أثر الذکر في جلاء للقلوب

هوية الکتاب

أثر الذكر في جلاء للقلوب

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1437 ه - 2016 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الذكر في نهج البلاغة (2) أثر الذكر في جلاء القلوب تأليف السيد علي الحسني

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1437 ه - 2016 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع:

WWW.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

قال أمير المؤمنين علیه السلام الاسلام:

«إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالی جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَع بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْغَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ..»

نهج البلاغة: 342

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله رب العالمين والصلاة على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الهداة الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

وبعد...

فإن لذكر الله تعالى من المنزلة والآثار والفوائد ما يدفع إلى التأمل والنظر والتفكر ويقود إلى البحث والدراسة؛ وذلك لما ارتبط به من احاديث كثيرة ورد بعضها عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبعضها الأخر عن

ص: 7

أمير المؤمنين علي عليه السلام وأبنائه الأئمة، فضلاً عن اختصاص عنوان (الذكر) بجملة من الآيات المباركة في محكم التنزيل، وقد أظهرت هذه الأحاديث والآيات جملة من الخصائص والآثار التي ارتبطت بعنوان (الذكر) مما يحتاج إلى تخصيص جملة من المباحث والمسائل التي ترشد القارئ الكريم إلى أهمية (الذكر) وخصوصيته وأثره عليه في الحياة الدنيا والآخرة.

ومن هنا:

والتزاماً من مؤسسة علوم نهج البلاغة ببيان ما ورد من علوم جمّة في هذا الكتاب الشريف، وجدنا أن نضع بين يدي القارئ الكريم هذه السلسلة الموسومة «بسلسلة الذكر في نهج البلاغة»، التي اشتملت على جملة من

ص: 8

المباحث التي تم تخصيصها ضمن كتيبات مستقلة كي تنال استحقاقها من البحث والدراسة فكانت ضمن أربعة عناوين هي:

1. أحسن الذكر.

2. أثر الذكر في جلاء القلوب.

3. أهل الذكر.

4. حقيقة الذكر.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

السيد نبيل الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 9

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي فطر الخلائق برحمته وجعل لهم فرائض متعددة لعبادته ومَنّ عليهم بلطائف نعمه، إذ جعل فيهم رسلا وأنبياء يعلمونهم الحكمة والكتاب، ومَنَّ عليهم بصفوته من خلقه محمد وآله الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

وبعد..

فإن من دواعي رحمة الله تعالى، أن جعل في ذكره آثاراً وفوائد عديدة ينالها الذاكر لله تعالى ولأجل الوقوف على ما أعده الله تعالی

ص: 10

للذاكر من الأجر وما يحرزه من الآثار والفوائد طرقنا باب مدينة علم النبوة سائلين الله أن يفتح لنا منافذ الفهم في بيان ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في خصائص وآثار وفوائد الذكر في هذا المبحث وما تفرع منه من مسائل، والله الموفق لكل خير.

السيد علي الحسني

ص: 11

المسألة الأولى: الجعل في اللغة

لابد لنا في البدء من التعرف على معنى الجعل: (فَالجُعل في العَطِيَّة أجعَلت له وهي الجِعَالة من الشيء تَجعَل للإنسان)(1) قال الزجاج: (الجَعل هاهنا بمعنى القول والحكم على الشيء كما تقول قد جعلت زيداً أَعلم الناس أَي قد وصفته بذلك وحکمت به.

ويقال: جَعَلَ فلان يصنع كذا وكذا كقولك طَفِقَ وعَلِقَ يفعل كذا وكذا.

ويقال: جَعَلته أَحذق الناس بعمله أَي صَيَّرته. وقوله تعالی:

«وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»(2).

ص: 12


1- کتاب المخصص لابن سيدة، ج 1، ص 55، السفر الخامس
2- الأنبياء: 30

أي خلقنا.

وإِذا قال المخلوق جَعَلتُ هذا الباب من شجرة كذا فمعناه صَنَعتَه. وقوله عز وجل:

«فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ»(1).

أي صَيَّرهم. وتَجاعلوا الشيءَ: جعلوه بينهم(2).

