دروس تطبیقیة فی القواعد الاًخلاقیة

هویة الکتاب

العتبة العباسیة المقدسة.

قسم الشوون الفکریة و الثقافیة.

مَعْهَدُ تَرَاتُ الأَنْبِيَاءِ علیهم السلام، لِلدِرَاسَاتِ الحَوَزَوَنَة الالكترونية

المناهج الدراسية - المقدمات - الأولى.

دروس تطبیقیة فی القواعد الاَخلاقیة.

الشیخ حسین عبدالرضا الاَسدی

ص: 1

اشارة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

كربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600، داخلي: 175-163

الكتاب: دروس تطبيقية في القواعد الأخلاقية تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية.

لجنة المناهج :

الدكتور جبار محارب عبدالله الفريجي

الدكتور صباح خيري راضي العرداوي

الدكتور حيدر حسن ديوان الاسدي

المراجعة العلمية واللغوية لجنة الإشراف العلمي في معهد تراث الانبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي - محمد قاسم النصراوي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة و النشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 500 .

ربيع

الأول 1442ه- - تشرين الأول 2020

ص: 2

الإهداء

إلى من كان كجده المصطفى صادقاً أميناً ..

إلى من أسس قواعد العلم وضَبَط مناهج المعرفة ..

إلى من نسبنا إليه فتشرفنا ..

إلى من كان زيناً، وأراد أن نكون له زيناً ..

إليك يا مولاي..

يا جعفر بن محمد الصادق..

يا بحر العلم الزاخر..

أُهدي لك جهداً، بالاعتذار مشفوعاً..

وبطلب الصفح عن التقصير مصحوباً ..

من عبدكم.. ومحبكم..

والراجي قربكم.. و شفاعتكم..

ص: 3

ص: 4

مقدمة المعهد

بسم الله الرَحمنِ الرَحيم

معهد تراث الأنبياء، مؤسسة علمية حوزوية تُدرس المناهج الدينية المعدَّة لطلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

الدراسة فيه عن طريق الانترنيت وليست مباشرة.

يساهم المعهد في نشر وترويج المعارف الإسلامية وعلوم آل البيت علیهم السلام،و وصولها إلى أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصص من المبرمجين والمصممين في مجال برمجة و تصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات على أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية.

وبالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد على عاتقه تأسيس جامعة متخصصة في هذا المجال، فتم إنشاء جامعة أُمّ البنين عليها السلام الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلامية لإعداد مبلغات رساليات قادرات على إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائدية والفقهية والقرآنية.

على أنّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلى إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل على تقوية المحتوى الإيجابي على شبكة الانترنيت و وسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجّهاً لإيصال فكر أهل البيت عليه السلام وتوجيهات المرجعية الدينية العليا إلى نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقي العصري.

ص: 5

والمعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية – التي تهدف إلى ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عليهم السلام الموروثة.

و من ضمن ما يهدف المعهد إلى طباعته هي المناهج المعدة لطلبته (سواء في المعهد أو في جامعة أم البنين عليها السلام) ، وهذا الكتاب هو أحد دروس مرحلة المقدمات/ الأولى في معهدنا، حيث عمل فيه المؤلف على الاستفادة من آيات القرآن الكريم وكلمات أهل البيت علیهم السلام للخروج بمجموعة من القواعد الأخلاقية ذات التطبيقات المتعددة، تنفع في تهذيب الأخلاق وتقويم السلوك.

نسأل الله عز وجل أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 6

مقدّمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرَحیم الرَّحم

من الحقائق الوجدانية التي قُدِّر للإنسان أن يعيشها، هي أنَّه يضيع في زحمة التفاصيل، ويتعب ذهنه إذا أراد أن يجمع شتات أمور كثيرة، فلا يتمكن من جمع المتفرّقات إلّا بعد عناء الذهن وشدّ الأعصاب.

و حتّى يُخفِّف الإنسان من ثقل هذه الحقيقة أخذ بالعمل على تذليل صعوباتها، فعمل على ضبط معارفه بالتخصص العلمي وإنشاء المعاهد العلمية، ولكنه وجد التفاصيل ما زالت تملأ أرجاء الحياة، وما زالت زحمتها تُقلق فكره.

فواصَلَ بحثه لتذليل تلك الصعوبات، فوجد أنَّ من أنجع الطَّرُق لمتابعة المعارف و العلوم وضبطها والاستفادة منها في الحياة العملية التطبيقية هو (تقنين) و(تقعيد) المعارف، بأن يجمع المتشابه من المعارف تحت قاعدة عامة تنطبق على ذلك الشتات، بحيث يسهل بعدها الالتفات إلى التفاصيل.

و قد ساعدت هذه العملية الإنسان كثيراً في مختلف مجالات الحياة، حتّى إنَّك لا تجد علماً لا يتضمن قواعد معرفية إلا ما ندر.

وقد أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى أنَّ هذه الطريقة هي ما استفاد منها من إلقاء رسول الله صلی الله علیه و اله إليه أصول العلم وأبوابه، وذلك فيما روي عنه علیه السلام من قوله: «علمني رسول الله الله ألف باب من العلم، يُفتح من كلّ باب ألفُ باب...» . (1)

ص: 7


1- دلائل الإمامة للطبري الشيعي ( ص 235 ح 26/162).

و على منوالها بين الإمام الباقر علیه السلام هذه الحقيقة لجابر حينما قال له: « يا جابر، لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نُفتيهم بآثار من رسول الله، صلی الله علیه و اله وأصول علم عندنا، نتوارثها كابراً عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم و فضتهم ». (1)

و قد أخذ أهل البيت علیهم السلام ما على عاتقهم بيان المعارف الإسلامية لأتباعهم من خلال هذه الطريقة في كثير من الأحيان، فأمَّسوا الكثير من القواعد المعرفية التي سهلت لأتباعهم معرفة مقاصد كلامهم وجمع شتاته.

و من مؤشّرات هذه الحقيقة هي ما روي عن الإمام الرضا علیه السلام من قوله: «علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفرع ». (2)

بالإضافة إلى القواعد العامة في هذا الشأن من قبيل: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنَّه حرام بعينه فتدعه». (3) و « كل شيء نظيف حتّى تعلم أنه قذر » (4) و غيرها كثير.

ولا يعني هذا الأمر سهولة تناول النصوص الدينية ويسرها للجميع، خصوصاً فيما يتعلق بالقواعد الأصولية والفقهية، بل إن نفس القواعد هي منهج معرفي منضبط يحتاج إلى تخصص معرفي على مستوى عالٍ من الدقة والانضباط والمتابعة والصبر.

علم الأخلاق، علم منهجي معرفي تطبيقي له قواعده المتخصصة، والتي بذل الكثير من علمائنا الأفذاذ جهوداً مضنية يُشكرون عليها من أجل جمع شتاتها و وضعها فی قالب منضبط، فكانت الموسوعات الأخلاقية نافعة جدا في مجال تعديل السلوك و تقويمه وفق ما تريده السماء.

ص: 8


1- بصائر الدرجات للصفّار ( ص 320/ ج 6/ باب 14 / ح 4).
2- مستطرفات السرائر لا بن إدريس الحلي ( ص 575).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج) 5 ص 313 باب النوادر / ح 40 )
4- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 1 ص 285 / ح 119/832).

و على هذا الأساس، جاءت الفكرة بكتابة بعض القواعد المعرفية الأخلاقية، التي تجمع تحتها تطبيقات عديدة مختلفة فيما بينها، متفرّقة في أبوابها، وربَّما لا يُلتفت إلى انضوائها تحت قاعدة واحدة، وسيكون جَمعُها تحت عنوان واحد أشبه شيء بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم.

سبب التأليف:

أصل التفكير بهذا الموضوع هو الاستجابة لطلب الأخ العزيز الشيخ حسين الترابي - مدير معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية – بإعطاء درس منهجي في الأخلاق لطالبات جامعة أُمّ البنين الحوزوية الإلكترونية، فعمدت إلى كتابة هذه القواعد.

فكانت (ثلاثون قاعدة لمنهج السنة الأولى في الجامعة، وهي ما ستجده في هذه الكتاب.

أسأل الله عزوجل أن يتقبلها بما هو أهله، وأن يُعطينا عليها ما هو لائق بكرمه وسعة عن جوده، وأن يتجاوز عن تقصيري الدائم ونقصي المستمر، وأن يمن على كل من كانت له يد في إخراج هذا الكتاب إلى النور بما ينجيه من عقبات يوم المحشر، إنَّه ولي التوفيق.

حسين عبد الرضا الأسدي

مكة المكرمة

يوم المباهلة (1439ه-)

الخامس من أيلول (2018م)

ص: 9

ص: 10

الوجهة الأخلاقية للدين

الدين بني على ثلاث ركائز: أصول وفروع وآداب سلوكية وأخلاق اجتماعية. والأصول ،اعتقادات والفروع أكثرها أعمال بين العبد وربه وإن كان لها آثار سلوكية. والذي يمكن رؤيته من الدِّين إنَّما هو السلوك الخارجي للفرد، فأنا لا أرى صلاة الفرد، ولا أرى صومه، بل ولا أرى توحيده أو اعتقاده بالمعاد، إلا من خلال سلوكياته وتعاملاته مع الآخرين.

ولذلك كان للسوك الخارجي القدرة على حكاية ما في الداخل، فإذا دخلت مدينة أمكنك أن تعرف ديانتها واعتقادات أهلها من خلال ممارساتهم وسلوكياتهم الخارجية، فإذا سمعت الأذان أو رأيتهم يدفنون موتاهم باتجاه القبلة، عرفت أنّهم مسلمون، أمَّا إذا رأيت الصلبان معلَّقة على قباب أماكن ،عبادتهم، أو رأيتهم يُحرقون موتاهم، جزمت بأنّهم غير مسلمين، و هكذا ترى أنَّ السلوك الخارجي يكشف عن الاعتقاد.

و هكذا لو رأيت أحدهم يُصلّي وهو يُسبل يديه، عرفت أنه من شيعة أهل البيت عليهم السلام، وإذا رأيته وهو يُكفِّر بيديه، عرفت أنَّه من أتباع غير مذهب أهل البيت عليهم السلامة

فالسلوك الخارجي له القدرة على حكاية المعتقد أو التوجه المذهبي، وإن لم تكن حكاية تامة، لكنَّه بالتالي هو الوجه الظاهر من الاعتقاد العقائدي والفقهي.

بل إِنَّ الدِّين يُصرِّح بأنَّ تلك الاعتقادات العقائدية والفقهية لا بدَّ أنْ تنعكس

ص: 11

على أرض الواقع، أي على سلوك الفرد، وإلّا ، فإنَّ التفكيك بين الاعتقاد وبين العمل السلوكي المترتب عليه، يُعتبر مرضاً فتاكاً يُعبّر عنه بالنفاق في بعض مراتبه. وهو على حد تعبير القرآن الكريم: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْض الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض ﴾ (البقرة: 85).

و قد أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى هذه الحقيقة بقوله: «واعلم أنَّ لكلّ ظاهر باطناً على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه وما خبث ظاهره خبث باطنه، وقد قال الرسول الصادق صلی الله علیه و اله: إِنَّ الله يُحِبُّ العبد ويبغض عمله، ويُحِبُّ العمل ويبغض .بدنه . واعلم أنَّ لكل عمل نباتاً، وكلُّ نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرت ثمرته». (1)

فلذلك يقول القرآن الكريم في مجال التجلّي السلوكي للعبادة الحقة: ﴿وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قالُوا سَلاماًه وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيامَاهِ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كانَ غَراماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهُ إِهَا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَامَاً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِياً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهُ مَتَاباً وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُما وَعُمْياناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إماماً أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةٌ وَسَلَاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (الفرقان: 63 - 76).

ص: 12


1- نهج البلاغة (ج 2 ص 44 و 45 ) .

و في تجلّي الصلاة سلوكياً يقول تعالى:( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِم الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ﴾ (العنكبوت (45)

و من نفس هذا المنطلق، نرى أنَّ أهل البيت عليهم السلام حددوا بعض السلوكيات التي تكشف الفرد المؤمن بهم إيماناً راسخاً، يحكي التزامه المبدأ الحق، وعدم زيغه عن

عن الفرد الصراط الأقوم، مما يعني ضرورة التزام الفرد المؤمن بهذه السلوكيات، تنفيذاً للأمر الذي جاء من أهل البيت عليهم السلامة .

و من تلك السلوكيات التي يلزم أن يتحلى بها شيعة أهل البيت عليهم السلام هي ما جاء في وصيَّة الإمام الصادق علیه السلام العبد الله بن جندب (1)، ونذكر منها بعض الفقرات، كالتالي:

« يا ابن جندب من سره أنْ يُزوّجه الله الحور العين ويتوجه بالنور فليدخل على أخيه المؤمن السرور.

يا ابن جندب، إنَّ للشيطان مصائد يصطاد بها ، فتحاموا شباكه (2) ومصائده».

:قلت یا ابن رسول الله، وما هي؟

قال: «أما مصائده فصد عن بر الإخوان، وأما شباكه فنوم عن قضاء الصلوات التي فرضها الله. أما إنَّه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام إلى بر الإخوان وزيارتهم.

يا ابن جندب، الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأحد، وما عذَّب الله أُمَّةً إِلَّا عند استهانتهم بحقوق

فقراء إخوانهم.

ص: 13


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني ( ص 302 وما بعدها).
2- فتحاموا اجتنبوها وتوقُوها. الشباك جمع شَبَكة – بالتحريك -: شركة الصياد يعني حبائل الصيد. (من هامش المصدر).

يا ابن جندب، بلغ معاشر شيعتنا وقل لهم : لا تذهبنَّ بكم المذاهب، فوالله لا تُنال ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد في الدنيا ومواساة الإخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس.

يا ابن جندب، إنّما شيعتنا يُعرَفون بخصال شتّى بالسخاء والبذل للإخوان، وبأنْ يُصلُّوا الخمسين ليلاً ونهاراً ، شيعتنا لا يهرون هرير الكلب، ولا يطمعون طمع الغراب ولا يجاورون لنا عدوًا، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً، شيعتنا لا يأكلون الجرّي، و لا يمسحون على الخفَّين، ويحافظون على الزوال، ولا يشربون مسكراً.

ولا تكن فظا غليظاً يكره الناس قربك، و لا تكن واهناً يحقرك من عرفك.

يا ابن جندب، إنَّ عيسى بن مريم علیه السلام قال لأصحابه : أرأيتم لو أنَّ أحدكم مرَّ بأخيه فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته أكان كاشفاً عنها كلّها أم يردُّ عليها ما انكشف منها؟ قالوا: بل نردُّ عليها، قال كلا، بل تكشفون عنها كلّها - فعرفوا أنَّه مثل ضربه لهم ، فقيل : يا روح الله، وكيف ذلك ؟ قال : الرجل منكم يطلع على العورة من أخيه فلا يسترها، بحقِّ أقول لكم : إنَّكم لا تصيبون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، إيّاكم والنظرة فإنَّها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب وانظروا في عيوبكم كهيأة العبيد، إنَّما الناس رجلان: مبتلى و معافى، فارحموا المبتلى واحمدوا الله على العافية.

یا ابن جندب صِل من قطعك، وأعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلَّم على من سبّك، وأنصف من خاصمك ، واعفُ عمن ظلمك كما أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ يُعفى عنك فاعتبر بعفو الله عنك، ألا ترى أنَّ شمسه أشرقت على الأبرار والفُجّار، وأنَّ مطره ينزل على الصالحين والخاطئين؟

ص: 14

يا ابن جندب، لا تتصدق على أعين الناس ليُزكّوك، فإنَّك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تُطلع عليها شمالك، فإنَّ الذي تتصدق له سرًا يُجزيك علانيةً على رؤوس الأشهاد في اليوم الذي لا يضرُّك أنْ لا (1)يطلع الناس على صدقتك. واخفض الصوت، إنَّ ربَّك الذي يعلم ما تسرُّون وما تُعلنون قد علم ما تريدون قبل أن تسألوه، وإذا صُمْتَ فلا تغتب أحداً، ولا تلبسوا صيامكم بظلم، ولا تكن كالذي يصوم رئاء الناس مغبرة وجوههم، شعثة رؤوسهم، يابسة أفواههم لكي يعلم الناس أنهم صيام».

ص: 15


1- هكذا في المصدر ، والمناسب: «لا يضرك أنْ يطلع الناس على صدقتك».

ص: 16

رحلة الأخلاق المتعاكسة

إذا تأملنا في السجايا الأخلاقية التي يتم ترجمتها في النهاية إلى سلوك عملي خارجي، نجد أنَّها في الحقيقة تمرُّ بمرحلتين متعاكستين بالنسبة للنفس الإنسانية، فالسلوك الخارجي هو انعكاس لشيء داخلي، وذلك الشيء الداخلي جاء من الخارج (في أغلب الأحيان)، وبيانه بالتالي

عندما يُولد الإنسان، فهو يُولد خالي الوفاض من أي سلوك فعلي، يُولد وكما وصفه القرآن الكريم بقوله عزّ من قائل: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78).

فيخرج و هو لا يعلم أيّ شيء، ولكن بعد هذه المرحلة، تبدأ رحلته الاستكشافية في هذا العالم، ويبدأ يستورد من الخارج الكثير الكثير من المفاهيم الحياتية، عبر منافذ ثلاثة ذكرها القرآن الكريم: السمع والبصر ، وال ، فؤاد، أو قل : العقل.

و عندما يتم استيراد الصور من الخارج، تدخل في الذهن البشري وتُحفَظ فيه، لتتم معالجتها فيما بعد عبر العديد من العمليات العقلية، تحليلاً ومقايسة بعضها من البعض الآخر، و دمج بعض الصور مع البعض الآخر لتخرج لنا صور جديدة، وهكذا، وبعد أنْ يتم إنتاج مفاهيم في الذهن، ترجع تلك المفاهيم إلى الخارج من خلال ترجمتها على شكل أفعال وأقوال.

ص: 17

لاحظوا طفلاً مثلاً ، إذا كان أبوه يُعلّمه الألفاظ الجميلة، والكلمات العفيفة، فإنَّه سيختزن تلك الصور في ذهنه، ويُرجعها إلى الخارج بنفس القالب الذي دخلت فيه أو ما يقرب منه كثيراً، ولكن إذا تمت تغذية الطفل بكلمات ساذجة وغير عفيفة، فإنّ القالب الذي ستخرج فيه ألفاظه سيكون مشابهاً للقالب الذي دخلت فيه.

