٰانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَنٰاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذٰا جٰاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمٰا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللّٰهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لاٰ يُعَذِّبُنَا اللّٰهُ بِمٰا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهٰا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) ثمّ أكّد سبحانه سعة علمه بقوله:

أَ لَمْ تَرَ أيّها الرائي، و لم تعلم علما يكون كالمشاهدة أَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ بالذات مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ السبع وَ مٰا فِي الْأَرْضِ من الحقير و الجليل، و النّقير و القطمير، و المحسوس و غير المحسوس.

عن ابن عباس، قال: نزلت في ربيعة و حبيب ابني عمرو، و صفوان بن امية، كانوا يوما يتحادثون فقال أحدهم: أ ترى أنّ اللّه يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا و قال الثالث: إنّ كان يعلم بعضه فهو يعلم كلّه، و صدق لأنّ من يعلم بعض الأشياء بغير سبب، فقد علمها كلّها؛ لأنّ كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كلّ معلوم، فنزلت(1).

مٰا يَكُونُ و ما يوجد مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ من الأشخاص و مسارّتهم في حال من الأحوال إِلاّٰ في حال هُوَ تعالى رٰابِعُهُمْ و حاضر عندهم و مشارك معهم في الاطّلاع عليها وَ لاٰ نجوى خَمْسَةٍ من الأشخاص إِلاّٰ هُوَ تعالى سٰادِسُهُمْ في العلم و الاطلاع.

قيل: تخصيص العددين بالذكر لخصوص الواقعة(2) ، فإنّ المجتمعين في النجوى كانوا مرة ثلاثة، و مرة خمسة، أو لكون العدد الوتر أشرف من الزوج(3) فاكتفى بذكر الوترين الأولين، أو لكون الغالب في التشاور يكون من ثلاثة إلى الستة، ليكونوا أقلّ لفظا، و أجدر رأيا، و اكتم سرّا.

ص: 190


1- . تفسير الرازي 265:29، تفسير روح البيان 398:9.
2- . تفسير روح البيان 398:9.
3- . تفسير الرازي 265:29.

ثمّ عمّم الحكم بقوله: وَ لاٰ أَدْنىٰ و أقلّ مِنْ ذٰلِكَ العدد كالاثنين و الواحد وَ لاٰ أَكْثَرَ منه كالستة و ما فوقها إِلاّٰ هُوَ تعالى مَعَهُمْ بالعلم و الاحاطة لا يخفى عليه نجواهم أَيْنَ مٰا كٰانُوا و في أيّ مكان اجتمعوا و تناجوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ و يخبرهم بِمٰا عَمِلُوا من خير أو شرّ، و طاعة أو عصيان يَوْمَ الْقِيٰامَةِ تفضيحا للعصاة، و توبيخا لهم، و تشهيرا لفضل المطيعين، و تبشيرا لهم بالكرامة إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء و الأعمال الجليات و الخفيّات عَلِيمٌ و محيط.

ثمّ روي أنّ اليهود و المنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، و يجتمعون ثلاثة و خمسة، و يتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين، يريدون أن يغيضوهم، فنهاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ عادوا لمثل فعلهم(1) ، فوبّخهم اللّه سبحانه على ذلك بقوله:

أَ لَمْ تَرَ يا محمد، و لم تنظر إِلَى الَّذِينَ نُهُوا من جانب اللّه عَنِ النَّجْوىٰ و المكالمة سرّا ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا نُهُوا عَنْهُ من النجوى و يكرّرونه.

ثمّ بيّن سبحانه النجوى التي نهوا عنها(2) بقوله: وَ يَتَنٰاجَوْنَ و يسارون بينهم بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ للمؤمنين من المكر بهم أو بشيء يسوؤهم وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ في نهيه عن النجوى وَ إِذٰا جٰاؤُكَ يا محمّد حَيَّوْكَ بِمٰا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللّٰهُ قيل: كانوا يقولون: السام عليك، و يريدون بالسام الموت أو القتل بالسيف، و يوهمون أنّهم يقولون: السّلام عليك(3). و قيل: كانوا يقولون: أنعم صباحا، و هو تحية الجاهلية، و تحية اللّه للمرسلين هي السّلام(4). وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ و فيما بينهم إذا خرجوا من عندك: لَوْ لاٰ يُعَذِّبُنَا اللّٰهُ و هلاّ يبتلينا بالعقوبة بِمٰا نَقُولُ من الدعاء بالشرّ، أو تحيّة الجاهلية؟

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: حَسْبُهُمْ و كافيهم جَهَنَّمُ في التعذيب، فانّهم يوم القيامة يَصْلَوْنَهٰا و يدخلونها بعنف و يقاسون حرّها لا محالة فَبِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع لهم جهنّم.

روي أنّ عائشة سمعت قول اليهود، فقالت: عليكم السام و الذامّ و اللعن. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «يا عائشة، ارفقي فانّ اللّه يحبّ الرّفق في كلّ شيء، و لا يحبّ الفحش و التفحّش، أ لا سمعت ما رددت عليهم، قلت: عليكم، فيستجاب لي منهم»(5).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلاٰ تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ

ص: 191


1- . تفسير البيضاوي 475:2، تفسير روح البيان 400:9.
2- . في النسخة: الذي نهوا عنه.
3- . تفسير روح البيان 400:9.
4- . تفسير البيضاوي 475:2، تفسير روح البيان 400:9.
5- . تفسير روح البيان 400:9 و 401.

اَلرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ عَلَى اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ عَلَى اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) ثمّ أمر سبحانه المؤمنين المخلصين بالعمل بخلاف ما يعمله اليهود و المنافقون بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتكم و قلوبكم إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلاٰ تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ و القبيح الذي يخصّكم وَ الْعُدْوٰانِ و العمل الذي يؤدّي إلى الظّلم بالغير وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ و مخالفته، و لا تسلكوا في نجواكم مسلك المنافقين وَ لكن تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ و الاحسان إلى أنفسكم و إلى إخوانكم المؤمنين وَ التَّقْوىٰ و ترك المعاصي و القيام بالطاعة وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ بعد خروجكم من القبور تُحْشَرُونَ و إلى مقام عدله تساقون، فيجازيكم حسب أعمالكم.

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن النجوى بما ذكر من الامور القبيحة بقوله:

إِنَّمَا النَّجْوىٰ بتلك الأمور تصدر مِنَ تسويلات اَلشَّيْطٰانِ و تزيينه في أنظاركم لِيَحْزُنَ قلوب اَلَّذِينَ آمَنُوا حيث توهمهم النجوى أنّ المتناجين بلغهم قتل أقربائهم و إخوانهم المؤمنين الذين خرجوا إلى الجهاد، أو هزمهم(1) العدوّ أو أصابتهم نكبة وَ لَيْسَ الشيطان، أو التناجي بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً قليلا و قدرا يسيرا إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ و إرادته و مشيئته. قيل: بأن يبيّن لهم كيفية مناجاة الكفّار حتّى يزول غمّهم (2)وَ عَلَى اللّٰهِ وحده لا على غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و إليه فليفوّضوا امورهم، و لا يبالوا بنجوى المنافقين.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فانّ ذلك يحزنه»(3).

و قيل: إنّ المراد بالنجوى في الآية الأخيرة الأحلام التي يراها الانسان في نومه فتحزنه(4).

في ذكر رؤيا

فاطمة عليها السّلام و ما

يدفع به ضرر رؤيا

السوء

روى بعض العامة أنّ فاطمة عليها السّلام رأت كأنّ الحسن و الحسين أكلا من أطيب جزور بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهما فماتا، فلمّا غدت سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله، و سأل هو جبرئيل، و سأل جبرئيل ملك الرّؤيا فقال: لا علم لي به، فعلم أنّه من الشيطان(5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «سبب نزول الآية أنّ فاطمة عليها السّلام رأت في منامها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله همّ أن يخرج هو و فاطمة و علي و الحسن و الحسين عليهم السّلام من المدينة، فخرجوا حتى جازوا حيطان المدينة، فعرض لهم طريقان، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات اليمين حتى انتهى إلى موضع فيه

ص: 192


1- . في النسخة: انهزمهم.
2- . تفسير الرازي 268:29.
3- . مجمع البيان 377:9، تفسير الصافي 146:5، تفسير روح البيان 402:9.
4- . مجمع البيان 377:9، تفسير الصافي 146:5.
5- . تفسير روح البيان 402:9.

نخل و ماء، فاشترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاة دراء - و هي التي في أحد اذنيه نقط بيض - فأمر بذبحها، فلمّا أكلوا [منها] ماتوا [في] مكانهم، فانتبهت فاطمة عليها السّلام باكية ذعرة، فلم تخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك.

فلمّا أصبحت جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحمار، فأركب عليه فاطمه عليها السّلام و أمر أن يخرج أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام من المدينة كما رأت فاطمة عليها السّلام في نومها، فلمّا خرجوا من حيطان المدينة، عرض لهم طريقان، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات اليمين حتّى انتهى إلى موضع فيه نخل و ماء، فاشترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاة درّاء، كما رأت فاطمة، فأمر بذبحها فذبحت و شويت، فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة و تنحّت ناحية منهم تبكي مخافة أن يموتوا، فطلبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى وقع عليها و هي تبكي فقال: ما شأنك يا بنيّة؟ قالت: يا رسول اللّه، رأيت البارحة كذا و كذا في نومي، و قد فعلت أنت كما رأيته، فتنحّيت عنكم لئلا أراكم تموتون.

فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى ركعتين، ثمّ ناجى ربّه، فنزل جبرئيل، فقال: يا محمد، هذا شيطان يقال له الزهّار، هو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا، و يؤذي و يري المؤمنين في نومهم ما يغتمّون به، فجاء به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: أنت الذي أريت هذه الرؤيا، فقال: نعم يا محمد، فبزق عليه ثلاث بزقات قبيحة في ثلاثة مواضع.

ثمّ قال جبرئيل لمحمد صلّى اللّه عليه و آله يا محمد، إذا رأيت شيئا في منامك تكرهه، أو رأى أحد من المؤمنين يقول: أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقربون و أنبياء اللّه المرسلون و عباده الصالحون من شرّ ما رأيت من رؤياي، و يقرأ الحمد، و المعوذتين، و قل هو اللّه أحد، و يتفل عن يساره [ثلاث] تفلات فانّه لا يضرّه ما رأى، فأنزل اللّه عز و جلّ على رسوله: إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ... الآية(1).

و عنه عليه السّلام: «إذا رأى الرجل منكم ما يكره في منامه فليتحوّل من شقّه الذي كان عليه نائما، و ليقل:

إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ إلى قوله: إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ ثمّ ليقل: عذت بما عاذت به ملائكة اللّه المقرّبون و أنبياؤه المرسلون و عباده الصالحون من [شرّ ما رأيت و من] شرّ الشيطان الرجيم»(2).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجٰالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّٰهُ لَكُمْ وَ إِذٰا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجٰاتٍ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

ص: 193


1- . تفسير القمي 355:2، تفسير الصافي 146:5.
2- . الكافي 106/142:8، تفسير الصافي 147:5.

ثمّ إنّه تعالى بعد النهي عن النجوى التي توجب(1) التباغض و شدة الاتّصال في المجلس، أمر عباده بما يوجب التودّد و التحابب بقوله تعالى:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب إِذٰا قِيلَ لَكُمْ [سواء أ] كان القائل قريبا أو بعيدا، أو وضيعا أو شريفا: يا إخواني تَفَسَّحُوا و توسّعوا فِي الْمَجٰالِسِ و الأماكن التي تجلسون فيها على المؤمنين الواردين عليكم فَافْسَحُوا و وسّعوا عليهم حتّى يجلسوا بينكم، فإذا تفسّحتم و وسّعتم في المكان على الواردين يَفْسَحِ اللّٰهُ و يوسّع لَكُمْ فيما تريدون التوسعة فيه من الصدور و الرزق و القبر و غيرها.

في فضيلة أهل

العلم

قيل: إنّ المراد مجلس النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان الأصحاب يتضامّون فيه تنافسا على القرب منه، و حوصا على استماع الكلام(2).

عن ابن عباس: دخل ثابت بن قيس بن الشمّاس في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد أخذ القوم مجالسهم، و كان يريد القرب من النبي صلّى اللّه عليه و آله للوقر الذي كان في اذنه، فوسّعوا له حتى قرب، ثمّ ضايقه بعضهم، و جرى بينه و بينهم كلام، فوصف للرسول صلّى اللّه عليه و آله محبّة القرب منه ليستمع كلامه، و أن فلانا لم يفسح له، فنزلت هذه الآية، فأمر القوم بأن يوسّعوا و لا يقوم أحد لأحد(3).

و قيل: إنّ الأصحاب كانوا يحبّون القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان الرجل يكره أن يضيّق عليه، فربما سأله [أخوه] أن يفسح له فيأبى، فأمرهم اللّه بأن يتعاطفوا و يتحمّلوا المكروه، و كان فيهم من يكره أن يمسّه الفقراء، و كان أهل الصّفّة يلبسون الصوف و لهم روائح(4).

و عن مقاتل: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يوم الجمعة في الصّفّة، و في المكان ضيق، و كان صلّى اللّه عليه و آله يكرم أهل بدر من المهاجرين و الأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، و قد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال النبي صلّى اللّه عليه و آله ينتظرون أن يوسّع لهم، فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يحملهم على القيام، و شقّ ذلك على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقال لمن حوله من أهل بدر: «قم يا فلان، قم يا فلان» فلم يزل يقيم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه، فشقّ ذلك على من اقيم من مجلسه، و عرفت الكراهة في وجوههم، و طعن المنافقون في ذلك، و قالوا: و اللّه ما عدل على هؤلاء، إنّ قوما أخذوا مجالسهم، و أحبّوا القرب منه فأقامهم و أجلس من أبطأ عنه، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة(3).

و قيل: إنّ المراد من التفسّح و التوسّع في مقاعد القتال، و كان الرجل يأتي الصفّ فيقول: تفسّحوا

ص: 194


1- . في النسخة: الذي يوجب.
2- . تفسير روح البيان 403:9. (3و4) . تفسير الرازي 269:29.
3- . تفسير الرازي 268:69.

فيأبون حرصا على الشهادة(1) ، و الحقّ عموم الآية لجميع الأشخاص و المجالس، فانّ مورد النزول لا يخصّص العموم.

و قيل: إنّ المراد بالقائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانّه كان إذا دخل المسجد يقوم له الناس، فنهاهم اللّه عن أن يقوموا له، و قال: تفسّحوا له في المجالس(2).

وَ إِذٰا قِيلَ انْشُزُوا و قوموا من مكانكم للتوسعة على الوارد، أو انهضوا من مجلس الرسول، و لا تطيلوا الجلوس عنده فتملّوه، أو انهضوا إلى الصلاة و الجهاد و غيرهما من الأعمال الخيرية فَانْشُزُوا و انهضوا و قوموا طاعة للأمر، و تواضعا للمؤمنين، و توسعة للاخوان، و مسارعة للخيرات، إذن يَرْفَعِ اللّٰهُ بالنصر و حسن الذكر و كمال النفس في الدنيا و الإيواء في غرف الجنان في الآخرة اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بايمانهم و عملهم الصالح وَ يرفع اَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ خاصة لجهة علمهم المقارن للعمل دَرَجٰاتٍ رفيعة عالية في الفضل و الإكرام في الدنيا و الآخرة مراتب سامية في الروض و الرضوان.

ذكر فضيلة العلماء

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «بين العالم و العابد مائة درجة، بين كلّ درجة حضر(3) الجواد المضمر سبعين سنة»(4).

و في رواية اخرى عنه صلّى اللّه عليه و آله: «فضل العالم على العابد كفضلي على امّتي»(5).

و في اخرى: «كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «فضل العالم على الشهيد درجة، و فضل الشهيد على العابد درجة، و فضل النبي على العالم درجة، و فضل القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه، و فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم»(7).

و عن الباقر عليه السّلام: «عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد»(8).

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الطاعة بقوله: وَ اللّٰهُ بكلّ شيء بِمٰا تَعْمَلُونَ أيّها المؤمنون من امتثال أوامره و الانزجار عن معاصيه خَبِيرٌ و مطّلع، فيجازيكم على الطاعة بأفضل الثواب،

ص: 195


1- . جوامع الجامع: 485، تفسير الرازي 269:29.
2- . تفسير القمي 356:2، تفسير الصافي 148:5، و فيهما: فقال: تفسحوا، أيّ وسّعوا له في المجلس.
3- . الحضر: عدوّ ذو وثب.
4- . جوامع الجامع: 485، تفسير الصافي 148:5، تفسير روح البيان 404:9.
5- . تفسير روح البيان 404:9.
6- . جوامع الجامع: 485، تفسير الصافي 148:5، تفسير روح البيان 404:9.
7- . مجمع البيان 380:9، تفسير الصافي 148:5.
8- . الكافي 8/25:1، تفسير الصافي 148:5.

و يعذّبكم على عصيانه بأسوء العذاب.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً ذٰلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقٰاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تٰابَ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (13) ثمّ لمّا علّم اللّه المؤمنين ما يتناجون به من البرّ و التقوى، عظّم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نجواه بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ الرَّسُولَ و كالمتموه سرّا في بعض شئونكم كما عن بعض(1) ، أو في استفسار حال رؤياكم كما عن آخر (2)فَقَدِّمُوا و أعطوا المستحقّين بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ و قبلها صَدَقَةً و مقدارا ما من المال تقرّبا إلى اللّه ذٰلِكَ التصدّق خَيْرٌ لَكُمْ أيّها المؤمنون في دينكم من تركه وَ أَطْهَرُ لأنفسكم من رجس المعاصي و دنس البخل.

عن ابن عباس: لمّا أكثر المسلمون السؤال على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى أسأموه و أملّوه، أراد اللّه أن يخفّف عن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت الآية، و أمرهم اللّه بتقديم الصدقة عند نجواه، فكفّ كثير من الناس عن المناجاة و شحّوا(3).

قيل: أراد سبحانه بهذا الأمر تعظيم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و نفع الفقراء، و الزجر عن الإفراط في السؤال، و تمييز المخلص عن المنافق، و محبّ الآخرة عن محبّ الدنيا، إذ لم يناجه أحد من أصحابه عشرة أيام إلاّ عليّ عليه السّلام(4).

أقول: و أراد سبحانه تفضيح أغنياء الصحابة كأبي بكر على ما ادّعاه شيعته من أنّه كان غنيا، و عمر و عثمان و عبد الرحمن بن عوف و أضرابهم، و ظهور فضيلة أمير المؤمنين و خلوصه في الايمان، و حبّه للآخرة و مناجاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

روى بعض العامة عن علي عليه السّلام أنّه قال: «إنّ في كتاب اللّه آية ما عمل بها أحد قبلي، و لا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله تصدّقت بدرهم»(5).

ص: 196


1- . تفسير روح البيان 404:9.
2- . تفسير روح البيان 405:9.
3- . تفسير الرازي 271:29.
4- . تفسير جوامع الجامع: 485.
5- . تفسير الرازي 271:29، تفسير البيضاوي 476:2، تفسير أبي السعود 221:8، تفسير روح البيان 405:9.

و روى الفخر الرازي عن كثير من مفسري العامة، عن ابن عباس: أنّ المسلمين نهوا عن مناجاة النبي صلّى اللّه عليه و آله حتّى يتصدّقوا، فلم يناجه أحد إلاّ علي عليه السّلام تصدّق بدينار، ثمّ نزلت الرّخصة(1).

و رووا عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: كان لعلي عليه السّلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحبّ إلي من حمر النّعم: تزويجه فاطمة عليها السّلام، و إعطاؤه الراية يوم خيبر، و آية النجوى(2).

في ردّ قول القاضي

و بيان فساد قول

الفخر الرازي

و قال القاضي أبو بكر: و الأكثر في الروايات أنّه تفرّد بالتصدّق قبل مناجاته، ثمّ ورد النسخ، و إن كان قد روي أيضا أنّ أفاضل الصحابة وجدوا الوقت و ما فعلوا ذلك(3).

و العجب إنّه لتوغّله في الضلال، و تعصّبه لمذهبه الباطل، تردّد فيما اتفقت عليه روايات العامة و الخاصة من إطاعة عليّ عليه السّلام أمر اللّه و عصيان مشايخه و أئمّته، و همّ بدفع الطعن عنهم بقوله: «و إن ثبت أنّه اختصّ بذلك، فلأنّ الوقت لم يتّسع لهذا الفرض، و إلاّ فلا شبهة أنّ أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله»(4).

أقول: فيه أنّ دعوى ضيق الوقت بعد رواياتهم بأن الحكم كان باقيا عشرة أيام ممّا تضحك به الثكلى، و أمّا أفاضل الصحابة كسلمان و أبي ذرّ و المقداد و عمّار و حذيفة و أضرابهم، كانوا لفقرهم خارجين عن هذا الحكم بقوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدّقون به لا يجب عليكم فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ للمذنبين رَحِيمٌ بالمؤمنين، لا يكلّفهم بما لا يطيقون.

و الحاصل إنّ أفاضل الصحابة الذين اتفقنا على فضلهم و خلوص إيمانهم كانوا فقراء غير متمكّنين من التصدّق، و أمّا غيرهم فقد بخلوا بالتصدّق لعدم اشتياقهم إلى صحبة النبي صلّى اللّه عليه و آله و مناجاته و لم يسو عندهم صحبة النبي صلّى اللّه عليه و آله بدرهم، و لذا صار تركهم الصدقة من أكبر المطاعن عليهم، و تصدّق أمير المؤمنين عليه السّلام بعشرة دراهم من أعظم فضائله، و لا يصغى إلى قول القاضي بأن الصحابة ما وجدوا الوقت(5).

و بذلك يظهر فساد ما ذكره الفخر الرازي من أنّه على تقدير أنّ الصحابة وجدوا الوقت و لم يفعلوا، فهذا لا يجرّ إليهم طعنا؛ لأنّ ذلك الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق به قلب الفقير، فانّه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه، و يوحش قلب الغنيّ، فانّه لمّا لم يفعل الغني و فعله غيره، صار ذلك الفعل سببا للطعن فيمن لم يفعل، فهذا الفعل لمّا كان سببا لحزن الفقراء و وحشة الأغنياء، لم يكن في تركه كبير

ص: 197


1- . تفسير الرازي 271:29 و 272.
2- . تفسير روح البيان 406:9.
3- . تفسير الرازي 272:29.
4- . تفسير الرازي 272:29.
5- . تفسير الرازي 272:29.

مضرّة، لأنّ الذي يكون سببا للألفة أولى ممّا يكون سببا للوحشة(1).

و العجب أنّه يظهر من آخر كلامه أنّ ترك الصدقة كان أولى من التصدّق، و هو مناف للروايات الدالة على فضيلة أمير المؤمنين عليه السّلام بالعمل بالآية و التصدّق قبل مناجاته النبي صلّى اللّه عليه و آله، و توبيخ اللّه سبحانه تاركي التصدّق بقوله:

أَ أَشْفَقْتُمْ أيّها المسلمون و خفتم من أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ و قبل مسارّتكم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله صَدَقٰاتٍ قيل: إفراد الصدقة أولا لكفاية شيء قليل منها، و إتيانها بصيغة الجمع هنا لكثرة التناجي و المناجي(2).

ثمّ لمّا ظهر حال المؤمن الصادق في إيمانه المشتاق إلى مكالمة النبي صلّى اللّه عليه و آله مثل أمير المؤمنين عليه السّلام، و المنافق غير المشتاق، نسخ سبحانه الحكم بقوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما امرتم به، و بخلتم و شقّ عليكم بذل أقلّ قليل من أموالكم لدرك مكالمة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و تحصيل علم دينكم، و هو ذنب، رفع ذلك الحكم وَ تٰابَ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ و قبل ندامتكم، و عفا عنكم فَأَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فيما يكلّفانكم(3) من فعل سائر الواجبات و ترك المحرّمات وَ اللّٰهُ العالم بكلّ شيء خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ.

قال أبو مسلم الأصفهاني من مفسّري العامة: إنّ الآية ليست ناسخة، فانّ المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، و إن قوما تركوا النفاق و آمنوا ظاهرا و باطنا، فأراد اللّه أن يميّزهم، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمّن بقي على نفاقه، و إذا كان هذا التكليف لهذه المصلحة المقدّرة بذلك الوقت، لا جرم يقدّر هذا التكليف بذلك الوقت(4).

في ردّ أبي مسلم

الأصفهاني

أقول: حاصل قوله: إنّ مصلحة التكليف بالصدقة قبل النجوى، كانت في الواقع و في علم اللّه مقدّرة بغاية مخصوصة، فوجب انتهاء التكليف عند انتهاء مقتضيه إلى الغاية، و مقتضى كلامه أنّ غير أمير المؤمنين عليه السّلام من أغنياء الصحابة كانوا منافقين، لامتناعهم عن التصدّق، و بعد ظهور حالهم ارتفع التكليف.

ثمّ اعلم أنّه لا معنى للنسخ عندنا إلاّ إطلاق الحكم في الظاهر و تقييده في الواقع بوقت معين، و إلاّ يلزم البداء، و لذا توافقت الروايات العامة و الخاصة في كون الآية ناسخة لإيجاب الصدقة.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مٰا هُمْ مِنْكُمْ وَ لاٰ مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ

ص: 198


1- . تفسير الرازي 272:29.
2- . تفسير روح البيان 406:9.
3- . في النسخة: يكلفونكم.
4- . تفسير الرازي 272:29.

عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللّٰهُ لَهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (15) اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ فَلَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوٰالُهُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (17) ثمّ لمّا افتضح المنافقون بيّن سبحانه سوء حال المنافقين، و أظهر التعجّب من سوء صنيعهم بقوله تعالى:

أَ لَمْ تَرَ يا من يعقل، أو يا محمد، و لم تنظر إِلَى المنافقين اَلَّذِينَ ي تَوَلَّوْا ن، و توادّوا قَوْماً من اليهود، مع أنّهم قوم غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ و لعنهم حيث ينقلون أسرار المؤمنين إليهم، و العجب أنّ هؤلاء المنافقين مذبذبين مٰا هُمْ مِنْكُمْ و ليسوا من زمرتكم، لكفرهم في الباطن وَ لاٰ مِنْهُمْ لعدم اعتقادهم بدين اليهود، و إذا لقوكم قالوا: إنّا مسلمون، أو المراد إنّهم يشتمون اللّه و رسوله، و يكيدون المسلمين، و إذا قيل لهم: إنّكم فعلتم كذا و كذا، أو قلتم كذا و كذا، قالوا: و اللّه ما فعلنا ذلك و ما قلنا ذلك وَ يَحْلِفُونَ و يقسمون باللّه عَلَى ادّعائهم اَلْكَذِبِ تحفّظا على أنفسهم من القتل، و على أموالهم من النّهب وَ هُمْ يَعْلَمُونَ كذب ما حلفوا عليه، و هذا الحلف في غاية الشناعة و القباحة.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله:

أَعَدَّ اللّٰهُ و هيّأ لَهُمْ في القبر على قول بعض، أو في الآخرة عَذٰاباً شَدِيداً لا يمكن تحديد شدّته و توصيفها، لأجل إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر باللّه و رسوله، و موادّة اليهود و اليمين الغموس(1).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان في حجرة من حجراته، فقال لأصحابه: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، و ينظر بعين الشيطان» فدخل عبد اللّه بن نبتل، و كان أرزق، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «على م تشتمني أنت و أصحابك؟ فحلف باللّه ما فعل. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فعلت» فانطلق بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبّوه، فنزلت الآيات(2).

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله:

اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ الفاجرة حين الخوف من المسلمين جُنَّةً و ترسا يحفظون به أنفسهم من سيوف المسلمين، و أموالهم من النّهب فَصَدُّوا و منعوا الناس عَنْ الدخول في دين الاسلام، و سلوك سَبِيلِ اللّٰهِ و العمل بما يوجب قربهم إليه في خلال أمنهم و سلامتهم، بإدخال الشّبهات في القلوب، و ذكر المطاعن للاسلام، و تعييب المسلمين فَلَهُمْ في

ص: 199


1- . اليمين الغموس: الكاذبة، تغمس صاحبها في الإثم.
2- . تفسير روح البيان 408:9.

الآخرة بسبب كفرهم و صدّهم طلبا للعزّ عند الكفّار، و تكبّرا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله عَذٰابٌ مُهِينٌ لهم غاية الهوان، و مذلّ لهم أشدّ الذّلّ

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ و لن تكفيهم للوقاية، و لا تنفعهم أبدا أَمْوٰالُهُمْ التي جمعوها في الدنيا وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ الذين يفتخرون بهم مِنَ عذاب اَللّٰهِ إذا دخلوا النار شَيْئاً قليلا من الإغناء و النفع أُولٰئِكَ البعيدون من ساحة رحمة اللّه أَصْحٰابُ النّٰارِ و ملازموها أو مالكوها: لأنّهم اكتسبوها بأعمالهم في الدنيا هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ و مقيمون أبدا، لا نجاة لهم منها.

روي أن واحدا منهم قال: إن كان ما يقول محمد حقا لندفعنّ العذاب من أنفسنا بأموالنا و أولادنا، فنزلت الآية تكذيبا له(1).

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمٰا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلىٰ شَيْءٍ أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ الْكٰاذِبُونَ (18) ثمّ بيّن سبحانه وقت ابتلائهم بالعذاب و خلودهم في النار بقوله:

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ و يخرجهم من القبور أحياء، و يسوقهم جَمِيعاً إلى المحشر. و قيل: المعنى: و اذكر يا محمد يوم يبعثهم اللّه جميعا(2)فَيَحْلِفُونَ هؤلاء المنافقون في ذلك اليوم حين حضورهم في مقام عتاب اللّه اَللّٰهُ كذبا بقولهم:

و اللّه ربّنا ما فعنا كذا و كذا، و ما كنا مشركين كَمٰا يَحْلِفُونَ لَكُمْ أيّها المسلمون في الدنيا كذبا بقولهم:

و اللّه إنّا منكم، و ما هم منكم وَ يَحْسَبُونَ و يتوهّمون أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الكاذبة عَلىٰ شَيْءٍ من جلب نفع أو دفع ضرر، كما كانوا في الدنيا عليه حيث كانوا يدفعون بالأيمان الكاذبة عن أنفسهم و أموالهم ضرر المسلمين، و يجلبون إليهم فوائد أَلاٰ تنبّهوا أيّها العقلاء إِنَّهُمْ هُمُ الْكٰاذِبُونَ و المصرّون على الكذب إلى حدّ لا يتصوّر فوقه، حيث كانوا يتجاسرون عليه بين يدي علاّم الغيوب، و زعموا أنّ الحلف يروّج(3) به الكذب لديه، كما يروّجه عند الغافلين.

قيل: إنّ ذكر أَلاٰ التنبيهية مشعر بتوغّلهم في النّفاق و تعوّدهم به بحيث لا ينفكّون عنه في الدنيا و لا في الآخرة(4).

اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطٰانُ فَأَنْسٰاهُمْ ذِكْرَ اللّٰهِ أُولٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطٰانِ هُمُ الْخٰاسِرُونَ (19)

ص: 200


1- . تفسير روح البيان 409:9.
2- . تفسير روح البيان 397:9.
3- . روّج السلعة: أنفقها، و روّج الكلام: زيّنه، أو أبهمه فلا تعلم حقيقته.
4- . تفسير روح البيان 409:9.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إصرارهم على مخالفة اللّه و عصيانه بقوله:

اِسْتَحْوَذَ و استولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطٰانُ و ملك قلوبهم بحيث يسوقهم إلى طاعته فيما يريد منهم فَأَنْسٰاهُمْ ذِكْرَ اللّٰهِ و أغفلهم عن التوجّه إليه بحيث لا يخطر ببالهم تصوّر أنّهم مخلوقه و مربوبه أُولٰئِكَ البعيدون عن اللّه و عن كلّ خير حِزْبُ الشَّيْطٰانِ و جنده و أتباعه أَلاٰ أيّها العقلاء اعلموا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطٰانِ و جنده هُمُ الْخٰاسِرُونَ و المتضرّرون بغاية الضرر في الدنيا و الآخرة، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المؤبّد، و أبدلوه بالعذاب المخلّد.

عن القمي، قال: نزلت في الثاني، لأنّه مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو جالس عند رجل من اليهود، يكتب خبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا... الآية. فجاء الثاني إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «رأيتك تكتب من اليهود، و قد نهى اللّه عزّ و جلّ عن ذلك؟» فقال: يا رسول اللّه، كتبت عنه ما في التوراة من صفتك. و أقبل يقرأ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو غضبان. فقال رجل من الأنصار: ويلك أ ما ترى غضب النبي صلّى اللّه عليه و آله عليك؟ فقال: أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، إنّي إنّما كتبت ذلك لما وجدت [فيه] من خبرك. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا فلان، لو أنّ موسى بن عمران فيهم قائما، ثمّ أتيته رغبة عمّا جئت به، لكنت كافرا بما جئت به».

و هو قوله: اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً * أي حجابا بينهم و بين الكفار، و أيمانهم إقرارهم باللسان خوفا من السيف و دفع الجزية.

و قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمٰا يَحْلِفُونَ لَكُمْ قال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الذين غصبوا آل محمد حقّهم، فيعرض عليهم أعمالهم، فيحلفون له إنّهم لم يعملوا منها شيئا، كما حلفوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الدنيا حين حلفوا أن لا يردّوا الولاية في بني هاشم، و حين همّوا بقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة، فلمّا أطلع اللّه نبيه و أخبره حلفوا إنّهم لم يقولوا ذلك، و لم يهمّوا به حين أنزل اللّه على رسوله: يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ وَ هَمُّوا بِمٰا لَمْ يَنٰالُوا وَ مٰا نَقَمُوا إِلاّٰ أَنْ أَغْنٰاهُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ (1). قال: إذا عرض اللّه عزّ و جلّ ذلك عليهم [في القيامة] ينكرون و يحلفون له، كما حلفوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيعاً... * الآية(2).

أقول: الظاهر تطبيق الآية على أعمالهم، لا أنّه شأن نزولها.

ص: 201


1- . إلى هنا في تفسير القمي.
2- . تفسير القمي 357:2، تفسير الصافي 150:5.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الكفار و المنافقين الذين هم حزب الشيطان هم الخاسرون، بيّن سبحانه أنّهم أذلّ خلق في الدنيا و الآخرة، و أنّ العزّة و الغلبة للّه و لرسوله بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ و يعارضون اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و يعاندونهما من الكفّار و المنافقين، أُولٰئِكَ البعيدون من كلّ خير كائنون فِي زمرة اَلْأَذَلِّينَ من خلق اللّه، فانّ ذلّ أحد الخصمين على حسب عزّ الخصم الآخر، و من الواضح أنّ عزّ اللّه لا نهاية له، فلا بدّ أن يكون ذلّ خصومه لا نهاية له.

ثمّ بيّن سبحانه عزّ المؤمنين الذين هم حزبه بقوله:

كَتَبَ اللّٰهُ في اللّوح المحفوظ، و قدّر في علمه و المكتوب فيه هو: و اللّه لَأَغْلِبَنَّ على الأعداء المجادلين و المعارضين أَنَا وَ رُسُلِي بالحجّة لدى المحاجّة، و بالسيف لدى المنازعة.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تلك الغلبة بقوله: إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ لا يتصوّر فيه الضعف، قدير لا يطرؤه العجز(1).

عَزِيزٌ و غالب على جميع الموجودات، لا يمنعه مانع عن إنفاذ إرادته.

عن مقاتل: انّه قال المؤمنون: لئن فتح اللّه لنا مكة و الطائف و خيبر و ما حولهنّ، رجونا أن يظهرنا اللّه على فارس و الروم. فقال عبد اللّه بن ابي رئيس المنافقين: أ تظنّون الروم و فارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، و اللّه إنهم لأكثر عددا و أشدّ بطشا من أن تظنّوا فيهم ذلك، فنزل قوله: كَتَبَ اللّٰهُ...

الآية(2).

لاٰ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ أَوْ إِخْوٰانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمٰانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) ثمّ لمّا بيّن سبحانه حال المنافقين، و أنّهم يتولّون اليهود و أهل الكتاب، بيّن حال المؤمنين المخلصين بقوله:

لاٰ تَجِدُ يا محمّد، و لا يمكن أن ترى قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ عن صميم القلب و الخلوص من شوب النفاق يُوٰادُّونَ و يحابّون مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و يعاندونهما، كأهل الكتاب و المشركين وَ لَوْ كٰانُوا هؤلاء المعاندون آبٰاءَهُمْ الذين هم أكرم

ص: 202


1- . كذا، و الظاهر لا يطرأ عليه العجز.
2- . تفسير روح البيان 410:9.

الناس عندهم، أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ الذين هم أحبّ الناس إليهم أَوْ إِخْوٰانَهُمْ الذين هم أعزّ الناس لديهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ و أقرباءهم الذين هم أولى الناس بموادّتهم، لامتناع اجتماع حبّ اللّه و رسوله في القلب مع محبّة أعدائهما.

أُولٰئِكَ العظماء الذين تصلّبوا في دينهم، و لا يوادّون أعداء اللّه كَتَبَ اللّه و أثبت فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمٰانَ و رسّخه فيها وَ أَيَّدَهُمْ و قوّاهم على القيام بوظائف الايمان بِرُوحٍ حاصل مِنْهُ تعالى، و هو نور القرآن على قول(1) ، أو الايمان كما عن (الكافي) عنهما عليهما السّلام(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما من أحد إلاّ و لقلبه اذنان في جوفه؛ اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس، و اذن ينفث فيها الملك، فيؤيّد اللّه المؤمن بالملك، فذلك قوله: وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى أيّد المؤمن بروح منه تحضره في كلّ وقت يحسن فيه و يتّقي، و تغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه و يعتدي، فهي معه تهتزّ سرورا عند إحسانه، و تسيخ في الثرى عند إساءته...» الخبر(4).

و عن الباقر عليه السّلام في قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا زنى الرجل فارقه روح الايمان». قال: «قوله تعالى:

وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (5) .

وَ يُدْخِلُهُمْ في الآخرة برحمته جَنّٰاتٍ و بساتين ذوات أشجار و قصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ حال كونهم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا أبدا، و الأعلى و الأعظم من جميع النّعم أنه رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ بسبب إيمانهم و أعمالهم وَ رَضُوا عَنْهُ بسبب وفور إنعامه عليهم و إكرامه لهم في الدنيا و الآخرة.

ثمّ لمّا بيّن أنّ الكفّار و المنافقين حزب الشيطان، جعل المؤمنين الخلّصين حزبه بقوله: أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ و جنده و أنصاره أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و الفائزون بجميع الخيرات الدنيوية و الاخروية، كما أنّ حزب الشيطان هم الخاسرون المحرومون عن جميع الخيرات.

قيل: نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة حين أخبر أهل مكة بمسير النبي صلّى اللّه عليه و آله إليهم لمّا أراد فتحها(6).

قد سبق في آخر سورة الحديد ثواب تلاوتها. الحمد للّه الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 203


1- . تفسير روح البيان 413:9.
2- . الكافي 2:2 و 1/13 و 5، تفسير الصافي 151:5.
3- . الكافي 3/206:2، تفسير الصافي 152:5.
4- . الكافي 1/206:2، تفسير الصافي 152:5.
5- . الكافي 11/213:2، تفسير الصافي 152:5.
6- . تفسير الرازي 277:29.

ص: 204

في تفسير سورة الحشر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ مِنْ دِيٰارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّٰهِ فَأَتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة المجادلة المختتمة ببيان كون الكفّار و المنافقين حزب الشيطان، و كون المؤمنين المخلصين حزب اللّه، و أنّ الغلبة للّه و لرسوله، و ذمّ المنافقين على موادّتهم لليهود، نظمت سورة الحشر المبتدئة ببيان عظمة اللّه، و كونه غالبا غير مغلوب، و بيان غلبته على الكفّار و ذلّتهم، و بيان موالاة المنافقين لهم، فابتدأها بذكر أسمائه الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

ثمّ عظّم ذاته المقدّسة ببيان تسبيح جميع الموجودات له بقوله:

سَبَّحَ لِلّٰهِ و نزّهه عن كلّ ما لا يليق به جميع مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ ذاتا و حالا و مقالا على حسبهم، كما قال سبحانه:

وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ و قال ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل(1).

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بيانا لاستحقاقه التسبيح بالعزّة بقوله: وَ هُوَ الْعَزِيزُ و الغالب القاهر على كلّ شيء، و بالحكمة البالغة بقوله: اَلْحَكِيمُ و توطئته لبيان غلبته على أهل الكتاب و إذلالهم، الذي هو من آثار عزّته، و بيان إجلائهم الذي هو من مقتضيات حكمته بقوله::

هُوَ العزيز الغالب اَلَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ و هم طائفة بني النّضير مِنْ دِيٰارِهِمْ و أوطانهم في الوقت المقدّر لِأَوَّلِ الْحَشْرِ و الإخراج من مكانهم إلى الشام.

حكي أنّ بني النّضير و بني قريضة و بني قينقاع كانوا من أولاد هارون أخي موسى بن عمران، نزلوا بيثرب، و استوطنوا فيها انتظارا لبعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله الموعود في التوراة، فلمّا هاجر النبي صلّى اللّه عليه و آله من مكّة إلى المدينة، عاهدهم على أن لا يكونوا له و لا عليه، فلمّا ظهر صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر قالوا فيما بينهم: هذا النبيّ إلى المدينة، عاهدهم على أن لا له و لا عليه، فلمّا ظهر صلّى اللّه عليه و له يوم بدر قالوا فيما بينهم: هذا النبيّ الموعود الذي نعته في التوراة أنه لا تردّ له راية، فلمّا انكسر جيش النبي صلّى اللّه عليه و آله في احد، شكّوا و نكثوا

ص: 205


1- . تفسير روح البيان 415:9.

العهد.

فخرج كعب بن أشرف - أحد رؤساء بني النّضير - في أربعين راكبا إلى مكة، و حالفوا قريشا على قتال النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا رجع كعب إلى المدينة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أخبره بنقض بني النّضير عهدهم، و تعاهدهم قريشا على قتاله، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله محمد بن مسلمة الأنصاري، و كان أخا كعب بن أشرف من الرّضاعة أن يقتله غيلة، فأتاه ليلا فاستخرجه من بيته، و قال: إنّي أتيتك لاستقرض منك شيئا من التمر، فخرج إليه فقتله، و رجع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و أخبره، ففرح به، لأنّه أضعف قلوبهم(1).

و في بعض الأخبار: أنّه صلّى اللّه عليه و آله ذهب إلى بني النّضير في نفر من أصحابه، للاستعانة منهم في دية، فقالوا: نعم يا أبا القاسم حتّى تطعم و ترجع بحاجتك، و كان صلّى اللّه عليه و آله جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض و قالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل تلك الحالة، فهل من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحّاش - أحد ساداتهم -: أنا لذلك. فقال لهم سلاّم بن مشكم - أحد ساداتهم -: لا تفعلوا، و اللّه ليخبرنّ بما هممتم به، إنّه لنقض للعهد الذي بيننا و بينه. فلمّا صعد الرجل ليلقي الصخرة أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام صلّى اللّه عليه و آله مظهرا أنّه يقضي حاجته، و ترك أصحابه في مجالسهم، و رجع مسرعا إلى المدينة، و لم يعلم من كان معه من أصحابه، فلمّا استبطئوه قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه فقال: رأيته داخل المدينة.

فأقبل أصحابه حتّى انتهوا إليه، فأخبرهم بما أرادت بنو النّضير، فندم اليهود، و قالوا: قد اخبر بما أردنا، فأرسل محمد بن مسلمة إليهم: أن اخرجوا من بلدي - و هم كانوا في قرية زاهرة من أعمال المدينة - فلا تساكنوني بها، فلقد هممتم بما هممتم من الغدر. فسكتوا و لم يقولوا حرفا، فأرسل إليهم المنافقون أن أقيموا في حصونكم فإنّا نمدّكم.

فأرسل حيي بن أخطب - أحد رؤسائهم - إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّا لا نخرج من ديارنا، فافعل ما بدا لك. اغترارا بقول المنافقين، فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه إليهم راكبا على حمار مخطوم بليف، و حمل رايته علي بن أبي طالب صلّى اللّه عليه و آله حتى نزل بهم و صلّى العصر بفنائهم، و قد تحصّنوا و قاموا على حصنهم يرمون بالنّبال و الحجارة، و زرّبوا(2) على الأزقّة و حصّنوها، فحاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إحدى

ص: 206


1- . تفسير روح البيان 416:9.
2- . أي اتخذوا الزرائب، جمع زريبة: الحفرة. و لعلّه تصحيف (و درّبوا) على ما سيأتي لا حقا عن تفسير الرازي.

و عشرين ليلة.

فلمّا قذف في قلوبهم الرّعب، و أيسوا من نصر المنافقين، طلبوا الصّلح، فأبى عليهم إلاّ الجلاء، على أن يحمل كلّ ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم إلاّ السلاح، فحملوا ستمائة بعير، و ضربوا الدّفوف، و أظهروا السّرور إظهارا للجلادة، و عبروا من سوق المدينة، و ذهبوا إلى الشام إلى أريحا من فلسطين، و إلى أذرعات من دمشق، إلاّ أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق، و آل حيي بن أخطب، فانّهم لحقوا بخيبر، و لحقت طائفة منهم بالحيرة من قرى الكوفة، و لم يسلم من بني النّضير إلاّ رجلان، و كان هذا الحشر و الإخراج لأهل الكتاب أول إخراج لم يكن قبله إخراج لهم من مكان(1).

و قيل: هذا أول حشرهم، و آخره إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام حين بلغه الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يبقينّ دينان في جزيرة العرب»(2).

و قيل: آخر حشرهم يوم القيامة(3). و قيل: يكون في الرجعة(4).

و عن ابن عباس: قال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اخرجوا» قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر»(5).

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ مِنْ دِيٰارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّٰهِ فَأَتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ (2) وَ لَوْ لاٰ أَنْ كَتَبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاٰءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابُ النّٰارِ (3) ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللّٰهَ فَإِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ (4) مٰا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهٰا قٰائِمَةً عَلىٰ أُصُولِهٰا فَبِإِذْنِ اللّٰهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفٰاسِقِينَ (5) ثمّ بيّن سبحانه غاية قوّتهم بقوله تعالى: مٰا ظَنَنْتُمْ و ما رجوتم في حقّ بني النّضير أَنْ يَخْرُجُوا من المدينة و ما حولها، لشدّة بأسهم و منعتهم و غاية عزّتهم و شوكتهم وَ ظَنُّوا هؤلاء الكفرة أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ و حافظتهم حُصُونُهُمْ المنيعة مِنْ بأس اَللّٰهِ و قهره فَأَتٰاهُمُ اللّٰهُ بإذلالهم و خذلانهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا و من سبب لم يتوهّموا، و هو قتل كعب بن أشرف غيلة هُوَ بذلك قَذَفَ و ألقى فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ و الخوف الشديد، و كان حالهم حين الرّعب

ص: 207


1- . تفسير روح البيان 217:9.
2- . تفسير روح البيان 418:9.
3- . جوامع الجامع: 486، تفسير أبي السعود 225:8، تفسير روح البيان 418:9.
4- . تفسير الصافي 153:5، و فيه: في الرجفة.
5- . مجمع البيان 387:9، تفسير الصافي 153:5.

أنهم يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ و مساكنهم بِأَيْدِيهِمْ ليسدّوا بأخشابها و حجارتها أبواب الأزقّة، أو لئلا تبقى بعد جلائهم للمسلمين، أو لينقلوا معهم بعض آلاتها المرغوب فيها وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. قيل:

إنّهم كانوا يخربون بيوتهم من داخل، و المسلمون من خارج(1).

و قيل: إنّهم درّبوا(2) على الأزقّة و حصّنوها، أ فنقضوا بيوتهم و جعلوها كالحصون على أبواب الأزقّة، و كان المسلمون يخربون سائر جوانبها(3).

و قيل: إنّ المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، و اليهود لمّا أيقنوا بالجلاء يخربون البيوت، لينزعوا الأخشاب و الأبواب و غيرها من الآلات الحسنة، و يحملوها معهم(4).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء عاقبة الغدر و الكفر، و إبادته شوكة اليهود و كسر قوّتهم، أمر أهل البصيرة بالاعتبار بقوله: فَاعْتَبِرُوا و اتّعظوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ فلا تغدروا، و لا تعتمدوا على غير اللّه في أمر من الامور. عن ابن عباس: يريد يا أهل اللّب و العقل و البصائر(3).

:

وَ لَوْ لاٰ أَنْ كَتَبَ اللّٰهُ في حقّ بني النّضير، و قدّر عَلَيْهِمُ بمقتضى حكمته البالغة اَلْجَلاٰءَ الخروج من أوطانهم لَعَذَّبَهُمْ بالقتل و الأسر، أو بعذاب الاستئصال فِي الدُّنْيٰا على كفرهم و غدرهم وَ لَهُمْ مع الجلاء فِي الْآخِرَةِ بعد خروجهم من الدنيا عَذٰابُ النّٰارِ لا نجاة لهم منه:

ذٰلِكَ الجلاء بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و عاندوهما، و خالفوا عهدهما وَ مَنْ يُشَاقِّ اللّٰهَ كائنا من كان، يعاقبه اللّه أشدّ العقاب فَإِنَّ اللّٰهَ على من شاقّه و خالفه شَدِيدُ الْعِقٰابِ.

ثمّ روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر بقطع نخيل اليهود و إحراقها، فجاءوا إليه، و قالوا: يا محمد، إنّك قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع النخيل و تحريقها؟ و كان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فنزلت(4)::

مٰا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ و نخلة كريمة قصيرة طيبة الثمرة، أو أيّ نخل من نخيلهم بأنواعها أَوْ تَرَكْتُمُوهٰا قٰائِمَةً عَلىٰ أُصُولِهٰا كما كانت، و لم تقطعوها فَبِإِذْنِ اللّٰهِ و أمره لمصلحة ازدياد غيظ الكفّار و تضاعف حسرتهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزّ أموالهم وَ لِيُخْزِيَ و يذلّ اليهود اَلْفٰاسِقِينَ الخارجين عن طاعة اللّه، فانّ في كلّ من القطع و الترك حكمة و مصلحة.

وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لاٰ رِكٰابٍ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

ص: 208


1- . تفسير الرازي 280:29.
2- . درّب الجنديّ: صبر في الحرب وقت الفرار. (3و4) . تفسير الرازي 280:29.
3- . تفسير الرازي 282:29.
4- . تفسير الرازي 283:29، تفسير روح البيان 423:9.

ثمّ بيّن سبحانه حكم ما بقي منهم من أموالهم بقوله::

وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ و ردّه عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ من الأملاك و الأموال فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ أيّها المسلمون، و لا أسرعتم السير في تحصيله مِنْ خَيْلٍ و جماعة أفراس وَ لاٰ رِكٰابٍ و جماعة الإبل، و لا تحمّلتم مشقة عظيمة، و لا قتالا شديدا، و ما قطعتم مسافة بعيدة.

قيل: إنّ قرى بني النّضير كانت على ميلين من المدينة، لم يركب أحد في مسيرهم إليهم إلاّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، فانّه ركب حمارا مخطوما باللّيف، أو جملا على ما قاله بعض(1).

و الحاصل أنّه لم تحصل هذه الغنيمة بقتالكم وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على حسب سنّته الجارية عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ تسليطه عليه من أعدائه بغير الأسباب الظاهرية، فلا حقّ لكم في أموالهم، بل هي مختصّة به، مفوّض أمرها إليه، يضعها حيث يشاء وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

قيل: نزلت حين طلب الصحابة من الرسول صلّى اللّه عليه و آله قسمة أموالهم عليهم، كما قسّم الغنيمة بينهم، فبيّن اللّه الفرق بين الغنيمة و الفيء، فانّ الغنيمة فيما أتعب المسلمون أنفسهم في تحصيله، و أوجفوا عليه بخيل و ركاب، بخلاف الفيء فانّه ما لم يتحمّل [المسلمون] في تحصيله تعبا شديدا(2).

و قيل: إنّ أموال بني النّضير اخذت بالقتال و المحاصرة أياما، فلم تكن فيئا، و إنما نزلت الآية في فدك، لأنّ أهل فدك جلوا عنه، فصارت تلك القرى و الأموال في يد الرسول صلّى اللّه عليه و آله من غير حرب(3).

مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاٰ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ (7) ثمّ أكّد سبحانه حكم الفيء في أموال بني النّضير ببيان حكم كلّي الفيء بقوله تعالى::

مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ و ردّه عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أموال أَهْلِ الْقُرىٰ و البلدان بغير حرب و قتال فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ أشرك ذاته المقدّسة مع رسوله تشريفا له وَ لِذِي الْقُرْبىٰ و أرحام الرسول صلّى اللّه عليه و آله من بني هاشم و بني عبد المطّلب وَ الْيَتٰامىٰ منهم وَ الْمَسٰاكِينِ و الفقراء منهم وَ ابْنِ السَّبِيلِ و المسافرين المنقطعين عن أموالهم منهم.

روى بعض العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقسّم الفيء خمسة أسهم، و يتصرّف في أربعة أخماس كيف يشاء، و يقسّم الخمس الباقي خمسة أسهم، و يأخذ لنفسه خمس الخمس، و يقسّم أربعة أخماس

ص: 209


1- . تفسير روح البيان 426:9. (2و3) . تفسير الرازي 284:29.

الباقية إلى الأصناف الأربعة من بني هاشم(1).

و عن أمير المؤمنين: «نحن و اللّه الذين عنى اللّه بذي القربى الذين قرنهم اللّه بنفسه و بنبيه صلّى اللّه عليه و آله فقال: مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ منّا خاصة، و لم يجعل لنا سهما في الصدقة، كرّم اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أكرمنا من أوساخ أيدي الناس»(2).

و عن السجّاد عليه السّلام قال: «قرباؤنا، و مساكيننا، و أبناء سبيلنا»(3).

ثمّ ذكر سبحانه علّة اختصاص الفيء بهذه الأصناف المعينة في الآية بقوله: كَيْ لاٰ يَكُونَ الفيء الذي حقّه أن يكون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و فقراء أقربائه دُولَةً و شيئا متداولا و دائرا بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ و ذوي الثروة مِنْكُمْ أيّها الناس يتكاثرون به، كما كان يتداول بين الأغنياء في الجاهلية، و ينتقل من غنيّ إلى غنيّ، و يحرم منه الفقراء وَ مٰا آتٰاكُمُ و أعطاكم اَلرَّسُولُ من الأمر فيئا كان أو حكما فَخُذُوهُ و اقبلوا منه وَ مٰا نَهٰاكُمْ و ردعكم عَنْهُ من إتيان عمل أو التصرف في مال فَانْتَهُوا و ارتدعوا عنه وَ اتَّقُوا اللّٰهَ في مخالفته رسوله إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ فيعاقب من خالفه و عصاه.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عز و جلّ أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد، ثمّ فوّض إليه، فقال: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض اللّه إلى رسوله فقد فوّضه إلينا»(4).

و في رواية: «فوّض إلى نبيه أمر خلقه، لينظر كيف طاعتهم» ثمّ تلا هذه الآية(5).

و عن ابن مسعود: أنّه رأى رجلا محرما و عليه ثيابه، فقال: انزع هذا عنك. فقال الرجل: اقرأ بهذا عليّ آية من كتاب اللّه. قال: نعم وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (6).

لِلْفُقَرٰاءِ الْمُهٰاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أَمْوٰالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً وَ يَنْصُرُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ (8) ثمّ بيّن سبحانه على ما قيل الأصناف الثلاثة الأخيرة في الآية في خصوص فيء بني النّضير(7) بقوله تعالى::

لِلْفُقَرٰاءِ الْمُهٰاجِرِينَ من مكّة إلى المدينة، و من دار الحرب إلى دار السّلام، ثمّ وصفهم

ص: 210


1- . تفسير الرازي 285:29.
2- . الكافي 1/453:1، تفسير الصافي 155:5.
3- . مجمع البيان 391:9، تفسير الصافي 156:5.
4- . الكافي 9/210:1، تفسير الصافي 156:5.
5- . الكافي 208:1 و 3/209 و 5، تفسير الصافي 156:5.
6- . تفسير روح البيان 429:9.
7- . تفسير البيضاوي 481:2، تفسير روح البيان 430:9.

بقوله: اَلَّذِينَ لم يهاجروا اختيارا و بميل أنفسهم، بل أُخْرِجُوا و اضطرّوا إلى الهجرة من قبل الكفّار مِنْ دِيٰارِهِمْ و مساكنهم التي كانت لهم بمكّة وَ من أَمْوٰالِهِمْ حال كونهم يَبْتَغُونَ و يطلبون رزقهم الذي يكون فَضْلاً و إحسانا مِنَ اللّٰهِ في الدنيا وَ يطلبون رِضْوٰاناً منه في الآخرة وَ يَنْصُرُونَ بهجرتهم اَللّٰهِ بإعلاء دينه وَ رَسُولَهُ ببذل الأنفس في حفظه و ترويج شريعته أُولٰئِكَ المهاجرون هُمُ الصّٰادِقُونَ في دعوى الايمان بشهادة أعمالهم على ضمائرهم.

في نقل استدلال

بعض العامة على

خلافة أبي بكر

و إمامته، و ردّه

قال الفخر الرازي: يعني أنّهم لمّا هجروا لذّات الدنيا، و تحمّلوا شدائدها لأجل الدين، ظهر صدقهم في دينهم. ثمّ قال: تمسّك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر، فقال: هؤلاء الفقراء من المهاجرين و الأنصار كانوا يقولون لأبي بكر: يا خليفة رسول اللّه، و اللّه يشهد على كونهم صادقين، فوجب أن يكونوا صادقين في قولهم: يا خليفة رسول اللّه، و متى كان الأمر كذلك، وجب الجزم بصحّة إمامته(1).

أقول: هذا الاستدلال ممّا تضحك به الثكلى، فانّ المقام قرينة على كون المراد الصدق في دعوى الايمان لا في كلّ ما يتكلّمون به، كقوله تعالى: بَلِ اللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (2) أي في دعوى الايمان، لا في جميع الامور، مع أنّا نعلم أنّهم كانوا كاذبين في هذا الخطاب إن كان المراد أنّه استخلفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نصبه للامامة، و لم يدّعه غالب أشياعه و أتباعه، و إن كان المراد بالخليفة الجالس في مجلسه، و لو بالغصب و القهر، فنحن نقول بخلافته، و لا يحتاج إلى الاستدلال بالآية، و لا يدلّ الخطاب على إمامته من جانب اللّه و وجوب طاعته، كما يقوله العامّة.

ثمّ اعلم أنّه بناء على مذهبنا من اختصاص الفيء بالرسول و الأئمة بعده، كما ذكره اللّه في فيء بني النّضير، لا بدّ من حمل الآية على استحباب صرفهم الفيء المختصّ بهم في المصارف المعينة.

وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّٰارَ وَ الْإِيمٰانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لاٰ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حٰاجَةً مِمّٰا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) ثمّ مدح سبحانه الأنصار بقوله::

وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّٰارَ دار الهجرة، و هي المدينة وَ الْإِيمٰانَ و تمكّنوا فيهما أشدّ التمكّن في زمان سابق على هجرة المهاجرين إليهم، و مِنْ قَبْلِهِمْ.

ص: 211


1- . تفسير الرازي 286:29.
2- . الحجرات: 17/49.

قيل: إنّ المعنى تبوّءوا المدينة، و أخلصوا الايمان من قبل هجرتهم(1). و قيل: إنّ المراد من الايمان هو المدينة، لظهور الايمان و قوّته فيها(2).

و هم يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ من المؤمنين، لمحبّتهم الايمان باللّه و برسوله وَ لاٰ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ و لا يدركون في أنفسهم حٰاجَةً و إقبالا إلى شيء مِمّٰا أُوتُوا و اعطوا اولئك المهاجرون من الفيء وَ يُؤْثِرُونَ و يقدّمون المهاجرين عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ في الفيء و غيره ممّا يرتبط بالمعاش جودا و حبّا لهم وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ و شدّة حاجة.

عن ابن عباس: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم و أموالكم، و قسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم، و إن شئتم كان لهم الغنيمة و لكم دياركم و أموالكم» فقالوا:

لا، بل نقسم لهم من ديارنا و أموالنا، و لا نشاركهم في الغنيمة، فنزلت الآية(3).

قيل: إن من كان له امرأتان يفارق إحداهما و يزوّجها واحدا منهم(4).

في إيثار المؤمنين

إخوانهم على

أنفسهم

أقول: كان الايثار من صفات الكاملين في الايمان، فانّ المؤمن الحقيقي يؤثر أخاه المؤمن على نفسه.

عن (الامالي): أنّه جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجل فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيوت أزواجه، فقلن: ما عندنا إلاّ الماء، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من لهذا الرجل الليلة؟» فقال علي بن أبي طالب عليه السّلام: «أنا له يا رسول اللّه» فأتى فاطمة عليه السّلام و قال لها: «ما عندك يا ابنة رسول اللّه؟» فقالت: «ما عندنا إلاّ قوت العشيّة(5) ، لكنّا نؤثر ضيفنا». فقال: «يا ابنة رسول اللّه، نوّمي الصّبية، و أطفئ المصباح» فلمّا أصبح غدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل اللّه: وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ... الآية(6).

و عن أنس: أنّه اهدي إلى رجل من الأنصار رأس [شاة] و كان مجهودا، فوجّه به إلى جار له زاعما أنّه أحوج إليه منه، فوجّه جاره أيضا إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتّى تداول ذلك الرأس سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأول(7).

و عن حذيفة العدوي، قال: انطلقت في غزوة أطلب ابن عمّ لي و معي شيء من الماء قاصدا أنّه إذا كان به رمق سقيته، فاذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار إليّ برأسه أن نعم، فاذا برجل يقول: آه آه،

ص: 212


1- . تفسير الرازي 287:29، تفسير أبي السعود 229:8، تفسير روح البيان 432:9.
2- . تفسير الرازي 287:29.
3- . تفسير الرازي 287:29.
4- . تفسير البيضاوي 481:2، تفسير روح البيان 433:9.
5- . في المصدر: الصبية.
6- . أمالي الطوسي: 309/185، تفسير الصافي 157:5.
7- . تفسير روح البيان 433:9.

فأشار إلى ابن عمّي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه فجئت إليه فاذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فاذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فاذا هو قد مات(1).

و قال بعض العامة: إنّ الآية قد نزلت في أبي طلحة الأنصاري حين نزل برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضيف، و لم يكن عنده ما يضيفه به، فقال: «ألا رجلا يضيف هذا رحمه اللّه؟» فقام أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله، و قال لامرأته: أكرمي ضيف رسول اللّه، فنوّمت الصّبية، و أطفأت السّراج، و جعل الضيف يأكل و هما يريان أنّهما يأكلان معه و لا يأكلان، فنزلت(2).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ سعادة الدارين لمن يحفظ نفسه عن البخل، فكيف بمن يؤثر غيره على نفسه بقوله: وَ مَنْ يُوقَ و يحفظ شُحَّ نَفْسِهِ و حرصها على البخل بالمال بتوفيق اللّه و إعانته فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و الفائزون بأعلى المقاصد من خير الدنيا و الآخرة و سعادتهما.

وَ الَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا وَ لِإِخْوٰانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نٰافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوٰانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لاٰ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ (11) ثمّ مدح سبحانه المؤمنين التابعين للمهاجرين و الأنصار في الايمان و الصلاح بقوله::

وَ الَّذِينَ جٰاؤُ حين مات المهاجرون و الأنصار، و وجدوا مِنْ بَعْدِهِمْ من المؤمنين الصالحين إلى يوم القيامة يحبّون السابقين منهم بالايمان، و يدعون لأنفسهم و لهم و يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا ذنوبنا وَ لِإِخْوٰانِنَا في الدين اَلَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ من المهاجرين و الأنصار و غيرهم وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ و حقدا و عداوة لِلَّذِينَ آمَنُوا بك و برسولك لمكان الاخوّة الدينية رَبَّنٰا إِنَّكَ بعبادك المؤمنين رَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا ترضى - برأفتك بنا - باستيلاء الشيطان علينا، و لا تردّ برحمتك دعاءنا.

ثمّ لمّا أرسل عبد اللّه بن ابي بن(3) سلول رأس المنافقين سرا إلى بني النضير: أن اثبتوا في أماكنكم،

ص: 213


1- . تفسير روح البيان 434:9.
2- . تفسير روح البيان 434:9.
3- . زاد في النسخة: أبي، راجع: الأعلام للزركلي 65:4.

و قاتلوا محمدا إن قاتلكم، فانّا ننصركم، و إن أخرجكم بالقهر لنخرجنّ معكم. ذمّهم سبحانه على قولهم و نفاقهم، و أكذبهم في وعدهم الموافقة و النّصرة بقوله::

أَ لَمْ تَرَ يا محمد، أو يا من يعقل، و لم تنظر إِلَى الكفار اَلَّذِينَ نٰافَقُوا المسلمين في المدينة حتى تتعجّب منهم، فانّهم يَقُولُونَ سرا لِإِخْوٰانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ الموافقون لهم في عداوة الرسول و المؤمنين المشاركين معهم في الكفر: يا إخواننا، و اللّه لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم قسرا و اضطرارا بأمر محمد و جور أصحابه لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ من المدينة البتة. و نصاحبنكم حيثما ذهبتم أداء لحقّ الصداقة و الاخوة وَ لاٰ نُطِيعُ فِيكُمْ و لا نوافق في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم أَبَداً و في وقت من الأوقات، و إن طال الزمان وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ و حاربكم محمّد و أصحابه لَنَنْصُرَنَّكُمْ و لنعاوننّكم على قتالهم و لا نخذلنكم وَ اللّٰهُ العالم بالضمائر و السرائر يَشْهَدُ و يخبر عن علم إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ في وعدهم و غارّون لهم، مع تأكيدهم إياه باليمين الغموس.

لَئِنْ أُخْرِجُوا لاٰ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لاٰ يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبٰارَ ثُمَّ لاٰ يُنْصَرُونَ (12) ثمّ أنّه تعالى بعد تكذيبهم الإجمالي كذّبهم تفصيلا بقوله::

لَئِنْ أُخْرِجُوا من ديارهم و أموالهم قهرا و جبرا و إذلالا، و اللّه لاٰ يَخْرُجُونَ من المدينة مَعَهُمْ لشدّة علاقتهم بدورهم و وطنهم وَ لَئِنْ قُوتِلُوا و حوربوا من طرف النبي صلّى اللّه عليه و آله لاٰ يَنْصُرُونَهُمْ لشدّة حبّهم أنفسهم وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الفرض و التقدير، و اللّه لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبٰارَ و ليفرّن من القتال أفظع الفرار، لضعف قلوبهم، و تحفّظا على أنفسهم ثُمَّ لاٰ يُنْصَرُونَ اولئك المنافقون بعد ذلك من قبل أحد، أو لا ينصرون اولئك اليهود، و على أيّ تقدير لا ينفعهم نصرة المنافقين.

قيل: إنّ عبد اللّه بن ابي أرسل إلى بني النّضير سرّا: أنّ معي ألفين من قومي و غيرهم من العرب يدخلون حصنكم و يموتون عن آخرهم قبل أن يصل إليكم محمد، و تمدّكم بنو قريظة و حلفاؤهم من غطفان، فطمع بنو النّضير فيما قاله اللعين و [هو] جالس في بيته، حتى قال أحد سادات بني النّضير - و هو سلاّم بن مشكم لحيي بن أخطب الذي هو المتولّي لأمر بني النّضير -: و اللّه يا حيي إنّ قول ابن ابي لباطل، و ليس بشيء، و إنّما يريد أن يورّطك في الهلكة حتى تحارب محمّد فيجلس في بيته و يتركك. فقال حيي: نأبى إلاّ عداوة محمد و إلاّ قتاله. فقال سلاّم فهو و اللّه جلاؤنا من أرضنا،

ص: 214

و ذهاب أموالنا و شرفنا، أو سبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا، فكان ما كان(1).

و فيه دلالة واضحة على صحّة نبوة نبينا صلّى اللّه عليه و آله و إعجاز القرآن من حيث إخباره بالغيب و وقوع المخبر به موافقا لإخباره.

لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّٰهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ (13) لاٰ يُقٰاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّٰ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرٰاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّٰى ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطٰانِ إِذْ قٰالَ لِلْإِنْسٰانِ اكْفُرْ فَلَمّٰا كَفَرَ قٰالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخٰافُ اللّٰهَ رَبَّ الْعٰالَمِينَ (16) فَكٰانَ عٰاقِبَتَهُمٰا أَنَّهُمٰا فِي النّٰارِ خٰالِدَيْنِ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ الظّٰالِمِينَ (17) ثمّ بيّن سبحانه علّة خلفهم الوعد و غدرهم بإخوانهم الكافرين بقوله تعالى::

لَأَنْتُمْ أيّها المسلمون أكثر رعبا في قلوب المنافقين، و أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّٰهِ.

قيل: يعني أنّهم يظهرون لكم في العلانية الرّهبة و الخوف من اللّه، و أنتم في صدورهم أشدّ رهبة منه تعالى (2)ذٰلِكَ المذكور من كون رهبتكم أشدّ من اللّه بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ شيئا حتّى يعلموا عظمة اللّه و كمال قدرته و شدّة عقابه، فيخافوه حقّ المخافة. ثمّ بيّن سبحانه شدّة خوفهم من المسلمين بقوله::

لاٰ يُقٰاتِلُونَكُمْ و لا يجترئون على حربكم حال كونهم جَمِيعاً و متّفقين في موطن واحد إِلاّٰ فِي قُرىً و قلاع مُحَصَّنَةٍ محكمة بالدّروب و الخنادق و ما أشبه ذلك أَوْ مِنْ وَرٰاءِ جُدُرٍ و عقيب الحيطان، و لا يبارزونكم في الميدان، و ليس ذلك لضعف قلوبهم و قوّتهم، و جبنهم و وهن أعضائهم، بل بَأْسُهُمْ و سطوتهم و بطشتهم بَيْنَهُمْ و في قبال أقرانهم شَدِيدٌ و إنّما ضعفهم و جبنهم منكم لما قذف اللّه في قلوبهم من الرّعب، مع أن الشّجاع يجبن، و العزيز يذلّ عند محاربة اللّه و رسوله.

و قيل: إنّ المراد انّهم إذا اجتمعوا يقولون: لنفعلنّ كذا و كذا، فهم يهدّدون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان و الحصون، و يحترزون عن الخروج للقتال، فبأسهم فيما بينهم شديد لا فيما بينهم و بين المؤمنين(3).

ص: 215


1- . تفسير روح البيان 439:9.
2- . الكشاف 507:4، تفسير روح البيان 440:9.
3- . تفسير الرازي 290:29.

و عن ابن عباس: معناه أنّ بعضهم عدو للبعض(1) ، و يدلّ عليه قوله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً و متّفقين و مؤتلفين و متحابّين في الظاهر وَ قُلُوبُهُمْ شَتّٰى و متفرقة لا الفة بينهم، لأنّ لكلّ واحد منهم مذهبا غير مذهب الآخرين، و لذا بينهم في الواقع عداوة شديدة.

ذٰلِكَ التشتّت بين قلوبهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَعْقِلُونَ و لا يدركون أنّ تشتّت القلوب يوهن قوّتهم، و تقلّ به حظوظهم، أو لا يعقلون شيئا حتّى يعرفوا الحقّ فيتّبعوه و تتّحد كلمتهم. اعلموا أنّ مثل هؤلاء اليهود و المنافقين و حالهم العجيبة:

كَمَثَلِ الكفّار اَلَّذِينَ حاربوا الرسول في بدر، أو كمثل بني قينقاع على ما قيل من أنّهم كانوا أشجع اليهود و أكثرهم أموالا، فلمّا كانت وقعة بدر أظهروا البغي و الحسد، و نبذوا العهد كبني النّضير، فأخرجهم رسول اللّه(2) من المدينة إلى الشام (3)مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً من زمانهم. قيل: قبل ستة أشهر من قضية بني النّضير(4) ، أو قيل: سنة(3). فانّهم ذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ و رأوا سوء عاقبة كفرهم في الدنيا وَ لَهُمْ في الآخرة عَذٰابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره، و مثل المنافقين الذين غرّروا اليهود و وعدوهم النصر ثمّ خذلوهم:

كَمَثَلِ الشَّيْطٰانِ الغويّ إِذْ قٰالَ لِلْإِنْسٰانِ إغراء و إغواء: اُكْفُرْ باللّه و برسوله فَلَمّٰا كَفَرَ الانسان بإغوائه و حلّ به العذاب في القيامة - و قيل: إنّ المراد بالانسان أبو جهل(6) ، و معنى (اكفر) دم على كفرك، فلمّا كفروا جاء إلى بدر، و ابتلى بالقتال - قٰالَ الشيطان له، إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ و منقطع عنك إِنِّي أَخٰافُ اللّٰهَ رَبَّ الْعٰالَمِينَ من أن يعذّبني بأشدّ العذاب. قيل: هذا من كذبات اللّعين(7). و قيل: إنّه قال ذلك استهزاء (8)، و لو كان صادقا لم يستمرّ على عصيان اللّه:

فَكٰانَ مآل كفر الانسان و الشيطان المغوي له و عٰاقِبَتَهُمٰا في الآخرة أَنَّهُمٰا فِي النّٰارِ التي سجّرها الجبّار بغضبه حال كونهما خٰالِدَيْنِ و مقيمين فِيهٰا لا خلاص لهما منها أبدا وَ ذٰلِكَ العذاب المقيم جَزٰاءُ الظّٰالِمِينَ على أنفسهما العاصين للّه، و كذلك كان عاقبة اليهود و المنافقين.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مٰا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (18) وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّٰهَ فَأَنْسٰاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ (19)

ص: 216


1- . تفسير الرازي 290:29.
2- . في النسخة: فأخرجوا بالرسول. (3و4) . تفسير روح البيان 442:9.
3- . تفسير روح البيان 443:9. (6-7) . تفسير روح البيان 443:9.

ثمّ شرع سبحانه في وعظ المؤمنين بقوله::

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ و خافوا عذابه على عصيانه، و احترزوا عن مخالفته وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ أيّ نفس كانت مٰا قَدَّمَتْ و أيّ عمل هيّأت و ادّخرت لِغَدٍ و يوم عظيم في القرب بمنزلة اليوم البعد، و هو يوم القيامة.

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالتقوى التي هي(1) أقوى سبب النجاة من العذاب و الفوز بالنّعم الأبدية بقوله:

وَ اتَّقُوا اللّٰهَ أيّها المؤمنون فيما تأتون و ما تذرون.

ثمّ هدّد العصاة بقوله: إِنَّ اللّٰهَ العالم بكلّ شيء خَبِيرٌ و عليم بِمٰا تَعْمَلُونَ من المعاصي فيعاقبكم عليه أشدّ العقاب:

وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّٰهَ و ذهبوا عن عظمته و حقوقه باشتغالهم بلذّات الدنيا و زخارفها، و لم يراعوا أوامره و نواهيه حقّ الرّعاية فَأَنْسٰاهُمْ اللّه بسبب ذلك أَنْفُسَهُمْ و أذهلهم عن خيرها و ما فيه نجاتها من المهالك، و فوزها بما فيه حياتها الدائمة و تنعّمها و راحتها الأبدية أُولٰئِكَ الناسون هُمُ الْفٰاسِقُونَ و الخارجون عن طاعة العقل و الشرع، و في تخصيص الفسق بهم إشعار بأنّ فسق غيرهم كالمعدوم لأنّهم كفّار.

لاٰ يَسْتَوِي أَصْحٰابُ النّٰارِ وَ أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفٰائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا الْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ثمّ لمّا نهى سبحانه عن مماثلة الكفّار، بيّن عدم أهلية الكفّار لأن يماثلهم و يساويهم أحد من المؤمنين بقوله::

لاٰ يَسْتَوِي و لا يماثل الكفّار الذين هم أهل العذاب و أَصْحٰابُ النّٰارِ في الآخرة، و المؤمنون الذين هم أهل الرحمة وَ أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ فانّ أصحاب النار هم الخاسرون و أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفٰائِزُونَ بأعلى المقاصد و أسنى المطالب.

عن الرضا عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلا هذه الآية، فقال: أصحاب الجنة من أطاعني و سلّم لعليّ بن أبي طالب بعدي و أقرّ بولايته، و أصحاب النار من سخط الولاية و نقض العهد»(2).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض المواعظ الموجبة لرقّة القلب و الخشوع، مدح القرآن بغاية التأثير، و ذمّ قلوب الكفار بغاية القساوة بقوله::

لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن، الذي فيه المواعظ الشافية و التهديدات الكثيرة عَلىٰ جَبَلٍ و كان المقصود بالمواعظ و الانذارات التي فيه وعظه و إنذاره، و اللّه

ص: 217


1- . في النسخة: الذي هو.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 22/280:1، تفسير الصافي 159:5.

لَرَأَيْتَهُ يا محمد مع غاية صلابته و عدم تأثّره ممّا يصادفه خٰاشِعاً و ضارعا و منقادا و مُتَصَدِّعاً و متشقّقا مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ و خوف عقوبته و عذابه، فانّ إدراك الجمادات عظمة خالقها و مهابة ربّها و شعورها بشدّة(1) عذابه ممّا ثبت بالآيات كقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (2) و قوله: وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ (3) و غيرهما من الآيات و الروايات الكثيرة كرواية بكاء الجبل من خوف أن يكون من حجارة جهنّم(4) و غيرها، فلا وجه لما قيل: من أنّ الآية من باب التمثيل و التخييل(5) ، و المعنى لو جعل في الجبل حياة و عقل، كما جعل فيكم، ثمّ أنزل عليه القرآن بمواعظه و إنذاراته لصار خاشعا، و لم تتأثّر قلوب الكفار، فهي أشدّ قسوة من الحجارة وَ تِلْكَ الْأَمْثٰالُ و البيانات العجيبة نَضْرِبُهٰا و نبيّنها لِلنّٰاسِ كافة لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيها، فيتّعظون بها.

هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاٰمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّٰارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحٰانَ اللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللّٰهُ الْخٰالِقُ الْبٰارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) ثمّ لمّا كان عظمة القرآن و قوّة تأثيره منوطا بمعرفة عظمة اللّه و كمال قدرته، شرع سبحانه في بيان صفاته الجليلة الدالة على كمال عظمته بقوله::

هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ و لا معبود بالحقّ سواه في عالم الوجود، و هو عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ المطّلع على المعدومات و الموجودات أو على ما غاب عن الحواسّ و ما يدرك بها، أو على السرّ و العلانية، أو على الدنيا و الآخرة، و هُوَ وحده اَلرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ قد تكرّر في السابق تفسيره:

هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ الْمَلِكُ و السّلطان المطلق في جميع عوالم الوجود اَلْقُدُّوسُ و البليغ في النزاهة عن العيوب في ذاته اَلسَّلاٰمُ قيل: يعني السالم عن الآفات لا يطرؤه(6) نقص في ذاته و صفاته(7) و قيل: يعني معطي السلامة للموجودات(8). و قيل: يعني المسلّم على المؤمنين في الجنة(7).

ص: 218


1- . في النسخة: شدّة.
2- . الإسراء: 44/17.
3- . البقرة: 74/2.
4- . الخرائج و الجرائح 259/169:1.
5- . جوامع الجامع: 488، تفسير البيضاوي 483:2، تفسير أبي السعود 233:8.
6- . كذا، و الظاهر: لا يطرأ عليه. (7و8) . تفسير روح البيان 459:9.
7- . تفسير روح البيان 459:9.

اَلْمُؤْمِنُ و المصدّق للأنبياء بإجراء المعجزات على أيديهم، أو معطي الأمان لأوليائه من العذاب، أو لمن توكّل عليه من الآفات و المضارّ. و عن ابن عباس: هو الذي آمن الناس من ظلمه، و آمن من آمن من عذابه(1).

اَلْمُهَيْمِنُ و المسلّط على ما سواه، و الرقيب عليهم، و الحافظ لهم. و قيل: يعني القائم على خلقه بأعمالهم و أرزاقهم و آجالهم(2).

اَلْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء، أو الخطير الذي لا مثل له، أو معطي العزّ لكلّ ذي عزّ اَلْجَبّٰارُ و القهّار لخلقه على ما أراد، أو المصلح لأعمالهم. و عن ابن عباس: الملك العظيم(3).

اَلْمُتَكَبِّرُ و العظيم، أو البليغ في الكبرياء، الذي كلّ شيء دونه، و مفتقر إليه، و خاضع لديه. عن ابن عباس: الذي تكبّر بربوبيته، فلا شيء مثله(4).

سُبْحٰانَ اللّٰهِ و تنزّه (عن) إشراك (ما) يُشْرِكُونَ به من الأصنام و الأوثان و الكواكب و غيرها، كما أشرك به الجاهلون.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن تفسير سُبْحٰانَ اللّٰهِ فقال: «هو تعظيم جلال اللّه و تنزيهه عمّا قال فيه كلّ مشرك، فإذا قالها العبد صلّى عليه كلّ ملك»(3).

و عن [عبد اللّه بن] عمر قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائما على هذا المنبر في المدينة، و هو يحكي عن ربّه تعالى فقال: «إنّ اللّه عز و جلّ إذا كان يوم القيامة جمع السماوات و الأرضين في قبضته تبارك و تعالى» ثمّ قال هكذا، و شدّ قبضته ثمّ بسطها «ثمّ يقول: أنا اللّه، أنا الرحمن، أنا الرحيم، أنا الملك، أنا القدّوس، أنا السّلام، أنا المؤمن، أنا العزيز، أنا الجبّار أنا المتكبّر، أنا الذي بدأت الدنيا و لم تك شيئا، أنا الذي أعدتها، أين الملوك، أين الجبابرة»(4).

:

هُوَ اللّٰهُ تعالى وحده اَلْخٰالِقُ و المقدّر لكلّ شيء على مقتضى حكمته و وفق مشيئته اَلْبٰارِئُ و الموجد للأشياء بعد تقديرها اَلْمُصَوِّرُ لها بعد إيجاد موادّها.

ثمّ أشار سبحانه إلى سائر أسمائه إجمالا بقوله: لَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنىٰ و الصفات العليا، و لذا يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ من الموجودات الناطقة و الصامتة، و ينزّهه عمّا لا يليق بالوهيته بلسان الحال و المقال.

ص: 219


1- . تفسير روح البيان 460:9.
2- . تفسير روح البيان 462:9. (3و4) . تفسير الرازي 294:29.
3- . التوحيد: 1/312، تفسير الصافي 160:5.
4- . تفسير روح البيان 464:9.

ثمّ لمّا كان جميع صفاته راجعة إلى القدر و العلم، ختم تمجيد ذاته المقدّسة بقوله: وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و القدير العليم.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة الحشر، لم يبق جنّة و لا نار و لا عرش و لا كرسيّ و لا حجاب و لا السماوات السبع و الأرضون السبع و الهواء و الريح و الطير و الشجر و الجبال و الدوابّ و الشمس و القمر و الملائكة إلاّ صلّوا عليه، و استغفروا له، و إن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا»(1).

الحمد للّه على ما أنعم عليّ من التوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 220


1- . ثواب الأعمال: 117، مجمع البيان 384:9، تفسير الصافي 160:5.

في تفسير سورة الممتحنة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمٰا جٰاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّٰاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهٰاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ السَّبِيلِ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الحشر المتضمّنة لبيان خذلان الكفّار و المنافقين و ذمّهم، و نصرة المسلمين، و المواعظ الشافية، اردفت بسورة الممتحنة المتضمّنة لنهي المؤمنين عند موادّة الكفّار، و بيان حكم أزواجهم إذا هاجرن إلى المسلمين، و أخذ الرسول البيعة منهنّ على العمل بأحكام الاسلام، و بيان المواعظ الشافية، فابتدأها سبحانه بذكر الأسماء المباركات بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع في نصح المؤمنين و النهي عن موادّة الكفار بقوله::

ص: 221

و ترسلون إِلَيْهِمْ خفية أخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله بِالْمَوَدَّةِ و بسبب المحبّة و النصيحة وَ الحال أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ في قلوبكم من مودّتكم، أو من الناس من كتابكم إليهم وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ و أظهرتم للرسول من الاعتذار من إظهار المودّة لهم وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ و خالف نهيي عن موادّتهم و اتّخاذهم أولياء فَقَدْ ضَلَّ و أخطأ سَوٰاءَ السَّبِيلِ و وسط طريق الحقّ و الصواب الموصل إلى السعادة الأبدية و القرب من اللّه. عن ابن عباس: أنّه عدل عن قصد الايمان في اعتقاده(1).

روى بعض العامة: أنّ حاطب بن أبي بلتعة - و كان من المهاجرين و البدريين و المبايعين بيعة الرضوان - لمّا تجهّز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لغزوة الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، كتب إلى أهل مكّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريدكم فخذوا حذركم، فانّه توجّه إليكم بجيش كالليل: و أرسل الكتاب مع سارة مولاة بني عبد المطّلب، و أعطاها عشرة دنانير و بردة، و كانت سارة قدمت من مكة، و كانت مغنية، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لما ذا جئت؟» قالت: جئت لتعطيني شيئا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما فعلت بعطائك من شبّان قريش؟» قالت: مذ قتلتهم ببدر لم يصل إليّ شيء إلاّ قليل، فأعطاها شيئا، فرجعت إلى مكّة و معها كتاب حاطب، فنزل جبرئيل بالخبر، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا و عمّارا و طلحة و الزبير و المقداد و مرثد بن أبي مرثد، و قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - و هو موضع بين الحرمين - فانّ بها ضعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكّة، فخذوه منها، فان أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها ثمّة فجحدت، فسلّ عليّ عليه السّلام سيفه، فأخرجته من عقائصها.

فاستحضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حاطبا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما حملك على هذا؟» فقال: يا رسول اللّه، ما كفرت منذ أسلمت، و ما غششتك منذ نصحتك، و لكنّي كنت امرأ ملصقا(2) في قريش، و لم أكن من أنفسهم، و من معك من المهاجرين كان له فيهم قرابات يحمون أهاليهم و أموالهم، و ليس فيهم من يحمي أهلي، فأردت أن آخذ عندهم يدا، و لم أفعله كفرا و ارتدادا عن ديني، و قد علمت أنّ كتابي لا يغني عنهم. فصدّقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قبل عذره. فقال عمر: دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق.

فقال: «يا عمر، إنّه شهد بدرا، و ما يدريك لعلّ اللّه اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر(3).

أقول: في ذيل الرواية من القدح في عمر - من جرأته على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إظهار مخالفته له - ما لا يخفى.

و عن القمي، قال: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة - إلى أن قال -: كان سبب ذلك أنّ حاطب بن أبي

ص: 222


1- . تفسير الرازي 298:29.
2- . أي حليفا.
3- . تفسير روح البيان 472:9.

بلتعة كان أسلم و هاجر إلى المدينة، و كان عياله بمكّة، فكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فصاروا إلى عيال حاطب، و سألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمد صلّى اللّه عليه و آله و هل يريد أن يأتي مكة، فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك، فكتب إليهم حاطب: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد ذلك، و دفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة، فوضعته في قرونها فمرّت، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بذلك، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام و الزبير بن العوّام في طلبها، فلحقوها فقال أمير المؤمنين صلّى اللّه عليه و آله: «أين الكتاب؟» فقالت: ما معي شيء. ففتّشوها فلم يجدوا معها شيئا. فقال الزبير: ما نرى معها شيئا. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اللّه ما كذّبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا كذّب رسول صلّى اللّه عليه و آله على جبرئيل، و لا كذّب جبرئيل على اللّه جلّ ثناؤه، و اللّه لئن لم تظهري الكتاب لأردّن رأسك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» فقالت: تنحّ عنّي حتى اخرجه. فأخرجت الكتاب من قرونها.

فأخذه أمير المؤمنين عليه السّلام و جاء به إلى رسول اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا حاطب، ما هذا؟» فقال حاطب: يا رسول اللّه، ما نافقت و لا غيّرت و لا بدّلت، و إنّى أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّك رسول اللّه حقا، و لكن أهلي و عيالي كتبوا إليّ بحسن صنع قريش إليهم، فأحببت أن اجازي قريشا بحسن معاشرتهم. فأنزل اللّه عزّ و جلّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآية(1).

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدٰاءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحٰامُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) ثمّ بيّن سبحانه شدّة عداوة الكفّار للمؤمنين، و إن ألقوا إليهم بالمودّة بقوله:

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ و يظهر الكفّار عليكم، و يتمكّنوا منكم أيّها المؤمنون يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدٰاءً متجاهرين في العداوة و البغض، و مظهرين ما في قلوبهم من الغيظ و الحقد وَ يَبْسُطُوا و يمدّوا إِلَيْكُمْ من غيظهم أَيْدِيَهُمْ بالضرب و القتل و الإيذاء وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ من الشّتم و السبّ و اللّعن وَ وَدُّوا و تمنّوا في جميع الأوقات قبل الظفر و الظهور عليكم و بعده لَوْ تَكْفُرُونَ و أن ترجعوا إلى دينهم، و تعبدوا آلهتهم، و أن توادّوهم أيّها المؤمنون لرعاية أهلكم و أرحامكم، فاعلموا أنّه

لَنْ تَنْفَعَكُمْ بجلب خير أو دفع ضرّ أَرْحٰامُكُمْ و أقاربكم وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ و ذراريكم يَوْمَ الْقِيٰامَةِ فانّه يوم يَفْصِلُ اللّه و يفرّق بَيْنَكُمْ و بين أرحامكم و أولادكم و أصدقائكم، لأنّه لا همّ لأحد فيه إلاّ نجاة نفسه من

ص: 223


1- . تفسير القمي 361:2، تفسير الصافي 161:5.

الأهوال و العذاب وَ اللّٰهُ الخالق لشراشركم و جميع أجزائكم بِمٰا تَعْمَلُونَ من الموادّة للكفار و إرسال الكتاب إليهم و سائر معاصيكم و زلاّتكم الجلية و الخفية بَصِيرٌ لأنّ جميعها بمنظر منه و مرآة، كأنّه يدرك جميعها بحسن البصر.

قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرٰاهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قٰالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّٰا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمّٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ كَفَرْنٰا بِكُمْ وَ بَدٰا بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةُ وَ الْبَغْضٰاءُ أَبَداً حَتّٰى تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ إِلاّٰ قَوْلَ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مٰا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّٰهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنٰا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنٰا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنٰا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنٰا رَبَّنٰا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) ثمّ بيّن سبحانه أنّ وظيفة الايمان التبرّي من الأهل و الأقارب إذا كانوا مشركين، كما تبرأ إبراهيم عليه السّلام و المؤمنون به من أقاربهم بقوله:

قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أيّها المؤمنون بمحمد صلّى اللّه عليه و آله أُسْوَةٌ و قدوة و تبعة حَسَنَةٌ مرضية كاملة فِي عمل إِبْرٰاهِيمَ وَ الَّذِينَ آمنوا باللّه و شاركوا مَعَهُ في التوحيد من سائر الأنبياء و الأولياء و المؤمنين إِذْ قٰالُوا لِقَوْمِهِمْ و أقاربهم المشركين إِنّٰا بُرَآؤُا و متنفّرون مِنْكُمْ لشرككم وَ مِمّٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ من الأصنام و الأوثان و الكواكب و غيرها و أعداؤكم و أعداؤها.

ثمّ بالغوا في تبرّيهم منهم بقولهم: كَفَرْنٰا بِكُمْ و تبرّأنا منكم، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) ، أو أنكرنا دينكم وَ بَدٰا و ظهر بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ لاختلافنا في الدين اَلْعَدٰاوَةُ و طلب الشرّ و الضرّ لكم وَ الْبَغْضٰاءُ و الغضب عليكم أَبَداً دائما حَتّٰى تتركوا الشّرك و تُؤْمِنُوا عن صميم القلب بِاللّٰهِ وَحْدَهُ فحينئذ تنقلب العداوة و البغضاء بالصداقة و المحبّة و الالفة، فعليكم أيّها المؤمنون الاقتداء بإبراهيم عليه السّلام في أقواله إِلاّٰ قَوْلَ إِبْرٰاهِيمَ إشفاقا لِأَبِيهِ آزر المشرك برجاء إيمانه، و لموعدة وعدها إياه لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يا أبه، فانّ الاستغفار هو الذي أقدر عليه وَ مٰا أَمْلِكُ لَكَ و ليس في قدرتي مِنْ دفع عذاب اَللّٰهِ عنك مِنْ شَيْءٍ يسير إن دمت على الشرك، و إنّما وعده الاستغفار لكونه راجيا إيمانه بالتوحيد، فليس لكم أيّها المؤمنون أن تتأسّوا و تقتدوا بإبراهيم في استغفاره للمشرك بأن تستغفروا للمشركين، لأنّه موادّة و لغو، لعدم إمكان المغفرة لهم،

ص: 224


1- . التوحيد: 5/260، تفسير الصافي 162:5.

و كذا لكم أيّها المؤمنون الأسوة في إبراهيم عليه السّلام و من معه في دعائهم بقوله: رَبَّنٰا و مليكنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنٰا و اعتمدنا في جميع امورنا وَ إِلَيْكَ يا ربّ أَنَبْنٰا و رجعنا من ذنوبنا و معاصينا بالتوبة و الطاعة وَ إِلَيْكَ وحدك اَلْمَصِيرُ و المرجع بعد الموت و حين الخروج من القبر

رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا و لا تصيّرنا في الدنيا فِتْنَةً و امتحانا و بلاء لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن تسلّطهم علينا، فيظنّون بذلك أنّهم على الحقّ، كما عن ابن عباس(1).

و قيل: إنّ المعنى لا تعذّبنا بأيديهم و لا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحقّ لما أصابهم ذلك (2)وَ اغْفِرْ لَنٰا رَبَّنٰا و استر ذنوبنا في الدنيا و الآخرة إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ و القادر على إنفاذ إرادتك، فلا تذلّ من لجأ إليك اَلْحَكِيمُ في فعاله، فلا يصدر منك إلاّ ما فيه الصلاح الأتمّ.

لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللّٰهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عٰادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللّٰهُ قَدِيرٌ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) ثمّ أكّد سبحانه وجوب التأسّي بإبراهيم عليه السّلام و من معه بقوله تعالى:

لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ أيّها المؤمنون بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أعني لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ و يأمل النيل بثوابه، و يؤمن بلقائه وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ و يصدّق به، لوضوح أنّ من يؤمن باللّه و بيوم الجزاء لا يترك التأسّي بإبراهيم عليه السّلام وَ مَنْ يَتَوَلَّ و يعرض عن الاقتداء بهم، و عن مواعظ اللّه فَإِنَّ اللّٰهَ وحده هُوَ الْغَنِيُّ بالذات عنه و عن جميع خلقه، و طاعتهم و نصرتهم لدينه اَلْحَمِيدُ و المحمود في ذاته و صفاته، أو المستحقّ للحمد و إن لم يكن حامدا

عَسَى اللّٰهُ و الرجاء منه أَنْ يَجْعَلَ و يوجد بَيْنَكُمْ أيّها المؤمنون وَ بَيْنَ الكفّار اَلَّذِينَ عٰادَيْتُمْ و باغضتم مِنْهُمْ بسبب اختلاف الدين مَوَدَّةً و محبّة بأن يوفّقهم للاسلام و يوافقهم معكم في الدين، كما جعل باسلام جميع أهل مكة و مخالطتهم أصحاب الرسول و مناكحتهم فيهم وَ اللّٰهُ قَدِيرٌ على تقليب قلوبهم و تغيير سوء أخلاقهم إلى حسنها وَ اللّٰهُ غَفُورٌ لمن أسلم، أو لمن فرط منكم في موالاتهم من قبل رَحِيمٌ بالمؤمنين.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه أمر نبيه و المؤمنين بالبراءة من قومهم ما داموا كفارا، فقال: لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قطع اللّه ولاية المؤمنين منهم، و أظهروا لهم العداوة، ثمّ قال: عَسَى اللّٰهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عٰادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً فلمّا أسلم أهل مكة خالطهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 225


1- . تفسير الرازي 302:29.
2- . تفسير الرازي 302:29.

و ناكحوهم، و تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب»(1).

لاٰ يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المؤمنين بالانقطاع عن الكفّار و ترك موالاتهم، رخّص سبحانه في مواصلة الذين لم يظهروا العداوة و لم يضرّوهم بقوله تعالى:

لاٰ يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ و لا يمنعكم أيّها المؤمنون عَنِ الكفّار اَلَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ و لم يقدموا على حربكم لاطفاء نور اللّه وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ و أوطانكم من أَنْ تَبَرُّوهُمْ و تحسنوا إليهم بتطييب قلوبهم، و حسن عشرتهم، و بذل المال لهم وَ تُقْسِطُوا و تؤدّوا حقوقهم إِلَيْهِمْ و لا تظلموهم إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ و العادلين في معاملاتهم.

قيل: إنّ المراد من هذا القسم من الكفار، هم الذين عاهدوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله على ترك القتال و المظاهرة في العداوة، و هم خزاعة، فانّهم عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن لا يقاتلوه و لا يخرجوه، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالوفاء إلى مدّتهم و البرّ بهم، كما عن ابن عباس(2).

و عنه: أنّهم قوم من بني هاشم منهم العباس أخرجوهم يوم بدر كرها(3). و قيل: هم الذين آمنوا بمكة و لم يهاجروا(4). و قيل: إنّهم النّسوان و الصبيان(5). و قيل: إنّ المسلمين استأمروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أقربائهم من المشركين(6).

و عن ابن الزبير: أنّ فتيلة أمّ أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها و هي مشركة بهدايا، فلم تقبلها، و لم تأذن لها في الدخول، فنزلت الآية، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أن تدخلها و تقبل منها و تكرمها و تحسن إليها(3).

إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ (9) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلاٰ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّٰارِ لاٰ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لاٰ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ مٰا أَنْفَقُوا وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذٰا

ص: 226


1- . تفسير القمي 362:2، تفسير الصافي 163:5.
2- . تفسير الرازي 303:29. (3-4-5-6) . تفسير الرازي 304:29.
3- . تفسير الرازي 304:29.

آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لاٰ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوٰافِرِ وَ سْئَلُوا مٰا أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا مٰا أَنْفَقُوا ذٰلِكُمْ حُكْمُ اللّٰهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) ثمّ بيّن سبحانه أنّ النهي عن تولّي عتاة المشركين و الكفّار بقوله:

إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ و يمنعكم أيّها المؤمنون عَنِ الكفار اَلَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ و نازلوكم لإطفاء نوره وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ و أوطانكم كجبابرة أهل مكّة وَ ظٰاهَرُوا و عاونوا قريشا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ من مكّة عن أَنْ تَوَلَّوْهُمْ و توادّوهم وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ و يتودّد معهم فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ على أنفسهم بعصيان اللّه و بوضع الودّ موضع العداوة.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم معاملة المؤمنين مع الفريقين من الكفّار، بيّن سبحانه حكم النساء اللاتي يأتين المؤمنين مظهرات للايمان بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ النساء اللاتي يدّعين أنّهن اَلْمُؤْمِنٰاتُ بألسنتهنّ حال كونهنّ مُهٰاجِرٰاتٍ إليكم من أوطانهنّ، و لم تعلموا صدقهنّ في دعوى الايمان فَامْتَحِنُوهُنَّ و اختبروهن اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ الحقيقي، لعلمه بسرائر الخلق، و أنتم لا تعلمون إلاّ بالأمارات و الامتحان.

قيل: إنّ من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت: سأهاجر إلى محمد(1).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقول للتي يمتحنها: «باللّه الذي لا إله إلاّ هو، ما خرجت عن بغض زوجي، باللّه ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، باللّه ما خرجت التماس دنيا، باللّه ما خرجت حبّا لرجل من المسلمين، باللّه ما خرجت لحدث احدثه، باللّه ما خرجت إلاّ رغبة في الاسلام و حبّا للّه و لرسوله»(2).

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ بعد الامتحان اَلْمُؤْمِنٰاتُ صادقات في دعوى الايمان فَلاٰ تَرْجِعُوهُنَّ و لا تردّوهن إِلَى أزواجهن من اَلْكُفّٰارِ لأنّه لاٰ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ لانقطاع علقة الزوجية بينهما بالإيمان وَ لاٰ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ لوضوح ارتفاع الزوجية من الجانبين لا من جانب واحد.

و قيل: إنّ الجملة الاولى لبيان زوال النكاح الأول، و الثانية لبيان امتناع النكاح الجديد(3) ، أو للتأكيد، و أعطو أزواجهنّ الكفرة (4)وَ آتُوهُمْ من مال المؤمنات، أو من بيت المال مٰا أَنْفَقُوا عليهنّ و دفعوا إليهنّ من المهور.

روي أنّ صلح الحديبية كان على أنّ من أتى المسلمين من الكفّار ردّوه إليهم، فجاءت سبيعة بنت

ص: 227


1- . تفسير روح البيان 482:9.
2- . تفسير الرازي 305:29، تفسير روح البيان 482:9.
3- . تفسير روح البيان 483:9.
4- . تفسير الرازي 305:29، تفسير روح البيان 483:9.

الحارث الأسلمية مسلمة، و النبي صلّى اللّه عليه و آله بالحديبية، فأقبل مسافر المخزومي زوجها طالبا لها، فقال: يا محمد، اردد عليّ امرأتي فانّك قد شرطت أن تردّ علينا من أتاك منّا، فنزلت الآية. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما الشرط كان في الرجال دون النساء» فاستحلفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق(1).

و عن القمي رحمه اللّه: إذا لحقت امرأة من المشركين بالمسلمين تمتحن بأن تحلف باللّه إنّه لم يحملها على اللّحوق بالمسلمين بغض زوجها الكافر، و لا حبّ أحد من المسلمين، و إنّما حملها على ذلك الاسلام، فاذا حلفت على ذلك قبل إسلامها و أتوهم ما أنفقوا، يعني تردّ المسلمة على زوجها الكافر صداقها [ثم يتزوجها المسلم](2).

وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أيّها المسلمون فَإِنْ تتزوّجوا المهاجرات و تَنْكِحُوهُنَّ لخلوهنّ عن الزوج بالاسلام إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ و حين أعطيتموهنّ أُجُورَهُنَّ و التزمتم مهورهنّ، فانّه لا يكفي ما أعطى الزوج عن المهر وَ لاٰ تُمْسِكُوا و لا تعتدّوا بِعِصَمِ النساء اَلْكَوٰافِرِ و نكاحهنّ لبطلانه بسبب الاختلاف في الدين.

عن ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه(3) ، يعني لا يعدّها من الأربع، بل يجوز تزويج غيرها و نكاح اختها.

عن الباقر عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «يقول: من كانت عنده امرأة كافرة - يعني على غير ملة الاسلام - و هو على ملّة الاسلام، فليعرض عليها الاسلام، فان قبلت فهي امرأته، و إلاّ فهي بريئة منه، فنهى اللّه أن يمسك بعصمتها»(4).

و عنه عليه السّلام قال: «لا ينبغي نكاح أهل الكتاب» قيل: و أين تحريمه؟ قال: «قوله: لاٰ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوٰافِرِ» (5).

أقول: يعارضه أخبار معتبرة، فلا بدّ من حملها على الكراهة وَ سْئَلُوا أيّها المؤمنون من الكفّار، و اطلبوا منهم مٰا أَنْفَقْتُمْ من مهور نسائكم إذا لحقن بهم وَ لْيَسْئَلُوا اولئك الكفّار، و يطلبوا منكم مٰا أَنْفَقُوا و أعطوا من مهور نسائهم، إذا لحقن بكم ذٰلِكُمْ الأحكام حُكْمُ اللّٰهِ الذي يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ و بين الكفّار وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ يشرّع ما تقتضيه حكمته.

ص: 228


1- . تفسير أبي السعود 239:8، تفسير روح البيان 483:9.
2- . تفسير القمي 362:2، تفسير الصافي 164:5.
3- . تفسير أبي السعود 239:8، تفسير روح البيان 485:9.
4- . تفسير القمي 363:2، تفسير الصافي 164:5.
5- . الكافي 7/358:5، تفسير الصافي 165:5.

وَ إِنْ فٰاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ إِلَى الْكُفّٰارِ فَعٰاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوٰاجُهُمْ مِثْلَ مٰا أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) ثمّ لمّا حكم اللّه تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا ذهبت إليهم، و يسأل الكفار من المسلمين مهر نسائهم إذا جاءت إليهم مسلمة، أقرّ المسلمون بحكم اللّه، و أبى المشركون العمل به، بيّن سبحانه حكم ذلك بقوله تبارك و تعالى:

وَ إِنْ فٰاتَكُمْ و انفلت منكم أيّها المسلمون شَيْءٌ واحد مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ و ذهبت إِلَى الْكُفّٰارِ و لم يمكنكم إرجاعها.

قيل: إطلاق الشيء على أحد للتحقير(1). و قيل: للإشباع في التعميم(2). و قيل: يعني شيء من مهور أزواجكم(3) و نسائكم فَعٰاقَبْتُمْ و غنمتم من الكفّار كما عن ابن عباس(1) أو جاءت نوبتكم من أداء المهر و تزوّجتم باخرى عقيبها فَآتُوا و أعطوا المسلمين اَلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوٰاجُهُمْ إلى الكفّار من الغنيمة، أو من مهر المرأة المسلمة التي جاءت إلى المسلمين مِثْلَ مٰا أَنْفَقُوا على أزواجهم الفائتة من المهر وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ في العمل بأحكامه و لا تخالفوه، فانّ الايمان مقتضي لذلك.

قيل: نزلت الآية في عمر بن الخطاب، كانت عنده فاطمة بنت أبي امية ابن المغيرة، فكرهت الهجرة، و أقامت مع المشركين، فنكحها معاوية بن أبي سفيان، فأمر اللّه تعالى رسوله أن يعطي عمر مثل صداقها(2).

و قيل: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ستّ نسوة، فأعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أزواجهم مهور نسائهم من الغنيمة(3).

و عنهما عليهما السّلام: سئلا ما معنى العقوبة هنا؟ قال: «إنّ الذي ذهبت امرأته، فعاقب على امرأة اخرى غيرها - يعني تزوّجها - فاذا هو تزوّج امرأة اخرى غيرها فعلى الامام أن يعطيه مهر امرأته الذاهبة».

فسئلا كيف صار المؤمنون يردّون على زوجها المهر بغير فعل منهم في ذهابها، و على(4) المؤمنين أن يردّوا على زوجها ما أنفق عليها ممّا يصيب المؤمنون؟ قال: «يردّ الامام عليه، أصابوا من الكفّار أو لم يصيبوا، لأنّ على الامام أن يجبر(5) حاجته من تحت يده، و إن حضرت القسمة فله أن يسدّ كلّ نائبة تنوبه قبل القسمة، و إن بقي بعد ذلك شيء قسمه بينهم، و إن لم يبق شيء فلا شيء لهم»(6).

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا جٰاءَكَ الْمُؤْمِنٰاتُ يُبٰايِعْنَكَ عَلىٰ أَنْ لاٰ يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً وَ لاٰ

ص: 229


1- . تفسير الرازي 307:29.
2- . تفسير الصافي 165:5.
3- . جوامع الجامع: 491.
4- . في النسخة: قيل على.
5- . في علل الشرائع: ينجز، و في تفسير الصافي: يحيز.
6- . علل الشرائع: 6/517، تفسير الصافي 165:5.

يَسْرِقْنَ وَ لاٰ يَزْنِينَ وَ لاٰ يَقْتُلْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ وَ لاٰ يَأْتِينَ بِبُهْتٰانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لاٰ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبٰايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم هجرة النساء و تزويج المسلمين إيّاهن، بيّن كيفية بيعتهنّ بقوله:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا جٰاءَكَ النساء اَلْمُؤْمِنٰاتُ بقصد أن يُبٰايِعْنَكَ و يعاهدنك عَلىٰ أَنْ لاٰ يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً من الأصنام و الأوثان و الكواكب و الملائكة و غيرها وَ لاٰ يَسْرِقْنَ و لا يأخذن أموال أزواجهنّ(1) و غيرهم خفية بغير إذن مالكها وَ لاٰ يَزْنِينَ وَ لاٰ يَقْتُلْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ بشرب الدواء و الحركات الموجبة لسقطهنّ و غير ذلك من الأسباب، أو المراد قتلهنّ البنات وَ لاٰ يَأْتِينَ بِبُهْتٰانٍ و نسبة الولد كذبا إلى أزواجهنّ حال كونهنّ يَفْتَرِينَهُ ببطونهنّ اللاتي بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ و فروجهنّ اللاتي بين أرجلهنّ.

قيل: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ وَ أَرْجُلِهِنَّ، و ذلك أنّ الولد إذا رضعته الامّ وضعته بين يديها و رجليها، أو بطنها الذي تحمله فيه بين يديها، و مخرجه بين رجليها(2).

عن ابن عباس: يعني لا تلحق بزوجها ولدا ليس منه(3).

وَ لاٰ يَعْصِينَكَ فِي عمل مَعْرُوفٍ و حسن تكلّفهنّ به من فعل أو ترك.

حكى بعض أكابر مفسري العامة: أنّ المراد هو النهي عن النّياحة، و الدعاء بالويل، و تمزيق الثوب، و نتف الشعر و نشره، و خمش الوجه(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو ما فرض اللّه عليهنّ من الصلاة و الزكاة، و ما أمرهنّ به من خير»(5).

فَبٰايِعْهُنَّ على ما ذكر وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه لطفا عليهنّ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ لذنوب المؤمنين رَحِيمٌ بهم بإعطاء الثواب العظيم.

روى الفخر الرازي: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح، أخذ في بيعة النساء و هو على الصفا، و عمر أسفل منه يبايع النساء بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله، فجاءت هند بنت عتبة امراة أبي سفيان متقنعة متنكّرة خوفا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يعرفها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا» فرفعت

ص: 230


1- . في النسخة: زوجهنّ.
2- . جوامع الجامع: 491، تفسير الرازي 308:29، تفسير روح البيان 489:9.
3- . مجمع البيان 414:9، تفسير الرازي 308:29.
4- . تفسير روح البيان 489:9.
5- . تفسير القمي 364:2، تفسير الصافي 166:5.

هند رأسها، و قالت: و اللّه لقد عبدنا الأصنام، و إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الاسلام و الجهاد فقط؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و لا تسرقن» فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل شحيح، و إنّي أصبت من ماله هناة، فما أدري أ تحلّ لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى و فيما غير فهو لك حلال.

فضحك رسول اللّه و عرفها، فقال لها: «و إنّك لهند بنت عتبة؟» قالت: نعم، فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه، عفا اللّه عنك.

فقال: «و لا تزنين» قالت: أ تزني الحرّة؟ فقال: «و لا تقتلن أولادكنّ» فقالت: ربّيناهم صغارا، و قتلتهم كبارا، فأنتم و هم أعلم، و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر. فضحك عمر حتى استلقى، و تبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال: «و لا يأتين ببهتان يفترينه» و هو أن تقذف على زوجها ما ليس منه، فقالت هند: إن البهتان لأمر قبيح، و ما تأمرنا إلاّ بالرّشد و مكارم الأخلاق.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و لا تعصينني في معروف» فقالت: و اللّه ما جلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك في شيء، انتهى(1).

في كيفية أخذ

النبي صلّى اللّه عليه و آله البيعة

من النساء

قال بعض العامة: إنّ مبايعة عمر إيّاهن من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(2) ؛ لأنّه لا يجوز للرسول صلّى اللّه عليه و آله مسّ أيدي الأجنبية.

أقول: كذلك و اللّه لا يجوز لعمر مسّها بطريق أولى، و رووا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كلّف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهنّ، و هي اميمة اخت خديجة(3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة بايع الرجال، ثمّ جاءت النساء يبايعنه، فأنزل اللّه: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ الآية، قالت هند: أمّا الولد فقد ربّيناهم صغارا و قتلتهم كبارا. و قالت امّ الحكم بنت الحارث بن هشام، و كانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول اللّه، ما ذلك المعروف الذي أمرنا اللّه أن لا نعصيك فيه؟ قال: لا تلطمن خدّا، و لا تخمشن وجها، و لا تنتفن شعرا، و لا تشققن جيبا، و لا تسوّدن ثوبا و لا تدعين بالويل، فبايعهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على هذا. فقالت: يا رسول اللّه كيف نبايعك؟ قال: إنّني لا اصافح النساء، فدعا بقدح من ماء، فأدخل يده فيه، ثمّ أخرجها، فقال: ادخلن أيديكنّ في هذا الماء، فهي البيعة»(4).

ص: 231


1- . تفسير الرازي 307:29.
2- . تفسير روح البيان 491:9.
3- . تفسير روح البيان 491:9.
4- . الكافي 5/527:5، تفسير الصافي 166:5.

و عنه عليه السّلام قال: «جمعهنّ حوله، ثمّ دعا بتور برام(1) ، فصبّ فيه ماء نضوحا، ثمّ غمس يده فيه، ثمّ قال: اسمعن يا هؤلاء، أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا - إلى آخر ما في الآية - ثمّ قال: أقررتنّ؟ قلن: نعم، فأخرج يده من التّور، ثمّ قال لهن: اغمسن أيديكنّ فيه، ففعلن، فكانت يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أطيب من أن يمسّ بها كفّ انثى ليست [له] بمحرم»(2).

و روي عن عائشة أنّها قالت: «ما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطّ إلاّ بما أمر اللّه، و ما مسّت كفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفّ امرأة قطّ، و كان يقول إذا أخذ عليهنّ قد بايعتك على كلّها، فاذا أقررن بذلك من قولهنّ، قال لهنّ: انطلقن فقد بايعتكنّ»(3).

و روى بعض العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بايعهنّ و بين يديه و أيديهن ثوب قطريّ - و هو ضرب من البرد - يأخذ بطرف منه و يأخذن بالطرف الآخر(4).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمٰا يَئِسَ الْكُفّٰارُ مِنْ أَصْحٰابِ الْقُبُورِ (13) ثمّ أكّد سبحانه النهي عن مولاة الكفّار، أو عن مولاة خصوص اليهود بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ عن ابن عباس يقول: لا تتولّوا اليهود و المشركين، و ذلك لأنّ جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم، فنهوا عنه، و لمّا كان اليهود قد كذّبوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله، و هم يعرفون أنّه رسول اللّه، و أنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه(5) ، فهم قَدْ يَئِسُوا و قطعوا الطمع مِنَ نعيم الدار اَلْآخِرَةِ و ثوابها كَمٰا يَئِسَ الْكُفّٰارُ الذين ماتوا على كفرهم و صاروا جميعا مِنْ أَصْحٰابِ الْقُبُورِ فانّهم عاينوا الآخرة، و علموا بخذلانهم فيها، و عدم حظّهم منها.

روي عن مقاتل: أنّ الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار، ثمّ يسأله من ربّك، و من نبيّك؟ فيقول: لا أدري. فيقول الملك: أبعدك اللّه، انظر إلى منزلك في النار، فيدعو بالويل و الثبور، و يقول: هذا لك، فيفتح باب الجنة فيقول: هذا لمن آمن باللّه، فلو كنت آمنت بربّك نزلت الجنّة، فيكون حسرة عليه، و ينقطع رجاؤه و يعلم أنّه لا حظّ له فيها، فييأس من خير الجنّة(6).

ص: 232


1- . التور: هو إناء من صفر أو حجارة كالإجّانة، و قد يتوضأ منه، و البرمة: القدر مطلقا، و جمعها برام، و هي في الأصل المتّخذة من الحجر المعروف بالحجاز و اليمن.
2- . الكافي 2/526:5، تفسير الصافي 167:5.
3- . تفسير روح البيان 491:9.
4- . تفسير روح البيان 491:9.
5- . تفسير الرازي 309:29.
6- . تفسير روح البيان 492:9.

و قيل: إنّ المعنى كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا و يرجعوا إلى الدنيا أحياء(1).

عن السجاد عليه السّلام: «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه و نوافله، امتحن اللّه قلبه للايمان، و نوّر له بصره، و لا يصيبه فقر أبدا، و لا جنون في بدنه، و لا في ولده»(2).

الحمد للّه و الشّكر له على التوفيق لاتمام تفسيرها.

ص: 233


1- . تفسير أبي السعود 241:8، تفسير روح البيان 492:9.
2- . ثواب الاعمال: 118، مجمع البيان 402:9، تفسير الصافي 167:5.

ص: 234

في تفسير سورة الصف

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الممتحنة المبدوءة و المختتمة بالنهي عن موالاة أعداء اللّه و اليهود الذين غضب اللّه تبارك و تعالى عليهم، نظمت سورة الصفّ التي فيها الترغيب إلى معاداة أعداء اللّه و الاصطفاف في مقابلهم في ميدان الجهاد طلبا لمرضاة اللّه تعالى، فابتدأها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ أعلن سبحانه بكمال عظمته المقتضية لتعظيمه و تحصيل القرب منه و المحبوبية عنده بقوله:

سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و قد مرّ تفسيره مرارا.

ثمّ وبّخ سبحانه المؤمنين على تخلّفهم عن وعدهم بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ و لأيّ علّة تظهرون و تعدون مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ و لا تفون به. روي أنّ المسلمين كانوا يقولون: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى اللّه، لبذلنا أموالنا و أنفسنا فيه، فلمّا نزل الجهاد كرهوه، فنزلت الآية(1) توبيخا عليهم بعدم وفائهم بقولهم.

في وجوب الوفاء

بالوعد و عدمه

ثمّ عظّم اللّه سبحانه قبح ترك العمل بالقول و خلف الوعد بقوله:

كَبُرَ مَقْتاً و عظم بغضا عِنْدَ اللّٰهِ و في علمه أَنْ تَقُولُوا أيّها المؤمنون مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الخلف يوجب المقت عند اللّه و عند الناس، قال اللّه: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ لآية»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، و لمقته تعرّض،

ص: 235


1- . تفسير الصافي 168:5، تفسير روح البيان 493:9.
2- . نهج البلاغة: 444 الكتاب 53، تفسير الصافي 168:5.

و ذلك قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ. .. الآيتان»(1).

أقول: ذهب بعض الأعاظم إلى وجوب الوفاء بالوعد، و قال به صاحب المستند(2) ، و ادّعى بعض الإجماع على عدم وجوبه، و الأحوط الاهتمام بالوفاء.

إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ (3) وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ (4) ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخ المخالفين للوعد الذين وعدوا بالقتال و تخلّفوا عنه، و إظهار غضبه عليهم، مدح المؤمنين المقاتلين لاعلاء كلمة التوحيد بقوله:

إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ المؤمنين اَلَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ أعداءه فِي سَبِيلِهِ و طريق مرضاته، و لإعلاء كلمة الحقّ حال كونهم صَفًّا و قائمين في مقابل الأعداء في معركة القتال مستوين و ثابتين و مستقرين، و منضمّين بعضهم ببعض كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ و جدار مَرْصُوصٌ و مستحكم لا يتحرّك من مكانه، و لا يكون فيه الخلل و الفرج.

عن ابن عباس: يوضع الحجر على الحجر، ثمّ يرصّ بأحجار صغار، ثمّ يوضع اللّبن عليه، فيسمّيه أهل مكّة المرصوص(5).

و عن ابن جبير: هذا تعليم اللّه للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوّهم(4).

ثمّ لمّا كان مخالفة المنافقين وعدهم بالقتال سببا لإيذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و انكسار قلبه الشريف، سلاّه سبحانه بشكاية موسى من إيذاء قومه بقوله:

وَ إِذْ قٰالَ قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد وقت(5) قال مُوسىٰ بن عمران مع كونه صاحب المعجزات الباهرة لِقَوْمِهِ و طائفته، و هم بنو إسرائيل، بعد ما أفرطوا في إيذائه بالقول و الفعل: يٰا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالمخالفة و العصيان فيما آمركم به وَ الحال أنّكم قَدْ تَعْلَمُونَ بالأدلّة الواضحة و المعجزات الباهرة أَنِّي رَسُولُ اللّٰهِ الّذي ارسلت إِلَيْكُمْ لهدايتكم إلى الدين الحقّ و إرشادكم إلى السعادة الأبدية، فعليكم أن تعظّموني و توقّروني، و تحسنوا إليّ فَلَمّٰا زٰاغُوا و مالوا عن الحقّ، و أصرّوا على العقائد الفاسدة، و لم يتّعظوا بمواعظه أَزٰاغَ اللّٰهُ و صرف قُلُوبَهُمْ عن قبول الدين الحقّ، بالطبع عليها، و تسليط الشيطان عليهم وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي و لا يوفّق للوصول إلى الخير و السعادة اَلْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ و الخارجين عن حدود العقل

ص: 236


1- . الكافي 1/270:2، تفسير الصافي 168:5.
2- . مستند الشيعة 389:2.
3- . تفسير روح البيان 495:9.
4- . تفسير أبي السعود 243:8، تفسير روح البيان 496:9.
5- . تفسير الرازي 312:29، تفسير روح البيان 495:9.

و طريق الصواب.

وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرٰاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ قٰالُوا هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

في بشارة

عيسى عليه السّلام ببعثة

محمد صلّى اللّه عليه و آله

ثمّ سلاّه بمخالفة قوم عيسى عليه السّلام إياه بقوله:

وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لبني إسرائيل مناديا لهم استمالة لقلوبهم إلى تصديقه: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ الذي ارسلت إِلَيْكُمْ لدعوتكم إلى التوحيد و الدين المرضيّ عند اللّه، و جئتكم حال كوني مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ و انزل قبلي عليكم مِنَ كتاب اَلتَّوْرٰاةِ الذي جاء به موسى وَ مُبَشِّراً إياكم بِرَسُولٍ عظيم الشأن الذي يَأْتِي من قبل اللّه مِنْ بَعْدِي و بعد ذهابي من بينكم. ثمّ كأنّه قيل: ما اسمه؟ قال: اِسْمُهُ أَحْمَدُ.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أنا دعوة إبراهيم، و بشرى عيسى»(1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا أن بعث اللّه عيسى عليه السّلام قال: إنّه سوف يأتي من بعدي نبيّ اسمه أحمد من ولد إسماعيل يجيء بتصديقي و تصديقكم و عذري و عذركم»(2).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لم تزل الأنبياء تبشّر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حتى بعث اللّه المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام فبشّر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك قوله: يَجِدُونَهُ يعنى اليهود و النصارى مَكْتُوباً يعني صفة محمد صلّى اللّه عليه و آله و اسمه عِنْدَهُمْ يعني في التوراة و الإنجيل - إلى أن قال -: [و هو قول اللّه عز و جلّ] يخبر عن عيسى عليه السّلام: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (3).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اسم النبي صلّى اللّه عليه و آله في صحف إبراهيم الماحي، و في توراة موسى الحادّ، و في إنجيل عيسى أحمد، و في الفرقان محمد»(4).

و عن القمي: أنه سأل بعض اليهود لم سمّيت أحمد؟ قال: «لأنّي في السماء أحمد منّي في الأرض»(5).

ثمّ وبّخ سبحانه امّة عيسى عليه السّلام أو امّة محمد صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ محمد أو عيسى عليهما السّلام

ص: 237


1- . تفسير روح البيان 498:9.
2- . الكافي 3/232:1، تفسير الصافي 169:5.
3- . الكافي 92/117:8، تفسير الصافي 169:5.
4- . من لا يحضره الفقيه 454/130:4، تفسير الصافي 169:5.
5- . تفسير القمي 365:2، و فيه: و أما أحمد فاني في السماء أحمد منه، تفسير الصافي 169:5.

بِالْبَيِّنٰاتِ و المعجزات الباهرات قٰالُوا عنادا و لجاجا هٰذٰا الذي جاءنا به باسم المعجزة سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة، لا يشكّ أحد في كونه سحرا و شعبذة.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرىٰ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعىٰ إِلَى الْإِسْلاٰمِ وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ اللّٰهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) ثمّ بيّن سبحانه أنّ الذين ينسبون المعجزات إلى السحر أظلم الناس بقوله:

وَ مَنْ هو أَظْلَمُ و أكثر إضرارا على نفسه مِمَّنِ نسب كلام اللّه، أو المعجزات التي جاء بها رسوله أي السحر و اِفْتَرىٰ عَلَى اللّٰهِ و نسب إليه اَلْكَذِبَ بنسبة الكذب إلى رسوله وَ هُوَ يُدْعىٰ بلسان رسوله إِلَى دين اَلْإِسْلاٰمِ أو إلى السلامة من المكاره في الدارين، و السعادة في النشأتين وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي و لا يرشد اَلْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ على اللّه بتضييع حقوقه، و على أنفسهم بإهلاكها في الآخرة إلى ما فيه سعادتهم و خيرهم و فلاحهم اولئك الظالمون

يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا و يخمدوا نُورَ اللّٰهِ و يبطلوا دينه أو حجّته، أو يوهنوا كتابه بِأَفْوٰاهِهِمْ و أقوالهم الفاسدة و مطاعنهم الرديئة، كمن يريد أن يطفئ نور الشمس بنفخة وَ اللّٰهُ القادر على كلّ شيء مُتِمُّ نُورِهِ و مكمّله، و مظهر دينه، و متقن حجّة رسوله، و ناشر كتابه في الآفاق وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ و المعاندون لدين الاسلام من اليهود و النصارى و غيرهم إتمامه و إكماله و ظهوره و اتقانه و انتشاره إرغاما لانوفهم، فانّ سعيهم في إنفاذ مرادهم كسعي الخفّاش في إعدام الشمس و إطفاء نورها

ص: 238

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ تِجٰارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَ أُخْرىٰ تُحِبُّونَهٰا نَصْرٌ مِنَ اللّٰهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) ثمّ لمّا بيّن سبحانه رسالة رسوله، و إيتاءه بالهدى و دين الحقّ، و تكميل لطفه و تفضّله على العباد، حثّ المؤمنين على الإخلاص في الايمان به و الجهاد معه بقوله تعالى:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتكم بمحمد هَلْ أَدُلُّكُمْ و ارشدكم عَلىٰ تِجٰارَةٍ و اكتساب و معاوضة رابحة، تعالوا و عاملوا مع ربّكم معاملة يكون أهمّ فوائدها أنّها تُنْجِيكُمْ و تخلّصكم مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ في الآخرة، كما تنجيكم التجارة الدنيوية من عذاب الفقر و ألم الفاقة.

ثمّ كأنّه قيل: أيّ تجارة هي، و كيف نعمل، و ما نصنع(1) ؟ فقال سبحانه:

تُؤْمِنُونَ أولا عن صميم القلب و خلوص النّيّة بِاللّٰهِ و بوحدانيته وَ برسالة رَسُولِهِ محمد.

عن ابن عباس قال: المؤمنون: لو نعلم أحبّ الأعمال إلى اللّه لعلمنا، فنزلت الآية، فمكثوا ما شاء اللّه يقولون: يا ليتنا نعلم ما هي، فدلّهم اللّه عليها بقوله: تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ (2). وَ بعد ذلك تُجٰاهِدُونَ أعداء اللّه فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و نصرة دينه بِأَمْوٰالِكُمْ بأن تبذلوها للفقراء و المجاهدين وَ أَنْفُسِكُمْ بأن تبذلوا مهجكم دون رسوله ذٰلِكُمْ الايمان و الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من الدنيا و ما فيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك لعملتم به، أو إن كنتم تعلمون أن العاقل لا يختار إلاّ ما هو خير له، لا تختارون غير الايمان و الجهاد في سبيل اللّه، فانّ فائدتهما إن فعلتما ذلك

يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ بكرمه ذُنُوبَكُمْ و يستر عن أنظاركم و أنظار جميع الخلق يوم القيامة معاصيكم و خطاياكم، و في تلك المغفرة نجاتكم من العذاب وَ بعد ذلك يُدْخِلْكُمْ بفضله جَنّٰاتٍ و بساتين ذات أشجار كثيرة و قصور عالية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة، و بعد دخول الجنّة يدخلكم منازل وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً مرضية نزهة كائنة فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ و خلود ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

سئل النبي صلّى اللّه عليه و آله عن هذه المساكن الطيبة فقال: «قصر من لؤلؤ في الجنة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء، في كلّ بيت سبعون وصيفا

ص: 239


1- . تفسير روح البيان 505:9.
2- . تفسير الرازي 217:29.

و وصيفة، فيعطي اللّه المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه»(1).

قد مرّ عن ابن عباس مرارا أنّ جنة عدن علم لإحدى الجنات السبعة(2).

و لكم أيّها المؤمنون مع ذلك ثواب آخر

وَ نعمة أُخْرىٰ في الدنيا تُحِبُّونَهٰا و تشتاقون إليها، و هو نَصْرٌ عزيز لكم مِنَ جانب اَللّٰهِ على أعدائكم وَ فَتْحٌ مبين لمكة، أو الروم و فارس قَرِيبٌ و عاجل وَ بَشِّرِ يا أيّها الرسول على حسب وظيفتكم اَلْمُؤْمِنِينَ بي و بك بتلك النّعم الدنيوية و الاخروية، و في توصيف النعمة الدنيوية، و هو النصر على الأعداء و فتح المسلمين بقوله: تُحِبُّونَهٰا إشعار بأنّهم يؤثرون رواج الاسلام و قوّة الدين على النّعم الاخروية.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصٰارَ اللّٰهِ كَمٰا قٰالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوٰارِيِّينَ مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اللّٰهِ قٰالَ الْحَوٰارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصٰارُ اللّٰهِ فَآمَنَتْ طٰائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ كَفَرَتْ طٰائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظٰاهِرِينَ (14) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فوائد الايمان و الجهاد، حثّ المؤمنين على الجهاد، و دعاهم إلى نصرة دينه بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا جاهدوا الأعداء و كُونُوا أَنْصٰارَ اللّٰهِ و أعوان رسوله في إعلاء كلمة التوحيد و رواج دين الاسلام كَمٰا نصر الحواريون إذ قٰالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أو المعنى: قل يا محمد للمؤمنين بك: يا أيّها الذين آمنوا، كونوا أنصار اللّه، كما قال عيسى بن مريم لِلْحَوٰارِيِّينَ: يا حواريين مَنْ أَنْصٰارِي و إنّكم جندي و عسكري تقرّبا إِلَى اللّٰهِ أو متوجّها إليه قٰالَ الْحَوٰارِيُّونَ: يا نبي اللّه نَحْنُ كلّنا أَنْصٰارَ اللّٰهِ و حماة دينه فَآمَنَتْ بعيسى طٰائِفَةٌ و جماعة قليلة مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ و أطاعوه فيما أمرهم به من نصرة دينه وَ كَفَرَتْ منهم طٰائِفَةٌ و جماعة اخرى.

عن ابن عباس، قال: يعني الذين آمنوا بعيسى في زمانه، و الذين كفروا كذلك، و ذلك لأنّ عيسى لمّا رفع إلى السماء تفرّقوا ثلاث فرق؛ فرقة قالوا: كان اللّه فارتفع، و فرقة قالوا: كان ابن اللّه فرفعه إليه، و فرقة قالوا: كان عبد اللّه و رسوله فرفعه إليه، و هم المسلمون، و اتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس، و اجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم و طردوهم في الأرض، فكانت الحالة

ص: 240


1- . مجمع البيان 423:9، تفسير روح البيان 507:9.
2- . تفسير روح البيان 508:9.

هذه حتى بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله فظهرت المؤمنة على الكافرة(1) ، فذلك قوله تعالى: فَأَيَّدْنَا و قوّينا اَلَّذِينَ آمَنُوا منهم عَلىٰ عَدُوِّهِمْ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله فَأَصْبَحُوا و صاروا اولئك المؤمنون ظٰاهِرِينَ و غالبين على عدوّهم بالحجّة بتصديق محمد صلّى اللّه عليه و آله أنّ عيسى عليه السّلام كلمة اللّه و روحه.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة الصفّ و أدمن قراءتها في فرائضه و نوافله، صفّه اللّه مع ملائكته و أنبيائه المرسلين(2).

الحمد للّه ربّ العالمين على إنعامه عليّ بالتوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 241


1- . مجمع البيان 423:9، تفسير الرازي 319:29.
2- . ثواب الأعمال: 118، مجمع البيان 416:9، تفسير الصافي 171:5.

ص: 242

في تفسير سورة الجمعة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الصفّ المبدوءة بتعظيم اللّه تعالى ببيان تسبيح الموجودات له بصيغة الماضي، المتضمّنة لبيان رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بشارة عيسى عليه السّلام ببعثته، و كونه على الهدى و دين الحقّ، المختتمة بدعوة الناس إلى التجارة الرابحة، و هو الايمان به و الجهاد معه، نظمت سورة الجمعة المبدوءة أيضا بتعظيم اللّه ببيان تسبيح جميع الموجودات له بصيغة المضارع الدالة على دوام التسبيح له في جميع الأوقات: الماضي و المستقبل، المتضمّنة لبيان رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله و عموميتها لكافة العرب و العجم و المشركين و أهل الكتاب، و أنّ نبوته و دينه من أعظم فضل اللّه و إنعامه على الخلق، و ذمّ المكذبين بآيات اللّه و المعرضين عن التوراة التي بشّرت برسالته، و حثّ الناس على ذكر اللّه و عبادته، و توبيخ المقبلين إلى التجارة الدنيوية، و كون ما عند اللّه من الثواب خيرا منها، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ عظّم سبحانه ذاته المقدّسة ببيان تسبيح الموجودات له بقوله:

يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ ثمّ وصف ذاته بالسلطنة على جميع الموجودات المقتضية لكونها بأجمعها جنوده بقوله: اَلْمَلِكِ و السّلطان الذي لا زوال لملكه و سلطانه اَلْقُدُّوسِ و المنزّه و المبرّأ من كلّ عيب و نقص اَلْعَزِيزِ و الغالب على كلّ شيء اَلْحَكِيمِ و الفاعل لما هو الأصواب و الأصلح، و الواضع لكلّ شيء في موضعه، و المعطي لكلّ شيء ما يستحقّه و يليق به، ثمّ منّ على الخلق ببعثة النبيّ الاميّ صلّى اللّه عليه و آله الذي هو من آثار سلطنته و قدرته و حكمته بقوله:

ص: 243

شيئا. و عن ابن عباس: هم الذين ليس لهم كتاب و لا نبيّ بعث فيهم (1)رَسُولاً من جنس الاميين و نبيا مِنْهُمْ و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله الذي مع امّيته يَتْلُوا و يقرأ عَلَيْهِمْ كلام اللّه و آيٰاتِهِ القرآنية التي فيها جميع العلوم و المعارف الإلهية الدالة على رسالته وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّر نفوسهم من أرجاس الأخلاق الرذيلة و الصفات الدنيّة الذميمة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ السماوي، أو الخطّ كما عن ابن عباس (2)وَ الْحِكْمَةَ قيل: هي الفرائض و السّنن(3). و قيل: هي سنّته(4). و قيل: هي العظة(5).

وَ إِنْ الشأن أنّهم كٰانُوا مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السابقة على بعثته لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ و انحراف ظاهر عن الصراط المستقيم، يعني مصرّين على الشرك، و مجبولين على ذمائم أخلاق الجاهلية، و كانوا في غاية الافتقار إلى الهادي إلى الحقّ، و الرسول المرشد إلى الصواب و سعادة الدارين.

قيل: إنّ توسيط التزكية التي هي تكميل النفس بحسب قوّتها العلمية، و تهذيبها للتفرّع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصلة بالتعليم المترتّبة على التلاوة، للايذان بأنّ كلا من الامور المترتّبة نعمة جليلة على حيالها، مستوجبة للشكر عليها، فلو روعي الترتيب في الوجود لتبادر إلى الفهم كون الكلّ نعمة واحدة(6).

وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذٰلِكَ فَضْلُ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا كَمَثَلِ الْحِمٰارِ يَحْمِلُ أَسْفٰاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ (5) ثمّ بيّن سبحانه أنّ رسالته ليست مختصة بالاميين، بل تعمّ غيرهم من أهالي جميع الأزمنة بقوله:

وَ آخَرِينَ. قيل: المعنى و يعلم الآخرين(5) ، و الذين لا يكونون مِنْهُمْ بل يكونون من غيرهم كأهل الكتاب و لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ و لم يكونوا في زمانهم و سيلحقون بهم و يكونون بعدهم.

قيل: إنّ المراد غير العرب من الأعاجم كما عن ابن عباس(6) ، و عن الباقر عليه السّلام(7).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان، و قال: «لو كان

ص: 244


1- . تفسير الرازي 3:30.
2- . تفسير روح البيان 514:9.
3- . تفسير الرازي 3:30، و فيه: و السّنة.
4- . تفسير روح البيان 514:9. (5و6) . تفسير روح البيان 514:9.
5- . تفسير الرازي 4:30، تفسير روح البيان 515:9.
6- . تفسير الرازي 4:30.
7- . مجمع البيان 429:10، تفسير الصافي 173:5.

الايمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء»(1).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «رأيتني أسقي غنما سوداء، ثمّ أتبعها غنما عفرا» قيل: هو الشاة التي يعلو بياضها الحمرة. ثمّ قال: «أوّلها يا أبا بكر» فقال: يا نبي اللّه، أما السّود فالعرب، و أما العفرة فالعجم تتبعك بعد العرب. فقال عليه السّلام: «كذلك أوّلها الملك» يعني جبرئيل(2).

و قيل: يعني بالآخرين التابعين الذين لم يلحقوا بالصحابة في الفضل(3).

و قيل: إنّ آخرين عطف على اميين(2) ، و المعنى بعث في الاميين و غيرهم من الامم و الطوائف.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ و المبالغ، في العزّة و الغلبة، و لذلك يمكّن رجلا من الاميين من ذلك الأمر العظيم اَلْحَكِيمُ المبالغ في العلم و رعاية الصلاح، و لذلك اصطفاه من كافة الناس

ذٰلِكَ المنصب العظيم، أو الدين الذي جاء به فَضْلُ اللّٰهِ و إنعامه الفاضل الذي تستحقر دونه نعم الدنيا و الآخرة يُؤْتِيهِ اللّه و يعطيه مَنْ يَشٰاءُ إعطاءه من عباده، و قد أعطاه محمدا صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و المواهب الجسيمة(3) على جميع خلقه في الدنيا و بخصوص المؤمنين، بتعليم الكتاب و الحكمة في الدنيا، و بإجزال الثواب على الايمان و الأعمال في الآخرة.

ثمّ قيل: لمّا ذكر سبحانه أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله بعث إلى الاميين و المشركين، اعترض اليهود على نبوّته بأنّه مبعوث إلى العرب خاصة، و ليس مبعوثا إلينا. أجاب سبحانه عن الاعتراض بضرب المثل(4) بقوله:

مَثَلُ اليهود اَلَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰاةَ و علموها، و كلّفوا العمل بما فيها، و تعهّدوا القيام بها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا و لم يعملوا بها، و لم يلتزموا بما فيها في عدم الانتفاع بها كَمَثَلِ الْحِمٰارِ الذي يَحْمِلُ أَسْفٰاراً و كتبا كبارا فيها علوم كثيرة، فكما لا ينتفع الحمار بتلك الكتب و العلوم التي فيها، و لا يدرك إلاّ ثقلها، لا ينتفع اليهود بالتوراة الدالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و عموم رسالته إلى الجنّ و الإنس و العرب و العجم و الأبيض و الأسود، و وجوب الايمان به على جميع الخلق إلى يوم القيامة، و إنّما قنعوا بمجرد تلاوتها، و لم يتأمّلوا في معانيها و مداليل آياتها لغاية تعصّبهم و بلادتهم بِئْسَ مثلا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ و كفروا بما في التوراة من الإخبار بعموم نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي و لا يوفّق للخير و السعادة اَلْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك الأبد و العذاب الدائم كاليهود و نظائرهم.

قُلْ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ هٰادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيٰاءُ لِلّٰهِ مِنْ دُونِ النّٰاسِ فَتَمَنَّوُا

ص: 245


1- . مجمع البيان 429:10، تفسير الصافي 172:5. (2و3) . تفسير روح البيان 515:9.
2- . تفسير الرازي 4:30.
3- . في النسخة: الجسيم.
4- . تفسير الرازي 5:30.

اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (6) وَ لاٰ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) ثمّ لمّا كان اليهود مدّعين أنّهم أبناء الأنبياء، و أنّهم أولياء اللّه، و أولى بالرسالة من العرب و الاميين، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتبهيتهم بقوله:

قُلْ يا محمد يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ هٰادُوا و تديّنوا بدين اليهودية إِنْ زَعَمْتُمْ و تخيّلتم أَنَّكُمْ أَوْلِيٰاءُ لِلّٰهِ و أحباؤه مِنْ دُونِ سائر اَلنّٰاسِ من العرب و العجم، فلا محالة تعتقدون أنّ لكم الدار الآخرة خاصة، و أنّ الجنة و نعمها مختصة بكم، إذن فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ من اللّه، و اسألوه أن يخرجكم من الدنيا كي تصلوا إلى الجنّة و النّعم الدائمة، و تستريحوا من تعب الدنيا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في الدعوى بزعمكم مطمئنين بحقانيته.

ثمّ أخبر سبحانه بكذبهم في دعوى حبّ اللّه، و أن الجنّة لهم خاصة، بل هم عالمون بأن لا حظّ لهم في النّعم الاخروية، لعلمهم بكونهم عاصين و مشاقّين للّه و للرسول بقوله:

وَ لاٰ يَتَمَنَّوْنَهُ و لا يحبّون لقاء اللّه أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و ارتكبت جوارحهم من الكفر و الطّغيان و الذنب و العصيان الموجب لاستحقاقهم النار وَ اللّٰهُ العالم بالسرائر عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ مطّلع على خواطرهم و سرائرهم من الكفر و المعاصى الموجبين لأنواع العذاب.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بالموت و العذاب بقوله:

قُلْ يا محمد لهم إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي لا تتمنّونه، بل تَفِرُّونَ مِنْهُ مخافة أن تعاقبوا على كفركم و سيئات أعمالكم لا يفيدكم الفرار منه فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ و مدرككم لا محالة ثُمَّ بعد الموت تُرَدُّونَ و ترجعون إِلىٰ عٰالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ و الحاكم المطّلع على البواطن و الظواهر فَيُنَبِّئُكُمْ و يخبركم بِمٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ و ترتكبون من الكفر و المعاصي، و تحريف التوراة، و إخفاء أوصاف رسول آخر الزمان و علائمه، و إضلال الناس، و إلقاء الشّبهات في نبوّته في القلوب، فيعذّبكم بها أشدّ العذاب.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلاٰةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)

في فضيلة يوم

الجمعة و العبادة

فيه، و ابتداء صلاة

الجمعة فيه

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الموت ملاق الناس و لا يمكن الفرار منه، بيّن ما يوجب الراحة عنده، و ما ينفع بعده بقوله:

ص: 246

إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ و أذّن المؤذّن لها مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الذي هو عيد المسلمين و أشرف الأيام الذي أمر الناس بالاجتماع فيه للعبادة، و لذا سمّي جمعة فَاسْعَوْا و أسرعوا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ.

عن الباقر عليه السّلام قال: «اعملوا و عجّلوا، فانّه يوم مضيّق على المسلمين، و ثواب أعمال المسلمين على قدر ما ضيّق عليهم، و الحسنة و السيئة تضاعف». قال: «و اللّه بلغني أنّ أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا يتجهّزون للجمعة يوم الخميس، لأنّه يوم مضيّق على المسلمين»(1).

وَ ذَرُوا و اتركوا اَلْبَيْعَ و المعاملة ذٰلِكُمْ السعي إلى العبادة و ترك البيع خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع من التواني و المعاملة، أو من الدنيا و ما فيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير و الشرّ، و ما في السعي من الأجر.

في الحديث: «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على باب المسجد بأيديهم صحف من فضّة و أقلام من ذهب، يكتبون الأول فالأول على مراتبهم، فاذا خرج الامام طويت الصّحف و اجتمعوا للخطبة، و المهاجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة، ثمّ الذي يليه كالمهدي بقرة، ثمّ الذي يليه كالمهدي شاة» حتى ذكر الدّجاجة و البيضة(2).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فأقام بها يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و أسّس مسجدهم، ثمّ خرج يوم الجمعة عائدا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتّخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا، فخطب صلّى اللّه عليه و آله و صلّى و قال فيها: «الحمد للّه و استعينه و استهديه، و أومن به و لا أكفره، و اعادي من يكفر به، و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله، أرسله بالهدى و دين الحقّ و النور و الموعظة و الحكمة، على فترة من الرسل، و قلّة من العلم، و ضلالة من الناس، و انقطاع من الزمان، و دنوّ من الساعة، و قرب من الأجل، من يطع اللّه و رسوله فقد رشد، و من يعص اللّه و رسوله فقد غوى و فرط و ضلّ ضلالا بعيدا، اوصيكم بتقوى اللّه، فانّ خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة، و أن يأمره بتقوى اللّه، و احذر ما حذّركم [اللّه] من نفسه...». إلى آخر الخطبة الشريفة(3).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال بعد الخطبة: «إنّ اللّه افترض عليكم الجمعة في يومي هذا، و في مقامي هذا، فمن تركها في حياتي و بعد مماتي، و له إمام عادل من غير عذر، فلا بارك اللّه له، و لا جمع اللّه شمله،

ص: 247


1- . الكافي 10/415:3، تفسير الصافي 174:5.
2- . تفسير روح البيان 523:9.
3- . تفسير روح البيان 522:9.

ألا فلا حجّ له، ألا فلا صوم له، و من تاب تاب اللّه عليه»(1).

فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلاٰةُ التي نوديتم لها فَانْتَشِرُوا و تفرّقوا فِي وجه اَلْأَرْضِ لإقامة مصالحكم و قضاء حوائجكم و إصلاح معاشكم وَ ابْتَغُوا أيّها المؤمنون، و اطلبوا لأنفسكم و أهليكم الرزق الحلال الذي هو مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ و إحسانه إليكم. روي أنّه قال: «طلب الكسب بعد الصلاة فريضة(2) بعد الفريضة»(3).

و عن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنّما هو عيادة المرضى، و حضور الجنائز، و زيارة أخ في اللّه(4). و عن أنس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ما يقرب منه(5).

وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ في جميع الأوقات و الأحوال ذكرا كَثِيراً و لا تخصّوا ذكره بحال الصلاة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تنجون من المهالك، و تفوزون بأعلى المقاصد.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا أتيتم السوق فقولوا: لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، له الملك، و له الحمد، يحيي و يميت، و هو على كلّ شيء قدير، فانّ من قالها كتب اللّه له ألف ألف حسنة، و حطّ عنه ألف ألف سيئة، و رفع له ألف ألف درجة»(6).

وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً قُلْ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجٰارَةِ وَ اللّٰهُ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ (11) ثمّ لمّا نهى اللّه سبحانه المؤمنين عن البيع و التجارة وقت النداء، وبّخ سبحانه الذين أقبلوا إلى التجارة حين خطبة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ سمعوا لَهْواً و صوت طبل و صفق اِنْفَضُّوا و تفرّقوا من حولك متوجّهين إِلَيْهٰا حبّا للدنيا و زخارفها وَ تَرَكُوكَ وحيدا قٰائِماً على المنبر.

روي أن دحية بن خليفة الكلبي قدم المدينة بتجارة من الشام، و كان قبل إسلامه، و كان بالمدينة مجاعة و غلاء سعر، و كان معه جميع ما يحتاج إليه من برّ و دقيق و زيت و غيرها، و النبي صلّى اللّه عليه و آله يخطب يوم الجمعة، فلمّا علم أهل المسجد ذلك قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه، فما بقي معه إلاّ ثمانية أو أحد عشر أو اثنا عشر أو أربعون، و فيهم عليّ عليه السّلام و أبو بكر و عمر و عثمان و طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة [ابن] الجرّاح و سعيد بن زيد و بلال و عبد اللّه بن

ص: 248


1- . تفسير روح البيان 524:9.
2- . في تفسير روح البيان: هو الفريضة.
3- . تفسير روح البيان 525:9.
4- . تفسير أبي السعود 250:8.
5- . مجمع البيان 435:10، تفسير الصافي 175:5.
6- . تفسير الرازي 9:30.

مسعود. و في رواية: عمار بن ياسر [بدل عبد اللّه] و جابر و امرأة فقال: «و الذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم اللّه عليهم الوادي نارا» و في رواية: «لو لا الباقون لنزلت عليهم الحجارة»(1).

ثمّ أمر اللّه سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بوعظ المسلمين و نصحهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المؤمنين:

اعلموا أيّها المؤمنون أنّ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ و أعدّه من الثواب للمصلّين و مستمعي الخطبة في الآخرة خَيْرٌ لكم و أنفع مِنَ استماع اَللَّهْوِ و صوت الطّبل و الصّفق وَ مِنَ نفع اَلتِّجٰارَةِ و تحصيل البرّ و الدقيق و غيرهما لرزقكم و رزق أهليكم وَ اللّٰهُ القادر على كلّ شيء خَيْرُ الرّٰازِقِينَ فانّ عنده خزائن السماوات و الأرض، و لا ينقص منها شيء بالعطاء، و هو الجواد الذي لا يبخل، فاسعوا إليه و اطلبوا الرزق منه.

عن الصادق عليه السّلام: «الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، و في صلاة الظهر بالجمعة و المنافقين، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل بعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان ثوابه و أجره على اللّه الجنّة»(2).

ص: 249


1- . تفسير روح البيان 526:9.
2- . ثواب الأعمال: 118، مجمع البيان 427:9، تفسير الصافي 176:5.

ص: 250

في تفسير سورة المنافقين

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذٰا جٰاءَكَ الْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ (1) اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الجمعة المتضمّنة لبيان عظمة اللّه و منّته على الناس بإرسال محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة، و منافع بعثته، و عموم رسالته لكافة الناس إلى يوم القيامة، و معارضة اليهود و إلقائهم الشّبهة في عموم رسالته، و الجواب عنها، و ذمّ المسلمين على توجّههم إلى التجارة و اللّهو، نظمت سورة المنافقين المتضمّنة لبيان كيد المنافقين و إلقائهم الشّبهات في رسالته، و أمر المؤمنين بالإعراض عن الأولاد و الأموال الملهين عن ذكر اللّه، و إن في تركه الخسران، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في ذمّ المنافقين بقوله:

إِذٰا جٰاءَكَ يا محمد اَلْمُنٰافِقُونَ الذين يظهرون الاسلام و يبطنون الكفر و حين حضروا عندك قٰالُوا لك نفاقا و كيدا: إنّا نَشْهَدُ و نقرّ عن اعتقاد جازم و يقين صادق إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ و المبعوث من قبله إلى الخلق لهدايتهم إلى الدين الحقّ وَ اللّٰهُ العالم بكلّ شيء يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ و أنّ شهادتهم برسالتك صدق و مطابق للواقع وَ اللّٰهُ مع ذلك يَشْهَدُ شهادة حقّه إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ الذين يشهدون برسالتك كعبد اللّه بن ابي و اصحابه و أضرابه لَكٰاذِبُونَ فيما تضمّنت(1) شهادتهم من إظهار اليقين و الاعتقاد بها، اولئك الذين

اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ الفاجرة و جعلوها جُنَّةً و ترسا و وقاية لأنفسهم من القتل و السبي، و أموالهم من النهب و الغارة.

ص: 251


1- . في النسخة: تضمّن.

قيل: إنّ قولهم نَشْهَدُ جار مجري اليمين في التأكيد(1).

فَصَدُّوا و منعوا أنفسهم، أو الناس عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ و قبول دينه و طاعته و طاعة رسوله إلاّ إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ من النّفاق و الصدّ و الكذب

ذٰلِكَ الحكم من اللّه بكذبهم، أو بسوء أعمالهم إنّما هو بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بألسنتهم بتوحيد اللّه و رسالة رسوله ثُمَّ كَفَرُوا بهما بقلوبهم، أو اظهروا الكفر عند أعوانهم الشياطين، أو آمنوا بالتوراة ثمّ كفروا بما فيها من نعوت خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله فَطُبِعَ و ختم لذلك عَلىٰ قُلُوبِهِمْ بكفرهم فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ و لا يفهمون القرآن و صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى رسالته، أو فوائد الايمان و ضرر الكفر، أو لا يفهمون أنّ قلوبهم مطبوعة.

وَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسٰامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ (4) وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّهم بكثرة مكرهم بالنبي و المسلمين، ذمّهم بقلّة فهمهم و إدراكهم بقوله:

وَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ و نظرت إليهم تُعْجِبُكَ و يعظم في نفسك أَجْسٰامُهُمْ من حيث الضّخامة و صباحة الوجه وَ إِنْ يَقُولُوا لك قولا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم و ذلاقة لسانهم، و لكنّهم في عدم الفهم و العقل و النفع كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ يابسة و عيدان غليظة مُسَنَّدَةٌ و معتمدة على الحائط، و من غاية جبنهم و شدّة ضعف قلوبهم يَحْسَبُونَ و يتوهّمون كُلَّ صَيْحَةٍ سمعوها من أحد و نداء مناد و لو لإنشاد ضالّته، أو انفلات دابّته، أنّه من عدوّهم واقعة عَلَيْهِمْ حيث يتوقّعون في كلّ ساعة أن يظهر اللّه نفاقهم و يهتك سرّهم و يكشف سرّهم فيقصدهم المسلمون، فاعلم يا محمد أن هُمُ الْعَدُوُّ الكاملون في العداوة لك و للمسلمين فَاحْذَرْهُمْ و احترز منهم أن تأمنهم على سرّك و تدخلهم في أمر من امورك قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ و أفناهم من وجه الأرض و لعنهم، و العجب من حمقهم و جهلهم أنّهم أَنّٰى يُؤْفَكُونَ و كيف يعدلون و يصرفون عن الحقّ مع كمال وضوحه و لمعان نوره

وَ من حمقهم أنّهم إِذٰا قِيلَ لَهُمْ نصحا من قبل المؤمنين حين ظهور فسادهم: أيّها المنافقون، تَعٰالَوْا عند الرسول و اتوه يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ و يسأل اللّه العفو من ذنوبكم لَوَّوْا و عطفوا رُؤُسَهُمْ و أمالوا وجوههم إلى الطرف الآخر وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ و يعرضون عن القائل

ص: 252


1- . تفسير الرازي 13:30.

وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الإتيان عند الرسول، و يتأنّفون عن أن يسألوه الاستغفار لهم.

روي أنّه لمّا نزل القرآن على الرسول صلّى اللّه عليه و آله بذمّ المنافقين مشى(1) إليهم عشائرهم من المؤمنين و قالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق، و أهلكتم أنفسكم، فاتوا رسول اللّه و توبوا إليه من النفاق، و اسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك و زهدوا في الاستغفار فنزلت(2).

و عن ابن عباس: لمّا رجع عبد اللّه بن أبي من أحد بكثير من الناس، مقته المسلمون و عنّفوه، و أسمعوه المكروه، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يستغفر لك و يرضى عنك؟ فقال:

لا أذهب إليه، و لا اريد أن يستغفر لي، و جعل يلوي رأسه. فنزلت(3).

سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاٰ تُنْفِقُوا عَلىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ حَتّٰى يَنْفَضُّوا وَ لِلّٰهِ خَزٰائِنُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَفْقَهُونَ (7) ثمّ أخبر اللّه تعالى بعدم قابليتهم للعفو و المغفرة بقوله:

سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ و مساويا بالنسبة إليهم أَسْتَغْفَرْتَ يا محمد لَهُمْ إذا جاءوك معتذرين من نفاقهم و سيئات أعمالهم أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لاستكبارهم عن الاعتذار و طلب الاستغفار لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ أبدا لعدم قابليتهم للعفو و المغفرة لإصرارهم على الكفر و الفسوق إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَهْدِي و لا يوصل إلى الخير و السعادة الأبدية اَلْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ و الجماعة الخارجين عن الدين و حدود العقل و الصلاح.

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم قابليتهم للمغفرة و بلوغهم إلى غاية الفسق و الشقاوة بقوله:

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ للأنصار جهلا و عنادا للحقّ: أيّها الأنصار لاٰ تُنْفِقُوا من أموالكم عَلىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ من المؤمنين المهاجرين إليه حَتّٰى يَنْفَضُّوا و يتفرّقوا من حوله و يرجعوا إلى أوطانهم و عشائرهم و يرجع العبيد إلى مواليهم و الأبناء إلى آبائهم. قيل: إنّ قولهم (رسول اللّه) إما للهزء، أو لاشتهاره عليه السّلام بهذا اللّقب(2) ، أو أنّهم قالوا (على من عند محمد) و ذكره اللّه بهذا اللقب إجلالا له(3).

ثمّ أبطل سبحانه قولهم بقوله: وَ لِلّٰهِ خَزٰائِنُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و بيده أرزاق الخلائق يعطيها لمن يشاء و يقدر وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لجهلهم باللّه و شئونه لاٰ يَفْقَهُونَ ذلك، و لذا يقولون من مقالات الكفر ما يقولون.

ص: 253


1- . في النسخة: سيء. (2و3) . تفسير الرازي 15:30.
2- . تفسير روح البيان 536:9.
3- . مجمع البيان 444:10.

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنٰا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ (8) ثمّ حكى سبحانه قولهم الآخر الذي هو أشنع من قولهم الأول بقوله:

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنٰا من سفرنا هذا إِلَى الْمَدِينَةِ و اللّه لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ و هم المنافقون باعتقادهم، أو خصوص عبد اللّه بن ابي مِنْهَا الْأَذَلَّ و هم المؤمنون، أو خصوص النبي صلّى اللّه عليه و آله.

روي أنّ في غزوة بني المصطلق ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري أجير عمر بن الخطاب يقود فرسه و سنان الجهمي حليف عبد اللّه بن ابي رئيس المنافقين و اقتتلا، فصرخ جهجاه بالمهاجرين، و سنان بالأنصار، فاعان جهجاه جعال من فقراء المهاجرين، و لطم سنانا، فاشتكى إلى عبد اللّه بن ابي، فقال للأنصار ما ذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم، و قاسمتموهم أموالكم، أما و اللّه لو أمسكتم من جعال و ذوي فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم، و لأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم، فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد، و لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ عنى بالأعزّ نفسه، و بالأذلّ جانب المؤمنين، أو خصوص الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما نسب سبحانه القول إلى المنافقين لرضاهم به.

فسمع ذلك زيد بن أرقم و هو حدث، فقال: أنت و اللّه الذليل القليل المبغض في قومك، و محمد في عزّ من الرحمن، و قوة من المسلمين. فقال ابن أبي: اسكت، فانّما كنت ألعب.

فأخبر زيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما قال ابن أبي، فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عمر: دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إذا ترغم أنوفا كثيرة بيثرب. فقال عمر: فإن كرهت أن يقتله المهاجرون، فأمر به أنصاريا. فقال: إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. و قال عليه السّلام لابن أبي:

«أنت صاحب الكلام الذي بلغني»؟ قال: و اللّه الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، و إنّ زيدا لكاذب. فقال الحاضرون: شيخنا و كبيرنا يصدّق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم. فقال رسول اللّه لزيد: «لعلّك غضبت عليه»؟ قال: لا. قال: «فلعلّك أخطاك سمعك»؟ قال: لا. قال: «فلعلّه اشتبه عليك» قال: لا.

فلمّا نزلت الآية لحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زيدا من خلفه، فعرك اذنه، و قال: «وفت اذنك يا غلام، إنّ اللّه صدّقك و كذّب المنافقين»(1). و ردّ عليهم بقوله: وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ لا لغيرهم وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ ذلك لجهلهم و غرورهم.

ص: 254


1- . تفسير روح البيان 537:9.

روى بعض العامة أنه قيل للحسن بن علي عليه السّلام: إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها - أي كبرا - فقال:

«ليس ذلك بتيه، و لكنّه عزّة» و تلا الآية(1).

و عن القمي، قال: نزلت الآية أو السورة في غزوة مريسيع - و هي غزوة بني المصطلق - في سنة خمس من الهجرة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج إليها، و لمّا رجع منها نزل على بئر، و كان الماء قليلا فيها، و كان أنس بن سيّار حليف الأنصار، و كان الجهجاه بن سعيد الغفارى أجيرا لعمر بن الخطاب، فاجتمعوا على البئر، فتعلّق دلو أنس بن سيّار بدلو جهجاه، فقال أنس بن سيّار: دلوي. و قال جهجاه:

دلوي، فضرب جهجاه يده على وجه انس بن سيّار، فسال منه الدم، فنادى أنس بن سيّار بالخرزج، و نادى جهجاه بقريش، فأخذ الناس السلاح و كاد أن تقع الفتنة.

فسمع عبد اللّه بن ابي النداء، فقال: ما هذا؟ فأخبروه بالخبر، فغضب غضبا شديدا، ثمّ قال: قد كنت كارها لهذا المسير، [إنّي] لأذلّ العرب، ما ظننت أن أبقى إلى أن أسمع مثل هذا النداء فلا يكن عندي تغيير(2). ثمّ أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم، أنزلتموهم منازلكم، و واسيتموهم بأموالكم، و وقيتموهم بانفسكم، و أبرزتم نحوركم للقتل، فأرمل نساءكم، و أيتم صبيانكم، و لو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثمّ قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.

و كان في القوم زيد بن أرقم، و كان غلاما قد راهق، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ظلّ شجرة و عنده قوم من المهاجرين و الأنصار، و جاء زيد فأخبره بما قال عبد اللّه بن ابي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعلّك و همت يا غلام» قال: لا و اللّه ما وهمت. فقال: «لعلّك غضبت عليه» قال: لا و اللّه ما غضبت عليه. قال:

«فلعلّه شبّه عليك» قال: لا و اللّه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لشقران مولاه: «أحدج»(3). فأحدج راحلته و ركب، فتسامع الناس بذلك، فقالوا:

ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليرحل في مثل هذا الوقت. فرحل الناس و لحقه سعد بن عبادة. فقال: السّلام عليك يا رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته. فقال: «و عليك السّلام» فقال: ما كنت لتركب في مثل هذا الوقت؟ فقال: «أو ما سمعت قولا قال صاحبكم»؟ قال: و أيّ صاحب لنا غيرك يا رسول اللّه؟ قال:

«عبد اللّه بن ابيّ زعم انه ان رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل» فانّك و أصحابك الأعزّ، و هو و أصحابه الأذلّ.

فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومه كلّه، لا يكلّمه أحد، فأقبلت الخزرج على عبد اللّه بن ابي يعذلونه،

ص: 255


1- . تفسير روح البيان 538:9.
2- . في المصدر: تعيير، و في النسخة: تعبير.
3- . أحدج بعيره: شدّ عليه قتبه بأداته.

فحلف عبد اللّه أنّه لم يقل شيئا من ذلك، فقالوا: فقم بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى نعتذر إليه، فلوى عنقه، فلمّا جنّ الليل سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليله كلّه و نهاره، فلم ينزلوا إلاّ للصلاة، فلمّا كان من الغد نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل أصحابه، و قد أمهدهم الأرض من السّهر الذي اصابهم، فجاء عبد اللّه بن ابي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فحلف أنّه لم يقل ذلك، و أنّه ليشهد لا إله إلاّ اللّه، و إنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ زيدا قد كذب عليّ، فقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منه، و أقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه، و يقولون له:

كذبت على عبد اللّه بن ابي سيّدنا.

فلمّا رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان زيد معه يقول: اللهمّ إنّك لتعلم أنّي لم أكذب على عبد اللّه بن ابي، فما سار إلاّ قليلا حتى أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان يأخذه من البرحاء(1) عند نزول الوحى عليه، فثقل حتّى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي، فسرّي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يسكب العرق عن جبهته، ثمّ أخذ باذني زيد بن أرقم، فرفعه من الرّحل، ثمّ قال: «يا غلام، صدق فوك، و وعى قلبك، و أنزل اللّه فيك قرآنا» فلمّا نزل جمع أصحابه، و قرأ عليهم سورة المنافقين، ففضح اللّه عبد اللّه بن ابي(2).

[و في رواية عن أبي جعفر عليه السّلام] قال: فلمّا نعتهم اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و عرّفه [مساءتهم]، مشى إليهم عشائرهم فقالوا لهم: قد افتضحتم، فأتوا نبيّ اللّه يستغفر لكم، فلووا رءوسهم و زهدوا في الاستغفار(3).

روي أنّ ولد عبد اللّه بن ابي أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إن كنت عزمت على قتل أبي، فمرني أن أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه فو اللّه لقد علمت الأوس و الخزرج أنّي أبرهم ولدا بوالد، فإنّي أخاف أن تأمر غيري فيقتله، فلا تطيب نفسي أنّي انظر إلى قاتل عبد اللّه، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «بل نحسن لك صحابته ما دام معنا»(4).

و عن (الكافي) عن الكاظم عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى سمّى من لم يتّبع الرسول صلّى اللّه عليه و آله في ولاية وصيّه منافقين، و جعل من جحد وصيّه إمامته كمن جحد محمدا صلّى اللّه عليه و آله و أنزل بذلك قرآنا، فقال:

يا محمد إِذٰا جٰاءَكَ الْمُنٰافِقُونَ بولاية وصيك قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ بولاية علي لَكٰاذِبُونَ * اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ و السبيل هو الوصي إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا برسالتك ثُمَّ كَفَرُوا بولاية وصيك فَطُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ يقول: لا يعقلون بنبوتك، و إذا قيل لهم ارجعوا إلى

ص: 256


1- . البرحاء: الشدّة و المشقّة.
2- . تفسير القمي 368:2، تفسير الصافي 178:5.
3- . تفسير القمي 370:2، تفسير الصافي 180:5.
4- . تفسير القمي 370:2، تفسير الصافي 180:5.

ولاية عليّ يستغفر لكم النبي من ذنوبكم لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ قال اللّه: وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ عن ولاية علي وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عليه ثمّ عطف القول من اللّه بمعرفته بهم فقال: سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ يقول: الظالمين لوصيّك(1).

أقول: لا شكّ في أنّ الرواية في بيان تأويل الآية لا تفسيرها.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْخٰاسِرُونَ (9) وَ أَنْفِقُوا مِنْ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّٰالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّٰهُ نَفْساً إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهٰا وَ اللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (11) ثمّ لمّا كان الكفر و النفاق مع وضوح الحقّ لا يكون إلاّ لجمع الأموال و راحة الأولاد، وعظ اللّه سبحانه المنافقين و المؤمنين بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُلْهِكُمْ و لا تغفلكم أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ و لا يشغلكم الاهتمام بتدبير امورهما و تنظيم مصالحهما عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ و التوجّه إليه و القيام بعبادته وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ التلهّي بالمال و الولد و الاشتغال بالامور الدنيوية فَأُولٰئِكَ الغافلون و الملهون عن ذكر اللّه هُمُ الْخٰاسِرُونَ في تجارتهم في سوق الدنيا، حيث إنّهم باعوا الجنة و النّعم الدائمة و الراحة الأبدية باللّذّة الدنيوية القليلة الفانية المشوبة مع التعب الكثير.

و في الحديث: «ما طلعت الشمس إلاّ بجنبيها ملكان يناديان و يسمعان الخلائق غير الثقلين: يا أيها الناس: هلمّوا إلى ربّكم، ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى»(2).

وَ أَنْفِقُوا شيئا مِنْ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ و أعطيناكم بفضلنا في سبيل اللّه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ و عاين مخايله و أماراته فَيَقُولَ عند حلوله تمنيا و تحسّرا: يا رَبِّ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي و هلاّ أمهلتني إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ و أمد قصير و زمان قليل في الدنيا فَأَصَّدَّقَ مالي للفقراء، و أنفق عليهم تقرّبا إليك، أو أؤدّي زكاتي وَ أَكُنْ في آخر عمري مِنْ عبادك اَلصّٰالِحِينَ و المتعبّدين المخلصين.

عن ابن عباس: من كان له مال يجب فيه الزكاة فلم يزكّه، أو مال يبلغه إلى بيت اللّه فلم يحجّ، يسأل عند الموت الرجعة فقال رجل: اتق اللّه يا ابن عباس، إنّما سألت الكفّار الرجعة. فقال ابن عباس: إنّي اقرأ عليك هذا القرآن. فقال: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّٰالِحِينَ فقال

ص: 257


1- . الكافي 91/358:1، تفسير الصافي 180:5.
2- . تفسير روح البيان 541:9.

الرجل: ما يوجب الزكاة. قال: مائتا درهم. قال: ممّا يوجب الحجّ. قال: الزاد و الراحلة(1).

و روي عنه أيضا أنه قال: هذا دليل على أنّ القوم لم يكونوا مؤمنين، إذ المؤمن لا يسأل الرجعة(2).

و قيل: لا ينزل الموت بأحد لم يحجّ و لم يؤدّ الزكاة إلا و سأل الرجعة، و قرأ هذه الآية(3).

و عن (الفقيه) سئل [الصادق] عليه السّلام عن قول اللّه: فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّٰالِحِينَ قال: (أصدق) من الصدقة وَ أَكُنْ مِنَ الصّٰالِحِينَ أحجّ»(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «الصلاح هنا الحجّ»(3).

و عن ابن عباس قال: تصدّقوا قبل ان ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة و لا ينفع عمل(4).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من انقضى أجله و حان حينه لا يمهل في الدنيا بقوله:

وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّٰهُ عن الموت أبدا نَفْساً من النفوس إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهٰا و حضر وقت موتها وَ اللّٰهُ خَبِيرٌ و عالم بِمٰا تَعْمَلُونَ من خير و شرّ، فيجازيكم على حسب استحقاقكم في الآخرة.

قد مرّ ثواب قراءتها(5).

ص: 258


1- . تفسير روح البيان 542:9. (2و3) . تفسير الرازي 19:30.
2- . من لا يحضره الفقيه 618/142:2، تفسير الصافي 181:5.
3- . مجمع البيان 445:10، تفسير الصافي 181:5.
4- . تفسير الرازي 19:30.
5- . تقدم في سورة الجمعة.

في تفسير سورة التغابن

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة المنافقين المتضمّنة لبيان سوء أخلاق المنافقين و أقوالهم، و أنّ خزائن السماوات و الأرض و العزّة الكاملة له تعالى، و وعظ الناس بأنّه لا ينبغي أن تلهيهم أموالهم و أولادهم عن ذكر اللّه، و عليهم أن يتّقوا اللّه و ينفقوا أموالهم في سبيله، نظمت سورة التغابن المبدوءة ببيان عظمة اللّه و عزّه و جلاله، و أنّ الناس صنفان: كافر في الظاهر و الباطن، و مؤمن خالص، و أنّه لا ينبغي للانسان أن يفتتن بمحبّة الأزواج و الأولاد و الأموال، بل عليه أن يتّقي اللّه و ينفق أمواله في سبيله، و ذكر في السورة السابقة أنّ الملهون عن ذكر اللّه في الخسارة، و هنا بيّن أن المنفقين لهم الفلاح في الدارين، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

ثمّ بيّن سبحانه كمال عظمته و عزّته بقوله:

يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ قد مرّ تفسيره و لِلّٰهِ تعالى وحده اَلْمُلْكُ و السلطنة المطلقة التامة في تمام عوالم الوجود وَ لَهُ الْحَمْدُ على نعمه السابغة الوافرة، فعليكم أن تتذلّلوا لعزّه، و تهابوه لسلطانه، و تستغرقوا في ذكره، و لا تلهوا عن تسبيحه و حمده و شكره.

ثمّ لمّا خصّ ملك الوجود بنفسه، و لازمه اختصاص التصرّف فيه بذاته، بيّن كمال قدرته بقوله:

وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الايجاد و الإعدام و التصرّف و التدبير في الموجودات قَدِيرٌ لا عجز في ساحته، و لا مانع عن إنفاذ إنفاذ إرادته.

ثمّ ذكر سبحانه الناس بأصل النّعم الذي أنعم عليهم و أعظمها بقوله:

ص: 259

في جميع الأوقات، و مع ذلك صرتم صنفين فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ به لجهله و عناده وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به مصدّق بأنّه خالقه و رازقه، و المنعم عليه بالنّعم الجسام، فيشكره و يقوم بمرضاته. عن ابن عباس: أنّ اللّه خلق بني آدم مؤمنا و كافرا، ثمّ يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا و كافرا(1). قيل: يعني فمنكم جاحد، و منكم مصدّق(2).

و قيل: يعني فمنكم كافر في السرّ مؤمن في الظاهر و العلانية كالمنافقين، و كافر في العلانية و مؤمن في السرّ كأبي طالب و عمّار بن ياسر(3).

ثمّ هدّد على الكفر و العصيان، و وعد على الايمان و الطاعة بقوله: وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ من الكفر و العصيان و الايمان و الطاعة بَصِيرٌ و مطّلع في الغاية، و يجازيكم يوم القيامة حسب استحقاقكم و أعمالكم، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشر.

عن الصادق عليه السّلام - في هذه الآية قال: «عرف اللّه إيمانهم بولايتنا و كفرهم بتركها يوم أخذ [عليهم] الميثاق في صلب آدم و هم ذرّ»(4).

خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مٰا تُسِرُّونَ وَ مٰا تُعْلِنُونَ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ (4) ثمّ ذكر سبحانه نعمتين عظيمتين اخريين بقوله:

خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة خلقا بديعا نافعا، حيث إنّ جميع الحيوانات بإمطار السماوات و إنبات الأرض يرتزقون و يتعيّشون وَ صَوَّرَكُمْ يا بني آدم في الأرحام بقدرته فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ و زيّن أشكالكم ببدائع الصفات من استواء القامة و اعتدال الأعضاء مع ما فيكم من الجمال الظاهر و كمال القوى و المشاعر التي نيطت به الكمالات الظاهرية و الباطنية المستتبعة للرّقي إلى عام القرب و الرّوحانية وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ و المرجع في ترقّياتكم في هذا العالم بالعلم و العمل و بعد خروجكم من الدنيا، فخذوا في أعمال القوي و الجوارح التي أنعم اللّه بها عليكم، حتّى تلاقوا ربّكم و هو راض منكم غير ساخط عليكم.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الناس صنفان: كافر و مؤمن، و مصير الكلّ إليه فيجازيهم على حسب

ص: 260


1- . تفسير الرازي 21:30.
2- . تفسير الرازي 21:30.
3- . تفسير الرازي 21:30، و لم يرد فيه: أبو طالب.
4- . تفسير القمي 371:2، الكافي 4/341:1، تفسير الصافي 182:5.

استحقاقهم، بيّن سبحانه سعة علمه بجميع الموجودات في جميع العوالم العلوية و السّفلية بقوله:

يَعْلَمُ بذاته مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ من الموجودات الكبيرة و الصغيرة، و أحوالها الخفية و الجلية.

ثمّ أكّد علمه أحوال الناس تشديدا للوعد و الوعيد و إرعابا للقلوب بقوله: وَ يَعْلَمُ مٰا تُسِرُّونَ و ما تسترونه عن غيركم من الأعمال وَ مٰا تُعْلِنُونَ و تظهرونه لسائر الناس من الطاعة و المعصية وَ اللّٰهُ العظيم المنتقم عَلِيمٌ و محيط بِذٰاتِ الصُّدُورِ و خطورات القلوب و مكنونات الضمائر، فلا يخفي عليه خافية، و لا يعزب عنه مثقال ذرة، فيجازيكم حين رجوعكم إليه على عقائدكم و أعمالكم، فأحسنوها كما أحسن صوركم و نظم امور معاشكم.

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (5) ذٰلِكَ بِأَنَّهُ كٰانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَقٰالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنٰا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللّٰهُ وَ اللّٰهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) ثمّ وجّه خطابه إلى الكفّار و هدّدهم بمثل ما نزل على الكفرة من الامم السابقة من العذاب بقوله:

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ و لم يصل إليكم أيّها الكفار الحاضرون في عصر النبي الخاتم صلّى اللّه عليه و آله نَبَأُ الامم اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كأمّة نوح و هود و صالح، و خبر حالهم السيئ، و ذلك الخبر الهائل أنّهم أصرّوا على الكفر باللّه و رسله فَذٰاقُوا و أحسّوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ و شدّة عاقبة كفرهم في الدنيا حيث استأصلهم بالعذاب وَ لَهُمْ في الآخرة عَذٰابٌ أَلِيمٌ لا يمكن بيان شدّته و إيلامه في الدنيا و كان

ذٰلِكَ العذاب الدنيوي و الاخروي بِأَنَّهُ كٰانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ من قبل اللّه مستدلّين على رسالتهم بِالْبَيِّنٰاتِ و المعجزات الباهرات فَقٰالُوا جوابا لرسلهم و إنكارا لرسالتهم: أَ بَشَرٌ مثلنا يَهْدُونَنٰا و يرشدوننا إلى معبودنا و دين آخر؟! فتعجّبوا من أن يكون الرسول بشرا، و لم يتعجّبوا من أن يكون إلههم حجرا فَكَفَرُوا باللّه و رسله جهلا و عنادا وَ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن قبول قولهم و التدبّر في معجزاتهم وَ اسْتَغْنَى اللّٰهُ عن إيمانهم و طاعتهم، و لذا أهلك جميعهم و قطع دابرهم، و لو لا غناء، ما فعل ذلك وَ اللّٰهُ المالك لجميع الموجودات الخالق لهم غَنِيٌّ حَمِيدٌ و محمود في فعاله، أو مستحقّ للحمد بذاته و لو لم يكن حامد.

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمٰا عَمِلْتُمْ وَ ذٰلِكَ عَلَى اللّٰهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنٰا وَ اللّٰهُ بِمٰا

ص: 261

تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذٰلِكَ يَوْمُ التَّغٰابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ يَعْمَلْ صٰالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) ثمّ لمّا أخبر سبحانه بعذاب الامم السابقة في الآخرة، حكى إنكار المشركين المعاد بقوله:

زَعَمَ و ظنّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يحيوا بعد موتهم و لن يُبْعَثُوا أحياء من قبورهم للحساب و الجزاء أبدا.

ثمّ أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بردّ قولهم ذلك بقوله: قُلْ يا محمد لهم: بَلىٰ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ من قبوركم للحساب و المجازاة ثُمَّ بعد البعث لَتُنَبَّؤُنَّ و لتخبرنّ بِمٰا عَمِلْتُمْ في الدنيا من الكفر و العصيان برؤية العذاب عليه وَ ذٰلِكَ البعث و التعذيب عَلَى اللّٰهِ القادر على كلّ شيء يَسِيرٌ و سهل لكمال القدرة و وجود المقتضي و عدم المانع، فإذا كان الأمر كذلك

فَآمِنُوا أيها الناس بِاللّٰهِ و وحدانيته وَ رَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنٰا على محمد صلّى اللّه عليه و آله، و هو القرآن المبين لكلّ حقّ و المظهر لكلّ صواب.

و عن الكاظم عليه السّلام: «الامامة هي النور»(1).

و عن الباقر عليه السّلام: «النور و اللّه الأئمة»(2).

وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ من الايمان و العمل بالقرآن خَبِيرٌ و مطّلع في الغاية، و اذكروا أيها الناس

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ اللّه لِيَوْمِ الْجَمْعِ و الحساب، يجمع اللّه فيه الأولين و الآخرين، و هو يوم القيامة ذٰلِكَ اليوم يَوْمُ التَّغٰابُنِ و التخاسر يغبن و يخسر بعض الناس بعضا، يتمكّن بعضهم في مسكن بعض.

عن ابن عباس: أنّ قوما في النار يعذّبون، و قوما في الجنة يتنعّمون(3).

و قيل: يوم يغبن أهل الحقّ أهل الباطل، و أهل الهدى أهل الضّلالة، و أهل الايمان أهل الكفر، فلا غبن أبين من هذا(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «يوم يغبن أهل الجنّة أهل النار»(3).

و في الحديث: «ما من عبد يدخل الجنّة إلاّ اري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، و ما من عبد يدخل النار إلاّ اري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة»(4).

ص: 262


1- . الكافي 6/151:1، و فيه: النور هو الإمام، تفسير الصافي 183:5.
2- . الكافي 4/151:1، تفسير الصافي 183:5. (3و4) . تفسير الرازي 24:30.
3- . معاني الأخبار: 1/156، تفسير الصافي 183:5.
4- . تفسير روح البيان 11:10.

قيل: إطلاق الغبن على نزول الأشقياء في منازل السّعداء من باب التهكّم(1).

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمٰا عَلىٰ رَسُولِنَا الْبَلاٰغُ الْمُبِينُ (12) ثمّ بين سبحانه ربح المؤمنين في تجارتهم بقوله وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ صادقا مخلصا وَ يَعْمَلْ عملا صٰالِحاً مرضيا للّه يُكَفِّرْ اللّه عَنْهُ و يغفر له سَيِّئٰاتِهِ يوم القيامة، فلا يفضحه بها بين الناس وَ يُدْخِلْهُ بفضله جَنّٰاتٍ ذات قصور و أشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة، حال كونهم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا أَبَداً دائما ذٰلِكَ الأجر المذكور على إيمانهم و عملهم هو اَلْفَوْزُ الْعَظِيمُ و النّيل بأعلى المقاصد من النجاة من العذاب و الظّفر بأجلّ الطيبات.

ثمّ بيّن سبحانه غبن الكفّار بقوله:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا القرآنية و معجزات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أُولٰئِكَ المغبونون أَصْحٰابُ النّٰارِ و ملازموها حال كونهم خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ هي بِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع للكفّار.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين في الآخرة، كان مجال أن يقال: فلم يبتلى المؤمن في الدنيا بالفقر و المرض و الشدائد؟ فأجاب سبحانه بقوله:

مٰا أَصٰابَ أحدا مِنْ مُصِيبَةٍ و بلية من فقر أو مرض أو غيرهما من الشدائد إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ و تقديره و إرادته المنبعثة عن الحكمة البالغة وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ اللطيف الحكيم يَهْدِ اللّه قَلْبَهُ عند المصيبة للصبر و الثّبات و الشّكر و الرضا و التسليم لحكمه. عن ابن عباس: يهدي قلبه لما يحبّ و يرضى(2).

وَ اللّٰهُ المحيط بخلقه بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها القلوب و أحوالها من الرضا و التسليم عَلِيمٌ و مطّلع كمال الاطلاع

وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ فيما أمركم به وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما يؤدّي إليكم عنه، و لا تشغلكم المصائب عن العمل بوظائف الايمان، قيل: تكرار الأمر بالطاعة للتأكيد و بيان الفرق بين الطاعتين (3)فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم أيّها الناس عن طاعة الرسول و إجابته فيما

ص: 263


1- . تفسير روح البيان 10:10.
2- . تفسير الرازي 26:30.
3- . تفسير روح البيان 14:10.

دعاكم إليه لا يضرّه بشيء فَإِنَّمٰا عَلىٰ رَسُولِنَا أيّ رسول كان اَلْبَلاٰغُ الْمُبِينُ و تأدية الرسالة ببيان واضح، و قد فعل بما لا مزيد عليه، و قد بقي ما عليكم.

اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ عَلَى اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلاٰدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ثمّ لمّا بيّن أنّ جميع المصائب و البلايا بتقدير اللّه و إرادته، وصف ذاته المقدّسة بالعظمة و الوحدانية، و أمر المؤمنين بالتوكّل عليه بقوله:

اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ و لا معبود مستحقّ للعبادة سواه وَ عَلَى اللّٰهِ العظيم وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و ليفوّضوا إليه الامور، و منه يسألوا الحفظ من المصائب و الصبر عليها.

ثمّ لمّا صلّى سبحانه في المصائب و البلايا الدنيوية، تعرّض للبلايا الاخروية و ما يمنع عن طاعة اللّه و يصرف عنها من الأزواج و الأولاد بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ بعضا مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلاٰدِكُمْ يكونون عَدُوًّا لَكُمْ يمنعونكم من الهجرة و الجهاد و العمل بالتكاليف، كعداوة الشيطان لبني آدم، إذن فَاحْذَرُوهُمْ و احترزوا عن موافقتهم و قبول قولهم. قيل: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان أهله و ولده يثبّطونه عن الهجرة و الجهاد(1).

و عن ابن عباس: أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال من أهل مكّة أسلموا و أرادوا أن يأتوا المدينة، فلم يدعهم أزواجهم و أولادهم، فهو قوله: عَدُوًّا لَكُمْ فاحذروا أن تطيعوهم و تدعوا الهجرة. و قوله: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا قال: هو أنّ الرجل من هؤلاء إذا هاجر و رأى الناس قد سبقوا إلى الهجرة، و فقهوا في الدين، همّ أن يعاقب زوجته و ولده الذين منعوه من الهجرة، و إن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، و لم يصبهم بخير، فنزل: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2) قيل: يعني فعليكم أن تتخلّقوا بأخلاق اللّه(3).

إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللّٰهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)

ص: 264


1- . تفسير الرازي 27:30.
2- . تفسير الرازي 27:30.
3- . تفسير روح البيان 18:10.

ثمّ لمّا كان محبّة المال و الولد فتنة و بلاء عظيما أمر سبحانه المؤمنين بإيثار محبة اللّه على محبّتهما بقوله:

إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ و اختبارا و بلاء و محنة لكم يوقعانكم في معصية اللّه و عذابه وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر محبّته على محبّتهما و طاعته على الاشتغال بمصالحهما، فلا تعصوا اللّه بسبب حبّهما.

عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: «لا يقولنّ أحدكم: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة، و لكن من استعاذ اللّه فليستعذ من مضلاّت الفتن، فانّ اللّه يقول: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ (1).

و حكى بعض العامة عن ابن مسعود ما يقرب منه(2).

في فضيلة

الحسنين عليهما السّلام

و عن بعض العامة: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخطب، إذ جاء الحسن و الحسين عليهما السّلام و عليهما قميصان أحمران، يمشيان و يعثران، فنزل صلّى اللّه عليه و آله من المنبر، فحملهما و وضعهما بين يديه(3).

و في رواية: وضعهما في حجرة على المنبر و قال: «صدق اللّه عز و جلّ إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم اصبر حتّى قطعت حديثي و رفعتهما». ثمّ أخذ في خطبته(4).

فإذا علمتم أنّ الأزواج و الأولاد أعداءكم، و أنّ المال و الولد فتنة لكم، و أنّ اللّه عنده أجر عظيم و جنة و نعيم

فَاتَّقُوا اللّٰهَ و احذروه أن يعذّبكم على مخالفة أحكامه لحبّ المال و الولد مَا اسْتَطَعْتُمْ و مقدار وسعكم، و لا ترتكبوا ما يوجب سخطه عليكم وَ اسْمَعُوا مواعظ اللّه سماع القبول وَ أَطِيعُوا أيّها المؤمنون أوامره و نواهيه وَ أَنْفِقُوا في سبيله ممّا رزقكم لوجهه، تكن التقوى و السماع و الطاعة و الانفاق خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ و أنفع من الدنيا و ما فيها فضلا عن المال و الولد.

في ذم البخل

و الترغيب في

الانفاق و ثوابه

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين بعد أمرهم بالانفاق إلى ترك البخل بقوله: وَ مَنْ يُوقَ و يمنع شُحَّ نَفْسِهِ و بخلها الكامن فيها من التأثير في المنع عن الانفاق في سبيل اللّه فَأُولٰئِكَ الرادعون أنفسهم عن البخل هُمُ الْمُفْلِحُونَ و الفائزون بالجنّة و نعيمها.

ص: 265


1- . نهج البلاغة: 483 الحكمة 93، تفسير الصافي 185:5. (2-3-4) . تفسير روح البيان 19:10.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يطوف، بالبيت، فاذا رجل متعلّق بأستار الكعبة و هو يقول: بحرمة هذا البيت إلاّ غفرت لي. قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما ذنبك؟» قال: هو أعظم من أن أصفه لك. قال: «ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون؟» قال: بل ذنبي يا رسول اللّه. قال: «ويحك ذنبك أعظم أم الجبال؟» قال: بل ذنبي أعظم.

قال: «فذنبك أعظم أم السماوات» قال: بل ذنبي أعظم. قال: «فذنبك أعظم أم العرش» قال: بل ذنبي أعظم. قال: «فذنبك أعظم أم اللّه» قال: بل اللّه أعظم و أعلى.

قال: «ويحك صف لي ذنبك» قال: يا رسول اللّه، إنّي رجل ذو ثروة من المال، و إن السائل ليأتيني ليسألني فكأنّما يستقبلني بشعلة من النار. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اعزب عنّي لا تحرقني بنارك، فو الذي بعثني بالهداية و الكرامة لو قمت بين الرّكن و المقام، ثمّ بكيت ألفي عام حتى تجرى من دموعك الأنهار و تسقى بها الاشجار، ثمّ مت و أنت لئيم، لأكبّك اللّه في النار، أ ما علمت أنّ البخل كفر، و أنّ الكفّار في النار، ويحك أ ما علمت أنّ اللّه يقول: وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمٰا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (1).

إِنْ تُقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّٰهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ثمّ بالغ سبحانه في الترغيب في الانفاق في سبيله بقوله:

إِنْ تُقْرِضُوا اللّٰهَ أيّها المؤمنون قَرْضاً حَسَناً ببذل شيء من أموالكم في الوجوه البرية، و في المصارف الخيرية، بخلوص النية، و طيب النفس يُضٰاعِفْهُ اللّه لَكُمْ أضعافا كثيرة على حسب النيات و الأوقات و المحالّ، فبعض بالواحد عشرة، و آخر بالواحد سبعين، و بعض بالواحد سبعمائة، و بعض أكثر منها وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم و خطاياكم وَ اللّٰهُ الكريم شَكُورٌ لعبيده بإكثار الثواب و العوض على إنفاقهم و الأجر على حسناتهم، أو بإكثار الثناء على عبده المحسن حَلِيمٌ لا يعجل في عقوبة البخيل و غيره من العصاة

عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ و المطّلع على الخفيّ و الظاهر من أعمال عباده و غيرها بحيث لا يعزب عن علمه شيء، فيعلم صدقة السرّ و العلن و خلوص نيّة المصّدّق و رياءه فيها اَلْعَزِيزُ و القادر على إثابة المطيعين و عقوبة العصاة المتمرّدين اَلْحَكِيمُ الذي لا يصدر منه إلاّ ما هو الأصلح و الأصوب، و يثيب و يعاقب على حسب الاستحقاق.

روى بعض العامة عن عبد اللّه بن عمران قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما من مولود إلاّ و في شبابيك

ص: 266


1- . تفسير روح البيان 21:10.

رأسه مكتوب خمس آيات من سورة التغابن»(1).

أقول: لعلّ المراد خمس آيات من أول السورة مع عدّ بِسْمِ اللّٰهِ آية، كما هو الحقّ.

و في الحديث: «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة التغابن في فريضة كانت له شفيعة يوم القيامة، [و] شاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثمّ لا تفارقه حتّى يدخل الجنّة»(3).

الحمد للّه على التوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 267


1- . تفسير روح البيان 24:10.
2- . تفسير أبي السعود 259:8، تفسير روح البيان 24:10.
3- . ثواب الأعمال: 118، مجمع البيان 446:10، تفسير الصافي 185:5.

ص: 268

في تفسير سورة الطلاق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ رَبَّكُمْ لاٰ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لاٰ يَخْرُجْنَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاٰ تَدْرِي لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً (1) ثمّ لمّا ختمت سورة التغابن المتضمّنة لبيان عداوة النساء لأزواجهنّ، و تهديد الكفّار بذوق الامم السابقة وبال كفرهم، و حثّ المؤمنين على التقوى و الانفاق في سبيل اللّه، نظمت سورة الطلاق المتضمّنة لبيان بعض أحكام طلاق الأزواج، و وجوب الانفاق عليهنّ في العدّة الرجعية و إذا كنّ ذوات الحمل و وجوب الانفاق على الأولاد و الحثّ على التقوى و تهديد الكفّار بما ذاقت الامم السابقة من العذاب، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

في ذكر شرائط

الطلاق و بعض

أحكامه

ثمّ شرع سبحانه ببيان بعض أحكام الطلاق بعد خطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثمّ خاطب امّته لأنّه سيّدهم و قدوتهم، فكان خطابه بمنزلة خطابهم. و قيل: إنّ التقدير قل لامتك (1)إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ المدخول بهنّ، و أردتم فراقهنّ و قطع علقة نكاحهنّ فَطَلِّقُوهُنَّ و أنشئوا صيغة طلاقهنّ حال كونهنّ مستقبلات لِعِدَّتِهِنَّ و زمان تربّصهنّ بعد الطلاق، و منعهنّ عن التزوج بالغير إذا كنّ في سنّ من تحيض.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و السجاد عليه السّلام: «فطلقوهن من(2) قبل عدّتهنّ»(3). و عن الصادق عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا أراد الرجل الطلاق طلّقها(4) من قبل عدّتها بغير جماع»(5).

ص: 269


1- . مجمع البيان 456:10.
2- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: في.
3- . مجمع البيان 455:10، تفسير الصافي 186:5.
4- . في الكافي: في.
5- . الكافي 9/69:6، تفسير الصافي 186:5.

و عن الباقر عليه السّلام: «إنّما الطلاق أن يقول لها في قبل العدّة بعد ما تطهر من محيضها قبل أن يجامعها:

أنت طالق...» الخبر(1).

و قيل: إن لام لِعِدَّتِهِنَّ بمعنى في، و المعنى فطلّقوهن في عدّتهنّ(2) ، لأنّ الطّهر الذي يقع فيه الطلاق معدود من إظهار العدّة، و هي ثلاثة. و عن الباقر عليه السّلام: «العدّة: الطّهر من الحيض»(3).

وَ أَحْصُوا أيّها الأزواج و اضبطوا اَلْعِدَّةَ بحفظ الوقت الذي يقع فيه الطلاق، و أكملوها ثلاث أطهار، أو ثلاث أشهر، إذا كنّ في سنّ من تحيض، فانّ النساء عاجزات عن إحصائها لغلبة الغفلة عليهنّ.

ثمّ لمّا كان الغائب وقوع الطلاق لكراهة الزوج معاشرة الزوجة، و لازم ذلك سرعة الزوج في إخراجهنّ من منزلهم، نهى سبحانه عن إخراجهن مع التهديد على ذلك بقوله: وَ اتَّقُوا اللّٰهَ رَبَّكُمْ أيّها الأزواج و خافوا عذابه على إخراجهن، و لذا لاٰ تُخْرِجُوهُنَّ إذا كنّ رجعيات مِنْ بُيُوتِهِنَّ و مساكنهنّ اللاتي أسكنتموهنّ فيها حال الطلاق وَ هن أيضا لاٰ يَخْرُجْنَ منها ما دمن في العدّة.

و قيل: إنّ المراد اتّقوا اللّه ربّكم في تطويل عدّتهنّ و الاضرار بهنّ بايقاع طلاق ثان بعد الرجعة(4).

ثمّ حرّم إخراجهنّ و خروجهنّ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ و يعملن عملا ظاهر القباحة كالزنا، فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنه، فقال: «إلا أن تزني، فتخرج و يقام عليها الحدّ»(5).

و عن ابن عباس: و هو كلّ معصية(6).

و عن الرضا عليه السّلام قال: «أذاها لأهل الرجل و سوء خلقها»(7).

و عنه عليه السّلام: «يعني بالفاحشة المبينة أن تؤذي أهل زوجها، فاذا فعلت فان شاء أن يخرجها من قبل أن تنقضي عدّتها فعل(8).

و قيل: إنّها خروجهنّ من البيوت، و المعنى لا يخرجن إلاّ إذا ارتكبن الفاحشة بالخروج(9).

ثمّ عظّم سبحانه أمر هذه الأحكام بقوله: وَ تِلْكَ الأحكام حُدُودُ اللّٰهِ و قوانينه الموضوعة لصلاح الناس وَ مَنْ يَتَعَدَّ و يتجاوز حُدُودُ اللّٰهِ و يخالفها فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ و أضرّها بإيقاعها

ص: 270


1- . الكافي 1/69:6، تفسير الصافي 186:5.
2- . تفسير الرازي 30:30.
3- . تفسير القمي 373:2، تفسير الصافي 186:5.
4- . تفسير روح البيان 28:10.
5- . من لا يحضره الفقيه 1565/322:3، تفسير الصافي 187:5.
6- . تفسير روح البيان 28:10 و 29.
7- . الكافي 1/97:6، تفسير الصافي 187:5.
8- . الكافي 2/97:6، تفسير الصافي 187:5.
9- . تفسير روح البيان 29:10.

في معصية اللّه و تعريفها للعذاب.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تحريم إخراجهن و خروجهنّ بقوله: لاٰ تَدْرِي أيّها الزوج المطلّق لَعَلَّ اللّٰهَ و يرجى أنّه يُحْدِثُ و يوجد بَعْدَ ذٰلِكَ الذي فعلت من الطلاق أَمْراً آخر من الندم و المحبّة للمطلّقة و الإقبال إليها.

عن ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، و المحبّة لرجعتها في العدّة(1).

و عن القمي قال: لعلّه يبدو لزوجها في الطلاق فيراجعها(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أحب للرجل الفقيه إذا أراد أن يطلّق امرأته أن يطلّقها طلاق السّنّة» ثمّ قال: «و هو الذي قال اللّه عز و جلّ: لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً [يعني بعد الطلاق و انقضاء العدّة التزويج بها من قبل أن تزوّج زوجا غيره»(3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «المطلّقة تكتحل و تختضب و تطيب و تلبس ما شاءت من الثياب لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً ] لعلّها أن تقع في نفسه فيراجعها»(4).

روي بعض العامة عن أنس: أن رسول اللّه طلّق حفصة بنت عمر، فأتت إلى أهلها، فنزلت(5).

و عن الكلبي: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله غضب على حفصة لمّا أسرّ إليها فاظهرته لعائشة، فطلّقها تطليقة، فنزلت(6).

أقول: لعلّ نزولها لخروجها إلى أهلها، فلمّا نزلت راجعها.

و قيل: إنّها نزلت في عبد اللّه بن عمر، فانّه طلّق امرأته في الحيض. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فاذا راجعها، فاذا ظهرت طلّقها إن شئت» فنزلت فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (7).

فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) ثمّ بيّن سبحانه حكم الرجوع في العدّة بقوله:

فَإِذٰا بَلَغْنَ المطلّقات و قربن أَجَلَهُنَّ و آخر مدّة عدّتهن، و أشرفن على انقضائها فَأَمْسِكُوهُنَّ و ارجعوا إلى نكاحهنّ إن شئتم بِمَعْرُوفٍ

ص: 271


1- . تفسير الرازي 33:30.
2- . تفسير القمي 374:2، تفسير الصافي 187:5.
3- . الكافي 3/65:6، تفسير الصافي 187:5.
4- . الكافي 14/92:6، تفسير الصافي 187:5.
5- . تفسير الرازي 29:30.
6- . تفسير الرازي 29:30.
7- . تفسير روح البيان 25:10.

و إيفاء حقوقهن، أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ و عدم الاضرار بهنّ بتطويل عدّتهنّ بالرجوع و الطلاق ثانيا وَ أَشْهِدُوا على طلاقهنّ رجلين ذَوَيْ عَدْلٍ و صاحبي عدالة مِنْكُمْ أيّها المؤمنون.

عن الكاظم عليه السّلام أنّه قال لأبي يوسف القاضي: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أمر في كتابه بالطلاق، و أكّد فيه بشاهدين، و لم يرض بهما إلاّ عدلين، و أمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود، فأثبتم شاهدين فيما أهمل، و أبطلتم الشاهدين فيما أكّد»(1).

و وَ أَقِيمُوا و أدّوا أيّها الشهود اَلشَّهٰادَةَ عند الحاجة إليها خالصا لِلّٰهِ و تقربا إليه ذٰلِكُمْ الأحكام من طلاق السّنة، و الحثّ على الإشهاد و إقامة الشهادة للّه مما يُوعَظُ و يرتدع بِهِ عن المخالفة خوفا من العذاب مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ عن صميم القلب وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و دار الجزاء، فانّ لازم الايمان باللّه مراعاة عظمته و حقوق ألوهيته و ربوبيته، و أقلّها طاعة أحكامه، و لازم الايمان باليوم الآخر الخوف من الحساب و العقاب على مخالفة أحكامه وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ في مخالفة أحكامه المذكورة في السورة، أو في القرآن يَجْعَلْ اللّه لَهُ مَخْرَجاً و مخلصا ممّا عسى أن يبتلي به من الغموم الراجعة إلى الازدواج، و يفرّج عنه ما يعتريه من الكروب، أو خلاصا من غموم الدنيا و الآخرة.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله - بطريق عامي - أنّه صلّى اللّه عليه و آله قرأها فقال: «مخرجا من شبهات الدنيا، و غمرات الموت، و شدائد يوم القيامة»(2). و قيل يجعل له مخرجا إلى الرّجعة(3).

عن ابن عباس، أنّه سئل عمّن طلّق امرأته ثلاثا، أو ألفا، هل له من مخرج؟ فقال: لم يتّق اللّه، فلم يجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث، و الزيادة إثم في عنقه(4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «مخرجا من الفتن، و نورا من الظلم»(3).

وَ يَرْزُقْهُ اللّه في الدنيا مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ و من وجه لا يخطر بباله.

روي أنّ عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنه سالما، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: اسر ابني، و شكا إليه الفاقة. فقال: «اتّق اللّه، و أكثر قول: لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم» ففعل، فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب و معه مائة من الإبل غفل عنهما العدوّ فساقها، فنزلت(6).

و في رواية: أفلت بأربعة آلاف شاة و بالأمتعة(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ أي يبارك له فيما أتاه»(4).

ص: 272


1- . الكافي 4/387:5، تفسير الصافي 187:5.
2- . تفسير الرازي 34:30، تفسير روح البيان 31:10. (3و4) . تفسير روح البيان 31:10.
3- . نهج البلاغة: 266 الخطبة 183، تفسير الصافي 188:5. (6و7) . تفسير روح البيان 32:10.
4- . مجمع البيان 460:9، تفسير الصافي 188:5.

و عنه، عن آبائه، عن علي عليهم السّلام: «من أتاه برزق لم يخط إليه برجله، و لم يمدّ إليه يده، و لم يتكلّم فيه بلسانه، و لم يشدّ إليه ثيابه، و لم يتعرّض له، كان ممّن ذكره اللّه عز و جلّ في كتابه وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ (1) الآية».

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله - بطريق عاميّ «أنّي لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ» الآية، فما زال يقولها و يعيدها(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ قوما من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية أغلقوا الباب، و أقبلوا على العبادة، و قالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله، فارسل إليهم، فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟ فقالوا: يا رسول اللّه، تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة. فقال: من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب»(3).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء، ليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا، فيسمعوا حديثنا و يقتبسوا من علمنا، فيرحل قوم فوقهم، و ينفقون أموالهم، حتّى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا، فينقلوه إليهم، فيعيه هؤلاء و يضيّعه هؤلاء، فاولئك الذين يجعل اللّه لهم مخرجا، و يرزقهم من حيث لا يحتسبون»(4).

في بيان حقيقة

التوكل

أقول: الظاهر تطبيق الآية عليهم لا حصر المراد فيهم.

وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ و يعتمد في اموره عَلَى اللّٰهِ و يفوّض إليه و يثق به فيها فَهُوَ حَسْبُهُ و كافيه مهمّاته، و مصلح اموره، و معطيه مراده.

لو كنتم تتوكّلون على اللّه حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا(5)

ص: 273


1- . من لا يحضره الفقيه 399/101:3، تفسير الصافي 188:5.
2- . تفسير روح البيان 32:10.
3- . الكافي 5/84:5، تفسير الصافي 188:5.
4- . الكافي 201/178:8، تفسير الصافي 188:5، و فيهما عن الصادق عليه السّلام.
5- . تفسير روح البيان 33:10.

حكمته البالغة، لا يتقدّم بسعي ساع، و لا يتأخّر بمنع مانع و تقصير مقصّر، فاذا وصل الوقت يصل إليه ما قسم له من أنصبة الدنيا، و من المعلوم أنّ من تيقّن ذلك ما خاف أحدا و لا رجى أحدا و فوض أمره إليه تعالى، و هو تعالى يبلغ ما أراد من أمره بلا مانع و لا عائق.

روي أن جبرئيل جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا جبرئيل، ما التوكّل على اللّه؟ فقال: العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ و لا ينفع و لا يعطي و لا يمنع، و استعمال اليأس من الخلق، فاذا كان العبد كذلك لم يعتمد على أحد سوى اللّه، و لم يرج و لم يخف سوى اللّه، و لم يطمع في أحد سوى اللّه، فهذا هو التوكّل(1).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «للمتوكّل على اللّه درجات، منها أن تتوكّل على اللّه في امورك كلّها، فما فعل بك كنت عنه راضيا، تعلم أنّه لا يألوك خيرا و فضلا، و تعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكّل على اللّه بتفويض ذلك إليه، وثق به فيها و في غيرها»(2).

وَ اللاّٰئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاٰثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّٰئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاٰتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (3) ذٰلِكَ أَمْرُ اللّٰهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) ثمّ بيّن سبحانه عدّة النساء اللاتي انقطع حيضهنّ بقوله:

وَ اللاّٰئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ و أزواجكم اللاتي دخلتم بهنّ و انقطع حيضهنّ إِنِ ارْتَبْتُمْ و شككتم في أمرهنّ، و لا تدرون أنّهنّ يائسات، أو في سنّ من تحيض و لا تحيض لمانع فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاٰثَةُ أَشْهُرٍ هلالية.

عن (المجمع) عن أئمتنا عليهم السّلام «هنّ اللواتي أمثالهنّ يحضن، لأنهنّ لو كنّ في سنّ من لا تحيض لم يكن للارتياب معنى»(4).

روي أنّ معاذ بن جبل قال: يا رسول اللّه، قد عرفنا عدّه التي تحيض، فما عدّة التي لم تحض؟ فنزل: وَ اللاّٰئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ (4) فلمّا نزلت قام رجل فقال: يا رسول اللّه، فما عدّة الصغيرة التي لم تحض؟ فنزل وَ اللاّٰئِي لَمْ يَحِضْنَ الصغر، فهنّ أيضا كالكبيرة التي انقطع حيضها، عدّتهن ثلاثة أشهر(5). قيل: فقام رجل آخر. و قال: ما عدّة الحوامل يا رسول اللّه؟ فنزل:

ص: 274


1- . معاني الأخبار: 1/261، تفسير الصافي 189:5.
2- . الكافي 5/53:2، تفسير الصافي 189:5.
3- . تفسير الرازي 35:30. (5و2) . تفسير الرازي 35:30.
4- . مجمع البيان 461:10، تفسير الصافي 189:5.

وَ أُولاٰتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ (1) و آخر عدّتهنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ و عن (المجمع) عنهم عليهم السّلام:

«هي في الطلاق خاصة»(1).

و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ في عدّة الوفاة يعتبر أبعد الأجلين؛ لأنّ اولات الأحمال في عدّة الطلاق»(3). و عن ابن عباس ما يقرب منه(4).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن رجل طلّق امرأته و هي حبلى، و كان في بطنها اثنان، فوضعت واحدا و بقي واحد؟ قال: «تبين بالأول، و لا تحلّ للازواج حتى تضع ما في بطنها»(2).

و عنه سئل عن الحبلى يموت زوجها فتضع، فتزوّج قبل أن يمضي لها أربعة أشهر و عشرا؟ قال:

«إن كان دخل بها فرّق بينهما، ثمّ لم تحلّ له أبدا، و اعتدّت بما بقي من الأول، و استقبلت عدّة اخرى من الأخير ثلاثة قروء، و إن لم يكن دخل بها فرّق بينهما، و اعتدّت بما بقي عليها من الأول، و هو خاطب من الخطّاب»(3).

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين على العمل بأحكامه بقوله: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ في العمل بأحكامه و القيام بحقوقه يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ الراجع إلى الدنيا و الآخرة يُسْراً و سهولة بحيث لا يصعب عليه شيء من امور الدارين

ذٰلِكَ المذكور من الأحكام أَمْرُ اللّٰهِ و حكمه الذي أَنْزَلَهُ بتوسط جبرئيل إِلَيْكُمْ أيّها المؤمنون من اللّوح المحفوظ، لتعملوا به وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ و يخافه في مخالفة أحكامه يُكَفِّرْ بتقواه و بمواظبته على الحسنات عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ و يستر معاصيه، فلا يفضحه بها يوم القيامة، و لا يخجله برؤيتها فضلا عن أن يعذّبه بها وَ يُعْظِمْ لَهُ يوم القيامة أَجْراً و يضاعف له جزاء. قيل: إنّ اللّه أمر بالتقوى في أحكام الطلاق ثلاث مرات، و وعد في كلّ مرة نوعا من الجزاء.

فقال أولا: يجعل له مخرجا يخرجه ممّا دخل فيه و هو يكرهه، و يهيئ له محبوبه من حيث لا يأمل.

و قال في المرة الثانية: يسهّل عليه كلّ صعب من أمره، و يفتح له خيرا ممّن طلّقها، و وعد في المرة الثالثة عليه بأفضل الجزاء في الآخرة، و هي كفر الذنوب و دخول الجنّة و النّيل بالنعماء(4).

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لاٰ تُضٰارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاٰتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ

ص: 275


1- . مجمع البيان 461:10، تفسير الصافي 189:5. (3-4) . تفسير الرازي 35:30.
2- . الكافي 10/82:6، تفسير الصافي 189:5.
3- . الكافي 4/427:5، تفسير الصافي 190:5.
4- . تفسير روح البيان 36:10.

أُخْرىٰ (6) ثمّ كأنّه قيل: كيف يعمل بالتقوى في شأن المطلّقات المعتدات؟ فأجاب سبحانه بقوله:

أَسْكِنُوهُنَّ في مدّة عدّتهن مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ و في أي مكان تمكّنتم مِنْ وُجْدِكُمْ و وسعكم و استطاعتكم وَ لاٰ تُضٰارُّوهُنَّ بإسكانهنّ في مكان لا يناسبهنّ أو مع من لا يوافقهنّ في الأخلاق لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ في المسكن و تسلبوا منهنّ الراحة حتى تلجئوهن إلى الخروج، أو إلى تحمّل غاية المشقّة.

عن الصادق عليه السّلام: «لا يضارّ الرجل امرأته إذا طلّقها فيضيّق عليها حتّى تنتقل قبل أن تنقضي عدّتها، فانّ اللّه تعالى قد نهى عن ذلك» ثمّ تلا هذه الآية(1).

وَ إِنْ كُنَّ المطلّقات حال الطلاق أُولاٰتِ حَمْلٍ و صاحبات الولد في الرّحم، أي حمل كان، قريب الوضع أو بعيده فَأَنْفِقُوا أيّها المطلّقون عَلَيْهِنَّ في مدّة عدّتهن، كانت رجعية أو بائنة حَتّٰى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ و يخرجن من العدّة. عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المطلّقة ثلاثا، أ لها النفقة و السّكنى؟ قال: «أ حبلي هي؟» قيل: لا. قال: «فلا»(2).

فَإِنْ أَرْضَعْنَ بعد الوضع الولد الذي هو لَكُمْ و نفقته عليكم فَآتُوهُنَّ و أعطوهنّ أُجُورَهُنَّ على إرضاعهن وَ أْتَمِرُوا و تشاورا أيّها الآباء و الامّهات بَيْنَكُمْ في مدّة الإرضاع و مقدار الاجرة بِمَعْرُوفٍ و جميل و مستحسن في مدّة الإرضاع و مقدار الأجر، بأن لا يقصّر الرجل في أجر المرأة و نقصها، و لا تقصّر المرأة في حقّ الولد و رضاعة وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ و تضايقتم بأن طلبت المرأة زائدا على الاجرة المتعارفة للرضاع، و امتنع الأب عن أداء اجرة المثل فَسَتُرْضِعُ الولد لَهُ مرضعة أُخْرىٰ غير الامّ مجانا أو باجرة يرضاها الأب، و فيه إشعار بالعتاب على الامّ على المعاسرة.

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ لاٰ يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ مٰا آتٰاهٰا سَيَجْعَلُ اللّٰهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) ثمّ بيّن سبحانه قدر الانفاق بقوله:

لِيُنْفِقْ الرجل الذي هو ذُو سَعَةٍ و صاحب ثروة على المطلّقة المرضعة مِنْ سَعَتِهِ و بمقدار ثروته و غناه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل الموسر يتّخذ الثياب الكثيرة الجياد و الطّيالسة و القمص

ص: 276


1- . الكافي 1/123:6، تفسير الصافي 190:5.
2- . التهذيب 462/133:8، تفسير الصافي 190:5.

الكثيرة يصون بعضها بعضا يتجمّل بها، أ يكون مسرفا؟ قال: «لا، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ (1).

وَ مَنْ قُدِرَ و ضيّق من جانب اللّه عَلَيْهِ رِزْقُهُ و كان فقيرا فَلْيُنْفِقْ على المطلّقة و المرضعة مقدارا مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ و أعطاه من المال، و إن كان مقدار القوت.

عن الصادق عليه السّلام قال في الآية: «إن أنفق الرجل على امرأته ما يقيم ظهرها مع كسوة، و إلاّ فرّق بينهما»(2).

لاٰ يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً من النفوس إِلاّٰ إعطاء مٰا آتٰاهٰا و أعطاها من المال، و لا يمكن أن يكلّف الفقير بمثل ما كلّف الغني.

ثمّ بشّر سبحانه الفقراء تسلية لقلوبهم بقوله: سَيَجْعَلُ اللّٰهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً و بعد الفقر غنىّ، و بعد الشدّة رخاء، و بعد الخوف أمنا، و بعد السّقم صحّة، فلينتظر من وقع في العسر الفرج و اليسر سواء كان المعصر زوجا أو غيره، أو كان فقيرا في وقت نزول الآية أو في غيره، لعدم كون المورد مخصّصا للحكم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهٰا وَ رُسُلِهِ فَحٰاسَبْنٰاهٰا حِسٰاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنٰاهٰا عَذٰاباً نُكْراً (8) فَذٰاقَتْ وَبٰالَ أَمْرِهٰا وَ كٰانَ عٰاقِبَةُ أَمْرِهٰا خُسْراً (9) ثمّ هدّد سبحانه المخالفين لأحكامه و العاتين على ربّهم بما نزل على العتاة من الامم السابقة بقوله:

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كثير من أهل بلدة عَتَتْ و أعرضت عَنْ أَمْرِ رَبِّهٰا و خالقها وَ أمر رُسُلِهِ المبعوثين إليهم بسبب التجاوز عن الحدّ في التكبّر و العناد فَحٰاسَبْنٰاهٰا حِسٰاباً شَدِيداً و أخذناهم بدقائق ذنوبهم بأن ابتليناهم بالقحط و الأمراض و الخوف و غيرها من البلايا و الشدائد مقدّما على استئصالهم بالعذاب، ليرجعوا إلى اللّه، و يتوبوا ممّا هم فيه من العتوّ و العصيان وَ عَذَّبْنٰاهٰا بذنوبهم عَذٰاباً نُكْراً و عاقبناهم عقابا هائلا عظيما، أو عذابا غير متوقّع من الغرق و الحرق بالصاعقة و الخسف و الرجعة و غيرها من المستأصلات

فَذٰاقَتْ القرية، يعني أهلها وَبٰالَ أَمْرِهٰا و عاقبة كفرها في الدنيا وَ كٰانَ عٰاقِبَةُ أَمْرِهٰا خُسْراً و ضررا عظيما لا خسر و لا ضرر أعظم منه.

أَعَدَّ اللّٰهُ لَهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللّٰهَ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰاتِ اللّٰهِ مُبَيِّنٰاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 277


1- . الكافي 12/443:6، تفسير الصافي 191:5.
2- . تفسير القمي 375:2، تفسير الصافي 191:5.

وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ يَعْمَلْ صٰالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللّٰهُ لَهُ رِزْقاً (11) ثمّ هدّدهم بعذاب الآخرة بقوله:

أَعَدَّ اللّٰهُ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة بعد ذلك عَذٰاباً شَدِيداً لا يقادر قدرة، و لا يوصف كنهه، إذا كان الأمر كذلك فَاتَّقُوا اللّٰهَ و خافوه في مخالفة أحكامه يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ و ذوي العقول السليمة و الأفهام المستقيمة، و اعتبروا بحال أمثالكم من الامم الماضية.

ثمّ وصف سبحانه أصحاب العقول السليمة من شوائب الأوهام بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بتوحيد اللّه، فاعلموا أنه من أعظم النّعم عليكم أنّه قَدْ أَنْزَلَ اللّٰهُ و بعث إِلَيْكُمْ بلطفه ذِكْراً و واعظا و هاديا إلى الحقّ، أعنى

رَسُولاً عظيم الشأن، و هو يَتْلُوا و يقرأ عَلَيْكُمْ مع امّيته آيٰاتِ كتاب اَللّٰهِ و قرآنه العظيم حال كونها مُبَيِّنٰاتٍ و موضحات لكم جميع ما تحتاجون إليه في معاشكم و معادكم و عقائدكم من معارف ربكم و صفاته الجمالية و الجلالية لِيُخْرِجَ ذلك الرسول بتلاوته اَلَّذِينَ آمَنُوا به و بكتابه عن صميم القلب وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّٰالِحٰاتِ بتعليمه و هدايته مِنَ الظُّلُمٰاتِ التي بعضها فوق بعض كالكفر و الشّبهات و الجهل و الأخلاق النميمة و الشهوات المردية إِلَى النُّورِ الذي هو كمال الايمان الحقيقي و العلم و المعرفة الكاملة باللّه و الأخلاق الحميدة و الصفات الجميلة.

قيل: إنّ المراد بالذين آمنوا الذين يؤمنون على استعمال الماضي في المستقبل المحقّق الوقوع، أو المراد من الظلمات الظلمات التي تحدث بعد الايمان(1).

رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰاتِ اللّٰهِ مُبَيِّنٰاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ يَعْمَلْ صٰالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللّٰهُ لَهُ رِزْقاً (11) اَللّٰهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ثمّ حثّ سبحانه الناس إلى الايمان و العمل الصالح ببيان حسن عاقبتهما بقوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ إيمانا خالصا من شوب النفاق وَ يَعْمَلْ عملا صٰالِحاً خالصا من الرّياء و السّمعة و العجب يُدْخِلْهُ اللّه في الآخرة جَنّٰاتٍ ذات قصور و أشجار كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة حال كونهم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا لا يخرجون منها أَبَداً و هو تأكيد للخلود، لأن لا يتوهّم أنّ المراد المكث الطويل المنقطع قَدْ أَحْسَنَ اللّٰهُ لَهُ في تلك الجنّات رِزْقاً واسعا وافرا من

ص: 278


1- . تفسير الرازي 29:30.

نعم الجنة. قيل: فيه معنى التعجّب و التعظيم، و المعنى ما أحسن رزقهم الذي رزقهم اللّه، و ما أعظمه(1)! و قيل: إنّ المراد بالرزق الطاعة في الدنيا و الثواب في الآخرة(2).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حسن المجازاة على الايمان و العمل الصالح، ذكّر الناس كمال قدرته بقوله:

اَللّٰهُ تعالى هو اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته الكاملة سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ سوى العرش و الكرسيّ بعضها فوق بعض كالقبّة، وَ خلق مِنَ جنس اَلْأَرْضِ بعدد السماوات و مِثْلَهُنَّ في كونهنّ طباقا متلاصقة.

قيل: إنّ المراد من الأراضي السبعة الأقاليم السبعة على حسب سبع سماوات و سبع كواكب، فانّ لكلّ واحد منها خواصا تظهر في كلّ إقليم، فتصير الأرض بهذا الاعتبار سبعة(3).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام: «أنّ السماء الدنيا فوق هذه الأرض قبّة عليها، و أنّ الأرض الثانية فوق سماء الدنيا، و السماء الثانية فوقها قبّة، و هكذا إلى السابعة منهما، و هو قول اللّه: اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (4).

يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ من اللّه في السماوات السبع و الأرضين السبع و بَيْنَهُنَّ و يجري حكمه و قضاؤه فيهنّ، و إنّما خلق ما خلق و أنفذ في كلّ شيء قضاءه و قدره لِتَعْلَمُوا يا بني آدم أَنَّ اللّٰهَ الذي خلقكم و خلق الموجودات عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الايجاد و الإعدام و الإعادة و البعث و الحساب و الجزاء بالثواب و العقاب في الآخرة قَدِيرٌ و مقتدر وَ أَنَّ اللّٰهَ الخالق لكلّ شيء قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ خلقه عِلْماً و اطّلاعا و خبرا، فأطيعوا أوامره و نواهيه، و لا تخالفوا أحكامه، و اخضعوا لعظمته، و خافوا عقوبته.

عن ابن عباس لمّا سئل عن هذه الآية قال: لو فسّرتها لقطعوا حلقومي، أو رجموني(5).

أقول: فيه إشارة إلى ما فيها من الأسرار الغامضة التي تعلّمها من استاذه أمير المؤمنين عليه السّلام.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الطلاق و التحريم في فرائضه أعاذه اللّه من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف و يحزن، و عوفي من النار، و أدخله اللّه الجنّة بتلاوته إياهما، و محافظته عليهما، لأنّهما للنبي صلّى اللّه عليه و آله»(6).

ص: 279


1- . تفسير روح البيان 42:10 و 43.
2- . تفسير الرازي 39:30.
3- . تفسير الرازي 40:30.
4- . تفسير القمي 329:2، تفسير الصافي 192:5.
5- . تفسير روح البيان 47:10.
6- . ثواب الأعمال: 119، مجمع البيان 454:10، تفسير الصافي 192:5.

ص: 280

في تفسير سورة التحريم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضٰاتَ أَزْوٰاجِكَ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللّٰهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمٰانِكُمْ وَ اللّٰهُ مَوْلاٰكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة الطلاق المتضمّنة لأحكام طلاق النساء، و تهديد الكفّار على مخالفة أحكامه، و تعظيم شأن النبي صلّى اللّه عليه و آله، نظمت سورة التحريم المتضمّنة لبيان حكم تحريم الزوجة بالحلف على ترك مقاربتها، و تهديد الكفّار، و تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و وعده بالنّصرة على أعدائه، و غيرها من جهات الارتباط، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ إنّه تعالى كما خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في السورة السابقة بصفة النبوة إجلالا له عند ذكر حكم تحريم الزوجة بالطلاق، خاطبه في هذه السورة أيضا بصفة النبوة عند بيان حكم تحريم الزوجة بالحلف على ترك مقاربتها بقوله:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ على نفسك، و لأيّ علّة تجعل ممنوع الانتفاع مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكَ من النساء باليمين على ترك المقاربة، أو العسل بالحلف على ترك شربه تَبْتَغِي و تطلب بتحريم الحلال على نفسك مَرْضٰاتَ أَزْوٰاجِكَ و طيب قلوبهنّ مع عدم قابليتهنّ لأن تطلب رضاهنّ، بل عليهنّ أن يطلبن رضاك وَ اللّٰهُ غَفُورٌ لرعايتك ما لا يحبّ اللّه رعايته رَحِيمٌ بك بإعطائك الأجر العظيم على تحمّل مشاقّ صحبتهنّ و إيذائهنّ

قَدْ فَرَضَ اللّٰهُ لَكُمْ و أوجب عليكم تَحِلَّةَ أَيْمٰانِكُمْ و مخالفة حلفكم على ترك الاستمتاع ممّا أحل اللّه لكم وَ اللّٰهُ القادر على كلّ شيء مَوْلاٰكُمْ و ناصركم على أعدائكم الذين من جملتهم أزواجكم، كما قال: إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ ... عَدُوًّا لَكُمْ، وَ هُوَ تعالى اَلْعَلِيمُ بمصالحكم اَلْحَكِيمُ في أفعاله و أحكامه، و في خطاب النبي بضمير الجمع كمال تعظيمه.

روت العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله خلا بمارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس ملك مصر في يوم عائشة

ص: 281

و نوبتها، و علمت بذلك حفصة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اكتمي عليّ و لا تعلمي عائشة، فقد حرّمت مارية على نفسي، و ابشّرك أن أبا بكر و عمر يملكان بعدي أمر امّتي» فأخبرت به عائشة، و لم تكتم، و كانتا متصادقتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله(1).

و قيل: خلا بها في يوم حفصة حيث استأذنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في زيارة أبيها في يومها، فأذن لها، فلمّا خرجت أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى امّ ولده مارية فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها، فلمّا رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وجهه يقطر عرقا و حفصة تبكي فقال: «ما يبكيك»؟ فقالت: إنّما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي ثمّ وقعت عليها في يومي على فراشي! فلو رأيت لي حقا و حرمة ما كنت تصنع هذا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أ ليس هي جاريتي، أحلها اللّه لي، اسكتي فهي حرام علي، التمس بذلك رضاك، فلا تخبري بذلك امرأة منهنّ».

فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرعت حفصة الجدار بينها و بين عائشة فقالت: أ لا ابشّرك أنّ رسول اللّه قد حرّم عليه أمته مارية، و قد أراحنا اللّه منها، و أخبرت عائشة بما رأت، و لم تكتم، فطلّقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بطريق الجزاء على إفشاء سرّه، و اعتزل نساءه، و مكث تسعا و عشرين ليلة في بيت مارية(2).

و قيل أقسم أن لا يدخل عليهنّ شهرا من شدّة مواجدته عليهنّ حتّى نزلت الآية، و دخل عمر على بنته و هي تبكي، فقال: أطلقكنّ رسول اللّه؟ فقالت: لا أدرى، هو ذا معتزل في هذه المشربة (3)- و في رواية، قال لها: لو كان في آل الخطّاب خير لما طلّقك - قال عمر: فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله، فدخلت و سلّمت عليه، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثّر في جنبه، فقلت: أطلقت نساءك يا رسول اللّه؟ فقال:

«لا». فقلت: اللّه أكبر، لو رأيتنا يا رسول اللّه و كنّا معشر قريش نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساءهم، و طفقن نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت الآية(4).

و روى بعضهم أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان كلّما دخل على زينب بنت جحش شرب العسل، و لذا كان يكثر وقوفه عندها، فتواطأت عائشة و حفصة، فقالتا له: إنّا نشمّ منك ريح المغافير، و المغفور: صمغ حلو الطعم كرية الرائحة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يكره الرائحة الكريهة، فحرّم العسل(5).

و عن القمي، قال: كان سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّما ذهب في بيوت نسائه، كانت مارية القبطية معه تخدمه، و كان ذات يوم في بيت حفصة، فذهبت حفصة في حاجة لها، فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مارية، فعلمت حفصة بذلك، فغضبت و أقبلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه،

ص: 282


1- . تفسير روح البيان 47:10.
2- . تفسير روح البيان 47:10.
3- . المشربة: الغرفة.
4- . تفسير روح البيان 48:10.
5- . تفسير روح البيان 48:10.

في يومي و داري و على فراشي! فاستحيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: «كفّي و قد حرّمت مارية على نفسي، و لا أطؤها بعد هذا أبدا، و أنا أفضي إليك سرا إن أنت أخبرت به فعليك لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين». فقالت: نعم ما هو؟ قال: إنّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي، ثمّ بعده أبوك عمر».

فأخبرت حفصة به عائشة من يومها ذلك، و أخبرت عائشة أبا بكر، فجاء أبا بكر إلى عمر، فقال له:

إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة بشيء و لا أثق بقولها، فاسأل أنت حفصة، فجاء عمر إلى حفصة فقال لها: ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة؟ فأنكرت حفصة ذلك، و قالت: ما قلت لها من ذلك شيئا. فقال لها عمر: إن [كان] هذا حقا فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه. فقالت: نعم، قد قال [ذلك] رسول اللّه(1)... الخبر.

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلىٰ بَعْضِ أَزْوٰاجِهِ حَدِيثاً فَلَمّٰا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّٰهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّٰا نَبَّأَهٰا بِهِ قٰالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هٰذٰا قٰالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) ثمّ شرع سبحانه في تفضيح بعض نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله التي طلب رضاها بتحريم مارية بقوله:

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ و المعنى اذكروا أيّها المسلمون وقتا أفضى النبي صلّى اللّه عليه و آله إِلىٰ بَعْضِ أَزْوٰاجِهِ و هي حفصة حَدِيثاً و كلاما خفية من غيرها، و أمرها بكتمانه و إخفائه عن سائر أزواجه، فخالفت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عصته، و أخبرت به عائشة فَلَمّٰا نَبَّأَتْ عائشة بسرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخبرتها بِهِ لمصادقة كانت بينهما، و أخبر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإفشاء حفصة سرّه وَ أَظْهَرَهُ اللّٰهُ بتوسّط جبرئيل عَلَيْهِ بلا ريث و تأخير عَرَّفَ النبي صلّى اللّه عليه و آله حفصة و أعلمها بإفشائها سرّه، و لكن لا كلّه، بل بَعْضَهُ و هو تحريمه مارية على نفسه وَ أَعْرَضَ صلّى اللّه عليه و آله عَنْ بَعْضٍ و لم يقل لها: إنّك أخبرت بأنّ أبا بكر و عمر يليان الخلافة بعده كراهة انتشاره بين الناس، و تكرّما منه و حلما فَلَمّٰا أخبرها النبي صلّى اللّه عليه و آله بخيانتها و عصيانها و نَبَّأَهٰا بِهِ معترضا عليها قٰالَتْ حفصة مَنْ أَنْبَأَكَ هٰذٰا العصيان، و أخبرك بهذه الخيانة منّي قٰالَ النبي صلّى اللّه عليه و آله: نَبَّأَنِيَ اللّه اَلْعَلِيمُ بالأسرار و اَلْخَبِيرُ بخفايا الامور.

أقول: فيه دلالة على إخباره بالغيب، و هو من معجزاته.

إِنْ تَتُوبٰا إِلَى اللّٰهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا وَ إِنْ تَظٰاهَرٰا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلاٰئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ

ص: 283


1- . تفسير القمي 375:2، تفسير الصافي 194:5.

أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوٰاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمٰاتٍ مُؤْمِنٰاتٍ قٰانِتٰاتٍ تٰائِبٰاتٍ عٰابِدٰاتٍ سٰائِحٰاتٍ ثَيِّبٰاتٍ وَ أَبْكٰاراً (1) ثمّ وجه سبحانه الخطاب إلى المرأتين العاصيتين تشديدا للعتاب لهما بقوله:

إِنْ تَتُوبٰا يا عائشة و يا حفصة من خيانتكما و عصيانكما إِلَى اللّٰهِ و تستغفرانه فهو خير لكما فَقَدْ صَغَتْ و أعرضت قُلُوبُكُمٰا عن اللّه و طاعته برغبتكما إلى إيذاء نبيّه صلّى اللّه عليه و آله وَ إِنْ لم تتوبا و تَظٰاهَرٰا و تعاونا عَلَيْهِ و تواطئا على إيذائه، فإنّه لا يبالي بكما، لأنّ له مظاهرا و معاونا أقوى من جميع أهل العالم فَإِنَّ اللّٰهَ الغالب القاهر هُوَ بالخصوص مَوْلاٰهُ و ناصره قبل كلّ شيء، لأنّه حبيبه و صفيّه وَ بعده جِبْرِيلُ رئيس الكروبيين، و أقوى الملائكة ناصره وَ بعدهما صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ و سيدهم علي بن أبي طالب صلّى اللّه عليه و آله ناصره بنفسه و ماله، كما عن مجاهد(2) و الباقر عليه السّلام(3) ، و يؤيّده حديث المنزلة(4).

و عن الباقر عليه السّلام «لقد عرّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام أصحابه مرّتين؛ أمّا مرّة فحيث قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و أمّا الثانية فحيث ما نزلت هذه الآية: فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد علي عليه السّلام و قال: أيّها الناس، هذا صالح المؤمنين».

و قالت أسماء بنت عميس: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: «وَ صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب»(5) فما نسبه العامّة إلى ابن عباس من أنّ المراد أبو بكر و عمر(5) فرية لا اعتداد بها، مع أنّ مولاه لا بدّ أن يكون أقوى الناس لا أضعفهم.

و قيل: إنّ المراد خيار المؤمنين. و قيل: من برئ منهم من النفاق. و قيل: عموم اصحابه. و قيل: جميع الأنبياء(6).

وَ الْمَلاٰئِكَةُ كلّهم بَعْدَ ذٰلِكَ المذكورين ظَهِيرٌ و معاونا له على أعدائه، فلا يبالي بكيد امرأتين ضعيفتين من له اولئك الظّهراء. ثمّ خوّفهنّ سبحانه بقوله:

عَسىٰ رَبُّهُ و يرجي منه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إِنْ طَلَّقَكُنَّ و أخرجكنّ من حبالة نكاحه أَنْ يُبْدِلَهُ اللّه و يعوّضه منكنّ أَزْوٰاجاً أخر خَيْراً له و أفضل مِنْكُنَّ من جهة كونهنّ مُسْلِمٰاتٍ بألسنتهنّ، أو منقادات بجوارحهنّ مُؤْمِنٰاتٍ و مخلصات أو مصدّقات بقلوبهنّ قٰانِتٰاتٍ و مطيعات أو خاضعات للّه و لرسوله

ص: 284


1- . تفسير الرازي 44:30.
2- . تفسير روح البيان 53:10.
3- . تفسير القمي 377:2، تفسير الصافي 195:5.
4- . تفسير روح البيان 53:10.
5- . مجمع البيان 475:10، تفسير الصافي 195:5.
6- . تفسير الرازي 44:30.

تٰائِبٰاتٍ من زلاّتهنّ، و عٰابِدٰاتٍ للّه مواظبات على الصلوات، أو متذلّلات لأوامر الرسول سٰائِحٰاتٍ و صائمات، يكون بعضهنّ ثَيِّبٰاتٍ وَ بعضهنّ أَبْكٰاراً كما أنّ في أزواجه ثيّبات و بكر.

في فضيحة عائشة

و حفصة و ردّ

بعض العامة

أقول: في ذكر الصفات في مقام بيان خيرية الأزواج إشعار بعدم اتّصاف عائشة و حفصة بجميع الصفات، و إلاّ لم يكنّ خيرا منهما، و فيها ردّ على استدلال الفخر الرازي بآية اَلطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ (1) على كون عائشة مبرّأة من جميع العيوب(2) ، و الظاهر أنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل السورة لتفضيحهما بين المؤمنين بكونهما مؤذيتين للنبي صلّى اللّه عليه و آله و متظاهرتين عليه، كما أنزل سورة المنافقين لتفضيح عبد اللّه بن ابي و أصحابه بين المؤمنين بكفرهم و معارضتهم للنبي، فلا يعبأ بما روته العامة من أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا طلّق حفصة قال له جبرئيل: ارجع إليها، فانّها صوّامة قوّامة(3) ، مع كون النبي صلّى اللّه عليه و آله أعلم بحالها من غيره، و إنّما رجع إليها لدخالتها في الفتنة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نٰاراً وَقُودُهَا النّٰاسُ وَ الْحِجٰارَةُ عَلَيْهٰا مَلاٰئِكَةٌ غِلاٰظٌ شِدٰادٌ لاٰ يَعْصُونَ اللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ (4) ثمّ لمّا ذكر سبحانه عصيان زوجتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمرهما بالتوبة أمر المؤمنين بحفظ نسائهم و أولادهم و أقربائهم من العصيان بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا و احفظوا أَنْفُسَكُمْ بطاعة اللّه و ترك عصيانه وَ أَهْلِيكُمْ من أزواجكم و أولادكم و أقاربكم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و النّصح و العظة نٰاراً موقدة التي وَقُودُهَا و حطبها ما تشتعل به اَلنّٰاسُ الكفرة و العصاة وَ الْحِجٰارَةُ عن ابن عباس هي حجارة الكبريت؛ لأنّها أشدّ الأشياء حرّا إذا أوقد عليها(5). و قيل:

حجارة الأصنام(6). و قيل: الذهب و الفضّة الذين أصلهما الحجر(6).

تسلّط عَلَيْهٰا بأمر ربّها تسعة عشر مَلاٰئِكَةٌ غِلاٰظٌ أجرامهم و قلوبهم، أو غلاظ أقوالهم شِدٰادٌ و جفاة و خشن على أعداء اللّه، لم يخلق فيهم رحمة و رقة، مطيعون لأمر اللّه لاٰ يَعْصُونَ اللّٰهَ و لا يخالفون مٰا أَمَرَهُمْ اللّه في تعذيب أعدائه و مخالفي أحكامه وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ من أنواع العذاب من غير توان و تأخير، و بلا زيادة و نقصان.

ص: 285


1- . النور: 26/24.
2- . تفسير الرازي 195:23.
3- . تفسير الرازي 41:30، تفسير روح البيان 48:10.
4- . تفسير روح البيان 59/10.
5- . تفسير الرازي 46:30.
6- . تفسير روح البيان 10/59.

في الحديث «رحم اللّه رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم، لعلّ اللّه يجمعكم معهم في الجنّة»(1).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية جلس رجل من المسلمين يبكي، و قال: عجزت عن نفسي، و كلّفت أهلي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حسبك أن تأمرهم بما تأمر نفسك، و تنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك»(2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله، قيل له: هذه نفسي أقيها، فكيف أقي أهلي؟ فقال: «تأمرهم بما أمرهم اللّه به، و تنهاهم عمّا نهاهم اللّه عنه، فان أطاعوك وقيتهم، و إن عصوك كنت قضيت ما عليك»(3).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) ثمّ إنّه تعالى بعد أمر المؤمنين بحفظ أنفسهم و أهليهم من النار، هدّد الكفّار بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا و التقدير على ما قيل: يقال لكم حين إدخالكم النار يوم القيامة و إرادتكم الاعتذار عن كفركم و عصيانكم(4): لاٰ تَعْتَذِرُوا في هذا اَلْيَوْمَ الذي هو يوم الجزاء بعد إتمام الحجّة عليكم بتوسّط الرسل في الدنيا، و تبليغ الأوامر و النواهي إليكم بأبلغ بيان، فلم يبق لكم عذر قابل للقبول مفيد بحالكم إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ اليوم مٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ و ترتكبون من الكفر و الطّغيان و العتوّ و العصيان بلا زيادة و لا نقصان.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اللّٰهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) ثمّ علّم اللّه سبحانه المؤمنين طريق الخلاص من العذاب و الاعتذار من العصيان بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ من معاصيكم و زلاّتكم في الدنيا قبل معاينة الآخرة و انسداد باب التوبة تَوْبَةً نَصُوحاً لا رجوع بعدها إلى ما ارتكبتم من الذنب، و اعتذروا إلى اللّه ممّا فرط منكم من العصيان مع الندم عليه ندامة شديدة مستلزمة للعزم الأكيد على أن لا تعودوا إليه أبدا.

ص: 286


1- . جوامع الجامع: 499، تفسير روح البيان 58:10.
2- . الكافي 1/62:5، تفسير الصافي 196:5.
3- . تفسير القمي 377:2، و تفسير الصافي 196:5، عن الصادق عليه السّلام.
4- . تفسير روح البيان 60:10.

في شرائط قبول

التوبة

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سمع أعرابيا يقول: اللهمّ إنّي استغفرك و أتوب إليك. فقال: «يا هذا: إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذّابين» قال: فما التوبة؟ قال: «إنّ التوبة يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، و للفرائض الإعادة، و ردّ المظالم، و الاستحلال من الخصوم، و أن تعزم على أن لا تعود، و أن تذيب نفسك في طاعة اللّه كما ربّيتها في المعصية، و أن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي»(1).

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية، فقال عليه السّلام: «يتوب العبد من الذنب ثمّ لا يعود فيه»(2).

و في رواية: قيل له: و أيّنا لا يعود؟ فقال: «إنّ اللّه يحبّ من عباده المفتّن التوّاب»(3).

و عن الكاظم عليه السّلام في هذه الآية، قال: «يتوب العبد ثمّ لا يرجع فيه، و أحبّ عباد اللّه إلى اللّه: المفتّن التائب»(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «التوبة النّصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره، بل أفضل»(5).

ثمّ بيّن سبحانه فائدة التوبة بقوله: عَسىٰ رَبُّكُمْ و يرجى من خالقكم اللطيف بكم أَنْ يُكَفِّرَ و يستر عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ و خطيئاتكم.

عن الصادق عليه السّلام: «إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه اللّه فيستر عليه في الدنيا و الآخرة» قيل: و كيف يستر عليه؟ قال: «ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، و يوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه، و يوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى اللّه و ليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب»(6).

وَ يُدْخِلَكُمْ برحمته جَنّٰاتٍ ذات قصور و أشجار كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ قيل:

ذكر سبحانه الوعد بصيغة الإطماع جريا على عادة الملوك، و إشعارا بأنّه تفضّل، و لأنّ العبد ينبغي أن يكون بين الخوف و الرجاء(7) ، و ذلك اللطف بالمؤمنين و إدخالهم الجنّة يكون في يوم القيامة، و هو يكون يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اللّٰهُ و لا يفضح، أو لا يخجل اَلنَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا به حال كونهم مَعَهُ و مصاحبه نُورُهُمْ و ضياء إيمانهم و طاعاتهم كشعاع الشمس يَسْعىٰ و يسير بسرعة على الصّراط بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و قدّامهم وَ بِأَيْمٰانِهِمْ و شمائلهم.

قيل: إنّ المراد من جميع جوانبهم و جهاتهم، و إنّما اكتفى سبحانه بذكر الجهتين لأنّهما أشرف الجهات،

ص: 287


1- . تفسير روح البيان 61:10.
2- . الكافي 3/314:2، تفسير الصافي 196:5.
3- . الكافي 4/314:2، تفسير الصافي 196:5، و المفتّن: الممتحن، يمتحنه اللّه بالذّنب ثم يتوب، ثم يعود ثم يتوب.
4- . تفسير القمي 377:2، تفسير الصافي 196:5.
5- . معاني الأخبار: 3/174، تفسير الصافي 196:5.
6- . الكافي 1/314:2، تفسير الصافي 197:5.
7- . تفسير روح البيان 64:10.

أو لأنّ أهل السعادة يؤتون صحائفهم من الجهتين(1).

عن الباقر عليه السّلام: «من كان له نور يومئذ نجا، و كلّ مؤمن له نور»(2).

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «يسعى [أئمة] المؤمنين يوم القيامة بين أيدي المؤمنين و بأيمانهم حتّى ينزلوهم منازلهم في الجنة»(3).

و هم مع ذلك يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قيل: هذا قول بعض المؤمنين، و هم الذين يجوزون على الصراط حبوا و زحفا(4) و قيل: يدعو كلّهم تقربا إلى اللّه مع تمام نورهم(5). و قيل: إنّ المراد من الاتمام الابقاء حتّى يدخلوا الجنّة و يردوا دار السّلام(4).

عن ابن عباس: يقولون ذلك عند انطفاء نور المنافقين إشقاقا(7).

و قيل: إنّ أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر مواطئ قدمه، لأنّ النور على قدر الأعمال(8).

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ (10) ثمّ لمّا بدأ السورة بالخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، ختم سبحانه الخطابات بالخطاب إليه بقوله:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه و آله جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ بالسيف و السّنان وَ الْمُنٰافِقِينَ بالحجّة و البرهان، و بالتهديد بالفضيحة و الخذلان وَ اغْلُظْ و شدّد و أخشن عَلَيْهِمْ فيما يجاهد الفريقين من القتال و المحاجّة حتّى تضيّق عليهم الدنيا، و أنا حكمت بأنّ منزلهم وَ مَأْوٰاهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ التي اعدّت للكفار وَ هي بِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع في الآخرة، فلا يكون لهم دنيا و لا آخرة.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه خيانة زوجتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و عصيانهما إيّاه في أول السورة، بيّن سبحانه عدم انتفاعهما بصحبته، و عدم استفادتهما من كونهما من أزواجه، بتمثيل حالهما بزوجة نوح و زوجة لوط بقوله:

ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا و بيّن حالهم الغريبة التي تشابه المثل في الغرابة بتذكيركم حال واعلة التي هي اِمْرَأَتَ نُوحٍ و أهله وَ امْرَأَتَ لُوطٍ فانّهما كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا

ص: 288


1- . تفسير روح البيان 65:10 و 66.
2- . تفسير القمي 378:2، تفسير الصافي 197:5.
3- . مجمع البيان 478:10، تفسير الصافي 197:5. (4و5) . تفسير الرازي 48:30.
4- . تفسير روح البيان 66:10. (7و8) . تفسير الرازي 48:30.

صٰالِحَيْنِ كاملين في العبودية و حسن الأعمال و الأخلاق، و في تصرّفهما و تربيتهما و حكمهما المقتضي لصيرورتهما مؤمنتين صالحتين فَخٰانَتٰاهُمٰا بإفشاء سرّهما عند الكفّار، كما كانت عائشة و حفصة تحت تربيتك و حلمك المقتضي لكونهما صالحتين، و مع ذلك خانتاك بإفشاء سرّك فَلَمْ يُغْنِيٰا ذلكما النبيان المرسلان مع عظم شأنهما عَنْهُمٰا بحقّ النكاح و الصّحبة مِنْ عذاب اَللّٰهُ و نكاله شَيْئاً يسيرا من الإغناء، فشملهما عذاب الاستئصال في الدنيا بأنّ هلكت إحداهما بالغرق بالطّوفان، و الاخرى بالصيحة و مطر الحجارة وَ قِيلَ لهما عند موتهما أو يوم القيامة: يا زوجة نوح، و يا زوجة لوط اُدْخُلاَ النّٰارَ مَعَ سائر اَلدّٰاخِلِينَ فيها من الكفار الذين لا وصلة بينهم و بين الأنبياء.

وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قٰالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرٰانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهٰا فَنَفَخْنٰا فِيهِ مِنْ رُوحِنٰا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمٰاتِ رَبِّهٰا وَ كُتُبِهِ وَ كٰانَتْ مِنَ الْقٰانِتِينَ (12) ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنات اللاتي لا وصلة بينهنّ و بين الأنبياء، بل كنّ تحت أشقى الأشقياء بقوله:

وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا و بيّن حسن حالهم الغريبة بتذكيركم حال آسية، مع أنّها كانت اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ الذي ادّعى الالوهية و عارض موسى بن عمران، فلم يضرّها صحبة زوجها الكافر، و صبرت على اذاه إِذْ قٰالَتْ و حين دعت ربّها لمّا ابتليت بعذاب فرعون و أذاه بقولها: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ و في جوار قربك بَيْتاً و منزلا فِي أعلى درجات اَلْجَنَّةِ لإيماني بك و برسولك موسى وَ نَجِّنِي مِنْ صحبة فِرْعَوْنَ و عذابه وَ من عَمَلِهِ الباطل، و كفره بآياتك وَ نَجِّنِي يا ربّ و خلّصني مِنْ ظلم اَلْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ على أنفسهم و على عبادك المؤمنين.

روي أنّه لمّا غلب موسى السّحرة آمنت آسية بنت مزاحم زوجة فرعون بموسى بن عمران. قيل:

كانت عمّته، فلمّا علم فرعون بإيمانها أمرها بالرجوع عن الايمان إلى الكفر فأبت عن ذلك، فأوتد يديها و رجليها بأربعة أوتاد في حرّ الشمس، فأمر اللّه الملائكة أن يظلّوها من الشمس بأجنحتهم، فلمّا قالت: ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة، رفعت الحجب، فأراها بيتا في الجنة من درّة بيضاء،

ص: 289

و رفع عنها ألم العذاب فضحكت، فقال الكفّار: هي مجنونة لأنّها تضحك و هي في العذاب(1) ، ثمّ طارت روحها إلى جوار رحمة اللّه.

و عن الضحّاك: أمر فرعون أن يلقى عليها حجر رحى، و هي في الأوتاد، فقالت رب ابن لي... إلى آخره فلم يصل الحجر حتّى رفع روحها إلى الجنّة، فألقي الحجر عليها بعد خروج روحها، فلم تجد ألما(2).

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنات اللاتي لا زوج لهنّ بتمثيلهنّ بمريم بنت عمران بقوله:

وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرٰانَ أمّ عيسى اَلَّتِي أَحْصَنَتْ و حفظت فَرْجَهٰا من مساس الرجال حراما و حلالا على آكد حفظ، و قيل: يعني طهّرت ذيلها من ريبة الفجور فَنَفَخْنٰا في جيبها بتوسّط جبرئيل، و أدخلنا فِيهِ كالريح من الروح العظيم الشأن الذي يصحّ أن تقول تشريفا: إنّه مِنْ رُوحِنٰا و قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل(3) ، و المعنى فنفخنا في جيبها من جبرئيل وَ صَدَّقَتْ عن صميم القلب بِكَلِمٰاتِ رَبِّهٰا المنزلة على الأنبياء، أو المراد بالبشارات التي بشّر بها جبرئيل وَ كُتُبِهِ المنزلة من السماء كصحف شيث و إبراهيم و توراة موسى و زبور داود و غيرها وَ كٰانَتْ واحدة مِنَ الْقٰانِتِينَ و الخاشعين للّه، أو من المطيعين و المعتكفين في المسجد الأقصى، و عدّها من الرجال القانتين للإشعار بعدم قصور عبادتها عن عبادة الأنبياء.

روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كمل من الرجال كثير، و لم يكمل من النساء إلاّ أربع: آسية بنت مزاحم، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله»(4).

قيل: جمعه اللّه في التمثيل بين التي لها زوج و التي لا زوج لها تسلية للأرامل و تطييبا لأنفسهن(3).

ص: 290


1- . تفسير روح البيان 69:10.
2- . تفسير روح البيان 69:10. (3و4) . تفسير روح البيان 71:10.
3- . تفسير روح البيان 70:10.

في تفسير سورة الملك

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ تَبٰارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة التحريم المشتملة على اظهار غاية التعظيم لنبيه و اللطف به و بالمؤمنين و تهديد الكفار بالعذاب و انقطاع عذرهم في الآخرة، اردفت بسورة الملك المشتملة على بيان سلطنته المطلقة في عالم الوجود، و كمال قدرته، و تهديد الكفار بورودهم في النار، و انقطاع عذرهم و اعترافهم باستحقاقهم العذاب، و إبطال قولهم بإنكار المعاد، و إظهار اللّطف بالمؤمنين، فافتتحها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها ببيان عظمة ذاته المقدّسة و كثرة خيره و كمال قدرته بقوله:

تَبٰارَكَ و تعالى و تعظّم، أو كثر خير الإله اَلَّذِي بِيَدِهِ و تحت قدرته و سلطنته اَلْمُلْكُ و عالم الوجود من العلويات و السفليات، يقلّبه كيف يشاء، و يحكم فيه كيف أراد بلا ضدّ و لا ندّ و لا معارض و لا معاضد وَ هُوَ في ملكه عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الايجاد و الإعدام و العطاء و المنع و الإعزاز و الإذلال و الإحياء و الإماتة و غيرها قَدِيرٌ.

ثمّ بيّن سبحانه آثار قدرته و سلطانه بقوله:

اَلَّذِي خَلَقَ و قدّر بقدرته و حكمته اَلْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لكلّ ما يقبلهما.

عن ابن عباس: أنّ الموت و الحياة جسمان، و أنّ اللّه خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمرّ بشيء و لا يجد رائحته شيء إلاّ مات، و خلق الحياة على صورة فرس انثى بلقاء(1) ، و هي التي كان جبرئيل و الأنبياء يركبونها، خطوتها مدّ البصر، فوق الحمار و دون البغل، لا تمرّ بشيء و لا يجد رائحتها [شيء] إلاّ حيي، و هي التي أخذ السامري من أثرها قبضة فألقاها على العجل فحيي(2).

ص: 291


1- . الفرس البلقاء: التي فيها سواء و بياض.
2- . تفسير روح البيان 74:10.

تحقيق في الموت

و بيان نكتة

تقديمه على الحياة

أقول: ظاهر ما ذكره أنّ الموت المخلوق هو حيوان يشبه الكبش الأملح، و أثر قربه و رائحته في الشيء الحي هو عروض الموت عليه، كالسّمّ و سائر الأشياء المهلكة، و هو غير الموت الذي يعرض للأشياء الحيّة، فالموت الذي هو من العوارض الوجودية على قول و العدمية على القول الحقّ غير ذلك الموت الذي هو مخلوق و صورته في عالم الصّور و المثال صورة الكبش، فلا دلالة لكلام ابن عباس على صحّة أحد القولين.

و الحقّ أنّ المفهوم من لفظ الموت الذي يكون في قبال الحياة في الاستعمال الشائع، هو من العدميات التي لها شائبة الوجود، و يسمّى بالعدم و الملكة و العدم المضاف، و هو يتحقّق بانتفاء علّة الحياة، فانّ عدم علّة الوجود علّة للعدم، و قبض ملك الموت الروح من الجسد سبب لطروّ الموت عليه، و يمكن أن تكون صورته المثالية البرزخية صورة الكبش الأملح التي يؤتى بها يوم القيامة، و يذبحه يحيى بن زكريا على رواية(1).

و هذا المعنى الذي للموت مخلوق بتبع خلق الحياة، كما أنّ خلق الليل الذي عدم النور فوق الأرض إنّما يكون بتبع خلق النهار، فانّ ذهاب الشمس من فوق الأرض و عدمها منه علّة لظلمة الليل، و عليه يكون معنى خلق الموت و الحياة جعل الروح في القالب و سلبه منه، و هذا هو الموت الذي يكون بعد الحياة، كما عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه خلق الحياة قبل الموت»(2). و أمّا الموت الذي هو فقد الحياة و عدمها، كما يكون للنّطفة و للأرض الميتة، فهو قبل الحياة.

فتحصّل ممّا ذكر أنّ الموت بالمعنى الأعمّ عدمي صرف لا يحتاج إلى السبب، و أمّا الموت الذي هو زهاق الروح فهو مسبّب عن ذهاب مقتضى الحياة بنفسه أو وجود ما هو ضدّها، و عليه يمكن حمل ما عن الباقر عليه السّلام من قوله: «الحياة و الموت خلقان من خلق اللّه، فاذا جاء الموت فدخل في الانسان، لم يدخل في شيء إلا خرجت منه الحياة»(3) و حمل دخول الموت على دخول ما هو مانع الحياة، و إن كان ظاهره مقررا لما قاله الأشاعرة من أنّ الموت و الحياة صفتان وجوديتان مستدلّين عليه بالآية المباركة، إلاّ أن يقال: إنّ اتّصاف الجسم بالموت (و السكون) مثلا و تقيّده به أمر وجوديّ كالحياة.

و على أي تقدير قيل في وجه تقديم ذكر الموت: إنّ المراد به حال النّطفة و العلقة و المضغة، و بالحياة نفخ الروح(4).

ص: 292


1- . تفسير الرازي 55:30، تفسير روح البيان 75:10.
2- . الكافي 116/145:8، تفسير الصافي 200:5.
3- . الكافي 34/259:3، تفسير الصافي 200:5.
4- . تفسير الرازي 55:30.

و عن ابن عباس، قال: يزيد الموت في الدنيا و الحياة في الآخرة، و في معناه ما قيل من ان أيام الموت هي أيام الدنيا و هي من قضيته و أيام الحياة هي أيام الآخرة و هي متأخّرة(1).

و قيل: إنّ أقوى الدواعي للعمل كون الموت نصب العين، و إنّما قدّم الموت لأنّ الغرض - و هو البعث على العمل فيه - أهمّ(2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أكثروا ذكر هادم اللذّات» [و قال لقوم «لو أكثرتم ذكر هادم اللذات] لشغلكم عمّا أرى»(3).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله سأل عن رجل فأثنوا عليه فقال: «كيف ذكره الموت؟» قالوا: قليل. قال: «فليس كما تقولون»(4).

و في الحديث: «لو لا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر، و المرض، و الموت»(5).

و إلى ما ذكر أشار سبحانه بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ و يختبركم و يعلمكم بسبب خلق الموت و الحياة أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فيجازيكم على اختلاف المراتب.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «يقول أيّكم أحسن عقلا» ثمّ قال: «أتمّكم عقلا أشدّكم للّه خوفا، و أحسنكم فيما أمر اللّه به و نهى عنه نظرا»(6).

و في رواية قال: «أيكم أزهد في الدنيا، و أشدّكم تركا لها»(7).

و في رواية قال: «أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه»(8).

و عن الصادق عليه السّلام: «ليس يعني أكثركم عملا، و لكم أصوبكم عملا، و إنّما الإصابة خشية اللّه و النيّة الصادقة...»(9) الخبر.

وَ هُوَ تعالى وحده اَلْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء لا يفوته من أساء و اَلْغَفُورُ لمن شاء إمّا بالتوبة أو بالشفاعة أو بالتفضّل.

اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ طِبٰاقاً مٰا تَرىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ

ص: 293


1- . تفسير الرازي 55:30.
2- . تفسير الرازي 55:30.
3- . تفسير الرازي 55:30، و فيه في الموضعين: هازم، بدلا من: هادم.
4- . تفسير الرازي 55:30.
5- . تفسير روح البيان 75:10.
6- . تفسير الرازي 56:30.
7- . تفسير الرازي 56:30.
8- . تفسير روح البيان 76:10.
9- . الكافي 4/13:2، تفسير الصافي 200:5.

خٰاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4) وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّمٰاءَ الدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ جَعَلْنٰاهٰا رُجُوماً لِلشَّيٰاطِينِ وَ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰابَ السَّعِيرِ (5) ثمّ بالغ سبحانه في ذكر آثار قدرته بقوله:

اَلَّذِي خَلَقَ و أبدع سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ حال كونهنّ طِبٰاقاً بعضها فوق بعض لكلّ حدّ معين و حركة خاصة مقدّرة بقدر مخصوص من السرعة و البطء، متناسبات في الخلق بحيث مٰا تَرىٰ أيّها الرسول، أو الرائي فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ و إبداع الإله الفيّاض المنّان يسيرا مِنْ تَفٰاوُتٍ و اختلاف و عيب. يقول الرائي: لو كان كذا كان أحسن، أو من فروج و شقوق فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ و ردّه إلى رؤيتها، و أعد النظر إليها لطلب الخروق و الصّدوع فيها (1)يَنْقَلِبْ و يرجع إِلَيْكَ الْبَصَرُ خٰاسِئاً محروما من إصابة ما طلبه من العيب و الخلل وَ هُوَ لطول المعاودة و كثرة المراجعة حَسِيرٌ و كليل، و بالغ غاية الإعياء و العجز عن الظّفر بالمطلوب من وجدان العيب.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال خلقه السماوات بيّن كمال قدرته و حكمته بتحسينها و تزيينها منّة على العباد بقوله:

وَ لَقَدْ زَيَّنَّا و حسّنا بقدرتنا اَلسَّمٰاءَ الدُّنْيٰا و أقربها إلى الأرض بِمَصٰابِيحَ و سرج مضيئة من النجوم و الكواكب الثوابت و السيارة.

أقول: لا ينافي ذلك كون جميعها أو بعضها في السماوات الأخر، فانّها ترى في السماء الدنيا و ترى زينة لها.

و صيّرنا الكواكب وَ جَعَلْنٰاهٰا مع ذلك رُجُوماً و مطردات لِلشَّيٰاطِينِ و كفرة الجنّ بالشّهب المنفصلة منها، إذا أرادوا استراق السمع و قيل: يعني جعلناها ظنونا و رجوما بالغيب لشياطين الإنس، و هم الأحكاميّون من المنجّمين (2)وَ أَعْتَدْنٰا لاولئك الشياطين و هيّأنا لَهُمْ في الآخرة عَذٰابَ السَّعِيرِ و النار الموقدة التي أوقدها الجبّار بغضبه.

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذٰابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذٰا أُلْقُوا فِيهٰا سَمِعُوا لَهٰا شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكٰادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمٰا أُلْقِيَ فِيهٰا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهٰا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قٰالُوا بَلىٰ قَدْ جٰاءَنٰا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنٰا وَ قُلْنٰا مٰا نَزَّلَ اللّٰهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ كَبِيرٍ (9) وَ قٰالُوا لَوْ كُنّٰا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مٰا كُنّٰا فِي أَصْحٰابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحٰابِ السَّعِيرِ (11)

ص: 294


1- . يوجد في النسخة بياض بمقدار سطر و أربع كلمات.
2- . تفسير الرازي 60:30.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أنّ كفار الشياطين لهم عذاب جهنّم، هدّد جميع الكفّار من الجنّ و الإنس به بقوله:

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [سواء] كانوا من الشياطين أو الجنّ أو الانس عَذٰابُ جَهَنَّمَ في الآخرة وَ هي بِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع لهم.

ثمّ بيّن سبحانه بعض أهوال جهنّم مضافا إلى التعذيب بها بقوله:

إِذٰا أُلْقُوا اولئك الكفّار في جهنّم و طرحوا فِيهٰا كالحطب الذي يطرح في النار من غير رقّة و ترحّم سَمِعُوا اولئك الملقون في جهنّم لَهٰا شَهِيقاً و صوتا منكرا كصوت الحمار غضبا عليهم وَ هِيَ تَفُورُ و تغلي غليان القدر بالماء الذي فيه بغاية الشدّة من شدّة التلهّب و التسعّر، فهم لا يزالون صاعدين فيها و هابطين كالحبّ الذي في الماء المغلي لا قرار لهم فيها.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان شدّة غضب جهنّم عليهم بقوله:

تَكٰادُ و تقرب جهنّم من أن تَمَيَّزُ و تفرّق مِنَ شدّة اَلْغَيْظِ و الغضب عليهم.

ثمّ بيّن سبحانه حال الملقون فيها بقوله: كُلَّمٰا أُلْقِيَ في جهنّم و طرح فِيهٰا من الكفرة فَوْجٌ و جماعة بدفع الملائكة الذين هم أغيظ عليهم من النار سَأَلَهُمْ مالك جهنّم و أعوانه الذين هم موكلون عليها و خَزَنَتُهٰا بطريق التوبيخ و التقريع أيّها الكفرة أَ لَمْ يَأْتِكُمْ في الدنيا من قبل ربّكم نَذِيرٌ و مخوّف لكم من عذاب هذا اليوم و أهواله؟

قٰالُوا في جواب الخزنة اعترافا بجرمهم و استحقاقهم للعذاب: بَلىٰ أيّها الخزنة قَدْ جٰاءَنٰا في الدنيا من قبل ربّنا نَذِيرٌ عظيم الشأن كثير المعجزات فَكَذَّبْنٰا ذلك النذير في دعوى كونه من اللّه وَ قُلْنٰا في ردّ ما كانوا يتلون علينا من الآيات مٰا نَزَّلَ اللّٰهُ ممّا تتلون علينا مِنْ شَيْءٍ يسير فضلا عن جميع تلك الآيات الكثيرة أو من شيء من كتاب و رسول إِنْ أَنْتُمْ و ما نراكم أيّها المدّعون للرسالة إِلاّٰ منغمرين فِي ضَلاٰلٍ كَبِيرٍ و منحرفين عن طريق واضح عند عامة العقلاء في دعواكم الرسالة، و كون ما تتلون علينا من جانب اللّه

وَ قٰالُوا تحسّرا و تندّما: إنا لَوْ كُنّٰا في الدنيا نَسْمَعُ مواعظ الرّسل سماع القبول أَوْ نَعْقِلُ امتناع الشرك و وجوب بعث الرسول و جعل دار الجزاء على اللّه، و براهين الأنبياء على التوحيد، و سائر ما جاءوا به مٰا كُنّٰا اليوم فِي زمرة أَصْحٰابِ السَّعِيرِ و مستحقي العذاب.

قيل: كأنّ الخزنة قالوا لهم في تضاعيف توبيخهم: أ لم تسمعوا آيات ربّكم من ألسنة الرّسل، و لم تعقلوا معانيها؟ قالوا في جوابهم ذلك (1)

فَاعْتَرَفُوا في جواب الخزنة اضطرارا لما رأوا أنّه

ص: 295


1- . تفسير روح البيان 85:10.

لا يمكنهم الفرار و الإنكار بِذَنْبِهِمْ من الكفر و المعاصي و معارضة الرسل و تكذيبهم اختيارا في الدنيا و أقرّوا باستحقاقهم العذاب فَسُحْقاً و بعدا لا غاية له من رحمة اللّه لِأَصْحٰابِ السَّعِيرِ و هم الكفرة من الجنّ و الإنس اعترفوا أو جحدوا.

و عن (الاحتجاج) في الخطبة الغديرية: «أنّ هذه الآيات في أعداء عليّ و أولاده عليه السّلام و التي بعدها في أوليائه»(1).

قيل: إنّ التقدير فسحقوا سحقا و بعدوا بعدا على التحقيق، أو على الدعاء عليهم، بمعنى تعليم اللّه العباد أن يدعوا عليهم بهذا إشعارا بأنّهم مستحقّون لهذا الدعاء(2).

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ (13) ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر سوء حال الكفّار في الآخرة، ذكر حسن حال المؤمنين فيها بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ يؤمنون باللّه، و يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الذي هو بِالْغَيْبِ عن أبصارهم لا يرونه بعيونهم، بل يعرفونه بقلوبهم، أو المراد يخشون عذاب ربّهم بعد الموت و يوم القيامة مع [أنّ] ذلك العذاب غائب عنهم غير مرئيّ لهم في الدنيا، أو هم بالغيب عن الناس فيتركون معاصي اللّه في الخلوة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وَ أَجْرٌ و ثواب كَبِيرٌ و عظيم لا يوصف بالبيان تصغر دونه الدنيا و ما فيها.

ثمّ إنّه تعالى بعد وعيد الكفّار و وعد المؤمنين بطريق المغايبة، خاطب جميع الناس و حذّرهم عن العصيان في السّر و العلن بقوله:

وَ أَسِرُّوا و أخفوا قَوْلَكُمْ السيّئ أَوِ اجْهَرُوا و أعلنوا بِهِ لا يتفاوت بالنسبة إلى اللّه إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بكلّ شيء ظاهر و خفيّ حتى بِذٰاتِ الصُّدُورِ و الخطورات التي في القلوب.

عن ابن عباس: كانوا ينالون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيخبره جبرئيل فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم، لئلا يسمع إله محمد، فنزلت هذه الآية(3).

أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

ص: 296


1- . الاحتجاج: 63، تفسير الصافي 202:5.
2- . تفسير روح البيان 85:10.
3- . تفسير الرازي 66:30.

ثمّ أنكر سبحانه على الكفّار إنكار علمه تعالى بمخلوقه بقوله:

أَ لاٰ يَعْلَمُ و هل لا يحيط مَنْ خَلَقَ شيئا بمخلوقه؟ ماهية و صفة و مقدارا وَ الحال أنّه هُوَ اللَّطِيفُ و العالم بخفيّات الامور و دقائق الأشياء اَلْخَبِيرُ و المحيط ببواطنها. قيل: اللطيف من يعلم دقائق المصالح و غوامضها، ثمّ يوصلها إلى المستصلح بالرّفق دون العنف، و الخبير من لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في الملك و الملكوت شيء حتى حركة الدّودة في بطن صخرة إلاّ و عنده خبره و علمه(1).

ثمّ رجع سبحانه إلى آثار قدرته في الأرض بعد ذكر آثارها في السماوات بقوله:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ بقدرته نفعا لَكُمُ أيّها الناس اَلْأَرْضَ بأقطارها ذَلُولاً و منقادة لكم غاية الانقياد، لتنتفعوا بها بالسّكونة، و الزّرع و الغرس، و حفر الآبار، و شقّ العيون و الأنهار، و بناء الأبنية، و دفن الأموات و غيرها فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا و اسلكوا في جوانبها و أطرافها، أو في جبالها فضلا عن سهلها كما عن ابن عباس (2)وَ كُلُوا مِنْ نعم اللّه و رِزْقِهِ الذي أحلّ لكم وَ إِلَيْهِ تعالى وحده اَلنُّشُورُ و المرجع بعد البعث من قبوركم، فاجتهدوا في شكره، و جدّوا في طاعته.

قيل: إنّ وجه نظم هذه الآية أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بعلمه بسرّهم و علنهم، بالغ في تهديدهم بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فهو نظير أن يقول المولى لعبده العاصي: كن في هذه الدار، و كل هذا الخبز، و لا تأمن من تأديبي(3).

أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمٰاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذٰا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمٰاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حٰاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) ثمّ هدّد الكفّار على ترك شكر نعمه بقوله:

أَ أَمِنْتُمْ أيّها المكذّبون الكافرون لنعم اللّه مَنْ فِي السَّمٰاءِ نفاذ أمره، و ظهور كمال قدرته و سلطانه و ملكه، أو المراد بمن في السماء جبرئيل الموكّل بالعذاب أَنْ يَخْسِفَ و يقلب بِكُمُ الْأَرْضَ و يغلبكم في بطنها بعد جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها و تأكلون ممّا ينبت فيها بكفرانكم نعمه فَإِذٰا هِيَ بعد أن خسفت بكم تَمُورُ و تضطرب و تتحرّك ذهابا و مجيئا لتبلغكم إلى الطبقة السّفلى منها تعذيبا لكم كما فعلت بقارون.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله:

أَمْ أَمِنْتُمْ أيّها الكفار مَنْ فِي السَّمٰاءِ من أَنْ يُرْسِلَ و ينزل عَلَيْكُمْ منها تعذيبا لكم حٰاصِباً و مطر حجارة كما أرسل على قوم لوط، فاذا لا أمان

ص: 297


1- . تفسير روح البيان 87:10.
2- . تفسير الرازي 69:30.
3- . تفسير الرازي 68:30.

لكم من أحد هذين العذابين بوجه، فكيف تجترءون على التمادي في الشرك و الكفران فَسَتَعْلَمُونَ و عن قريب ترون كَيْفَ نَذِيرِ و ما هذا الإنذار عند مشاهدتكم نزول العذاب عليكم، أصدق هو أم كذب، أم شديد هو أم خفيف؟ و اللّه حينئذ يتيقّنون صدق خبري و شدّة عذابي و أنّه لا دافع له و لا مخلص منه.

وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صٰافّٰاتٍ وَ يَقْبِضْنَ مٰا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) ثمّ استشهد سبحانه على صدق وعيده بما نزل على الامم السابقة المكذّبة للرسل الكافرة للنّعم بقوله:

وَ لَقَدْ كَذَّبَ الكفّار اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقوم نوح و أضرابهم فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ ي و إنكارى عليهم باستئصالهم بالعذاب الشديد، و في كلمة الاستفهام دلالة على كمال فضاعته و شدّته.

ثمّ لمّا كان صدق الوعيد متوقفا على القدرة على إيجاد ما وعد به، بالغ في إظهار كمال قدرته بقوله:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا اولئك الكفّار، و لم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ و ما يسير في الجوّ بجناحيه حال كونها فَوْقَهُمْ صٰافّٰاتٍ و باسطات أجنحتهنّ في الجوّ حال الطيران وَ يَقْبِضْنَ و يضممن أجنحتهنّ و يضربن بها جنوبهنّ حينا بعد حين استظهارا به على التحرّك و السير مٰا يُمْسِكُهُنَّ في الجوّ و ما يمنعهنّ عن السقوط على الأرض مع ثقل جثّتهنّ المقتضي بالطبع للسقوط إِلاَّ الرَّحْمٰنُ و إلاّ الفيّاض على كلّ شيء ما هو قابل له إِنَّهُ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ من الموجودات و المبدعات و تدبير المعجبات بَصِيرٌ و عالم كعلم من يبصر الشيء بعينه فيعلم كيف يخلق الأشياء الغريبة و يدبّر الأمور العجيبة.

أَمَّنْ هٰذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمٰنِ إِنِ الْكٰافِرُونَ إِلاّٰ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21) ثمّ لمّا بيّن سبحانه كمال قدرته الدافع لتوهّم الكفّار قدرتهم على دفع العذاب عنهم بشجاعتهم و كثرة أموالهم و أولادهم و أعوانهم، وبّخهم على اعتمادهم بآلهتهم في حفظهم و نصرتهم بقوله:

أَمَّنْ و بل أيّ موجود هٰذَا الموجود الذليل الحقير اَلَّذِي هُوَ في زعمكم جُنْدٌ و عسكر

ص: 298

لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ عند نزول العذاب و الآفات مِنْ دُونِ الرَّحْمٰنِ و ما سواه.

أقول: هذا التبكيت يساوق قوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنٰا (1).

ثمّ قرّر سبحانه حماقتهم و جهلهم بقوله: إِنِ الْكٰافِرُونَ و ما هم في زعمهم أنّهم محفوظون من الآفات بحفظ آلهتهم إِلاّٰ فِي غُرُورٍ عظيم و ظلال فاحش.

ثمّ وبّخهم سبحانه على اعتمادهم على آلهتهم في إيصال الخيرات إليهم بقوله:

أَمَّنْ و بل أيّ شيء هٰذَا الصنم الحقير اَلَّذِي تزعمون أنّه يَرْزُقُكُمْ و يوصل إليكم ما تعيشون به من النّعم إِنْ أَمْسَكَ الرحمن رِزْقَهُ و نعمه بحبس المطر و مبادى الانتفاع بنعمه، يا للعجب كيف لا يتأثّر الكفّار بتلك المواعظ و المنبّهات! بَلْ لَجُّوا و تمادوا فِي عُتُوٍّ و طغيان على اللّه وَ نُفُورٍ و اشمئزاز عن الحقّ، كأنّهم حمر مستنفرة.

أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلىٰ وَجْهِهِ أَهْدىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) ثمّ بيّن سبحانه عدم قابليتهم للهداية بضرب المثل بقوله:

أَ فَمَنْ يَمْشِي حال كونه مُكِبًّا و ساقطا عَلىٰ وَجْهِهِ كالمصروع أَهْدىٰ و أوصل إلى مقصوده و مطلوبه أَمَّنْ يَمْشِي حال كونه سَوِيًّا و قائما على رجليه مصونا من السقوط و العثار عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق سوى لا عوج فيه و لا انحراف؟ و من الواضح أنّ الأول يمتنع وصوله إلى مطلوبه أبدا.

قيل: إنّ الكافر لمّا كان في الدنيا مكبّا على معاصي اللّه، حشره اللّه في الآخرة مكبّا على وجهه، و المؤمن لمّا كان في الدنيا قائما على أوامر اللّه مقدما على امتثال أحكامه، حشره اللّه في الآخرة قائما على قدميه سائرا إلى الجنّة(2).

عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: «القلوب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، و قلب منكوس، و قلب مطبوع، و قلب أزهر أنور» قال: «فأمّا القلب المطبوع فقلب المنافق، و أمّا القلب الأزهر فقلب المؤمن، إذا أعطاه اللّه عزّ و جلّ شكر، و إن ابتلاه صبر، و أمّا القلب المنكوس فقلب المشرك» ثمّ قرأ هذه الآية(3).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «إنّ اللّه ضرب مثل من حاد عن ولاية عليّ لا يهتدي لأمره، و جعل من تبعه سويا على صراط مستقيم، و الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السّلام»(4).

ص: 299


1- . الأنبياء: 43/21.
2- . تفسير روح البيان 94:10.
3- . معاني الأخبار: 51/395، تفسير الصافي 204:5.
4- . الكافي 91/359:1، تفسير الصافي 204:5.

أقول: هذا تأويل الآية لا تفسيرها.

و عن ابن عباس رضوان اللّه عليه قال: نزلت في أبي جهل و حمزة بن عبد المطلب(1) ، و قيل: في أبي جهل، و عمّار بن ياسر(2).

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصٰارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (25) ثمّ رجع سبحانه إلى الاستدلال على قدرته و نعمه بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين المنكرين لقدرة اللّه على البعث الكافرين لنعمه: إنّ اللّه تعالى هُوَ القادر اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ و خلقكم أولا من تراب، ثمّ من نطفة قذرة، ثمّ أكمل خلقكم وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتدركوا المسموعات، و تسمعوا المواعظ و الآيات الإلهية هُوَ شقّ لكم اَلْأَبْصٰارَ و جعل فيها قوة الرؤية لتدركوا بها المبصرات، و تنظروا إلى آيات توحيد اللّه و حكمته و قدرته و معجزات رسله هُوَ جعل لكم اَلْأَفْئِدَةَ و القلوب و قوّة الفهم فيها، لتتفكروا فيما تبصرونه و تسمعونه، و تميّزوا(3) صحيحه و فاسده و حقّه و باطله، و تعتبروا بالعبر منهما، و تتأمّلوا في الآيات التنزيلية و التكوينية، و ترتقوا بها في درجات الايمان و الطاعة، و الاسف انكم شكرا أو زمانا قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ للّه هذه النّعم العظام باستعمالها فيما خلقت له، فانّ شكر النعمة صرفها فيما فيه رضا المنعم، بل تكفرونها حيث تصرفونها فيما فيه غضبه و سخطه. و قيل: إنّ القليل هنا كناية عن العدم(4).

قُلْ يا محمد لهؤلاء الكفرة: إنّ ربّكم هُوَ القادر اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ و أكثركم من نفس واحدة، أو فرّقكم فِي وجه اَلْأَرْضِ و أقطارها، لتتعيشوا فيها و تستريحوا عليها ثمّ أنتم بعد انقضاء هذا العالم تحيون ثانيا في القبور بقدرة اللّه وَ إِلَيْهِ وحده يوم القيامة تُحْشَرُونَ و تساقون، أو تجمعون للحساب و جزاء الأعمال، فاستعدّوا لهذا اليوم العظيم، و بادروا إلى أحسن الأعمال و أفضل العبادات، كي تنجوا من الأهوال و الشدائد التي فيه، و تصلوا إلى الجنّة و النّعم الدائمة.

ثمّ إنّه تعالى بعد وعده بالحشر و البعث حكى استهزاء المشركين المنكرين للبعث به بقوله:

وَ يَقُولُونَ عنادا و استهزاء بالنبي صلّى اللّه عليه و آله(5) و المؤمنين المخبرين بالحشر مَتىٰ هٰذَا الْوَعْدُ و في أيّ

ص: 300


1- . تفسير الرازي 72:30.
2- . تفسير الرازي 73:30.
3- . زاد في النسخة: في.
4- . تفسير أبي السعود 9:9، تفسير روح البيان 95:10.
5- . في النسخة: للنبي.

زمان يقع هذا الحشر الذي تخبروننا بوقوعه؟ أخبرونا بوقت وقوعه إِنْ كُنْتُمْ في هذا الإخبار و الوعد صٰادِقِينَ و بوقوعه عالمين.

قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللّٰهِ وَ إِنَّمٰا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمّٰا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) ثمّ أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله:

قُلْ لهم يا محمد: ليس لي بوقت وقوعه علم إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقته عِنْدَ اللّٰهِ فقط مكتوم عن غيره، لاقتضاء حكمته البالغة ذلك وَ إِنَّمٰا أَنَا من قبل اللّه نَذِيرٌ و مخوّف للناس بالإخبار بأصل وقوعه مُبِينٌ و مظهر لهم ببيان واضح يعرفه كلّ أحد، لتتم الحجّة عليهم، و العلم بالوقوع لا يستلزم العلم بوقت الوقوع، و الإخبار بالأول عن علم من قبل اللّه كاف في الانذار.

ثمّ هدّدهم سبحانه ببعض أهوال ذلك اليوم بقوله:

فَلَمّٰا رَأَوْهُ زُلْفَةً و قريبا منهم أو معاينة سِيئَتْ و قبحت، أو اسودّت وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا و أنكروا وقوعه، و عن ابن عباس: يكون عليها الكابة و القتر (1)وَ قِيلَ لهم من قبل اللّه بلسان الزبانية، أو القائل بعضهم لبعض: هٰذَا اليوم الذي ترونه هو ذلك اليوم اَلَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تَدَّعُونَ و تطلبون و تستعجلون، أو تدّعون بطلانه أو امتناعه، و إنّه لا يأتي أبدا. قيل: إنّه استفهام انكاري، و المعنى: أ هذا الذي تدّعونه، لا بل تدّعون عدمه(2) و امتناع وقوعه.

و قيل: إنّ الآية تهديد لهم بالعذاب الدنيوي، و المعني: فلمّا رأوا عذاب الاستئصال زلفة و قريبا منهم.

عن القمي رحمه اللّه قال: إذا كان يوم القيامة نظر أعداء أمير المؤمنين عليه السّلام إليه و إلى ما أعطاه اللّه من الكرامة و المنزلة الشريفة العظيمة، و بيده لواء الحمد، و هو على الحوض يسقي و يمنع، تسودّ وجوه أعدائه، فيقال لهم: هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ منزلته و موضعه و اسمه(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه الذين عملوا ما عملوا، يرون أمير المؤمنين عليه السّلام في أغبط الأماكن لهم، فتسيء وجوههم، و يقال لهم: هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الذي انتحلتم اسمه»(4).

ص: 301


1- . تفسير الرازي 75:30.
2- . تفسير الرازي 75:30.
3- . تفسير القمي 379:2، تفسير الصافي 205:5.
4- . الكافي 68/352:1، تفسير الصافي 205:5.

و عنه عليه السّلام: «فلمّا رأوا مكان علي عليه السّلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله سيئت وجوه الذين كفروا» يعني الذين كذبوا بفضله»(1).

و عن الأعمش قال: لمّا رأوا ما لعليّ عند اللّه من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا(2).

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّٰهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنٰا فَمَنْ يُجِيرُ الْكٰافِرِينَ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمٰنُ آمَنّٰا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنٰا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (29) ثمّ لمّا كان المشركون يقولون: ننتظر موت محمد و نستريح منه، و كانوا يدعون عليه بالهلاك على ما روي(3) ، أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين الذين ينتظرون هلاكك:

أيّها المشركون أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّٰهُ بدعائكم عليّ وَ أهلك مَنْ مَعِيَ من المؤمنين، و أخرجنا من الدنيا بالموت أو القتل، أو بعذاب من عنده على الفرض أَوْ رَحِمَنٰا و أطال أعمارنا، فأيّ راحة لكم في ذلك، و أيّ نفع يعود بموتنا إليكم؟ ثمّ إن متنا أو بقينا فَمَنْ يُجِيرُ كم و أنتم من اَلْكٰافِرِينَ بتوحيده مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ أعدّ لكم؟ إذا نزل بكم أ تظنّون أنّ الأصنام و الأوثان تجيركم منه؟! حاشا و كلاّ

قُلْ يا محمد: إنّ مجير الخلق هُوَ الرَّحْمٰنُ و الإله الواسع الرحمة وحده، لا الأصنام و لا الأوثان و لا غيرهما من الموجودات، و لذا نحن آمَنّٰا بِهِ و أنتم لجهلكم كفرتم به هُوَ نحن عَلَيْهِ وحده تَوَكَّلْنٰا و اعتمدنا في امورنا، و فوّضنا مهمّاتنا إليه لعلمنا بأنّه القادر الرءوف الضارّ النافع، و غيره بمعزل عن التصرّف في الامور، و أنتم لحمقكم توكّلتم على أصنامكم و أموالكم و أعوانكم فَسَتَعْلَمُونَ و عن قريب عند معاينة الشدائد و العذاب تفهمون مَنْ هُوَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن طريق الحقّ و خطأ ظاهر، نحن أو أنتم؟

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مٰاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمٰاءٍ مَعِينٍ (30) ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين بالعذاب الأليم، و نفي مجير لهم إلاّ اللّه، هدّدهم ببلاء فقدان الماء الذي هو أهمّ ما يحتاجون إليه، و أعظم ما يعيشون به، و أسهل ما ينالون منه، و نفي القادر على إيجاده غير اللّه بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين: إن ظننتم أنّ أصنامكم ينفعونكم أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني

ص: 302


1- . مجمع البيان 494:10، تفسير الصافي 205:5.
2- . مجمع البيان 494:10، شواهد التنزيل 997/265:2، تفسير الصافي 205:5.
3- . تفسير الرازي 76:30.

إِنْ أَصْبَحَ و صار مٰاؤُكُمْ الذي تنالون منه بسهولة من آباركم غَوْراً و نازلا في الأرض بالكلية بحيث لا يمكن لكم نيله بنوع من الحيل فَمَنْ يقدر على أن يَأْتِيكُمْ على ضعفكم حينئذ بِمٰاءٍ مَعِينٍ جار على وجه الأرض تنتفعون به بسهولة، أ أصنامكم تأتيكم به، أم الرحمن؟

قيل: تخصيص الماء بالذكر لكونه أهون موجود و أعزّ مفقود(1).

قيل: إنّ الكفار لما قالوا نتربّص به ريب المنون، أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يجيبهم بقوله: إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّٰهُ وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين، فأيّ نفع لكم فيه، و أنتم تستحقّون عذابه، و من يجيركم من عذابه(2).

ثمّ أمره بأن يجيبهم بأنّ اللّه هو الرحمن لا يقبل دعاءكم و أنتم أهل الكفر و العناد في حقّنا، مع أنّا آمنا به و عليه توكّلنا.

ثمّ لمّا ذكر أنّ توكّله عليه أمره بإقامة الدليل على أنّه يجب التوكّل عليه بقوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مٰاؤُكُمْ غَوْراً... إلى آخره، و المقصود إقرارهم ببعض نعمه، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر، حيث إنّهم إن قالوا: هو اللّه، فيقال لهم: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في العبودية؟

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ماؤكم أبوابكم(3) الأئمّة، الأئمّة أبواب اللّه، فمن يأتيكم بماء معين؟ أي من يأتيكم بعلم إمام؟»(4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «نزلت في الامام القائم، يقول: إن أصبح إمامكم غائبا عنكم لا تدرون أين هو، فمن يأتيكم بامام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات و الأرض و حلال اللّه و حرامه؟» ثمّ قال: «و اللّه ما جاء تأويل هذه الآية، و لا بدّ أن يجيء تأويلها»(5).

في الحديث: «سورة في كتاب اللّه ما هي إلاّ ثلاثون آية، شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار و أدخلته الجنة، و هي سورة تبارك»(6).

و في حديث آخر: «وددت أنّ تَبٰارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في قلب كلّ مؤمن» و كان لا ينام صلّى اللّه عليه و آله حتّى يقرأ سورة الملك و الم تنزيل السجدة(7).

و قال علي عليه السّلام: «من قرأها يجيء يوم القيامة على أجنحة الملائكة، و له وجه في الحسن كوجه يوسف»(8).

ص: 303


1- . تفسير روح البيان 97:10 و 98.
2- . تفسير الرازي 76:30.
3- . في النسخة: أبواكم.
4- . تفسير القمي 379:2، تفسير الصافي 205:5.
5- . كمال الدين: 3/325، تفسير الصافي 206:5. (6-7-8) . تفسير روح البيان 98:10.

و عن ابن عباس: ضرب بعض الصحابة خيامه على قبر، و هو لا يشعر أنّه قبر، فاذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك، فأتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، ضربت خيامي على قبر و لا أعلم أنّه قبر، فاذا إنسان يقرأ سورة الملك. فقال: «هي المانعة من عذاب اللّه، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» و كانوا يسمّونها على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنجية، و كانت تسمّى في التوراة المانعة، و في الانجيل الواقية(1).

عن ابن مسعود: أنّه يؤتى الرجل في قبره من قبل رأسه فيقال: ليس لكم عليه سبيل، إنّه كان يقرأ على رأسه سورة الملك، فيؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل، إنه كان يقوم فيقرا سورة الملك، فيؤتى من قبل جوفه فيقال: ليس لكم عليه سبيل، إنّه وعى سورة الملك، أي حفظها(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة تَبٰارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في المكتوبة قبل أن ينام، لم يزل في أمان اللّه حتى يصبح، و في أمانه يوم القيامة حتى يدخل الجنة»(3).

قد تمّ تفسير لسورة المباركة بمنّ اللّه و توفيقه.

ص: 304


1- . تفسير روح البيان 98:10.
2- . تفسير روح البيان 98:10.
3- . ثواب الأعمال: 119، مجمع البيان 482:10، تفسير الصافي 206:5.

في تفسير سورة القلم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ن وَ الْقَلَمِ وَ مٰا يَسْطُرُونَ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الملك بذكر جواب اعتراضات المشركين على النبي صلّى اللّه عليه و آله، و جواب دعائهم عليه بالهلاك، و تهديدهم بقوله: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (1) ، اردفت في النّظم بسورة القلم المبتدئة بردّ المشركين في نسبتهم الجنون إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و بيان أنّهم يبصرون بأيّكم المفتون و الابتلاء بالجنون، و أنّ اللّه عالم بضلالتهم و هداية نبيّه و تسليته صلّى اللّه عليه و آله في سوء مقالات المشركين و تهديدهم بالعذاب، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ خاطب سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

ن فانّه على قول بعض مفسري العامة اسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشرة أسماء: خمسة في القرآن، و خمسة ليست في القرآن، فأمّا التي في القرآن: محمد، و أحمد، و عبد اللّه، و يس، و ن»(3).

تحقيق في الجمع

بين الروايات

أقول: لعلّ المراد من ن أنّه مفتاح ناصر دين اللّه، و نعمة اللّه العظمى، و النور المطلق الذي هو أصله و حقيقته و أوّل ما خلق حيث قال: «أوّل ما خلق اللّه نوري و هو أصل كلّ شيء من الرّوحانيات و الجسمانيات التي كلّها كلمات اللّه، و منه النهر الذي في الجنّة، و هو مادة جميع ما خلق اللّه في عالم الأشباح و الصور كالمداد الذي يكتب به، و يكون مادة جميع صور الحروف و الخطوط، و لذا فسّر النور بالمداد و الدواة، فلا منافاة بين ما ذكر من أنّه اسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله و بين ما روي عن الصادق عليه السّلام من أنه قال: و أمّا ن فهو نهر في الجنّة، قال اللّه عز و جلّ له: اجمد فجمد، فصار مدادا، ثمّ قال للقلم: اكتب فسطّر العلم في اللّوح المحفوظ ما

ص: 305


1- . الملك: 29/67.
2- . تفسير روح البيان 100:10.
3- . الخصال: 2/426، تفسير الصافي 208:5.

كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالمداد مداد من نور، و القلم قلم من نور، و اللّوح لوح من نور».

قال سفيان: فقلت له: يا ابن رسول [اللّه] بيّن لي أمر اللّوح و القلم و المداد فضل بيان، و علّمني ممّا علّمك اللّه. فقال: «يا ابن سعيد، لو لا أنّك أهل للجواب ما أجبتك، فنون ملك يؤدّي إلى القلم، و القلم ملك يؤدّي إلى اللّوح، و اللّوح ملك يؤدّي إلى إسرافيل، و إسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل، و ميكائيل يؤدّي إلى جبرئيل، و جبرئيل يؤدّي إلى الأنبياء و الرّسل عليهم السّلام»(1).

و عنه عليه السّلام: «و أمّا ن فكان نهرا في الجنّة أشدّ بياضا من الثّلج و أحلى من العسل...»(2) الخبر.

أقول: و يمكن أن يؤوّل إلى ما ذكرنا قول من قال إنّه آخر كلمة (الرحمن) كما أنّه لا ينافي كونه اسما للنبي صلّى اللّه عليه و آله من أسماء اللّه كما عليه بعض، ثمّ أكد سبحانه المخبر بالقسم على عادة الخلق بقوله تعالى: وَ الْقَلَمِ و هو مطلق ما يكتب به على قول، و الحلف به لشرافته بسبب كثرة فوائده، كما قال سبحانه: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ و القلم الخاصّ الذي قال ابن عباس: أوّل ما خلق اللّه القلم، ثمّ قال له: اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال و الأعمال قال:

و هو قلم من نور طوله كما بين السماء و الأرض(3).

أقول: يمكن أن يكون المراد من الكتابة إيجاد صور الموجودات في عالم الملكوت من أصل واحد، و هو نور النبي صلّى اللّه عليه و آله، و بملاحظة اتحاده مع نور علي عليه السّلام.

روى بعض العامة أنّ عليا عليه السّلام قال على رءوس الأشهاد: «أنا نقطة باء بسم اللّه، أنا جنب اللّه الذي فرطتم فيه، أنا القلم، أنا اللّوح المحفوظ، و أنا العرش، و أنا الكرسيّ، و أنا السماوات السبع و الأرضون»(4).

ثمّ ثنّى سبحانه القسم مبالغة في التأكيد بقوله: وَ مٰا يَسْطُرُونَ و يكتبون أهل القلم من الملائكة السماوية و الأرضية في كلّ كتاب و لوح، أو القلم الخاص في اللّوح المحفوظ، و إتيان صيغة الجمع للتعظيم.

مٰا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

مٰا أَنْتَ يا حبيبي محمد بِنِعْمَةِ رَبِّكَ و بسبب عقلك الكامل و رسالتك العامة التي أعطاكها إلهك اللطيف بك، أو بدلالة عقلك الكامل و سيرتك المرضية

ص: 306


1- . معاني الأخبار: 1/23، تفسير الصافي 207:5.
2- . علل الشرائع: 2/402، تفسير الصافي 207:5.
3- . تفسير الرازي 78:30.
4- . تفسير روح البيان 103:10.

و براءتك من كلّ عيب و اتّصافك بكلّ مكرمة بِمَجْنُونٍ لوضوح منافاة هذه الصفات الكمالية لهذه النسبة الشنيعة.

عن ابن عباس رضوان اللّه عليه: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله غاب عن خديجة إلى حراء، فطلبته فلم تجده، فاذا به و وجهه متغيّر بلا غبار، فقالت له: ما لك؟ فذكر نزول جبرئيل عليه، و أنّه قال له: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (1) و هو أوّل ما نزل من القرآن. قال: «ثمّ نزل بي إلى قرار الأرض، فتوضّأ و توضّأت، ثمّ صلّى و صلّيت معه ركعتين، و قال: هكذا الصلاة يا محمد» فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل، و هو ابن عمّها، و كان قد خالف قريش في الدين، و دخل في دين النصرانية، فسألته فقال: ارسلي إليّ محمدا فأرسلته، فلمّا أتاه قال: هل أمرك جبرئيل أن تدعو أحدا؟ قال: «لا» فقال: و اللّه لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنّك نصرا عزيزا. ثمّ مات قبل دعاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و وقعت تلك الواقعة في ألسنة قريش، فقالوا: إنّه مجنون، فاقسم اللّه على أنّه ليس بمجنون، و هو خمس آيات من أول هذه السورة(2).

وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ثمّ سلّى سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ إِنَّ لَكَ يا محمد بإزاء صبرك على أذى قومك و تحمّلك أعباء الرسالة لَأَجْراً عظيما و ثوابا جسيما غَيْرَ مَمْنُونٍ و منقوص، و عطاء غير مجذوذ و مقطوع. و قيل: يعني بغير واسطة يمنّ عليك بإيصاله إليك، أو بغير أن يتكدّر عليك بسبب المنّة لأنّه ممّا تستحقّه بعملك، و ليس من التفضّل الابتدائي(3).

في بيان خلق

الرسول صلّى اللّه عليه و آله

وَ إِنَّكَ بنعمة ربّك و تفضّله عليك لَعَلىٰ خُلُقٍ و دين عَظِيمٍ الشأن عند اللّه، و هو الاسلام. عن الباقر عليه السّلام: «يقول: على دين عظيم» و في رواية: «هو الاسلام»(4) فانّ فيه جميع مكارم الأخلاق، و التنزّه عن كلّ مساوئها بحيث لا يدانيه دين و أنت ملتزم به مسئول عليه، لا يفوتك شيء منه، و لذا فقت سائر الأنبياء و الرسل في الكمال و المعارف و حسن الأخلاق و الأعمال.

روي أنّه قيل لعائشة: أخبريني عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قالت: أ لست تقرأ القرآن؟ قلت: نعم.

قالت: فإنّه كان خلق رسول اللّه. و سئلت مرّة اخرى فقالت: كان خلقه القرآن. ثمّ قرأت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى عشر آيات(5).

ص: 307


1- . العلق: 1/96.
2- . تفسير الرازي 79:30.
3- . تفسير روح البيان 105:10.
4- . معاني الأخبار: 1/188، تفسير الصافي 208:5.
5- . تفسير الرازي 81:30، و الآية من سورة المؤمنون: 1/23.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عز و جلّ أدّب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فأحسن تأديبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (1).

عن (البصائر) مقطوعا: «أنّ اللّه أدّب نبيّه فأحسن تأديبه، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجٰاهِلِينَ (2) فلمّا كان ذلك، أنزل اللّه تعالى: إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» (3).

و عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ما دعاه أحد من أصحابه و لا من أهل بيته إلاّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «لبيك»(4).

و عن أنس قال: خدمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشر سنين، فما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت، و لا في شيء لم أفعله: هلاّ فعلت(5)!

و قيل: إنّه لم ينحرف عن بلاء، و لم ينصرف عن عطاء(6).

و قيل: كيف لا يكون خلقه عظيما و قد تجلّى اللّه فيه بأنوار أخلاقه(7).

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلاٰ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (4) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) ثمّ لمّا وعد سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الأجر، و مدحه بأكرم الأخلاق، ذمّ معانديه و مكذّبيه بقوله:

فَسَتُبْصِرُ يا محمد، و عن قريب ترى وَ المشركون يُبْصِرُونَ في الدنيا كما قيل، أو في الآخرة(8) حين نزول العذاب عليهم

بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ و ابتلاء بالجنون، أبك و بفرق المؤمنين، أم بفرق الكافرين و المكذّبين؟ فانّ المجنون هو الذي هام في تيه الضّلال، و ابتلى نفسه بالعذاب و النّكال، و من الواضح

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ من كلّ أحد بِمَنْ ضَلَّ و انحرف عَنْ سَبِيلِهِ المؤدّي إلى سعادة الدارين وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى سبيله الناجين من كلّ هلكة و عذاب، الفائزين بكلّ خير و صواب.

فاذا تبيّن أنّ أعداءك في ضلال

فَلاٰ تُطِعِ يا محمد، و لا تجب اَلْمُكَذِّبِينَ في سؤالهم منك الإعراض عن الدين الحقّ، و الدخول في دين آبائك المشركين باعتقادهم و زعمهم، و دم على ما أنت عليه من التوحيد و عبادة اللّه، و تشدّد عليهم مع قلّة أنصارك و أصحابك، و إن عارضوك بأجمعهم مع

ص: 308


1- . الكافي 4/208:1، تفسير الصافي 208:5.
2- . الأعراف: 199/7.
3- . بصائر الدرجات: 3/398، تفسير الصافي 208:5. (4و5) . تفسير الرازي 81:30. (6و7) . تفسير روح البيان 107:10.
4- . تفسير الرازي 82:30.

كثرتهم أشدّ المعارضة، فإنّا ناصروك و خاذلوا أعدائك قيل: إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل(1).

إنّهم

وَدُّوا و أحبّوا لَوْ تُدْهِنُ هؤلاء الكفرة و تلين معهم، و تصانعهم(2) بأن تترك بعض ما أنت عليه من سبّ آلهتهم و النهي عن عبادتها فَيُدْهِنُونَ و يصانعوك(3) بأن لا يذمّون دينك و يلاينون في مكالمتك.

وَ لاٰ تُطِعْ كُلَّ حَلاّٰفٍ مَهِينٍ (4) هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ (5) مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كٰانَ ذٰا مٰالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا قٰالَ أَسٰاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) ثمّ إنّه تعالى بعد نهي نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن موافقة آراء رؤساء المشركين، نهاه عن اتّباع رأي بعضهم المذموم بأقبح الذمائم بقوله:

وَ لاٰ تُطِعْ و لا تتّبع كُلَّ حَلاّٰفٍ و كثير اليمين في الحقّ و الباطل و في الكذب مَهِينٍ و حقير بين الناس لكثرة كذبه و حلقه عليه، فانّ من حقر اللّه بعصيانه و كثرة الحلف به، حقّره اللّه في الدنيا و الآخرة

هَمّٰازٍ و عيّاب للناس، طعّان عليهم، أو كثير الذكر لهم بما يكرهونه مَشّٰاءٍ بينهم بِنَمِيمٍ و كثير السعي في السّعاية، نقّال للحديث من أحد إلى أحد للافساد بينهما، و في الحديث: «لا يدخل الجنّة نمّام»(6).

مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ و بخيل لا مال، أو كثير المنع للناس من الإيمان و طاعة اللّه و الإنفاق مُعْتَدٍ و ظالم للناس، أو متجاوز عن الحدّ في سوء الأعمال و الأخلاق أَثِيمٍ و كثير الإقدام في العصيان

عُتُلٍّ و غليظ القلب و الطبع و عن ابن عباس رضوان اللّه عليه: قويّ ضخيم(5).

و قيل: واسع البطن(6) وثيق الخلق(7) و قيل: الفاحش الخلق اللئيم النفس(8). و قيل: الأكول [أو] الحافي الغليظ(9).

بَعْدَ ذٰلِكَ المذكور من القبائح زَنِيمٍ و ملحق بقوم في النسب و ليس منهم، و هو أقبح القبائح في العرب. و قيل: هو المعروف بالشرّ كما يعرف الشاة بالزّنمة، و هي ما يقطع من اذنها فيدلّى(10) منها.

و قيل: إنّه ولد الزنا(11).

ص: 309


1- . تفسير الرازي 83:30.
2- . في النسخة: و تصابقهم.
3- . في النسخة: و يصابقونك.
4- . تفسير الرازي 84:30 و 85.
5- . تفسير الرازي 85:30، تفسير روح البيان 112:10.
6- . تفسير روح البيان 111:10. (5و6) . تفسير الرازي 84:30، و فيه: قويّ ضخم.
7- . تفسير الرازي 84:30، و في النسخة: و بنو الحلقوم. (8و9) . تفسير الرازي 84:30.

قيل: لم يعلم أنّ اللّه وصف أحدا و لا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر للوليد بن المغيرة من العيوب، و كان الوليد دعيّا في قريش و ليس من نسبهم(1). قيل: ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده(2).

قيل: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة، فلمّا تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآيات في مجمع قريش و فيهم الوليد، وجد الوليد جميع العيوب في نفسه إلاّ الولادة من زنا، و قال في نفسه: أنا سيد قريش، و أبي كان معروفا، و أعلم أن محمدا لا يكذب فأخذ بسيفه و جاء إلى امّه، و قال لها: ما قصّة ولادتي؟ فلمّا أبلغ في تهديدها قالت: كان أبوك غير راغب في النساء، و كان له بنو أخيه ينتظرون موته، و يطمعون في ميراثه، فثقل عليّ ذلك، فاستأجرت عبدا فراودته عن نفسي، فاحتبلت منه فولدتك(3).

و عن علي عليه السّلام: «الزنيم: هو الذي لا أصل له»(4). و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ فقال: «العتلّ عظيم الكفر، و الزنيم: المستهتر بكفره»(5).

و عن (المجمع) أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله سئل عن العتلّ الزّنيم فقال: «هو الشديد الخلق، الشحيح(6) ، الأكول الشروب، الواجد للطعام و الشراب، الظلوم للناس، الرّحب الحلقوم»(7).

و عنه عليه السّلام قال: «لا يدخل الجنّة جوّاظ و لا جعظري و لا عتلّ زنيم» قيل: فما الجوّاظ؟ قال: «كلّ جمّاع منّاع» قيل: فما الجعظري؟ قال: «الفظّ الغليظ» قيل: فما العتلّ الزّنيم؟ قال: «رحب الجوف، سيئ الخلق، أكول شروب، غشوم ظلوم»(8).

و عن القمي، قال: الحلاّف: الثاني، حلف لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن لا ينكث عهده هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ قال: كان ينمّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يهمز بين أصحابه مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ قال: الخير أمير المؤمنين عليه السّلام مُعْتَدٍ قال: اعتدى عليه عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ قال: العتلّ: العظيم الكفر، و الزنيم: الدّعيّ(9).

قيل: كان للوليد عشرة بنين و أموال كثيرة، كان له بستان بالطائف، و تسعة آلاف مثقال من فضّة(10) ، فلامه سبحانه بقوله تبارك و تعالى:

أَنْ كٰانَ ذٰا مٰالٍ وَ بَنِينَ قيل: إنّ التقدير كفر باللّه لأجل أن كان ذا مال و بنين(11) ، مع أنّ حقّه الشّكر و ليس الكفر و العصيان جزاء نعمه و قيل: إنّ المعنى لا تطع من كان له هذه المطاعن و المثالب، لأجل أن كان ذا مال و بنين(12) ، و من كفره أنه

إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا القرآنية

ص: 310


1- . تفسير الرازي 85:30، تفسير روح البيان 112:10.
2- . تفسير الرازي 85:30، تفسير روح البيان 112:10.
3- . تفسير روح البيان 112:10.
4- . مجمع البيان 502:10، تفسير الصافي 210:5.
5- . معاني الأخبار: 1/149، تفسير الصافي 209:5.
6- . في النسخة: المفتحج، و في تفسير الصافي: المصحاح.
7- . مجمع البيان 502:10، تفسير الصافي 209:5، و في المصدر: الرحيب الجوف، و في الصافي: الجوف.
8- . مجمع البيان 502:10، تفسير الصافي 210:5.
9- . تفسير القمي 380:2، تفسير الصافي 210:5.
10- . تفسير روح البيان 111:10. (11و12) . تفسير الرازي 85:30.

قٰالَ تكذيبا لها: هذا المتلوّ علينا أَسٰاطِيرُ الْأَوَّلِينَ و قصص ملفّقة من السابقين كقصة رستم و إسفنديار.

ثمّ هدّده سبحانه بقوله:

سَنَسِمُهُ و عن قريب نعلّمه بعلامة قبيحة عَلَى أنفه الذي هو مثل اَلْخُرْطُومِ للفيل و الخنزير. عن ابن عباس، قال: سنخطمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش(1) ، روي أنّه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال(2). و قيل: إنّه لم يعش إلى يوم بدر(3) ، و المراد سنشهره بالذكر الرديء و الوصف القبيح في العالم، كما يقال لمن تسبّه مسبّة قبيحة باقية:

سنسمه ميسم سوء، و المراد أنّه الحق به عارا لا يفارقه(4).

و قيل: يعني سنعلّمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يعلم بها من سائر الكفرة بأن تسوّد وجهه غاية التسويد، إذ كان في عداوة الرسول بالغا أقصى المراتب، فيكون الخرطوم كناية عن وجهه على طريق ذكر الجزء و إرادة الكلّ(5).

إِنّٰا بَلَوْنٰاهُمْ كَمٰا بَلَوْنٰا أَصْحٰابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهٰا مُصْبِحِينَ (17) وَ لاٰ يَسْتَثْنُونَ (18) فَطٰافَ عَلَيْهٰا طٰائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نٰائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنٰادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخٰافَتُونَ (23) أَنْ لاٰ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلىٰ حَرْدٍ قٰادِرِينَ (25) فَلَمّٰا رَأَوْهٰا قٰالُوا إِنّٰا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قٰالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لاٰ تُسَبِّحُونَ (28) ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الغرور بالمال و الأولاد صار سبب طغيان هذا الظالم الكافر، بيّن أنّه تعالى أنعم بهذه النّعم عليه لابتلائه و اختباره، أنّه يشكر أم يكفر، بقوله:

إِنّٰا بَلَوْنٰاهُمْ و اختبرناهم بإعطائهم المال و البنين كَمٰا بَلَوْنٰا و اختبرنا أَصْحٰابَ الْجَنَّةِ و قيل: إنّ المعنى إنّا كلّفناهم بالشّكر على نعمنا كما كلّفنا أصحاب الجنّة التي كانت ذات ثمار أن يشكروا و يعطوا الفقراء حقوقهم(6) فكفروا.

في قضية أصحاب

الجنّة

روي أنّ رجلا من ثقيف كان مسلما، و كان له ضيعة بقرب صنعاء على فرسخين(7) منها - و قيل: على فراسخ (8)- فيها نخل و زرع، و كان يجعل عند الحصاد من كلّ ما فيها نصيبا وافرا

ص: 311


1- . تفسير الرازي 86:30.
2- . تفسير الرازي 86:30.
3- . تفسير روح البيان 113:10.
4- . تفسير الرازي 87:30.
5- . تفسير روح البيان 114:10.
6- . تفسير الرازي 87:30.
7- . تفسير أبي السعود 14:9، تفسير روح البيان 114:10.
8- . تفسير روح البيان 114:10.

للفقراء، فلمّا مات ورثها بنوه، ثمّ قالوا: عيالنا كثير و المال قليل، و لا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان أبونا يعطي(1).

و قيل: كانت الضيعة باليمن، و كان أصحاب الجنّة بخلاء، و كان أبوهم يأخذ منها قوت سنة و يتصدّق بالباقي، و كان ينادي الفقراء وقت الصّرام، و يترك لهم ما أخطأه المنجل، و ما في أسفل الأكداس، و ما أخطأه القطاف من العنب، و ما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخل إذا اصرمت، و كان ذلك بعد رفع عيسى عليه السّلام بقليل، و كان يبقى لهم مع ذلك شيء كثير، و يتزوّدون به أياما كثيرة، فلمّا مات أبوهم قال بنوه: إن فعلنا ما كان أبونا يفعل ضاق الأمر علينا و نحن اولو عيال(2).

و على كلّ تقدير كان وقت ابتلائهم إِذْ أَقْسَمُوا و حين حلفوا لَيَصْرِمُنَّهٰا و يقطعن ثمر نخلهم و أعنابهم و زروعهم وقت كونهم مُصْبِحِينَ و دخولهم في الصباح و ظلمة الليل باقية و قبل اطّلاع الفقراء على جمعهم الثمار

وَ لاٰ يَسْتَثْنُونَ و لا يقولون إن شاء اللّه على دأب أهل الايمان

فَطٰافَ على الجنّة و نزل عَلَيْهٰا في الليل طٰائِفٌ و بلاء محيط بثمارها مِنْ جانب رَبِّكَ بحيث لم يبق من الثمار شيء وَ هُمْ في بيوتهم نٰائِمُونَ و غافلون عمّا نزل بهم و بثمارهم

فَأَصْبَحَتْ الجنّة و صارت بنزول البلاء و النار فيها كَالصَّرِيمِ و مثل الجنة التي قطعت و اقتطفت ثمارها بالكلّ. و قيل: يعني صارت سوداء كالليل لاحتراقها بالنار(3).

فَتَنٰادَوْا و صاح بعضهم ببعض لمّا قاموا من النوم و صاروا مُصْبِحِينَ و داخلين في الصباح على حسب تواعدهم و قالوا:

أَنِ اغْدُوا يا إخواننا و اخرجوا في أول الصبح و أقبلوا عَلىٰ حَرْثِكُمْ و اقتطاف ثمار ضيعتكم و جنّتكم إِنْ كُنْتُمْ صٰارِمِينَ و عازمين على قطعها و جمعها

فَانْطَلَقُوا و ذهبوا إلى حرثهم وَ هُمْ يَتَخٰافَتُونَ و يقولون بطريق السرّ لئلاّ يسمع المساكين قولهم

أَنْ لاٰ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ الذي هو يوم جمع الثمار عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ واحد فضلا عن الكثير

وَ غَدَوْا و مشوا بكرة عَلىٰ حال حَرْدٍ و منع شديد عن الفقراء ثمار جنّتهم حال كونهم قٰادِرِينَ على نفعهم بزعمهم، أو على اجتناء ثمار الجنّة بحسبانهم.

فَلَمّٰا دخلوا الجنة و رَأَوْهٰا محترقة مسودّة لا ثمار فيها أقبل بعضهم على بعض قٰالُوا إِنّٰا لَضَالُّونَ و منحرفون عن طريق جنّتنا و دخلنا غيرها فلما تأملوها و وقفوا على خصوصيات الجنة و علائمها قالوا ما نحن بضالين

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ عن نفعها ممنوعون عن ثمارها ببخلنا و سوء

ص: 312


1- . تفسير الرازي 87:30.
2- . تفسير روح البيان 114:10.
3- . تفسير الرازي 88:30.

قصدنا و إرادة حرمان المساكين من خير جنّتنا، فعجّل اللّه في حرماننا من ثمارنا

قٰالَ أحدهم الذي هو أَوْسَطُهُمْ و أصوبهم رأيا، و أفضلهم عقلا، و أكملهم دينا، و أوسطهم سنا، و أكملهم عقلا بطريق التوبيخ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ يا إخواني حين عزمتم على منع المساكين: لَوْ لاٰ تُسَبِّحُونَ اللّه، و هلاّ تنزّهونه عن الخلف في وعده بأنّه يرزق عباده، و عن الكذب في إخباره بالرزق بيده يبسط لمن يشاء و يقدر، و ليس الرزق بتدبير الخلق؟

قٰالُوا سُبْحٰانَ رَبِّنٰا إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَلاٰوَمُونَ (30) قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا إِنّٰا كُنّٰا طٰاغِينَ (31) عَسىٰ رَبُّنٰا أَنْ يُبْدِلَنٰا خَيْراً مِنْهٰا إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا رٰاغِبُونَ (32) فلمّا قال الأوسط ذلك تنبّه إخوانه و اعترفوا بذنبهم و

قٰالُوا سُبْحٰانَ رَبِّنٰا و تنزّه خالقنا عن كلّ سوء و نقص و كذب و خلف، سيما عن الظّلم علينا بإحراق جنّتنا، بل إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ على أنفسنا بسوء قصدنا و إرادة منع حقوق المساكين و حرمانهم بخلا و شحّا، إذن نتوب إلى اللّه و نستغفره من سوء قصدنا و صنيعنا

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ و هم يَتَلاٰوَمُونَ و يوبّخون كلّ منهم الآخرين على ما فعلوا، و

قٰالُوا اعترافا بذنبهم و تندّما و تحسّرا: يٰا وَيْلَنٰا و يا أسفنا إِنّٰا كُنّٰا قبل اليوم طٰاغِينَ على اللّه و متجاوزين عن الحدّ الذي حدّه ربّنا بمنع المساكين عن حقوقهم في أموالنا، ثمّ إنّهم بعد التّوبة و الإقبال على اللّه أظهروا الرجاء برحمته بقولهم:

عَسىٰ رَبُّنٰا و يرجى منه أَنْ يُبْدِلَنٰا و يعوّضنا عن الجنة المحترقة خَيْراً و أنفع مِنْهٰا ببركة إقبالنا إليه و توبتنا من ذنبنا إِنّٰا متوجّهون إِلىٰ رَبِّنٰا بقلوبنا رٰاغِبُونَ و طالبون عفوه و خيره.

روي أنّهم تعاقدوا و قالوا: إن أبدلنا اللّه خيرا منها، لنصنعنّ كما صنع أبونا، فدعوا اللّه و تضرّعوا إليه، فأبدلهم اللّه من لينتهم ما هو خير منها(1).

قيل: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى جبرئيل أن يقلع تلك الجنّة المحترقة فيضعها في براري الشام، و يأخذ من الشام جنّة فيجعلها مكانها(2).

عن ابن مسعود: أنّ القوم لمّا أخلصوا و عرف اللّه منهم الصدق، أبدلهم جنّة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل عنقودا(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ الرجل ليذنب الذنب فيدرأ عنه الرزق، و تلا هذه الآية: إِذْ أَقْسَمُوا

ص: 313


1- . تفسير روح البيان 117:10.
2- . تفسير روح البيان 117:10.
3- . تفسير روح البيان 117:10.

لَيَصْرِمُنَّهٰا إلى قوله وَ هُمْ نٰائِمُونَ (1)

و عن القمي، عن ابن عباس، أنّه قيل له: إنّ قوما من هذه الامّة يزعمون أنّ العبد قد يذنب الذنب فيحرم به الرزق. فقال ابن عباس: فو اللّه الذي لا إله إلاّ هو، لهذا أنور في كتاب اللّه من الشمس الضاحية، ذكر اللّه في سورة ن وَ الْقَلَمِ أنّ شيخا كانت له جنّة، و كان لا يدخل بيته ثمرة و لا إلى منزلة حتّى يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، فلمّا قبض الشيخ ورثه بنوه، و كان له خمس من البنين، فحملت جنّته في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم تكن حملت قبل ذلك، فراحوا الفتية إلى جنّتهم بعد صلاة العصر، فأشرفوا على ثمرة و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم، فلمّا نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا، و قال بعضهم لبعض: إنّ أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله و خرف، فهلمّوا فلنتعاقد عهدا فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا حتى نستغني و تكثر أموالنا، ثمّ نستأنف الضيعة فيما نستقبل من السنين المقبلة، فرضي بذلك أربعة و سخط الخامس، و هو الذي قال اللّه تعالى: قٰالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لاٰ تُسَبِّحُونَ.

فقيل: يا ابن عباس، كان أوسطهم في السنّ! فقال: لا، بل كان أصغرهم سنا و أكبرهم عقلا، و أوسط القوم خير القوم، قال اللّه تعالى: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (2).

فقال لهم أوسطهم، اتّقوا اللّه، و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا، فبطشوا به و ضربوه ضربا مبرّحا، فلمّا أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع، فراحوا إلى منازلهم. ثمّ حلفوا باللّه: أن يصرموها إذا أصبحوا، و لم يقولوا إن شاء اللّه، فابتلاهم اللّه بذلك الذنب، و حال بينهم و بين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه، فأخبر عنهم في الكتاب و قال: إِنّٰا بَلَوْنٰاهُمْ كَمٰا بَلَوْنٰا أَصْحٰابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهٰا مُصْبِحِينَ * وَ لاٰ يَسْتَثْنُونَ * فَطٰافَ عَلَيْهٰا طٰائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نٰائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قال: كالمحترق.

فقيل لابن عباس: ما الصريم؟ قال: الليل المظلم، ثمّ قال: لا ضوء به و لا نور.

فلمّا أصبح القوم تنادوا مصبحين أَنِ اغْدُوا عَلىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰارِمِينَ قال: فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخٰافَتُونَ.

قيل: و ما التخافت يا ابن عباس؟ قال: يتسارّون، يسارّ بعضهم بعضا لئلاّ يسمع أحد غيرهم فقالوا:

لاٰ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَ غَدَوْا عَلىٰ حَرْدٍ قٰادِرِينَ و في أنفسهم أن يصرموها، و لا يعلمون ما حلّ بهم من سطوات اللّه و نقمته فَلَمّٰا رَأَوْهٰا و عاينوا ما حلّ بهم قٰالُوا إِنّٰا لَضَالُّونَ

ص: 314


1- . الكافي 12/208:2، تفسير الصافي 212:5.
2- . البقرة: 143/2.

* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمهم اللّه ذل الرزق بذنب كان منهم و لم يظلمهم شيئا(1).

كَذٰلِكَ الْعَذٰابُ وَ لَعَذٰابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّٰاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ثمّ بالغ سبحانه في تهويل الكفّار بقوله:

كَذٰلِكَ الْعَذٰابُ الذي نزل على أصحاب الجنّة العذاب الدنيوي الذي ينزل على كلّ من عصى ربّه بحبس حقوق الفقراء و غيره، كحبس المطر، و إنزال الآفات على الزروع، و رفع البركة عنها، و إشاعة الأمراض، و سلب الأمنية و غيرها وَ و اللّه لَعَذٰابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ و أعظم و أشدّ من عذاب الدنيا لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ عظمه لاحترزوا عن العصيان الموجب له.

ثمّ لمّا وعد سبحانه الكفّار عذاب الآخرة، وعد المؤمنين المتّقين نعمها بقوله:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ في الآخرة مذخور عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف بهم جَنّٰاتِ عديدة ذوات اَلنَّعِيمِ الخالصة عن شوب ما ينقصها.

ثمّ قيل: لمّا نزلت الآية قال الكفّار للمسلمين: إنّ اللّه فضّلنا عليكم في الدنيا بالنّعم الدنيوية، فلا بدّ أن يفضّلنا عليكم في الآخرة، فان لم يكن التفضيل فلا بدّ من التساوي، فنزل ردّا عليهم(2):

أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ في الآخرة كَالْمُجْرِمِينَ و الكفّار العصاة، و مساوين لهم في الإنعام و الإكرام؟! حاشا و كلاّ.

مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتٰابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمٰا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمٰانٌ عَلَيْنٰا بٰالِغَةٌ إِلىٰ يَوْمِ الْقِيٰامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمٰا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكٰاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكٰائِهِمْ إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ (41) ثمّ بالغ سبحانه في تشديد الإنكار عليهم بتلوين الخطاب بقوله:

مٰا لَكُمْ أيّها الحمقاء كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم المستحيل وقوعه، المستعجب صدوره من عاقل؟! لاستلزامه الظّلم على المسلمين من اللّه الحكيم الغني على الاطلاق

أَمْ لَكُمْ أيّها الكفرة كِتٰابٌ نازل عليكم من السماء من جانب اللّه أنتم فِيهِ تَدْرُسُونَ و تقرءون مرارا، و تتأمّلون عباراته دائما؟! فتبيّن لكم ممّا فيه

إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمٰا تَخَيَّرُونَ و تريدون لأنفسكم من المشتهيات

أَمْ لَكُمْ مع سخطنا عليكم

ص: 315


1- . تفسير القمي 381:2، تفسير الصافي 212:5.
2- . تفسير أبي السعود 17:9، تفسير روح البيان 119:10.

أَيْمٰانٌ و عهود مؤكّدة ثابتة عَلَيْنٰا و في عهدتنا بٰالِغَةٌ و منتهية في الصحّة و التأكد و اللّزوم إِلىٰ يَوْمِ الْقِيٰامَةِ لا يجوز لنا حنثها و نقضها، و لا يخرج عن عهدتها؟! و هي إِنَّ لَكُمْ يوم القيامة لَمٰا تَحْكُمُونَ لأنفسكم و تطلبون منّا، فيكون علينا بهذه العهود أن نحكمكم في ذلك اليوم، و نوافقكم فيما تأمرون، و نعطيكم ما تتوقّعون.

ثمّ لوّن سبحانه الخطاب عنهم إلى رسوله بقوله:

سَلْهُمْ يا حبيبي مشافهة أَيُّهُمْ و من يكون منهم بِذٰلِكَ الحكم المخالف للعقول زَعِيمٌ و ضامن لاثباته بالحجّة و البرهان؟

أَمْ لَهُمْ في ذلك الادّعاء شُرَكٰاءُ يشاركونهم في الدعوى، و يساعدونهم في هذا القول؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكٰائِهِمْ عندك و ليحضروهم في محضرك حتى يقولوا بقولهم و يصدّقوهم في دعواهم إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ في دعوى أنّ لهم شركاء. قيل: إنّ المراد من شركائهم أصنامهم(1) ، و المعني ألهم أصنام يجعلونهم مثل المسلمين في النجاة من العذاب و الدّخول في الجنّة؟!

حاصل مفاد الآيات - و اللّه أعلم - أنّه ليس لهم دليل عقلي على التسوية بين المطيع و العاصي و المحسن و المسيء، و لا دليل نقلي من كتاب سماوي يقرءونه، و لا عهد مؤكّد بالأيمان، و لا من يوافقهم من العقلاء حتّى يقلّدوهم، مع حكم العقل السليم على خلافه، فظهر أنّ بطلان دعواهم أظهر من الشمس في رائعة(2) النهار.

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ (42) خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كٰانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سٰالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) ثمّ بيّن سبحانه سوء حالهم يوم القيامة بقوله:

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ قيل: إنّ المعنى ذكرهم يا محمد يوم الشدّة و صعوبة الخطب على الكفّار و المنافقين، فانّ كشف الساق كناية عن الوقوع في الشدّة، كما أنّ من وقع بين الخصوم الأقوياء و انغمر رجلاه في الوحل، يشمّر ذيله و يرفع ثيابه عن ساقه، كما عن ابن عباس(3).

و قيل: إنّ المراد من الساق أصل الامور، يعني يكشف عن حقائق الامور و واقعياتها و خفيّاتها(4).

ص: 316


1- . تفسير البيضاوي 517:2.
2- . في النسخة: رابعة.
3- . مجمع البيان 509:1
4- . تفسير الرازي 95:30.

و قيل: يعني يكشف عن ساق العرش، أو عن ساق جهنّم، أو عن ساق ملك عظيم مهيب(1).

و على أيّ تقدير ذلك اليوم يوم القيامة، فانّهم في ذلك اليوم يؤمرون وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ للّه تعنيفا على تركهم إياه في الدنيا تكبّرا و تعظّما و تحسّرا على تفريطهم فيه فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ السجود لسلب القدرة عنهم.

عن ابن مسعود: تعقم أصلابهم، أي تصير عظاما لا فواصل لها، فلا تثنى للرفع و الخفض، فيبقون قياما على حالهم حتّى تزداد حسرتهم على التفريط فيه(2).

و في الحديث: «و تبقى أصلابهم طبقا واحدا (3)- أي فقارة واحدة - كأنّ سفافيد الحديد في ظهورهم»(4).

عن الرضا عليه السّلام قال: «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا، و تدمج(5) أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود(6) حال كونهم

خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ متواضعة جوارحهم تَرْهَقُهُمْ و تغشاهم ذِلَّةٌ شديدة و خزي فاحش جزاء لاستكبارهم في الدنيا عن السجود للّه وَ الحال أنّهم قَدْ كٰانُوا في الدنيا يُدْعَوْنَ من قبل اللّه بلسان الرسل إِلَى السُّجُودِ للّه و يؤمرون به وَ هُمْ سٰالِمُونَ أصحّاء مستطيعون له بأتمّ الاستطاعة، فاذا كان حالهم في الآخرة كذلك

فَذَرْنِي يا نبيّ الرحمة و دعني وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهٰذَا القرآن الذي هو أحسن اَلْحَدِيثِ و أعظم المعاجز الذي يصدّقه كلّ عاقل منصف و يستدلّ به على صدق دعواك الرسالة، فانّي أكفيكهم، و اعلم أنّا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ و ننزلهم في العذاب شيئا فشيئا مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ و من الجهة التي لا يشعرون أنّه بلاء و عذاب.

قيل: إنّ المراد بالاستدراج توفير النّعم. حتّى ينسوا الاستغفار، و المعنى كما قيل: كلّما جدّدوا ذنبا جددنا لهم نعمة(7) ، و أغفلناهم عن التوجه إلينا، ثمّ نأخذهم بغتة.

و في الحديث: «إذا رأيت اللّه ينعم على عبد و هو مقيم على المعصية، فاعلم أنه مستدرج، و تلا هذه الآية(8).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من وسع عليه دنياه، و هو لا يعلم أنّه قد مكر به، فانّه مخدوع عن

ص: 317


1- . تفسير الرازي 95:30.
2- . تفسير روح البيان 121:10.
3- . في تفسير روح البيان: طبعا واحدا.
4- . تفسير روح البيان 121:10.
5- . في النسخة: و تديح، و في تفسير الصافي: و يدبّخ.
6- . التوحيد: 1/154، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 14/121:1.
7- . تفسير الرازي 96:30.
8- . تفسير روح البيان 124:10.

عقله»(1).

وَ أُمْلِي لَهُمْ و أمهلهم في الدنيا بإطالة أعمارهم و تأخير آجالهم، ليزدادوا إثما، و يكون لهم أشدّ العذاب في الآخرة، و اعلم إِنَّ كَيْدِي و تدبيري الخفيّ عنهم في إهلاكهم و ازدياد عذابهم مَتِينٌ و مستحكم لقوة أثره في إهلاكهم الدنيوي و الاخروي. و قيل: إنّ المعنى أنّ أخذي إياهم بالعذاب قويّ شديد لا يدفع بشيء(2).

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاٰ تَكُنْ كَصٰاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نٰادىٰ وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لاٰ أَنْ تَدٰارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرٰاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبٰاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصّٰالِحِينَ (50) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفار، و تهديدهم بأهوال القيامة، و تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله بأنّه تعالى كافيهم، و أنّه معذّبهم على تكذيبهم، عاد إلى تقريعهم و تبكيتهم في عدم إيمانهم بالرسول بقوله:

أَمْ تَسْئَلُهُمْ و تطلب منهم على تبليغاتك عن اللّه أَجْراً و جعلا ماليا فَهُمْ لا يؤمنون بك مِنْ جهة مَغْرَمٍ و ضرر مالي متوجّه إليهم لأجل الايمان بك مُثْقَلُونَ و متحمّلون حملا ثقيلا فيعرضون عنك؟ و إلاّ فليس لهم عذر في الفرار منك و عدم التسليم لرسالتك

أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ و اللوح المحفوظ الذي لا يعلمه أحد مكتوب فيه أنّهم آمنون يوم القيامة من العذاب فائزون بأعلى الثواب كالمسلمين فَهُمْ يَكْتُبُونَ و يستنسخون منه و يعتمدون عليه. و قيل: يعني أم يدّعون أنّ المغيبات حاضرة في عقولهم، و لذا يكتبون على اللّه ما شاءوا و أرادوا(3).

ثمّ إنّه تعالى بعد إبطال قول الكفّار و زجرهم عمّا يقولون، أمر رسوله بالصبر على أقوالهم الشنيعة و أعمالهم السيئة بقوله:

فَاصْبِرْ يا محمد لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم و تأخير نصرتك عليهم، و تبليغك الرسالة، و تحمّلك الأذى من قومك، وَ لاٰ تَكُنْ ضيق الصدر، قليل التحمّل كَصٰاحِبِ الْحُوتِ و هو يونس النبيّ إِذْ نٰادىٰ ربّه في بطن الحوت بقوله: لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين وَ هُوَ مَكْظُومٌ و مملوء غيظا على قومه أو مغموم كما عن الباقر عليه السّلام(4) ، و لا تضجر من أذى قومك كما انضجر هو فتبتلى كما ابتلى

لَوْ لاٰ أَنْ تَدٰارَكَهُ و وصل إليه نِعْمَةٌ و رحمة عظيمة

ص: 318


1- . تفسير روح البيان 124:10.
2- . تفسير روح البيان 125:10.
3- . تفسير الرازي 98:30.
4- . تفسير القمي 383:2، تفسير الصافي 215:5.

مِنْ رَبِّهِ و هي توفيقه للتوبة و قبولها منه لَنُبِذَ و طرح في القيامة بِالْعَرٰاءِ و الأرض التي لا سقف لها و لا ظلّ وَ هُوَ مَذْمُومٌ و ملوم عند اللّه و عند الناس على فعله و هجرته من بين قومه و قلّة تحمّله لأذاهم.

و اعلم أنّ هذا التفسير بالنظر إلى قوله تعالى: فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (1).

و قيل: إنّ المعنى لنبذ من بطن الحوت في هذه الدنيا بالعراء، في حال كونه مذموما، و لكن لمّا تاب نبذ و طرح من بطن الحوت بالعراء ممدوحا غير مذموم(2).

فَاجْتَبٰاهُ و اصطفاه رَبُّهُ بعد الخروج من بطن الحوت للرسالة إلى قومه، كما كان كذلك قبل دخوله في بطنه.

عن ابن عباس: ردّ اللّه عليه الوحي و شفّعه في قومه (3)فَجَعَلَهُ برحمة مِنَ الأنبياء اَلصّٰالِحِينَ و المعصومين من ارتكاب خلاف الأولى.

روى بعض العامة: أنّها نزلت في احد حين همّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو على المنهزمين(4). و قيل:

حين أراد أن يدعو على ثقيف(5).

وَ إِنْ يَكٰادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصٰارِهِمْ لَمّٰا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ مٰا هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ (52) ثمّ إنّه تعالى بعد ما أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصبر على أذى قومه، بيّن شدّة عداوتهم و غضبهم على الرسول حين تلاوته القرآن العظيم بقوله:

وَ إِنْ يَكٰادُ و قد يقرب اَلَّذِينَ عاندوك كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ و يصرعونك بِأَبْصٰارِهِمْ غضبا عليك لَمّٰا سَمِعُوا منك اَلذِّكْرَ و تلاوة القرآن.

روي أنّه كان في بني أسد عيّانون، و كان الواحد منهم إذا أراد أن يصيب شيئا بعينه يتجوّع له ثلاثة أيام، ثمّ يتعرّض له، و يقول: تاللّه ما رأيت أحسن من هذا، فيتساقط ذلك الشيء، و كان الرجل منهم ينظر إلى الناقة السمينة أو البقرة السمينة ثمّ يعتنيها، ثمّ يقول للجارية: خذي المكتل و الدّرهم فأتينا بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع فتنحر، و لا يمرّ بشيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلاّ عانه، و كان سببا لهلاكه و فساده، فسال بعض كفّار قريش من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في

ص: 319


1- . الصافات: 143/37 و 144.
2- . تفسير الرازي 99:30. (3-4-5) . تفسير الرازي 99:30.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما رأيت مثله و لا مثل حججه، فعصمه اللّه(1) بهذه الآية.

و قيل: إن زلقه بالأبصار كناية عن شدّة الغضب، و المعنى أنّهم من شدّة عداوتهم لك ينظرون إليك نظر الغضبان بمؤخّر عيونهم، بحيث يكادون يزلّون قدمك و يصرعونك وقت سماعهم القرآن(2)وَ يَقُولُونَ لإخوانهم حين رؤيتك: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ و فاسد العقل، تنفيرا للناس عنه، و توهينا له، و قد علموا كلّهم أنّه أعقل الناس.

و قيل: إنّ المعنى أنّ محمدا معه جنّ يعلّمه القرآن (3)

وَ الحال أنّه مٰا هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ و عظة لِلْعٰالَمِينَ من الإنس و الجنّ، و بيان لجميع ما يحتاجون إليه من امور دينهم و دنياهم، فأين من أنزل عليه ذلك و هو مطّلع على أسراره و حقائقه و دقائقه ممّا قالوا في حقّه من الجنون؟ فكيف ينسبونه إليه و ليس ما قالوا إلاّ من غاية الحمق و الجهالة؟

عن الصادق عليه السّلام: أنّه مرّ بمسجد الغدير، فنظر إلى ميسرة المسجد فقال: «ذاك موضع قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه» ثمّ نظر إلى الجانب الآخر فقال: «ذاك موضع فسطاط أبي فلان و فلان و سالم مولى حذيفة و أبي عبيدة، فلمّا أن رأوه رافعا يده قال بعضهم لبعض: انظروا إلى عينيه تدوران كأنّهما عينا مجنون، فنزل جبرئيل بهذه الآية»(4).

أقول: يمكن حمل نزول جبرئيل بها في ذلك الوقت على نزوله بها مرة ثانية.

و عن القمي: لَمّٰا سَمِعُوا الذِّكْرَ قال: لمّا أخبرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بفضل أمير المؤمنين عليه السّلام [قالوا:

هو مجنون] قال تعالى: وَ مٰا هُوَ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ (5).

عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ سورة ن وَ الْقَلَمِ في فريضة أو نافلة، آمنه اللّه عزّ و جلّ من أن يصيبه فقر أبدا و أعاذه اللّه إذا مات من ضمّة القبر»(6).

ص: 320


1- . تفسير روح البيان 127:10.
2- . تفسير روح البيان 127:10.
3- . تفسير روح البيان 130:10.
4- . الكافي 2/566:4، من لا يحضره الفقيه 1558/335:2، تفسير الصافي 216:5.
5- . تفسير القمي 383:2، تفسير الصافي 216:5.
6- . ثواب الأعمال: 119، مجمع البيان 496:10، تفسير الصافي 216:5.

في تفسير سورة الحاقة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اَلْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عٰادٌ بِالْقٰارِعَةِ (4) ثمّ لمّا ختمت سورة القلم المتضمّنة لتجليل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و إبطال نسبة الجنون إليه، و بيان نزول العذاب الدنيوي على مانعي حقوق الفقراء، و بيان أن العذاب الدنيوي كذلك، و عذاب الآخرة أكبر، و بيان شدّة عداوة الكفّار للرسول صلّى اللّه عليه و آله و انضجارهم من استماع القرآن مع أنّه ذكر للعالمين، نظمت سورة الحاقّة المتضمّنة لكثير من العذاب الدنيوي النازل على الامم، و بيان عظمة عذاب الآخرة، و شدّة عداوة الكفّار للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و نسبة الكهانة و الشعر إليه، و إبطال هاتين النسبتين، و أن القرآن تنزيل من ربّ العالمين، و بيان عظمة يوم القيامة، و ذكر بعض أهوالها و شدائدها، إلى غير ذلك من وجوه التناسب بين السورتين المباركتين، ثمّ افتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر عظمة يوم القيامة بقوله:

اَلْحَاقَّةُ و إنّما سمّي يوم القيامة بالحاقة لأنّه يحق وقوعه و يجب، أو يحق فيه جزاء الأعمال، أو تحقّ فيه الامور و تعرف حقائقها، أو تحقّ فيه كلمة العذاب.

ثمّ بالغ في التهويل و تفخيم فظاعته بقوله:

مَا الْحَاقَّةُ و أيّ شيء هي في العظمة و الفظاعة؟

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و ما أعلمك مَا الْحَاقَّةُ و أيّ يوم هي؟ فانّها خارجة عن دائرة علم المخلوق، كيف ما قدّر عظمها كانت أعظم منه، و مع ذلك

كَذَّبَتْ قبيلة ثَمُودُ وَ عٰادٌ بهذا اليوم الذي يسمّى أيضا بِالْقٰارِعَةِ لأنّها تقرع الناس و تصيبهم بالأفزاع و الأهوال و العذاب، و السماء بالانشقاق، و الأرض و الجبال بالدكّ(1) و النسف، و النجوم بالطّمس و الانكدار.

ص: 321


1- . في النسخة: بالباد، و التصحيح من تفسير روح البيان 131:10.

فَأَمّٰا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطّٰاغِيَةِ (5) وَ أَمّٰا عٰادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عٰاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهٰا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيٰالٍ وَ ثَمٰانِيَةَ أَيّٰامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهٰا صَرْعىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ خٰاوِيَةٍ (7) ثمّ بيّن سبحانه ما نزل على المكذّبين للقيامة من العذاب بقوله:

فَأَمّٰا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا لتكذيبهم بهذا اليوم بِالطّٰاغِيَةِ و الصيحة المتجاوزة عن حدّ الصيحات في الشدّة(1) فارجفت الأرض و تقطّعت منها القلوب

وَ أَمّٰا عٰادٌ الذين هم أشدّ طغيانا و عتوّا من ثمود فَأُهْلِكُوا لتكذيبهم مع كمال قوّتهم بِرِيحٍ صَرْصَرٍ و باردة أو شديدة الصوت عٰاتِيَةٍ و متجاوزة عن الحدّ في الشدّة و العصف، كأنّها عتت على خزّانها و لم يتمكّنوا من ضبطها

سَخَّرَهٰا اللّه و أرسلها بقدرته القاهرة إلى قوم عاد، و سلّطها عَلَيْهِمْ غضبا و انتقاما منهم سَبْعَ لَيٰالٍ وَ ثَمٰانِيَةَ أَيّٰامٍ حال كون تلك الرياح حُسُوماً و متواليات و متتابعات، و ما خفّف هبوبها تلك المدّة ساعة حتّى أهلكتهم، أو نحسات حسمت كلّ خير، أو قاطعات حيث قطعت دابر القوم فَتَرَى يا محمد، أو أيّها الرائي إن كنت حاضرا حينئذ اَلْقَوْمَ جميعهم مع كمال قوتهم و عظم أجسامهم فِيهٰا صَرْعىٰ و مطروحين على الأرض ميتين كَأَنَّهُمْ في عظم الأجسام و طولها و عدم الحركة لها أَعْجٰازُ نَخْلٍ و أصولها المقطوعة حال كونها خٰاوِيَةٍ و مجوّفة. قيل: كانت الريح تدخل من أفواههم، و يخرج ما في أجوافهم من أدبارهم(2).

فَهَلْ تَرىٰ لَهُمْ مِنْ بٰاقِيَةٍ (8) وَ جٰاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكٰاتُ بِالْخٰاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رٰابِيَةً (10) إِنّٰا لَمّٰا طَغَى الْمٰاءُ حَمَلْنٰاكُمْ فِي الْجٰارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهٰا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَهٰا أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ (12) ثمّ بالغ سبحانه في بيان هلاكة جميعهم بقوله:

فَهَلْ تَرىٰ أيّها الرائي لَهُمْ مِنْ نفس بٰاقِيَةٍ حبّه، أو من بقية من ذكر أو انثى، أو كبير أو صغير؟ لا و اللّه لا ترى منهم أحدا

وَ جٰاءَ فِرْعَوْنُ موسى وَ مَنْ كان قَبْلَهُ و تقدّمه من الكفّار وَ أهل القرى اَلْمُؤْتَفِكٰاتُ و المنقلبات، و هي قرى قوم لوط و أتوا (3)بِالْخٰاطِئَةِ و المعصية العظيمة، أو الأفعال السيئة العظيمة كتكذيب البعث

فَعَصَوْا كلّهم رَسُولَ رَبِّهِمْ حين نهوا عمّا كانوا عليه من القبائح فَأَخَذَهُمْ اللّه بذنوبهم و كفرهم و تكذيبهم البعث و ابتلائهم بالعقاب أَخْذَةً رٰابِيَةً و عقوبة زائدة في الشدّة على عقوبات

ص: 322


1- . في النسخة: الشديدة.
2- . تفسير روح البيان 1»: 134.
3- . في النسخة: و الوا.

سائر الكفرة، أو على القدر المتصوّر عند الناس، لزيادة عصيانهم على عصيان غيرهم، كغرق أهل العالم، و تقليب سبع بلاد(1) ، و إمطار الحجارة عليهم.

ثمّ أشار سبحانه إلى قصة قوم نوح بقوله:

إِنّٰا لَمّٰا طَغَى الْمٰاءُ و تجاوز عن الحدّ حتى علا كلّ شيء في الأرض، و ارتفع على الجبال، أو طغى على خزّانه و لم يقدروا على ضبطه حَمَلْنٰاكُمْ يا بني آدم فِي السفينة اَلْجٰارِيَةِ السائرة على الماء، و إنّما كان غرق الكفّار و نجاة المؤمنين

لِنَجْعَلَهٰا لَكُمْ أيّها المؤمنون تَذْكِرَةً و عظة و دليلا واضحا على قدرتنا و غضبنا على الكفر و تكذيب الرسل وَ تَعِيَهٰا و تحفظها أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ و حافظة ما هو نافع لصاحبها بتذكّرة و التفكّر فيه، فانّ من تفكّر في غرق أهل الأرض بالطّوفان الذي علا على الجبال الشوامخ خمسة عشر ذراعا و إنجاء المؤمنين في السفينة، علم أنّ للعالم مدبّرا قادرا حكيما رحيما بمن وجده منتقما بمن أنكره و كذّب رسله.

في ذكر فضيلة

أمير المؤمنين عليه السّلام

روى الفخر الرازي و غيره من العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال لعلي عليه السّلام حين نزلت الآية: «سئلت اللّه تبارك و تعالى أن يجعلها اذنك يا علي» قال علي صلوات اللّه عليه:

«فما نسيت شيئا بعد ذلك، و ما كان لي أن أنسى»(2).

و في رواية ذكرها النقّاش: أخذ صلّى اللّه عليه و آله باذن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و قال: «هي هذه»(3).

فَإِذٰا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وٰاحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبٰالُ فَدُكَّتٰا دَكَّةً وٰاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوٰاقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّمٰاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وٰاهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلىٰ أَرْجٰائِهٰا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمٰانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاٰ تَخْفىٰ مِنْكُمْ خٰافِيَةٌ (18) فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هٰاؤُمُ اقْرَؤُا كِتٰابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاٰقٍ حِسٰابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عٰالِيَةٍ (22) قُطُوفُهٰا دٰانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمٰا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّٰامِ الْخٰالِيَةِ (24) ثمّ شرع سبحانه و تعالى في بيان الحاقّة، و كيفية وقوعها عقيب بيان عظم شأنها و إهلاك مكذّبيها

ص: 323


1- . كذا، و الظاهر: سبع بلدات، أو سبع مدائن.
2- . تفسير الرازي 107:30، تفسير الطبري 35:29، الكشاف 600:4، الدر المنثور 267:8، تفسير روح البيان 10: 136.
3- . تفسير روح البيان 136:10.

بقوله:

فَإِذٰا نُفِخَ فِي الصُّورِ و قد مرّ بيان الصّور و النفخ فيه نَفْخَةٌ وٰاحِدَةٌ أولية

وَ حُمِلَتِ و قلعت اَلْأَرْضُ وَ الْجِبٰالُ من أماكنهما بالقدرة الإلهية، أو بالزلزلة فَدُكَّتٰا و ضربتا: يعني كلا بالآخر دَكَّةً و ضربة وٰاحِدَةً فتسير الجبال بها كثيبا مهيلا، و الأرض هباء منثورا

فَيَوْمَئِذٍ و حينئذ وَقَعَتِ الْوٰاقِعَةُ العظيمة، و نزلت النازلة الهائلة الفظيعة، و هي على ما قيل صيحة القيامة(1)

وَ انْشَقَّتِ السَّمٰاءُ و انفرجت لنزول الملائكة إلى الأرض فَهِيَ يَوْمَئِذٍ و في تلك الوقت وٰاهِيَةٌ مسترخية غير متماسكة كالعهن المنقوش

وَ الْمَلَكُ الذي يسكن في السماء يقفون بعد انشقاقها عَلىٰ أَرْجٰائِهٰا و نواحيها و أكنافها.

قيل: إنّ الملائكة يقفون في حافات السماء لحظة ثمّ يموتون لقوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ (2) و يحتمل أنّ وقوفهم بعد موتهم و إحيائهم، و يحتمل كون الواقفين المستثنون بقوله: إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اللّٰهُ (3).

وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ و هو على ما قيل الفلك التاسع(4) ، و هو أعظم خلق خلقه اللّه، و به تحدّد الجهات فَوْقَهُمْ قيل: يعني فوق الملائكة الذين هم على أطراف السماء، أو فوق الحملة(5)يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت ثَمٰانِيَةٌ أملاك.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «هم اليوم أربعة، فاذا كان يوم القيامة أيّدهم اللّه بأربعة اخرى»(6).

و روي أنّهم ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرضين السابعة، و العرش فوق رءوسهم، كلّهم مطرقون مسبّحون(7).

أقول: و من التخرّص بالغيب قول بعض علماء العامة: الأربعة اللاحقة الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، و مالك، و الشافعي، و أحمد(8).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «حملة العرش - و العرش العلم - ثمانية: أربعة منّا، و أربعة ممّن شاء اللّه»(7).

و عن القمي قال: حملة العرش ثمانية، لكلّ واحد منهم ثمانية أعين، كلّ عين طباق الدنيا(8).

قال: و في حديث آخر قال: «حملة العرش ثمانية: أربعة من الأولين، و أربعة من الآخرين، فأما

ص: 324


1- . تفسير روح البيان 137:10.
2- . تفسير الرازي 108:30، تفسير روح البيان 138:10، و الآية من سورة الزمر: 68/39.
3- . تفسير الرازي 108:30، تفسير روح البيان 138:10، و الآية من سورة الأنعام: 128/6.
4- . تفسير روح البيان 138:10.
5- . تفسير أبي السعود 24:9، تفسير روح البيان 139:10.
6- . تفسير روح البيان 139:10. (7و8) . تفسير روح البيان 139:10.
7- . الكافي 6/102:1، تفسير الصافي 219:5.
8- . بحار الأنوار 43/27:58، و تفسير الصافي 219:5، عن تفسير القمي.

الأربعة من الأولين: فنوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و أمّا من الآخرين: فمحمد، و علي، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام». و معني يحملون العرش: يحملون العلم(1).

أقول: يمكن أن يكون هذا الحديث تأويل الآية، فيكون المعنيان صحيحين.

يَوْمَئِذٍ أنتم أيّها الناس تُعْرَضُونَ على اللّه للسؤال و الحساب، كما يعرض العسكر على السّلطان لتعرف أحوالهم لاٰ تَخْفىٰ على اللّه ممّا صدر مِنْكُمْ في الدنيا فعلة خٰافِيَةٌ و مستورة من الغير، و كذا كلّ نية و سريرة، فيظهر في ذلك اليوم جميع الضمائر و السرائر على جميع الخلق، فيكمل بذلك سرور المؤمنين المخلصين، و يفتضح الكفار و المنافقين، و مع ذلك تتطاير صحف الأعمال، و يعطي كلّ أحد كتابه بيده

فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ و اعطي كِتٰابَهُ و صحيفة عمله التي كتبتها الملائكة الحفظة بِيَمِينِهِ تعظيما له فَيَقُولُ فرحا و سرورا لمحبّيه من المؤمنين:

هٰاؤُمُ و خذوا، أو هلمّوا يا إخواني المؤمنين و أقربائي و أحبّائي اِقْرَؤُا كِتٰابِيَهْ و انظروا ما فيه من البشارة بالنجاة من النار و الدخول في الجنّة

إِنِّي ظَنَنْتُ في الدنيا أَنِّي مُلاٰقٍ يوم القيامة حِسٰابِيَهْ و إن احتملت أنّ اللّه لا يحاسبني و يدخلني الجنّة بغير حساب لشدّة رجائي بكرمه.

و قيل: إنّ الظنّ هنا بمعني اليقين(2) ، و المعنى أيقنت أنّي أبعث يوم القيامة و الاقي حساب أعمالي، فتهيّأت لهذا اليوم

فَهُوَ بفضل اللّه و بكرمه يستقرّ فِي عِيشَةٍ هنيئة و حياة رٰاضِيَةٍ مرضية صافية عن الكدورة مقرونة بالنّعم و الراحة و الكرامة، أعني أنّه متمكّن

فِي جَنَّةٍ عٰالِيَةٍ مرتفعة الدرجات و القصور و الأشجار التي

قُطُوفُهٰا دٰانِيَةٌ و قريبة ممّن يريدها ينالها قائما و قاعدا و مضطجعا بيده من غير تعب. و قيل: لا ينتظر إدراكها(3).

و يقال لهم

كُلُوا ممّا شئتم من الثّمار بلا منع وَ اشْرَبُوا من أنهار الخمر و العسل و اللّبن و ماء غير آسن هَنِيئاً و سائغا لكم بِمٰا أَسْلَفْتُمْ و قدّمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيّٰامِ الْخٰالِيَةِ و الأزمنة الماضية من زمان عمر في الدنيا. و قيل: في أيام صومكم(4).

روي انّه يقول اللّه: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة و غارت عيونكم و خمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، و كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية(5).

ص: 325


1- . تفسير القمي 384:2، تفسير الصافي 219:5.
2- . تفسير الرازي 112:30.
3- . تفسير روح البيان 142:10.
4- . تفسير روح البيان 143:10.
5- . تفسير روح البيان 143:10.

وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِشِمٰالِهِ فَيَقُولُ يٰا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتٰابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ مٰا حِسٰابِيَهْ (26) يٰا لَيْتَهٰا كٰانَتِ الْقٰاضِيَةَ (27) مٰا أَغْنىٰ عَنِّي مٰالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطٰانِيَهْ (29) هذا حال المؤمنين الصالحين في الآخرة

وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِشِمٰالِهِ تحقيرا له بأن تلوى - على ما قيل - يسراه إلى خلف ظهره، و يرى ما فيه من قبائح أعماله فَيَقُولُ تحزّنا و تحسّرا (1)يٰا أهل المحشر لَيْتَنِي و أتمنى أنّه لَمْ أُوتَ كِتٰابِيَهْ و لم أعط صحيفة أعمالي التي فيها جميع سيئاتي

وَ لَمْ أَدْرِ و لم أعلم مٰا حِسٰابِيَهْ فانّه ليس في أعمالي إلاّ ما يوجب العذاب.

ثمّ يتمنّى أنّ الموتة التي أدركته في الدنيا لم يكن بعدها بعث بقوله:

يٰا لَيْتَهٰا كٰانَتِ الْقٰاضِيَةَ و القاطعة لحياتي بحيث لم يكن بعدها بعث و لا حساب، و لم ألق ما ألقى من سوء العاقبة و اليوم

مٰا أَغْنىٰ و لم يدفع عَنِّي شيئا من العذاب مٰا كان (ليه) من المال و الأولاد و الأتباع.

قيل: إنّ مٰا استفهامية على سبيل الانكار، و المعنى أي شيء أغني ما كان لي من اليسار(2). و قيل:

يعني لم يغن عنّى المال الذي جمعته في الدنيا شيئا من العذاب(3) ، بل صار سببا لابتلائي(4) به.

هَلَكَ و ذهب عَنِّي اليوم سُلْطٰانِيَهْ و ملكي و استيلائي على الناس، و بقيت ضعيفا ذليلا مقهورا.

عن ابن عباس: يعني ضلّت عني حجّتي التي كنت احتجّ بها على محمّد في الدنيا(5). و قيل: يعني إنّما كنت انازع المحقّين بسبب الملك و السلطنة، فالآن ذهب ذلك الملك و بقي الوبال(6).

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهٰا سَبْعُونَ ذِرٰاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كٰانَ لاٰ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ الْعَظِيمِ (33) وَ لاٰ يَحُضُّ عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هٰاهُنٰا حَمِيمٌ (35) وَ لاٰ طَعٰامٌ إِلاّٰ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لاٰ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخٰاطِؤُنَ (37) و على أيّ تقدير يقول اللّه تعالى للملائكة الغلاظ و الشداد غضبا على العاصي:

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ و قيّدوه

ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ و أقلوه بعنف

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهٰا و طولها سَبْعُونَ ذِرٰاعاً فَاسْلُكُوهُ و أدخلوه و شدّوه بحيث لا يقدر على الحركة.

ص: 326


1- . تفسير روح البيان 144:10.
2- . تفسير الرازي 114:30.
3- . تفسير روح البيان 144:10. ( (4-5-6-7 ) . تفسير الرازي 114:30.

عن كعب الأحبار قال: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها، و لو وضعت حلقة منها على جبل لذاب مثل الرّصاص، تدخل السلسلة في فيه و تخرج من دبره، و يلوى فضلها على عنقه و جسده، و يقرن بها بينه و بين شيطانه(1).

قيل: إنّ السبعين كناية عن كثرة الطول(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لو أنّ حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها»(3).

و عنه عليه السّلام: «كان معاوية صاحب السلسلة التي قال اللّه عزّ و جلّ: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهٰا» الآية. قال:

«و كان فرعون هذه الامّة»(4).

ثمّ كأنّه قالت خزنة النار: ما له يعذّب بهذا العذاب الشديد؟ فقال سبحانه:

إِنَّهُ كٰانَ لاٰ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ الْعَظِيمِ و من كفر به مع غاية عظمته كان عذابه في غاية العظمة.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء اعتقاده بيّن سوء عمله بقوله:

وَ لاٰ يَحُضُّ و لا يحرّض أهله و غيرهم عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ و إيكالهم القوت فضلا عن أن يعطى و يبذل من مال نفسه، و فيه دلالة على أنّ البخل من أعظم المعاصي، روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «البخل كفر، و الكافر في النار»(5).

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ و في ذلك الوقت هٰاهُنٰا و في عرصة القيامة حَمِيمٌ و قريب يحامي عنه و ينصره، أو يحترق له قلبه، بل أقرباؤه و أصدقاؤه، يفرّون منه

وَ لاٰ طَعٰامٌ له إِلاّٰ مِنْ غِسْلِينٍ و ما يسيل من جلود أهل النار روي أنّه لو وقعت قطرة منه على الأرض لأفسدت على الناس معايشهم(6) ، و عليه يكون إطلاق الطعام عليه مع أنّه شراب من باب المجاز. و قيل: إنّه اسم شجر في النار(7)

لاٰ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخٰاطِؤُنَ طريق توحيد اللّه، المشركون به، كما عن ابن عباس(8). و قيل: هم الذي يتخطّون الحقّ إلى الباطل(7) ، فيشمل منكر الرسالة و الإمامة.

فَلاٰ أُقْسِمُ بِمٰا تُبْصِرُونَ (38) وَ مٰا لاٰ تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ (41) وَ لاٰ بِقَوْلِ كٰاهِنٍ قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ (43)

ص: 327


1- . تفسير روح البيان 146:10.
2- . تفسير روح البيان 146:10.
3- . تفسير القمي 81:2، تفسير الصافي 221:5.
4- . الكافي 1/244:4، تفسير الصافي 221:5.
5- . تفسير روح البيان 147:10.
6- . تفسير روح البيان 147:10. (7و8) . تفسير روح البيان 148:10.
7- . تفسير الرازي 116:30، تفسير روح البيان 148:10.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أهوال القيامة و أحوال السعداء و الأشقياء، و كان المشركون و الأشقياء ينكرون جميعها و يكذّبون القرآن، بيّن سبحانه عظمة القرآن و أنّه كلام اللّه المجيد بقوله تعالى:

فَلاٰ أُقْسِمُ و قيل: إنّ التقدير فلا مجال لتكذيب المكذّبين(1) للقرآن و ما أخبر به من البعث و النشور، اقسم بِمٰا تُبْصِرُونَ و ما تشاهدون من الجسمانيات

وَ مٰا لاٰ تُبْصِرُونَ و لا تشاهدون من العقول و الروحانيات

إِنَّهُ من أوّله إلى آخره لَقَوْلُ رَسُولٍ صادق مبعوث من جانب اللّه كَرِيمٍ عليه عظيم الشأن عنده، و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله أو جبرئيل، جاء به من قبل اللّه

وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ كما تزعمون، و أنتم إيمانا قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ بالقرآن أنّه كلام اللّه، و بمن جاء به أنّه رسول اللّه

وَ لاٰ بِقَوْلِ كٰاهِنٍ كما تدّعون ذلك مرة اخرى تذكّرا قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ و لذا يلتبس عليكم الأمر.

قيل: إنّ الايمان و التذكّر القليل بالشيء الظنّ به و الميل إليه(2) و قيل: إنّ القليل في الآيتين كناية عن العدم(3). و قيل: إنّ الايمان القليل اليقين بالقلب و الجحود باللسان(4). أو الايمان ببعض أحكام القرآن دون(2) بعض.

و إنّما قرن سبحانه عدم الايمان بالشاعرية؛ لأنّ عدم مشابهة القرآن بالشعر أمر بيّن لا ينكره إلاّ المعاند فلذا وبّخوا على عدم الايمان بخلاف مبانيه(3) للكهانة، فإنّها ليست بذاك الوضوح، فانّ من تذكّر أحوال النبي صلّى اللّه عليه و آله و معاني القرآن و تأمّل فيهما(4) علم أنّ القرآن ليس بكهانة، فانّ الكاهن يأتيه الشيطان و يلقي إليه أخبار السماء، و ما يقوله النبي صلّى اللّه عليه و آله مشتمل على ذمّ الشياطين و سبّهم، فكيف يمكن أن يكون ذلك بإلقاء الشياطين؟ و كذا معاني القرآن [فانها تشتمل على] الدعوة إلى العقائد الحقّة و تهذيب الاخلاق و الأعمال الصالحة بخلاف أقوال الكهنة، فلو تذكّر كفّار مكّة معاني القرآن و معاني أقوال الكهنة لما قالوا: إنّه كاهن، و إن القرآن كهانة، بل هو

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ نزّله بتوسّط جبرئيل على رسوله، فهو قول اللّه و كلامه لأنّه نزّله، و قول جبرئيل لأنّه نزل به، و قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه أنذر به.

وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ (44) لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمٰا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حٰاجِزِينَ (47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنّٰا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكٰافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)

ص: 328


1- . تفسير طبرى 41:29. (2-3-4) . تفسير روح البيان 149:10.
2- . تفسير روح البيان 149:10 و 150.
3- . في تفسير روح البيان: مباينته.
4- . في النسخة: منهما.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) ثمّ أكّد سبحانه أنّه كلامه لا كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله تعالى:

وَ لَوْ تَقَوَّلَ محمّد عَلَيْنٰا و نسب إلينا كذبا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ و الكلمات التي لم نقلها

لَأَخَذْنٰا بعضا مِنْهُ للانتقام بِالْيَمِينِ و القوّة.

و قيل: إنّ المراد باليمين الحقّ(1) و المعنى لانتقمنا منه بالحقّ

ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ و العرق الذي به حياته، و هو كناية عن إماتته. و قيل: يعني لضربنا عنقه(2).

و على أيّ تقدير، المراد إهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه

فَمٰا مِنْكُمْ أيّها الناس مِنْ أَحَدٍ حينئذ عَنْهُ حٰاجِزِينَ و مانعين بالقوّة أو الشفاعة.

ثمّ إنّه تعالى بعد تعظيم كتابه بالغ في مدحه بذكر فائدته العظيمة بقوله:

وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ و عظة لِلْمُتَّقِينَ من اتّباع الهوى و العصبية في مذهبه الباطل، فانّهم المنتفعون به

وَ إِنّٰا لَنَعْلَمُ أَنَّ كثيرا مِنْكُمْ أيّها العرب مُكَذِّبِينَ له لحبّ الدنيا و اتّباع الهوى و التوغّل في العصبية، و كافرين به حسدا و بغيا

وَ إِنَّهُ يوم القيامة لَحَسْرَةٌ و ندامة عَلَى الْكٰافِرِينَ به و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله عند مشاهدتهم عظمته و شفاعته لتاليه و ثواب المصدّقين به، و في الدنيا أيضا إذا رأوا عز المؤمنين به و ذلّة الجاحدين له قالوا:

وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ و فيه من المبالغة ما لا يخفى، فاذا كان القرآن أنزله إليك بهذه المرتبة من العظمة و الفائدة، و نعمته عليك فوق جميع النّعم

فَسَبِّحْ اللّه تنزيها له.

عن الرضا عليه السّلام: «بالتقول عليه، و شكرا له على إيحائه عليك»(3) مستعينا في تسبيحه بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قيل: المراد بالاسم المسمّى(4).

روي أنّه لمّا نزلت الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اجعلوها في ركوعكم»(5).

روى بعض العامة عن عمر بن الخطاب أنّه قال: خرجت بمكة يوما متعرّضا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فجئت فوقفت وراءه، فافتتح سورة الحاقة، فلمّا سمعت سرد القرآن قلت في نفسي: إنّه لشاعر كما تقول قريش، حتّى بلغ إلى قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ * وَ لاٰ بِقَوْلِ كٰاهِنٍ قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ ثمّ مرّ حتّى انتهى إلى آخر السورة، فأدخل اللّه في قلبي الإسلام(4).

ص: 329


1- . تفسير الرازي 118:30.
2- . تفسير روح البيان 151:10.
3- . تفسير الصافي 223:5. (4و5) . تفسير روح البيان 152:10.
4- . تفسير روح البيان 153:10.

عن الكاظم عليه السّلام: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني جبرئيل عن اللّه في ولاية علي عليه السّلام» قال: «قالوا:

إنّ محمدا كذب على ربّه، و ما أمره اللّه بهذا في عليّ، فأنزل اللّه تعالى بذلك قرآنا فقال: إنّ ولاية علي تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ * وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ... الآية، ثمّ عطف القول فقال: إنّ ولاية علي لتذكرة للمتّقين - للعالمين - و إنّ عليا لحسرة على الكافرين، و إنّ ولايته لحقّ اليقين، فسبّح - يا محمد - باسم ربك العظيم. يقول: اشكر ربّك العظيم الذي اعطاك هذا الفضل»(1).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السّلام فأظهر ولايته، قالا جميعا: و اللّه ما هذا من تلقاء اللّه، و لا هذا إلاّ شيء أراد أن يشرّف به ابن عمّه، فأنزل اللّه تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا الآيات أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ يعني فلانا و فلانا وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكٰافِرِينَ يعني عليا عليه السّلام»(2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة الحاقة حاسبه اللّه حسابا يسيرا»(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أكثر من قراءة الحاقة، فان قراءتها في الفرائض و النوافل من الايمان باللّه و رسوله، [لأنّها] إنّما نزلت في أمير المؤمنين و معاوية، و لم يسلب قارئها دينه حتى يلقى اللّه عز و جلّ»(4).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسيرها.

ص: 330


1- . الكافي 91/359:1، تفسير الصافي 223:5.
2- . تفسير العياشي 2423/22:3، تفسير الصافي 223:5.
3- . تفسير أبي السعود 28:2.
4- . ثواب الأعمال: 119، تفسير الصافي 223:5.

في تفسير سورة المعارج

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ (1) لِلْكٰافِرينَ لَيْسَ لَهُ دٰافِعٌ (2) مِنَ اللّٰهِ ذِي الْمَعٰارِجِ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الحاقة المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة و عذاب مكذّبيه و أهواله حين وقوعه، و حسن حال المؤمنين به و سوء حال الكافرين و مانعي حقوق المساكين، و أنّه ليس لهم في ذلك اليوم حميم، و بيان عظمة القرآن و تسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله، نظمت سورة المعارج المتضمّنة لبيان عذاب الكفار، و قرب وقوع القيامة و طول مدّتها و أهوالها، و غفلة الحميم عن حميمه، و حسن حال المؤمنين المؤدّين حقوق الفقراء، و سوء حال الكفّار، و تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمره(1) بالصبر على أذى قومه إلى غير ذلك من وجوه المناسبات بين السورتين، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ حكى سبحانه شدّة خباثة بعض الكفّار و جرأته على اللّه بقوله:

سَأَلَ سٰائِلٌ و دعا داع بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ لا محالة

لِلْكٰافِرينَ و عليهم كما عن ابن عباس، إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة(2)لَيْسَ لَهُ إذا جاء وقته أو اقتضته حكمته دٰافِعٌ و مانع

مِنَ جانب اَللّٰهِ ذِي الْمَعٰارِجِ و مالك السماوات التي هي المصاعد للملائكة الذين هم مدبّرات الامور و مقسّمات الأرزاق، و إنّما سمّى السماوات معارج لكون بعضها فوق بعض كالمدارج، أو المراد ذي مراتب من النّعم، أو ذي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنّة.

عن ابن عباس: نزلت الآية في النّضر بن الحارث من بني عبد الدار حيث قال إنكارا للقرآن و استهزاء به: اَللّٰهُمَّ إِنْ كٰانَ هٰذٰا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنٰا حِجٰارَةً مِنَ السَّمٰاءِ أَوِ ائْتِنٰا بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (3).

و قيل: إنّه لمّا بعث محمد صلّى اللّه عليه و آله و خوف المشركين بالعذاب، قال بعضهم لبعض: سلوا محمدا لمن

ص: 331


1- . في النسخة: و أمر. (2و3) . تفسير روح البيان 153:10.

هذا العذاب، و بمن يقع؟ فنزلت سَأَلَ سٰائِلٌ. (1).

و الباء في قوله: بِعَذٰابٍ في معنى (عن). و قيل: إنّ المراد من السائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حيث استعجل بعذاب الكافرين، فبشّره اللّه بأنّ العذاب واقع بهم لا دافع له بقرينة قوله بعد ذلك:

فَاصْبِرْ (2) .

تَعْرُجُ الْمَلاٰئِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كٰانَ مِقْدٰارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (3) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (4) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (5) وَ نَرٰاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمٰاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبٰالُ كَالْعِهْنِ (6) وَ لاٰ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) ثمّ بيّن سبحانه أنّ إطلاق المعارج على السماوات بلحاظ عروج الملائكة بقوله:

تَعْرُجُ و تصعد اَلْمَلاٰئِكَةُ الذين هم مدبّرات الامور وَ الرُّوحُ الامين المسمّى بجبرئيل بعد فراغهم من امور الدنيا لانهائها بأمر اللّه إِلَيْهِ تعالى فِي أوّل يَوْمٍ و زمان كٰانَ مِقْدٰارُهُ من أوّله إلى آخره خمسين أَلْفَ سَنَةٍ من سني الدنيا، و هو يوم القيامة و زمان وقوف الناس للحساب، و هذا الطول بالنسبة إلى الكفار، كما روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أطول هذا اليوم: فقال: «و الذي نفسي بيده إنّه ليخفّ عن المؤمن حتّى يكون عليه أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا»(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ للقيامة خمسين موقفا، كلّ موقف مقام(4) ألف سنة» ثمّ تلا هذه الآية(5).

و قيل: إنّ هذا التقدير على سبيل الفرض، و المقصود أنّه لو اشتغل بالقضاء بين الناس أعقل الناس و أذكاهم لبقي فيه خمسين ألف عام، و اللّه يفرغ من حسابهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا(6) كما عن الصادق أنّه قال: «لو ولي الحساب غير اللّه لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا، و اللّه سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة»(7).

و قال في رواية اخرى: «لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنّة، و أهل النار في النار»(8).

و يمكن أن يقال: إنّ التقدير لعروج الملائكة لا ليوم القيامة، كما قال بعض(9). و المعنى أنّ الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد غيرهم من أهل الدنيا أن يصعد إليها لا يمكنه إلاّ في مدّة خمسين ألف

ص: 332


1- . تفسير الرازي 121:30.
2- . تفسير الرازي 121:30، و الآية من سورة المعارج: 5/70.
3- . في الكافي: مقداره.
4- . الكافي 108/143:8، تفسير الصافي 225:5.
5- . تفسير الرازي 124:30. (7و8) . مجمع البيان 531:10، تفسير الصافي 225:5.
6- . مجمع البيان 530:10.
7- . مجمع البيان 531:10، تفسير الصافي 225:5، تفسير الرازي 124:30.

سنة، و لكن الملائكة يصعدون إليها في ساعة قليلة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام و قد ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، و عرج به إلى ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة حتى انتهى إلى ساق العرش»(1).

و روى القمّي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «تعرج الملائكة و الروح في صبح ليلة [القدر] إليه من عند النبيّ و الوصي»(2).

فَاصْبِرْ يا محمد، على استهزاء قومك و أذاهم صَبْراً جَمِيلاً حسنا لا جزع فيه و لا شكوى إلى غير اللّه مع انتظار الفرج بلا استعجال، و لا تدع على قومك لاستهزائهم بوعدك إيّاهم العذاب

إِنَّهُمْ لجهلهم و حماقتهم يَرَوْنَهُ و يزعمونه بَعِيداً عن إمكان الوقوع و يحيلونه، لاستبعادهم إحياء العظام الرميم ثانيا حتى يمكن لهم التألّم بالعذاب

وَ نحن نَرٰاهُ و نعلمه قَرِيباً من الوقوع لإمكان إعادة خلقهم و قدرتنا عليه و استحقاقهم للعذاب.

و قيل: إنّهم يرون الموت و البعث بعيدا لبعد آمالهم، و نراه قريبا لأنّ كلّ آت قريب(3).

و أمّا وقوعه فانّه

يَوْمَ تَكُونُ السَّمٰاءُ في اللون كَالْمُهْلِ و خبث الحديد المذاب، أو الفضّة المذابة كما عن ابن مسعود(4) ، أو كالقير و القطران في سوادهما(5) ، أو كدرديّ الزيت(6) في سيلانه على مهل لثخانته (7)

وَ تَكُونُ الْجِبٰالُ كلّها في سيرورتها ألوانا مختلفة كَالْعِهْنِ و الصوف المصبوغ، لاختلاف ألوان الجبال منها بيض و منها حمر،

وَ منها غرابيب سود.

ثمّ لكثرة أهوال اليوم لاٰ يَسْئَلُ حَمِيمٌ و قريب حَمِيماً و قريبا عن حاله و لا يكلّمه، لاشتغال كلّ بنفسه، فكيف الأجانب؟

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذٰابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَ صٰاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاّٰ إِنَّهٰا لَظىٰ (15) نَزّٰاعَةً لِلشَّوىٰ (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلّٰى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعىٰ (18)

ص: 333


1- . الاحتجاج: 220، تفسير الصافي 225:5.
2- . تفسير القمي 386:2، تفسير الصافي 225:5.
3- . تفسير روح البيان 159:10.
4- . تفسير الرازي 125:30، تفسير روح البيان 159:10.
5- . تفسير روح البيان 159:10.
6- . درديّ الزيت: ما رسب أسفله.
7- . تفسير روح البيان 159:10.

ثمّ دفع سبحانه توهّم أنّ عدم سؤالهم لعلّه لعدم رؤيتهم أو عدم معرفة بعضهم بعضا بقوله:

يُبَصَّرُونَهُمْ و يعرفونهم، فيعرف الرجل أباه و ابنه و أخاه و عشيرته - و قيل: إنّ الملائكة يعرفونهم - و مع ذلك لا يسألهم لاشتغالهم بما هم فيه(1).

عن ابن عباس: يتعارفون ساعة ثمّ يتناكرون(2).

بل من شدّة عذاب ذلك اليوم يَوَدُّ الْمُجْرِمُ و يشتاق الكافر و العاصي لَوْ يَفْتَدِي و يحفظ نفسه مِنْ عَذٰابِ يَوْمِئِذٍ الذي ابتلي به بِبَنِيهِ و أولاده الذكور الذين هم أعزّ الأنفس عنده

وَ صٰاحِبَتِهِ و زوجته المحبوبة عنده وَ أَخِيهِ الذي كان ظهره و معينه في الشدائد

وَ فَصِيلَتِهِ و أقاربه اَلَّتِي كانت تُؤْوِيهِ و تضمّه إلى نفسه، و تحفظه في الدنيا بحقّ القرابة و المحبة من الشدائد، كالآباء و الأعمام و الأخوال و غيرهم

وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الجنّ و الإنس جَمِيعاً لو كانوا تحت يديه و في سلطانه ثُمَّ يُنْجِيهِ ذلك الافتداء.

كَلاّٰ و هيهات أنّ الافتداء ينجيه من النار التي وصفها اللّه سبحانه بقوله: إِنَّهٰا لَظىٰ و لهب خالص لا يخالطه دخان و قيل: إنّ اللّظى علم للنار أو للدّرك الثاني من جهنّم(3) ، و هي

نَزّٰاعَةً و جذّابة لِلشَّوىٰ و الأعضاء الواقعة في أطراف الجسد و قلاّعة لها بقوّة الاحتراق و شدّة الحرارة، أو نزّاعة للجلود الرءوس و تقشيرها عنه.

قيل: لا تترك جلدا و لا لحما و لا عصبا إلاّ أحرقته(4).

تَدْعُوا و تجلب إلى نفسها كالمغناطيس الذي يجلب الحديد، أو تهلك مَنْ أَدْبَرَ عن التوحيد و الحقّ و أعرض عنه وَ تَوَلّٰى عن طاعة ربّه و رسوله، و استنكف عنه، و تلتقطهم كما يلتقط الطير الحبّ. و قيل: إنّ المراد جلب زبانية النار بحذف المضاف(5).

وَ جَمَعَ المال حرصا و حبّا للدنيا فَأَوْعىٰ و كنز لطول الأمل، و لم يؤدّ زكاته و حقوقه الواجبة فيه، و تشاغل به عن الدين، و تكبّر على الفقراء باقتنائه(6).

إِنَّ الْإِنْسٰانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ دٰائِمُونَ (23) وَ الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25) وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ

ص: 334


1- . تفسير روح البيان 160:10
2- . تفسير روح البيان 160:10
3- . تفسير روح البيان 161:10.
4- . تفسير الرازي 128:30.
5- . تفسير الرازي 128:30.
6- . في النسخة: باقتنامه، و ما أثبتناه من تفسير روح البيان 162:10.

مِنْ عَذٰابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذٰابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ (29) إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهٰادٰاتِهِمْ قٰائِمُونَ (33) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ يُحٰافِظُونَ (34) ثمّ ذمّ سبحانه الانسان بقوله:

إِنَّ الْإِنْسٰانَ بالطبع خُلِقَ هَلُوعاً ثمّ فسر سبحانه الهلوع بقوله:

إِذٰا مَسَّهُ و أصابه اَلشَّرُّ كالمرض و الفقر و الخوف و غيرها من البلايا كان جَزُوعاً و كثير القلق و الشكوى لضعفه

وَ إِذٰا مَسَّهُ و وصل إليه اَلْخَيْرُ من الصحة و الغنى كان مَنُوعاً و شديد البخل و مبالغا في الامساك لطول أمله و جهله بالقسمة

إِلاَّ الْمُصَلِّينَ و لكن لا مطلقا بل

اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ دٰائِمُونَ و على أدائها مواظبون لا يشغلهم عنها شاغل، لاهتمامهم على تقديم رضى اللّه على رضى أنفسهم.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الذين يقضون ما فاتهم من الليل بالنهار، و ما فاتهم من النهار بالليل»(1).

وَ إلاّ اَلَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ و نصيب معين أوجبوه على أنفسهم تقربا إلى اللّه

لِلسّٰائِلِ بالكفّ من الناس وَ الْمَحْرُومِ و من لا يسأل حياء و توكّلا على اللّه.

عن السجاد عليه السّلام: «الحقّ المعلوم شيء يخرجه من ماله، ليس من الزكاة، و لا من الصدقة المفروضتين، هو الشيء يخرجه من ماله إن شاء أكثر و إن شاء أقلّ على قدر ما يملك، يصل به رحما، و يقوّي به ضعيفا، و يحمل به كلاّ، و يصل به أخا له في اللّه أو لنائبة تنوبه»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «المحروم المحارف(3) الذي قد حرم كدّ يده في الشراء و البيع»(4).

و في رواية: «المحروم الذي ليس بعقله بأس، و لم يبسط له الرزق، و هو محارف»(5). يعني أنّهم أهل الكسب و الصنعة لا السؤال.

وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ و يؤمنون بدار الجزاء

وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذٰابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون أن يصيبهم فيتعبون أنفسهم في طاعة ربّهم بأداء الواجبات و ترك المحرّمات و بذل الأموال،

ص: 335


1- . الخصال: 10/628، تفسير الصافي 227:5.
2- . الكافي 11/500:3، تفسير الصافي 227:5.
3- . المحارف: المحروم يطلب فلا يرزق.
4- . الكافي 12/500:3، التهذيب 312/108:4، تفسير الصافي 227:5.
5- . الكافي 12/500:3، التهذيب 313/108:4، تفسير الصافي 227:5.

و هم مع ذلك في جميع أحوالهم خائفون لما عملوا

إِنَّ عَذٰابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ و إن بالغوا في الطاعة لجهلهم بعاقبة امورهم و واقعياتها، فلعلّهم قصّروا فيما هو من وظائفهم و يعذّبون عليه

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ و سوآتهم من القبل و الدّبر حٰافِظُونَ من نظر الغير و مسّه

إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ و نسائهم أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ من الجواري فَإِنَّهُمْ على عدم حفظها من مسمين(1) و نظرهنّ غَيْرُ مَلُومِينَ عند العقلاء و غير مؤاخذين عند الشرع، و فيه إشعار بأنّ في ملامة العقلاء على ترك التحفّظ كفاية لا حاجة إلى نهي الشارع

فَمَنِ ابْتَغىٰ و طلب لنفسه وَرٰاءَ ذٰلِكَ المذكور من الأزواج و الإماء للاستمتاع فَأُولٰئِكَ المبتغون هُمُ العٰادُونَ و المتجاوزون لحدود العقل و الشرع الكاملون في الظّلم على النفس، و يدخل فيه الاستمناء فانّه نكاح النفس. روي أنّ العرب كانوا يستمنون في الأسفار، فنزلت الآية(2).

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ و ما يودع عندهم وَ عَهْدِهِمْ سواء كان من العهود التي بينه و بين اللّه، أو بينه و بين الناس رٰاعُونَ و مجدّون في المحافظة

وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهٰادٰاتِهِمْ و لو على أنفسهم، أو الوالدين و الأقربين قٰائِمُونَ و مؤدّون حقّ الأداء، و الجمع باعتبار اختلافه الشهادات و كثرتها، و إنّما خصّها بالذكر مع دخولها فى الأمانات لكثرة فضلها. و عن ابن عباس قال: يريد الشهادة بأنّ اللّه واحد لا شريك له(3).

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ يُحٰافِظُونَ بحفظ أجزائها و شرائطها و آدابها. في الحديث: «من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة، و من لم يحافظ عليها لم يكن له نور و لا برهان و لا نجاة، و كان يوم القيامة مع قارون و فرعون و هامان و ابي بن خلف»(4).

قيل: إنّ ذكر الصلاة أوّلا و آخرا للإشارة بأنّها أوّل ما يجب على العبد أداءه بعد الايمان و آخر ما يجب رعايته بعده(5).

عن الكاظم عليه السّلام: «اولئك أصحاب الخمسين صلاة(4) من شيعتنا»(5).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «هي الفريضة، و الذين هم على صلاتهم دائمون هي النافلة»(6).

أُولٰئِكَ فِي جَنّٰاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمٰا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمٰالِ عِزِينَ (37)

ص: 336


1- . كذا، و الظاهر: مسهنّ.
2- . تفسير روح البيان 165:10 و 166.
3- . تفسير الرازي 131:30. (4و5) . تفسير روح البيان 167:10.
4- . في النسخة: أصحاب الحسين.
5- . مجمع البيان 535:10، تفسير الصافي 228:5.
6- . الكافي 12/269:3، تفسير الصافي 228:5.

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة أعمالهم بقوله:

أُولٰئِكَ المتّصفون بتلك الصفات الكريمة مستقرون يوم القيامة فِي جَنّٰاتٍ لا توصف بالبيان، و لا يدرك كنهها الانسان، و هم مع ذلك مُكْرَمُونَ بغاية الاكرام، و معظّمون بنهاية التعظيم.

ثمّ روي أنّ الكفّار و المشركين كانوا محلّقين حول رسول اللّه حلقا حلقا و فرقا فرقا، يستمعون القرآن و يستهزءون به، و يقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمّد فلندخلها قبلهم، فنزل قوله:

فَمٰا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا (1) و أي حال عرضهم أنّهم قِبَلَكَ يا محمد و حولك حال كونهم مُهْطِعِينَ و مسرعين نحوك، أو مادّين أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك

عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمٰالِ منك عِزِينَ و مجتمعين فرقا فرقا، و محلّقين عليك حلقا حلقا. و قيل: إنّ المراد منهم المنافقون(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام - و قد ذكر المنافقين - قال: «و ما زال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتألّفهم و يقرّبهم و يجلسهم عن يمينه و شماله حتى أذن اللّه عزّ و جلّ له في إبعادهم بقوله: اُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (3) و بقوله: فَمٰا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ... الآيات»(4).

أقول: و يمكن أن يكون المراد المعنى العام.

أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاّٰ إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِمّٰا يَعْلَمُونَ (39) فَلاٰ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشٰارِقِ وَ الْمَغٰارِبِ إِنّٰا لَقٰادِرُونَ (40) عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتّٰى يُلاٰقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدٰاثِ سِرٰاعاً كَأَنَّهُمْ إِلىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كٰانُوا يُوعَدُونَ (44) ثمّ أنكر سبحانه عليهم الطمع في دخولهم الجنة بقوله:

أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ و نفس مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ في القيامة جَنَّةَ نَعِيمٍ كالمسلمين بغير إيمان

كَلاّٰ و حاشا أن يدخلوها إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِمّٰا يَعْلَمُونَ من نطفة قذرة، فكيف يتأهّلون لدخول الجنة التي هي منزل المطهّرين حتّى يتطهّروا بالايمان و المعرفة؟ و قيل في ارتباط الآية وجوه أخر(5).

ثمّ بيّن سبحانه قدرته على إهلاك جميعهم بقوله:

فَلاٰ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشٰارِقِ التي تكون للشمس

ص: 337


1- . تفسير الرازي 131:30، تفسير روح البيان 169:10.
2- . تفسير الرازي 131:30.
3- . المزمل: 10/73.
4- . الاحتجاج: 235، تفسير الصافي 228:5.
5- . تفسير الرازي 132:30.

في السنة لكلّ يوم مشرق وَ بربّ اَلْمَغٰارِبِ التي تكون فيها. و قيل: جمعها باعتبار الكواكب السيّارة لكل مشرق و مغرب(1). أو المراد من المشرق ظهور دعوة نبي، و من المغرب موته.

إِنّٰا لَقٰادِرُونَ بالذات

عَلىٰ أَنْ نهلك جميعهم عقوبة على معاصيهم و نُبَدِّلَ منهم خلقا آخر خَيْراً و أفضل مِنْهُمْ مكانهم وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ و مغلوبين و عاجزين إن أردنا ذلك، و إنّما أخّرنا عقوبتهم للحكم البالغة المقتضية لتأخيرها

فَذَرْهُمْ يا محمد ودعهم يَخُوضُوا و يشتغلوا بباطلهم من عبادة الأصنام و الاستهزاء بالقرآن و إيذاء المؤمنين وَ يَلْعَبُوا بالدنيا و زخارفها التي لا نفع لها، كاشتغال الأطفال بالأشغال التي لا غرض عقلائي فيها، و يستمروا عليها حَتّٰى يُلاٰقُوا و يعاينوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ في الدنيا بلسانك أنّهم يعذّبون فيه عقوبة على كفرهم و سيئات أعمالهم، أعني من ذلك اليوم

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدٰاثِ و القبور حال كونهم سِرٰاعاً و راكضين الى الداعي و هو إسرافيل، أو إلى عرصة المحشر كَأَنَّهُمْ في الإسراع في السير إِلىٰ نُصُبٍ و أحجار نصبوها في الدنيا للعبادة أو للمسابقة إليها بالعدو يُوفِضُونَ و يسرعون أو يتسابقون حال كونهم

خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ لا يرفعونها من الأرض خوفا من رؤية العذاب تَرْهَقُهُمْ و تحيطهم ذِلَّةٌ و مهانة ذٰلِكَ اليوم الكثير الأهوال اَلْيَوْمُ الَّذِي كٰانُوا في الدنيا يُوعَدُونَ بلسان رسولهم، و هم ينكرون وقوعه و يستهزءون بالوعد به.

عن الصادق قال: «أكثروا من قراءة سَأَلَ سٰائِلٌ فانّ من أكثر قراءتها لم يسأله اللّه يوم القيامة عن ذنب عمله، و أسكنه الجنّة مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله»(2).

ص: 338


1- . تفسير الرازي 132:3، تفسير روح البيان 170:10.
2- . ثواب الاعمال: 119، مجمع البيان 527:10، تفسير الصافي 229:5.

في تفسير سورة نوح

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِنّٰا أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1) قٰالَ يٰا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللّٰهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّٰهِ إِذٰا جٰاءَ لاٰ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قٰالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهٰاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعٰائِي إِلاّٰ فِرٰاراً (6) وَ إِنِّي كُلَّمٰا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيٰابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبٰاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهٰاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرٰاراً (9) ثمّ لمّا ختمت سورة المعارج المتضمّنة لسؤال العذاب على الكفّار، و أمر الرسول بالصبر على تكذيب المكذبين، و بيان قدرته تعالى على إهلاك جميع الخلق، اردفت بسورة نوح في النّظم المتضمّنة لشكاية نوح من تكذيب المكذّبين تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و سؤال نوح العذاب على الكفّار، و وقوع إهلاك جميع الخلق بالطّوفان، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في ذكر قصّة بعثة نوح، و كيفية دعوته و شكايته منهم(1) تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا نُوحاً الذي هو أول اولي العزم من الرسل و شيخهم، من جزيرة كان يسكنها - و اسمه عبد الغفّار على ما قيل (2)- إِلىٰ قَوْمِهِ (3) و هم جميع من في الأرض، و كانوا يعبدون الأصنام، و قلنا له: أَنْ أَنْذِرْ و خوّف قَوْمَكَ من عذاب اللّه على الشّرك به و عصيانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ من جانب اللّه عَذٰابٌ أَلِيمٌ غضبا عليهم.

ص: 339


1- . في النسخة: عنهم.
2- . تفسير روح البيان 171:10.
3- . زاد في النسخة: من.

قيل: بعث و هو ابن أربعين، أو ثلاثمائة و خمسين، أو أربعمائة سنة(1).

فلمّا جاء نوح بأمر اللّه إلى قومه

قٰالَ لهم بلين و شفقة: يٰا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ من قبل اللّه نَذِيرٌ و مخوّف من سوء عاقبة الشرك باللّه و عصيانه مُبِينٌ و موضح لكم ما ارسلت به ببيان يفهمه كلّ أحد و هو

أَنِ اعْبُدُوا اللّٰهَ بامتثال أوامره، و لا تشركوا به شيئا وَ اتَّقُوهُ و احذروا من مخالفته وَ أَطِيعُونِ و اسمعوا نصائحي و مواعظي، فان قبلتم قولي و أجبتم دعوتي

يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ ما سلف مِنْ ذُنُوبِكُمْ و معاصيكم كلّها وَ يُؤَخِّرْكُمْ و يكمل عمركم المقدّر إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت معين لموتكم، و لا يعاجلكم بالعقوبة و لا يهلككم بالعذاب.

إِنَّ أَجَلَ اللّٰهِ المقدّر لموت كلّ أحد مطيعا كان أو عاصيا، و إذا حلّ الوقت المعين في اللوح المحفوظ لموت كلّ نفس إِذٰا جٰاءَ و وصل لاٰ يُؤَخَّرُ و لا يغيّر بالزيادة لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك لسارعتم إلى الايمان و الطاعة، و بادرتم إلى ما أمركم به، لأنّكم لا تدرون متى يجيء، فلم يعتن بقوله أحد، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد و ينصحهم بأبلغ نصح، فلمّا طالت المدّة و عارضه قومه و آذوه حتى ضاق صدره و انقطعت عنه الحيل، ناجى ربّه و شكا إليه قومه،

قٰالَ رَبِّ إنّك تعلم إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى توحيدك و طاعتك لَيْلاً وَ نَهٰاراً من غير توان و فتور.

قيل: كان يجيء باب البيوت في الليالي فيقرع و يقول لصاحب البيت قل لا إله إلا اللّه(2).

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعٰائِي إلى توحيدك و طاعتك إِلاّٰ فِرٰاراً ممّا دعوتهم إليه، و نفرة ممّا نصحتهم به، و امتناعا من قبول دعوتي

وَ إِنِّي كُلَّمٰا دَعَوْتُهُمْ إلى التوحيد و الإقرار برسالتي لِتَغْفِرَ لَهُمْ ذنوبهم و سيئاتهم جَعَلُوا أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ و سدّوا مسامعهم لئلا يسمعوا قولي تنفّرا منه وَ اسْتَغْشَوْا و لفّوا برءوسهم ثِيٰابَهُمْ و تغطّوا بها لئلا يروني و لا أراهم وَ أَصَرُّوا على كفرهم و معاصيهم، و أقاموا عليها لجاجا و عنادا وَ اسْتَكْبَرُوا و تعظّموا عن إقباحي و قبول دعوتي اِسْتِكْبٰاراً شديدا لا يصرفهم عنه شيء

ثُمَّ إِنِّي لمّا رأيت أنّ دَعَوْتُهُمْ سرا غير مفيدة(3) لهدايتهم، دعوتهم و أجهرت في دعوتهم جِهٰاراً بليغا، و اظهرت دعائي إلى الايمان إظهارا شديدا

ثُمَّ إِنِّي رأيت أنّ الإجهار وحده لا يؤثّر فيهم أَعْلَنْتُ دعوتي لَهُمْ في مجامعهم و مجالسهم وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ الدعوة في أبواب بيوتهم و في خلواتهم إِسْرٰاراً و أخفيتها إخفاء.

ص: 340


1- . تفسير روح البيان 171:10، و فيه: أربعمائة و ثمانين.
2- . تفسير روح البيان 174:10.
3- . في النسخة: مفيد.

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً (10) يُرْسِلِ السَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً (12) مٰا لَكُمْ لاٰ تَرْجُونَ لِلّٰهِ وَقٰاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوٰاراً (14) ثمّ لمّا بيّن مراتب دعوته بيّن كيفيتها بقوله:

فَقُلْتُ لهم: يا قوم اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ و اسألوه ستر ذنوبكم إِنَّهُ تعالى كٰانَ غَفّٰاراً و ستّارا للذنوب، فاذا استغفرتم اللّه

يُرْسِلِ السَّمٰاءَ و ينزل عَلَيْكُمْ الأمطار النافعة حال كونها مِدْرٰاراً و سيالا، أو متواترا.

قيل: إنّ قومه قالوا: إن كان ديننا حقّا فكيف نتركه، و إن كان باطلا فكيف يغفر لنا بعد ما كنّا عليه دهرا طويلا؟ فأمرهم اللّه بالاستغفار، و وعدهم عليه بالعوائد الدنيوية العاجلة، لأنّها أوقع في قلوبهم من المغفرة(1).

و قيل: لمّا كذّبوا نوحا بعد تكرار الدعوة، حبس اللّه عنهم قطر السماء، و أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة(2). و قيل: سبعين، فوعدهم نوح إن آمنوا أن يرزقهم الخصب و يدفع عنهم ما كانوا فيه(3) بقوله:

وَ يُمْدِدْكُمْ و يقوّيكم بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ و يزدكم قوة إلى قوّتكم وَ يَجْعَلْ لَكُمْ بسبب إيمانكم و استغفاركم جَنّٰاتٍ و بساتين كثيرة وَ يَجْعَلْ لَكُمْ فيها أَنْهٰاراً جارية تزيّنها بالنبات، و تحفظها من اليبس، و تفرح بها القلوب.

ثمّ لامهم نوح على تركهم الايمان باللّه بقوله:

مٰا لَكُمْ و أيّ مانع فيكم؟ أنّكم لاٰ تَرْجُونَ و لا تعتقدون لِلّٰهِ الخالق لجميع الأشياء وَقٰاراً و عظمة مقتضية لايمانكم به و خضوعكم له

وَ الحال أنّه قَدْ خَلَقَكُمْ بقدرته أَطْوٰاراً و تارات مختلفة، خلقكم أولا ترابا، ثمّ أغذية، ثمّ أخلاطا، ثمّ نطفا، ثمّ علقا، ثمّ مضغا، ثمّ عظاما، ثمّ لحوما، ثمّ أنشأكم خلقا آخر.

و قيل: خلقكم صبيانا ثمّ شبّانا، ثمّ كهولا، ثمّ شيوخا(4).

و قيل: خلقكم طوالا و قصارا، و أقوياء و ضعفاء، و مختلفين في الخلق و الخلق(5).

و عن القمي: مختلفين في الأهواء و الإرادات و المشيئات(4) و على أيّ تقدير كلّها دالّ على قدرة اللّه و حكمته و نهاية عظمته.

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّٰهُ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ طِبٰاقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ

ص: 341


1- . تفسير روح البيان 176:10.
2- . تفسير روح البيان 176:10.
3- . تفسير روح البيان 177:10. (4و5) . تفسير روح البيان 178:10.
4- . تفسير القمي 387:2، تفسير الصافي 231:5، و في النسخة: و المشتهيات، بدل: و المشيئات.

اَلشَّمْسَ سِرٰاجاً (16) وَ اللّٰهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبٰاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهٰا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرٰاجاً (18) وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسٰاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهٰا سُبُلاً فِجٰاجاً (20) قٰالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مٰالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاّٰ خَسٰاراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبّٰاراً (22) وَ قٰالُوا لاٰ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لاٰ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاٰ سُوٰاعاً وَ لاٰ يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لاٰ تَزِدِ الظّٰالِمِينَ إِلاّٰ ضَلاٰلاً (24) ثمّ بالغ نوح بعد الاستدلال على عظمة اللّه بدليل الأنفس في إثبات عظمة اللّه بدلائل الآفاقية بقوله:

أَ لَمْ تَرَوْا يا قوم، و لم تشاهدوا كَيْفَ خَلَقَ اللّٰهُ و أبدع بقدرته سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ عظيمة حال كونها طِبٰاقاً و قببا بعضها فوق بعض

وَ جَعَلَ الْقَمَرَ المنير فِيهِنَّ نُوراً لأهل الأرض في ظلمة الليل.

عن ابن عباس رضوان اللّه عليه: أنّ الشمس و القمر و النجوم وجوهها ممّا يلي السماء، و ظهورها مما يلي الأرض(1).

وَ جَعَلَ الشَّمْسَ التي في السماء الرابعة سِرٰاجاً لأهل الدنيا، يزيل بضيائها ظلمة الأرض، كما يبصر أهل البيت بنور السّراج ما يحتاجون إلى رؤيته

وَ اللّٰهُ أَنْبَتَكُمْ و أنشأكم مِنَ تراب اَلْأَرْضِ بواسطة إنشاء آدم منه، أو بواسطة الأغذية المتكوّنة من التراب و الماء نَبٰاتاً و إنشاء عجيبا، و إنّما عبّر عن الخلق بالإنبات لقوة دلالته على الحدوث

ثُمَّ بعد إنباتكم من الأرض يُعِيدُكُمْ فِيهٰا بالإقبار بعد الموت وَ يُخْرِجُكُمْ منها عند البعث و الحشر إِخْرٰاجاً محقّقا لا ريب فيه للمحاسبة و المجازاة على الأعمال

وَ اللّٰهُ العظيم القادر جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ البسيطة بِسٰاطاً و فراشا واسعا تتقلّبون عليها كتقلبكم على البسط

لِتَسْلُكُوا و تستطرقوا مِنْهٰا سُبُلاً و طرقا فِجٰاجاً و متّسعات تمشون فيها ذهابا و إيابا.

قٰالَ نُوحٌ بعد تلك المناجاة الطويلة و بيان كيفية دعوته: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي و أصرّوا على مخالفتي و معارضتي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مٰالُهُ إلاّ بطرا وَ وَلَدُهُ إلاّ غرورا، و ليس نتيجة ذلك البطر و الغرور إِلاّٰ خَسٰاراً و ضررا عظيما في الآخرة، فانّ الضعفاء رأوا أنّ اتّباعهم لجاههم و عزّهم بين الناس أولى و أنفع لهم من اتّباعي، و أمّا الرؤساء [فقد] احتالوا

وَ مَكَرُوا في الاخلال بأمر رسالتي مَكْراً كُبّٰاراً و احتيالا عظيما بأن حرّضوا أتباعهم على سبّي و ضربي و إيذائي

وَ قٰالُوا

ص: 342


1- . تفسير روح البيان 178:10.

لأتباعهم لاٰ تَذَرُنَّ و لا تتركنّ آلِهَتَكُمْ وَ لاٰ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاٰ سُوٰاعاً وَ لاٰ يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً و لا تدعنّ عبادتها.

قيل: إنّ تلك الأصنام دفنت في الطّوفان بساحل جدّه، فأخرجها الشيطان بعد الطّوفان، فوقع كلّ منها بيد قبيلة من العرب، فكان ودّ لكلب بدومة الجندل، و سواع لقبيلة همدان، و يغوث لمذحج، و يعوق لقبيلة مراد، و نسر لحمير(1).

و قيل: فنيت هؤلاء الأصنام بالطّوفان، ثمّ اتّخذت أمثالها و سمّوها بأسمائها و عبدوها(2).

و قيل: إنّ هذه الأسماء المذكورة في السورة كانوا أبناء آدم من صلبه، و كان يغوث أكبرهم، و هي أسماء سريانية، ثمّ وقعت تلك الأسماء إلى أهل الهند، فسمّوا بها أصنامهم التي زعموا أنّها على صور الدراري(3) السبعة، و كان الجنّ يكلّمهم من جوفها، ثمّ أدخلها عمرو بن لحي في أرض العرب(4).

قيل: كان ودّ على صورة رجل، و سواع على صورة امرأة، و يغوث على صورة أسد، و يعوق على صورة فرس، و نسر على صورة نسر، و هو طائر عظيم(5).

وَ قَدْ أَضَلُّوا اولئك الرؤساء أو الأصنام خلقا كَثِيراً.

وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لاٰ تَزِدِ الظّٰالِمِينَ إِلاّٰ ضَلاٰلاً (24) مِمّٰا خَطِيئٰاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نٰاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ أَنْصٰاراً (25) وَ قٰالَ نُوحٌ رَبِّ لاٰ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكٰافِرِينَ دَيّٰاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبٰادَكَ وَ لاٰ يَلِدُوا إِلاّٰ فٰاجِراً كَفّٰاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ وَ لاٰ تَزِدِ الظّٰالِمِينَ إِلاّٰ تَبٰاراً (28) ثمّ لمّا عدّ نوح قبائح أعمال القوم هاج غضبه و دعا عليهم بقوله: وَ لاٰ تَزِدِ يا ربّ الكفّار اَلظّٰالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك باختيارهم الشرك، و عليك بتضييع حقوقك إِلاّٰ ضَلاٰلاً و ضياعا و هلاكا، أو ضلالا في تمشية مكرهم و ترويج مصالح دنياهم، أو لمّا يئس من إيمانهم دعا عليهم بازدياد شقاوتهم لازدياد استحقاقهم العذاب، كما قال موسى عليه السّلام وَ اشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ (6).

ص: 343


1- . تفسير روح البيان 181:10.
2- . تفسير روح البيان 181:10.
3- . الدراري: الكواكب.
4- . تفسير روح البيان 181:10 و 182.
5- . تفسير روح البيان 182:10.
6- . يونس: 88/10.

ثمّ أخبر اللّه بسوء عاقبتهم بقوله:

مِمّٰا خَطِيئٰاتِهِمْ العظيمة، و من أجل فواحشهم الكثيرة في المدّة المتطاولة أُغْرِقُوا كلّهم بالطّوفان فَأُدْخِلُوا بمحض خروج الروح من أبدانهم نٰاراً سجّرها القهّار بغضبه في البرزخ قبل القيامة فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ حين ابتلائهم بالعذاب الدنيوي و الاخروي مِنْ دُونِ اللّٰهِ و ممّا سواه من الأصنام و الأوثان أَنْصٰاراً و أعوانا يدفعون العذاب عنهم بالقوة أو الشفاعة.

ثمّ عاد سبحانه إلى حكاية قول نوح بقوله:

وَ قٰالَ نُوحٌ بعد يأسه من إيمان قومه و اهتدائهم و تواصيهم بعدم ترك عبادة أصنامهم: رَبِّ لاٰ تَذَرْ و لا تدع عَلَى وجه اَلْأَرْضِ بسبب إنزال العذاب مِنَ الْكٰافِرِينَ بك و برسولك دَيّٰاراً و متحرّكا.

ثمّ بيّن نوح أنّ دعاءه عليهم ليس للتشفّي و هوى النفس، بل للغضب للّه بقوله:

إِنَّكَ يا رب إِنْ تَذَرْهُمْ و تبقيهم على وجه الأرض كلا أو بعضا يُضِلُّوا عِبٰادَكَ المؤمنين عن طريق التوحيد و القرب إليك، أو المراد يصدّوا عبادك عن الايمان بك، كما روي أن الرجل ينطلق بابنه إلى نوح و يقول له: احذر هذا الرجل، فانّه كذّاب، و إنّ أبي حذّرنيه و أوصاني بمثل ذلك(1).

وَ لاٰ يَلِدُوا من بعد إِلاّٰ فٰاجِراً و معاديا لدينك كَفّٰاراً و مصرا على الشرك و كفران نعمك.

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل ما كان علم نوح حين دعا على قومه أنّهم لا يلدوا إلاّ فاجرا كفّارا؟

فقال: «أ ما سمعت قول اللّه لنوح: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّٰ مَنْ قَدْ آمَنَ (2).

ثمّ دعا لنفسه و لأقاربه و للمؤمنين بقوله:

رَبِّ اغْفِرْ لِي خطاياي و زلاّتي وَ لِوٰالِدَيَّ ملك بن متوشلخ و شمخا بنت أنوش كانا مؤمنين وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قيل: يعني مسجدي(3). و قيل: يعني سفينتي(4) حال كونه مُؤْمِناً بك و موحّدا لك وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ عموما إلى آخر الدهر.

ثمّ عاد إلى الدعاء على الكفّار بقوله: وَ لاٰ تَزِدِ الظّٰالِمِينَ على أنفسهم باختيار الشرك إِلاّٰ تَبٰاراً و هلاكا و دمارا.

عن الصادق عليه السّلام: من كان يؤمن باللّه و يقرأ كتابه، لا يدع قراءة سورة إِنّٰا أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ فأيّ عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه اللّه مساكن الأبرار، و أعطاه ثلاث جنات مع جنّته كرامة من اللّه و زوّجه مأتي حوراء و أربعة آلاف ثيّب إن شاء اللّه»(3).

ص: 344


1- . تفسير روح البيان 184:10.
2- . تفسير القمي 232:2، تفسير الصافي 388:2، و الآية من سورة هود: 36/11. (3و4) . تفسير روح البيان 186:10.
3- . ثواب الأعمال: 120، مجمع البيان 540:10، تفسير الصافي 233:5.

في تفسير سورة الجن

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقٰالُوا إِنّٰا سَمِعْنٰا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّٰا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنٰا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعٰالىٰ جَدُّ رَبِّنٰا مَا اتَّخَذَ صٰاحِبَةً وَ لاٰ وَلَداً (3) وَ أَنَّهُ كٰانَ يَقُولُ سَفِيهُنٰا عَلَى اللّٰهِ شَطَطاً (4) وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللّٰهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كٰانَ رِجٰالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجٰالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزٰادُوهُمْ رَهَقاً (6) ثمّ لمّا ختمت سورة نوح المتضمّنة لبيان إشراك جميع أهل الأرض من الإنس في عصر نوح و إيذاءهم ايّاه و تمرّدهم عن الايمان باللّه و طاعته، فأهلكهم اللّه بالغرق في الطّوفان، نظمت سورة الجنّ المتضمّنة للإخبار بايمان كثير من الجنّ بالتوحيد، و انقيادهم لخاتم الأنبياء، و تصديقهم كتابه، و حكمهم بسفاهة المشركين، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ أمر رسوله بحكاية مقالة الجنّ في شأن التوحيد و عظمة القرآن بقوله:

قُلْ يا محمد لأهل مكّة المنكرين لصدق القرآن و التوحيد: إنّه قد أُوحِيَ إِلَيَّ من جانب ربّي و اطّلعت بإخبار اللّه تعالى أَنَّهُ اسْتَمَعَ القرآن حين تلاوته نَفَرٌ و جماعة مِنَ الْجِنِّ. روي أنّهم كانوا يهودا(1).

و قيل كانوا يهودا و نصارى و مجوسا و مشركين(2).

فَقٰالُوا لقومهم حين رجوعهم إليهم مع تمرّدهم و عدم مجانستهم للانس: يا قوم إِنّٰا سَمِعْنٰا من لسان رسول من الإنس قُرْآناً و كتابا متلوّا عَجَباً و بديعا مباينا لكلام البشر في الفصاحة و حسن النظم و علوّ المعنى

يَهْدِي ذلك القرآن و يدلّ جميع الخلق إِلَى الرُّشْدِ و دين الحقّ، أو إلى كلّ خير و صواب في امور الدين و الدنيا فَآمَنّٰا بِهِ بمحض استماعه، و صدّقنا أنّه كلام اللّه و كتابه، و أنّ من أتى به رسول اللّه وَ لَنْ نُشْرِكَ بعد اليوم بدلالة ذلك الكتاب المثبت للتوحيد

ص: 345


1- . تفسير الرازي 154:30.
2- . تفسير الرازي 154:30، و فيه: و مشركا.

بِرَبِّنٰا أَحَداً من خلقه و شيئا من مصنوعاته.

روي أنّه جاء رجل إلى عبد اللّه بن مسعود فقال له: كنّا في سفر، فاذا نحن بحيّة جريحة تتشحّط في دمها، فقطع رجل منّا قطعة من عمامته فلفّها فيها فدفنها، فلمّا أمسينا و نزلنا أتتنا امرأتان من أحسن نساء الجنّ فقالتا: أيّكم صاحب عمرو؟ و أي الحيّة التي دفنتموها. فأشرنا لهما إلى صاحبها، فقالتا:

إنّه كان آخر من بقي ممّن استمع القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان بين كافري الجن و مسلميهم قتال فقتل فيهم، فان كنتم أردتم به الدنيا ثوبناكم؟ فقلنا: لا، إنّما فعلنا ذلك للّه. فقالتا: أحسنتما و ذهبتا(1).

وَ أَنَّهُ تَعٰالىٰ و ارتفع جَدُّ رَبِّنٰا و عظمته، أو غناه مَا اتَّخَذَ و ما اختار لنفسه صٰاحِبَةً و زوجة وَ لاٰ وَلَداً ابنا كان أو بنتا لكمال تعاليه عن الحاجة، فانّ اتخاذ المصاحبة لا يكن إلاّ للحاجة إليهما، و لا يتّخذ الولد إلاّ لبقاء النسل و الاستعانة به، و هما ينافيان الغنى المطلق و وجوب الوجود

وَ أَنَّهُ كٰانَ يَقُولُ سَفِيهُنٰا و خفاف العقول منّا، كابليس و غيره من المردة جرأة عَلَى اللّٰهِ العظيم القهّار قولا شَطَطاً و بعيدا عن الحقّ، و متجاوزا عن حدّ العقل، و هو القول بأنّ الملائكة بنات اللّه أو عيسى أو العزير ابن اللّه، ثمّ اعتذروا عن اتّباعهم السفيه في القول بقولهم:

وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا و اعتقدنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ من عند أنفسهم عَلَى اللّٰهِ قولا كَذِباً أبدا، و لذا اتّبعناهم في القول بأنّ للّه ولدا، و لمّا سمعنا القرآن تبيّن لنا كذب هذا القول

وَ أَنَّهُ كٰانَ قبل ذلك رِجٰالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ و يلتجئون بِرِجٰالٍ مِنَ الْجِنِّ قيل كان الرجل من العرب إذا امسى في واد قفر في بعض مسائره، و خاف على نفسه يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، يريد الجنّ و كبيرهم، فيبيت في أمن و جوار حتى يصبح، فاذا سمعوا ذلك استكبروا و قالوا: سدنا الانس و الجنّ(2)فَزٰادُوهُمْ اولئك الإنس رَهَقاً و عتوا و سفها.

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول:

قل لشيطانك: فلان قد عاذ بك»(3).

و قيل: إن رجالا من الإنس يعوذون برجال من الجنّ خوفا من أن يغشاهم الجنّ، فزادت الجنّ في غشيانهم، بمعنى أنّ الجنّ لمّا رأوا أنّ الإنس يتعوّذون بهم و لا يتعوّذون باللّه، استذلّوهم و اجترءوا عليهم فزادوهم ظلما(4).

قيل: إنّ المعنى فزاد الجن العائذين غيا بان أضلّوهم حتى استعاذوا بهم، و إذا استعاذوا بهم فآمنوا

ص: 346


1- . تفسير روح البيان 189:10.
2- . تفسير روح البيان 191:10.
3- . تفسير القمي 389:2، تفسير الصافي 234:5.
4- . تفسير الرازي 156:3.

ظنّوا أنّ ذلك من الجنّ، فازدادوا رغبة في طاعة الشياطين و قبول وساوسهم(1).

روي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري أنّه قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، و ذلك أوّل ما ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله بمكّة، فاذا في المبيت أتى(2) راعي غنم، فلمّا انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم فقال الراعي يا عامر الوادي جارك. فنادى مناد لا نراه: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتدّ حتى دخل في الغنم و لم تصبه كدمة، فأنزل اللّه على رسوله بمكة: وَ أَنَّهُ كٰانَ رِجٰالٌ مِنَ الْإِنْسِ... (3) الى آخره.

و عن مقاتل: كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن، ثمّ من حنيفة، ثمّ فشا ذلك في العرب، فلمّا جاء الاسلام عاذوا باللّه و تركوهم(4).

وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّٰهُ أَحَداً (7) وَ أَنّٰا لَمَسْنَا السَّمٰاءَ فَوَجَدْنٰاهٰا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنّٰا كُنّٰا نَقْعُدُ مِنْهٰا مَقٰاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهٰاباً رَصَداً (9) ثمّ إنّ النفر من الجنّ بعد دعوتهم قومهم إلى التوحيد دعوهم إلى القول بالرسالة بقوله:

وَ أَنَّهُمْ يا قوم ظَنُّوا لجهالتهم كَمٰا ظَنَنْتُمْ لسفاهتكم أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّٰهُ من بعد موسى، أو بعد عيسى، أو مطلقا من أول الخلق أَحَداً بالرسالة ليقيم به الحجّة على خلقه، ثمّ علمنا أنّه تعالى بعث إلى الإنس محمدا بالرسالة فآمنوا به يا معشر الجنّ.

و قيل: إنّ المراد أنّ الانس ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه بعد الموت للحساب و المجازاة على الأعمال أحدا(5).

و قيل: إنّ الآيتين من كلام اللّه، و المعنى على ذلك القول: و إنّ الجن ظنّوا كما ظننتم يا كفّار قريش أن لن يبعث اللّه أحدا للرسالة، كما هو مذهب البراهمة(6).

ثمّ حكى النفر من الجنّ لقومهم الانقلاب الحاصل في السماء بقولهم:

وَ أَنّٰا لَمَسْنَا و طلبنا اَلسَّمٰاءَ و صعدنا إليها لاستماع ما تقول الملائكة من الإخبار بالحوادث، لنخبر بها الكهنة على دأبنا السابق فَوَجَدْنٰاهٰا مُلِئَتْ من الملائكة حال كونهم حَرَساً و حفظة شَدِيداً و قويا على دفعنا يمنعوننا عن القرب من السماء وَ وجدنا شُهُباً و شعلا من النار منقضّة من الكواكب

ص: 347


1- . تفسير روح البيان 191:10.
2- . في تفسير روح البيان: بمكة، فأدّاني المبيت إلى.
3- . تفسير روح البيان 191:10.
4- . تفسير روح البيان 192:10.
5- . تفسير روح البيان 192:10.
6- . تفسير الرازي 157:3.

تحرق من قرب من السماء

وَ أَنّٰا كُنّٰا قبل هذا اليوم نصعد إلى السماء و نَقْعُدُ مِنْهٰا بعد صعودنا إليهما مَقٰاعِدَ خالية من الملائكة الحفظة لِلسَّمْعِ و استراق الأخبار من الملائكة فَمَنْ يَسْتَمِعِ الأخبار منّا اَلْآنَ و في هذا الزمان في مقعد من المقاعد و مرصد من المراصد يَجِدْ لَهُ و يصيب لنفسه شِهٰاباً و شعلة نار تحرقه و ملكا يكون له رَصَداً و قاعدا في المكمن ليرجم بالشهاب.

و قيل: يعني شهابا راصدا له، فالرصد بمعنى الراصد، و توصيف الشهاب به من باب التنزيل و المشابهة(1).

عن عائشة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الملائكة تنزل في السّحاب، فتذكر الأمر الذي قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه(2) إلى الكهّان، فيكذّبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم»(3).

و عن الصادق عليه السّلام - في حديث - قال: «و أمّا أخبار السماء فانّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، و هي لا تحجب و لا ترجم بالنجوم، و إنما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء [فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن اللّه، لاثبات الحجة، و نفي الشبهة. و كان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء] ممّا يحدث من اللّه في خلقه، فيختطفها ثمّ يهبط بها إلى الأرض، فيقذفها إلى الكاهن، فاذا قد زاد كلمات من عنده، فيخلط الحقّ بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به فهو ما أبداه إليه شيطانه ممّا سمعه، و ما أخطأه فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة»(4).

و عن ابن عباس قال: كان الجنّ يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحى، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، أما الكلمة فانّها تكون حقّه، و أما الزيادات فتكون باطلة. فلمّا بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله منعوا مقاعدهم، و لم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك. فقال إبليس: ما هذا إلاّ لأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائما يصلّي(5) الخبر.

و عن ابي بن كعب: أنّه لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتّى بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرمى بها، [فرأت] قريش أمرا ما رأوه قبل ذلك(6).

أقول: لا يخفى أنّ الآيات الدالة على أنّ النجوم جعلت رجوما للشياطين، و إن كانت كثيرة، إلاّ أنه

ص: 348


1- . تفسير الرازي 157:30.
2- . في النسخة: فيوقيه.
3- . تفسير روح البيان 193:10.
4- . الاحتجاج: 339، تفسير الصافي 235:5. (5و6) . تفسير الرازي 158:30.

لا بدّ من حملها بالنظر إلى هذه الآية و الروايات على كونها مانعة من دخول الشياطين فيها لا من قربهم إليها بحيث يستمعون كلام الملائكة، و بعد ظهور النبي صلّى اللّه عليه و آله و بعثته منعوا بالشّهب من قربها.

و أمّا الاعتراض على الروايات بأنّ الشهب كامن(1) قديم الأيام، كما دلّ عليه تكلّم الفلاسفة فيها، و الأشعار التي حكيت من شعراء زمان الجاهلية.

فنقول: إنّ الشّهب التي كانت قبل البعثة فهي الحادثة من كرة النار، و الشهب التي كانت تنقضّ لمنع الشياطين كانت من النجوم، و مقتضى ذلك كثرة الشّهب بعد البعثة لزيادة الشّهب التي تحدث من النجوم على الشّهب التي كانت قبل، و لذا استوحشت قريش من رؤيتها.

وَ أَنّٰا لاٰ نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرٰادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَ أَنّٰا مِنَّا الصّٰالِحُونَ وَ مِنّٰا دُونَ ذٰلِكَ كُنّٰا طَرٰائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللّٰهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) ثمّ بعد حكاية النفر من الجنّ تغيير وضع السماء قالوا لقومه:

وَ أَنّٰا لاٰ نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ من ذلك التغيير بِمَنْ فِي الْأَرْضِ من الإنس و الجنّ أَمْ أَرٰادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً و خيرا و صلاحا.

قيل: إنّ المعنى لا ندري أنّ المقصود من إرسال محمد الذي منعنا عنده من استراق السمع أن تكذّبه امّته فيهلكوا(2) كما أهلك الامم المكذّبة قبله، أم اريد أن يؤمنوا فيهتدوا(3) و في نسبة الخير إلى اللّه دون الشرّ رعاية الأدب.

ثمّ حكوا اختلاف فرقهم بقولهم:

وَ أَنّٰا مِنَّا الأقوام اَلصّٰالِحُونَ و الراغبون إلى الايمان و الأعمال الخيرية وَ مِنّٰا قوم حالهم دُونَ ذٰلِكَ الحال، و أنقص من مرتبة الكمال، ففيهم المقتصد و الفاسق و الكافر و الطاغي كُنّٰا طَرٰائِقَ و ذوي مذاهب قِدَداً و مختلفة. و قيل: كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة (4)

وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا و تيقنا بالدليل القاطع و البرهان الساطع و التفكّر في الآيات أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللّٰهَ عن إنفاذ إرادته في شأننا أينما كنّا فِي وجه اَلْأَرْضِ و من أقطارها وَ لَنْ نُعْجِزَهُ و نفوته أبدا إن أراد بنا أمرا أن نهرب من الأرض إلى السماء أو البحار أو الجبال هَرَباً ينجينا من سطواته، فلا يمكننا الخروج من سلطانه و من تحت قدرته.

وَ أَنّٰا لَمّٰا سَمِعْنَا الْهُدىٰ آمَنّٰا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاٰ يَخٰافُ بَخْساً وَ لاٰ رَهَقاً (13)

ص: 349


1- . كذا، و الظاهر: كانت من.
2- . في النسخة: فهلكوا.
3- . تفسير الرازي 158:30، و فيه: فنهيدوا.
4- . تفسير الرازي 159:30.

وَ أَنّٰا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقٰاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقٰاسِطُونَ فَكٰانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَ أَنْ لَوِ اسْتَقٰامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنٰاهُمْ مٰاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذٰاباً صَعَداً (17) ثمّ أنّه بيّن النفر حالهم، لترغيب غيرهم إلى الايمان بقولهم:

وَ أَنّٰا لَمّٰا سَمِعْنَا القرآن الذي يكون اَلْهُدىٰ و الرشاد لأهل العالم آمَنّٰا بِهِ بمحض السماع، و صدّقنا أنّه كلام اللّه و كتابه الذي من عمل به نال سعادة الدارين فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ و بما أنزله من عنده فَلاٰ يَخٰافُ مثل هذا الشخص في الآخرة بَخْساً و نقصا في جزائه وَ لاٰ رَهَقاً و غشيان ظلم أو ذلّة أو عذاب

وَ أَنّٰا بعد استماع القرآن مِنَّا الْمُسْلِمُونَ و المستسلمون للدين الحقّ وَ مِنَّا الْقٰاسِطُونَ و الجائرون عن طريق الهدى و الايمان و الطاعة فَمَنْ أَسْلَمَ لأمر اللّه و سلّم أحكامه. و عن الباقر عليه السّلام: «أقرّ بولايتنا»(1)فَأُولٰئِكَ تَحَرَّوْا و طلبوا رَشَداً و هداية عظيمة إلى الصراط المستقيم و الطريق القويم الموصل إلى جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية.

وَ أَمَّا الْقٰاسِطُونَ و المنحرفون عن طريق الهدى و دين الحقّ فَكٰانُوا في الآخرة لِجَهَنَّمَ حَطَباً توقد بهم نارها كما توقد بأبدان كفرة الإنس.

ثمّ إنّه تعالى بعدها أوحى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من بيانات الجنّ و دعوتهم إلى الايمان بالقرآن، بيّن ما أوحى ذاته المقدسة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقٰامُوا و ثبتوا. قيل: إنّ التقدير قل يا محمد أوحي إليّ أنّ الشأن أنّ الجنّ و الانس لو استقاموا أو ثبتوا عَلَى الطَّرِيقَةِ المستقيمة و هي دين الاسلام (2)لَأَسْقَيْنٰاهُمْ و أشربناهم مٰاءً غَدَقاً و كثيرا غزيرا. قيل: هو كناية عن سعة العيش و كثرة المال (3)

لِنَفْتِنَهُمْ و نمتحنهم في ذلك الاسقاء أو التوسيع و نختبرهم فِيهِ كيف يشكرونه.

و عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآية قال: لأفدناهم(2) علما كثيرا يتعلّمونه عن الأئمّة»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «لو استقاموا على ولاية أمير المؤمنين على عليه السّلام و الأوصياء من ولده، و قبلوا طاعتهم في أمرهم و نهيهم، لاسقيناهم ماء غدقا، لأشربنا قلوبهم الإيمان»(4).

ص: 350


1- . تفسير القمي 389:2، تفسير الصافي 236:5، و فيها: الذين أقروا بولايتنا. (2و3) . تفسير روح البيان 196:10.
2- . في النسخة: لأخذنا.
3- . مجمع البيان 560:10، تفسير الصافي 236:5.
4- . الكافي 1/171:1، تفسير الصافي 236:5.

وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ و عبادته، أو موعظته، أو وحيه. و عن ابن عباس: عن ولاية علي عليه السّلام(1)يَسْلُكْهُ و يدخله عَذٰاباً صَعَداً و عال على طاقته و شاقّ عليه.

عن ابن عباس: أن صعدا اسم جبل في جهنّم، و هو صخرة ملساء، فيكلّف الكافر صعودها، ثمّ يجذب من أمامه بسلاسل، و يضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاه في أربعين سنة، فاذا بلغ أعلاه جذب إلى الأسفل، ثمّ يكلّف الصّعود مرة اخرى، فهذا دأبه أبدا، و نظير هذه الآية: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (2).

وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ فَلاٰ تَدْعُوا مَعَ اللّٰهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمّٰا قٰامَ عَبْدُ اللّٰهِ يَدْعُوهُ كٰادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ثمّ أخبر سبحانه بأنّه أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة إلى التوحيد في العبادة بقوله:

وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ و البيوت المبنية لإقامة الصلاة و إتيان العبادات فيها، أو جميع وجه الأرض، حيث قال صلّى اللّه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا»(3) ، أو الأعضاء التي يجب وضعها في حال السجود على الأرض من الوجه و اليدين و الركبتين و الابهامين، كما عن أمير المؤمنين و الصادق و الجواد عليهم السّلام(4) ، و عليه بعض مفسّري العامة(5). لِلّٰهِ خاصّة لا يشركه فيها غيره من الملائكة و المسيح و العزير و الأصنام فَلاٰ تَدْعُوا و لا تعبدوا أيّها الناس مَعَ اللّٰهِ العظيم المستحقّ للعبادة أَحَداً غيره، و عن الكاظم عليه السّلام في تأويل الآية: «أنّ المساجد الأوصياء»(6). و عن الرضا عليه السّلام: «هم الائمة عليهم السّلام»(7).

ثمّ حكى سبحانه تعجّب الجنّ و المشركين من عبادة الرسول بقوله:

وَ أَنَّهُ لَمّٰا قيل: إنّ المعنى و قد اوحي إليّ أن الشأن(8) لمّا قٰامَ النبي المفتخر بأنّه عَبْدُ اللّٰهِ في مقام العبودية لربّه حال كونه يَدْعُوهُ و يعبده في منظر المشركين كٰادُوا و قربوا يَكُونُونَ لتظاهرهم عَلَيْهِ و تعاونهم على عداوته لِبَداً و كمّا ليطفئوا نوره و يبطلوا عبادته.

و قيل: إنّ الآية ممّا اوحي إليه، و المعنى أنّه قد اوحي إليّ أنّه لمّا قام النبي صلّى اللّه عليه و آله يعبد اللّه بصلاة

ص: 351


1- . تفسير القمي 390:2، تفسير الصافي 236:5.
2- . تفسير الرازي 162:30، و الآية من سورة المدثر: 17/74.
3- . تفسير الرازي 162:30، تفسير روح البيان 197:10.
4- . من لا يحضره الفقيه 1627/381:2، تفسير العياشي 1269/47:2، الكافي 8/312:3، تفسير الصافي 237:5.
5- . تفسير الرازي 163:30، تفسير أبي السعود 46:9، تفسير روح البيان 198:10.
6- . الكافي 65/352:1، تفسير الصافي 237:5.
7- . تفسير القمي 390:2، تفسير الصافي 237:5.
8- . تفسير روح البيان 198:10.

الفجر، قرب الجنّ أن يكونوا عليه مزدحمين تعجّبا ممّا شاهدوا من كيفية عبادته و حسن قراءته و اقتداء أصحابه به قائما و راكعا و ساجدا، لرؤيتهم ما لم يروا مثله، و سماعهم ما لم يسمعوا شبيهه(1).

قُلْ إِنَّمٰا أَدْعُوا رَبِّي وَ لاٰ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لاٰ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاٰ رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّٰهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاّٰ بَلاٰغاً مِنَ اللّٰهِ وَ رِسٰالاٰتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً (23) ثمّ أمر سبحانه النبيّ بالإعلان بتوحيده و مخالفته لقريش بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين بغاية التجلّد إِنَّمٰا أَدْعُوا و أعبد رَبِّي المستحقّ للعبادة فقط وَ لاٰ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً من الملائكة و الإنس، فيكف بالأصنام التي هي جمادات؟ فلا موقع لتعجّبكم، أو إطباقكم على عداوتي.

روي أنّ كفّار قريش قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّك جئت بأمر عظيم، و قد عاديت الناس كلّهم، فارجع عن هذا، فنزلت الآية(2).

ثمّ أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بإعلانه للمشركين بأنّ الضرر و النفع و الضلال و الهداية كلّها بقدرة اللّه دون غيره بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين إِنِّي لاٰ أَمْلِكُ و لا استطيع لَكُمْ أيّها الناس ضَرًّا و لا نفعا و لا غيّا وَ لاٰ رَشَداً بل كلّها بيد اللّه وحده، فانّه المتصرّف في عالم الوجود دون غيره من الموجودات.

ثمّ قيل: إنّ المشركين قالوا له اترك ما تدعوا إليه و نحن نجيرك(3) و نحفظك من أعدائك، فأمره اللّه تعالى أن يجيبهم بقوله:

قُلْ يا محمد إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي و لن يحفظني مِنَ قهر اَللّٰهِ و سخطه و عذابه، أو ممّا أراد بي أَحَدٌ من خلقه إن أشركت به أو خالفت أمره بتبليغ الرسالة وَ لَنْ أَجِدَ في الدنيا و الآخرة مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه مُلْتَحَداً و ملجأ و مفرّا، و حاصل المفاد أنّي لا أملك لنفسي شيئا، فكيف أملك لكم و لغيركم أمرا؟

إِلاّٰ بَلاٰغاً و تبليغا كائنا مِنَ جانب اَللّٰهِ الذي أمرني به بأن أقول: قال اللّه كذا وَ تبليغ رِسٰالاٰتِهِ التي أرسلني بها بلا زيادة و نقصان.

و قيل: إنّ المراد من البلاغ تلقّي الوحي من اللّه تعالى، و من الرسالات تبليغه إلى الخلق(2).

ثمّ هدّد الناس على عصيانه بقوله: وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و لم يمتثل أمرهما بالتوحيد و غيره

ص: 352


1- . تفسير الرازي 163:30. (2و3) . تفسير الرازي 164:30.
2- . تفسير الطبري 76:29، مجمع البيان 562:10

من الواجبات فَإِنَّ لَهُ في الآخرة نٰارَ جَهَنَّمَ حال كونهم خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً.

حَتّٰى إِذٰا رَأَوْا مٰا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نٰاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ مٰا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عٰالِمُ الْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاّٰ مَنِ ارْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ وَ أَحٰاطَ بِمٰا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) ثمّ لمّا كان الكفّار يستضعفون أنصار النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يستقلّون عدد أصحابه، فكأنّه تعالى قال: لا يزال المشركون يستضعفون المؤمنين و يستقلّون عددهم

حَتّٰى إِذٰا ماتوا و رَأَوْا بعد الموت مٰا يُوعَدُونَ به من فنون العذاب فَسَيَعْلَمُونَ عند حلوله بهم مَنْ أَضْعَفُ نٰاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً هم أم محمد و أصحابه.

و قيل: إنّ المراد من مٰا يُوعَدُونَ عذاب يوم بدر(1).

ثمّ لمّا قال سبحانه: إِذٰا رَأَوْا مٰا يُوعَدُونَ قال المشركون: متى يكون هذا الوعد؟ فأمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله:

قُلْ يا محمد لهم إِنْ أَدْرِي و ما أعلم أَ قَرِيبٌ مٰا تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً و مدّة طويلة و أجلا بعيدا، فانّ اللّه لم يعيّن وقته لحكمة رآها في إخفائه، و هو تعالى

عٰالِمُ الْغَيْبِ و مطّلع على جميع الخفايا فَلاٰ يُظْهِرُ و لا يعلم عَلىٰ غَيْبِهِ و معلوماته الخفية أَحَداً من خلقه

إِلاّٰ مَنِ ارْتَضىٰ و أحبّ إعلامه بالمغيبات مِنْ رَسُولٍ.

عن الباقر عليه السّلام قال: «و كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله ممّن ارتضاه»(2).

و عن الرضا عليه السّلام: «فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند اللّه مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه اللّه على ما يشاء من غيبه، فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة»(3).

فَإِنَّهُ يَسْلُكُ قدّام الرسول المرتضى، و يقيم مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ يجعل مِنْ خَلْفِهِ و وراء ظهره و من جميع جوانبه عند إعلامه بالغيب رَصَداً و حرسا من الملائكة يحرسونه من الشياطين.

قيل: يعني إذا نزل جبرئيل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يسمع الجنّ الوحي، فيلقونه

ص: 353


1- . تفسير أبي السعود 47:9.
2- . الكافي 2/200:1، تفسير الصافي 238:5.
3- . الخرائج و الجرائح 6/343:1، تفسير الصافي 238:5.

إلى الكهنة، فتخبر به الكهنة قبل الرسول، فيختلط على الناس أمر الرسالة(1).

و قيل: يرسل اللّه ملائكته ليخفوه من وساوس الشياطين و تخاليطهم حتّى يبلّغ ما أوحى به إليه، و من زحمة شياطين الإنس حتّى لا يؤذونه(2).

قيل: ما بعث اللّه نبيا إلاّ و معه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك(3).

لِيَعْلَمَ اللّه أنّ الأنبياء أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا إلى الناس رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ خالية من الاختطاف و التخليط بعد ما أبلغها الرّصد إليهم كذلك وَ أَحٰاطَ اللّه تعالى بِمٰا عند الرّصد و الرّسل و لَدَيْهِمْ من الأحوال وَ أَحْصىٰ و علم كُلَّ شَيْءٍ ما كان و ما يكون و ما هو كائن عَدَداً حتّى القطر و الرمل، فكيف لا يحيط بما لديهم.

عن ابن عباس: أحصى ما خلق، و عرف عدد ما خلق، لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذرّ و الخردل(4).

عن الصادق عليه السّلام: «من أكثر قراءة قُلْ أُوحِيَ لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجنّ، و لا من نفثهم، و لا من سحرهم، و لا من كيدهم، و كان مع محمد صلّى اللّه عليه و آله فيقول: يا رب ما اريد منهم بدلا، و لا اريد أن أبتغي عنهم حولا»(5).

ص: 354


1- . تفسير روح البيان 202:10.
2- . تفسير الرازي 169:30.
3- . تفسير الرازي 169:30.
4- . تفسير روح البيان 203:10.
5- . ثواب الأعمال: 120، مجمع البيان 550:10، تفسير الصافي 239:5.

في تفسير سورة المزمّل

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاّٰ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) ثمّ لمّا ختمت سورة الجنّ المتضمّنة لتعظيم القرآن، و بيان تعجّب الجنّ منه، و اشتياقهم إليه، و إيمانهم به، و تهديد مكذّبيه، و بيان بعض حوادث أوّل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، نظمت سورة المزّمّل المتضمنة لبيان عظمة القرآن، و أمر الرسول بتلاوته و ترتيله، و تهديد مكذّبي الرسول و كتابه، و بيان حال النبي صلّى اللّه عليه و آله في أوائل نزول الوحي إليه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بخطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله بصفة كانت له في أوّل نزول الوحي إليه تلطّفا و إيناسا، كما هو دأب العرب بقوله:

يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ و المتلفّف بثيابه.