ص: 13


1- الفيل: 5
2- لسان العرب، لابن منظور، ج 11، ص 111

المسألة الثانية: القرآن يكشف عن مفهوم الجعل ومصداقه

وللجعل مفاهيم ومصادیق متعددة تناول القرآن الكريم كثيراً منها بلغت حوالي خمساً وأربعين آية، في مختلف القضايا التي تعالج الفهم من جانب، ومن جانب آخر تعالج قضايا لها مرتكزاتها الموضوعية في الحياة من حيث الرعاية الاجتماعية، أو من حيث التدابير الاقتصادية، أو من خلال فتح أبواب العلم والمعرفة بما جعله ملائماً منسجما مع بيئتهم، وأحوالهم، حتى يسلك الناس طريق الهداية إلى الله جل ثناؤه، وينتفعوا من النعم التي أغدق عليهم بمنّه وفضله وواسع رحمته.

وللجعل فضلاً عم تقدم في المسألة الأولى

ص: 14

من توضيح مقتضب للمعنى اللغوي، معنى اصطلاحي يفهم منه: التنصيب والتعيين كما في قوله تعالی:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(1).

فحاجة الخلق لخليفة يسبقهم في وجوده، وعلمه وقدراته المختلفة، حتى يتمكن من أداء الوظائف الملقاة على عاتقه من عند الله تبارك وتعالی.

ويكشف القرآن الكريم عن وجود أجناس أخرى من الخلق تم توظيفها وجعلها في خدمة وحيه كما هو ظاهر جلي في قوله تعالی:

«الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ

ص: 15


1- البقرة: 30

الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»(2).

أضف إلى ذلك نوعاً آخر من الجعل خصصه الله تعالى لعباده ليتسنى لهم التوبة والرجوع إليه تعالي بعد المعاصي والذنوب المستوجبة عقوبة النار والبعد عن رحمته التي وسعت كل شيء.

«جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ

ص: 16


1- فاطر: 1
2- البقرة: 22

وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(1).

وكذلك يفهم من الجعل بأنه التثبيت لغرض خاص وعام، وأغراض مشتركة بين العام والخاص، تصب كلها في خدمة الناس، لتسد احتياجاتهم المتعددة لقوله تعالی:

«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»(2).

أو كما في قوله تعالی:

«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا

ص: 17


1- المائدة: 97
2- الأنعام: 97

وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»(1).

ويرد الجعل بمعنى التدبير لقوله تعالی:

«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ»(2).

«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ

ص: 18


1- يونس: 5
2- يونس: 67

اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ»(1).

ومن مصاديق الجعل التقدير كما في قوله تعالی:

«تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا»(2).

أضف إلى ذلك أيضا من مصادیق الجعل التحذير لقوله تعالی:

«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا

ص: 19


1- النحل: 72
2- الفرقان: 91-92

تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ»(1).

وكذلك الجعل في التقدير لمراحل عمر الإنسان قوله تعالی:

«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ»(2).

وما زال هناك في القرآن الكريم كثير من المفاهيم والمصاديق للجعل تركنا بيانها رعاية للاختصار.

وللذكر مصادیق وأشكال، من خلالها

ص: 20


1- القصص: 71 - 72
2- الروم: 54

يتحقق الجلاء للقلوب، حيث أن للذكر أكثر من مصداق وشکل.

المصداق الأول: القرآن الكريم

يصدق على القرآن الكريم بأنه الذكر، من حيث المحتوى الكبير والمضامين الكثيرة التي من خلالها يتذكر الإنسان ما نسيه من أحكام وعِبر ومواعظ، إذ أن في القرآن تبيان لكل شيء كما في قوله تعالى:

«بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(1).

أو يكون بالقرآن ذاكراً لله تعالى، كما أمرَ نبيه المصطفی صلی الله عليه وآله وسلم فقال:

«فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ»(2).

ص: 21


1- النحل: 44
2- ق: 45

ولم يقتصر القرآن الحكيم على كونه ذِكراً يحقق الجلاء للقلوب فحسب، بل للقرآن دورٌ آخر في الشفاء من أخطر الأمراض، وهو عون على كل معضلة وبلية، ويتضح ذلك بقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

«وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ عَلَی أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنیً؛ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِکُمْ، وَاسْتَعِینُوا بِهِ عَلَی لَأْوَائِکُمْ، فَإِنَّ فِیهِ شِفَاءً مِنْ أَکْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْکُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَیُّ وَالضَّلَالُ»(1).