أمام هذه الحقيقة، علينا أن نلتفت إلى التالي :

أولاً : علينا أن نهتم كثيراً بالواردات إلى أذهاننا، سواء كانت من نوع الألفاظ أو المواقف أو الأفكار ، لأنّها - شئنا أم أبينا - ستنعكس في يوم ما على سلوكنا الخارجي.

روي أنَّه قال الإمام الحسن بن علی علیه السلام : « عجبت لمن يتفكر في مأكوله، كيف لا يتفكّر في معقوله، فيُجنّب بطنه ما يُؤذيه، ويُودِع صدره ما يُرديه». (1)

ثانياً : علينا أن نبتعد عن أماكن السوء، فإنَّ من شأنها أن تُوحي للنفس بما فيها من سوء، ولذلك ورد التحذير من التواجد في أماكن معيَّنة، والآيات والروايات في ذلك كثيرة، منها:

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذَا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ المُنافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء: 140 ) .

وقال الإمام الصادق علیه السلام في هذه الآية: «إنَّما عنى بهذا الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة، فقم من عنده ولا تقاعده كائناً من كان » (2)

وقال تعالى: ﴿وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي

ص: 18


1- الدعوات لقطب الدين الراوندي ( ص 144 و 145 / ح (375)؛ وفي المصدر : (ما يُزكّيه) بدل (ما يُرديه)، والأخيرة في بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 1 ص 218).
2- الكافي للشيخ الكليني ( ج 2 ص 377 باب مجالسة أهل المعاصي / ح 8)

حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَتَكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ (الأنعام: 68 )

و فيها يقول رسول الله صلی الله علیه و اله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يُسَبُّ فيه إمام، أو يُغتاب فيه مسلم، إن الله يقول في كتابه: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتنا ... [الأنعام: 68] . (1)

و يقول الإمام علي علیه السلام : «لا تجلسوا على مائدة يُشرَب عليها الخمر، فإنَّ العبد لا يدري متى يُؤخَذ» . (2)

و عنه علیه السلام : « إياك والجلوس في الطرقات » (3)

و قال الإمام الصادق علیه السلام: « لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره » (4)

وقال الإمام علي علیه السلام : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة ». (5)

ثالثاً: إذا ما اضطررنا إلى استماع ما لا يليق بالمؤمن الاستماع إليه، أو أن نكون في مكان يوحي بالسيّئ من المفاهيم، فعلينا أن نكون على قدرٍ عالٍ من ضبط النفس، بحيث نُهُمِل أيّ شيء سلبي، ونحاول أن لا نجعله يستقرَّ في نفوسنا، بأن ننساه أو نتناساه. ونتمثل قانون (كن فيهم ولا تكن منهم )

رابعاً: إذا كان في الذهن بعض من المفاهيم السلبية المخزونة من مواقف سابقة،

ص: 19


1- تفسير القمي (ج 1 ص 204).
2- الخصال للشيخ الصدوق ( ص 619/ حديث أربعمائة).
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 72 ص 465 ح (6 ، عن أمالي الشيخ الطوسي (ص 8/ ح 8/8).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص 374 باب مجالسة أهل المعاصي ح /1).
5- الكافي للشيخ الكليني ( ج 2 ص 378 باب مجالسة أهل المعاصي / ح 10).

فعلينا أنْ لا نستثيرها بالتذكُّر، أو بالذهاب إلى أماكن تُذكِّرنا بها، فعلينا أن نضبط الخيال في هذا المجال حتّى لا يُجرجرنا إلى ما لا تُحمد عقباه.

وقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «اجتمع الحواريون إلى عيسى علیه السلام ، فقالوا له : يا معلّم الخير أرشدنا، فقال لهم: إنَّ موسى كليم الله علیه السلام، أمركم أن لا تحلفوا بالله تبارك وتعالى كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين، قالوا: يا روح الله زدنا فقال: إنَّ موسى نبي الله الله أمركم أن لا تزنوا وأنا آمركم أنْ لا تُحدِّثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أنْ تزنوا، فإنَّ من حدّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويقَ (1) الدخانُ وإنْ لم يحترق البيت» . (2)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: « صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام ». (3)

و عنه علیه السلام :« فكرك في الطاعة يدعوك إلى العمل بها، وفكرك في المعصية يحدوك على الوقوع فيها». (4)

خامساً : يلزم الاهتمام بمنافذ الأخلاق الأصيلة، المتمثلة بالقرآن الكريم، وروايات المعصومين عليهم السلام، والتجربة الشخصية، وأخذ التجربة من الغير.

وفي هذا المجال أُلفت النظر إلى ضرورة أمرين مهمين في مجال الاهتمام بمنافذ الأخلاق، وهما:

الأمر الأوّل: ضرورة الأستاذ المرشد، الذي يرجع إليه طالب الأخلاق والسجايا

ص: 20


1- التزويق : التزيين والتحسين. (القاموس ). من هامش المصدر.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج) 5 ص 542 / باب الزاني ح (7).
3- عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي ( ص 302).
4- عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي ( ص 357).

الكريمة كلَّما احتاج إليه، وكلَّما رأى من نفسه تقهقراً إلى الوراء، فإنَّه وكما روي عن الإمام السجاد علیه السلام: « هلك من ليس له حكيم يُرشده » . (1)

وأفضل حكيم نستر شد به هو القرآن الكريم ، وكلمات المعصومين عليهم السلام، فقد روي عن الرسول الأكرم الله صلى الله عليه و اله : «إنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»، قيل: فما جلاؤها؟ قال: «ذكر الله، وتلاوة «القرآن» . (2)

وعن الإمام الباقر علیه السلام : «إِنَّ حديثنا يُحيي القلوب» .(3)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : « ... وإنَّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنَّه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره». (4)

وعن رسول الله صلى الله عليه و اله: «تذاكروا وتلاقوا وتحدَّثوا فإنَّ الحديث جلاء للقلوب، إنَّ القلوب لترين (5) كما يرين السيف جلاؤها الحديث» . (6)

الأمر الثاني: إنَّ الإنسان وبعد أن يلجأ إلى المرشد الخارجي (الذي هو القرآن والروايات الشريفة عليه أنْ يُوجد هو في داخله أستاذاً داخلياً، لنُسمه (الوجدان) أو ( الضمير ) أو (الواعظ النفسي أو الباطني)، أي أن يكون هو مصدر موعظة نفسه، فالإنسان العاقل لا بدَّ أن يُفكّر جيداً فيما يصدر منه من أقوال وأفعال، وأنْ يُحكم عقله، ليحبس نفسه على الفضائل، ويهجر الرذائل .

فعن الإمام زين العابدين : « ابن آدم إنَّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من

ص: 21


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 75 ص 159).
2- الدعوات لقطب الدين الراوندي ( ص (237 / ح 662 )
3- الدعوات لقطب الدين الراوندي( ص 62 / ح 155 ).
4- نهج البلاغة (ج 2 / ص 95 )
5- الرَّين: الدنس والوسخ .( من هامش المصدر).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 1 ص 41 / باب بذل العلم / ح 8 ) .

نفسك، و ما كانت المحاسبة من همك ». (1)

و عن أمير المؤمنين علیه السلام: « واعلموا أَنَّه من لم يُعَنْ على نفسه حتّى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ » .(2)

و عن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام : من لم يكن له واعظ من قلبه، وزاجر نفسه، ولم يكن له قرین ،مرشد استمكن عدوّه من عنقه . (3)

وقال الشاعر:

لن ترجع الأنفس عن غيها مالم یکن منها لها زاجر. (4)

ص: 22


1- تحف العقول لابن شعبة الحراني (ص 280).
2- نهج البلاغة (ج 1 ص 160 )
3- أمالي الشيخ الصدوق ( ص 526 / ح 2/711).
4- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ج 7 ص 457 ) ، والبيت الشعري لأبي نواس.

إنَّ الفضائل – وكذا الرذائل – مفاهيم مشككة

بمعنى: أنَّ الفضائل ليست ذات مرتبة ،واحدة إما أنْ يصل إليها الفرد فيتّصف بها، وإما أنْ لا يصل إليها فلا يتّصف بها ، كلا ، بل إنَّ لها مراتب طولية متعدّدة، تبدأ بنقطة معيَّنة، وتشتد إلى مراتب عالية جدا، فالصدق قد يكون في المواقف العادية فقط، ولكن إذا وقع الإنسان في موقف محرج، فربَّما يكذب، ولكن البعض تجده صادقاً في كلّ أحواله وأقواله، فلا تجد للكذب عنده موضعاً ولو ذهب لأجله ما يُحِبُّ.

و هكذا بقية الفضائل.

و نفس الكلام يُقال في الرذائل، فليست هي ذات مرتبة واحدة، بل هي دَرَكات تسافلية متعدّدة.

و هذا هو معنى كونها مفاهيم مشككة.

عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : قلت له: أيها العالم أخبرني أيُّ الأعمال أفضل عند الله ؟ قال: «ما لا يقبل الله شيئاً إلَّا به»، قلت: و ما هو؟ قال: «الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجةً وأشرفها منزلةً وأسناها حظا»، قال: قلت: ألَا تُخبرني عن الإيمان، أقول هو و عمل أم قول بلا عمل؟ فقال: «الإيمان عمل كلُّه و القول بعض ذلك العمل، بفرض من الله بيّن في كتابه واضح نوره، ثابتة حجّته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه، قال: قلت: صفه لي جعلت فداك حتّى أفهمه، قال: «الإيمان حالات و درجات و طبقات و منازل، فمنه التام المنتهى تمامه، ومنه الناقص البين نقصانه،

ص: 23

و منه الراجح الزائد رجحانه...» . (1)

و لذلك، كان أحد تفسيرات أبواب الجنة الثمانية وأبواب جهنم السبعة هو تفسيرها بمراتب الجنَّة و دَرَكات جهنم حسب أعمال الإنسان.

و يترتب على هذه القاعدة التالي:

أما في جانب الفضائل، فعلينا أن نلتفت إلى التالي:

أوَّلاً: أنَّ الفضائل مستمرَّة في مراتبها الكمالية إلى ما لا نهاية، وهو ما يُشير إليه قوله :تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ (الحجر: 99) ، و قد فسَّروا اليقين بالموت، فيكون المعنى اعبد ربّك ما دمت حيًّا. (2)

ولو كان للفضائل سقف محدد، لأمكن أن يصل فرد ما إليها، وبالتالي تنقطع العبادة عندها، ولكنّا نجد أن أعظم مخلوق خلقه الله تعالى، وهو الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله، على ما هو عليه من الكمال، كان يُتعب نفسه بالعبادة، بحيث كان يُصلّي على أطراف أصابعه، ولا عوتب على ذلك قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟». (3)

و عليه، فلا يتصوَّرَنَّ أحدٌ أنَّه يمكن أن يصل إلى مرحلة علمية معيَّنة، أو مرحلة كمالية معينة، و بعدها يتوقف عن تحصيل الكمال، فإنَّه وكما قال تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجاتٍ

ص: 24


1- انظر الرواية بطولها في الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص 33 - 37/ باب في أنَّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها ح 1 ) .
2- تفسير شبر (شرح ص 266).
3- روي عن أبي بصير، عن أبي جعفر الله، قال: كان رسول الله الله عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله ، لِمَ تُتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟»، قال: وكان سول الله الله يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿ما أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه: 1 و 2].(الكافي للشيخ الكليني: ج 2 ص 95 باب الشكر / ح 6) .

مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) (يوسف: 76).

ثانياً: مهما وصل الإنسان إلى مراتب كمالية عالية، فعليه أن ينظر إلى حجمه الواقعي، وأنَّه (لا شيء) أمام الكمال اللامتناهي الله تعالى، بل هو (لا شيء) بالنسبة إلى الكمالات التي وصل إليها أهل البيت عليهم السلام ، وبالتالي، فعليه أن لا يُعجب بنفسه، فإِنَّ العُجب من أشدّ الأمراض التي تفتك بالأعمال الصالحة.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام:« و إياك و الإعجاب بنفسك والثقة بما يُعْجِبُك منها وحُبَّ الاطراء، فإنَّ ذلك من أوثق فُرَص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين» . (1)

وقد روي أنه دخل الإمام أبو جعفر على أبيه زين العابدين عليها السلام ، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفر لونه من السهر ورمصت (2) عيناه من البكاء،

ودبرت [أي قرحت ] جبهته وانخرم أنفه من السجود ، و ورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، فقال أبو جعفر علیه السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمةً له، وإذا هو يُفكّر، فالتفت إليَّ بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بني، أعطني بعض تلك الصُّحُف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب علیه السلام، فأعطيته، فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثمّ تركها من يده تضجراً، وقال: من يقوى على عبادة على علیه السلام؟ ». (3)

ص: 25


1- نهج البلاغة ( ج /3 ص 108 )
2- في مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (هامش ص 318) (رَمَضَتْ عينه: سال منها الرَّمَص. والرَّمَص - بالتحريك - : وسخ أبيض يجتمع في موق العين).
3- الإرشاد للشيخ المفيد (ج /2 ص 142)، ومن اللطيف ما روي عن داود الرقي، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «اتَّقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً، إنَّ عيسى بن مريم كان من شرايعه السيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير، وكان كثير اللزوم لعيسى علیه السلام، فلما انتهى عيسى إلى البحر قال: بسم الله بصحة يقين منه فمشى على ظهر الماء ، فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى علیه السلام:جازه بسم الله بصحة يقين منه فمشى على الماء ولحق بعيسى علیه السلام، فدخله العجب بنفسه، فقال: هذا عيسى روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء فما فضله عليَّ؟»، قال: «فرمس في الماء، فاستغاث بعيسى، فتناوله من الماء، فأخرجه، ثمّ قال له: ما قلت يا قصير؟ قال: قلتُ : هذا يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء فدخلني من ذلك عُجب، فقال له عيسى : لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه فمقتك الله على ما قلت، فتب إلى الله عزوجل مما قلت»، قال: «فتاب الرجل وعاد إلى مرتبته التي وضعه الله فيها، فاتَّقوا الله ولا يحسدنَّ بعضكم بعضاً». (الكافي للشيخ الكليني: ج 2 /ص 306 و 307 / باب الحسد / ح 3).

وباختصار: علينا دوماً أن ننظر إلى من هم أكمل منا، ونحاول أن نصل إليهم، و نتكامل معهم، ولا نعجب بأنفسنا مهما وصلنا إلى مراحل كمالية عالية.

وأمَّا في جانب الرذائل، فعلينا أن نلتفت إلى التالي:

أَوَّلاً: أنَّ الذنوب في حقيقتها سقوط في الهاوية، في جهنم والعياذ بالله، وهو سقوط له دَرَكات عديدة، وحتّى يتخلّص الفرد من الهاوية، عليه أن يترك جميع الذنوب وبجميع مراتبها، فالذنوب التي يعتبرها البعض صغيرة، قد تتجمع لتكون ركاماً هائلاً من الذنوب، التي قد تهوي بالفرد في وادي جهنّم لسنوات طوال، وقد روي أنَّ رسول الله صلی الله علیه و اله نزل بأرض قرعاء ( أي لا نبات فيها ) فقال لأصحابه: «ائتوا بحطب»، فقالوا: يا رسول الله صلی الله علیه و اله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: «فليأتِ كلُّ إنسان بما قدر عليه»، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض فقال رسول الله صلى الله عليه و اله : «هكذا تجتمع الذنوب»، ثمّ قال: «إيَّاكم والمحقرات من الذنوب، فإنَّ لكلِّ شيء طالباً، ألا وإنَّ طالبها يكتب ما قدَّموا و آثارهم، ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12 ] ) . (1)

ثانياً : مهما سقط البعض في الرذائل، ومهما ابتعد عن سُلَّم الكمال، فعليه أن يعرف أنَّ باب التوبة مفتوح، وأنه تعالى لن يغلقه بوجه عبد قصده مخلصاً، فطريق الرذائل وإنْ كان تنازلياً، بل هو عبارة عن سقوط في الهاوية، ولكن ذلك لا يمنع الفرد من أن يتشبث

ص: 26


1- الكافي للشيخ الكليني ( ج 2 ص 288 / باب الإصرار على الذنب / ح 3).

بحبل التوبة، وسُلَّم الرأفة والعطف والعفو الإلهي .

عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أحبَّه الله، فستر عليه في الدنيا والآخرة»، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: «يُنسي مَلَكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ويُوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي ما كان يعمل عليكِ من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب » . (1)

ص: 27


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص 430 و 431 / باب التوبة/ ح 1).

ص: 28

غاية لا متناهية

من الواضح جدًّا أنَّ الإنسان موجود متناه محدود، وأنَّ النقص يحيط به من كل جوانب وجوده، لذلك احتاج بفطرته إلى ما يُكمله، وحيث إنَّ الله تعالى هو الكمال المطلق، وهو الغنيُّ الحميد، فقد كان طريق التكامل وسد النقص المحيط بالإنسان منحصراً بقصده جلَّ وعلا، وحيث إنه تعالى لا متناهي، كان الطريق إليه لا متناهياً أيضاً.

والنتيجة: أنَّ طريق التكامل غير متناهي.

وهذا يعني التالي:

أولاً على المؤمن أنْ لا يُقيّد نفسه بسقف دون الكمال المطلق، فالتكامل ما دام نحو الله تعالى فلا بدَّ أنْ تكون همَّة المؤمن عالية جدًّا، بحيث يجعل هدفه أعلى كمال يمكن أن يصل إليه، و قد رسم القرآن الكريم هذا الطريق بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق : 6).

فطريق التكامل صعودي غير متناهي إلى رَبِّكَ، و هو طريق ذات الشوكة كادح ... كَدْحاً ، والكدح هو السير بصعوبة وجهاد، إذ طبيعة الصعود تقتضي بذل مزيد من الجهد، وفي نفس الوقت ستكون النتيجة متناسبة مع الجهد المبذول.

ثانياً: و منه سنفهم السبب وراء الدعوة الشديدة والتأكيد المستمر من أهل البيت عليهم السلام على أن يكون شيعتهم الرأس في كلّ شيء، فلم يرتض لنا أهل البيت عليهم السلام

ص: 29

أبداً أنْ نكون ذيلاً أو تبعاً في أي مجال من مجالات الحياة.

وفي هذا المجال، روي عن علي بن أبي زيد عن أبيه، قال: كنت عند أبي عبد الله علیه السلام فدخل عيسى بن عبد الله القمي، فرحب به وقرب من مجلسه، ثمّ قال: «يا عيسى بن عبد الله ليس منا - ولا كرامة - من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه». (1)

و روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد أنَّ نفراً أتوه من الكوفة من شيعته يسمعون ن منه ويأخذون عنه فأقاموا بالمدينة ما أمكنهم المقام، وهم يختلفون إليه ويترددون عليه و يسمعون منه ويأخذون عنه، فلما حضرهم الانصراف و ودَّعوه، قال له بعضهم: أوصنا يا بن رسول الله، فقال علیه السلام: «أُوصيكم بتقوى الله والعمل بطاعته و اجتناب معاصيه وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، وحسن الصحابة لمن صحبتموه، و أن تكونوا لنا دعاة صامتين»، فقالوا: يا بن رسول الله، وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟ قال: «تعملون ما أمرناكم به من العمل بطاعة الله، و تتناهون عما نهيناكم عنه من ارتكاب محارم الله، و تُعامِلون الناس بالصدق والعدل، و تُؤدُّون الأمانة، و تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر، و لا يطلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه قالوا: هؤلاء الفلانية، رحم الله فلاناً، ما كان أحسن ما يُؤدِّب أصحابه، و علموا فضل ما كان عندنا، فسارعوا إليه، أشهد على أبي محمّد بن عليّ رضوان الله عليه و رحمته و بركاته، لقد سمعته يقول : كان أولياؤنا و شيعتنا فيما مضى خير من كانوا فيه، إنْ كان إمام مسجد في الحي كان منهم، وإنْ كان مؤذن في القبيلة كان منهم، و إن كان صاحب و ديعة كان منهم، وإنْ كان صاحبُ أمانة كان منهم، وإن كان عالم من الناس يقصدونه لدينهم و مصالح أُمورهم كان منهم، فكونوا أنتم كذلك، حبونا إلى الناس، و لا تُبغضونا إليهم ). (2)

ص: 30


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص 78 باب الورع ح 10).
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1 ص 56 و 57).

و في الحقيقة، إنَّ هذا أمر أسس له القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ (الفرقان: 74).

وفي هذا المعنى قال الشاعر:

و لا بدَّ أنْ أسعى لأشرف رتبة وأمنع عن عيني لذيذ منامي

وأقتحم الخطب المهول بحيث أن أرى الموت خلفي تارةً و أمامي

فإما مقاماً يضرب المجد دونه سرادقه أو ناعياً لحمامي

إذا أنا لم أبلغ مقام اً أرومه فكم حسرات في نفوس كرام

ثالثاً: حيث إنَّ طريق التكامل لا متناهي، وحيث إن حياتنا متناهية، إذن، علينا، إِنَّ أن نعمل على فتح حساب جارٍ لأعمالنا الصالحة، كما يضع البعض حساباً جارياً في البنك، ليضيف أموالاً إلى أمواله باستمرار، وقد فتح الإسلام لنا – بمنّ الله تعالى وكرمه وعطفه – باباً واسعاً لفتح حساب جارٍ ) لأعمال صالحة تستمر حتَّى بعد وفاتنا، فينبغي للمؤمن أن يجعل تكامله مستمرًا من خلال هذه الأعمال.

و من ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه و اله : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلَّا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تُجرى له، أو ولد صالح يدعو له». (1)

و عن ميمون القداح عن أبي جعفر علیه السلام، قال : أيما عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّة هدى كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . (2)

رابعاً: و من كلّ ما تقدَّم نفهم أنَّه لا بدَّ أنْ يستمر المؤمن بتحصيل الكمالات ما دام

ص: 31


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري (ص 11).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ( ص 132).

حيَّا، ولا يتوقف عند نقطة معيَّنة، لأنَّ التوقف يعني التأخر، إذ القافلة تسير، ولا تنتظر من يبحث عن الراحة والدعة، ومن هنا روي عن أبي عبد الله علیه السلام:« لا تدع قيام الليل فإنَّ المغبون من عين قيام الليل». (1)

و عنه علیه السلام لا أنَّه قال: «المغبون من غَبَنَ عمره ساعة بعد ساعة». (2)

وعنه علیه السلام أيضاً أنَّه قال: من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون، ومن لم يرَ الزيادة في نفسه فهو إلى

النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة». (3)

فالقاعدة هنا: أنَّ التكامل طريق غير متناهي، لأنَّ الغاية غير متناهية، فلتكن لنا أذن و اعية.

ص: 32


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 342 باب معنى المغبون/ ح 1).
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 342/ باب معنى المغبون/ ح 2).
3- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ( ص 342 باب معنى المغبون ح /3).

الخير عادة والشر لجاجة

يمكن تقسيم الأخلاق إلى نوعين، فبعض الأخلاق والسجايا يستسيغها الإنسان منذ نعومة أظفاره، وكأنَّها وُلِدَت معه، فلا يجد من نفسه أيَّ تلكُؤ من فعلها، ولا أيَّ صعوبة في الالتزام بها، وهو ما يمكن أن يُسمّيه البعض بالأخلاق الوراثية، أو الذاتية، و ما شابه.

فهذه الصفات يفعلها الإنسان من دون تكلف أو عناء.

و لكن هناك بعض الأخلاق التي لا يجد المؤمن نفسه تواقةً لها، أو أنها تحتاج إلى بذل جهد فكري أو عملي للتخلق بها، أو أنه لم يفعلها من قبل، وما شابه، وهذه تحتاج إلى خطوات عديدة، حتّى يتمكن المؤمن من فعلها أولاً، ثمّ تتحوّل من صفة عابرة إلى ملكة لا تنفكّ عنه في العادة ، وهذا الكلام يجري في إرادة الاتّصاف بالفضائل، أو إرادة تخلية النفس وتخليصها من الرذائل .

والخطوات لتحصيل ذلك عديدة، نذكر منها التالي:

أولاً : الاطّلاع على الثمرات العملية والنتائج التي تترتب على الفضائل والرذائل، و هذا الأمر ممكن جدًّا بمراجعة الكُتُب الأخلاقية والروائية .

و فائدة هذه الخطوة هو توفير التصوّرات الواضحة للثمرات المترتبة على الفضائل و الرذائل، ومن المعلوم أنَّ توفير التصوّرات الواضحة هي أولى خطوات الفعل الإرادي

ص: 33

للإنسان، فإذا كانت التصوّرات جاءت من مصدر معصوم – وهو القرآن الكريم والروايات الشريفة -، تحوّل التصوّر الساذج إلى قناعة نفسية بضرورة الاتصاف بالفضائل وترك الرذائل، الأمر الذي سيعقبه تولّد الحب والشوق لفعل الأولى والهروب من الأُخرى، وبعدها لن يبقَ أمام المؤمن إلَّا أن يُفعّل إرادته ليصدر الفعل الحسن منه في الخارج.

ثانياً: أن يعمل المؤمن على التزام الصفات الأخلاقية دفعة واحدة أو ما يقرب من الدفعة، فإن لم يستطع، فليعمل بنظام ( خطوة خطوة) بأن يختار المؤمن صفة أخلاقية معيَّنة، ويحمل نفسه على عملها للمرة الأولى، ثمّ يعمل على أنْ يُكرّرها مرَّةً أُخرى، و هكذا.

و هكذا الحال في الصفات اللاأخلاقية، فيُصمِّم المؤمن على أن يتركها، فإن استطاع أنْ يتركها كلها دفعة واحدة فبها ، وإلا فليعمل بنظام خطوة خطوة أيضاً.

يقول السيد الطباطبائي في إشارة إلى ذلك :( إنَّ العمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له، فإذا وقع لأوّل مرّة بدا كأنَّه انقلب من امتناع إلى إمكان وعظم أمر و قوعه و أورث في النفس قلقاً و اضطراباً، ثمّ إذا وقع ثانياً و ثالثاً هان أمره وانكسر سورته و التحق بالعاديات التي لا يعبأ بأمرها، و إنَّ الخير عادة كما أنَّ الشرَّ عادة). (1)

ثالثاً: أنْ يختار عملاً صالحاً معيّناً، حتّى لو كان صغيراً في حجمه وكمه، ويلتزمه لمدة سنة كاملة، يداوم عليه كل يوم، ثمّ يختار عملاً آخر و يداوم عليه كذلك، و هكذا، فإنَّ التزامه ذلك وتكراره للعمل كل يوم، سيجعل من أدائه سهلاً جدًّا، وربَّما لن يتمكّن المؤمن من تركه أبداً، لتعود نفسه عليه. و هكذا في الأفعال السيئة، فلو كان المؤمن يقع

ص: 34


1- سُنَن النبي صلی الله علیه و اله للسيد الطباطبائي (ص 37).

في معصية معيَّنة، أو فعل مما لا ينبغي صدوره منه، فيمكنه أن يتعاهد مع نفسه على تركه لمدة سنة كاملة، ويلتزم بذلك، و هكذا يختار عملاً ثانياً من هذا النوع، ويلتزم بتركه لمدة

سنة ،و بعدها سيجد أنه بالتزامه هذا قد عصم نفسه من مواقعة الحرام أو ما لا ينبغي الأفعال و الأقوال.

و قد أشارت بعض الروايات الشريفة إلى هذه الحقيقة، فعن أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنَّه قال: «إذا كان الرجل على عمل فليدم عليه سنة، ثمّ يتحوّل عنه إن شاء إلى غيره وذلك أنَّ ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك ما شاء الله أنْ يكون». (1)

و في رواية أُخرى عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنَّه قال: «أحبُّ الأعمال إلى الله عزوجل ما داوم ما دام عليه العبد وإن قل». (2)

و في رواية ثالثة عن أبي عبد الله الصادق أنه قال: «إيّاك أن تفرض على نفسك فريضة فتفارقها اثني عشر هلالاً». (3)

رابعاً: نُقِلَ عن أحد العلماء أنَّه أوصى ذرّيته بأن يطالعوا جميع ما ورد من الأعمال الصالحة، واجبة كانت أو مستحبّة، وأن يعملوا على فعل الأعمال الواجبة على الدوام، و أما المستحبّات، فأوصاهم بأن يعملوا كل الأعمال الصالحة، ولا يتركوا أي عمل

ص: 35


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص /2 باب استواء العمل والمداومة عليه / ح 1)؛ وجاء في هامش المصدر : (يكون) خبر (إنَّ ) ، و ( فيها) خبر (يكون)، الضمير راجع إلى (الليلة). و قوله : ( ما شاء الله أن يكون) اسم ( يكون) ، وقوله : ( في عامه) متعلق ب- (يكون) أو حال عن (الليلة)، والحاصل أنَّه إذا داوم سنة يصادف ليلة القدر التي يكون فيها ما شاء الله كونه من البركات والخيرات والمضاعفات فيصير له هذا العمل مضاعفاً مقبولاً. ويحتمل أن يكون الكون بمعنى التقدير، أو يُقدَّر مضاف في (ما شاء الله).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص /82 باب استواء العمل والمداومة عليه ح 2).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 / ص 83 باب استواء العمل والمداومة عليه /ح 6) .

مطلقاً، ولو أنْ يفعلوه مرة واحدة في حياتهم.

وهذه الوصيَّة مستوحاة مما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام من أَنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم». (1)

خامساً: ينفع كثيراً في التعود على الخير، أن يتذكَّر المؤمن، أنَّه لا بدَّ من الورود على الله تعالى يوم القيامة، وهناك سينصب الله تعالى الموازين الحقِّ، وسيبدأ الحساب على كلِّ ما صدر من المرء، وسيُوضَع كتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة، و سيكون الموقف مهولاً جدًّا، بحيث تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ شکارىٰ وَما هُمْ بِسُكارى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ » (الحج: 2).

حينها، سيكون الإنسان محتاجاً إلى أي عمل صالح ولو كان بسيطاً، إذ لعلَّ عملاً صغيراً يُنقذه من هول ذلك اليوم، و هذا يعني أنَّ على المؤمن أن يسعى جهده على التمثل بالأعمال الصالحة، ليجمع لنفسه رصيداً منها ينفعه في ذلك اليوم.

و في هذا المجال روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله لعل الله أنه قال لأبي ذر: «ولو كان لرجل عمل سبعين نبيًّا لاستقل عمله من شدة ما يرى يومئذ ». (2)

و في رواية أُخرى عنه صلی الله علیه و اله : لو أنَّ رجلاً جرَّ على وجهه من يوم وُلِدَ إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله عزوجل، لحقَّر ذلك يومَ القيامة، ولود أنَّه يُرَدُّ إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر

ص: 36


1- الخصال للشيخ الصدوق ( ص 209 و 210)، وتمام الحديث: «إِنَّ الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم. وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربَّما وافق إجابته وأنت لا تعلم وأخفى وليَّه في عباده، فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربما يكون وليه وأنت لا تعلم».
2- أمالي الشيخ الطوسي ( ص 533).

والثواب. (1)

37

فالقاعدة إذن: أنَّ الأخلاق والفضائل، إن لم تكن ذاتية، فإنَّ تحصيلها ليس ممتنعاً على المؤمن، بل إنَّ الله تعالى جعل تحصيلها ممكناً جدًّا، ليس إلَّا لأنَّ الإنسان موجود يفعل بإرادته واختياره وليس هو آلة عمياء صماء بكماء.

و قداختصرها أمير المؤمنين بقوله: «عود نفسك السماح، (2) و تخير لها من كلَّ خُلُق أحسنه، فإنَّ الخير عادة». (3)

ص: 37


1- كنز العُمال للمتَّقي الهندي (ج 15 / ص 788/ ح 43120).
2- السماح الجود، أي صير نفسك معتادة بالجود.(من هامش المصدر)
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني ( ص 86).

ص: 38

إن الدنيا وسيلة لا هدف

عندما نلاحظ مسيرة الإنسان في عالم الوجود، نجد أنه وبعد أن كان في كتم العدم، الله تعالى له الوجود، مرَّ بعدة مراحل، هي: عالم الذر (على اختلاف الآراء في ثبوته و في تفسيره)، وعالم الأصلاب، فالأرحام، فالدنيا. وبقي علينا – نحن الذين ما زلنا أحياءً - أن نمرّ بما لا مفر منه، وهو الموت، وعالم البرزخ، والقبر، إلى أن ننتهي الی عالم الآخرة.

الملاحظة المهمة هنا هي: أنَّ كلَّ المراحل التي مرَّ بها الإنسان هي من نوع (الجسر) و(الواسطة بين طرفين)، فأنت في عالم الأصلاب لا تخلد، وإنَّما تبقى فيه فترة من الزمن، ثم تنتقل إلى عالم الأرحام، و هكذا ما تبرح فيه إلا تسعة أشهر حتّى تنتقل إلى الدنيا، وهكذا في الدنيا، حيث نبقى فيها أياماً معدودة، تبدأ بالتناقص من اللحظة التي نُولد فيها، لتكون أنفاسنا خطانا إلى آجالنا و قبورنا، وهكذا القبر إنّما هو قنطرة بين الدنيا والآخرة، ولا خلود ولا بقاء إلا في عالم القيامة.

وهذا أمر يشهد به الوجدان والبرهان.

إلَّا أنَّ المفارقة الغريبة في الإنسان، هي أنه في كثير من الأحيان يتناسى أنَّه في هذه الدنيا يمرُّ بمرحلة انتقالية فقط، فيحسب أنه خالد فيها، وهنا تبدأ واحدة من أعقد مشاكل الإنسان في هذه الحياة وهي التعامل مع الدنيا معاملة الخالد فيها، ونسيان أو تناسي كونها ممرا إلى عالم البرزخ.

ص: 39

و لذلك تجد البعض يظلم غيره، ويأكل حقَّه، ويعتدي على الضعيف، ولا يُنفق على عياله، وربَّما ترك الصلاة، وأباح لنفسه كلَّ محرّم، وإذا حاولت أن تنهاه عن ذلك، لم ترَ منه إلا ما لا يسر.

إنَّ الظالم، والعاصي، والمذنب، لو فكر في حقيقة أنَّ الدنيا مجرد ممر، لما انتهك حرمات الله تعالى.

وحتَّى نكون على بينة من الأمر، تُذكَّر بالأمور التالية:

الأمر الأول:

من الحقائق الوجدانية أنَّه لا خلود في هذه الحياة، وأنَّ الموت هو قدرنا، وأنَّنا مهما طالت بنا الأيام فإنّها قصيرة جدًّا، ولنتذكَّر ما روي عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «عاش نوح علیه السلام ألفي سنة وثلاثمائة سنة، منها ثمانمائة وخمسين (1) سنة قبل أن يُبعث، وألف سنة إلا خمسين عاماً وهو في قومه يدعوهم، و خمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة ونضب الماء، فمصَّر الأمصار وأسكن ولده البلدان، ثمّ إنَّ مَلَك الموت جاءه و هو في الشمس فقال : السلام عليك فردَّ عليه نوح علیه السلام، قال : ما جاء بك يا ملك الموت؟ قال: جئتك لأقبض روحك، قال: دعني أدخل من الشمس إلى الظل، فقال له : نعم، فتحوّل، ثمّ له: قال: يا مَلَك الموت، كلُّ ما مرَّ بي من الدنيا مثل تحويلي (تحولي) من الشمس إلى الظل، فامض لما أُمِرْتَ به، فقبض روحه علیه السلام. (2)

الأمر الثاني:

إنَّ كون الدنيا قنطرة لا يعني أن لا يهتم بها الإنسان، وخصوصاً المؤمن، فإنَّ

ص: 40


1- كذا، والظاهر : (خمسون). (من هامش المصدر). وضبطها بالرفع في أمالي الشيخ الصدوق (ص 602 / ح 7/836).
2- الكافي للشيخ الكليني ( 8 ص 284 / ح 429).

الروايات وصفتها بالمزرعة للآخرة، وبالتالي، إذا أراد الفلاح أن يحصد زرعه ويربح، عليه أن يهتم بمزرعته، ويحافظ عليها، ويُنمّيها، بالطريق الصحيح للتنمية، ولذلك منعت الروايات الشريفة من أن يكون المؤمن كلّاً على غيره، ومدحت من يعمل و يكدُّ على عياله، وجعلته كالمجاهد في سبيل الله .

فقد روي أَنَّه أشرف على النبي الا الله وأصحابه رجل من قريش من رأس تل، فقالوا ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله، فقال النبي : «أو ليس في سبيل الله إلّا من قُتِلَ؟»، ثمّ قال: من خرج في الأرض يطلب حلالاً يكف به أهله فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالاً يكف به نفسه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان» . (1)

و هذا ما عبّرت عنه الروايات الشريفة بأنَّه ينبغي أن يتم التعامل مع الدنيا على أنّها عون للآخرة، فعن أبي عبد الله أنَّه قال: «نعم العون على الآخرة الدنيا». (2)

و عن عبد الله بن أبي يعفور قال : قال رجل لأبي عبد الله : والله إنا لنطلب الدنيا، ونُحِبُّ أنْ نؤتاها؟ فقال: «تُحِبُّ أن تصنع بها ماذا؟»، قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها ، وأتصدَّق بها، وأحجّ ، وأعتمر ، فقال : ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة». (3)

الأمر الثالث:

إنَّ كون الدنيا مجرد مزرعة يعني أنَّ ما يحدث فيها من بلاء أو مشاكل أو صعاب إنَّما هي في أغلب الأحيان – إن لم يكن كلها – صنيعة الإنسان نفسه، فالإنسان هو الذي

ص: 41


1- المصنف لعبد الرزّاق الصنعاني (ج 5 / ص 271 و 272).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5 ص 72 باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة/ ح 9).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 72/ باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة / ح 10).

يظلم أخاه، وهو الذي يحرمه من أخذ فرصته في الحياة، وهو الذي يقتل أخاه، والدنيا في هذا منه براء، فلا يصح لعاقل أن يرمي سبب فشله أو سبب ظلم ألم به على الدنيا، فالدنيا في الحقيقة محايدة، وتقف على التل، إلَّا أنَّ الإنسان هو من يفعل فيها ما يفعل.

و هو مفاد ما روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله أنَّه قال: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطيَّة المؤمن، فعليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر، إنَّه إذا قال العبد : لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه» . (1)

و قال أمير المؤمنين علیه السلام و قد سمع رجلاً يذم الدنيا: «أيها الذامُّ للدنيا المغتر بغرورها، المخدوع بأباطيلها ثمّ تذمُّها ، أتغتر بالدنيا ثم تذمُّها ؟ أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟... إنَّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها ، ودار موعظة لمن اتَّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، و مهبط الله، ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنَّة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثلتْ لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة، ترغيباً وترهيباً، و تخويفاً و تحذيراً ... ». (2)

الأمر الرابع:

ما تقدَّم نستنتج أن حقيقة الدنيا تكمن في كونها وسيلة لغيرها، لا هدفاً مقصوداً بنفسه، والنجاح في هذه الحياة إنَّما يكون فيما إذا تعامل الإنسان معها تعامل الوسيلة، و إنَّ الفشل يكمن فى اتخاذها هدفاً مقصوداً بذاته.

ص: 42


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 74 ص 178).
2- نهج البلاغة (ج 4 / ص 31 و 32).

وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام في صفة الدنيا (1): (ما أصفُ من دار أوَّلها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب من استغنى فيها فُتِنَ، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته ، ومن قعد عنها واتته (2) ، و من أبصر بها بصرته، و من أبصر إليها أعمته». (3)

و هنا علّق الشريف الرضي رحمه الله تعالى فقال : ( وإذا تأمل المتأمل قوله علیه السلام أبصر بها بصرته وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تُبلغ غايته، ولا يُدرَك غوره ، ولا سيّما إذا قرن إليه قوله : ومن أبصر إليها أعمته»، فإنَّه يجد الفرق بين أبصر بها وأبصر إليها واضحاً نيراً وعجيباً باهراً).

إنَّ هذا الأساس الأخلاقي يُمثل قيمة سلوكية عظيمة، إذ من الواضح أنَّ اختلاف النظرة إلى الدنيا يُؤدّي إلى اختلاف السلوك المترتب على تلك النظرة، فسعي الذي يتّخذ من الدنيا مقرا ثابتاً، ويحسب نفسه فيها خالداً، لا شكّ في أنَّه يختلف اختلافاً جذرياً عمَّن يتَّخذ منها قنطرة تعبر به من جانب إلى جانب.

ص: 43


1- نهج البلاغة (ج 1 / ص 130 و 131).
2- من جرى معها في مطالبها، والقصد اهتم بها وجد في طلبها. وقوله: (فاتته) أي سبقته، فإنَّه كلَّما نال شيئاً فُتِحَت له أبواب الآمال فيها، فلا يكاد يقضي مطلوباً واحداً حتّى يهتف به ألف مطلوب. وقوله: (ومن قعد عنها وأتته) يريد به أنَّ من قوم اللذائذ الفانية بقيمتها الحقيقية وعلم أنَّ الوصول إليها إنَّما يكون بالعناء وفواتها يعقب الحسرة عليها، والتمتع بها لا يكاد يخلو من شوب الألم، فقد وافقته هذه الحياة وأراحته، فإنَّه لا يأسف على فائت منها، ولا يبطر الحاضر، ولا يعاني ألم الانتظار لمقتبل .(من هامش المصدر).
3- أبصر بها أي جعلها مرآة عبرة تجلو لقلبه آثار الجد في عظائم الأعمال، وتمثل له هياكل المجد الباقية مما رفعته أيدي الكاملين، وتكشف له عواقب أهل الجهالة من المترفين، فقد صارت الدنيا له بصراً وحوادثها عبراً. وأما من أبصر إليها واشتغل بها فإنَّه يُعمى عن كلِّ خير فيها، ويلهو عن الباقيات بالزائلات، وبئس ما اختار لنفسه (من هامش المصدر).

ومن هنا، فقد ورد أنَّه جاء رجل إلى أبي ذرّ فقال : يا أبا ذر، ما لنا نكره الموت؟ فقال: (لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تُنقلوا من عمران إلى خراب)، فقال له : فكيف ترى قدومنا على الله ؟ فقال : (أمَّا المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله، وأمَّا المسيء منكم فكالآبق يرد على مولاه، قال: فكيف ترى حالنا عند الله ؟ قال: (اعرضوا أعمالكم على الكتاب، إنَّ الله يقول: ﴿إِنَّ الْأَبَرارَ لَفِي نَعِيمٍ ۚ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمِ ﴾ [ الانفطار : 13 و 14]، قال: فقال الرجل : فأين رحمة الله؟ قال: رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56]. (1)

وهذا ما بيَّنه الإمام الحسين علیه السلام في كلامه مع أصحابه يوم عاشوراء: «صبراً بني الكرام، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّ إلى الجنان الواسعة والنَّعَم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، و هؤلاء أعداؤكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب أليم. إنَّ أبي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه و اله أنَّ الدنيا سجن المؤمن

وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كَذِبْتُ و لا كذبت». (2)

ص: 44


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص 458 باب محاسبة العمل / ح 20 ) .
2- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق (ص 52).

لا إفراط ولا تفريط

التوازن، هو من أهمّ المناهج الحياتية عموماً، فأنت في كل مفردة من مفردات حياتك لا بدَّ أنْ تكون متوازناً، في علاقاتك، في محبّتك في دراستك، في عملك، وحتّى في العلاقة مع الله تعالى لا بدَّ أنْ يعيش المؤمن التوازن بين الخوف والرجاء، الأمر الذي أشارت له الروايات في مناسبات عديدة، و منها ما روي عن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام : «ارجُ الله رجاءً لا يجرؤك على معاصيه، وخف الله عزوجل خوفاً لا يُؤيسك من رحمته». (1)

و ما روي عن الحارث بن المغيرة أو أبيه ، عن أبي عبد الله ال، قال: قلت له : ما كان في وصيَّة لقمان ؟ قال : كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: فيوم خف الله خيفةً لو جئته ببر الثقلين لعذَّبك وارج الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك»، ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام : كان أبي يقول : إنَّه ليس من عبد مؤمن إلَّا [و]في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزِنَ هذا لم يزد على هذا، ولو وُزِنَ هذا لم يزد على هذا» (2)

وكلامنا الآن ليس في مفردة خاصة، بل هو في قاعدة عامة تقول:

إنَّ الفضائل عادةً ما تكون وسطاً بين الإفراط والتفريط، فالفضيلة وسط بين

ص: 45


1- أمالي الشيخ الصدوق ( ص 65 ح 5/29 ) .
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص 67 / باب الخوف والرجاء ح 1).

رذيلتين. وهذا يبتني على ما تقدَّم الكلام فيه في قاعدة أنَّ الصفات الإنسانية هي النوع المشكّك، أي الذي له مراتب متعدّدة، وهذا يعني فيما يعنيه : أنَّ الصفات الإنسانية في مقاطعها الممتدَّة، ليست كلها على مستوى واحد، ففي بعض المقاطع تكون فضيلة أمَّا إذا حصل إفراط أو تفريط فيها، فإنَّها تتحوّل إلى رذيلة.

وحتّى تتضح الصورة نذكر التالي:

قالوا: إنَّ للإنسان قوى ثلاثة بها قوام استمرار حياته، وهي: القوة الغضبية، والشهوية، والعقلية.

أمَّا الغضبية، فهي القوَّة التي تدفع عن الإنسان المكاره والأضرار، فهي قوة طاردة لما فيه ضرر على النفس. ( وتُسمّى نفساً سبعية، وهي مبدأ الغضب والإقدام على الأهوال والتسلّط والترفع على الغير ). (1)

وأمَّا الشهوية فهي القوَّة التي تجذب للنفس ما ينفعها، (وتُسمّى نفساً بهيمية، في مبدأ الشهوة وطلب الغذاء وشوق الالتذاذ بالمآكل والمشارب والمناكح). (2)

وأمَّا العقلية، فهي القوَّة المدركة التي ميّزت الإنسان عن بقية موجودات هذه الأرض، وهي المسماة بالنفس الناطقة، أي المدركة.

وهذه القوى متضادَّة ( على نحو الإفراط أو التفريط ) من ناحيتين: ناحية التضاد بين فروع وأصناف القوَّة الواحدة، وناحية تضادّ القوى الثلاثة الرئيسية بعضها مع البعض الآخر، فقد تسيطر الشهوة على العقل، بحيث لا تُعطي للعقل ما يستحقه، و قد يسيطر العقل على الشهوة بحيث لا يُعطيها حقها .

وقد تتوازن هذه القوى بعضها مع البعض الآخر ، وتصبح كفريق عمل واحد، كلّ

ص: 46


1- شرح أصول الكافي لمولى محمد صالح المازندراني (ج 1 ص 212).
2- المصدر السابق.

يعمل ما عليه، ولا يتعدى على ما للآخر من حق.

وهذه الحالة الأخيرة هو ما يُسمّى بالعدالة الكبرى أو العدل الأخلاقي، وفيها يكون العقل هو الحاكم على بقيَّة قوى النفس من دون أن ينتهك حقوقها أو يُحمدها عن العمل.

والحاصل: أنَّه إذا أُريد لهذه القوى أنْ تخدم الإنسان فلا بد أن تكون متوازنة، لا ميل فيها للإفراط ولا للتفريط . (1)

فإذا حصل ميل فيها لأحد طرفي الإفراط والتفريط، تحولت تلك القوَّة من قوَّة كانت لتخدم الإنسان إلى قوة ضارة، أو قل تحوّلت من فضيلة إلى رذيلة.

والتفصيل بالتالي:

أمَّا القوَّة الغضبية، فقوامها القوَّة، والفضيلة والوسط فيها يُسمّى (شجاعة)، وهو الإقدام حينما يكون الوقت مناسباً للإقدام والإحجام حينما يكون الظرف مناسباً للإحجام، أمَّا إذا أحجم الفرد في وقت الإقدام، فهي صفة الجبن، وأما إذا لم يُحسن الفرد

ص: 47


1- في شرح أُصول الكافي لمولى محمد صالح المازندراني (ج 1 ص 212 و213)، قال ما نصه: (للإنسان قوى ثلاثة متباينة هي مبادي لآثار مختلفة مشاركة الإرادة، وإذا غلبت أحدها على مع البواقي صارت البواقي مغلوبة أو مفقودة، وتلك القوى أوّلها قوَّة ناطقة، وتُسمّى نفساً ملكية، وهي مبدأ الفكر في المعقولات والنظر في حقائق الأمور. وثانيها القوَّة الغضبية، وتُسمّى نفساً سبعية، و مبدأ الغضب والإقدام على الأهوال والتسلط والترفع على الغير. وثالثها القوَّة الشهوية، وتُسمّى نفساً بهيمية في مبدأ الشهوة وطلب الغذاء وشوق الالتذاذ بالمأكل والمشارب والمناكح. وإذا تحركت القوَّة الناطقة بالاعتدال في ذاتها واكتسب المعارف اليقينية حصلت فضيلة العلم والحكمة، وإذا تحركت القوَّة الغضبية بالاعتدال وانقادت للقوَّة العاقلة فيما تعده حظا ونصيباً لها ولم تتجاوز عن حكمها حصلت فضيلة الحلم والشجاعة، وإذا تحرّكت القوَّة الشهوية بالاعتدال وانقادت للقوة العاقلة واقتصرت على ما تعدُّه العاقلة نصيباً لها ولم تخالفها في حكمها حصلت فضيلة العفّة والسخاء، وإذا تركبت هذه الفضائل الثلاثة وتمازجت حصلت حالة متشابهة هي فضيلة العدالة).

استعمال قوته، وتمادى في أخذ حقوق الآخرين والاعتداء عليهم وسلب حقوقهم، صارت تهوراً، وكذا لو كان الفرد مغامراً من دون حساب النتائج، فهو تهور لا شجاعة.

فنحن نلاحظ أنَّ (القوَّة) موجودة في كلّ مقاطع القوَّة الغضبية، فالجبان والشجاع والمتهوّر كلُّهم عندهم قوة إلَّا أنَّ تلك القوَّة إنّما تكون فضيلة فيما إذا كانت وسطاً بين الجين والتهور.(1)

فنفس القوَّة بما هي قوَّة، لا فضيلة فيها ما لم تُستعمل استعمالاً صحيحاً، ومن هنا، جاء فى الأدبيات الدينية، أنّ قوَّة العضلات لوحدها من دون ضبط النفس لا تمثل

ص: 48


1- قال الشيخ محمد مهدي النراقي في جامع السعادات (ج 1 ص 88 و 89) ما نصه: (وأما فضيلة الشجاعة فقد عرفت أنّها ملكة انقياد القوَّة الغضبية للعقل حتّى يكون تصرفها بحسب أمره ونهيه، ولا يكون للاتصاف بها وصدور آثارها داع سوى كونها كمالاً وفضيلة، فالإقدام على الأمور الهائلة، والخوص في الحروب العظيمة، وعدم المبالاة من الضرب والقطع والقتل لتحصيل الجاه والمال، أو الظفر بامرأة ذات جمال، أو للحذر من السلطان ومثله، أو للشهوة بين أبناء جنسه، ليست صادرة عن ملكة الشجاعة، بل منشؤها إما رذيلة الشَّرَه أو الجبن، كما هو شأن عساكر الجائرين، وقاطعي الطُّرُق والسارقين، فمن كان أكثر خوضاً في الأهوال، وأشدّ جرأةً على الأبطال للوصول إلى شيء من تلك الأغراض، فهو أكثر جبناً وحرصاً، لا أكثر شجاعة ونجدة. و قس على ذلك الوقوع في المهالك والأهوال تعصباً عن الأقارب والأتباع، وربَّما كان باعثه تكرر ذلك منه مع حصول الغلبة، فاغتر بذلك ولم يبال بالإقدام اتكالاً على العادة الجارية. ومثله مثل رجل ذي سلاح لم يبال بالمحاربة مع طفل أعزل، فإنّ عدم الحذر عنه ليس لشجاعته، بل لعجز الطفل. ومن هذا القبيل ما يصدر عن بعض الحيوانات من الصولة والإقدام، فإنَّه ليس صادراً عن ملكة الشجاعة، بل عن طبيعة القوَّة والغلبة. وبالجملة: الشجاع الواقعي ما كانت أفعاله صادرة عن إشارة العقل ولم يكن له باعث سوى كونها جميلة، فربَّما كان الحذر عن بعض الأهوال من مقتضيات العقل فلا ينافي الشجاعة، وربَّما لم يكن الخوض في بعض الأخطار من موجباته فينافيها، ولذا قيل : عدم الفزع مع شدة الزلازل وتواتر الصواعق من علائم الجنون دون الشجاعة وإيقاع النفس في الهلكات بلا داع عقلي أو شرعي كتعرُّضه للسباع المؤذية، أو إلقاء نفسه من المواضع الشاهقة، أو في البحار والشطوط الغامرة من دون علم بالسباحة من أمارات القحة والحماقة).

فضيلة، فقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله أنه مرَّ بقوم فيهم رجل يرفع حجراً يقال له . و هم يعجبون منه، فقال : «ما هذا؟»، قالوا رجل يرفع حجراً يقال له: حجر الأشداء، فقال صلی الله علیه و اله : «ألا أخبركم بما هو أشدّ منه؟ رجل سبّه رجل فحلم عنه، فغلب نفسه، وغلب شيطانه، وغلب شیطان صاحبه». (1)

وأمَّا القوَّة الشهوية، فقوامها الرغبة، و هذه الرغبة إنّما تكون فضيلة إذا اتصفت بالعفّة، فهناك رغبة في تحصيل المال، وفي الزواج، وفي الجاه، وغيرها من الأُمور.

وهذه الرغبة إن ماتت في النفس، بحيث لم تتحرك لجلب النافع لها من هذه الأمور، فهي عبارة أُخرى عن (الرهبانية) التي رفضها الإسلام أشدَّ الرفض، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي ، فقالت: يا رسول الله صلی الله علیه و اله ، إنَّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله صلی الله علیه و اله مغضباً يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان، فوجده يُصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلی الله علیه و اله ، فقال له: يا عثمان، لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفة السهلة السمحة، أصوم وأُصلّي والمس أهلي فمن أحب فطري فليستن بسنتي، ومن سُنَّتي النكاح ». (2)

أما إذا زادت عن حدّها المطلوب، وصار الفرد يطلب ما لا يشبع معه ولا يقنع حينها ستتحوّل تلك الرغبة إلى شَرَه، بحيث قد يصل الحال بأحدهم إلى ما قاله الرسول

ص: 49


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11 ص 289 / ح 13050 / 10)، نقلا عن الشيخ ورّام في تنبيه الخاطر.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5 / ص 494 / باب كراهية الرهبانية وترك الباه/ ح 1)؛ وجاء في الهامش: (قال في النهاية : الرهبانية هي من رهبنة النصارى، وأصلها من الرهبة الخوف، كانوا يترهَّبون بالتخلّي من اشتغال الدنيا وترك ملاذًها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتَّىٰ إِنَّ منهم من كان يُخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنفاها النبي صلی الله علیه و اله عن الإسلام، ونهى المسلمين عنها).

الأعظم صلی الله علیه و اله : ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). (1)

فالفضيلة في الشهوة تكمن في اعتدالها بين الرهبانية والشَّرَه (2). (2)

وأما العقل، فقوامه الإدراك، والتعقل، والتفكر، وحتّى يكون التعقل والتفكر فضيلة، لا بدَّ أنْ لا ينزل عن المستوى المعتدل إلى حدّ الغباء والهبل والجنون، فإنَّ هذه المفردات لا تمثل فضيلة للإنسان.

وكذلك لا بدَّ أنْ لا يُساء استعمال هذه القوَّة المدركة، بحيث تُؤدّي إلى استغلال الآخرين أو الإضرار بهم أو خديعتهم والنصب والاحتيال عليهم، فهذه المفردات ليست من العقل، وإنَّما هي ( جربزة) أو (شيطنة) كما يُعبّرون.

و في ذلك ورد عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّ رجلاً سأله: ما العقل؟ قال: «ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان» فقال فالذي كان في معاوية؟ قال:« تلك النكراء وتلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بعقل». (3)

ص: 50


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ( ص 429).
2- قال الشيخ محمد مهدي النراقي في جامع السعادات (ج 1 ص 87 و 88) ما نصه: (وأما فضيلة العفّة فقد عرفت أنَّها عبارة عن ملكة انقياد القوَّة الشهرية للعقل، حتّى يكون تصرفها مقصوراً على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة وينزجر عما يتضمَّن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه، وينبغي أن يكون الباعث للاتصاف بتلك الملكة وصدور آثارها مجرد كونها فضيلة وكمالاً للنفس وحصول السعادة الحقيقية بها، لا شيء آخر من دفع ضر ، أو جلب نفع، أو اضطرار وإلجاء، فالإعراض عن اللذات الدنيوية لتحصيل الأزيد من جنسها ليس عفة، كما هو شأن بعض تاركي الدنيا للدنيا، وكذا الحال في تركها لخمود القوَّة وقصورها وضعف الآلة وفتورها، أو لحصول النفرة من كثرة تعاطيها، أو للحذر من حدوث الأمراض والأسقام، أو اطلاع الناس وتوبيخهم، أو لعدم درك تلك اللذات كما هو شأن بعض أهالي الجبال والبوادي، إلى غير ذلك).
3- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ج 1 ص 195 باب العقل / ح 15).

فمثل أُولئك الذين استعملوا عقولهم في صناعة أسلحة مدمرة قتلت ملايين البشر، لم يكن عندهم إلا مثل الذي كان عند معاوية.

هذا ما يتعلق بالقوى العامة لدى الإنسان، ونفس الكلام يأتي في فروع تلك القوى، فالحلم هو اعتدال بين الجبن والغضب، والإخلاص هو اعتدال بين النفاق والرياء، والكرم وسط بين البخل والتبذير والحياء وسط بين الوقاحة والخجل، والعدالة وسط الظلم والجور وبين التظلّم اللامسؤول، والحكمة وسط بين السفه والبله، و هكذا.

وهذه القاعدة وإن ناقش البعض في عموميتها لكلِّ الفضائل أو لكلِّ الأحوال، ولكن بالنتيجة هي قاعدة غالبية، وفهمها ينفع كثيراً في التكامل الأخلاقي، وفي ضبط النفس عن أن تميل إلى طرف الإفراط أو التفريط.

مع ملاحظة أن كون الفضيلة وسطاً بين رذيلتين، لا يعني أنَّ لها حدا منضبطاً جدًّا، بل هي في وسطها لها مراحل ومراتب، تطبيقاً للقاعدة المتقدمة في كون الفضائل مراتب مشككة، فالكرم ليس له مرتبة واحدة، بل له مراتب متعدّدة تزيد وتنقص رغم كونه لم يصل إلى حد البخل أو الإسراف، وقس عليه ما سواه من الفضائل.

والقاعدة المهمَّة هى : الاعتدال بين الإفراط والتفريط .

ص: 51

ص: 52

ارتدادية السلوك

هناك قاعدة يذكرونها في علم الفيزياء تقول: لكلِّ فعل ردُّ فعل، مساءٍ له بالقوَّة، ومعاكس له بالاتجاه.

وقد تمت البرهنة عليها فيزيائياً، وتمت الاستفادة منها في تطبيقات عديدة.

وفي الحقيقة، إن سلوك الإنسان فيه هذه الخاصية فالفعل الصادر بإرادة الإنسان له امتداد معيّن يسير فيه، حتّى إذا ما وصل إلى مرحلة ارتد على صاحبه، تماماً كما إذا ربطت شيئاً بحبل مطاطي، فإنَّك إذا رميت هذا الشيء، فإنَّه سيبتعد عنك إلى أن يصل الحبل المطاطي إلى توتّره النهائي، عندها سيعود عليك ذلك الشيء بقوة، بل (وهنا تبدأ القاعدة السلوكية تختلف عن القاعدة الفيزيائية) ربَّما ارتد بقوة أكبر من القوة التي انطلق بها.

هذه قاعدة سلوكية مهمة، وهي : أنَّك مهما تفعل، فإنَّه سيرتد عليك، وهذا يعني:

أنَّه يمكنك أن تجعل نفسك ميزاناً في أفعالك، فما رضيته لنفسك افعله مع غيرك، وما لم ترضَه لها فلا ترضَه لغيرك، وهذا ما أشارت له روايات عديدة، فقد أوصى أمير المؤمنين علیه السلام ولده الإمام الحسن علیه السلام فقال له: يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك و بين غيرك، فأحبب لغيرك ما تُحِبُّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تُحِبُّ أنْ تُظلم، وأحسن كما تُحِبُّ أنْ يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك،

ص: 53

وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ... )». (1)

ولهذه القاعدة تطبيقات عديدة، نذكر منها التالي:

التطبيق الأول: أنَّ الإنسان سيرى نتيجة عمله، إنْ عاجلاً أو آجلاً، فكل ما يصدر منه، ولو كان كلمة واحدة، فإنَّه سيرى نتيجته مرتدة عليه وملتصقة به.

يقول تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا ما فِهِذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ الكهف: 49).

ويقول تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاءَ الْأَوْفى) (النجم: 39 - 41 ) .

ويقول تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَايٌّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الجُنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء: 123 - 124 ) .

وروي عن رسول الله الأعظم صلی الله علیه و اله أنه قال: «كما لا يُجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينزل الفجار منازل الأبرار، فاسلكوا أي طريق شئتم ، فأي طريق سلكتم وردتم على

أهله». (2)

التطبيق الثاني: أنَّ الإنسان إذا بر والديه، فإنَّ هذا العمل سيكون مقتضياً ليبره أولاده، والعكس بالعكس تماماً، وهو أمر أكدته الروايات الشريفة، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «برُّوا آباءكم يبركم أبناؤكم ...». (3)

ص: 54


1- نهج البلاغة ( ج 3 /ص 45 و 46 ) .
2- الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي (ج 2 /ص 294 / ح 6408).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 55 /ح 75).

ولذلك كان عقوق الوالدين من الذنوب التي تُعجّل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه واله : «ثلاثة من الذنوب تُعجَّل عقوبتها ولا تُؤخَّر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان». (1)

093

التطبيق الثالث: أنَّ الإنسان إذا ترك عينيه تلتهم أعراض النساء، فإنَّ هذا سينعكس على نسائه، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: أنَّه قال: «عفوا عن «عفوا عن نساء الناس تعفُ نساؤكم». (2)

وعن أبي عبد الله علیه السلام، قال : «لما أقام العالم الجدار أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى علیه السلام: إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء إن خيراً فخير وإِنْ شَرًا فشر، لا تزنوا فتزني نساؤكم، ومن وطئ فراش امرء مسلم وطِئَ ،فراشه كما تدين تدان. (3)

وعنه علیه السلام قال: «أما يخشى الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم ؟ ! ». (4)

وروي أنَّه قال رسول الله صلى الله عليه واله :« تزوجوا إلى آل فلان فإنَّهم عفُّوا فعفَّت نساؤهم، ولا تزوجوا إلى آل فلان فإنَّهم بغوا فبغت نساؤهم»، وقال: «مكتوب في التوراة: أنا الله قاتل القاتلين، ومفقر الزانين، أيها الناس لا تزنوا فتزني نساؤكم، كما تدين تدان». (5)

ص: 55


1- أمالي الشيخ المفيد (ص 237 /ح 1).
2- الخصال للشيخ الصدوق ( ص 55 /ح 75 ) .
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5 /ص 553 و 554 / باب أنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه /ح 1).
4- الكافي للشيخ الكليني ( ج 5 /ص 553 و 554 / باب أنَّ من عف عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه / ح 2).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 5 /ص 553 و 554 / باب أنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه / ح 4).

نحن نعلم أنَّ الله تعالى قد أخذ على نفسه أن لا يؤاخذ الإنسان بذنب غيره، فقد قال تعالى: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (الأنعام: 164). وقال تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (الإسراء: 15).

فما هو ذنب النساء إذن إذا فعل الرجال ذنباً حتّى يقعن في نفس الذنب؟

والجواب: يمكن أن نذكر جوابين هنا :

الجواب الأوّل: أنَّ ما ورد في هذه الروايات هو من باب التحذير لا أكثر، بمعنى أنَّها تُحذِّر الذي لا يحفظ عينيه وفرجه عن أعراض الناس، أنَّه ربّما وقع هذا الشيء في عِرضه، وحيث إِنَّ الإنسان لا يرضى هذا لنفسه ولعرضه، فلا بدَّ أنْ لا يرضاه لغيره ولذلك منع النبي الا الله من الزواج من آل فلان)، وعلَّل منعه ذاك بأنهم «بغوا فبغت نساؤهم.

وهذا ما بينه رسول الله صلی الله علیه و اله بيان رائع، بيَّن فيه أنَّ (عكس الحالة) على النفس، يُؤدّي إلى الإنصاف في الفعل، فقد روي أن فتى شابًا أتى النبي صلی الله علیه و اله، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا : مَه مَه! فقال صلی الله علیه و اله : «ادنه»، فدنا منه قريباً، فجلس ، قال صلی الله علیه و اله: «أتحِبُّه لأمك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال صلی الله علیه و اله: «ولا الناس يُحِبُّونه لأُمَّهاتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لابنتك؟»، قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال صلی الله علیه و اله: «ولا الناس يُحِبُّونه لبناتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لأُختك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال : ( ولا ) الناس يُحِبُّونه لأخواتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لعمتك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يُحِبُّونه لعماتهم»، قال صلی الله علیه و اله: «أفتُحِبُّه

ص: 56

لخالتك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، فوضع يده عليه وقال صلی الله علیه و اله: «اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فَرْجه»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. (1)

الجواب الثاني: أن المقصود من ذلك ليس هي العلَّة التامة لوقوع الفجور من نسائهم، وإنَّما المقصود هو المقتضي، بمعنى أنَّ فجور الرجال يُوفّر الأجواء المناسبة لفجور النساء، فإنَّ هذه الأفعال الشائنة تنعكس على تصرُّفات نفس الفاجر، مما يعني أنه قد يُوفّر ظروفاً ملائمة تُؤدّي إلى انجرار نسائه إلى الفجور ولو بعد حين.

وبالنتيجة، فإن هذا الفعل سيرتد على فاعله ولو بعد حين.

التطبيق الرابع: الأكل الحرام، سواء كان المقصود من الحرام هو كونه مكتسباً من الحرام (كما إذا سرق من الناس بالميزان، أو تجرأ على بيوتهم وأخذ منها شيئاً عنوة ومن دون استئذان) أو كان أكلاً لشيء محرَّم (كالميتة أو الخمر وما شابه)، فإنَّه سينعكس على الفاعل نفسه بعذاب أُخروي وخزي في الدنيا. وقد يبين الأكل الحرام حتّى في الذرية، بأن يكونوا عاقين له، أو يفعلوا أفعالاً يذمُّونه لأجلها (2)، أو ربما ينقلب عليهم بالفقر وسوء الحال.

عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : «كسب الحرام يبين في الذرية». (3)

التطبيق الخامس تتبع عورات المؤمنين :

هناك من الناس من أخذ على نفسه أن يعمل بوظيفة (رادار) أو (كاميرا مراقبة)، بحيث إنَّه يبقى يتتبع الآخرين، ويستقصي عليهم أخطاءهم، ويكشف عوراتهم.

ص: 57


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 5 /ص 256 و 257).
2- و نفس السؤال المتقدّم في التطبيق الثالث وجوابه يأتي هنا.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5 /ص 124 و 125 / باب المكاسب الحرام /ح 4 ).

وبغضّ النظر عن السبب وراء هذا الفعل، وأنَّه من أجل تعنيف الآخرين بأخطائهم أو تعييرهم بها، أو أنه يعيش ضعفاً في شخصيته، بغضّ النظر عن ذلك، فإنَّ الروايات تُحذِّر من ذلك، وتُهدّد مثل هذا الشخص بأنَّ تتبع عورات الآخرين سينعكس عليه في عاجل الدنيا قبل الآخرة، فقد روي أن رسول الله صلّى الله علیه و اله بالناس ثم انصرف مسرعاً حتَّى وضع يده على باب المسجد، ثمّ نادى بأعلى صوته : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المؤمنين فإنّه من تتبَّع عورات المؤمنين تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته». (1)

و عنه صلی الله علیه و اله أنه قال: «من اطلع في بيت جاره فنظر إلى عورة رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها، كان حقًا على الله أن يُدخِله النار مع المنافقين، الذين كانوا يبتغون عورات الناس في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتَّى يفضحه الله، ويبدي للناس عورته في الآخرة». (2)

إنّ التطبيقات كثيرة في هذا المجال، نكتفي بهذا القدر الذي يكفي موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ص: 58


1- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ج 1 /ص 104 /باب عقاب من تتبع عثرة المؤمن/ ح 83).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 282).

إزاحة الأوهام المحيطة بحياة الإنسان

الحقيقة، هي بداية أي حركة، فمن دون حقيقة واقعية تكون الحركة عبثية وغير مجدية، لذلك، لا يحصل من يعيش أحلام اليقظة إلا على جرَّة سمن الراعي! فالحياة إِنَّما هي لمن يعيشها بواقعها، وحقيقتها.

في طريق التكامل، هناك عدة أوهام تحيط بالإنسان، إن أعطاها الإنسان أكبر من حجمها وأكثر من قيمتها، شكلت في طريقه حجر عثرة تُدمي القدم وتكسر القلب، وإنْ تعامل معها على قدرها، استفاد منها ، وأكمل طريقه التكاملي بقوة قلب ورسوخ قدم.

وحتَّى نكون على بينة من الأمر، نذكر بعضاً من هذه الأوهام:

الوهم الأوّل: وهم الخلود في الدنيا:

وأنَّ هذه الحياة هي حياة الخلود والبقاء، وهذا الوهم رغم وضوح كونه وهماً لا حقيقةً، إلَّا أنَّ التعامل مع الحياة في كثير من الأحيان يكون على أنها حياة الخلود. يقول تعالى: ﴿وَما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا هُوَ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ فِي الحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ (العنكبوت : 64) .

وهذا الأمر ينجرُّ حتَّى إلى لذائذها، فهي وإن كانت لذائذ محللة، ومباحة للمؤمن بشرط تحصيلها بالطريق الشرعي، لكن لذائذها مهما كانت فهي مشوبة بالألم أو الفقدان أو الخسارة، ويمكن لأي فردٍ أن ينظر إلى لذائد الحياة ليرى أنّها لا تأتي بالمجان

ص: 59

أبداً، هذا إذا لم تأخذ وقت المرء وجهده وماله، وقد تُبعده عن عياله، وقد تسلب النوم من عينيه، وقد يكون الحصول على لذة على حساب ترك لذة أُخرى، وهكذا.

الوهم الثاني : وهم العشيرة:

لا شك في أهمية عشيرة الفرد، ولا شكّ في أنَّ العشيرة تنفع الفرد في ساعات العسرة، وتُعطيه هيبة أمام الناس، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «وأكرم عشيرتك، فإنَّهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول». (1)

ويقول علیه السلام: «أيها الناس، إنَّه لا يستغني الرجل – وإن كان ذا مال – عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطةً من ورائه، وألمهم لشعثه، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به.... ألا لا يعدلنَّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أنْ يسدَّها بالذي لا يزيده إنْ أمسكه، ولا يُنقصه إن أهلكه. ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنَّما تُقبض منه عنهم يد واحدة، وتُقبض منهم عنه أيدٍ كثيرة ... ». (2)

البعض يفتخر بأنَّه من العشيرة الفلانية، وهذا أمر لا مانع منه في حد نفسه، لكن أنْ يكون الانتساب إلى عشيرة معيّنة مدعاة للتفاخر على الغير من غير عمل، أو أن يكون مدعاة لإهانة الآخرين، أو الاعتماد على العشيرة في الآخرة، فهذا وهم لا بدَّ أنْ نزيحه من الذهن تماماً.

يقول تعالى: « فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ »(المؤمنون: 101) .

ومن مناجاة أمير المؤمنين علیه السلام: إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليّتي»، ثمّ قال: «آه إنْ أنا قرأت في الصُّحُف سيئة أنا

ص: 60


1- نهج البلاغة (ج 3 / ص 57)
2- نهج البلاغة (ج 1 / ص 62)

ناسيها وأنت محصيها فتقول:« خذوه فيا له من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته...». (1)

الإمام زين العابدين علیه السلام يقول لطاووس اليماني: «هيهات هيهات يا طاووس، دع ني حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى: ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ﴾ ؟ والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح». (2)

ص: 61


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 1 / ص 389).
2- في مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج) (3 ص (291 و 292): عن طاووس الفقيه، قال: رأيت الإمام زين العابدين علیه السلام يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبَّد، فلما لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال: «إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمّد في عرصات القيامة»، ثم بكى، وقال: «وعزّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، و لا لعقوبتك متعرض، ولكن سولت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليَّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عنّي، فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفّين: جوزوا، وللمثقلين: حطوا أمع المخفّين أجوز أم مع المثقلين أحطّ ؟ ويلي كلَّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربّي؟»، ثم بكى، ثم أنشأ يقول: أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي ثم أين محبت . أتيتُ بأعمال قباح رديَّة وما في الورى خلق جنى كجنايتي . ثم بكى وقال: سبحانك تُعصى كأنَّك لا ترى، وتحلمُ كأنَّك لم تُعْصَ، تتودَّد إلى خلقك الصنيع كأنَّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغني عنهم. ثمّ خرَّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه وشلتُ رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتّى جرت دموعي على خده، فاستوى جالساً وقال: «من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي ؟!». فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن عليّ، وأُمُّك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله. فالتفت إليَّ وقال: «هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ »[المؤمنون: 101]، والله لا ينفعك غداً إِلَّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح»

الوهم الثالث: وهم الأولاد والزوجة:

لا شكّ أنَّ الأولاد غنيمة في هذه الحياة، وأنّهم يعينون أبويهما عند ملمات الدهر، ولكن أن نجعل كلَّ همنا أولادنا، ولو على حساب آخرتنا، فهذا هو الوهم الذي لا بدَّ

أنْ نُفيق منه .

البعض يعمل ولو بالحرام، ولو بتركه للصلاة في وقتها، ولو على حساب دينه، وإذا ساًلته عن ذلك أجابك : لا بدَّ أنْ أكد على عيالي!

فإذا أجابك بذلك فقل له: حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء.

في الآخرة، ستقف وحدك، لا عشيرة، ولا أولاد، ولا زوجة، ولن يُبرِّروا لك عملك، ولن يُعطوك من حسانتهم، ولن يأخذوا سيئاتك. إذن، على المرء أن يحافظ على نفسه ودينه وعلى عياله كذلك، فإذن ليس من الصحيح أنْ تُضيع نفسك، ولا من الصحيح أنْ تُضيّع عيالك، بل لا بد من التوازن بين هذين المطلبين المهمين. وهو أوصى به القرآن الكريم بقوله عزّ من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ﴾ (التحريم: 6).

وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام: لا تجعلنَّ أكثر شغلك بأهلك وولدك، فإن أهلك وولدك أولياء الله فإنَّ الله لا يُضيّع أولياءه، وإنْ يكونوا أعداء الله فما همك وشغلك بأعداء الله؟». (1)

ص: 62


1- نهج البلاغة (ج 4 / ص 82)

بل لعل بعض الأولاد يتحوّل من صديق معين إلى عدوّ مهين، يقول تعالى: ﴿يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ (التغابن: 14) (1)، وذلك كما إذا تدخلوا في منع الأب عن عمل الخير، أو كانوا سبباً في الجائه إلى فعل الحرام، أو فعلوا ما يُسبب الأذى على الوالدين، وما شابه هذه الأمور.

الوهم الرابع: وهم المال:

يقضي العديد من الناس حياتهم في اكتساب المال ولا إشكال في هذا في حدّ نفسه، بل هو مما يلزم على المؤمن، حتَّى لا يقع في حاجة لئيم، وحتّى لا يكون كلّاً على غيره، وحتّى لا يدع أهله وعياله يتكفّفون الناس، ولكن إذا لم يلتزم بحدود كسب المال، انقلب عليه المال وبالاً، وإذا فدى صحته من أجل ماله، فسيفدي ماله من أجل صحته ولن يحصل عليها !

إنَّ خسارة المال وإن كانت مؤلمة، ولكنَّها ليست هي الخسارة الحقيقية، إنَّما الخسارة الحقيقية هي ما حكاه القرآن الكريم بقوله عزّ من قائل: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ المُبينُ ﴾ (الزمر: 15 ) .

ويقول تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنا يَظْلِمُونَ (الأعراف: 9).

ص: 63


1- في تفسير القمي (ج 2 /ص 372) في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر علیه السلام في قوله: يا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ»، «وذلك أنَّ الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه واله تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله أن تذهب عنا وتدعنا فنضبع [أي نجبن، وفي نسخة : نضيع ] بعدك، فمنهم من يُطيع أهله فيقيم ، فحذرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي ثمّ يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبداً، فلما جمع الله بينه وبينهم أمره الله أنْ يُوفي ويُحسِن ويصلهم، فقال: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن: 14 ]».

فأنْ يخسر المرء أهله ونفسه لهي خسارة لا يُعوِّضها مال الدنيا كله.

هذا فضلاً عن أنَّ الربح الحقيقي ليس هو في اكتناز أكبر كم ممكن من المال، فإنَّ الهم بهذا الأمر قد يوصل الرجل إلى أن يكون كما قال القرآن الكريم : ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَياةِ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (البقرة: (96).

وقد أنشد بعضهم. (1)

النارُ آخر دینار نطقت به والهم آخر هذا الدرهم الجاري.

والمرء بينهما ما لم يكن ورعاً معذَّبُ القلب بين الهم والنار .

بل إنَّ الربح الحقيقي هو ما قاله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمُوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (آل عمران (185).

علينا أن نتذكَّر أنّه مهما كان عندنا من أموال الدنيا، فليست هي بأعظم مما أُوتي قارون، تلك التي قال القرآن الكريم عنها وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (القصص: 76).

ولكنه عندما أخلد الأرض واتَّبع هواه وتغطرس وتجبّر، كانت النتيجة هي: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) (القصص: 81).

ص: 64


1- إعانة الطالبين للبكري الدمياطي (ج 2 /ص 171).

الشعور العملي بالفقر الوجودي

يُطلق الفقر ويُراد منه عدة معانٍ: منها الفقر بمعنى عدم تملك المقتنيات، وبمعنى شَرَه النفس في قبال القناعة، وهذان المعنيان ليسا هما محط نظر هذه القاعدة.

إنَّما المقصود من الفقر هو معنى آخر بيانه بالتالي:

فلسفياً قالوا: إنَّ الإنسان حقيقته الفقر، لأنه ممكن وحادث ومحتاج، فليس له من ذاته إلَّا الاحتياج، وهو وجود رابط لا حقيقة له من دون المستقل، وهو محتاج إلى علته حدوثاً وبقاء، تماماً كالمصباح الكهربائي الذي يحتاج - لكي يضيء - إلى التيار الكهرباء حدوثاً وبقاء، وإلا فليس له إلا الظلام.

وهذا المعنى شامل لكلِّ مفردات حياة الإنسان، فهو في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فقير محتاج إلى من يُعطيه القوَّة ،والحول، وهو ما فَسّرت به الحوقلة، حيث ورد عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليها السلام ، قال سألته عن معنى: (لا حول ولا قوة إلّا بالله فقال : معناه «لا حول لنا عن معصية الله إلا بعون الله، ولا قوَّة لنا على طاعة الله إلَّا بتوفيق الله عزوجل». (1)

إِنَّ من أهم المشاكل الروحية في طريق التكامل، هو إحساس الفرد بالاستغناء والاستقلالية، فيدعي مدعيات أكبر من حجمه، فيقول: ﴿إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي »(القَصص:78 )

ص: 65


1- التوحيد للشيخ الصدوق ( ص 242 /باب 35 /ح 3) .

بل قد يتصرف تصرُّفاً متناسباً مع ادعاء فرعون: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهِ غَيْرِي (القصص: 38) .

وبالتالي، فإنَّ إحساسه بالاستغناء عن الله تعالى، سيجعله يعيش حالة من التعالي على العباد والتناسي للأحكام الإلهية، وقد يصل به الأمر إلى اعتبار نفسه الكلّي المنحصر بفرد، فلا جاء أحد قبله، ولا يجيء أحد بعده، ويترتب عليه أنَّه فوق مستوى الوعظ والإرشاد، فلا يقبل نصيحة، ولا يرضى أنْ يُخطَّيَّه أحد، ولا يتقبل النقد، لأنَّه صار في موقع أعلائي.

والحقيقة، إنَّ من أهم مدارج الكمال، هو الإحساس بالفقر الوجودي إلى الله تعالى، فإنَّه عين الغنى الحقيقي، أي إنَّه من نوع القوانين المتعاكسة إذا صح التعبير، فالإنسان إذا أراد الغنى، فعليه أن يعيش الفقر إلى الله تعالى، وهو مفاد ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام : «من أراد عزًا بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل من ذُلّ معصية الله إلى عزّ طاعته». (1)

فالكمال كلّ الكمال في الافتقار إلى الله تعالى، وهذه القاعدة لم تأتِ من فراغ، لأنّها مبتنية على الحقيقة الواقعية التكوينية، إذ كلَّ ما يُمكن أن يجعل الإنسان مستغنياً هو في الحقيقة من الله تعالى فالعلم مثلاً هو كما يقول الإمام الصادق علیه السلام : «اليس العلم بالتعلم : إنَّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوَّلاً من نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يُفهمك». (2)

فالشعور بالعبودية والفقر، هو من أهم أسباب الحصول على العلم.

وكذا الأموال، فإنَّ الرزاق ليس هو إلَّا الله تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو

ص: 66


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 169 / ح 222).
2- مشكاة الأنوار لعلي الطبرسي ( ص 563).

الْقُوَّةِ المتينُ ﴾ (الذاريات: 58).

وروي أنه جاء في الوحي القديم : (يا بن آدم خلقتك من تراب ثم من نطفة فلم أعي (1) بخلقك ، أويعييني رغيف أسوقه إليك في حينه؟). (2)

وهكذا القوة العضلية، والجاه، والمنصب، وكلُّ شيء، فإنَّ المسبب الحقيقي له هو الله عزوجل.

وكل هذا هو تطبيق للحقيقة التي يذكرها القرآن الكريم: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ﴾ (فاطر: 15 ) .

ومن هنا، روي عن ابن أبي يعفور ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول وهو رافع يده إلى السماء: «ربّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، لا أقل من ذلك ولا أكثر، قال : فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته» . (3)

وهذا هو ما ورد عن النبي الأعظم صلی الله علیه و اله أنه افتخر به، فقال: «الفقر فخري وبه أفتخر». (4)

وهو المقصود مما ورد ورد من الدعاء: «اللهم أغنني بالافتقار إليك، ولا تُفقرني بالاستغناء عنك». (5)

وإياه عنى النبي موسى علیه السلام كما حكاه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ (القصص: 24).

ص: 67


1- قوله: (فلم) أعي) هو أفعل من عيى من باب تعب: عجز عنه. (المجمع). (من هامش المصدر).
2- عدَّة الداعي لابن فهد الحلي (ص 83).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 581 / باب دعوات موجزات لجميع الحوائج / ح 15).
4- عدَّة الداعي لابن فهد الحلي (ص 113).
5- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 69 / ص 31)

وبهذا ألم الشاعر فقال:

ويعجبني فقري إليك ولم يكن ليُعجبني، لولا محبَّتك الفقرا .

وإليه أشار الشاعر فيما نقله ابن فهد الحلّي في عدته.: (1)

يا من يرى ما في الضمير ويسمعُ أنت المُعَدُّ لكلّ ما يُتوقَّعُ .

يا من يُرجى للشدائد كلّها يا من إليه المشتكى والمفزع.

يا من خزائن ملكه في قول (كُنْ ) أمتن فإن الخير عندك أجمعُ.

ما لي سوى فقري إليك وسيلة بالافتقار إليك فقري أدفعُ.

ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ ولئن رُدِدْتُ فأيَّ باب أقرعُ .

ومن الذي أدعو وأهتفُ باسمه إن كان فضلك عن فقير يُمنَعُ .

حاشا لمجدك أنْ تُقنِّط عاصياً والفضل أجزل والمواهب أوسعُ .

إذا تبيَّنت هذه القاعدة، لا بد من الالتفات إلى التالي:

أوَّلاً: لا يعني الإحساس بالفقر الوجودي المشار إليه، أن يظهر الرجل بمظهر الفقير المحتاج المسكين المستكين أمام الناس، فإنَّ هذا مما لا ينبغي للمؤمن، فحتَّى لو كان محتاجاً بالفعل، لكن عليه أن يكون كما يقول القرآن الكريم: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ (البقرة: 273).

ومن هنا، وردت الروايات الشريفة بتأديب المؤمن بأنْ يُظهر الغنى وعدم الحاجة إلى الناس مهما أمكنه، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام :« رحم الله عبداً عفّ وتعفف وكفَّ عن المسألة، فإنَّه يتعجل الدنيّة في الدنيا، ولا يُغني الناس عنه شيئاً... ». (2)

وعن مفضّل بن قيس بن رمانة، قال: دخلت على أبي عبد الله علیه السلام، فذكرت له

ص: 68


1- عدَّة الداعي لابن فهد الحلي (ص 28 و 29).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 4 / ص 21 و 22 / باب كراهية المسألة / ح 6).

بعض حالي، فقال: يا جارية، هاتِ ذلك الكيس، هذه أربعمائة دينار.... فخذها وتفرّج بها، قال: فقلت: لا والله، جعلت فداك ما هذا دهري (1) ، ولكن أحببتُ أن تدعو الله عزوجل،لي، قال: فقال: «إنّي سأفعل، ولكن إيّاك أنْ تُخبر الناس بكل حالك، فتهون عليهم). (2)

ومن هنا كان من صفات شيعة أهل البيت علیهم السلام هو أنَّهم يُظهرون الغنى وإن كانوا فقراء، حيث روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال في فضل الشيعة: «وإنَّ فقراءكم لأهل الغنى (3)، وإنَّ أغنياءكم لأهل القناعة». (4)

ثانياً: أنَّ الإحساس بالفقر الوجودي المستغرق والضعف التام أمام الله تعالى، الجلوس عن طلب الرزق، وعن السعي لتحصيل الغنى المادي مهما أمكن للإنسان، ولا يعني الاتكال والتواكل حتَّى إذا ما سألت أحدهم عن السبب الذي كان وراء عدم خروجه إلى العمل والكد على النفس والعيال، اعتذر بأنَّ الله تعالى هو الرزّاق، وأنَّه سيُرسل له رزقه، فإنَّ مثل هذا الفرد هو ممن لا يُستجاب دعاؤهم، حيث روي عن الإمام الصادق علیه السلام: أربعة لا يُستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول : اللهم ارزقني فيقال له: ألم آمرك بالطلب ؟! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟! ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ألم آمرك بالإصلاح ؟!»، ثمّ قال: «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ﴾ [الفرقان: 67] ، ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة ؟!». (5)

ص: 69


1- أي ليس هذا عادتي وهمتي ، فإنَّ الدهر يقال للهمة والعادة. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 4 / ص 21 و 22 / باب كراهية المسألة / ح 7).
3- أي غنى النفس والاستغناء عن الخلق بتوكَّلهم على ربهم. (من هامش المصدر).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 8 /ص 214 فضل الشيعة / ح 259).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 511 / باب من لا تستجاب دعوته/ ح 2).

ثالثاً: أنَّ الفقر الوجودي، في الوقت الذي يعني الطلب والتعلُّق بالأسباب المادية التي جعلها الله تعالى في هذا العالم هو يعني أيضاً ضرورة التمسك بالأسباب المعنوية والغيبية التي لها دور في التوفيق الإلهى والتسهيل لأمور الدينا، أي إنَّ المطلوب هو التوازن بين التوسل بالأسباب المادية وبالأسباب المعنوية، وهو أمر أشارت له رواية غاية في الكناية، حيث روي أنَّ الإمام الباقر علیه السلام كان إذا أصابته حمّى استعمل الماء البارد، ونادى: « يا فاطمة بنت محمد » (1) ، أي إنَّه في الوقت الذي استعمل العلاج الطبّي المتمثل بالماء البارد ، هو استعان أيضاً بالأسباب الغيبية المتمثلة بالتوسل بالزهراء عليهما السلام .

ص: 70


1- في الكافي للشيخ الكليني (ج8 /ص (109): عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي إبراهيم علیه السلام، قال : قال لي: «إنّي لموعوك [ والوعك: الحمّى ( من هامش المصدر )] منذ سبعة أشهر، ولقد وعك ابني اثني عشر شهراً وهي تضاعف علينا أشعرت [أشعرت على البناء للمجهول، أو على صيغة الخطاب المعلوم مع همزة الاستفهام، أي هل أحسست بذلك ؟ ولعل مراده علیه السلام: أنَّ الحرارة قد تظهر آثارها في أعالي الجسد وقد تظهر في أسافلها. من هامش المصدر)] أنّها لا تأخذ في الجسد كله ربَّما أخذت في أعلى الجسد ولم تأخذ في أسفله، وربَّما أخذت في أسفله ولم تأخذ في أعلى الجسد كله؟»، قلت: جعلت فداك، إنْ أذنت لي حدثتك بحديث عن أبي بصير ، عن جدك ، أنَّه كان إذا وعك استعان بالماء البارد، فيكون له ثوبان ثوب في الماء البارد وثوب على جسده يراوح بينهما ثم ينادي حتى يسمع صوته على باب الدار : يا فاطمة بنت محمّد، فقال: «صدقت»، قلت: جعلت فداك، فما وجدتم للحمّى عندكم دواء؟ فقال: ما وجدنا لها عندنا دواء إلا الدعاء والماء البارد...

التعاون على الفضيلة

هذه الحياة، الكثير من الأمور التي يحتاج إليها الإنسان، وكثرتها تمنعه من أنْ يقضيها كلها بنفسه ولوحده، ولذلك، بنى حياته على الاجتماع مع غيره من أفراد نوعه، وتعاون معهم، لحل الأزمات، وتسهيل أموره، فكانت النتيجة أنَّ كلَّ واحدٍ من بني البشر صار يخدم غيره من موقعه، وهم يخدمونه من مواقعهم.

ولذلك استطاع الإنسان أن يتخطّى المتوقع، عندما تعاون من أخيه الإنسان.

وكلَّما كانت الحاجة أهم، كلَّما احتاج إلى التعاون مع غيره أكثر.

ونحن نعتقد أنَّ من أهمّ مشاريع الإنسان في هذه الحياة، هو مشروعه في تكامله الوجودي، وفي تنمية روحه، إلى أن يبلغ أعلى ما يمكن أن يصل إليه من مراتب الكمال.

وفي هذا الطريق، يمكن للإنسان أن ينفرد بنفسه، ليلتزم بعض الأوراد التي يذكرها علماء الأخلاق، فمثلاً يذكرون أنَّ السائر في طريق التكامل عليه أن ينفرد بنفسه، ليتفكّر في خلق السماوات والأرض، ليوقن بأنَّ لها منظماً وخالقاً أبدعها، وأنَّ عليه أنْ يتفكّر في عظمة الله تعالى، ليخرَّ خاشعاً له، وفي النَّعَم الإلهية، ليشكرها حقّ شكرها، وعليه أنْ يلتزم السجود الطويل، وبعض الأذكار، كالذكر اليونسي : لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ (الأنبياء: (87) وكلُّ هذا صحيح، ولكن الذي أُريد أن ألفت النظر إليه، أنَّ الانفراد بالنفس ليس

ص: 71

متاحاً للجميع، وقد يستلزم تعطيل بعض الأمور الحياتية المهمة، لذلك، على المؤمن أن يختلط بغيره، واختلاطه بغيره لن يمنعه من الاستمرار في تكامله، لكن بشرط أن يخالط من يعاونه على ذلك، أي إنَّ عليه أن يبتعد عن الأماكن والأشخاص الذين يصدُّونه عن التكامل ، وأن يكون اختياره دقيقاً للمجتمع الذي يتواجد فيه.

فإذا وجد من الإخوة المؤمنين من يساعدونه على التكامل، كان قد ربح ربحاً عظيماً. إنَّ القاعدة هنا تقول : حتَّى تستمر في تكاملك، فإنَّك لا بدَّ أنْ تتعاون مع غيرك، من موقعكم، ليأخذ كلّ واحدٍ منكم بيد صاحبه.

وبعبارة أوضح : إنَّ المجتمع كلَّما كان أقرب إلى الصلاح بصورته الجماعية، كلَّما فتح أبواباً أكثر لتكامل أفراده، والعكس بالعكس تماماً.

ولذلك نجد أنَّ من المحرَّمات على المؤمن : التعرُّب بعد الهجرة، أي (أن ينتقل من بلد يتمكن فيه من تعلم ما يلزمه من المعارف الدينية والأحكام الشرعية، ويستطيع فيه أداء ما وجب عليه في الشريعة المقدَّسة، وترك ما حرم عليه فيها، إلى بلد لا يستطيع فيه على ذلك كلّاً أو بعضاً ). (1)

وهذه القاعدة هي ما يُمكن أن تُستفاد من العديد من الآيات والروايات الشريفة، و نذكر هنا عدة مؤشّرات لذلك :

إن القرآن الكريم يوصي المؤمنين بذلك بصريح العبارة، فيقول عز من قائل:« وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (المائدة: 2).

وسورة العصر مثلاً، صريحة في أنَّ التزام الحقِّ يأتي من التواصي بين المؤمنين،

ص: 72


1- فقه الحضارة للسيد السيستاني ( ص 135).

والتواصي هو عمل جماعي يصدر من الأفراد بعضهم مع البعض الآخر، فأنا أُوصيك بالحقِّ، وأنت توصيني بالحقِّ، والثالث يوصي الرابع، وهكذا.

وإنَّ أصل مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يبتني على هذه القاعدة، أي التعاون على التكامل الجماعي. وقد روي عن النبي صلی الله علیه و اله أنه قال: «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَت منهم البركات وسُلّط بعضُهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء». (1)

وفي إشارة أُخرى لذلك، روي عن عبد العزيز القراطيسي، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: «يا عبد العزيز، إنَّ الايمان عشر درجات بمنزلة السُّلَّم يُصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست علي شيء، حتى ينتهي الی العاشر ، فلا تُسقط من هو دونك فيُسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنَّ من كسر مؤمناً فعليه جبره». (2)

فالرواية تدعو المؤمن إلى أن يساعد أخاه المؤمن في صعوده في طريق التكامل.

على أنَّ هناك العديد من الأحكام الشرعية التعبدية، التي تكشف عن دور الجماعة في التأثير الإيجابي لرفع الجماعة كلّها مراتب تكاملية، فضلاً عن تكامل نفس الفرد الذي يعمل على تحقيق تلك الأحكام التعبدية، مثل: صلاة الجماعة، والدعاء الجماعي، والتكافل الاجتماعي المتمثل بالصدقات الواجبة والمستحبّة، والجلوس مع الإخوة المؤمنين، وقضاء حوائجهم، وغيرها.

عن ابن عباس، قال: قيل : يا رسول الله، أيُّ الجلساء خير؟ قال: «من ذكركم بالله

ص: 73


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 6 /ص 181 / ح 22/373).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 44 و 45 / باب آخر من درجات الإيمان/ ح 2)

رؤيته، وزادكم في علمكم منطقه ، وذكركم بالآخرة عمله . (1)

وعن المفضَّل : ودَّعْنا أبا جعفر علیه السلام ، فقال : يا خيثمة، أبلغ موالينا منا السلام، وقل لهم: إنّي أوصيهم بتقوى الله، وأن يعين غنيهم فقيرهم، وقويهم ضعيفهم، وحليمهم جاهلهم، وأنْ يشهد حيهم جنازة ميّتهم، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم، فإنَّ لقاء بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا أهل البيت. (2)

وعن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال : «أيّما ثلاثة مؤمنين اجتمعوا عند أخ لهم، يأمنون بوائقه ولا يخافون غوائله ويرجون ما عنده إن دعوا الله أجابهم، وإن سألوا أعطاهم، وإنْ ،استزادوا زادهم، وإن سكتوا ابتدأهم). (3)

وعن صفوان الجمال، قال: كنت جالساً مع أبي عبد الله علیه السلام إذ دخل عليه رجل من أهل مكة يُقال له: ميمون فشكا إليه تعذَّر الكراء عليه، فقال لي: «قم فأعن أخاك»، فقمت معه، فيسر الله ،کراه، فرجعت إلى مجلسي، فقال أبو عبد الله علیه السلام: «ما صنعت في حاجة أخيك؟»، فقلت: قضاها الله – بأبي أنت وأُمّي -، فقال: «أَمَا إِنَّكَ أَنْ تعين أخاك المسلم أحبَّ إليَّ من طواف أسبوع بالبيت مبتدئا (4)...). (5)

ص: 74


1- أمالي الشيخ الطوسي ( ص 157 / ح 14/262).
2- الدعوات لقطب الدين الراوندي ( ص 225 /ح 622 ) .
3- الكافي للشيخ الكليني ( ج 2 /ص 178 باب زيارة الإخوان/ ح 14).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 / هامش ص 198)؛ قوله : ( مبتدئاً إمَّا حال عن فاعل (قال) أي قال علیه السلام ذلك مبتدئاً قبل أن أسأله عن أجر من قضى حاجة أخيه، أو عن فاعل الطواف، أو هو على بناء اسم المفعول حالاً عن الطواف)، وعلى التقديرين الأخيرين لإخراج طواف الفريضة. وقيل: حال عن فاعل (تعين ) أي تعين مبتدئاً [ قبل أن يسألك الإعانة]. (من هامش المصدر).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 198 باب السعي في حاجة المؤمن/ ح 9).

مُتْ باختيارك أو مُتْ بالإرادة تحيى بالطبيعة

لا شكّ أنَّ الموت حق على كلّ ذي نفس، ولا شكّ أنَّ الموت فعل من أفعال الله تعالى، فنحن لا نموت بإرادتنا، حتّى الذي ينتحر ، فإنَّه يفعل المقدّمات للموت، أمَّا نفس الموت، وهو انفصال الروح عن البدن، فهو فعل الله تعالى، حيث أوكل هذا الأمر لبعض ملائكته ليقوموا بإماتة ذوي النفوس.

وهذا أمر واضح.

إِلَّا أَنَّه وفي طريق التكامل الوجودي تواجهنا توصية تحتاج إلى تأمل دقيق لمعرفة معناها، وتلك التوصية تقول : موتوا قبل أن تموتوا. (1)

وحتى نفهم معنى هذا التوصية جيّداً، نقول :

1 - إِنَّ الإنسان ليس جسداً فقط، وليس روحاً فقط، بل هو مركب من الروح والبدن، وهذا يترتب عليه الكثير من الأمور المهمة، والتي أهمها أنَّ من يريد الحصول على الراحة والسعادة في الدنيا والآخرة فلا بدَّ أنْ يعتني بكلا جانبي وجوده الروح والبدن. وليس هذا محل تفصيل هذا الأمر، إنَّما نريد القول: إِنَّ الروح هي وجود مجرَّد،

ص: 75


1- بغضّ النظر عن كون هذه المقولة حديثاً لأحد المعصومين عليهم السلام أو كلمة لبعض المتصوّفة، أو حكمة لبعض الحكماء، فإنَّ المقصود هنا هو معناها المذكور في القاعدة بما يتناسب مع القواعد العامة للإسلام.

وهي مع البدن تُكوّن الإنسان.

2- هذه الدنيا، هي دنيا التسابق والتكامل وهذا هو ما بنى الله تعالى عليه عالم الدنيا، فليس في عالم الدنيا سكون، بل هي حركة مستمرة، وهذا من سُنَن الله تعالى التكوينية في دنيا الإنسان، وهذا ما تشير إليه الآية الشريفة: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن (الرحمن :29).

فمن الناس من يسير باتجاه الله تعالى، ومنهم من يتراجع عن ما أراده الله تعالى منه ليصير كالأنعام بل أضل. وعلى كلّ حالٍ، فالدنيا هي قاعة التسابق، والفرصة الوحيدة التي يمكن للبعض أن يسبق بها غيره.

3 - إِنَّ كلَّ من يريد سلوك طريق - مادّي أو معنوي – فلا بد له من أُمور مهمة يحتاجها في سيره، وروح الإنسان في الدنيا كي تتكامل فإنَّها تحتاج إلى وسيلة وآلة، كما أنَّك تحتاج في سفرك إلى مدينة من المدن إلى طريق ووسيلة نقل وعلامات، كذلك الروح تحتاج في تكاملها إلى هذه الأمور، وكلامنا الآن في آلة الروح، فآلة الروح في عالم الطبيعة والدنيا هو البدن.

إذن، البدن ليس إلَّا آلة وأداة لتفعل الروح أفعالها.

4 - هذا البدن الذي هو آلة الروح، قد زوَّده الله تعالى بالعديد من الأدوات و(الأسلحة) التي يستفيد منها في كشف العالم الخارجي والاستفادة منه، تلك الأدوات التي أشار لها تعالى في قوله: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ﴾ (الملك : 23) .

فأدوات البدن التي تنقل الحدث مباشرةً إلى الروح هي ما يُعبّر عنها بالحواس الخمس.

ص: 76

وهذا يشير إلى وجود علاقة حميمة وشديدة بين الروح والبدن هي الاستكمال، أي إنَّ الروح تستكمل بواسطة البدن في بعض أنواع الاستكمال، بل نجد أنَّ العلاقة بين الروح والبدن تتطوّر حتّى تصل إلى حد بحيث يُؤثر أحدهما على الآخر فسيولوجياً، وهذا ما نراه واضحاً عندما يصاب البدن بمرض ما فإِنَّه يُؤثر سلباً على الروح والعكس بالعكس، فصحة البدن وقوته تنقلب بالفائدة على الروح حتَّى قيل: إنَّ العقل السليم في الجسم السليم. ولذا تجد أن الروح ترتاح نوع ارتياح إذا ارتاح البدن بالنوم والأكل مثلاً.

وهكذا لمَّا تُصاب الروح ببعض النوبات المرضية فإنَّها تُؤثر على البدن، فترى الحسود لا يرتاح له جسد لما يتحمل من ألم الحسد، وهكذا الحزن والخوف كلّها على البدن وعكسها صحيح فالفرح يبعث النشاط في الروح، والغبطة تريح البدن، والأمن يعافيه، وهكذا فالعلاقة متبادلة بينهما هنا في عالم الدنيا والتكامل.

5- وينبغي الالتفات إلى أنَّ العلماء يُؤكِّدون على أنَّ الذي يرى بالعين ويسمع بالأُذُن ويمس بإصبعه ليس هو البدن، بل هي الروح، ولكنَّها تحتاج في هذا الإحساء إلى آلة، فتستخدم البدن، فالذي يرى هي الروح بواسطة العين، والذي يسمع الروح بواسطة الأُذُن، وهكذا بقية الحواس.

ومن هنا يتّضح أنَّ البدن ليس هو الذي يتكامل، بل التكامل هو للروح، لكنَّها تحتاج إلى وسيلة في بعض الكمالات فتستخدم البدن. ومن هنا يتضح معنى الحديث الشريف: «نية المرء خير من عمله» (1) ، باعتبار أن النية هي . فعل الروح، والعمل

ص: 77


1- في المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ج 1 /ص 260 باب النيَّة / ح 315): عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله: «انيَّةالمرء خير من عمله ونيَّة الفاجر شرٌّ من عمله، وكل عامل يعمل بنيَّته» .

الجارحي هو فعل ،البدن والبدن ليس له أي قيمة من دون الروح، ولذا كان الفعل الروحي - الجانحي - الصادر من الجزء الأصيل في الإنسان – وهي الروح – أفضل من الفعل الجارحي الصادر من الجزء الفرعي من الإنسان - وهو البدن -.

6- ومن الواضح أنَّ الإنسان في الدنيا لا يستطيع أن يستغني عن هذه الأدوات في حياته، بل ربما تتوقف الكثير من الأمور الحياتية لو لم تكن هناك حواس أو بعضها، ولذا قيل : ( من فَقَدَ حَمَّا فَقَدْ فَقَدَ علماً).

وهذا يعني أنَّ البدن في حقيقته ما هو إلا سجن للروح المجردة، تلك الروح على عظمتها، ولكنها في عالم الدنيا محتاجة في تكاملها إلى البدن، وربما يكون هذا من معاني أنَّ الدنيا سجن المؤمن، حيث إنَّ روحه محدّدة بحدود البدن وقابلياته القليلة.

7 - ومشروع الإنسان في هذه الدنيا - كما أشرنا - هو التكامل، ومعنى التكامل هو الحصول على المراتب الكمالية المتعالية بصورة مستمرَّة، أي مع عدم التوقف في التكامل، وهذا المعنى هو ما تشير إليه بعض الأحاديث الشريفة، مثل ما روي عنه صلی الله علیه و اله : «إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً، فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم). (1)

وبعبارة أصرح: مشروع الإنسان في الدنيا هي محاولة الهروب من سجن البدن، حتّى تتحرر الروح، فتستغني عنه، فترى بلا عين وتسمع بلا أُذُن، ولا تتقيد بالزمان والمكان.

ولكن مع الأسف، نجد أنَّ البعض قد جعل مشروعه في الدنيا هو تكامل البدن فقط، فتراه لا يُفكّر إلَّا في راحة بدنه ولو على حساب دينه ومعتقداته. وفي الحقيقة، إنَّ للبدن حقًا على الإنسان، باعتبار أنَّ البدن يحتاج في استمرار وجوده إلى الأمور المادية من أكل وشرب وراحة بدنية ونوم وتوفير بعض الأمور المهمة كالمسكن والملبس والمال

ص: 78


1- المعجم الأوسط للطبراني (ج 6 ص 367).

و...، ولكن هذا لا یعنیأنَّ الإنسان يعتبر هذه الأمور هي الأساس من وجوده، بل الحقيقة أنَّ الإنسان لا بدَّ أنْ يعتني بهذه الأمور بما يخدم هدفه الأصلي، وهو التكامل، وهذا ما دعا له أمير المؤمنين وصرَّح بأنَّ مشروع الإنسان ليس هو تكامل البدن فقط، فقال في واحدة من روائعه في هذا المجال: «... فما خُلِقْتُ ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقمُّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عمَّما يُراد بها ... ». (1)

وفي هذا المجال يقول الشاعر:

یا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران.

أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ .

8 - وهذا التكامل لا يقف عند حد (2)، بل من الممكن أن يستمر ويستمر ويستمر إلى أن يصل إلى مقام لا يصل إليه حتَّى مثل الملك جبرائيل، حيث وصل الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله، فكان قاب قوسين أو أدنى. وهو ما دعت إليه الروايات الشريفة تعضدها الآيات الكريمة، مثل قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» (طه: 114 ) .

9 - وكلما ازداد تكامل الإنسان، كلما ازداد تحرُّره من البدن، إلى أن يصل - كما قلنا - إلى مرحلة يستغني بها عن البدن، فيرى من غير عين، ويسمع من دون أذن . وهذا

ص: 79


1- نهج البلاغة (ج 3 /ص 72)
2- ليس التكامل خاصا بالإنسان، بل هو عام لكل مخلوق شاعر مكلَّف، مثل الجنَّ، فإنَّ التكامل يرفع من رتبة الموجود، ولذا فإنَّ إبليس رغم أنَّه من الجنّ، لكنَّه كان مشمولاً بأمر السجود لآدم، رغم أنَّ الأمر كان بلسان: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... ﴾ [البقرة: 34]، ولكن حيث إنَّ إبليس تكامل، فوصل إلى مرتبة الملائكة، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام « ... فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذا أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يُدرى أمن سني الدنيا أم سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصية؟ كلا...». (نهج البلاغة : ج 2 /ص 138 و 139).

ما نراه صريحاً في الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله وأهل البيت علیهم السلام، فقد ورد أنَّ من خصائص الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله : أنَّه : كان لكل عضو من أعضاء النبي صلى الله عليه واله معجزة .... ومعجزة عينيه أنَّه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، ومعجزة أُذُنيه هي أنَّه كان يسمع الأصوات في النوم كما يسمع في اليقظة...(1)

10 - إِنَّ الإنسان لما يموت فإنَّه لا يعود بحاجة إلى الحواس الخمس أو إلى البدن، لأنَّه بالموت الطبيعي فإنَّ روحه ستنفصل عن البدن - وهو معنى الموت - ، فإذا انفصلت عن البدن لم تعد بحاجة إليه ولم تعد في سجنه.

النتيجة:

من هذا نعلم أنَّ التوصية المتقدمة التي دعت الإنسان إلى أن يموت قبل أن يموت كانت تقصد ما يلي:

أنَّ على الإنسان أن يتكامل في الدنيا بأنواع الكمالات المتاحة له، والتي هي غير متناهية، إلى أن يصل إلى مرحلة يستغني بها عن البدن، فلا يعود بحاجة إليه ولا إلى آلاته الخمس ولا غيرها، وبهذا سيصبح الإنسان وهو في الدنيا قد صار كالميت في كونه لا يحتاج إلى البدن ،وأدواته، فيموت في الدنيا (بالموت الاختياري كما يُعبر الفلاسفة) قبل أن يموت الموت الطبيعي (أو الموت الاخترامي كما يُسمّيه الفلاسفة). وفي هذا فضيلة عظيمة للإنسان، لأنّها تكشف عن جهادٍ مستمر وعمل دؤوب وسعي متواصل من أجل الحصول على الكمالات المتاحة لبني البشر .

وقد يكون المقصود منها هو أنْ يُميت الإنسان حواسه الظاهرية إلَّا من الحلال، فإنَّه بحبسها على الحلال يكون كأنَّه أماتها عن غيره، وهذا المعنى أيضاً يدخل ضمن

ص: 80


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج/ 17 ص 299)، عن الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي( ص 221).

نظام التكامل اللّامتناهي.

وفي هذا المجال قال صدر الدين محمد الشيرازي:

(.... وإنَّما ينكشف لمن يكشف في هذه الدنيا من الأنبياء والأولياء بواسطة غلبة سلطان الآخرة على قلوبهم لرفضهم استعمال هذه المشاعر والحواس في مشتهياتها ولذاتها، بموتهم الإرادي عن زخارف هذه الحياة الدنيا لنيل مآرب الحياة الأُخروي، كما قال رسول الثقلين عليه وآله الصلوات: «موتوا قبل أن تموتوا»، أي عطلوا هذه الحواس عن الإحساس لينفتح منكم مشاعر إدراك الأمور الآخرة قبل موتكم الطبيعي. وقال بعض الحكماء مشيراً إلى هذا المعنى: الناس يقولون: افتح عينك لترى، وأنا أقول غمض عينك لترى ، وقال بعضهم أيضاً رامزاً إلى هذا من أراد أن يتنوّر بيت قلبه فليسدد الروازن الخمس ... ). (1)

ويقول أفلاطون الإلهي : (مُتْ بالإرادة تحيى بالطبيعة). (2)

ص: 81


1- المبدأ والمعاد لصدر المتألهين ( ص 540 ) .
2- شرح الأسماء الحسنى للملا هادي السبزواري (ج 1 /ص 148 و 149).

ص: 82

تحمل مسؤولية الأمانة

في آن ما، يحكي القرآن الكريم أنَّ الله تعالى عرض (أمانة) ما، على أشياء هي عظمة الجنَّة بمكان، وكان متوقعاً لتلك الأشياء أنْ تتحمل تلك الأمانة، إِلَّا أَنَّ من المفاجأة جاءت على عكس المتوقع، حيث اعتذرت تلك الأشياء إلى الله تبارك وتعالى،

بل وأظهرت خوفها وعدم قدرتها على ذلك.

في هذه الأثناء، برز موجود قد يحسب نفسه أقل قدرةً من تلك الأشياء، ورشّح نفسه لتحمل الأمانة، فأذن الله تعالى له بذلك، إلَّا أنَّه ظلم نفسه عندما لم يُؤدِها حقَّ أدائها، وعندما جهل قدرها.

هذه خلاصة حكاية نقلها لنا القرآن الكريم بقوله عزّ من قائل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب: (72).

ومن هنا، وحتَّى يكون المؤمن على قدر المسؤولية، وحتّى لا يكون ظلوماً لنفسه جهولاً بقدرها وبقدر الأمانة، وحتّى يستمرَّ بتكامله الوجودي، عليه أنْ يُؤدّي تلك الأمانة على أحسن ما يكون الأداء، وأن يبذل جهده ما استطاع من أجل ذلك.

أمَّا ما هي تلك الأمانة؟

اختلفت التفسيرات الواردة في معنى هذه الأمانة، ولكن يمكن القول: إنَّ المراد

ص: 83

منها: «التكليف بالعبودية لله لكلِّ عبد بحسب وسعه». (1)

فهي لوحة عامة تشمل كلّ ما يدخل تحت عنوان العبودية المطلقة الله تعالى، ويدخل ضمن هذه اللوحة العديد من المفردات التي ورد في التفاسير القرآنية أنها تأويل لتلك الأمانة.

أي إنَّ القاعدة هنا: أنَّ العبودية بكل تجلياتها الأمانة الإلهية التي تحملها الإنسان، ويدخل تحت هذه القاعدة العديد من المفردات التي يصدق عليها أنّها (أمانة)،

ومن تلك المفردات التالي:

أوَّلاً: الخلافة الإلهيّة، أي الإمامة، فقد ورد في عدة روايات شريفة تفسير الأمانة بالإمامة، ورتَّبت بعض الروايات أنَّ الذي يدَّعي الإمامة وهو ليس لها بأهل فقد خان الأمانة، وأنَّ من يتّخذ إماماً غير من نصبه الله تعالى وجعله بأمره، فقد خان الأمانة أيضاً.

فعن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جهولاً : «هي ولاية علي بن أبي طالب علیه السلام». (2)

وعن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا علیه السلام عن قول الله عزوجل : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، فقال:

«الأمانة : الولاية، من ادعاها بغير حقٌّ فقد كفر». (3)

ويدخل تحت هذه المفردة : معرفة إمام الزمان فينبغي على المؤمن الذي يسعى للتكامل الأخلاقي، أن يضع في جدوله اليومي وقتاً خاصا لمعرفة إمام زمانه، فإنَّ «من

ص: 84


1- التفسير الأصفى للفيض الكاشاني (ج 2 /ص 1006).
2- بصائر الدرجات للصفار ( ص 96 ) .
3- عيون أخبار الرضا علیه السلام للشيخ الصدوق (ج 2 /ص 273 و 274).

مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» . (1)

ثانياً: الطاعة ،عموماً، أي التكاليف الشرعية التي افترضها الله تعالى على الإنسان البالغ العاقل، فإنّها واجبة على الإنسان دون غيره من الموجودات، والمؤمن لا يمكنه أن يتكامل أبداً وهو بعيد عن أداء ما افترضه الله تعالى عليه، فإذا أراد زيادةً في التوفيق وكمالاً في الطريق، فعليه أن يلتزم النوافل والمستحبّات، فهذه الطاعات تمثل أرقى ما يمكن أن يصعد بالإنسان إلى أعلى هرم الكمال.

وفي ذلك روي عن النبي الأعظم صلی الله علیه و اله في الحديث القدسي: «قال الله تبارك وتعالى.... ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتَّى أُحِبَّه، ومتى أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيّداً، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته». (2)

ثالثاً: الصلاة، فقد روي أنه كان أمير المؤمنين أنَّه كان أمير المؤمنين علیه السلام إذا حضر وقت الصلاة تلوّن وتزلزل، فقيل له : ما لك ؟! فيقول : «جاء وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات

والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان في ضعفه». (3)

إن الصلاة تمثل خير سُلَّم للكمال الوجودي، لأنَّها تُؤدّي فيما تُؤدّي إليه إلى تزكية النفس وتطهيرها مما يصيبها من الرين والخبث جراء مواقعة المعاصي وما لا ينبغي للمؤمن فعله، وفي ذلك روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «لو كان على باب أحدكم نهر فاغتسل منه [ كلَّ] يوم خمس مرات، هل كان يبقى على جسده من الدَّرَن شيء ؟! إِنَّما مثل الصلاة مثل النهر الذي يُنقي الدَّرَن، كلَّما صلى صلاة كان كفارة لذنوبه، إلَّا ذنبٍ

ص: 85


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ( ص 409 / ما روي من حديث ذي القرنين/ ح 9).
2- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 398 - 400 / باب أنَّ الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم/ ح 1).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 1/ ص 389)

أخرجه من الإيمان مقيم عليه». (1)

رابعاً: الأمانة المتعارفة ، فإنّها من أهمّ ما أوصت به الروايات الشريفة، وأكّدت عليه تأكيداً شديداً، الأمر الذي لم يُجعَل فيها العذر لمن خانها أبداً، فقد روي عن أبي جعفر علیه السلام، قال : «ثلاث لم يجعل الله عزوجل لأحد فيهنَّ رخصة : أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبَرِّ والفاجر ، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين». (2)

بل جُعِلَ أداؤها من أهم صفات التشيع لأهل البيت عليهم السلام، مما يعني أنَّ التكامل في طريقهم يقتضي أداء الأمانة إلى أهلها، وما يستلزمه هذا الأداء من الحفاظ عليها وعدم التصرُّف بها أكثر من المأذون به، وتسليمها إلى أهلها متى شاؤوا، فقد روي عن جابر، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: قال لي: «يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلَّا من اتَّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلَّا بالتواضع والتخشُّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء». (3)

ولذلك، كان النبيُّ الأعظم صلی الله علیه و اله له مؤدياً للأمانة حتّى لأعدائه، والشاهد على ذلك أنَّه عندما هاجر صلی الله علیه و اله إلى المدينة، فإنَّه ترك عليَّا علیه السلام في مكَّة ليُؤدّي الأمانات ويردها إلى أهلها، مما يكشف عن أنَّ أهل مكة رغم أنَّهم كانوا على غير دينه وكان يُكفِّرهم، فإنَّهم كانوا يأتمنونه على أموالهم، وهو صلی الله علیه و اله كان يُؤدّي الأمانة، فقد قال صلی الله علیه و اله : «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم ، وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، انظروا إلى صدق

ص: 86


1- الأصول الستَّة عشر لعدة محدّثين (ص 73) وبحار الأنوار للعلامة المجلسي ( ج 79 / صر 236 / ح 66) .
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 / ص 162 / باب البر بالوالدين/ ح 15).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 74 باب الطاعة والتقوى/ ح 3).

الحديث وأداء «الأمانة». (1)

هذه أهم المفردات التي ذكروها في التفاسير لمعنى الأمانة، على أنَّه ذُكِرَت مفردات أُخرى للأمانة (2)، كحفظ المرأة فَرّجها والرجل فَرْجه عن الفاحشة، والجوارح الخارجية عن فعل الحرام والمرأة، واليتيم وما ملكت اليمين وصفة الاختيار التي تمتّع بها الإنسان، والعقل الذي هو مناط التكليف والثواب والعقاب، ومعرفة الله تعالى، وكلّها تدخل تحت ذلك العموم المتقدم.

فالقاعدة هنا تقول: إنَّ على من أراد أن يكون في أعلى عليين، وأنْ يسابق المتقين في طريق الكمال، فعليه أن يتحمل تلك الأمانة الإلهية العظيمة، وإلا فإنَّه لن يكون مرشّحاً

لنيل درجات القرب الإلهي .

ص: 87


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 379/ ح 6/481).
2- راجع التبيان للشيخ الطوسي (ج 8 /ص 367 و 368) ؛ وتفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 8/ ص 186)؛ وتفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج13/ ص 368 و 369)؛

ص: 88

اعبد الله كما يريد هو

لا شكّ أنَّ طريق التكامل الذي يسعى إليه المؤمن له هدف معيَّن، وهدفه ليس إلا الحصول على رضا الله تعالى، وبالتالي، فالمؤمن يسعى قدر إمكانه على أن لا يقترب إلى أي شيء من الممكن أن يكون سبباً للبعد عن الله تعالى، وأنْ يتمسك بأي سبب يُؤدّي إلى الحصول على رضا الباري تبارك تعالى، ولذلك فهو يحاول أن يسير في طريق التكامل.

هذا هو المفروض.

وهذا المفروض يستلزم أمراً مهما جدا قد يغفل البعض عنه، وهنا فقط نلفت النظر له، وهو:

أنَّ التكامل والتقرب إلى أي إنسان، إنَّما يكون بالطريقة التي يُحِبُّها ذلك الإنسان، لا بما أراه أنا - الذي أُريد أن أتقرب إليه ، وهذا أمر واضح جدا، فلو كان ذلك الإنسان يُحِبُّ اللون الفلاني في ملابسه مثلاً، ولكنّي أنا كنت أُحِبُّ لوناً آخر، فليس من الصحيح عقلائياً إذا أردت أن أهدي له ثوباً معيناً أن يكون باللون الذي أُحِبُّه أنا، بل لا بد أن يكون باللون الذي يَحِبّه هو .

وهكذا عندما نريد أن نتقرَّب إلى الله تعالى من خلال طريق التكامل، الذي يعني التزام أعمال معيَّنة تُؤدّي إلى تحصيل الرضا الإلهي، إذ من الواضح أنَّ التقرُّب إليه تعالى ليس تقرباً مكانياً، لأنَّه تعالى لا مكان له، لأنه خالق المكان، وهو موجود وعالم بكلِّ مكان، فلا مكان ولا زمان يحده جل وعلا، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهُ وَفِي

ص: 89

الْأَرْضِ إِلهُ وَهُوَ الحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ (الزخرف: 84) .

وقال تعالى: (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ (الحديد : 4 ) .

فالتقرب إليه تعالى هو تقرُّب معنوي من خلال التزام أعمال معيَّنة، من شأنها أن تزيد من فرصة فوز المؤمن برضا الله تعالى.

وقد تلطَّف الله تعالى بعباده، حينما وضّح لهم المنهاج الأمثل في ذلك الطريق، من خلال تبليغهم منظومة متكاملة في العقائد والفقه والأخلاق، والتي وصلت إلينا من خلال القرآن الكريم، وأحاديث المعصومين علیهم ااسلام، بكل وضوح وجلاء، فلا خفاء في طريق الحق، ولا خفاء ولا إبهام في الباطل، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ (الإنسان (3)، وقال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ (البلد : 10).

عن حمزة بن محمد الطيّار، عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ هُمْ ما يَتَّقُونَ ﴾ [التوبة: 115]، قال: «حتّى يعرفهم ما يُرضيه وما يُسخطه»، وقال: ﴿فَأَهُمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: ]، قال: «بين لها ما تأتي وما تترك»، وقال: ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3]، قال: «عرَّفناه فإمَّا آخذ وإما تاركٌ ...»، وعن قوله تعالى: «وَأَمَّا ثَمُودُ تارك...»، فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الهُدى [فصلت: 17]، قال: «نهاهم عن قتلهم، فاستحبُّوا العمى على الهدى وهم يعرفون». (1)

ومن هذا نعلم التالي:

:أولاً أنَّ الطريق الأمثل لتحصيل الكمالات الأخلاقية هو التزام ما شرعه الله تعالى

ص: 90


1- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ج 1 /ص 276 باب البيان والتعريف ولزوم الحجة / ح 389) .

وما ارتضاه من طريق للتكامل، ومصدره هو القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليهم السلام.

وهذا أحد وأهمّ مفردات التسليم المطلوب من المؤمن، فإنَّ الروايات تبعاً لبعض الآيات الكريمة تُؤكّد على أنَّ أهم شيء في الدين الإسلامي هو الاتباع المقرون بالتسليم والرضا القلبي وعدم الاعتراض وعدم طرح الاقتراحات اللامسؤولة، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام : «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه الله تعالى أو صنعه النبي صلى الله عليه واله: ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين»، ثم تلا هذه الآية: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65]، ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام :« وعليكم بالتسليم». (1)

ثانياً: ليس للإنسان أن يأتي بطريق يدَّعي أنَّه الطريق التكاملي إذا لم يكن مستنداً إلى المصدرين السابقين، كمن يريد أن يتعبد الله تعالى بأن يُصلي صلاة الفجر أربع ركعات مثلاً، أو أن يجعل صلاة معيَّنة واجبة عليه، وما شابه هذه الأمور.

وقد روي في ما حكاه الله تعالى عن بداية الخلقة وأمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم: قال إبليس : يا ربّ، اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرَّب ولا نبي مرسل ! قال الله تبارك وتعالى : لا حاجة لي إلى عبادتك، إنَّما أُريد أنْ أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تُريد، فأبى أن يسجد، فقال الله تعالى: ﴿قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَحِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الحجر: 34 و 35]. (2)

ولذلك نجد أنَّ أهل البيت علیهم السلام ما كانوا ينسبون شيئاً لأنفسهم، إنَّما كانوا ينسبون

ص: 91


1- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ج 1 /ص 271 باب 38 /ح 365)
2- تفسير القمي (ج 1 ص 42).

ما يأتون به إلى رسول الله صلی الله علیه واله ، وبالتالي إلى الله تعالى، فقد روي عن قتيبة، قال: سأل رجل أبا عبد الله علیه السلام عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل : أرأيتَ إنْ كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟ فقال له: «مَه، ما أجبتُك فيه من شيء فهو عن رسول الله صلی الله علیه و اله، لسنا من: أرأيتَ (1) في شيء» . (2)

ثالثاً: لا بد من رفض أي منهج يعتمد على أُمور غير منضبطة، أو باطنية غير واضحة، أو من مآخذ ومصادر غير معصومة وغير مستندة إلى الشريعة السمحاء. وذلك لأنَّ القاعدة الإسلامية تقول ما قاله الإمام أبو عبد الله علیه السلام : «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»، وقال:« قال علي علیه السلام: ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة ». (3)

رابعاً: لا بد من الدقة في اختيار المنهج الأخلاقي لمن يريد التكامل، فإنَّ السقطة هنا غير مغتفرة، وعاقبتها سيئة جدا، وقد يفيق المخطئ لكن بعد أن يقع في الحفرة.

وهذا يعني ضرورة الالتزام بمنهج منضبط في أي مجال من مجالات الحياة، وأنّ السير من دون منهج ليس صحيحاً حتّى لو صادف بطريقة وبأخرى الوصول إلى الحقيقة، وهذا ما يشير إليه ما روي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سُنَّة، فننظر فيها [ يعني نُعطي رأينا فيها]؟ فقال: «لا، أمَا إِنَّكَ إنْ أصبت لم تُؤجَر، وإنْ أخطأت كذبت على الله عزوجل». (4)

ص: 92


1- لماً كان مراده أخبرني عن رأيك الذي تختاره بالظنّ والاجتهاد نهاه علیه السلام عن هذا الظن وبين له أنَّهم لا يقولون شيئاً إلا بالجزم واليقين وبما وصل إليهم من سيّدالمرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين . (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1 /ص 58 باب البدع والرأي والمقاييس / ح 21).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1 /ص 58 باب البدع والرأي والمقاييس / ح 19).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 1 /ص 56 / باب البدع والرأي والمقاييس / ح 11).

والمنهج هو ما تقدَّمت الإشارة إليه، وهو منهج القرآن الكريم وأحاديث المعصومين علیهم السلام .

ص: 93

ص: 94

الحذر من النَّعَم

لا شكّ أنَّ المرء يفرح إذا أنعم الله عليه نعمة مادية أو معنوية، وهذا أمر لا بأس به، ولا شكّ أنَّ النِّعَم وتتابعها تساعد الإنسان على ترتيب أموره الحياتية، ولكن على المