آیة المباهلة

هویة الکتاب

آیة المباهلة

كاتب:تمیمی، رافد

لسان:العربية

الناشر: مشعر - تهران - ایران

سنة النشر:1393 هجری شمسی|1435 هجری قمری

قانون الكونجرس:BP 102/16 /ت 8 آ 9

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

آیة المباهلة

نويسنده:تمیمی، رافد

زبان:عربی

ناشر:نشر مشعر - تهران - ایران

سال نشر:1393 هجری شمسی|1435 هجری قمری

کد کنگره:BP 102/16 /ت 8 آ 9

ص: 3

آیة المباهلة

نويسنده:تمیمی، رافد

ص: 4

كلمة المعهد

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين

إنّ الخلاف والاختلاف والتباين سمات رافقت المجتمعات البشريّة منذ وجودها على وجه الأرض، ولم تأتِ بعثة الأنبياء والرسل: وإنزال الكتب والرسالات إلّا للحدّ من هذه الخلافات بين الأُمم وبيان ما اختلفوا فيه، إلّا أنّه رغم ذلك فقد اختلف أصحاب الديانات والكتب السماويّة أنفسهم من بعد ما جاءهم العلم. (1)

ولم تكن الأُمّة الإسلاميّة خارجةً عن هذه السُنّة التاريخيّة؛ فكان الخلاف ينشب بين أبنائها بين الفينة والأُخرى.

وقد اقترنت تلك الخلافات في حُقبٍ من التاريخ الإسلامي بتبنّي البعض أفكاراً متطرّفةً وشاذّةً لا تعود على المسلمين بشيءٍ

ص: 5


1- قال تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ (آل عمران: 19).

سوى تعميق الخلاف أكثر فأكثر، وتأجيج النزاعات المذهبيّة والطائفيّة وتشديدها بينهم.

و هناك بعض الفِرَق في أمّتنا الإسلاميّة جنّدوا كلَّ طاقاتهم لزرع الحقد والعداوة والكراهية في قلوب الأجيال عبر مختلف طرق التبليغ؛ ابتداءً بالخطب والمحاضرات، ونشر الكرّاسات والكتب والمجلّات، ثمّ مع مرور الزمان و تطوّر وسائل الإعلام قاموا أيضاً بتسخير وسائل الإعلام المسموعة و المرئية، ومواقع الإنترنيت، وغيرها. بل عمدوا إلى إدخال كتب العقائد الخلافيّة في المناهج الدراسيّة، وإنشاء المعاهد والجامعات لتربية أصحاب الفكر المتشدّد والمتطرّف، حتّى تخرّجت منها جماعةٌ مِن الكتّاب لم ترقب لأحدٍ ذمّةً ولم تراعِ حرمة؛ وقد اتّسمت كتاباتُهم بشكلٍ عامّ باللاموضوعيّة، والشدّة، والتهجّم السافر على الآخرين، وعدم الإنصاف، والابتعاد عن منهج البحث العلمي في المسائل الخلافيّة، ومن المعلوم أنّ أهمّ العناصر التي يجب الالتزام بها من قِبَل الباحث في الفكر العقائدي المقارَن، هي مراعاة الأمانة العلميّة في النقل والضبط والبيان، والورع، وأداء الحقّ واتّباعه، كما قال سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (الزمر: 18).

وينبغي النظر إلى المسائل الاتّفاقية بعين الاعتبار والأهمّية،

ص: 6

فإنّ نقاط الاشتراك والالتقاء في الأُصول والفروع لدى المسلمين هي أكثر من نقاط الاختلاف والافتراق، وهذه الأُمور المشتركة بمثابة القاعدة الثابتة التي ينطلق المرء منها في المعرفة الدينيّة الإسلاميّة.

كما لابدّ من الإنصاف والتزام الموضوعيّة في التعامل مع المسائل الخلافيّة الموجودة بين أئمّة المذاهب الإسلاميّة، فالخلاف مسألةٌ طبيعيّة، وهو ميزة البحث الفكريّ، بل لا يخلو منه حتّى أصحاب المذهب الواحد؛ سواءً في الفقه أو الاعتقادات.

كما أنّ من الظلم والإجحاف الاعتمادَ على المصادر الثانوية وغير المعتمدة لدى الطرف الآخر فى بيان مذهبه أو الردّ عليه، أو الاحتجاج بالقضايا الخلافيّة غير المسلَّم بها عنده، بل لابدّ من الرجوع إلى أُمّهات المصادر المعتمدة لديه والاحتجاج عليه وفق متبنّياته.

ويجدر بالباحث الإسلاميّ أن يكون هدفه من وراء طرح كلّ مسألةٍ علميّةٍ هو طلب الحقّ والحقيقة، لا أن يرِد البحث وهو محمّلٌ بالقَناعات والأحكام المسبَقة المسلّمة لديه من دون أن يكون له الاستعداد لرفع اليد عنها؛ قال تعالى: وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (سبأ: 24).

وقد بدأ معهد الحجّ والزياره مرحلةً جديدةً في باب الحوار والسؤال والردّ على الشبهات، متجنِّباً الإثارات المذمومة و

ص: 7

حريصاً على استثارة العقول المفكّرة والنفوس الطالبة للحقّ، لتنفتح على الحقائق التى تقدّمها مدرسة أهل البيت: الرساليّة للعالم أجمع.

ونحن في هذه الدراسات نتوخّى أن نسير على جادّة الصواب و الإنصاف، وعدم الخروج والانحراف عنها، كما نتوخّى اعتماد الأدلّة النقليّة المعتبرة والمستندة إلى الكتاب والسنّة والتي يقبلها جميع علماء المسلمين بالإضافة إلى الأدلّة العقليّة المحكمة. وهذا هو الحجر الأساس في البحث و الاستدلال في هذا المضمار، ولابدّ أن نشير إلى أنّ هذه المجموعة من البحوث قد أُعدّت فى لجنةٍ خاصّةٍ من مجموعة من الباحثين الأفاضل، ونحن إذ نتقدّم بالشكر الجزيل لكلّ هولاء ونقدّم هذه السلسلة القيّمة من الدراسات إلى القارئ الكريم، نرجو أن تضيء طريق الباحثين عن الحقائق، وأن تكون خطوةً في توحيد الأمّة الإسلاميّة.

إنه ولي التوفيق

معهد الحج والزيارة

قسم الكلام و المعارف

ص: 8

أهمية البحث وضرورته

إنّ واقعة مباهلة النبي الكريم صلى الله عليه و آله بعترته أهل بيته تعد من أهم حوادث صدر الإسلام، وقد أثبتها الله تعالى في كتابه الكريم قرآناً يرتل آبان الْفَجْرِ وَمِنَ اللَّيْلِ، وأفصحت السنّة النبوية في أصحّ الأحاديث عن جزئياتها.

فأهميّة هذه الواقعة باعتبار تأكيد القرآن الكريم عليها من خلال تثبيتها كآية من آيات الذكر الحكيم، ونصّ السنة النبوية عليها بالاتفاق والتواتر.

وضرورة بحثها باعتبار قوة مداليل آياتها وأحاديثها بما ينيط اللثام عن كثير من الحقائق التي تتعلق بحقيقة مقام العترة الطاهرة وإمامتها الإلهية.

فوائد البحث وآثاره

يمكن إجمال الفوائد المتوخاة من البحث ضمن النقاط التالية:

1 - واقعة المباهلة هي من الحوادث الثابتة التي لا يمكن أن

ص: 9

يتطرق شك أو شبهة في وقوعها.

2 - مباهلة النبي الكريم صلى الله عليه و آله بخصوص عترته أهل بيته، وهم: عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، هي من الأمور الثابتة المتفق عليها بين المسلمين بمختلف مذاهبهم.

3 - المباهلة بخصوص العترة إنّما هي لميزة كمالية فيها، لالمجرد القرابة وانتفاء الأقرب.

4 - ألفاظ الواقعة ودلالتها تحكي عن العناية الإلهية الخاصة بالعترة الطاهرة والإعداد الرباني لها لهداية الخلق، وتكشف عن الطريق الصحيح الذي ينبغي سلوكه للوصول لهدى الله تعالى.

المباهلة في اللغة والاصطلاح

الابتهال في اللغة من البهلة بالفتح والضم، وهي اللعنة، ثم كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع إصرار وإلحاح، قال الفراهيدي في كتاب العين : باهلت فلاناً أي دعونا على الظالم منا، وبهلته لعنته (1)، وقال الجوهري في الصحاح:

والبهل اللعن، يقال: عليه بهلة الله وبهلته أي: لعنة الله... ويقال: بهلته وأبهلته اذا خليته وارادته والمباهلة الملاعنة (2).

فأصل الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، وقد

ص: 10


1- كتاب العين، ج 4، ص 54، مادة (بهل).
2- صحاح الجوهري، ج 4، ص 1642، مادة (بهل).

استعمل في القرآن الكريم بهذا المعنى في قوله تعالى: (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران/61].

متن آية المباهلة

قال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران/61].

شأن نزول الآية الكريمة في مرويات السنة وأقوال علمائهم

أخرج مسلم في صحيحه عن قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد (وتقاربا في اللفظ)، قالا: حدثنا حاتم (وهو ابن إسماعيل)، عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال

: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه و آله فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول له خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليّ: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبوة بعدي؟!»، وسمعته يقول يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله

ص: 11

ويحبه الله ورسوله»، قال: فتطاولنا لها، فقال: «ادعوا لي علياً»، فأتى به أرمد، فبصق في عينه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ) [آل عمران/61]

دعا رسول الله صلى الله عليه و آله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» (1).

وأخرجه الترمذي في سننه عن قتيبة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال نحوه، وقد صحّح الترمذي سنده وكذا الشيخ الألباني (2).

وأخرجه في سننه أيضاً بهذا السند مختصراً، وقد صحّح سنده، وكذا الشيخ الألباني (3).