ومما لا ريب فيه أن القرآن شفاء لكل داء، كما بين صلوات الله تعالى عليه:

«لَیْسَ عَلَی أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ»

والفاقة هي الحاجة، فكل ذي عقل ممن آمن

ص: 22


1- نهج البلاغة: صبحي الصالح، ص 252

بالقرآن أو ممن لم يؤمن به، يجد في القرآن جواباً شافياً متكاملاً لقضاء حاجته، وحلاً لمعضلته، ولعل تساؤلاً يرد في ذهن القارئ مفاده فما علاقة من لا يؤمن به؟ أي بالقرآن؟

نعم، لا علاقة لمن لا يؤمن به، فإن لم يؤمن به قلبه فسوف يستوقفه عقله، حيث انه يجد في إعجاز القرآن ما يفتقده في غيره من الكتب.

وعليه:

فإنه لا يوجد بديل يغني عن كتاب الله عز وجل، لا في ما مضى، ولا في ما هو آت، كما قال عليه السلام:

وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنیً».

فقد حوى من العلوم التي لا تنتهي فوائدها ولا تنقطع آثارها، وخصوصاً إنه لم ينزل على

ص: 23

نبي بمثله من قبل، ولا حازت أمة من سلف من الأمم على مثل ما فيه:

«وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ»(1).

ومع كل ما عند الأمم السابقة من علم وحضارة، فقد كانوا كما وصفهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:

«مَنْ قَدْ مَضَی قَبْلَکُمْ، مِمَّنْ کانَ أَطْوَلَ مِنْکُمْ أَعْمَاراً وَأَعْمَرَ دِیَاراً وَأَبْعَدَ آثَاراً»(2).

ولو كان عندهم القرآن كما عندنا لاستغنوا به فيدفعوا عن أنفسهم داء يصيبهم أو فاقة تجحف بمه.

ص: 24


1- النمل: 6
2- نهج البلاغة: تحقیق صبحي الصالح: ص 348

وإنك لتجد في القرآن الكريم دواء وجلاء للقلوب:

«فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ».

والأدواء جمع داء، ومن قوله هذا نعرف أن القرآن الكريم لم يقتصر (بما فيه) على علاج واحد لداء معين، بل إن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشير إلى أن في القرآن شفاء الأدواء، بمعنى إنك تجد فيه شفاء لكل داء، وبه العون على كل معضلة وشدة:

«وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلى لَأْوَائِكُمْ»(1).

والألواء معناه الالتواء والانحناء وفي حال

ص: 25


1- لأوَائِكُم: ينسب الالواء إلى أَلوَاءُ الوادِي: ومعناه أَحناؤُه، وهو: جَمعُ لِوًى، بالكسر. وكذا الألواءُ من البِلادِ نَواحِيها جَمعُ لِوًى أَيضاً. ويقالُ: بَعَثُوا بالسِّواءِ واللِّواءِ، مَکسُورَتَينِ، أَي: بَعَثُوا يَستغيثونَ، أورده الفيروز آبادي في القاموس المحيط: ج 4، ص 387

حصول انحناء في عصب الأمة وقوتها، أو في أحوال الإنسان المختلفة فلا معين حقيقي قادر على دفع هذا الالتواء غير القرآن الحكيم.

وإن أصاب الإنسان أكبر الداء وهو النفاق، فإن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يدلنا على العلاج الحقيقي وهو القرآن:

«فإنَّ فیهِ شِفاءً مِن أکبَرِ الداءِ وهُو الکُفرُ والنِّفاقُ والغَیُّ والضَّلالُ».

وفي آياته ومكنون أسراره الكثير والكثير بما لا يسع المقام بيانه، فله الكثير من الأهمية والأثر على حياة الإنسان ومتطلباته، وبه علاج جميع القضايا؛ الصغير منها والكبير.

المصداق الثاني النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:

فالنبي هو الذِكر الموسوم بنعمة الله تعالی:

ص: 26

«وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(1).

فوجود النبي نعمة كبرى، وهو غير نعمة الكتاب كما بيّنه الله تعالى في الآية الشريفة.

وهو صلى الله عليه وآله وسلم المُذكر بنعمة الله كما بين سبحانه وتعالى:

«فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ»(2).