عن ابن عباس: أول ما جاء جبرئيل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله خافه، و ظنّ أنّ به مسّا من الجنّ، فرجع من جبل حراء إلى بيت خديجة مرتعدا، و قال: زمّليني، فبينما هو كذلك إذ جاء جبرئيل و ناداه: يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1).

أقول: ما قاله ابن عباس ينافي الأخبار الواصلة في بيان كيفية أول نزول جبرئيل، و كون سورة (اقرأ) أول ما نزل.

و قيل: إنّه كان نائما متزمّلا بقطيفة، فناداه جبرئيل بما يهجّن تلك الحالة، و المعنى: يا أيّها النائم المتزمّل بثوبه، قم و اشتغل بالعبادة(2).

و قيل: إنّه كان متزمّلا في مرط لخديجة مستأنسا بها فقيل له: يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *

قُمِ اللَّيْلَ و اترك حظّ نفسك و اشتغل بالعبادة (3)إِلاّٰ مقدارا قَلِيلاً منه، أعني

نِصْفَهُ فانّ النصف قليل بالنسبة

ص: 355


1- . تفسير الرازي 171:30.
2- . تفسير الرازي 171:30.
3- . تفسير الرازي 171:30.

إلى الكلّ.

و قيل: إنّ تقليل مقدار نومه صلّى اللّه عليه و آله مع كونه نصفا لاظهار كمال الاعتناء بشأن الجزء المقارن للقيام و الإيذان بفضله، و كون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب(1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «القليل النصف»(2).

أَوِ انْقُصْ القيام مِنْهُ مقدارا قَلِيلاً بحيث لا يصل إلى الثّلث على ما قيل (3)

أَوْ زِدْ القيام عَلَيْهِ إلى الثلثين، و الحاصل تخييره في القيام للعبادة بين نصف الليل أو أقلّ منه أو أكثر.

و قيل: إنّ المراد من القليل الذي ينقص و يزاد نصف النصف، فيكون الواجب عليه من القيام للعبادة ربع الليل، و الزائد نفل و مندوب(4).

وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ و اقرأه في أثناء قيامك في الليل على تؤدة و تبيين حروف تَرْتِيلاً بليغا.

و عن ابن مسعود: لا تعجلوا في القرآن، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة(5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين: بيّنه بيانا، و لا تهذّه هذّ الشعر و تنثره نثر الرمل، و لكن أفزعوا قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة»(6).

قيل: إنّ الترتيل في القرآن قراءته بنحو يتمكّن القارئ من التأمّل في حقائقه و دقائقه، فعند الوصول إلى ذكر اللّه يستشعر قلبه عظمته و جلاله، و عند الوصول إلى الوعد و الوعيد يحصل الرجاء و الخوف، و حينئذ يتنوّر القلب بنور المعرفة(7) و اليقين، و تستعدّ النفس لإشراق جلال اللّه و الانكشاف الأتمّ الأعظم، فكأنّه تعالى قال: إنّما أمرتك بالقيام في الليل بالصلاة و العبادة و ترتيل القرآن، ليزيد استعداد نفسك لتلقّي و حينا.

إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ و البتة نوحي إليك قَوْلاً ثَقِيلاً و كلاّ عظيم القدر و الشأن و جليل الخطر، كما عن ابن عباس(8).

و قيل: إنّ المراد قرآنا متضمّنا للأوامر و النواهي التي هي تكاليف شاقّة على العامة و عليك خاصة، لأنّك تتحمّلها بنفسك و بتبليغها إلى امّتك(9).

و قيل: إنّ المراد ثقل نزوله على الرسول (10).

ص: 356


1- . تفسير روح البيان 204:10.
2- . مجمع البيان 568:10، تفسير الصافي 240:5.
3- . تفسير الرازي 173:30.
4- . تفسير الرازي 173:30.
5- . تفسير روح البيان 205:10.
6- . الكافي 1/449:2، تفسير الصافي 240:5.
7- . تفسير الرازي 174:30. (8-9) . تفسير الرازي 174:30.

قيل: كان يرفضّ(1) عرقا في اليوم الشديد البرد حين نزوله، كما عن عائشة(2).

و عن ابن عباس: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه و تربّد وجهه(3).

و روي أنّ الوحي نزل عليه و هو على ناقته، فثقل عليها حتى وضعت جرانها(4) ، فلم يستطع أن تتحرّك(5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لقد نزلت عليه سورة المائدة و هو على بغلته الشّهباء(6) و ثقل عليه الوحي حتّى وقفت و تدلّى بطنها حتى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض»(7).

و قيل: يعني ثقيلا في الميزان لكثرة ثواب تلاوته و العمل به(8) ، أو ثقيلا على المنافقين حيث إنّه يهتك أسرارهم و يبطل أديانهم و أقوالهم(9). أو ثقيلا على العقل لأنّه لا يفي بإدراك فوائده و دقائقه و رقائقه(10).

إِنَّ نٰاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهٰارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) ثمّ بيّن سبحانه حكمة أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقيام الليل و العبادة فيها بقوله:

إِنَّ نٰاشِئَةَ اللَّيْلِ و النهضة فيه، أو العبادة فيه هِيَ خاصة أَشَدُّ وَطْئاً أو أكثر كلفة و مشقّة على النفس من التي تؤتى بالنهار، فتكون أفضل، لأنّ أفضل العبادة أشقّها، أو أوفق بالخلوص و الخشوع، أو المراد أنّ النفس الناهضة بالليل للعبادة أشدّ ثباتا و أكثر استقامة وَ أَقْوَمُ قِيلاً و أحسن كلاما، كما عن ابن عباس(9) ، أو أخلص قولا لأن الأصوات تهدأ فيه و الحركات تنقطع فيه.

عن الصادق عليه السّلام في الآية: إِنَّ نٰاشِئَةَ اللَّيْلِ قال: «قام قيام الرجل عن فراشه يريد به اللّه عز و جلّ لا يريد به غيره»(10).

ص: 357


1- . ارفضّ العرق: سال و ترشّش.
2- . تفسير الرازي 174:30.
3- . تفسير الرازي 174:30.
4- . الجران: باطن عنق البعير.
5- . تفسير الرازي 174:30.
6- . في النسخة، و تفسير الصافي: بغلة شهباء.
7- . تفسير العياشي 1161/3:2، تفسير الصافي 240:5.
8- . تفسير الرازي 174:30، تفسير الطبرى 80:29، مجمع البيان 570:10. (9و10) . تفسير الرازي 175:30.
9- . تفسير الرازي 176:30.
10- . من لا يحضره الفقيه 1367/299:1، التهذيب 1385/336:2، تفسير الصافي 241:5.

إِنَّ لَكَ يا محمد فِي النَّهٰارِ سَبْحاً و تقلّبا(1) و تصرّفا أو فراغا طَوِيلاً لحاجتك و نومك، فعليك بالقيام للعبادة في الليل.

ثمّ بيّن سبحانه ما ينبغي للعبد بعد تلاوة القرآن الاشتغال به بقوله:

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بالقلب بذكر نعمائه و كمال قدرته و حكمته و ألطافه، و باللسان بالتهليل و التحميد و التسبيح و التكبير وَ تَبَتَّلْ و انقطع من الدنيا و ما فيها، بل عن غيره تعالى إِلَيْهِ وحده تَبْتِيلاً و انقطاعا تاما، لا تسأل غيره في حاجة، و لا تتوجّه في آن إلى ما سواه.

ثمّ مدح سبحانه ذاته المقدسة بمدح يوجب العقل الانقطاع إليه بقوله:

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ و ما بينهما لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ و لا معبود سواه، فاذا عرفت ربّك بهذه العظمة و القدرة الكاملة فَاتَّخِذْهُ و اختره لنفسك وَكِيلاً و مدبّرا لجميع امورك، و مفوّضا إليه جميع مقاصدك، و كفيلا بما وعدك من النصر و الغلبة على أعدائك.

وَ اصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنٰا أَنْكٰالاً وَ جَحِيماً (12) وَ طَعٰاماً ذٰا غُصَّةٍ وَ عَذٰاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبٰالُ وَ كٰانَتِ الْجِبٰالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) ثمّ سلّى سبحانه حبيبه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ اصْبِرْ حبيبي بعد ما اتخذتني وكيلا عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ هؤلاء المشركون فيك، و فوّض أمرهم إليّ، و لا تشغل قلبك باصلاح امورك الراجعة إليهم وَ اهْجُرْهُمْ و اترك مخالطتهم، و اصرف قلبك عن التفكّر في أمرهم هَجْراً جَمِيلاً مقرونا بالمداراة و الكفّ عن المكافاة

وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ الذين هم أُولِي النَّعْمَةِ و التّرفّه و الرئاسة و التكبّر، و حل بيني و بينهم، فانّي اكافي ما أهمّك من مجازاتهم وَ لكن مَهِّلْهُمْ و أخّر سؤال تعذيبهم زمانا قَلِيلاً و هو الزمان الباقي إلى يوم بدر، أو الباقي من عمرهم في الدنيا.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث يذكر فيه المنافقين - قال: «و ما زال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتألّفهم و يقرّبهم و يجلسهم عن يمينه و شماله حتى أذن اللّه عزّ و جلّ في إبعادهم بقوله: وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً» (2).

أقول: لا ينافي ذلك العموم لجميع المكذّبين.

ثمّ بيّن سبحانه ما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة بقوله:

إِنَّ لَدَيْنٰا أَنْكٰالاً و قيودا ثقالا لأرجلهم

ص: 358


1- . في النسخة: و تفليا.
2- . الاحتجاج: 253، تفسير الصافي 242:5.

وَ جَحِيماً و نارا عظيمة شديدة الحرّ في مهواة

وَ طَعٰاماً و مأكولا ذٰا غُصَّةٍ و أخذ بالحلق، لا هو نازل منه و لا خارج، كالزّقّوم و الضّريع وَ عَذٰاباً أَلِيماً غير ذلك لا يوصف بالبيان.

روي أنّه لمّا نزلت الآية خرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله مغشيّا عليه(1).

ثمّ عيّن سبحانه وقت النّكال و العذاب بقوله:

يَوْمَ تَرْجُفُ و تولول اَلْأَرْضُ وَ الْجِبٰالُ التي هي أوتادها، و تضطربان بهيبة اللّه وَ كٰانَتِ الْجِبٰالُ كلّها مع غاية صلابتها كَثِيباً و تلا من رمل مَهِيلاً و سائلا من كثرة تفتيتها.

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شٰاهِداً عَلَيْكُمْ كَمٰا أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنٰاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدٰانَ شِيباً (17) اَلسَّمٰاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كٰانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً (19) ثمّ هدّد سبحانه المشركين على تكذيبهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا إِلَيْكُمْ أيّها المشركون رَسُولاً عظيم الشأن، ليكون شٰاهِداً يشهد عَلَيْكُمْ يوم القيامة بما صدر منكم من الايمان و الكفر و الطاعة و العصيان كَمٰا أَرْسَلْنٰا في مصر إِلىٰ فِرْعَوْنَ سلطان مصر رَسُولاً عظيم الشأن، و هو موسى بن عمران

فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ ذلك اَلرَّسُولَ و كذّبه و عارضه فَأَخَذْنٰاهُ بسبب عصيانه أَخْذاً وَبِيلاً و عذّبناه عذابا شديدا، فاحذروا أيّها المشركون من أن ينزل عليكم بتكذيبكم رسولكم مثل ما نزل بهم، هبوا أنّكم لا تؤخذون بعصيانكم في الدنيا مثل أخذ فرعون

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ و تحفظون أنفسكم إِنْ كَفَرْتُمْ في بقية عمركم و دمتم على عصيانكم يَوْماً يَجْعَلُ من شدّة أهواله و عظمة ما فيه من العذاب اَلْوِلْدٰانَ و الأطفال الصغار شِيباً و شيوخا بيض الشعور.

قيل: هو مثل لشدّة الغموم و الهموم؛ لأنّ لازمها انطفاء الحرارة الغريزية و استيلاء البلغم على الاخلاط و ابيضاض الشعر(2).

و قيل: هو كناية عن طول المدّة و اليوم(3).

ثمّ بالغ سبحانه في بيان أهوال اليوم بقوله: و

اَلسَّمٰاءُ مع غاية عظمها و غلظتها مُنْفَطِرٌ بسبب

ص: 359


1- . تفسير روح البيان 214:10.
2- . تفسير الرازي 184:30.
3- . تفسير روح البيان 217:10.

هول ذلك اليوم، و منشقّ بِهِ فكيف بغيرها من الخلائق، و اعلموا أنّ هذا اليوم الشديد الأهوال ممّا وعده اللّه و كٰانَ وَعْدُهُ لا محالة مَفْعُولاً و منجزا و متحقّقا لامتناع الخلف فيه، فليس للعاقل أن يرتاب في وقوعه

إِنَّ هٰذِهِ المذكورات من الأنكال و ما بعده تَذْكِرَةٌ و عظة لمن شاء أن يذّكّر و يتّعظ فَمَنْ شٰاءَ من العقلاء النجاة من الأهوال و العذاب، و النيل بالراحة الأبدية و عظم الثواب اِتَّخَذَ و حصّل إِلىٰ قرب رَبِّهِ و مرضاته سَبِيلاً موصلا له إلى مطلوبه، و هو الايمان بوحدانية اللّه تبارك و تعالى و رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و طاعتهما.

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طٰائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللّٰهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضىٰ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ آخَرُونَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) ثمّ إنّه روي أنّ اللّه تعالى لمّا فرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في أوّل السورة قيام الليل قاموا حولا كاملا مع مشقّة عظيمة، من جهة أنّه كان يعسر عليهم تمييز القدر الواجب، حتّى قام أكثرهم الليل كلّه خوفا من الخطأ في إصابة القدر المفروض، و صاروا بحيث انتفخت أقدامهم، و اصفرّت ألوانهم، فأنزل اللّه تبارك و تعالى التخفيف(1) بقوله:

إِنَّ رَبَّكَ يا محمد يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ من نومك و مضجعك للعبادة أَدْنىٰ و أقلّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ تقوم نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ امتثالا للأمر وَ طٰائِفَةٌ مِنَ أصحابك اَلَّذِينَ مَعَكَ يقومون مثل قيامك اتّباعا لك، و أنتم لا تتمكّنون من تقدير ساعات الليل و العلم بها وَ اللّٰهُ وحده يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ و يعلم مقدار ساعاتهما و عَلِمَ أَنْ الشأن أنّكم لَنْ تُحْصُوهُ و لا تعلمونه أبدا.

عن الباقر عليه السّلام قال: «يقولون متى يكون النصف و الثلث»(2).

فَتٰابَ اللّه و رجع بالترحّم عَلَيْكُمْ بأن رخّص لكم ترك القيام المقدّر، و رفع التّبعة على تركه، إذن فَاقْرَؤُا أيّها المؤمنون مٰا تَيَسَّرَ و سهل عليكم مِنَ الْقُرْآنِ في أيّ وقت من الليل. قيل:

ص: 360


1- . تفسير روح البيان 218:10.
2- . تفسير القمي 392:2، تفسير الصافي 243:5.

يقرأ مائة آية، فانّ من قرأها كتب من القانتين. و قيل: خمسون. و قيل: سورة، و لو كانت قصيرة(1). و قيل:

إنّ المراد بقراءة القرآن الصلاة لاطلاق اسم(2) الجزء على الكلّ(3).

عن ابن عباس: سقط عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قيام الليل، و صارت تطوّعا، و بقي ذلك فرضا على النبي صلّى اللّه عليه و آله(4).

ثمّ ذكر سبحانه حكمة اخرى للنسخ بقوله: عَلِمَ اللّه أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ لا محالة مَرْضىٰ يعسر عليهم القيام بالليل وَ أشخاص آخَرُونَ غير المرضى يَضْرِبُونَ و يسافرون فِي أقطار اَلْأَرْضِ للتجارة أو طلب العلم أو غيرهما يَبْتَغُونَ و يطلبون بمسافرتهم شيئا مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ من ربح أو علم أو معرفة وَ أشخاص آخَرُونَ غير الطائفتين يُقٰاتِلُونَ الأعداء، و يجاهدون فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و لطلب رضاه، فاذا كان الأمر كذلك فَاقْرَؤُا أيّها المؤمنون بالقرآن مٰا تَيَسَّرَ لكم و سهل عليكم مِنْهُ بلا تحمّل مشقة وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ المفروضة بالليل و النهار وَ آتُوا الزَّكٰاةَ الواجبة. قيل: هي الفطرة إن كانت الآية مكية، و المالية إن كانت مدنية(5).

وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ من أموالكم بالانفاقات المستحبّة قَرْضاً حَسَناً و هو إخراجها من أطيب الأموال و أنفعها للفقراء بخلوص النية، و في التعبير بالقرض غاية الحثّ عليه من حيث تنزيل ذاته المقدسة مع غنائه المطلق منزلة المحتاج، و الإشعار بعوده إليه مع زيادة.

ثمّ حثّ سبحانه على جميع العبادات بدنية كانت أو مالية بقوله تبارك و تعالى: وَ مٰا تُقَدِّمُوا من دنياكم إلى الآخرة نفعا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ من الخيرات و عمل من الأعمال الصالحات، أيّ خير و عمل كان تَجِدُوهُ بعد الموت عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْراً قيل: إنّ الضمير المنفصل مؤكّد للضمير المتّصل، و المعنى تجدوه خيرا(6).

وَ أَعْظَمَ أَجْراً من الوصية به حين الموت، أو من الدنيا و ما فيها وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَ من ذنوبكم في جميع أوقاتكم إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ و ستار للذنوب رَحِيمٌ بعباده بإعطائهم الثواب العظيم.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة المزمّل في العشاء الآخرة أو في آخر الليل كان له الليل و النهار شاهدين مع سورة المزمّل، و أحياه اللّه حياة طيبة، و أماته ميتة طيبة»(7).

الحمد للّه تعالى و الشكر له.

ص: 361


1- . تفسير الرازي 187:30.
2- . في النسخة: لاطلاقا لاسم.
3- . تفسير الرازي 186:30 و 187.
4- . تفسير الرازي 187:30.
5- . تفسير الرازي 187:30، تفسير روح البيان 221:10.
6- . تفسير الصافي 244:5.
7- . ثواب الأعمال: 120، مجمع البيان 565:10، تفسير الصافي 244:5.

ص: 362

في تفسير سورة المدّثّر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لاٰ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) ثمّ لمّا ختمت سورة المزمّل المبدوءة بخطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله باللّقب الدالّ على التلطّف و الرحمة، و المتضمّنة للأمر بتلاوة القرآن و تعظيمه و تهديد مكذّبيه، و أمره بالصبر على تكذيبهم و إيذائهم، اردفت بسورة المدّثر المبدوءة بخطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله باللقب المشابه للقب المذكور في السورة السابقة، و أمره بإنذار قومه و صبره على أذاهم، و تهديد بعض المكذّبين، فافتتحها بالأسماء الحسنى بقوله:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ خاطب نبيّه الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بقوله تعالى:

يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ و اللابس لثوب يلبس فوق الثياب للنوم أو الاستدثار(1) أو اللابس للباس النبوة. قيل: إنّ السورة من أوائل ما نزل(2). روي عن جابر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «كنت على جبل حراء فنوديت: يا محمد إنّك رسول اللّه، فنظرت عن يميني و يساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء و الأرض، فخفت فرجعت إلى خديجة، فقلت: دثّروني دثّروني و صبّوا عليّ ماء باردا، فنزل جبرئيل بقوله: يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» (3).

و قيل: اجتمع أبو جهل و أبو لهب و أبو سفيان و الوليد بن المغيرة و النّضر بن الحارث و امية بن خلف و العاص بن وائل، و قالوا: إنّ وفود العرب يجتمعون أيّام الحجّ و يسألوننا عن أمر محمد، فان اجاب كلّ منا بجواب غير جواب الآخرين، كأن يقول بعضنا: إنّه كاهن، و يقول آخر: إنّه شاعر، و يقول ثالث:

إنّه مجنون، فباختلاف الأجوبة يستدلّون على بطلانها، فتعالوا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد، فقال واحد: إنّه شاعر. فقال الوليد: سمعت كلام عبيد بن الأبرص و امية بن أبي الصلت و ما يشبه

ص: 363


1- . في النسخة: الاستدفار.
2- . تفسير الرازي 189:30، تفسير البيضاوي 541:2، تفسير أبي السعود 54:9.
3- . تفسير الرازي 189:30، تفسير أب السعود 54:9، تفسير روح البيان 223:10.

كلامه كلامهما. و قال آخر إنّه كاهن، قال الوليد: من الكاهن؟ قالوا: الذي يصدق تارة و يكذب اخرى.

قال الوليد: ما كذب محمد قطّ. قال آخر: إنّه مجنون. فقال الوليد: من المجنون؟ قالوا: مخيف الناس.

فقال الوليد: ما اخيف محمد قطّ. ثمّ قام الوليد و انصرف إلى بيته. فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل، فقال: مالك يا أبا عبد شمس؟ هذه قريش تجمع لك شيئا، زعموا أنّك احتجت و صبأت. فقال الوليد: ما لي إلى حاجة، و لكنّي فكّرت في محمد فقلت: إنّه ساحر، لأنّ الساحر هو الذي يفرّق بين الأب و ابنه، و الأخوين، و بين المرأة و زوجها. ثمّ إنهم اجتمعوا على تلقيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله بهذا اللقب، و خرجوا فصرخوا بمكة و الناس مجتمعون فقالوا: إنّ محمدا ساحر، فلمّا سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشتدّ عليه و رجع إلى بيته محزونا، فتدثّر بثوبه، فأنزل اللّه يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1).

و قيل: إنّه كان نائما متدثّرا بثيابه، فجاءه جبرئيل و أيقظه، و قال: يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كأنّه قال له: قم و اترك التدثّر بالثياب و النوم، و اشتغل بشغل النبوة التي أعطاكها اللّه(2).

و قيل: إنّ التدثّر كناية عن الاختفاء، فكأنّه تعالى قال: أيّها المختفي عن الناس في جبل حراء، المتدثّر بدثار الخمول و الاختفاء، قم بأمر الرسالة، و اخرج من زاوية الخمول، و أنذر الناس، و اشتغل بالدعوة إلى معرفة اللّه(3).

و على أيّ تقدير أمره اللّه سبحانه بقوله:

قُمْ من مضجعك على الأول، أو قم قيام عزم و تصميم على الوجوه الأخر فَأَنْذِرْ الناس و خوّفهم من عذاب اللّه على الشرك و العصيان. عن ابن عباس، قال: قم نذيرا للبشر(4).

وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ و عظّم من أن يكون له شريك، أو ممّا يقوله عبدة الأوثان، أو فاذكره بالكبرياء، و قل: اللّه أكبر.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قام النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: اللّه أكبر كبيرا، فكبّرت خديجة و فرحت و علمت أنّه اوحي إليه(3).

و روى أنّه لمّا نزلت كبّر و أيقن أنّه الوحي، لأنّ الشيطان لا يأمر بذلك(4).

قيل: إنّ حرف الفاء زائدة(5). و قيل: إنّه لإفادة الشرط، و التقدير: و أيّ شيء كان فلا تدع تكبيره(6).

ص: 364


1- . تفسير الرازي 189:30.
2- . تفسير الرازي 190:30. (3و4) . تفسير الرازي 190:30.
3- . تفسير الرازي 191:30، تفسير أبي السعود 54:9، تفسير روح البيان 225:10.
4- . تفسير روح البيان 225:10.
5- . تفسير الرازي 191:30.
6- . تفسير أبي السعود 54:9، تفسير روح البيان 225:10.

وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ من الأقذار بتشميرها، كما عن الصادق عليه السّلام(1).

و عنه، عن أمير المؤمنين صلّى اللّه عليه و آله، قال: «غسل الثياب يذهب الهمّ و الحزن، و طهور للصلاة، و تشمير الثياب طهورها، و قد قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ أي فشمّر»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «معناه: و ثيابك فقصّر»(3).

قيل: إنّ العرب كانوا يطيلون ثيابهم، و يجرّون أذيالهم خيلاء أو كبرا، فكانت تتنجّس، فنهى الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك(4).

و روي أنّ المشركين ألقوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سلى شاة، فشقّ عليه، و رجع إلى بيته حزينا، و تدثّر بثيابه، فقيل: يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ و لا تمنعك تلك السفاهة عن الانذار وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ من أن لا ينتقم منهم وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ عن تلك النجاسات و القاذورات(5).

و قيل: تطهير الثوب كناية عن تطهير الأخلاق و تحسينها(6). و المراد لا تحملك سفاهتهم على ترك الإنذار، بل حسّن خلقك، و اصبر على أذاهم و لا تجزع.

وَ الرُّجْزَ قيل: هو الشيطان(7). و قيل: هو العذاب(8). و قيل: كلّ عمل قبيح موجب للعذاب(9). و قيل:

كلّ مستقذر و رجس(10). و قيل: هو الأوثان(9).

فَاهْجُرْ و ارفض و لا تقربه

وَ لاٰ تَمْنُنْ على أحد بإعطاء من مالك شيئا حال كونك تَسْتَكْثِرُ و تطلب زيادة مالك بعوض ما أعطيت، بل كلّما تعطي شيئا لا تطمع أن يعوّضك ممّا أعطيت أكثر منه، فانّه لا يليق بمقامك الرفيع و منصبك العظيم، لأنّ الطمع في مال الناس من أخلاق طلاّب الدنيا.

و عن الباقر عليه السّلام: «لا تعط العطية تلتمس أكثر منها»(10).

و قيل: يعني لا تعط شيئا و أنت تستكثره، بل عليك أن تستحقره و تستقلّه، و تكون كالمعتذر من قلّته(11).

و قيل: إنّ المراد لا تمنن على الناس بما تعلّمهم من امور دينهم، كمن يستكثر ذلك الإنعام، فانّك

ص: 365


1- . الكافي 1/455:6، تفسير الصافي 245:5.
2- . مجمع البيان 581:10، تفسير الصافي 246:5.
3- . مجمع البيان 581:10، تفسير الصافي 245:5.
4- . تفسير الرازي 192:30.
5- . تفسير الرازي 191:30.
6- . تفسير روح البيان 225:10.
7- . تفسير الرازي 193:30.
8- . تفسير الرازي 193:30، تفسير روح البيان 226:10. (9و10) . تفسير الرازي 193:30.
9- . تفسير الرازي 193:30، تفسير روح البيان 226:10.
10- . تفسير القمي 393:2، عن أبي الجارود، تفسير الصافي 246:5.
11- . تفسير الرازي 195:30.

كنت مأمورا بالتبليغ فلا منّة لك عليهم(1).

و قيل: يعني لا تمنن بنبوتك عليهم، لتستكثر و تأخذ منهم أجرا(2).

و قيل: يعني لا تمنن على ربّك بهذه الأعمال الشاقة التي امرت بها في السورة، لكونها في نظرك كثيرا(3).

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «لا تستكثر ما عملت من خير للّه تعالى»(4).

وَ لِرَبِّكَ المنّان عليك بالنّعم العظام فَاصْبِرْ على مشاقّ تكاليفه و أذى المشركين، لا الاغراض النفسانية و الدنيوية كالمال و الجاه.

فَإِذٰا نُقِرَ فِي النّٰاقُورِ (5) فَذٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكٰافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَ جَعَلْتُ لَهُ مٰالاً مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاّٰ إِنَّهُ كٰانَ لِآيٰاتِنٰا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) ثمّ إنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصبر، سلّى قلبه الشريف بتهديد الكفّار و معانديه بقوله تعالى:

فَإِذٰا نُقِرَ و نفخ فِي النّٰاقُورِ و الصّور النفخة الثانية للإحياء و النشور

فَذٰلِكَ اليوم الذي بين أيديهم يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ و شاقّ في الغاية. و قيل: يعني فذلك النّقر يومئذ نقر يوم عسير(6).

عَلَى الْكٰافِرِينَ لابتلائهم بالأهوال الفظيعة و الشدائد العظيمة.

ثمّ أكّد سبحانه عسره بقوله: غَيْرُ يَسِيرٍ لهم بوجه من الوجوه. عن ابن عباس: لمّا قال غير يسير على الكافرين فهم أنّه كان يسيرا على المؤمنين(7).

ثمّ خصّ سبحانه التهديد بأشقى المكذّبين للنبي صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، و هو الوليد بن المغيرة بقوله تعالى:

ذَرْنِي يا محمد، و دعني و الوليد وَ هو مَنْ خَلَقْتُ حال كونه وَحِيداً لا مال له و لا ولد و لا أعوان، فانّي أكفيكه و اجازيه و أنتقم لك منه.

و قيل: إنّ المراد خلقته حال كوني وحيدا في خلقه لا يشاركني فيه غيري(8).

و قيل: إنّ الوحيد لقب الوليد، و كان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي و لا لأبي نظير(8). و المعنى:

ص: 366


1- . تفسير الرازي 194:30.
2- . تفسير الرازي 194:30.
3- . تفسير الرازي 194:30.
4- . الكافي 1/362:2، تفسير الصافي 246:5.
5- . تفسير الرازي 198:30، تفسير روح البيان 228:10.
6- . تفسير الرازي 197:30.
7- . تفسير الرازي 198:30.
8- . تفسير الرازي 198:30.

خلّ بيني و بين الوليد، أعني وحيدا في ظنّه و اعتقاده، أو وحيدا في الشقاوة و الضلالة و الدناءة(1) ، أو وحيدا لا يعرف له أب، لأنّه كان لحيقا بقريش.

وَ جَعَلْتُ لَهُ في هذه الدنيا مٰالاً مَمْدُوداً يأتيه شيئا فشيئا على الدوام كالضّرع و الزّرع و التجارة.

و عن ابن عباس قال: كان ماله ممتدّا ما بين مكة إلى الطائف [من] البساتين التي لا ينقطع نفعها شتاء و صيفا، و الإبل و الخيل(2).

و قيل: إن الممدود كناية عن الكثير الذي يمتدّ تعديده(3).

وَ بَنِينَ كانوا كلّهم شُهُوداً و حضورا عنده لا يفارقونه، أو شهودا معه في المجامع و المحافل.

قيل: كانوا عشرة(4). و قيل: سبعة منهم خالد بن الوليد(5).

وَ مَهَّدْتُ و بسطت لَهُ الرئاسة و الجاه في قريش، و في العيش و العمر تَمْهِيداً و بسطا عجيبا، فأتممت عليه النّعم الدنيوية

ثُمَّ إنّه مع ذلك يَطْمَعُ من شدّة حرصه على الدنيا أَنْ أَزِيدَ على ما اعطيته حاشا و

كَلاّٰ كيف يطمع [في] ذلك.

ثمّ كانّه قيل: لم لا يطمع و لا يزداد؟ فأجاب سبحانه بقوله: إِنَّهُ لخبث ذاته كٰانَ لِآيٰاتِنٰا و دلائل توحيدنا و معجزات رسولنا و براهين البعث و القيامة من قديم الأيام، أو آياتنا القرآنية عَنِيداً و مبغضا و معارضا بلسانه، و إن كان معتقدا بقلبه، و لذا

سَأُرْهِقُهُ و اغشيه و اكلّفه كرها بل(6) ما يطعمه في الدنيا صَعُوداً و ارتقاء عقبه شاقة المصعد بحيث تغشاه الشدّة و العذاب من كلّ جانب.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي كذا أبدا(7).

و قيل: إنّه اسم عقبة في النار، كلّما وضع يده عليها ذابت، فاذا رفعها عادت(8).

إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقٰالَ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ قَوْلُ

ص: 367


1- . في النسخة: و الذئامة.
2- . تفسير الرازي 198:30 و 199، و قد المصنف خلط بين قول ابن عباس و مقاتل، تفسير أبي السعود 56:9.
3- . تفسير الرازي 199:30.
4- . تفسير الرازي 199:30، تفسير أبي السعود 56:9، تفسير روح البيان 228:10.
5- . تفسير الرازي 199:30، تفسير أبي السعود 56:9.
6- . كذا، و الظاهر: بدل، راجع تفسير روح البيان 229:10.
7- . تفسير الرازي 200:30، تفسير أبي السعود 57:9.
8- . تفسير الرازي 200:30، تفسير أب السعود 57:9، تفسير روح البيان 229:10.

اَلْبَشَرِ (25) ثمّ بيّن سبحانه كيفية عناده بقوله:

إِنَّهُ لعنه اللّه فَكَّرَ في القرآن و تدبّر وَ قَدَّرَ و رتّب في خواطره كلاما لصرف الناس عنه.

ثمّ أظهر سبحانه التعجّب من قوة فكره و تهيئة ردّه بقوله:

فَقُتِلَ اللعين كَيْفَ قَدَّرَ و رتّب هذا الكلام و قيل: إنّ مدح كلامه على سبيل الاستهزاء، و المراد إظهار أنّه في غاية الرّكاكة(1).

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار التعجّب من كلامه بقوله:

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ و رتّب كلامه الكذب من قبل نفسه

ثُمَّ نَظَرَ فيما قدّر.

قيل: فكّر أولا و قدّر الكلام ثانيا، ثمّ نظر و تأمّل في ذلك المقدّر احتياطا ثالثا(2) أو نظر في القرآن

ثُمَّ عَبَسَ و قطّب وجهه من الغضب و العناد حيث رأى نفسه عاجزا عن ردّه و إبطاله وَ بَسَرَ و تغيّر وجهه و اسودّ، أو قيّض ما بين عينيه، أو استعجل في عبوسه و أظهره في غير موقعه.

ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحقّ، و أعرض عنه وَ اسْتَكْبَرَ عن اتّباعه

فَقٰالَ عقيب إعراضه و استكباره:

إِنْ هٰذٰا القرآن الذي جاء به محمد، و ما هذا الكلام الذي يتحدّى به إِلاّٰ سِحْرٌ يُؤْثَرُ و يتعلّم من الغير، و ليس هو بكلام اللّه

إِنْ هٰذٰا و ما ذلك إِلاّٰ قَوْلُ الْبَشَرِ.

قيل: إنّ مراده من البشر يسار و جبير، كانا عبدين من فارس، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يراودهما، و أبوه فكيهة كان غلاما روميا يتردّد إلى مكّة من طرف مسيلمة الكذّاب في اليمامة(3).

روي أنّ الوليد مرّ بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و هو يقرأ حم السجدة (4)- و قيل: فواتح حم المؤمن (5)- فقال لبني مخزوم: و اللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس، و لا من كلام الجنّ، إنّ له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق، و إنه يعلو و لا يعلى عليه. فقالت قريش صبا و اللّه الوليد، لتصبأنّ قريش، أي بمتابعته فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد عنده حزينا، و كلّمه بما أغضبه، فقال الوليد: أ لم تعلم قريش أنا أكثرهم مالا و ولدا إلى أن قال: أ تزعمون أنّ محمدا مجنون، فهل رأيتموه أنّه يخلق؟ فانّ العرب كانت تعتقد أنّ الشيطان يخلق المجنون و يتخبّطه، أو تقولون: إنّه كاهن، فهل رأيتموه يتكهّن؟ أو تزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى الشعر قطّ؟ أو تزعمون أنّه كذّاب، فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب.

ص: 368


1- . تفسير الرازي 200:30، تفسير روح البيان 229:10.
2- . تفسير الرازي 200:30.
3- . تفسير روح البيان 231:10.
4- . تفسير الرازي 202:30.
5- . تفسير روح البيان 229:10.

فقالوا في كلّ ذلك: اللهمّ لا ثمّ قالوا: فما هو؟ و ما تقول في حقّه؟ ففكّر فقال: ما هو إلاّ ساحر، أ ما رأيتموه يفرّق بين الرجل و أهله و ولده و مواليه، و ما الذي يقوله إلاّ سحر يأثره عن مسيلمة و عن أهل بابل، فارتجّ النادي فرحا، فتفرّقوا متعجّبين منه راضين به(1).

و عن القمي: نزلت في الوليد بن المغيرة: و كان شيخا كبيرا مجرّبا من دهاة العرب، و كان من المستهزئين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقعد في الحجرة و يقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة، فقالوا: يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمد، أشعر، أم كهانة، أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا محمد، أنشدني من شعرك، فقال: «ما هو شعر، و لكنّه كلام اللّه الذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه و رسله» فقال: اتل عليّ منه شيئا فقرأ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حم السجدة، فلمّا بلغ قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا * يا محمد قريش فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صٰاعِقَةً مِثْلَ صٰاعِقَةِ عٰادٍ وَ ثَمُودَ (2) فاقشعر الوليد، و قامت كلّ شعرة في رأسه و لحيته، و مرّ إلى بيته، و لم يرجع إلى قريش من ذلك.

و مشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم، إنّ أبا عبد شمس صبأ إلى دين محمد، أ ما تراه لم يرجع إلينا. فغدا أبو جهل إلى الوليد، و قال له: يا عم، نكّست رءوسنا و فضحتنا، و أشمت بنا عدوّنا، و صبوت إلى دين محمد! فقال: ما صبوت إلى دينه، و لكنّي سمعت كلاما صعبا، تقشعرّ منه الجلود. فقال له أبو جهل: أخطب هو؟ قال: لا. إنّ الخطب كلام متصل، و هذا كلام منثور، و لا يشبه بعضه بعضا. قال:

أ فشعر هو؟ قال: لا، أما انّى سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها، ما هو بشعر. قال:

فما هو؟ قال: دعني أفكّر فيه.

فلمّا كان من الغد قال له: يا أبا عبد شمس، ما تقول فيما قلنا؟ قال: قولوا هو سحر، فانّه أخذ بقلوب الناس، فأنزل اللّه على رسوله: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً و إنّما سمّي وحيدا لأنّه قال لقريش: أنا أتوحّد بكسوة البيت سنة، و عليكم في جماعتكم سنة. و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكّة، و كان له عشرة عبيد، عند كلّ [عبد] ألف دينار يتجر بها(3).

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا سَقَرُ (27) لاٰ تُبْقِي وَ لاٰ تَذَرُ (28) لَوّٰاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهٰا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَ مٰا جَعَلْنٰا أَصْحٰابَ النّٰارِ إِلاّٰ مَلاٰئِكَةً وَ مٰا جَعَلْنٰا عِدَّتَهُمْ إِلاّٰ فِتْنَةً

ص: 369


1- . جوامع الجامع: 517، تفسير الصافي 248:5، تفسير أبي السعود 57:9، تفسير روح البيان 229:10.
2- . فصلت: 13/41.
3- . تفسير القمي 393:2، تفسير الصافي 247:5.

لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَ يَزْدٰادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمٰاناً وَ لاٰ يَرْتٰابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكٰافِرُونَ مٰا ذٰا أَرٰادَ اللّٰهُ بِهٰذٰا مَثَلاً كَذٰلِكَ يُضِلُّ اللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ مٰا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّٰ هُوَ وَ مٰا هِيَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ لِلْبَشَرِ (31) كَلاّٰ وَ الْقَمَرِ (32) وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذٰا أَسْفَرَ (34) إِنَّهٰا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) ثمّ فسّر سبحانه تهديده بإرهاقه الصعود بقوله:

سَأُصْلِيهِ و ادخله عنفا و جبرا سَقَرَ و جهنم.

قيل: إن سقر أحد أسماء جهنم(1). و عن ابن عباس: أنّه اسم للطبقة السادسة من جهنم(2).

ثمّ بالغ سبحانه في التهويل بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك يا محمد مٰا سَقَرُ؟ فانّ العلم بها و بوصفها و شدّة حرّها خارج عن إدراك العقول في هذا العالم، إنّما الممكن من إدراكها أن يقال: إنّها

لاٰ تُبْقِي ممّا ألقى فيها شيئا بل تهلكه بالإحراق وَ لاٰ تَذَرُ هالكا حتّى يعاد.

عن ابن عباس: أنّها لا تبقي من الدم و اللحم و العظم شيئا، فاذا اعيدوا خلقا جديدا لا تذر أن تعاود إحراقهم بأشدّ ممّا كانت، و هكذا أبدا(3) ، و لا تبقي من المستحقّين للعذاب إلاّ عذّبتهم، ثمّ لا تذر من أبدان اولئك المعذّبين شيئا إلاّ أحرقته.

و قيل: يعني لا تبقي من أبدان المعذّبين شيئا، و لا تذر من قوّتها و شدّتها شيئا إلاّ أعملت تلك القوة و الشدّة في تعذيبهم(4).

و قيل: إنّ الجملتين مترادفتان ذكرا للتأكيد(5).

و تلك الجحيم

لَوّٰاحَةٌ و ظاهرة لِلْبَشَرِ و بني آدم من مسيرة خمسين عام، و يصل إلى الكافر سمومها و حرورها، كما يصل إلى المؤمن ريح الجنة و نسيمها من تلك المسافة، كذا قيل(3). و قيل: إنّ المعني مغيرة لظاهر الجلد(4) و يصير لونها أسود كالليل المظلم، و مأمور من قبلنا بتنظيم امور سقر، و موكّل

عَلَيْهٰا و مسلّط على أهلها تِسْعَةَ عَشَرَ من الملائكة الغلاظ الشّداد. قيل: أعينهم كالبرق، و أنيابهم كالصياصي، و أشفارهم تمسّ أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي كلّ منهم مسيرة سنة، كفّ أحدهم يسع مثل ربيعة و مضر، نزعت منهم الرأفة و الرحمة، رئيسهم

ص: 370


1- . تفسير روح البيان 231:10.
2- . تفسير الرازي 202:30، تفسير روح البيان 231:10. (3-4-5) . تفسير الرازي 202:30.
3- . تفسير روح البيان 231:10.
4- . تفسير أبي السعود 58:9، تفسير روح البيان 231:10.

مالك(1).

ثمّ روي أنّه لمّا نزلت الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم امّهاتكم، قال ابن ابي كبشة أنّ خزنة النار تسعة عشر، و أنتم الجمع العظيم أ يعجز(2) كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأشدّ أو أبو الأسود - بن أسيد بن كلدة الجمحي، و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، و اكفوني أنتم اثنين. فلمّا قال أبو جهل و أبو الأشدّ - أو أبو الأسود - ذلك قال المسلمون: ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدّادين أي السجّانين. فنزلت

وَ مٰا جَعَلْنٰا أَصْحٰابَ النّٰارِ (3) و خزنتها الذين يقومون بأمرها إِلاّٰ مَلاٰئِكَةً و كلّ واحد منهم أقوى من جميع الإنس و الجنّ، و أطوع لأوامر اللّه، و ليس لهم رأفة بالثقلين لمخالفتهم إياهم في الجنس.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لقوّة أحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الامّة و على رقبته جبل فيرمي بهم في النار، و يرمي بالجبل عليهم»(4).

وَ مٰا جَعَلْنٰا عِدَّتَهُمْ إِلاّٰ العدد الذي يكون فِتْنَةً و سببا لازدياد الكفر لِلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على كفرهم و عنادهم، و ما أخبرنا بعددهم الا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ من اليهود و النصارى بصحّة نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه، لما شاهدوا من موافقته لكتبهم من أنّ محمدا امّي لم يقرأها و لم يسمع شيئا من علمائهم وَ يَزْدٰادَ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه إِيمٰاناً و يقينا بهما بما رأوا من تصديق أهل الكتاب ما في القرآن.

روي أنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن خزنة النار و عددهم، فأجاب صلّى اللّه عليه و آله بأنّهم تسعة عشر(5).

وَ لاٰ يَرْتٰابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ و لا يعتريهم الشكّ بعد يقينهم بنوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه، و لا تعرض لهم(6) شبهة ما، بل يكون يقينهم يقينا ثابتا جازما وَ لِيَقُولَ المنافقون اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الكفر و النفاق و الشكّ وَ الْكٰافِرُونَ المتجاهرون بالكفر المصرّون عليه استهزاء بالقرآن و إنكار الآية من عند اللّه: مٰا ذٰا و أي شيء أَرٰادَ اللّٰهُ بِهٰذٰا العدد الذي عيّن لخزنة جهنّم؟ و هو العدد الناقص عن العقد، و لم يقل عشرون أو ثلاثون، فهو يكون مَثَلاً في الغرابة كَذٰلِكَ الذي ذكرنا من هداية أهل الكتاب، و ازدياد يقين المؤمنين بنزول هذه الآية، و إضلال الكافرين و المنافقين يُضِلُّ اللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ إضلاله على خبث طينته و ذمائم أخلاقه

ص: 371


1- . تفسير الرازي 203:30، تفسير روح البيان 231:10 و 232.
2- . في النسخة: أ يفجر.
3- . تفسير الرازي 203:30.
4- . تفسير أبي السعود 59:9، تفسير روح البيان 233:10.
5- . تفسير روح البيان 234:10.
6- . في النسخة: و لا يعرضهم.

و سيئات أعماله وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ هدايته بمقتضى طيب طينته و حسن نيته و أخلاقه، و إنّما يكون اختيار هذا العدد القليل لخزّان جهنّم لحكمة مقتضيه لذلك، لا لقلّة الملائكة الذين هم جنود اللّه، فانّهم من كثرتهم بحيث لا يحصون (1)وَ مٰا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ من الملائكة و سائر الموجودات إِلاّٰ هُوَ تعالى، فهو قادر على أن يكثّر عدد الخزنة، بل لكلّ واحد منهم أعوان من الملائكة لا يعلم عددهم إلاّ اللّه، و ليست عدّة الخزنة، أو سقر، أو تلك الآيات وَ مٰا هِيَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ و عظة لِلْبَشَرِ كافة و لبني آدم عامة.

كَلاّٰ لا يتذكّرون بتلك الذكريات(2) و المواعظ إلاّ العقلاء و أهل الإيمان، أو المراد ليس لأحد مجال إنكار سقر وَ الْقَمَرِ المضيء الذي تعرف به الأوقات و الآجال، و تظهر به عجائب الصّنع و كمال قدرته في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها و اختلافها على نظام واحد. و قيل: يعني اقسم بخالق القمر(3).

وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ و حين ذهب و انقضى، كما عن ابن عباس(4).

وَ الصُّبْحِ إِذٰا أَسْفَرَ و أضاء، و هو من الأوقات الشريفة التي يظهر فيها قدرة اللّه و رحمته

إِنَّهٰا قيل: إن الضمير راجع إلى سقر(5) ، و المعنى اقسم بهذه الأيمان المذكورة أنّ سقر لَإِحْدَى الطبقات، أو الدواهي اَلْكُبَرِ و العظام، و الطبقات الأخر لظى و الحطمة و السعير و الجحيم و الهاوية و جهنّم.

و قيل: إنّه راجع إلى الزبانية التسعة عشر، و المعنى أنّ التسعة عشر من إحدى الحجج العظام على قدرة اللّه على تعذيب جميع العصاة من بدو الخلقة إلى آخر الدهر بعدة قليلة من الملائكة(6) ، و جعلنا ذلك

نَذِيراً و مخوفا أو انذارا و تخويفا لِلْبَشَرِ أعني

لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أيّها الناس أَنْ يَتَقَدَّمَ و يسبق إلى الخيرات بهداية اللّه تعالى أَوْ لم يشأ و يَتَأَخَّرَ و يكفّ نفسه عنه باضلال اللّه.

كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاّٰ أَصْحٰابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنّٰاتٍ يَتَسٰاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ (45) وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتّٰى أَتٰانَا الْيَقِينُ (47)

ص: 372


1- . في النسخة: لا يحصى.
2- . في النسخة: الذكرات.
3- . تفسير روح البيان 238:10.
4- . تفسير الرازي 208:30.
5- . تفسير الرازي 209:30، تفسير روح البيان 238:10.
6- . تفسير روح البيان 238:10.

أيّها الناس اعلموا أنّه

كُلُّ نَفْسٍ من النفوس رجلا كان أو امرأة بِمٰا كَسَبَتْ و عملت في الدنيا لآخرتها رَهِينَةٌ عند اللّه و محبوسة بسيئاتها

إِلاّٰ أَصْحٰابَ الْيَمِينِ و ذوي الأعمال الصالحة من المؤمنين، فانّهم - بامتثال ما عليهم من التكاليف، و أداء حقوق اللّه إليه، و بإبراء ذممهم من الواجبات و ترك المحرّمات - فاكوّن رقابهم كما يفكّ الراهن رهنه بأداء دينه.

و قيل: إنّ المراد بهم أطفال المسلمين(1) فهم

فِي جَنّٰاتٍ و هم لما يعرفوا في الدنيا التكليف و الذنب يَتَسٰاءَلُونَ *

عَنِ الْمُجْرِمِينَ الذين يرونهم في جهنّم، و يقولون لهم:

مٰا سَلَكَكُمْ و أي شيء حبسكم، أو أدخلكم فِي دركة سَقَرَ و قال القائلون بالقول الأول: إنّ المؤمنين لسال بعضهم بعضا عن المجرمين: أين هم؟ فلمّا رأوهم قالوا لهم: ما سلككم في سقر؟

قٰالُوا في جوابهم: إنّا لَمْ نَكُ في الدنيا مِنَ جملة اَلْمُصَلِّينَ و المؤدّين للصلاة الواجبة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تعاهدوا أمر الصلاة و حافظوا [عليها] و استكثروا منها، و تقرّبوا بها، فانّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، أ لا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «اعني لم نك من أتباع الأئمة الذين قال اللّه تعالى لهم: وَ السّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ * أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (3) أ ما ترى الناس يسمّون الذي يلي السابق مصلّيا، فذلك الذي [عنى] حيث قال: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ أي لم نك من أتباع السابقين»(4).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «يعني أنّا لم نتولّ وصيّ محمد صلّى اللّه عليه و آله و الأوصياء من بعده، و لم نصلّ عليهم»(5).

أقول: هاتان الروايتان تأويل لا تفسير.

وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ و لم نعطهم الزكاة الواجبة، أو المراد نبخل بأموالنا

وَ كُنّٰا في الدنيا نَخُوضُ و نشرع في الأقوال الباطلة، كذمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و الاستهزاء به و بكتابه مَعَ الْخٰائِضِينَ و الشارعين فيها

وَ كُنّٰا مع جميع ذلك نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ و نجحد دار الجزاء

حَتّٰى أَتٰانَا الْيَقِينُ و أدركنا الموت.

فَمٰا تَنْفَعُهُمْ شَفٰاعَةُ الشّٰافِعِينَ (48) فَمٰا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ

ص: 373


1- . تفسير الرازي 210:30.
2- . نهج البلاغة: 316 الخطبة 199، تفسير الصافي 251:5.
3- . الواقعة: 10/56 و 11.
4- . الكافي 38/347:1، تفسير الصافي 251:5.
5- . الكافي 91/360:1، تفسير الصافي 251:5.

مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) ثمّ لمّا حكى سبحانه سبب استحقاق المجرمين للعقاب، بيّن عدم المانع من تعذيبهم بقوله تعالى:

فَمٰا تَنْفَعُهُمْ لدفع العذاب شَفٰاعَةُ جميع الأنبياء و الأوصياء و الأولياء اَلشّٰافِعِينَ للعصاة، لو فرض محالا بشفاعتهم لهم، لا شراط قبولها بقابلية المشفوع له للشفاعة، و لا قابلية للكفّار لها، فاذا كان هذا حال المكذّبين بالقرآن

فَمٰا لَهُمْ و أيّ داع دعاهم إلى أن يكونوا عَنِ القرآن الذي هو عين اَلتَّذْكِرَةِ و الموعظة للناس لشدّة لزومه لها مُعْرِضِينَ مع تعاضد موجبات الإقبال عليه، و تأكّد الدواعي للايمان به و الاتّعاظ منه، و العجب مع ذلك أنّهم يفرّون من استماع القرآن

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ و حشية كما عن ابن عباس (1)مُسْتَنْفِرَةٌ و هاربة

فَرَّتْ و هربت مِنْ قَسْوَرَةٍ عن ابن عباس:

القسورة: الأسد بلسان الحبشة. و قال: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك المشركون إذا رأوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله هربوا منه(2).

و قيل: القسورة: جماعة الرّماة الذين يتصيّدون الحمر(3). و قيل: ركز الناس و أصواتهم(4) و فيه غاية ذمّهم و تهجين حالهم و شهادة عليهم بالبلد(5) حيث إنّه لا نفار مثل نفار الحمر الوحشية و اطرادها في العدو إذا خافت من شيء.

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتىٰ صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاّٰ بَلْ لاٰ يَخٰافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاّٰ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شٰاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ مٰا يَذْكُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوىٰ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) ثمّ لمّا قال سبحانه: ما لهم يعرضون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو القرآن، بيّن سبب ذلك بقوله:

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ و رجل مِنْهُمْ و يتوقّع كلّ فرد من أفرادهم أَنْ يُؤْتىٰ من جانب اللّه صُحُفاً و كتبا مُنَشَّرَةً و مفتوحة.

و روي أنّ أبا جهل و عبد اللّه بن امية و أصحابهما قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لن نتّبعك حتى تأتي كلّ واحد منّا بكتب، أو قالوا: يصبح عند رأس كلّ رجل منّا أوراق منشورة، عنوانها: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها باتّباعك(6).

ص: 374


1- . تفسير الرازي 212:30.
2- . تفسير الرازي 212:30.
3- . تفسير الرازي 212:30، تفسير روح البيان 241:10.
4- . تفسير الرازي 212:30.
5- . في تفسير الرازي: بالبله. و البلد: قلّة الذكاء. و البله: ضعف العقل و غلبة الغفلة.
6- . تفسير روح البيان 242:10.

و قيل: قالوا: إن كان محمد صادقا، فليصبح عند رأس كلّ رجل منا صحيفة فيها براءة من النار(1).

كَلاّٰ لم يقولوا هذه الكلمات، و لم يقترحوا تلك الآيات لرفع الشّبهة بَلْ للعناد و اللّجاج لاٰ يَخٰافُونَ الْآخِرَةَ و شدائدها، لأنّهم ينكرونها و يستغرقون في حبّ الدنيا و شهواتها

كَلاّٰ ليس لأحد أن يعرض عن القرآن حيث إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ بليغة كافية، و موعظة شافية لأهل العالم

فَمَنْ شٰاءَ الذّكر و العظة ذَكَرَهُ و اتّعظ به، و جاز به خير الدارين.

و قيل: إنّ الضمير في إِنَّهُ و ذَكَرَهُ راجع أي التذكرة في قوله: فَمٰا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ لأنّها في معنى الذّكر و القرآن(2).

وَ مٰا يَذْكُرُونَ و لا يتّعظون و لا يهتدون به إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ تذكّرهم و اتّعاظهم، أو هدايتهم به، و فيه دلالة على أنّه بمشية اللّه و إرادته العبد، لأنّه لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين، كما حقّقناه في أوائل البقرة.

ثمّ وصف سبحانه ذاته المقدّسة بما يوجب الخوف و الرجاء بقوله: هُوَ تعالى أَهْلُ التَّقْوىٰ و حقيق بأن يخاف منه و من عقابه على ترك الايمان و طاعته، لأنّه ذو انتقام و شديد العقاب وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ و حقيق بأن يغفر لمن آمن به و أطاعه.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «قال اللّه تبارك و تعالى: أنا أهل أن أتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئا، و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنّة».

و قال عليه السّلام: «[إن اللّه تبارك و تعالى] أقسم بعزته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار أبدا»(3).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ في الفريضة سورة المدّثر، كان حقا على اللّه عز و جلّ أن يجعله مع محمد صلّى اللّه عليه و آله في درجته، و لا يدركه في الحياة الدنيا شقاء أبدا إن شاء اللّه تعالى»(4).

ص: 375


1- . تفسير الرازي 212:30.
2- . تفسير الرازي 213:30، تفسير روح البيان 242:10.
3- . التوحيد: 6/20، تفسير الصافي 252:5.
4- . ثواب الأعمال: 120، مجمع البيان 77:10، تفسير الصافي 252:5.

ص: 376

في تفسير سورة القيامة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ لاٰ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيٰامَةِ (1) وَ لاٰ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّٰامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظٰامَهُ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة المدّثر المتضمّنة لبيان بعض أهوال القيامة و بيان عظمة القرآن، و أنّ مكذّبيه لا يخافون الآخرة، نظمت سورة القيامة المتضمّنة لبيان بعض آخر من أهوال القيامة، و بيان عظمة القرآن المجيد، و أنّ مكذّبيه يحبّون العاجلة و يذرون الآخرة، و غير ذلك من المناسبات بين السورتين الشريفتين، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في إثبات المعاد بقوله:

لاٰ أُقْسِمُ على وقوع المعاد بِيَوْمِ الْقِيٰامَةِ * وَ لاٰ أُقْسِمُ عليه بِالنَّفْسِ اللَّوّٰامَةِ لعظمة شأنهما و عدم الحاجة في وقوعه إلى القسم لوضوحه. و قيل: إنّ حرف لاٰ زائدة للتأكيد(1). و المعنى اقسم بيوم القيامة و بالنفس اللّوامة أنّكم لتبعثنّ.

عن ابن عباس: كلّ نفس تلوم نفسها يوم القيامة [سواء] كانت فاجرة أو برّه، أمّا البرّة فلأجل أنّها لم تزد على طاعتها، و أمّا الفاجرة فلأجل أنّها لم تشتغل بالتقوى(2).

و قيل: إنّ المراد النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة(3).

و قيل: إنّ المراد النفوس الشريفة التي تلوم نفسها و إن اجتهدت في الطاعة(4).

و قيل: إنّها النفوس الشقية، فانّها تلوم نفسها إذا شاهدت أهوال القيامة(5). قيل: وجه المناسبة بين المقسمين أنّ ظهور شدّة اللوم يكون في ذلك اليوم(4).

ثمّ أنكر سبحانه استبعاد البعث أو امتناعه أو أظهر التعجّب منه بقوله:

أَ يَحْسَبُ و يتخيّل اَلْإِنْسٰانُ العاقل أَلَّنْ نقدر على أن نَجْمَعَ عِظٰامَهُ بعد موته. عن ابن عباس: أنّ المراد

ص: 377


1- . تفسير الرازي 214:30، تفسير روح البيان 243:10.
2- . تفسير الرازي 215:30.
3- . تفسير الرازي 216:30. (4و5) . تفسير الرازي 216:30.
4- . مجمع البيان 59:10.

بالانسان أبا جهل(1).

و روي أنّ عديّ بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق، و هما اللذان قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيهما:

«اللهمّ اكفني شرّ جاري السّوء» قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا محمد، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون، و كيف أمره؟ فأخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم اصدّقك يا محمد و لم اؤمن بك، كيف يجمع اللّه العظام(2).

بَلىٰ قٰادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنٰانَهُ (3) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسٰانُ لِيَفْجُرَ أَمٰامَهُ (4) يَسْئَلُ أَيّٰانَ يَوْمُ الْقِيٰامَةِ (5) فَإِذٰا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسٰانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) ثمّ ردّ سبحانه المنكرين بقوله:

بَلىٰ نحن كنّا قٰادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ و نصنع بَنٰانَهُ و أصابعه و أطرافها كما كانت بعد صيرورتها رميما و رفاة مختلطا بالتراب متفرّقا في أقطار الأرض مع صغرها و رقّتها، فكيف بغيرها من العظام الكبار الغلاظ؟

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الحسبان ليس بشبهة و ترديد في إمكان إحياء الموتى و قدرة اللّه عليه

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسٰانُ المنكر للبعث لِيَفْجُرَ و يكذّب بما يكون أَمٰامَهُ و قدّامه من البعث و الحساب.

و قيل: ليدوم على فجوره و عصيانه فيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه(6).

و عن القمي و سعيد بن جبير: ليقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله و أسوأ أعماله(4). و هو لإصراره على الذنب

يَسْئَلُ تكذيبا و استهزاء بإخبار اللّه و رسوله بالبعث أَيّٰانَ يَوْمُ الْقِيٰامَةِ و متى يكون؟ فأجابه سبحانه بقوله:

فَإِذٰا بَرِقَ و تحيّر اَلْبَصَرُ و شخص برؤية الأهوال الفازعة في يوم تشخص فيه الأبصار، أو يوم الموت برؤية أسبابه و الملائكة الحاضرين لقبض روحه، فعند ذلك يتيقّن بأن إنكاره البعث كان خطا و غلطا

وَ إذا خَسَفَ الْقَمَرُ و ذهب ضوؤه أو انعدم جرمه بالكلية

وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ في ذهاب النور، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(5) و في الإعدام.

و قيل: يجمعان أسودين مكوّرين كأنّهما ثوران عقيران في النار(6). و قيل: يجمعان ثمّ يقذفان في

ص: 378


1- . تفسير الرازي 217:30.
2- . تفسير الرازي 217:30، تفسير أبي السعود 65:9، تفسير روح البيان 244:10.
3- . تفسير القمي 396:2، تفسير الصافي 254:5، تفسير الرازي 218:30، عن سعيد بن جبير.
4- . تفسير روح البيان 246:10.
5- . تفسير الرازي 220:30.
6- . تفسير الرازي 918:30.

[البحر، فهناك] نار اللّه الكبرى(1) ليكون حسرة على من عبدهما، و إنّما ذكّر الفعل لأنّ الكلام في تأويل جمع بينهما أو جمع النوران، أو لتقدّم الفعل.

فعند ذلك

يَقُولُ الْإِنْسٰانُ المنكر للبعث من كثرة التحيّر و شدّة الوحشة يَوْمَئِذٍ و وقت مشاهدة الأهوال: إياسا عن إمكان الفرار: أَيْنَ الْمَفَرُّ و هل إلى موضع يحفظني سبيل؟

كَلاّٰ لاٰ وَزَرَ (11) إِلىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسٰانُ يَوْمَئِذٍ بِمٰا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَ لَوْ أَلْقىٰ مَعٰاذِيرَهُ (15) ثمّ ردعهم سبحانه عن الطمع في الفرار بقوله:

كَلاّٰ و حاشا أن تجدوا مفرّا لاٰ وَزَرَ و لا ملجأ و لا معاد لأحد من العذاب، بل

إِلىٰ رَبِّكَ و مشيئته و حكمه يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ و المرجع لا إلى غيره. و قيل: يعني إلى مشيئة ربّك مستقرّهم و منزلهم من الجنّة و النار(2).

يُنَبَّؤُا و يخبر اَلْإِنْسٰانُ المكلّف في الدنيا يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت بِمٰا قَدَّمَ من عمل خير و صدقة مال و عبادة خالصة وَ ما أَخَّرَ و ترك و لم يعمل. و قيل: يعني ممّا قدّم من أعماله مطلقا خيرا كان أو شرا، أو بما أخّر من زمان حياته من سنّة حسنة أو سيئة(3).

عن الباقر عليه السّلام: «بما قدّم من خير و شرّ، و ما أخّر من سنّة يستنّ بها من بعده، فان كان شرّا كان عليه وزر من عمل بها، و لم ينقص من وزرهم شيئا، و إن كان خيرا كان له مثل اجورهم، و لا ينقص من اجورهم شيئا»(4).

و قيل: إنّ معنى (ما أَخَّرَ) ما خلّفه من المال، أو أوقفه، أو أوصى به(5).

بَلِ الْإِنْسٰانُ لا يحتاج إلى أن ينبّئه بأعماله و يخبره غيره بها، لأنّه عَلىٰ جميع أعمال نَفْسِهِ في الخلوات و الجلوات صغيرها و كبيرها حجّة بَصِيرَةٌ و بيّنة واضحة، أو المراد ذو بصيرة كاملة، لحضور جميع أعماله في نظره بصورتها البرزخية، و شهادة جوارحه بها، و تقبل شهادتها عليه

وَ لَوْ أَلْقىٰ مَعٰاذِيرَهُ و أرخى ستوره و أراد إخفاء أعماله.

قيل: إن السّتور استعمل مجازا في الأعذار بعلامة المشابهة، فكما أنّ السّتور تمنع رؤية المحتجب،

ص: 379


1- . تفسير الرازي 220:30.
2- . تفسير الرازي 221:30، تفسير أبي السعود 66:9، تفسير روح البيان 246:10.
3- . تفسير أبي السعود 66:9، تفسير روح البيان 247:10.
4- . تفسير القمي 397:2، تفسير الصافي 255:5.
5- . تفسير أبي السعود 66:9، تفسير روح البيان 247:10.

كذلك المعذرة تمنع قبح الذنب(1).

و قيل: يعني و لو جاء بأعذاره، بأن يقول: حملني على العصيان الضرورة و شدّة الحاجة، أو الجهل بالحكم، أو خوف ذهاب الجاه و نحوها من الأعذار، فانّها لا تنفعه، لعلمه، بأنّه كاذب فيها، أو صادق و لا تكون عذرا فيه(2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا، و يستر سيئا؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك، و اللّه عزّ و جلّ يقول: بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية»(3). و عنه عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية فقال: «ما يصنع الانسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم اللّه منه؟ إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه اللّه رداءها إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ»(4).

لاٰ تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ (19) كَلاّٰ بَلْ تُحِبُّونَ الْعٰاجِلَةَ (20) وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ علم الانسان يوم القيامة بما صدر منه في الدنيا كاف لا يحتاج إلى إخبار الغير به في ذلك اليوم، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يستعجل في قراءة ما يقرؤه عليه جبرئيل من القرآن ليحفظه، بيّن سبحانه أنّك يا محمد لا تحتاج إلى التعجيل في القراءة في حفظك القرآن بقوله:

لاٰ تُحَرِّكْ بالقرآن و لا تنطق بِهِ لِسٰانَكَ حال قراءة جبرئيل عليه آياته لِتَعْجَلَ بِهِ و تسارع إلى أخذه و حفظه مخافة أن ينفلت، فكما أنّ علينا جمع العظام النّخرة

إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ في صدرك بحيث لا ينفلت منه شيء من آياته و كلماته و حروفه، و لا يخفى عليك شيء من معانيه

فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ عليك بلسان جبرئيل و تمّت قراءته و تلاوته و سكت فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ و تلاوته عليك، و اتله كما تلي، و لا تكلّف نفسك بالقراءة مقارنة لقراءته.

أقول: فظهر أنّه ليس في الآية نهي تحريم حتى يرد إشكال، بل هو إرشاد إلى الأسهل و رفع للكلفة عنه.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا في كلّ ما أشكل عليك فهمه بَيٰانَهُ و توضيحه، فلا تعجل في السؤال عن مشكلاته بين قراءة جبرئيل عليك، فظهر من الآية المباركة أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ مع قراءة جبرئيل و يسأل في أغنائها عن مشكلاته و معانيه، لحرصه على العلم، فارشد إلى تركهما.

ص: 380


1- . تفسير الرازي 222:30، و فيه: المعذرة عقوبة الذنب.
2- . تفسير روح البيان 247:10.
3- . الكافي 11/223:2، مجمع البيان 598:10، تفسير الصافي 255:5.
4- . الكافي 6/223:2، مجمع البيان 599:10، تفسير الصافي 255:5.

ثمّ لمّا نهى سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله عن التعجيل في القرآن و السؤال اللذين هما من أعمال الدين ذمّ سبحانه الناس على حبّ الدنيا العاجلة بقوله تبارك و تعالى:

كَلاّٰ ليس لأحد التعجيل في الامور، و ليس اعتذاركم أيّها الناس في القيامة صدقا بَلْ عصيتم ربّكم لأنّكم خلقتم من عجل و طبعتم عليه، و لذا كنتم تُحِبُّونَ الدنيا اَلْعٰاجِلَةَ و تعملون لها

وَ تَذَرُونَ و تتركون النشأة اَلْآخِرَةَ و تعرضون عنها.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ (22) إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ (25) كَلاّٰ إِذٰا بَلَغَتِ التَّرٰاقِيَ (26) وَ قِيلَ مَنْ رٰاقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِرٰاقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السّٰاقُ بِالسّٰاقِ (29) إِلىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسٰاقُ (30) ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين و سوء حال الكافرين فيها لحثّ الناس على العمل لها بقوله:

وُجُوهٌ كثيرة و هي وجوه المؤمنين الصالحين يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت نٰاضِرَةٌ و حسنة و مشرقة بهية من أثر النعمة و الراحة، و هي

إِلىٰ رحمة رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ.

عن الرضا عليه السّلام قال: «يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها»(1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام - في حديث - قال: «ينتهى أولياء اللّه بعد ما يفرغون من الحساب إلى نهر يسمّى الحيوان فيغتسلون فيه و يشربون منه، فتبيضّ وجوههم إشراقا، فيذهب عنهم كلّ قذى و وعث ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم كيف يثيبهم» قال: «فذلك قوله تعالى:

إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ و إنّما يعني بالنظر إليه إلى ثوابه تبارك و تعالى».

و الناظرة في بعض اللغة: هي المنتظرة، أ لم تسمع إلى قوله: فَنٰاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؟ أي منتظرة(2).

أقول: قد غلط جمهور أهل السنّة - و هم الأشاعرة - حيث تمسّكوا بالآية لإثبات أن المؤمنين يرون اللّه تعالى بأبصارهم في القيامة، لعدم جواز التمسّك بظواهر الآيات لإثبات المحال العقلي، مع أنّ الآية غير ظاهرة في مدّعاهم، لجواز كون الناظرة بمعني منتظرة.

وَ وُجُوهٌ كثيرة، و هي وجوه الكفّار يَوْمَئِذٍ، و حين قيام القيامة بٰاسِرَةٌ و عابسة كالحة، مظلمة ألوانها معدمة آثار السرور و النعمة منها، لظهور الشقاء و اليأس من رحمة اللّه، فعند ذلك

ص: 381


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2/114:1، تفسير الصافي 256:5.
2- . الاحتجاج: 243، تفسير الصافي 256:5.

تَظُنُّ و تعتقد، أو تتوقّع تلك الوجوه أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا في ذلك اليوم عقوبة فٰاقِرَةٌ و داهية تكسر فقار الظهر. قيل: اريد بها أنواع العذاب في النار(1).

ثمّ ردع سبحانه الناس عن إيثار الدنيا على الآخرة بقوله:

كَلاّٰ و ارتدعوا عمّا أنتم عليه من حبّ الدنيا.

قيل: إنّ المراد لمّا عرفتم سعادة السعداء و شقاوة الأشقياء في الآخرة، فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، و تنبّهوا على [ما] بين أيديكم من الموت الذي تتقطّع عنده الدنيا العاجلة عنكم(2).

و اذكروا إِذٰا بَلَغَتِ الروح اَلتَّرٰاقِيَ و الحناجر و العظام المحيطة بالنحر. و قرب خروجها من جسدكم

وَ قِيلَ تمنيا أو انكارا، لاحتمال شفائه بالرّقية و التعويذ مَنْ رٰاقٍ و من يقدر على إحيائه بالأوراد و التعويذ(3). و قيل: يعني من الرافع بروحه أي السماء(4).

عن ابن عباس: أنّ الملائكة يكرهون القرب من الكافر، فيقول ملك الموت: من يرقى بهذا الكافر(5).

و قيل: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة، و سبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت، فاذا بلغت نفس العبد التراقي، نظر بعضهم إلى بعض أيّهم يرقي بروحه إلى السماء(6).

وَ ظَنَّ المحتضر حين بلوغ روحه التّرقوة و أحاط به ملائكة الموت أَنَّهُ الْفِرٰاقُ من الدنيا المحبوبة و نعيمها التي ضيّع العمر في كسبها، و أهلك نفسه بالالتذاذ و الاشتغال بها، أو فراق الروح من البدن، أو الفراق من الأهل و الأولاد و الأموال.

قيل: عبّر سبحانه عن اليقين بالموت هنا بالظنّ، لأنّ الانسان ما دام فيه حشاشة يطمع في الحياة لشدّة حرصه عليها(7). في الحديث: «أنّ العبد ليعالج كرب الموت و سكراته، و إنّ مفاصله ليسلّم بعضها على بعض، تقول: السّلام عليك، افارقك و تفارقني إلى يوم القيامة»(8).

وَ الْتَفَّتِ و التوت اَلسّٰاقُ بِالسّٰاقِ عند قلق الموت، أو في الكفن، أو ليبسهما(9) بالموت.

و قيل: إنّ الساق كناية عن الشدّة، و المراد التفّت شدّة فراق الدنيا بشدّة لقاء الآخرة، أو شدّة مفارقة الأهل و شدّة ترك المال و الجاه، و شدّة شماتة الأعداء و غمّ الأولياء، أو شدّة الذهاب إلى الآخرة و شدّة القدوم على اللّه، أو شدّة فراق الأحباب و شدّة الورود في دار الغربة(10). و عند ذلك

إِلىٰ رَبِّكَ

ص: 382


1- . تفسير الرازي 230:30.
2- . تفسير الرازي 230:30.
3- . تفسير الرازي 231:30، تفسير روح البيان 254:10.
4- . تفسير الطبري 121:29، تفسير روح البيان 255:10.
5- . تفسير الرازي 231:30، تفسير روح البيان 255:10.
6- . تفسير الرازي 231:30، تفسير روح البيان 255:10.
7- . تفسير الرازي 231:30، تفسير روح البيان 255:10.
8- . تفسير روح البيان 255:10.
9- . في النسخة: أو ليلبسهما، راجع تفسير الرازي 232:30.
10- . تفسير الرازي 232:30.

وحده، و نحو محضر عدله تعالى يَوْمَئِذٍ الْمَسٰاقُ و الاذهاب بالعنف و القهر، أو إلى ربك مفوّض سوقهم.

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب؟ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِرٰاقُ أيقن بمفارقة الأحبّة وَ الْتَفَّتِ السّٰاقُ بِالسّٰاقِ التفت الدنيا بالآخرة إِلىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسٰاقُ قال: المصير إلى ربّ العالمين»(1).

فَلاٰ صَدَّقَ وَ لاٰ صَلّٰى (31) وَ لٰكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطّٰى (33) أَوْلىٰ لَكَ فَأَوْلىٰ (34) ثُمَّ أَوْلىٰ لَكَ فَأَوْلىٰ (35) ثمّ بيّن سبحانه أعظم معاصيهم الموجبة لاستحقاقهم العذاب بقوله:

فَلاٰ صَدَّقَ بالرسول و دينه و كتابه و دار الجزاء وَ لاٰ صَلّٰى الصلوات الواجبة

وَ لٰكِنْ لم يكتف بترك التصديق، بل كَذَّبَ الرسول و كتابه و البعث بعد الموت وَ تَوَلّٰى و أعرض عن الدين و عبادة ربّ العالمين

ثُمَّ مع ذلك ذَهَبَ إِلىٰ أَهْلِهِ و عياله و عشيرته و هو يَتَمَطّٰى و يتبختر و يختال في مشيه افتخارا بتكذيب الرسول و الإعراض عن عبادة اللّه، فقل يا محمد لهذا الكافر:

أَوْلىٰ لَكَ الهلاك، أو بعدا، أو ويل لك فَأَوْلىٰ لك

ثُمَّ كرّر القول، و قل: أَوْلىٰ لَكَ فَأَوْلىٰ بعد اخرى. و قيل: أولى مأخوذ من آل يئول، و المعنى: عقباك النار(2).

قال جمع من المفسرين: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد أبي جهل: ثمّ قال: أولى لك فأولى، توعّده، فقال أبو جهل: بأيّ شيء تهدّدني؟ لا تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا، و إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي.

ثمّ انسلّ ذاهبا، فأنزل اللّه تعالى كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله له، فأولى لك دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه(3).

و قيل: إنّه وعيد مبتدأ من اللّه للكافر(4).

عن الجواد عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «يقول اللّه عز و جلّ بعدا لك من خير الدنيا، و بعدا لك من خير الآخرة»(5).

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنىٰ (37) ثُمَّ كٰانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّٰى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ (39) أَ لَيْسَ ذٰلِكَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتىٰ (40)

ص: 383


1- . الكافي 32/259:3، تفسير الصافي 257:5.
2- . تفسير البيضاوي 550:2، تفسير أبي السعود 69:9.
3- . تفسير الرازي 233:30، تفسير روح البيان 257:10.
4- . تفسير الرازي 233:30.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 205/54:2، تفسير الصافي 257:5.

ثمّ لمّا حكى سبحانه في أول السورة إنكار المشركين البعث في الآخرة بقوله:

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظٰامَهُ (1) استدلّ هنا على وجوب البعث بقوله: أَ يَحْسَبُ و يتوهّم اَلْإِنْسٰانُ العاقل أَنْ يُتْرَكَ من قبل اللّه سُدىً و مهملا لا يكلّف في الدنيا و لا يحاسب بعمله في الآخرة؟ حاشا و كلاّ كيف يمكن ذلك مع أنّه تعالى أعطاه القدرة و آلات الأعمال و العقل، و ذلك مقتض لنهيه عن القبائح و أمره بالمحسنات، و إلاّ يكون هذا الخلق الكامل عبثا، و يكون راضيا بوقوع القبائح منه، و ذلك مناف للحكمة البالغة، و لو كان التكليف و لم تكن دار الجزاء لزم تساوي المطيع و العاصي، و ذلك باطل بالبداهة، و إن كان إنكارهم من جهة عدم قدرة اللّه على الخلق ثانيا فنقول:

أَ لَمْ يَكُ ذلك الانسان قبل خلقه الأول نُطْفَةً قدرة و ماء قليلا مِنْ مَنِيٍّ متكوّن في صلب الرجل يُمْنىٰ و يصبّ من مخرج بوله في رحم انثى

ثُمَّ بعد انصبابه في الرّحم كٰانَ ذلك المنيّ، أو ذلك الانسان عَلَقَةً و قطعة دم فَخَلَقَ اللّه و قدّره فَسَوّٰى خلقه و عدّل قامته و أعضاءه و أكمل نشأته.

عن ابن عباس: فَخَلَقَ أي نفخ فيه الروح فَسَوّٰى أي فكمّل أعضاءه(2).

فَجَعَلَ و خلق مِنْهُ بقدرته اَلزَّوْجَيْنِ و الصنفين من الانسان، أعنى اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ مع اختلافهما في الطبيعة و الأخلاق

أَ لَيْسَ أيّها الشاعر ذٰلِكَ الخالق العظيم الذي خلق أولا هذا الخلق البديع بلا مثال من ماء بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتىٰ و يخلقهم ثانيا من تراب، مع أنّ الخلق الثاني في نظر العقل أهون و أسهل من الأول.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأها قال: «سبحانك اللّهم بلى»(3).

و عن (المجمع) أنّه روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام(4).

و عن ابن عباس من قرأها فليقل: سبحانك اللّهم بلى، إماما كان أو مأموما(5).

و في رواية: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: «بلى و اللّه، بلى و اللّه»(6).

عن الباقر عليه السّلام: «من أدمن قراءة لاٰ أُقْسِمُ و كان يعمل بها بعثه اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبره في أحسن صورة، و يبشّره و يضحك في وجهه حتّى يجوز على الصراط و الميزان»(7).

وفّقنا اللّه و جميع المؤمنين لإدمان تلاوتها، و الحمد للّه تبارك و تعالى على التوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 384


1- . القيامة: 3/75.
2- . تفسير الرازي 234:30.
3- . تفسير الرازي 258:10، تفسير روح البيان 258:10.
4- . مجمع البيان 607:10، تفسير الصافي 258:5.
5- . تفسير روح البيان 258:10.
6- . تفسير روح البيان 258:10.
7- . ثواب الاعمال: 121، مجمع البيان 594:10، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 258:5.

في تفسير سورة الانسان

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتىٰ عَلَى الْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنّٰا خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) ثمّ لمّا ختمت سورة القيامة ببيان بدو خلق الانسان و خلق صنفين منه الذكر و الانثى، اردفت بسورة الانسان المبدوءة ببيان ابتداء خلق الانسان، و جعله صنفين الشكور و الكفور، و قال سبحانه في السورة السابقة: إنّ الكفّار يحبّون العاجلة و يذرون الآخرة، و في هذه السورة أنّهم يحبّون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر بدو خلق الانسان بقوله تعالى:

هَلْ أَتىٰ و مضى عَلَى الْإِنْسٰانِ في بدو خلقه حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ و مدّة طويلة من الزمان و هو لَمْ يَكُنْ في تلك المدّة شَيْئاً و موجودا مَذْكُوراً باسم من الأسماء، بل كان في هذا العالم معدوما صرفا، و إنما كان في علم اللّه مقدورا عنها، كان مذكورا في علم اللّه و لم يكن مذكورا في الخلق.

و عن الصادق عليه السّلام: «كان مقدورا غير مذكور»(1).

و عنه عليه السّلام: «كان شيئا مقدورا و لم يكن مكوّنا»(2). قيل: إن المراد من الانسان في الآية آدم أبو البشر(3).

روي عن ابن عباس: أنّه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثمّ من صلصال فأقام أربعين سنة، ثمّ من حمإ مسنون، فأقام أربعين سنة، فتمّ خلقه بعد مائة و عشرين سنة، ثمّ نفخ فيه الرّوح(4).

و في رواية اخرى عنه: أنّ المراد من حِينٌ هنا هو الزمن الطويل الممتدّ الذي لا يعرف مقداره(5).

أقول: المراد من الزمن الطويل الذي لا يعرف مقداره مدّة كونه مقدورا في علم اللّه.

ثمّ بيّن سبحانه خلق أولاد آدم بقوله:

إِنّٰا خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ و أولاد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ

ص: 385


1- . الكافي 5/114:1، تفسير الصافي 259:5.
2- . مجمع البيان 614:10، تفسير الصافي 259:5.
3- . تفسير الرازي 235:30، تفسير أبي السعود 70:9.
4- . تفسير الرازي 235:30، تفسير أبي السعود 70:9.
5- . تفسير الرازي 235:30، و لم ينسبه إلى أحد.

و مختلط و مركب من ماء الرجل و ماء المرأة، على ما روى عن الباقر عليه السّلام(1).

قيل: لكلّ من الماءين أوصاف تغاير أوصاف الآخر، فانّ ماء الرجل أبيض غليظ له قوّة العقد، و ماء المرأة أصفر رقيق فيه قوّة الانعقاد، فما كان في الولد من عصب و عظم و قوّة فمن ماء الرجل، و ما كان فيه من لحم و دم و شعر فمن ماء المرأة. قيل: إنّه مروي(2).

و قيل: إنّ المراد اختلاط ماء الرجل بدم الحيض(3).

قال بعض المفسرين: إنّه يختلط الماء أولا بدم الحيض، ثمّ يصير علقة(4).

و قيل: إنّ المعنى من نطفة ذات أمشاج، و اخلاط من الطبائع كالحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة(5).

و قيل: يعني ذات أطوار و ألوان، فانّ النطفة تصير علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظاما إلى تمام الخلق، و هو مرويّ عن ابن عباس(4).

ثمّ بيّن سبحانه حكمة هذا الخلق البديع بقوله: نَبْتَلِيهِ و التقدير لنبتليه بالتكليف. و قيل: إنّه حال، و المعنى: حال كوننا مريدين ابتلاءه و امتحانه(5).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أعطاه ما يصحّ معه ابتلاؤه. بقوله: فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً فبالسمع يدرك الآيات التنزيلية و المواعظ الإلهية و بالبصر يدرك الآيات التكوينية و العبر النافعة.

و قيل: إنّ المراد أعطيناه الحواسّ الخمس، و إنّما خصّ الحسّين السمع و البصر - بالذكر لكونهما أعظمها و أشرفها و أنفعها(6). و قيل: إنّ المراد بهما الفهم و التميز(7) ، و المعنى: جعلناه فهيما مميزا.

إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً (3) إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ سَلاٰسِلَ وَ أَغْلاٰلاً وَ سَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرٰارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كٰانَ مِزٰاجُهٰا كٰافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهٰا عِبٰادُ اللّٰهِ يُفَجِّرُونَهٰا تَفْجِيراً (6) ثمّ بيّن سبحانه إتمام لطفه به بقوله تعالى:

إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ بتوسّط إعطائه العقل و إرسال الرسول و إنزال الكتب السماوية اَلسَّبِيلَ الذي يوصله إلى قربنا، و كأنّه تعالى قال: خلقته للابتلاء، و أعطيته جميع ما يحتاج إليه في التعيّش و الهداية إلى الحقّ ليكون إِمّٰا شٰاكِراً لنعم اللّه بالايمان و الطاعة

ص: 386


1- . تفسير القمي 398:2، تفسير الصافي 259:5.
2- . تفسير أبي السعود 70:9، تفسير روح البيان 260:10.
3- . تفسير روح البيان 260:10. (4و5) . تفسير الرازي 236:30.
4- . تفسير أبي السعود 70:9 و لم ينسبه إلى أحد.
5- . تفسير الرازي 237:30.
6- . تفسير الرازي 237:30.
7- . تفسير الرازي 237:30.

وَ إِمّٰا كَفُوراً لنعمه بالكفر و العصيان.

و قيل: إنّ المعنى أنّا هديناه، فان شاء فليشكر، و إن شاء فليكفر(1).

و قيل: إنّ المراد إنّا مكّناه سلوك الطريق الموصل إلى المطلوب في حالتي شكره و كفرانه(2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «عرّفناه إمّا آخذا، و إمّا تاركا»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «إمّا آخذ فشاكر، و إما تارك فكافر»(4).

ثمّ بيّن حال الكافرين في الآخرة بقوله:

إِنّٰا أَعْتَدْنٰا و هيأنا لِلْكٰافِرِينَ في الآخرة سَلاٰسِلَ يقادون بها وَ أَغْلاٰلاً و قيودا يقيّدون بها. و قيل: إنّ السلاسل بها تشدّ أرجلهم، و الأغلال تشدّ بها أيديهم إلى رقابهم (5)وَ سَعِيراً و نارا مشتعلة موقدة بأجسادهم كما توقد بالحطب.

ثمّ بيّن سبحانه حال الشاكرين بقوله تعالى:

إِنَّ الْأَبْرٰارَ و الشاكرين الأخيار يَشْرَبُونَ في الآخرة مِنْ كَأْسٍ و إناء خمر كٰانَ في علم اللّه مِزٰاجُهٰا و خليطها شيئا يشبه كٰافُوراً في البياض و البرودة و طيب الرائحة عن ابن عباس: أنّ المراد بالكأس هو الخمر(6).

و قيل: إنّ الكافور اسم عين في الجنّة ماؤها في البياض و البرودة و الرائحة كالكافور، و لكن ليس فيه طعمه و مضرّته، و المراد أنّ شرابهم ممزوج بماء تلك العين(7) ، أعني

عَيْناً صفتها أنّه يَشْرَبُ الخمر ممزوجة بِهٰا أو يلتذّ بها عِبٰادُ اللّٰهِ الأبرار، و هم يُفَجِّرُونَهٰا و يجرونها حيث شاءوا من منازلهم تَفْجِيراً سهلا لا كلفة عليهم فيه.

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخٰافُونَ يَوْماً كٰانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً (9) إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ رَبِّنٰا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقٰاهُمُ اللّٰهُ شَرَّ ذٰلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّٰاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11) وَ جَزٰاهُمْ بِمٰا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهٰا عَلَى الْأَرٰائِكِ لاٰ يَرَوْنَ فِيهٰا شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً (13) ثمّ بيّن سبحانه أعمالهم التي يستحقّون بها هذا الأجر، كأنّه قيل: بما ذا استحقّوا هذا الأجر؟ فقال سبحانه:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ و يؤدّون ما أوجبوا على أنفسهم بسبب النّذر، فكيف بما أوجبه اللّه عليهم؟

ص: 387


1- . تفسير الرازي 238:30.
2- . تفسير أبي السعود 71:9.
3- . الكافي 3/124:1، التوحيد: 4/411، تفسير الصافي 259:5.
4- . تفسير القمي 398:2، تفسير الصافي 259:5.
5- . تفسير الرازي 240:30. (6و7) . تفسير الرازي 240:30.

وَ مع ذلك يَخٰافُونَ لاحتمال التقصير في عبادة ربّهم يَوْماً عظيما كٰانَ شَرُّهُ و هو له و عذابه مُسْتَطِيراً و منتشرا في أقطار العالم غاية الانتشار، و بالغا أقصى المبالغ، و واصلا إلى كلّ أحد إلاّ من آمنه اللّه من المؤمنين المطيعين، أو المعنى: شرّه سريع الوصول إلى العصاة. و عن الباقر عليه السّلام «كلوحا عبوسا»(1).

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعٰامَ مع شدّة حاجتهم إليه، و كونهم عَلىٰ حُبِّهِ عن الباقر عليه السّلام يقول: «على شهوتهم»(2). و قيل: إطعاما كائنا على حبّ اللّه (3)مِسْكِيناً و فقيرا من المؤمنين وَ يَتِيماً من يتاماهم وَ أَسِيراً من الكفّار.

عن الباقر عليه السّلام قال: «مسكينا من مساكين المسلمين، و يتيما من يتامى المسلمين، و أسيرا من اسارى المشركين»(4).

و هم يقولون: لا نمنّ عليكم بإطعامكم لأنّا

إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ و طلبا لمرضاته لاٰ نُرِيدُ و لا نطلب مِنْكُمْ بإطعامنا إياكم جَزٰاءً و أجرا بالمال و النفس وَ لاٰ شُكُوراً و عوضا بالمدح و الدعاء.

عن الباقر عليه السّلام قال: «يقولون إذا أطعموهم ذلك قال: «و اللّه ما قالوا هذا لهم، و لكنّهم أضمروه في أنفسهم، فأخبر بإضمارهم، يقولون: لا نريد منكم جزاء تكافئوننا به، و لا شكورا تثنون علينا به، و لكنّنا إنّما أطعمناكم لوجه اللّه و طلب ثوابه»(5).

و كذا

إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ عذاب رَبِّنٰا يَوْماً تكون الوجوه فيه عَبُوساً قَمْطَرِيراً و منقبضا شديد الانقباض. روي أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل العرق من بين عينيه كالقطران(6). و قيل: إنّه شبّه اليوم بالأسد العبوس في الشدّة و الضّراوة(7) ، فيكون المعنى: أنّا نخاف من اليوم الذي كالأسد العبوس الشديد العبوسة، و لذا نعطيكم ليقينا اللّه برحمته من شرّ ذلك اليوم العظيم.

فَوَقٰاهُمُ اللّٰهُ و حفظهم و دفع عنهم شَرَّ ذٰلِكَ الْيَوْمِ بسبب عطائهم و خوفهم وَ لَقّٰاهُمْ و أعطاهم بسبب طلبهم رضى اللّه نَضْرَةً و بهجة كاملة في وجوههم بدل عبوس الكفّار وَ سُرُوراً عظيما في قلوبهم بدل غمّ الفجّار و حزنهم

وَ جَزٰاهُمْ في القيامة بِمٰا صَبَرُوا على الجوع و إيثار المحتاجين على أنفسهم جَنَّةً ذات أشجار و ثمار و قصور عالية يسكنونها و يأكلون من ثمارها و نعمها التي لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر مثلها بقلب أحد وَ حَرِيراً و لباسا من

ص: 388


1- . أمالي الصدوق: 390/333.
2- . أمالي الصدوق: 390/333.
3- . تفسير روح البيان 265:10.
4- . أمالي الصدوق: 390/333، تفسير الصافي 260:5.
5- . أمالي الصدوق: 390/333، تفسير الصافي 260:5.
6- . تفسير الرازي 247:30، تفسير روح البيان 267:10.
7- . تفسير أبي السعود 72:9، تفسير روح البيان 267:10.

سندس و استبرق يلبسونه و يتزيّنون به حال كونهم

مُتَّكِئِينَ فِيهٰا و معتمدين كالسلاطين على الوسائد التي تكون عَلَى الْأَرٰائِكِ و السّرر الموضونة بقضبان الذهب و الفضّة و أنواع الجواهر، موضوعة في البيوت المزيّنة بالثياب و السّتور، كذا قيل(1).

لاٰ يَرَوْنَ اولئك الأبرار الساكنون في الجنة فِيهٰا وقتا من الاوقات شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً و لا يحسّون حرا و لا بردا، بل هواؤها في غاية الاعتدال في الحديث: «هواء الجنّة سجسج(2) لا حرّ فيه و لا قرّ»(3).

روى بعض العامة عن ابن عباس أنّه قال: بينما أهل الجنّة في الجنّة إذ رأوا ضوء كضوء الشمس، و قد أشرقت الجنان له، فيقول أهل الجنّة: يا رضوان، قال ربّنا عزّ و جلّ: لاٰ يَرَوْنَ فِيهٰا شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً. فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس و لا قمر، و لكن هذه فاطمة و على ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما، و فيهما أنزل اللّه هَلْ أَتىٰ عَلَى الْإِنْسٰانِ إلى قوله: وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (4).

وَ دٰانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاٰلُهٰا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهٰا تَذْلِيلاً (14) وَ يُطٰافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوٰابٍ كٰانَتْ قَوٰارِيرَا (15) قَوٰارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهٰا تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيهٰا كَأْساً كٰانَ مِزٰاجُهٰا زَنْجَبِيلاً (17) ثمّ بيّن سبحانه حالهم من حيث الراحة بقوله:

وَ دٰانِيَةً عَلَيْهِمْ أغصان أشجار الجنّة، و قريبة منهم ظِلاٰلُهٰا.

قيل: إنّ المراد لمن خاف ربّه جنتان: جنّة فيها حرير لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا، و جنّة اخرى دانية عليهم ظلالها، و المقصود أنّه لو كان فيها شمس كانت أشجارها مظلّة لهم(5).

وَ ذُلِّلَتْ و قربت منهم، أو انقادت لهم قُطُوفُهٰا و ثمارها تَذْلِيلاً تاما بحيث لا يصعب لمن يريدها اقتطافها في حال القيام و القعود و الاضطجاع. عن البراء بن عازب، قال: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاءوا، فمن أكل قائما لم يؤذه، و من أكل جالسا لم يؤذه(6).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهٰا تَذْلِيلاً من قربها منهم، يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه

ص: 389


1- . تفسير روح البيان 269:10.
2- . يقال: يوم سجسج: لا حرّ فيه و لا برد.
3- . تفسير روح البيان 270:10.
4- . تفسير روح البيان 270:10، و الآيات من سورة الانسان: 1/76-22.
5- . تفسير ابى السعود 73:9، تفسير الرازي 249:30.
6- . تفسير الرازي 248:30.

من الثمار بعينه(1) و هو متكئ»(2).

وَ يُطٰافُ و يدور عَلَيْهِمْ في قصورهم بِآنِيَةٍ و أوعية كالقدح و الكأس مخلوقة مِنْ جنس فِضَّةٍ لها غاية اللّطافة وَ أَكْوٰابٍ و كيزان لا عري لها و لا آذان يصبّ منها المشروب في الآنية كٰانَتْ و وجدت حال كونها في الصفاء و الشفافية تشبه قَوٰارِيرَا و آنية زجاجية، و لكن لا قوارير متكونة من الرمل كما القارورة في الدنيا كذلك، بل

قَوٰارِيرَا متكونة مِنْ فِضَّةٍ فكما أنّ اللّه قادر على أن يقلب الرمل الكثيف في الدنيا زجاجة صافية شفّافة، قادر على أن يقلب فضّة الآخرة زجاجة صافية، ففي آنية الآخرة صفاء الزجاج و شفافيته، و نقاء(3) الفضّة و شرفها.

عن ابن عباس: ليس في الدنيا شيء ممّا في الجنّة إلاّ الأسماء(4). و قيل: إنّ الأكواب تكون من فضة، و لكن لها صفاء القارورة(5). عن الصادق عليه السّلام: «ينفذ البصر في فضّة الجنّة، كما ينفذ في الزّجاجة»(6).

و قيل: إنّ المراد من قَوٰارِيرَا في الآية ليس هو الزّجاج، فانّ العرب تسمّى ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة و رقّ وصفا قارورة، فمعنى الآية: و أكواب من فضّة مستديرة صافية رقيقة(7).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه صفاء الأواني بقوله: كٰانَتْ قَوٰارِيرَا و نقائها بقوله: مِنْ فِضَّةٍ بيّن شكلها بأنّ الشاربين قَدَّرُوهٰا على قدر ريهم(8) بارادتهم و اشتهائهم، أو بأعمالهم الحسنة تَقْدِيراً موافقا لميلهم و اشتهائهم من غير زيادة و نقصان، و هو ألذّ لأهل الجنّة(9).

وَ يُسْقَوْنَ فِيهٰا بأمر اللّه كَأْساً كٰانَ مِزٰاجُهٰا و خليطها شيئا يشبه زَنْجَبِيلاً في الطعم و الرائحة، و لكن ليس فيه لذعه و إحراقه، و كان الشراب الممزوج به أطيب ما تستطيبه العرب و ألذّ ما تستلذّه.

عَيْناً فِيهٰا تُسَمّٰى سَلْسَبِيلاً (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰانٌ مُخَلَّدُونَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) ثمّ لمّا كان تسمية المزاج بالزنجبيل موهمة لأن لا يكون له سلاسة الانحدار في الخلق و سهولة المساغ، كما هو مقتضى اللّذع و الإحراق، دفع سبحانه التوهّم بقوله:

عَيْناً فِيهٰا تُسَمّٰى عند أهل الجنّة و خزنتها سَلْسَبِيلاً و مشروبا في غاية العذوبة و سهولة المساغ، و نهاية السّلاسة.

ص: 390


1- . في الكافي بفيه.
2- . الكافي 69/99:8، تفسير الصافي 263:5.
3- . في النسخة: و شفافته، و نقلوا.
4- . تفسير الرازي 249:30، تفسير روح البيان 271:10.
5- . تفسير الرازي 249:30.
6- . مجمع البيان 621:10، تفسير الصافي 263:5.
7- . تفسير الرازي 249:30.
8- . في النسخة: يريهم.
9- . في النسخة: ألذّ أهل الجنّة بقوله.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ معنى سلسبيل: سل سبيلا إليها»(1).

أقول: الظاهر أنّه بيان وجه التسمية، فانّه لا يشرب منها إلا من سأل سبيلا إليها بالأعمال الصالحة.

و عن (الخصال) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أعطاني اللّه خمسا: و أعطى عليا خمسا؛ أعطاني الكوثر، و أعطاه السلسبيل»(2).

ثمّ وصف سبحانه الخدّام الطائفين بقوله:

وَ يَطُوفُ بالكأس عَلَيْهِمْ في الجنّة وِلْدٰانٌ و غلمان مُخَلَّدُونَ و باقون أبدا على ما هم عليه من الحياة و الحسن و الطّراوة و المواظبة على الخدمة. و عن الفراء و القمي: يعني مسوّرون(3). و قيل: يعني محلّون(4). و قيل: مقرّطون (5)إِذٰا رَأَيْتَهُمْ أيّها الرائي حَسِبْتَهُمْ في صفاء الألوان و انتشارهم في المجالس لُؤْلُؤاً رطبا اخرج من صدفه مَنْثُوراً و متفرّقا. قيل: إنّ اللؤلؤ إذا انتشر و تفرّق كان احسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على بعض(4).

روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هم ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا»(7).

و عن سلمان الفارسي: «هم أطفال المشركين خدّام أهل الجنّة»(8).

أقول: لا منافاة بينهما، لاحتمال كون كلّهم خدّاما.

وَ إِذٰا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20) عٰالِيَهُمْ ثِيٰابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَسٰاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ شَرٰاباً طَهُوراً (21) ثمّ بيّن سبحانه كمال نعمه عليهم و إكرامه لهم بقوله:

وَ إِذٰا رَأَيْتَ أيّها الرائي ثَمَّ و هناك رَأَيْتَ نَعِيماً وافرا لا يوصف حسنه و لذّته. عن ابن عباس: لا يقدر واصف وصف حسنه و لا طيبه(5)وَ مُلْكاً كَبِيراً قيل: إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، و يرى أقصاه كما يرى أدناه(6).

و قيل: إنّ الكبير بمعنى أنّه لا زوال له(7). و عن الصادق عليه السّلام: «أي لا يزول و لا يفنى»(8).

و قيل: إنّ الملك الكبير هو كثرة التعظيم(9) و الاكرام. روي أنّ الرسول يأتي من عند اللّه بكرامة من الكسوة و الطعام و الشراب و التّحف إلى وليّ اللّه و هو في منزله فيستأذن عليه، و لا يدخل عليه رسول ربّ العزّة من الملائكة المقرّبين إلاّ بعد الاستئذان(10).

ص: 391


1- . تفسير الرازي 250:30.
2- . الخصال: 57/293، تفسير الصافي 264:5.
3- . تفسير الرازي 251:30، تفسير القمي 399:2، و فيه: مستوون، تفسير الصافي 264:5. (4و5) . تفسير الرازي 251:30.
4- . تفسير روح البيان 273:10. (7و8) . تفسير روح البيان 274:10.
5- . تفسير الرازي 252:30.
6- . تفسير الرازي 252:30.
7- . تفسير الرازي 252:30.
8- . مجمع البيان 623:10، تفسير الصافي 264:5.
9- . تفسير الرازي 252:30.
10- . تفسير الرازي 252:30.

عن الباقر عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث: «و إنّ الملائكة من رسل اللّه لتستأذن عليه، و لا يدخلون عليه إلاّ بإذنه، فذلك الملك العظيم»(1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل ما هذا الملك الكبير الذي كبّره اللّه عزّ و جلّ حتّى سمّاه كبيرا؟ قال: «إذا أدخل اللّه أهل الجنّة الجنّة أرسل رسولا إلى وليّ من أوليائه، فيجد الحجبة على بابه، فتقول له: قف حتّى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربّه إلاّ بإذنه، فهو قول اللّه تعالى: وَ إِذٰا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (2).

عٰالِيَهُمْ و فوقهم و على ظهورهم، أو على خيامهم المضروبة عليهم ثِيٰابُ سُندُسٍ و ديباج رقيق خُضْرٌ وَ ثياب إِسْتَبْرَقٌ و حرير غليظ. قيل: إنّ الآية بيان للباس الولدان(3). وَ حُلُّوا و زيّنوا اولئك الأبرار أو الولدان أَسٰاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ قيل: كان الملوك يحلّون بها في الزمن الأول(4).

و قيل: أساور الذهب - كما في سورة الكهف - للأبرار، و الفضّة للولدان، أو كلاهما للأبرار يتعاقبون أو يجمعون بينهما(5).

وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ مضافا إلى الشرابين السابقين الممزوجين شَرٰاباً طَهُوراً هو أفضل و أعلى منهما: كما يدلّ عليه إسناد سقيه إلى ذاته المقدّسة و وصفه بالطّهورية.

قيل: هو عين على باب الجنّة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع اللّه ما كان في قلبه من غلّ و غشّ و حسد، و ما كان في جوفه من قدر أو أذى(6).

و قيل: يؤتون بالطعام و الشراب، فإذا كان في آخر ذلك يؤتون بالشراب الطّهور فيشربون فتطهر بذلك بطونهم و يفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك(7).

و عن الباقر عليه السّلام في حديث «و على باب الجنة شجرة، إنّ الورق منها ليستظلّ تحتها ألف رجل من الناس، و عن يمين الشجرة عين مطهّرة مزكّية» قال: «فيسقون منها شربة فيطهّر اللّه بها قلوبهم من الحسد، و يسقط من أبشارهم الشعر، و ذلك قول اللّه: وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ شَرٰاباً طَهُوراً (8).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «يطهّرهم من كلّ شيء سوى اللّه»(9).

ص: 392


1- . تفسير القمي 248:2، الكافي 69/98:8، تفسير الصافي 264:5.
2- . معاني الأخبار: 1/210، تفسير الصافي 264:5.
3- . تفسير الرازي 253:30.
4- . تفسير روح البيان 253:30.
5- . تفسير روح البيان 275:10، و فيه: فللمقربون الذهب و للأبرار الفضة.
6- . تفسير الرازي 254:30.
7- . تفسير الرازي 254:30.
8- . تفسير القمي 54:2، عن الصادق عليه السّلام، الكافي 69/96:8، تفسير الصافي 265:5.
9- . مجمع البيان 623:10، تفسير الصافي 265:5.

إِنَّ هٰذٰا كٰانَ لَكُمْ جَزٰاءً وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) ثمّ يقول اللّه، أو الملائكة، للأبرار:

إِنَّ هٰذٰا الذي ترون من العطايا و الكرامات كٰانَ في علم اللّه لَكُمْ جَزٰاءً و عوضا بمقابلة أعمالكم الحسنة و عباداتكم المقبولة وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ و سرعتكم في الخيرات و تعبكم في الطاعات مَشْكُوراً عند اللّه و مرضيا له و مقابلا بالثواب العظيم، فيزداد بذلك الخطاب فرحهم و سرورهم.

روى كثير من مفسّري العامة كالواحدي و الزمخشري و أبي السعود و إسماعيل حقّي و غيرهم: أنّ الآيات نزلت في شأن علي و فاطمة و الحسن و الحسين، لرواية ابن عباس(1) ، و هي كما في (روح البيان): أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام مرضا فعادهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ناس معه، فقالوا لعليّ عليه السّلام: لو نذرت على ولديك نذر؟ فنذر عليّ و فاطمة عليهما السّلام و فضّة جارية لهما إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيام تقرّبا إلى اللّه و طلبا لمرضاته و شكرا له، فشفيا فصاموا و ما معهم شيء يفطرون عليه، فاستقرض علي عليه السّلام من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة أصوع من الشعير، فطحنت فاطمة عليها السّلام صاعا و خبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوا بين أيديهم وقت الإفطار ليفطروا به، فوقف عليهم سائل، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة.

فقال علي لفاطمة عليهما السّلام:

فاطم ذات المجد و اليقين يا بنت خير الناس أجمعين

أ ما ترين البائس المسكين قد قام بالباب له حنين

يشكو إلى اللّه و يستكين يشكو إلينا جائعا حزين

فقالت فاطمة عليها سلام اللّه:

أمرك يا ابن عم سمع طاعه ما بي من لؤم و لا ضراعة

أرجو إذا أشبعت ذا مجاعه ألحق بالأخيار و الجماعه

و أدخل الخلد و لي شفاعة

فآثروه كلّهم و باتوا و لم يذوقوا إلاّ الماء، و أصبحوا صياما، فطحنت فاطمة ثلثا آخر و خبزت، فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة.

ص: 393


1- . اسباب النزول: 248، الكشاف 670:4، تفسير أبي السعود 73:9، تفسير الرازي 244:30.

فقال: علي عليه السّلام لفاطمة عليهما السّلام:

إني لاعطيه و لا ابالي و أوثر اللّه على عيالي

أمسوا جياعا و هم أشبالي أصغرهم يقتل في القتال

فآثروه بطعامهم، و أفطروا بالماء، و باتوا جياعا، و أصبحوا صياما، فطحنت فاطمة الثّلث الباقي و خبزت، فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف أسير، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت النبوة، أسير من الاسارى، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة، فآثروه و لم يذوقوا إلاّ الماء.

فلمّا أصبحوا في اليوم الرابع أخذ علي بيد الحسن و الحسين عليهما السّلام، فأقبلوا النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم!» و قام فانطلق معهم، فرأى فاطمة سلام اللّه عليها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، و غارت عيناها، فساءه ذلك فنزل جبرئيل و قال: خذ يا محمد، هنّأك اللّه في أهل بيتك، فأقرأه السورة(1) ، انتهى.

قال إسماعيل حقي صاحب تفسير (روح البيان): الرواية ضعيفة لضعف راويها إلاّ أنّها مشهورة بين العلماء مسفورة في الكتب(2).

أقول: من العجب أنّ العامة يعتمدون على ما هو أضعف منها، و مع ذلك يظهرون الشكّ فيها مع اعترافهم بكونها من المشهورات.

ثمّ أنّهم قد ذكروا في ردّ هذه القضية: أنّ السورة مكية، و كان نكاح فاطمة في المدينة بعد وقعة احد.

و فيه: أنّ جمعا من علماء العامة و مفسّريهم منهم: مجاهد و قتادة قائلون بأنّ السورة مدنية إلاّ آية واحدة، و هي قوله: وَ لاٰ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً فانّها مكيّة، و كذا قال الحسن و عكرمة و المارودي على ما نقل عنهم أنّها مدنية إلاّ آية فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ... إلى آخره. و ممّا يدلّ على أنّها مدنية أن الأسير إنّما كان بالمدينة بعد آية القتال(3).

و قال صاحب (روح البيان): نحن لا نشكّ في صحّة القصّة (4)، فلا يصغى إلى ما قال الفخر الرازي من أنّه لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة كأبي بكر الأصمّ و أبي علي الجبّائي، و أبي القاسم الكعبي، و أبي مسلم الأصفهاني، و القاضي عبد الجبّار بن أحمد في تفاسيرهم أنّ هذه الآيات نزلت في حقّ علي بن أبي طالب عليه السّلام(3).

أقول: عدم ذكرهم القصّة لا يدلّ على إنكارهم بأنّ ظاهر الآيات العموم و لا وجه لتخصيصها، مع أنّ

ص: 394


1- . تفسير روح البيان 268:10.
2- . تفسير روح البيان 269:10. (3و2) . تفسير روح البيان 269:10.
3- . تفسير الرازي 243:30.

[القول بأنّ] تخصيصها ينافي نظم الآيات من الأغلاط، فانّ نزول آية في حقّ أحد لا يستلزم تخصيص عمومها، فانّ نزول آية: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ في شأن الوليد(1) ، و آية: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً في حقّ علي عليه السّلام و إنفاقه(2). و نزول آية إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ في البراء بن عازب و استنجائه بالماء و تهنيته الرسول صلّى اللّه عليه و آله بنزول الآية فيه(3).

نزول آية مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ في شأن عمّار بن ياسر(4) ، لا يوجب تخصيص عموم الآيات، بل معناه أنّ فعل أحد صار منشأ لنزول الآية، و كان النظر في الآية إلى ذلك الشخص تفصيلا - و إن كان الحكم في الآية شاملا لغيره إلى يوم القيامة - يدلّ على فضيلة عظيمة لذاك الشخص، كما ادّعوا نزول آية وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * اَلَّذِي يُؤْتِي مٰالَهُ يَتَزَكّٰى في حقّ أبي بكر و إنفاقه على المسلمين و يعدّونه من فضائله(5).

و روى في (المجالس) عن الصادق عليه السّلام ما يقرب من رواية عبد اللّه بن عباس، و في آخره: «فهبط جبرئيل فقال: يا محمد، خذ ما هنّأه اللّه لك(6) في أهل بيتك. فقال: ما آخذ يا جبرئيل؟ فقال: هَلْ أَتىٰ إلى قوله: وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (7).

و عن (المناقب) أنّه رواه عن أكثر من عشرين من كبار المفسّرين(8).

و في بعض الروايات عن الباقر عليه السّلام: «فرآهم النبي صلّى اللّه عليه و آله جياعا، فنزل جبرئيل و معه صحفة من الذهب مرصّعة بالدّرّ و الياقوت، مملوءة من الثريد، و عراق(9) يفوح منها رائحة المسك و الكافور، فجلسوا و أكلوا حتى شبعوا، و لم تنقص منها لقمة واحد، فخرج الحسين عليه السّلام و معه قطعة عراق، فنادته يهودية: يا أهل بيت الجود - أو الجوع - من أين لكم هذه! أطعمنيها، فمدّ يده الحسين عليه السّلام ليطعمها، فهبط جبرئيل و أخذها من يده، و رفع الصّحفة إلى السماء، فقال عليه السّلام، لو لا ما أراد الحسين عليه السّلام من إطعام الجارية تلك القطعة لتركت تلك الصّحفة في أهل بيتي يأكلون منها إلى يوم القيامة، و كانت الصدقة في ليلة خمس و عشرين من ذي الحجّة، و نزول هَلْ أَتىٰ في يوم الخامس

ص: 395


1- . تفسير الرازي 119:28، تفسير أبي السعود 118:8، و الآية من سورة الحجرات: 6/49.
2- . تفسير الرازي 83:7، تفسير أبي السعود 265:1، و الآية من سورة البقرة: 274/2.
3- . من لا يحضره الفقيه 59/20:1، الخصال: 267/192، و فيهما: البراء بن معرور، و الآية من سورة البقرة: 222/2.
4- . تفسير أبي السعود 143:5، تفسير روح البيان 84:5، و الآية من سورة النحل: 106/16.
5- . تفسير أبي السعود 168:9، و الآيتان من سورة الليل: 17/92 و 18.
6- . في المصدر: ما هيّأ اللّه لك.
7- . أمالى الصدوق: 390/332.
8- . مناقب ابن شهرآشوب 373:3، تفسير الصافي 262:5.
9- . العراق: العظم اكل لحمه.

و العشرين منه(1).

إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاٰ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) ثمّ لمّا ذكر سبحانه حسن طاعة الشاكرين و حالهم في الآخرة، صلّى رسوله و قوّى قلبه على تحمّل أذى المشركين بقوله:

إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ يا نبي الرحمة اَلْقُرْآنَ العظيم الشأن بتوسّط جبرئيل تَنْزِيلاً مقرونا بجهات من الإعجاز و شواهد الصدق، أو تنزيلا مفرّقا منجّما، لاقتضاء الحكمة البالغة اختصاص كلّ آية أو سورة بوقت معين، فلا تعتن بقول المعاندين إنّه سحر، أو شعر، أو كهانة، أو اختلاق البشر، فاذا علمت تلك النعمة العظيمة

فَاصْبِرْ على أذى المشركين لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير الإذن في قتالهم و نصرك على أعدائك، فانّ له عاقبة حميدة وَ لاٰ تُطِعْ مِنْهُمْ كلّ من كان آثِماً و عاصيا لربّه في أمرك بعصيان اللّه بترك تبليغ الرسالة أَوْ كان كَفُوراً و مصرّا على الكفر و الطغيان في أمرك بالرجوع إلى دينهم.

قيل: إنّ المراد بالآثم عتبة بن ربيعة، فانّه كان متعاطيا إلى أنواع الفسوق، و بالكفور الوليد بن المغيرة فانّه كان غاليا في الكفر(2) و قيل: بالعكس، فان اللّه سمّى الوليد أثيما، حيث قال في حقّه: مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (3).

روي أنّ عتبة قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله: ارجع عن هذا الأمر حتى ازوّجك بنتي، فانّي من أجمل قريش بناتا:

و قال الوليد: أنا اعطيك من المال حتّى ترضى، فانّي من أكثرهم مالا، فقرأ عليهم رسول اللّه عشر آيات من أول حم السجدة، إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صٰاعِقَةً مِثْلَ صٰاعِقَةِ عٰادٍ وَ ثَمُودَ (4) فانصرفا عنه، قال أحدهما: ظننت أن الكعبة ستقع عليّ(5).

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هٰؤُلاٰءِ يُحِبُّونَ الْعٰاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرٰاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْنٰاهُمْ وَ شَدَدْنٰا أَسْرَهُمْ وَ إِذٰا شِئْنٰا بَدَّلْنٰا أَمْثٰالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)

ص: 396


1- . مناقب ابن شهرآشوب 375:3، تفسير الصافي 262:5.
2- . تفسير الرازي 258:30، تفسير أبي السعود 75:9.
3- . تفسير الرازي 258:30، و الآية من سورة القلم: 12/68.
4- . فصلت: 13/41.
5- . تفسير الرازي 258:30.

ثمّ لمّا أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بالصبر أمره بالعبادة الموجبة لراحة قلبه الشريف بقوله:

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ و اشغل قلبك بالتوجّه إليه بُكْرَةً و أول النهار وَ أَصِيلاً و آخره. قيل: إنّ المراد المداومة على الذّكر في جميع الأوقات(1). و قيل: إنّ المراد المداومة على صلاة الفجر و الظهر و العصر، فانّ الأصيل يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب(2).

وَ في بعض مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ قيل: إنّ المراد بالسجدة صلاة المغرب و العشاء(3)وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً قيل: اريد به التهجّد و صلاة نافلة الليل في ثلثيه و نصفه و ثلثه(4).

و قيل: إنّ المراد بالذكر و التسبيح نفسهما. قال: اُذْكُرُوا اللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5).

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله شرع في بيان سوء حال الكفار و المتمرّدين بقوله:

إِنَّ هٰؤُلاٰءِ الكفّار يُحِبُّونَ الدنيا اَلْعٰاجِلَةَ الفانية، و يشتاقون إلى لذّاتها و مشتهياتها وَ يَذَرُونَ وَرٰاءَهُمْ و يدعون خلف ظهورهم يَوْماً ثَقِيلاً عليهم شديدا أهواله لهم، و لذا أعرضوا عن الايمان بك و بكتابك، و لا يعتنون بمواعظك التي فيها نفع آخرتهم، و ليس عدم إيمانهم لشبهة في نظرهم حتى تزيلها بالدلائل، و إلاّ لو كانوا تابعين(6) لعقولهم كان عليهم إطاعة أوامرنا و الانقياد لأحكامنا

نَحْنُ خَلَقْنٰاهُمْ و أعطيناهم الأعضاء و القوى التي يكمل بها خلقهم و تهيّأ(7) لهم حياتهم وَ شَدَدْنٰا ما حكمنا أَسْرَهُمْ و أعضائهم، ليتمكّنوا من القيام و القعود و الحركات التي ينتفعون بها من اللذائذ الدنيوية وَ إِذٰا شِئْنٰا أهلكناهم و بَدَّلْنٰا و عوّضنا عنهم في الأرض خلقا آخر أَمْثٰالَهُمْ في الخلقة و الشكل تَبْدِيلاً بديعا.

حاصل المراد و اللّه أعلم أنّهم محتاجون في الحياة و البقاء في الدنيا و الالتذاذ بشهواتها إلينا، و نحن مستغنون عنهم لعدم حاجتنا إلى الخلق، و لو فرض لنا حاجة لنا إليهم، بل نحن بقدرتنا الكاملة الذاتية قادرون على خلق أمثالهم.

إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ

ص: 397


1- . تفسير أبي السعود 75:9، تفسير روح البيان 278:10.
2- . تفسير روح البيان 278:10.
3- . تفسير الرازي 259:30، تفسير أبي السعود 76:9، تفسير روح البيان 278:10.
4- . تفسير روح البيان 278:10.
5- . تفسير الرازي 259:30، و الآيتان من سورة الاحزاب: 41/33 و 42.
6- . في النسخة: تابعا.
7- . كذا الظاهر، و الكلمة غير منقطة في النسخة.

إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشٰاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّٰالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً (31) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حال الشاكرين و الكافرين نبّه على الغرض من هذه البيانات بقوله:

إِنَّ هٰذِهِ المذكورات من الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب و الدلائل و الحكم تَذْكِرَةٌ و عظة شافية لمن تأمّل فيها، و تبصرة لمن تفكّر في لطائفها فَمَنْ شٰاءَ أيّها الناس خير الدارين و سعادة النشأتين اِتَّخَذَ و اختار لنفسه بالعمل بهذا القرآن إِلىٰ رَبِّهِ القرب إليه سَبِيلاً يصله إلى مرضاته و جنّته و النّعم الدائمة

وَ مٰا تَشٰاؤُنَ شيئا من الهداية و غيرها في حال من الأحوال إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ ذلك الشيء بالمشيئة التكوينية من غير أن يلزم جبران إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بذاته عَلِيماً بمصالح العباد و استعداداتهم حَكِيماً فيما يشاء لعباده، فلا يشاء لهم إلاّ ما تستدعيه و تقتضيه حكمته.

عن القائم عجل اللّه فرجه أنّه سئل عن المفوّضة - كذا في النسخة - قال: «كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشية اللّه عزّ و جلّ، فاذا شاء شيئا شئنا» ثمّ تلا هذه الآية(1).

ثمّ بيّن سبحانه حكم مشيته بقوله:

يُدْخِلُ اللّه مَنْ يَشٰاءُ سعادته و دخوله فِي رَحْمَتِهِ بإعطائه التوفيق و تأييده و تسديده وَ الظّٰالِمِينَ الذين ضيّعوا حقوق نعم اللّه بالكفر أَعَدَّ اللّه و هيّأ لَهُمْ في الآخرة عَذٰاباً أَلِيماً لا يوصف بالبيان.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة هَلْ أَتىٰ كان جزاؤه على اللّه جنّة و حريرا»(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ هَلْ أَتىٰ عَلَى الْإِنْسٰانِ كلّ غداة من الخميس، زوّجه اللّه من الحور العين ثمانمائة عذراء، و أربعة آلاف ثيّب، و كان مع محمد صلّى اللّه عليه و آله»(3).

و عن الهادي عليه السّلام: «من أحبّ أن يقيه اللّه شرّ [يوم] الاثنين، فليقرأ في أول ركعة من صلاة الغداة هَلْ أَتىٰ» (4).

ص: 398


1- . الخرائج و الجرائح 4/459:1، تفسير الصافي 266:5.
2- . تفسير البيضاوي 555:2، تفسير أبي السعود 77:9.
3- . ثواب الأعمال: 121، مجمع البيان 608:10، تفسير الصافي 266:5.
4- . أمالي الطوسي: 389/224، تفسير الصافي 266:5.

في تفسير سورة المرسلات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الْمُرْسَلاٰتِ عُرْفاً (1) فَالْعٰاصِفٰاتِ عَصْفاً (2) وَ النّٰاشِرٰاتِ نَشْراً (3) فَالْفٰارِقٰاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيٰاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) ثمّ لمّا ختمت سورة الإنسان المتضمّنة لذمّ الكفّار بأنّهم يذرون وراءهم يوما ثقيلا، و ذكر دلائل وقوعه، و سوء حال المكذّبين، و حسن حال المؤمنين، و نظمت سورة المرسلات المتضمّنة لاثبات وقوع ذلك اليوم الثقيل، و شرح ثقله بذكر أهواله و شدائده، و تهديد مكذّبيه، و بيان سوء حالهم، و حسن حال المؤمنين، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بالملائكة إظهارا لعظمتهم و كرامتهم عنده و تأكيدا للمدّعى بقوله:

وَ الْمُرْسَلاٰتِ من قبل اللّه من الملائكة، لإيصال النّعم إلى الخلق، و تبليغ الأحكام و العلوم إلى الرسل، و لخلق ما في الأرحام، و كتابة الأعمال، و حفظ النفوس من البلايا، و إنزال العذاب، إرسالا عُرْفاً و متتابعا كعرف الفرس، أو معروفا و مستحسنا عند العامّة، أو المؤمنين، فانّ نزول العذاب على الأعداء إحسان إلى الأولياء.

ثمّ رتّب سبحانه على رسالتهم بيان سرعتهم في امتثال أوامر اللّه بقوله:

فَالْعٰاصِفٰاتِ في طيرانهم، و المسرعات بالشّدة في امتثال أوامر اللّه، كما تصف الرياح عَصْفاً و سيرا شديدا، و قيل:

إنّ المراد بالعاصفات الملائكة الذين يلهبون بأرواح الكفار و يهلكونها (1)

وَ النّٰاشِرٰاتِ بأجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، أو الشرائع في أهل الأرض، أو للرحمة و العذاب، أو لصحف الأعمال يوم الحساب، أو للنفوس الموتى بالكفر و الجهل [بطريق] الوحي الذي هو حياة القلوب نَشْراً معجبا بديعا.

ثمّ رتّب سبحانه على نشرهم أمرين: الأول بقوله:

فَالْفٰارِقٰاتِ و المميزات بين الحقّ و الباطل

ص: 399


1- . تفسير الرازي 264:30.

فَرْقاً و تميزا ظاهرا، و الثاني بقوله:

فَالْمُلْقِيٰاتِ إلى الأنبياء ذِكْراً و عظة شافية، أو علما و حكمة، أو كتابا سماويا. قيل: هو القرآن، و إطلاق صيغة الجمع و إرادة جبرئيل وحده لتعظيمه، و إنّما يلقون الذّكر ليكون

عُذْراً و قاطعا للحجّة بالنسبة إلى الكافرين، أو عذرا للمعتذرين إلى اللّه بالتوبة و الاستغفار و المحقّين أَوْ نُذْراً و تخويفا للكافرين و المبطلين، أو بمن اتّبع الذكر.

و قيل: إنّ المراد من المرسلات و العاصفات الرياح المرسلة للعذاب، و من الناشرات رياح الرحمة نشرن في الجوّ و فرّقن السّحاب، أو نشرن للموات ففرّقن كلّ صنف منها عن سائر الأصناف، أو فرّقن بين الشاكرين لنعم اللّه و كفورها و بين الموحّد و المشرك، و ألقين الذكر و الايمان في قلوب المؤمنين(1).

و قيل: إنّ المراد من الجميع آيات القرآن، فإنّها المرسلات المتتابعات، أو بكلّ خير و معروف، و هي العاصفات و المذهبات بالأديان الباطلة، و هي الناشرات للهداية و الحكم في الأقطار، و الفارقات بين الحقّ و الباطل(2) ، و الذوات الطيبة و الخبيثة، و الملقيات لذكر اللّه في القلوب، و فيها العذر و النّذر.

و قيل: إنّ المراد من الثلاثة الأول الرياح، و من الاثنين الآخرين الملائكة فانّهم بإنزال الوحي يفرّقون بين الحقّ و الباطل، و يلقون الذّكر إلى الرسل(3).

و قيل: إنّ المراد بالأولين الرياح، و بالثلاثة الباقية الملائكة، لأنّهم ينشرون الوحي و الدين، و به يفرّقون بين الحقّ و الباطل، و يظهرون الذّكر في القلوب و الألسنة(4).

و الجمع بين القسم بالرياح و الملائكة، لكونهما شبيهتين في اللطافة و سرعة السير، و احتمل غير ذلك ممّا لا يهمّنا ذكره بعد وضوح كون التفسير الأول أقرب في النظر و أنسب.

إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَوٰاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَ إِذَا السَّمٰاءُ فُرِجَتْ (9) وَ إِذَا الْجِبٰالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّمٰا تُوعَدُونَ أيّها الناس بلسان الأنبياء من الحشر و الحساب و مجازاة الأعمال لَوٰاقِعٌ لا محالة لاقتضاء الحكمة البالغة ذلك، و امتناع الخلف للوعد

ص: 400


1- . تفسير الرازي 264:30.
2- . تفسير الرازي 266:30.
3- . تفسير الرازي 267:30.
4- . تفسير الرازي 267:30.

على اللّه.

ثمّ عيّن سبحانه وقته بذكر علاماته بقوله:

فَإِذَا النُّجُومُ و الكواكب كلّها طُمِسَتْ و انعدمت أجرامها، أو محقت أنوارها. عن الباقر عليه السّلام: «طموسها ذهاب ضوؤها»(1) ،

وَ إِذَا السَّمٰاءُ فُرِجَتْ لنزول الملائكة، أو فتحت أبوابها

وَ إِذَا الْجِبٰالُ كلّها نُسِفَتْ و فتّت و ذريت كالرمل فوق الأرض، أو قلعت من أماكنها بسرعة لانقضاء الدنيا و عدم الفائدة في بقائها أو بقاء السماء و ما فيها من الكواكب

وَ إِذَا الرُّسُلُ و الأنبياء الذين هم شهداء على اممهم أُقِّتَتْ و عيّنت لهم أوقات شهادتهم، أو بلغوا الميقات الذي كانوا ينتظرونه، و كانوا يعدّون وقوعه، و هو يوم القيامة و المجازاة بالأعمال.

ثمّ يقال تعجّبا من عظمة القيامة: أيّها الناس لا تدرون

لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ و اخّرت الامور الراجعة إلى الرسل من جمعهم و إحضارهم و تعذيب مكذّبيهم و إثابة مصدّقيهم و المؤمنين بهم. ثمّ كأنّه قال تعالى: إنّما أخّرت جميع ذلك

لِيَوْمِ الْفَصْلِ و القضاء بين الخلائق، كما عن ابن عباس(2).

ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم ذلك اليوم بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك يا محمد مٰا يَوْمُ الْفَصْلِ في كثرة الأهوال و الشدائد و شدّة الفظاعة

وَيْلٌ و هلاك دائم يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت الهائل لِلْمُكَذِّبِينَ بالأخبار بوقوع ذلك اليوم و بالرسل الذين أخبروا بوقوعه و بتوحيد اللّه، ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على إتيان ذلك اليوم و تعذيب المكذّبين به بما أنزل على الامم السابقة من العذاب المستأصل بقوله:

أَ لَمْ نُهْلِكِ الامم اَلْأَوَّلِينَ و السابقين بتكذيبهم التوحيد و الرسل و المعاد، كقوم نوح و عاد و ثمود بالعذاب الشديد

ثُمَّ نحن نُتْبِعُهُمُ في الاهلاك و العذاب الامم اَلْآخِرِينَ الذين هم نظراؤهم و السالكون مسلكهم في الكفر و تكذيب الرسل و المعاد

كَذٰلِكَ الفعل الذي فعلنا بالامم السابقين المكذّبين نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ و الطاغين الذين هم في عصرك و بعده

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ و في زمان إهلاكهم لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات اللّه و أنبيائه.

قيل: إنّه تعالى كرّر قضية الويل في السورة المباركة عشر مرات؛ لأنّ تكرار القضية المرعبة في مقام التوعيد و الترهيب دأب العرب، و هو من البدائع و المحسّنات(3).

و عن الكاظم عليه السّلام في تأويل الآية أنّه قال: «يقول: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يا محمد بما أوحيت إليك من ولاية عليّ» قال: «الأولين الذين كذّبوا الرسل في طاعة الأوصياء و نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ

ص: 401


1- . تفسير القمي 401:2، تفسير الصافي 268:5.
2- . تفسير الرازي 270:30.
3- . تفسير روح البيان 284:10.

قال: من أجرم إلى آل محمد و ركب من وصيّته ما ركب»(1).

أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنٰاهُ فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ (21) إِلىٰ قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنٰا فَنِعْمَ الْقٰادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفٰاتاً (25) أَحْيٰاءً وَ أَمْوٰاتاً (26) وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ شٰامِخٰاتٍ وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ مٰاءً فُرٰاتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) ثمّ أنكر سبحانه على الكفّار تكذيبهم بالمعاد لاستبعادهم إياه بتقريرهم بالخلق الأول الدالّ على إمكان الخلق الثاني و قدرته عليه بقوله:

أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ أيّها المنكرون للمعاد في الدنيا بقدرتنا مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ و مبتذل لا يعتنى به، و النّطفة القذرة التي يتنفّر منها

فَجَعَلْنٰاهُ و مكّناه فِي قَرٰارٍ و مقرّ مَكِينٍ و حصين و محفوظ من الآفات و العوارض الخارجية، و هو الرّحم الذي هو وعاء الولد حال كونه باقيا فيه

إِلىٰ قَدَرٍ و أجل معين و مقدار مَعْلُومٍ من الوقت الذي قدّره اللّه تعالى للولادة، و هو من ستة أشهر إلى تسعة أشهر

فَقَدَرْنٰا و خلقنا جسده و أعضاءه و جوارحه أكمل خلق فَنِعْمَ الْقٰادِرُونَ نحن.

قيل: يعني فقدرنا في ذلك المكان الضيق المظلم على خلقه و تصويره كيف شئنا، فنعم القادرون حيث خلقناه على أحسن صورة و هيئة(2) تكون مع صغره انموذجا للعالم الكبير.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على إعادته التي هي أهون.

قيل: إنّ اللّه تعالى خوّف الكفّار بكثرة نعمه عليهم، فانّ نعم المنعم إذا كانت أكثر كان عصيانه أقبح و عقابه أشدّ(3) ، فذكر اللّه سبحانه في الآية السابقة نعمة التي في أنفسهم، ثمّ ذكر نعمه الخارجية الآفاقية بقوله:

أَ لَمْ نَجْعَلِ لكم اَلْأَرْضَ الواسعة التي تحت أقدامكم كِفٰاتاً و جامعا أو حافظا(4) أو مساكن في حال كونكم

أَحْيٰاءً وَ كونكم أَمْوٰاتاً.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه نظر في رجوعه من صفّين إلى مقابر الكوفة، و قال: «هذه كفات الأموات» ثمّ نظر إلى بيوت الكوفة فقاله: «هذه كفات الأحياء» أي مساكنهم، ثمّ تلا هذه الآية»(5).

وَ جَعَلْنٰا لكم بعد خلق الأرض فِيهٰا جبالا رَوٰاسِيَ و ثوابت شٰامِخٰاتٍ و مرتفعات

ص: 402


1- . الكافي 91/361:1، تفسير الصافي 269:5.
2- . تفسير الرازي 273:30.
3- . تفسير الرازي 273:30.
4- . كذا، و الظاهر: و جامعة أو حافظة.
5- . تفسير القمي 400:2، تفسير الصافي 269:5.

و طوالا، لتكون أوتادا لها وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ برحمتنا من السماء و الأرض مٰاءً فُرٰاتاً و عذبا أو لذيذا

وَيْلٌ و عذاب أليم يَوْمَئِذٍ و في ذلك الزمان الخطير لِلْمُكَذِّبِينَ بهذه النّعم العظام، و المنكرين لقدرتنا على إعادة الخلق في يوم القيامة.

اِنْطَلِقُوا إِلىٰ مٰا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) اِنْطَلِقُوا إِلىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاٰثِ شُعَبٍ (30) لاٰ ظَلِيلٍ وَ لاٰ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) ثمّ ذكر سبحانه كيفية عذاب المكذبين يوم القيامة. قيل: إنّ الشمس تقرب فيه من رءوس الخلائق و ليس عليهم لباس و كنان، فتلفحهم(1) الشمس و تأخذ بأنفاسهم، و يمتدّ ذلك اليوم، و ينجّى اللّه المؤمنين إلى ظلّ عرشه، فهناك يقولون: فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْنٰا وَ وَقٰانٰا عَذٰابَ السَّمُومِ (2) و يقول خزنة جهنّم للمكذّبين:

اِنْطَلِقُوا و العبوا أيّها المكذّبون إِلىٰ مٰا كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تُكَذِّبُونَ من العذاب.

ثمّ يبالغون في تقريعهم بتكرار الأمر بقوله:

اِنْطَلِقُوا أيّها المكذّبون و اذهبوا إِلىٰ ظِلٍّ من دخان غليظ عظيم من نار جهنّم، أو ظلّ من نار ذِي ثَلاٰثِ شُعَبٍ قيل: شعبة عن يمينهم، و شعبه عن يسارهم، و شعبة فوق رءوسهم، فيكونون محاطين بالدّخان أو النار(3).

قيل: يخرج لسان من النار محيط بالكافر كالسّرادق، فيتشعّب ثلاث شعب يكون فيها حتّى يفرغ من الحساب (2)

لاٰ ظَلِيلٍ ذلك الظلّ و لا مانع لهم من حرّ الشمس، و قيل: يعني لا بارد (3)وَ لاٰ يُغْنِي الكفّار مِنَ حرّ اَللَّهَبِ و لا يبعدهم أو لا يسترهم منه.

عن الباقر عليه السّلام قال: «بلغنا و اللّه أعلم أنّه إذا سيق(4) أهل النار و ينطلق بهم قبل أن يدخلوا النار، فيقال لهم: ادخلوا إلى ظلّ ذي ثلاث شعب من دخان النار، فيحسبون أنّها الجنّة، ثمّ يدخلون النار أفواجا [أفواجا و] ذلك نصف النهار» انتهى(5).

إِنَّهٰا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمٰالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هٰذٰا يَوْمُ لاٰ يَنْطِقُونَ (35) وَ لاٰ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)

ص: 403


1- . في النسخة: فتلحقهم. (2و3) . تفسير الرازي 275:30. و الآية من سورة الطور 27:52.
2- . تفسير أبي السعود 80:9، تفسير روح البيان 286:10.
3- . تفسير الرازي 275:30.
4- . في تفسيري القمي و الصافي: استوى.
5- . تفسير القمي 113:2، تفسير الصافي 270:5.

ثمّ وصف سبحانه النار التي كان ذلك الظلّ دخانا لها بقوله:

إِنَّهٰا تَرْمِي بِشَرَرٍ و شعلات، كلّ شرر و شعلة في العظمة كَالْقَصْرِ العظيم و البناء الرفيع، عن ابن عباس: يريد القصور العظام(1).

و روي عنه: أنّ هذا التشبيه ورد في بلاد العرب، و قصورهم قصيرة السّمك(2) جارية مجرى الخيمة(3).

و في رواية اخرى عنه، أنّه سئل عن القصر، فقال: هو خشب كنّا ندّخره للشتاء نقطّعه(4). و قيل: هو اصول الشجر العظام و النّخل(5).

ثمّ شبه سبحانه كلّ شرر في اللون و التتابع و السرعة و الكثرة و الاختلاط بجماعة الابل السّود بقوله:

كَأَنَّهُ جِمٰالَتٌ و جماعة إبل صُفْرٌ كلّ شررة كأنّها جمل أصفر.

قيل: عبّر سبحانه عن الأسود بالأصفر، لأنّ لون الصّفرة هو السواد المختلط بالبياض، أو لأنّ الإبل السوداء سوادها يضرب إلى السّفرة، أو لأنّ الإبل الصفراء يشوب رءوس أشعارها السواد(4).

قيل: إنّ ابتداء الشّرر يعظم فيكون كالقصر، ثمّ يفترق فتكون القطع المتفرّقة كالجمالة الصّفر(7).

قيل: في تشبيه الشرر بالجمالة الصّفر تقريع بالكفّار، فانّهم كانوا يحبّون الجمال، و يعتقدون أنّ ملكها تمام النّعمة، كأنّه(8) قيل لهم: إنّكم كنتم تتوقعون من دينكم نعمة كثيرة(9) أهمّها عندكم جمالة و جماعة من الإبل، فاليوم صارت الجمالة المحبوبة عندكم هذه الشرارات.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذه الأهوال

هٰذٰا اليوم الذي فيه تلك الأهوال العظيمة يَوْمُ لاٰ يَنْطِقُونَ هؤلاء المكذّبون بشيء قيل: إنّ الكفّار حين السؤال ينطقون، فلمّا انقضى السؤال و الحساب لا ينطقون من الوحشة و عدم القدرة على التكلّم (5)

وَ لاٰ يُؤْذَنُ لَهُمْ من قبل اللّه فَيَعْتَذِرُونَ عن تقصيراتهم لعدم عذر لهم بعد إتمام الحجّة عليهم في الدنيا

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذه الأخبار.

هٰذٰا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنٰاكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) ثمّ يقال لهم توبيخا و تقريعا:

هٰذٰا اليوم العظيم الذي ترون أهواله يَوْمُ الْفَصْلِ بين الحقّ

ص: 404


1- . تفسير الرازي 276:30.
2- . السّمك: السقف أو الارتفاع.
3- . تفسير الرازي 277:30. (4و5) . تفسير الرازي 276:30.
4- . في النسخة: لأن الابل الأسود سواده يضرب إلى الصفرة، أو لأن الإبل الأصفر يشوب رءوس أشعاره بالسواد. راجع: تفسير روح البيان 188:10. (7-8-9) . تفسير الرازي 277:30.
5- . تفسير الرازي 279:30.

و الباطل، أو القضاء بين الناس أجمعين جَمَعْنٰاكُمْ يا امّة محمّد في هذا اليوم وَ الْأَوَّلِينَ و الامم السابقين لفصل القضاء و الحكم للمحقّ و على المبطل

فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ أيّها الكفّار المبطلون كَيْدٌ و حيلة في هذا اليوم لدفع العذاب عنكم، كما كان لكم في الدنيا مكائد لإبطال دعوة الرسل و صرف الناس عنهم فَكِيدُونِ و احتالوا و تخلّصوا من عذابي، و لكن لا تقدرون اليوم على كيد و حيلة، فعليكم أن تتحمّلوا ألم العذاب

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الذين لا حيلة لهم من التخلّص من العذاب.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاٰلٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَوٰاكِهَ مِمّٰا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المتّقين بقوله:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ و المحترزين عن الكفر و التكذيب في ذلك اليوم مستقرون فِي ظِلاٰلٍ يظلّهم من حرّ الشمس و غيره، و هو ظلّ العرش، أو أشجار الجنّة، لا كظلّ المكذّبين الذي ليس بظليل عن القمي في ظلال من نور أنور من نور الشمس(1). و عن الكاظم:

«هم نحن و شيعتنا»(2).

وَ في عُيُونٍ عذبة لذيذة يدفعون بمائها عطشهم

وَ في فَوٰاكِهَ كثيرة مِمّٰا يَشْتَهُونَ و يميلون إليه: و الحاصل أنّهم مستغرقون في فنون النّعم و أنواع الترفّه، و يقال لهم تفريحا لقلوبهم:

أيّها المتقون

كُلُوا من نعم الجنة و فواكهها وَ اشْرَبُوا من أنواع أشربتها هَنِيئاً لكم، و شربا بلا داء و لا ضرر بِمٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة و العبادات المرضية

إِنّٰا بفضلنا و رحمتنا كَذٰلِكَ الجزاء الجزيل و الثواب العظيم نَجْزِي المؤمنين اَلْمُحْسِنِينَ في عقائدهم و أعمالهم و أخلاقهم، و بسبب طاعتهم لربّهم.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث يرون أنفسهم في غاية الذلّ و العذاب، و أعداءهم المخاصمين لهم في نهاية الكرامة و النّعم و الراحة، و أمّا المجرمون المكذّبون فيقال لهم في الدنيا:

كُلُوا من نعم الدنيا وَ تَمَتَّعُوا و انتفعوا بمشتهياتها زمانا قَلِيلاً أو انتفاعا يسيرا ينقضي بموتكم، فانّ تلذّذكم بها كتلذّذ من يأكل لقمة حلواء مسمومة مهلكة، ثمّ يموتون و يهلكون بها، و أنتم تبتلون بالعذاب لأجل إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ و طاغون على ربّكم

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتّع القليل.

ص: 405


1- . تفسير القمي 400:2، تفسير الصافي 271:5.
2- . الكافي 91/361:1، تفسير الصافي 271:5.

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاٰ يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) ثمّ بيّن سبحانه شدّة طغيانهم على اللّه بقوله:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أو اخضعوا لربّكم المنعم عليكم بتلك النّعم العظام الدنيوية و عظّموه شكرا عليها لاٰ يَرْكَعُونَ [* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ] و يصرّون على كفرهم. عن ابن عباس: أنّ المراد بالركوع في الآية الصلاة(1) ، فالمعنى أنّ الكفّار إذا دعوا للصلاة لا يصلّون، فذمّهم سبحانه على ترك انقيادهم للّه في الاصول و الفروع، و فيه دلالة على أنّ الكفار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاصول و معاقبون عليهما.

قيل: نزلت في ثقيف حين أمرهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة فقالوا: لا ننحني فانّها سبّة(2).

ثمّ لمّا بالغ سبحانه في كتابه الكريم في إقامة البراهين على وجوب الايمان باللّه و الانقياد له، و زجر الكفار عن العتوّ و العصيان، و مع ذلك لم يؤمنوا و لم يتأثّروا و لم يتّعظوا بمواعظه، ختم السورة المباركة بإظهار التعجّب من عدم إيمانهم بقوله:

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ و بيان غير القرآن و بَعْدَهُ مع كونه إعجازا و جامعا للمواعظ الشافية و العلوم و الحكم يُؤْمِنُونَ فاذا لم يؤمنوا به فهم في غاية القساوة و اللّجاج و العناد.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة وَ الْمُرْسَلاٰتِ عُرْفاً عرّف اللّه بينه و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله»(3).

ص: 406


1- . تفسير الرازي 284:30.
2- . مجمع البيان 636:10، تفسير الصافي 271:5، تفسير البيضاوي 559:2.
3- . ثواب الاعمال: 121، مجمع البيان 627:10، تفسير الصافي 272:5.

في تفسير سورة النبأ

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لبيان عظمة القيامة و أهوالها و الاستفهامات التقريرية لإثبات وقوعها بقوله: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ (1) إلى آخره، و بيان سوء حال المكذّبين بها و حسن حال المتّقين، نظمت السورة المباركة النبأ المتضمّنة لبيان عظمة ذلك اليوم و أهواله، و الاستفهامات التقريرية لإثبات وقوعه بقوله: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهٰاداً (2) إلى آخره، و بيان سوء حال المكذّبين به، و حسن حال المتّقين في الآخرة، فافتتحها سبحانه على دأبه بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها على القول الصحيح ببيان عظمة يوم القيامة بقوله:

عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ و عن أي خبر اولئك الكفّار يستخبرون بعضهم بعضا، أو كلّهم المؤمنين استهزاء، أو المؤمنون الرسول زيادة لليقين و البصيرة؟ يتساءلون

عَنِ النَّبَإِ و الخبر اَلْعَظِيمِ الشأن الذي لا أعظم منه. قيل: إنّ المراد من النبأ نبوّة محمد(3). و قيل: هو القرآن (4)

اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فبعضهم يقولون: إنّه سحر و بعضهم يقولون: إنّه شعر، و بعضهم يقولون: كهانة.

و قيل: إنّ المراد به وقوع يوم القيامة(5) ، و هو الأظهر، فانّ الكفّار كانوا فيه مختلفين، فبعضهم ينكرونه، و بعضهم يظهرون الشكّ فيه، و بعضهم ينكرون المعاد الجسماني دون الروحاني، و في الاستفهام غاية تفخيم شأنه.

و عن الصادق عليه السّلام - في تأويله - قال: «اَلنَّبَإِ الْعَظِيمِ الولاية»(6).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن تفسير عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ قال: «هو أمير المؤمنين عليه السّلام» و قال: «كان أمير

ص: 407


1- . المرسلات: 20/77.
2- . النبأ: 6/78.
3- . تفسير الرازي 4:31.
4- . مجمع البيان 639:10، تفسير الرازي 4:31.
5- . تفسير الرازي 3:31.
6- . الكافي 34/346:1، تفسير الصافي 273:5.

المؤمنين عليه السّلام يقول: ما للّه عزّ و جلّ آية أكبر منّي، و ما للّه نبأ أعظم منّي»(1).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عنه قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما للّه نبأ أعظم منّي، و ما للّه آية أكبر منّي، و قد عرض فضلي على الامم الماضية على اختلاف ألسنتهم فلم تقرّ لفضلي»(2).

و عن أبيه [عن آبائه] عن الحسين بن عليّ: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: يا علي، أنت حجّة اللّه، و أنت باب اللّه، و أنت الطريق إلى اللّه، و أنت النبأ العظيم»(3).

و روي العلامة رحمه اللّه في (نهج الحق) عن العامة تأويله بأمير المؤمنين عليه السّلام(4) أيضا.

أقول: هذه الروايات لا تنافي إرادة اللّه ظاهر الآية، و إن انطبق عنوان النبأ العظيم على أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا.

كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ (5) ثمّ ردع سبحانه الكفّار عن الاختلاف في المعاد بقوله:

كَلاّٰ ليس الأمر كما يقوله الكفّار في يوم القيامة، فإنّهم سَيَعْلَمُونَ أنّه حقّ واقع لا محالة.

و قيل: إنّ كَلاّٰ هنا بمعنى حقّا(5).

ثمّ كرّر سبحانه الرّدع و أبلغ فيه بكلمة ثُمَّ بقوله:

ثُمَّ كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ أنّه واقع لا دافع له، فلا مجال للشكّ فيه، و لا للتساؤل عنه لوضوحه.

و قيل: يعني كلاّ سيعلمون حقيته عند النّزع، ثمّ سيعلمون به يوم القيامة، أو سيعلمون حين البعث من القبور بالقيامة و الحشر و الحساب(6). ثمّ سيعلمون بالعذاب على التكذيب، أو سيعلمون ما اللّه فاعل بهم ثمّ سيعلمون أنّ الأمر ليس كما يتوهّمون من أنّ اللّه غير باعثهم، أو سيعلمون بما نزل بهم في الدنيا من العذاب و سيعلمون بما ينالهم في الآخرة، أو سيعلمون الكفّار سوء عاقبة تكذيبهم و سيعلمون المؤمنون حسن عاقبة تصديقهم(7).

و هذا التفسير أبعد من الكلّ، لظهور الآيتين في غاية التهديد و التشديد، و السين. في الفعلين للتقريب و التأكيد.

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهٰاداً (6) وَ الْجِبٰالَ أَوْتٰاداً (7) وَ خَلَقْنٰاكُمْ أَزْوٰاجاً (8) وَ جَعَلْنٰا

ص: 408


1- . الكافي 3/161:1، تفسير الصافي 273:5.
2- . تفسير القمي 401:2، تفسير الصافي 273:5.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 13/6:2، تفسير الصافي 273:5.
4- . نهج الحق: 211.
5- . تفسير الرازي 5:31.
6- . تفسير روح البيان 293:10.
7- . تفسير الرازي 5:31.

نَوْمَكُمْ سُبٰاتاً (9) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبٰاساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهٰارَ مَعٰاشاً (11) وَ بَنَيْنٰا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدٰاداً (12) وَ جَعَلْنٰا سِرٰاجاً وَهّٰاجاً (13) وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ الْمُعْصِرٰاتِ مٰاءً ثَجّٰاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَبٰاتاً (15) وَ جَنّٰاتٍ أَلْفٰافاً (16) ثمّ لمّا كان عمدة إنكار المنكرين بالنظر إلى استبعاد الإعادة المبنيّ على عدم المعرفة بقدرة اللّه، ذكر سبحانه الشواهد على كمال قدرته بقوله:

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ بقدرتنا لكم مِهٰاداً و فراشا تتقلّبون عليها كما تتقلّبون على فرشكم

وَ الْجِبٰالَ الرواسي في الأرض أَوْتٰاداً لها لتسكن و لا تميد بأهلها

وَ خَلَقْنٰاكُمْ من الماء المهين أَزْوٰاجاً و أصنافا ذكرا و انثى، ليسكن كلّ صنف إلى الآخر، و ينتظم أمر المعاش و المعاشرة و التناسل

وَ جَعَلْنٰا و صيّرنا نَوْمَكُمْ لطفا بكم سُبٰاتاً و قاطعا لحركات أعضائكم، و راحة لكم، و رافعا لتعبكم

وَ جَعَلْنَا و صيّرنا اَللَّيْلَ المظلم لكم لِبٰاساً و ساترا لكم بظلمته عن عيون الناس، كما يستر الناس عن عيونكم، فتستريحون فيه، و تقفون عن الحركة في مطلب المعاش

وَ جَعَلْنَا النَّهٰارَ لكم مَعٰاشاً و زمان اكتساب الرزق و التقلّب في وجه الأرض لطلب المعاش

وَ بَنَيْنٰا فَوْقَكُمْ من السماوات سَبْعاً غير العرش و الكرسيّ شِدٰاداً و غلاظا غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام، أو محكمات الخلق لا يؤثّر فيها مر الدهور و كرّ العصور، و لا فطور فيها و لا فروج.

قيل: إنّ إطلاق البناء على السقف مع أنّه لا يستعمل إلاّ في أسافل البيت(1) ، للدلالة على كمال الاستحكام، أو لتنزيلها منزلة القبّاب المضروبة على الخلق(2).

وَ جَعَلْنٰا و خلقنا لأهل العالم سِرٰاجاً و مصباحا وَهّٰاجاً و وقّادا، أو مضياء في الغاية. عن ابن عباس: الوهّاج مبالغة في النور(3).

وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ الْمُعْصِرٰاتِ و الرياح المثيرات للسّحاب، كما عن ابن عباس(4) ، أو السّحاب كما في رواية اخرى عنه (5)مٰاءً ثَجّٰاجاً و شديد الانصباب و متتابع القطر عظيم النفع

لِنُخْرِجَ بِهِ من الأرض حَبًّا و نباتا له الاكرام و الثّمار وَ نَبٰاتاً لا أكمام له كالحشائش

وَ جَنّٰاتٍ و بساتين أَلْفٰافاً و متداخلات أو متقاربات، لتتفكّهوا بثمارها، فذكر سبحانه أولا أغذية الانسان بقوله:

حَبًّا ثمّ ذكر علوفة الحيوانات بقوله: وَ نَبٰاتاً و بعدها ما يستلذّ به الانسان من الفواكه.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كٰانَ مِيقٰاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوٰاجاً (18) وَ فُتِحَتِ

ص: 409


1- . تفسير الرازي 8:31.
2- . تفسير روح البيان 296:10. (3-4-5) . تفسير الرازي 8:31.

اَلسَّمٰاءُ فَكٰانَتْ أَبْوٰاباً (19) وَ سُيِّرَتِ الْجِبٰالُ فَكٰانَتْ سَرٰاباً (20) ثمّ إنّه تعالى بعد ما بيّن كمال قدرته و حكمته و إتمام نعمته على الخلق من حيث المسكن و أسباب المعيشة و الراحة في الدنيا، ذكر أحوال الآخرة بقوله:

إِنَّ يوم القيامة الذي هو يَوْمَ الْفَصْلِ و القضاء بين الناس كٰانَ بتقدير اللّه مِيقٰاتاً و زمانا تنتهي إليه الدنيا أو الخلائق، أو موعدا للجزاء على الأعمال أو لاجتماع الخلائق.

ثمّ بيّن سبحانه ذلك اليوم بقوله:

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ النفخة الثانية التي هي نفخة الإحياء فَتَأْتُونَ أيّها الناس بعد إحيائكم في القبور و بعثكم منها إلى المحشر حال كونكم أَفْوٰاجاً و جماعات قيل: يأتي كلّ نبي مع امّته(1) ، و قيل: يعني فرقا مختلفة(2).

روي عن معاذ أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنه فقال: «يا معاذ، سألت عن أمر عظيم من الامور» ثمّ أرسل عينيه و قال: «يحشر عشرة أصناف من امّتي بعضهم على صورة القردة، و بعضهم على صورة الخنازير، و بعضهم منكوسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، و بعضهم عمي، و بعضهم صمّ بكم، و بعضهم يمضغون ألسنتهم و هي مدلاّة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقدّر أهل الجمع منهم، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم، و بعضهم مصلّبون على جذوع من نار، و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف، و بعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأمّا الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس، و أمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السّحت، و أمّا المنكوسون على وجوههم فأكلة الرّبا، و أما العمي فالذين يجورون في الحكم، و أمّا الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم، و أمّا الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القضاة الذين تخالف أقوالهم أعمالهم، و أمّا الذين قطّعت أيديهم و أرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، و أمّا المصلّبون على جذوع النار فالسعاة بالناس إلى السّلطان، و أمّا الذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات و اللذات و منعوا حقّ اللّه تعالى من أموالهم، و أموالهم، و أمّا الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر و الفخر و الخيلاء»(3).

و رواه في (المجمع) عن النبي(4).

وَ فُتِحَتِ السَّمٰاءُ و انشقّت شقوقا كثيرة فَكٰانَتْ السماء لكثرة الشّقوق (5)أَبْوٰاباً لنزول

ص: 410


1- . تفسير الرازي 10:31.
2- . تفسير الرازي 10:31.
3- . تفسير الرازي 10:31، جوامع الجامع: 526، تفسير أبي السعود 89:9، تفسير روح البيان 299:10.
4- . مجمع البيان 642:10، تفسير الصافي 275:5.
5- . زاد في النسخة: كأنّها، و لا تصحّ، لأن لفظ الآية بعدها منصوب.

الملائكة قيل: إنّ التقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا(1). و قيل: إنّ المراد من فتحها إزالتها و إعدامها، فكانت مكانها طرق و مسالك للملائكة (2)

وَ سُيِّرَتِ الْجِبٰالُ في الجوّ بعد انقلاعها من أماكنها فَكٰانَتْ و صارت في الأنظار شيئا و ليست بشيء، كما ترى سَرٰاباً تحسبه ماء و ليس بماء.

قيل: إنّ اللّه تعالى أخبر عن الجبال بحالات؛ فأوّلها أنّها تندكّ و تتقطّع، ثمّ تصير كثيبا مهيلا و تلا من رمل، ثمّ تصير كالعهن، ثمّ تنسفها الرياح فتصير هباء و ذرات منبثّة في الهواء، فتصير في الهواء كقطعة من الأرض تسير في الجوّ، و ترى الأرض التي تحتها بارزة، و هي في هذه الحالة مثل السّراب، فكما أنّ السراب تحسبه ماء و ليس بماء، كذلك الجبال تحسبها جبالا و ليست بجبال في الحقيقة، بل هي غبار(3).

إِنَّ جَهَنَّمَ كٰانَتْ مِرْصٰاداً (21) لِلطّٰاغِينَ مَآباً (22) لاٰبِثِينَ فِيهٰا أَحْقٰاباً (23) لاٰ يَذُوقُونَ فِيهٰا بَرْداً وَ لاٰ شَرٰاباً (24) إِلاّٰ حَمِيماً وَ غَسّٰاقاً (25) جَزٰاءً وِفٰاقاً (26) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان خراب الدنيا و مجيء الناس إلى الحشر، بيّن حال جهنّم بقوله:

إِنَّ جَهَنَّمَ كٰانَتْ في علم اللّه، أو صارت مِرْصٰاداً و محلاّ لترقّب خزنتها ورود الناس، فالمؤمنون يمرّون عليها كالبرق الخاطف أو كالراكب، و تكون

لِلطّٰاغِينَ و العتاة و المتمرّدين خاصة مَآباً و مرجعا و مستقرا حال كونهم

لاٰبِثِينَ و مقيمين فِيهٰا أَحْقٰاباً و دهورا كثيرة لا نهاية لها.

عن ابن عباس: أنّ الأحقاب ثلاثة و أربعون حقبا، كلّ حقب سبعون خريفا، كلّ خريف سبعمائة سنة، كلّ سنة ثلاثمائة و ستون يوما، كلّ يوم ألف سنة من أيام الدنيا(4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا، و الحقب ثمانون سنة، و السنة ثلاثمائة و ستون يوما، و اليوم كألف سنة ممّا تعدّون، فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار»(5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «الأحقاب ثمانية حقب، و الحقب ثمانون سنة، و السنة ثلاثمائة و ستون يوما، و اليوم كألف سنة ممّا تعدّون»(6).

ص: 411


1- . تفسير الرازي 11:31.
2- . تفسير روح البيان 30:10.
3- . تفسير روح البيان 301:10.
4- . تفسير روح البيان 302:10.
5- . مجمع البيان 643:10، تفسير الصافي 276:5.
6- . معاني الأخبار: 1/220، تفسير الصافي 276:5.

و عن الصادقين عليهما السّلام: «هذه في الذين يخرجون من النار»(1).

و قيل: إنّه كناية عن الدوام و الخلود(2) ، و على أيّ تقدير أهل النار

لاٰ يَذُوقُونَ فِيهٰا و لا يحسّون بَرْداً ينتفعون و يستريحون به، و عن بعض مفسري العامة و القمّي: يعني نوما (3)وَ لاٰ شَرٰاباً رافعا لعطشهم

إِلاّٰ حَمِيماً و ماء متناهيا في الحرارة وَ غَسّٰاقاً و قيحا سائلا من جلود أهل النار، إنّا نجازيهم

جَزٰاءً يكون وِفٰاقاً لعقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم، بلا زيادة عليها و لا نقصان، و مطابقا لها في العظم و الصّغر.

إِنَّهُمْ كٰانُوا لاٰ يَرْجُونَ حِسٰاباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا كِذّٰاباً (28) وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنٰاهُ كِتٰاباً (29) ثمّ حكى سبحانه اعتقادهم الموجب لذلك العذاب بقوله:

إِنَّهُمْ كٰانُوا في الدنيا لاٰ يَرْجُونَ و لا يحتملون حِسٰاباً لأعمالهم في الآخرة، و جزاء على سيئاتهم، و لذا كانوا لا يبالون منكرا، و لا يرغبون في معروف.

ثمّ حكى سبحانه أسوأ أعمالهم بقوله:

وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا الدالة على التوحيد و البعث و الحساب كِذّٰاباً و تكذيبا مفرطا إسرارا على الكفر و فنون القبائح و المعاصي، فلمّا كانت سيئاتهم بهذه الدرجة من العظمة استحقّوا هذه الدرجة الشديدة من العذاب، للزوم موافقة عذابهم و أعمالهم و معاصيهم.

ثمّ بيّن سبحانه علمه بميزان الأعمال و مقدار الجزاء بقوله:

وَ كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء منها الأعمال و جزاؤها أَحْصَيْنٰاهُ و علمناه حال كونه كِتٰاباً و مثبوتا في اللوح المحفوظ، أو المراد علمناه علما يكون في القوة و الثّبات كأنّه مكتوب، أو المراد أحصيناه إحصاء، و كتبناه كتابا في اللّوح المحفوظ، أو في صحف الحفظة.

فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّٰ عَذٰاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفٰازاً (31) حَدٰائِقَ وَ أَعْنٰاباً (32) وَ كَوٰاعِبَ أَتْرٰاباً (33) وَ كَأْساً دِهٰاقاً (34) لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ كِذّٰاباً (35) جَزٰاءً مِنْ رَبِّكَ عَطٰاءً حِسٰاباً (36)

ص: 412


1- . مجمع البيان 643:10، و تفسير الصافي 276:5، عن الباقر عليه السّلام.
2- . تفسير روح البيان 302:10.
3- . تفسير الرازي 14:31، تفسير القمي 402:2، تفسير الصافي 276:5.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه شدّة عذاب الطّغاة أظهر شدّة غضبه عليهم بتوجيه العتاب إليهم بقوله:

فَذُوقُوا أيّها الكفرة الطّغاة طعم العذاب كما ذقتم في الدنيا لذّة مشتهياتها فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلى الأبد إِلاّٰ عَذٰاباً قيل: كلّما استغاثوا من عذاب اغيثوا بأشدّ منه(1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار»(2).

قيل: إنّهم لمّا كانوا يزيدون تدريجا في تكذيب النبي صلّى اللّه عليه و آله و إيذائه و إيذاء المؤمنين، زاد اللّه متدرّجا في عذابهم لتحقيق الموافقة في الجزاء، فلا يرد ما قيل من أنّه لو كان العذاب الزائد مستحقّا في أول ورودهم في جهنّم كان تركه عفوا و إحسانا، فلا ينبغي للحكيم رجوعه عن عفوه و إحسانه، و إن كان غير مستحقّ فزيادته ظلم(3) ، مع أنّ التخفيف إلى مدّة لا ينافي عذابه فيما بعد.

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المتّقين في الآخرة بقوله:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ و المجتنبين عن الكفر و تكذيب الرسول و المعاد و العصيان في الآخرة مَفٰازاً و ظفرا بأقصى المطالب و أهمّ المقاصد بعد النجاة من النار، أعني بالمفازة

حَدٰائِقَ و بساتين ذات أشجار كثيرة و ثمار وافرة لم تر مثلها عين، و لم تسمع مثلها اذن وَ أَعْنٰاباً طيبة كثيرة. قيل: إنّما خصّها بالذكر لشرفها و فضلها(4).

وَ لهم نساء كَوٰاعِبَ و مستديرات الثديين، أو مرتفعاتها و أَتْرٰاباً و متساويات في السنّ.

عن الباقر عليه السّلام: «كَوٰاعِبَ أَتْرٰاباً فتيات ناهدات»(5).

وَ ان لهم كَأْساً من خمر دِهٰاقاً و مملوءة كما عن ابن عباس(6) ، أو متتابعة كما عن جماعة(7) ، أو صافية(8).

و هؤلاء المتّقون الذين هم في الجنة

لاٰ يَسْمَعُونَ من أحد فِيهٰا كلاما لَغْواً و باطلا وَ لاٰ كِذّٰاباً الذي كان الطاغوت يقولونه في الآيات. و الحاصل أنّ المتّقين لا يسمعون في الجنّة كلاما مشوّشا و لا كلاما ككلام الطّغات.

و قيل: إنّ ضمير فِيهٰا راجع إلى الكأس(9) ، و المعنى لا يسمعون في حال شربهم الخمر كلاما لغوا و باطلا، إذ لا تتغير عقولهم، و لا يتكلّمون بما لا فائدة فيه، كلّ ذلك يكون

جَزٰاءً على عقائدهم الصحيحة و أعمالهم الصالحة مِنْ رَبِّكَ الكريم الجواد، و يكون عَطٰاءً لهم حِسٰاباً و كافيا، أو كثيرا زائدا عن استحقاقهم بإزاء عملهم، فانّ الاحسان إلى المطيع بمقدار عمله واجب على اللّه،

ص: 413


1- . تفسير الرازي 19:31، و تفسير روح البيان 307:10، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.
2- . تفسير الرازي 19:31، و تفسير روح البيان 307:10، هذا الحديث و الذي قبله حديث واحد.
3- . تفسير الرازي 307:10.
4- . تفسير الرازي 308:10.
5- . تفسير القمي 402:2، تفسير الصافي 277:5. (6-7-8-9) . تفسير الرازي 20:31.

لأنّه لو لم يحسن لزم البخل و تساوي المطيع و المعاصي، و هما محالان، و أمّا الزائد فإحسان حسن غير واجب، فلذا جمع سبحانه في ثوابهم بين الجزاء و الإحسان، و هذا مراد من قال: العطاء موضع الفضل لا موضع الجزاء، لأنّ الجزاء على الأعمال، و الفضل موهبة من اللّه مختصة بالخواصّ من أوليائه.

عن (الأمالي) عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث قال: «حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم، و أعطاهم بكلّ واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللّه تعالى: جَزٰاءً مِنْ رَبِّكَ عَطٰاءً حِسٰاباً» (1).

رَبِّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا الرَّحْمٰنِ لاٰ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطٰاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلاٰئِكَةُ صَفًّا لاٰ يَتَكَلَّمُونَ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمٰنُ وَ قٰالَ صَوٰاباً (38) ثمّ بيّن سبحانه علّة جزائه و كثرة عطائه بقوله:

رَبِّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا هو اَلرَّحْمٰنِ و الفيّاض المطلق على جميع الممكنات بجميع الخيرات، فمن كان بهذه العظمة و الجود لا يضيع عمل عامل عنده، و لا يكون عطاءه قليلا، بل كان في غاية العظمة، و يكون من عظمته و كبريائه أنّ الأنبياء و الرسل و أعاظم الملائكة لاٰ يَمْلِكُونَ مِنْهُ لغاية عظمته و كبريائه خِطٰاباً و مكالمة معه و الاعتراض عليه في ثواب أو عقاب.

ثمّ لمّا كان المشركون مدّعين أنّ الملائكة و الأصنام شفعاءهم عند اللّه يوم القيامة، ردّهم سبحانه بقوله:

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ الذي هو أعظم من جميع الملائكة وَ الْمَلاٰئِكَةُ الذين هم سكّان السماوات و أقرب الموجودات إلى اللّه تعالى صَفًّا واحدا أو أكثر لاٰ يَتَكَلَّمُونَ في ذلك اليوم إجلالا له و خضوعا لديه و خوفا منه إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمٰنُ في التكلّم و الشفاعة وَ قٰالَ ذلك المأذون قولا صَوٰاباً و حقا واقعا في محلّه و مرضيا عنده، فكيف بغيرهم؟

و قيل: لا يتكلّمون في حقّ أحد إلاّ في حقّ شخص أذن له الرحمن و قال ذلك الشخص صوابا و حقّا - و هو التوحيد - دون غيره من أهل الشرك(2). و في ذكر الرحمن هنا إشعار بأنّ مناط الإذن هو الرحمة الواسعة.

ص: 414


1- . أمالي الطوسي: 31/26، تفسير الصافي 277:5.
2- . تفسير روح البيان 310:10.

قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل(1) ، و تخصيصه بالذكر لكونه أفضلهم، و قال جمع: إنّه أعظم من جبرئيل(2).

عن ابن مسعود: أنّه أعظم من السماوات و الجبال(3).

و عن بن عباس: أنّه ملك من أعظم الملائكة خلقا(4).

و عن القمي: أنّه ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو مع الأئمة عليهم السّلام، و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام(3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «نحن و اللّه المأذونون لهم يوم القيامة، و القائلون صوابا». قيل: ما تقولون إذا تكلّمتم؟ قال: «نمجّد ربّنا، و نصلّي على نبيّنا، و نشفع لشيعتنا و لا يردّنا ربّنا»(4).

ذٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ مَآباً (39) إِنّٰا أَنْذَرْنٰاكُمْ عَذٰاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مٰا قَدَّمَتْ يَدٰاهُ وَ يَقُولُ الْكٰافِرُ يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرٰاباً (40) ثمّ أكّد سبحانه ثبوت ذلك اليوم و رغّب الناس في التهية له بقوله:

ذٰلِكَ اليوم اَلْيَوْمُ الْحَقُّ الثابت الذي لا ريب فيه، أو اليوم الذي يحقّ فيه كلّ حقّ و يبطل فيه كلّ باطل، فاذا علمتم ذلك فَمَنْ شٰاءَ النجاة من العذاب و النّيل بالثواب اِتَّخَذَ و اختار لنفسه إِلىٰ رَبِّهِ مَآباً و سبيلا بالايمان بتوحيده و رسالة رسوله، و بالأعمال الصالحة.

ثمّ أعلن سبحانه في الناس إتماما للحجّة عليهم بقوله:

إِنّٰا أَنْذَرْنٰاكُمْ أيّها الناس في هذه السورة، أو في القرآن عَذٰاباً في الآخرة قَرِيباً وقوعه على الكفّار و العصاة، فانّ كلّ آت قريب و إن ترونه بعيدا.

ثمّ بالغ سبحانه في التخويف و الإنذار بقوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ و الانسان المكلّف إلى مٰا قَدَّمَتْ يَدٰاهُ و الذي ارتكبت جوارحه في الدنيا من الطاعة و العصيان.

و قيل: يعني اذكروا يوم ينظر الانسان أي شيء قدّمت يداه من الخير و الشرّ و الطاعة و العصيان بالنظر إلى صحيفة أعماله، فان رأى فيها الأعمال الصالحة فرح و رجا ثواب اللّه، و إن رأى فيها الأعمال السيئة حزن و خاف العقاب(5).

ص: 415


1- . تفسير الرازي 24:31.
2- . تفسير روح البيان 310:10. (3و4) . تفسير الرازي 23:31.
3- . تفسير القمي 26:2 و 402، تفسير الصافي 277:5.
4- . الكافي 91/361:1، تفسير الصافي 277:5.
5- . مجمع البيان 647:10، تفسير روح البيان 311:10 و 312.

وَ يَقُولُ الْكٰافِرُ حين رأى تبعات كفره و عصيانه و خلوّ صحيفته من الحسنات: يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ في الدنيا تُرٰاباً و لم أكن إنسانا مكلّفا حتى ابتلي بالعذاب، أو ليتني كنت في هذه اليوم ترابا و لم ابعث كما كنت ترابا قبل الإحياء و قيل: يعني يا ليتني كنت متواضعا و لم أكن متكبّرا(1).

و قيل: إنّ المراد بالكافر إبليس، و هو يقول: يا ليتني كنت مخلوقا من تراب كآدم، و لم أكن مخلوقا من النار(2) حتّى اتكبّر على آدم، و من السّجود له.

و عن (العلل) عن ابن عباس، أنّه سئل: لم سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام أبا تراب؟ قال: «لأنّه صاحب الأرض و حجّة اللّه على أهلها بعده، و به(3) بقاؤها، و إليه سكونها». قال: لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّه إذا كان يوم القيامة و رأى الكافر ما أعدّ اللّه تبارك و تعالى لشيعة عليّ من الثواب و الزّلفى و الكرامة قال: يا ليتني كنت ترابا، أي من شيعة عليّ، و ذلك قول اللّه: وَ يَقُولُ الْكٰافِرُ يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرٰاباً (4).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ لم تخرج سنته - إذا كان مدمنها في كلّ يوم - حتّى يزور بيت اللّه الحرام إن شاء اللّه تعالى»(5).

ص: 416


1- . تفسير الرازي 26:31.
2- . مجمع البيان 648:10، تفسير أبي السعود 95:9، تفسير روح البيان 312:10.
3- . في النسخة و تفسير الصافي: و له.
4- . علل الشرائع: 3/156، تفسير الصافي 278:5.
5- . ثواب الاعمال: 121، مجمع البيان 637:10، تفسير الصافي 278:5.

في تفسير سورة النازعات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ النّٰازِعٰاتِ غَرْقاً (1) وَ النّٰاشِطٰاتِ نَشْطاً (2) وَ السّٰابِحٰاتِ سَبْحاً (3) فَالسّٰابِقٰاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرّٰاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرّٰادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وٰاجِفَةٌ (8) أَبْصٰارُهٰا خٰاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَ إِنّٰا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحٰافِرَةِ (10) أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً نَخِرَةً (11) قٰالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خٰاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمٰا هِيَ زَجْرَةٌ وٰاحِدَةٌ (13) فَإِذٰا هُمْ بِالسّٰاهِرَةِ (14) ثمّ لمّا ختمت السورة النبأ المتضمّنة لأهوال القيامة، و الاستدلال على وقوعها، و سوء حال الكافرين المكذّبين لها، و حسن حال المؤمنين المقرّين بها، نضمت سورة النازعات المتضمّنة لتلك المطالب العالية، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر الايمان بأصناف الملائكة بقوله:

وَ النّٰازِعٰاتِ و الجاذبات من الملائكة لأرواح الكفّار غَرْقاً و نزعا و جذبا شديدا من أجسادهم كما ينزع في القوس بشدّة حتى ينتهى إلى النّصل

وَ النّٰاشِطٰاتِ و المخرجات من الملائكة أرواح المؤمنين نَشْطاً إخراجا برفق و لطف من أبدانهم، كما يخرج الدلو من البئر

وَ السّٰابِحٰاتِ و المرفقات في ذلك الإخراج لئلا يصل إليهم ألم و شدّة، كما يرفق السابح في الماء في حركاته لئلا يغرق في الماء سَبْحاً و رفقا بالغا لئلاّ يحسّوا تعبا

فَالسّٰابِقٰاتِ و المسرعات من الملائكة بأرواح الكفّار إلى الغار و أرواح المؤمنين إلى الجنّة و الراحة و النّعمة، ليروا صدق مواعيد اللّه سَبْقاً و سرعة لا يشابهها(1) سبق سابق و سرعة سريع

فَالْمُدَبِّرٰاتِ من اولئك الملائكة أَمْراً أراد اللّه في حقّ كلّ منهم من العقاب و الثواب للذين أعدهما(2) اللّه لهم في الآخرة، على ما رواه العامة عن أمير المؤمنين، و ابن عباس، و مسروق(3).

ص: 417


1- . في النسخة: لا يشابهه.
2- . في النسخة: أعدّه.
3- . تفسير الرازي 27:31، و في النسخة: ابن مسروق.

قيل: نكتة عطف الثاني و الثالث بالواو(1) مع اتّحاد الكلّ الإشعار بأنّ كلّ واحد من الأوصاف من الصفات العظيمة الجليلة الحقيقة بأن يكون كلّ على حياله مناطا لاستحقاق موصوفه للتعظيم و الاجلال، و عطف الرابع و الخامس بالفاء لتفرعها على الأول.

و عن الصادق عليه السّلام: قوله اَلنّٰازِعٰاتِ قال: «هم ملائكة الموت ينزعون النفوس»(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «فَالسّٰابِقٰاتِ سَبْقاً تسبق أرواح المؤمنين إلى الجنة»(3).

و قيل: إنّ المراد من الثلاثة الأخر عموم الملائكة المأمورين لامور العالم(4) ، و المراد من السابحات طوائف الملائكة الذين ينزلون من السماء بسرعة كالسابح في الماء لعامة الامور، و لازم السرعة هو التقدّم في السير و إجراء الامور و تدبيرها بغير تراخ.

و قيل: إنّ السابقات الملائكة الذين يسبقون الشياطين بالوحي إلى الأنبياء(5).

و قيل: النازعات صفة النجوم التي تكون ذوات نزع و جذب من تحت الأرض إلى فوقها نزعا شديدا(6) ، و الناشطات هي النجوم التي تسير من برج إلى برج، فالمراد من نزعها حركتها اليومية، و من نشطها حركاتها الخاصة في أفلاكها بحركة ملائمة لذواتها، و المراد من السابحات هي النجوم تسبح في الفلك، كما قال تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (7) و وصفها بالسابقات باعتبار سبق بعضها على بعض، و وصفها بالمدبّرات باعتبار ما يترتّب عليها من الآثار كاختلاف الفصول و تمييز الأوقات و اختلاف الأحوال، و على أيّ تقدير كلّها قسم على وقوع البعث و القيامة، و التقدير: اقسم بهذه الامور العظام لتبعثنّ بعد الموت، أو لننفخنّ في الصّور، أو إن ما توعدون لواقع.

و قيل: إنّ جواب القسم مذكور، و هو قوله: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وٰاجِفَةٌ (8) و المعنى: أن

يَوْمَ تَرْجُفُ و تتزلزل و تضطرب شديدا جميع الأجرام الساكنة كالأرض و الجبال بالنفخة الاولى التي هي اَلرّٰاجِفَةُ و المحرّكة لكلّ شيء، فأسند الفعل إلى سببه لأنّ النفخة سبب لاضطراب الاجرام، ثمّ

تَتْبَعُهَا و تحدّث بعدها النّفخة الثانية التي هي اَلرّٰادِفَةُ للإحياء، و المراد باليوم الزمان الممتدّ الذي يقع بين النفختين.

ص: 418


1- . تفسير ابي السعود 96:9.
2- . مجمع البيان 651:10، تفسير الصافي 279:5، و فيهما: هو الموت ينزع النفوس.
3- . تفسير القمي 403:2، تفسير الصافي 279:5.
4- . مجمع البيان 652:10.
5- . تفسير الرازي 28:31.
6- . تفسير الرازي 29:31.
7- . الأنبياء: 33/21.
8- . تفسير الرازي 33:31.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ بين النفختين أربعين عاما»(1).

و روي أنّ في هذه الأربعين يمطر اللّه الأرض، و يصير ذلك الماء عليها كالنّطف(2).

و قيل: إنّ الرادفة يوم القيامة(3).

و قيل: إنّ الراجفة الأرض و الجبال(4) ، و الرادفة السماء، فانّها تنشقّ، و الكواكب فإنّها تنثر(5).

و قيل: الرادفة زلزلة ثانية تتبع الزلزلة الاولى حتّى تتقطّع الأرض و تفنى(6).

قُلُوبٌ كثيرة للكفّار يَوْمَئِذٍ وٰاجِفَةٌ و مضطربة من خوف اللّه و أهوال ذلك اليوم، و من لوازم اضطراب القلوب و خوف النفوس ما أخبر سبحانه بقوله:

أَبْصٰارُهٰا خٰاشِعَةٌ و خاضعة ذليلة مترقّبة لما ينزل بها من الامور العظام، فانّ اولئك الكفّار كانوا

يَقُولُونَ إنكارا للبعث أو استهزاء به: أَ إِنّٰا لَمَرْدُودُونَ بعد الموت فِي الْحٰافِرَةِ و الحالة الاولى التي كانت لنا من البنية و الحياة و القوّة؟ ثمّ يبالغون في الانكار بقولهم:

أَ إِذٰا كُنّٰا و صرنا في القبور عِظٰاماً نَخِرَةً و بالية يمكن بعثنا و إحياؤنا؟ هيهات لا يكون ذلك أبدا. ثم

قٰالُوا بطريق الاستهزاء بالبعث: تِلْكَ الرجعة إلى الحياة التي تدّعونها إِذاً و على ما تقولون كَرَّةٌ و رجعة خٰاسِرَةٌ و مضرّة لنا إذ كنا ننكرها و نكذّب مدّعيها.

ثمّ لمّا كانوا يستصعبونها على اللّه لزعمهم عجزه عنها، بيّن سبحانه نهاية سهولتها عليه بقوله:

فَإِنَّمٰا هِيَ حاصلة لا محالة و ما توجدها إلاّ زَجْرَةٌ و صيحة وٰاحِدَةٌ بأمرنا، لا تكرّر فيها، فيسمعها جميع الخلق في بطون الأرض و أقطارها، كنفخ واحد في صور الناس لإقامة القافلة و العسكر

فَإِذٰا هُمْ محيون و مبعثون بِالسّٰاهِرَةِ و الأرض البيضاء المستوية بعد ما كانوا أمواتا و عظاما و ترابا.

هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ مُوسىٰ (15) إِذْ نٰادٰاهُ رَبُّهُ بِالْوٰادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اِذْهَبْ إِلىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىٰ (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلىٰ أَنْ تَزَكّٰى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلىٰ رَبِّكَ فَتَخْشىٰ (19) فَأَرٰاهُ الْآيَةَ الْكُبْرىٰ (20) فَكَذَّبَ وَ عَصىٰ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعىٰ (22) فَحَشَرَ فَنٰادىٰ (23) فَقٰالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلىٰ (24) فَأَخَذَهُ اللّٰهُ نَكٰالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولىٰ (25) إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ (26)

ص: 419


1- . تفسير الرازي 34:31.
2- . تفسير الرازي 34:31.
3- . تفسير الرازي 34:31.
4- . تفسير الرازي 34:31.
5- . تفسير الرازي 34:31.
6- . تفسير الرازي 34:31.

ثمّ لمّا كان تكذيب المشركين للنبي صلّى اللّه عليه و آله في إخباره بالمعاد و دار الجزاء مؤلما لقلبه الشريف، سلاّه سبحانه بحكاية معارضة فرعون موسى بن عمران في دعوته إلى التوحيد، و إنه مع إنكاره ادّعى الربوبية، فابتلاه اللّه بالعذاب مع كونه أقوى من قومه بقوله:

هَلْ أَتٰاكَ يا محمد، و قيل: إنّ هَلْ هنا بمعنى (قد)(1) و المعنى قد جاءك حَدِيثُ دعوة مُوسىٰ فرعون. و قيل: إنّ المعنى: هل بلغك خبره، أم أنا اخبرك به؟(2) و هذا التعبير للترغيب في الاستماع ليتسلّى به.

ثمّ ذكر الحديث بقوله:

إِذْ نٰادٰاهُ رَبُّهُ قيل: إنّ التقدير اذكر حين ناداه ربّه (3)بِالْوٰادِ الْمُقَدَّسِ و الأرض المطهّرة عن الشرك، و اسم ذلك الوادي طُوىً و هو على ما قيل: واقع بين المدينة و مصر(4). و قيل: إنّه واد بالشام عند الطّور(5). و عن ابن عباس: أنّ طوى بمعنى الرجل بالعبرانية(6) ، و المعنى: يا رجل

اِذْهَبْ إِلىٰ فِرْعَوْنَ و قيل: إنّه بمعنى ساعة من الليل(5) اذهب برسالتي إلى فرعون ملك مصر إِنَّهُ طَغىٰ و تجاوز عن الحدّ في الكفر و العصيان و التكبّر على الخلق حتّى استبعدهم على ما قيل(6). فاذا جئته

فَقُلْ له بلسان ليّن يا فرعون هَلْ لَكَ ميل و رغبة إِلىٰ أَنْ تَزَكّٰى و تتطهّر من دنس الكفر و الكبر و الأخلاق السيئة الرديّة.

وَ أَهْدِيَكَ و أدلّك إلى الطريق المقرّب إِلىٰ رَبِّكَ و معرفته و طاعته فَتَخْشىٰ من عصيانه و عذابه بعد معرفته و العلم بوجوب طاعته؟

فجاء موسى بأمر ربّه و حسب رسالته إلى فرعون، و جرى بينه و بينه ما جرى إلى أن قال فرعون:

فان كنت جئت بآية فات بها

فَأَرٰاهُ موسى اَلْآيَةَ الْكُبْرىٰ و المعجزة العظمي بإلقائه عصاه و صيرورتها ثعبانا عظيما، أو باليد البيضاء، أو بهما

فَكَذَّبَ فرعون بموسى و نسب معجزاته إلى السّحر وَ عَصىٰ ربّه و تمرّد عن طاعته مع علمه بصدق رسوله.

ثُمَّ أَدْبَرَ و أعرض عن الايمان بموسى و هو يَسْعىٰ و يجتهد في إبطال أمر رسالته و إطفاء نوره عنادا و لجاجا.

قيل: لمّا رأى فرعون الثعبان أدبر و أسرع في مشيته(7) خشية منه

فَحَشَرَ و جمع السحرة لمعارضة موسى و سائر الناس ليروا غلبة السّحرة عليه فَنٰادىٰ في مجمعهم بنفسه، أو بتوسّط مناد منه قبله

فَقٰالَ: أيّها الناس أَنَا رَبُّكُمُ و إلهكم اَلْأَعْلىٰ من كلّ من يلي اموركم من الملوك و الامراء، أو من الأصنام التي تعبدونها

فَأَخَذَهُ اللّٰهُ بسبب طغيانه و دعواه الربوبية و الالوهية و نكّل

ص: 420


1- . تفسير الرازي 38:31، تفسير أبي السعود 99:9.
2- . تفسير الرازي 38:31، تفسير روح البيان 319:10.
3- . تفسير الطبري 25:30.
4- . تفسير روح البيان 319:10. (5و6) . تفسير الرازي 38:31.
5- . تفسير الرازي 38:31.
6- . تفسير الرازي 39:31، تفسير روح البيان 320:10.
7- . الكشاف 696:4، تفسير الرازي 42:31، تفسير روح البيان 321:10.

به نَكٰالَ الْآخِرَةِ و عاقبة بالعقوبة الشديدة، و هي إحراقه في القيامة بالنار وَ نكال اَلْأُولىٰ و العقوبة الدنيوية، و هي غرقه في الماء.

و قيل: إنّ المراد من الاولى قوله مٰا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرِي (1) و من الآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلىٰ (2).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه كان بين الكلمتين أربعون سنة»(3).

و عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال جبرئيل: قلت: يا رب تدع فرعون و قد قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلىٰ «فقال: إنّما يقول هذا مثلك من يخاف الفوت»(4).

و قيل: إنّ الاولى تكذيبه موسى(5).

إِنَّ فِي ذٰلِكَ الذّكر من طغيان فرعون و تعذيبه في الدنيا بغرقه في الماء و بإحراقه بالنار في الآخرة و اللّه لَعِبْرَةً عظيمة و موعظة شافية لِمَنْ يَخْشىٰ ربّه و يخاف عذابه.

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمٰاءُ بَنٰاهٰا (27) رَفَعَ سَمْكَهٰا فَسَوّٰاهٰا (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَهٰا وَ أَخْرَجَ ضُحٰاهٰا (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰاهٰا (30) أَخْرَجَ مِنْهٰا مٰاءَهٰا وَ مَرْعٰاهٰا (31) وَ الْجِبٰالَ أَرْسٰاهٰا (32) مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعٰامِكُمْ (33) ثمّ لمّا حكى سبحانه النكار المشركين للبعث و سهولته عليه تعالى، بيّن كمال قدرته على خلق أعظم من إعادتهم و خلقهم ثاني مرّة بقوله:

أَ أَنْتُمْ أيّها المنكرون للبعث أَشَدُّ و أصعب خَلْقاً في زعمكم أَمِ السَّمٰاءُ التي بَنٰاهٰا اللّه مع كمال عظمتها و قوّة تأليفها و انطوائها في البدائع التي تحار في أدناها العقول؟! و قيل: إنّ التقدير أم السماء أشدّ؟(6)

ثمّ ابتدأ الكلام في بيان كيفية خلقها بقوله: بَنٰاهٰا و المراد غاية استحكامها كاستحكام أسافل القصور و البيوت

رَفَعَ سَمْكَهٰا و علوّها على الأرض كثيرا مسير خمسمائة عام. و قيل: إنّ المراد بالسّمك ارتفاع السطح الأعلى بين السطح الأسفل الذي يعبّر عنه بالثّخن و الغلظ(7).

فَسَوّٰاهٰا و عدلها و أقامها على وفق الحكمة و الصواب، أو سوّى تأليفها أو نفي الشّقوق عنها

وَ أَغْطَشَ و أظلم لَيْلَهٰا و القطعة من الزمان التي تغيب الشمس فيها ضوء الشمس بحركتها

ص: 421


1- . القصص: 38/28.
2- . مجمع البيان 656:10، تفسير الرازي 43:31.
3- . الخصال: 11/539، مجمع البيان 656:10، تفسير الصافي 281:5.
4- . مجمع البيان 656:10، تفسير الصافي 281:5.
5- . تفسير الرازي 43:31.
6- . تفسير روح البيان 324:10.
7- . تفسير روح البيان 324:10.

و دورانها وَ أَخْرَجَ و أبرز ضُحٰاهٰا و القطعة من الزمان التي يظهر فيها ضوء الشمس بحركتها.

قيل: إنّما عبّر سبحانه عن النهار بالضّحى الذي هو وقت ارتفاع الشمس، لكونه أشرف أوقاته(1) ، فكان أحقّ بالذكر في مقام الامتنان، كما أنّ تأخير ذكره عن الليل لأنّ إضاءة النور بعد الظّلمة أتمّ في الانعام.

وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ الخلق العظيم دَحٰاهٰا و بسطها و مهدها لسكنى أهلها و تقلّبهم في أقطارها. قيل: إنّ اللّه تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير قابلة للسكنى، ثمّ خلق السماء، ثمّ بسط الأرض بعد خلق السماء، كما عن ابن عباس(2).

و قيل: إنّ كلمة بَعْدَ هنا بمعنى (مع) و المعنى: أنّ الأرض مع ذلك دحاها، كما في قوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ (3) روى لك أيضا عن ابن عباس(4).

و قيل: إنّ المراد من دحوها بسطها بحيث تكون مهيأة لنبات الأقوات(5) ، و لذا قال سبحانه بعد بيان نعمة دحو الأرض:

أَخْرَجَ مِنْهٰا مٰاءَهٰا و فجّر عيونها وَ أخرج مَرْعٰاهٰا و أنبت منها ما يأكل الناس و الأنعام من نباتاتها

وَ الْجِبٰالَ على الأرض أَرْسٰاهٰا و أثبتها، و انّما خلق اللّه سبحانه جميع ذلك ليكون

مَتٰاعاً و ما به الانتفاع لَكُمْ أيّها الناس وَ لِأَنْعٰامِكُمْ و مواشيكم.

فَإِذٰا جٰاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرىٰ (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسٰانُ مٰا سَعىٰ (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرىٰ (36) فَأَمّٰا مَنْ طَغىٰ (37) وَ آثَرَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوىٰ (39) وَ أَمّٰا مَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوىٰ (41) ثمّ لمّا بيّن سبحانه كمال قدرته على إحياء الأموات و أعظم منه و بعثهم للحساب، أخبر عن وقوعه و شدّة أهواله بقوله:

فَإِذٰا جٰاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرىٰ و الداهية العظمى التي تصغر عندها كلّ داهية سواها، و بلغ وقت ظهورها، أعنى

يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسٰانُ المكلّف في ذلك اليوم العظيم الهائل مٰا سَعىٰ و ما عمله في الدنيا من خير أو شرّ برؤيته بصورته الاخروية، أو في صحيفة أعماله، و قد نسبه للغفلة، أو لطول المدّة، أو للوحشة و الدّهشة.

ص: 422


1- . تفسير أبي السعود 101:9، تفسير روح البيان 324:10.
2- . تفسير الرازي 48:31، و لم ينسب إلى أحد.
3- . القلم: 13/68. (4و5) . تفسير الرازي 48:31.

قيل: إنّ الداهية الكبرى هي وقت تطاير الكتب يوم القيامة و قراءتهم أعمالهم فيها(1).

و عن (الإكمال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ الطامة الكبرى خروج دابة الأرض»(2).

وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ و أظهرت جهنّم إظهارا مكشوفا لِمَنْ يَرىٰ و يبصر من أهل المحشر كائنا من كان روي أنّه يكشف عن الجحيم [فتتلظى] فيراها كلّ ذي بصر مؤمن و كافر(3).

فَأَمّٰا مَنْ طَغىٰ على اللّه و تجاوز عن الحدّ بالعصيان بالكفر و الشرك. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«مَنْ طَغىٰ أي ظلّ على عمد(4) بلا حجة». (5)

وَ آثَرَ و رجّح في نظره لنفسه اَلْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا و لذّاتها و جمع زخارفها، و قدّمها على الآخرة و نعمها

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوىٰ و المقرّ له في الآخرة أبدا لا نجاة له منها.

قيل: نزلت في النضر بن الحارث و أبيه الغالبين في الكفر و الطّغيان(6).

وَ أَمّٰا مَنْ آمن و خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ و حين قيامه بالحكومة بين الناس و حضور نفسه في محضر عدل خالقه للحساب، أو مقامه بين يدي ربّه و خالقه وَ لذا نَهَى النَّفْسَ و منعها عَنِ اتّباع اَلْهَوىٰ و العمل بما ترغب فيه من الشهوات و اللذّات الدنيوية المانعة عن اتّباع الحقّ و العمل بما فيه رضا خالقه

فَإِنَّ الْجَنَّةَ العالية و قصورها هِيَ الْمَأْوىٰ و المقرّ له في الآخرة أبدا لا غيرها.

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرٰاهٰا (43) إِلىٰ رَبِّكَ مُنْتَهٰاهٰا (44) إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشٰاهٰا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهٰا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ عَشِيَّةً أَوْ ضُحٰاهٰا (46) ثمّ لمّا ذكر سبحانه وقع القيامة بعد إثبات إمكانه، حكى استهزاء المستهزئين من المشركين بالسؤال عن وقت وقوعه أنّه قريب أو بعيد بقوله:

يَسْئَلُونَكَ يا محمد، اولئك الكفّار استهزاء عَنِ وقت اَلسّٰاعَةِ و القيامة و يقولون: أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا و في أيّ وقت إتيانها و قيامها؟ أخبرنا به إن كنت من الصادقين.

ثمّ ردّهم اللّه سبحانه و أنكر عليهم سؤالهم عنها بقوله:

فِيمَ أَنْتَ يا محمد مِنْ ذِكْرٰاهٰا و في أي شيء تكون من أن تبيّن لهم وقتها، و تعليمهم به مع اختصاص العلم بها بعلاّم الغيوب، و عدم اطّلاع غيره تعالى عليها كائنا من كان من ملك أو نبيّ مرسل؟

إِلىٰ رَبِّكَ العالم بكلّ شيء

ص: 423


1- . تفسير الرازي 50:31.
2- . اكمال الدين: 1/527، تفسير الصافي 282:5.
3- . تفسير روح البيان 326:10.
4- . في النسخة: عمل.
5- . الكافي 1/289:2، تفسير الصافي 282:5.
6- . تفسير أبي السعود 104:9.

مُنْتَهٰاهٰا و إليه راجع علمها، فانّ حكمته اقتضت إخفاءها، فكيف يسألونك عنها؟

إِنَّمٰا أَنْتَ يا محمد مُنْذِرُ من قبل اللّه بالإخبار بوقوعها مَنْ يَخْشٰاهٰا و ليست وظيفتك إلاّ تخويف الناس بإتيانها و اقترابها(1) و بيان أهوالها و شدائدها، و لا يجب عليك تعيين وقت وقوعها بجميع الخصوصيات، و أمّا تعيينها إجمالا فهو وقت انقضاء عمر الدنيا، و هو في غاية السرعة، و إن كان بعد مائة ألف سنة و أزيد

كَأَنَّهُمْ و يشبه أنّ المنكرين يَوْمَ تقع القيامة و حين يَرَوْنَهٰا لَمْ يَلْبَثُوا و لم يمكثوا في الدنيا و لو عمّروا فيها ألف سنة إِلاّٰ عَشِيَّةً و ساعة من آخر يوم أَوْ ضُحٰاهٰا و ساعة من أول يوم تلك العشية، و لم يتخيّلوا أنّ مكثهم فيها يوما كاملا لسرعة انقضاء عمرهم فيها، كما قال اللّه تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ سٰاعَةً مِنَ النَّهٰارِ (2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة وَ النّٰازِعٰاتِ كان ممّن حبسه اللّه في القبر(3) و القيامة حتى يدخله الجنة قدر صلاة مكتوبة»(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ وَ النّٰازِعٰاتِ لم يمت إلاّ ريّانا، و لم يبعثه اللّه إلاّ ريّانا، و لم يدخله إلاّ ريّانا»(5).

الحمد للّه على توفيقه لاتمام تفسيرها.

ص: 424


1- . في النسخة: و إقرابها.
2- . يونس: 45/10.
3- . (القبر و) ليست في تفسير البيضاوي.
4- . تفسير البيضاوي 567:2، تفسير روح البيان 330:10.
5- . ثواب الاعمال: 121، مجمع البيان 649:10، تفسير الصافي 283:5.

في تفسير سورة عبس

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَ تَوَلّٰى (1) أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ (2) وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّٰى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرىٰ (4) أَمّٰا مَنِ اسْتَغْنىٰ (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّٰى (6) وَ مٰا عَلَيْكَ أَلاّٰ يَزَّكّٰى (7) وَ أَمّٰا مَنْ جٰاءَكَ يَسْعىٰ (8) وَ هُوَ يَخْشىٰ (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّٰى (10) ثمّ لمّا ختمت سورة (و النازعات) المتضمّنة لبيان تكذيب المشركين للمعاد، و الاستدلال على إمكانه و الإخبار بوقوعه، و تهديدهم بأنّه يوم الطامة الكبرى، و بيان حال المكذّبين بالمعاد و المؤمنين به، نظمت سورة (عبس) المتضمّنة لتلك المطالب، و تهديد المكذّبين بالصاخّة المتقارب للطامة، فافتتحها بذكر أسمائه بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في تأديب المسلمين بتوجيه العتاب إلى عثمان بن عفّان بقوله:

عَبَسَ عثمان و قبض وجهه و جمع الجلدة التي بين عينيه غضبا وَ تَوَلّٰى و أعرض لأجل

أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ قال القمي رحمه اللّه: إنّها نزلت في عثمان و ابن امّ مكتوم، و كان ابن امّ مكتوم مؤذّنا لرسول اللّه، و كان أعمى، و جاء إلى رسول اللّه و عنده أصحابه، و عثمان عنده، فقدّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عثمان، فعبّس عثمان وجهه و تولّى عنه، يعني عثمان أن جاءه الأعمى(1).

و عن الصادق عليه السّلام نزلت في رجل من بني امية كان عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فجاء ابن ام مكتوم فلما رآه تقذّر منه و جمع نفسه و عبس و اعرض بوجهه عنه فحلى اللّه ذلك و انكره عليه(2).

و روى بعض العامة أن ابن امّ مكتوم، و كان اسمه عبد اللّه بن شريح بن مالك من بني عامر بن لؤي(3).

و قيل: اسمه [عمرو بن] قيس بن زائدة من بني عامر بن هلال، ابن خال خديجة، و كان (امّ مكتوم) كنية جدّته(4). و قيل: كنية امّه(5) ، روي إنه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكة و عنده صناديد قريش منهم عتبة

ص: 425


1- . تفسير القمي 404:2، تفسير الصافي 284:5.
2- . مجمع البيان 664:10، تفسير الصافي 284:5.
3- . الكشاف 0:4؟؟ 7، تفسير روح البيان 330:10. (4و5) . تفسير روح البيان 330:10.

و شيبة بن ربيعة و ابو جهل و العباس بن عبد المطلب و امه خلف و الوليد بن مغيرة يدعوهم إلى الاسلام رجاء أن يسلم باسلامهم غيرهم فقال للنبي صلّى اللّه عليه و آله اقرئني و علّمني ممّا علّمك اللّه، و كرّر ذلك، فكره النبي صلّى اللّه عليه و آله قطعه الكلام و عبس و أعرض عنه، فنزلت هذه الآيات(1).

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يكرمه و يقول: إذا مدحه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي، رواه الزمخشري، و الفخر الرازي، و أبو السعود، و إسماعيل الحقّي(2) ، و قال الفخر: أجمع المفسّرون على أنّ الذي عبس و تولّى هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و أجمعوا على أنّ الأعمى ابن امّ مكتوم(3).

و قال بعض علماء أصحابنا، ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبي صلّى اللّه عليه و آله دون عثمان يأباه سياق مثل هذه المعاتبات للنبي صلّى اللّه عليه و آله الغير اللائقة بمنصبه، و كذا ما ذكر بعدها إلى آخر السورة(4).

و وجّه بعض العامة فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله بأن امّ مكتوم كان سؤاله حراما في الواقع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله لكونه إيذاء و مانعا له عمّا هو الأهمّ من دعوة جمع من صناديد قريش إلى الإسلام، و كان الواجب على النبي صلّى اللّه عليه و آله، الإعراض عنه و الاشتغال بالأهمّ مع أنّه كان مأذونا في تأديب المسلمين، و لذا كان ابن امّ مكتوم مستحقّا للعتاب، و لكن لمّا كان فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله موهما لتقديمه الأغنياء على الفقراء، أو لأنّه كان ميل النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى إسلامهم لقرابتهم و شرفهم و علوّ منزلتهم، و النفرة على الأعمى الذي لا قرابة له و لا شرف(5) ، و العبوس و التولّي كانا لتلك الداعية، عاتبه اللّه عليه، لأنّه ترك للأولى، و التعبير عن ابن امّ مكتوم بالأعمى الدالّ على تحقيره، و إن نافى تعظيمه بتوجيه العتاب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بسبب إعراضه عنه و تعيين وجهه، إلاّ أنّ في التعبير إشعارا باستحقاق الأعمى مزيد الرفق و الرأفة، أو لعذره في قطع كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو لزيادة الإنكار كأنّه قال تعالى: تولّى لكونه أعمى، مع أنّه لا يليق هذا بمن له خلق كريم.

أقول: بعد الاعتراف بأنّه كان الواجب على النبي صلّى اللّه عليه و آله الأعراض و التولّي عنه، و الاشتغال بما هو الأهمّ، و كون تأديب المسلمين وظيفته صلّى اللّه عليه و آله، و كون ميل النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى إسلامهم لقرابتهم و شرفهم، مع كونه مأمورا بإنذار خصوص أقربائه بقوله: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (6) و كون إسلامهم سببا لاسلام عامة قريش، بل أكثر العرب، أي مجال للعتاب و توهين النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى يوم القيامة بأداء الواجب عليه، و كون داعية إسلامهم موجبا لغاية تعظيمه، لا توهينه و تعظيم الأعمى، و أمّا دعوى أنّه

ص: 426


1- . الكشاف 700:4، تفسير الرازي 54:31، تفسير أبي السعود 107:9، تفسير روح البيان 330:10.
2- . الكشاف 701:4، تفسير الرازي 54:31، تفسير أبي السعود 107:9، تفسير روح البيان 331:10.
3- . تفسير الرازي 55:31.
4- . تفسير الصافي 285:5.
5- . تفسير الرازي 55:31، تفسير روح البيان 332:10.
6- . الشعراء: 214/26.

كان في قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله النفرة عن الأعمى لعدم القرابة بينه و بينه و عدم شرفه ففرية(1) عليه صلّى اللّه عليه و آله، مع قولهم في توجيه التعبير بالأعمى بأنّه لزيادة الإنكار على النبي صلّى اللّه عليه و آله فكأنّه تعالى قال: تولّى لكونه أعمى، فرية(2) على اللّه، لأنّه علم أنّه ما تولّى لكونه أعمى، بل تولّى عنه للاشتغال بدعوة الأعاظم الذين إسلامهم في نهاية الأهمية.

ثمّ شدّد سبحانه العتاب على العابس المتولّي بتوجيه الخطاب إليه بقوله:

وَ مٰا يُدْرِيكَ و أي شيء أعلمك بحال الأعمى؟ لَعَلَّهُ يَزَّكّٰى و يتطهّر بما يتعلّم و يتلقّن من الشكّ و الأخلاق الرذيلة

أَوْ يَذَّكَّرُ و يتّعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرىٰ و الموعظة بزيادة رغبته في العبادة و الطاعة.

ثمّ بالغ سبحانه في اللّوم بقوله:

أَمّٰا مَنِ اسْتَغْنىٰ و كان ذا مال و ثروة

فَأَنْتَ يا عثمان لَهُ تَصَدّٰى و إليه تعرض، و عليه تقبل بوجهك، و تقرّبه إليك

وَ مٰا عَلَيْكَ و لا تبالي أَلاّٰ يَزَّكّٰى إذا كان الجائي غنيا

وَ أَمّٰا مَنْ جٰاءَكَ حال كونه يَسْعىٰ إلى الخير و تعلّم أحكام الاسلام

وَ هُوَ يَخْشىٰ اللّه و يخاف عقابه

فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّٰى و تعرض، و لا تقبل إليه، و لا تعتني به كَلاّٰ لا تتعرّض عن المسلم المسترشد.

و أمّا على ما ذكر أهل السنّة من شأن نزولها، فالمعنى أَمّٰا مَنِ اسْتَغْنىٰ و أظهر عدم الحاجة إلى الايمان، أو إلى اللّه فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّٰى و عليه تقبل بوجهك، و تقرّبه إليك، وَ مٰا عَلَيْكَ يا محمد وزر و وبال في أَلاّٰ يَزَّكّٰى و لا يتطهّر ذلك المستغني بالاسلام حتى تهتمّ بأمره و دعوته، و تعرض عمّن أسلم فانّه ليس عليك إلاّ البلاغ وَ أَمّٰا مَنْ جٰاءَكَ يَسْعىٰ * وَ هُوَ يَخْشىٰ اللّه فَأَنْتَ يا محمد عَنْهُ تَلَهّٰى و تعرض و لا تقبل عليه

كَلاّٰ لا تتعرّض للمستغني، و لا تعرض عن المسلم.

قال بعض مفسّري العامة: لمّا تلا جبرئيل هذه الآيات على النبي صلّى اللّه عليه و آله عاد وجهه كأنّما ذرّ عليه الرماد، و ينتظر ما يحكم اللّه عليه، فلمّا قال: كَلاّٰ سرّي عنه(3).

أقول: حبّهم لعثمان بعثهم على صرف الآيات عنه و توجيهها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، مع أنّ المسلم لا يرضى به، مع القطع بأنّه حبيب اللّه، و لا يرضى اللّه بإيلام قلب حبيبه و توهينه في امّته لإعراضه الواجب عليه عن الأعمى.

كَلاّٰ إِنَّهٰا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شٰاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرٰامٍ بَرَرَةٍ (16)

ص: 427


1- . في النسخة: فرية.
2- . في النسخة: قريا.
3- . تفسير الرازي 57:31، تفسير روح البيان 333:10.

ثمّ إنّه تعالى بعد هذه الموعظة النافعة مدح القرآن العظيم المشتمل عليها بقوله: إِنَّهٰا تَذْكِرَةٌ و عظة لأهل العالم إلى يوم القيامة

فَمَنْ شٰاءَ التذكّر و الاتّعاظ بالقرآن ذَكَرَهُ و اتّعظ به أو حفظه و لا ينساه، فانّه مكتوب آياته

فِي صُحُفٍ و دفاتر منتسخة من اللوح المحفوظ مُكَرَّمَةٍ تلك الصّحف عند اللّه، لكونها صحف القرآن الكريم

مَرْفُوعَةٍ في السماوات، موضوعة في البيت المعمور الذي يكون في السماء الرابعة، أو في بيت العزّة الذي يكون في السماء الدنيا، أو مرفوعة القدر و المنزلة مُطَهَّرَةٍ و منزّهة من مساس أيدي الشياطين، منتسخة في السماء، أو منزلة إلى الأرض

بِأَيْدِي ملائكة سَفَرَةٍ الذين يسافرون بالوحي بين اللّه و بين رسله، أو الكتبة كما عن بن عباس (1)

كِرٰامٍ اولئك الملائكة على ربّهم، أو متكرّمين من أن يكونوا مع ابن آدم عند الجماع و قضاء الحاجة بَرَرَةٍ و مطيعين للّه.

قيل: إنّ المراد من الصّحف صحف الأنبياء(2) ، و المراد من السّفرة الكرام أصحاب الرسول(3) ، أو القرّاء(4) ، و ليس بشيء.

قُتِلَ الْإِنْسٰانُ مٰا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمٰاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذٰا شٰاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاّٰ لَمّٰا يَقْضِ مٰا أَمَرَهُ (23) ثمّ لمّا كان الكفّار تكبّروا عن الايمان بهذا القرآن الذي يكون في نهاية العظمة، و استنكفوا عن تصديقه و قبوله، ذمّهم سبحانه، و أظهر الغضب عليهم بقوله:

قُتِلَ الْإِنْسٰانُ و هو دعاء عليه بما يكون عند العرب أشنع الدعوات مٰا أَكْفَرَهُ و أشد كفره بربّه مع كثرة إحسانه إليه و إنعامه عليه، أ ما يتفكّر في أنّه

مِنْ أَيِّ شَيْءٍ حقير مهين خَلَقَهُ اللّه و كوّنه. قيل: نزلت في عتبة بن أبي لهب(1).

ثمّ بيّن سبحانه ذلك الشيء القذر الذي كان مبدأ خلقه بقوله:

مِنْ نُطْفَةٍ قذرة خَلَقَهُ اللّه و أوجده فَقَدَّرَهُ و سوّاه إنسانا كامل الأعضاء و الجوارح و القوى. و قيل: يعني قدّر كلّ عضو منه كمية و كيفية بالقدر اللائق بمصلحته(2). و قيل: يعني قدّره أطوارا نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة إلى آخر خلقه، ذكرا أو انثى، سعيدا أو شقيا(3) ، فمن كان أصله و مبدأ خلقه ذلك الشيء الحقير المهين، كيف يرى لنفسه العظمة و يتكبّر و يتبختر؟

ص: 428


1- . تفسير الرازي 59:31.
2- . تفسير الرازي 60:31.
3- . تفسير الرازي 60:31، تفسير روح البيان 335:10.

ثُمَّ بعد إتمام خلقه في الرّحم اَلسَّبِيلَ إلى الخروج منه يَسَّرَهُ و سهّله بأن فتح له باب الرّحم و نكّسه و قلبه بأن صيّر رجله من فوق و رأسه من تحت، أو المراد أنّه تعالى بعد كبره سهّل له سبيل الخير و الشرّ في الدين و السعادة و الشقاوة، و مكّنه من السلوك فيهما

ثُمَّ إنّه تعالى بعد انقضاء أجله و مدّة حياته أَمٰاتَهُ بقدرته فَأَقْبَرَهُ و دفنه في الأرض تكرمة له و حفظا له من أن يبقى على الأرض فتأكله السّباع و الطيور

ثُمَّ إِذٰا شٰاءَ ربّه انشاره أَنْشَرَهُ و بعثه للحساب و جزاء الأعمال.

كَلاّٰ ليس للإنسان التكبّر و الترفّع و الكفر و الطغيان و إنكار البعث لَمّٰا يَقْضِ الانسان و لم يمتثل مٰا أَمَرَهُ اللّه به من الايمان و الطاعة، بل أخلّ به بالكفر و العصيان مع أنّ حقّ نعمائه أن يؤدّي جميع ما أمره به.

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ (24) أَنّٰا صَبَبْنَا الْمٰاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا حَبًّا (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28) وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً (29) وَ حَدٰائِقَ غُلْباً (30) وَ فٰاكِهَةً وَ أَبًّا (31) ثمّ عدّ سبحانه إنعامه على الانسان بقوله:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ و مأكوله الذي يعيش به، كيف دبّرنا أمره؟ و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: ما طعامه؟ قال: «علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه»(1).

أَنّٰا صَبَبْنَا و أنزلنا من السماء بالأمطار اَلْمٰاءَ أولا صَبًّا نافعا وافيا للنباتات

ثُمَّ بعد إنزال الماء شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات شَقًّا لائقا بما يخرج من الأرض ما ينبت منها صغرا و كبرا

فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا بقدرتنا و رحمتنا حَبًّا كثيرا نافعا من الحنطة و الشعير و أضرابهما ممّا يحصد

وَ عِنَباً و شجر كرم ثمره غذاء و فاكهة وَ قَضْباً و رطبا مقطوعا من النخل، كما عن ابن عباس(2).

أو الرّطبة التي يقال لها بالفارسية (اسپست) و إذا يبست سمّيت (بالفت) و هو علف الدوابّ و الأنعام، كما في رواية اخرى عن ابن عباس(3). و قيل: إنّه كلّ نبات يؤكل رطبا كالكرّاث(4). و قيل: إنّه مطلق العلف(5).

وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً الذين هما أنفع الأشجار

وَ حَدٰائِقَ و بساتين غُلْباً و متكاثفة الأشجار، أو ملتفها، أو ذوات أشجار عظام، كما عن ابن عباس (6)

وَ فٰاكِهَةً و ثمارا يلتذّ بها وَ أَبًّا و حشيشا

ص: 429


1- . الكافي 8/39:1، تفسير الصافي 387:5.
2- . تفسير روح البيان 338:10.
3- . تفسير الرازي 62:31.
4- . تفسير روح البيان 338:10.
5- . تفسير الرازي 62:31.
6- . تفسير الرازي 63:31.

و مرعى.

روي أنّ أبا بكر سئل عن قول اللّه: وَ فٰاكِهَةً وَ أَبًّا فلم يعرف معنى الأبّ و قال: أيّ سماء تظلّني، أم أرض تقلّني، أم كيف أصنع إن قلت في كتاب اللّه بما لا أعلم، أما الفاكهة فنعرفها و أما الأبّ فاللّه أعلم به فبلغ أمير المؤمنين عليه السّلام مقالته في ذلك، فقال: «سبحان اللّه! أ ما علم أنّ الأبّ هو الكلأ و المرعى»(1).

أقول: من العجائب أنّه كان في تمام زمان البعثة في حضور الرسول صلّى اللّه عليه و آله و كانت قراءة القرآن من العبادات الشائعة في ذلك الزمان، و كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله يدرّس القرآن و معانيه و تفسيره، و هو بعد عمره كان جاهلا باللغة المستعملة في القرآن، و لم يسأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، فكيف بسائر العلوم و الأحكام؟

مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعٰامِكُمْ (32) فَإِذٰا جٰاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صٰاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) ثمّ لمّا ذكر سبحانه ما يغتذي به الناس و الأنعام، وجّه الخطاب إلى الناس تكميلا لامتنانه عليهم بقوله:

مَتٰاعاً و التقدير خلقنا هذه الأغذية لتكون متاعا و منفعة لَكُمْ أيّها الناس وَ لِأَنْعٰامِكُمْ و مواشيكم، فلا ينبغي لكم في حكم العقل أن تكفروا هذه النّعم، و تتمرّدوا عن طاعة المنعم عليكم، و تتكبّروا على رسوله و سائر عبيده.

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال يوم القيامة و دار الجزاء إرعابا للقلوب و تذكيرا لمعادهم بعد بيان مبدأ خلقهم و معاشهم بقوله:

فَإِذٰا جٰاءَتِ الصَّاخَّةُ و نزلت بكم الداهية العظيمة، و هي الصيحة التي تخرج من الصّور بالنفخة الثانية التي يحيا بها الأموات في القبور فتتح، و تفتك شدّتها آذانهم، أو يفتحون و يستمعون لها، أعني من الصاخّة.

يَوْمَ يَفِرُّ فيه اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ مع كمال الأنس بينهما في الدنيا و تظاهرهما في الشدائد

وَ من أُمِّهِ التي لها عليه حقوق كثيرة وَ من أَبِيهِ الذي كان في غاية العطوفة به و الشفقة عليه

وَ من صٰاحِبَتِهِ و زوجته التي كانت أنيسته في الدنيا وَ من بَنِيهِ و أولاده الذين كانوا أحبّ الخلق إليه و أفلاذ كبده، و ذلك الفرار إنّما هو لأجل أن

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ و شغل عظيم و خطب هائل فظيع يُغْنِيهِ و يكفيه في الاهتمام به بحيث لا مجال له أن يلتفت إليهم، أو يغنيه و يصرفه عنهم، و هو اشتغاله بنجاة نفسه - التي هي أعزّ النفوس عنده من الأهوال و العذاب.

ص: 430


1- . إرشاد المفيد 200:1، تفسير الصافي 286:5.

و قيل: إن علّة الفرار تضييعه لحقوقهم و ارتكاب الظّلم عليهم(1).

عن الرضا عليه السّلام قال: «قام رجل يسأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن آية يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ و قال: من هم؟ قال: قابيل يفرّ من هابيل، و الذي يفرّ من امّه موسى، و الذي يفرّ من أبيه إبراهيم»(2). أقول: لا بدّ من حمل الرواية على بيان المثال.

روى في (المجمع) عن سودة زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّها قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يبعث الناس حفاة عراة غرلا(3) ، يلجمهم العرق، و يبلغ شحمة الاذن» قلت: يا رسول اللّه، وا سوءتاه ينظر بعضنا إلى بعض(4) ؟ قال: شغل الناس عن ذلك» و تلا هذه الآية(5).

و روى بعض العامة أنّ عائشة قالت: يا رسول اللّه، كيف يحشر الناس؟ قال: «حفاة عراة» قالت:

و كيف تحشر النساء؟ قال: «حفاة عراة» قالت: وا سوءتاه النساء مع الرجال حفاة عراة؟ فقرأ رسول اللّه هذه الآية: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إلى آخرها(6).

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضٰاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهٰا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهٰا قَتَرَةٌ (41) أُولٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) ثمّ ذكر سبحانه حسن حال المؤمنين بقوله:

وُجُوهٌ للمؤمنين يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت الهائل مُسْفِرَةٌ و مشرقة كالشمس المضيئة

ضٰاحِكَةٌ و فرحة للعلم بالفوز بالسعادة الأبدية، و النجاة من آلام الدنيا و متاعبها، و الفراغ من الحساب بسرعة و يسر مُسْتَبْشِرَةٌ بالنعيم المقيم و الراحة الدائمة من قبل اللّه، أو الملائكة فانّهم يقولون لهم: أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (7).

وَ وُجُوهٌ أخر للأشقياء يَوْمَئِذٍ عَلَيْهٰا غَبَرَةٌ و كدورة من شدّة الخوف

تَرْهَقُهٰا و تغشاها قَتَرَةٌ و ظلمة و سواد كالدّخان من الخجلة و الوحشة

أُولٰئِكَ الموصوفون بسواد الوجه و الغبرة هُمُ الْكَفَرَةُ باللّه و رسله اَلْفَجَرَةُ في أعمالهم، و العصاة لخالقهم.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة عَبَسَ وَ تَوَلّٰى و إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ كان تحت جناح اللّه من الجنان، و في ظلّ اللّه و كرامته في جنّاته، و لا يعظم ذلك على اللّه إن شاء اللّه تعالى»(8).

ص: 431


1- . تفسير الرازي 64:31، تفسير أبي السعود 113:9.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/245:1، تفسير الصافي 288:5.
3- . الغرل: جمع أغرل، و هو الذي لم يختتن.
4- . زاد في النسخة و تفسير الصافي: إذا جاء.
5- . مجمع البيان 668:10، تفسير الصافي 288:5.
6- . تفسير روح البيان 340:10.
7- . فصلت: 30/41.
8- . ثواب الأعمال: 121، مجمع البيان 661:10، تفسير الصافي 289:5.

ص: 432

في تفسير سورة التكوير

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبٰالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشٰارُ عُطِّلَتْ (4) وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحٰارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّمٰاءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مٰا أَحْضَرَتْ (14) فَلاٰ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) اَلْجَوٰارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذٰا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذٰا تَنَفَّسَ (18) [ثمّ لمّا ختمت سورة عبس المتضمنة بيان أهوال القيامة و عظمة القرآن و موعظته للخلق، نظمت بعدها سورة التكوير المتضمنة أيضا بيان بعض أهوال القيامة و تعظيم القرآن، و كون ذلك موعظة للعالمين إلى يوم القيامة، فافتتحها سبحانه بذكر أسمائه الحسنى بقوله:] (1)بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه بذكر بعض أهوال يوم القيامة بقوله:

إِذَا الشَّمْسُ التي هي كالسّراج لأهل الأرض كُوِّرَتْ و القيت من السماء، كما عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ الشمس و القمر نوران مكوّران في النار يوم القيامة»(2) أو انكشف و ازيل ضوؤها. عن القمّي: أنّها تصير سوداء مظلمة(3).

وَ إِذَا النُّجُومُ التي هي مصابيح الليل في الدنيا اِنْكَدَرَتْ و تناثرت. قيل: تمطر السماء يومئذ نجوما، فلا يبقى في السماء نجم إلا وقع على وجه الأرض (4)

وَ إِذَا الْجِبٰالُ التي هي أوتاد الأرض

ص: 433


1- . هذا النص سقط من النسخة، و أثبتناه بعد ترجمته من النص الفارسي.
2- . تفسير الرازي 66:31، تفسير روح البيان 343:10، و لم ينسبه إلى أحد.
3- . تفسير القمي 407:2، تفسير الصافي 290:5.
4- . تفسير روح البيان 344:10.

سُيِّرَتْ و رفعت في الأرض، و حرّكت بسرعة كالسّحاب في وجهها، أو في الجوّ بالزّلزلة الحاصلة بالنفخة الثانية

وَ إِذَا الْعِشٰارُ و النّوق الحوامل التي مضت من مدّة حملها عشرة أشهر، و هي أحبّ الأموال عند العرب عُطِّلَتْ و تركت مسيّبة مهملة لا داعي لها، لاشتغال أهلها بأنفسهم، و هي كناية عن غفلة الناس عن أموال الدنيا لرفع حاجتهم عنها، و غلبة الوحشة و الدهشة عليهم

وَ إِذَا الْوُحُوشُ و الحيوانات البرية الفارّة عن غير جنسها حُشِرَتْ و جمعت في موقف القيامة و اختلط بعضها ببعض و بالانسان بلا تعرّض للغير من شدّة أهوال اليوم.

و قيل: يعني بعثت للقصاص إظهارا للعدل(1) ، قيل: يحشر كلّ حيوان حتّى الذّباب للقصاص، فإذا قضي بينها ردّت ترابا، فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور بني آدم و إعجاب المؤمن بصورته أو بصوته كالطّاوس و البلبل(2). و عن ابن عباس: حشرها موتها(3).

وَ إِذَا الْبِحٰارُ كلّها سُجِّرَتْ و انقلب ماؤها نارا، كما عن ابن عباس(4). و عن ابن عمر أنّه لمّا رأى بحرا قال: يا بحر متى تعود نارا(5). و قيل: يعني ملئت بتفجّر بعضها إلى بعض، فيصير الكلّ بحرا واحدا، أو حميت(6) ، أو نشفت فلا يبقى فيها رطوبة(7).

وَ إِذَا النُّفُوسُ و الأرواح زُوِّجَتْ بالأجساد، أو قرنت بمن كان مثلها في الخير و الشّر، فيضمّ الصالح بالصالح، و الفاجر بالفاجر، أو جعلت أزواجا ثلاثة: أصحاب الميمنة، و أصحاب المشأمة، و المقرّبين، أو قرنت بالملائكة الذين كانوا كتّابه أعمالهم، أو قرنت بأعمالهم، أو قرنت بشياطينهم.

و عن ابن عباس: زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، و قرنت نفوس الكفّار بالشياطين(8). أو قرنت كلّ نفس بأهل دينها(9) ، اليهود باليهود، و النصارى بالنصارى، و المجوس بالمجوس(10).

وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ و البنت المدفونة حيّة سُئِلَتْ من جانب اللّه أنّها

بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ تبكيتا لقاتلها، و تسلية لها، و إظهارا لشدّة الغضب على وائدها.

قيل: كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها، ألبسها جبّة من صوف أو شعر، ترعى له الإبل أو الغنم في البادية، و إن أراد قتلها تركها حتى إذا بلغ سنّها ستّ سنين، فيقول لامّها، طيبيها و زيّنيها حتّى أذهب بها إلى أحبّائها، و قد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر، و يقول لها: انظري فيها، ثمّ يدفعها فيها من خلفها، و يهيل عليها التّراب حتّى يستوي البئر بالأرض، خوفا من الفقر أو من الأسر،

ص: 434


1- . تفسير روح البيان 345:10.
2- . تفسير روح البيان 345:10.
3- . تفسير الرازي 68:31.
4- . تفسير روح البيان 345:10.
5- . تفسير روح البيان 345:10.
6- . تفسير أبي السعود 115:9، تفسير روح البيان 345:10.
7- . تفسير الرازي 68:31.
8- . تفسير الرازي 69:31.
9- . في النسخة: دينه.
10- . تفسير الرازي 69:31.

أو لحوق عاد من قبلها(1).

وَ إِذَا الصُّحُفُ و دفاتر الأعمال نُشِرَتْ و فتحت للحساب، فيقضى بإيمان أصحابها و أعمالهم، فيقفون على ما فيها.

و في الحديث: «يحشر الناس عراة حفاة» فقالت امّ سلمة: فكيف بالنساء؟ فقال: «شغل الناس يا امّ سلمة» قالت: ما شغلهم؟ قال: «نشر الصّحف، فيها مثاقيل الذّر و مثاقيل الخردل»(2).

و قيل: يعني فرّقت بين أصحابها(3). و قيل: إذا كان يوم القيامة تطايرت الكتب من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في الجنّة العالية، و صحيفة الكافر في يده في سموم و حميم(4). قيل: يعني مكتوب فيها، و هي صحف غير صحف الأعمال(2).

وَ إِذَا السَّمٰاءُ كُشِطَتْ و كشفت عمّا فوقها، و ظهر ما وراءها من العرش و الجنّة. و قيل: يعني نزعت، أو طويت (3)

وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ و اوقدت للكافرين إيقادا شديدا غضبا عليهم

وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ و قربت من المتّقين ليدخلوها، و المقصود تقرّبت منها، و عند ذلك

عَلِمَتْ نَفْسٌ حضرت ما تدري أيّ نفس و ما حالها مٰا أَحْضَرَتْ و جلبت فيه من الأعمال خيرا أو شرا، يرونها في صحائفها، أو يرون مجازاتها، أو يرون نفسها لتجسّمها.

عن ابن عباس: أنّه قرأ السورة فلمّا بلغ إلى قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ مٰا أَحْضَرَتْ قال: لهذه اجريت القصّة(4).

فَلاٰ ليس الأمر كما تزعمون أيّها الكفرة أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ و الكواكب الرواجع، و هي الخمسة المتحيّرة التي ترجع من آخر البرج إلى أوله. عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هي خمسة أنجم: زحل، و المشتري، و المرّيخ، و الزّهرة، و عطارد»(5).

و

اَلْجَوٰارِ و السيارات اَلْكُنَّسِ و المختفيات تحت ضوء الشمس بعد رجوعها إلى أول البرج، كما يكنس و يدخل الوحش في كناسته و بيته الذي اتّخذه لاختفائه.

و قيل: إنّ المراد جميع الكواكب، و خنوسها غيبوبتها عن الأنظار في النهار، و كنوسها ظهورها بالليل في أماكنها، كالوحش في كنسها، و هو أيضا مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام(6) و قيل: الكنّس: المتواريات

ص: 435


1- . تفسير روح البيان 346:10. (2-3-4) . تفسير أبي السعود 116:9، تفسير روح البيان 347:10.
2- . تفسير أبي السعود 116:9، تفسير روح البيان 347:10.
3- . تفسير الرازي 70:31.
4- . تفسير روح البيان 348:10.
5- . مجمع البيان 677:10، تفسير الصافي 291:5.
6- . تفسير الرازي 71:31.

تحت ضوء الشمس(1). و عن القمي قال: النّجوم تكنس بالنهار فلا تبين(2).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: «إمام يخنس سنة ستّين و مائتين، ثمّ يظهر كالشّهاب يتوقّد في الليلة الظلماء، و إن أدركت زمانه قرّت عينك»(3).

أقول: هذا تأويل، و الأول تنزيل.

وَ اللَّيْلِ إِذٰا عَسْعَسَ و أقبل ظلامه، أو أدبر

وَ الصُّبْحِ إِذٰا تَنَفَّسَ و أقبل بطلوعه روح و نسيم أو تكامل ضوؤه و امتدّ.

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه، و هو كون القرآن كلام اللّه بقوله:

إِنَّهُ لَقَوْلُ اللّه العظيم النازل بتوسّط رَسُولٍ كَرِيمٍ على اللّه رسالة منه و قيل: إنّ المراد أنّ هذا الذي اخبركم من أمر الساعة القول جبرئيل بالرسالة من اللّه(4). و قيل: إنّ من كرم جبرئيل أنّه يعطى أفضل العطايا، و هو الوحي و المعرفة و الهداية، و يعطف على المؤمنين و يقهر أعداءهم(5).

ذِي قُوَّةٍ شديدة و قدرة على امتثال أوامر اللّه تعالى. روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل: «ذكر اللّه قوّتك، فأخبرني بشيء من آثارها. قال: رفعت قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود بقوادم جناحي حتّى سمع أهل السماء نباح الكلب و أصوات الدّيكة ثمّ قلبتها»(6).

و قيل: إنّ المراد القوّة في طاعة اللّه، و ترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر الدنيا(7).

عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ العظيم و السلطان القاهر الغالب مَكِينٍ و رفيع المنزلة و عظيم الشأن

مُطٰاعٍ ثَمَّ و في السماء بين الملائكة لا يتخلّف أحد منهم عن أمره أَمِينٍ على وحي اللّه و رسالاته، قد عصمه اللّه من الخيانة و الزّلل.

عن (المجمع): في الحديث: «أنّ رسول اللّه قال لجبرئيل: ما أحسن ما أثنى عليك ربّك ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ فما كانت قوّتك و ما كانت أمانتك؟ فقال: أمّا قوّتي فانّي بعثت إلى مدائن لوط، و هي أربع مدائن، في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم

ص: 436


1- . تفسير الصافي 292:5.
2- . تفسير القمي 408:2، تفسير الصافي 292:5.
3- . الكافي 22/276:1، تفسير الصافي 292:5.
4- . تفسير الرازي 73:31.
5- . تفسير روح البيان 351:10. (6و7) . تفسير روح البيان 351:10.

من الأرض السّفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج و نباح الكلاب(1) ، ثمّ هويت بهنّ و قلبتهنّ، و أما أمانتي فانّي لم اؤمر بشيء فعدوته إلى غيره»(2).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لجبرئيل لمّا نزلت: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (3): «أصابك من هذه الرحمة شيء؟» قال: نعم، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى اللّه عليّ بقوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» (4).

عن الصادق عليه السّلام - في قوله ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ - قال: «يعني جبرئيل». قوله:

مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ؟ قال: «يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو المطاع عند ربّه، الأمين يوم القيامة»(5).

أقول: لا شبهة أن الوصفين منطبقان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن الظاهر أنّهما و صفان لجبرئيل.

وَ مٰا صٰاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ (27) لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ (29) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات كون القرآن كلام اللّه، ردّ قول مكذّبي الرسول و نسبتهم إياه إلى الجنون بقوله:

وَ مٰا صٰاحِبُكُمْ محمد صلّى اللّه عليه و آله المدّعي للرسالة فيكم، يا أهل مكّة بِمَجْنُونٍ كما تزعمون بل هو أعقل أهل العالم، و مخبركم عن اللّه جميع ما يقول لكم بتوسّط جبرئيل.

وَ باللّه لَقَدْ رَآهُ و عاين شخصه بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ و عند مطلع الشمس الأعلى، و الأظهر في السماء، و ليس محمد

وَ مٰا هُوَ عَلَى ما أخبركم من اَلْغَيْبِ كقصص الأنبياء السابقة و الامم السالفة بِضَنِينٍ و متّهم بالكهانة و التعلّم من العلماء و الكذب في الاختلاق.

و قيل: يعني ببخيل بأداء الوحي، فيخبر ببعضه و يمسك عن بعض حتى يأخذ شيئا من الناس، كما هو دأب الكاهن(6).

ثمّ لمّا كان المشركون يقولون: إنّ الشيطان يجيء بهذا القرآن و يلقيه على لسان محمد؛ ردّهم اللّه بقوله:

وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ مسترق للسمع رَجِيمٍ و مطرود بالشّهب

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أيّها

ص: 437


1- . في النسخة: الكلب.
2- . مجمع البيان 677:10، تفسير الصافي 292:5.
3- . الأنبياء: 107/21.
4- . مجمع البيان 107:7، تفسير الصافي 293:5.
5- . تفسير القمي 408:2، تفسير الصافي 293:5.
6- . تفسير روح البيان 353:10.

المشركون؟ و إلى أي درجة تضلّون عن طريق الحقّ في شأن القرآن و محمد؟ و إلى أيّ حدّ تبعدون عن منهج الصواب حتّى تتولوا ما تقولون؟

إِنْ هذا القرآن، و ما هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ و عظة لِلْعٰالَمِينَ من الجنّ و الإنس أجمعين، و إنّما نفعه

لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ يا أهل العالم أَنْ يَسْتَقِيمَ بتحرّي الحقّ و الملازمة للصواب.

روي أنّ أبا جهل لمّا سمع الآية قال: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، و إن شئنا لم نستقم(1). فردّه اللّه تعالى بقوله:

وَ مٰا تَشٰاؤُنَ الاستقامة إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ الذي هو رَبُّ الْعٰالَمِينَ و خالقهم و مدبّر امورهم بالرزق و غيره ممّا يصلحهم و ما يليق بهم.

عن الصادق عليه السّلام - في قوله: وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ - قال: «و ما هو تبارك و تعالى على نبيه صلّى اللّه عليه و آله بغيبه بضنين عليه» وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ قال: «يعني الكهنة الذين كانوا في قريش، فنسب كلامهم إلى كلام الشياطين الذين كانوا معهم يتكلّمون على ألسنتهم فقال: وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ مثل اولئك فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [في] عليّ عليه السّلام، يعني ولايته أين تفرّون منها؟ إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ. قال: لمن أخذ اللّه ميثاقه على ولايته لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قال: في طاعة عليّ و الأئمة عليهم السّلام من بعده وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ قال: لأنّ المشيئة إليه تبارك و تعالى لا إلى الناس»(2).

و عن الكاظم عليه السّلام: «إنّ اللّه جعل قلوب الأئمّة موردا لإرادته، فاذا شاء اللّه شاءوا، و هو قوله: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ» (3).

في الحديث: «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنّه رأي عين، فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ و إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ و إِذَا السَّمٰاءُ انْشَقَّتْ فإنّ فيها بيان أهواله الهائلة على التفصيل»(4).

الحمد للّه على التوفيق لإتمام تفسيرها، و الشكر له.

ص: 438


1- . تفسير روح البيان 354:10.
2- . تفسير القمي 408:2، تفسير الصافي 292:5.
3- . تفسير القمي 409:2، تفسير الصافي 294:5.
4- . تفسير روح البيان 355:10.

في تفسير سورة الانفطار

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَوٰاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحٰارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مٰا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّٰاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مٰا شٰاءَ رَكَّبَكَ (8) ثمّ لمّا ختمت سورة التكوير اردفت بسورة الانفطار الرادفة لها في المطالب و بيان أهوال القيامة، فافتتحها سبحانه على دأبه بذكر أسمائه الحسنى المباركة بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر بعض أهوال القيامة بقوله:

إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ و انشقّت أبوابا لنزول الملائكة، أو لرفعها(1) و طيّها

وَ إِذَا الْكَوٰاكِبُ كلّها اِنْتَثَرَتْ و تساقطت و تفرّقت لانتقاض تركيب السماء و طيّها

وَ إِذَا الْبِحٰارُ فُجِّرَتْ و ارتفعت الحواجز من بينها بحيث يصير الكلّ بحرا واحدا، أو ذهب ماؤها فيبست

وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ و قلب أسفلها أعلاها و باطنها ظاهرها، لخروج الموتى منها، فبعد وقوع تلك الأشراط العلوية و السفلية للساعة قامت القيامة و حينئذ

عَلِمَتْ نَفْسٌ أي نفس كانت مٰا قَدَّمَتْ ليومها(2) ذلك من الأعمال التي عملها حال حياته وَ أَخَّرَتْ و تركت(3) من سنة حسنة أو سيئة يستنّ بها بعد موته، ثمّ يقال:

يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ العاقل بعد ما أخبرك الأنبياء بأنّ اللّه يعذّبك على الكفر و العصيان في دار الجزاء أشدّ العذاب مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ و أيّ شيء جرّأك على عصيانه و آمنك من عقابه إلى حدّ لا يجوز، مع غاية كرمه العفو عنك و التجاوز عن الانتقام منك؟ قيل: إنّ توصيف ذاته المقدّسة بالكرم حسبما كان الشيطان يغويه بقوله: افعل ما شئت فانّ ربّك كريم، مع أنّ كرمه لا يوجب الاغترار به(4).

ص: 439


1- . في النسخة: لرفعهن.
2- . في النسخة: ليومه.
3- . زاد في النسخة: أو اين.
4- . تفسير روح البيان 357:10.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه لمّا قرأها قال: «غرّه جهله»(1).

و قيل: إنّ ذكره الوصف لتلقين العاصي أن يقول: غرّني كرمك(2).

قيل: إنّ الكرم يلازم الحكمة(3) لأنّ العفو العطاء إذا كانا بداعي الحكمة، كانا كرما، فكونه كريما يدلّ على كونه حكيما، كان عليه أن يعيد الخلق للمجازاة و يحشرهم للحساب، بل يدلّ وصفه بالكرم على وجوب البعث من جهتين: من جهت إيصال النعمة، و من جهة الحكمة.

عن ابن عباس: أنّ الآية نزلت في الوليد بن المغيرة(4). و قيل نزلت في الأسود بن كلدة الجمحي، قصد النبي صلّى اللّه عليه و آله في بطحاء مكة، فلم يتمكّن منه، فلم يعاقبه اللّه على ذلك(5).

ثمّ وصف سبحانه ذاته بشئون الكرم بقوله:

اَلَّذِي خَلَقَكَ و أعطاك نعمة الوجود فَسَوّٰاكَ و جعل أعضاءك سوية سليمة من العيوب معدّة لمنافعها فَعَدَلَكَ و جعل أعضاءك متناسبة متساوية. و قيل: يعني فصرفك عن الخلقة المكروهة و أعطاك أحسن الهيئة(6). و عن ابن عباس:

جعلك قائما معتدلا حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية (7)

فِي أَيِّ صُورَةٍ من الصور مٰا شٰاءَ أن يركّبك فيها رَكَّبَكَ قيل: إنّ حرف مٰا زائدة(8) ، و المعنى: في أيّ صورة شاء و اقتضت الحكمة ركّبك. و قيل: في أيّ صورة من صور الأب و الامّ و أقاربهما(9). و قيل: إنّ المراد من الصور المختلفة الاختلاف بحسب الطول و القصر و الحسن و القبح و الذكورة و الانوثة، فانّ اختلاف النّطفة المتشابهة و الأجزاء المتّحدة بالطبيعة في الآثار دليل على خالق قادر مختار(10).

كَلاّٰ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحٰافِظِينَ (10) كِرٰاماً كٰاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مٰا تَفْعَلُونَ (12) ثمّ لمّا أثبت البعث ردع الناس عن الاغترار بقوله:

كَلاّٰ ليس لكم أن تغترّوا بَلْ لم تغترّوا بكرمه، و إنّما أنتم تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ و دار الجزاء، أو بالاسلام المتضمّن للتكاليف و بيان المجازات عليها

وَ الحال إِنَّ عَلَيْكُمْ أيّها الناس من قبلنا لَحٰافِظِينَ و ضابطين لأعمالكم من الملائكة حال كونهم

كِرٰاماً على اللّه، أو على العباد، حيث يسارعون إلى كتب الحسنات، و يتوقّفون في

ص: 440


1- . مجمع البيان 682:10، تفسير الصافي 295:5.
2- . تفسير الرازي 80:31.
3- . تفسير الرازي 78:31 و 79.
4- . تفسير الرازي 79:31.
5- . تفسير روح البيان 357:10.
6- . تفسير روح البيان 359:10.
7- . تفسير الرازي 80:31.
8- . تفسير الصافي 296:5.
9- . تفسير الرازي 81:31.
10- . تفسير الرازي 81:31.

كتب السيئات رجاء أن يتوبوا، أو يتداركوها بالحسنات، أو يصعدون بأعمالهم إلى اللّه، فان كانت حسنة شهدوا بها، و إن كانت سيئة سكتوا، و قالوا: ربّنا أنت الستّار كٰاتِبِينَ للأعمال

يَعْلَمُونَ لحضورهم عندكم في جميع الأوقات و الأحوال مٰا تَفْعَلُونَ من الأفعال قليلها و كثيرها خفيّها و جليها.

في الحديث: «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلاّ عند إحدى الحالتين: الجنابة و الغائط»(1).

و عن القمي [كَلاّٰ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ قال]: بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله(2) و أمير المؤمنين عليه السّلام: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحٰافِظِينَ قال: الملكان الموكلان بالانسان (3)كِرٰاماً كٰاتِبِينَ يبادرون بكتابة الحسنات لكم، و يتوانون بكتابة السيئات عليكم، لعلّكم تتوبون و تستغفرون(4).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيب الريح، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال: قف فانّه قد همّ بالحسنة، فاذا هو عملها كان لسانه قلمه و ريقه مداده فأثبتها له، فاذا همّ بالسيئة خرج نفسه نتن الريح، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين: قف فانّه قد همّ بالسيئة، فاذا هو فعلها كان ريقه مداده و لسانه قلمه فأثبتها عليه»(5).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما علّة الموكلين بعباده يكتبون ما عليهم و لهم، و اللّه عالم السرّ و ما هو أخفى؟ قال: «استعبدهم بذلك، و جعلهم شهودا على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّهم على طاعة اللّه مواظبة، و من معصيته أشدّ انقباضا، و كم من عبد يهمّ بمعصيته فذكر مكانهم فارعوى و كفّ، فيقول: ربّي يراني، و حفظتي علي بذلك تشهد»(6).

إِنَّ الْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجّٰارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهٰا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَ مٰا هُمْ عَنْهٰا بِغٰائِبِينَ (16) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لاٰ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّٰهِ (19) ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين في ذلك اليوم و سوء حال الكفّار و العصاة بقوله:

إِنَّ الْأَبْرٰارَ و الصّلحاء من المؤمنين و مطيعيهم لربّهم لَفِي نَعِيمٍ عظيم دائم لا انقطاع له

وَ إِنَّ الْفُجّٰارَ و العتاة و العصاة لَفِي جَحِيمٍ و نار سجّرها القهّار بغضبه

يَصْلَوْنَهٰا و يقاسون حرّها

ص: 441


1- . تفسير روح البيان 360:10.
2- . في النسخة: القمي عن النبي.
3- . تفسير القمي 409:2.
4- . تفسير الصافي 296:5.
5- . الكافي 3/313:2، تفسير الصافي 296:5.
6- . الاحتجاج: 348، تفسير الصافي 296:5.

و يباشرونها بجميع أعضائهم يَوْمَ الدِّينِ و وقت الجزاء على الأعمال

وَ مٰا هُمْ عَنْهٰا في آن من زمان حياتهم الأبدية بِغٰائِبِينَ و مخرجين.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه يوم الدين عظّم شأنه تهويلا للناس بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك مٰا يَوْمُ الدِّينِ و أيّ حدّ له في الشدّة و الفظاعة؟

ثمّ كرّر سبحانه الجملة مبالغة في التهويل معطوفة بثمّ للدلالة على الترقّي في التأكيد بقوله:

ثُمَّ مٰا أَدْرٰاكَ أيّها الانسان الدراك مٰا يَوْمُ الدِّينِ و أيّ شيء صفته؟ فانّ إدراكه خارج عن طوق البشر في هذا العالم.

ثمّ بيّن سبحانه فظاعة ذلك اليوم بطريق الإجمال بقوله:

يَوْمَ لاٰ تَمْلِكُ نَفْسٌ من النفوس لِنَفْسٍ اخرى شَيْئاً من النفع و الضرر، و لا قدرة لأحد في حقّ غيره قريبا كان أو صديقا أو غيرهما على أمر من الامور وَ الْأَمْرُ و السلطنة المطلقة الكاملة يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت الهائل لِلّٰهِ وحده لا يزاحمه و لا يشاركه أحد فيما أراد.

في الحديث: «من قرأ إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ أعطاه اللّه من الأجر بعدد كلّ قبر حسنة، و بعدد كلّ قطر ماء حسنة، و أصلح اللّه شأنه يوم القيامة»(1).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ هاتين السورتين، و جعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة و النافلة إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ و إِذَا السَّمٰاءُ انْشَقَّتْ لم يحجبه اللّه من حاجة، و لم يحجزه من اللّه حاجز، و لم يزل ينظر إلى اللّه إليه حتى يفرغ من حساب الناس»(2).

ص: 442


1- . تفسير روح البيان 363:10.
2- . ثواب الأعمال: 121، مجمع البيان 679:10، تفسير الصافي 297:5.

في تفسير سورة المطففين

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) اَلَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَى النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لاٰ يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النّٰاسُ لِرَبِّ الْعٰالَمِينَ (6) ثمّ لمّا ختمت سورة الانفطار المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة و ظهور السلطنة المطلقة الإلهية، و أن لكلّ نفس ملائكة يكتبون أعمالها، و أن الأبرار في نعيم، و أن الفجّار في جحيم، نظمت سورة التطفيف المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة، و قيام الناس فيه لربّ العالمين، و أنّ كتاب الأبرار في علّيين، و كتاب الفجّار في سجّين، أنّ الأبرار في نعيم: فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه العصاة في آخر السورة السابقة، و كان التطفيف من أعظم المعاصي ابتدأ هذه السورة بتهديد المطفّفين بقوله:

وَيْلٌ و شرّ شديد، أو هلاك فظيع، أو عذاب أليم - و عن الباقر عليه السّلام في حديث «بلغنا - و اللّه أعلم - أنّها بئر في جهنّم»(1) - لِلْمُطَفِّفِينَ و الباخسين حقوق الناس خفية بالمكيال و الميزان. عن الباقر عليه السّلام: «أنزل في الكيل و الوزن وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ و لم يجعل الويل لأحد حتى يسمّيه كافرا، قال اللّه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا * إلى آخره»(2).

و هم:

اَلَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا و أخذوا بالكيل مالهم عَلَى النّٰاسِ أو إضرارا عليهم يَسْتَوْفُونَ و يأخذونه كاملا وافيا، أو وافرا و زائدا على حقّهم بالحيل و السرقة من أفواه المكاييل أو ألسنة الموازين:

وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ و أعطوا حقّهم بالكيل أَوْ وَزَنُوهُمْ و أعطو حقّهم بالوزن يُخْسِرُونَ و ينقصونه، مع أنّ الكيل و الوزن جعلا لتسوية الحقوق و تعديلها.

عن ابن عباس: لمّا قدم النبي صلّى اللّه عليه و آله المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا، فأنزل اللّه هذه الآية،

ص: 443


1- . تفسير القمي 410:2، تفسير الصافي 298:5.
2- . الكافي 1/27:2، تفسير الصافي 298:5.

فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

و قيل: كان أهل المدينة تجّارا يطفّفون، و كانت بيوعهم المنابذة و الملامسة و المخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقرأها عليهم، و قال: «خمس بخمس» قيل: يا رسول اللّه، و ما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلاّ سلّط اللّه عليهم عدوّهم، و ما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلاّ فشا فيهم الفقر، و ما ظهر فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت، و لا طفّفوا الكيل إلاّ منعوا النبات و اخذوا بالسّنين، و لا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم المطر»(1).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «نزلت على نبيّ اللّه حين قدم المدينة، و هم يومئذ أسوأ الناس كيلا، فأحسنوا بعد عمل الكيل»(2).

ثمّ وبّخ سبحانه المطفّفين بقوله::

أَ لاٰ يَظُنُّ أُولٰئِكَ المطفّفون و لا يحسبون أَنَّهُمْ من هذا العمل القبيح الشنيع مَبْعُوثُونَ من قبورهم:

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدر عظمته لعظم أهواله و شدائده، لوضوح أنّ الظنّ بإتيان هذا اليوم كاف في التحرّز من القبائح التي يظنّ الابتلاء بتبعاتها.

و قيل: إنّ المراد من الظنّ العلم(3) ، لكون النظر في الآية إلى أهل المدينة، و هم كانوا مصدّقين بالبعث في زمان نزولها. عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أ ليس يوقنون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أعني :

يَوْمَ القيامة الذي يَقُومُ فيه اَلنّٰاسُ من قبورهم لِرَبِّ الْعٰالَمِينَ و للمحاسبة عنده، و حينئذ تظهر لهم عظمة شناعة العمل القبيح و عقابه، و إن كانوا يرونه في الدنيا حقيرا، أو يحتمل أنّ المراد من القيام الحضور عنده تعالى.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر»(5).

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف اذنيه»(6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين مثل السّهم في القراب، ليس له من الأرض إلاّ موضع قدمه»(5).

أقول: في الآية غاية التهديد حيث أثبت الويل للمطففين، ثمّ وبّخهم ثانيا بأشدّ التوبيخ، ثمّ وصف يومهم بالعظمة و ما عظّمه اللّه تعالى كان في غاية العظمة، ثمّ ذكّرهم القيامة مع غاية الخشوع و الذلّة لربّ العالمين الذي هو في غاية العظمة و الهيبة و القدرة، و فيه دلالة على كمال حكمته و عدالته

ص: 444


1- . تفسير الرازي 88:31.
2- . تفسير القمي 410:2، تفسير الصافي 298:5.
3- . تفسير الرازي 89:31.
4- . الاحتجاج: 250، تفسير الصافي 298:5. (5و6) . تفسير الرازي 90:31، تفسير روح البيان 365:10.
5- . الكافي 110/143:8، تفسير الصافي 299:5.

المقتضية لأن لا يرضى بأقلّ قليل من الظّلم، فكيف بالكثير.

قيل: إنّ أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان: قد سمعت ما قال اللّه في المطفّفين - أراد أنّه تعالى بالغ في تهديد المطفّف في أخذ القليل بالكيل و الوزن - فكيف حالك و أنت تأخذ الكثير من أموال المسلمين بلا كيل و لا وزن(1).

كَلاّٰ إِنَّ كِتٰابَ الفُجّٰارِ لَفِي سِجِّينٍ (2) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا سِجِّينٌ (3) كِتٰابٌ مَرْقُومٌ (4) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَ مٰا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاّٰ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا قٰالَ أَسٰاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) ثمّ بالغ سبحانه في تهديد المطفّفين و الردع عنه بقوله::

كَلاّٰ ليس أمر التطفيف بهذه الحقارة التي تظنّونها. و قيل: إنّ كَلاّٰ هنا بمعنى حقّا (5)إِنَّ كِتٰابَ أعمال اَلفُجّٰارِ الذين منهم المطفّفون لَفِي سِجِّينٍ و الأرض السابعة السّفلى، كما عن الباقر عليه السّلام و ابن عباس(6) ، لغاية بشاعته و حقارته، أو في أسفل منها في مكان مظلم هو مسكن إبليس و ذريّته، كما عن بعض المفسّرين(7). أو في صخرة تحت الأرض السّفلى، كما عن بعض آخر(8).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «سجّين جبّ في جهنّم»(9).

أقول: الظاهر أنّه علم مأخوذ من السجن.

عن الباقر عليه السّلام - في رواية - «و أمّا الكافر فيصعد بعمله و روحه حتّى إذا بلغ في السماء نادى مناد:

اهبطوا به إلى سجّين، و هو واد بحضر موت يقال له: برهوت»(7).

أقول: يحتمل أن يكون لسجّين معنيان.

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن قوله تعالى: إِنَّ كِتٰابَ الفُجّٰارِ لَفِي سِجِّينٍ قال: «هم الذين فجروا في حقّ الأئمة و اعتدوا عليهم»(8).

أقول: الظاهر أنّهم أظهر مصاديق الفجّار، كما أنّ قول الصادق عليه السّلام قال: «هو فلان و فلان» كذلك(9).

ثمّ عظّم سبحانه السجّين إرعابا للقلوب بقوله::

وَ مٰا أَدْرٰاكَ أيّها الإنسان مٰا سِجِّينٌ ثمّ قيل: إنّ

ص: 445


1- . تفسير روح البيان 366:10.
2- . مجمع البيان 646:4، تفسير الصافي 299:5.
3- . الكافي 91/361:1، تفسير الصافي 299:5.
4- . تفسير القمي 411:2، تفسير الصافي 299:5.
5- . تفسير الرازي 92:31، تفسير روح البيان 366:10.
6- . تفسير القمي 410:2، تفسير الصافي 299:5، و لم ترد فيهما كلمة: السفلى، تفسير الرازي 92:31.
7- . تفسير الرازي 92:31، تفسير أبي السعود 126:9.
8- . تفسير الرازي 92:31.
9- . مجمع البيان 688:10، تفسير الرازي 92:31.

اللّه تعالى ذمّ كتاب الفجّار(1) بقوله::

كِتٰابٌ مَرْقُومٌ و مكتوب فيه أعمال الكفّار و الفجّار و الفسقة من الجنّ و الإنس، تشهده الشياطين. و قيل: مرقوم بمعنى مختوم(2). و قيل: يعني كتاب معلّم (بعلامة) دالة على شقاوة صاحبه و كونه من أصحاب النار(3):

وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ و في وقت قيام الناس لربّهم، أو وقت تطاير الكتب لِلْمُكَذِّبِينَ أعني:

اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ و أعرضوا عن الآيات البينات الناطقة به.

:

وَ مٰا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاّٰ كُلُّ مُعْتَدٍ و متجاوز عن حدود العقل، و مقتصر على التقليد غال فيه أَثِيمٍ و مصرّ على عصيان اللّه، منهمك في الشهوات الفانية، غافل عمّا وراءها من اللذات الباقية، من خبث ذاته و إصراره على الكفر:

إِذٰا تُتْلىٰ و تقرأ عَلَيْهِ لإنذاره و هدايته آيٰاتُنٰا المنزلة في القرآن الدالة على صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله في دعوى رسالته و صحّة البعث. قٰالَ عنادا و لجاجا: إنّها أَسٰاطِيرُ الْأَوَّلِينَ و هي من أكاذيب الأنبياء السابقين، أو الأخبار المسطورة في دفاتر الامم السالفين، و تعلّمها محمد و نسبها إلى اللّه.

قيل: إنّ القائل الوليد بن المغيرة(4). و قيل: النضر بن الحارث(5).

و عن الصادق عليه السّلام في تأويله: «هو الأول و الثاني، كانا يكذّبان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»(4).

كَلاّٰ بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (14) ثمّ ردعهم اللّه سبحانه عن التكذيب بقوله::

كَلاّٰ ليس الأمر كما يقولون بَلْ رٰانَ و غلب عَلىٰ قُلُوبِهِمْ أو غطّى عليها أو طبع عليها مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ و يرتكبون من الكفر و الفجور و العصيان حتّى صار كالصدإ على مرآة.

عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: (أنّ العبد كلّما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتّى يسودّ قلبه»(5).

و عن الباقر عليه السّلام: «ما من عبد إلاّ و في قلبه نكتة بيضاء، فاذا أذنب ذنبا خرج في تلك النّكتة نكتة سوداء، فان تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، [فإذا غطّي البياض] لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا، و هو قوله تعالى: بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا

ص: 446


1- . تفسير روح البيان 366:10.
2- . تفسير الرازي 93:31.
3- . تفسير روح البيان 366:10. (4و5) . تفسير الرازي 94:31.
4- . تفسير القمي 411:2، تفسير الصافي 300:5.
5- . تفسير الرازي 94:31، تفسير أبي السعود 127:9، تفسير روح البيان 367:10.

يَكْسِبُونَ» (1) .

أقول: لعلّ المراد بالبياض لين القلب و نورانيته، و بالسواد قسوته و ظلمته، و بعده عن التأثّر بالمواعظ الإلهية و الآيات القرآنية، و جرأته على اللّه إلى أن ينتهى أمره إلى الكفر، كما قال تعالى: ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ كٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ (2).

كَلاّٰ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصٰالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقٰالُ هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) ثمّ ردعهم سبحانه عن توهّم أنه ليس عليهم تبعة في تكذيبهم بقوله::

كَلاّٰ ليس الأمر كما يتوهّمون من أنهم لا يؤاخذون بما يقولون، بل إِنَّهُمْ عَنْ ثواب رَبِّهِمْ و كرامته، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (3)يَوْمَئِذٍ و في وقت قيامهم من القبور، أو في محضر العدل و الحساب لَمَحْجُوبُونَ و محرومون، فلا تشملهم الرحمة الواسعة الإلهية أبدا لعدم قابليتهم لنيلها.

:

ثُمَّ إِنَّهُمْ مع حرمانهم من الرحمة و الكرامة لَصٰالُوا الْجَحِيمِ و ملقون فيها بعنف و قهر، و مباشرون حرّها من غير حاجز و حائل أصلا:

ثُمَّ يضاف على عذابهم الجسماني العذاب الروحاني إذ يُقٰالُ لهم توبيخا و تقريعا و القائل الزبانية و الملائكة الغلاظ الشداد حين إشرافهم على النار، أو بعد إلقائهم فيها: أيّها الكفرة المنكرون للبعث و الحساب و جزاء الأعمال هٰذَا العذاب اَلَّذِي ترونه بأعينكم و ابتليتم به اليوم، هو العذاب الذي أخبركم به الأنبياء و المؤمنون في الدنيا و كُنْتُمْ بِهِ عنادا و لجاجا تُكَذِّبُونَ و تستهزئون.

كَلاّٰ إِنَّ كِتٰابَ الْأَبْرٰارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا عِلِّيُّونَ (19) كِتٰابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) ثمّ ردعهم اللّه سبحانه عن توهّم أنّهم في الآخرة مساوون للمؤمنين، بل هم أحسن حالا منهم بقوله::

كَلاّٰ ليس الأمر كما تتوهّمون من أنّكم في الآخرة على تقدير تحقّقها و وقوعها كالمؤمنين في حسن الحال، و أنّهم مثلكم فيها، بل إِنَّ كِتٰابَ أعمال المؤمنين اَلْأَبْرٰارِ و الصلحاء الأخيار لَفِي عِلِّيِّينَ و أعالي الأمكنة، أو أعالى الجنّة.

ص: 447


1- . الكافي 20/209:2، مجمع البيان 689:10، تفسير الصافي 300:5.
2- . الروم: 10/30.
3- . مجمع البيان 689:10، تفسير الصافي 300:5.

عن ابن عباس: أنّ علّيين السماء الرابعة(1). و في رواية اخرى عنه: أنّه السماء السابعة(2). و قيل: هي سدرة المنتهى(3). و قيل: هي قائمة العرش اليمنى(4). و قيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة و الاكرام قد عظّمها اللّه و أعلى شأنها(5). و قيل: هي عند ديوان أعمال الملائكة(6) ، إن كان لهم أيضا ديوان كما للانسان.

و على أي تقدير قد عظّمه اللّه تعالى بقوله::

وَ مٰا أَدْرٰاكَ أيّها العاقل الدراك مٰا عِلِّيُّونَ و أي مكان هو في عظمة الشأن و رفعة المنزلة عند اللّه و عند أوليائه؟ فانّ إدراككم و عقلكم قاصر عن دركه.

و الإحاطة به في الدنيا.

ثمّ مدح سبحانه كتاب الأبرار بقوله::

كِتٰابٌ و ديوان مَرْقُومٌ و مكتوب فيه أعمالهم الخيرية، يعرفها كلّ من نظر فيه، أو معلّم بعلامة دالة على أنّ أصحابه من السعداء، أو مختوم:

يَشْهَدُهُ الملائكة اَلْمُقَرَّبُونَ عند اللّه. قيل: كما وكّلهم اللّه باللّوح المحفوظ كذلك وكّلهم بحفظ كتاب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو امّ الكتاب إعظاما له(1).

و الحاصل على ما قيل: إنّ الحفظة إذا صعدت بكتب الأبرار يسلّمونها إلى هؤلاء المقرّبين، فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم، أو ينقلون ما في تلك الكتب إلى ذلك الكتاب الذي وكّلوا بحفظه، فيصير علمهم شهادة(8).

و قيل: إنّ المراد كتاب موضوع في علّيين، كتب فيه ما أعدّ اللّه لهم من الكرامة و الثواب(9).

عن ابن عباس: إنّه مكتوب في لوح من زبرجد معلّق تحت العرش(10).

قيل: يشهد ذلك الكتاب إذا سعد به إلى عليّين المقرّبون من الملائكة كرامة للمؤمن(11).

روي أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلّونه، فاذا انتهوا إلى ما شاء اللّه من سلطانه أوحى إليهم:

أنّكم الحفظة على عبدي، و أنا الرقيب على ما في قلبه، و إنّه أخلص عمله، فاجعلوه في علّيين، فقد غفرت له. و إنّها تصعد بعمل العبد فيزكّونه، فاذا انتهوا به إلى ما شاء اللّه أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي؛ و أنا الرقيب على قلبه، إنّه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجّين(2).

عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه خلقنا من أعلى علّيين، و خلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه، و خلق أبدانهم من دون ذلك، و قلوبهم تهوي إلينا، لأنّها خلقت ممّا خلقنا منه» ثمّ تلا هذه الآية كَلاّٰ إِنَّ

ص: 448


1- . تفسير الرازي 97:31. (8-9-10-11) . تفسير الرازي 97:31.
2- . تفسير روح البيان 370:10.

كِتٰابَ الْأَبْرٰارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» (1) .

إِنَّ الْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرٰائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتٰامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذٰلِكَ فَلْيَتَنٰافَسِ الْمُتَنٰافِسُونَ (26) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عظمة كتاب الأبرار بيّن حال أنفسهم في الآخرة بقوله::

إِنَّ الْأَبْرٰارَ و الصلحاء من المؤمنين في الآخرة لَفِي نَعِيمٍ و رزق كريم، و إنما كيفية نعمهم أنّهم:

عَلَى الْأَرٰائِكِ و السّرر التي في الحجال يَنْظُرُونَ إلى ما أعدّ اللّه لهم من البساتين و القصور و الأطعمة و الأشربة و الفواكه و الحور و الغلمان و سائر ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين، و إلى حال أعدائهم و شدّة عذابهم:

تَعْرِفُ أيّها الناظر فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ و بهجته و بهاءه و الاستبشار، و قيل: يزيد في وجوههم من الحسن و الجمال و النور ما لا يصفه واصف(2) و:

يُسْقَوْنَ بأيدي الحور و الغلمان مِنْ رَحِيقٍ و خمر صاف خالص لا غشّ و لا غائلة فيه مَخْتُومٍ بأمر اللّه مطبوع عليه لئلا تمسّه يد لامس إكراما له بالصيانة على ما جرت العادة من ختم ما يصان و يكرم:

خِتٰامُهُ و ما يختم به بدل الطين مِسْكٌ أذفر رطب ينطبع فيه الخاتم.

و قيل: يعني عاقبته مسك، بمعنى أنّ الشارب إذا رفع فاه من آخر شربة وجد ريحه كريح المسك(3).

و قيل: يعني خلطة المسك تطييبا لطعمه و رائحته(2). و قيل: هو كناية عن صحة أبدانهم و قوّة شهوته، حيث إنّ خلط المسك معين على الهضم و قوّة الشهوة(3).

و عن أبي الدرداء: شراب أبيض مثل الفضّة يختمون به آخر شربهم، و لو أنّ رجلا من أهل الدنيا أدخل يده فيه ثمّ أخرجها لم يبق ذو روح إلاّ وجد طيب ريحه(4).

وَ فِي ذٰلِكَ النعيم المذكور، أو الرحيق المختوم فَلْيَتَنٰافَسِ الْمُتَنٰافِسُونَ و ليرغب الراغبون، لا في النّعم الدنيوية الكدرة السريعة الزوال و الفناء.

وَ مِزٰاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كٰانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذٰا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغٰامَزُونَ (30) وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلىٰ أَهْلِهِمُ

ص: 449


1- . الكافي 4/320:1، و 4/3:2، تفسير الصافي 301:5. (2و3) . تفسير الرازي 99:31.
2- . تفسير الرازي 99:31.
3- . تفسير الرازي 99:31 و 100.
4- . تفسير الرازي 100:31.

اِنْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذٰا رَأَوْهُمْ قٰالُوا إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَضٰالُّونَ (32) وَ مٰا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حٰافِظِينَ (33) ثمّ بالغ سبحانه في مدح الرحيق بقوله::

وَ مِزٰاجُهُ و خليطه شيء مِنْ ماء تَسْنِيمٍ أعني :

عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ سئل ابن عباس عن تسنيم فقال: هذا ممّا يقول اللّه: فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (1).

و قال أيضا: أشرف شراب أهل الجنّة هو تسنيم، لانّه يشربه المقرّبون صرفا، و يمزح لأصحاب اليمين(2).

روي أنّها تجري في الهواء متسنّمة فتنصبّ في أوانيهم، فاذا ملئت مسك الماء حتى لا تقع قطرة منه على الأرض، فلا يحتاجون إلى الاستسقاء(3).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه كرامة الأبرار و علوّ منزلتهم عنده في الآخرة، ذكر توهين الكفّار إياهم و تحقيرهم و استهزائهم بهم بقوله::

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا و أصرّوا على الكفر و العصيان كأبي جهل و الوليد بن المغيرة و أحزابهما كٰانُوا في الدنيا مِنَ حال اَلَّذِينَ آمَنُوا بالنبي عن صميم القلب يَضْحَكُونَ استهزاء بهم لما هم فيه من الفقر و الشدّة،:

وَ إنّ المؤمنين إِذٰا مَرُّوا بِهِمْ و هم في أنديتهم يَتَغٰامَزُونَ و يعيبونهم، و يشيرون إليهم بالأجفان و الحواجب، و يقولون: انظروا إلى هؤلاء السفهة يتعبون أنفسهم و يحرمونها من اللذات و يخاطرون بها(4) في طلب ثواب موهوم:

وَ إِذَا انْقَلَبُوا و انصرفوا من مجامعهم إِلىٰ أَهْلِهِمُ و أقاربهم اِنْقَلَبُوا و انصرفوا حال كونهم فَكِهِينَ و معجبين بما هم فيه من الشرك و التنعّم، أو متلذّذين بذكر المسلمين بالسوء و الاستهزاء.

:

وَ إِذٰا يشاهدوا المؤمنين و رَأَوْهُمْ قٰالُوا تحقيرا لهم: إِنَّ هٰؤُلاٰءِ المؤمنين لَضٰالُّونَ حيث تركوا دين آبائهم و التنعّم بالنّعم، و اغترّوا بوعد محمد و وعيده وَ الحال أنّ المجرمون و:

مٰا أُرْسِلُوا من قبلنا إلى المؤمنين ليكونوا عَلَيْهِمْ حٰافِظِينَ يحفظونهم من الضلال، و يرشدونهم إلى الحقّ و الصواب، فيعيبون عليهم ما يعتقدونه ضلالا. و فيه إشعار بأن تعيين الحقّ و الضلال شأن المرسلين من اللّه، لا شأن الناس الجهلة و الحمقاء.

روى بعض العامة منهم الفخر، أنّه جاء عليّ عليه السّلام في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا الأصلح، فضحكوا منه، فنزلت الآيات قبل أن

ص: 450


1- . تفسير الرازي: 100:31، و الآية من سورة السجدة: 17/32.
2- . تفسير الرازي 100:31.
3- . تفسير روح البيان 372:10.
4- . في النسخة: و يخاطرونها.

يصل عليّ عليه السّلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(1).

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفّٰارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرٰائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفّٰارُ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ (36) ثمّ بيّن سبحانه أنّ المجرمين يجازون في الآخرة على ضحكهم من المؤمنين بقوله::

فَالْيَوْمَ الذي هو يوم الحساب و الجزاء على الأعمال اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفّٰارِ يَضْحَكُونَ و يسخرون حين يرونهم أذلاء، معذّبين و معلولين لتحزّزهم و تكبّرهم في الدنيا، و إنّهم يأكلون الزقّوم و يشربون الحميم و الغسّاق بعد تنعّمهم و ترفهم.

روي أنّهم يفتح لهم باب إلى الجنّة فيقال لهم: اخرجوا إليها، فإذا وصلوا اغلق دونهم، فيضحك المؤمنون منهم(2) حال كونهم جالسين:

عَلَى الْأَرٰائِكِ و السّرر المحجّلة يَنْظُرُونَ إلى سوء حال المجرمين في النار، و هم يقولون، أو اللّه، أو الملائكة يقولون::

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفّٰارُ و عوّضوا مٰا كٰانُوا في الدنيا يَفْعَلُونَ من الضّحك من المؤمنين و الاستهزاء بهم. و فيه تسلية للمؤمنين بأنّه سينقلب الحال و يكون الكفار في الآخرة مضحوكا منهم، و تعظيم للأولياء.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ في الفريضة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أعطاه اللّه الأمن يوم القيامة من النار، و لم تره و لا يراها، و لا يمرّ على جسر جهنّم، و لا يحاسب يوم القيامة»(3). قد تمّ تفسير السورة بحمد اللّه و منّه(4).

ص: 451


1- . تفسير الرازي 101:31.
2- . جوامع الجامع: 534، تفسير الصافي 303:5، في النسخة: المؤمن منهم.
3- . ثواب الأعمال: 122، مجمع البيان 685:10، تفسير الصافي 303:5.
4- . في النسخة: و المنّة.

ص: 452

في تفسير سورة الانشقاق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمٰاءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهٰا وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ مٰا فِيهٰا وَ تَخَلَّتْ (4) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهٰا وَ حُقَّتْ (5) يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ (6) ثمّ لمّا ختمت سورة التطفيف المتضمنة بيان عظمة يوم القيامة، و عظمة كتاب أعمال الأبرار، و مهانة أعمال الفجّار، و رجوع الكافرين(1) إلى أهلهم مسرورين بكفرهم باستهزائهم بالمؤمنين، نظمت سورة الانشقاق المتضمّنة لبيان أهوال القيامة، و حسن حال المؤمنين الذين يؤتون كتاب أعمالهم بأيمانهم، و سوء حال الفجّار الذين يؤتون كتابهم بشمالهم، و رجوع المؤمنين في الآخرة إلى أهلهم مسرورون، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها ببيان أهوال يوم القيامة بقوله:

إِذَا السَّمٰاءُ انْشَقَّتْ لنزول الملائكة أو للسقوط، أو الانطواء أو لهول القيامة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تنشق من المجرّة، و هي البياض المستطيل في وسط السماء»(2).

وَ أَذِنَتْ السماء و انقادت لِرَبِّهٰا و خالقها حين أراد انشقاقها، كانقياد العبد المطيع لأمر مولاه المطاع، أو الرعية لحكم السلطان القاهر المقتدر وَ حُقَّتْ السماء، حقيقتها بالانقياد له، لكونها موجودة بايجاد، باقية بابقائه، مقهورة تحت قدرته، مربوبة بتربيته

وَ إِذَا الْأَرْضُ بأمره تعالى مُدَّتْ و بسطت بإزالة جبالها و تلالها و آكامها عن مقارّها بحيث صارت كالصحيفة الملساء، أو زيدت في سعتها لتتسع لوقوف الأولين و الآخرين عليها للحساب.

عن ابن عباس: إذا كان يوم القيامة مدّ اللّه الأرض مدّ الأديم العكاظي(3).

ص: 453


1- . في النسخة: المؤمنين.
2- . تفسير روح البيان 375:10.
3- . تفسير الرازي 103:31، و فيه: الأديم الكاظمي، تفسير روح البيان 375:10، و لم يذكر الراوي.

وَ أَلْقَتْ و رمت مٰا فِيهٰا من الكنوز و الموتى من بطنها إلى ظاهرها بالزّلزال وَ تَخَلَّتْ عمّا تحمله بحيث لا يبقى فيها شيء

وَ أَذِنَتْ و انقادت لِرَبِّهٰا في الإلقاء و التخلّي وَ حُقَّتْ بهذا الانقياد، و حقيقته لأنّه شأن الممكن بالنسبة إلى الواجب، فعند ذلك وقعت الواقعة العظمى، و ظهرت الأهوال التي قصرت الألسن عن شرحها و وصفها.

يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ الغافل عن عاقبة أمرك إِنَّكَ كٰادِحٌ و مجدّ و ساع في دنياك، و مجتهد في تحصيل شهواتك إِلىٰ لقاء رَبِّكَ بالموت كَدْحاً و جدّا بليغا فَمُلاٰقِيهِ بعد الموت لا محالة، و حاضر في محكمة عدله تعالى البتة لا مفرّ منه.

و قيل: إنّ ضمير (ملاقيه) راجع إلى الكدح(1) ، و المعنى فأنت ملاق كدحك و عملك بملاقاة صحيفة الأعمال.

فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ حِسٰاباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ وَرٰاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَ يَصْلىٰ سَعِيراً (12) إِنَّهُ كٰانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلىٰ إِنَّ رَبَّهُ كٰانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلاٰ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ مٰا وَسَقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) ثمّ بيّن سبحانه اختلاف أفراد الانسان في كتاب الأعمال بقوله:

فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ يوم القيامة بِيَمِينِهِ و هو المؤمن الصالح الذي كتب أعماله الملك القاعد عن يمينه

فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ هذا المؤمن حِسٰاباً يَسِيراً و سهلا لا مناقشة فيه و لا اعتراض عليه بما يسوء، و هو على ما قيل: أن يعرف طاعته و معصيته، فيثاب على طاعته و تغفر معصيته(2).

وَ إذن يَنْقَلِبُ و ينصرف إِلىٰ أَهْلِهِ و عياله و ذريّاته إن كانوا في الجنّة، أو إلى حور العين مَسْرُوراً و فرحا بنجاته من النار و فوزه بالجنة.

عن عائشة قالت: سمعت رسول اللّه يقول: «اللهمّ حاسبني حسابا يسيرا» قلت: ما الحساب اليسير؟ قال: «ينظر في كتابه و يتجاوز عن سيئاته، فأمّا من نوقش في الحساب فقد هلك»(3).

و عنها أنّها قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من نوقش في الحساب فقد هلك» فقلت: يا رسول اللّه، إنّ

ص: 454


1- . تفسير الرازي 105:31.
2- . تفسير الرازي 106:31، تفسير روح البيان 377:10.
3- . تفسير الرازي 106:31.

اللّه يقول: فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ حِسٰاباً يَسِيراً؟ قال: «ذلك العرض، و لكن من نوقش في الحساب عذّب»(1).

وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ و أعطي كِتٰابَهُ و صحيفة عمله بشماله الذي جعل وَرٰاءَ ظَهْرِهِ بعد ما غلّت يده اليمنى على ما قيل(2) ، و قيل: تخلع يده اليسرى و تجعل من وراء ظهره(3). و قيل: إنّ يده في محلّها، و لكن يعطى الكتاب بها من وراء ظهره. و قيل: يحوّل وجهه أي قفاه، فيقرأ الكتاب كذلك (4)

فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً و هلاكا لنفسه، و يقول: وا ثبوراه، لعلمه بذلك أنّه من أصحاب النار

وَ بعد ذلك يَصْلىٰ سَعِيراً أو يدخل نارا لأجل

إِنَّهُ كٰانَ في الدنيا فِي أَهْلِهِ و عياله و عشيرته مَسْرُوراً بالنّعم و الراحة من تعب العبادة و مشقّة امتثال التكاليف، لعدم إيمانه باللّه و اليوم الآخر، و عدم خوفه من الحساب، أو مسرورا بما هو عليه من الكفر و التكذيب بالبعث، و كان يضحك ممّن آمن بهما

إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ و لن يرجع بعد الموت إلى الحياة الدنيا، أو إلى الآخرة، أو إلى اللّه، كما عن بن عباس(1).

بَلىٰ يحور و يرجع إلى الحياة و يبعث إِنَّ رَبَّهُ الذي خلقه كٰانَ حين خلقه رَبَّهُ و بخبث طينته و شقاوته و سوء عمله و عاقبته بَصِيراً و عالما

فَلاٰ يظنّ أن يهمله اللّه و لا يعاقبه على كفره و معاصيه أُقْسِمُ أيّها الانسان بِالشَّفَقِ و الحمرة الباقية في الافق بعد غروب الشمس، كما عن بن عباس (2)

وَ اللَّيْلِ وَ مٰا وَسَقَ و جمع الليل بظلمته من النجوم و الحيوانات التي يرجع إلى أماكنها من الدوابّ و السّباع و الوحوش و الهوامّ و الحشرات

وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ و اجتمع و تمّ و صار بدرا.

قيل. اقسم اللّه تعالى بهذه الامور لظهور التحوّل و التغيير فيها(3) الدالّ على قدرته الكاملة.

لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) ثمّ بيّن سبحانه المقسم عليه بقوله:

لَتَرْكَبُنَّ و لتلاقنّ أيّها الناس حالا طَبَقاً و موافقا لحال السابق متجاوزا في الشدّة عَنْ طَبَقٍ و حال موافق لسابقه. حاصل المراد - و اللّه أعلم - لتلاقن حالا بعد حال كلّ واحدة مطابقة لاختها في الشدّة و الهول أو فوقها.

و قيل: إنّ الطّبق جمع طبقة، و هي المرتبة، و المعنى: لتركبنّ أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض، و هي و ما بعدها من مواطن البرزخ و القيامة و دواهيها إلى حين

ص: 455


1- . تفسير الرازي 107:31.
2- . تفسير الرازي 108:31.
3- . تفسير روح البيان 380:10 و 381.

الاستقرار في الجنّة أو النار(1).

و قيل: إنّه المقصود أنّ الناس تنتقل أحوالهم يوم القيامة ممّا كانوا عليه في الدنيا(2) فانّ اللّه لما أخبر عن حال من يؤتى كتابه وراء ظهره، و أنّه كان في أهله مسرورا، و أنه ظنّ أن لن يحور، أخبر أنه يحور. ثمّ أقسم على أنّ الناس يركبون طبقا عن طبق في الآخرة، أي حالا بعد حالهم في الدنيا.

و قيل: يعني لتركبنّ سنّة الأولين ممّن كانوا قبلكم في تكذيب الرسل و القيامة(3).

عن الصادق عليه السّلام: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي سنن من كان قبلكم»(2).

و عنه عليه السّلام: «لتركبنّ سنن من كان قبلكم من الأولين و أحوالهم»(3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أي لتسلكنّ(4) سبيل من كان قبلكم من الامم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء»(5).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «أ و لم تركب هذه الامّة بعد نبيها طبقا عن طبق في أمر فلان و فلان و فلان»(6).

و عن القمي: يقول: «لتركبنّ سبيل(7) من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، و القذّة بالقذّة لا تخطئن طريقهم، و لا يخطئ(8) شبر بشير و ذراع بذراع و باع بباع، حتى أنّه لو كان من كان قبلكم دخل في جحر ضبّ لدخلتموه؟ قالوا اليهود و النصارى: من تعني يا رسول اللّه؟ قال: «فمن أعني، لتنقضنّ عرى الاسلام عروة عروة، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الإمامة، و آخره الصلاة»(9).

فَمٰا لَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذٰا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاٰ يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) ثمّ لمّا بيّن سبحانه صحّة البعث بالآيات المعجزات، وبّخ المشركين على عدم إيمانهم، و أظهر التعجّب منه بقوله:

فَمٰا لَهُمْ من العذر، و أي مانع لهم أنّهم لاٰ يُؤْمِنُونَ بهذا القرآن و ما فيه من الإخبار بالبعث و الحساب؟

وَ إِذٰا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ مع ما فيه من العلوم و الإعجاز لاٰ

ص: 456


1- . تفسير الرازي 109:31، تفسير روح البيان 381:10. (2و3) . تفسير الرازي 110:31.
2- . كمال الدين: 6/480، تفسير الصافي 305:5.
3- . جوامع الجامع: 535، تفسير الصافي 305:5.
4- . في النسخة: لتركبنّ.
5- . الاحتجاج: 248، تفسير الصافي 306:5.
6- . تفسير القمي 413:2، الكافي 17/343:1، تفسير الصافي 306:5.
7- . في المصدر: سنّة.
8- . في المصدر: و لا تخطئون طريقتهم.
9- . تفسير القمي 413:2، تفسير الصافي 306:5.

يَسْجُدُونَ و لا يخضعون للّه عن ابن عباس: المراد بالسجود الصلاة(1). و عن جماعة من المفسّرين:

المراد نفس السجود(2).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قرأ ذات يوم: وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (3) فسجد هو و من معه من المؤمنين، و قريش تصفّق فوق رءوسهم و تصفر، فنزلت الآية(4).

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم سجودهم و إيمانهم بقوله:

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و بكتابه و اليوم الآخر يُكَذِّبُونَ الرسول و القرآن في إخبارهما بالبعث عنادا و لجاجا و تقليدا لآبائهم، و لذا لا يخافون

وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ من أنفسهم بِمٰا يُوعُونَ و ما يضمرون في قلوبهم من الحسد و البغي و اللّجاج، أو بما يجمعون في صحف أعمالهم من الكفر و العصيان

فَبَشِّرْهُمْ يا محمد بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ في الدنيا و الآخرة، فانّهم بأعمالهم يظهرون أنّه مطلوبهم

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا منهم بعد كفرهم.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع(5) ، و المعنى: لكن الذين آمنوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ من الطاعات و العبادات لَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ و ثواب عظيم غَيْرُ مَمْنُونٍ و مقطوع، بل متّصل و دائم، أو غير ممنون به عليهم، فانّ المنّة تكدّر النعمة.

قد مرّ ذكر ثواب قراءتها.

ص: 457


1- . تفسير الرازي 111:31.
2- . تفسير الرازي 111:31.
3- . العلق: 19/96.
4- . جوامع الجامع: 535، تفسير الصافي 306:5.
5- . الكشاف 728:4، تفسير الرازي 113:31، تفسير الصافي 306:5.

ص: 458

في تفسير سورة البروج

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شٰاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحٰابُ الْأُخْدُودِ (4) ثمّ لمّا ختمت سورة الانشقاق المتضمّنة لانكار المشركين بالبعث و دار الجزاء، و عدم إيمانهم بالقرآن و تكذيبهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و كان فيه تألّم قلبه الشريف، نظمت سورة البروج المتضمّنة لحكاية امتناع أصحاب الاخدود من الايمان، و إحراقهم المؤمنين بالنار، و تهديد الذين يؤذون المؤمنين بالعذاب، لتسلية قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها سبحانه بالقسم بأشياء عظيمة القدر و الشرف، لظهور آثار قدرته و حكمته بها بقوله:

وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْبُرُوجِ الاثني عشر التي فيها تسير الشمس في السنة الشمسية. و قيل: إنّ المراد بالبروج منازل القمر(1) ، و هي ثمانية و عشرون كوكبا(2). و قيل: هي الكواكب العظام(3) و تسميتها بالبروج لظهورها

وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ للناس بلسان الأنبياء، و هو يوم القيامة، كما رواه أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(4) و هو يوم فصل القضاء، و ظهور تفرّد اللّه تعالى بالملك و السلطان

وَ شٰاهِدٍ و حاضر في ذلك اليوم من الملائكة و الجنّ و الإنس، وَ يوم مَشْهُودٍ و هو يوم القيامة، كما عن ابن عباس(5) ، لمعاينة العجائب التي ليست في غيره، و لقوله تعالى: ذٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّٰاسُ وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (6).

و عن أبي موسى الأشعري: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «اليوم الموعود يوم القيامة، و الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم عرفة»(7).

ص: 459


1- . تفسير الرازي 113:31، تفسير أبي السعود 135:9، تفسير روح البيان 385:10.
2- . تفسير روح البيان 385:10.
3- . تفسير الرازي 113:31، تفسير أبي السعود 135:9.
4- . تفسير الرازي 113:31.
5- . تفسير الرازي 114:31.
6- . هود: 103/11.
7- . تفسير الرازي 115:31.

و عن أبي هريرة مرفوعا قال: «المشهود يوم عرفه و الشاهد يوم الجمعة، ما طلعت شمس و لا غربت على أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو اللّه بخير إلاّ استجاب له، و لا يستعيد من شرّ إلا أعاذه منه»(1).

و عن ابن المسيب مرسلا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «سيد الأيام يوم الجمعة، و هو الشاهد، و المشهود يوم عرفة»(2).

و رواية العامة عن أمير المؤمنين(3) رواه أصحابنا عن الصادق(4) و عن الباقر عليهما السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: «ما قيل لك» فقال السائل: قالوا شاهد يوم الجمعة، و مشهود يوم عرفة. فقال: «ليس كما قيل لك، الشاهد يوم عرفة، و المشهود يوم القيامة، أ ما تقرأ القرآن؟ قال اللّه عزّ و جلّ: ذٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّٰاسُ وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» (5).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: «النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أمير المؤمنين عليه السّلام»(6).

و على أي تقدير قيل: إنّ جواب القسم محذوف(7) ، و التقدير: لعن كفّار مكة كما

قُتِلَ و لعن أَصْحٰابُ الْأُخْدُودِ و أهل الخنادق. قيل: كانوا ثلاثة: انطيانوس الرومي بالشام، و بخت نصر بفارس، و يوسف ذو نؤاس الحميري بنجران يمن، كلّ واحد منهم حفر خندقا عظيما، طوله أربعون ذراعا، و عرضه اثنا عشر ذراعا، و ملئوه نارا، و ألقوا فيه المؤمنين(8).

قيل: إنّ المقصود بأصحاب الاخدود في الآية ذو نؤاس النجراني اليهودي و جنوده، قالوا: إنّ عبدا صالحا يقال له: عبد اللّه بن الثامر، وقع إلى نجران، و كان على دين عيسى عليه السّلام، فدعاهم فأجابوه، فسار إليهم ذو نؤاس بجنود من حمير، فخيّرهم بين النار و اليهودية، فأبوا اليهودية، فحفر الخنادق و أضرم فيها النيران، فجعل يلقي فيها كلّ من اتّبع ابن الثامر حتّى أحرق نحوا من اثني عشر ألفا، أو عشرين ألفا أو سبعين ألفا، و كان اسم ذو نؤاس زرعة بن حسّان ملك حمير، و سمّى نفسه يوسف(9).

و روي أنّه انفلت رجل من أهل نجران، اسمه دوس ذو ثعلبان، و وجد إنجيلا محترقا بعضه، فأتى به ملك الحبشة، و كان نصرانيا، فقال له: إنّ أهل دينك اوقدت لهم نار فأحرقوا بها و احرقت كتبهم، و هذا بعضها. فأراه الذي جاء به، ففزع لذلك، فكتب إلى صاحب الروم يستمدّه بنجّارين يعملون له

ص: 460


1- . تفسير الرازي 115:31.
2- . تفسير الرازي 115:31.
3- . تفسير الرازي 115:31.
4- . معاني الأخبار: 2/298، تفسير الصافي 308:5.
5- . معاني الأخبار: 5/299، تفسير الصافي 308:5.
6- . الكافي 69/352:1، معاني الأخبار: 7/299، تفسير الصافي 308:5.
7- . تفسير الرازي 116:31، تفسير روح البيان 385:10.
8- . تفسير روح البيان 386:10.
9- . تفسير روح البيان 386:10.

السفينة، فبعث إليه صاحب الروم من عمل له السفن، فركبوا فيها، فخرجوا إلى ساحل اليمن، فخرج إليهم أهل اليمن، فلقوهم بتهامة، و اقتتلوا، فلم ير ملك حمير له بهم طاقة، و خاف أن يأخذوه، فضرب فرسه حتى وقع في البحر فمات فيه، فاستولى الحبشة على حمير و ما حولها و تملّكوا، و بقي الملك لهم إلى وقت الإسلام(1).

و في الحديث: «كان ملك فيمن كان قبلكم» كان له ساحر، فلمّا كبر قال للملك: إني كبرت فابعث إليّ غلاما اعلّمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلّمه، فكان في طريقه راهب، فقعد إليه و سمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب و قعد إليه، فاذا أتى الساحر ضرب لمكثه، فكشا إلى الراهب، فقال له: إذا خشيت الساحر فقل له: حبسني أهلي.

ثمّ إنّ الغلام رأى يوما في طريقه حيّة فقال: اليوم أعلم أنّ الساحر أفضل أم الراهب، فأخذ حجرا و قال: اللهمّ إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فقوّني على قتلها، فرماها فقتلها، و مضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل منّي، قد بلغ من أمرك ما أدري، و إنّك ستبتلى، فان ابتليت فلا تدلّ عليّ.

و كان الغلام يبرئ الأكمه و الأبرص، و يشفى المريض. فسمع ذلك جليس الملك، و كان أعمى، فأتاه بهدايا، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن شفيتني. قال الغلام: إنّي لا أشفي أحدا، إنّما يشفي اللّه، فان آمنت باللّه دعوت اللّه فشفاك، فآمن باللّه فشفاه اللّه.

فأتى الملك فجلس إليه، كما كان يجلس، فقال الملك: من ردّ بصرك؟ قال: ربّي. قال: أ و لك ربّ غيري؟ قال: ربّي و ربّك اللّه. فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك. أي بني، قد بلغت من سحرك أنّك تبرئ الأكمه و الأبرص، و تفعل و تفعل!

فقال: أنا لا اشفي أحدا، إنما يشفي اللّه، فاخذه و لم يزل يعذّبه حتى دلّ على الراهب، فجيء بالراهب. فقال له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار فوضعه في مفرق رأسه فشقّه به حتّى وقع شقّاه، ثمّ جيء بجليس الملك فقال له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقّاه، ثمّ جيء بالغلام فقال له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه. فقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا و كذا، فاصعدوا به الجبل، فاذا بلغتم ذروته فان رجع عن دينه و إلاّ فاطرحوه.

فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال الغلام: اللهمّ اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا،

ص: 461


1- . تفسير روح البيان 386:10.

فجاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللّه.

فدفعه إلى نفر آخر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور(1) ، فتوسّطوا به البحر، فان رجع عن دينه و إلاّ فاقذفوه في البحر، فذهبوا به، فقال الغلام: اللهمّ اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، و جاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللّه.