وأخرجه عبد الله في زوائده على مسند أبيه أحمد بهذا الطريق، نحو لفظ مسلم دون قوله

: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله صلى الله عليه و آله فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهنّ

ص: 12


1- صحيح مسلم، ج4، ص1470، ح2404/32، كتاب فضائل الصحابة، باب4 (فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه).
2- سنن الترمذي، ج5، ص638، ح3724، كتاب المناقب، باب 21، الأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها.
3- المصدر نفسه، ص255، ح2999، كتاب تفسير القرآن، سورة آل عمران، الأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها.

أحب إلى من حمر النعم، وقد صحّح شعيب الأرنؤوط سنده على شرط مسلم، حيث تعقبه بقوله: إسناده قوي على شرط مسلم (1).

وأخرجه الحاكم في مستدركه عن جعفر بن محمد بن نصير الخلدي، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: نحوه مختصراً، وقد صحّح الحاكم سنده على شرط البخاري ومسلم ووافقه الذهبي في التلخيص (2).

وأخرجه في مستدركه أيضاً عن علي بن عيسى، حدثنا أحمد بن محمد الأزهري، حدثنا علي بن حجر، حدثنا علي بن مسهر، عن داوود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جابر:

إنّ وفد نجران أتوا النبي صلى الله عليه و آله، فقالوا: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال: «هو روح الله و كلمته و عبد الله و رسوله»، قالوا له: هل لك أن نلاعنك أنّه ليس كذلك؟ قال: «و ذاك أحبّ إليكم؟»، قالوا: نعم، قال: «فإذا شئتم»، فجاء النبي صلى الله عليه و آله و جمع ولده الحسن والحسين، فقال رئيسهم: لا تلاعنوا هذا الرجل، فو الله لئن

ص: 13


1- مسند أحمد بن حنبل، ج1، ص185، ح1608، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند سعد بن أبي وقاص، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.
2- المستدرك على الصحيحين، ج3، ص163، ح4719، كتاب معرفة الصحابة، مناقب أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، مع الكتاب: تعليقات الذهبي في التلخيص.

لاعنتموه ليخسفن أحد الفريقين، فجاؤوا فقالوا: يا أبا القاسم إنّما أراد أن يلاعنك سفهاؤنا وإنّا نحبّ أن تعفينا، قال: «قد أعفيتكم»، ثم قال: «إنّ العذاب قد أظلّ نجران»، وقد صحّح الحاكم سنده على شرط مسلم ووافقه الذهبي في التلخيص (1).

وأخرجه أبو بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن داوود المكي، حدثنا بشر بن مهران، حدثنا محمد بن دينار، عن داوود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جابر، قال:

قدم على النبي صلى الله عليه و آله العاقب والطيب، فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه و آله، فأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا، وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: «والذي بعثني بالحقّ لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي ناراً»، قال جابر: وفيهم نزلت (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ) ، قال جابر: (أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ) رسول الله صلى الله عليه و آله و عليّ بن أبي طالب ،(أَبْناءَنا) الحسن والحسين، (وَ نِساءَنا) فاطمة» (2).

رواه عنه ابن كثير في تفسيره وتعقبه بقوله:

وهكذا رواه

ص: 14


1- المستدرك على الصحيحين، ج2، ص649، ح4157، كتاب التفسير، ذكر نبي الله و روحه عيسى بن مريم صلوات الله و سلامه عليهما.
2- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام، أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني، ص226.

الحاكم في مستدركه عن عليّ بن عيسى، عن أحمد بن محمد الأزهري، عن عليّ بن حجر، عن عليّ بن مسهر، عن داوود بن أبي هند، به، بمعناه، ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه هكذا، وقال: وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك (1).

وقال الشوكاني في تفسيره (فتح القدير):

وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل، عن جابر، قال نحو لفظ ابن مردويه المتقدّم، وتعقبه بقوله:

ورواه أيضاً الحاكم من وجه آخر عن جابر، وصححه، وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه و آله هل لك أن نلاعنك؟ (2).

وكلام الشوكاني صريح في أنّ الحاكم قد أخرج الحديث من وجهين عن جابر، وقد صحح كلا الوجهين.

وقال الحاكم النيسابوري:

وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله بن عباس وغيره أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله أخذ يوم المباهلة بيد عليّ وحسن وحسين، وجعلوا فاطمة وراءهم، ثم قال: «هؤلاء أبناءنا وأنفسنا ونساؤنا فهلموا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم ثم نبتهل فنجعله لعنة الله على الكاذبين» (3).

وقال الجصاص حول آية المباهلة

: فنقل رواة السير ونقلة

ص: 15


1- تفسير ابن كثير، ج1، ص489.
2- فتح القدير، ج1، ص524.
3- أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، معرفة علوم الحديث، ج1، ص96، النوع السابع عشر: معرفة أولاد الصحابة.

الأثر لم يختلفوا فيه أنّ النبي صلى الله عليه و آله أخذ بيد الحسن والحسين وعليّ وفاطمة (رضي الله عنهم)، ثم دعا النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة، فأحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة (1).

وقال ابن كثير بعد ذكره لقصة المباهلة عن ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره:

والغرض أنّ وفودهم كان في سنة تسع، لأنّ الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه و آله، وآية الجزية إنّما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية (2).

حاصل الكلام في شأن نزول الآية الكريمة

لما أمر رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بمباهلة النصارى بعد نزول قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) [آل عمران/61]، خرج رسول الله صلى الله عليه و آله ومعه الحسن والحسين وعليّ وفاطمة عليهم السلام، وقال:

ص: 16


1- أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر، ج2، ص295.
2- تفسير ابن كثير، ج1، ص489.

« اللهم هؤلاء أهلي »، فلم تجبه النصارى إلى المباهلة خوفاً من اللعنة وقبلوا الجزية، كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، والترمذي في سننه، وعبد الله في زوائده على مسند أبيه أحمد بن حنبل، والحاكم في مستدركه ونصّ على تواتره في (معرفة علوم الحديث)، وصرّح الجصاص باتفاق رواة السير ونقلة الأثر عليه.

دلالة الآية الكريمة

حتى يتضح مدلول الآية الكريمة بشكل كامل وجلي نبيّن معنى ألفاظها ضمن الفقرات التالية على ما استفدناه من تفسير الميزان:

1 - قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

الفاء للتفريع وهو تفريع المباهلة على التعليم الإلهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم عليهماالسلام مع ما أكدّه في ختمه بقوله في الآية السابقة: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران/60]، والضمير في قوله ( فِيهِ ) راجع إلى عيسى عليه السلام أو إلى الحقّ المذكور في الآية السابقة.

وقد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بياناً إلهياً لا يرتاب فيه، مشتملاً على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله: (إِنَّ مَثَلَ

ص: 17

عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران/59]، فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضاً؛ ولذلك كان أثره يشمل رسول الله صلى الله عليه و آله وغيره من كل سامع، فلو فرض تردد من نفس السامع المحاجّ من جهة كون البيان وحياً إلهياً لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهاناً يناله العقل السليم، ولعله لذلك قيل: (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ولم يقل: (من بعد ما بيناه لهم).

مضافاً إلى أنّ في تذكيره صلى الله عليه و آله بالعلم تطييباً لنفسه الشريفة أنّه غالب بإذن الله تعالى وأنّ ربّه ناصره وغير خاذله (1).

2 - قوله تعالى: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ).

المتكلم مع الغير في قوله: ( نَدْعُ ) ، غيره في قوله: (أَبْناءَنا) و (نِساءَنا) و (أَنْفُسَنا) ؛ فإنّه في الأول مجموع المتخاصمين من جانب الاسلام والنصرانية، وفي الثاني وما يلحق به من جانب الاسلام؛ ولذا كان الكلام في معنى قولنا: (ندع الأبناء والنساء والأنفس، فندعو نحن أبناءنا و نساءنا وأنفسنا، وتدعون أنتم أبناءكم ونساءكم وأنفسكم)، ففي الكلام إيجاز لطيف.

والمباهلة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجّة بين رسول الله صلى الله عليه و آله وبين رجال النصارى لكنّها عمّمت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطمئنان الداعِ بصدق دعواه

ص: 18


1- تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، ج3، صص222 و 223.

وكونه على الحقّ، لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم، فتراه يقيهم بنفسه ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم وفي سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذبّ عنهم، ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء؛ لأنّ محبة الانسان بالنسبة إليهم أشدّ وأدوم.

ومن هنا يظهر فساد ما قد يقال: إنّ المراد بقوله: (نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ) ، ندع نحن أبناءكم ونساءكم وأنفسكم وتدعوا أنتم أبناءنا ونساءنا وأنفسنا؛ وذلك لابطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء والنساء في المباهلة.

وفي تفصيل التعداد دلالة أخرى على اعتماد الداعي وركونه إلى الحقّ، وكأنّه يقول: ليباهل الجمع الجمع، فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين، حتى يشمل اللعن والعذاب الأبناء والنساء والأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين وينبت أصل المبطلين.

وبذلك يظهر أنّ الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء ولا على كثرة النساء ولا على كثرة الأنفس، فإنّ المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير وكبير وذكور وإناث.

وقد أطبق المفسرون واتفقت الرواية وأيده التاريخ، أنّ

ص: 19

رسول الله صلى الله عليه و آله حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا عليّ وفاطمة والحسنان عليهم السلام، فلم يحضر لها إلا نفسان وابنان وامرأة واحدة، وقد امتثل أمر الله سبحانه فيها.

على أنّ المراد من لفظ الآية أمر، والمصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب الخارج أمر آخر، وقد كثر في القرآن الحكم أو الوعد والوعيد للجماعة ومصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى: (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة/2]، وقوله تعالى: (وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة/3]، وقوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران/181]، وقوله تعالى: (وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة/219]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع ومصداقها بحسب شأن النزول مفرد (1).

وفي قوله تعالى: (وَ أَنْفُسَنا) دلالة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و آله في كماله وحكمته وسائر خصاله الكريمة وصفاته الحميدة، وأنّ إحضاره للمباهلة لم يكن بسبب قربه المادي والرحم الذي كان بينهما وإلا لأحضر معه من هو أقرب منه رحماً كعمه العباس، وإنّما كان ذلك بسب قربه المعنوي إلى نفس رسول الله صلى الله عليه و آله؛ لكماله وخصاله.