وكما في قوله تعالی:

«فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ

ص: 27


1- البقرة: 231
2- الطور: 29

مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى»(1).

أو كما جاء في قوله تعالی:

«فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ»(2).

وهو على ثلاثة اشکال:

الشكل الأول: مطلق الأذكار اللفظية، كالتسبيحات الأربعة وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أو تسبيح الزهراء، وهو تسبيح علّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابنته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام، وهو المروي عن محمد بن عذافر قال: (دخلت مع أبي على أبي عبد الله

ص: 28


1- الأعلى: 9 - 11
2- الغاشية: 22

عليه السلام فسأله عن تسبيح فاطمة عليها السلام فقال:

«الله أكبر حتى عد أربعا وثلاثين مرة، ثم قال: الحمد لله حتى بلغ سبعا وستين، ثم قال: سبحان الله حتى بلغ مائة يحصيها مائة بيده جملة واحدة»(1).

الشكل الثاني: إقامة كافة الصلوات وأنها للذكرٌ لله تعالی عظیم كما يقول عز وجل:

«إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي»(2).

سواء كانت الصلاة الواجبة والمسماة بالرواتب اليومية المشتملة على سبع عشرة ركعة، أو النوافل اليومية أيضاً المشتملة على اربع وثلاثين ركعة، يفصل بين كل ركعتين

ص: 29


1- کتاب المعتبر، للمحقق الحلي، ج 2، ص 24
2- سورة طه: آية 14

بتشهد وتسليمة، وهي متزامنة مع الصلوات الرواتب، مترتبة كترتیب الفرائض اليومية إلا أنها تختلف عنها في الوقت، فنافلة الصبح رکعتان قبل صلاة الصبح، ونافلة الظهر ثمان رکعات قبل صلاة الظهر، ونافلة العصر ثمان رکعات قبل صلاة العصر، ونافلة المغرب اربع رکعات بعد صلاة المغرب، ونافلة العشاء ركعتان بعد صلاة العشاء، ونافلة الليلة ثمان رکعات، وصلاة الشفع ركعتان، وصلاة الوتر ركعة واحدة مجموعها أحد عشر ركعة المسماة بصلاة الليل.

وهذه النوافل أثر كبير في جلاء القلب، حت يتحقق بها السمع بعد الوقرة، والبصر بعد العشوة، والانقياد بعد المعاندة، ولها أيضاً من الأثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله تعالى يقول لا يزال عبدي

ص: 30

يتقرب إلي بالنوافل مخلصالي حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، إن سألني أعطيته وإن استعاذني أعذته»(1)

الشكل الثالث: تلاوة الذكر الحكيم وأنه من الأذكار التي تجلي القلب: وذلك هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»

قيل يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال:

«تلاوة القرآن»(2).

وللقرآن الكريم حلاوة وأنس وطراوة في القلوب، تُشعرُ بالقرب الحقيقي من الله تعالى، وبالخصوص إذا كانت تلاوته ترتیلاً

ص: 31


1- كتاب الإرشاد، للديلمي، ج 1، ص 91
2- کنز العمال، للمتقي الهندي، ج 1، ص 545

كما أمر الله سبحانه وتعالى:

«وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا»(1).

والترتيل هو: ترتيلُ القراءة: التأَني فيها والتّمهُّلُ وتبيين الحروف والحركات تشبيهاً بالثغر المُرَتَّلِ، وهو المُشَبَّه بنَور الأُقحُوان، يقال رَتَّلَ القراءة وتَرَتَّل فيها(2).

وبالأخص إذا كانت قراءة تدبر وتفکر، فإن في ذلك جلاءً تاماً للقلب.

ص: 32


1- المزمل: 4
2- لسان العرب، ج 11، ص 265

المسألة الرابعة: أثار جلاء القلوب

بدءاً نورد قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد رحمه الله تعالى قَالَ:

«یَا کُمَیلَ بنَ زِيَادٍ - إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ أَوْعِیَهٌ فَخَیْرُهَا أَوْعَاهَا»(1).

ففي قوله هذا يدعونا للتعرف على حقيقة القلب الذي خلقه الله تعالی فجعله كما قال عليه السلام:

«لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الْاِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِىَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَ ذَلِكَ الْقَلْبُ»(2).

وتعريفه للقلب بأنه وعاء ليس المراد به

ص: 33


1- نهج البلاغة، ص 495
2- المصدر نفسه، ص 488

الآنية، التي يجمع فيها الماء والغذاء، إنما لفظه هذا هو الاستعارة، إذ أن الوعاء يراد منه الاستیعاب، ونسبته الوعاء للقلب، أراد بها عليه السلام بيان حقيقته، وهو الفهم والاستیعاب، وخير القلوب أوعاها، أكثرها فهماً، وأكبرها وعياً، وأعظمها علماً، وأقواها حفظاً، وأنه ليحجب عنه الكثير من العلم والفهم بسبب الرين الذي يصيب القلب فيُحجب عن نور ربه وفيض وحيه:

«كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ»(1).

وأما إذا أصاب القلب مرض كما بيّن عز وجل:

ص: 34


1- المطففين: 14 - 15

«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ»(1).

فيكون الاستيعاب والفهم بذلك المرض أصعب وأقل، وأما إذا أصاب القلب أقفال فالضرر يكون على القلب أشد من ضرر المرض كما قال الله تعالی:

«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(2).

فأقل ما يصيب القلب من الضرر هو عدم القدرة على التدبر، وإذا أصاب القلب ختم، فذلك أخطر ما يكون، إذ أن الحتم على القلب يجر إلى الختم على السمع، والختم على السمع

ص: 35


1- البقرة، 10
2- محمد، 24

يجر إلى الغشاوة على البصر، فعندها لا یری الإنسان الحق إلا باطلاً، ويرى الظلم عدلاً، والإحسان إلى الأخرين إساءةً يجب اجتنابها، وهكذا يكون التدرج بالانحدار نحو الرذيلة والهاوية، حتى يصل الحال بالنظر إلى عبادة الله تعالى بأنها كفر، والسجود له استکبار.

وحينئذ لابُدّ من جلاء القلب بالعمل الجاد لله تعالی، بدءاً بالإخلاص كما أراد عز وجل:

«قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ»(1).

ص: 36


1- الأعراف: 29 - 30

أو كما قال تعالى:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(1).

ومن تولى فإن الله تعالى يقول:

«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»(2).

وفي كل عمل صالح أثر صالح كما إن في كل عمل سيء أثر سيء.

وعليه:

فإنّ الله تعالى حينما جعل الذِكَر جلاء للقلوب، تبين أن هذا الجلاء له آثاره، كما بين

ص: 37


1- البينة: 5
2- فصلت: 46

عليه السلام بقوله المتقدم:

«إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ اَلذِّکْرَ جَلاَءَ اَلْقُلُوبِ، وَ تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ اَلْوَقْرَةِ، و تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ اَلْعَشْوَةِ، وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ اَلْمُعَانَدَهِ..»(1).

فيفهم من عبارته صلوات الله عليه التخصيص الذي له أثر، حيث أن لكل عمل أثر ظاهر وأثر خفي.

الأثر الأول: تحقق السمع بعد الوقرة

لا ينحصر حصول الأثر على العمل النافع أو الضار فحسب، بل إن الأثر يحصل حتى على السمع والبصر، کسماع الغيبة وهي: ذكر المؤمن بظهر الغيب، بشيء هو ليس عند الله تعالي بعيب، فله أثر اجتماعي، كإلحاق الضرر بحصانة الفرد الأخلاقية، من قبيل حسن السيرة

ص: 38


1- نهج البلاغة، ص 342، الخطبة 222

والسلوك، فالأثر السلبي على الفرد حينها يكون الهتك والتسقيط في الواقع الاجتماعي، مما دفع قبح ذلك الأثر إلى توصيف القرآن الكريم للغيبة وتشبيهها بأكل لحم الميت كما قال تعالی:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ»(1).

معهد لم وقد يتسبب البعد عن الله تعالى وكثرة معاصيه الختم على السمع كقوله تعالی:

«خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(2).

ص: 39


1- الحجرات: 12
2- البقرة: 7

وهذا الحتم على القلب والسمع هو: (الوَقرُ وهو: ثِقَلٌ في الأُذن، وقيل: هو أَن يذهب السمع كله، والثِّقَلُ أَخَفُّ من ذلك. وكما في قولك: وقد وَقِرَت أُذنه، بالكسر، تَوقَرُ وقراً أَي صَمَّت، ووَقَرَت وَقراً.