فقال للملك: إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به. قال: و ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد و تصلبني على جذع، ثمّ خذ سهما من كنانتي، ثمّ ضع السهم في كبد القوس، ثمّ قل: بسم اللّه ربّ الغلام، ففعل كما قال الغلام، ثمّ رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده على صدغه في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنّا بربّ الغلام.

فأتي الملك فقيل له: أ رأيت قد وقع ما كنت تحذر منه، و اللّه قد نزل بك حذرك؛ أي قد آمن الناس، فأمر بالاخدود في افواه السكك، فخددت و اضرم النار فيها، و قال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا حتى جاءت امرأة و معها صبيّ رضيع لها. قيل في بعض الروايات: كان لها ثلاثة أولاد أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي عن دينك و إلاّ ألقيتك و أولادك في النار فأبت، فأخذ ابنها الأكبر و ألقاه في النار، ثمّ قال لها: ارجعي عن دينك فأبت، فالقى ابنها الأوسط في النار، ثمّ قال لها:

ارجعي عن دينك فأبت، فأخذوا الصبيّ ليلقوه فيها فهمّت بالرجوع، فقال الصبي: يا امّاه، لا ترجعي عن الاسلام، فانّك على الحقّ و لا بأس عليك»(2).

و قيل: إنّه قال: فانّ بين يديك نارا لا تطفأ، فألقى الصبيّ في النار، و امّه على أثره.

قيل: كان ذلك الملك ذو نؤاس الحميري، و كانت القصّة قبل مولد النبي بتسعين سنة(3).

قال بعض العامة: روي أن ضربة احتفرت في زمن خلافة عمر بن الخطاب، فوجد الغلام الذي قتله الملك و إصبعه على صدغه(4).

و في بعض التفاسير: فوجدوا عبد اللّه بن الثامر - و لعلّه اسم ذلك الغلام - واضعا يده على صدغه، إذ اميطت يده عنها سال دمه، و إذا تركت على حالها انقطع، و في يده خاتم من حديد فيه: ربّي اللّه، فكتبوا إلى عمر، فكتب بأن يواروه يعيدوا التراب عليه، و كتب إليهم، إن ذلك الغلام صاحب الاخدود فاتركوه على حاله حتى يبعثه اللّه يوم القيامة على حاله(5).

و روي في (المجمع) جميع ما ذكر بأدنى تفاوت(3).

ص: 462


1- . أي السفينة الطويلة العظيمة.
2- . تفسير روح البيان 387:10. (3-4-5) . تفسير روح البيان 388:10.
3- . مجمع البيان 705:10، تفسير الصافي 310:5.

و عن القمي قال: كان سببهم أن الذي هيّج الحبشة على غزوة اليمن ذو نؤاس، و هو آخر من ملك حمير، تهوّد و اجتمعت معه حمير على اليهوديّة، و سمّى نفسه يوسف، و أقام على ذلك حينا من الدهر، ثمّ اخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية و المسيحية و على حكم الإنجيل، و رأس ذلك الدين عبد اللّه بن رياس(1) ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم و يحملهم على اليهودية، يدخلهم فيها، فسار حتّى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثمّ عرض عليهم دين اليهودية و الدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم و عرض عليهم و حرص الحرص(2) كلّه، فأبوا عليه، و امتنعوا من اليهودية و الدخول فيها، و اختاروا القتل، فاتّخذ لهم اخدودا، و جمع فيه(3) الحطب، و أشعل فيه النار، فمنهم من احرق بالنار، و منهم من قتل بالسيف، و مثّل بهم كلّ مثلة، فبلغ عدد قتل و أحرق بالنار عشرين ألفا، و أفلت رجل منهم يدعى دوس ذو ثعلبان على فرس له و ركضه(4) ، و اتبعوه حتى أعجزهم في الرمل، و رجع ذو نؤاس إلى ضيعة(5) في جنوده(6).

و روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: «هم أهل الكتاب، و كانوا متمسّكين بكتابهم، و كانت الخمر قد احلّت لهم، فتناولها بعض ملوكهم، فسكر فوقع على اخته، فلمّا صحا ندم و طلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: إنّ اللّه تعالى قد أحلّ نكاح الأخوات، ثمّ تخطّبهم بعد ذلك فتقول: إنّ اللّه حرّمه، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له: ابسط فيهم السوط، فلم يقبلوا، فقالت: ابسط فيهم السيف، فلم يقبلوا، فأمرته بالأخاديد و إيقاد النيران، و طرح من أبى فيها، فهم الذين أراد اللّه بقوله: قُتِلَ أَصْحٰابُ الْأُخْدُودِ» (7).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ارسل عليّ عليه السّلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الاخدود، فأخبره بشيء. فقال: ليس كما ذكرت، و لكن ساخبرك عنهم، إنّ اللّه بعث رجلا حبشيا نبيا، و هم حبشة فكذّبوه، فقاتلهم فقتلوا أصحابه، و أسروه و أسروا أصحابه، ثمّ بنوا له حيرا(8) ، ثمّ ملئوه نارا، ثمّ جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا و أمرنا فليعتزل، و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار معه، فجعل أصحابه يتهافتون في النار، فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر، فلمّا قربت هابت و رقّت على ابنها، فناداها الصبيّ، لا تهابي و ارميني و نفسك في النار، فانّ هذا و اللّه في اللّه قليل. فرمت بنفسها

ص: 463


1- . في المصدر: عبد اللّه بن بريا، و في تفسير الصافي: عبد اللّه بن برياس، و في تاريخ الطبري 122:2، و الكامل في التاريخ 429:1، عبد اللّه بن الثامر.
2- . في النسخة: بينهم و حرض الحرض.
3- . في النسخة: فيها من.
4- . ركض الفرس برجله: استحثّه للعدو.
5- . في المصدر: ضيعته.
6- . تفسير القمي 423:2، تفسير الصافي 309:5.
7- . تفسير الرازي 117:31.
8- . الحير: شبه الحظيرة أو الحمى.

في النار و صبيها، و كان ممّن تكلّم في المهد»(1).

أقول: قد ظهر أنّ الروايات في القصة مختلفة، و جمعها و إن كان ممكنا إلاّ أنه لا يهمّنا، لعدم حجّيتها في المقام، و إنّما المعلوم من جميعها أنّ ملكا من الكفّار، أو قوما منهم، حفروا اخدودا و أحرقوا جمعا من المؤمنين بالنار لإيمانهم، و لا يبعد أنّ القصة كانت مشهورة في العرب، ذكرها سبحانه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين المبتلين بإيذاء المشركين.

اَلنّٰارِ ذٰاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهٰا قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلىٰ مٰا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ مٰا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّٰ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) ثمّ فسّر سبحانه الاخدود بقوله:

اَلنّٰارِ ذٰاتِ الْوَقُودِ و التقدير: أعني بالاخدود النار التي اوقدت بالحطب في الاخدود، فارتفع لهبها و أحرق اولئك القوم

إِذْ هُمْ بعد إيقاد النار و إلقاء المؤمنين فيها كانوا عَلَيْهٰا قُعُودٌ على سرر و كراسي على ما قيل(2) ، ينظرون إلى احتراق المؤمنين فيها

وَ هُمْ عَلىٰ مٰا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ من الإحراق و التعذيب شُهُودٌ عند الملك، يشهدون أنّ أحدا من المأمورين لم يقصّر فيما أمرته لرحم و إشفاق.

و قيل: إنّهم شهود على عملهم الشنيع يوم القيامة، حيث إنّه تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون(3).

وَ مٰا نَقَمُوا اولئك الجبارون من المؤمنين، و ما أنكروا مِنْهُمْ عملا إِلاّٰ أَنْ يُؤْمِنُوا اولئك المؤمنون بِاللّٰهِ الذي يجب بحكم العقل الايمان به، لأنّه تعالى هو اَلْعَزِيزِ و القاهر على كلّ شيء، و هو اَلْحَمِيدِ و المستحقّ للحمد، لكونه منعما على جميع الموجودات، فعلى العاقل أن يخاف من سطوته و قهّاريته إن لم يؤمن به، و يرجو نعمه و إحسانه إن آمن به، و هو

اَلَّذِي لَهُ وحده مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و السلطنة المطلقة في عوالم الملك و الملكوت، يعذّب من يشاء و يرحم من يشاء وَ هو اَللّٰهُ و الإله المستجمع لجميع الكمالات و الخالق لكلّ شيء، و هو عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من أفعال الكفّار و المؤمنين و غيرها من الموجودات الحقيرة و الجليلة الظاهرة و الخفية حتى الخواطر و الضمائر شَهِيدٌ و مطّلع اطّلاع الحاضر المشاهد، فيعذّب الكفّار و العصاة

ص: 464


1- . مجمع البيان 706:10، تفسير الصافي 309:5.
2- . تفسير روح البيان 706:10.
3- . تفسير روح البيان 389:10.

على ظلمهم و عصيانهم، و يثيب المؤمنين المطيعين على صبرهم و طاعتهم، و كيف ينكرون الإيمان على المؤمنين و يغضبون عليهم مع أنّهم مستحقّون لغاية التكريم و التجليل!

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذٰابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذٰابُ الْحَرِيقِ (10) ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الكفّار المؤذين للمؤمنين و المؤمنات بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ أو محّنوهم بتعذيبهم و إيذائهم. و عن ابن عباس: أحرقوهم بالنار (1)ثُمَّ بعد ذلك لم يؤمنوا و لَمْ يَتُوبُوا من كفرهم و عصيانهم إلى اللّه فَلَهُمْ في الآخرة عَذٰابُ جَهَنَّمَ جزاء على كفرهم و عصيانهم وَ لَهُمْ مضافا إلى ذلك عَذٰابُ الْحَرِيقِ و الشديد على إيذائهم للمؤمنين، أو زائدا على تعذيب غيرهم.

و قيل: إنّ المراد من عذاب الحريق تعذيبهم في الدنيا بالنار(2).

روي أنّ الجبّارون لمّا ألقوا المؤمنين في النار و قعدوا حولها ارتفعت النار فوقهم أربعين ذراعا، فوقعت عليهم و أحرقتهم، و نجا المؤمنون سالمين(3).

و قيل: إنّ اللّه قبض أرواح المؤمنين قبل أن تمسّهم النار(4).

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ (16) ثمّ أردف سبحانه تهديد الكفّار بوعد المؤمنين عموما بالثواب العظيم بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ سواء كانوا من المفتونين أو غيرهم لَهُمْ جزاء على إيمانهم و أعمالهم جَنّٰاتٌ ذات أشجار كثيرة و قصور عالية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة و ذٰلِكَ الثواب العظيم هو اَلْفَوْزُ الْكَبِيرُ و النّيل بأعلى المقاصد الذي تصغر عندها الدنيا و ما فيها.

ثمّ أكّد سبحانه وعيده الكفّار بقوله مخاطبا للنبي صلّى اللّه عليه و آله:

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ يا محمد، و أخذه بالقوّة لَشَدِيدٌ لا يطيقه(3) أحد، و إنّما أمهلهم للحكمة البالغة لا للإهمال

إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ الخلق في الدنيا

ص: 465


1- . تفسير الرازي 121:31.
2- . مجمع البيان 710:10، تفسير روح البيان 389:10. (3و4) . تفسير روح البيان 389:10.
3- . في النسخة: لا يطيق له.

وَ يُعِيدُ هم، و يخلقهم ثانيا في الآخرة، ليجازيهم على أعمالهم. و عن ابن عباس: أنّ أهل جهنّم تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثمّ يعيدهم خلقا جديدا، و ذلك هو المراد من قوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (1).

ثمّ أكّد سبحانه وعده للمؤمنين بقوله:

وَ هُوَ الْغَفُورُ للذنوب اَلْوَدُودُ بالمؤمنين، و المحبّ لهم، و هو

ذُو الْعَرْشِ و صاحب سرير الملك و السلطنة، أو خالقه اَلْمَجِيدُ و العظيم في ذاته، و الشريف في أفعاله، و هو

فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ لا يزاحمه شيء في إنفاذ إرادته، و لا يمنعه مانع من إتمام مراده، يفعل ما يشاء كيف يشاء، و ذكر صيغة المبالغة لكثرة أفعاله من الإحياء و الإماتة و الإغناء و الافقار و الإعزاز و الإذلال و غيرها.

هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَ اللّٰهُ مِنْ وَرٰائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) ثمّ استشهد سبحانه على شدّة بطشه بقصة أخذه الامم المكذّبة للرسل بقوله:

هَلْ أَتٰاكَ يا محمد، و هل سمعت منّا حَدِيثُ الْجُنُودِ الكافرة و خبر الجماعات المكذّبة للرسل؟ أعني

فِرْعَوْنَ وَ قومه ثَمُودَ قوم صالح، كيف فعلوا، و كيف فعلنا بهم و أهلكناهم بعذاب شديد؟ فذكّر قومك بما نزل عليهم من العذاب لعلّهم يتذكّرون، و أنّى لهم الذكرى

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك و أصرّوا على العناد و الطّغيان ليسوا مثل الامم السابقة، بل هم أشدّ كفرا و عنادا، لأنّهم مستقرون فِي تَكْذِيبٍ عظيم لرسالتك و كتابك بحيث لا ينصرفون عنه مع دلالة الأدلّة الباهرة على صحّتهما.

ثمّ بالغ سبحانه في تسليته نبيه صلّى اللّه عليه و آله على تكذيب قومه بقوله:

وَ اللّٰهُ القادر القاهر مِنْ وَرٰائِهِمْ مُحِيطٌ بهم لا يقدرون على الفرار من أخذه و عذابه، فلا تتألّم من تكذيبهم إيّاك، فإنّي انتقم منهم أشدّ الانتقام، و ليس تكذيبهم لكتابك موهنا له، و لا نسبته إلى الشعر و السحر و الكهانة مسقطا له عن الأنظار

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ و كتاب شريف عالي القدر في الكتب السماوية الإلهية، مثبوت و مضبوط

فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ عند اللّه مصون من مساس الشياطين و تحريف المبطلين.

عن ابن عباس: أنّ اللّه خلق لوحا محفوظا من درّة بيضاء، دفّتاه ياقوتة حمراء، طوله ما بين السماء و الأرض، و عرضه ما بين المشرق و المغرب، ينظر اللّه فيه كلّ يوم ثلاثمائة و ستين مرة، يحيي و يميت، و يعزّ و يذلّ، و يفعل ما يشاء، و في صدر اللّوح: لا إله إلاّ اللّه وحده، و دينه الاسلام، و محمد

ص: 466


1- . تفسير الرازي 122:31.

عبده و رسوله، فمن آمن به و صدّق وعده و اتّبع رسله أدخله الجنة(1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس و عنده جبرئيل، إذ حانت من جبرئيل نظرة قبل السماء إلى أن قال: قال جبرئيل: إنّ هذا إسرافيل حاجب الربّ، و أقرب خلق اللّه منه، و اللّوح بين عينيه من ياقوتة حمراء، فاذا تكلّم الربّ تبارك و تعالى بالوحي ضرب اللّوح جبينه فنظر فيه، ثمّ ألقاه إلينا نسعى به في السماوات و الأرض»(2).

و عن القمي رحمه اللّه، قال: اللّوح [المحفوظ] له طرفان، طرف على يمين العرش، و طرف على جبهة إسرافيل، فاذا تكلّم الربّ جلّ جلاله بالوحي ضرب اللّوح جبين إسرافيل، فنظر في اللّوح، فيوحي بما في اللّوح إلى جبرئيل(3).

أقول: هذه الأخبار ممّا لا تدركه(4) عقولنا، و إنّما تذكر لاحتمال أن ينظر إليها من نور اللّه قلبه للايمان، فيفهم منها معاني غير ظاهرها.

عن الصادق: «من قرأ سورة وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْبُرُوجِ في فريضة، فانّها سورة النبيين، كان محشره و موقفه مع النبيّين و المرسلين و الصالحين»(5).

ص: 467


1- . تفسير روح البيان 395:10.
2- . تفسير القمي 27:2، عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 312:5.
3- . تفسير القمي 414:2، تفسير الصافي 312:5.
4- . في النسخة: يدرك.
5- . ثواب الأعمال: 122، مجمع البيان 703:10، تفسير الصافي 312:5.

ص: 468

في تفسير سورة الطارق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ السَّمٰاءِ وَ الطّٰارِقِ (1) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الطّٰارِقُ (2) اَلنَّجْمُ الثّٰاقِبُ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة البروج المبدوّة بالحلف بالسماء ذات البروج، المتضمّنة لبيان كونه تعالى مبدأ الخلق و معيدهم للجزاء، و كونه محيطا بالكفّار، و بيان عظمة القرآن، و تكذيب الكفّار إياه، نظمت سورة الطارق المبدوّة بالحلف بالسماء و النجم الثاقب، المتضمّنة لبيان كونه تعالى حافظا لجميع النفوس، و بيان بدء خلقه الانسان و إرجاعه بعد الموت إلى الحياة لجزاء الأعمال، و بيان كون القرآن فاصلا بين الحقّ و الباطل، و أنّ الكفّار يكيدون في إبطاله، و تهديدهم بالعذاب، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالحلف بما فيه ظهور كمال قدرته بقوله:

وَ السَّمٰاءِ التي فيها من العجائب و الآيات ما فيه دلالة ظاهرة على كمال قدرته و حكمته، وَ الشيء اَلطّٰارِقِ و الظاهر بالليل

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك مَا الطّٰارِقُ و أيّ شيء هو.

ثمّ كأنّه قيل: ما هو؟ فقال سبحانه:

اَلنَّجْمُ الثّٰاقِبُ و الكواكب المضيء الذي ينفذ نوره في الأفلاك، و هو زحل، حيث إنّه في السماء السابعة.

عن الصادق عليه السّلام: أنّه قال لرجل من أهل اليمن: «ما زحل عندكم في النجوم؟» قال اليماني: نجم نحس. فقال: «لا تقولوا هذا، فانّه نجم أمير المؤمنين، و هو نجم الأوصياء، و هو النجم الثاقب الذي قال اللّه في كتابه».

فقال اليماني: فما يعني بالثاقب؟ قال: «لأنّ مطلعه السماء السابعة، و إنّه يثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا، فمن ثمّ سمّاه اللّه النجم الثاقب»(1).

روى بعض العامة: أنّ أبا طالب أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فأتحفه بخبز و لبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحطّ

ص: 469


1- . الخصال: 68/489، تفسير الصافي 313:5.

نجم، فامتلأ ماء ثمّ نارا، ففزع أبو طالب، و قال: أي شيء هذا؟ فقال عليه السّلام: «هذا نجم رمي به، و هو آية من آيات اللّه» فعجب أبو طالب، فنزلت السورة(1).

إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّٰا عَلَيْهٰا حٰافِظٌ (2) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ مِمَّ خُلِقَ (3) خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ (4) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرٰائِبِ (7) إِنَّهُ عَلىٰ رَجْعِهِ لَقٰادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرٰائِرُ (9) فَمٰا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لاٰ نٰاصِرٍ (10) ثمّ ذكر اللّه سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنْ كُلُّ نَفْسٍ و ما من أحد لَمّٰا عَلَيْهٰا حٰافِظٌ و قيب عالم بأحواله و أفعاله و مصالحه و منافعه، و هو اللّه الخالق له.

و قيل: إنّه الملائكة الحافظون لأعماله الكاتبون لها دقيقها و جليها(2) ، أو المراد الحافظون لها بحفظ رزقها و أجلها، الصائنون لها من المهالك، فإذا استوفت أجلها و رزقها قبضها إلى ربّها و سلّمها إلى المقابر(3).

ثمّ لمّا بيّن إحاطته بالنفوس، بيّن قدرته على إعادة خلقه للمجازاة، و استدلّ عليها بقدرته على خلقه في الدنيا بقوله:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ و يتفكّر العاقل المنكر للبعث أنّه مِمَّ خُلِقَ و من أيّ شيء تكوّن في هذا العالم؟

ثمّ كأنّه قيل: ممّ خلق يا ربّ؟ فأجاب سبحانه:

خُلِقَ و تكوّن مِنْ مٰاءٍ لزج قذر دٰافِقٍ و منصبّ في الرّحم

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ و النّخاع الذي في ظهر الرجل وَ من بين اَلتَّرٰائِبِ و العظام التي في صدر المرأة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عباس: من بين الثديين(4).

قيل: إذا تولّد شيء من بين شيئين متباينين يقال إنّه خرج من بينهما(5). و الدّفق و إن كان صفته ماء الرجل، و لكن إذا اجتمع مع غيره يصحّ أن يوصف الكلّ بصفة الجزء، و يقال للمجموع دافق، فدلّت الآية على أنّ الولد يخلق من ماء الرجل و المرأة، كما دلّ عليه ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من قوله: «إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكرا، و يعود شبهه إليه و إلى أقاربه، و إذا غلب ماء المرأة فإليها و إلى أقاربها يعود الشبه»(6).

قيل: تتكوّن النّطفة من جميع أجزاء البدن، ثمّ تجتمع نطفة الرجل في فقار ظهره، و نطفة المرأة في

ص: 470


1- . تفسير الرازي 127:31. (2و3) . تفسير الرازي 128:31.
2- . تفسير روح البيان 398:10.
3- . تفسير الرازي 129:31.
4- . تفسير الرازي 129:31.

ترائبها(1).

فإذا ظهر أنّ القادر الحكيم خلق الانسان الذي هو أنموذج العالم الكبير من النّطفة، ظهر عنده كالشمس في رائعة النهار

إِنَّهُ عَلىٰ رَجْعِهِ و إعادة خلقه بعد موته و صيرورته ترابا لَقٰادِرٌ فيخلقه بقدرته

يَوْمَ تُبْلَى و تخبر اَلسَّرٰائِرُ و الضمائر من العقائد و النيات و غيرها من المخفيات لجميع الناس، فيتباهى المؤمن الخالص الحسن السريرة، و يفتضح المنافق المرائي السيئ السريرة.

عن (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: ما هذه السرائر التي ابتلى اللّه بها العباد في الآخرة؟ فقال:

«سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة، و كلّ مفروض، لأن الأعمال كلّها سرائر خفية، فان شاء الرجل قال: صلّيت و لم يصل، إن شاء قال: توضّأت و لم يتوضّأ، فذلك قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرٰائِرُ (2).

فَمٰا للانسان، و ليس لَهُ في ذلك اليوم مِنْ قُوَّةٍ في نفسه يدفع بها العذاب الذي حلّ به وَ لاٰ نٰاصِرٍ ينتصر به فيحفظه من العذاب بالقوة و الحيلة و الشّفاعة.

وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذٰاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ مٰا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكٰافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) ثمّ بيّن سبحانه عظمة القرآن بقوله:

وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الرَّجْعِ و صاحبة المطر، كما عن ابن عباس(3) ، إنّما سمّى المطر رجعا لظنّ العرب أنّ السّحاب يحمل الماء من الأرض، ثمّ يرجعه إليها، و يحتمل كون المراد بتوصيف السماء بالرجوع كونها ذات حركة دورية. و قيل: إنّه باعتبار أنّ شمسها و قمرها و نجومها تغيب و تطلع(4).

وَ الْأَرْضِ ذٰاتِ الصَّدْعِ و الانشقاق لنبعان العيون و خروج النباتات.

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه، و هو عظمة القرآن بقوله:

إِنَّهُ لَقَوْلٌ و كلام فَصْلٌ و قاطع للمراء و الجدال، و فاصل بين الحقّ و الباطل، و مميّز كلّ منهما عن الآخر، لظهور الاعجاز فيه و كونه كلام اللّه

وَ مٰا هُوَ بِالْهَزْلِ بل كلّه جدّ مطابق للواقع، فحقّه أن يهتدى به و يطرح ما خالفه.

ثمّ ذمّ كفّار مكّة بقوله:

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ و يحتالون في إبطاله و إطفاء نوره بإلقاء الشّبهات نسبته إلى الشعر و السحر و الكهانة و الاختلاق كَيْداً بليغا

وَ أَكِيدُ أنا أيضا، و ادبّر في ترويجه و إبطال

ص: 471


1- . تفسير روح البيان 399:10.
2- . مجمع البيان 715:10، تفسير الصافي 314:5.
3- . مجمع البيان 715:10، تفسير الصافي 314:5.
4- . تفسير روح البيان 400:10.

مساعيهم (1)كَيْداً و تدبيرا متينا لا يمكنهم ردّه، و هو نصرة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و إعلاء دينه، و إذلال أعدائه

فَمَهِّلِ أنت يا محمد اَلْكٰافِرِينَ المعاندين للحقّ، و لا تستعجل في إهلاكهم و الانتقام منهم.

ثمّ كرّر سبحانه الأمر بإمهالهم مع اختلاف اللفظين لزيادة التسكين من الرسول بقوله: أَمْهِلْهُمْ إمهالا رُوَيْداً و قليلا و على رفق و تؤدة، أمهلهم حال كونك غير مستعجل في الانتقام إلى يوم القيامة، أو إلى موتهم، أو إلى أن يبلغ في الدنيا وقت الانتقام منهم.

عن الصادق عليه السّلام: «من كانت قرأته في الفرائض وَ السَّمٰاءِ وَ الطّٰارِقِ كان له عند اللّه يوم القيامة جاه و منزلة، و كان من رفقاء النبيّين و أصحابهم في الجنّة»(2).

ص: 472


1- . في النسخة: مساعهم.
2- . ثواب الاعمال: 122، مجمع البيان 712:10، تفسير الصافي 315:5.

في تفسير سورة الأعلى

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الطارق المتضمّنة لبيان مبدأ خلق الانسان و المنّة عليه بنعمة إيجاده و بيان عظمة القرآن و كونه فاصلا بين الحقّ و الباطل، المقتضي لتسبيحه و تعظيمه، نظمت سورة الأعلى المبتدئة بأمر النبيّ بتسبيحه و تنزيهه، و بيان خلق الانسان، و المنّة عليه بنعمه هذه تعالى، فافتتحها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتسبيحه بقوله:

سَبِّحِ يا محمد نزّه عن العيوب و النقائص اِسْمَ رَبِّكَ و ما يطلق على ذاته اَلْأَعْلَى و الأرفع من جميع الموجودات شأنا و مقاما و سلطانا، أو أعلى من أن يصفه الواصفون و يذكره الذاكرون.

و قيل: إنّ المراد بالاسم علمه تعالى، و المقصود تنزيه ذاته ببيان أبلغ و آكد، حيث إن من كان اسمه واجب التنزيه و التقديس، كان تنزيه ذاته أوجب و ألزم(1).

و قيل: إن تنزيه اسمه عدم تسمية غيره تعالى به(2) ، و مثل صونه عن الابتذال، و الذكر على وجه التعظيم و الخشوع(3).

و قيل: إنّ المراد من الاسم ذاته(2) ، و قيل: صفته(3) ، و المعنى: نزّه صفته المنبئة عن ذاته المقدسة عن النقائص الإمكانية.

و قيل: إنّ لفظ اسم زائد، و المراد: سبّح ربّك الأعلى(4).

عن الباقر عليه السّلام قال: «إذا قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فقل: سبحان ربّي الأعلى، و إن كنت في الصلاة فقل فيما بينك و بين نفسك»(5).

ص: 473


1- . مجمع البيان 719:10. (2و3) . تفسير الرازي 135:31.
2- . تفسير روح البيان 403:10.
3- . تفسير الرازي 135:31.
4- . تفسير الرازي 136:31.
5- . مجمع البيان 719:10، تفسير الصافي 316:5.

و عن ابن عباس: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا قرأ سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «سبحان ربّي الأعلى»(1).

و روى بعض العامة عن عقبة بن عامر: أنّه لمّا نزل قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال [رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]: اجعلوها في سجودكم(2).

و قالوا: روي أنّه عليه السّلام كان يقول في سجوده: «سبحان ربّي الأعلى»(3).

و قيل: إنّ المراد بالتسبيح الصلاة، و المعنى: صلّ باسم ربّك(2) ، و الظاهر هو الوجه الأول الذي ذكرنا.

اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثٰاءً أَحْوىٰ (3) ثمّ وصف سبحانه ذاته المقدّسة بصفات دالّة على كمال قدرته و حكمته المقتضي لاستحقاق التسبيح بقوله:

اَلَّذِي خَلَقَ الانسان أولا من تراب، ثمّ من نطفة فَسَوّٰى خلقه بأن عدل قامته، أو جعله بحيث يمكنه أن يأتى بجميع الأفعال التي لا يقدر عليها غيره من الموجودات، و منها العبادات.

و قيل: يعني خلق الميزان فسوّى خلقه بأن جعل له أعضاء أو حواسا يتوقّف تعيّشه عليها(5) ، أو خلق كلّ شيء فسوّى خلقه بأن أحكمه و أتقنه(4).

وَ الَّذِي قَدَّرَ كلّ إنسان، أو كلّ شيء بقدر مخصوص يناسبه من الجثّة و العظم و الصغر و اللّون و الشّكل و غيرها من الصفات و مدّة البقاء و السعادة و الشقاوة فَهَدىٰ الانسان بإعطائه العقل و إرسال الرسل إلى خيره و شرّه، أو الحيوان إلى ما به من التناسل و تدبير التعيّش، و جلب ما فيه صلاحه و دفع ما فيه ضرره، أو جميع الموجودات إلى ما به تكامله بجعل القوى المصلحة فيه

وَ الَّذِي أَخْرَجَ و أنبت من الأرض اَلْمَرْعىٰ و الكلأ الاخضر، كما عن ابن عباس (5)

فَجَعَلَهُ بعد طراوته و خضرته غُثٰاءً أَحْوىٰ و يابسا أسود بسبب برودة الهواء و لصوق المكدّرات كالغبار أو ما يحمله السيل من الأجزاء الكدرة.

سَنُقْرِئُكَ فَلاٰ تَنْسىٰ (6) إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اللّٰهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ مٰا يَخْفىٰ (7) وَ نُيَسِّرُكَ

ص: 474


1- . مجمع البيان 719:10، تفسير الصافي 316:5. (2و3) . تفسير الرازي 137:31.
2- . تفسير الرازي 135:31.
3- . تفسير الصافي 316:5، تفسير البيضاوي 589:2، تفسير روح البيان 404:10.
4- . تفسير أبي السعود 143:9، جوامع الجامع: 538.
5- . تفسير الرازي 140:31.

لِلْيُسْرىٰ (8) ثمّ حثّ سبحانه خصوص النبي صلّى اللّه عليه و آله بذكر أكمل نعمه بقوله:

سَنُقْرِئُكَ يا محمد، و نتلو عليك القرآن الذي فيه علوم الأولين و الآخرين، و ما يكون و ما هو كائن، و جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة فَلاٰ تَنْسىٰ شيئا منه أبدا، بل هو باق في حفظك، فلا تخف من نسيانه

إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اللّٰهُ أن تنساه، و لا يشاء ذلك أبدا، و إنّما الفرض من الاستثناء إظهار أنّ بقاءه في حفظه لا يكون إلاّ بمشيئته و فضله عليه لا بقدرة نفسه.

عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه الوحي يقرؤه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرئيل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوله، فلمّا نزلت هذه الآية لم يئس بعد ذلك شيئا(1).

ثمّ أخبر سبحانه بأنّه مخيّر بين الجبر في القراءة و إخفاته بقوله: إِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ الْجَهْرَ إن جهرت بالقراءة وَ يعلم مٰا يَخْفىٰ من قراءتك.

و قيل: إنّ المعنى أنّه عالم بجهرك في القراءة مع جبرائيل، و عالم بالسرّ الذي في قلبك(2).

وَ نُيَسِّرُكَ و نوفّقك لِلْيُسْرىٰ و الطريقة الأسهل في حفظ القرآن، أو للشريعة التي هي أسهل الشرائع. و عن ابن مسعود: اليسرى الجنّة، و المعنى نيسّرك للعمل المؤدّي إليها(3).

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشىٰ (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) اَلَّذِي يَصْلَى النّٰارَ الْكُبْرىٰ (12) ثُمَّ لاٰ يَمُوتُ فِيهٰا وَ لاٰ يَحْيىٰ (13) ثمّ لمّا بيّن سبحانه لطفه بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بنزول القرآن، أمره بدعوة الخلق إليه بقوله:

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرىٰ و العظة فيهم، و النّكتة في ذكر هذا الشرط مع وجوب العظة عليه نفعت أو لا تنفع، حثّ الناس على الاتّعاظ، و إن كان فيه فائدة إتمام الحجّة.

و قيل: إنّ فائدته تنبيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّ الذكر لا ينفعهم، كأنّه قال: ذكّرهم إن نفعت الذكرى، و لا أرى أن تنفعهم(4).

ثمّ بيّن سبحانه المنتفعين بالعظة بقوله:

سَيَذَّكَّرُ و ينتفع البتة بذكرك و عظتك مَنْ يَخْشىٰ اللّه و الرجوع إليه بعد الموت، و هو الذي لا يقطع بعدم البعث، و لمّا كان القاطع غير معين يجب تعميم العظة.

ص: 475


1- . مجمع البيان 720:10، تفسير الصافي 317:5.
2- . تفسير الرازي 142:31.
3- . تفسير الرازي 143:31.
4- . تفسير الرازي 144:31.

قيل: إنّ الآية نزلت في ابن امّ مكتوم. و قيل: في عثمان(1).

ثمّ بيّن غير المنتفع بقوله:

وَ يَتَجَنَّبُهَا و يحترز منها و لا يسمعها سماع القبول اَلْأَشْقَى و أقسى الناس قلبا و أعداهم للنبي صلّى اللّه عليه و آله، كأبي جهل و الوليد و أضرابهما

اَلَّذِي يَصْلَى و يدخل اَلنّٰارَ الْكُبْرىٰ و الطبقة الأسفل في جهنّم

ثُمَّ لاٰ يَمُوتُ فِيهٰا فيتخلّص من العذاب وَ لاٰ يَحْيىٰ حياة ينتفع بها.

قيل: إنّ نفس كلّ منهم [تصير] في حلقه، فلا تخرج فيموت، و لا ترجع إلى موضعها فيحيى(2).

قيل: إنّ ذكر كلمة ثُمَّ للدلالة على أنّ هذه الحالة أشدّ و أفظع من الصلي، فهو متراخ في مراتب الشدّة(3).

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى (14) وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ (17) إِنَّ هٰذٰا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولىٰ (18) صُحُفِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ (19) ثمّ لمّا ذكر سبحانه حال الأشقى، ذكر حسن حال المتّقي عن الكفر بقوله:

قَدْ أَفْلَحَ و فاز بأعلى المقاصد مَنْ تَزَكّٰى و تطهّر من دنس الكفر عن ابن عباس: معنى تَزَكّٰى أن يقول: لا إله إلاّ اللّه(4)

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ و عرفه بقلبه. و عن ابن عباس: ذكر معاده، و وقوفه بين يدي ربّه (5)فَصَلّٰى قيل:

مراتب أعمال الانسان ثلاثة: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب و هي التزكية، و إنارة القلب بنور معرفة اللّه و هي ذكر الربّ، ثمّ الاشتغال بالعبادة و هو الصلاة(2).

و عن ابن عمر: إن المراد بالتزكّي إخراج صدقة الفطرة(3). و قيل: المراد بالتزكّي المضيّ إلى المصلّى، و بالذكر أن يكبّر في الطريق حين خروجه إلى المصلّى، و بالصلاة [أن يصلّي صلاة] العيد بعد ذلك مع الامام(4).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى قال: «من أخرج الفطرة» قيل له: وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰى؟ قال: خرج إلى الجبّانة فصلّى»(5).

و عنه عليه السّلام: قال لرجل: «ما معنى قوله: وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰى؟ قال: كلّما ذكر اسم ربّه قام فصلّى.

ص: 476


1- . تفسير الرازي 145:31. (2و3) . تفسير الرازي 146:31. (4و5) . تفسير الرازي 147:31.
2- . تفسير الرازي 147:31، تفسير روح البيان 409:10.
3- . تفسير روح البيان 410:10.
4- . تفسير روح البيان 410:10.
5- . من لا يحضره الفقيه 1378/323:1، تفسير الصافي 317:5.

قال: «لقد كلّف اللّه هذا شططا» قال: فكيف هو؟ فقال: «كلّما ذكر اسم ربّه صلّى على محمّد و آله»(1).

ثمّ كأنّه قيل: لا تفعلون أيّها الكفار ذلك

بَلْ تُؤْثِرُونَ و تختارون اَلْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا و لذّاتها

وَ الحال أنّ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ و أفضل من الدنيا؛ لأن نعمها و لذّاتها أعلى و أخلص من شائبة الآلام و الغوائل وَ أَبْقىٰ و أدوم، بل لا انقطاع لها و لا انصرام

إِنَّ هٰذٰا المذكور من الفلاح بالتزكية، و أن الآخرة خير و أبقى لَفِي الصُّحُفِ الْأُولىٰ و الكتب السابقة المنزلة من السماء، أعني

صُحُفِ إِبْرٰاهِيمَ الخليل وَ صحف مُوسىٰ بن عمران الكليم.

روي أنّ جميع ما أنزل اللّه من كتاب مائة و أربعة كتب، أنزل على آدم عشر صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشر صحائف، و التوراة و الانجيل و الزبور و الفرقان، فصحف موسى هي الألواح التي كتبت فيها التوراة(2). و قيل صحفه كانت قبل التوراة، و هي عشر(3).

و عن (الخصال) عن أبي ذرّ رضوان اللّه عليه: أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كم أنزل اللّه من كتاب؟ قال:

«مائة كتاب و أربعة كتب، أنزل اللّه على شيث خمسين صحيفة، و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشرين صحيفة، و أنزل التوراة و الإنجيل و الزّبور و الفرقان».

قلت: يا رسول اللّه، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالا كلّها، و كان فيها: أيّها الملك المبتلى، إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، و لكنّي بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم، فانّي لا اردّها و إن كانت من كافر، و على العاقل ما لم يكن مغلوبا أن يكون له أربعة ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه و ساعة يحاسب فيها نفسه، و ساعة فيها يتفكّر فيما صنع اللّه عزّ و جلّ إليه، و ساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال، فانّ هذه الساعة عون لتلك الساعات».

إلى أن قال: «و على العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، فانّ من حسب كلامه من علمه قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه، و على العاقل أن يكون طالبا لثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو تلذّذ في غير محرّم».

قال: قلت: يا رسول اللّه، فما كانت صحف موسى؟ قال: «كانت عبرا كلّها، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، و لمن أيقن بالنار كيف يضحك، و لمن يرى الدنيا و تقلّبها كيف يطمئنّ إليها، و لمن يؤمن بالقدر كيف ينصب، و لمن يؤمن بالحساب ثمّ لا يعمل» هكذا النسخة.

ص: 477


1- . الكافي 18/359:2، و تفسير الصافي 318:5، عن الامام الرضا عليه السّلام. (2و3) . تفسير روح البيان 411:10.

قال: قلت: فهل في أيدينا ممّا أنزل اللّه عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم و موسى؟ قال: «يا أبا ذر، اقرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى إلى آخر السورة(1).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما أعطى الأنبياء شيئا إلاّ و قد أعطاه محمدا صلّى اللّه عليه و آله». قال: «و قد أعطى محمدا صلّى اللّه عليه و آله جميع ما أعطى الأنبياء، و عندنا الصّحف التي قال اللّه عزّ و جلّ: صُحُفِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ. قيل: هي الألواح؟ قال: «نعم»(2).

عن الصادق: «من قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى في فريضة و نافلة قيل له يوم القيامة: ادخل الجنة من أيّ أبواب الجنّة شئت إن شاء اللّه»(3).

و عنه: «الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» (4).

ص: 478


1- . الخصال: 13/524، تفسير الصافي 318:5.
2- . الكافي 5/176:1، تفسير الصافي 319:5.
3- . ثواب الأعمال: 122، مجمع البيان 717:10، تفسير الصافي 319:5.
4- . ثواب الأعمال: 118، مجمع البيان 427:10، تفسير الصافي 319:5.

في تفسير سورة الغاشية

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ الْغٰاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خٰاشِعَةٌ (2) عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ (3) تَصْلىٰ نٰاراً حٰامِيَةً (4) تُسْقىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعٰامٌ إِلاّٰ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لاٰ يُسْمِنُ وَ لاٰ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) ثمّ لمّا ختمت سورة الأعلى المختتمة بذمّ الكفّار بإيثار الدنيا على الآخرة مع كون الآخرة خير و أبقى من الدنيا، نظمت سورة الغاشية المتضمّنة لبيان أحوال الآخرة، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر أهوال القيامة بقوله:

هَلْ أَتٰاكَ يا محمد حَدِيثُ الْغٰاشِيَةِ و خبر القيامة التي تكون داهية تغشي الناس بشدائدها و تغطّيهم و تحيط بهم أهوالها، فانّه من عجائب الأخبار و بدائع الآثار التي حقّها أن يبادر إلى سماعها العقلاء، و يشتاق إلى تلقّيها الأزكياء(1) و في رواية: «الذين يخشون الإمام»(2).

ثمّ كأنه قيل: ما خبرها و كيف هي؟ فأجاب سبحانه بقوله:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت أصحابها خٰاشِعَةٌ ذليلة قد عراهم الخزي و الهوان؛ لأنّهم تكبّروا عن طاعة اللّه و رسوله

عٰامِلَةٌ و متحمّلة للمشاقّ، كالعبور على الصراط، و جرّ السلاسل و الأغلال نٰاصِبَةٌ و تعبة لطول الوقوف عراة حفاة جياعا عطاشا، أو لثقل السلاسل التي ذرعها سبعون ذراعا.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كلّ ناصب - و إن تعبّد و اجتهد - منسوب إلى هذه الآية عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا يبالى الناصب صلّى أم زنا، و هذه الآية نزلت فيهم: عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ» (4).

أقول: هذه الروايات تأويل لا تنزيل.

ص: 479


1- . في النسخة: سماعة العقلاء، و يشتاق إلى تلقية الأزكياء.
2- . الكافي 201/179:8، تفسير الصافي 321:5.
3- . الكافي 259/213:8، تفسير الصافي 321:5.
4- . الكافي 162/160:8، تفسير الصافي 321:5.

ثمّ بعد ذلك

تَصْلىٰ و تدخل نٰاراً حٰامِيَةً و بالغة أعلى درجة الشدّة في الحرارة

تُسْقىٰ تلك الوجوه و أصحابها بعد استغاثتهم في مدّة طويلة من شدّة العطش مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ و متناهية في الحرارة.

قيل: لو وقعت قطرة منها على جبال الدنيا لذابت، و إذا ادنيت من وجوههم تناثرت لحومها، و إذا شربوا قطعت أمعاءهم(1).

لَيْسَ لَهُمْ طَعٰامٌ إِلاّٰ مِنْ ضَرِيعٍ و شوك يابس فيه سمّ قاتل، كما قيل(2).

و عن ابن عباس: الضريع شيء في النار يشبه الشوك، أمر من الصبر، و أنتن من الجيفة، و أشدّ حرّا من النار(3).

أقول: الظاهر أن المراد نار الدنيا.

قيل: هذا طعام بعض أهل النار، و الزقّوم و الغسلين طعام آخرين(2).

عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآيات هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ الْغٰاشِيَةِ قال: «يغشاهم القائم عليه السّلام بالسيف خٰاشِعَةٌ لا تطيق الامتناع عٰامِلَةٌ قال: عملت بغير ما أنزل اللّه نٰاصِبَةٌ قال نصبت غير ولاة أمر اللّه تَصْلىٰ نٰاراً الحرب في الدنيا على عهد القائم، و في الآخرة نار جهنم»(3).

ثمّ روي أنّ كفار قريش قالوا استهزاء: إنّ الضريع ليسمن إبلنا(4) ، فنزلت

لاٰ يُسْمِنُ الضريع آكله، لأنّه يصير جزء بدنه وَ لاٰ يُغْنِي و لا يكفي مِنْ جُوعٍ لأنّه ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، إذ ليس فيه منافع الغذاء، بل أكله عذاب فوق العذاب.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهٰا رٰاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عٰالِيَةٍ (10) لاٰ تَسْمَعُ فِيهٰا لاٰغِيَةً (11) فِيهٰا عَيْنٌ جٰارِيَةٌ (12) فِيهٰا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوٰابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَ نَمٰارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرٰابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء حال الكفّار في الآخرة، بيّن حسن حال المؤمنين فيها بقوله:

وُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ و مبتهجة و حسنة مضيئة، أو متنعّمة بالنّعم الجسمانية و الروحانية

لِسَعْيِهٰا و عملها في الدنيا رٰاضِيَةٌ لرضائها بثمراتها و ثوابها متمكّنة

فِي جَنَّةٍ عٰالِيَةٍ و مرتفعة فوق السماوات، أو عالية المقدار لكمال شرفها و ما فيها من النّعم

لاٰ تَسْمَعُ تلك الوجوه فِيهٰا كلمة

ص: 480


1- . تفسير روح البيان 413:10. (2و3) . تفسير روح البيان 413:10.
2- . تفسير الرازي 153:31.
3- . الكافي 13/50:8، تفسير الصافي 321:5.
4- . تفسير الرازي 153:31.

لاٰغِيَةً لا فائدة فيها و لا اعتداد بها، إذ هي ما تؤذي السمع

فِيهٰا عَيْنٌ كثيرة مياهها جٰارِيَةٌ دائما. قيل: هي أشدّ بياضا من اللبن، و أحلى من العسل، من شرب منها لا يظمأ بعدها أبدا (1)

فِيهٰا سُرُرٌ ألواحها - كما عن ابن عباس - من ذهب مكلّلة بالدرّ و الياقوت و الزّبرجد (2)مَرْفُوعَةٌ السّمك عالية في الهواء، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: ارتفاعها كما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام(3).

قيل: إذا جاء وليّ اللّه ليجلس عليها تطامنت له، فاذا استوى عليها ارتفعت(4) ، فيرى جميع ما أعطاه ربّه في الجنّة من النّعم الكثيرة و الملك العظيم.

وَ فيها أَكْوٰابٌ و أواني لا عرى لها مَوْضُوعَةٌ بين أيدي المؤمنين يشربون منها، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها، و لا ينافي أن يكون بعض أواني الشّرب بيد الغلمان

وَ فيها نَمٰارِقُ و وسائد مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض، كما تشاهد في بيوت الأكابر، يستندون إليها للاستراحة

وَ فيها زَرٰابِيُّ و بسط فاخرة مَبْثُوثَةٌ و مبسوطة على السّرر زينة و تمتّعا أو مفرّقة في المجالس.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام «[لو لا] أنّ اللّه قدّرها لا لتمعت(3) أبصارهم بما يرون»(4).

أَ فَلاٰ يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّمٰاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبٰالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) ثمّ لمّا كان حسن حال المؤمنين موقوفا على معرفة اللّه و الايمان بالمعاد، أمر الناس بالتفكّر في صنائعه العجيبة، ليستدلّوا بها على كمال قدرته و حكمته المستلزمين لتوحيده و إعادة الخلق للجزاء على الأعمال بقوله:

أَ فَلاٰ يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ و لا يتفكّرون أنّها كَيْفَ خُلِقَتْ قيل: إنّ التقدير:

أ ينكرون ما ذكر من البعث و يستبعدون وقوعه عن قدرة اللّه؟! أ فلا ينظرون نظر الاعتبار إلى الإبل التي نصب أعينهم، يستعملونها كلّ حين، أنّها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق سائر الحيوانات في عظم جثّتها، و شدّة قوّتها، و عجيب هيئتها اللائقة بتأتّي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقّة، كالنهوض من الأرض بالأوقار الثقيلة، و جرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، و في صبرها على الجوع و العطش، حتى أن ظمأها يبلغ العشر فصاعدا، و اكتفائها باليسير، و رعيها لكلّ ما يتيسر من شوك و شجر، و غير ذلك ممّا لا يكاد يرعاه سائر البهائم، و في انقيادها مع ذلك للانسان في الحركة

ص: 481


1- . تفسير روح البيان 415:10.
2- . تفسير الرازي 155:31. (3و4) . تفسير روح البيان 415:10.
3- . في النسخة: لتمتعت.
4- . مجمع البيان 727:10، تفسير الصافي 322:5.

و السكون و البروك و النهوض، حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء و يقتادها بقطارها كلّ صغير و كبير، كما قال أبو السعود(1).

و تبول من خلفها، لأنّ قائدها أمامها، فلا يترشّش عليه بولها، و عنقها سلّم إليها، و تتأثر من المودّة و الغرام و تسكر منهما إلى حيث تنقطع من الأكل و الشرب زمانا ممتدّا، و تتأثّر من الأصوات الحسنة و الحداء، و تصير من كمال التأثّر إلى حيث تهلك نفسها من سرعة الجري، و يجري الدمع من عينها عشقا و غراما، هذا مع ما لها من المنافع من جهة و برها و لحمها و لبنها و بولها و روثها، و الجمال الذي يكون فيها، و لمّا كان العرب أعرف من سائر الناس بها، أمرهم بالتفكّر فيها، و الاستدلال بعجيب خلقتها على صانعها و حكمته الموجبة للبعث.

قيل: لمّا كانت مسافرة الأعراب على الإبل منفردين(2) و كان مجال التفكّر في الخلوة التي لا شاغل فيها، و هي لهم على ظهر الإبل، و هم حينئذ لا يرون إلاّ الإبل و السماء و الأرض و الجبال، أمرهم أولا بالتفكّر في خلق الإبل(3) ، ثمّ في السماء بقوله:

وَ إِلَى السَّمٰاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ مع عظمها رفعا بعيدا بلا عمد

وَ إِلَى الْجِبٰالِ العظام كَيْفَ نُصِبَتْ على الأرض نصبا ثابتا لا تسيل و لا تزول أوتادا لها

وَ إِلَى الْأَرْضِ البسيطة كَيْفَ سُطِحَتْ و بسطت كالأديم للضرب فيها و التقلّب عليها، فمن تفكّر في هذه الأشياء علم بكمال قدرة خالقها و حكمته و توحيده، و تيقّن بوقوع ما وعده من البعث الذي هو موافق للحكمة البالغة.

فَذَكِّرْ إِنَّمٰا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاّٰ مَنْ تَوَلّٰى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللّٰهُ الْعَذٰابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنٰا إِيٰابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا حِسٰابَهُمْ (26) فلمّا شرحنا الدلائل القاطعة على التوحيد و البعث

فَذَكِّرْ يا محمد قومك، و أمرهم بالنظر و التفكّر و الايمان، و حذّرهم عن تركها، و ليس عليك أن يتذكّروا أو لا يتفكّروا إِنَّمٰا أَنْتَ مُذَكِّرٌ و مبعوث إلى الناس للتبليغ و التذكير

لَسْتَ عَلَيْهِمْ من قبل ربّك بِمُصَيْطِرٍ و مسلّط حتى تقتلهم أو تكرههم على النظر و الايمان

إِلاّٰ مَنْ تَوَلّٰى و أعرض عنك و عن تذكارك وَ كَفَرَ و أصرّ على عنادك.

قيل: إنّ التقدير فذكّر قومك إلاّ من تولّى و كفر منهم فانّه ليس عليك تذكيره لعدم الفائدة فيه(4).

ص: 482


1- . تفسير أبي السعود 150:9، تفسير روح البيان 416:10.
2- . في النسخة: منفردا.
3- . تفسير روح البيان 417:10.
4- . تفسير روح البيان 418:10.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع(1) ، و المعنى: و لكن من تولّى و كفر (2)

فَيُعَذِّبُهُ اللّٰهُ يوم القيامة اَلْعَذٰابَ الْأَكْبَرَ في نار جهنّم التي حرّها شديد، و قعرها بعيد، و مقامعها حديد، فانّه تعالى قاهر و مسيطر عليهم. و اعلم أنّهم لا يفوتوننا و لا يخرجون من ملكنا و من تحت قدرتنا

إِنَّ إِلَيْنٰا بعد الموت إِيٰابَهُمْ و رجوعهم من الدنيا لا إلى غيرنا.

ثُمَّ بعد رجوعهم إلينا إِنَّ عَلَيْنٰا حِسٰابَهُمْ في المحشر نحاسبهم على النّقير و القطمير من عقائدهم و أعمالهم، و فيه تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله.

عن الباقر عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة و جمع اللّه الأولين و الآخرين لفصل القضاء، دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دعا أمير المؤمنين عليه السّلام، فيكسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلّة خضراء تضيء ما بين المشرق و المغرب، و يكسى عليّ مثلها، و يكسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلّة وردية يضيء لها ما بين المشرق و المغرب، و يكسى عليّ عليه السّلام مثلها، ثمّ يصعدان عندها، ثمّ يدعى بنا فيدفع إلينا حساب الناس، فنحن و اللّه ندخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار»(3).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «إلينا إياب الخلق، و علينا حسابهم، فما كان لهم من ذنب بينهم و بين اللّه حتمنا على اللّه في تركه لنا فأجابنا إلى ذلك، و ما كان بينهم و بين الناس استوهبناه منهم و أجابوا إلى ذلك و عوّضهم اللّه عزّ و جلّ»(4).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا كان يوم القيامة وكّلنا اللّه بحساب شيعتنا، فما كان للّه سألنا اللّه أن يهبه لنا فهو لهم، و ما كان لنا فهو لهم»(5).

عن الصادق: «من أدمن قراءة هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ الْغٰاشِيَةِ في فريضة أو نافلة، غشّاه اللّه برحمته في الدنيا، آتاه الأمن من عذاب النار»(6).

ص: 483


1- . تفسير الرازي 159:31، تفسير روح البيان 418:10.
2- . تفسير روح البيان 418:10.
3- . الكافي 154/159:9، تفسير الصافي 323:5.
4- . الكافي 167/162:8، تفسير الصافي 323:5.
5- . أمالى الطوسي: 911/406، تفسير الصافي 323:5.
6- . ثواب الأعمال: 122، مجمع البيان 723:10، تفسير الصافي 323:5.

ص: 484

في تفسير سورة الفجر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيٰالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) ثمّ لمّا ختمت سورة الغاشية المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة و شدّة عذاب الكفّار فيه، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتذكير الناس و عدم تذكّر المصرّين على الكفر، و وعيدهم بالعذاب الأكبر، و إيابهم في القيامة إليه نظمت سورة الفجر المتضمّنة لوعيد الكفّار بما نزل على الامم السابقة من العذاب الدنيوي، و تذكّرهم في يوم لا ينفعهم التذكّر فيه، و إرعاب قلوبهم ببيان بعض أهوال القيامة، و بيان إياب النفوس المطمئنّة إليه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بما فيه كمال الشرف لدلالته على كمال قدرته جريا على عادة العرب على ما قيل من إكثار القسم على مقاصدهم(1) بقوله:

وَ الْفَجْرِ و طلوع نور الشمس من افق المشرق المسمّى بالصبح الصادق، كما عن ابن عباس(2) ، قبالا للكاذب، و هو ظهور بياض مستطيل بالافق كذنب السّرحان، فانّ بطلوع الصبح الصادق انقضاء الليل، و ظهور الضوء، و انتشار الناس و الحيوانات في طلب الرزق، كنشور الموتى في القيامة للحساب و جزاء الأعمال.

و قيل: إن المراد جميع النهار(3). و قيل: إنّ المراد صلاة الفجر؛ لأنّها في أوّل النهار، و في مشهد ملائكة الليل و النهار(4). و قيل: فجر يوم النّحر(5) الذي هو يوم عظيم عند اللّه و عند العرب. و قيل: إنّ المراد به فجر أول المحرّم الذي قيل إنّه أعظم الشهور عند اللّه، و عن ابن عباس، قال: فجر السّنة هو محرّم(6).

و قيل: عنى به العيون التي ينفجر منها المياه، و فيها حياة الخلق(7). و قيل: إنّه فجر ذي الحجّة لقوله تعالى بعده:

وَ لَيٰالٍ عَشْرٍ (8) من ذي الحجّة، فإنّها ليال مخصوصة بفضائل لا تكون في غيرها، كما دلّ

ص: 485


1- . تفسير روح البيان 420:10. (2-3-4-5) . تفسير الرازي 161:31. (6-7-8) . تفسير الرازي 162:31.

عليه تنكيرها.

و في الخبر: ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل من أيام العشر(1).

و في الحديث: «ما من أيّام أزكى عند اللّه و لا أعظم أجرا من خير عمل في عشر الأضحى» قيل: يا رسول اللّه، و لا المجاهد في سبيل اللّه؟ [قال: «لا و لا المجاهد في سبيل اللّه] إلاّ رجل خرج بنفسه و ماله و لم يرجع من ذلك بشيء»(2).

و قيل: إنّها العشر الأول من المحرّم(3) ، و قيل: إنّها العشر الآخر من شهر رمضان(4). روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا دخل العشر الآخر من رمضان شدّ المئزر و أيقظ أهله(5).

وَ الشَّفْعِ و الزوج من الصلوات وَ الْوَتْرِ و الفرد منها. عن عمران بن الحصين، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «هي الصلوات، منها شفع، و منها وتر» قيل: لأنّ الصلاة تالية القرآن»(6).

و عن القمّي قال: الشفع ركعتان، و الوتر ركعة(7). أقول: الظاهر أنّ المراد ثلاث ركعات بعد نوافل الليل.

و قيل: الشّفع: سجدتان، و الوتر: الركوع(8).

و قيل: الشفع: يوم النحر، و الوتر: يوم عرفة(9). و قيل: الشفع: يومان بعد يوم النحر، و الوتر: اليوم الثالث(10). و عنهما عليهما السّلام: «الشفع [يوم التروية، و الوتر] يوم عرفة»(9).

و قيل: الشّفع: جميع الممكنات لأنّها زوج تركيبي، و الوتر: الواجب الوجود(12).

و قيل: الشّفع: آدم و حوّاء، و الوتر: هو اللّه تعالى(13).

و قيل: إن شيئا من المخلوقات لا ينفكّ عن كونه زوجا أو فردا، فأقسم سبحانه بجميع الموجودات(14).

و قيل: الشّفع: أبواب الجنّة أو درجاتها، و هي ثمانية، و الوتر: أبواب النار و دركاتها، و هي سبعة(10).

و عن مقاتل الشّفع: هو الأيام التي لها ليال، و الوتر: اليوم الذي لا ليل له، و هو يوم القيامة(11). و قيل وجوه أخر كلّها على الظاهر من التفسير بالرأي.

ص: 486


1- . تفسير الرازي 162:31.
2- . تفسير روح البيان 420:10.
3- . تفسير الرازي 162:31.
4- . تفسير الرازي 162:31، تفسير روح البيان 420:10.
5- . تفسير الرازي 162:31، و في النسخة: و القيظ.
6- . تفسير الرازي 163:31، و فيه: تالية للايمان.
7- . تفسير القمي 419:2، تفسير الصافي 324:5.
8- . تفسير الرازي 164:31. (9و10) . تفسير الرازي 162:31.
9- . مجمع البيان 736:10، تفسير الصافي 324:5. (12-13-14) . تفسير الرازي 163:31.
10- . تفسير الرازي 164:31.
11- . تفسير الرازي 163:31.

وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَسْرِ و يمضي و ينقضي. و قيل: يعني إذا جاء و أقبل(1) ، و عن القمي: هو ليلة جمع(2).

ثمّ أظهر سبحانه فخامة هذه الأشياء التي أقسم بها بقوله:

هَلْ فِي ذٰلِكَ المذكور من الأشياء الجليلة الحقيقة بالإعظام قَسَمٌ معتدّ به موجب للاعتماد عليه لِذِي حِجْرٍ و صاحب عقل منوّر و فكر صائب و إدراك قويّ، و المقسم عليه مقدّر معلوم و هو: ليعذّبن الكفّار.

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعٰادٍ (6) إِرَمَ ذٰاتِ الْعِمٰادِ (3) اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهٰا فِي الْبِلاٰدِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جٰابُوا الصَّخْرَ بِالْوٰادِ (9) وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتٰادِ (10) ثمّ استشهد سبحانه بما فعل بالامم المكذّبة بقوله:

أَ لَمْ تَرَ يا محمد حينما كنت في عالم الأشباح مطّلعا على الوقائع في العالم، أو المعنى: أ لم تعلم بالوحي كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعٰادٍ قوم هود، و بأيّ عذاب شديد عذّبهم؟ أعني من عاد؟

إِرَمَ قيل: إنّه اسم لعاد الاولى، سمّوا باسم جدّهم، و هو إرم بن سام بن نوح(4). و التقدير: سبط إرم، أو أهل إرم، على ما قيل(4) ، من أنّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا يسكنونها، و هي على ما قيل بين عمان و حضر موت(5) ، و على أي تقدير كانوا قبيلة.

ذٰاتِ الْعِمٰادِ و قدود طوال تشبيها لقاماتهم بالأعمدة و الأساطين

اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ نظير تلك القبيلة و مِثْلُهٰا في القوّة و عظم الجسم و طول القامة فِي الْبِلاٰدِ التي على وجه الأرض.

و قيل: إنّ الوصفين لمدينتهم التي بناها شدّاد بن عاد(6) ، و قد وصفوها بأوصاف تقرع الأسماع. روي أنّ لعاد ابنين: شديد، و شدّاد، فملكا و قهرا، ثمّ مات شديد، و خلص الأمر لشدّاد، فملك جميع الدنيا، و دانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنّة فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة، و كان عمره تسعمائة سنة، و هي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب و الفضّة، و أساطينها من الزّبرجد و الياقوت، و فيها أصناف الأشجار و الأنهار، فلمّا ثمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلمّا كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا(7) ، ثمّ غاب البلد عن أعين الناس جميعا.

وَ ثَمُودَ و هم قوم صالح اَلَّذِينَ جٰابُوا و قطعوا اَلصَّخْرَ و الحجر الشديد الصلابة بقوتهم

ص: 487


1- . تفسير الرازي 164:31.
2- . تفسير القمي 419:2، تفسير الصافي 324:5، و جمع: هو المزدلفة، سمّي جمعا لاجتماع الناس فيه.
3- . تفسير الرازي 167:31، تفسير أبي السعود 154:9.
4- . تفسير الرازي 166:31، تفسير روح البيان 422:10 و 423. (4-5-6) . تفسير روح البيان 423:10.

بِالْوٰادِ و المنفرج بين الجبلين. قيل: هو وادي القرى بالقرب من المدينة من جهة الشام(1).

عن ابن عباس: أنّهم كانوا يجعلون من الصخور بيوتا و أحواضا و ما أرادوا من الأبنية(2).

قيل: أول من تحت الجبال و الصخور و الرّخام ثمود، و بنوا ألفا و سبعمائة مدينة كلّها من الحجارة(3).

وَ أ لم تر كيف عذّب اللّه فِرْعَوْنَ ملك مصر، و كان ملقّبا بلقب ذِي الْأَوْتٰادِ و قيل: لكثرة جنوده و خيامهم التي يضربونها في منازلهم و يربطونها بالأوتاد(4).

و عن ابن عباس: أنّ فرعون إنّما سمّي ذي الأوتاد لأنّ امرأة خازنة كانت ماشطة بنت فرعون، إذ سقط المشط من يدها فقالت: تعس من كفر باللّه تعالى: فقالت ابنة فرعون: و هل لك إله غير أبي؟ فقالت: إلهي و إله أبيك و اله السماوات و الأرض واحد لا شريك له. فقامت و دخلت على أبيها و هي تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: إنّ الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهها و إلهك و إله السماوات و الأرض واحد لا شريك له، فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها: ويحك اكفري بإلهك. قالت: لا أفعل، فمدّها بين أربعة أوتاد، ثمّ أرسل إليها الحيات و العقارب، و قال: اكفري باللّه و إلاّ عذّبتك بهذا العذاب شهرين. فقالت: لو عذّبتني سبعين شهرا ما كفرت به. و كانت لها بنتان، فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، و قال لها: اكفري بإلهك و إلاّ ذبحت الصغرى على فيك أيضا، و كانت رضيعة، فقالت: لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت باللّه. فأتى بابنتها، فلمّا اضجعت على صدرها و أرادوا ذبحها جزعت المرأة، فأطلق اللّه لسان ابنتها فتكلّمت، و هي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالا، و قالت: يا امّاه لا تجزعي، فانّ اللّه قد بنى لك بيتا في الجنة، اصبري فانّك تفيضين إلى رحمة اللّه تعالى و كرامته. فذبحت فلم تلبث أن ماتت و أسكنها اللّه في جوار رحمته(5).

اَلَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاٰدِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسٰادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذٰابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصٰادِ (14) ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم العذاب بقوله: اولئك الطوائف و الامم

اَلَّذِينَ طَغَوْا على اللّه فِي الْبِلاٰدِ فانّ عاد طغوا في بلاد اليمن، و ثمود في بلاد الشام، و فرعون في بلاد مصر

فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسٰادَ بالكفر و العصيان و الظلم على العباد

فَصَبَّ اللّه و أراق عَلَيْهِمْ من فوقهم رَبُّكَ سَوْطَ عَذٰابٍ شديد، و إنّما عبّر عن عذابهم بالسوط تنبيها على أنّ نسبته إلى عذاب الآخرة كنسبة

ص: 488


1- . تفسير روح البيان 425:10.
2- . تفسير الرازي 167:31.
3- . تفسير الرازي 167:31.
4- . تفسير روح البيان 425:10.
5- . تفسير روح البيان 425:10.

السوط إلى السيف.

و قيل: لمّا كان الضرب بالسوط عند العرب أشدّ العذاب عبّروا عن العذاب بالسوط، و التعبير عن إنزاله بالصبّ للإيذان بكثرته و تتابعه و استمراره(1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مراقب لأعمال عباده بقوله:

إِنَّ رَبَّكَ يا محمد لَبِالْمِرْصٰادِ و في المكان الذي تترقّب فيه السائلة ليظفر بالجائي و لأخذ المقصّر بحيث لا يفوته أحد، فيعاقب قومك على طغيانهم و عصيانهم كما عاقب غيرهم من الامم المكذّبة للرسل.

فَأَمَّا الْإِنْسٰانُ إِذٰا مَا ابْتَلاٰهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمّٰا إِذٰا مَا ابْتَلاٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهٰانَنِ (16) كَلاّٰ بَلْ لاٰ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لاٰ تَحَاضُّونَ عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ (18) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كونه مراقبا لأعمال العباد و مجازاتهم، بيّن عدم اعتناء الانسان بذلك، لانهماكه بلذائذ الدنيا بقوله:

فَأَمَّا الْإِنْسٰانُ فهو غافل عن ذلك و لذا إِذٰا مَا ابْتَلاٰهُ رَبُّهُ و امتحنه فَأَكْرَمَهُ بالجاه و الثروة وَ نَعَّمَهُ و وسّع عليه في رزقه، ليظهر أنّه شاكر أو كافر فَيَقُولُ مفتخرا: رَبِّي أَكْرَمَنِ و فضّلني على غيري بالمال و الجاه، و يغترّ بذلك، و لا يخطر بباله أنّه امتحان و ابتلاء

وَ أَمّٰا إِذٰا مَا ابْتَلاٰهُ بالفقر فَقَدَرَ و ضيق عَلَيْهِ رِزْقَهُ ليظهر أنّه صابر أو جزوع فَيَقُولُ تضجّرا:

رَبِّي أَهٰانَنِ و أذلني بالفقر، و لا يخطر بباله أنّه امتحان.

و على أيّ تقدير ليس له توجّه إلى الآخرة، و لا يلتفت إلى أنّ إقبال الدنيا ليس إكراما من اللّه، و إدبارها ليس إهانة من اللّه، لذا ردع الانسان عن توهّماته بقوله:

كَلاّٰ ليس ما يقول في الحالين حقّا و صوابا.

ثمّ التفت سبحانه إلى خطاب الكفّار تشديدا لتقريعهم ببيان سوء أفعالهم بعد بيان سوء أقوالهم بقوله: بَلْ لاٰ تُكْرِمُونَ أيّها الأشقياء اَلْيَتِيمَ الذي يجب إكرامه بالرعاية و إعطاء النفقة

وَ لاٰ تَحَاضُّونَ و لا تحرّضون غيركم عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ لشدّة بخلكم فضلا عن أنّ تطعموه من أموالكم.

قيل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر امية بن خلف، فكان يدفعه عن حقّه، فنزلت الآيات(2).

ص: 489


1- . تفسير روح البيان 426:10.
2- . تفسير الرازي 171:31، تفسير روح البيان 429:10.

و عن ابن عباس: أنّها نزلت في عتبة بن ربيعة و أبي حذيفة بن المغيرة(1).

وَ تَأْكُلُونَ التُّرٰاثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَ تُحِبُّونَ الْمٰالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاّٰ إِذٰا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَ جٰاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسٰانُ وَ أَنّٰى لَهُ الذِّكْرىٰ (23) يَقُولُ يٰا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيٰاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لاٰ يُعَذِّبُ عَذٰابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لاٰ يُوثِقُ وَثٰاقَهُ أَحَدٌ (26) ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم بقوله:

وَ تَأْكُلُونَ التُّرٰاثَ و تتصرّفون في الميراث، الذي لليتامى، أو في ميراث مورثكم أَكْلاً و تصرّفا لَمًّا و جامعا بين الحلال من إرثكم و الحرام الذي هو حقّ اليتامى، أو بين الحلال و الحرام

وَ تُحِبُّونَ الْمٰالَ و الأمتعة الدنيوية حُبًّا جَمًّا و كثيرا، و تحرصون على جمعه و حفظه حرصا شديدا، و تغفلون عن الموت و الآخرة.

كَلاّٰ لا ينبغي أن تكونوا بهذه الدرجة من الغفلة عن الآخرة، و اذكروا أهوال يوم القيامة إِذٰا دُكَّتِ الْأَرْضُ و دقّت بالزلازل دَكًّا هائلا و دَكًّا متتابعا حتى تكون هباء منبعثا، فلا يبقى عليها جبل و لا تلّ فضلا عن الأبنية و العمارات

وَ جٰاءَ رَبُّكَ و ظهر قهره، أو صدر أمره بالمحاسبة و المجازاة، أو ظهرت آثار قدرته و مهابة سلطانه. وَ جاء اَلْمَلَكُ في العرصات من كلّ سماء، و يقومون حول المحشر حال كونهم صَفًّا طويلا و صَفًّا آخر بعد ذلك الصفّ. قيل: تكون صفوفهم سبعة على عدد السماوات (2)

وَ جِيءَ بتوسّط الملائكة الغلاظ الشداد يَوْمَئِذٍ و حين ظهور سلطان اللّه و قهره بِجَهَنَّمَ في مرأى الخلق.

عن ابن مسعود، قال: تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام، معه سبعون ألف ملك، يجرّونها حتى تنصب عن يسار العرش، لها تغيّظ و زفير، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، و يجثو كلّ نبي و وليّ من الهول و الهيبة على ركبتيه، و يقول: نفسي، حتّى يعترض لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقول: «امّتي امّتي» فتقول النار: ما لي و لك يا محمد، لقد حرّم اللّه لحمك عليّ(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ سئل عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: أخبرني الرّوح الأمين أن(4) اللّه لا إله غيره إذا برز الخلائق و جمع الأولين و الآخرين، أتى بجهنّم تقاد بألف زمام، أخذ بكلّ زمام مائة ألف تقودها من الغلاظ الشّداد، لها هدّة و غضب و زفير و شهيق،

ص: 490


1- . تفسير الرازي 170:31.
2- . تفسير روح البيان 430:10.
3- . تفسير روح البيان 430:10.
4- . في النسخة: قال.

و إنّها لتزفر زفرة، فلو لا أنّ اللّه أخّرهم للحساب لأهلكت الجمع، ثمّ يخرج منها عنق فتحيط بالخلائق البرّ منهم و الفاجر، ما خلق اللّه عبدا من عباد اللّه ملكا و لا نبيا إلاّ ينادي: نفسي نفسي، و أنت يا نبي اللّه تنادي: امّتي امّتي، ثمّ يوضع عليها الصّراط أدقّ من الشّعر، و أحد من حدّ السيف، عليه ثلاث قناطر، فأمّا واحدة فعليها الأمانة و الرّحم، و الثانية فعليها الصلاة، و الثالثة فعليها ربّ العالمين لا إليه غيره، فيكلّفون الممرّ عليها، فيحبسهم الرّحم و الأمانة فان نجوا منهما حبستهم الصلاة، فان نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين، و هو قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصٰادِ و الناس على الصّراط، فمتعلّق بيد و تزلّ قدم و يستمسك بقدم، و الملائكة حولها ينادون: يا حليم اعف و صفح وعد بفضلك و سلّم، و الناس يتهافتون في النار كالفراش فيها، فاذا نجا ناج فبرحمة اللّه مرّ بها فقال: الحمد للّه و بنعمته تتمّ الصالحات و تزكو الحسنات، و الحمد للّه الذي أنجاني منك بعد إياس بمنّة و فضله، إنّ ربي لغفور شكور»(1).

يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ و يتّعظ و يندم اَلْإِنْسٰانُ على ما فرّط في جنب اللّه وَ أَنّٰى لَهُ الذِّكْرىٰ و أي نفع له في الاتّعاظ و النّدم بعد فوات أوانه؟ و

يَقُولُ تندّما و تحسّرا يٰا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ و أتيت بطاعة اللّه و رسله، و عملت بما كلّفت به من قبلهم لِحَيٰاتِي هذه و يوم بعثي هذا أو في وقت حياتي في الدنيا أعمالا تنجيني اليوم من العذاب.

فَيَوْمَئِذٍ و حين انتقام اللّه من العصاة لاٰ يُعَذِّبُ عَذٰابَهُ أَحَدٌ فان شدّة عذابه فوق ما يتصوّر

وَ لاٰ يُوثِقُ وَثٰاقَهُ و لا يشدّ بالعمل و الأغلال مثل شدّة أَحَدٌ فانّ شدّه بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا.

يٰا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبٰادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30) ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء حال النفوس الشقيّة الأمّارة بالسوء، ذكر حال النفوس الطيّبة الزكيّة و سعادتها بقوله:

يٰا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ بذكر اللّه الساكنة في جوار رحمة اللّه

اِرْجِعِي إِلىٰ ما أعدّ لك من كرامة رَبِّكِ الكريم و ثوابه العظيم حال كونك رٰاضِيَةً بما أعدّ اللّه لك من الجنّة و القصور العالية و النّعم الباقية مَرْضِيَّةً عند اللّه

فَادْخُلِي فِي زمرة عِبٰادِي الصالحين المخلصين

وَ ادْخُلِي معهم في جَنَّتِي.

قيل: إذا أراد اللّه قبضها اطمأنّت إلى اللّه، و رضيت عن اللّه، و رضي اللّه عنها(2).

ص: 491


1- . تفسير القمي 421:2، تفسير الصافي 326:5.
2- . تفسير روح البيان 432:10.

و عن ابن عمر قال: إذا توفّي العبد المؤمن أرسل اللّه ملكين، و أرسل إليه تحفة من الجنة فيقال لها:

اخرجي أيّتها النفس المطمئنة إلى روح و ريحان و ربّ عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، و الملك على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة و نسمة طيبة، فلا تمرّ بباب إلاّ فتح لها، و لا بملك إلاّ صلّى عليها، حتّى يؤتى بها إلى الرحمن، ثمّ يقال لميكائيل: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين.

ثمّ يؤمر فيوسّع عليه قبره سبعون ذراعا [عرضه، سبعون ذراعا] طوله، و ينبذ له فيه الريحان، فان كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، و إن لم يكن جعل له نور مثل نور الشمس في قبره، فيكون مثله مثل العروس ينام و لا يوقظه إلاّ أحبّ أهله(1).

و عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف، فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير مثله و على خلقته، فدخل نعشه، ثمّ لم ير خارجا منه فلمّا دفن تليت هذه الآية على شفير قبره لا يرى من تلاها:

يٰا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (2) .

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: «لا و اللّه، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع لذلك، فيقول له ملك الموت: يا وليّ اللّه لا تجزع، فو الذي بعث محمدا لأنا أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر، فيمثّل [له] رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة عليهم السّلام رفقاؤك، فيفتح عينيه فينظر، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة إلى محمد و أهل بيته، ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضية بالثواب، فادخلي في عبادي يعني محمدا و أهل بيته - و ادخلي جنّتي. فما من شيء أحبّ إليه من استلال روحه و اللّحوق بالمنادي»(3).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية: «يعني الحسين بن على عليهما السّلام»(4).

و عنه عليه السّلام: «اقرءوا سورة الفجر في فرائضكم و نوافلكم، فانّها سورة الحسين بن على عليهما السّلام، من قرأها كان مع الحسين عليه السّلام يوم القيامة في درجته من الجنة»(5).

و منّ اللّه علينا بالتوفيق لتلاوتها، كما منّ لاتمام تفسيرها.

ص: 492


1- . تفسير روح البيان 432:10.
2- . تفسير روح البيان 432:10.
3- . الكافي 2/127:3، تفسير الصافي 328:5.
4- . تفسير القمي 422:2، تفسير الصافي 328:5.
5- . ثواب الأعمال: 123، مجمع البيان 730:10، تفسير الصافي 328:5.

في تفسير سورة البلد

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهٰذَا الْبَلَدِ (2) وَ وٰالِدٍ وَ مٰا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ (4) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) ثمّ لمّا ختمت سورة الفجر المتضمّنة للّوم على الحرص على من جمع مال الدنيا و ترك الاحسان إلى اليتيم و المسكين، اردفت سورة البلد المتضمّنة للّوم عليهما، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأ بالحلف بمكّة المشرّفة بقوله:

لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ الحرام. قيل: إنّ حرف لا زائدة جيء بها لتأكيد القسم، فانّ العرب تقول: لا و اللّه ما فعلت، أو لا و اللّه لأفعلن(1). و يحتمل أن تكون ناهية، و المعنى: لا تتوهّموا أن يكون الواقع خلاف ما أقول، اقسم بهذا البلد المعظّم

وَ أَنْتَ يا محمد حِلٌّ و مقيم بِهٰذَا الْبَلَدِ و نازل فيه، فزيد بهذا شرفه.

و قيل: يعني و أنت مع نهاية حرمتك حلال الدم و العرض عند المشركين بهذا البلد و لا يحلّ عندهم قتل شيء من الطيور و الوحوش و الحشرات(2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «كانت قريش تعظّم البلد و تستحلّ محمدا فيه، فقال اللّه: لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ * وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهٰذَا الْبَلَدِ يريد أنّهم استحلّوك فيه، فكذّبوك و شتموك، و كان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه، و يتقلّدون لحاء شجرة الحرم فيأمنون بتقليدهم إيّاه، فاستحلوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما لم يستحلّوا من غيره، فعاب اللّه عليهم»(3).

وَ وٰالِدٍ عظيم الشأن، قيل: إنّ المراد إبراهيم (4)وَ مٰا وَلَدَ من إسماعيل و إسحاق و يعقوب و ذريّتهما. و قيل: محمد و ذريّته(5) ، و إيثار كلمة (ما) على (من) لمعنى التعجّب ممّا أعطاهم اللّه من الكمال، كذا قيل(6).

ص: 493


1- . تفسير روح البيان 433:10.
2- . تفسير الرازي 179:31.
3- . مجمع البيان 747:10، تفسير الصافي 329:5.
4- . تفسير أبي السعود 160:9.
5- . جوامع الجامع: 542.
6- . تفسير روح البيان 434:10.

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني آدم و ما ولد من الأنبياء و الأوصياء و أتباعهم»(1). [و في الكافي مرفوعا قال](2): «أمير المؤمنين و من ولد من الأئمة عليهم السّلام»(3).

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ (4) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ حال كونه من أوّل خلقه مستغرقا فِي كَبَدٍ و تعب و مشقّة. و قيل: يعني في الشدّة، و هي شدائد الدنيا من صعوبة ولادته، و قطع سرّته، و حبسه في القماط، و إيذاء المربّي و المعلّم، و زحمة التكسّب و التزوّج و الأولاد و الخدم و جمع الأموال، و تهاجم الأوجاع و الهموم و الغموم، كالابتلاء بالتكاليف الإلهية إلى غير ذلك من الشدائد(4).

و قيل: إنّ المراد في شدّة الخلق و القوة(5). و قيل: يعني في الاستواء و الاستقامة(6).

عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: إنّا نرى الدوابّ في بطون أيديها الرقعتين مثل(5) الكيّ، فمن أيّ شيء ذلك؟ فقال: «ذلك موضع منخريه في بطن امّه، و أمّا ابن آدم فرأسه منتصب في بطن امّه، و ذلك قول اللّه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ و ما سوى بن آدم فرأسه في دبره، و يداه بين يديه»(6).

و عن ابن عباس، قال: فِي كَبَدٍ أي قائما منتصبا، و الحيوانات الأخر تمشي منكسة، فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة(7).

ثمّ لا يخفى أنّ في الآية بناء على التفسير الأول تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله في مكابدة الأعداء من كفّار قريش.

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مٰالاً لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) ثمّ ذمّ سبحانه الانسان بقوله:

أَ يَحْسَبُ و يتوهّم من ضعفه و ابتلائه بالشدائد على التفسير الأول، أو بالنظر إلى شدّة خلقه و قوّته على الثاني أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بأن يجازيه على سيئاته، أو بأن يغيّر أحواله و يمنعه عن مراداته؟! بلى إنّ اللّه القادر على كلّ شيء قادر على تعذيبه و الانتقام منه، أو على تعجيزه و منعه عن مراداته.

ثمّ إنّ هذا الكافر المدّعي لكمال القدرة و القوة

يَقُولُ مفتخرا: إني أَهْلَكْتُ و صرفت في

ص: 494


1- . مجمع البيان 747:10، تفسير الصافي 329:5.
2- . في النسخة: و عن.
3- . الكافي 11/342:1، تفسير الصافي 329:5.
4- . تفسير روح البيان 434:10. (5و6) . تفسير الرازي 181:31.
5- . في النسخة: قبل.
6- . علل الشرائع: 1/495، تفسير الصافي 330:5.
7- . تفسير الرازي 182:31.

عداوة محمد مٰالاً لُبَداً و كثيرا.

عن الصادق عليه السّلام: «قال عمرو بن عبد ودّ حين عرض عليه علي بن أبي طالب عليه السّلام الإسلام يوم الخندق: فأين ما أنفقت فيكم من مال لبد؟ و كان أنفق مالا في الصدّ عن سبيل اللّه، فقتله علي عليه السّلام»(1).

ثمّ وبّخه سبحانه على إنفاقه و هدّده بقوله:

أَ يَحْسَبُ هذا الكافر المباهي بإنفاقه أَنْ لَمْ يَرَهُ حين إنفاقه الشنيع أَحَدٌ بلى إنّ اللّه رآه و ساءله يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه و فيما أنفقه.

و قيل: إنّه كان كاذبا لم ينفق شيئا، فقال اللّه تعالى: أ يظنّ هذا الكافر أنّ اللّه ما رأى ذلك منه، فعل أو لم يفعل، أنفق أم لم ينفق. بلى رآه و علم منه خلاف ما قال(2).

أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِسٰاناً وَ شَفَتَيْنِ (9) وَ هَدَيْنٰاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعٰامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذٰا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذٰا مَتْرَبَةٍ (16) ثمّ لمّا حكى سبحانه إنكار الكافر قدرة اللّه عليه و رؤيته إياه، أقام الدليل عليها بقوله:

أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ بقدرتنا عَيْنَيْنِ يبصر بهما و يرى، فكيف يمكن أن يكون معطي الرؤية فاقدا لها و لا يراه؟

وَ أ لم نجعل له لِسٰاناً وَ شَفَتَيْنِ ينطق بها، فكيف ينبغي أن يتكلّم بها الكلمات الشنيعة غير المرضية لمعطيها؟

وَ هَدَيْنٰاهُ بعد اتمام النعمة عليه بتكميل خلقه و قواه اَلنَّجْدَيْنِ و الطريقين الواضحين إلى خيره و شرّه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سبل الخير، و سبل الشرّ»(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «نجد الخير و الشّر»(4).

فَلاَ اقْتَحَمَ و ما دخل شكرا لتلك النّعم الجليلة اَلْعَقَبَةَ و الأعمال الصالحة التي هي الطريق إلى كلّ خير، و إنّما أطلق عليها العقبة - التي هي الطريق الصعب السلوك في الجبل - لصعوبة سلوكها.

ثمّ عظّم العقبة بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك يا محمد مٰا تلك اَلْعَقَبَةُ؟ فانّ المراد بها ليس العقبة المعروفة، إنّما هي

فَكُّ رَقَبَةٍ و إعتاق المملوك، و الدخول فيها الاقدام عليه

أَوْ إِطْعٰامٌ و إشباع من المأكول فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ و في زمان غلاء و قحط، فانّ الصرف في هذا الزمان أثقل على النفس و أوجب للأجر

يَتِيماً ذٰا مَقْرَبَةٍ و صاحب رحم فاقد إطعامه أفضل

ص: 495


1- . تفسير القمي 422:2، عن أبي جعفر عليه السّلام، تفسير الصافي 330:5.
2- . تفسير الرازي 183:31.
3- . مجمع البيان 748:10، تفسير الصافي 331:5.
4- . الكافي 4/124:1، تفسير الصافي 331:5.

لاشتماله على الصدقة و صلة الرّحم

أَوْ مِسْكِيناً ذٰا مَتْرَبَةٍ و فاقة. عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله: ذٰا مَتْرَبَةٍ «الذي مأواه المزابل»(1) و عن ابن عباس: يعني البعيد التربة، يعني الغريب(2). و في الحديث:

«الساعي على الأرملة و المساكين كالساعي في سبيل اللّه، و كالقائم لا يفتر، و الصائم لا يفطر»(3).

عن الصادق عليه السّلام: «من أطعم مؤمنا حتى يشبعه، لم يدر أحد من خلق اللّه ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلاّ اللّه ربّ العالمين» ثمّ قال: «من موجبات المغفرة إطعام المسلم السّغبان» ثمّ تلا هذه الآية(1).

و عن الرضا عليه السّلام: أنّه إذا أكل أتى بصحفة فتوضع قرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام بما يؤتى به فيأخذ من كلّ شيء فيضع في تلك الصّحفة، ثمّ يأمر بها للمساكين، ثمّ يتلو هذه الآية، ثمّ يقول: «علم اللّه أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة، فجعل لهم السبيل إلى الجنّة»(2).

و عن الصادق أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «من أكرمه اللّه بولايتنا فقد جاز العقبة، و نحن تلك العقبة التي من اقتحمها نجا» ثمّ قال: «الناس كلّهم عبيد النار غيرك و أصحابك فانّ اللّه فكّ رقابكم من النار بولايتنا أهل البيت»(3).

و عنه عليه السّلام: «بنا تفكّ الرقاب و بمعرفتنا، و نحن المطعمون في يوم الجوع و هو المسغبة»(4).

ثُمَّ كٰانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا هُمْ أَصْحٰابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نٰارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) ثمّ بيّن سبحانه شرط قبول تلك الأعمال بقوله:

ثُمَّ كٰانَ ذلك الذي يفكّ الرقبة و يطعم اليتيم و المسكين مِنَ زمرة اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و اليوم الآخر وَ تَوٰاصَوْا و أمروا أقرباءهم و أصدقاءهم بِالصَّبْرِ على طاعة اللّه وَ تَوٰاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ و العطوفة بعباد اللّه، أو بموجبات رحمة اللّه من الخيرات و الصالحات. و ذكر كلمة ثُمَّ للدلالة على تراخي رتبة الايمان على تلك الأعمال، و رفعة محلّه بالنسبة إليها.

أُولٰئِكَ المتّصفون بالصفات المذكورة هم يوم القيامة أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ يعطون كتبهم بأيمانهم، أو نسلك بهم من الطريق الأيمن إلى الجنة، أو هم أهل اليمن و الخير و السعادة، أو القائمون

ص: 496


1- . الكافي 6/161:2، تفسير الصافي 331:5.
2- . الكافي 12/52:4، تفسير الصافي 331:5.
3- . الكافي 88/357:1، تفسير الصافي 331:5.
4- . تفسير القمي 423:2، تفسير الصافي 322:5.

عن يمين المحشر، أو يمين العرش.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا و دلائل توحيدنا و رسالة رسولنا هُمْ أَصْحٰابُ الْمَشْأَمَةِ و أهل الشؤم و الشرّ و الشقاوة، أو هم الذين يعطون كتابهم بشمائلهم، أو وراء ظهورهم

عَلَيْهِمْ يوم القيامة نٰارٌ أبوابها مُؤْصَدَةٌ و مطبقة لا يفتح لهم باب، فلا يخرج منها غمّ، و لا يدخل فيها روح أبدا، أو المراد نار محيطة بهم.

عن الصادق عليه السّلام: «من كان قراءته في فريضة لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ كان في الدنيا معروفا [أنه من الصالحين، و كان في الآخرة معروفا] أنّ له من اللّه مكانا، و كان يوم القيامة من رفقاء النبيين و الشهداء و الصالحين»(1).

ص: 497


1- . ثواب الأعمال: 123، مجمع البيان 743:10، تفسير الصافي 332:5.

ص: 498

في تفسير سورة الشمس

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الشَّمْسِ وَ ضُحٰاهٰا (1) وَ الْقَمَرِ إِذٰا تَلاٰهٰا (2) وَ النَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا (3) وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشٰاهٰا (4) وَ السَّمٰاءِ وَ مٰا بَنٰاهٰا (5) وَ الْأَرْضِ وَ مٰا طَحٰاهٰا (6) وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا (7) فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (8) ثمّ لمّا ختمت سورة البلد المتضمّنة لمنّته سبحانه على الانسان بخلقه في كبد و استقامة، و بهدايته إلى الخير و الشرّ، و ترغيبه إلى الايمان و الأمر بالمعروف، و تهديد الكفّار المكذّبين بعذاب الآخرة، نظمت سورة الشمس المتضمّنة لمنته على الانسان بتعديل خلقه و إلهامه فجوره و تقواه و ترغيبه إلى تزكية نفسه المتوقفة على الايمان و العمل، و تهديد الكفار، فافتتحها بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بقوله:

وَ الشَّمْسِ التي فيها فضل عظيم و منافع عظيمة لموجودات عالم الملك وَ ضُحٰاهٰا و ارتفاع نورها و اشتداد ضوؤها، و هو قريب من نصف النهار

وَ الْقَمَرِ الذي هو بعد الشمس أنفع الكواكب إِذٰا تبع الشمس و حين تَلاٰهٰا و يطلع بعد غروبها.

عن ابن عباس: هو في النصف الأول من الشهر(1) بعد ما سمّي قمرا. و قيل: يعني إذا تبعها و صار مثلها في الاستدارة و كمال النور، و هي في الليالي البيض(2).

وَ النَّهٰارِ إِذٰا ظهر الشمس و حين جَلاّٰهٰا قيل: إن الضمير راجع إلى الظّلمة(3) و تجليتها إذهابها. و قيل: إلى الدنيا، أو إلى الأرض، و إن لم يسبق لهما ذكر(4) لمعلوميتها، و تجليتهما إنارتهما(5).

وَ اللَّيْلِ إِذٰا يغطّي الشمس و يَغْشٰاهٰا و يذهب نورها، فكأنّ الليل بظلمته(6) صار سببا لغروب الشمس و زوال ضوئها، و لذا حسن القول بأنّ النهار يجلّيها

وَ السَّمٰاءِ المظلّ على الأرض وَ مٰا

ص: 499


1- . تفسير الرازي 189:31.
2- . تفسير الرازي 189:31.
3- . تفسير الرازي 190:31.
4- . تفسير الرازي 190:31.
5- . في النسخة: لمعلوميتها، و تجليتها إنارتها.
6- . في النسخة: تظلمته.

بَنٰاهٰا على غاية العظمة و نهاية الوقعة.

قيل: ذكر كلمة مٰا للاشارة إلى الوصفية، و المعنى: و الشيء العظيم الذي بناها(1) ، و يحتمل كون كلمة مٰا مصدرية، فحلف أولا بذاتها، و ثانيا بكيفية بنائها.

وَ الْأَرْضِ وَ مٰا طَحٰاهٰا و من بسطها على السماء من كلّ جانب

وَ نَفْسٍ ناطقة متميزة من نفوس الحيوانات وَ مٰا سَوّٰاهٰا و من عدلها بإعطائها القوى الظاهرة و الباطنة، و يحتمل كون مٰا مصدرية في كلتا الجملتين. و قيل: إنّ المراد بالنفس الشخص، و تسويتها تعديلها بتكميل أعضائها(2).

فَأَلْهَمَهٰا و عرّفها بتكميل عقلها و إرسال الرسل فُجُورَهٰا و شرورها لتجتنبها وَ تَقْوٰاهٰا و محاسن أعمالها لتعمل بها.

عن الصادق عليه السّلام قال: «بيّن لها ما تأتي و ما تترك»(3).

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا (9) وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا (10) ثمّ بيّن سبحانه المقسم عليه بقوله:

قَدْ أَفْلَحَ و ظفر بأعلى المقاصد و المطالب مَنْ زَكّٰاهٰا و طهّرها من دنس الكفر و الأخلاق الرذيلة و من رجس الذنوب و القبائح، أو المراد أنماها بالخيرات و البركات.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه كان إذا قرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا وقف و قال: «اللهمّ آت نفس تقواها، أنت وليها و أنت مولاها، و زكّها أنت خير من زكّاها»(4).

وَ قَدْ خٰابَ و حرم من جميع الخيرات أو خسر مَنْ دَسّٰاهٰا و أدخلها في المعاصي حتّى انغمس فيها، أو دسّ في نفسه الفجور بسبب مواظبته عليها.

عن الصادق عليه السّلام: «قد أفلح من أطاع، و قد خاب من عصى»(5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من زكّاه ربّه»(6).

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوٰاهٰا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقٰاهٰا (12) فَقٰالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّٰهِ نٰاقَةَ اللّٰهِ وَ سُقْيٰاهٰا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهٰا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّٰاهٰا (14) وَ لاٰ

ص: 500


1- . تفسير الرازي 191:31.
2- . تفسير الرازي 191:31.
3- . الكافي 3/124:1، تفسير الصافي 333:5.
4- . مجمع البيان 755:10، تفسير الرازي 193:31.
5- . مجمع البيان 755:10، تفسير الصافي 334:5، و فيهما: عنهما عليهما السّلام.
6- . تفسير القمي 424:2، تفسير الصافي 334:5.

يَخٰافُ عُقْبٰاهٰا (15) ثمّ هدّد سبحانه المكذبين للرسول ببيان تكذيب ثمود رسولهم و ابتلائهم بالعذاب بقوله:

كَذَّبَتْ قبيلة يقال لها ثَمُودُ رسولهم صالح بِطَغْوٰاهٰا و بسبب عتوّها على اللّه، أو المعنى كذّبت بما أوعدهم الرسول من عذاب ذي طغيان كما قال اللّه تعالى: فَأُهْلِكُوا بِالطّٰاغِيَةِ.

إِذِ انْبَعَثَ و حين أسرع في طاعة رؤسائها قدار الذي هو أَشْقٰاهٰا و أخبثها و أطغاها في عقر الناقة

فَقٰالَ لَهُمْ صالح رَسُولُ اللّٰهِ عليه السّلام: يا قوم احذروا أن تؤذوا نٰاقَةَ اللّٰهِ التي هي من آياته، و احذروا أن تمنعوها وَ سُقْيٰاهٰا و مشربها، فإن مسستموها بسوء يأخذكم عذاب قريب

فَكَذَّبُوهُ فيما أوعدهم به من العذاب فَعَقَرُوهٰا و ضربوا رجلها بالسيف و قتلوها.

روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال لعلي: «يا على أ تدري من أشقى الأولين؟ قال: «اللّه و رسوله أعلم، قال: «عاقر الناقة» قال: «أ تدري من أشقى الآخرين»، قال: «اللّه و رسوله أعلم» قال:

«قاتلك»(1).

فَدَمْدَمَ و اطبق عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ العذاب، و أهلك جميعهم بالصيحة الهائلة، أو الزلزلة بِذَنْبِهِمْ و بسبب عصيانهم بتكذيب الرسول و عقر الناقة فَسَوّٰاهٰا قيل: إنّ الضمير راجع إلى الدمدمة، و المعنى: فعمّتهم الدمدمة(2). و قيل: راجع إلى الأرض، و المعنى: فسوّى عليهم الأرض بأن أهلكهم فجعلهم تحت التّراب (3)

وَ لاٰ يَخٰافُ اللّه بالدمدمة عليهم عُقْبٰاهٰا و تبعتها لأنّها كانت باستحقاقهم و العمل بالحكمة.

و قيل: هذا الكلام لبيان تحقير إهلاكهم، و المعنى أنّه أهون من أن تخشى فيه عاقبة الأمر(4).

و قيل: إنّ المعنى لا يخاف قدار الأشقى فيما أقدم من عقر الناقة عقبها و تبعة سوئها، بل كان آمنا من الهلاك ففعل مع الخوف الشديد فعل من لا خوف له، و فيه دلالة على غاية حمقه، و على هذا التفسير تكون الآية في حكم المتقدّم، كأنّه قال: إذ انبعث أشقاها و لا يخاف عقباها(5).

روي أنّ صالحا لمّا وعدهم بالعذاب بعد ثلاث، قال الذين عقروا الناقة: هلمّوا فلنقتل صالحا، فإن كان صادقا عجّلناه قبلنا، و إن كان كاذبا ألحقناه بتاقته(2) فأتوه ليقتلوه فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلمّا أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح، فوجدوهم قد رضحوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثمّ همّوا به، فقامت عشيرته دونه(3) و لبسوا السلاح، و قالوا لهم: و اللّه لا تقتلونه، قد وعدكم أنّ العذاب

ص: 501


1- . تفسير روح البيان 446:10. (2و3) . تفسير الرازي 195:31 و 196. (4و5) . تفسير الرازي 196:31.
2- . في النسخة: بناقة.
3- . في النسخة: دونها.

نازل بكم في ثلاث، فان كان صادقا زدتم ربّكم عليكم غضبا، و إن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون، فانصرفوا عنه تلك الليلة، فأصبحوا و وجوههم مصفرّة، فايقنوا بالعذاب، فطلبوا صالحا ليقتلوه، فهرب صالح و التجأ إلى سيد بعض بطون ثمود، و كان مشركا، فغيّبه عنهم فلم يقدروا عليه، ثمّ شغلهم عنه نزول العذاب(1). فهذا هو قوله: وَ لاٰ يَخٰافُ عُقْبٰاهٰا.

عن الصادق عليه السّلام: «من أكثر قراءة و الشمس و الليل و الضحى و أ لم نشرح، في يوم و ليلة، لم يبق بحضرته إلاّ شهد له يوم القيامة حتى شعره و بشره و لحمه و دمه و عروقه و عصبه و عظامه و جميع ما أقلّت الأرض منه، و يقول الرب تبارك و تعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، و أجزتها له، انطلقوا به إلى جناتي حتّى، يتخير منها حيث أحبّ، فأعطوه من غير منّ، و لكن رحمة منّي و فضلا [عليه فهنيئا لعبدي]»(2).

ص: 502


1- . تفسير الرازي 196:31.
2- . ثواب الأعمال: 123، مجمع البيان 752:10، تفسير الصافي 335:5.

في تفسير سورة الليل

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ (1) وَ النَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى (2) وَ مٰا خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّٰى (4) ثمّ لمّا ختمت سورة وَ الشَّمْسِ المتضمّنة لذكر الصنفين من الناس: صنف زكّى نفسه من الشرك و العصيان و الاخلاق الرذيلة، و صنف دسّ نفسه فيها، و ذكر أنّ اللّه ألهم فجورها و تقواها، أردفها بسورة وَ اللَّيْلِ المتضمّنة لذكر صنفين من الناس: صنف من الناس بذل ماله في طاعة اللّه و اتّقى المعاصى و صدّق بتوحيد اللّه و الدار الآخرة، و صنف بخل بماله و اشتغل بالمعاصي و الشهوات و كذّب بتوحيد اللّه و اليوم الآخر، و ما لكلّ منهما من الدرجات و الدركات، و إنّ اللّه هو الهادي إلى كلّ خير و سعادة، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالحلف بعجائب خلقه و بدائع صنعه بقوله:

وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ و يغطّي الشمس، أو يستر النهار، أو سائر الموجودات غير المضيئة بظلمته وَ النَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى و حين انكشف بطلوع الشمس و ظهر بزوال ظلمة الليل، و من المعلوم أنّ في الإقسام بهما دلالة على شرفهما و كثرة نفعهما و قيام نظام العالم بهما و بتعاقبهما.

و عن الباقر عليه السّلام في تأويل الآيتين قال: «الليل في هذا الموضع الثاني، غشي أمير المؤمنين عليه السّلام في دولته التي جرت له عليه، و أمير المؤمنين عليه السّلام يصبر في دولتهم حتى تنقضي»

وَ النَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى قال: «النهار هو القائم منّا أهل البيت، إذا قام غلب دولة الباطل» قال: «و القرآن ضرب به الأمثال للناس، و خاطب نبيّه به و نحن، فليس يعلمه غيرنا»(1).

وَ مٰا خَلَقَ قيل: يعني و القادر العظيم الذي خلق بقدرته اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ من ماء واحد(2). و قيل:

كلمة مٰا مصدرية، و المعنى: و خلقه الذكر و الانثى من جميع أصناف الحيوانات.

ص: 503


1- . تفسير القمي 425:2، تفسير الصافي 336:5. ( (2 و 3 ) . تفسير الرازي 197:31.

و عن الباقر عليه السّلام في تأويله «الذكر أمير المؤمنين عليه السّلام، و الانثى فاطمة»(1).

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّ سَعْيَكُمْ و أعمالكم أيّها الناس في الدنيا لَشَتّٰى و متفرّقات في الحسن و القبح، و الخير و الشّر، و العقاب و الثواب.

فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اتَّقىٰ (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ (7) وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنىٰ (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ (10) وَ مٰا يُغْنِي عَنْهُ مٰالُهُ إِذٰا تَرَدّٰى (11) ثمّ بين سبحانه ما هو المقصود من اختلاف الأعمال و فضله بقوله:

فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ المال و أنفقه في سبيل اللّه و وجوه البرّ، أو أعطى حقوق اللّه من الأعمال الواجبة وَ اتَّقىٰ اللّه بترك المحرمات و احتراز الشهوات

وَ صَدَّقَ عن صميم القلب بِالْحُسْنىٰ و الكلمة المرضية عند اللّه من الإقرار بالتوحيد و الرسالة و المعاد، أو بالملّة و الشريعة الحسنة، و هو دين الاسلام.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «بالولاية»(2).

فَسَنُيَسِّرُهُ و نوفّقه لِلْيُسْرىٰ و الأعمال المؤدّية إلى الجنة و الراحة الأبدية، و نسهّلها عليه حتى يكون أيسر الأمور عليه و قيل: إن المراد باليسرى الجنة و الراحة(3) ، و المعنى: نهيئه لدخول الجنة بسهولة.

وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ بماله و امتنع من صرفه في سبيل اللّه، أو امتنع من أداء حقوق اللّه و صرف قواه في طاعته، وَ اسْتَغْنىٰ بالشهوات الدنيوية عن النعم الاخروية و لم يرغب في ثواب اللّه، كأنّه مستغن عنه، و لم يتّق من المعاصي

وَ كَذَّبَ قولا و عملا بِالْحُسْنىٰ بأحد المعاني السابقة

فَسَنُيَسِّرُهُ و نهيئه لِلْعُسْرىٰ و الخصلة المؤدّية إلى ما فيه المشقة و الشدة من النار و الهوان و العذاب بتثقيل الطاعة عليه و إيكاله إلى نفسه الأمّارة بكلّ سوء و شرّ

وَ مٰا يُغْنِي عَنْهُ و لا يكفي في نجاته من العذاب مٰالُهُ الذي جمعه في الدنيا و بخل به عن صرفه في سبيل اللّه إِذٰا تَرَدّٰى و هلك هلاكا أبديا، أو سقط في قعر جهنّم، أو في حفيرة و قبره.

و قيل: إن كلمة مٰا في قوله: مٰا يُغْنِي للاستفهام الانكاري، و المعنى: أي شيء يغني عنه ماله مع أنّه يبقى لوارثه، و لم يصحب منه شيئا في الآخرة(4).

ص: 504


1- . مناقب ابن شهرآشوب 320:3، تفسير الصافي 336:5.
2- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 337:5.
3- . تفسير روح البيان 448:10.
4- . تفسير الرازي 201:31.

في (الكافي) في تفسير الآيات عن الباقر عليه السّلام: «فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ ممّا آتاه اللّه وَ اتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ أي بأنّ اللّه يعطي بالواحدة عشرة إلى مائة ألف فما زاد فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ لا يريد شيئا من الخير إلاّ يسّره اللّه وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ بما آتاه اللّه وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ بأنّ اللّه يعطي بالواحدة عشرة إلى مائة ألف فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ لا يريد شيئا من الشرّ إلاّ يسّره له وَ مٰا يُغْنِي عَنْهُ مٰالُهُ إِذٰا تَرَدّٰى قال: و اللّه ما تردّى من جبل، و لا من حائط، و لا في بئر، و لكن تردّى في نار جهنّم»(1).

و عنه عليه السّلام في تأويله: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اتَّقىٰ و آثر بقوته، و صام حتّى وفى بنذره، و تصدّق بخاتمه و هو راكع، و آثر المقداد بالدينار على نفسه وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ و هي الجنّة و الثواب من اللّه فَسَنُيَسِّرُهُ لذلك، بأن جعله إماما في الخير و قدوة و أبا للائمّة، يسّره اللّه لِلْيُسْرىٰ» (2).

و عن (المجمع) عن ابن عباس: أنّ رجلا كانت له نخلة، فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، و كان الرجل إذا جاء فدخل الدار و سعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فنزل الرجل من النخلة حتّى يأخذ التمر من أيديهم، فإن وجدها في فيّ أحدهم أدخل إصبعه حتى يخرج التمر من فيه، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله(3) فقال صلّى اللّه عليه و آله لصاحب النخلة: «بعني نخلتك هذه بنخلة في الجنّة» فقال: لا أفعل، و انصرف، فمضى إليه أبو الدّحداح و اشتراها منه(4). و في رواية: اشتراها منه بحائطه(5). و في رواية: بأربعين نخلة(6).

و أتى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، خذها و أجعل لي في الجنّة الحديقة التي قلت لهذا و لم يقبلها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لك في الجنة حدائق و حدائق»(7).

و في رواية ابن عباس: فذهب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، إنّ النخلة قد صارت لى، فهي لك فذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى صاحب الدار فقال له: «النخلة لك و لعيالك، فأنزل اللّه وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ... السورة(8).

و في رواية القمي رحمه اللّه قال: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ يعني النخلة وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ يعني بوعد رسول اللّه(9).

ص: 505


1- . الكافي 5/46:4، تفسير الصافي 338:5.
2- . مناقب ابن شهرآشوب 320:3، تفسير الصافي 338:5.
3- . مجمع البيان 759:10، تفسير الصافي 337:5.
4- . تفسير القمي 425:2، تفسير الصافي 337:5.
5- . قرب الاسناد: 1273/356، تفسير الصافي 337:5.
6- . مجمع البيان 759:10، تفسير الصافي 337:5.
7- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 337:5.
8- . مجمع البيان 760:10، تفسير الصافي 338:5.
9- . قرب الاسناد: 1273/356، تفسير الصافي 337:5، و لم نعثر عليها في تفسير القمي.

أقول: على الروايتين السورة مدنية، لأنّ أبا الدّحداح كان من الأنصار و من أهل المدينة.

إِنَّ عَلَيْنٰا لَلْهُدىٰ (12) وَ إِنَّ لَنٰا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولىٰ (13) ثمّ لمّا بيّن سبحانه فائدة الإعطاء و التقوى و الايمان و ضرر البخل و الكفر، بيّن أنّ الهداية إلى ما فيه الخير و الشرّ من شأن الربوبية بقوله:

إِنَّ الواجب عَلَيْنٰا بمقتضى الحكمة البالغة و اللّطف لَلْهُدىٰ و بيان الطريق المؤدّي إلى كلّ خير و سعادة، و إلى الشرور و الضلالة، و قد فعلنا بما لا نزيد عليه، حيث بيّنا حال من سلك كلا من الطريقين ترغيبا و ترهيبا. عن القمي: أنّ علينا أن نبيّن لهم(1).

و عن ابن عباس: يريد ارشد أوليائي إلى العمل بطاعتي و أحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي(2).

أقول: معنى حيلولته خذلانه، و إيكالهم إلى أنفسهم عقوبة على كفرهم و طغيانهم.

ثمّ بيّن سبحانه غناه عن عبادة الناس، و إنّما تكون هدايتهم للنفع العائد إليهم بقوله:

وَ إِنَّ لَنٰا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولىٰ و تلك العقبى و الاولى، لا يزيد في ملكنا اهتداؤكم، و لا يضرّنا ضلالكم، فمن طلب سعادة الدارين فليطلبها منّي، و ليعمل بطاعتي.

فَأَنْذَرْتُكُمْ نٰاراً تَلَظّٰى (14) لاٰ يَصْلاٰهٰا إِلاَّ الْأَشْقَى (15) اَلَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) اَلَّذِي يُؤْتِي مٰالَهُ يَتَزَكّٰى (18) ثمّ هدّد سبحانه الذين لا يهتدون بهداه بقوله:

فَأَنْذَرْتُكُمْ أيّها الناس فيما أنزلت إليكم من القرآن نٰاراً تَلَظّٰى و تتلهّب و تتوقّد بغضبي، و خوّفتكم بها لترتدعوا عن عصياني و مخالفتي، و اعلموا أنّه

لاٰ يَصْلاٰهٰا و لا يدخلها إِلاَّ الكافر اَلْأَشْقَى من جميع العصاة و الأبعد من كلّ خير و سعادة، و هو

اَلَّذِي كَذَّبَ بآيات ربّه و رسالة رسله وَ تَوَلّٰى و أعرض عن قبول الحق، و استنكف عن طاعة ربّه.

و عن ابن عباس في رواية اخرى: أنّها نزلت في امية بن خلف و امثاله الذين كذّبوا محمدا و الأنبياء قبله(3).

أقول: و هو جار في حقّ كلّ كافر إلى يوم القيامة، إذ لا يكون الكفر إلا بالتكذيب و لو بإنكار ضروري من ضروريات الدين، و مقتضى الحصر أن لا يدخل النار من كان مؤمنا عاصيا و لا يبعد ذلك، نعم

ص: 506


1- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 338:2.
2- . تفسير الرازي 202:31.
3- . تفسير الرازي 202:31.

بعض المعاصي يوجب ذهاب الايمان عن قلب المؤمن، كترك الصلاة و الزكاة و الحجّ، فيحشر في صفّ الكفار.

و قيل: إنّ المراد بالأشقى هو الشقيّ، و بالصلي الدخول مع الخلود(1). و عن (المجمع): الأشقى هو صاحب النخلة(2). و عن القمي: يعني هذا الذي بخل على رسول اللّه(3).

و عن الصادق عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «في جهنم واد فيه نار لا يصلاها إلاّ الأشقى، يعني فلان الذي كذّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في علي عليه السّلام و تولّى عن ولايته» ثمّ قال: «النيران بعضها دون بعض، فما كان من نار هذا الوادي فللنصّاب»(4).

وَ سَيُجَنَّبُهَا و يبعد عنها بحيث لا يسمع حسيسها المؤمن اَلْأَتْقَى و الأحرز من الشرك و العصيان، و هو

اَلَّذِي يُؤْتِي مٰالَهُ و يعطيه الفقراء و يصرفه في سبيل اللّه حال كونه يَتَزَكّٰى و يقصد ببذله الطهارة من رجس الذنوب و دنس البخل، و هو أبو الدّحداح، كما عن (المجمع)(5) و القمي(6).

وَ مٰا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ (19) إِلاَّ ابْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ (20) ثمّ بيّن سبحانه خلوص نيّته في البذل لوجه اللّه بقوله:

وَ مٰا لِأَحَدٍ ممّن يعطيه المال عِنْدَهُ شيء مِنْ نِعْمَةٍ و منّة يكون من شأنها أن تُجْزىٰ و تكافأ فيقصد باعطائه مجازاتها، فما يكون إعطاؤه و بذله لغرض من الأغراض

إِلاَّ بغرض واحد و هو اِبْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الذي هو اَلْأَعْلىٰ و الأرفع من كلّ موجود ذاتا و صفاتا.

في ردّ بعض العامة

ثمّ لمّا كان طلب ذات اللّه تعالى محالا، كان التقدير: ابتغاء رضا ذات الربّ أو ثوابه، و إمكان حبّ ذات الربّ، لا يوجب صحّة طلب الذات، كما ادّعاها بعض العامة(7).

نعم لا يحتاج في قوله: إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ إلى تقدير شيء في الآية، لأنّ الإطعام لوجه اللّه معناه الإطعام لأنّه مستحقّ للطاعة، كما عن أمير المؤمنين: «عبدتك لا خوفا من نارك، و لا طمعا في ثوابك، بل لأنّك مستحق للعبادة»(8).

فظهر الفرق بين قوله: أطعت اللّه ابتغاء لوجهه، و بين القول: بانّي أطعت اللّه لوجهه، و أنّ الخلوص

ص: 507


1- . تفسير روح البيان 450:10.
2- . مجمع البيان 760:10، تفسير الصافي 338:5.
3- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 338:5.
4- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 338:5.
5- . مجمع البيان 760:10، تفسير الصافي 339:5.
6- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 339:5.
7- . تفسير الرازي 206:4، و 206:31.
8- . بحار الأنوار 14:41 و 278:72 «نحوه».

في الثاني أكمل من الأول، و لا ينافي هذه الدرجة من الخلوص وجود الخوف من العقاب، أو الرجاء للثواب، فانّهما في المرتبة المتأخّرة، كما كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جميع المراتب من الخلوص.

و من المعلوم أنّ من كان له جميع المراتب أفضل و أكمل ممّن كان له مرتبة الرجاء للثواب، فما ذكرنا ظهر فساد ما حكاه الفخر الرازي عن أبي بكر الباقلاني في هذه الآية من قوله: إنّ الآية الواردة في شأن علي عليه السّلام إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً * إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ رَبِّنٰا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (1) و هذه الآية الواردة في حقّ أبي بكر إِلاَّ ابْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ * وَ لَسَوْفَ يَرْضىٰ فدلّت الآيتان على أنّ كلّ واحد منهما فعل ما فعل لوجه اللّه، إلاّ أنّ آية عليّ يدلّ على أنّه فعل ما فعل لوجه اللّه و للخوف من يوم القيامة على ما قال: إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ رَبِّنٰا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً و أمّا آية أبي بكر فانّها دلّت على أنّه فعل ما فعل لمحض وجه اللّه من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبته في ثواب أو رهبته من عقاب، فكان مقام أبي بكر أعلى و أجلّ(2). مع أنّ نزول الآية في حقّ أبي بكر غير ثابت، و إنّما حكاه الفخر الرازي عن القفّال الذي هو أحد مفسّري العامة، فانّه قال: نزلت هذه السورة في أبي بكر و إنفاقه على المسلمين، و في اميّة بن خلف و بخله و كفره باللّه(3).

و لا يقاوم قول هذا الناصب قول ابن عباس الذي هو حبر هذه الامة و استاذ المفسّرين من أنّها نزلت في حقّ أبي الدّحداح و البخيل الذي كان يدخل إصبعه في فم صغار الفقير ليخرج ثمر نخلته من فيهم، كما مرّ عن (المجمع)(4).

و روى الفخر الرازي عنه أنّه نزلت في امية بن خلف و أمثاله الذين كذّبوا محمّدا و الأنبياء قبله(5) ، و لم يحك عنه القول بأنّ المراد بالأتقى أبو بكر.

نعم روى بعض العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّ ببلال بن رباح(6) الحبشي و هو يقول: أحد فقال عليه السّلام: «أحد يعني اللّه الأحد ينجيك» ثمّ قال، أبي بكر: إنّ بلالا يعذّب في اللّه» فعرف مراده، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلا من ذهب، و مضى به إلى اميّة بن خلف، فقال له: أ تبيعي بلالا؟ فقال: نعم، فاشتراه و أعتقه، فقال المشركون: ما أعتقه ابو بكر إلاّ ليد كانت له عنده، فنزلت(7).

أقول: الظاهر من الآية مدح الأتقى الذي يؤتي ماله في سبيل اللّه، و هو موافق لإعطاء أبي الدّحداح،

ص: 508


1- . الإنسان: 9/76 و 10.
2- . تفسير الرازي 205:31.
3- . تفسير الرازي 197:31.
4- . مجمع البيان 759:10.
5- . تفسير الرازي 202:31.
6- . في النسخة: رياح.
7- . تفسير أبي السعود 168:9، تفسير روح البيان 451:10.

لا لاعتاق أبي بكر، فانّ الاعتاق ليس بدلا و إعطاء للغير، بل هو تحرير و فكّ ملك.

وَ لَسَوْفَ يَرْضىٰ (21) ثمّ وعد سبحانه الأتقى الباذل ماله في سبيل اللّه بالثواب المرضي مقرونا باليمين بقوله:

وَ لَسَوْفَ يَرْضىٰ ذلك الاتقى بما يؤتيه اللّه من الثواب في الآخرة.

قيل: إنّ المعنى إلاّ ابتغاء رضا ربّه، و و اللّه لسوف يرضى الربّ عنه(1). و فيه: أنّ رضا اللّه لا تأخير فيه، و إنّما التأخير في الثواب الاخروي، و هو وعد بنيل جميع ما يبتغيه و يطلبه من الثواب على أكمل الوجوه و أجملها.

قال بعض العامة: لم ينزل هذا الوعد إلاّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قوله: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ (2) و لأبي بكر هاهنا(3). و فيه: أنّ الآيات الدالة على وعد المؤمنين عموما بثواب فيه رضاهم كثيرة، و ليس في خصوصية التعبير دلالة على فضيلة من وعده اللّه بأن يرضيه بثوابه إذا أدخله الجنّة بهذا التعبير على غيره من المؤمنين الذين قال في حقّهم رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ (4) بل في هذا التعبير و في قوله: اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً (5) احتمال فضيلة خاصة، لاحتمال كون المراد راضية و مسرورة بلقاء اللّه و الوصول إلى مقام الرضوان، و الآية المذكورة كالنصّ في إرادته رضاءه بالثواب و دخوله في الجنّة، مع أن ادّعاء كون نزول الآية في حقّ أبي بكر ممنوع أشدّ المنع، حشرهم اللّه معه بتكلّفهم في إثبات فضيلة له مع أنّه خرط القتاد، بل تمسّكهم بأمثاله كتمسّك الغريق المتشبّث بكلّ حشيش.

ص: 509


1- . تفسير روح البيان 452:10.
2- . الضحى: 5/93.
3- . تفسير روح البيان 452:10.
4- . المائدة: 119/5.
5- . الفجر: 28/89.

ص: 510

في تفسير سورة الضحى

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الضُّحىٰ (1) وَ اللَّيْلِ إِذٰا سَجىٰ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة و الليل المتضمّنة لبيان كون الدنيا و الآخرة للّه، و فضيلة المؤمنين المنفقين في سبيل اللّه خالصا لوجهه، و أنّ اللّه يرضيهم في الآخرة بثوابه، نظمت سورة الأضحى المتصدّرة بالأيمان المناسبة لما صدر ما قبلها من الايمان المتضمّنة لبيان كون الآخرة خيرا من الدنيا، و لمنّته على رسوله، و فيه(1) على الانفاق على الفقير، و وعده بإعطائه ما يرضى به من الدرجات العالية التي يغبطه بها الأولون و الآخرون، و الشفاعة التي هي المقام المحمود، و غيرها من النّعم التي لا تدركها العقول، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالأيمان البالغة بقوله:

وَ الضُّحىٰ و بوقت ارتفاع الشمس و تجلّي النهار

وَ اللَّيْلِ إِذٰا سَجىٰ و سكن ظلامه و لا يزيد و لا ينقص إلى طلوع الفجر، و قيل: يعني إذا سكن أهله(2) ، و قيل: إذا أظلم(3). و عن ابن عباس: إذا غطّى الدنيا بالظّلمة(4).

قال الفخر الرازي: سورة وَ اللَّيْلِ سورة أبي بكر، و سورة وَ الضُّحىٰ سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما قدّم اللّه الليل على النهار في سورة أبي بكر، لأنّ أبا بكر سبقه كفر، و في هذه السورة قدّم الضحى لأنّ الرسول ما سبقه كفر، و الإشارة إلى أنّه [إذا] ذكرت الليل أولا و هو أبو بكر، وجدت بعده النهار و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله، إن ذكرت أوّلا الضحى و هو محمد، وجدت بعده الليل و هو أبو بكر(3).

أقول: على تقدير تسليم كون سورة وَ اللَّيْلِ سورة أبي بكر، يحتمل كون النّكتة في تقديم الليل فيها على النهار الإشعار بظهور الظّلمة الظلماء بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و بعد الظلمة ينجلي نور ولاية أوصيائه في آخر الزمان، و النّكتة في تقديم الضحى في هذه السورة على الليل الإشارة إلى ظهور نور

ص: 511


1- . كذا، و الظاهر: و حثه.
2- . تفسير أبي السعود 169:9، تفسير روح البيان 453:10. (3و4) . تفسير الرازي 207:31.
3- . تفسير الرازي 208:31.

محمّد و دينه أولا و ظهور الطّحية العمياء بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و في التكنية عن أبي بكر بالليل، و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بالنهار و الضحى، على اعترافه، إشارة إلى أنّ أبا بكر باطنه ضدّ باطن الرسول، فانّه ظلمة محضة، كما أنّ الرسول نور محض، و كما أنّ الرسول أضاء الدنيا بنور علمه و هدايته، كذلك أظلم أبو بكر الدنيا بظلمة جهله و غوايته.

و قيل: إنّ نكتة تقديم الليل في سورة و تقديم الضحى في سورة الاشارة إلى أنّ لكلّ منهما شرف و فضيلة، و أنّ بهما ينتظم أمر العالم(1) ، فانّ المراد بالضّحى جميع النهار، و بالليل جميعه.

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المراد بالضحى هو الضحى الذي كلّم اللّه فيه موسى و بالليل(2) ليلة المعراج»(3).

و قيل: إنّ المراد بالضحى الضحى الذي ألقى فيه السّحرة سجّدا، حيث قال تعالى: وَ أَنْ يُحْشَرَ النّٰاسُ ضُحًى (4).

مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولىٰ (4) وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ (5) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ و ما بالغ في تركك بالحطّة عن درجة القرب و الكرامة و الوحي وَ مٰا قَلىٰ و ما أبغضك(5) بتركك و روى بعض العامّة، بل نسب إلى مفسّريهم: أنّه إبطاء [الوحي] عليه أربعين ليلة، فشكا ذلك إلى خديجة، فقالت: لعلّ ربّك نسيك أو قلاك(6).

و روى بعضهم: أنّ مشركي قريش أرسلوا إلى يهود المدينة و سألوهم عن أمر محمد صلّى اللّه عليه و آله، فقالت لهم اليهود: سلوه عن أصحاب الكهف، و عن قصّة ذي القرنين، و عن الرّوح، فان أخبركم عن قصّة أهل الكهف، و قصّة ذي القرنين، و لم يخبركم عن أمر الروح، فاعلموا أنّه صادق. فجاءه المشركون سألوه عنها، فقال: ارجعوا سأخبركم غدا» و لم يقل: إن شاء اللّه، فاحتبس الوحي عنه، فقال المشركون:

إنّ محمدا ودّعه ربّه و قلاه(7) ، فنزلت السورة.

و روى بعضهم، أنّ جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير و مات، فمكث نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال لخادمته: «يا خولة، ما حدث في بيتي، إنّ جبرئيل لا يأتيني» قالت خولة: فكشفت

ص: 512


1- . تفسير الرازي 207:31.
2- . في النسخة: و بالليلة.
3- . تفسير أبي السعود 169:9.
4- . تفسير روح البيان 452:10، و الآية من سورة طه: 59/20.
5- . زاد في النسخة: كي.
6- . تفسير الرازي 209:31.
7- . تفسير روح البيان 454:10.

البيت، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فاذا جرو ميت، فأخذته و القيته خلف الجدار، فجاء نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله يرتعد، و كان إذا انزل الوحي استقبلته الرّعدة، فقال: «يا خولة، دثّريني، فأنزل اللّه هذه السورة، فلمّا نزل جبرئيل سأله النبي صلّى اللّه عليه و آله عن سبب تأخيره، فقال: أ ما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كذب و لا صورة(1).

و عن القمي، عن الباقر عليه السّلام: «أنّ جبرئيل أبطأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانت أول سورة نزلت اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (2) ثمّ أبطأ عليه فقالت خديجة: لعلّ ربّك قد تركك فلا يرسل إليك، فأنزل اللّه تبارك و تعالى: مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ» (3) فليس الأمر كما قالوه، بل الوحي يأتيك مدّة عمرك، و تدوم محبّتي لك في الدنيا و الآخرة.

وَ لَلْآخِرَةُ الباقية الصافية عن شوائب المضارّ و الهموم و الآلام، و ما أعددته لك فيها من النّعم و الشّرف و الكرامات خَيْرٌ لَكَ و أفضل مِنَ الْأُولىٰ و الدنيا الفانية الزائلة. و عن الصادق قال:

«يعني الكرّة»(4).

وَ و اللّه لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ و عن قريب يتمّ نعمه الجسمانية و الروحانية و الظاهرية و الباطنية و الدنيوية و الاخروية عليك فَتَرْضىٰ غاية الرضا بعطاء ربّك و إفضاله.

قيل: لمّا قال سبحانه لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولىٰ كأنّه قيل: ما جهة خيريّتها؟ قال سبحانه: إنّ اللّه يعطيه في الآخرة كلّ ما يريده ممّا لا تتّسع الدنيا له(5).

عن ابن عباس، أنّه قال: ألف قصر في الجنّة من لؤلؤ أبيض، ترابه المسك، و فيها ما يليق [بها](6).

عن الصادق عليه السّلام: «يعطيك من الجنّة ما ترضى»(7).

و عنه عليه السّلام: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على فاطمة عليها السّلام و عليها كساء من ثلّة(8) الإبل و هي تطحن بيدها، و ترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه لمّا أبصرها، فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل اللّه عليّ وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ» (9).

و في رواية: قالت: «يا رسول اللّه، الحمد للّه على نعمائه، و الشكر على آلائه، فأنزل اللّه وَ لَسَوْفَ

ص: 513


1- . تفسير روح البيان 454:10.
2- . العلق: 1/96.
3- . تفسير القمي 428:2، تفسير الصافي 340:5.
4- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 340:5.
5- . تفسير الرازي 212:31.
6- . تفسير الرازي 212:31.
7- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 340:5.
8- . الثّلّة: الصوف.
9- . مجمع البيان 765:10، تفسير الصافي 340:5.

يُعْطِيكَ» (1) الآية.

و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ هذا هو الشفاعة في الامة»(2) و روي أيضا عن ابن عباس(3).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية قال: «إذا لا أرضى و واحد من امّتي في النار»(4).

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «رضا جدي أن لا يدخل في النار موحّد»(5).

و رووا عن الباقر عليه السّلام: «أهل القرآن يقولون: أرجى آية في كتاب اللّه يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ (2) و إنا أهل البيت نقول: أرجى آية قوله: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ و اللّه إنّها الشفاعة، ليعطاها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتّى يقول: رضيت»(3).

و عن محمد بن الحنفية أنّه قال: يا أهل العراق، تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ و إنّا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب اللّه وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ...

الآية، هي و اللّه الشفاعة، ليعطينّها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتى يقول: رضيت»(4).

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ (7) وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ (8) ثمّ قرّر سبحانه حبّه إياه بتعداد نعمه السابقة عليه بقوله:

أَ لَمْ يَجِدْكَ ربّك يا محمد، و لم يعلمك في بدو ولادتك من امّك يَتِيماً و صغيرا منقطعا عن أبيك بموته فَآوىٰ و كفلك عبد المطلب و أبا طالب في الأثر، إنّ عبد اللّه بن عبد المطلب توفّي بالمدينة و امّ رسول اللّه حامل به، ثمّ ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان مع جدّه عبد المطلب و امّه آمنه ستّ سنين، ثمّ ماتت امّه فكان عند جدّه سنتين، فلمّا قربت وفاة جدّه عبد المطلب أوصى به أبا طالب و هو ابن ثمان سنين، و إنّما أوصاه به لأنّ أبا طالب و عبد اللّه كانا من امّ واحدة، فكان أبو طالب يكفل رسول اللّه بعد جدّه إلى أن بعثه اللّه فقام بنصرته إلى حين وفاته، فلم يظهر على رسول اللّه يتم، فكان هذا نعمة عظيمة من اللّه عليه(5).

روي انه قال أبو طالب يوما لأخيه العبا: أ لا اخبرك بما رأيت من محمد؟ فقال: بلى. فقال: إنّي ضممته إليّ، فكنت لا افارقه ساعة من ليل أو نهار، و لا ائتمن عليه أحد حتى أنّي كنت انوّمه في فراشي، فأمرته أن يخلع ثيابه و ينام معي، فرأيت الكراهة في وجهه، لكنّه كره أن يخالفني، فقال: «يا عمّاه، اصرف وجهك عنّي حتّى أخلع ثيابي، إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي» فتعجّبت من

ص: 514


1- . مناقب ابن شهرآشوب 342:3، تفسير الصافي 341:5. (2-3-4-5) . تفسير الرازي 212:31.
2- . الزمر: 53/39.
3- . تفسير الرازي 212:31.
4- . مجمع البيان 765:10، جوامع الجامع: 544، تفسير الصافي 341:5.
5- . تفسير الرازي 214:31.

قوله، و صرفت بصري حتى دخل الفراش، فلمّا دخلت معه الفراش إذا بيني و بينه ثوب، و اللّه ما أدخلته فراشي، فاذا هو في غاية اللين و طيب الرائحة، كأنّه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده، فما كنت أرى شيئا، و كثيرا ما كنت افتقده من فراشي، فاذا قمت لطلبه ناداني: «[ها] أنا يا عمّ» فأرجع، و لقد كنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني، و ذلك عند مضيّ بعض الليل، و كنّا لا نسمّي على الطعام و الشراب، و لا نحمد بعده، و كان يقول في أوّل الطعام: بسم اللّه الأحد، فاذا فرغ من طعامه قال:

الحمد للّه، فتعجّبت منه، ثمّ لم أر منه كذبة و لا ضحكا و لا جاهلية، و لا وقف مع صبيان يلعبون(1).

سئل الصادق عليه السّلام: لم أوتم النبي صلّى اللّه عليه و آله عن أبويه؟ فقال: «لأن لا يكون لمخلوق عليه حقّ»(2).

أقول: يعني الحقّ العظيم الذي يكون تالي حقّ اللّه.

و قيل: إنّ المراد باليتيم الفريد في الفضل و العزّ عديم النظير في قريش، أو في البشر، فآواك و جعل لك من تأوى إليه و هو أبو طالب.

و في (الكشاف): و من بدائع التفسير أنّه من قوله: درّة يتيمة، و المعنى أ لم يجدك واحدا في قريش عديم النظير، أي في العزّ و الشرف، فآواك في دار أعدائك، فكنت بين القوم معصوما محروسا(3).

و عن العياشي عن الرضا عليه السّلام: «يَتِيماً فردا لا مثل لك في المخلوقين فَآوىٰ الناس إليك»(4).

و في (العيون) عنه ما يقرب منه(5).

وَ وَجَدَكَ و رآك ضَالاًّ عن معالم النبوة و أحكام الشريعة، غافلا عنها فَهَدىٰ إليها، كما عن ابن عباس(6).

و قيل: يعني ضالا عن النبوة، يعني ما كنت تطمعها فهداك اللّه إليها(7).

و قيل: يعني وجدك خاليا عن العلم و المعارف في بدو خلقتك، فهداك بأن أعطاك العقل الكامل و المعرفة الكاملة(8).

و قيل: يعني وجدك راغبا إلى فعال الجاهلية فهداك و حال بينك و بينها(7).

روي عن علي عليه السّلام أنّه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما هممت بشيء ممّا كان أهل الجاهلية يعملون به غير

ص: 515


1- . تفسير الرازي 214:31.
2- . مجمع البيان 765:10، تفسير الصافي 342:5.
3- . الكشاف 767:4 «نحوه»، تفسير روح البيان 457:10.
4- . مجمع البيان 767:10، تفسير الصافي 341:5.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/199:1، تفسير الصافي 341:5.
6- . تفسير الرازي 215:31 و 216. (7و8) . تفسير الرازي 215:31 و 216.
7- . تفسير الرازي 217:31.

مرتين، كلّ ذلك يحول اللّه بيني و بين ما اريد من ذلك، ثمّ ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني اللّه برسالته»(1).

أقول: المذهب الذي عليه أهل الحقّ أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله معصوم من الهمّ بالمعصية من أوّل عمره إلاّ أن يحمل السوء في الرواية على ترك الاولى.

و قيل: إنّ العرب تسمّي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة، و المعني وجدك في تلك البلاد كشجرة في مفازة الجهل، لا يحمل ثمرة الايمان إلا أنت، فهديت بك الخلق(2).

و قيل: يعني وجدك ضالا و منفردا عن الضالين مجانبا لدينهم، فهديك إلى معاشرتهم، و دعوتهم إلى الدين المبين(3).

و قيل: وجدك ضالا عن مرضعتك حليمة حين أرادت أن تردّك إلى جدّك، فدخلت على هبل فشكت إليه فتساقطت الأصنام، و سمعت صوتا يقول: إنّما هلاكنا بيد هذا الصبي(4).

و روي أنّه عليه السّلام قال: «ضللت عن جدّي عبد المطلب و أنا صبيّ ضائع، كاد الجوع يقتلني، فتعلّق باستار الكعبة و هو يقول:

يا ربّ، ردّ ولدي محمدا [اردده ربي و اصطنع عندي يدا]

فما زال يردّد هذا عند البيت حتّى أتاه أبو جهل على ناقة و محمّد بين يديه، و هو يقول: لا تدري ما ذا ترى من ابنك؟ فقال عبد المطلب: و لم؟ قال: إنّي أنخت الناقة و أركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلمّا أركبته أمامي قامت الناقة»(5).

و عن ابن عباس أنّه قال: ردّه اللّه إلى جدّه بيد عدوّه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه(6).

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله خرج مع غلام خديجة، فأخذ كافر بزمام بعيره حتى ضلّ، فأنزل اللّه تعالى جبرئيل في صورة آدمي فهداه إلى القافلة(7).

و قيل: إنّ أبا طالب خرج به إلى الشام، فضلّ عن الطريق، فهداه اللّه إليه(8).

و قيل: يعني وجدك ضالا و مغمورا في الكفّار، فقواك اللّه حتّى أظهرت دينك(9).

و عن الرضا عليه السّلام: «و وجدك ضالا في قوم لا يعرفون فضل نبوتك فهداهم اللّه بك»(2).

و في رواية عنه عليه السّلام: «وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ يعني عند قومك فَهَدىٰ أي هداهم إلى معرفتك»(3).

ص: 516


1- . تفسير الرازي 217:31. (2و3) . تفسير الرازي 216:31. (4-5-6-7-8-9) . تفسير الرازي 216:31.
2- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 341:5، و لم ينسباه إلى الإمام الرضا عليه السّلام.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/100:1، تفسير الصافي 341:5.

وَ وَجَدَكَ و رآك عٰائِلاً و فقيرا و عديما لا مال لك فَأَغْنىٰ ك بتربية أبي طالب، ثمّ بمال خديجة، ثمّ باعانة الأنصار، ثمّ بالغنائم.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله دخل على خديجة و هو مضموم، فقالت له: ما لك؟ فقال: «الزمان زمان قحط، فان أنا بذلت المال ينفد مالك فأستحي منك، و إن لم أبذل أخاف اللّه تعالى» فدعت خديجة قريشا و فيهم أبو بكر، قال أبو بكر: فأخرجت خديجة دنانير و صبّتها حتّى بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدّامي لكثرة المال، ثمّ قالت: اشهدوا أنّ هذا المال مال محمد، إن شاء فرّقه، و إن شاء أمسكه(1).

و قيل: يعني أغني قلبه بالقناعة، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «الغني غنى النفس»(2). و عن الرضا عليه السّلام: وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ يقول بأن جعل دعاءك مستجابا»(3).

و عن القمي: يعني فأغناك بالوحي، فلا تسأل عن شيء أحدا(4).

و عن الرضا عليه السّلام: «و وجدك عائلا تعول أقواما بالعلم، فأغناهم اللّه بك»(5).

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ (6) وَ أَمَّا السّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ (7) وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) ثمّ لمّا منّ سبحانه على رسوله بإيوائه و رعاية حاله في اليتم، أمره بشكر تلك النعمة بقوله:

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ و لا تضجره بكلام تكسر قلبه، و عامل معه كما عاملت معك.

وَ أَمَّا السّٰائِلَ سواء سأل المال أو العلم أو غيرهما فَلاٰ تَنْهَرْ و لا تستقبله بكلام يضجره.

و عن القمي رحمه اللّه قال: فلا تطرده(8) ، قيل: المخاطبة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و المعنى للناس(9).

وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ من الغنى و النبوة و الهداية أو الكتاب فَحَدِّثْ و أظهرها بين الناس.

عن الصادق عليه السّلام: «معناه فحدّث بما أعطاك اللّه و فضلك و رزقك و أحسن إليك و هداك»(10).

و عن الحسين بن علي عليهما السّلام: «أمره أن يحدّث بما أنعم اللّه عليه من دينه»(9).

و قيل: يعني إذا وفّقك اللّه لرعاية حقّ اليتيم و السائل، فحدّث بذلك التوفيق الذي هو نعمة اللّه عليك ليقتدي الناس بك(10).

ص: 517


1- . تفسير الرازي 218:31.
2- . تفسير روح البيان 458:10.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/200:1، تفسير الصافي 342:5.
4- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 342:5.
5- . مجمع البيان 767:10، تفسير الصافي 342:5.
6- . المحاسن: 115/218، تفسير الصافي 342:5.
7- . تفسير الرازي 220:31.
8- . في المصدر و تفسير الصافي: أي لا تظلم.
9- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 342:5.
10- . مجمع البيان 768:10، تفسير الصافي 342:5.

روى بعض العامة عن الحسين بن علي عليهما السّلام أنّه قال: «إذا عملت خيرا فحدّث إخوانك ليقتدوا بك»(1).

و رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن الصحابة، فأثنى عليهم و ذكر خصاله، فقالوا له: فحدّثنا عن نفسك. فقال: «مهلا، فقد نهى اللّه عن التزكية» فقيل له: أ ليس اللّه تعالى يقول: وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ؟ فقال: «فإني احدّث: كنت إذا سألت اعطيت، و إذا سكتّ ابتدئت، و بين الجوانح علم جمّ فاسألوني(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا أنعم اللّه على عبده بنعمة و ظهرت عليه سمّي حبيب اللّه محدثا بنعمة اللّه، و إذا أنعم اللّه على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمّي بغيض اللّه مكذبا بنعمة اللّه»(3).

قيل: إنّما قدّم اللّه حقّ اليتيم و الفقير على حقّ نفسه للإشعار بأنّه غنيّ، و اليتيم و الفقير محتاجان، فإذا كان كذلك فتقديم المحتاج اولى، و إنّما قال: فَحَدِّثْ و لم يقل: فأخبر، لدلالة الحديث على الإعادة مرّة بعد اخرى لئلا ينساه(4).

قد مرّ ثواب تلاوة السورة المباركة، و الحمد للّه على التوفيق لتفسيرها.

ص: 518


1- . تفسير الرازي 220:31.
2- . تفسير الرازي 220:31.
3- . الكافي 2/438:6، تفسير الصافي 342:5.
4- . تفسير الرازي 220:31.

في تفسير سورة الشرح

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة وَ الضُّحىٰ المتضمّنة لبيان منّته تعالى على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، نظمت سورة الانشراح المتضمّنة أيضا لبيان بعض منّته الاخرى، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في تعديد بعض نعمه على رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

أَ لَمْ نَشْرَحْ و لم نوسّع لَكَ يا محمد صَدْرَكَ و لم نفسح قلبك للعلم و الحكمة و تلقّي الوحي؟ بلى وسّعناه بحيث صار خزانة علمي، و محيطا بعوالم الملك و الملكوت، و مطّلعا على أسرار السماوات و الأرض.

روي أن جبرئيل أتاه و شقّ صدره، و أخرج قلبه و غسله و أنقاه، ثمّ ملأه علما و إيمانا و وضعه في صدره(1).

أقول: لعلّ غسل قلبه و إنقاءه كناية عن تقويته لتحمّل ما فوق طاقة البشر من العلوم و الأسرار و المعارف، و تطهيره عن الميل إلى غير اللّه، و التوجه إلى الراحة و اللذائذ الدنيوية و قبول الأهواء الرائعة النفسانية. و قد أشار سبحانه إلى مرتبة منه بقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً (2).

و قد سبق في تفسير الآية و أنّه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قيل له: أ ينشرح الصدر؟ قال: «نعم» قالوا: يا رسول اللّه، و هل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: «نعم، التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الإعداد للموت قبل نزوله»(3).

أقول: فمن كان قلبه متوجّها إلى اللّه معرضا عن غيره لعلمه بحقارة الممكنات و عظمة خالقها، صار منزّها عن كلّ دنس مطهّرا عن كلّ رجس، منوّرا بأنوار المعارف، و مملوءا بالعلم و الحكمة.

ص: 519


1- . تفسير الرازي 2:32.
2- . الأنعام: 125/6.
3- . تفسير الرازي 3:32.

وَ وَضَعْنٰا عَنْكَ وِزْرَكَ (1) اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (2) وَ رَفَعْنٰا لَكَ ذِكْرَكَ (3) ثمّ منّ سبحانه عليه بتخفيف أعباء الرسالة بقوله:

وَ وَضَعْنٰا و حططنا عَنْكَ وِزْرَكَ و ثقلك

اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قيل: إنّ الحمل إذا كان في غاية الثقل سمع للظهر صوت خفيّ يقال له النقيض(4). فوصف الثّقل بكونه منقضا، كناية عن كونه في غاية الثّقل، و ليس هو إلاّ ثقل أعباء الرسالة، و قد خفّفه اللّه عليه بتقوية قلبه، و إمدادا بعلي بن أبي طالب عليه السّلام و الملائكة المسوّمين.

و قيل: إنّ المراد بالوزر و ذنوب امّته، و المراد بوضعها وعده بقبول شفاعته فيهم حتّى يرضى(2).

قيل: إنّ عطف وَ وَضَعْنٰا على معنى أَ لَمْ نَشْرَحْ و المعنى: إنّا شرحنا لك صدرك، و إنّا وضعنا عنك وزرك(3).

وَ إنا رَفَعْنٰا و علونا لَكَ ذِكْرَكَ بحيث تذكر إذا ذكرت، كما عن القمّي(4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «قال: لي جبرئيل: قال اللّه عزّ و جلّ: إذا ذكرت ذكرت معي»(5).

و قيل: إنّه تعالى رفع ذكره(6) بالنبوة، و شهر اسمه في السماوات و الأرضين، و كتبه على العرش، و في الكتب السماوية المتقدّمة، و قرن ذكره بذكره في القرآن حيث قال: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (7) و قال: وَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (8) إلى غير ذلك(9).

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) ثمّ لمّا كان المشركون يعيّرونه بالفقر حتّى وقع في قلبه أنّ فقره مانع عن إسلام المتكبّرين، سلبه سبحانه بقوله:

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ و الضيق الذي أنت فيه يُسْراً وسعة كاملة في الدنيا، فلا تحزن بالفقر الذي يطعنك به الكفرة، كذا قيل(10).

ثمّ بالغ سبحانه في تسليته بتكرار القضية تأكيدا بقوله:

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قال الفرّاء و الزجاج:

إنّ العسر المعرف بال منصرف إلى الجنس لعدم العهد و هو حقيقة واحدة، و أمّا كلمة يُسْراً لمّا كان منكرا قابلة لإرادة نوعين منه، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «لن يغلب عسر يسرين»(11).

و عن ابن عباس أنّه قال: يقول اللّه، خلقت عسرا واحدا بين يسرين، فلن يغلب عسر يسرين(12).

قيل: إنّ تنكير اليسر دالّ على عظمته، كأنّه قال: [إنّ] مع العسر يسرا عظيما(13) ، و المراد بالمعية مع كونهما ضدّين التعاقب بغير فصل، أو مع الفصل بزمان قليل.

ص: 520


1- . تفسير الرازي 4:32.
2- . تفسير أبي السعود 172:9.
3- . تفسير القمي 428:2، تفسير الصافي 343:5.
4- . تفسير الرازي 4:32.
5- . مجمع البيان 771:10، تفسير الصافي 343:5.
6- . في النسخة: ذكرنا.
7- . النساء: 59/4.
8- . التوبة: 62/9.
9- . تفسير الرازي 5:32.
10- . تفسير الرازي 6:32.
11- . تفسير الرازي 6:32.
12- . تفسير الرازي 6:32.
13- . تفسير الرازي 6:32.

فَإِذٰا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (1) وَ إِلىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) ثمّ إنّه تعالى بعد تعديد نعمه الجليلة أمره بالشكر و الاجتهاد في العبادة بقوله:

فَإِذٰا فَرَغْتَ من تبليغ الرسالة، أو من تنظيم ما هو من ضروريات معاشك، أو من المهام الدنيوية، أو من الجهاد فَانْصَبْ و أتعب نفسك في العبادة.

و قال جمع من المفسرين: يعني إذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب نفسك في الدعاء(2)

وَ إِلىٰ مسألة رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ و بقلبك إليه فتوجّه.

عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «فاذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب إلى ربّك في الدعاء، و ارغب إليه في المسألة يعطك»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الدعاء في دبر الصلاة و أنت جالس»(3).

و قيل: يعني إذا فرغت من عبادة عقبها باخرى و أوصل بعضها ببعض، و لا تخلّ وقتا من أوقاتك فارغا لم تشغله بعبادة(3).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «فاذا فرغت من نبوّتك، فانصب عليا عليه السّلام، و إلى ربّك فارغب في ذلك»(4).

و عنه عليه السّلام في حديث قال: «يقول اللّه: فَإِذٰا فَرَغْتَ فَانْصَبْ علمك و أعلن وصيّك، و أعلمهم فضله علانية، فقال: من كنت مولاه...» قال: «و ذلك حين أعلم بموته نعيت إليه نفسه»(5).

أقول: يحتمل أن تكون هذه الأخبار بيان مصداق العبادة التي وجب إتعاب النفس فيها بعد الفراغ من العبادة، و المراد إذا فرغت من تبليغ الرسالة فأتعب نفسك فيما هو الأهمّ بعده، و هو تعيين الخليفة، فظهر أنّ صحّة مضمون الأخبار ليست موقوفة على قرابة، فانصب بكسر الصاد من النّصب بالسكون فنسبة الزمخشري المتعصّب قراءة (فانصب) بالكسر و تفسيره بالأمر بنصب عليّ عليه السّلام للإمامة إلى بدع الشّيعة من الأغلاط.

ثمّ اعلم أنّ قوله -: بأنّه لو صحّ هذا للرافضي لصحّ للناصبي أن يقرأ هكذا، و يجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض عليّ و عداوته (7)- ممّا تضحك به الثكلى؛ لأنّ جواز بغض عليّ عليه السّلام مخالف لضرورة الاسلام و الأخبار المتواترة الدالة على وجوب حبّه و ولايته، نعوذ باللّه من خبث الطينة، و عمى القلب، و سوء السريرة، و الضلال عن الحقّ.

ص: 521


1- . الكشاف 772:4.
2- . تفسير الرازي 7:32، تفسير أبي السعود 173:9، تفسير البيضاوي 607:2. (2و3) . مجمع البيان 772:10، تفسير الصافي 344:5.
3- . تفسير الرازي 7:32.
4- . تفسير القمي 429:2، و تفسير الصافي 344:5، عن الصادق عليه السّلام.
5- . الكافي 3/233:1، و تفسير الصافي 344:5، عن الصادق عليه السّلام.

عن الصادق عليه السّلام: «و لا يجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلاّ الضحى و أ لم نشرح، و أ لم تر كيف و لإيلاف قريش»(1).

و قد سبق ثواب قراءتها في سورة (و الشمس) و في رواية: «من قرأها فكأنّما جاءني و أنا مغتمّ ففرّج عنّي»(2).

قد تمّ تفسير السورة المباركة.

ص: 522


1- . مجمع البيان 827:10، تفسير الصافي 345:5.
2- . تفسير أبي السعود 173:9.

في تفسير سورة التين

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) ثمّ لمّا ختمت السورتان المتضمّنتان لمنن اللّه على أشرف الخلق و أفضل البشر، نظمت سورة التين، المتضمّنة لبيان منّته على عموم البشر بتحسين خلقهم، و على مؤمنيهم بالأجر العظيم، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بخير الفواكه و أحمدها بقوله:

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ المشهورين، كما عن ابن عباس أنّه قال: هو تينكم و زيتونكم هذا(1) ، أمّا القسم بالتين فلفضله و خواصّه، حيث إنّه غذاء و فاكهة و دواء. قيل: إنّ الأطباء قائلون بأنّه طعام لطيف سريع الهضم، يلين الطبع، و يسمن البدن، و يقلل البلغم، و يطهّر الكليتين، و يزيل الرمل المتكون في المثانة و يفتح مسامّ الكبد و الطّحال(2).

و روي: أنّه اهدي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طبق من تين، [فاكل منه] ثمّ قال للصحابة: «كلوا. فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم، فكلوها فانّها تقطع البواسير، و تنفع من النّقرس»(3).

و عن الرضا عليه السّلام بطريق عامّي: «التين يزيد نكهة الفم، و يطوّل الشعر، و هو أمان من الفالج»(4).

و أمّا الزيتون فهي ثمرة الشجرة المباركة المذكورة في القرآن، هو أيضا غذاء و دواء و فاكهة، و دهنه كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهن فيها كالجبال، قيل: تعمّر شجرته ثلاثة آلاف سنّة، و تصبر عن الماء مدّة طويلة، و رماد و رقها ينفع العين كحلا و يقوم مقام التّوتياء(5).

و في الحديث العامي: «عليكم بالزيت، فانّه يكشف المرّة، و يذهب البلغم، و يشدّ العصب، و يمنع

ص: 523


1- . تفسير الرازي 8:32.
2- . تفسير الرازي 8:32.
3- . تفسير الرازي 8:32، و النقرس: مرض مؤلم يحدث في مفاصل القدم و في إبهامها أكثر، و يسمّى داء الملوك.
4- . تفسير الرازي 8:32.
5- . تفسير روح البيان 466:10، و التّوتياء: حجر يكتحل بمسحوقه.

الغشي، و يحسن الخلق، و يطيّب النفس، و يذهب الهمّ»(1).

و عن ابن عباس: أنّ التين و الزيتون جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية: طور تينا و طور زيتا لأنّهما منبتا للتين و الزيتون، و شرّفا لأنّ الأول محلّ عيسى بن مريم، و الثاني هو الشام، و هو مبعث أكثر الأنبياء من بني إسرائيل(2).

و قيل: إن التين مسجد دمشق، و الزيتون مسجد بيت المقدس(3).

و قيل: إنّ الاول مسجد أصحاب الكهف، و الثاني مسجد إيليا(4).

و عن ابن عباس: التين مسجد نوح النبي على الجودي، و الزيتون مسجد بيت المقدس(5) ، و إنّما سمّيت تلك المساجد بهذين الاسمين لكثرة الشجرين في مكانها(2).

و قيل: إنّ التين اسم دمشق(3). و قيل: اسم الكوفة، و الزيتون اسم بيت المقدس(8). و قيل: اسم الشام(9).

قيل: إنّما أقسم سبحانه بهذين البلدين لكثرة نعم الدنيا فيهما (10).

وَ طُورِ سِينِينَ (2) وَ هٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) ثمّ أقسم سبحانه بالطّور، و هو جبل كلّم اللّه موسى عليه بقوله:

وَ طُورِ سِينِينَ قيل: إنّ سِينِينَ و سَيْنٰاءَ اسمان للوادي الذي فيه ذلك الجبل(4).

و عن ابن عباس: أنّ سِينِينَ بمعنى الحسن بلغة الحبشة(5). و قيل: بمعنى المبارك(13). و قيل:

بمعني ذي شجر، و المراد القسم بجبل واقع بأرض حسنة و مباركة(14).

ثمّ إنّه تعالى بعد القسم بالأماكن التي يعظّمها اليهود و النصارى أقسم بالمكان الذي يعظّمه المشركون و المسلمون بقوله:

وَ هٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ و تلك القرية الآمنة من الغوائل، و هي بالاتفاق مكّة المعظّمة، و إنّما أقسم سبحانه بهذين المكانين لغاية شرفهما، بكون الأول مبعث موسى، و الثاني مبعث خاتم الأنبياء، و لكثرة النّعم الدينية فيهما.

عن الكاظم عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تبارك و تعالى اختار من البلدان أربعة، فقال:

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ * وَ طُورِ سِينِينَ * وَ هٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فالتين المدينة، و الزيتون بيت المقدس،

ص: 524


1- . تفسير روح البيان 467:10. (2و3) . تفسير الرازي 9:32. (4و5) . تفسير الرازي 9:32، تفسير أبي السعود 174:9.
2- . تفسير الرازي 9:32.
3- . تفسير الرازي 10:32، تفسير أبي السعود 174:9. (8-9) . تفسير الرازي 10:32.
4- . تفسير الرازي 10:32، تفسير روح البيان 467:10.
5- . تفسير الرازي 10:32. (13و14) . تفسير الرازي 10:32.

و طور سنين الكوفة، و هذا البلد الأمين مكة»(1).

و عنه عليه السّلام في تأويل الكلمات قال: «التين و الزيتون الحسن و الحسين عليهما السّلام، و طور سينين أمير المؤمنين عليه السّلام، و هذا البلد الأمين محمد»(2).

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (3) ثُمَّ رَدَدْنٰاهُ أَسْفَلَ سٰافِلِينَ (4) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

لَقَدْ خَلَقْنَا و أوجدنا اَلْإِنْسٰانَ كائنا فِي أَحْسَنِ ما يكون من تَقْوِيمٍ و تعديل صورة(5) و معنى، حيث سواه مستوي القامة، متناسب الأعضاء، حسن الشكل، مدبّرا في الامور، متصرّفا في الموجودات، جامعا لانموذج ما في عالم الوجود، قابلا(4) للكمالات الظاهرية و الباطنية

ثُمَّ بعد استجماعه لجميع ما يتوقّف عليه صعوده إلى أعلى علّيين رَدَدْنٰاهُ بالخذلان و سوء الأخلاق و الأعمال من أحسن تقويم و جعلناه أَسْفَلَ سٰافِلِينَ و أقبح(5) المخلوقين و أنزل الموجودين، و صيرناه إلى النار.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «وضع أبواب جهنّم بعضها أسفل من بعض، فيبدأ بالأسفل فيملا و هو أسفل سافلين»(6).

و عن ابن عباس: يريد أرذل العمر(7) ، و المعنى ثمّ جعلناه أضعف الضعفاء، و هم الزمنى الذين لا يستطيعون حيلة و لا يجدون سبيلا.

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمٰا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) ثمّ اعلم أنّه على التفسير الأول يصحّ الاستثناء المتّصل بقوله:

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ فَلَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ و ثواب غَيْرُ مَمْنُونٍ و منقطع و لا منقوص، أو المراد ثواب لا منّة فيه.

و على التفسير الثاني يكون الاستثناء منقطعا، و المعنى: و لكن الضّعفاء الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر دائم على إيمانهم و أعمالهم و صبرهم على الابتلاء بالضّعف و الهرم على مقاساة المشاقّ و تحمّل كلفة العبادة.

و عن الكاظم عليه السّلام في تأويل الآيات قال: «الانسان: الأوّل ثُمَّ رَدَدْنٰاهُ أَسْفَلَ سٰافِلِينَ ببغضه أمير

ص: 525


1- . الخصال: 58/225، معاني الأخبار: 1/364، تفسير الصافي 346:5.
2- . مناقب ابن شهرآشوب 394:3، تفسير الصافي 346:5.
3- . في النسخة: قائلا.
4- . في النسخة: و افتح. (6و7) . تفسير الرازي 11:32.
5- . في النسخة: صورتنا.

المؤمنين عليه السّلام إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا... الى آخره، قال: علي بن أبى طالب عليه السّلام»(1).

فَمٰا يُكَذِّبُكَ أيّها الانسان، و أيّ شيء يلجئك و يحملك بَعْدُ و وراء الآيات البينات و المعجزات الباهرات على التكذيب بِالدِّينِ و دار الجزاء؟ أو المراد: فما يجعلك أيّها الانسان كاذبا بسبب الدين و إنكاره بعد هذا الدليل؟ و هو خلق الانسان من نطفة من ماء مهين في أحسن تقويم، فانّ القادر على ذلك قادر على البعث و الجزاء، أو المراد: فأيّ، يكذّبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل بالدين.

أَ لَيْسَ اللّٰهُ بِأَحْكَمِ الْحٰاكِمِينَ (2) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات قدرته ببيان خلقة الانسان في احسن الصور و ردّه إلى أقبحها، أو إلى أرذل العمر، أنكر على من أنكر حكمته بإنكار البعث للجزاء بقوله:

أَ لَيْسَ اللّٰهُ الذي فعل ما فعل بِأَحْكَمِ الْحٰاكِمِينَ و أتقن من جميع المتقنين للامور صنعا و تدبيرا؟ فاذا قالوا: بلى، لعدم إمكان إنكاره، كان عليهم الاقرار بالإعادة و الجزاء؛ لأنّ إنكارهما لا يمكن إلاّ لقولهم بعجزه عن الإعادة، أو لقولهم بكونه عابثا، و كلاهما مناف للاقرار بكونه تامّ القدرة(3) و الحكمة.

و قيل: إنّ المعنى: أ ليس اللّه بأقضى القاضين؟ فهو يحكم و يقضي بينك و بين من يكذّبك في الرسالة و الإخبار بالبعث، فهو و عيد للمكذّبين(4).

روي عن أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأها يقول: «بلى، و أنا على ذلك من الشاهدين»(5).

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يأمر أصحابه أن يقولوا إذا قرءوها ذلك(6).

و روي عن أمير المؤمنين و عن الرضا عليه السّلام أنّهما لمّا قرآها قالا: «بلى، و إنّا على ذلك من الشاهدين»(7).

روى عن بعض العامة: أنّ من قرأ هذه السورة أعطاه اللّه خصلتين: العافية، و اليقين، ما دام في الدنيا [فاذا مات أعطاه اللّه] من الأجر(8) بعدد من قرأها»(8).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ (و التين) في فرائضه و نوافله، أعطى من الجنّة حيث يرضى»(9).

الحمد للّه على التوفيق لتفسيرها.

ص: 526


1- . مناقب ابن شهرآشوب 394:3، تفسير الصافي 347:5.
2- . تفسير البيضاوي 608:2، تفسير أبي السعود 176:9.
3- . في النسخة: القدر.
4- . تفسير روح البيان 470:10.
5- . مجمع البيان 777:10، تفسير أبي السعود 176:9، تفسير روح البيان 470:10.
6- . تفسير روح البيان 470:10.
7- . الخصال: 629، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 5/183:2، تفسير الصافي 347:5.
8- . في النسخة: و يعطى من الأجرة.
9- . ثواب الأعمال: 123، مجمع البيان 774:10، تفسير الصافي 347:5.

في تفسير سورة العلق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لبيان نعم اللّه على الانسان بخلقه في أحسن تقويم و أنّه مع ذلك يردّ إلى أسفل سافلين، نظمت سورة العلق المتضمّنة لبيان خلقه من أخسّ الأشياء، و ترقّيه إلى أعلى الدرجات من العلم بالكتاب و تعليمه العلوم، و طغيانه مع ذلك على اللّه العظيم، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

و لمّا ذكر سبحانه في السورتين السابقتين منّته على رسوله، ابتدأ السورة بذكر أعلى منّته عليه، و هو رسالته و إنزال الوحى إليه بقوله:

اِقْرَأْ يا محمد، ما يوحى إليك من كتاب ربّك، روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«كيف اقرأ، و ما أنا بقارئ؟» فكأنّه تعالى قال: اقرأ القرآن مفتتحا أو مستعينا (1)بِاسْمِ رَبِّكَ و إنّما وصف سبحانه ذاته المقدّسة بالربوبية و أضافها إليه ليزول الفزع عنه؛ لأنّه أول ما أنزل إليه. عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّها أوّل سورة نزلت»(2).

و ليرغّبه في طاعته، فكأنّه تعالى قال: هو الذي ربّاك حين كنت علقا، فكيف يضيّعك بعد ما صرت أشرف الموجودات.

ثمّ قيل: لمّا كانت العرب يطلقون الربّ على الصنم، و يسمّون الأصنام أربابا(3) ، وصف ذاته المقدّسة بما يخرجه عن توهّم الشركة، و بما لا يمكنهم إنكاره و إثباته للأصنام بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ كلّ شيء بقدرته، لاعترافهم بأنّ الخلق مختص باللّه وحده. و عن الباقر عليه السّلام: «الذي خلق نورك القديم قبل الأشياء»(4).

ثمّ خصّ سبحانه الانسان بالذكر لاستقلاله ببديع الصنع و التدبير، أو بيّن ما أبهم في قوله: اَلَّذِي

ص: 527


1- . تفسير الرازي 13:32.
2- . تفسير القمي 428:2، تفسير الصافي 348:5.
3- . تفسير روح البيان 472:10.
4- . تفسير القمي 430:2، تفسير الصافي 348:5.

خَلَقَ بقوله:

خَلَقَ الْإِنْسٰانَ الذي هو أعجب المخلوقات و أشرفها مِنْ عَلَقٍ و قطعات دم متكوّنة من نطف قذرة، و إنّما قال: عَلَقٍ بصيغة الجمع باعتبار معنى الانسان و كثرته، أو لمراعاة الفواصل، فنبّه سبحانه على أنّ من خلق الانسان الحي القادر القابل للكمالات العلمية و العملية من مادة خسيسة بعيدة من الحياة، قادر على أن يعلّمك القراءة و أنت حيّ متكلّم قابل للعلوم.

اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (1) اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (2) عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ (3) كَلاّٰ إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ (4) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنىٰ (7) ثمّ أكّد سبحانه وجوب القراءة بقوله ثانيا:

اِقْرَأْ و قيل: إنّ الأول أمر بقراءته لنفسه، و الثاني أمر بقراءته للتبليغ و التعليم(5).

ثمّ استانف سبحانه ذكر أوصافه و مننه بقوله: وَ رَبُّكَ هو اَلْأَكْرَمُ المبالغ في الإحسان و الجود حيث إنّه يحسن بعبيده بعد العصيان و التقصير كما يحسن قبله، و إنّ كلّ كريم ينال بكرمه خيرا لنفسه، و ربّك لا يكون كرمه إلاّ لمحض حسنه. و قيل: يعني أنت كريم، و ربّك أكرم منك(6) ، و من كرمه أنّه

اَلَّذِي عَلَّمَ الانسان الكتابة بِالْقَلَمِ و فيه تنبيه على فضيلة الكتابة و الخطّ.

روي عن سليمان عليه السّلام أنّه سأل عفريتا عن الكلام فقال: ريح لا يبقى. قال: فما قيده؟ قال: الكتابة(3).

قيل: إنّ القلم لا ينطق، و مع ذلك يسمع الشرق و الغرب(4) و لو لا الخطّ ما استقامت امور الدين و الدنيا(5).

و قيل: إنّ المراد علّم الانسان بسبب الكتابة و قراءة الكتب، فالقلم كناية عن الكتابة(6).

ثمّ بيّنه بقوله:

عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ بسبب مطالعة الكتب مٰا لَمْ يَعْلَمْ و أمّا على التفسير الأول يكون تعليمه علوما كثيرة نعمة فوق نعمة تعليم الخطّ، فذكر سبحانه في السورة مبدأ الانسان و منتهاه، و امتنّ عليه بنقله من أدنى المراتب و هي المرتبة العلقية الخسيسة النجسة إلى أعلاها، و هي مرتبة العلم، و هو أشرف الكمالات الانسانية، و من الواضح أنّ ذلك لا يكون إلاّ بقدرة قادر حكيم، فيدلّ على ربوبيته و أكرميته و استحقاقه للطاعة و العبودية.

كَلاّٰ لا يعلم الانسان أنّ اللّه هو الذي خلقه من العلقة و علّمه بعد جهله، ثمّ بيّن سبحانه علّة غفلته بقوله: إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ و يتكبّر و يصير مستغرق القلب في حبّ الدنيا لأجل

أَنْ رَآهُ و علم

ص: 528


1- . تفسير الرازي 17:32.
2- . تفسير الرازي 17:32.
3- . تفسير روح البيان 473:10.
4- . تفسير الرازي 17:32.
5- . تفسير الرازي 16:32.
6- . تفسير الرازي 16:32.

شخصه أنّه اِسْتَغْنىٰ و صار ذا مال و جاه و قدرة فلا يتفكّر في أطوار خلقته و ترقّيه من أخسّ الأحوال إلى أعلاها، و أنّه من أول وجوده تحت قدرة قادر قاهر حكيم.

و قيل: إنّ كلمة كَلاّٰ ردع لمن كفر بنعمة اللّه بطغيانه(1).

روي أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ تزعم أنّ من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكّة فضّة و ذهبا، لعلّنا نأخذ منها فنطغى، فندع ديننا و نتّبع دينك. فنزل جبرئيل فقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثمّ إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الدعاء إبقاء عليهم و رحمة لهم(2).

إِنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الرُّجْعىٰ (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهىٰ (9) عَبْداً إِذٰا صَلّٰى (10) ثمّ هدّد سبحانه الانسان الطاغي عليه بقوله:

إِنَّ إِلىٰ رَبِّكَ و مالك أمرك وحده أيّها الانسان اَلرُّجْعىٰ و المصير بالموت، أو بالبعث، فترى سوء عاقبة طغيانك.

و قيل: إنّ المعنى أنّ مرجع الانسان إلى اللّه، فكما أنّه ردّه من النقصان إلى الكمال، يردّه و يرجعه إلى النقصان و الفقر و الموت(3).

ثمّ بيّن سبحانه غاية طغيان الانسان مظهرا للتعجّب منه بقوله:

أَ رَأَيْتَ و هل عاينت يا محمد، أو أيّها الرائي، الطاغي اَلَّذِي بلغ بطغيانه إلى أنّه يَنْهىٰ و يمنع عن الصلاة و القيام بوظيفة العبودية لربّ الأرباب

عَبْداً ممحضا في العبودية له إِذٰا صَلّٰى و قام بخدمة مولاه؟

روي أنّ أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال:

فو الذي نحلف به لئن رأيته يصلّي لأطأنّ عنقه، ثمّ إنّه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الصلاة - قيل: هي صلاة الظهر - فجاءه(4) ، و قيل: همّ أن يلقى على رأسه حجرا فنكص على عقبيه، فقالوا: مالك؟ فقال:

إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هولا شديدا أجنحة(5). و قال نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «و الذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» فنزلت(6).

قال الفخر الرازي في وجه إظهار اللّه تعالى العجب من طغيان أبي جهل و منعه الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن

ص: 529


1- . تفسير روح البيان 474:10.
2- . تفسير الرازي 20:32، تفسير أبي السعود 178:9، تفسير روح البيان 474:10.
3- . تفسير الرازي 20:32.
4- . تفسير روح البيان 475:10.
5- . في النسخة: واضحة، و المراد أجنحة الملائكة، تفسير روح البيان 475:10.
6- . مجمع البيان 282:10، تفسير الصافي 349:5، تفسير الرازي 20:32، تفسير روح البيان 475:10.

الصلاة: إنّه يروى أنّ يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيّام خلافته، فقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر: اطلبه من بلال، فهو أعلم به منّي. ثمّ إنّ بلالا دلّه على فاطمة، ثمّ فاطمة دلّته على عليّ عليه السّلام، فلمّا سأل عليا عنه قال: «صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه» فقال الرجل: هذا لا يتيسّر لي. فقال علي عليه السّلام: «عجزت عن وصف متاع الدنيا، و قد شهد اللّه على قلّته حيث قال: مَتٰاعُ الدُّنْيٰا قَلِيلٌ (1) فكيف أصف أخلاق النبي صلّى اللّه عليه و آله و قد شهد اللّه تعالى بأنّه عظيم حيث قال:

وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» (2) . فكأنّه قال: ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبودية، و ذلك عين الجهل و الحمق(3).

و قيل: إنّ امية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة(4).

و عن القمي: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة و أن يطاع اللّه و رسوله(5).

أَ رَأَيْتَ إِنْ كٰانَ عَلَى الْهُدىٰ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوىٰ (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللّٰهَ يَرىٰ (14) كَلاّٰ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنّٰاصِيَةِ (15) ثمّ بيّن سبحانه غاية سفاهة هذا الطاغي بقوله:

أَ رَأَيْتَ يا محمد إِنْ كٰانَ هذا الطاغي ثابتا عَلَى الْهُدىٰ و دين الحقّ، كما أنت عليه

أَوْ أَمَرَ الناس بِالتَّقْوىٰ و الاحتراز عن الشرك كما تأمر، أما كان خيرا له من الكفر باللّه و النهي عن طاعته.

و قيل: إنّ الخطاب مع الكافر، فانّه تعالى بعد خطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهىٰ التفت إلى الكافر، و قال: أ رأيت يا كافر إن كان النبيّ في صلاته على الهدى، و دعاءه إلى اللّه أو أمر بالتقوى، أ تنهاه مع ذلك؟ فجعل سبحانه نفسه كالحاكم الذي حضر عنده المدّعي و المدّعى عليه، فخاطب هذا مرّة و هذا اخرى(6).

ثمّ خاطب نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

أَ رَأَيْتَ يا محمد، و أخبرني إِنْ كان الكافر كَذَّبَ الدلائل التي ذكرنا مع كونها ظاهرة جلية عند كلّ عاقل وَ تَوَلّٰى و أعرض عن الصلاة التي هي أهم خدمات مولاه

أَ لَمْ يَعْلَمْ بعقله بِأَنَّ اللّٰهَ يَرىٰ منه هذه القبائح و يجازيه عليها في الآخرة فيزجره علمه ذلك عن ارتكابها؟

و قيل: إنّه خطاب مع الكافر، و المراد: أ رأيت أيّها الكافر إن كان محمد كذب بآيات اللّه و تولّى عن

ص: 530


1- . النساء: 77/4.
2- . القلم: 4/68.
3- . تفسير الرازي 21:32.
4- . تفسير الرازي 20:32، تفسير أبي السعود 180:9..
5- . تفسير القمي 430:2، تفسير الصافي 349:5.
6- . تفسير الرازي 21:32.

خدمة مولاه، أ لم يعلم بأنّ اللّه يراه و يعاقبه عليه حتّى ينتهي بعلمه ذلك(1).

ثمّ ذمّ سبحانه الكافر بقوله:

كَلاّٰ لا يعلم بأنّ اللّه يرى و و اللّه لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ و لم يرتدع عمّا هو فيه من الطغيان لَنَسْفَعاً و لنأخذنّ البتة يوم القيامة بِالنّٰاصِيَةِ و شعر مقدّم رأس هذا الكافر الطاغي بشدّة و نسحبنه بها إلى النار.

نٰاصِيَةٍ كٰاذِبَةٍ خٰاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نٰادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبٰانِيَةَ (18) ثمّ بالغ سبحانه في ذمّه بالكذب في إنكار الآيات و الرسالة و البعث، و خطئه في إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله بتوصيف ناصيته بالكذب و الخطأ، بقوله:

نٰاصِيَةٍ كٰاذِبَةٍ خٰاطِئَةٍ فإنّ اللعين بإصراره على الكذب و الخطأ صار بحيث يظهر الكذب و الخطأ من ناصيته و شعر مقدّم رأسه، و في الجرّ بالناصية غاية الإذلال و الإهانة.

قيل: إنّ المراد من قبض ناصيته قبضها في الدنيا إن عاد إلى النهي عن الصلاة، فعاد إلى النهي(2).

روي أنّه لعنه اللّه مرّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يصلّي فقال: أ لم أنهك، فأغلظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جوابه، فقال: أ تهدّدني و أنا أكثر أهل الوادي ناديا؟! يريد كثرة من يعينه، فنزلت (3)

فَلْيَدْعُ نٰادِيَهُ و أهل مجلسه ليعينوه

سَنَدْعُ في مقابل أعوانه اَلزَّبٰانِيَةَ و ملائكة العذاب، فلمّا عاد إلى النهي مكّن اللّه المسلمين من ناصيته يوم بدر فجرّوه على وجهه.

روي أنّه لمّا نزلت سورة الرحمن قال صلّى اللّه عليه و آله: «من يقرؤها على رؤساء قريش؟» فتثاقلوا، فقام ابن مسعود رضى اللّه عنه فقال: أنا يا رسول اللّه، فأجلسه، ثمّ قال ثانيا: «من يقرؤها عليهم؟» فلم يقم إلاّ ابن مسعود، ثمّ قال ثالثا فقال ابن مسعود: أنا، فأذن له، و كان صلّى اللّه عليه و آله يتّقي عليه، لما كان يعلم من ضعفه و صغر جثّته، ثمّ إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشقّ اذنه و أدماها، فانصرف و عينه تدمع، فلمّا رآه صلّى اللّه عليه و آله رقّ قلبه و أطرق رأسه مغموما، فاذا جبرئيل جاء ضاحكا مستبشرا، فقال: «يا جبرئيل تضحك و يبكي ابن مسعود!» فقال: سيعلم. فلمّا ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: «خذ رمحك و التمس في الجرحى من كان له رمق فاقتله، فانّك تنال ثواب المجاهدين» فأخذ يطالع القتلى، فاذا أبو جهل مصروع يخور، فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه، فوضع الرمح في منحره من بعيد فطعنه. و لعلّ هذا

ص: 531


1- . تفسير الرازي 22:32.
2- . تفسير روح البيان 476:10.
3- . تفسير الرازي 25:32، تفسير أبي السعود 180:9، تفسير الصافي 350:5.

[معنى] قوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (1) على رواية ابن عباس أنّه نزل فيه، ثمّ لمّا عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه، فارتقى عليه بحيلة، فلمّا رآه أبو جهل قال له: يا رويعي الغنم، لقد ارتقيت مرتقا صعبا. فقال ابن مسعود: الاسلام يعلو و لا يعلى عليه فقال له أبو جهل: أبلغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا سمع ذلك قال: فرعوني أشدّ من فرعون موسى، فانّه قال حين موته آمَنْتُ (2) و هو قد زاد عتوا.

ثمّ قال اللعين يا ابن مسعود، اقطع رأسي بسيفي هذا، فانّه أحد و أقطع. فلمّا قطع رأسه لم يقدر على حمله، فشقّ اذنه، و جعل الخيط فيها، و جعل يجرّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جبرئيل بين يديه يضحك، و يقول: يا محمد، اذن باذن [لكن] الرأس هنا مع الاذن مقطوع(3).

قيل: إن الناصية كناية عن الوجه(4) ، لَنَسْفَعاً بِالنّٰاصِيَةِ أي لنلطمنّ وجهه(5). و قيل: يعني لنسودنّ وجهه(6).

كَلاّٰ لاٰ تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19) ثمّ لمّا قابل سبحانه دعوة الطاغي ناديه بدعوة الزبانية، ردع نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن الخوف من الطاغي بقوله:

كَلاّٰ لا يجترئ على أن يدعو ناديه، و لئن دعاهم لن ينفعوه، فهو أذلّ و أحقر من أن يقاومك، و لذا لاٰ تُطِعْهُ و لا تعتن بنهيه إياك عن الصلاة و السّجود لربّك وَ اسْجُدْ و واضب على صلاتك و خضوعك للّه، و لا تكترث بالطاغي و أمثاله وَ اقْتَرِبْ إلى ربّك بالسجود و الصلاة له، و تقرّب إليه بعبادته.

في الحديث العامي: «أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد»(5) فأكثروا من الدعاء في السجود.

و عن الرضا عليه السّلام: «أقرب ما يكون العبد من اللّه عزّ و جلّ و هو ساجد، و ذلك قوله تعالى: وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ» (6).

و قيل: إنّ خطاب اُسْجُدْ مع النبي صلّى اللّه عليه و آله، و خطاب وَ اقْتَرِبْ مع أبي جهل، و المعنى: اسجد أيّها النبي، و لا تعتن بنهي من ينهاك، ليزداد غيظا، و اقترب أيّها الكافر و ادن منه حتّى تبصر ما ينالك من

ص: 532


1- . القلم: 16/68.
2- . يونس: 90/10.
3- . تفسير الرازي 23:32، تفسير روح البيان 476:10.
4- . تفسير الرازي 24:32، تفسير روح البيان 477:10. (5و6) . تفسير الرازي 23:32.
5- . تفسير الرازي 26:32، تفسير أبي السعود 181:9.
6- . الكافي 3/264:3، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 15/7:2، تفسير الصافي 350:5.

أخذ الزبانية إيّاك(1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ العزائم أربع: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و النجم، و تنزيل السجدة، و [حم] السجدة»(2).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ في يومه أو ليلته اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثمّ مات شيدا و بعثه اللّه شهيدا، و أحياه شهيدا، و كان كمن ضرب بسيفه في سبيل اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»(3).

ص: 533


1- . تفسير الرازي 26:32.
2- . الخصال: 124/252، مجمع البيان 783:10، تفسير الصافي 350:5.
3- . ثواب الأعمال: 124، مجمع البيان 778:10، تفسير الصافي 350:5.

ص: 534

في تفسير سورة القدر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) ثمّ لمّا ختمت السورة العلق المبدوءة بالأمر بقراءة القرآن العظيم، نظمت بعدها سورة القدر المبدوءة بتعظيم القرآن الكريم، و بيان زمان نزوله، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها ببيان عظمة القرآن بقوله:

إِنّٰا أثبتنا القرآن الحكيم في اللوح المحفوظ ثم أَنْزَلْنٰاهُ منه جملة و دفعة في البيت المعمور الذي هو أشرف بقاع السماوات، كما في بعض رواياتنا(1) ، أو في بيت العزّة الذي يكون في السماء الدنيا، كما في بعض روايات العامة(2) ، و بعض روايات الخاصة(3)فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. قيل: إنّ اللّه سبحانه بيّن أولا أنّه نزل في شهر رمضان بقوله: شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (4) و لم يبين أنّه نزل في الليل أو النهار. ثمّ بين أنّه نزل بالليل بقوله: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ (5) و لم يبيّن أيّها أىّ ليل، ثمّ بيّن في هذه السورة أنّها ليلة القدر(6).

فلا شبهة أنّها تكون في شهر رمضان، و إنّما الاختلاف في أنّها كانت في ليلة واحدة، لأنّ فضل نزول القرآن كان في ليلة واحدة، و جلّ العلماء قائلون بانّها باقية في كلّ سنة، ثمّ اختلفوا في أنّها أيّة ليلة.

قيل: إنّ اللّه تعالى أخفاها و لم يعيّنها ليرغب المؤمنون في إحياء جميع ليالى رمضان طلبا لدرك ثواب إحيائها(7) ، و المشهور قائلون بتعيينها، و الأكثر على أنّها في أوتار العشر الآخر بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «التمسوها في العشر الآخر(8) من شهر رمضان، فاطلبوها في كلّ وتر»(9).

و أكثر العامّة على أنّها الليلة السابعة و العشرون، و نسبوه إلى ابن عباس(10) ، و أسندوه إلى اعتبارات

ص: 535


1- . الكافي 6/460:2.
2- . تفسير الرازي 29:32، تفسير روح البيان 479:10.
3- . مجمع البيان 786:10.
4- . البقرة: 185/2.
5- . الدخان: 3/44.
6- . تفسير روح البيان 480:10.
7- . تفسير الرازي 29:32، تفسير روح البيان 481:10.
8- . في تفسير روح البيان: الاواخر.
9- . تفسير روح البيان 481:10.
10- . تفسير الرازي 30:32، تفسير روح البيان 481:10.

لا اعتبار بها.

و قال بعضهم: إنّها آخر ليلة من الشهر، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار يعتق ألف ألف عتيق من النار كلّهم استوجبوا العذاب، فاذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق اللّه في تلك الليلة بعدد من أعتق من أول الشهر إلى آخره»(1).

و عن بعض الصحابة: أنّها الليلة التاسعة و العشرون(2) ، و رووا عن أبي ذرّ: أنّها الخامسة و العشرون(3) ، و عن ابن مسعود: أنّها الرابعة و العشرون(4) ، و عن ابن عباس: أنّه الثالثة و العشرون(5) ، و عن محمد بن إسحاق: أنّها الحادية و العشرون(6) ، و عن أنس: أنّها التاسعة عشرة(7) ، و عن الحسن البصري: أنّها السابعة عشرة(8) ، و عن ابن رزين أنّها الليلة الاولى منه(9).

و عن (الكافي) عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن قوله تعالى: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ (2) قال: «نعم، ليلة القدر، و هي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر»(3).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن ليلة القدر قال: «التمسها ليلة إحدى و عشرين، أو ليلة ثلاث و عشرين»(4).

و في رواية «ليلة تسع و عشرة، و إحدى و عشرين، و ثلاث و عشرين»(5).

قيل: فان أخذت إنسانا الفترة أو علّة، ما المعتمد عليه من ذلك؟ فقال: «ثلاث و عشرون»(6).

أقول: يريد رواية الجهني المعروفة(7) و إنّما سمّيت تلك الليلة ليلة القدر، لتقدير امور السنة فيها، كما قال سبحانه: فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (8).

و عن ابن عباس: أنّ اللّه قدّر فيها كلّما يكون في تلك السنة من مطر و رزق و إحياء و إماتة و غيرها إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية(9) ، فيسلّمه إلى مدبّرات الامور من الملائكة.

و في (المعاني) عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي، أ تدري ما معنى ليلة القدر؟ قلت: لا، يا رسول اللّه. قال: إنّ اللّه قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكان فيما قدّر ولايتك و ولاية الأئمّة من ولدك إلى يوم القيامة»(10).

ص: 536


1- . تفسير روح البيان 481:10. (2و3) . تفسير الرازي 29:32. (4-5-6-7-8-9) . تفسير الرازي 29:32.
2- . الدخان: 3/44.
3- . الكافي 6/157:4، تفسير الصافي 352:5، عن الصادق عليه السّلام.
4- . الكافي 1/156:4، و تفسير الصافي 352:5، عن الصادق عليه السّلام.
5- . الكافي 8/158:4، تفسير الصافي 352:5.
6- . من لا يحضره الفقيه 460/103:2، تفسير الصافي 352:5.
7- . الكافي 2/156:4، من لا يحضره الفقيه 461/103:2.
8- . الدخان: 4/44.
9- . تفسير الرازي 28:32.
10- . معاني الأخبار: 1/315، تفسير الصافي 351:5.

أقول: ظاهر الرواية وقوع جميع التقديرات الكائنة في العالم إلى يوم القيامة في أول ليلة من ليالي القدر، و هذا غير المعني المروي عن ابن عباس، و لا منافاة بينهما.

و قيل: إنّ القدر هنا بمعنى الشرف، و معنى ليلة القدر أنّها ليلة يحصل لمن أحياها و قصد فيها الشرف و المنزلة عند اللّه(1).

و قيل: لأنّه نزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، لأنّه لها قدر(2).

و عن الخليل: القدر هنا بمعنى الضيق، و إنّما سمّيت الليلة ليلة القدر لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة(3).

و أمّا دلالة الآية على عظمة القرآن، فلإسناد إنزاله إلى ذاته المعبّر عنها بنون العظمة المستلزم لعظمة ما أنزله، و لارجاع الضمير إليه من غير سبق ذكره الدالّ على غاية اشتهاره و تميّزه من الكتب المنزلة، و لتعظيم وقت نزوله و هو ليلة القدر بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أيّ شيء أعلمك يا محمد مٰا لَيْلَةُ الْقَدْرِ في علوّ القدر و الشرف، فانّ العلم بها خارج عن طرق البشر إلاّ بالوحي من اللّه العالم بكنه الأشياء و حقائقها.

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) ثمّ بيّن سبحانه فضيلة العبادة فيها بقوله:

لَيْلَةُ الْقَدْرِ و العبادة فيها خَيْرٌ و أفضل مِنْ العبادة في أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة القدر في الحديث العامي: «من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر»(4).

قيل: إنّ لفظ ألف كناية عن الكثير، و لم يرد حقيقتها(5).

و قيل: إنّ في الامم السابقة لا يقال لرجل: إنّه عابد، حتّى يعبد اللّه ألف شهر، فأعطى اللّه هذه الامّة ليلة من أحياها من المؤمنين كان أعبد من اولئك العبّاد(6).

و قيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر، و ملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل اللّه العمل في هذه الليلة خير من ملكهما(7).

ص: 537


1- . تفسير الرازي 28:32، تفسير روح البيان 482:10.
2- . تفسير الرازي 28:32، تفسير روح البيان 482:10.
3- . تفسير الرازي 28:2، و لم ينسبه إلى أحد، تفسير الرازي 482:10.
4- . تفسير روح البيان 480:10.
5- . تفسير روح البيان 483:10.
6- . تفسير أبي السعود 182:9، تفسير روح البيان 483:10.
7- . تفسير أبي السعود 183:9، تفسير روح البيان 483:10.

و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأى أعمال الامم فاستقصر أعمار امّته، فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فاعطاه اللّه ليلة القدر، و جعلها خيرا من ألف شهر لسائر الامم(1).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ذكر رجلا من بني إسرائيل اسمه شمسون أو شمعون، لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر، فتعجّب المؤمنون منه، و تقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدّة جهاد ذلك الرجل(2).

و عن ابن عباس: أنّه ذكر عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجل من بني إسرائيل أنّه حمل السلاح على عاتقه في سبيل اللّه ألف شهر، فعجب من ذلك عجبا شديدا، و تمنّى أن يكون ذلك في امّته، فقال: «يا ربّ، جعلت امّتي أقصر الامم أعمارا، و أقلّها أعمالا، فأعطاه اللّه ليلة القدر، و قال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل اللّه [لك] و لامّتك من بعدك إلى يوم القيامة في كلّ رمضان(3).

و روي بعض العامّة أنّه لمّا عوتب الحسن بن علي عليه السّلام في تسليمه الأمر لمعاوية قال: «إنّ اللّه أرى نبيه في المنام بني امية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتمّ لذلك، فأعطاه اللّه ليلة القدر، و هي خير له و لذريّته و أهل بيته من ألف شهر، و هي مدّة ملك بني اميّة، و أعلمه أنهم يملكون أمر الناس هذا القدر من الزمان»(4).

و عن القمي، قال: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نومه: كأنّ قرودا(5) تصعد منبره، فغمّه ذلك، فأنزل اللّه سورة القدر إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ إلى قوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تملكه بنو امية ليس فيها ليلة القدر(6).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام قال: «اري رسول اللّه في منامه أنّ بني امية يصعدون منبره من بعده، و يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيبا حزينا، فهبط عليه جبرئيل، فقال: يا رسول اللّه، ما لي أراك كئيبا حزينا. قال صلّى اللّه عليه و آله: إني رأيت بني امية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقرى. فقال: و الذي بعثك بالحقّ نبيا، إنّي ما اطّلعت عليه، فعرج إلى السماء، فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها قال: أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنٰاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جٰاءَهُمْ مٰا

ص: 538


1- . تفسير الرازي 31:32، تفسير أبي السعود 183:9، تفسير روح البيان 483:10.
2- . تفسير الرازي 30:32، تفسير أبي السعود 182:9، تفسير روح البيان 483:10.
3- . مجمع البيان 789:10، تفسير الصافي 352:5.
4- . تفسير الرازي 31:32، تفسير روح البيان 483:10.
5- . في النسخة: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كأن قردا.
6- . تفسير القمي 431:2، تفسير الصافي 352:5.

كٰانُوا يُوعَدُونَ * مٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يُمَتَّعُونَ (1) و أنزل عليه إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ جعل اللّه ليلة القدر لنبيه صلّى اللّه عليه و آله خيرا من ألف شهر ملك بني امية»(2).

ذكر اشكال بعض

العامة و ردّه

ثمّ اعلم أنّه طعن بعض العامة في تلك الروايات بأنّ أيام ملك بني امية كانت مذمومة، فكيف يبيّن اللّه تعالى فضل تلك الليلة بكونها خيرا من الشهور المذمومة(3) ؟

و ردّه بعضهم بأنّ أيام ملكهم كانت أياما عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فيكون المراد أنّ ليلة القدر بحسب السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية، كقوله: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ (4). الكفار من الأموال و الزخارف الدنيوية(5).

و الأولى في دفعه أن نقول: إنّ اللّه صلّى نبيه صلّى اللّه عليه و آله ببشارة تزول غمّه، فانّه صلّى اللّه عليه و آله اغتمّ بسلطنة بني امية و إضلالهم الناس عن الصراط، فسرّ اللّه قلبه الشريف بالبشارة بأفضلية عبادة تلك الليلة لامّته من عبادة تلك المدّة، كما يسلّى من تلفت أمواله ببشارته برجوع ولده من سفر خطير سالما غانما.

تَنَزَّلُ الْمَلاٰئِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيهٰا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان علوّ قدر تلك الليلة ذاتا، بيّن ما استتبع ذلك الشرف و علوّ القدر من الفضل بقوله:

تَنَزَّلُ و تهبط اَلْمَلاٰئِكَةُ المقرّبون كلّهم فوجا إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا، ليروا عبادة أهل الأرض و اجتهادهم فيها، و يسلّموا عليهم و يزوروهم و يصافحوا معهم.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّهم ينزلون ليسلّموا علينا، و ليشفعوا لنا، فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه»(6) أو ليزيد فضل عباده المؤمنين بحضورهم.

وَ ينزل اَلرُّوحُ القدس، و هو جبرئيل، و إفراده بالذكر مع كونه من الملائكة لتعظيمه.

عن كعب: أنّ في سورة المنتهى ملائكة لا يعلم عددهم إلاّ اللّه تعالى، يعبدون اللّه، و مقام جبرئيل في وسطها، ليس فيها ملك إلاّ و قد اعطى الرّأفة و الرحمة للمؤمنين، ينزلون مع جبرئيل ليلة القدر، فلا تبقى بقعة من الأرض إلاّ و عليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين و المؤمنات، أحدا إلا صافحه، و علامة ذلك من اقشعرّ جلده و رقّ قلبه و دمعت عيناه، فانّ ذلك من مصافحة جبرئيل.

ص: 539


1- . الشعراء: 205/26-207.
2- . الكافي 10/159:4، تفسير الصافي 351:5.
3- . تفسير الرازي 31:32.
4- . آل عمران: 157/3.
5- . تفسير الرازي 31:32.
6- . تفسير الرازي 33:32.

إلى أن قال: و أول من يصعد جبرئيل حتى يصير أمام الشمس، فيبسط جناحين أخضرين، لا ينشرهما إلاّ تلك الساعة من يوم تلك الليلة، ثمّ يدعوه ملكا ملكا، فيصعد الكلّ، و يجتمع نور الملائكة و نور جناح جبرئيل، فيقيم جبرئيل و من معه من الملائكة بين الشمس و السماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء و الرحمة و الاستغفار للمؤمنين و لمن صام شهر رمضان احتسابا... الخبر(1).

و قيل: إنّ الرّوح ملك عظيم لو التقم السماوات و الأرضين كان ذلك له لقمة واحدة(2).

و قيل: هو ملك رأسه تحت العرش و رجلاه في تخوم الأرض السابعة، و له ألف رأس، كلّ رأس أعظم من الدنيا، و في كلّ رأس ألف وجه، و في كلّ وجه ألف فم، و في كلّ فم ألف لسان، يسبّح اللّه بكلّ لسان ألف نوع من التسبيح و التحميد و التمجيد، لكلّ لسان لغة لا تشبه الاخرى، فاذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّ كلّ ملائكة السماوات سجّدا مخافة أن يحرقهم نور أفواهه، و إنّما يسبّح اللّه غدوة و عشية، فينزل تلك الليلة فيستغفر للصائمين و الصائمات من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بتلك الأفواه إلى طلوع الفجر(3).

أقول: على تقدير صحّة النقل لا بدّ من تأويل نزوله بغير المعنى المتبادر منه.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الرّوح أعظم من جبرئيل، و أنّ جبرئيل من الملائكة، و أنّ الروح خلق أعظم من الملائكة، أ ليس يقول اللّه تبارك و تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلاٰئِكَةُ وَ الرُّوحُ» (4).

و على أي تقدير تتنزّل جميع الملائكة مع الرّوح لشرف تلك الليلة فِيهٰا إلى الأرض بعد استئذانهم شوقا إلى لقاء المؤمنين بِإِذْنِ رَبِّهِمْ في النزول مِنْ أجل كُلِّ أَمْرٍ قدّر في تلك السنة من خير أو شرّ.

عن الصادق عليه السّلام: «إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الرّوح و الكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء في تلك السنة»(5).

و عن القمي رحمه اللّه، قال: تنزّل الملائكة و الرّوح القدس على إمام الزمان، و يدفعون إليه ما كتبوه [من هذه الامور](6).

و عنه، عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: أ تعرفون ليلة القدر؟ فقال: «فكيف لا نعرف و الملائكة يطوفون بنا

ص: 540


1- . تفسير الرازي 33:32.
2- . تفسير الرازي 34:32، تفسير روح البيان 484:10.
3- . تفسير روح البيان 484:10.
4- . الكافي 1/317:1، و تفسير الصافي 353:5، عن الصادق عليه السّلام.
5- . تفسير القمي 366:1، تفسير الصافي 353:5.
6- . تفسير القمي 431:2، تفسير الصافي 353:5.

فيها»(1).

سَلاٰمٌ هِيَ حَتّٰى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (2) ثمّ بيّن سبحانه الفضيلة الاخرى لتلك الليلة بقوله:

سَلاٰمٌ هِيَ من الملائكة للمؤمنين من أولها حَتّٰى مَطْلَعِ الْفَجْرِ و ظهور الصبح الصادق، فانّ كثرة سلام الملائكة فيها كأنما صير الليل كلّه سلاما.

و في الحديث العامي: «ينزل جبرئيل ليلة القدر في كبكبة من الملائكة يصلّون و يسلّمون على كلّ عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه»(3).

و عن السجاد عليه السّلام يقول: «يسلّم عليك يا محمد ملائكتي و روحي سلامي(4) من أوّل ما يهبطون إلى مطلع الفجر»(5).

و عن القمي رحمه اللّه قال: تحية يحيّى بها الإمام إلى أن يطلع الفجر(5).

و قيل: إنّ السّلام بمعنى السلامة من جميع الآفات و الشّرور و مكائد الشيطان و وساوسه(6).

في الحديث العامّي: «من قرأ سورة القدر اعطي ثواب من صام رمضان و أحيا ليلة القدر»(7).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فجهر بها، كان كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه تعالى، و من قرأها عشر مرات محا اللّه عنه ألف ذنب من ذنوبه»(8).

الحمد للّه الموفّق لاتمام تفسيرها.

ص: 541


1- . تفسير القمي 432:2، تفسير الصافي 353:5.
2- . تفسير القمي 431:2، تفسير الصافي 353.
3- . تفسير روح البيان 485:10.
4- . في الكافي: بسلامي.
5- . الكافي 4/193:1، تفسير الصافي 353:5.
6- . مجمع البيان 790:10، تفسير روح البيان 485:10.
7- . تفسير أبي السعود 183:9، تفسير روح البيان 486:10.
8- . ثواب الأعمال: 124، مجمع البيان 784:10، تفسير الصافي 353:5.

ص: 542

في تفسير سورة البينة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللّٰهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيهٰا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة القدر المتضمّنة لبيان عظمة القرآن، نظمت سورة البيّنة المتضمّنة لبيان عظمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و كتابه بتوصيفه بأنّه جامع لجميع ما في الكتب السماوية، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بذمّ أهل الكتاب و المشركين بقوله:

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله سواء كانوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ كاليهود و النصارى وَ من اَلْمُشْرِكِينَ و عبدة الأصنام و الأوثان مُنْفَكِّينَ و مفارقين عمّا هم عليه من الكفر و العقائد الفاسدة على حسب قولهم و وعدهم حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ من قبل اللّه الحجّة اَلْبَيِّنَةُ و الآية الواضحة على بطلان دينهم، و تلك البيّنة على ما أخبرت به الكتب السماوية هو

رَسُولٌ عظيم الشأن، مبعوث مِنَ قبل اَللّٰهِ في آخر الزمان، يتلوه القرآن، و لمّا كان جامعا لمطالب الكتب السماوية يَتْلُوا بتلاوته عن ظهر القلب صُحُفاً و كتبا سماوية مُطَهَّرَةً و منزّهة عن كل باطل(1) لا قبيح و شين و ذكر بسوء، أو مطهّرة من أن يمسه غير المطهّر.

و في رواية عامية عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ من الكتاب و إن كان لا يكتب»(2).

قيل: إنّ اليهود و النصارى و المشركين كانوا قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله يقولون: لا ننفكّ عما نحن فيه من ديننا و لا نتركه حتّى يبعث النبي الموعود، و الذي هو مكتوب في التوراة و الانجيل(3) ، فحكى سبحانه ما كانوا يقولونه.

ص: 543


1- . في النسخة: عن كامل و باطل.
2- . تفسير الرازي 42:32.
3- . تفسير الرازي 38:32.

و قيل: إنّ المراد أنّهم كانوا غير منفكّين عمّا كانوا عليه من الوعد باتباع الحقّ، و الايمان بالنبي صلّى اللّه عليه و آله المبعوث في آخر الزمان، و العزم على إنجازه، و هذا الوعد من أهل الكتاب ممّا لا ريب فيه حتى أنّهم كانوا يستفتحون و يقولون: اللهم افتح علينا، و انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان. و يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد و إرم، و أمّا من المشركين فلعلّه قد وقع من متأخّريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب و اعتقدوا صحّته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم، كما يشهد به أنّه كانوا يسألونهم عن الرسول، هل هو المذكور في كتبهم(1).

و عليه يكون تَأْتِيَهُمُ بمعنى (أتتهم) و التعبير بالمضارع باعتبار حال المحكي لا الحكاية، و إنّما عبّر عن الرسول بالبيّنة للتنبيه على غاية ظهور أمره بسبب المعجزات الكثيرة الباهرة، و مجموع الأخلاق الكريمة البالغة حدّ كمال الإعجاز، فكأنّ صفاته عليه السّلام بيّنة على رسالته.

و قيل: إنّ المراد بالبينة مطلق الرسول، و المراد حتى تأتيهم رسل من الملائكة تتلو عليهم صحفا مطهّرة، كما قال سبحانه: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتٰابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتٰاباً مِنَ السَّمٰاءِ (2) و فيه: أنّه لا يناسب وصف الصحف بقوله:

فِيهٰا كُتُبٌ و مكتوبات قَيِّمَةٌ مستقيمة ناطقة بالصواب، أو مستقلة بالحجّية و الدلالة على الحقّ.

وَ مٰا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) ثمّ إنه تعالى بعد حكايته وعد أهل الكتاب و المشركين بإيمانهم بالرسول الموعود و اجتماع كلمتهم على الحقّ، بيّن ازدياد كفرهم بعد وضوح رسالته لهم و افتراق كلمتهم بقوله:

وَ مٰا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ عن الحقّ، و ما تباعدوا عن الايمان بالرسول الموعود مع كونهم من أهل العلم و الاطلاع بالكتب و بأوصاف الرسول إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ بسبب انطباق الصفات المذكورة في التوراة و الانجيل للنبي الموعود عليه و كثرة معجزاته اَلْبَيِّنَةُ و الدلالة الواضحة على أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله هو النبي الموعود بحيث لم يبق مجال للعاقل المنصف ردّها و جحودها.

و إنّما أفرد سبحانه أهل الكتاب بالذكر بعد الجمع بينهم و بين المشركين في أول السورة للدلالة

ص: 544


1- . تفسير روح البيان 486:10.
2- . تفسير الرازي 41:32 و 42، و الآية من سورة النساء: 153/4.

على كمال شناعة حالهم، و أنّهم لمّا تفرّقوا مع كونهم من أهل العلم كان غيرهم أولى بذلك؛ لأنّ جحود العالم أقبح و أشنع من إنكار الجاهل، و فيه تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله حيث بيّن أنّ تفرّقهم ليس لقصور الحجة و خفاء الحقّ، بل للعناد و العصبية.

وَ الحال أنّهم مٰا أُمِرُوا بشيء في كتبهم إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ و لأجل أن يتذلّلوا له حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ تعالى اَلدِّينَ و ممحضين أنفسهم له بالعبودية، و آتين أعمالهم لصرف الداعية الالهية بحيث لا يكون في أعمالهم شائبة الشرك و الرياء و العناد و العصبية و النفسانية.

و قيل: يعني موحّدين له في العبادة، لا يعبدون معه غيره(1) ، و حال كونهم حُنَفٰاءَ و معرضين عن كلّ باطل، أو متّبعين ملّة إبراهيم الذي تبرأ من نفسه حين سلّمها للنيران، أو مستقيمين في العقائد و الأعمال و الأخلاق، أو مؤمنين بجميع الرسل، أو حجاجا كما عن ابن عباس(2).

و قيل: إنّ اللام في قوله لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ بمعنى (أن) و المعنى إلاّ أن يعبدوا اللّه(3).

و قيل: إنّ المراد و ما امروا على لسان محمد صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أن يوحّدوا اللّه و يعبدوه عبادة خالصة من الشرك (4)وَ أن يُقِيمُوا الصَّلاٰةَ التي هي أهمّ العبادات البدنية وَ يُؤْتُوا الزَّكٰاةَ التي هي أهمّ العبادات المالية.

وَ ذٰلِكَ المذكور من الخلوص في عبادته و أداء الصلاة و الزكاة هو اَلدِّينَ الملّة اَلْقَيِّمَةِ الباقية التي لا تنسخ، أو المستقيمة التي لا عوج فيها. و قيل: إنّ القيّمة صفة للدين، و التاء للمبالغة(5).

و قيل: إنّ القيّمة اسم أو صفة للامة(6) ، و المعنى دين الامة القائمة بالقسط. و الحاصل أنّ الآية دالّة على أنّ الدين القيم مركّب من الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح، فعلى كلّ عاقل أن يقبله و لا يستنكف منه(7).

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نٰارِ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أُولٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) ثمّ ذكر سبحانه سوء حال الكفّار الذين لا يقبلون هذا الدين في الآخرة بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ من اليهود و النصارى وَ الْمُشْرِكِينَ كعبدة الأصنام و الأوثان و الكواكب و النيران و غيرهم، كلّهم يوم القيامة متمكّنون فِي نٰارِ جَهَنَّمَ حال كونهم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا أبدا

ص: 545


1- . تفسير الرازي 46:32.
2- . تفسير الرازي 46:32.
3- . تفسير الرازي 44:32.
4- . تفسير الرازي 43:32.
5- . تفسير الرازي 47:32، و فيه: و الهاء للمبالغة.
6- . تفسير روح البيان 488:10 و 489.
7- . في النسخة: يقبلوه و لا يستنكفوا منه.

لا يرجون الخلاص منها، لأنّ أُولٰئِكَ البعداء من رحمة اللّه و من كلّ خير و سعادة هُمْ بالخصوص شَرُّ الْبَرِيَّةِ و أخبث الخليقة، فاستحقّوا الخلود في النار، و إن كان بعضهم أخبث من بعض و عذابهم أشدّ.

ثمّ مدح سبحانه المؤمنين الصالحين بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ و المرضيات عند اللّه أُولٰئِكَ المؤمنون الصالحون هُمْ بالخصوص خَيْرُ الْبَرِيَّةِ و أفضل الخليقة.

روى الصدوق عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فأقبل علي بن أبي طالب فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «قد أتاكم أخي» ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: «و الذي نفسي بيده، إنّ هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة» ثمّ قال: «إنّه أولكم إيمانا معي، و أوفاكم بعهد اللّه، و أقومكم بأمر اللّه، و أعدلكم في الرعية، و أقسمكم بالسوية، و أعظمكم عند اللّه مزيّة». قال: فنزلت إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.

قال: و كان أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله إذا أقبل علي عليه السّلام قالوا: جاء خير البرية(1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية أنّه التفت إلى علي عليه السّلام و قال: «هم و اللّه أنت و شيعتك يا علي، و ميعادك و ميعادهم الحوض غدا غرّا محجّلين متوّجين»(2).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «هم شيعتنا أهل البيت»(3).

جَزٰاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّٰاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) ثمّ بيّن حسن حالهم في الآخرة بقوله:

جَزٰاؤُهُمْ المدّخر عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف بهم في الآخرة على إيمانهم و صالح أعمالهم جَنّٰاتُ عَدْنٍ و بساتين دائمة ذات أشجار و قصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة أو الأربعة المعهودة في القرآن حال كونهم خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً و متنعّمين فيها بفنون النّعم دائما لا يخافون الخروج منها و زوال نعمها أو نقصها.

ثمّ بشّرهم سبحانه بما هو أفضل و أعظم من جميع النّعم الجسمانية بقوله: رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ فانّ الرضوان من اللّه أكبر و اعظم من كلّ نعمة.

ص: 546


1- . أمالي الطوسي: 448/251، تفسير الصافي 355:5، و لم نعثر عليه في أمالى الصدوق.
2- . أمالي الطوسي: 909/405، تفسير الصافي 355:5، مجمع البيان 795:10.
3- . المحاسن: 139/169، تفسير الصافي 355:5.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «الخلود في الجنة خير من الجنّة و رضى اللّه خير من الجنّة و من الخلود»(1).

قيل: إنّ جنّة الجسد هي الجنة الموصوفة، و جنة الروح هي رضا الرّب، و مبتدأ الانسان عالم الجسد، و منتهاه عالم العقل و الروح، فلا جرم ابتدأ سبحانه بالجنّة، و جعل المنتهى رضا اللّه(2).

وَ رَضُوا عَنْهُ تعالى بسبب تفضّله عليهم بما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ منشأ كمال الايمان و الأعمال الصالحة هي الخشية من اللّه بقوله ذٰلِكَ الجزاء الجزيل من الجنة الموصوفة و الرضوان، أو الايمان و العمل الصالح اللذين يترتّب عليهما الجزاء العظيم لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ و خاف منه أشدّ الخوف، و تلك الخشية خاصة بالعلماء بشئون اللّه و العرفاء به، و هي مبدأ جميع الكمالات العلمية و العملية المستتبعة للسعادات الدينية و الدنيوية.

عن الصادق عليه السّلام أنه قال لرجل من الشيعة: «أنتم أهل الرضا عن اللّه جلّ ذكره برضاه عنكم، و الملائكة إخوانكم فى الخير، فاذا اجتهدتم ادعوا، و إذا غفلتم اجهدوا، و أنتم خير البرية، دياركم لكم جنّة، و قبوركم لكم جنّة، للجنّة خلقتم، و في الجنة نعيمكم، و إلى الجنّة تصيرون»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة لَمْ يَكُنِ كان بريئا من الشرك، و ادخل في دين محمد صلّى اللّه عليه و آله، و بعثه اللّه مؤمنا، و حاسبه حسابا يسيرا»(4).

ص: 547


1- . تفسير الرازي 55:32، و اسقط كلمة: و من الخلود.
2- . تفسير الرازي 55:32.
3- . الكافي 556/366:8، تفسير الصافي 355:5.
4- . ثواب الأعمال: 124، مجمع البيان 791:10، تفسير الصافي 356:5.

ص: 548

في تفسير سورة الزلزال

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا (2) وَ قٰالَ الْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا (4) ثمّ لمّا ختمت سورة البيّنة بذكر القيامة و بيان أحوال الكفّار و المؤمنين فيها، نظمت بعدها سورة الزلزال المتضمّنة لبيان بعض أهوال القيامة و بعث الناس، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في بيان أهوال القيامة بقوله:

إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ و حركت زِلْزٰالَهٰا و حركة شديدة متكرّرة لائقة بها في الحكمة الالهية، أو الحركة الممكنة المتصوّرة لها، أو الموعودة المكتوبة عليها

وَ بتلك الحركة أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ من بطنها أَثْقٰالَهٰا و أحمالها من الكنوز و الموتى.

قيل: بزلزلة النفخة الاولى تخرج دفائنها، و بزلزلة النفخة الثانية تخرج الأموات(1).

في الخبر العامي: تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوانة من الذهب، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، و يجيء القاطع رحمه فيقول: في هذا قطعت رحمي، و يجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدى، ثمّ يدعونه فلا يأخذون منه شيئا(2).

قيل: يمتلئ ظهر الأرض ذهبا، و لا أحد يلتفت إليه، كأنّ الذهب يصيح و يقول: أ ما كنت تخرب دينك و دنياك لأجلي(3).

وَ قٰالَ الْإِنْسٰانُ بعد بعثه من القبر و غاية هشته و تعجّبه ممّا رأى من تزلزل الأرض: مٰا لَهٰا و أي حالة عرضها بزلزلتها هذه الزلزلة الشديدة التي تخرج ما في بطنها. قيل: هذا قول الكافر و المؤمن تعجّبا ممّا يرون من العجائب التي لم تسمع بها الآذان(4).

ص: 549


1- . تفسير الرازي 59:32، تفسير روح البيان 492:10.
2- . تفسير روح البيان 492:10.
3- . تفسير الرازي 58:32.
4- . تفسير الرازي 59:32.

و قيل: هذا قول الكافر الذي يقول: مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا (1) و أمّا المؤمن فانّه يقول: هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ (2).

يَوْمَئِذٍ و حينئذ تُحَدِّثُ و تنبئ الأرض للخلق أَخْبٰارَهٰا أو تبثّ إلى أولياء اللّه و ملائكته شكواها من أعمال الخلق على ظهرها.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه قرئت هذه السورة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: أنا الانسان، و إياى تحدّث»(3).

و في (العلل) عن تميم بن حاتم(4) ، قال: كنّا مع علي عليه السّلام حيث توجّهنا إلى البصرة قال: فبينما [نحن] نزول، اذ اضطربت الأرض، فضربها علي عليه السّلام بيده الشريفة، و قال لها: «مالك؟» ثمّ أقبل علينا بوجهه الكريم [ثمّ] قال لنا: «انّها لو كانت الزّلزلة التي ذكرها اللّه عزّ و جلّ في كتابه العزيز لأجابتني، و لكنّها ليست بتلك»(5).

و في (العلل) عن فاطمة عليها السّلام قالت: «أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر، و فزع الناس إلى أبي بكر و عمر، فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي عليه السّلام، فتبعهما الناس إلى أن انتهوا إلى باب علي عليه السّلام، فخرج عليهم عليه السّلام غير مكترث لما هم فيه، فمضى و اتّبعه الناس حتّى انتهى إلى تلعة فقعد عليها و قعدوا حوله و هم ينظرون إلى حيطان ترتجّ جائية و ذاهبة. فقال لهم علي عليه السّلام: كأنّكم قد هالكم ما ترون؟ قالوا: و كيف لا يهولنا و لم نر مثلها قطّ. قال: فحرّك شفتيه، ثمّ ضرب الأرض بيده الشريفة ثمّ قال: مالك اسكني؟ فسكنت بإذن اللّه، فتعجّبوا من ذلك أكثر من تعجّبهم الأول حيث خرج إليهم فقال لهم: إنّكم قد عجبتم من صنيعتي(6) ؟ قالوا: نعم. قال: أنا الرجل الذي قال اللّه: إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا * وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا * وَ قٰالَ الْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا فانا الانسان الذي يقول لها: ما لك يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا إياي تحدّث»(7).

قيل: إنّ تحديث الأرض إنّما هو بلسان الحال، فانّ انتقاض الأرض بسبب الزّلزلة تحدّث أنّ الدنيا قد انقضت، و أن الآخرة قد أقبلت(8).

و قال جلّ المفسرين: إنّ الأرض تنطق كما تنطق الجوارح يوم القيامة، و تشهد لمن أطاع و على من

ص: 550


1- . يس: 52/36.
2- . تفسير الرازي 59:32، و الآية من سورة الأحزاب: 22/33.
3- . الخرائج و الجرائح 10/177:1، تفسير الصافي 357:5.
4- . في المصدر: جذيم، راجع قاموس الرجال 423:2.
5- . علل الشرائع: 5/555، تفسير الصافي 357:5.
6- . في المصدر: صنعتي، و في تفسير الصافي: صنيعي.
7- . علل الشرائع: 8/556، تفسير الصافي 357:5.
8- . تفسير الرازي 59:32.

عصى على ظهرها(1) ، و رووا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الأرض لتخبر يوم القيامة بكلّ عمل عمل عليها»، ثمّ تلا هذه الآية(2).

و رووا عن علي عليه السّلام أنّه كان إذا فرغ بيت المال صلّى فيه ركعتين، و يقول: «لتشهدنّ أنّي ملأتك بحقّ، و فرّغتك بحقّ»(3).

و رووا أنّ عبد الرحمن بن صعصعة كان يتيما في حجر أبي سعيد الخدري، فقال له أبو سعيد: يا بني، إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان، فإنّي سمعت رسول اللّه يقول: «لا يسمعه جنّ و لا إنس و لا حجر و لا شجر إلاّ شهد له»(4).

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَهٰا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّٰاسُ أَشْتٰاتاً لِيُرَوْا أَعْمٰالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) و الحاصل أنّ الأرض تبدّل غير الأرض، و تصير حيّة عاقلة ناطقة، تشهد على الانسان و له بما عمل على ظهرها، كما يشهد اليوم و الليل و الجوارح، و ذلك التحديث و الشهادة

بِأَنَّ رَبَّكَ و بسبب أنّ مليكك أَوْحىٰ لَهٰا و أمرها بها إرعابا للعصاة و تبشيرا للمؤمنين

يَوْمَئِذٍ و حين وقوع ما ذكر يَصْدُرُ النّٰاسُ و يحشرون من قبورهم إلى موقف الحساب، و يرجعون إلى ربّهم حال كونهم أَشْتٰاتاً و متفرّقين و مختلفين في الأحوال بعضهم بيض الوجوه، و بعضهم سود الوجوه، فزعين.

عن القمي: يحيون أشتاتا مؤمنين و كافرين و منافقين(5). و قيل: أشتاتا من أقطار الأرض من كلّ ناحية(6) ، لِيُرَوْا أَعْمٰالَهُمْ التي عملوها في الدنيا من خير و شرّ، كما دلّت الأخبار على تجسّمها، أو المراد ليروا جزاء أعمالهم أو ليروها مكتوبة في صحفهم.

فَمَنْ يَعْمَلْ من الناس في الدنيا مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ و مقدار نملة، أو وزن ما يرى في شعاع الشمس عملا خَيْراً و حسنا يَرَهُ في يوم القيامة

وَ مَنْ يَعْمَلْ في الدنيا مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ و أقلّ قليل عملا شَرًّا و سوءا يَرَهُ في ذلك اليوم.

عن ابن عباس، في تفسير الذرّة قال: إذا وضعت راحتك على الأرض ثمّ رفعتها، فكلّ واحد ممّا لزق بها من التراب ذرّة(7).

ص: 551


1- . تفسير الرازي 59:32، تفسير أبي السعود 188:9، تفسير روح البيان 493:10.
2- . تفسير الرازي 59:32، تفسير أبي السعود 188:9.
3- . تفسير الرازي 60:32.
4- . تفسير روح البيان 493:10.
5- . تفسير القمي 433:2، تفسير الصافي 358:5.
6- . تفسير الرازي 60:32.
7- . تفسير الرازي 61:32، تفسير روح البيان 494:10.

و عنه رضى اللّه عنه: ليس من مؤمن و لا كافر عمل خيرا أو شرّا إلاّ أراه اللّه إياه، أمّا المؤمن فيغفر له سيئاته و يثيبه بحسناته، و أمّا الكافر فيردّ حسناته تحسيرا له و يعذّب بسيئاته(1).

و عن الباقر عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «يقول: إذا كان من أهل النار و قد عمل في الدنيا مثقال ذرّة خيرا يره يوم القيامة حسرة، إنّه كان عمله لغير اللّه، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ يقول: إذا كان من أهل الجنّة و عمل شرا، رأى ذلك الشرّ يوم القيامة ثمّ يغفر له»(2).

و قيل: من يعمل مثقال ذرّة من خير و هو كافر فانّه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتّى يلقى الآخرة، و ليس فيها شيء، و هو مرويّ عن ابن عباس(3).

قيل: نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل، فيستقلّ أن يعطيه التمرة و الكسرة و الجوزة، و يقول: ما هذا بشيء، و إنّما نؤجر على ما نعطي(4) ، و كان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، و يقول: لا شيء عليّ من هذا، إنّما الوعيد بالنار على الكبائر، فنزلت هذه الآية ترغيبا في القليل من الخير، فانّه يوشك أن يكثر، و تحذيرا من اليسير من الذنب، فانّه يوشك أن يكبر(5).

قيل: إنّها أحكم آية، و سمّيت الجامعة(6).

روى أنّ جدّ الفرزدق بن صعصعة بن ناجية أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستقرئه، فقرأ هذه الآية، فقال:

حسبي حسبي، فألقى نفسه على الأرض و بكى(7).

و روي أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: علّمني ممّا علّمك اللّه، فدفعه إلى رجل يعلّمه القرآن، فعلّمه إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ حتّى بلغ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ إلى آخره، فقال: حسبي، فأخبر بذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: «دعه فقد فقه الرجل»(8).

و في الحديث العامّي: «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن»(9) و في بعض الأخبار أنّها تعدل نصف القرآن(10).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا تملّوا من قراءة إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا فانّ من كانت قراءته في نوافله لم يصبه اللّه بزلزلة أبدا، و لم يمت بها، و بصاعقة، و لا بآفة من آفات الدنيا، فاذا مات امر به إلى الجنة، فيقول اللّه عزّ و جلّ: عبدي أبحتك جنّتي، فاسكن منها حيث شئت و هويت...» الخبر(7).

ص: 552


1- . تفسير الرازي 61:32، تفسير أبي السعود 189:9، تفسير روح البيان 494:10.
2- . تفسير القمي 433:2، تفسير الصافي 358:5.
3- . تفسير الرازي 61:32.
4- . في النسخة: يؤخر على ما يعطي.
5- . تفسير الرازي 62:32، و في النسخة: أن يكثر.
6- . مجمع البيان 800:10، تفسير الصافي 358:5، تفسير روح البيان 495:10. (7-8-9-10) . تفسير روح البيان 495:10.
7- . ثواب الأعمال: 124، مجمع البيان 796:10، تفسير الصافي 359:5.

في تفسير سورة العاديات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيٰاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرٰاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) ثمّ لمّا ختمت سورة الزّلزال المتضمّنة لبعض أهوال القيامة، و حشر الناس إلى الموقف، و شهادة الأرض بأعمالهم، نظمت سورة وَ الْعٰادِيٰاتِ المتضمّنة لبيان بعث الناس من القبور، و شهادة الانسان على نفسه بالكفران، و بيان علم اللّه تعالى بأعمال الناس من خير أو شرّ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بخيل الغزاة و المجاهدين في سبيل اللّه حال عدوها بقوله:

وَ الْعٰادِيٰاتِ من الخيل نحو الأعداء، و هي تضبح و تتنفّس من شدّة العدو ضَبْحاً و نفسا له صوت، ليس بصهيل و حمحمة، يسمع من أفواه الأفراس(1) و أجوافها. و قيل: إن العدو لمّا كان ملازما للضّبح(2) ، كأنّه أراد بالعاديات الضابحات، و المعنى، و الضابحات ضبحا شديدا

فَالْمُورِيٰاتِ و المخرجات للنار من الأحجار قَدْحاً و ضربا بحوافرهنّ و سنابكهنّ الحجارة، فانّ الإيراء من لوازم العدو الشديد في أرض ذات حجارة.

عن ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل، فأورت منه النار، مثل الزّند إذا قدح(3).

و قيل الإيراء بالقدح و حبك حوافر الخيل كناية عن تهيّج الحرب بين أصحاب الخيل و بين عدوّهم(4).

و قيل: أريد من الموريات جماعة الغزاة(5) يورون النار بالليل لحوائجهم و طعامهم. و قيل: الموريات أفكار الرجال توري نار المكر و الخديعة، و نسب ذلك إلى ابن عباس(3).

ص: 553


1- . في النسخة: الفرس.
2- . تفسير روح البيان 496:10. (3-4-5) . تفسير الرازي 65:32.
3- . تفسير الرازي 65:32.

و قيل: اريد بالموريات قدحا المنجحات أمرا، و المراد الذين وجدوا مقصودهم و فازوا بمطلوبهم من الغزو(1).

فَالْمُغِيرٰاتِ على عدوّ حال كون الوقت صُبْحاً كما هو المعتاد عند العرب على ما قيل في الغارات يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدوّ، و يهجمون عليهم صباحا على حين الغفلة ليروا ما يأتون و ما يدرون(2).

فَأَثَرْنَ و هيجن بِهِ قيل: يعني بالعدوّ(3). و قيل: يعني في ذلك الوقت، أو في ذلك المكان(4)نَقْعاً و غبارا أو صياحا(3) من النوائح. قيل: إنّه عطف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل، و المعنى: و اللائي عدون فأورين، و أغرن و أثرن (4)

فَوَسَطْنَ بِهِ و في ذلك الوقت، أو بسبب العدو جَمْعاً من جموع الأعداء، و دخلن بينهم(5).

روى أنّه بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الناس من بني كنانة سريّة، و استعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري، و كان أحد النّقباء، فأبطأ عليه خبرها شهرا، فقال المنافقون: إنهم قتلوا، فنزلت السورة إخبارا للنبي صلّى اللّه عليه و آله بسلامتها، و البشارة له بإغارتها على القوم(6).

و في (الأمالي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه السورة فقال: «وجّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمر بن خطاب في سريّة فرجع منهزما يجبّن أصحابه و يجبنونه، فلمّا انتهى إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام:

أنت صاحب القوم، فسر أنت و من تريد من فرسان المهاجرين و الأنصار، فوجّهه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال له: اكمن النهار و سر الليل و لا تفارقك العين، قال: «فانتهى عليّ، إلى ما أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسار إليهم، فلمّا كان عند الصبح أغار عليهم، فأنزل اللّه على نبيّه: وَ الْعٰادِيٰاتِ إلى آخرها»(7).

و القمي عنه: «أنّها نزلت في أهل وادي اليابس... اجتمعوا اثني عشر ألف فارس، و تعاقدوا و تعاهدوا و تواثقوا [على] أن لا يتخلّف رجل عن رجل، و لا يخذل أحد أحدا، و لا يفرّ رجل عن صاحبه حتّى يموتوا كلّهم على حلف واحد، و يقتلوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله و علي بن أبي طالب عليه السّلام، فنزل جبرئيل فأخبره بقصّتهم، و ما تعاقدوا عليه و تواثقوا و امره أن يبعث أبا بكر إليهم في أربعة آلاف من المهاجرين فصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: يا معشر المهاجرين و الأنصار، إنّ جبرئيل قد أخبرني أنّ أهل وادي اليابس اثنا عشر ألفا استعدّوا و تعاهدوا و تعاقدوا على

ص: 554


1- . تفسير الرازي 65:32.
2- . تفسير روح البيان 496:10. (3و4) . تفسير الرازي 66:32.
3- . في النسخة: صيحا.
4- . تفسير الرازي 66:32، و في النسخة: و أغرين و أثرن.
5- . في النسخة: بينهن.
6- . تفسير روح البيان 497:10.
7- . أمالى الطوسي: 913/407، تفسير الصافي 361:5.

أن لا يغدر رجل منهم بصاحبه، و لا يفرّ عنه، و لا يخذله حتّى يقتلوني و أخي علي بن أبي طالب، و أمرني أن أسيّر إليهم أبا بكر في أربعة آلاف فارس، فجدّوا في أمركم، و استعدوا لعدوكم، و انهضوا إليهم على اسم اللّه و بركته يوم الاثنين إن شاء اللّه.

فأخذ المسلمون عدّتهم و تهيّئوا، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر بأمره، و كان فيما أمره به أنّه إذا رآهم أن يعرض عليهم الاسلام، فانّ تابعوا و إلاّ واقعهم - أي حاربهم.

فقتل مقاتليهم، و سبي ذراريهم، و استباح أموالهم، و خرّب ضياعهم و ديارهم.

فمضى أبو بكر و من معه من المهاجرين و الأنصار في أحسن عدّة و أحسن هيئة، يسير سيرا رفيقا حتّى انتهوا إلى أهل وادي اليابس، فلمّا بلغ القوم نزولهم عليهم، و نزل أبو بكر و أصحابه قريبا منهم، خرج عليهم من أهل وادي اليابس مائتا رجل مدجّجين بالسلاح، فلمّا صادفوهم قالوا لهم: من أنتم، و من أين أقبلتم، و أين تريدون؟ ليخرج إلينا صاحبكم حتّى تكلّمه.

فخرج إليهم أبو بكر في نفر من أصحابه المسلمين، فقال لهم: أنا أبو بكر صاحب رسول اللّه. قالوا:

ما أقدمك علينا؟ قال: أمرني رسول اللّه أن أعرض عليكم الاسلام، و أن تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون، و لكم ما لهم، و عليكم ما عليهم، و إلاّ فالحرب بيننا و بينكم. قالوا: أما و اللاّت و العزّى، لو لا رحم ماسّة و قرابة قريبة لقتلناك و جميع أصحابك قتلة تكون حديثا لمن [يكون] بعدكم، فارجع أنت و من معك و ارتجوا(1) العافية، فانّا نريد صاحبكم بعينه و أخاه علي بن أبي طالب.

فقال أبو بكر لأصحابه: يا قوم، القوم أكثر منكم أضعافا، و أعدّ منكم، و قد نأت داركم عن إخوانكم المسلمين، فارجعوا نعلم رسول اللّه بحال القوم. فقالوا له جميعا: خالفت يا أبا بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما أمرك به، فاتّق اللّه، و واقع القوم، و لا تخالف قول رسول اللّه. فقال: إنّي أعلم ما لا تعلمون، و الشاهد يرى ما لا يرى الغالب.

فانصرف و انصرف الناس اجمعون، فأخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بمقالة القوم، و ما ردّه عليهم أبو بكر، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا بكر، خالفت أمري، و لم تفعل ما أمرتك، فكنت لي و اللّه عاصيا فيما أمرتك.

فقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و صعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: يا معشر المسلمين، إنّي أمرت أبا بكر أن يسير إلى أهل وادي اليابس، و أن يعرض عليهم الإسلام، و يدعوهم إلى اللّه، فان أجابوه و إلاّ واقعهم، و إنّه سار إليهم و خرج منهم إليه مائتا رجل، فلمّا سمع كلامهم و ما استقبلوه به انتفخ سحره(2) ،

ص: 555


1- . في المصدر: و اربحوا.
2- . في المصدر و النسخة و تفسير الصافي: صدره، و انتفخ سحره: امتلأ خوفا و جبن.

و دخله الرّعب منهم، و ترك قولي، و لم يطع أمري، و إن جبرئيل أمرني عن اللّه أن أبعث إليهم عمر مكانه في أربعة آلاف فارس، فسر يا عمر على اسم اللّه، و لا تعمل كما عمل أبو بكر أخوك، فانّه قد عصى اللّه و عصاني، و أمره بما أمر به أبا بكر.

فخرج عمر و المهاجرون و الأنصار الذين كانوا مع أبي بكر، يقتصد بهم في مسيرهم حتّى شارفوا القوم، و كانوا قريبا بحيث يراهم و يرونه، و خرج إليهم مائتا رجل، و قالوا له و لأصحابه مثل مقالتهم لأبى بكر، فانصرف و انصرف الناس معه [و كاد أن يطير قلبه مما رأى من عدّة القوم و جمعهم، و رجع يهرب منهم.

فنزل جبرئيل عليه السّلام فأخبر محمدا صلّى اللّه عليه و آله بما صنع هذا و أنّه قد انصرف و انصرف المسلمون معه،] فصعد النبي صلّى اللّه عليه و آله المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، و أخبر بما صنع عمر، و ما كان منه، و أنّه قد انصرف و انصرف المسلمون معه مخالفا لأمري عاصيا لقولي، فقدم عليه فأخبره بمثل ما أخبر به صاحبه، فقال رسول اللّه: يا عمر، عصيت اللّه في عرشه و عصيتني، و خالفت قولي، و عملت برأيك، فقبّح اللّه رأيك، و إنّ جبرئيل أمرني أن أبعث علي بن أبي طالب في هؤلاء المسلمين، و أخبرني أنّ اللّه يفتح عليه و على أصحابه.

فدعا عليا، و أوصاه بما أوصا به أبا بكر و عمر، و أصحابه أربعة آلاف، و أخبره أنّ اللّه سيفتح عليه و على أصحابه، فخرج علي عليه السّلام و معه المهاجرون و الأنصار، و سار بهم غير سير أبي بكر و عمر، و ذلك أنّه أعنف بهم [في] السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب و تحفى(1) دوابّهم، فقال لهم:

لا تخافوا فإنّ رسول اللّه قد أمرني بأمر و أخبرني أنّ اللّه سيفتح علي و عليكم، و ابشروا فانّكم على خير، و إلى خير. فطابت نفوسهم و قلوبهم، و صاروا على ذلك السير و التّعب حتّى إذا كانوا قريبا منهم حيث يرونهم و يراهم، أمر أصحابه أن ينزلوا، و سمع أهل وادي اليابس بمقدم علي بن أبي طالب و أصحابه، فاخرجوا إليهم منهم مائتي رجل شاكّين بالسلاح.

فلمّا رآهم علي عليه السّلام خرج إليهم في نفر من أصحابه، فقالوا لهم: من أنتم، و من أين أقبلتم، و أين تريدون؟ قال علي عليه السّلام: أنا على بن أبي طالب، ابن عمّ رسول اللّه و أخوه، و رسوله إليكم، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أن محمدا عبده و رسوله، و لكم إن آمنتم ما للمسلمين، و عليكم ما على المسلمين من خير و شرّ. فقالوا له: إيّاك أردنا و أنت طلبتنا، قد سمعنا مقالتك، فخذ حذرك، و استعدّ

ص: 556


1- . حفي من كثرة المشي: رقّت قدمه أو حافره.

للحرب العوان(1). و اعلم أنا قاتلوك و قاتلوا أصحابك، و الموعد فيما بيننا و بينك غدا [ضحوه]، و قد أعذرنا فيما بيننا و بينك.

فقال علي عليه السّلام: ويلكم تهدّدوني بكثرتكم و جمعكم، فأنا استعين باللّه و بملائكته و المسلمين عليكم، و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم، فانصرفوا إلى مراكزهم، و انصرف عليّ إلى مركزه.

فلمّا جنّه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا(2) إلى دوابّهم و يقضموا(3) و يسرجوا، فلمّا انشقّ عمود الصبح صلّى بالناس بغلس، ثمّ غار عليهم بأصحابه، و لم يعلموا حتى وطئتهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتّى قتل مقاتليهم، و سبى ذراريهم، و استباح أموالهم، و خرّب ديارهم، و أقبل بالاسارى و الأموال معه.

فنزل جبرئيل و اخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما فتح اللّه على علي عليه السّلام و جماعة المسلمين، فصعد رسول اللّه المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، اخبر الناس بما فتح اللّه على المسلمين، و أعلمهم أنّه لم يصب منهم إلاّ رجلين و نزل، فخرج يستقبل عليا عليه السّلام في جميع أهل المدينة من المسلمين حتّى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة، فلمّا رآه علي عليه السّلام مقبلا نزل عن دابّته، و نزل النبي صلّى اللّه عليه و آله حتّى التزمه و قبّل ما بين عينيه، فنزل جماعة المسلمين إلى حيث نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقبل بالغنيمة و الاسارى و ما رزقهم اللّه من أهل وادي اليابس».

ثمّ قال الصادق عليه السّلام: «ما اغتم المسلمون مثلها قطّ، إلا أن يكون من خيبر، فانّها مثل خيبر، و أنزل اللّه في ذلك اليوم هذه السورة وَ الْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً يعني بالعاديات، الخيل تعدو بالرجال، و الضبح:

ضبحها في أعنّتها و لجمها فَالْمُورِيٰاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرٰاتِ صُبْحاً فقد أخبرك أنّها غارت عليهم صبحا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً قال: يعني الخيل يأثرن بالوادي [نقعا] فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً...» الخبر(4).

و روى بعض العامة عن علي عليه السّلام و ابن مسعود، أن المراد بالعاديات الإبل(5).

و رووا عن ابن عباس أنّه قال: بينا أنا أجالس في الحجر إذ أتاني رجل فسألني عن اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً ففسّرتها بالخيل، فذهب إلى علي عليه السّلام و هو تحت سقاية زمزم، فسأله و ذكر له ما قلت، فقال:

«ادعه لي» فلمّا وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به! و اللّه إن كانت لأوّل غزوة في الاسلام بدر، و ما كان معنا إلاّ فرسان: فرس للزبير، و فرس للمقداد وَ الْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً الإبل من

ص: 557


1- . و هي الحرب التي قوتل فيها مرّة بعد اخرى كأنهم جعلوا الأولى بكرا، و الحرب العوان، هي أشدّ الحروب.
2- . في النسخة: يجيئوا.
3- . أقضم القوم: امتاروا شيئا قليلا في القحط، و أقضم الدابة: علفها القضم، و هو نبت من الحمض.
4- . تفسير القمي 134:2، تفسير الصافي 361:5.
5- . تفسير الرازي 63:32.

عرفة إلى: مزدلفة، و من المزدلفة إلى منى، يعني إبل الحاج. قال ابن عباس: فرجعت من قولي إلى قول علي عليه السّلام(1).

و على هذا فَالْمُورِيٰاتِ قَدْحاً يعني أنّ الحوافر ترمي بالحجر من شدّة العدو، فتضرب به حجرا آخر فتوري النار(2) ، أو المراد إبراء الحاجّ النيران لحوائجهم بالمزدلفة(3). و المراد بالمغيرات صبحا المسرعات من المزدلفة إلى منى في صبح يوم النّحر(4). قالوا: الإغارة جاء بمعنى السرعة في السير، و أثرن بالعدو نقعا و غبارا. و قيل: النّقع اسم للوادي الذي بين المزدلفة و منى(5).

و قوله: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً يعني توسّط بالعدو المزدلفة، فانّ المزدلفة تسمّى جمعا لاجتماع الناس فيها، و الغرض من القسم بإبل الحاجّ، أو بخيل الغزاة في سبيل اللّه، إظهار شرفها المشعر بغاية كرامة راكبهما و فضلهم، و الترغيب في الجهاد و الحجّ.

إِنَّ الْإِنْسٰانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (2) وَ إِنَّهُ عَلىٰ ذٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلاٰ يَعْلَمُ إِذٰا بُعْثِرَ مٰا فِي الْقُبُورِ (9) وَ حُصِّلَ مٰا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّ الْإِنْسٰانَ بالطبع و الجبلّة الأصيلة لِرَبِّهِ المنعم عليه بالنّعم العظام لَكَنُودٌ و كفور، كما عن ابن عباس و جمع من المفسرين(6).

و عن أبي امامة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الكنود الكفور الذي يمنع رفده، و يأكل وحده، و يضرب عبده»(7) و قيل: أصل الكنود مانع الحقّ و الخير(8). و قيل: إنّه البخيل(9). و قيل: يعني لوّام لربّه يذكر المصيبات، و ينسى النّعم(10). و على أيّ تقدير يكون ببخله و عصيانه و منعه حقوق ربّه و نسيانه نعمه شديد الكفران.

وَ إِنَّهُ عَلىٰ ذٰلِكَ المذكور من كفرانه لربّه لَشَهِيدٌ يشهد بذلك على نفسه، لظهور آثاره في أخلاقه و أفعاله بحيث لا يمكنه إنكاره

وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ و الاشتياق إلى الأموال الدنيوية لَشَدِيدٌ و بالغ غايته، و إنّما سمّى المال خيرا جريا على عادة الناس.

ثمّ ذمّه سبحانه على كفرانه لنعم ربّه مع علمه بكفرانه، و إكثاره في حبّ المال المستلزم للبخل الشديد، و غفلته عن سوء عاقبته بقوله:

أَ فَلاٰ يَعْلَمُ هذا الانسان الكفور الطالب لمال الدنيا أنّ اللّه مجازيه و معاقبه على سيئاته إِذٰا بُعْثِرَ و اخرج مٰا فِي الْقُبُورِ من الأموات و بعث إلى المحشر

ص: 558


1- . تفسير الرازي 63:32. (2-3-4-5) . تفسير الرازي 63:32.
2- . تفسير الرازي 67:32، عن ابن عباس و مجاهد و عكرمة و الضحاك و قتادة. (7-8-9-10) . تفسير الرازي 67:32.

للمجازاة على أعمالهم في الدنيا

وَ حُصِّلَ و اخرج كما يخرج الدّهن من اللّبن مٰا فِي الصُّدُورِ من ضمائر السوء و النيّات الرديّة الفاسدة و كشف عنها، فضلا عن أعمالهم القبيحة الجلية

إِنَّ رَبَّهُمْ و خالق أرواحهم و أجسادهم و قلوبهم و شراشر وجودهم رَبَّهُمْ و بأعمالهم و أحوالهم و أخلاقهم يَوْمَئِذٍ و حين خروجهم من القبور لَخَبِيرٌ بصير، فيجازيهم على أعمالهم من النّقير و القطمير.

و في الرواية السابقة عن الصادق عليه السّلام في قوله: إِنَّ الْإِنْسٰانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ قال: «لكفور». وَ إِنَّهُ عَلىٰ ذٰلِكَ لَشَهِيدٌ * وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ قال: «يعنيهما، قد شهدا [جميعا] وادي اليابس، و كانا لحب الحياة حريصين»، أَ فَلاٰ يَعْلَمُ إلى آخر السورة قال: «نزلت الآيتان فيهما خاصة، يضمران ضمير السوء، و يعملان به،

فأخبره اللّه خبرهما و فعالهما»(1).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة و العاديات، و أدمن قراءتها، بعثه اللّه عزّ و جلّ مع أمير المؤمنين عليه السّلام يوم القيامة، و كان في رفقائه»(2).

ص: 559


1- . تفسير القمي 439:2، تفسير الصافي 365:5.
2- . ثواب الأعمال: 125، مجمع البيان 801:10، تفسير الصافي 365:5.

ص: 560

في تفسير سورة القارعة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اَلْقٰارِعَةُ (1) مَا الْقٰارِعَةُ (2) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الْقٰارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النّٰاسُ كَالْفَرٰاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَ تَكُونُ الْجِبٰالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) ثمّ لمّا ختمت سورة وَ الْعٰادِيٰاتِ المتضمّنة لبيان خروج الناس من القبور، نظمت سورة القارعة المنبئة بكيفية البعث و المخبرة بحساب الأعمال و حسن حال المؤمنين، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع فيها ببيان بعض أهوال القيامة بقوله:

اَلْقٰارِعَةُ و الحادثة العظيمة التي تقرع القلوب و الأسماع.

ثمّ بالغ سبحانه في تهويلها بقوله:

مَا الْقٰارِعَةُ و أيّ يوم عجيب هي في الفخامة و الفظاعة و الشدّة، و كرّر سبحانه ذكر القارعة لازدياد التهويل و التأكيد.

ثمّ لمّا استفهم عن شئونها تعجيبا له، بيّن أنّ شأنها و عظم خطرها ممّا لا تناله البشر إلاّ بالوحي السماوي بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ يا محمد، و أي شيء أعجب مَا الْقٰارِعَةُ و ما مقدار عظمتها؟ فانّ عظم شأنها فوق إدراك البشر.

قيل: إنّما سمّيت القيامة بالقارعة لأنّ الفزع هو الضرر، و في القيامة تصطك(1) الأجرام العلوية و السفلية اصطكاكا شديدا عند تخريب عالم الدنيا، أو لأنّ القيامة تفزع الناس بالأهوال الاقراع حيث إنّ السماوات تنشقّ و تنفطر، و الشمس و القمر تتكوران، و الكواكب تنتثر، و الجبال تندكّ، و الأرض تزلزل و تبدّل، أو لأنها تفزع أعداء اللّه بالعذاب و الخزي و النّكال(2).

ثمّ بيّن سبحانه بعض أهوالها بقوله:

يَوْمَ يَكُونُ النّٰاسُ بعد إحيائهم و بعثهم من القبور كَالْفَرٰاشِ و الحيوانات التي تطير و تتهافت على السّراج فتحترق اَلْمَبْثُوثِ و المفرّق في الهواء و الأرض، لا تتوجّه إلى جهة واحدة. قيل: وجه الشّبه الكثرة و الانتشار و الضّعف و الذلّة و الاضطراب و التطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار(3).

ص: 561


1- . في النسخة: اصطك.
2- . تفسير الرازي 70:32.
3- . تفسير روح البيان 499:10.

و قيل: وجه الشبه في الآية اختلافهم إلى جهات مختلفة، و تشبيههم في الآية الاخرى بالجراد المنتشر في الكثرة(1).

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تفرّق الناس في وجه الأرض، بيّن سبحانه سعة وجه الأرض بقوله:

وَ تَكُونُ في ذلك اليوم اَلْجِبٰالُ التي على وجه الأرض كَالْعِهْنِ و الصّوف المتلوّن بالألوان المختلفة اَلْمَنْفُوشِ و المتفرّقة(2) أجزاؤه بالنّدف، و المنشور بالإصبع أو آلة اخرى، و فيه تنبيه على أنّ حال الجبال الرواسي إذا كان كذلك عند القارعة، فكيف يكون حال الانسان الضعيف!

فَأَمّٰا مَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ (3) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ (4) وَ أَمّٰا مَنْ خَفَّتْ مَوٰازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هٰاوِيَةٌ (9) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا هِيَهْ (10) نٰارٌ حٰامِيَةٌ (11) ثمّ بيّن سبحانه اختلاف الناس في مقدار الأعمال الحسنة حيث إنّها توزن في ذلك اليوم بالميزان بقوله:

فَأَمّٰا مَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ و أعماله الموزونة، أو كفّة ميزان أعماله الحسنة حين توضع فيها بعد تجسّمها، أو توضع صحيفتها فيها

فَهُوَ سبب رجحان أعماله الحسنة على أعماله السيئة مستقرّ فِي عِيشَةٍ و حياة رٰاضِيَةٍ محبوبة. قيل: يعني ذات رضا، يرضى بها صاحبها(5).

وَ أَمّٰا مَنْ خَفَّتْ في ذلك اليوم مَوٰازِينُهُ لقلّة حسناته و كثرة سيئاته

فَأُمُّهُ التي يأوي إليها كالولد هي هٰاوِيَةٌ و جهنّم يهوى فيها. و قيل: يعني امّ رأسه هاوية في النار، فانّ أهل النار يهوون فيها على رءوسهم(4). و قيل: إنّ امه هاوية كناية عن الهلاكة، فانّ العرب إذا دعوا على رجل بالهلاك قالوا: هوت أمّه، لأنّ الهالك تهوي امّه حزنا و ثكلا(5).

ثمّ عظّم سبحانه الهاوية أو الداهية التي دلّ عليها قوله: فَأُمُّهُ هٰاوِيَةٌ بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ يا محمد مٰا هِيَهْ و ما حقيقتها؟ ثمّ أعلمه بقوله:

نٰارٌ حٰامِيَةٌ أشدّ الحرارة بحيث تكون سائر النيران بالنسبة إليها باردة، نعوذ اللّه منها.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ و أكثر من قراءة القارعة، آمنه اللّه من فتنة الدجّال أن يؤمن به و من قيح(6) جهنّم يوم القيامة»(7) قد تم تفسيرها بتوفيق اللّه تعالى و منه.

ص: 562


1- . تفسير روح البيان 499:10.
2- . في النسخة: و المتفرق.
3- . في ثواب الأعمال، و تفسير الصافي: فيح، و الفيح: سطوح الحرّ و فورانه.
4- . ثواب الأعمال: 125، مجمع البيان 806:10، تفسير الصافي 367:5.
5- . تفسير الرازي 73:32، تفسير روح البيان 500:10. (4و5) . تفسير الرازي 74:32، تفسير روح البيان 500:10.

في تفسير سورة التكاثر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَلْهٰاكُمُ التَّكٰاثُرُ (1) حَتّٰى زُرْتُمُ الْمَقٰابِرَ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة القارعة المتضمّنة لتهويل يوم القيامة و بيان بعض أهواله، و تهديد العصاة بالهاوية، نظمت سورة التكاثر المتضمّنة لتوبيخ الناس على الغفلة عن التفكّر في الآخرة، و عدم الاشتغال بما ينجيهم من الأهوال و العذاب فيها من طاعة اللّه و رسوله، و تهديدهم برؤية الجحيم، و السؤال عن النّعم الدنيوية، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه بتوبيخ الناس على الغفلة عن الآخرة بالاشتغال بالدنيا بقوله:

أَلْهٰاكُمُ و صرفكم أيّها الناس عن ذكر اللّه و طاعته و عبوديته، و التفكّر في آيات توحيده، و التدبّر في أمر الآخرة، و تحصيل موجبات السعادة الأبدية اَلتَّكٰاثُرُ و التفاخر و التباهي بكثرة العدد و الأقرباء

حَتّٰى زُرْتُمُ الْمَقٰابِرَ و توجّهتم إلى الأموات، و استوعبتم عددهم، و تفاخرتم بكثرة أقربائكم منهم.

روي أنّ بني سهم و بني عبد مناف تفاخروا أيّهم أكثر، فكان بنو عبد مناف أكثر، فقال بنو سهم:

عدوا مجموع أحيائنا و أمواتنا [مع] مجموع أحيائكم و أمواتكم، ففعلوا فزاد بنو سهم، فنزلت(1).

و إنّما عبّر سبحانه عن انتقالهم إلى ذكر الأموات بزيارتهم للتهكّم بهم، فانّ زيارة القبور التي حقّها أن تكون مذكّرة للموت مرغّبة إلى الزّهد في الدنيا و الإعراض عنها و ترك التباهي و التفاخر، جعلوها سببا للقسوة و حبّ الدنيا.

و قيل: إنّ المعنى الهاكم التكاثر بالأموال و الأولاد، إلى أن متمّ و أقبرتم مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا، معرضين عمّا يهمّكم من السعي لآخرتكم، فتكون زيارة القبور كناية عن الموت(2).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله سمع أنّه يقرأ هذه الآية و يقول بعدها: «يقول ابن آدم، مالي مالي، و هى لك إلاّ ما

ص: 563


1- . تفسير الرازي 76:32، تفسير أبي السعود 195:9، تفسير روح البيان 502:10.
2- . تفسير أبي السعود 195:9، تفسير الصافي 368:5، تفسير روح البيان 502:10.

أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت؟»(1).

و في التعبير عن ورود القبر بالزيارة إشعار بالخروج منه إلى الحشر و موقف الحساب، حيث إنّ الزائر منصرف و مفارق لا مقيم، و إنّما لم يذكر سبحانه الملهى عنه ليذهب ذهن السامع كلّ مذهب، فيحتمل جميع ما فيه السعادة الأبدية و الخيرات الاخروية و ما فضّل به [من] المقامات العالية و الدرجات الرفيعة.

كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (2) ثُمَّ كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (4) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثمّ ردّ سبحانه المتكاثرين عمّا هم فيه من التكاثر بقوله:

كَلاّٰ ليس الأمر كما تتوهّمون من أنّ السعادة بكثرة العدد أو المال و الأولاد سَوْفَ تَعْلَمُونَ خطأكم، و عن قريب تطّلعون على ضلالتكم، و ذلك العلم و الاطّلاع حين خروج روحكم من أبدانكم، حيث إنّكم حينئذ ترون وحدتكم و عدم نفع الأقرباء و الأموال لكم و شدائد الأهوال قدّامكم، أو حين دخولكم في القبور، حيث إنّكم تعذّبون فيها و لا ناصر لكم.

في الحديث: يسلّط على الكافر في قبره تسعة و تسعون تنّينا تنهشه و تلدغه حتى تقوم الساعة، لو أن تنّينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراء»(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «لو دخلتم قبوركم»(3).

ثمّ أكّد سبحانه التهديد بقوله:

ثُمَّ كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ و في لفظ ثُمَّ دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأول، لأنّ فيه تنزيلا لبعد المرتبة منزلة بعد الزمان.

و قيل: إنّ التهديد الأول بعذاب القبر، و الثاني بأهوال القيامة، كما روي عن ذرّ أنه قال: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى سمعت عليا عليه السّلام يقول: «كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أي سوف تعلمون في القبر، ثمّ في القيامة»(4).

و قيل: إنّ الأول عند الموت حين يقال له: لا بشرى، و الثاني في سؤال القبر، من ربّك، و من نبيك، و ما دينك؟(5)

ص: 564


1- . مجمع البيان 812:10، تفسير الصافي 368:5، تفسير الرازي 77:32، تفسير روح البيان 502:10.
2- . روضة الواعظين: 493، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، تفسير الصافي 369:5، لم ينسبه إلى أحد.
3- . تفسير الرازي 78:32، تفسير روح البيان 503:10.
4- . تفسير الرازي 78:32، تفسير روح البيان 503:10.
5- . تفسير روح البيان 503:10.

عن الصادق عليه السّلام: «لو خرجتم من قبوركم إلى محشركم».

و قوله:

كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (1) عند النشور حين ينادي المنادي: فلان شقيّ شقاوة لا سعادة بعدها أبدا أو حين يقال: وَ امْتٰازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «ذلك حين يؤتى بالصراط فينصب بين جسري جهنّم»(3).

و توصيف العلم باليقين و إضافته إليه، للدلالة على قوّة العلم.

و عن الصادق عليه السّلام في الآية قال: «المعاينة»(4).

و قيل: إنّ المراد باليقين الموت و البعث و القيامة، لأنّهما إذا وقعا جاء اليقين و زال الشكّ، فالمعنى:

لو تعلمون علم الموت و ما يلقى الانسان معه و بعده في القبر و في الآخرة لم يلهكم التكاثر و التفاخر عن ذكر اللّه و عن الاستعداد للآخرة(5).

و قيل: إنّ المعنى لو تعلمون ما يجب عليكم لتمسّكتم به، أو لو تعلمون لأيّ أمر خلقتم لاشتغلتم به(6).

و قيل: يعني لو تعلمون ما بين أيديكم على الأمر اليقين، أي ما تستيقنونه، لفعلتم ما لا يوصف و لا يكتنه، و لكنّكم ضلاّل جهلة(5).

ثمّ أوضح سبحانه ما أبهمه من الإنذار و الوعيد بقوله:

لَتَرَوُنَّ رؤية العين اَلْجَحِيمَ يوم القيامة، و هو جواب قسم مقدّر، و المعنى: و اللّه لترونّها.

و قيل: إنّه جواب لَوْ (6) و المعنى: لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترونّ رؤية بالقلب الجحيم، و تكون دائما في نظركم، لا تغيب عنكم أصلا.

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله:

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا رؤية تكون هي عَيْنَ الْيَقِينِ و نفسه، و في جعل الرؤية التي هي سبب اليقين من المبالغة ما لا يخفى.

و قيل: إنّ الرؤية أولا من البعيد، و الثانية إذا صاروا إلى شفير جهنّم(7). و قيل: تكرارها للدلالة على دوامها(8).

ص: 565


1- . روضة الواعظين: 493، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله تفسير الصافي 369:5، لم ينسبه إلى أحد.
2- . يس: 59/36.
3- . روضة الواعظين: 493، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، تفسير الصافي 369:5، لم ينسبه إلى أحد.
4- . المحاسن: 250/247، تفسير الصافي 369:5. (5و6) . تفسير الرازي 79:32.
5- . تفسير الرازي 79:32.
6- . تفسير الرازي 78:32.
7- . تفسير الرازي 80:32.
8- . تفسير الرازي 80:32.

ثُمَّ و اللّه أيّها المتكاثرون لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ و في وقت رؤية الجحيم عَنِ النَّعِيمِ الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين و العمل به، فتعذّبون على كفرانه و ترك شكره.

قيل: إنّ النعمة المسئول(1) عنها الصحّة و الفراغ(2) ، لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «نعمتان معنون فيهما كثير من الناس الصحّة و الفراغ»(3). و قيل: هي الماء البارد، لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل ما يسأل العبد [عنه] من النعيم فيقال له: أ لم نصح جسمك، و نروك من الماء البارد»(4).

و قيل: إنّها النّعم الخمس شبع البطن، و برد الشراب، و لذّة النوم، و ظلال المساكن، و اعتزال الخلق(3) ، كما عن الصادق عليه السّلام(4).

و قيل: ما سوى كنّ يؤويه، و ثوب يواريه، و كسرة تقوّيه يسأل عنه(5).

و قيل: هو نعمة وجود محمد صلّى اللّه عليه و آله و بعثه حيث قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّٰهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهٰا (6).

و عنهما عليهما السّلام: «هو الأمن و الصّحة»(7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «الرّطب و الماء البارد»(8).

و في (الفقيه) قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ نعيم مسئول عنه صاحبه إلاّ ما كان في غزو أو حجّ»(9) و عن الصادق عليه السّلام قال: «تسأل هذه الامّة عمّا أنعم اللّه عليهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ بأهل بيته عليهم السّلام»(10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: «أنّ النعيم الذي يسأل عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من حلّ محلّه من أصفياء اللّه، فانّ اللّه أنعم بهم على من اتّبعهم من أوليائهم»(11).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سأل أبا حنيفة عن هذه الآية فقال: «ما النعيم عندك، يا نعمان؟» قال: القوت من الطعام و الماء البارد. فقال: «لئن أوقفك اللّه يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولنّ وقوفك بين يديه».

قال: فما النعيم، جعلت فداك؟ قال: «نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم اللّه بنا على العباد، و بنا ائتلفوا

ص: 566


1- . في النسخة: المسئولة.
2- . تفسير روح البيان 504:10. (3و4) . تفسير روح البيان 504:10.
3- . تفسير الرازي 81:32 و 82، تفسير روح البيان 504:10.
4- . روضة الواعظين: 493، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، تفسير الصافي 369:5.
5- . تفسير روح البيان 504:10.
6- . تفسير روح البيان 504:10، و الآية من سورة النحل: 83/16.
7- . مجمع البيان 812:10، تفسير الصافي 369:5.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 110/38:2، تفسير الصافي 369:5.
9- . من لا يحضره الفقيه 621/142:2، تفسير الصافي 369:5.
10- . تفسير القمى 440:2، تفسير الصافي 369:5.
11- . الاحتجاج: 252، تفسير الصافي 370:5.

بعد أن كانوا مختلفين، و بنا ألّف اللّه بين قلوبهم، و جعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، و بنا هداهم اللّه إلى الاسلام، و هو النعمة التي لا تنقطع، و اللّه سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم به عليهم، و هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و عترته عليهم السّلام»(1).

و في رواية اخرى أنّه عليه السّلام قال: «بلغني أنّك تفسّر النعيم في هذه الآية بالطعام الطيب و الماء البارد في اليوم الصائف؟» قال: نعم. قال: «لو دعاك رجل و اطعمك طعاما طيبا و سقاك ماء باردا ثم امتن عليك به إلى ما كنت تنصبه؟» قال: إلى البخل. قال: «أ فتبخّل اللّه تعالى؟!» قال: فما هو؟ قال: «حبّنا أهل البيت»(2).

و عن الرضا عليه السّلام قال: «ليس في الدنيا نعيم حقيقي» فقال له بعض الفقهاء ممّن حضر: يقول اللّه تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أما هذا النعيم في الدنيا هو الماء البارد؟ فقال له الرضا عليه السّلام و علا صوته: «كذا فسّرتموه أنتم، و جعلتموه على ضروب، فقالت طائفة: هو الماء البارد، و قال غيرهم: هو الطعام الطيب، و قال آخرون: هو طيب النوم، و لقد حدّثني أبي عن أبيه أبى عبد اللّه عليه السّلام أنّ أقوالكم هذه ذكرت عنده في قول اللّه عز و جلّ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فغضب و قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ لا يسأل عباده عمّا تفضّل عليهم به، و لا يمنّ بذلك عليهم، و الامتنان بالانعام مستقبح من المخلوقين، فكيف يضاف إلى الخالق عزّ و جلّ ما لا يرضى المخلوقون به؟! و لكن النعيم حبّنا أهل البيت و مولاتنا، يسأل اللّه عنه بعد التوحيد و النبوة، لأنّ العبد إذا وفى بذلك أدّاه إلى نعيم الجنة الذي لا يزول»(3).

و عن الصادق عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «إنّ اللّه أكرم و أجلّ أن يطعمكم طعاما فيسوّغكموه ثمّ يسألكم عنه، و لكن يسألكم عمّا أنعم عليكم بمحمد و بآل محمد»(4).

و عن الباقر عليه السّلام «إنّما يسألكم عمّا أنتم عليه من الحقّ»(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «ثلاثة لا يحاسب العبد المؤمن عليهم: طعام يأكله، و ثوب يلبسه، و زوجة صالحة تعاونه و يحصن بها فرجه»(6).

و في رواية قال: «إنّ اللّه أكرم من أن يسأل مؤمنا عن أكله و شربه»(7).

ص: 567


1- . مجمع البيان 813:10، تفسير الصافي 370:5.
2- . تفسير الصافي 370:5، بحار الأنوار 220:10.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 8/129:2، تفسير الصافي 370:5.
4- . الكافي 3/280:6، تفسير الصافي 371:5.
5- . الكافي 5/280:6، تفسير الصافي 371:5.
6- . المحاسن 80/399، الكافي 2/280:6، تفسير الصافي 371:5.
7- . المحاسن: 81/399، تفسير الصافي 371:5.

عن الصادق عليه السّلام: «من ذكر اسم اللّه على الطعام، لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام»(1).

أقول: الظاهر وجه الجمع بين الأخبار أنّ النعيم(2) الذي يسأل عنه جميع الناس، نعمة رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ولاية أهل بيته عليهم السّلام أنّهم هل أدّوا شكرها بقبولها و العمل بلوازمها؟ فاذا تبيّن شكرهم لها لم يسألوا عن صرف ما يحتاجون إليه من النّعم في حوائجهم، بل يسألون عن صرف ما زاد عليه من الطيبات، و إذا لم يكونوا مؤمنين بالرسالة مسلّمين(3) للولاية يسألون عن جميع النّعم التي صرفت(4) في غير طاعة اللّه زائدا على الضروريات، و اللّه أعلم.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة أَلْهٰاكُمُ التَّكٰاثُرُ في فريضة كتب له أجر مائة شهيد، و من قرأها في نافلة كتب له أجر خمسين شهيد، و صلّى معه في فريضته أربعون صفّا من الملائكة إن شاء اللّه تعالى»(5).

ص: 568


1- . المحاسن: 269/434، تفسير الصافي 369:5.
2- . في النسخة: النّعم.
3- . في النسخة: و المسلمين.
4- . في النسخة: الذي صرف.
5- . ثواب الأعمال: 125، مجمع البيان 810:10، تفسير الصافي 371:5.

في تفسير سورة العصر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الْعَصْرِ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة التكاثر المتضمّنة لذمّ الانسان على التكاثر بالعدد و المال، و تهديده برؤية الجحيم و السؤال عن النعيم، نظمت سورة وَ الْعَصْرِ المتضمّنة لبيان كون الانسان بسبب رغبته في النّعم الدنيوية في خسران و ضرر عظيم، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بالعصر بقوله:

وَ الْعَصْرِ قيل: إنّ اللّه أراد به الدهر و مطلق الزمان، لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه تعالى أقسم بالدهر(1) ، الدهر(2) مشتمل على السراء و الضراء، و الصحّة و السقم، و الغنى و الفقر(3) و غيرها من آثار قدرة اللّه تعالى، و لأنّه من أصول النّعم الذي لو ضيعه يسأل عنه.

و قيل: إنّه تعالى أراد به وقت العصر، و العشي الذي هو بعد مضيّ قليل من الزوال إلى الغروب، و أقسم به كما أقسم بالضّحى لظهور آثار قدرة اللّه فيهما، و لأنّ لوقت العصر بسبب خلق آدم فيه شرفا زائدا على سائر الأوقات(4) ، و لأنّ في القسم به تنبيها على أنّه وقت إذا لم يحصّل الانسان فيه ربحا كان من الخاسرين.

و قيل: أراد به سبحانه عصر النبوة(5) ، فانّه أشرف الأزمنة فاقسم سبحانه بزمان النبي صلّى اللّه عليه و آله كما أقسم بمكانه بقوله: لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ * وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهٰذَا الْبَلَدِ (6) و أقسم بعمره بقوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (7).

و قيل: إنّ المراد به صلاة العصر، لظهور كثير من الأخبار في كمال فضيلتها(8).

ص: 569


1- . تفسير الرازي 84:32.
2- . في النسخة: و لا الدهر.
3- . تفسير الرازي 84:32.
4- . تفسير روح البيان 506:10.
5- . تفسير أبي السعود 197:9، تفسير الصافي 372:5، تفسير روح البيان 506:10.
6- . البلد: 1/90 و 2.
7- . الحجر: 72/15.
8- . تفسير أبي السعود 197:9، تفسير الرازي 85:32.

أقول: و يحتمل كون المراد عصر ظهور القائم عليه السّلام [و سيأتي]، عن الصادق عليه السّلام(1).

إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّ الْإِنْسٰانَ بجميع أفراده لَفِي خُسْرٍ عظيم و نقصان و ضرر لا نهاية له من حيث تضييع عمره و إتلاف ماله و إهلاك نفسه باتّباع الشهوات و الانهماك و اللذّات و الاستغراق في حبّ الدنيا و الاشتياق إليها، مع كونه قادرا في مدّة عمره على تحصيل السعادة الأبدية و الراحة السرمدية و النّعم الدائمة بطاعة ربّه و اتّباع رضوانه.

و عن الصادق عليه السّلام: «إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ إلى آخر الدهر»(2).

و عن ابن عباس: اريد من الانسان هنا جماعة المشركين، كالوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و الأسود بن عبد المطّلب(3). و قيل: اريد أبو لهب(4). و روي أنّه اريد به أبو جهل(3). و روي أنّ هؤلاء كانوا يقولون: إنّ محمدا لفي خسر، فأقسم اللّه تعالى إنّ الأمر بالضدّ ممّا توهّموه(4).

أقول: لا منافاة بين إرادة العموم من الآية، و نزولها في بعضهم، كإرادة العموم من قوله إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ (5) و نزوله في حقّ الوليد، و يشهد لإرادة العموم الاستثناء بقوله:

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّٰالِحٰاتِ و اكتسبوا بأعمارهم و أموالهم الفضائل و الخيرات لأنفسهم المستتبعة للدرجات الرفيعة و المقامات العالية في الآخرة، فانّهم في تجارة لن تبور، حيث باعوا الدنيا الدنيّة الخسيسة، و اشتروا الآخرة الباقية النفيسة، فيا لها من صفقة ما أربحها!

و هم مضافا إلى تكميل نفوسهم بالايمان و العمل، يسعون في تكميل نفوس غيرهم بأن ردعوهم عن الشرك وَ تَوٰاصَوْا و تعاهدوهم على الايمان بِالْحَقِّ و هو التوحيد، و رسالة الرسول، و تصديق كتابه و العمل به و باحكامه وَ تَوٰاصَوْا و تعاهدوا على طاعة اللّه بِالصَّبْرِ عليها و تحمّل مشاقّها، و كفّ النفس عن المعاصي التي تشتاق إليها.

ثمّ إنّه بناء على كون الحقّ أعمّ من الايمان و العمل (6)[فانّ تخصيص هذا التواصي بالذكر مع

ص: 570


1- . إكمال الدين: 1/656، تفسير الصافي 372:5.
2- . تفسير القمي 441:2، تفسير الصافي 372:5. (3و4) . تفسير الرازي 86:32.
3- . تفسير الرازي 86:32 و 87.
4- . تفسير الرازي 87:32.
5- . الحجرات: 6/49.
6- . جواب هذه العبارة سقط من النسخة، و قد أكملناه من تفسير أبي السعود 197:9، و تفسير روح البيان 507:10، و كذا سقط أول الحديث الآتي عن الصادق عليه السّلام و أثبتناه من إكمال الدين.

اندراجه تحت التواصي بالحقّ، لإبراز كمال الاعتناء به، أو لأنّ الأول عبارة عن رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى به اللّه تعالى، و الثاني عن رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل اللّه تعالى، فان المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتشوق إليه من فعل و ترك، بل هو تلقّي ما ورد منه تعالى بالجميل، و الرضا به ظاهرا و باطنا.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «العصر عصر خروج] القائم عليه السّلام. إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ يعني أعداءنا إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني بآياتنا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ يعني بمواساة الاخوان وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ يعني الامامة وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ يعني بالعترة»(1).

و القمي عنه عليه السّلام، قال: «استثنى أهل صفوته من خلقه حيث قال: إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا بولاية أمير المؤمنين وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ ذرّياتهم و من خلقوا بالولاية تواصوا بها و صبروا عليها»(2).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ وَ الْعَصْرِ في نوافله بعثه اللّه يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنّه، قريرة عينه(3) حتّى يدخل الجنّة»(4).

الحمد للّه على التوفيق لتفسيرها.

ص: 571


1- . اكمال الدين: 1/656، تفسير الصافي 372:5.
2- . تفسير القمي 441:2، تفسير الصافي 372:5.
3- . في النسخة: قريرا عينيه.
4- . ثواب الأعمال: 125، مجمع البيان 814:10، تفسير الصافي 373:5.

ص: 572

في تفسير سورة الهمزة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة وَ الْعَصْرِ المتضمّنة لبيان أنّ جميع الناس غائرون في الخسران لحبّهم الدنيا و تفاخرهم بالأموال و الأقارب، نظمت بعدها سورة الهمزة المتضمّنة لذمّ من جمع الأموال و افتخر بها و رأى لنفسه فضلا و فخرا على غيره، و تهديده بالخلود في جهنّم في الآخرة، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في ذمّ من يبالي بنفسه و يتعرّض لأعراض الناس و تعييبهم بقوله:

وَيْلٌ و هلاك، أو شرّ و قباحة، أو جبل نار في جهنّم، على ما روي (1)لِكُلِّ هُمَزَةٍ و مغتاب للناس و لُمَزَةٍ و عيّاب لهم، كما عن ابن عباس(2). و في رواية اخرى عنه: الهمزة: هم المشّاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة. و اللّمزة: الناعتون للناس بالعيب(3).

و قيل: الهمزة: هو العيّاب باليد و الرأس و العين بالاشارة، و اللمزة هو العيّاب باللّسان(4).

و قيل: الهمزة: العيّاب بالمواجهة أو بالجهرة و اللّمزة: العيّاب بظهر الغيب أو سرّا(5).

قيل: إنّ السورة نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس و يغتابهم و خاصة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(6).

و قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله من ورائه، و يطعن عليه في وجهه(7) و قيل:

نزلت في امية بن خلف(8) ، و على أي تقدير لا يخصّص مورد النزول العام.

اَلَّذِي جَمَعَ مٰالاً وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مٰالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاّٰ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

ص: 573


1- . تفسير الرازي 91:32.
2- . تفسير الرازي 91:32.
3- . تفسير الرازي 92:32.
4- . تفسير الرازي 91:32 و 92.
5- . تفسير الرازي 92:32.
6- . تفسير الرازي 91:32.
7- . تفسير الرازي 91:32.
8- . تفسير الرازي 91:32.

ثمّ وصف سبحانه المذموم بالويل بقوله:

اَلَّذِي جَمَعَ مٰالاً كثيرا لنفسه، أو حقيرا غير قابل لأن يفتخر به وَ عَدَّدَهُ و ذخره لحوادث الدهر، أو أحصاه مرّة بعد اخرى لالتذاذ نفسه بعدّه، أو كثرته و افتخر به. و قيل: يعني جمع مالا و عدّد قومه الذين ينصرونه(1) ، و إنّما ذكر صفة جمعه المال لكونه سبب همزه و لمزه، و هو من جهله و جمعه

يَحْسَبُ و يظنّ أَنَّ مٰالَهُ الذي جمعه أَخْلَدَهُ في الدنيا، و آمنه من الموت.

و قيل: إنّ المعنى: اعتقد أنّه إن انتقص ماله يموت، فيحفظه من التلف و النّقصان ليبقى حيّا(2). و قيل:

فيه تعريض بالعمل الصالح، فانّه هو الذي يخلّد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل، و في الآخرة في النعيم المقيم(3).

كَلاّٰ ليس الآخرة كما يظنّ، و لا ينبغي له هذا الحسبان، أو المعنى: حقّا و اللّه لَيُنْبَذَنَّ ذلك الذي جمع المال، و ليطرحنّ ذلك الظانّ للخلود فِي الْحُطَمَةِ كالحصى الذي يطرح في البئر.

وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الْحُطَمَةُ (1) نٰارُ اللّٰهِ الْمُوقَدَةُ (6) اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهٰا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) ثمّ بالغ سبحانه في تهويل الحطمة بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ يا محمد، و أيّ شيء أعلمك مَا الْحُطَمَةُ و أيّ شيء هي؟ هي

نٰارُ اللّٰهِ الْمُوقَدَةُ و المشتعلة بأمره و قدرته و غضبه، لا يطفئها شيء.

و لا يشبهها شيء من نيران الدنيا.

في الحديث: «أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثمّ ألف سنة حتّى ابيضّت، ثمّ ألف سنة حتى اسودّت، فهي سوداء مظلمة»(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «عجبا ممّن يعصي اللّه على وجه الأرض و النار تسعر من تحته!»(5).

اَلَّتِي تَطَّلِعُ و تعلو عَلَى الْأَفْئِدَةِ و أوساط القلوب و تغشاها.

حاصل الآية و اللّه أعلم أنّ نار جهنّم تحطم و تكسر العظام، و تأكل اللحوم، و تدخل في أجواف العصاة و أهل الشهوات، و تقبل إلى صدورهم، و تستولى على أفئدتهم، و تخصيص الأفئدة بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد، و أشدّ تألّما بأدنى الأذى، أو لأنّه محلّ العقائد الفاسدة و الضمائر الخبيثة و منشأ الأعمال السيئة.

ص: 574


1- . تفسير الرازي 94:3، تفسير روح البيان 509:10.
2- . تفسير الرازي 94:32، تفسير روح البيان 509:10.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أنّ النار تأكل أهلها حتّى إذا اطّلعت على افئدتهم انتهت، ثمّ إنّ اللّه تعالى يعيد لحومهم و عظامهم مرة اخرى»(1).

ثمّ بيّن سبحانه يأس الظانّين الخلود في الدنيا من خروجهم من الجحيم، و تيقّنهم بالخلود في النار بقوله:

إِنَّهٰا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ و مغلقة الأبواب حال كونهم موثقين

فِي عَمَدٍ و أعمدة مُمَدَّدَةٍ و مطوّلة التي هي أثبت من القصيرة، مثل المقاطر و الخشبات التي تجعل فيها أرجل اللصوص كيلا يهربوا.

و قيل: يعني تطبق عليهم أبواب النيران، و يجعل على الأبواب العمد الطويلة استيثاقا في استيثاق، لئلا يخرجوا منها، و لا يدخل عليهم روح(2) ، و المعنى أنّ النار عليهم طبقة الأبواب بأعمدة مدّت عليها، و إنّما لم يقل (بعمد) للإشعار بكثرتها بحيث صارت كأنّ الأبواب فيها.

القمّي رحمه اللّه قال: إذا مدّت العمد كان و اللّه الخلود(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ في فريضة من فرائضه، أبعد اللّه عنه الفقر، و جلب عليه الرزق، و يدفع عنه مينة السوء»(4).

قد تمّ تفسيرها.

ص: 575


1- . تفسير الرازي 94:32.
2- . تفسير روح البيان 510:10، و زاد المؤلف هنا ثلاث كلمات غير مقروءة في النسخة، و الذي في تفسير روح البيان: لا يدخلها روح و لا يخرج منها غمّ.
3- . تفسير القمي 442:2، و فيه: العمد أكلت و اللّه الجلود، تفسير الصافي 374:5.
4- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 816:10، تفسير الصافي 375:5.

ص: 576

في تفسير سورة الفيل

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحٰابِ الْفِيلِ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الهمزة المتضمّنة لذمّ العيّابين للنبي صلّى اللّه عليه و آله الطاعنين فيه لإطفاء نوره و إخلالا بأمر رسالته، نظمت سورة الفيل المتضمّنة لبيان حفظ اللّه بيته من الخراب و تعذيب قاصديه، مبشرا له صلّى اللّه عليه و آله بإهلاك أعداء بيته الحرام، و تسلية لقلبه الشريف المتألّم بمكايد أعدائه في الإخلال بأمر رسالته، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في تسلية قلب حبيبه ببيان قصة إهلاك أعداء بيته بقوله:

ص: 577

ليلة ليتعبّد فيها فأذنوا له(1) في ذلك، فأقام فيها الليل وحده، فتغوّط فيها، و طلى به جدرانها و إيوانها و محرابها، ثمّ خرج منها و هرب، فانتشر الخبر في الآفاق، فتنفّر الناس منها، فلمّا سمع ذلك أبرهة غضب و حلف أن يخرب الكعبة. و قيل: بلغ الخبر إلى النجاشي، فاغتم لذلك و أغراه(2) أبرهة و قال:

لا تحزن، إنّ لهم كعبة هي فخرهم فنخرب بنيانها و نبيح دماءها، فخرج أبرهة بجند كثيف، و معه فيل أبيض اللون لم ير مثله في عظم الجثّة و شدّة القوّة، يقال له: محمود، فلمّا قرب من الحرم نزل، و بعث رجلا حبشي(3) يقال له الأسود، حتّى انتهى إلى مكّة، فساق إليه أموال تهامة و مواشيها(4).

قيل: لمّا بلغ أبرهة المغمّس - و هو منزل في طريق الطائف - خرج إليه عبد المطّلب، و عرض إليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى(5).

و قيل: لمّا نزل المغمّس بعث حناطة الحميري إلى مكّة، و قال له: سل من سيّد هذا البلد و شريفهم، و قل له: إنّ الملك يقول: إنّي لم آت لحربكم، و إنّما جئت لهدم هذا البيت، فان لم تتعرّضوا دونه لحرب فلا حاجة لي في دمائكم، فإن لم يرد حربي فأتنى به، فجاء عبد المطّلب و معه جماعة من بني هاشم، فسبقهم الرسول إلى أبرهة، و قال له: جاءك رئيس مكة(6).

و قيل: استأذن لعبد المطّلب بعض وزراء أبرهة، يقال له أنيس سائس الفيل، و قال: جاءك سيد قريش و صاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل، و الوحوش في رءوس الجبال، فأحسن أبرهة رأيه، و جلس على السرير، فأجاز لعبد المطلب في الدخول، فلمّا ورد قال أبرهة، و نزل عن السرير [كيلا تجلسه معه]، لأنّه كره أن تراه الحبشة على سرير ملكه، و جلس مع عبد المطلب على الأرض، و أكرمه و عظّمه، و أعجبه حسن كلامه، و قال في نفسه: لو شفع في انصرافه من البيت لأجابه، فقال له: فاسأل منّي كلّما تريد. فقال له عبد المطّلب: اريد منك أن تامر بردّ إبلي التي كانت ترعى بذي المجاز، فساقها بعض جيشك. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لم لم تشفع في البيت الذي يكون شرفا و عزّا لك و لقومك من قديم الدهر، و أنا اريد أن اخربه، و ما قدر الإبل التي تريدها؟!

و قيل: إنّه قال: سقطت من عيني، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك و دين آبائك، فالهاك عنه ذود اخذلك(5).

قال عبد المطّلب: أنا ربّ الابل، و للبيت ربّ يحفظه كما حفظه من تبّع و سيف بن ذي يزن

ص: 578


1- . في النسخة: فأذنوه.
2- . في النسخة: و غراه.
3- . في النسخة: حبشية.
4- . تفسير روح البيان 511:10. (5و6) . تفسير روح البيان 5.13:10
5- . الذود: القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر، راجع تفسير الرازي 96:32.

و كسرى، فغضب أبرهة، و أمر بردّ إبله، و قال: ننظر من يحفظ البيت منّي؟

فرجع عبد المطّلب، و أمر أهل مكّة أن يجمعوا أموالهم و أمتعتهم و يصعدوا على الجبل، فلم يبق في مكّة أحد تخوّفا من معرّة الجيش، فجهّز أبرهة جيشه، و قدّم الفيل الأعظم(1). قيل: سقوه الخمر ليذهب تمييزه، فكانوا كلّما وجّهوه إلى جهة الحرم برك و لم يبرح، و إذا وجّهوه إلى اليمن أو إلى سائر الجهات هرول، و جاء عبد المطّلب و أخذ بحلقة البيت، و قال:

لاهمّ إنّ المرء يح مي رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم و محالهم عدوا محالك

فالتفتت و هو يدعوا، فاذا بطير فقال: و اللّه إنّها لطير غريبة لا نجدية و لا تهامية و لا حجازية، و إنّ لها لشأنا؛ و كان مع كلّ طائر حجر في منقاره و حجران في رجليه أكبر من العدسة و أصغر من الحمّصة(2).

أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبٰابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجٰارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) ثمّ بيّن سبحانه كيفية فعله بهم بقوله:

أَ لَمْ يَجْعَلْ ربّك كَيْدَهُمْ و تدبيرهم و تخريب الكعبة و تعطيلها من الزوّار فِي تَضْلِيلٍ و تضييع و إبطال بأن أهلكهم أشنع إهلاك.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية إهلاكهم بقوله:

وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ لاهلاكهم طَيْراً لم ير مثلها حال كونها أَبٰابِيلَ و جماعات. قيل: كانت أفواجا متتابعة بعضها على أثر بعض، أو من هاهنا و هاهنا، جمع إبالة، و هي الحزمة الكبيرة، شبّهت بها جماعة الطير في تضامّها(3).

قيل: كان عبد المطّلب و أبو مسعود الثقفي يشاهدان من فوق الجبل عسكر أبرهة، فأرسل اللّه طيرا أسود صفر المناقير خضر الأعناق طوالها، و خضراء أو بيضاء أو بلقاء(4).

عن عائشة: أنّها أشباه الخطاطيف و الوطاويط، و لها خراطيم الطير، و أكفّ الكلاب و أنيابها(5).

و عن ابن جبير، لم ير مثلها ما قبلها و لا بعدها(6). و قال [عكرمة]: هي عنقاء مغرب(7) و في الخبر: أنّها طير بين السماء و الأرض تعيش و تفرخ(8).

و قيل: من طير السماء

تَرْمِيهِمْ من فوقهم بِحِجٰارَةٍ، فيها مكتوب اسم من قتل بها مخطّطة بالحمرة كالجزع(4) الظفاري، كما عن ابن عباس(5) ، كائنة مِنْ سِجِّيلٍ و طين متحجّر، معرّب سنك

ص: 579


1- . تفسير روح البيان 513:10.
2- . تفسير روح البيان 514:10، و 515.
3- . تفسير روح البيان 517:10. (4-5-6-7-8) . تفسير روح البيان 515:10.
4- . الجزع: ضرب من العقيق.
5- . تفسير روح البيان 515:10.

و گل، كما عن ابن عباس(1). و قيل: هو علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفّار، كأنّه قال: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن(2). و قيل: السجّيل: اسم السماء الدنيا(3). و قيل: إنّه اسم جهنّم، و كان سجّين فابدلت نون آخره لاما(4).

و قد مرّ أنّ كلّ طائر كان يحمل ثلاثة أحجار، حجر بمنقاره، و حجران برجليه، تقتل بكلّ واحد رجلا، ما وقع منها في موضع إلاّ خرج من الجانب الآخر، و إن وقع على رأسه خرج من دبره(2).

و في رواية عن ابن عباس: لم يقع حجر على أحد إلاّ نفط(3) جلده و ثار به الجدريّ(4).

فَجَعَلَهُمْ اللّه كَعَصْفٍ و ورق زرع مَأْكُولٍ أكلته الديدان، و إنّما سمّى ورق الزرع عصفا؛ لأنّه يعصف به الرياح من مكان إلى مكان، و توصيفه بالمأكول لأنّه حدث بهم بسبب رميهم منافذ و شقوق كورق أكله الدود.

و قيل: يعني كزرع اكل حبّه و بقي صفرا منه، شبّههم به في ذهاب أرواحهم و بقاء أجسادهم(5).

و عن ابن عباس: يعني كزرع و تبن أكلته الدوابّ ثمّ ألقته روثا، ثمّ يجفّ و تتفرق أجزاؤه، شبّه تقطّع أوصالهم بتفرّق أجزاء الروث(6).

و على أيّ تقدير هلك جيش أبرهة و فيلاته، و اخذ أبرهة داء أسقط أنامله و أعضاءه، و وصل إلى صنعاء كذلك، و هو مثل فرخ الطير، و مات فملك ابنه يكسوم بن أبرهة اليمن، و انفلت وزيره أبو يكسوم و طائر يتحلّق فوق رأسه حتّى بلغ النجاشي فقصّى عليه القصّة، فلمّا أتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميتا بين يديه(7).

و قيل: هلك كلّهم إلاّ أبرهة، فخرج من مكّة، و جاء إلى الحبشة، و كان على رأسه طير و لم يعلم به حتّى وقف بين يدي النجاشي، فلمّا قصّ عليه القصة تعجّب النجاشي، و قال: كيف يهلك الطير الجند الكثير! فنظر أبرهة إلى الطير الذي كان على رأسه، فقال: هذا واحد من تلك الطيور، فألقى ذلك الطير حجرا على رأسه، فهلك عند النجاشي(8).

روي أنّ عبد المطّلب و أبو مسعود الثقفي كانا يشاهدان هلاك عسكر أبرهة من فوق الجبل حين

ص: 580


1- . تفسير الرازي 101:32. (2-3-4) . تفسير الرازي 101:32.
2- . تفسير الرازي 100:32.
3- . نفط جلده: أصابه الجدري.
4- . تفسير الرازي 100:32.
5- . تفسير روح البيان 518:10.
6- . تفسير الرازي 101:32، تفسير روح البيان 518:10، و لم ينسبه إلى أحد.
7- . تفسير روح البيان 515:10 و 516.
8- . تفسير روح البيان 516:10.

رماهم الطير بالحجارة، فقال عبد المطّلب لصاحبه: صار القوم بحيث لا يسمع لهم ركز(1) ، فانحطّا من الجبل و دخلا العسكر، فاذا هم موتى، فجمعا من الذهب و الجواهر، و حفر كلّ منهما لنفسه حفيرة و ملأها من المال، و كان ذلك سبب غناهما، و صارت بقية أمتعتهم غنيمة لقريش و أهل مكّة، هذا كلّه ما رواه العامة(2).

و قال القمي رحمه اللّه: نزلت في الحبشة حين جاءوا بالفيل ليهدموا به الكعبة، فلمّا أدنوه من باب المسجد، قال له عبد المطّلب: تدري أين يؤمّ بك؟ قال برأسه: لا. قال: أتوا بك لتهدم كعبة اللّه، أ تفعل ذلك؟ قال برأسه: لا، فجهدت به الحبشة ليدخل المسجد فامتنع، فحملوا عليه بالسيوف و قطّعوه، فأرسل اللّه عليهم طيرا أبابيل، قال: بعضها على أثر بعض ترميهم بحجارة من سجيل، قال: كان مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، و حجران في مخالبه، و كانت ترفرف على رءوسهم، و ترمي في دماغهم، فيدخل في دماغهم و يخرج من أدبارهم و ينتقض(3) أبدانهم، فكانوا كما قال اللّه: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قال: العصف: التبن، و المأكول: هو الذي يبقى من فضله(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «بعث اللّه عليهم الطير كالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها، فكانت تحاذي رأس الرجل، ثمّ ترسلها على رأسه، فتخرج من دبره حتّى لم يبق منهم إلاّ رجل هرب فجعل يحدّث الناس بما رأى، فطلع عليه طائر منها فرفع رأسه فقال: هذا الطير منها، و جاء الطير حتّى حاذى رأسه ثمّ ألقاها عليه، فخرجت من دبره فمات»(5).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن قول اللّه تعالى وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبٰابِيلَ قال: «كان طير سافّ(6) جاءهم من قبل البحر، رءوسها كأمثال رءوس السّباع، و أظفارها كأظفار السّباع من الطير، مع كلّ طائر ثلاثة أحجار: في رجليه حجران، و في منقاره حجر، فجعلت ترميهم بها حتى جدّرت أجسادهم، فقتلهم بها، و ما كان قبل ذلك رؤي شيء من الجدري، و لا رأوا ذلك من الطير قبل ذلك اليوم و لا بعده».

قال: «و من أفلت منهم يومئذ انطلق حتى إذا بلغوا حضر موت - و هو واد دون اليمن - أرسل اللّه عليهم سيلا فغرّقهم أجمعين». قال: «و ما رؤي في ذلك الوادي ماء قطّ قبل ذلك اليوم بخمس عشرة سنة» قال: «و لذاك سمّي حضر موت حين ماتوا فيه»(7).

ص: 581


1- . الرّكز: الصوت الخفي.
2- . تفسير روح البيان 516:10.
3- . في النسخة: و تنقص.
4- . الكافي تفسير القمي 442:2، تفسير الصافي 376:5.
5- . الكافي 2/216:4، تفسير الصافي 376:5.
6- . أسفّ الطائر: دنا من الأرض.
7- . الكافي 44/84:8، تفسير الصافي 377:5.

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ أبرهة بن يكسوم قاد الفيل إلى بيت اللّه الحرام ليهدمه قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال عبد المطّلب: إنّ لهذا البيت ربا يمنعه، ثمّ جمع أهل مكّة فدعا، و هذا بعد ما أخبره سيف بن ذي يزن، فأرسل اللّه عليهم طيرا أبا بيل، و دفعهم عن مكة و أهلها»(1).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ في فرائضه أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ شهد له يوم القيامة كلّ سهل و جبل و مدر بأنّه كان من المصلّين، و ينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له و عليه، أدخلوه الجنّة و لا تحاسبوه، إنّه ممّن أحبّه اللّه و أحبّ عمله»(2).

و عن العياشي: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ و لِإِيلاٰفِ سورة واحدة(3).

ص: 582


1- . قرب الإسناد: 1228/319، تفسير الصافي 377:5.
2- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 820:10، تفسير الصافي 377:5.
3- . مجمع البيان 827:10، تفسير الصافي 378:5.

في تفسير سورة قريش

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ (1) إِيلاٰفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتٰاءِ وَ الصَّيْفِ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة الفيل المتضمّنة لبيان إنعام اللّه على قريش بدفع أصحاب الفيل عنهم، و حفظ الكعبة التي كان بها عزّهم و شرفهم، نظمت سورة قريش المتضمّنة لبيان منّته عليهم بإدامة تجارتهم إلى اليمن و الشام و إطعامهم من الجوع، و توسعة معاشهم، و أمنهم من الخوف من أصحاب الفيل و غيرهم، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها ببيان حكمة من حكم إهلاك أصحاب الفيل، و هي إنعامه على قريش بقوله:

لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ قيل: إنّ التقدير جعل اللّه أصحاب الفيل كعصف مأكول و أهلكهم أشنع إهلاك، لأجل إبقاء قريش على ما التزموا به(1)

ثمّ كأنّه قيل: [ما] ذلك الايلاف و الالتزام؟ فأجابه سبحانه بقوله:

إِيلاٰفِهِمْ و التزامهم رِحْلَةَ الشِّتٰاءِ و السفر في الأزمنة الباردة للتجارة إلى اليمن وَ في اَلصَّيْفِ و الأزمنة الحارة إلى الشام، و لأجل أن يألفوا هاتين الرحلتين، و يجمعوا بينهما، و يداوموا عليهما.

عن ابن عباس قال: كانت قريش إذا أصاب أحدهم فقر و جوع أخذ بيد عياله و خرج إلى الصحراء، و ضرب على نفسه و عياله خيمة، و بقى هناك حتّى يموت هو و عياله، و كانوا على ذلك إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف، و كان سيد قومه، و كان له ابن يقال له أسد، و كان له ترب(2) من بني مخزوم يحبّه و يلعب معه، فشكا إليه ضرر المجاعة، فدخل أسد على امّه يبكى، فأرسلت إلى اولئك بدقيق و شحم، فعاشوا به أياما، ثمّ أتى ترب أسد إليه مرّة اخرى، و شكا إليه من الجوع، فقام هاشم خطيبا في قريش فقال: إنكم أجدبتم جدبا تقلّون فيه و تذلّون، و أنتم أهل حرم اللّه، و أشراف ولد آدم، و الناس لكم تبع.

ص: 583


1- . تفسير الرازي 103:32.
2- . الترب: المماثل في السنّ.

قالوا: نحن تبع لك، و ليس عليك منّا خلاف، فجمع جميع أولاد النضر(1) بن كنانة على الرحلتين(2) في الشتاء إلى اليمن، و في الصيف إلى الشام، ليتجروا فيما بدا لهم من التجارات، فما ربح الغني قسم بينه و بين فقرائهم حتّى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الاسلام و هم كانوا على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب واحد أكثر مالا و لا أعزّ من قريش(3).

فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ (3) اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) ثمّ اعلم أنّ بعض من فسّر السورة بهذا التفسير و قال بتعلق لام لِإِيلاٰفِ بالسورة السابقة، قال بكونها سورة واحدة، و يؤيده جعل(4) كعب بن ابي السورتين في مصحفه سورة واحدة، و لم يفصل بينهما بالبسملة(5).

و روى العياشي عن أحدهما أنّه قال: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ و لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ سورة واحدة»(6).

و قيل: إنّ اللام متعلّقة بقوله تعالى:

فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ لإيلافهم، أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة و اعترافا بها، و إنّما أدخل الفاء على ليعبدوا لما في الكلام من معنى الشرط، و المعنى إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الواحدة التي هي نعمة ظاهرة(5).

و قيل: ليست متعلقة بما قبلها و لا بما بعدها، بل هي لام التعجّب، و المعنى اعجبوا لإيلاف قريش، فانّهم كلّ يوم يزدادون غيا و جهلا و انغماسا في عبادة الأوثان، و اللّه يؤلّف شملهم، و يدفع الآفات عنهم، و ينظم أسباب معايشهم(6).

فليعبدوا رب هذا البيت، و ليوحّدوه، أو فليخضعوا له؛ لأنّه حفظ البيت، و عظّمهم بحفظه في أنظار الناس، و هو

اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ بسبب تينك(7) الرحلتين اللتين تمكنوا(8) منهما مِنْ جُوعٍ شديد.

روي أنّهم أصابتهم شدّة حتّى أكلوا الجيف و العظام المحرقة(11).

و قيل: إنّ تنكير الجوع و الخوف للتحقير، و المعنى أنّه تعالى لم يرض لهم بالجوع و الخوف القليل، فكيف يرضى لهم إن عبدوه أن يهمل أمرهم(12) لكونهم جيرانه و سكّان حرمه.

و قيل: إنّه سبب دعوة إبراهيم عليه السّلام حيث قال: يُجْبىٰ إِلَيْهِ ثَمَرٰاتُ كُلِّ شَيْءٍ (9).

ص: 584


1- . في النسخة: نصر، راجع جمهرة أنساب العرب: 11.
2- . في النسخة: المرحلتين.
3- . تفسير الرازي 106:32، تفسير روح البيان 519:10.
4- . في النسخة: و ابده يجعل. (5و6) . مجمع البيان 827:10، تفسير الصافي 378:5.
5- . تفسير الرازي 105:32.
6- . تفسير الرازي 105:32.
7- . في النسخة: بتيك.
8- . في النسخة: تمكثوا. (11و12) . تفسير الرازي 110:32.
9- . تفسير روح البيان 520:10، و الآية من سورة القصص: 57/28.

وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عظيم، كان لهم من أصحاب الفيل، أو من خوف التخطّف في بلدهم و اسفارهم، فانّ إهلاك أصحاب الفيل صار سببا لهيبتهم في قلوب الناس و فضل احترام لهم بحيث لم يكن يجترى عليهم أحد، فانتظم الأمر لهم في رحلتيهم، بل في جميع أسفارهم و أحوالهم.

عن القمي رحمه اللّه قال: نزلت في قريش، لأنّه كان معاشهم من الرحلتين: رحلة في الشتاء إلى اليمن، و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملونه الأدم و اللباس(1) ، و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل و غيره، فيشترون بالشام الثياب و الدّرمك(2) و الحبوب، و كانوا يأتلفون في طريقهم، و يثبتون في الخروج في كلّ خرجة رئيسا من رؤساء قريش، و كان معاشهم من ذلك، فلمّا بعث اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله استغنوا من ذلك لأنّ الناس و فدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حجّوا إلى البيت، فقال اللّه تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ * اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ فلا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ يعني خوف الطريق(3).

عن امّ هانئ بنت أبي طالب قالت: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضّل قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم و لا يعطاها أحد بعدهم: النبوة فيهم، و الخلافة فيهم، و الحجابة للبيت فيهم، و السّقاية فيهم، و نصروا على أصحاب الفيل، و عبدوا اللّه سبع سنين (4)- و في رواية: عشر سنين - لم يعبده أحد غيرهم، و نزلت فيهم سورة في القرآن لم يذكر فيها أحدا غيرهم لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ (5).

اقول: الظاهر أنّ المراد من قولها: عبدوا اللّه سبع سنين، عبادتهم في بدو ظهور الرسالة، فانّ المؤمنين بالرسول صلّى اللّه عليه و آله في تلك المدّة كلّهم كانوا من قريش.

عن الصادق عليه السّلام: «من أكثر قراءة لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ بعثه اللّه يوم القيامة على مركب من مراكب الجنّة حتى يقعد على موائد النور يوم القيامة»(4).

الحمد للّه على إتمام تفسيرها.

ص: 585


1- . في النسخة: و اللّبّ.
2- . الدّرمك: الدقيق الأبيض.
3- . تفسير القمي 444:2، تفسير الصافي 379:5. (4و5) . تفسير روح البيان 521:10.
4- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 820:10، تفسير الصافي 379:5.

ص: 586

في تفسير سورة الماعون

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لاٰ يَحُضُّ عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة قريش المتضمّنة لبيان إنعامه و منّته على قريش بدفع أصحاب الفيل عن البيت الذي هو سبب عزّهم وسعة معاشهم و آمنهم من خوف الأعداء، نظمت سورة الماعون المتضمّنة لبيان كفرهم و كفرانهم بنعم اللّه، و بخلهم على الفقراء، و ظلمهم على اليتيم، طغيانا على اللّه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذمّ بعض قريش، و إظهار التعجّب من كفرهم و طغيانهم بقوله:

أَ رَأَيْتَ يا محمد، الكافر العنود اَلَّذِي يُكَذِّبُ عنادا و لجاجا بِالدِّينِ و جزاء الأعمال و بدين الاسلام، و إن أردت أن تعرفه

فَذٰلِكَ الكافر هو الظالم اَلَّذِي يَدُعُّ و يدفع الطفل اَلْيَتِيمَ عن حقّه ظلما و جفوة.

روي أن أبا جهل كان وصيا ليتيم فجاءه يوما عريانا يسأله من مال نفسه، فدفعه دفعا شنيعا، فأيس الصبيّ، فقال له بعض أكابر قريش: قل لمحمد يشفع لك، و كان غرضهم الاستهزاء به، و النبي صلّى اللّه عليه و آله ما كان يردّ محتاجا، فذهب معه إلى أبي جهل، فرحّب به و بذل المال لليتيم، فعيّره قريش، و قالوا له:

صبوت! فقال: لا و اللّه ما صبوت، و لكن رأيت عن يمينه و عن يساره حربة [خفت] إن لم اجبه يطعنها فيّ(1).

و عن القمي رحمه اللّه قال: نزلت في أبي جهل و كفّار قريش(2).

و قيل: نزلت في أبي سفيان، كان ينحر جزورين في كلّ اسبوع، فأتاه يتيم فساله لحما، فقرعه بعصاه(3).

ص: 587


1- . تفسير الرازي 111:32.
2- . تفسير القمي 444:2، تفسير الصافي 380:5.
3- . مجمع البيان 834:10، تفسير الرازي 111:32.

و قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، و كان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة و الإتيان بالأعمال القبيحة(1).

و قيل: في الوليد بن المغيرة(2).

و روي عن ابن عباس أنّها نزلت في منافق جمع بين البخل و المراءاة(3).

و قيل: أنّه عام لكلّ من كان مكذبا بيوم الدين(4).

وَ لاٰ يَحُضُّ و لا يحثّ نفسه أو غير عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ لغاية بخله، و خساسة طبعه، و قساوة قلبه، و عدم اعتقاده بأجر و ثواب على إطعامه في الآخرة.

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاٰتِهِمْ سٰاهُونَ (3) اَلَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ (4) وَ يَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ (5) ثمّ ذمّ سبحانه بعض المنافقين منهم بقوله:

فَوَيْلٌ و عذاب شديد لِلْمُصَلِّينَ منهم نفاقا

اَلَّذِينَ هُمْ يأتون بصورة الصلاة، و هم عَنْ صَلاٰتِهِمْ من أولها إلى آخرها سٰاهُونَ و غافلون، لعدم مبالاتهم بها، و إنّما غرضهم من إتيانها خدعة المؤمنين.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، أ هي وسوسة الشيطان؟ فقال: «لا، كلّ أحد يصيبه هذا، و لكن أن يغفلها و يدع أن يصلّى في أول وقتها»(5).

و عن القمّي رحمه اللّه عنه عليه السّلام، قال: «هو الترك لها و التواني عنها»(6).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «هو التضييع»(7).

و قال جمع من مفسّري العامة: معنى ساهون لا يتعهّدون أوقات صلواتهم و لا شرائطها، و معناه أنّه لا يبالي صلّى أم لم يصلّ(6). فيكون أول السورة في المكذّبين المتجاهرين، و هذه الآية في المكذّب المنافق، و في تصديرها بالويل دلالة على كون المنافق أسوأ حالا من الكافر المتجاهر بالكفر.

ثمّ ذمّهم سبحانه بالرياء و غاية البخل بقوله: اَلَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ الناس، و يرون أعمالهم و يظهرون أن لهم من الخشوع و الخضوع في الصلاة ما ليس في قلوبهم ليثنوا عليهم.

ص: 588


1- . تفسير الرازي 111:32.
2- . مجمع البيان 834:10، تفسير الرازي 111:32. (3و4) . تفسير الرازي 112:32.
3- . مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 380:5.
4- . مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 381:5.
5- . الكافي 5/268:3، مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 381:5.
6- . تفسير الرازي 114:32، و هو قول: سعد بن أبي وقاص و مسروق و الحسن و مقاتل.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «يريد بهم المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابا إن صلّوا، و لا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، فاذا كانوا مع المؤمنين صلّوها رياء، و إذا لم يكونوا معهم لم يصلّوا، و هو قوله:

اَلَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ» (1) .

وَ يَمْنَعُونَ الناس اَلْمٰاعُونَ و الأمتعة القليلة التي يحتاج إليها مثل القدر و القصعة و الغربال و القدوم و الدلو و أمثالها، و النار و الماء و الملح ممّا يسأله الفقير و الغني، و لا يعتاد منعه، و ينسب مانعه إلى اللوم و خساسة الطبع. روي: ثلاثة لا يحلّ منعها: الماء، و النار و الملح(2). و قيل: سمّيت الزكاة ماعونا لأنها قليل من كثير(3).

و عن أمير المؤمنين و الصادق عليهما السّلام: «هو الزكاة المفروضة»(4).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «هو القرض تقرضه، و المعروف تصنعه، و متاع البيت تعيره، و منه الزكاة».

قيل: إنّ لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه و أفسدوه، فعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: «لا، ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك»(5).

قيل: في وجه المناسبة بين الرياء و منع الماعون، كأنّه تعالى يقول: الصلاة لي و الماعون للخلق، فما كان لى يعرضونه على الخلق، و ما هو للخلق يسترونه عنهم، فتكون معاملتهم مع الربّ و الخلق على العكس(6).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ في فرائضه و نوافله، قبل اللّه صلاته و صيامه، و لا يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا»(7).

الحمد للّه على إتمام تفسيرها.

ص: 589


1- . مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 381:5.
2- . تفسير الرازي 115:32.
3- . تفسير الرازي 116:32، تفسير روح البيان 523:10.
4- . مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 381:5.
5- . الكافي 9/499:3، تفسير الصافي 381:5.
6- . تفسير الرازي 116:32.
7- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 832:10، تفسير الصافي 381:5.

ص: 590

في تفسير سورة الكوثر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الماعون المتضمّنة لذمّ المنافقين بترك الصلاة و الرياء بها و البخل، نظمت سورة الكوثر المتضمّنة لأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة الخالصة، و نحر البدن، و إطعام الفقراء، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر غاية إنعامه على النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ يا محمد، من خزائن رحمتنا إنعاما عليك لكرامتك علينا و نهاية محبوبيتك عندنا اَلْكَوْثَرَ و هو النهر في الجنة فيه خير كثير على المشهور بين السلف و الخلف من مفسّري العامة على ما قيل(1) ، لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«رأيت نهرا في الجنّة، حافتاه قباب اللؤلؤ المجوّف، فضربت بيدي على مجرى الماء، فاذا أنا بمسك أذفر، فقلت: ما هذا؟ قيل: الكوثر الذي أعطاك اللّه»(2).

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قرأ السورة فقال: «أ تدرون ما الكوثر؟ إنّه نهر في الجنّة، وعدنيه ربي فيه خيرا كثيرا، أحلى من العسل، و أشدّ بياضا من اللبن، و أبرد من الثلج، و ألين من الزّبد، حافتاه الزّبرجد، و أوانيه من فضّة عدد نجوم السماء، لا يضمأ من شرب منه أبدا، أول وارديه فقراء المهاجرين الدنسو الثياب الشّعث الرءوس»(3).

و قيل: إنّه حوضه، و سمّي الكوثر لكثرة وارديه(4). و في الحديث: «حوضي ما بين صنعاء إلى أيلة»(5).

قيل في التوفيق بين الروايتين: إنّ النهر ينصبّ في الحوض، أو يسيل منه، فيكون الحوض كالمنبع له(4).

و قيل: إنّ المراد بالكوثر الخير الكثير، كما عن ابن عباس(5) ، روي أنّه فسّر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: إنّ ناسا يقولون هو نهر في الجنة؟ فقال: هو من الخير الكثير(6).

ص: 591


1- . تفسير الرازي 124:32.
2- . تفسير الرازي 124:32.
3- . تفسير أبي السعود 205:9، تفسير روح البيان 524:10. (4و5) . تفسير روح البيان 524:10.
4- . تفسير الرازي 124:32.
5- . تفسير روح البيان 524:10.
6- . تفسير روح البيان 524:10.

أقول: عليه تكون جميع النّعم التي أعطاه اللّه الظاهرة و الباطنة داخلة في الخير الكثير.

و قيل: إنّه النبوة(1) و قيل: إنّه القرآن(2). و قيل: هو دين الاسلام(3). و قيل: هو الفضائل الكثيرة التي فيه(4).

و قيل: إنّه العلم الكثير(5). و قيل: إنّه الخلق الحسن، لانتفاع عموم الناس به(6). و قيل: إنّه رفعة الذكر(7).

و قيل: إنّه المقام المحمود الذي هو الشفاعة(8).

و قيل: إنّه كثرة أولاده، لأنّ هذه السورة نزلت ردّا على من عابه بعدم الأولاد، فالمعنى أنّا نعطيك نسلا يبقون مرّ الزمان(9).

قال الفخر الرازي: فانظركم قتل من أهل البيت، ثمّ العالم ممتلئ منهم، و لم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به، ثمّ انظركم كان فيهم من أكابر العلماء كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليه السّلام و النفس الزكية و أمثالهم(10).

و قيل: هو كثرة علماء امّته، لأنّهم كانوا كأنبياء بني إسرائيل(11). و قيل: إنّه كثرة أتباعه(2) ، و قيل: إنّه هذه السورة، لأنّها مع قصرها وافية بجميع منافع الدنيا و الآخرة(3) ، حيث إنّ فيها مع قصرها إعجاز البيان و إخبار بالمغيبات، فهي كافية لإثبات النبوة الجامعة للخيرات الدنيوية و الاخروية.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «هو الشفاعة»(14).

و عنه عليه السّلام قال: «هو نهر في الجنّة، أعطاه اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله [عوضا من ابنه]»(15).

و روى الصدوق عن ابن عباس قال: لمّا نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ قال له علي بن أبي طالب عليه السّلام: ما الكوثر يا رسول اللّه؟ قال: «هو نهر، أكرمني اللّه به» قال و عليّ عليه السّلام: «هو نهر شريف، فانعته لنا يا رسول اللّه». قال: «نعم يا علي، الكوثر نهر يجري من تحت عرش اللّه، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن، و أحلى من العسل، و ألين من الزّبد، حصاه الزّبرجد و الياقوت و المرجان، حشيشه الزّعفران، ترابه المسك الأذفر(4) ، قواعده تحت عرش اللّه عزّ و جلّ». ثمّ ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على جنب أمير المؤمنين عليه السّلام و قال: يا علي، هذا النهر لي و لك و لمحبّيك من بعدي»(5).

و في (الخصال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معي عترتي و سبطيّ(6) على الحوض، فمن أرادنا فليأخذ بقولنا، و ليعمل عملنا، فانّ لكلّ أهل نجيبا، و لنا نجيب، و لنا الشفاعة،

ص: 592


1- . تفسير الرازي 124:32. (2و3) . تفسير الرازي 126:32. (4-5-6-7-8) . تفسير الرازي 127:32. (9-10-11) . تفسير الرازي 124:32.
2- . تفسير الرازي 126:32.
3- . تفسير الرازي 127:32. (14و15) . مجمع البيان 836:10، تفسير الصافي 382:5.
4- . الأذفر: الشديد الرائحة.
5- . أمالي الطوسي: 102/69، تفسير الصافي 382:5.
6- . في النسخة: و مع عترتي.

و لأهل مودّتنا الشفاعة، فتنافسوا في لقائنا على الحوض، فإنّا نذود عنه أعداءنا، و نسقي منه أحباءنا و أولياءنا، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، حوضنا فيه مثعبان(1) ينصبّان من الجنّة: أحدهما من تسنيم، و الآخر من معين، على حافته الزعفران، و حصاه اللؤلؤ، و هو الكوثر»(2).

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) ثمّ إنّه تعالى بعد ما فضّل نبيه صلّى اللّه عليه و آله على العالمين بإعطائه الكوثر، طالبه بشكره بأمره بالقيام بعبوديته و تعظيمه بقوله:

فَصَلِّ يا حبيبي الصلاة التي هي جامعة لجميع وظائف العبودية و شئون التعظيم لِرَبِّكَ المتفضّل عليك بالنّعم التي لا تحصى أداء لشكره عليها.

قيل: إنّه تعالى لمّا أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة قال صلّى اللّه عليه و آله: «كيف اصلي، و لست على وضوء؟» فقال اللّه إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ ثمّ ضرب جبرئيل بجناحه على الأرض، فنبع ماء الكوثر فتوضّأ(3).

ثمّ أمره بأفضل العبادات المالية بقوله: وَ انْحَرْ البدن التي هي أنفس الأموال عند العرب. و قيل:

لمّا كانت صلاة المشركين و نحرهم للأصنام، قال سبحانه: لتكن صلاتك و نحرك لربّك(4).

و قيل: اريد بالصلاة صلاة العيد الأضحى، و بالنحر النحر للأضحية(5).

و قيل: يعني صلاة الفجر بالمزدلفة، و النحر بمنى(6).

و قيل: يعني استقبل في الصلاة بنحرك إلى القبلة(7).

و قيل: يعني ارفع يديك إلى نحرك عند تكبيرات الصلاة(8).

روى بعض العامة عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لمّا نزلت هذه السورة قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل: ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربّي؟ قال: ليست بنحيرة، و لكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من السجود و إذا سجدت، فانّه صلاتنا و صلاة الملائكة الذين في السماوات السبع، و إنّ لكلّ شيء زينة و زينة الصلاة رفع اليدين عند كلّ تكبير»(9).

و رووا عنه عليه السّلام أنّه فسّر هذا بوضع اليدين على النحر في الصلاة، و قال: رفع اليدين قبل الصلاة عادة المستجير العائذ، و وضعها على النحر عادة الخاضع الخاشع(10).

ص: 593


1- . في النسخة: مشعبان، و المثعب: مسيل المياه.
2- . الخصال: 10/624، تفسير الصافي 383:5.
3- . تفسير الرازي 129:32.
4- . تفسير الرازي 130:32.
5- . تفسير الرازي 130:32، تفسير روح البيان 525:10.
6- . تفسير الرازي 130:32، تفسير أبي السعود 205:9.
7- . تفسير أبي السعود 205:9.
8- . جوامع الجامع: 554، تفسير أبي السعود 205:9.
9- . مجمع البيان 837:10، تفسير الصافي 383:5، تفسير الرازي 129:32.
10- . تفسير الرازي 129:32.

و قيل: يعني ارفع يديك عقيب الدعاء إلى نحرك(1). و قيل: يعني اقعد بين السجدتين حتى يبدوا نحرك(2) ، و هذه الأقوال كلّها متّفقة على أنّ النحر بمعنى الصدر.

و عن الصادق عليه السّلام: «هو رفع اليدين حذاء وجهك»(3). [و في رواية] فقال بيده هكذا، يعني استقبل بيده حذاء وجهه القبلة في افتتاح الصلاة(4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عنه فقال: «النحر الاعتدال في القامة بأن يقيم صلبه و نحره»(3).

ثمّ إنه تعالى بعد إظهار غاية لطفه بحبيبه، ردّ طعن المشركين عليه بأنّه أبتر بقوله:

إِنَّ شٰانِئَكَ يا محمد و مبغضك هُوَ الْأَبْتَرُ و منقطع النسل. روي أنّ العاص بن وائل كان يقول بعد موت عبد اللّه بن رسول اللّه من خديجة: إنّ محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فاذا مات انقطع ذكره و استرحتم، كما عن ابن عباس و عامة المفسرين على ما قيل(4).

و عن السّدّي: لمّا مات ابنه القاسم و عبد اللّه بمكّة، و إبراهيم بالمدينة، كانت قريش يقولون: إنّ محمدا ابتر ليس له من يقوم مقامه، فأخبر اللّه أنّ عدوه أبتر، و من معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث نرى أنّ نسل اولئك الكفّار قد انقطع، و نسله عليه السّلام يزداد و ينمو كلّ يوم إلى يوم القيامة(7).

و قيل: إنّها نزلت في أبي جهل، فانّه لمّا مات ابن رسول اللّه قال أبو جهل: إني ابغضه لأنّه أبتر(8).

و قيل: نزلت في عمّه أبي لهب، فانّه لمّا شافهه بقوله: تبا لك، كان يقول في غيبته: إنّه أبتر(9).

و قيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط، و إنّه هو الذي كان يقول ذلك(10).

و قيل: إنّ الأبتر هو المنقطع عن قومه(11) ، قيل: لمّا أوحى اللّه إلى رسوله و دعا قريشا إلى الاسلام قالوا: أبتر محمد، أي خالفنا و انقطع عنّا(12).

و عن ابن عباس: لمّا قدم كعب بن الأشرف مكّة أتاه جماعة من قريش، فقالوا: نحن أهل السّقاية و السّدانة، و أنت سيد أهل المدينة، أ فنحن خير أم هذا الأبتر من قومه، يزعم أنه خير منّا؟! فقال: بل أنتم خير منه، فنزل إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (13).

و قيل: إن المراد بالأبتر هنا المنقطع عن المقصود قبل بلوغه، فأجابهم اللّه تعالى أنّ خصمه هو الذي يكون كذلك، فانّهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين، و صارت رايات الاسلام عالية و أهل الشرق

ص: 594


1- . تفسير الرازي 130:32، تفسير روح البيان 525:10.
2- . تفسير الرازي 129:32. (3-4-5) . مجمع البيان 837:10، تفسير الصافي 383:5.
3- . الكافي 9/326:2، تفسير الصافي 383:5.
4- . تفسير الرازي 132:32، و عن مقاتل و الكلبي و عامة أهل التفسير. (7-8-9-10) . تفسير الرازي 133:32. ( (11-12-13-14 ) . تفسير الرازي 132:32.

و الغرب لها متواضعة(1).

و قيل: إنّ المراد به من لا ناصر له و لا معين، فكذّبهم اللّه؛ لأنّ اللّه هو مولاه و جبرئيل و صالح المؤمنين، و أنّ الكفار لا ناصر لهم(2).

و قيل: إنّ المراد به الحقير الذليل، رووا أنّ أبا جهل اتّخذ ضيافة لقومه، ثمّ قال: محمد ابتر، ثمّ قال:

قوموا حتى نذهب إلى محمد و أسارعه و اجعله ذليلا حقيرا، فلمّا وصلوا إلى دار خديجة، و توافقوا على ذلك، أخرجت خديجة بساطا، فلمّا تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه، و بقي النبيّ واقفا كالجبل، ثمّ بعد ذلك رماه النبي صلّى اللّه عليه و آله على أقبح وجه، فلمّا رجع أخذه باليد اليسرى، فصرعه على الأرض مرة اخرى، و وضع قدمه على صدره(3).

و قيل: إنّ المراد من قوله: إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ هذه الواقعة(4).

و قيل: إنّه لمّا نسب النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى القلّة و الذلّة، و نفسه بالكثرة و الدولة، قلب اللّه الأمر عليه، و بيّن أن العزيز من أعزّه اللّه، و الذليل من أذلّه اللّه، و الكثرة و الكوثر لمحمد، و الابترية و الذّمامة(2) و الذلّة لعدوّه، فكان من أول السورة و آخرها نوع مطابقة.

و قيل: إنّ المراد به المنقطع عن الملك و السلطنة، و قد مرّ أنّ رجلا قام إلى الحسن بن علي و قال:

سوّدت وجه المؤمنين بأن تركت الإمامة لمعاوية، فقال: «لا تؤذيني يرحمك اللّه، فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأى بني امية في المنام يصعدون منبره رجلا رجلا، فساءه ذلك، فأنزل اللّه تعالى إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ و إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فقال: ملك بني امية كذلك، ثمّ انقطعوا و صاروا مبتورين»(6).

و قيل: إنّ المراد أنّ كلامهم الفاسد في حقّك منقطع و مضمحلّ، و أمّا المدح الذي ذكرناه فيك فإنّه باق على وجه الدهر(7).

عن القمي رحمه اللّه قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسجد، و فيه عمر بن العاص و الحكم بن العاص، فقال عمرو: يا أبتر، و كان الرجل في الجاهلية إذا لم يكن له ولد سمّي أبتر. ثمّ قال عمرو: إنّي لأشنأ محمدا أي أبغضه، فأنزل اللّه على رسوله السورة إِنَّ شٰانِئَكَ أي مبغضك هُوَ الْأَبْتَرُ أي لا دين له و نسب(3).

و ممّا تضحك به الثكلى معارضة مسليمة لهذه السورة بقوله: إنا أعطيناك الجماهر، فصلّ لربك و هاجر، إن مبغضك رجل كافر. فانّ تغيير ثلاث كلمات لا يكون معارضة مع عدم المناسبة بين

ص: 595


1- . تفسير الرازي 133:32. (2-3-4) . تفسير الرازي 133:32.
2- . في تفسير الرازي: و الدناءة. (6و7) . تفسير الرازي 134:32.
3- . تفسير القمي 445:2، تفسير الصافي 283:5.

الإعطاء و الجماهر و الصلاة و الهجرة، و حكم الذوق السليم بركاكته.

عن الصادق عليه السّلام: «من كان قراءته إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ في فرائضه و نوافله، سقاه اللّه من الكوثر يوم القيامة و كان محلّه عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أصل شجرة طوبى»(1).

ص: 596


1- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 835:10، تفسير الصافي 384:5.

في تفسير سورة الكافرون

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ (1) لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ (2) وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ (3) وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ (4) وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ (5) ثمّ لمّا ختمت سورة ثمّ لمّا ختمت سورة الكوثر المتضمّنة لغاية إنعام اللّه و تفضّله على رسوله و أمره بعبادته، نظمت سورة الجحد المتضمّنة لامتناع الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن عبادة غير اللّه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ خاطب نبيّه بقوله:

قُلْ يا محمد تقريعا للمشركين الذين طعنوا فيك بأنّك أبتر يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ قيل: في ندائهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم و دار عزّهم و شوكتهم، إيذان بذلّهم، و كونه صلّى اللّه عليه و آله محروسا منهم(1) ، و أنّه مؤيّد من اللّه.

روي أنّ رهطا من عتاة المشركين كالوليد بن المغيرة و أبي جهل و العاص بن وائل و أمية بن خلف و الأسود بن عبد يغوث و الحارث بن قيس و أضرابهم، قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هلمّ فاتّبع ديننا و نتّبع دينك، تعبد إلهنا سنة و نعبد إلهك سنة، فيحصل الصّلح بيننا و بينك، و تزول العداوة. فقال: «معاذ اللّه أن اشرك باللّه غيره» فقالوا: استلم بعض آلهتنا نصدّقك و نعبد إلهك، فنزلت(2) السورة: يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ

لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ من دون اللّه أبدا

وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ بعد مٰا أَعْبُدُ اللّه الواحد الذي لا إله غيره

وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ في حال من الأحوال مٰا عَبَدْتُّمْ من الأصنام و الكواكب، فلا تطمعوا منّي ذلك الأمر المحال

وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ في وقت من الأوقات مٰا أَعْبُدُ و هو اللّه الواحد الذي خلق جميع الأشياء بقدرته، لتصلّبكم في دينكم الباطل، و لجاجكم و عنادكم للحقّ. قيل:

إنّ التّكرار للتأكيد(3) ، فانّ الكفّار - على ما قيل - رجعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك مرارا، و سكت

ص: 597


1- . تفسير روح البيان 526:10.
2- . تفسير روح البيان 526:10.
3- . تفسير الرازي 145:32.

الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن جوابهم، فوقع في قلوبهم أنّه قد مال إلى دينهم بعض الميل، فنزلت الآية مكرّرا(1).

و قيل: إنّ الكفّار قالوا: استلم بعض آلهتنا حتى نؤمن لك، فأنزل اللّه: لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ ثمّ قالوا بعد مدّة: تعبد آلهتنا شهرا أو سنة، و نعبد إلهك شهرا أو سنة، فأنزل: وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ (2).

و ذكر كلمة مٰا في قوله: مٰا أَعْبُدُ مع أنّها لغير ذوي العقول، لإرادة الصفة بها، و المعنى: لا أعبد الباطل الذي تعبدونه، و لا أنتم عابدون الحقّ الذي أعبد، كذا قيل(3). و قيل: إنّها بمعنى (الذي)(4) أو مصدرية، و المعنى، لا أعبد عبادتكم و لا تعبدون عبادتي في المستقبل، ثمّ قال ثانيا: لا أعبد عبادتكم و لا تعبدون عبادتي في الحال(5).

و قيل: إنّ ذكرها لا تساق الكلام، فانّه تعالى لمّا قال أولا وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ حمل الثاني عليه، كما قال: جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا (2).

لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6) ثمّ كأنّه قال: إنّ أردتم الصّلح، فانّ الصّلح بيننا و بينكم أن

لَكُمْ دِينُكُمْ لا تتركونه وَ لِيَ دِينِ لا أتركه و لا أرفضه.

عن ابن عباس قال: يريد لكم كفركم باللّه، و لي التوحيد الخالص(3).

و قيل: لكم دينكم فكونوا عليه إن كان الهلاك خيرا لكم(8).

و قيل: إنّ الدين هو الحساب، و المعنى: لكم حسابكم، و لي حساب أعمالي، لا يرجع عمل كلّ إلاّ على عامله(9).

و قيل: يعني لكم جزاء أعمالكم و دينكم وبالا و عقابا، و لي جزاء ديني ثوابا و تعظيما(10).

و قيل: إنّ الدين هو العقوبة(11) ، و المعني: لكم العقوبة من ربّي، ولي العقوبة من أصنامكم، و فيه تهديد و تهكّم(12).

عن الصدوق في (الامالي): شأن نزول السورة أنّ نفرا من قريش اعترضوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهم:

عتبة بن ربيعة و امية بن خلف و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل أو سعد(4) ، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، و تعبد ما نعبد، فنشترك نحن و أنت في الأمر، فان يكن الذي نحن عليه حقّا فقد

ص: 598


1- . تفسير الرازي 146:32. (2-3-4-5) . تفسير الرازي 146:32.
2- . تفسير الرازي 146:32، و الآية من سورة الشورى: 40/42.
3- . تفسير الرازي 147:32، و فيه: التوحيد و الإخلاص له. (8و9) . تفسير الرازي 147:32. (10-11-12) . تفسير الرازي 147:32.
4- . في أمالي الطوسي: العاص بن سعيد، و في مجمع البيان 840:10، العاص بن أبي وائل.

أخذت بحظّك، و إن يكن الذي أنت عليه الحقّ فقد أخذنا بحظّنا منه، فأنزل اللّه السورة(1).

و في الرواية العامية السابقة: فغدا رسول اللّه إلى المسجد [الحرام] و فيه الملأ من قريش، فقام على رءوسهم فقرأها عليهم [فأيسوا](2) منه عند ذلك، فآذوه و أصحابه(3).

و عن القمّي: سال أبو شاكر الديصاني أبا جعفر الأحول عن تكرار الآية في السورة، و قال: هل يتكلّم الحكيم بمثل هذا القول و يكرّره مرّة بعد اخرى؟! فلم يكن عند الأحول في ذلك جواب، فدخل المدينة فسأل الصادق عليه السّلام عن ذلك، فقال: «كان سبب نزولها و تكرارها أنّ قريشا قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعبد آلهتنا سنة، و نعبد إلهك سنة، و تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة، فأجابهم اللّه بمثل ما قالوا»(4).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ في فريضة من الفرائض، غفر اللّه له و لوالديه، و إن كان شقيا محي من ديوان الأشقياء و اثبت في ديوان السّعداء، و أحياه اللّه سعيدا، و أماته سعيدا، و بعثه شهيدا»(5).

و عنه عليه السّلام: «كان أبي يقول: قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ ربع القرآن، و كان إذا فرغ منها قال أعبد اللّه وحده، أعبد اللّه وحده»(6).

و عنه عليه السّلام، «إذا فرغت منها فقل: ديني الاسلام، [ثلاثا]»(7).

و روت العامة عن ابن عباس: ليس سورة في القرآن أشقّ على الشيطان من هذه السورة الكريمة، لأنّها توحيد محض و براءة من الشرك، فمن قرأها برئ من الشرك، و تباعد عنه مردة الشياطين، و أمن من الفزع الأكبر، و هي تعدل ربع القرآن»(8).

و في الحديث العامي: «مروا صبيانكم فليقرءوها عند المنام، فلا يعرض لهم شيء، و من خرج مسافرا فقرأ هذه السور. الخمس: قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ و إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَ الْفَتْحُ و قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّٰاسِ رجع سالما، و لا تصبه آفة و مصيبة»(9).

ص: 599


1- . أمالى الطوسي: 22/19، تفسير الصافي 385:5.
2- . في النسخة: فراغ.
3- . تفسير روح البيان 526:10، مجمع البيان 840:10.
4- . تفسير القمي 445:2، تفسير الصافي 385:5.
5- . ثواب الأعمال: 127، مجمع البيان 839:10، تفسير الصافي 386:5.
6- . الكافي 7/454:2، و فيه إلى: ربع القرآن، مجمع البيان 839:10، تفسير الصافي 386:5، و فيه: أعبد اللّه وحده، مرّة واحدة.
7- . تفسير القمي 446:2، تفسير الصافي 386:5. (8و9) . تفسير روح البيان 528:10.

ص: 600

في تفسير سورة النصر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النّٰاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّٰهِ أَفْوٰاجاً (2) ثمّ لمّا ختمت سورة الجحد المتضمّنة لأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بخطاب أهل مكّة بأشنع الخطاب، و الإعلان بالتبري من عبادة أصنامهم المؤذن جميع ذلك بعدم مبالاته إياهم، و كونه محروسا منهم و منصورا عليهم، نظمت سورة النصر المبشّرة بنصرته على الكفّار، و دخول الناس في دينه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بتبشير نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنصر و الغلبة على الكفّار، و فتح مكّة الذي كان من أهمّ مطالبه بقوله:

إِذٰا جٰاءَ ك يا محمد نَصْرُ اللّٰهِ و الغلبة التامة على أعداء الدين من قريش و سائر العرب وَ الْفَتْحُ الذي تأمله و تنتظره بسبب نصر اللّه و إعانته إياك عليه، و هو فتح مكّة التي هي مولدك و مسكن آبائك.

قيل: لمّا قال: يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ خاف من قريش و سائر العرب بعض الخوف، فقلّل في الخشونة و قال: لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ فآمنه تعالى و قال: لا تخف فإنّي لا أذهب بك إلى النصر، بل أجيء بالنصر إليك(1).

عن ابن عباس: الفتح هو فتح مكّة، و هو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح(2).

روي أنّه لمّا كان صلح الحديبية، و انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أغار بعض من كان على عهد قريش على خزاعة، و كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجاء سفير ذلك القوم و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعظم ذلك عليه، ثمّ قال: أما إنّ هذا العارض يخبرني أنّ الظّفر يجيء من اللّه، ثمّ قال لأصحابه: انظروا. فانّ أبا سفيان يجيء و يلتمس أن يجدّد العهد، فلم تمض إلاّ ساعة أن جاء الرجل ملتمسا لذلك، فلم يجبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أكابر الصحابة، فالتجأ، إلى فاطمة، فلم ينفعه ذلك، فرجع إلى مكّة آيسا،

ص: 601


1- . تفسير الرازي 150:32.
2- . تفسير الرازي 153:32.

و تجهّز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المسير لمكّة.

ثمّ روي أنّ سارة مولاة بني هاشم أتت المدينة، فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله: جئت مسلمة؟» قالت: لا، لكن كنتم الموالي و لي حاجة. فحثّ عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني عبد المطّلب فكسوها و حملوها و زوّدوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة بعشرة دنانير، و استحملها كتابا إلى مكّة نسخته: اعلموا أنّ رسول اللّه يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت سارة، فنزل جبرئيل بالخبر، فبعث رسول اللّه عليا عليه السّلام و عمارا في جماعة أمرهم أن يأخذوا الكتاب، و إلاّ فاضربوا عنقها. فلمّا أدركوها جحدت و حلفت، فسلّ عليّ سيفه، و قال: و اللّه ما كذّبنا، فأخرجته من عقيصة شعرها، و استحضر النبي صلّى اللّه عليه و آله حاطبا، و قال: «و ما حملك عليه؟» فقال: و اللّه ما كفرت منذ أسلمت، و لا أجبتهم منذ فارقتهم، و لكن كنت غريبا في قريش، و كلّ من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن اتّخذ عندهم يدا.

فقال عمر: دعني - يا رسول اللّه - أضرب عنق هذا المنافق. فقال: «و ما يدريك - يا عمر - لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فغاضت عينا عمر.

أقول: لا يخفى ما فيه من الطعن على عمر.

ثمّ خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ نزل بمرّ الظّهران، و قدم العباس عمّ النبي مع أبي سفيان إليه فاستأذناه، فأذن لعمّه خاصّة، فقال أبو سفيان: إمّا أن تأذن لي، و إلاّ أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعا و عطشا؛ فرقّ قلبه الشريف، فأذن له، و قال له: «أ لم يأن أن تسلم و توحّد؟» فقال: أظنّ أنّه واحد، و لو كان هاهنا غير اللّه لنصرنا. فقال له: «أ لم يأن أن تعرف أنّي رسول اللّه؟» فقال: إنّ لي شكّا في ذلك.

فقال العباس: أسلم قبل أن يقتلك عمر، فقال: و ما أصنع بالعزّ؟» فقال عمر: لو لا أنّك بين يدي رسول اللّه لضربت عنقك.

فقال: يا محمد، أ ليس الاولى أن تترك هؤلاء الأوباش و تصالح قومك و عشيرتك، فسكّان مكة عشيرتك و أقاربك و تعرّضهم للشنّ و الغارة؟

فقال رسول اللّه: «هؤلاء نصروني و أعانوني و ذبّوا عن حريمي، و أهل مكة أخرجوني و ظلموني، فان اسروا فبسوء صنيعهم».

و أمر العباس بأن يذهب به، و يوقفه على المرصاد ليطالع العسكر، فكانت الكتيبة تمرّ عليه فيقول:

من هذا؟ فيقول العباس: هو فلان من امراء الجند و العسكر، إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلاّ الحدق قال من هم؟ فقال العباس، هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: لقد اوتي ابن أخيك ملكا

ص: 602

عظيما! فقال العباس: هو النبوة. فقال: هيهات النبوة.

ثمّ تقدّم رجل و دخل مكة و قال: إنّ محمدا جاء بعسكر لا يطيقه أحد، فصاحت هند و قالت: اقتلوا هذا المبشّر، و أخذت بلحيته، فصاح الرجل فدفعها عن نفسه، فلمّا سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر، و كانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعا شديدا، و سأل العباس، فأخبره بأمر الصلاة، و دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة على راحلته، و لحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعا و شكرا، ثمّ التمس أبو سفيان الأمان، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فقال أبو سفيان: و من تسع داري؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من دخل المسجد فهو آمن» فقال أبو سفيان: و من يسع المسجد. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من ألقى سلاحه فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن».

ثمّ وقف رسول اللّه على باب المسجد، و قال: لا إله إلاّ اللّه وحده، صدق وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب جنده، أو وحده» ثمّ قال: «يا أهل مكّة، فما ترون أنّي فاعل بكم؟» فقالوا: خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم. فقال: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء»(1).

ثمّ إن القوم بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الاسلام، فصاروا يدخلون في دين اللّه أفواجا.

ثمّ اعلم أنّ فتح مكة كان في سنة ثمان من الهجرة، و قال بعض مفسّري العامة: إنّ السورة نزلت قبل الفتح(2) ، فيكون ما فيها إخبارا بالغيب، و دليلا على صحّة النبوة، و قال بعض: إنّها نزلت في سنة عشرة(3).

و رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لمّا نزلت هذه السورة مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فخرج إلى الناس فخطبهم و ودعهم، ثمّ دخل المنزل فتوفّي بعد أيام»(4).

و روي أنّه دعا فاطمة عليها السّلام فقال: يا بنتاه إنّي نعيت إليّ نفسي» فبكت فقال: «لا تبكي، فانّك أول أهلي لحوقا بي» فضحكت(5).

و عن ابن مسعود: أنّ هذه السورة تسمّى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا(6).

و قيل: إنّ المراد بالفتح فتح خيبر(7) و قيل: إنّه فتح الطائف(8). و قيل: إنّه فتح بلاد الشرك على الاطلاق(9) ، و يدلّ على كون المراد فتح مكّة تعريفه بلام العهد، فانّ المعهود عندهم هو ذلك الفتح، و إنّ الناس قبل فتح مكة كانوا يدخلون في الاسلام واحدا بعد واحد و اثنين اثنين، و اللّه سبحانه قرن

ص: 603


1- . تفسير الرازي 153:32.
2- . تفسير الرازي 155:32، تفسير أبي السعود 208:9، تفسير روح البيان 528:10.
3- . تفسير الرازي 155:32. (4-5-6) . تفسير روح البيان 531:10. (7-8-9) . تفسير الرازي 155:32.

بذكر الفتح قوله:

وَ رَأَيْتَ و أبصرت اَلنّٰاسَ و عامّة العرب يَدْخُلُونَ بالطوع و الرغبة فِي دِينِ اللّٰهِ و ملّة الإسلام حال كونهم أَفْوٰاجاً و جماعات كثيرة كأهل مكّة و الطائف و اليمن و هوازن و سائر قبائل العرب.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا: إذا ظفر بأهل مكّة و أهل الحرم، فلن يقاومه أحد، و قد كان اللّه أجارهم من أصحاب الفيل و من كلّ من أرادهم من الجبابرة، فكانوا يدخلون في دين الاسلام أفواجا من غير قتال(1).

و قيل: لم يمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في العرب رجل كافر، بل دخل الكلّ في الاسلام بعد حنين، منهم من قدم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و منهم من قدم وافده(2).

و عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّه بكى ذات يوم فقيل له في ذلك، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «دخل الناس في دين اللّه أفواجا، و سيخرجون منه أفواجا»(3).

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كٰانَ تَوّٰاباً (3) ثمّ لمّا بشّر سبحانه حبيبه بالنصر على الأعداء الدالّ على كمال قدرته، أمره بتسبيحه و تنزيهه عن الشرك و العجز بقوله:

فَسَبِّحْ و نزّه إليك - يا محمد - عن العجز و النقائص الامكانية، و لمّا بشّره بنعمة الفتح أمره أن يقرن تسبيحه(4) بحمده على نعمة التي منها الفتح، و كأنّه تعالى قال: فسبّح حال كونك متلبسا بِحَمْدِ رَبِّكَ المنعم عليك.

ثمّ أومأ إلى كمال دينه و تمام أمر دعوته و قرب أجله بقوله: وَ اسْتَغْفِرْهُ لما فرط منك من ترك الأولى و الأفضل، و لذنوب الداخلين في دينك، أو هضما لنفسك، و استصغارا لعملك، و استعظاما لحقوقه إِنَّهُ تعالى كٰانَ بذاته و بلطفه تَوّٰاباً و مبالغا في قبول التوبة بحيث يعامل مع التائب معاملة من لم يذنب.

قيل: إنّ علّة الأمر بالاستغفار كونه تعالى غفّارا، و أمّا التعليل بكونه توابا للدلالة على أنّ المقدّر، و تب إنّه كان توابا، و الامر بالتوبة بعد الاستغفار للدلالة على أنّ طلب المغفرة لا ينفع إلاّ إذا قرن بالندم على المعاصي، و العزم على عدم العود(5).

روت عائشة أنّه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول: «سبحانك اللّهمّ

ص: 604


1- . تفسير الرازي 157:32، تفسير روح البيان 529:10.
2- . تفسير روح البيان 529:10.
3- . تفسير الرازي 157:32، تفسير روح البيان 530:10.
4- . في النسخة: بتسبيحه.
5- . تفسير روح البيان 532:10.

و بحمدك، استغفرك و أتوب إليك»(1).

و عنها أيضا: كان نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلاّ قال: «سبحان اللّه و بحمده». فقلت يا رسول اللّه انك تكثر من قول سبحان اللّه و بحمده، قال: إني أمرت بها و قرأ إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ (2). و روي ذلك عن امّ سلمة أيضا(3).

و قالت أيضا: كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله يقول كثيرا في ركوعه: «سبحانك اللهم و بحمدك اللهمّ اغفر لي(4).

و عن ابن مسعود: لمّا نزلت هذه السورة كان يكثر من أن يقول: «سبحانك اللهمّ و بحمدك، اللهمّ اغفر لي، إنّك أنت التواب الغفور(5).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أول ما نزل اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ و آخره إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ (6).

و عنه عليه السّلام: «من قرا إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ في نافلة أو فريضة، نصره اللّه على جميع أعدائه، و جاء يوم القيامة و معه كتاب ينطق قد أخرجه اللّه من جوف قبره، فيه أمان من جسر جهنّم، و من النار، و من زفير جهنّم، فلا يمرّ بشيء يوم القيامة إلاّ بشّره و أخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنة، و يفتح له في الدنيا من أسباب الخير ما لم يتمنّ و لم يخطر على قلبه»(7).

ص: 605


1- . تفسير الرازي 160:32، تفسير روح البيان 531:10.
2- . تفسير الرازي 160:32.
3- . مجمع البيان 844:10، تفسير الصافي 387:5.
4- . تفسير الرازي 160:32.
5- . تفسير الرازي 160:32.
6- . الكافي 5/460:2، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 12/6:2، تفسير الصافي 387:5.
7- . ثواب الأعمال: 127، مجمع البيان 843:10، و فيه إلى قوله: يدخل الجنة.

ص: 606

في تفسير سورة المسد

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) مٰا أَغْنىٰ عَنْهُ مٰالُهُ وَ مٰا كَسَبَ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة النصر المتضمّنة لبيان تمامية دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و نفوذ كلمته، و دخول الناس في دينه، و نصرته على أعدائه، نظمت سورة أبي لهب المتضمّنة لبيان خبث(1) أبي لهب و ذمّ زوجته أمّ جميل(2) الساعيين في الإخلال بأمر رسالته و إطفاء نوره، و غاية خسرانها [في] معاندته، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بذكر خسران أبي لهب في معاندته للرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

تَبَّتْ و خسرت، أو خابت يَدٰا أَبِي لَهَبٍ روي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صعد على الصفا ذات يوم، و قال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: «أ رأيتم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبّحكم أو ممسيكم، أ ما كنتم تصدّقوني؟» قالوا: بلى. قال: «فانّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك، أ لهذا دعوتنا! فنزلت السورة(3).

و روي أيضا أنّه صلّى اللّه عليه و آله جمع أعمامه، و قدّم إليهم طعاما في صحفة، فاستحقروه. و قالوا: إنّ أحدنا يأكل كلّ الشاة، فقال: «كلوا» فأكلوا حتى شبعوا و لم ينقص من الطعام إلاّ اليسير، ثمّ قالوا: فما عندك؟ فدعاهم إلى الاسلام. فقال أبو لهب: تبا لك، أ لهذا دعوتنا!(4)

و روي أنّه قال أبو لهب: فما لي إن أسلمت؟ فقال: «ما للمسلمين» فقال: أ فلا افضّل عليهم؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «بما ذا تفضّل؟» فقال: تبا لك و لهذا الدين، يستوى [فيه] أنا و غيري(5). و في رواية: كان إذا وفد على النبي صلّى اللّه عليه و آله وفد سألوا عمّه عنه، و قالوا: أنت أعلم به. فيقول لهم: إنّه ساحر، فيرجعون عنه و لا يلقونه، فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك، فقالوا: لا ننصرف حتّى نراه. فقال: إنّا لم نزل نعالجه من

ص: 607


1- . في النسخة: خبيثة.
2- . في النسخة: جميلة.
3- . مجمع البيان 851:10، تفسير الصافي 389:5، تفسير الرازي 165:32. (4و5) . تفسير الرازي 165:32.

الجنون، فتبا له و تعسا، فاخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بذلك فحزن، فنزلت السورة(1).

و في رواية ابن عباس: اجتمعت عنده قريش فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين و أنتم الأقربون، اعلموا أنّي لا أملك لكم من الدنيا حظا، و لا من الآخرة نصيبا، إلاّ أن تقولوا: لا إله إلاّ اللّه، فأشهد بها لكم عند ربّكم». فقال أبو لهب ذلك: تبا لك، أ لهذا دعوتنا! فنزلت السورة(2).

و عنه قال: تَبَّتْ أي خابت، لأنّه كان يدفع القوم عنه بقوله: إنه ساحر، فينصرفون عنه قبل لقائه.

لأنّه كان شيخ القبيلة، و كان له صلّى اللّه عليه و آله كالأب، فكان لا يتّهم، فلمّا نزلت السورة غضب و أظهر العداوة الشديدة، فصار متّهما، فلم يقبل قوله في الرسول صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك، فكأنّه خاب سعيه و بطل غرضه(3).

قيل: إنّما ذكر سبحانه اليد، لأنّه كان يضرب يديه على كتف الوافد عليه لدفعه، و يقول: انصرف راشدا فانّه مجنون(4). و قيل: يعني صفرت يداه عن كلّ خير(5) ، و عليه يكون المراد باليد حقيقتها، فانّه كان يؤذي النبي صلّى اللّه عليه و آله بيده.

روي عن طارق المحاربي أنّه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السوق يقول: «أيّها الناس، قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا» و رجل خلقه يرميه بالحجارة. و قد أدمى عقبيه، و قال: لا تطيعوه فانّه كذّاب، فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمّد، و عمّه أبو لهب(6).

و قيل: إنّما اسند الخسران أو الخيبة إلى يديه، لما روي أنّه كان يقول: يعدني محمد أشياء لا أرى أنّها كائنة، يزعم أنّها بعد الموت، فلم يضع في يدي من ذلك شيئا، ثمّ ينفخ في يديه، و يقول: تبا لكما، ما أرى فيكما شيئا، فنزلت السورة(3).

أو لما روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا دعاه نهارا فأبى، فلمّا جنّ الليل ذهب إلى داره مستنّا بسنّة نوح عليه السّلام ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا، فلمّا دخل عليه قال له: جئتني معتذرا، فجلس النبي صلّى اللّه عليه و آله أمامه كالمحتاج، و جعل يدعوه إلى الاسلام، و قال: «إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت و أسكت» فقال:

لا اؤمن بك حتّى يؤمن بك هذا الجدي. فقال صلّى اللّه عليه و آله للجدي: من أنا؟ فقال: رسول اللّه، و اطلق لسانه فأثنى عليه، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ يدي الجدي فمزّقه و قال: تبا لك أثّر فيك السحر! فقال الجدي: بل تبا لك، فنزلت السورة على وفق ذلك تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ لتمزيقه يدي الجدي(4)وَ تَبَّ و حصلت الخيبة و الخسران: أو الهلاك له، فيكون إخبارا بعد إخبار، و لكن أراد بالأول هلاك

ص: 608


1- . تفسير الرازي 166:32.
2- . تفسير الرازي 165:32. (3-4-5-6) . تفسير الرازي 166:32.
3- . تفسير الرازي 167:32.
4- . تفسير الرازي 167:32.

عمله، و بالثاني هلاك نفسه، و قيل: إنّ اليد كناية عن ماله(1) ، و المعنى: هلك ماله، و اهلكت نفسه، و قيل:

إنّها كناية عن نفسه(2) و المعنى: هلك أو خسر أو خاب نفسه وَ تَبَّ ولده عتبة، روي أنّه خرج إلى الشام مع اناس من قريش، فلمّا همّوا أن يرجعوا قال عتبة: أبلغوا محمدا عنّي أنّي كفرت بالنجم إذا هوى(3).

و في رواية: أنّ عتبة لمّا أراد الخروج إلى الشام قال: لآتين محمدا و لأوذينّه، و كانت تحته بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأتاه و قال: يا محمد، أنا كافر بالنجم إذا هوى، و بالذي دنا فتدلّى، ثمّ تفل في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ردّ عليه ابنته و طلّقها، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثمّ خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدّير، فقال: إنّ هذه أرض مسبعة(1) ، فقال أبو لهب: أعينوني يا معشر قريش هذه الليلة، فانّي أخاف على ابني دعوة محمد فجمعوا جمالهم و أناخوها حولهم، و أحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتخلّلهم و يشتمّ وجوههم حتّى ضرب عتبة فقتله، و هلك أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، و العدسة على ما قيل: بثرة تشبه العدسة، و هي من جنس الطاعون(2).

و قيل: إنّ اليد هنا كناية عن الاحسان و المنّة، روي أنّه كان كثير الاحسان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان يقول: إن كان الأمر لمحمد فيكون لى عنده يد، و إن كان لقريش فلي عندها يد، فاخبر أنّه خسرت يده التي كانت عند محمد بعناده له، و يده التي كانت عند قريش أيضا لخسران قريش و هلاكهم في يد محمد(3).

و قيل: إنّ يداه كناية عن دينه و دنياه، و عقباه و اولاه(4).

و قيل: إنّ الجملتين دعاء عليه(5). و قيل: إنّ الاولى دعاء، و الثانية إخبار(6) ، أي كان ذلك و حصل.

قيل: كان اسمه عبد العزّى، أو عبد مناف، و كنّى بأبي لهب لتلهّب وجنتيه و إشراقهما(7). و إنّما ذكره سبحانه بالكنية لكونه معروفا بها، فصارت بمنزلة اسمه، و لأنّه وصف سبحانه نار جهنم بكونها ذات لهب، فذكر بهذه الكنية للاشعار بموافقة مال أمره كنيته، فمعنى كنيته أبو النار، كما يقال: أبو الشرّ للشرير، و أبو الخير للخيّر.

ثمّ إنّه كان يقول: إن كان ما يقوله ابن أخي حقّا، فأنا افتدي منه نفسي بمالي و أولادي، فردّ اللّه تعالى عليه بقوله:

مٰا أَغْنىٰ عَنْهُ و لم ينفعه حينما حلّ به التّباب مٰالُهُ الذي جمعه وَ مٰا كَسَبَ

ص: 609


1- . أي كثيرة السباع.
2- . تفسير روح البيان 534:10.
3- . تفسير روح البيان 533:10.
4- . تفسير الرازي 167:32.
5- . تفسير أبي السعود 210:9، تفسير روح البيان 533:10.
6- . تفسير أبي السعود 210:9.
7- . مجمع البيان 852:10، تفسير الرازي 168:32، و لم يذكرا: عبد مناف.

من أولاده، كما عن ابن عباس(1).

و روي أنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، و أنّ ولده من كسبه(2).

و قيل: إنّ مٰا كَسَبَ عمله الشنيع من كيده في عداوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إقدامه في قتله(3).

و قيل: إنّ المراد بالمال هو الماشية، و من كسبه نتاجها، فانّه كان صاحب ماشية و نعم و نتاج(4) ، أو المراد ماله الذي ورثه من أبيه، و ممّا كسب ما كسبه بنفسه(5).

و قيل: إنّ كلمة مٰا استفهامية للإنكار(4) ، و المعنى: أي شيء أغنى عنه في دفع التّباب، أو في عداوة الرسول، أو في دفع النار.

سَيَصْلىٰ نٰاراً ذٰاتَ لَهَبٍ (3) ثمّ إنّه تعالى بعد إخباره بخيبته و خسرانه في الدنيا، أخبر من سوء حاله في الآخرة و بعد الموت بقوله:

سَيَصْلىٰ و عن قريب يدخل بعنف نٰاراً عظيمة ذٰاتَ لَهَبٍ و اشتعال و توقّد، هي نار جهنم.

ثمّ اعلم أنّ الآيات متضمّنة لأخبار ثلاثة عن الغيب: الإخبار عنه بالتّباب و الخسارة، و الإخبار بعدم انتفاعه بماله و ولده، و الإخبار بأنّه يموت على الكفر و يدخل النار، و قد وقع جميع ذلك.

روى أبو رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: كنت غلاما للعباس بن عبد المطّلب، و كان الاسلام قد دخل [بيتنا] فأسلم العباس، و أسلمت امّ الفضل، و أسلمت أنا، و كان العباس يهاب القوم و يكتم إسلامه، و كان أبو لهب تخلّف عن بدر، فبعث مكانه العاص بن هشام، و لم يتخلّف رجل منهم إلاّ بعث مكانه رجلا آخر، فلمّا جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوّة، و كنت رجلا ضعيفا، و كنت أعمل القداح ألحيها(5) في حجرة زمزم، فكنت جالسا هناك، و عندي امّ الفضل جالسة، و قد سرّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه، فجلس على طنب(6) الحجرة، و كان ظهري إلى ظهره، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، فقال له أبو لهب:

كيف الخبر يا ابن أخي؟ فقال: لقينا القوم و منحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف أرادوا، و ايم [اللّه] مع ذلك تأمّلت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء و الأرض. قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة، ثمّ قلت: اولئك و اللّه الملائكة، فأخذني أبو لهب و ضربني على الأرض، ثمّ برك عليّ

ص: 610


1- . تفسير الرازي 169:32، تفسير روح البيان 534:10.
2- . تفسير الرازي 169:32.
3- . جوامع الجامع: 555، تفسير الرازي 170:32، تفسير روح البيان 534:10. (4و5) . تفسير الرازي 169:32.
4- . تفسير أبي السعود 210:9، تفسير روح البيان 533:10.
5- . لحى القدح: قشره.
6- . الطنب: حبل يشدّ به الخبار و السّرادق و نحوهما، أو الطرف و الناحية.

فضربني، و كنت رجلا ضعيفا، فقامت امّ الفضل إلى عمود فضربته على رأسه و شجّته، و قالت:

تستضعفه أن غاب سيده، و اللّه نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة، و قد صدق فيما قال. فانصرف ذليلا، فو اللّه ما عاش إلاّ سبع ليال حتى رماه اللّه بالعدسة فقتلته، و لقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما دفناه حتى أنتن في بيته، و كانت قريش تتّقي العدسة و عدواها كما يتّقى الطاعون، و قالوا: نخشى هذه القرحة، ثمّ دفنوه و تركوه، فهذا معنى مٰا أَغْنىٰ عَنْهُ مٰالُهُ وَ مٰا كَسَبَ (1). و قيل: ثمّ استأجروا بعض السودان و احتملوه و دفنوه(2). و قيل: لم يحفروا له حفيرة، و لكن أسندوه إلى حائط و قذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتّى واروه(3). و في رواية حضروا له ثمّ دفعوه بعود في حفرته، و قذفوه بالحجارة من بعيد حتّى واروه(4).

وَ امْرَأَتُهُ حَمّٰالَةَ الْحَطَبِ (4) ثمّ هدد سبحانه زوجته الكافرة بقوله:

وَ امْرَأَتُهُ و زوجته المسمّاة أم جميل(2) ستصلى أيضا مع زوجها نار جهنم. و قيل: إنّ اسمها العوراء، و كنيتها امّ جميل، و هي اخت أبي سفيان بن حرب(3) ، و كانت حَمّٰالَةَ الْحَطَبِ قيل: كانت تحمل الشوك و الحسك و السّعدان(4) بالليل و تنشرها في طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى صار هو صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في شدّة و عناء(8).

و قيل: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يطأها كما يطأ الحرير(9).

و قيل: إنّها مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها، فذمّها سبحانه بالبخل، و لقب حمّالة على الذمّ، يعني أذمّ حمالة الحطب(5).

و قيل: ذمّها سبحانه بكونها نمّامة، و حمل الحطب كناية عن مشيها بالنميمة، فانّها كانت تمشي بالنميمة و تفسد بين الناس، كأنّها تحمل الحطب و توقده، أي(6) توري بينهم نائرة الشرّ(7).

و قيل: كناية عن حمل الآثام(8) و المعاصي، تحمل الحطب لإحراق نفسها(9).

فِي جِيدِهٰا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

ص: 611


1- . تفسير الرازي 170:32. (2-3-4) . تفسير روح البيان 534:10.
2- . في النسخة: جميلة.
3- . تفسير روح البيان 534:10.
4- . السّعدان: نبت ذو شوك. (8و9) . تفسير روح البيان 534:10.
5- . تفسير روح البيان 535:10.
6- . في النسخة: و توقدها و توري.
7- . تفسير روح البيان 535:10.
8- . تفسير الرازي 172:32.
9- . في النسخة: نفسه.

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّها بقوله:

فِي جِيدِهٰا و عنقها، أو موضع قلادتها، كالحطّابين حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ جيّد الفتل من أي شيء كان من جلد الإبل أو من اللّيف أو الخوص، و إنّما ذمّها بذلك لأنّها كانت تحمل الحزمة من الشوك و تربطها في جيدها كما يحمل(1) الحطّابون لخساستها.

و قيل: إنّه بيان لسوء حالها في جهنّم، و المقصود أنّها كما كانت في الدنيا تحمل الحطب و الشوك لخساستها، أو لايذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، لا تزال تحمل على ظهرها في جهنّم حزمة من حطب النار من شجرة الزقّوم و الضّريع، و في جيدها حبل من سلاسل النار، و لا يبعد بقاء الحبل من مسد في النار أبدا، كما يبقى الجلد و اللحم و العظم من الانسان أبدا في النار(2).

روي عن أسماء بنت عميس لمّا نزلت السورة جاءت امّ جميل، و لها ولولة و بيدها حجر، فدخلت المسجد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس و معه أبو بكر، و هي تقول:

مذمّما قلينا و دينه أبينا

و حكمة عصينا

فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، قد أقبلت إليك و أنا أخاف أن تراك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّها لا تراني، و قرأ وَ إِذٰا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنٰا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجٰاباً مَسْتُوراً (3) فقالت لأبي بكر: قد ذكر لي أنّ صاحبك هجاني. فقال أبو بكر: لا و ربّ هذا البيت، ما هجاك. فولّت و هي تقول: قد علمت قريش أنّي بنت سيّدها(4).

و عن الكاظم عليه السّلام في حديث يذكر فيه معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و من ذلك أنّ امّ جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبّت، و مع النبي أبو بكر بن أبي قحافة فقال: يا رسول اللّه، هذه امّ جميل تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به؟ فقال: «إنّها لا تراني» فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ قال:

حيث شاء اللّه. قالت: لقد جئته، و لو رأيته لرميته، فانّه هجاني، و اللات و العزّى إنّي لشاعرة. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، إنّها لم ترك؟ قال: «لا، ضرب اللّه بيني و بينها حجابا»(5).

عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا قرأتم تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ فادعوا(6) على أبي لهب، فانّه كان من المكذّبين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بما جاء به من عند اللّه»(7) لعن اللّه أبي لهب.

ص: 612


1- . كذا، و الظاهر: يعمل أو يفعل.
2- . تفسير الرازي 173:32.
3- . الإسراء: 45/17.
4- . تفسير الرازي 172:32.
5- . قرب الإسناد: 1228/329، تفسير الصافي 389:5.
6- . في النسخة: فالعنوا.
7- . ثواب الأعمال: 127، مجمع البيان 850:10، تفسير الصافي 389:5.

في تفسير سورة الإخلاص

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ (1) اَللّٰهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) ثمّ إنّه تعالى بعد إذلال رأس الضلال و مجسّمة الشرك، ذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ أمر رسوله بالاعلان بالتوحيد الخالص بقوله:

قُلْ يا محمد، لعموم الناس: إنّ ربكم و خالقكم و معبودكم هُوَ اللّٰهُ المستجمع لجميع صفات الكمال المبرّأ و المنزّه من جميع النقائص، فهو أَحَدٌ لا مثل له و لا نظير، و لا جزء و لا تركيب.

قيل: إنّ الواحد و الأحد بمعنى(1). و قيل: إنّ الأحد من أسمائه الخاصة التي لا تطلق على غيره تعالى(2).

و قيل: هُوَ ضمير الشأن، و المعنى أنّ الشأن و الحديث هو أنّ اللّه أحد(3). و فيه تفخيم لمعنى الجملة.

و قيل: إنّ المعنى ما اوحى إليّ ممّا سألتموه هو أنّ اللّه أحد(2).

روي أنّها نزلت حين أرسل المشركون عامر بن الطفيل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: قل له شققت عصانا، و سببت آلهتنا، و خالفت دين آبائك، فان كنت فقيرا أغنيناك، و إن كنت مجنونا داويناك، و إن هويت امرأة زوّجناكها. فقال: «لست بفقير و لا مجنون و لا هويت امرأة، أنا رسول اللّه، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته» فأرسلوه ثانيا و قالوا: قل له بيّن لنا جنس معبودك، أ من ذهب أو فضّة؟ [، فأنزل اللّه هذه السورة(3).

عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك أ من زبرجد أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة؟] فقال: «إنّ ربّي ليس من شيء، لأنّه خالق الأشياء» فنزلت قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ قالوا: هو واحد و أنت واحد؟ قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (4). قالوا: زدنا من الصّفة فقال:

اَللّٰهُ الصَّمَدُ فقالوا: و ما

ص: 613


1- . تفسير الرازي 178:32. (2و3) . تفسير الرازي 178:32.
2- . مجمع البيان 859:10، جوامع الجامع: 556.
3- . تفسير الرازي 175:32.
4- . الشورى: 11/42.

الصمد؟ فقال: «الذي يصمد إليه في الحوائج»(1).

و عن القمي رحمه اللّه قال: سبب نزولها أنّ اليهود جاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: ما نسبة ربّك؟ فأنزل اللّه السورة(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: انسب لنا ربّك، فلبث ثلاثا لا يجيبهم، ثمّ نزلت قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ إلى آخرها»(3).

و عن الباقر عليه السّلام - في تفسيرها - قال: قُلْ يعني أظهر ما أوحينا إليك و نبّأناك به بتأليف الحروف التي قرأناها لك، ليهتدي بها من ألقى السمع و هو شهيد، و هُوَ اسم مكنّى مشار(4) إلى غائب، فالماء تنبيه على مكّنى ثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ: كما أنّ (هذا) اشارة إلى الحاضر، أو المشاهد عند الحواسّ، و ذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فاشر أنت - يا محمد - إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه و ندركه و لا ناله فيه. فأنزل اللّه تبارك و تعالى: قُلْ هُوَ فالهاء تثبيت للثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواسّ، و إنّه تعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار و مبدع الحواسّ»(5).

ثمّ قال: «اَللّٰهُ و هو المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته و الإحاطة بكيفيته، يقول العرب: أله الرجل، إذا تحيّر في الشيء و لم يحط به علما، و و له إذا فرغ من شيء يحذره و يخافه، و الإله هو المستور عن الخلق.

ثمّ قال: أَحَدٌ و هو الفرد المتفرّد، و الأحد و الواحد بمعنى، و هو المتفرّد الذي لا نظير له، و التوحيد الاقرار بالوحدة، و هو الانفراد، و الواحد: المتباين الذي لا ينبعث من شيء و لا يتّحد بشيء، و من ثمّ قالوا: إنّ بناء العدد من واحد، و ليس الواحد من العدد، لأنّ العدد لا يقع على واحد، بل يقع على اثنين، فمعنى قوله: اَللّٰهُ أَحَدٌ أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه و الإحاطة بكيفيته، فرد بالهيته، متعال عن صفات خلقه»(6).

قال عليه السّلام: «و حدثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي عليه السّلام قال: «الصمد الذي لا جوف له، و الصمد الذي قد انتهى سؤدده، و الصمد الذي لا يأكل و لا يشرب، و الصمد الذي لا ينام، و الصمد الدائم الذي لم يزل و لا يزال».

ص: 614


1- . تفسير الرازي 175:32.
2- . تفسير القمي 448:2، تفسير الصافي 390:5.
3- . الكافي 1/71:1، التوحيد: 8/93، تفسير الصافي 390:5.
4- . في النسخة: مكنّى بها يشار بها.
5- . التوحيد: 1/88، تفسير الصافي 390:5.
6- . التوحيد: 2/89، تفسير الصافي 391:5.

قال عليه السّلام: «كان محمد ابن الحنفية يقول: الصمد القائم بنفسه، الغنيّ عن غيره، الصمد المتعالي عن الكون و الفساد، و الصمد الذي لا يوصف بالتغيير و التغاير».

و قال عليه السّلام: «الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه أمر و ناه».

قال عليه السّلام: و سئل علي بن الحسين عليهما السّلام عن الصمد فقال: «الذي لا شريك له، و لا يئوده حفظ شيء، و لا يعزب عنه شيء»(1).

قال الراوي: قال زيد بن على عليه السّلام: الصمد الذي إذا أراد شيئا قال: كن فيكون، و الصمد الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا و أشكالا و أزواجا، و تفرّد بالوحدة بلا ضدّ و لا شكل و لا مثل و لا ندّ(2).

قال: و حدّثني الصادق عن أبيه: «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليه السّلام يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد فلا تخوضوا في القرآن، و لا تجادلوا فيه، و لا تتكلّموا فيه بغير علم، و قد سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار، و إنّ اللّه سبحانه قد فسّر الصمد فقال: اَللّٰهُ أَحَدٌ * اَللّٰهُ الصَّمَدُ ثمّ فسّره و قال: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.

لَمْ يَلِدْ لم يخرج منه شيء كثيف، كالولد و سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، و لا شيء لطيف كالنفس، و لا تنشعب منه البدوات كالسّنة و النوم، و الخطر و الهمّ، و الحزن و البهجة، و الضّحك و البكاء، و الخوف و الرجاء، و الرغبة و السأمة، و الجوع و الشّبع، تعالى من أن يخرج منه شيء و أن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف.

وَ لَمْ يُولَدْ و لم يتولّد من شيء، و لم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، و الدابّة من الدابّة، و النبات من الأرض، و الماء من الينابيع، و الثمار من الأشجار [و لا] كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، و السمع من الاذن، و الشمّ من الأنف، و الذوق من الفم، و الكلام من اللسان، و المعرفة و التمييز من القلب، و كالنار من الحجر، لا بل هو اللّه الصمد، الذي لا من شيء، و لا في شيء، مبدع الأشياء و خالقها، و منشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته، و يبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم اللّه الصمد الذي لم يلد و لم يولد، عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال، و لم يكن له كفوا أحد»(3).

ثمّ اعلم أنّ مفسّري العامة قد ذكروا في معنى الصمد أقوالا:

ص: 615


1- . التوحيد: 3/90، تفسير الصافي 391:5.
2- . التوحيد: 4/90، تفسير الصافي 391:5.
3- . التوحيد: 5/90، تفسير الصافي 392:5.

الأول: السيد الذي يرجع إليه في الحوائج.

الثاني: هو الذي لا جوف له.

الثالث: هو العالم بجميع المعلومات.

الرابع: هو السيد الحليم.

الخامس: هو السيد الذي انتهى سؤدده.

السادس: هو الخالق للأشياء.

السابع: هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب.

الثامن: هو الذي يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، و لا رادّ لقضائه.

التاسع: هو السيد المعظّم.

العاشر: هو الفرد الماجد لا يقضى في أمر دونه.

الحادي عشر: هو الغني.

الثاني عشر: هو الذي ليس فوقه أحد.

الثالث عشر: هو الذي لا يأكل و لا يشرب، و يطعم و لا يطعم.

الرابع عشر: هو الباقي بعد فناء كلّ شيء.

الخامس عشر: هو الذي لم يزل و لا يزال.

السادس عشر: هو الذي لا ينام و لا يسهو.

السابع عشر: هو الذي لا يوصف بصفة أحد.

الثامن عشر: هو الذي لا عيب فيه.

التاسع عشر: هو الذي لا تعتريه الآفات.

العشرون: هو الكامل في جميع أفعاله.

الحادي و العشرون: نسبوا إلى الصادق عليه السّلام أنه قال: «هو الذي يغلب و لا يغلب».

الثاني و العشرون: هو المستغنى عن كلّ أحد.

الثالث و العشرون: هو الذي أيس الخلائق من الاطّلاع على كيفيته.

الرابع و العشرون: هو الذي لم يلد و لم يولد، لأنّه لا شيء يلد إلاّ سيورث، و لا شيء يولد إلا سيموت.

السادس و العشرون: هو المنزّه عن قبول النقصانات و الزيادات، و عن أن يكون مورد التغييرات

ص: 616

و التبديلات، و عن إحاطة الأمكنة و الأزمنة و الآنات و الجهات(1).

و قيل: إنّ معناه الواجب الوجود(2) ، و لازمه تنزّهه من النقائص و وجدانه جميع الكمالات الإلهية.

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «قدم وفد من فلسطين على الباقر عليه السّلام، فسألوه عن مسائل فأجابهم، ثمّ سألوه عن الصمد، فقال: في تفسيره: الصمد خمسة أحرف، فالألف دليل على إنّيته، و هو قوله:

شَهِدَ اللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ (3) و ذلك تنبيه و إشارة إلى الغائب عن درك الحواس.

و اللام دليل على إلهيته، و أنّه هو اللّه، و الألف و اللام يدغمان و لا يظهران على اللسان و يقعان في السمع، و يظهران في الكتابة، و هما دليلان [على] أنّ إلهيته بلطفه خافية لا تدرك بالحواسّ، و لا تقع في لسان واصف، و لا في اذن سامع، لأنّ تفسير الإله هو الذي أله الخلق عن درك ماهيّته و كيفيته بحسّ أو بوهم، لا بل هو مبدع الأوهام و خالق الحواسّ، و انما يظهر ذلك عند الكتابة، و هو دليل على أنّ اللّه تعالى أظهر ربوبيته في إبداع الخلق و تركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه، كما أنّ لام الصمد لا تتبيّن، فلا تدخل في حاسّة من الحواسّ الخمس، فاذا نظر في الكتابة ظهر له ما خفي و لطف، فمتى تفكّر العبد في ماهية الباري و كيفيته أله فيه و تحيّر، و لم تحط فكرته بشيء يتصوّر له، لأنّه عز و جلّ خالق التصوّر، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنّه عز و جلّ خالقهم و مركّب أرواحهم و أجسادهم.

و أمّا الصاد فدليل على أنّه صادق، و قوله صدق، و كلامه صدق، و دعا عباده إلى اتّباع الصدق، و وعد بالصدق دار الصدق.

و أمّا الميم فدليل على ملكه، و أنّه الملك الحقّ، لم يزل و لا يزال و لا يزول ملكه.

و أمّا الدالّ فدليل على دوام ملكه، و أنه عز و جلّ متعال ق عن الكون و الزوال، بل هو عز و جلّ مكوّن الكائنات، الذي كان بتكوينه كلّ كائن.

ثمّ قال: لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه حملة لنشرت التوحيد و الاسلام و الايمان و الدين و الشرائع من الصمد.

إلى أن قال الباقر: «الحمد للّه الذي منّ علينا و وفّقنا لعباده، الأحد الصمد الذي لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد، و جنّبنا عن عبادة الأوثان، حمدا سرمدا، و شكرا واصبا».

ثمّ قال: «قوله عز و جلّ: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ يقول: لم يلد فيكون له ولد يرثه ملكه، و لم يولد

ص: 617


1- . تفسير الرازي 181:32 و 182.
2- . تفسير الرازي 181:32.
3- . آل عمران: 18/3.

فيكون له والد يشركه في ربوبيته و ملكه، و لم يكن له كفوا أحد فيعارضه في سلطانه»(1).

أقول: ما ذكره عليه السّلام في تفسير الصمد، فهو من البطون التي للقرآن، و ليس من التفسير المصطلح.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سأله رجل عن تفسير هذه السورة فقال: «هو اللّه أحد بلا تأويل عدد، الصمد تبعيض بدد، و لم يلد فيكون موروثا هالكا، و لم يولد فيكون إلها مشاركا، و لم يكن من خلقه كفوا أحد...» الخبر(2).

ثمّ اعلم أنّ تكرار اسم الجلالة قبل أَحَدٌ و قبل اَلصَّمَدُ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الوصفين من لوازم الالوهية و خصائصها، و نكتة تقديم جملة لَمْ يَلِدْ على جملة لَمْ يُولَدْ هي شيوع اعتقاد أنّ له ولد في اليهود و النصارى في ذلك الزمان، و أن الملائكة بنات اللّه في العرب، فاقتضى ذلك تقديمها ردّا عليهم.

عن السجاد عليه السّلام أنّه سئل عن التوحيد فقال: «إنّ اللّه عز و جلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل اللّه قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ و الآيات من أول سورة الحديد إلى قوله: وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ (3) فمن رام وراء ذلك فقد هلك»(4).

أقول: الظاهر أنّ المراد أنه يجيء أقوام يتفكّرون في ذات اللّه، فردعهم اللّه عنه بذكر صفاته، فمن تفكّر في الذات فقد هلك.

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن التوحيد فقال: «كلّ من قرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ و آمن بها، فقد عرف التوحيد».

قيل: كيف يقرؤها؟ قال: «كما يقرأ الناس، و زاد فيها: كذلك اللّه ربّي مرتين»(5).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ ثلث القرآن»(6).

و روى الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «من قرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ مرّة، فكأنّما قرأ ثلث القرآن [و من قرأها مرتين فكأنّما قرأ ثلثي القرآن، و من قرأها ثلاث مرات فكأنّما قرأ القرآن كله(7).

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ فكأنّما قرأ ثلث القرآن]، و اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أشرك باللّه و آمن باللّه»(8).

أقول: لعلّ وجه كون هذه السورة بمنزلة قراءة ثلث القرآن أنّ عمدة مطالب القرآن كلّه التوحيد و الرسالة و المعاد، و تمام السورة المباركة بيان التوحيد الكامل.

ص: 618


1- . التوحيد: 1/92، تفسير الصافي 392:5.
2- . مجمع البيان 862:10، تفسير الصافي 393:5.
3- . الحديد: 6/57.
4- . الكافي 3/72:1، تفسير الصافي 393:5.
5- . الكافي 4/72:1، تفسير الصافي 393:5.
6- . الكافي 7/455:2، تفسير الصافي 394:5.
7- . كمال الدين: 6/542، تفسير الصافي 394:5.
8- . تفسير الرازي 174:32.

و روي بطريق عامي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال «من قرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ مرّة واحدة اعطى من الأجر كمن آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله، و اعطي من الأجر مثل مائة شهيد»(1).

و روي أيضا أنّه كان جبرئيل مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله إذ أقبل أبو ذرّ الغفاري فقال جبرئيل: هذا أبو ذرّ قد أقبل. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أو تعرفونه» قال: هو أشهر عندنا منه عندكم. قال صلّى اللّه عليه و آله: بما ذا. نال: هذه الفضيلة. قال:

لصغره في نفسه، و كثرة قراءته قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ (2).

و عن أنس قال: كنّا في تبوك فطلعت الشمس ما لها شعاع و لا ضياء، و ما رأيناها على تلك الحالة قطّ قبل ذلك، فعجب كلّنا. فنزل جبرئيل و قال: إنّ اللّه أمر أن ينزل من الملائكة سبعون ألف ملك و يصلّون على معاوية بن معاوية، فهل لك أن تصلّي عليه؟ ثمّ ضرب بجناحه الأرض فأزال الجبال، و صار الرسول صلّى اللّه عليه و آله كأنّه مشرف عليه فصلّى هو و اصحابه عليه. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «بما ذا بلغ ما بلغ؟» فقال جبرئيل: كان يحبّ سورة الإخلاص(3).

و روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله دخل المسجد، فسمع رجلا يدعو و يقول: أسألك يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد. فقال صلّى اللّه عليه و آله: غفر لك. غفر لك» ثلاث مرات(4).

و عن سهل بن سعد، قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و شكا إليه الفقر فقال: «إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد، و إن لم يكن فيه أحد فسلّم على نفسك، و اقرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ مرّة واحدة، ففعل الرجل، فأدرّ اللّه عليه رزقا(5) حتّى أفاض على جيرانه»(6).

و عن أنس: أنّ رجلا كان يقرأ في جميع صلواته قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ فسأله الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك، فقال: يا رسول اللّه، إنّي احبّها. فقال: «حبّك إياها يدخلك الجنّة»(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «من مضى به يوم واحد فصلّى فيه خمس صلوات و لم يقرأ فيه: قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ قيل له: يا عبد اللّه، لست من المصلّين»(8).

و عنه عليه السّلام: «من مضت جمعة و لم يقرأ فيها ب قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ ثمّ مات، مات على دين أبي لهب»(9).

أقول: لعلّه محمول على تركه استخفافا.

ص: 619


1- . تفسير الرازي 174:32.
2- . تفسير الرازي 174:32.
3- . تفسير الرازي 174:32.
4- . تفسير الرازي 174:32.
5- . في النسخة: فقدّر اللّه عليه رزقه.
6- . تفسير الرازي 174:32.
7- . تفسير الرازي 174:32.
8- . ثواب الأعمال: 127، مجمع البيان 855:10، تفسير الصافي 394:5.
9- . ثواب الأعمال: 128، مجمع البيان 855:10، تفسير الصافي 394:5.

ص: 620

في تفسير سورة الفلق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مٰا خَلَقَ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة التوحيد المتضمّنة للأمر بالإعلان بالتوحيد الكامل الخالص عن شوب الشرك، و كان من لوازمه التوكّل على اللّه في جميع الامور و الاستعاذة به من جميع الآفات و الشرور، و عدم الخوف من غير اللّه، نظمت سورة الفلق المتضمّنة للأمر بإظهار الاستعاذة به تعالى من الشور الجسمانية، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالأمر باظهار الاستعاذة باللّه من الشرور و المضارّ الجسمانية بقوله:

قُلْ يا محمد، و أنت في هذا العالم الجسماني الذي يتوقّع فيه الضرر و الشرّ من كلّ شيء أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و ألتجئ إلى من يدفع بقدرته ظلمة الليل عن وجه الصبح الصادق

مِنْ شَرِّ مٰا خَلَقَ في العالم الجسماني و ضرره، فانّه القادر على دفع كلّ ما يخاف العائذ و يحذره.

قيل: إنّ وجه النّظم أنّ اللّه تعالى لمّا أمر بقراءة سورة الاخلاص تنزيها له عمّا لا يليق به في ذاته و صفاته، و كان ذلك من أعظم الطاعات، فكأنّ العبد قال: إلهنا هذه الطاعة عظيمة بحيث لا أثق بنفسي القيام بها؟ فأجابه تعالى: بأن قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أي استعذ باللّه و التجئ إليه حتى يوفّقك للقيام بهذه الطاعة على أكمل الوجوه(1).

و قيل: إنّ الكفار لمّا سالوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن نسب اللّه و صفته، فكأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله قال: «كيف أنجو من هؤلاء الجهّال الذين تجاسروا و قالوا فيك ما لا يليق بك؟» قال اللّه تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أي استعذ بي حتّى أصونك من شرّهم(2). و قيل: إنّ نكتة تخصيص الفلق بالذكر عند التعوّذ أنّ الصبح كالبشر(3) بالأمن و السلامة لمن هو خائف بالليل، فالمعنى: التجئ إلى من يعطى الخائف بالليل الأمن بطلوع الصبح حتّى يعطيك الأمن من الشرور.

ص: 621


1- . تفسير الرازي 189:32.
2- . تفسير الرازي 189:32.
3- . تفسير الرازي 191:32.

قيل: إنّ يوسف لمّا القي في الجبّ وجعت ركبته وجعا شديدا، فبات نيلته ساهرا، فلمّا قرب طلوع الصبح نزل جبرئيل بإذن اللّه يسلّيه و يأمره بأن يدعو ربّه فقال: يا جبرئيل ادع أنت و أؤمّن أنا، فدعا جبرئيل، و أمّن يوسف، فكشف اللّه ما كان به من ضرّ، فلمّا طاب وقت يوسف قال: يا جبرئيل، و أنا أدعو أيضا و تؤمّن أنت، فسال يوسف ربّه أن يكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت، فلا جرم ما من مريض إلاّ و يجد خفّة في ذلك الوقت(1). و قيل: إنّ الفلق هو كلّ ما يفلقه [اللّه] و يفرّقه عن شيء آخر، كالأرض عن النبات، و الجبال عن العيون، و السّحاب عن الأمطار، و الأرحام عن الأولاد، و البيض عن الفرخ، بل و العدم عن الوجود، و عليه يكون المعنى بربّ الفلق ظلمات العدم بنور الوجود(2).

و قيل: إنّ الفلق واد أو جبّ في جهنّم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه(3).

و عن الصدوق، عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الفلق فقال: «صدع في النار، فيه سبعون ألف دار، في كلّ دار سبعون ألف بيت، في كلّ بيت سبعون ألف أسود، في جوف كلّ أسود سبعون ألف جرّة سمّ، لا بدّ لأهل النار أن يضمرّوا عليها»(4).

و عن القمي، قال: الفلق: جبّ في جهنّم، يتعوّذ أهل النار من شدّة حرّه، سأل اللّه أن يأذن له أن يتنفّس، فأذن له فتنفّس فأحرق جهنّم(5).

و قيل: إنّ النّكتة في ذكره هنا الإشارة إلى أن من قدر على مثل هذا التعذيب الخارج عن حدّ الوهم، له رحمة أعظم و أكمل و أتمّ من عذابه، فكأنّه يقول: يا صاحب العذاب الشديد، أعوذ برحمتك التي هي أعظم من عذابك(6).

و قيل: اريد من الآيتين: أعوذ بربّ جهنّم من شرّ ما خلق فيها(7) و من عذابها. و قيل: اريد من قوله:

مِنْ شَرِّ مٰا خَلَقَ أصناف الحيوانات الموذيات، و يدخل فيه شرّ الجنّ و الإنس(8).

و عن ابن عباس: يريد إبليس خاصّة، لأنّ اللّه لم يخلق خلقا شرّا منه، و لأنّ السورة نزلت في الاستعانة من السحر، و ذلك إنّما يتمّ بابليس و أعوانه و جنوده(9).

و قيل: اريد به ما خلق من الأمراض و الأسقام و القحط و أنواع المحن و الآفات(10). و الحقّ أنّ ما خلق عام لجميع ما ذكر.

ص: 622


1- . تفسير الرازي 191:32.
2- . تفسير الرازي 192:32.
3- . تفسير الرازي 193:32، و في النسخة: شدّة حرها.
4- . معاني الأخبار: 1/227، تفسير الصافي 395:5.
5- . تفسير القمي 449:2، تفسير الصافي 394:5. (6-7-8) . تفسير الرازي 193:32. (9و10) . تفسير الرازي 193:32.

وَ مِنْ شَرِّ غٰاسِقٍ إِذٰا وَقَبَ (3) ثمّ لمّا كان الشرور بالليل أكثر، خصّ سبحانه الاستعاذة من شرّه بالذكر بقوله:

وَ مِنْ شَرِّ غٰاسِقٍ و ليل مظلم إِذٰا وَقَبَ و دخل، حيث إنّه إذا دخل تخرج السّباع من آجامها و الهوامّ من أماكنها، و يهجم السّراق و الأعداء، و يقع الحريق و يقل فيه المعين و المغيث.

و قيل: إنّ بالليل تنتشر الأرواح المؤذية المسمّاة بالجنّ و الشياطين(1).

و قيل: إنّ الغاسق هو القمر، لأنّه حين الكسوف يذهب ضوؤه و يسودّ(2) ، و وقوبه دخوله في ذلك الاسوداد. و روي عن عائشة أنّها قالت: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيدها، و أشار إلى القمر، و قال: «استعيذي باللّه من شرّ هذا، فانّه الغاسق إذا وقب»(3).

قيل: اريد بالاستعاذة من شرّه إذا وقب، إذا دخل في الكسوف(1).

و قيل: اريد بالغاسق الثّريا، و بوقوبه سقوطه، قالوا: إذا سقط الثريا و دخل تحت الأرض و غاب عن الأعين، كثرت الأمراض، و ترفع عند طلوعها(5).

وَ مِنْ شَرِّ النَّفّٰاثٰاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَ مِنْ شَرِّ حٰاسِدٍ إِذٰا حَسَدَ (5) ثمّ لعرافة السحر بالشرّ خصّه سبحانه بالذكر بقوله:

وَ مِنْ شَرِّ النفوس، أو النساء اَلنَّفّٰاثٰاتِ و النافخات للسحر فِي الْعُقَدِ اللاتي يعقدنها في الخيوط.

قيل: إنّ الساحر إذا شرع في قراءة الرّقية أخذ خيطا و لا يزال يعقد عليه عقدا بعد عقد و ينفث في تلك العقد(6).

قيل: إنّ المراد بالنّفاثات بنات لبيد بن أعصم اليهودي، فإنّهن سحرن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(2).

روى يحيى بن معمر(3) قال: حبس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن عائشة، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان، جلس أحدهما عند رأسه، و الآخر عند رجليه، فهذا يقول للذي عند رأسه: ما شكواه؟ قال: السحر، قال: من فعل به؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي. قال: فأين صنع السحر؟ قال: في بئر كذا. قال: فما دواؤه؟ قال: يبعث إلى تلك البئر فينزح ماؤها، فانّه ينتهي إلى صخرة، فاذا رآها فليقلعها، فانّ تحتها كوبة - قيل: هو كوز سقط عنقها - و في الكوبة وتر فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر، فيحرقها بالنار، فيبرا إن شاء اللّه.

ص: 623


1- . تفسير الرازي 195:32. (5و6) . تفسير الرازي 195:32.
2- . تفسير الرازي 196:32.
3- . تفسير روح البيان: يحيى بن يعمر.

فاستيقظ عليه السّلام، فبعث عليا عليه السّلام و الزبير و عمارا، فنزحوا ماء البئر، فكأنّه نقاعة الحنّاء، ثمّ دفعوا راعوفة البئر - و هي الصخرة التي توضع في اسفل. فأخرجوا من تحتها الأسنان(1). و معها وتر قد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فجاءوا بها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فجعل يقرأ المعوذتين عليها، فكان كلّما قرأ آية انحلّت عقدة، و وجد عليه السّلام خفّة حتى انحلّت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين(2).

و قيل: إنّ المراد بالنفّاثات الجماعات من السّحرة: لأنّه كلّما كان اجتماع السّحرة على العمل أكثر كان التأثير أشدّ(3).

و قيل: إنّ المراد الاستعاذة من شرّ النساء اللاتي يتصرّفن في عزائم الرجال و آرائهم، فاستعير هنا [من] عقد الحبال في فيها، و النفث هو تليين العقدة من الحبل بريق تقذفه عليه لتسهيل حلّه، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتعوّذ من شرّ النساء اللاتي يتصرّفن في قلوب الرجال، و يحوّلنّهم من رأي إلى رأي و من عزيمة إلى عزيمة، كقوله: إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلاٰدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ (4).

ثمّ خصّ سبحانه شرّ حسد الحاسد بالذكر بقوله:

وَ مِنْ شَرِّ حٰاسِدٍ و متمنّ زوال النعمة عن مستحقّها إِذٰا حَسَدَ و أظهر ما في نفسه من ذلك التمنّي و عمل بمقتضاه.

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه: كاد الحسد أن يغلب القدر»(5).

قيل: ذكر اللّه سبحانه الشرور في هذه السورة ثمّ ختمها بالحسد، ليظهر أنّه أخبث الطبائع، كما قال ابن عباس(6).

ص: 624


1- . المراد أسنان مشط النبي صلّى اللّه عليه و آله كما ورد في أول الخبر الذي لم يذكره المصنف، و فيه: عن ابن عباس و عائشة: أنه كان غلام من اليهود يخدم النبي عليه السّلام و كان عنده اسنان من مشطه عليه السّلام فأعطاها اليهود فسحروه عليه السّلام فيها. تفسير روح البيان 542:10.
2- . تفسير روح البيان 544:10، و الباقي في ص: 543.
3- . تفسير الرازي 196:32.
4- . تفسير الرازي 196:32، و الآية من سورة التغابن: 14/64.
5- . الكافي 4/232:2، تفسير الصافي 396:5.
6- . تفسير روح البيان 545:10.

في تفسير سورة الناس

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّٰاسِ (1) مَلِكِ النّٰاسِ (2) إِلٰهِ النّٰاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوٰاسِ الْخَنّٰاسِ (4) اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّٰاسِ (5) ثمّ إنّه تعالى بعد أمره النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتعوّذ به من الشرور الجسمانية، نظمت سورة الناس الآمرة له بالتعوذ به من الشرور الروحانية، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بأمر نبيّه باظهار التعوّذ به تعالى من الشرور الروحانية تعليما للعباد بقوله:

قُلْ يا محمد أَعُوذُ بِرَبِّ النّٰاسِ و مدبّر امورهم، و مصلح مفاسدهم، و مكمّل وجودهم، و المنعم عليهم بجميع النّعم التي يحتاجون إليها، فظهر أنّ ربّ الناس هو

مَلِكِ النّٰاسِ و الناس مملوكون له مفتقرون إليه في وجودهم و بقائهم و كمالهم، و هو غنيّ عنهم و عن كلّ شيء، فظهر أنّ ملك الناس بهذا المعني هو

إِلٰهِ النّٰاسِ حيث ولهت العقول في إدراك عظمته و جلاله و كبريائه

مِنْ شَرِّ الشيطان الذي شغله الوسوسة، و إلقاء الخطورات السيئة في القلوب، و تزيين القبائح في الأنظار بحيث يصحّ أن يقال مبالغة: إنّه عين اَلْوَسْوٰاسِ.

ثمّ وصفه سبحانه بوصف اَلْخَنّٰاسِ لأنّ عادته التأخّر و التولّي إذا ذكر الانسان ربّه - كذا قيل (1)- و يحتمل كون المراد منه كثير التخفّي من الأنظار. و عن القمي: أنّ الخنّاس اسم الشيطان(2).

اَلَّذِي يُوَسْوِسُ و يلهم الشرّ، و يلقي الرغبة إلى القبائح فِي صُدُورِ النّٰاسِ و قلوبهم إذا غفلوا عن ذكر ربّهم.

مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّٰاسِ (6) ثمّ عمّم سبحانه الوسوس(3) الذي يستعاذ من شرّه بقوله:

مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّٰاسِ كما قال سبحانه:

ص: 625


1- . تفسير الرازي 198:32.
2- . تفسير القمي 450:2، تفسير الصافي 398:5.
3- . في النسخة: المسوس.

شَيٰاطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ (1) و كما أنّ شيطان الجنّ يوسوس تارة و يخنس اخرى، كذلك شيطان الإنس يرغّب الناس إلى الشرور و القبائح، و يري نفسه كالناصح المشفق، فان زجره السامع يخنس و يترك الوسوسة، و إن قبل قوله بالغ فيه(2). و قيل: إنّ التقدير: من شرّ الجنّة و الناس، فاستعاذ أولا من شرّ الوسواس، و هو الشيطان، ثمّ استعاذ من شرّ عموم الجنّ و الإنس(3).

عن الصادق عليه السّلام قال: «ما من مؤمن إلاّ و لقلبه اذنان: في جوفه اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس، و اذن ينفث فيها الملك، فيؤيّد اللّه المؤمن بالملك، فذلك قوله: وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (4).

و عن القمي رحمه اللّه: ما من قلب إلاّ و له اذنان. على أحدهما مرشد، و على الآخر شيطان مفتّن، هذا يأمره، و ذاك يزجره، كذلك من الناس شيطان يحمل الناس على المعاصي، كما يحمل الشيطان من الجنّ»(5).

و عن (طب الأئمة) [عن أبا عبد اللّه عليه السّلام]: «أنّ جبرئيل أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمد. قال: لبيك يا جبرئيل». قال: إنّ فلانا سحرك، و جعل السحر في بئر بني فلان، فابعث إليه - يعني البئر - أوثق الناس و أعظمهم في عينيك، و هو عديل نفسك حتّى يأتيك بالسحر، قال: فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله علي بن أبي طالب و قال: انطلق إلى بئر ذروان(6) ، فانّ [فيها] سحرا سحرني [به] لبيد بن أعصم اليهودي فأتني به.

قال علي عليه السّلام: فانطلقت في حاجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهبطت فإذا ماء البئر كأنّه الحنّاء من السّحر، فطلبته مستعجلا حتى انتهيت إلى أسفل القليب، فلم اظفر به. قال الذين معي: ما فيه شيء. فاصعد، فقلت: لا و اللّه ما كذبت و لا كذب.

إلى أن قال: ثمّ طلبت طلبا بلطف، فاستخرجت حقا، فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال: افتحه ففتحته، فإذا في الحقّ قطعة كرب النخل، في جوفه و تر، عليها إحدى عشرة عقدة، و كان جبرئيل أنزل يومئذ المعوّذتين على النبي صلّى اللّه عليه و آله. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: اقرأها يا علي على الوتر، و جعل أمير المؤمنين عليه السّلام كلّما قرأ آية انحلّت عقدة حتّى فرغ منها، و كشف اللّه عن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ما سحر [به] و عافاه».

و في رواية: «أنّ جبرئيل و ميكائيل أتيا النبي صلّى اللّه عليه و آله، فجلس أحدهما عن يمينه، و الآخر عن شماله، فقال جبرئيل لميكائيل: ما وجع الرجل؟ فقال ميكائيل:

هو مطبوب(7) ، فقال جبرئيل: من طبّه؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي» [ثمّ ذكر الحديث إلى آخره](8).

ص: 626


1- . الأنعام 112/6.
2- . تفسير الرازي 199:39، تفسير روح البيان 550:10.
3- . تفسير الرازى 199:32.
4- . الكافي 3/206:2، مجمع البيان 870:10، تفسير الصافي 398:5، و الآية من سورة المجادلة: 22/58.
5- . تفسير القمي 450:2، و تفسير الصافي 398:5، عن الصادق عليه السّلام.
6- . في النسخة: ازوان، و في تفسير الصافي: ازران.
7- . أي مسحور.
8- . طب الأئمة عليهم السّلام: 113، تفسير الصافي 396:5.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنه وعك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزل جبرئيل بهاتين السورتين، و عوّذه بهما»(1).

ثمّ أنّه تعالى وصف ذاته بصفة واحدة، و أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بان يستعيذ به من جميع الشرور الجسمانية، و في هذه السورة وصف ذاته بثلاث صفات، كلّ منها دالّ على كمال عظمته، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاستعاذة به من شرّ الوسواس الذي هو راجع إلى الروح و القلب، فدلّ على أنّ تضرّر الروح و القلب أعظم من جميع المضارّ.

و في ختم كتابه المجيد بإضافة ربوبيته و سلطانه و الوهيته إلى الناس، و تكرير لفظ الناس مع كلّ وصف، دلالة على شرف الانسان على جميع مخلوقاته، و يحتمل أن يكون المراد بالناس خصوص الأئمّة المعصومين عليه السّلام و عباده الصالحين، لما رواه الفخر الرازي أنّه سئل الحسن بن علي عليهما السّلام عن الناس فقال: «نحن الناس، و أشياعنا أشباه الناس، و أعداؤنا النّسناس»(2) فقبّل علي عليه السّلام بين عينيه، و قال:

اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسٰالَتَهُ» (3) .

و عن الباقر عليه السّلام قال: «من أوتر بالمعوذتين و قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ قيل له: يا عبد اللّه، أبشر فقد قبل اللّه و ترك»(4).

قد وفّقت لاتمام تفسير القرآن المجيد في آخر السنة التاسعة و الستين بعد ثلاثمائة و ألف من الهجرة النبوية المطابق لما نظمه بعض الأجلاّء:

ميلاد مهدي الامم نور الإله في الظّلم

الأحقر محمد النهاوندي كتبه العبد المذنب محمد الصانعي ابن مرحوم فتح اللّه الخوانساري الشهير بسيمين قلم في شهر محرّم الحرام 1370 و فرغ قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة من تحقيقه بفضل اللّه و منّه في سنة 1422 ه و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 627


1- . تفسير القمي 450:2، تفسير الصافي 397:5.
2- . النّسناس: نوع من القردة.
3- . تفسير الرازي 156:32.
4- . ثواب الأعمال: 129، مجمع البيان 864:10، تفسير الصافي 397:5.

ص: 628

الفهرس

في تفسير سورة الحجرات 5

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها الّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي اللّه 5

(2) و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم 6

[3-5] إنّ الّذين يغضّون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك الّذين امتحن اللّه قلوبهم 8

(6) يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة 9

[7 و 8] و اعلموا أنّ فيكم رسول اللّه لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتّم و لكنّ اللّه 11

(9) و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على 12

(10) إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم و اتّقوا اللّه لعلّكم ترحمون 14

(11) و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان 16

(12) يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم و لا تجسّسوا 17

(13) يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا 20

(14) قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لمّا يدخل الإيمان فى 23

[15-18] إنّما المؤمنون الّذين آمنوا باللّه و رسوله ثمّ لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم 24

في تفسير سورة ق 27

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ق و القرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر 27

[4-6] قد علمنا ما تنقص الأرض منهم و عندنا كتاب حفيظ * بل كذّبوا بالحقّ لمّا 28

[7-9] و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسى و أنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج * 30

[10 و 11] و النّخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد و أحيينا به بلدة ميتا كذلك 30

[12-14] كذّبت قبلهم قوم نوح و أصحاب الرّسّ و ثمود * و عاد و فرعون و إخوان 31

(15) أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم فى لبس من خلق جديد 32

[16-18] و لقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب إليه من حبل 33

ص: 629

(19) و جاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد 35

[20-29] و نفخ فى الصّور ذلك يوم الوعيد * و جاءت كلّ نفس معها سائق و شهيد * 35

[30-32] يوم نقول لجهنّم هل امتلأت و تقول هل من مزيد * و أزلفت الجنّة 38

[33-35] من خشى الرّحمن بالغيب و جاء بقلب منيب * ادخلوها بسلام ذلك يوم 39

[36 و 37] و كم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشا فنقّبوا فى البلاد هل من 40

[38-41] و لقد خلقنا السّماوات و الأرض و ما بينهما فى ستّة أيّام و ما مسّنا من لغوب 41

[42-45] يوم يسمعون الصّيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج * إنّا نحن نحيى و نميت 43

في تفسير سورة الذاريات 45

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الذّاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا 45

[5-9] إنّما توعدون لصادق * و إنّ الدّين لواقع * و السّماء ذات الحبك * إنّكم 47

[10-14] قتل الخرّاصون * الّذين هم في غمرة ساهون * يسألون أيّان يوم الدّين * 48

[15-18] إنّ المتّقين فى جنّات و عيون * آخذين ما آتاهم ربّهم إنّهم كانوا قبل ذلك 49

[19-21] و فى أموالهم حقّ للسّائل و المحروم * و فى الأرض آيات للموقنين * 50

[22-34] و فى السّماء رزقكم و ما توعدون * فو ربّ السّماء و الأرض إنّه لحقّ مثل ما 52

[35-46] فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من 55

[47-51] و السّماء بنيناها بأيد و إنّا لموسعون * و الأرض فرشناها فنعم الماهدون * 57

[52-55] كذلك ما أتى الّذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون * 58

(56) و ما خلقت الجنّ و الإنس إلاّ ليعبدون 59

[57-60] ما أريد منهم مّن رّزق و ما أريد أن يطعمون * إنّ اللّه هو الرّزّاق ذو القوّة 60

في تفسير سورة الطور 63

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الطّور * و كتاب مسطور * فى رقّ منشور * و البيت 63

[7-13] إنّ عذاب ربّك لواقع * ما له من دافع * يوم تمور السّماء مورا * و تسير 64

[14-18] هذه النّار الّتى كنتم بها تكذّبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * 65

[19 و 20] كلوا و اشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * متّكئين على سرر مصفوفة 66

(21) و الّذين آمنوا و اتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّتهم و ما ألتناهم من 67

[22-28] و أمددناهم بفاكهة و لحم ممّا يشتهون * يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها و لا 68

[29-32] فذكّر فما أنت بنعمت ربّك بكاهن و لا مجنون * أم يقولون شاعر نتربّص به 70

[33-38] أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين * أم 70

ص: 630

[39-43] أم له البنات و لكم البنون * أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم 72

[44-47] و إن يروا كسفا من السّماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم * فذرهم حتّى 73

[48 و 49] و اصبر لحكم ربّك فإنّك بأعيننا و سبّح بحمد ربّك حين تقوم * و من 74

في تفسير سورة النجم 77

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و النّجم إذا هوى * ما ضلّ صاحبكم و ما غوى * و ما 77

[5-11] علّمه شديد القوى * ذو مرّة فاستوى * و هو بالافق الأعلى * ثمّ دنا فتدلّى 79

[12-14] فتمارونه على ما يرى * و لقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى 83

[15-18] عندها جنّة المأوى * إذ يغشى السّدرة ما يغشى * ما زاغ البصر و ما 85

[19-23] أفرأيتم اللاّت و العزّى * و مناة الثّالثة الأخرى * ألكم الذّكر و له الأنثى 87

[23-26] إن يتّبعون إلاّ الظّنّ و ما تهوى الأنفس و لقد جاءهم من ربّهم الهدى * أم 88

[27-30] إنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى * و ما لهم به 89

[31 و 32] و للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض ليجزى الّذين أساءوا بما عملوا 90

(32) هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض و إذ أنتم أجنّة فى بطون أمّهاتكم فلا 92

[33 و 34] أفرأيت الّذى تولّى * و أعطى قليلا و أكدى 92

[35-42] أعنده علم الغيب فهو يرى * أم لم ينبّأ بما فى صحف موسى * و إبراهيم 93

[43-54] و أنّه هو أضحك و أبكى * و أنّه هو أمات و أحيا * و أنّه خلق الزّوجين 95

[55-58] فبأيّ آلاء ربّك تتمارى * هذا نذير من النّذر الأولى * أزفت الآزفة * 97

[59-62] أفمن هذا الحديث تعجبون * و تضحكون و لا تبكون * و أنتم سامدون 98

في تفسير سورة القمر 101

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اقتربت السّاعة و انشقّ القمر 101

[2-8] و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مّستمرّ * و كذّبوا و اتّبعوا أهواءهم و كلّ 102

[9-15] كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا و قالوا مجنون و ازدجر * فدعا ربّه أنّى 104

[16-21] فكيف كان عذابى و نذر * و لقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر * كذّبت 105

[22-24] و لقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر * كذّبت ثمود بالنّذر * فقالوا 107

[25-32] أءلقى الذّكر عليه من بيننا بل هو كذّاب أشر * سيعلمون غدا من الكذّاب 107

[33-37] كذّبت قوم لوط بالنّذر * إنّا أرسلنا عليهم حاصبا إلاّ آل لوط نجّيناهم بسحر 109

[38-42] و لقد صبّحهم بكرة عذاب مستقرّ * فذوقوا عذابى و نذر * و لقد يسّرنا 110

[43-46] أكفّاركم خير من أولئكم أم لكم براءة فى الزّبر * أم يقولون نحن جميع 111

ص: 631

[47-49] إنّ المجرمين فى ضلال و سعر * يوم يسحبون فى النّار على وجوههم 112

[50-55] و ما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر * و لقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدّكر * 114

في تفسير سورة الرحمن 117

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الرّحمن * علّم القرآن * خلق الإنسان * علّمه البيان 117

[5 و 6] الشّمس و القمر بحسبان * و النّجم و الشّجر يسجدان 118

[7-9] و السّماء رفعها و وضع الميزان * ألاّ تطغوا فى الميزان * و أقيموا الوزن 119

[10 و 11] و الأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة و النّخل ذات الأكمام 120

[12 و 13] و الحبّ ذو العصف و الرّيحان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان 121

[14-16] خلق الإنسان من صلصال كالفخّار * و خلق الجانّ من مارج من نار * 122

[17-23] ربّ المشرقين و ربّ المغربين * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * مرج البحرين 123

[24-28] و له الجوار المنشآت فى البحر كالأعلام * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * كلّ 126

[29 و 30] يسأله من فى السّماوات و الأرض كلّ يوم هو فى شأن * فبأيّ آلاء ربّكما 127

[31 و 32] سنفرغ لكم آيّه الثّقلان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان 128

[33 و 34] يا معشر الجنّ و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السّماوات 129

[35 و 37] يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران * فبأيّ آلاء ربّكما 129

[38-45] فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جانّ * فبأيّ 130

[46-49] و لمن خاف مقام ربّه جنّتان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * ذواتا أفنان * 132

[52-55] فيهما عينان تجريان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * فيهما من كلّ فاكهة 132

[56-61] فيهنّ قاصرات الطّرف لم يطمثهنّ إنس قبلهم و لا جانّ * فبأيّ آلاء ربّكما 133

[62 و 63] و من دونهما جنّتان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان 134

[64-69] مدهامّتان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * فيهما عينان نضّاختان * فبأيّ آلاء 135

[70-73] فيهنّ خيرات حسان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * حور مقصورات فى 137

[74-78] لم يطمثهنّ إنس قبلهم و لا جانّ * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * متّكئين على 138

في تفسير سورة الواقعة 141

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة 141

[4-11] إذا رجّت الأرض رجّا * و بسّت الجبال بسّا * فكانت هباء مّنبثّا * و كنتم 142

[12-19] فى جنّات النّعيم * ثلّة من الأوّلين * و قليل من الآخرين * على سرر 144

[20-24] و فاكهة ممّا يتخيّرون * و لحم طير ممّا يشتهون * و حور عين * كأمثال 146

ص: 632

[25-40] لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما * إلاّ قيلا سلاما سلاما * و أصحاب اليمين 146

[41-44] و أصحاب الشّمال ما أصحاب الشّمال * فى سموم و حميم * و ظلّ من 150

[45-55] إنّهم كانوا قبل ذلك مترفين * و كانوا يصرّون على الحنث العظيم * و كانوا 151

[56-59] هذا نزلهم يوم الدّين * نحن خلقناكم فلو لا تصدّقون * أفرأيتم ما تمنون * 152

[60-62] نحن قدّرنا بينكم الموت و ما نحن بمسبوقين * على أن نبدّل أمثالكم 153

[63-64] أفرأيتم مّا تحرثون * ءأنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون 154

[65-70] لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكّهون * إنّا لمغرمون * بل نحن محرومون 154

[71-73] أفرأيتم النّار الّتى تورون * أ أنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * 155

[74-76] فسبّح باسم ربّك العظيم * فلا أقسم بمواقع النّجوم * و إنّه لقسم لو 156

[77-82] إنّه لقرآن كريم * فى كتاب مكنون * لا يمسّه إلاّ المطهّرون * تنزيل من ربّ 157

[83-87] فلو لا إذا بلغت الحلقوم * و أنتم حينئذ تنظرون * و نحن أقرب إليه منكم 159

[88-96] فأمّا إن كان من المقرّبين * فروح و ريحان و جنّت نعيم * و أمّا إن كان من 160

في تفسير سورة الحديد 163

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سبّح للّه ما فى السّماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم 163

(3) هو الأوّل و الآخر و الظّاهر و الباطن و هو بكلّ شىء عليم 164

[4-6] هو الّذى خلق السّماوات و الأرض فى ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش 165

[7 و 8] آمنوا باللّه و رسوله و أنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه فالّذين آمنوا منكم 166

[9-10] هو الّذى ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظّلمات إلى النّور 167

[11 و 12] من ذا الّذى يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له و له أجر كريم * يوم ترى 170

(13) يوم يقول المنافقون و المنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل 171

[14 و 15] ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى و لكنّكم فتنتم أنفسكم و تربّصتم و ارتبتم 172

(16) ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه و ما نزل من الحقّ و لا يكونوا 172

[17 و 18] اعلموا أنّ اللّه يحيى الأرض بعد موتها قد بيّنّا لكم الآيات لعلّكم تعقلون * 173

(19) و الّذين آمنوا باللّه و رسله أولئك هم الصّدّيقون و الشّهداء عند ربّهم لهم 174

(20) اعلموا أنّما الحياة الدّنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر فى 175

(21) سابقوا إلى مغفرة من ربّكم و جنّة عرضها كعرض السّماء و الأرض أعدّت 176

[22 و 23] ما أصاب من مصيبة فى الأرض و لا فى أنفسكم إلاّ فى كتاب من قبل أن 177

[24 و 25] الّذين يبخلون و يأمرون النّاس بالبخل و من يتولّ فإنّ اللّه هو الغنيّ الحميد 178

ص: 633

[26 و 27] و لقد أرسلنا نوحا و إبراهيم و جعلنا فى ذرّيّتهما النّبوّة و الكتاب فمنهم 180

[28 و 29] يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل 182

في تفسير سورة المجادلة 185

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قد سمع اللّه قول ألّتى تجادلك فى زوجها و تشتكى إلى اللّه 185

[2-4] الّذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ أمّهاتهم إن أمّهاتهم إلاّ اللاّئى 185

[5 و 6] إنّ الّذين يحادّون اللّه و رسوله كبتوا كما كبت الّذين من قبلهم و قد أنزلنا 186

[7 و 8] أ لم تر أنّ اللّه يعلم ما فى السّماوات و ما فى الأرض ما يكون من نجوى 189

[9 و 10] يا أيّها الّذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم و العدوان و معصية 190

(11) يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا فى المجالس فافسحوا يفسح اللّه 191

[12 و 13] يا أيّها الّذين آمنوا إذا ناجيتم الرّسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك 193

[14-17] أ لم تر إلى الّذين تولّوا قوما غضب اللّه عليهم ما هم منكم و لا منهم 198

(18) يوم يبعثهم اللّه جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنّهم على 200

(19) استحوذ عليهم الشّيطان فأنساهم ذكر اللّه أولئك حزب الشّيطان ألا إنّ 200

[20 و 21] إنّ الّذين يحادّون اللّه و رسوله أولئك فى الأذلّين * كتب اللّه لأغلبنّ أنا 202

(22) لا تجد قوما يؤمنون باللّه و اليوم الآخر يوادّون من حادّ اللّه و رسوله و لو كانوا 202

في تفسير سورة الحشر 205

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سبّح للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض و هو العزيز 205

[2-5] ما ظننتم أن يخرجوا و ظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من اللّه فأتاهم اللّه من 207

(6) و ما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أو جفتم عليه من خيل و لا ركاب و لكنّ اللّه 208

(7) ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه و للرّسول و لذى القربى و اليتامى 209

(8) للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من 210

(9) و الّذين تبوّءوا الدّار و الإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم و لا يجدون 211

[10 و 11] و الّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الّذين سبقونا 213

(12) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم و لئن قوتلوا لا ينصرونهم و لئن نصروهم 214

[13-17] لأنتم أشدّ رهبة فى صدورهم من اللّه ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون * لا 215

[18 و 19] يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه و لتنظر نفس ما قدّمت لغد و اتّقوا اللّه إنّ اللّه 216

[20 و 21] لا يستوى اصحاب النّار و أصحاب الجنّة أصحاب الجنّة هم الفائزون * 217

[22-24] هو اللّه الّذى لا إله إلاّ هو عالم الغيب و الشّهادة هو الرّحمن الرّحيم * هو 218

ص: 634

في تفسير سورة الممتحنة 221

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّى و عدوّكم أولياء 221

[2 و 3] إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء و يبسطوا إليكم أيديهم و ألسنتهم بالسّوء 223

[4 و 5] قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم و الّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء 224

[6 و 7] لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو اللّه و اليوم الآخر و من يتولّ 225

(8) لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم فى الدّين و لم يخرجوكم من دياركم 226

[9 و 10] إنّما ينهاكم اللّه عن الّذين قاتلوكم فى الدّين و أخرجوكم من دياركم 226

(11) و إن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم فآتوا الّذين ذهبت 229

(12) يا أيّها النّبيّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئا و لا 230

(13) يا أيّها الّذين آمنوا لا تتولّوا قوما غضب اللّه عليهم قد يئسوا من الآخرة كما 232

في تفسير سورة الصف 235

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سبّح للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض و هو العزيز 235

[4 و 5] إنّ اللّه يحبّ الّذين يقاتلون فى سبيله صفّا كأنّهم بنيان مرصوص * و إذ قال 236

(6) و إذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرائيل إنّى رسول اللّه إليكم مصدّقا لما بين 237

[7-9] و من أظلم ممّن افترى على اللّه الكذب و هو يدعى إلى الإسلام و اللّه لا 238

[10-13] يا أيّها الّذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * 239

(14) يا أيّها الّذين آمنوا كونوا أنصار اللّه كما قال عيسى ابن مريم للحواريّين من 240

في تفسير سورة الجمعة 243

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يسبّح للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض الملك القدّوس. 243

[3-5] و آخرين منهم لمّا يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم * ذلك فضل اللّه يؤتيه 244

[6-8] قل يا أيّها الّذين هادوا إن زعمتم أنّكم أولياء للّه من دون النّاس فتمنّوا 245

[9 و 10] يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودى للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه 246

(11) و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها و تركوك قائما قل ما عند اللّه خير من 248

في تفسير سورة المنافقين 251

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه و اللّه يعلم 251

[4 و 5] و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشب 251

[6 و 7] سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم إنّ اللّه لا يهدى 253

(8) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ و للّه العزّة 254

ص: 635

[9-11] يا أيّها الّذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر اللّه و من يفعل 257

في تفسير سورة التغابن 259

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يسبّح للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض له الملك و له 259

[3 و 4] خلق السّماوات و الأرض بالحقّ و صوّركم فأحسن صوركم و إليه المصير * 260

[5 و 6] ألم يأتكم نبأ الّذين كفروا من قبل فذاقوا و بال أمرهم و لهم عذاب أليم * 261

[7-9] زعم الّذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى و ربّى لتبعثنّ ثمّ لتنبّؤنّ بما عملتم 261

[10-12] و من يؤمن باللّه و يعمل صالحا يكفّر عنه سيّئاته و يدخله جنّات تجرى من 263

[13 و 14] اللّه لا إله إلاّ هو و على اللّه فليتوكّل المؤمنون * يا أيّها الّذين آمنوا إنّ من 264

[15 و 16] إنّما أموالكم و أولادكم فتنة و اللّه عنده أجر عظيم * فاتّقوا اللّه ما استطعتم 264

[17 و 18] إن تقرضوا اللّه قرضا حسنا يضاعفه لكم و يغفر لكم و اللّه شكور حليم * 266

في تفسير سورة الطلاق 269

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ 269

[2 و 3] فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف و أشهدوا ذوي 271

[4 و 5] و اللاّئى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهنّ ثلاثة أشهر 274

(6) أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم و لا تضارّوهنّ لتضيّقوا عليهنّ و إن 275

(7) لينفق ذو سعة من سعته و من قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه لا يكلّف اللّه 276

[8 و 9] و كأيّن من قرية عتت عن أمر ربّها و رسله فحاسبناها حسابا شديدا 277

[10 و 11] أعدّ اللّه لهم عذابا شديدا فاتّقوا اللّه يا أولى الألباب الّذين آمنوا قد أنزل 277

[11 و 12] و من يؤمن باللّه و يعمل صالحا يدخله جنّات تجرى من تحتها الأنهار 278

في تفسير سورة التحريم 281

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك تبتغي مرضات 281

(3) و إذ أسرّ النّبيّ إلى بعض أزواجه حديثا فلمّا نبّأت به و أظهره اللّه عليه عرّف 283

[4 و 5] إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما و إن تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه 283

(6) يا أيّها الّذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا و قودها النّاس و الحجارة 285

(7) يا أيّها الّذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنّما تجزون ما كنتم تعملون 286

(8) يا أيّها الّذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربّكم أن يكفّر عنكم 286

[9 و 10] يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنّم و بئس 288

[11 و 12] و ضرب اللّه مثلا للّذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لى عندك بيتا 289

ص: 636

في تفسير سورة الملك 291

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تبارك الّذى بيده الملك و هو على كلّ شىء قدير 291

[3-5] الّذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرّحمن من تفاوت فارجع 293

[6-11] و للّذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم و بئس المصير * إذا ألقوا فيها سمعوا لها 294

[12 و 13] إنّ الّذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة و أجر كبير * و أسرّوا قولكم أو 296

[14 و 15] ألا يعلم من خلق و هو اللّطيف الخبير * هو الّذى جعل لكم الأرض ذلولا 296

[16 و 17] ء أمنتم من فى السّماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هى تمور * أم أمنتم 297

[18 و 19] و لقد كذّب الّذين من قبلهم فكيف كان نكير * أو لم يروا إلى الطّير فوقهم 298

[20 و 21] أمّن هذا الّذى هو جند لكم ينصركم من دون الرّحمن إن الكافرون إلاّ فى 298

(22) أفمن يمشى مكبّا على وجهه أهدى أمّن يمشى سويّا على صراط 299

[23-25] قل هو الّذى أنشأكم و جعل لكم السّمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما 300

[26 و 27] قل إنّما العلم عند اللّه و إنّما أنا نذير مبين * فلمّا رأوه زلفة سيئت وجوه 301

[28 و 29] قل أ رأيتم إن أهلكنى اللّه و من معى أو رحمنا فمن يجير الكافرين من 302

(30) قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين 302

في تفسير سورة القلم 305

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ن و القلم و ما يسطرون 305

(2) ما أنت بنعمة ربّك بمجنون 306

[3 و 4] و إنّ لك لأجرا غير ممنون * و إنّك لعلى خلق عظيم 307

[5-9] فستبصر و يبصرون * بأيّكم المفتون * إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن 308

[10-16] و لا تطع كلّ حلاّف مهين * همّاز مشّاء بنميم * منّاع للخير معتد أثيم * 309

[17-28] إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة إذ أقسموا ليصر منّها مصبحين * و لا 311

[29-32] قالوا سبحان ربّنا إنّا كنّا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * 313

[33-35] كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * إنّ للمتّقين عند 315

[36-41] ما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * إنّ لكم فيه لما 315

[42-45] يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السّجود فلا يستطيعون * خاشعة 316

[46-50] أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * 318

[51 و 52] و إن يكاد الّذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذّكر و يقولون إنّه 319

في تفسير سورة الحاقة 321

ص: 637

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحاقّة * ما الحاقّة * و ما أدراك ما الحاقّة 321

[5-7] فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية * و أمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * 322

[8-12] فهل ترى لهم من باقية * و جاء فرعون و من قبله و المؤتفكات بالخاطئة * 322

[13-24] فإذا نفخ فى الصّور نفخة واحدة * و حملت الأرض و الجبال فدكّتا دكّة 323

[25-29] و أمّا من أوتى كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * و لم أدر ما 326

[30-37] خذوه فغلّوه * ثمّ الجحيم صلّوه * ثمّ فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا 326

[38-43] فلا أقسم بما تبصرون * و ما لا تبصرون * إنّه لقول رسول كريم * و ما هو 328

[44-52] و لو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا منه 329

في تفسير سورة المعارج 331

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع 331

[4-10] تعرج الملائكة و الرّوح إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة * فاصبر صبرا 332

[11-18] يبصّرونهم يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه * و صاحبته 333

[19-34] إنّ الإنسان خلق هلوعا * إذا مسّه الشّرّ جزوعا * و إذا مسّه الخير منوعا * 334

[35-37] أولئك فى جنّات مكرمون * فمال الّذين كفروا قبلك مهطعين * عن 336

[38-44] أيطمع كلّ امرئ منهم أن يدخل جنّة نعيم * كلاّ إنّا خلقناهم ممّا يعلمون * 337

في تفسير سورة نوح 339

[1-9] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إنّا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم 339

[10-14] فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا * يرسل السّماء عليكم مدرارا * 341

[15-24] أ لم تروا كيف خلق اللّه سبع سموات طباقا * و جعل القمر فيهنّ نورا و جعل 341

[24-28] و لا تزد الظّالمين إلاّ ضلالا * ممّا خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا 343

في تفسير سورة الجن 345

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل أوحى إليّ أنّه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنّا سمعنا 345

[7-9] و أنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحدا * و أنّا لمسنا السّماء 347

[10-12] و أنّا لا ندرى أشرّ أريد بمن فى الأرض أم أراد بهم ربّهم رشدا * و أنّا منّا 349

[13-17] و أنّا لمّا سمعنا الهدى آمنّا به فمن يؤمن بربّه فلا يخاف بخسا و لا رهقا * 350

[18 و 19] و أنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحدا * و أنّه لمّا قام عبد اللّه يدعوه كادوا 351

[20-23] قل إنّما أدعوا ربّى و لا أشرك به أحدا * قل إنّى لا أملك لكم ضرّا و لا رشدا 352

[24-28] حتّى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا و أقلّ عددا * قل إن 353

ص: 638

في تفسير سورة المزمّل 355

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها المزّمّل * قم اللّيل إلاّ قليلا * نصفه أو انقص منه 355

[6-9] إنّ ناشئة اللّيل هى أشدّ وطأ و أقوم قيلا * إنّ لك في النّهار سبحا طويلا * 357

[10-14] و اصبر على ما يقولون و اهجرهم هجرا جميلا * و ذرنى و المكذّبين أولى 358

[15-19] إنّا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى 359

(20) إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي اللّيل و نصفه و ثلثه و طائفة من الّذين 360

في تفسير سورة المدّثّر 363

[1-7] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها المدّثّر * قم فأنذر * و ربّك فكبّر * و ثيابك فطهّر 363

[8-17] فإذا نقر فى النّاقور * فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير * 366

[18-25] إنّه فكّر و قدّر * فقتل كيف قدّر * ثمّ قتل كيف قدّر * ثمّ نظر * ثمّ عبس 367

[26-37] سأصليه سقر * و ما أدراك ما سقر * لا تبقى و لا تذر * لوّاحة للبشر * عليها 369

[38-47] كلّ نفس بما كسبت رهينة * إلاّ أصحاب اليمين * فى جنّات يتساءلون * 372

[48-51] فما تنفعهم شفاعة الشّافعين * فما لهم عن التّذكرة معرضين * كأنّهم حمر 373

[52-56] بل يريد كلّ امرئ مّنهم أن يؤتى صحفا منشّرة * كلاّ بل لاّ يخافون الآخرة 374

في تفسير سورة القيامة 377

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لا أقسم بيوم القيامة * و لا أقسم بالنّفس اللّوّامة 377

[4-10] بلى قادرين على أن نّسوّى بنانه * بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسأل 378

[11-15] كلاّ لا وزر * إلى ربّك يومئذ المستقرّ * ينبّؤ الإنسان يومئذ بما قدّم و أخّر 379

[16-21] لا تحرّك به لسانك لتعجل به * إنّ علينا جمعه و قرآنه * فإذا قرأناه فاتّبع 380

[22-30] وجوه يومئذ نّاضرة * إلى ربّها ناظرة * و وجوه يومئذ باسرة * تظنّ أن 381

[31-35] فلا صدّق و لا صلّى * و لكن كذّب و تولّى * ثمّ ذهب إلى أهله يتمطّى * 383

[36-40] أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من منيّ يمنى * ثمّ كان 383

في تفسير سورة الانسان 385

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا 385

[3-6] إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكرا و إمّا كفورا * إنّا أعتدنا للكافرين سلاسل 386

[7-13] يوفون بالنّذر و يخافون يوما كان شرّه مستطيرا * و يطعمون الطّعام على 387

[14-17] و دانية عليهم ظلالها و ذلّلت قطوفها تذليلا * و يطاف عليهم بآنية من فضّة 389

[18 و 19] عينا فيها تسمّى سلسبيلا * و يطوف عليهم ولدان مخلّدون إذا رأيتهم 390

ص: 639

[20-21] و إذا رأيت ثمّ رأيت نعيما و ملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر 391

(22) إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا 393

[23-24] إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلا * فاصبر لحكم ربّك و لا تطع منهم آثما أو 396

[25-28] و اذكر اسم ربّك بكرة و أصيلا * و من اللّيل فاسجد له و سبّحه ليلا طويلا * 397

[29-31] إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا * و ما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه 398

في تفسير سورة المرسلات 399

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و المرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * و النّاشرات 399

[7-19] إنّما توعدون لواقع * فإذا النّجوم طمست * و إذا السّماء فرجت * و إذا 400

[20-28] ألم نخلقكّم من ماء مهين * فجعلناه فى قرار مكين * إلى قدر معلوم * 402

[29-31] انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون * انطلقوا إلى ظلّ ذى ثلاث شعب * لا 403

[32-37] إنّها ترمى بشرر كالقصر * كأنّه جمالة صفر * ويل يومئذ للمكذّبين * هذا 403

[38-40] هذا يوم الفصل جمعناكم و الأوّلين * فإن كان لكم كيد فكيدون * ويل 404

[41-47] إنّ المتّقين فى ظلال و عيون * و فواكه ممّا يشتهون * كلوا و اشربوا هنيئا 405

[18-50] و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون * ويل يومئذ للمكذّبين * فبأيّ حديث بعده 406

في تفسير سورة النبأ 407

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم عمّ يتساءلون * عن النّبإ العظيم * الّذى هم فيه 407

[4 و 5] كلاّ سيعلمون * ثمّ كلاّ سيعلمون 408

[6-16] ألم نجعل الأرض مهادا * و الجبال أوتادا * و خلقناكم أزواجا * و جعلنا 408

[17-20] إنّ يوم الفصل كان ميقاتا * يوم ينفخ فى الصّور فتأتون أفواجا * و فتحت 409

[21-26] إنّ جهنّم كانت مرصادا * للطّاغين مآبا * لابثين فيها أحقابا * لا يذوقون 411

[27-29] إنّهم كانوا لا يرجون حسابا * و كذّبوا بآياتنا كذّابا * و كلّ شىء أحصيناه 412

[30-36] فذوقوا فلن نّزيدكم إلاّ عذابا * إنّ للمتّقين مفازا * حدائق و أعنابا * 412

[37 و 38] ربّ السّماوات و الأرض و ما بينهما الرّحمن لا يملكون منه خطابا * يوم 414

[39 و 40] ذلك اليوم الحقّ فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآبا * إنّا أنذرناكم عذابا قريبا يوم 415

في تفسير سورة النازعات 417

[1-14] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و النّازعات غرقا * و النّاشطات نشطا * و السّابحات 417

[15-26] هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربّه بالواد المقدّس طوى * اذهب إلى 419

[27-33] ءأنتم أشدّ خلقا أم السّماء بناها * رفع سمكها فسوّاها * و أغطش ليلها 421

ص: 640

[34-41] فإذا جاءت الطّامّة الكبرى * يوم يتذكّر الإنسان ما سعى * و برّزت 422

[42-46] يسألونك عن السّاعة أيّان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربّك 423

في تفسير سورة عبس 425

[1-10] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم عبس و تولّى * أن جاءه الأعمى * و ما يدريك لعلّه 425

[11-16] كلاّ إنّها تذكرة * فمن شاء ذكره * فى صحف مكرّمة * مرفوعة مطهّرة * 427

[17-23] قتل الإنسان ما أكفره * من أيّ شىء خلقه * من نطفة خلقه فقدّره * ثمّ 428

[24-31] فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنّا صببنا الماء صبّا * ثمّ شققنا الأرض شقّا 429

[32-37] متاعا لكم و لأنعامكم * فإذا جاءت الصّاخّة * يوم يفرّ المرء من أخيه * 430

[38-42] وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * و وجوه يومئذ عليها غبرة * 431

في تفسير سورة التكوير 433

[1-18] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا الشّمس كوّرت * و إذا النّجوم انكدرت * و إذا 433

[19-21] إنّه لقول رسول كريم * ذى قوّة عند ذى العرش مكين * مطاع ثمّ 436

[22-29] و ما صاحبكم بمجنون * و لقد رآه بالأفق المبين * و ما هو على الغيب 437

في تفسير سورة الانفطار 439

[1-8] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا السّماء انفطرت * و إذا الكواكب انتثرت * و إذا 439

[9-12] كلاّ بل تكذّبون بالدّين * و إنّ عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون 440

[13-19] إنّ الأبرار لفى نعيم * و إنّ الفجّار لفى جحيم * يصلونها يوم الدّين * و ما 441

في تفسير سورة المطففين

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ويل للمطفّفين * الّذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون 443

[7-13] كلاّ إنّ كتاب الفجّار لفى سجّين * و ما أدراك ما سجّين * كتاب مرقوم * 445

(14) كلاّ بل ران على قلوبهم مّا كانوا يكسبون 446

[15-17] كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون * ثمّ إنّهم لصالوا الجحيم * ثمّ 447

[18-21] كلاّ إنّ كتاب الأبرار لفى علّيّين * و ما أدراك ما علّيون * كتاب مرقوم * 447

[22-26] إنّ الأبرار لفى نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف فى وجوههم نضرة 449

[27-33] و مزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقرّبون * إنّ الّذين أجرموا كانوا 449

[31-36] فاليوم الّذين آمنوا من الكفّار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل 451

في تفسير سورة الانشقاق 453

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا السّماء انشقّت * و أذنت لربّها و حقّت * و إذا 453

ص: 641

[7-18] فأمّا من أوتى كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * و ينقلب إلى 454

(19) لتركبنّ طبقا عن طبق 455

[20-25] فما لهم لا يؤمنون * و إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون * بل الّذين كفروا 456

في تفسير سورة البروج 459

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و السّماء ذات البروج * و اليوم الموعود * و شاهد 459

[5-9] النّار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * و هم على ما يفعلون بالمؤمنين 464

(10) إنّ الّذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم 465

[11-16] إنّ الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات لهم جنّات تجرى من تحتها الأنهار ذلك 465

[17-22] هل أتاك حديث الجنود * فرعون و ثمود * بل الّذين كفروا فى تكذيب 466

في تفسير سورة الطارق 469

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و السّماء و الطّارق * و ما أدراك ما الطّارق * النّجم 469

[4-10] إن كلّ نفس لمّا عليها حافظ * فلينظر الإنسان ممّ خلق * خلق من ماء دافق 470

[11-17] و السّماء ذات الرّجع * و الأرض ذات الصّدع * إنّه لقول فصل * و ما هو 471

في تفسير سورة الأعلى 473

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سبّح اسم ربّك الأعلى 473

[2-5] الّذى خلق فسوّى * و الّذى قدّر فهدى * و الّذى أخرج المرعى * فجعله 474

[6-8] سنقرئك فلا تنسى * إلاّ ما شاء اللّه إنّه يعلم الجهر و ما يخفى * و نيسّرك 474

[9-13] فذكّر إن نّفعت الذّكرى * سيذّكّر من يخشى * و يتجنّبها الأشقى * الّذى 475

[14-19] قد أفلح من تزكّى * و ذكر اسم ربّه فصلّى * بل تؤثرون الحياة الدّنيا * 476

في تفسير سورة الغاشية 479

[1-7] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هل أتاك حديث الغاشية * وجوه يومئذ خاشعة * عاملة 479

[8-16] وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * فى جنّة عالية * لا تسمع فيها لاغية 480

[17-20] أ فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * و إلى السّماء كيف رفعت * و إلى 481

[21-26] فذكّر إنّما أنت مذكّر * لست عليهم بمصيطر * إلاّ من تولّى و كفر * 482

في تفسير سورة الفجر 485

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الفجر * و ليال عشر * و الشّفع و الوتر * و اللّيل إذا 485

[6-10] أ لم تر كيف فعل ربّك بعاد * إرم ذات العماد * الّتى لم يخلق مثلها فى 487

[11-14] الّذين طغوا فى البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصبّ عليهم ربّك سوط 488

ص: 642

[15-18] فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه فأكرمه و نعّمه فيقول ربّى أكرمن 489

[19-26] و تأكلون التّراث أكلا لمّا * و تحبّون المال حبّا جمّا * كلاّ إذا دكّت الأرض 490

[27-30] يا أيّتها النّفس المطمئنّة * ارجعى إلى ربّك راضية مرضيّة * فادخلى 491

في تفسير سورة البلد 493

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لا أقسم بهذا البلد * و أنت حلّ بهذا البلد * و والد 493

(4) لقد خلقنا الإنسان فى كبد 494

[5-7] أيحسب أن لن يقدر عليه أحد * يقول أهلكت مالا لبدا * أيحسب أن 494

[8-16] ألم نجعل له عينين * و لسانا و شفتين * و هديناه النّجدين * فلا اقتحم 495

[17-20] ثمّ كان من الّذين آمنوا و تواصوا بالصّبر و تواصوا بالمرحمة * أولئك 496

في تفسير سورة الشمس 499

[1-8] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الشّمس و ضحاها * و القمر إذا تلاها * و النّهار إذا 499

[9 و 10] قد أفلح من زكّاها * و قد خاب من دسّاها 500

[11-15] كذّبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول اللّه ناقة اللّه 500

في تفسير سورة الليل 503

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و اللّيل إذا يغشى * و النّهار إذا تجلّى * و ما خلق 503

[5-11] فأمّا من أعطى و اتّقى * و صدّق بالحسنى * فسنيسّره لليسرى * و أمّا من 504

[12-13] إنّ علينا للهدى * و إنّ لنا للآخرة و الأولى 506

[12-13] فأنذرتكم نارا تلظّى * لا يصلاها إلاّ الأشقى * الّذى كذّب و تولّى * 506

[19-20] و ما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى 507

(21) و لسوف يرضى 509

في تفسير سورة الضحى 511

[1-2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الضّحى * و الّيل إذا سجى 511

[3-5] ما ودّعك ربّك و ما قلى * و للآخرة خير لك من الأولى * و لسوف 512

[6-8] ألم يجدك يتيما فآوى * و وجدك ضالاّ فهدى * و وجدك عائلا 514

[9-11] فأمّا اليتيم فلا تقهر * و أمّا السّائل فلا تنهر * و أمّا 517

في تفسير سورة الشرح 519

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ألم نشرح لك صدرك 519

[2-4] و وضعنا عنك وزرك * الّذى أنقض ظهرك * و رفعنا لك ذكرك 520

ص: 643

[5 و 6] فإنّ مع العسر يسرا * إنّ مع العسر يسرا 520

[7 و 8] فإذا فرغت فانصب * و إلى ربّك فارغب 521

في تفسير سورة التين 523

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و التّين و الزّيتون 523

[2 و 3] و طور سينين * و هذا البلد الأمين 524

[4 و 5] لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم * ثمّ رددناه أسفل سافلين 525

[6 و 7] إلاّ الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون * فما يكذّبك 525

(8) أ ليس اللّه بأحكم الحاكمين 526

في تفسير سورة العلق 527

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اقرأ باسم ربّك الّذى خلق * خلق الإنسان من علق 527

[3-7] اقرأ و ربّك الأكرم * الّذى علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم * كلاّ إنّ 528

[8-10] إنّ إلى ربّك الرّجعى * أ رأيت الّذى ينهى * عبدا إذا صلّى 529

[11-15] ألم يعلم بأنّ اللّه يرى * كلاّ لئن لّم ينته لنسفعا بالنّاصية 530

[16-18] ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزّبانية 531

(19) كلاّ لا تطعه و اسجد و اقترب 532

في تفسير سورة القدر 535

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إنّا أنزلناه فى ليلة القدر * و ما أدراك ما ليلة القدر 535

(3) ليلة القدر خير من ألف شهر 537

(4) تنزّل الملائكة و الرّوح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر 539

(5) سلام هى حتّى مطلع الفجر 541

في تفسير سورة البينة

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين 543

[4 و 5] و ما تفرّق الّذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة * و ما أمروا إلاّ 544

[6 و 7] إنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين فى نار جهنّم خالدين فيها 545

(8) جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها 546

في تفسير سورة الزلزال 549

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا زلزلت الأرض زلزالها * و أخرجت الأرض أثقالها 549

[5-8] بأنّ ربّك أوحى لها * يومئذ يصدر النّاس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن 551

ص: 644

في تفسير سورة العاديات 553

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و العاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات 553

[6-11] إنّ الإنسان لربّه لكنود * و إنّه على ذلك لشهيد * و إنّه لحبّ الخير لشديد * 558

في تفسير سورة القارعة 561

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم القارعة * ما القارعة * و ما أدراك ما القارعة * يوم يكون 561

[6-11] فأمّا من ثقلت موازينه * فهو فى عيشة راضية * و أمّا من خفّت موازينه * 562

في تفسير سورة التكاثر 563

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ألهاكم التّكاثر * حتّى زرتم المقابر 563

[3-6] كلاّ سوف تعلمون * ثمّ كلاّ سوف تعلمون * كلاّ لو تعلمون علم اليقين * 564

[7 و 8] ثمّ لترونّها عين اليقين * ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النّعيم 565

في تفسير سورة العصر 569

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و العصر 569

[2 و 3] إنّ الإنسان لفى خسر * إلاّ الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات و تواصوا 570

في تفسير سورة الهمزة 573

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ويل لكلّ همزة لّمزة 573

[2-4] الّذى جمع مالا و عدّده * يحسب أنّ ماله أخلده * كلاّ لينبذنّ فى 573

[5-9] و ما أدراك ما الحطمة * نار اللّه الموقدة * الّتى تطّلع على الأفئدة * إنّها 574

في تفسير سورة الفيل 577

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أ لم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل 577

[2-5] ألم يجعل كيدهم فى تضليل * و أرسل عليهم طيرا أبا بيل * ترميهم 579

في تفسير سورة قريش 583

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشّتاء و الصّيف 583

[3 و 4] فليعبدوا ربّ هذا البيت * الّذى أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف 584

في تفسير سورة الماعون 587

[1 و 3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أ رأيت الّذى يكذّب بالدّين * فذلك الّذى يدعّ 587

[4-7] فويل للمصلّين * الّذين هم عن صلاتهم ساهون * الّذين هم يرآءون * 588

في تفسير سورة الكوثر 591

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إنّا أعطيناك الكوثر 591

ص: 645

[2 و 3] فصلّ لربّك و انحر * إنّ شانئك هو الأبتر 593

في تفسير سورة الكافرون 597

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل يا أيّها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون 597

(6) لكم دينكم ولى دين 598

في تفسير سورة النصر 601

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا جاء نصر اللّه و الفتح * و رأيت النّاس يدخلون 601

(3) فسبّح بحمد ربّك و استغفره إنّه كان توّابا 604

في تفسير سورة المسد 607

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تبّت يدا أبى لهب و تبّ * ما أغنى عنه ماله و ما كسب 607

(3) سيصلى نارا ذات لهب 610

(4) و امرأته حمّالة الحطب 611

(5) فى جيدها حبل من مسد 612

في تفسير سورة الإخلاص 613

[1 و 4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل هو اللّه أحد * اللّه الصّمد * لم يلد و لم يولد 613

في تفسير سورة الفلق 621

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل أعوذ بربّ الفلق * من شرّ ما خلق 621

(3) و من شرّ غاسق إذا وقب 623

[4-5] و من شرّ النّفاثات فى العقد * و من شرّ حاسد إذا حسد 623

في تفسير سورة الناس 625

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل أعوذ بربّ النّاس * ملك النّاس * إله النّاس 625

(6) من الجنّة و النّاس 625

ص: 646

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.