ص: 20


1- تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، ج3، صص223 و 224.

فالآية الكريمة هي دعوة للمباهلة بالأبناء والنساء والانفس والأقوى منزلة والأقرب لقلب المتباهلين، يعني باهلوا بأبناءكم ونساءكم وأنفسكم ومن هم كأنفسكم؛ لمحاكاة خصالهم لخصالكم.

ففي جعل رسول الله صلى الله عليه و آله أمير المؤمنين (عليه السلام) كنفسه دلالة قوية على أنّ الإمام عليه السلام قد حاكى رسول الله صلى الله عليه و آله في كماله وخصاله وصفاته حتى كان الرسول الكريم صلى الله عليه و آله يشاهد نفسه فيه كما يصرّح بذلك قوله: (وَ أَنْفُسَنا)، وهذا المعنى يساعد عليه العرف، إذ من المتعارف قولهم: (أُشاهد نفسي في هذا الشخص) عندما يرى أنّه يحمل كلّ خصاله.

وهذه فضيلة عظيمة للإمام عليه السلام، وشهادة قوية على أفضليته، قال الشيخ المفيد:

وانّ الله تعالى حكم في آية المباهلة لأميرالمؤمنين عليه السلام بأنّه نفس رسول الله صلى الله عليه و آله، كاشفاً بذلك عن بلوغه نهاية الفضل (1).

وفهم الصحابة يدل على أنّها فضيلة عظيمة للإمام عليه السلام، حيث أحجم سعد بن أبي وقاص عن قبول أمر معاوية في سبّ الإمام عليه السلام معللاً ذلك بآية المباهلة وأنّها أحبّ إليه من حمر النعم.

فقد فهم سعد من ذلك فضيلة عظيمة فامتنع عن السبّ، ولم يعترض عليه معاوية مع شدّة مكره ودهائه واجتهاده في

ص: 21


1- الإرشاد، ص129.

صرف فضائل الإمام عليه السلام بتأويلها كما في حديث أنّ عماراً « تقتله الفئة الباغية »، حيث قال لعمرو بن العاص بأنّه قتله الذي جاء به، فقد أخرج أحمد في مسنده من طريق عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحرث بن نوفل، قال:

إنّي لأسير مع معاوية في منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص، قال: فقال عبد الله ابن عمرو بن العاص: يا أبت، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول لعمار: «ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية»، قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟ فقال معاوية: لا تزال تأتينا بهنة، أنحن قتلناه! إنّما قتله الذين جاؤوا به، وقد صحّح شعيب الأرنؤوط سنده (1).

وقد اتضح من خلال ما تقدّم فساد الوجه الذي ذكره البغوي في تفسيره، حيث قال: «(وَ أَنْفُسَنا)

عنى نفسه وعلياً (رضي الله عنه)، والعرب تسمّى ابن عم الرجل نفسه، كما قال الله تعالى: (وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات/11] ،

يريد إخوانكم» (2)، وقال الواحدي في الوجيز: قوله: (وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ) ، يعني: بني العم. (3)

ص: 22


1- مسند أحمد، ج2، ص161، ح6499، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.
2- تفسير البغوي، ج1، ص48.
3- الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، علي بن أحمد الواحدي أبو الحسن، ج1، ص214.

ووجه فساده ظاهر، فقد تقدّم ذكر معاني النفس في في الأصل، وليس فيها ما ذكراه، ولا شاهد على استعماله فيه، وما استشهد به البغوي من الآية الكريمة لا دلالة فيه إطلاقاً، والغريب أنّه قال عقبها: (يريد إخوانكم) ، فأين هذا المعنى من قوله: العرب تسمى ابن عم الرجل نفسه؟!

3 - قوله تعالى (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

قوله: ( نَبْتَهِلْ ) ، أصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، وقوله ( فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ ) كالبيان للابتهال، وقد قيل: ( فَنَجْعَلْ ) ولم يقل: (فنسأل) إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة، حيث يمتاز بها الحقّ من الباطل على طريق التوقف والابتناء.

وقوله (الْكاذِبِينَ) مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس، إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب، بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه صلى الله عليه و آله وبين النصارى، حيث قال صلى الله عليه و آله: «إنّ الله لا إله غيره وإنّ عيسى عبده ورسوله»، وقالوا: إنّ عيسى هو الله أو إنّه ابن الله أو إنّ الله ثالث ثلاثة.

وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى والمباهلة عليها بين النبي الكريم صلى الله عليه و آله وبين النصارى، أعني كون أحد الطرفين مفرداً والطرف الآخر جمعاً، كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد والجمع معاً، كقولنا: (فنجعل لعنة الله

ص: 23

على من كان كاذباً).

فالكلام يدلّ على تحقّق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة والمباهلة على أيّ حالٍ، إمّا في جانب النبي الكريم صلى الله عليه و آله وإمّا في جانب النصارى.

وهذا يعني أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى، فإنّ الكذب لا يكون إلا في دعوى، فلمن حضر مع رسول الله صلى الله عليه و آله وهم عليّ وفاطمة والحسنان عليهم السلام شركة في الدعوى والدعوة مع رسول الله صلى الله عليه و آله.

وهذا من أفضل المناقب التي خصّ الله به أهل بيت نبيه عليهم السلام كما خصهم باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسوله صلى الله عليه و آله من بين رجال الأمة ونسائها وأبنائها.

وقد اتضح من خلال ما تقدم جواب ما قد يقال: إنّ الظاهر كما ينتج من العادة الجارية أنّ إحضار الانسان أحبّاءه وأفلاذ كبده من النساء والصبيان في المخاطر والمهاول دليل على وثوقه بالسلامة والعافية والوقاية، فلا يدلّ إتيانه صلى الله عليه و آله بهم على أزيد من ذلك.

وحاصل الجواب:

إنّ قوله تعالى في الآية الكريمة: (الْكاذِبِينَ) يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجّة والمباهلة، ولا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة

ص: 24

أو كاذبة، فالذين أتى بهم النبي الكريم صلى الله عليه و آله مشاركون معه في الدعوى وفي الدعوة كما تقدم.

ولا يستلزم ذلك أنّهم شركاء في النبوة، إذ إنّ الدعوة والتبليغ ليسا بعين النبوة والبعثة وإنْ كانا من شؤونها ولوازمها ومن المناصب والمقامات الإلهية التي يتقلدها، وكذا ليسا بعين الإمامة وإنْ كانا من لوازمها بوجه، وبيان هذا الامر بشكل مفصل موكول لمباحث النبوة والإمامة (1).

شبهات و ردّها

اشارة

أُثيرت بعض الشبهات حول الاستدلال بآية المباهلة على أفضلية العترة الطاهرة ودخولها في دعوة الرسول الخاتم صلى الله عليه و آله، سنستعرضها هنا مع ما يمكن أن يقال في ردّها:

الشبهة الأولى: عدم دلالة المباهلة على الإمامة أو الأفضلية

اشارة

قال ابن تيمية في منهاج السنة: أمّا أخذه علياً وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة، فحديث صحيح رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال في حديث طويل: (لما نزلت هذه الآية (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ) ، دعا رسول الله صلى الله عليه و آله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال:

ص: 25


1- تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، ج3، صص226 و 227.

«اللهم هؤلاء أهلي»، ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة و لا على الأفضلية، وقوله: (قد جعله الله نفس رسول الله صلى الله عليه و آله، والاتحاد محال، فبقي المساواة له، وله الولاية العامة، فكذا المساوية)، قلنا: لا نسلّم أنّه لم يبق إلا المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع، لأن أحداً لا يساوي رسول الله صلى الله عليه و آله، لا علياً ولا غيره، وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة قال تعالى في قصة الافك: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)... بل هذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة والتجانس والتشابه يكون بالاشتراك في بعض الأمور كالاشتراك في الايمان فالمؤمنون اخوة في الايمان... وقد يكون بالاشتراك في الدين... . (1)

الردّ على الشبهة

أمّا قول ابن تيمية بعد إذعانه بصحة حديث المباهلة واختصاصه بالعترة: (لا دلالة في ذلك على الإمامة و لا على الأفضلية) فهي دعوى بلا دليل، فلم يبيّن لنا الوجه في عدم الدلالة على الإمامة والافضلية حتى ننظر فيه.

وأمّا قوله: وقوله:

(قد جعله الله نفس رسول الله صلى الله عليه و آله، والاتحاد محال، فبقي المساواة وله الولاية العامة فكذا لمساويه)، قلنا: لا نسلم انّه لم يبق إلا المساواة ولا دليل على ذلك بل حمله على ذلك ممتنع...،

ص: 26


1- منهاج السنة، ج7، ص123.

فقد اعتمد ابن تيمية في ردّه استدلال العلامة الحلي بآية المباهلة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: لا أحد يساوي رسول الله عليهم السلام، فحمل اللفظ على المساواة حينئذ ممتنع.

الأمر الثاني: لفظ (النفس) في لغة العرب لا يقتضي المساواة واستشهد لذلك ببعض الآيات القرآنية.

الأمر الثالث: لفظ (النفس) يدلّ على المجانسة والمشابهة والتجانس والتشابه يكونان بالاشتراك في بعض الأمور كالاشتراك في الايمان والدين.

الردّ:

أمّا الأمر الأول فردّه:

من الواضح عدم مساواة أحد لرسول الله صلى الله عليه و آله على الاطلاق، وإنّما المقصود منها في قوله تعالى: (وَ أَنْفُسَنا) هو القرب المعنوي للإمام عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه و آله، فكان صلى الله عليه و آله يشاهد نفسه في الإمام عليه السلام؛ لما يراه من استنانه به على النحو الأتمّ الأكمل حتى حاكاه في كماله وحكمته وسائر خصاله الكريمة وصفاته الحميدة، وذلك ليس بممتنع عقلاً، وإلا فلا معنى لقوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب/21].

وهذا القرب المعنوي للإمام عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه و آله هو الذي أهّله لدعوته لحضور المباهلة دون من سواه.

ص: 27

فقوله تعالى: (وَ أَنْفُسَنا) شهادة على أنّ الإمام عليه السلام قد حاكى رسول الله صلى الله عليه و آله في كريم خصاله وحميد صفاته وتمام كماله حتى كان الرسول الكريم صلى الله عليه و آله يرى فيه نفسه، وهذا ليس بممتنع، وهو المراد من المساواة في كلام العلامة الحلي فيما حكاه عنه ابن تيمية، وإلا فلا أحد يساوي رسول الله صلى الله عليه و آله على الاطلاق، كيف وكلّ ما عند الإمام عليه السلام من كمال فهو من رسول الله صلى الله عليه و آله وبواسطته؟!

وهذه فضيلة عظيمة للإمام عليه السلام، وشهادة قوية على أفضليته، بقرينة فهم الصحابة وقول سعد بن أبي وقاص: لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إلي من حمر النعم، وسكوت معاوية مع شدّة مكره ودهائه.

وأمّا الأمر الثاني فردّه:

ما ذكره من أنّ لفظ النفس في لغة العرب (لا يقتضي المساواة) ، يرد عليه:

إنّ النفس في اللغة لها عدّة معانٍ:

منها: الروح، والتنفّس، والخلق والجلادة والسخاء، قال الخليل الفراهيدي في كتاب العين: النفس، وجمعها النفوس: لها معان، النفس: الروح الذي به حياة الجسد، وكل انسان نفس حتى آدم عليه السلام، الذكر والأنثى سواء، وكل شيء بعينه نفس، ورجل له نفس، أي: خلق وجلادة وسخاء، والنفس: التنفس، أي: خروج النسيم من الجوف، وشربت الماء بنفس، وثلاثة أنفاس، وكل

ص: 28

مستراح منه نفس، وشيء نفيس: متنافس فيه، ونفست به علي نفسا ونفاسة: [ضننت]، ونفس الشيء نفاسة، أي: صار نفيساً، وهذا المكان أنفس من ذاك، أي: أبعد شيئاً، والنفاس: ولادة المرأة، فإذا وضعت كانت نفساء حتى تطهر، ونفست فهي منفوسة، وغاية نفاسها: أربعون يوماً، والنافس: الخامس من القداح (1).

ومنها: عين الشيء، قال الجوهري في الصحاح: ونفس الشيء: عينه، يؤكد به، يقال: رأيت فلاناً نفسه، وجاءني بنفسه (2).

ومنها: جملة الشيء وحقيقته، قال ابن منظور في لسان العرب عن أبي إسحاق: النفس في كلام العرب يجري على ضربين، أحدهما: قولك خرجت نفس فلان أي روحه، وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا أي في روعه، والضرب الآخر: معنى النفس فيه معنى جملة الشيء وحقيقته، تقول: قتل فلان نفسه وأهلك نفسه أي أوقت الإهلاك بذاته كلها وحقيقته، والجمع من كل ذلك أنفس ونفوس (3).

وإرادة أحد هذه المعاني يحتاج إلى قرينة، والمتعين منها في آية المباهلة هو أحد المعنيين الأخيرين، أعني (عين الشيء) أو (جملة الشيء وحقيقته)؛ إذ لا معنى لأن يدعو الانسان روحه

ص: 29


1- كتاب العين، ج7، ص270، مادة (نفس)
2- الصحاح، ج3، ص984، مادة (نفس)
3- لسان العرب، ج6، ص234، مادة (نفس)

التي بها حياته المادية المحركة للجسم كما لا معنى لأن يقصد بالنفس التنفس وهو خروج النسيم من الجوف أو أن يقصد بها السخاء والخلق.

والحاصل أنّ أحد معاني لفظ النفس في لغة العرب هو جملة الشيء وحقيقته، ومعناه الآخر هو عين الشيء، وهذان المعنيان أشدّ من المساواة، ومنه يتضح أنّ دعوى ابن تيمية بأنّ لفظ النفس في لغة العرب (لا يقتضي المساواة) أبعد ما تكون عن الواقع بشهادة كبار علماء اللغة.

وأمّا ما استشهد به من الآيات القرآنية فيرد عليه:

إنّ النفس لها عدّة معانٍ على ما تقدّم، ويتعين أحدها من خلال القرينة، والآيات الكريمة المستشهد بها تأبى جميعها عن حمل لفظ (النفس) فيها على المساواة كما أقرّ بذلك ابن تيمية نفسه، بعكس آية المباهلة التي تأبى عن حمل هذا اللفظ فيها إلا على جملة الشيء وحقيقته أو عينه.

فليس الكلام في انحصار لفظ (النفس) بمعنى المساواة حتى يستشهد بهذه الآيات الكريمة التي تأبى عن حمل هذا اللفظ على هذا المعنى، وإنّما الكلام في أصل استعمال لفظ (النفس) في المساواة وعدمه، فقد أنكره ابن تيمية واستشهد عليه بعدم جواز حمله على هذا المعنى في الآيات الكريمة التي ذكرها، واثبتناه نحن بشهادة علماء اللغة الذين نصّوا على أن لفظ النفس لها عدّة

ص: 30

معاني، وبالتالي فعدم جواز حمله على المساواة في بعض الآيات الكريمة لا يستلزم ذلك في الآيات الاُخرى التي ورد بها هذا اللفظ، وإنّما يتعين معناه من خلال القرينة.

وأمّا الأمر الثالث فردّه:

إنّ المستدلّ بالآية الكريمة قد استدلّ بها على أمرين أساسيين، أحدهما أنّ الذين باهل بهم رسول الله صلى الله عليه و آله شركاء في الدعوة، والآخر أنّ أهمّ أسباب إشراك الإمام عليه السلام في المباهلة هو قربه المعنوي من رسول الله صلى الله عليه و آله، ومحاكاته له في خصاله وصفاته حتى سمّاه القرآن الكريم نفس رسول الله صلى الله عليه و آله؛ لشدّة هذه المحاكاة.

ودعوى المجانسة والمشابهة غريبة عن الاستدلال الأول؛ إذ إنّ المستدلّ لم يستدلّ بخصوص لفظ (أَنْفُسَنا) على ذلك حتى يقال إنّه يدل على المجانسة والمشابهة، وإنّما استدلّ عليه بأصل المباهلة وأنّ المباهلة بهم تقتضي إشراكهم في الدعوة.

ولا تؤثر في الاستدلال الثاني، إذ إنّ المستشكل يقر بالاشتراك في بعض الأمور كالايمان والدين، والمقصود منهما هو الإيمان والدين الحقيقيان ولوازمهما بشهادة الآية المباركة (وَ أَنْفُسَنا) ، لا الظاهري الذي يحصل بمجرد النطق بالشهادتين أو الشكلي المعرى عن اللوازم، وهذا هو مقصودنا من المحاكاة وإلا فمن الواضح أنّهما لا يشتركان في الخصائص المادية الجسدية

ص: 31

كالطول والوزن واللون وما شاكل، ولا في مقام النبوة، بل كل مقامات القرب الإلهي هي لرسول الله صلى الله عليه و آله بالأصالة والذات، وللإمام عليه السلام بواسطة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، فكلّ ما عند علي عليه السلام هو من رسول الله صلى الله عليه و آله، فعلي عليه السلام قد اهتدى بنور رسول الله صلى الله عليه و آله وتبعه حذو القذة بالقذة وأطاعه بشكل تام وأمتثل أوامره بلا أدنى ريبة أو تردد واستنّ بسنته على أكمل وجه، فكان الأنموذج الأتم الأكمل للرسول الكريم صلى الله عليه و آله بدلالة (وَ أَنْفُسَنا) .

مضافاً إلى أنّ نصّ الآية الكريمة هو: (وَ أَنْفُسَنا) ، وهناك فرق واضح بين قولنا: (كرسول الله صلى الله عليه و آله)، وقولنا: (نفس رسول الله صلى الله عليه و آله)، فلو كان المقصود المجانسة والمشابهة لاستعمل أدواتهما في اللفظ.

ودعواه فساد معنى المساواة في المورد باعتبار أن لا أحد يساوي رسول الله صلى الله عليه و آله وأنّ لفظ (النفس) في لغة العرب لا تقتضي هذا المعنى، لا تصلح لأن تكون قرينة أو شاهد على المجانسة والمشابهة؛ لما مرّ آنفاً من أنّ هذا اللفظ له عدّة معانٍ في لغة العرب والمتعين منها في المورد هو جملة الشيء وحقيقته أو عينه، وأنّ قوله تعالى: (وَ أَنْفُسَنا) يدلّ على أنّ الإمام عليه السلام قد حاكى رسول الله صلى الله عليه و آله في كريم خصاله وحميد صفاته وتمام كماله حتى كان الرسول الكريم صلى الله عليه و آله يشاهد فيه نفسه، وهذا ليس بممتنع، وهو المراد من المساواة في كلام العلامة الحلي فيما حكاه عنه ابن تيمية.

ص: 32

الشبهة الثانية: المباهلة إنمّا تحصل بالأقربين

اشارة

قال ابن تيمية:

والمباهلة إنّما تحصل بالأقربين إليه وإلا فلو بأهلهم بالأبعدين في النسب وإنْ كانوا أفضل عند الله لم يحصل المقصود؛ فإنّ المراد أنّهم يدعون الأقربين كما يدعو هو الأقرب إليه، والنفوس تحنوا على أقاربها ما لا تحنوا على غيرهم، وكانوا يعلمون أنّه رسول الله صلى الله عليه و آله، ويعلمون أنّهم إنْ باهلوه نزلت البهلة عليهم وعلى أقاربهم، واجتمع خوفهم على أنفسهم وعلى أقاربهم، فكان ذلك أبلغ في امتناعهم، وإلا فالإنسان قد يختار أن يهلك ويحيا ابنه، والشيخ الكبير قد يختار الموت إذا بقي أقاربه في نعمة ومال، وهذا موجود كثير، فطلب منهم المباهلة بالأبناء والنساء والرجال والأقربين من الجانبين، فلهذا دعا هؤلاء، وآية المباهلة نزلت سنة عشر لمّا قدم وفد نجران، ولم يكن النبي صلى الله عليه و آله قد بقي من أعمامه إلا العباس، والعباس لم يكن من السابقين الأولين، ولا كان له به اختصاص كعليٍّ، و أمّا بنو عمّه فلم يكن فيهم مثل عليٍّ، وكان جعفر قد قتل قبل ذلك، فإنّ المباهلة كانت لمّا قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر وجعفر قتل بمؤتة سنة ثمان، فتعين عليٌّ (رضى الله عنه)، وكونه تعين للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه لا يوجب أن يكون مساوياً للنبي صلى الله عليه و آله في شيء من الأشياء، بل ولا أن يكون أفضل من سائر الصحابة مطلقاً، بل له بالمباهلة نوع فضيلة، وهي مشتركة بينه وبين

ص: 33

فاطمة وحسن وحسين، ليست من خصائص الإمامة، فإنّ خصائص الإمامة لا تثبت للنساء، ولا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة (1).

الردّ على الشبهة

ابن تيمية في إشكاله على الإستدلال بآية المباهلة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام اعتمد على ثلاثة أمور، هي:

الأمر الأول: المباهلة إنّما تحصل بالأقربين، وتعيّن أصحاب الكساء للمباهلة لأنة ليس في الأقارب من يقوم مقامهم.

الأمر الثاني: المباهلة نوع فضيلة مشتركة بين الإمام عليه السلام وبين فاطمة وحسن وحسين عليهم السلام، وليست هي من خصائص الإمامة، فإنّ خصائص الإمامة لا تثبت للنساء.

الأمر الثالث: النقض بفاطمة وحسن وحسين، فمع أنّهم من المباهل بهم إلا أنّهم ليسوا أفضل من جميع الصحابة.

الردّ:

أمّا الأمر الأول فجوابه:

إنّ المباهلة مع وفد نصارى نجران إنّما كانت في أواخر الدعوة حيث انتشر الإسلام وأخذ موقعه في النفوس وتوسعت

ص: 34


1- منهاج السنة، ج7، صص125 - 127.

الرقعة الجغرافية لبلاد المسلمين بحيث أصبح من غير الممكن القضاء عليه بموت شخص رسول الله صلى الله عليه و آله، بدليل خطاب الله تعالى للمؤمنين: (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ) [آل عمران/144].

فالآية صريحة في أنّ دعوة رسول الله صلى الله عليه و آله قد وصلت إلى مستوى لا يؤثر فيها رحيله، كما لا يؤثر فيها انقلاب من ينقلب من المسلمين على عقبيه بعد رحيل الرسول الكريم صلى الله عليه و آله.

ويشهد لذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله لم يعش بعدها إلا سنة أو سنتين ونيف.

وكان نصارى نجران يعون هذه الحقيقة، وأنّه من غير الممكن القضاء على الإسلام برحيل شخص رسول الله صلى الله عليه و آله، ولذا جاؤوا وهم يتطلعون إلى القضاء على دعوته المباركة قبل القضاء على شخصه الكريم، وهذا الأمر إنّما يتمّ لهم بالقضاء على كل عناصر الدعوة ومقومات بقائها، ولذا باهل رسول الله صلى الله عليه و آله بما يضمن لهم تحقيق هدفهم في حال فوزهم بالمباهلة.

ص: 35

فالمباهلة في حقيقة الأمر كانت بين دعوتين، يقف على طرف منها الإسلام وتقف على الطرف الآخر النصرانية، وقد جلب كل طرف من المتباهلين عناصر الدعوة وبقائها، بحيث تزول عن الوجود بهلاكها في المباهلة.

وببيان آخر: إنّ المباهلة بين طرفين تارة تكون بسبب أمر شخصي، وتارة أُخرى تكون بسبب دعوة (أمر عام)، وهذه الدعوة تارة تكون قائمة بشخص المتباهل، وتارة اخرى تكون غير قائمة بشخص المتباهل وإنّما تستمرّ دعوته حتى على فرض زواله.

ولا يمكن لعاقل ادّعاء أنّ المباهلة بين رسول الله صلى الله عليه و آله ونصارى نجران كانت بسبب أمر شخصي.

إذن، هي بسبب دعوة، لكن الدعوة المباركة لرسول الله صلى الله عليه و آله هل هي قائمة بشخصة الكريم أم لا؟

وبصدد الإجابة عن هذا السؤال نقول: لم تكن الدعوة المباركة آنذاك قائمة بشخص رسول الله صلى الله عليه و آله، لأنّ المباهلة وقعت في أواخر الدعوة بحيث لم يعش الرسول الكريم صلى الله عليه و آله بعدها إلا سنة ونيف، فرحيل شخصه الكريم لم يكن كافياً للقضاء على دعوته آنذاك.

وعليه: فلا بد أن يكون المباهل بهم من جانب الإسلام هم عناصر الدعوة وضمان بقائها.

ومنه يظهر فساد قوله: (المباهلة إنّما تحصل بالأقربين)، وكذا قوله: (ليس في الأقارب من يقوم مقامه) ، فهذا إنّما يكون في المباهلة التي تكون بسبب أمر شخصي، والحال أنّ المباهلة بين رسول الله صلى الله عليه و آله وعترته وبين نصارى نجران كانت بسبب دعوة

ص: 36

غير قائمة بشخص رسول الله صلى الله عليه و آله وإنّما تستمرّ دعوته حتى على فرض زواله، وعليه فينبغي إحضار عناصر الدعوة وبقائها لاأقارب صاحب الدعوة.

مضافاً إلى أنّ الملاك في حضور المباهلة لو كان هو القرابة لما انحصرت الدعوة بهؤلاء الخمسة، ولدعي إليها غيرهم من الأقارب؛ لوجود المقتضي وعدم المانع، كالعباس عمّ رسول الله عليه السلام وهو أقرب من الإمام عليه السلام، وكنساء النبي الكريم صلى الله عليه و آله أمّهات المؤمنين أو إحداهن على الأقل، فكان ذلك أبلغ في امتناعهم.

وقوله:

(إنّ العباس لم يكن من السابقين الأولين، ولا كان له به اختصاص كعليّ) ، لا يمكن أن يكون مانعاً لعدم دعوته، مع أنّ تقسيم الصحابة إلى (السابقين الأولين) وغيرهم، وُلد بعد رحيل الرسول الكريم صلى الله عليه و آله ولم يكن مترسخاً في الأذهان، فلم تكن في حياته مثل هذه التقسيمات.

وببيان آخر: إنّ دعوة الإمام عليه السلام إمّا كانت على أساس الرحم، فالعباس أقرب رحماً منه إلى رسول الله صلى الله عليه و آله، وإمّا على أساس الفضل؛ فيثبت أنّه الأفضل بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، وإمّا على أساس الرحم والفضل معاً، فيثبت أنّه الأفضل أيضاً.

وما قد يقال: إنّ الملاك هو الفضل، لكنّه مختصّ بأقارب النبي الكريم صلى الله عليه و آله الموجودين آنذاك، فهو أفضلهم.

ص: 37

لا دليل عليه، فأين هذا المخصّص الذي يثبت أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله دعا أقاربه للمباهلة على أساس الفضل، فأقربهم إليه أفضلهم؟!

وكيف يمكن إسكات نصارى نجران بمثل هذه الحجة، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه و آله مثلاً: إنّي جلبت ابن عمّي معي دون عمّي، لأنّه أفضل منه، وأنّه من السابقين الأولين ولي اختصاص به دونه؟!

فإذا كان المقصود المباهلة بالأقربين فقط، فلا مانع من إحضار العباس وأمّهات المؤمنين أو إحداهنّ على الأقل للمباهلة، إذ إنّ ذلك أبلغ في امتناعهم.

والحاصل أنّ الهدف الأساسي للمباهلة لم يكن القضاء على شخص رسول الله صلى الله عليه و آله وإنّما القضاء على دعوته المباركة، وقد وقعت أواخر الدعوة الإسلامية بحيث لم يعش الرسول الكريم صلى الله عليه و آله بعدها إلا سنة ونيف، وقد أخذ الإسلام موقعه في النفوس وتوسعت بلاد المسلمين، ولم يكن بالإمكان زواله برحيل شخص رسول الله صلى الله عليه و آله، وكان نصارى نجران يعون ذلك، وكان هدفهم القضاء على الداعي والدعوة، فأحضر لهم رسول الله صلى الله عليه و آله ما يضمن لهم وصولهم إلى هدفهم في حال فوزهم بالمباهلة، فأصحاب المباهلة هم عناصر الدعوة وبقائها، لاأقارب صاحب الدعوة. نعم، اجتمع كلا الامرين في مباهلة

ص: 38

الرسول الكريم صلى الله عليه و آله حيث باهل بعترته وعناصر بقاء واستمرار دعوته.

وأمّا الأمر الثاني فردّه:

إنّ المباهلة بالأئمة من آل محمد صلى الله عليه و آله ليست واجبةً في صفاتهم وليست شرطاً في إمامتهم، وإنّما أكرمهم الله تعالى بها، وأعلمهم تعالى بواسطتها للمؤمنين، للطف في طاعتهم و التمسك بإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلاً، ولكنه وجب لهم من جهة السماع.

وأمّا الأمر الثالث فردّه:

إنّ ذلك عين المدعى، فلا نسلم بأفضلية أحد من الصحابة على العترة، والبحث موكول لمحله، خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الصحابة قد تقلبوا عقوداً مديدة بين أحضان الشرك والإلحاد.

ولا ينفع هنا القول إنّ الإسلام يجبُّ ما قبله، لأنّ الكفر يحرم المرء من بعض الأمور حتى بعد الإيمان، ممّا يضيق من دائرة كمالهم، ويشهد لذلك اتفاق علماء المسلمين على عدم جواز الكفر للأنبياء عليهم السلام قبل البعثة، إلا ما يلزم من قول الخوارج بكفر مرتكب الكبيرة، إذ إنّهم جوّزوا ارتكاب الكبيرة على الأنبياء قبل البعثة.

بيان ذلك: إنّ الكفر غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قبل البعثة

ص: 39

بإجماع جمهور المسلمين، وهذا يكشف عن أنّ الكفر منقصة عظيمة وأنه يُحرّم على المرء بعض المقامات الإلهية وإنْ عاد إلى الإيمان، ولازمه أنّ دائرة حركة تكامل المؤمن الذي رضع من ثدي الكفر والإلحاد أضيق من دائرة حركة تكامل المؤمن الذي تغذّى من ثدي التوحيد طيلة حياته، ومعظم الصحابة قد رضعوا من ثدي الكفر عقود من حياتهم.

وعليه: فمهما بلغت كمالات وفضائل الصحابة يبقى أنّهم كانوا كفاراً لعدّة عقود، وهذا يضيّق من دائرة كمالهم، فلا يقاسون بالحسنين عليهماالسلام.

فهل يقاس من رضع من ثدي الكفر والإلحاد طيلة عقود من حياته بمن رضع من ثدي الإيمان وتربى في حجر النبوة وتردد في اكناف الوحي في كلّ لحظات حياته؟!

وعلى كلّ حال فمسألة الأفضلية محل بحث بين المذاهب الإسلامية، ولا نريد أن نقحمها بالبحث إلا بمقدار ما تقدّم.

وما قد يقال بأنّ بعض الصحابة كانت كمالاتهم فعلية حين نزول آية المباهلة، بخلاف الحسن والحسين فقد كانا صغيرين وغير مكَلَفين.

فجوابه أنّ فضائل الحسنين عليهماالسلام على لسان رسول الله صلى الله عليه و آله ثابتة لهما في زمن صدورها حيث كانا صغيرين، لا بعد بلوغهما، ككونهما سيدا شباب أهل الجنة، فقد تعلّقت بهما هذه الفضيلة

ص: 40

حين صدور الحديث لا بعد البلوغ.

وحديث أنّ «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» أخرجه الترمذي في سننه عن محمود بن غيلان، حدثنا أبو داوود الحفري، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله :«الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، وأخرج عن سفيان بن وكيع، حدثنا جرير ومحمد بن فضيل، عن يزيد، نحوه، وقد صحّح الترمذي سنده ووافقه الألباني (1).

وأخرجه أحمد في مسنده عن محمد بن عبد الله الزبيري، حدثنا يزيد بن مردانية، قال: حدثنا ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال: نحوه، وقد صحّح سنده شعيب الأرنؤوط (2).

ص: 41


1- سنن الترمذي، ج5، ص656، ح3768، كتاب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين (عليهما السلام)، الاحاديث مذيلة بأحكام الالباني عليها.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص3، ح11012، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.

وأخرجه في مسنده عن أبي نعيم، حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال: نحوه، وقد صحّح سنده شعيب الأرنؤوط (1).

وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعم، حدثني أبي، عن أبي سعيد الخدري، قريب منه، وقد صحّح سنده شعيب الأرنؤوط. (2)

وأخرجه الترمذي في سننه عن عبد الله بن عبد الرحمن و إسحاق بن منصور، قالا: أخبرنا محمد بن يوسف، عن إسرائيل بن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن حذيفة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال له:

«إنّ هذا ملك لم ينزل الأرض قطُّ قبل هذه الليلة، استأذن ربّه أنّ يسلم عَلَيَّ ويبشرني بأنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، وقد حسن الترمذي سنده وصحّحه الألباني (3).

وأخرجه أحمد في مسنده عن حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن

ص: 42


1- مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص82، ح11794، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.
2- صحيح ابن حبان، ج15، ص411، ح6959، كتاب إخباره (صلى الله عليه وسلم) عن مناقب الصحابة، ذكر البيان بأن سبطي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) يكونا في الجنة سيدا شباب أهل الجنة، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.
3- سنن الترمذي، ج5، ص660، ح3781، كتاب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين (عليهما السلام)، الاحاديث مذيلة بأحكام الالباني عليها.

حذيفة، نحوه، وقد صحّح سنده شعيب الأرنؤوط (1).

وأخرجه في مسنده عن أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، عن حذيفة، قال:

أتيت النبي صلى الله عليه و آله فصليت معه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم تبعته وهو يريد يدخل بعض حجره، فقام، وأنا خلفه، كأنّه يكلم أحداً، قال: ثم قال: «من هذا؟»، قلت: حذيفة، قال: «أتدري من كان معي؟»، قلت: لا، قال: «فإنّ جبريل جاء يبشرني أنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، وقد صحّح سنده شعيب الأرنؤوط (2).

ص: 43


1- مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص391، ح23377، باقي مسند الانصار، حديث حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص392، ح23378، باقي مسند الانصار، حديث حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.

وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، عن اسرائيل، عن ميسرة النهدي، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن حذيفة، قريب منه، وقد صحّح سنده شعيب الأرنؤوط. (1)

وأخرجه ابن ماجة في سننه عن محمد بن موسى الواسطي، حدثنا المعلى بن عبد الرحمن، حدثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: « قال رسول الله صلى الله عليه و آله :

«الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما»، وقد صحّح سنده الألباني (2).

الشبهة الثالثة: لم يكن المقصود إجابة الدعاء

اشارة

قال ابن تيمية في ردّ ما حكاه عن العلامة الحلي: (لو كان غير هؤلاء مساوياً لهم أو أفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه؛ لأنّه في موضع الحاجة):

لم يكن المقصود إجابة الدعاء، فإنّ دعاء النبي صلى الله عليه و آله وحده كافٍ، ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلّهم ودعا بهم، كما كان يستسقي بهم، وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، وكان يقول: «وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» بدعائهم وصلاتهم و إخلاصهم، ومن المعلوم أنّ هؤلاء وإن كانوا مجابين فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة، لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل، ونحن نعلم بالاضطرار أنّ النبي صلى الله عليه و آله لو دعا أبا بكر وعمر

ص: 44


1- صحيح ابن حبان، ج15، ص413، ح6960، كتاب إخباره (صلى الله عليه وسلم) عن مناقب الصحابة، ذكر البيان بأن الملك بشر المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بهذا الذي وصفناه (بأن سبطي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) يكونا في الجنة سيدا شباب أهل الجنة)، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.
2- سنن ابن ماجة، ج1، ص44، ح118، باب في فضائل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فضل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها.

وعثمان و طلحة و الزبير وابن مسعود وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة لكانوا من أعظم الناس استجابة لأمره، وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء، لكن لم يأمره الله سبحانه بأخذهم معه؛ لأنّ ذلك لا يحصل به المقصود، فإنّ المقصود أنّ أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم، فلو دعا النبي صلى الله عليه و آله قوماً أجانب لأتى أولئك بأجانب ولم يكن يشتدّ عليه نزول البهلة بأولئك الأجانب كما يشتدّ عليهم نزولها بالأقربين إليهم، فإنّ طبع البشر يخاف على أقربيه مالا يخاف على الأجانب، فأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يدعو قرابته وأن يدعو أولئك قرابتهم، والناس عند المقابلة تقول كل طائفة للأخرى ارهنوا عندنا أبناءكم ونساءكم، فلو رهنت إحدى الطائفتين أجنبياً لم يرض أولئك كما أنّه لو دعا النبي الأجانب لم يرض أولئك المقابلون له، ولا يلزم أن يكون أهل الرجل أفضل عند الله إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله (1).

الردّ على الشبهة

ابن تيمية في إشكاله على الاستدلال بآية المباهلة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام اعتمد على ثلاثة أمور، هي:

الأمر الأول: لم يكن المقصود إجابة الدعاء، بل المقابلة بين

ص: 45


1- منهاج السنة، ج7، صص127 و 128.

الأهل والأهل.

الأمر الثاني: لم يأمر الله سبحانه رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بأخذ أبي بكر وعمر وعثمان ومن ذكر، لأنّ ذلك لا يحصل به المقصود، فالمقصود أنّ أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً، كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم.

الأمر الثالث: لا يلزم أن يكون أهل الرجل أفضل عند الله إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله.

الردّ:

أمّا الأمر الأول فالردّ عليه:

ما ذكره أولاً من أنّ المقصود من المباهلة ليس إجابة الدعاء، بل هو: أنّه رجم بالغيب ودعوى بلا دليل، خصوصاً وأنّ منهجه حديثي ولا يحرك ساكناً من دون حديث صحيح، فأين الدليل من القرآن أو السنة على أنّ المقصود من المباهلة ليس إجابة الدعاء؟

بل هو على خلاف الدليل، فقد مرّ أنّ أصل الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، فكيف يدعو المباهل ولايقصد بدعائه إجابة دعائه؟!

وقد نصّت ألفاظ القصة على أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه و آله كان قاصداً إهلاك النصارى بالدعاء عليهم؛ ولذا أحجموا عنها، قال الجصاص حول آية المباهلة: فنقل رواة السير ونقلة الأثر

ص: 46

لم يختلفوا فيه أنّ النبي صلى الله عليه و آله أخذ بيد الحسن والحسين وعليّ وفاطمة (رضي الله عنهم)، ثمّ دعا النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة، فأحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة (1).

وقد روى جمهور المفسرين، كالثعلبي والواحدي والبغوي والنسفي والرازي والقرطبي والبيضاوي والسيوطي وأبي السعود والآلوسي وغيرهم، عند تفسير آية المباهلة أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ (رضي الله عنه) خلفها، وهو يقول لهم: «إذا أنا دعوت فأمنوا». (2)

وتقدم أنّ قوله تعالى: (الْكاذِبِينَ) في الآية المباركة مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس؛ إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب، بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه صلى الله عليه و آله وبين النصارى،

ص: 47


1- أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر، ج2، ص295.
2- تفسير الثعلبي، ج3، ص85؛ تفسير الواحدي، ج1، ص214؛ تفسير البغوي، ج1، ص310؛ تفسير النسفي، ج1، ص158؛ تفسير الرازي، ج8، ص85؛ تفسير القرطبي، ج4، ص104؛ تفسير البيضاوي، ج1، ص46؛ تفسير الجلالين، السيوطي، ج1، ص72؛ تفسير أبي السعود، ج2، ص46؛ تفسير الآلوسي، ج3، ص188.

ومقتضى ذلك أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى على ما تقدم بيانه فلاحظ.

وأمّا ما ذكره ثانياً من أنّ المقصود من المباهلة هو المقابلة بين الأهل والأهل، فيرد عليه أنّه رجمٌ بالغيب ودعوى بلا دليل أيضاً، وأنّ ذلك على فرض صحته فإنّما يقتصر على المباهلة بسبب أمر شخصي أو قائم بشخص المتباهل بحيث يزول بزواله، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ إذ إنّ الدعوة المباركة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله لم تكن قائمة بشخصه الكريم آنذاك، حيث وقعت المباهلة في أواخر الدعوة وكان الإسلام قد انتشر وأخذ مأخذه في نفوس المؤمنين ولم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه و آله إلا سنة أو سنتين ونيف على ما تقدّم بيانه فلاحظ.

وأمّا الأمر الثاني فردّه:

ما ذكره أولاً من أنّ الله سبحانه لم يأمر رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بأخذ أبي بكر وعمر وعثمان ومن ذكر؛ لأنّ ذلك لا يحصل به المقصود، فهو كلام رصين لا غبار عليه.

وأمّا ما ذكره ثانياً من أنّ المقصود هو أنّ أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم، فردّه هو: أنّه رجم بالغيب ودعوى بلا دليل أيضاً، بل إنّ المقصود هو أنّ أولئك يأتون بأصحاب الدعوة وعناصرها ورموز بقائها ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم

ص: 48

في خصالهم وصفاتهم ممّا يؤهلهم لضمان استمرار الدعوة بعد رحيل صاحبها الأصلي، فإنّ سبب المباهلة الأساسي هو القضاء على الدعوة وضمان عدم استمرارها، وإلا فرسول الله صلى الله عليه و آله كشخص لا يراد زواله بالدرجة الأولى من النصارى وغيرهم، خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار اشتهاره بينهم قبل الدعوة بالأمانة والصدق وسائر الخصال الحميدة، ولا شكّ في أنّ أيّ مجتمعٍ سيرغب بشخصٍ بمثل هذه الخصال الحميدة، فهم وغيرهم من المشركين إنّما أرادوا زواله وموته بما أنّه صاحب دعوة، ولو فرض رفع يده عن دعوته لما طلبوا موته.

وأمّا الأمر الثالث فردّه:

الإطلاق في دعواه أنّه (لا يلزم أن يكون أهل الرجل أفضل عند الله إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله) باطلٌ، إذ إنّ ذلك خاصٌّ فيما لو كانت مباهلته بهم لأجل أمرٍ شخصيٍّ خاصٍّ بهم، وأنّ المقصود منها ليس إجابة الدعاء.

وأمّا إذا كانت المباهلة لأجل دعوة وهذه الدعوة غير قائمة بشخص الداعي، فلازم ذلك أنّ المدعويين لها من قبل الله تعالى هم شركاء فيها وعنصر ضمان لاستمرارها، كما أنّ لازم كون المقصود منها إجابة الدعاء هو أنّ المدعويين لها من قبل الله تعالى هم ممن يستجاب بهم الدعاء، ولازم ذلك - لازم اللازم - أنّ المدعويين لها من قبل الله تعالى هم الأفضل على الإطلاق.

ص: 49

الشبهة الرابعة: قوله: (نِسَاءَنَا)، (أَنْفُسَنَا)، لا يختص بفاطمة وعلي عليهماالسلام

اشارة

قال ابن تيمية: قوله:

(نساءنا) لا يختصّ بفاطمة، بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك، لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة فإنّ رقية و أم كلثوم و زينب كنّ قد توفين قبل ذلك، فكذلك (أنفسنا) ليس مختصاً بعليٍّ، بل هذه صيغة جمع كما أنّه صيغة جمع، و كذلك (أبناءنا) صيغة جمع، و إنّما دعا حسناً و حسيناً لأنّه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما، فإنّ إبراهيم إن كان موجوداً إذ ذاك فهو طفل لا يدعى، فإنّ إبراهيم هو ابن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب مصر، و أهدى له البغلة و مارية و سيرين، فأعطى سيرين لحسان بن ثابت، و تسرى مارية فولدت له إبراهيم، و عاش بضعة عشر شهراً و مات، فقال النبي صلى الله عليه و آله: «إنّ له مرضعاً في الجنة تتم إرضاعه»، و كان إهداء المقوقس بعد الحديبية بل بعد حنين (1).

الردّ على الشبهة

ابن تيمية في إشكاله على الاستدلال بآية المباهلة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام اعتمد على ثلاثة أمور، هي:

الأمر الأول: قوله: (نِساءَنا) لا يختصّ بفاطمة، بل من

ص: 50


1- منهاج السنة، ج7، ص128.

دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك، لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة.

الأمر الثاني: قوله: (أَنْفُسَنا) ليس مختصاً بعليٍّ، بل هذه صيغة جمع.

الأمر الثالث: قوله: (أَبْناءَنا) صيغة جمع، و إنّما دعا حسناً وحسيناً لأنّه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوّة سواهما.

الردّ:

أمّا الأمر الأول فردّه:

إنّ النسوة - بالكسر والضم - والنساء والنسوان: جمع المرأة من غير لفظه، وإذا كان اللفظ جمعاً، واحده اسم جمع، فعند النسبة ينسب إلى ذلك الواحد، فتقول في النسبة إلى (نساء): نسوي (1).

وقد غلب في الأزواج، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف إلى واحد أو جماعة دون ما إذا ورد غير مضاف، قال تعالى: (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الاحزاب/30].

فهو بحسب الأصل يشمل البنت والزوجة، وتتعين أحدهما بالقرينة، والمقصود من لفظ (نِساءَنا) في الآية الكريمة هو

ص: 51


1- لسان العرب، ابن منظور، ج15، ص321، مادة (نسا)؛ كتاب العين، الفراهيدي، ج7، ص305، مادة (نسا)؛ معجم ما استعجم، البكري الأندلسي، ج4، ص1305، مادة (نسا)

الأول، للاتفاق على دعوة خصوص فاطمة عليهاالسلام.

وقوله:

(لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة)، منقوض بنساء النبي الكريم صلى الله عليه و آله أُمّهات المؤمنين؛ إذ إنّهنّ داخلات ضمن اللفظ بحسب الأصل، وكذا بحسب الاستعمال العرفي، ويحصل بهنّ الغرض والمقصود من المباهلة ويكون ذلك أبلغ في امتناعهم، لكن مع ذلك لم يباهل بهنّ أو بإحداهن على الأقل.

فتخصيص بضعة رسول الله صلى الله عليه و آله فاطمة عليهاالسلام في قوله: ( نِسَاءَنَا ) مع وجود أُمّهات المؤمنين ودخولهنّ بحسب الأصل والعرف وغلبة الاستعمال، يكشف عن خصوصية الدعوة وأنّها خاصة لفاطمة عليهاالسلام دون غيرها، وعلى المانع الدليل الذي يصلح لمعارضة ذلك.

وأمّا الأمر الثاني فردّه:

إنّ قوله تعالى على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه و آله: (وَ أَنْفُسَنا) وإنْ كان صيغة جمع لكن لا يجوز حمله على غير شخص رسول الله صلى الله عليه و آله؛ أذ لا يوجد أحد اطلاقاً كرسول الله صلى الله عليه و آله، وقد أكثر القرآن الكريم من إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد.

وبحسب الاصطلاح المنطقي: المقتضي موجود، وهو أنّه لاأحد كرسول الله صلى الله عليه و آله، والمانع مفقود إذ قد أكثر القرآن الكريم من إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد.

وأمّا دخول الإمام عليه السلام في قوله تعالى: (وَ أَنْفُسَنا) فلوجود

ص: 52

القرينة القوية الصحيحة الدالة عليه، ولا مانع بحسب قواعد اللغة من اطلاق صيغة الجمع على المفرد أو المثنى، وقد أكثر القرآن الكريم من ذلك، ولا مانع أيضاً بحسب العقل والشرع من أنّ الإمام عليه السلام كنفس رسول الله صلى الله عليه و آله، بعد نفي الاتحاد وورود الأثر الصحيح الدالّ عليه، بل يتعيّن ذلك مع ورود هذا الأثر.

وأمّا الأمر الثالث فردّه:

إنّ قوله تعالى على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه و آله: ( وَ أَبْنائِنا) وإنْ كان صيغة جمعٍ، لكن لا مانع بحسب قواعد اللغة من اطلاق صيغة الجمع على المفرد أو المثنى، وقد أكثر القرآن الكريم من ذلك، وقد ورد في الأثر الصحيح أنّ المقصود منهم في الآية الكريمة خصوص الإمام الحسن والإمام الحسين عليهماالسلام، ومعه لا يجوز إطلاقه على غيرهما.

وأمّا زعمه أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قد دعا حسناً وحسيناً لأنّه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهم، فمنقوض بإبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه و آله، وزينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام.

فقد ولد إبراهيم عليه السلام في سنة ثمان وتوفي في سنة عشر، والمباهلة قد وقعت في سنة تسع أو عشر، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة:

إبراهيم بن سيد البشر محمد بن عبد الله بن عبدالمطلب ابن هاشم، أُمّة مارية القبطية، ولدته في ذي الحجة سنة ثمان، قال مصعب الزبيري: (ومات سنة عشر)، جزم به الواقدي، وقال: (يوم

ص: 53

الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول)، وقالت عائشة: (عاش ثمانية عشر شهراً)، وقال محمد بن المؤمل: (بلغ سبعة عشر شهراً وثمانية أيام)... وقال أحمد في مسنده: (حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن عائشة، قالت: (لقد توفي إبراهيم بن النبي صلى الله عليه و آله وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصل عليه)، إسناده حسن، ورواه البزار، وأبو يعلى، وصححه ابن حزم... وكانت وفاة إبراهيم في ربيع الأول، وقيل في رمضان، وقيل في ذي الحجة (1).

وزعمه أنّ إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه و آله طفل لا يدعى ، يرد عليه: أنّ عمر إبراهيم عليه السلام آنذاك كان سنة ونيف، وكان عمر الإمام الحسين عليه السلام خمس سنوات ونيف؛ إذ إنّه ولد في السنة الرابعة للهجرة (2)، وقد روى نقلة الأثر وكتاب السيرة وجمهور المفسرين ضمن واقعة المباهلة أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن (3).