وفي حديث علي، عليه السلام: تَسمَعُ به بعد الوَقرَةِ؛ هي المرّة من الوَقرِ، بفتح الواو: ثِقَلُ السمع).(1)

أضف إلى ذلك قوله تعالی:

«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ

ص: 40


1- لسان العرب، ج 5، ص 289

الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»(1).

لم ولا يصل السامع من الذين كفروا إلى هذا الحد من القول إلا بالوفرةِ التي تصيبه أذنيه، أو الختم الذي يصيب قلبه وسمعه كما تقدم بیان ذلك.

ومن هنا:

تتجلى أهمية الذكر وآثاره في إزالة الوقرةِ عن السمع النافع الذي به يهتدي المرء إلى الحق والصواب، وهو الذكر الذي عناه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «تَسمَعُ بِه بَعدَ الوَقرَةِ».

الأثر الثاني: تحقق البصر بعد العشوة

لا يخفى على العقلاء أن في اتباع الحق

ص: 41


1- الأنعام: 25

هدى، وفي اتباع الباطل ضلال، ذلك لمن أبصر وتبصّر، وكما قال تعالى:

«إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»(1).

وباتباع الباطل يصيب الإنسان عمى القلب فيكون كمن قال فيه تعالى:

«وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا»(2).

وهذا العمى هو حقيقة من وقع في الغفلة، وأصابته العشوة فلم يكن من المهتدين.

والعَشوة والعُشوة والعِشوة كيف ما قُرئت بالفتح أو الضم أو الكسر فهي (أن تركب أمراً

ص: 42


1- ق: 37
2- الأسراء: 72

على غير هداية، وكذلك ورد في الخبر: (احمدوا الله الذي رفع عنكم العشوة) يريد ظلمة الكفر.

والعشوة بتثليث العين الأمر الملتبس وأن يركب الشخص أمرا بجهالة لا يعرف وجهه، من عشوة الليل ظلمته والجمع عشوات بالتحريك»(1).

وعليه:

ينبغي لمن عقل وآمن أن يعرف ضرورة اعتناق ذكرٍ يكشف كل عمى ألم بحياة الإنسان، ولا سبيل لذلك إلا من وصفه الله تعالى بأنه الذكر ونادى له في قوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ

ص: 43


1- المخصص، ابن سيدة، ج 4، ص 76

الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ»(1).

فلم يكن النداء لغرض السعي للصلاة كما يظن البعض من ظاهر الآية المباركة، بل النداء لغرض السعي لذكر الله تعالى المتمثل بالإمام الذي به تقام صلاة الجمعة والتي تتضمن خطبتان يلقيها الإمام، فإن كان الإمام منصب من عند الله تعالی صار السعي والحضور واجباً مفروضاً من عند الله تعالى لأنه يكون مذكراً بالله عز وجل.

وهو الذكر الذي يُبصر به الناس، بعد العِشوة وينقادون به(2) بعد الضلالة هو ولي الله تعالى وحجته على خلقه، وهو الذكر الذي من

ص: 44


1- الجمعة: 9
2- بمعنى يتبعون

شغله ماله أو ولده عنه يكن من الخاسرين كما أخبر سبحانه وتعالى عن ذلك:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(1).

ويستعرض القرآن الحکیم حال من يُعرض عن الذِكر المُذَكّر الله تعالى بأبشع صورة:

«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا»(2).

والذِكرُ الذي عرِفَهُ أهل البصائر هو الإمام

ص: 45


1- المنافقون: 9
2- الفرقان: 27 - 29

الذي وصفه الله تعالى بالحبل، وأمر الناس أن يعتصموا به جميعاً ليصبحوا بنعمته إخواناً فقال عز وجل:

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»(1).

وهو الذي يُعرفك حقيقة دينك ودنياك.

الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إذ يقول:

«إن جعلت دينك تبعا لدنياك، أهلكت دينك

ص: 46


1- آل عمران: 103

ودنياك وكنت في الآخرة من الخاسرين، فما قدمت فلا تجازي إلا به، وما أخرت فللوارثين، ولا تخرج من دنياك إلا صفر اليدين، قد أثقلت ظهرك بالأوزار النقال، التي تنوء بها كالجبال»(1).

فبه ويمن هم على سيرته ومناهجه الأئمة الأحد عشر من ولده يُبصر الناس بعد العشوة.

الأثر الثالث: تحقق الانقياد بعد المعاندة

يختلف العباد في توجهاتهم من شخص لأخر باختلاف مفاهيم أذهانهم، فمن الناس من يفهم الدين على أنه طقوس لا بد من أدائها على الشكل الذي يوافق مزاجه، وآخر يفهم الدين على أنه سلوك اجتماعي متبادل لا بُدّ منه، ومن خلاله تتحقق بعض المصالح أو لعله الكثير منها، وبعض يفهم الدين وأحكامه

ص: 47


1- التمحيص، محمد بن همام الاسكاني، ص 7، باب سرعة البلاء إلى المؤمنين

على أنه فرض واجب لابدّ من مزاولته وتطبيق ما فيه سواء شئنا أم أبيّنا، وتلحظ منهم التذمر عند حلول وقت الفرائض وعند تطبيقها، وهو إن أصابه خيرٌ منها تراه منوعا، وإن أصابه الشر تراه جزوعاً، ناقما معرضاً عن فرائضه، ومنهم من يفهم الدين على أنه السبيل للوصول إلى الجنة والسعادة الأبدية، ومنهم من يفهم الدين أن فيه السبيل للخلاص من العذاب والتعاسة الأبدية، وبعض آخر يفهم الدين على أنه حق ملقى على عاتقه لا ينفك منه إلا باستيفاء واجباته، وقد يحصل الإعراض عن الدين، وتطبيق الواجبات، بسبب بعض هذه المفاهيم المضطربة، فيكون هذا الإعراض كفراً، ومعاندةً، أو نفاقاً أو جحوداً، عندها لابد من تدارك حقيقي وعملي يوقظ من الغفلة، ويثبت الإيمان، ويذهب بالمعاندة.

ص: 48

وعليه:

فإن الله تعالى ذكراً يتحقق به الانقياد بعد المعاندة وإن اختلفت المفاهيم العقائدية والذهنية، وتغير التطبيق تبعاً لتلك المفاهيم، وكل تطبيق له أثره وواقعه على النفس والعقل بل وحتى على الروح، فلو كان على القلب رين وحُجب، أو فيه مرض، أو عليه إقفال أو ختم كما تقدم بيانه، لم تكن المطاوعة ولم يتحقق الانقياد، حيث ان الانقياد هو السلم والمطاوعة، فالإنسان بين مطاوعتين، بين طاعة للشيطان تجذبه، وبين طاعة للرحمن تشده، فالشيطان يأمره بالمعصية، والله يأمره بالطاعة، وليس له أن يكون للشيطان سلماً وهو عدو قد حذر الله تعالى منه بقوله:

«إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا

ص: 49

يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ»(1).

فلا يبقى أمام الإنسان إلا الانقياد لله تعالی والعمل على طاعته، وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«كانت الفقهاء والعلماء إذا كتب بعضهم إلى بعض كتبوا بثلاثة ليس معهن رابعة: من كانت همته آخرته كفاه الله همه من الدنيا ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله تبارك وتعالى فيما بينه وبين الناس»(2).

ولهذا سمي الانقياد صلحاً، وهو السِّلمُ(3).

وفي حال حصول المعاندة وهي: أن يعرف الرجل الشيء ويأبى أن يقبله يقال عَنِدَ فلان

ص: 50


1- فاطر: 6
2- الكافي، الكليني، ج 8، ص 307
3- لسان العرب، ج 12، ص 293

عن الأمر إذا حاد عنه(1)، عندها تُعمى البصيرة كما يعمى البصر، وتغلق منافذ القلب، التي من خلالها يُلهم الإنسان ويُفاض عليه، والفيض والإلهام والرؤيا في المنام هي من طرق الوحي والإخبار عن الله تعالى كما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة»(2).

وإن من الأضرار الكبيرة فقدُ البَصِيرَةُ وهي: عَقِيدَةُ القلب وقيل هي: الهداية والبَصَرُ وهو:

ص: 51


1- معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ص 153
2- المقتصر من شرح المختصر، ابن فهد الحلي، ص 21، عنه في الحاكم في مستدركه، ج 4، ص 390، وفيه: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. وروى في العوالي ج 1، ص 162 بنحو آخر وهو قول النبي صلَّى الله عليه وآله: الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة، المصدر نفسه هامش ص 22

نَفاذٌ في القلب.

وبَصرُ القلب: نَظَرَه وخاطره.

قال الليث: البَصيرة اسم لما اعتقد في القلب من الدين وتحقيق الأَمر؛ وقيل: البَصيرة الفطنة، تقول العرب: أَعمى الله بصائره أَي فِطَنَه؛ عن ابن الأَعرابي: وفي حديث ابن عباس: أَن معاوية لما قال لهم: يا بني هاشم تُصابون في أَبصاركم، قالوا له: وأَنتم يا بني أُمية تصابون في بصائركم.(1)

وعليه:

ينبغي تحصيل ذِكرٍ لله تعالى يحقق الانقياد بعد المعاندة.

وهذا الذكرُ على ثلاثة أقسام:

ص: 52


1- لسان العرب، ج 4، ص 65

الأول: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم بيان وتفصيل ذلك في المسألة الثالثة.

الثاني: الكتاب الذي أنزله الله تعالى فجعله هدى للناس فقال فيه عز وجل:

«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ»(1).

وهو الكتاب الذي فيه الآيات البينات وفيه قوله تعالى:

«بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

ص: 53


1- آل عمران: 2 - 4

وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ»(1).

الثالث: أولي الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم فقال فيهم:

«وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا»(2).

وهم من أمر الله تعالى برد النزاع إليهم فقال عز وجل:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى

ص: 54


1- العنكبوت: 49
2- النساء: 83

اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(1).

وهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وأوصياؤه الذين قال فيهم:

«إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2)؟!.

ص: 55


1- النساء: 59
2- الجامع الصحيح، للترمذي 5: 663، عنه المسائل الصاغانية، للشيخ المفيد: هامش ص 55

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

1. المخصص: ابن سيده، ت: 458 / تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، الناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان.

2. لسان العرب: ابن منظور، ت: 711 / الطبعة: / سنة الطبع: محرم 1405 / المطبعة: نشر أدب الحوزة.

3. نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام)، حقيق: صبحي الصالح ت: 40 الطبعة: الأولى / سنة الطبع: 1387 - 1967 م.

4. المعتبر: المحقق الحلي / ت: 676 تحقيق: عدة الأفاضل / إشراف: ناصر مكارم شيرازي / سنة الطبع: 1364/14/3ش المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص: 56

5. إرشاد القلوب: الحسن بن محمد الديلمي / ت: ق 8 / سنة الطبع: 1415 - 1374 ش المطبعة: أمير - 1374 ش - قم.

6. كنز العمال: المتقي الهندي / ت: 975 / تحقيق: ضبط وتفسير: الشيخ بكري حياني / تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقا الطبعة: سنة الطبع: 1409 1989 م / المطبعة: مؤسسة الرسالة - بيروت لبنان.

7. التمحيص: محمد بن همام الإسكافي / ت: 336 تحقيق: مدرسة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)/ الناشر: مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام) - قم.

8. معجم مقاييس اللغة: أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس) / ت: 395 / تحقيق: عبد السلام محمد هارون

ص: 57

سنة الطبع: 1404 / المطبعة: مكتبة الإعلام الإسلامي.

9. المقتصر من شرح المختصر: ابن فهد الحلي / الوفاة: 841 / م المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن / تحقيق: السيد مهدي الرجائي / المطبعة: مطبعة السيد الشهداء (عليه السلام) - قم الناشر: مجمع البحوث الاسلامية

ص: 58

المحتويات

مقدمة المؤسسة...7

المقدمة...10

المسألة الأولى: الجعل في اللغة...12

المسألة الثانية: القرآن يكشف عن مفهوم الجعل ومصداقه...14

المصداق الأول: القرآن الكريم...21

المصداق الثاني النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:...26

المسألة الرابعة: آثار جلاء القلوب...33

الأثر الأول: تحقق السمع بعد الوقرة...38

ص: 59

الأثر الثاني: تحقق البصر بعد العشوة...41

الأثر الثالث: تحقق الانقياد بعد المعاندة...47 المصادر والمراجع...56

ص: 60

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.