ص: 54


1- الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج1، ص172، رقم 398
2- تهذيب الكمال، المزي، ج6، ص396، رقم 1323
3- تفسير الثعلبي، ج3، ص85؛ تفسير الواحدي، ج1، ص214؛ تفسير البغوي، ج1، ص310؛ تفسير النسفي، ج1، ص158؛ تفسير الرازي، ج8، ص85؛ تفسير القرطبي، ج4، ص104؛ تفسير البيضاوي، ج1، ص46؛ تفسير الجلالين، السيوطي، ج1، ص72؛ تفسير أبي السعود، ج2، ص46؛ تفسير الآلوسي، ج3، ص188.

فكلا من إبراهيم والحسين عليهماالسلام كانا آنذاك صغيري السنّ حتّى أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قد غدا إلى مباهلة النصارى محتضناً الحسين عليه السلام.

فلو كان المقصود أنّ أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم، فهذا يحصل بإبراهيم عليه السلام، بل ذلك أَوكد وأبلغ في امتناعهم، والفرق واضح بين المباهلة بالإبن ذي السنة والنيف وبين المباهلة بابن البنت ذي الخمس سنوات ونيف، فلا شكّ في أنّ المباهلة الأولى أكثر تأكيداً وأشدّ تأثيراً وأبلغ في الامتناع.

وقد ولدت زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه و آله في السنة الخامسة أو السادسة للهجرة، قال الحافظ ابن حجر:

زينب بنت عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمية، سبطة رسول الله صلى الله عليه و آله، أُمّها فاطمة الزهراء. قال ابن الأثير: إنّها ولدت في حياة النبي صلى الله عليه و آله (1).

والحاصل أنّ أمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه و آله مباهلة نصارى نجران بخصوص أصحاب الكساء الخمسة هو نصّ صريح ومتفق عليه، وما زعمه ابن تيمية هي مجرد اجتهادات شخصية وتحليلات خالية من القرينة الصحيحة، فلو كان الأمر كما ذكر

ص: 55


1- الإصابة، ابن حجر، ج7، ص684، رقم 11261.

فلا يضرّ دعوة إبراهيم عليه السلام وأمّهات المؤمنين وبعض الصحابة إلى جانب أصحاب الكساء الخمسة، فلا شكّ في أنّ ذلك سيكون أبلغ في الامتناع لنصارى نجران حيث يرون أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه و آله قد جائهم للمباهلة بابنه وزوجته أمّ المؤمنين وابنته وبعلها وابنيها وخاصّة أصحابه.

وقد اتّضح من خلال ما تقدم الردّ على ما قد يقال:

إنّ إحضار رسول الله صلى الله عليه و آله من حضر للمباهلة لا يدلّ على الشراكة في الدعوة، فكما أنّ النصارى الوافدين على رسول الله صلى الله عليه و آله أصحاب دعوى وهي أنّ المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا ولا بين نسائهم وبين رجالهم في ذلك، كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله صلى الله عليه و آله وهي أنّ الله لا إله إلا هو وأنّ عيسى بن مريم عبده ورسوله، كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي الكريم صلى الله عليه و آله، فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره، غير أنّ النبي الكريم صلى الله عليه و آله أحضر من أحضر منهم على سبيل الأنموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء والنساء والأنفس.

وحاصل الردّ:

لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الأنموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقل رجلين ونسوة وأبناءً ثلاثة، فليس

ص: 56

الإتيان بمن أتى به إلا للانحصار، وهو المصحّح لصدق الامتثال، بمعنى أنّه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلا من أتى به، وهو رجل وامرأة وابنان.

والمتأمل في القصة يجد أنّ وفد نجران من النصارى إنّما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله صلى الله عليه و آله ويحاجّوه في أمر عيسى بن مريم، فإنّ دعوى أنّه عبد الله ورسوله إنّما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدّعيه لنفسه، وأمّا الذين اتبّعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل ولا لهم في لقائهم هوى كما يدلّ على ذلك قوله تعالى في صدر الآية: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ) [آل عمران/61]، وكذا قوله تعالى قبل عدة آيات: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران/20].

ومن هنا يظهر أنّ إتيان رسول الله صلى الله عليه و آله بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتياناً بنحو الأنموذج، إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة والمباهلة حتّى يعرضوا للعن والعذاب المتردد بينهم وبين خصمهم، وإنّما أتى صلى الله عليه و آله بمن أتى به من جهة أنّه صلى الله عليه و آله كان طرف المحاجة والمداعاة فكان من حقّه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب، فلولا أنّ الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لاتيانه بهم وجه، فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم

ص: 57

بدعواه من الأبناء والنساء والأنفس بهم لا من جهة الاتيان بالأنموذج، فقد صحّ أنّ الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به.

ثم إنّ النصارى إنّما قصدوه صلى الله عليه و آله لا لمجرّد أنّه كان يرى أنّ عيسى بن مريم عليه السلام عبدٌ لله ورسوله ويعتقد ذلك، بل لأنّه كان يدّعيه ويدعوهم إليه، فالدعوة هي السبب الرئيس التي بعثهم على الوفود والمحاجة، فحضوره وحضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى والدعوة معاً، فقد كانوا شركاءه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى (1).

نتائج البحث

1 - من الوقائع المهمة في مسير دعوة النبي الكريم صلى الله عليه و آله هي قضية المباهلة التي وقعت في أواخر الدعوة الإسلامية في السنة العاشرة للهجرة النبوية المباركة، حيث أمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه و آله بمباهلة نصارى نجران (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران/61].

فغدا رسول الله صلى الله عليه و آله ومعه الحسن والحسين وعليّ وفاطمة عليهم السلام

ص: 58


1- تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، ج3، ص226.

فقط، دون ابنه إبراهيم عليه السلام ودون أمّهات المؤمنين ودون سبطته زينب بنت فاطمة وأمير المؤمنين عليه السلام، فلم تجبه النصارى إلى المباهلة خوفاً من اللعنة وقبلوا الجزية.

وقد أخرج ذلك الحفّاظ والمحدثون كمسلم في صحيحه، والترمذي في سننه، وأحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، واتفق عليه المفسرون، ونصّ الحاكم في (معرفة علوم الحديث) على تواتره، وصرّح الجصاص باتفاق رواة السير ونقلة الأثر عليه.

2 - من الدلالات المهمة للمباهلة بأصحاب الكساء الخمسة هو أنهم شركاء في الدعوى، فإنّ الكذب لا يكون إلا في دعوى، ولا يستلزم ذلك أنّهم شركاء في النبوة؛ إذ إنّ الدعوة والتبليغ ليسا بعين النبوة والبعثة وإنْ كانا من شؤونها ولوازمها ومن المناصب والمقامات الإلهية التي يتقلدها، وكذا ليسا بعين الإمامة وإنْ كانا من لوازمها بوجه.

3 - من الدلالات المهمة لآية المباهلة هو أنّ الله تعالى قد خصّ أهل بيت نبيه الكريم صلى الله عليه و آله باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسوله صلى الله عليه و آله من بين رجال الأمّة ونسائهم وأبنائهم، وهذا من أفضل المناقب.

وفي جعل رسول الله صلى الله عليه و آله أمير المؤمنين (عليه السلام) كنفسه على ما حكاه الله تعالى عنه بقوله سبحانه: (وَ أَنْفُسَنا) دلالة قوية على أنّ

ص: 59

الإمام عليه السلام قد حاكى رسول الله صلى الله عليه و آله في كماله وخصاله وصفاته حتى كان الرسول الكريم صلى الله عليه و آله يشاهد نفسه فيه، وهذا المعنى يساعد عليه العرف؛ إذ من المتعارف قولهم: (أُشاهد نفسي في هذا الشخص) عندما يرى أنّه يحمل كل خصاله، وهذه فضيلة عظيمة للإمام عليه السلام، وشهادة قوية على أفضليته.

ص: 60

المصادر

1. أحكام القرآن، الجصاص، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1415 ه.

2. الارشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد، الناشر: سعيد بن جبير - قم، الطبعة: الأولى، 1428 ه.

3. أسباب النزول، الواحدي، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: السابعة، 1419 ه.

4. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، الناشر: دار الفكر - بيروت الطبعة: الأولى، 1415 ه.

5. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، الناشر: دار الفكر - بيروت، 1415 ه.

6. تفسير الثعلبي (الكشف والبيان)، الثعلبي، الناشر: دار احياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 1422ه.

7. تفسير الفخر الرازي، الفخر الرازي، الناشر: دار الفكر - بيروت 1415 ه.

ص: 61

8. الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، الأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها.

9. سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني، الناشر:

دار الفكر - بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مع تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، والأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها.

10. صحاح الجوهري، اسماعيل بن حماء الجوهري، الناشر: دار العلم للملايين - بيروت الطبعة: الرابعة: 1407 ه.

11. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد أبوحاتم التميمي البستي، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الثانية، 1414ه، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.

12. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مع تعليق محمد فؤاد عبد الباقي.

13. كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي تحقيق: مهدي المخزومي، الناشر: مؤسسة دار الهجرة - إيران الطبعة: الثانية: 1409 ه.

14. لسان العرب، ابن منظور الافريقي، الناشر: أدب الحوزة - قم سنة 1405 ه.

ص: 62

15. المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1411ه، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، مع تعليقات الذهبي في التلخيص.

16. مسند أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني، الناشر: مؤسسة قرطبة - القاهرة، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.

17. معرفة علوم الحديث، الحاكم النيسابوري، الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت الطبعة: الرابعة، 1400ه.

18. منهاج السنة، ابن تيمية تحقيق: محمد رشاد سالم، الناشر: مؤسسة قرطبة الطبعة: الأولى، 1406 ه.

19. منهاج الكرامة، العلامة الحلي، تحقيق: عبد الرحيم مبارك، الناشر: مؤسسة عاشوراء - مشهد الطبعة: الأولى، 1379ش.

20. الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، الناشر: مؤسسة الاعلمي - بيروت الطبعة: الأولى، 1417ه .

ص: 63

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.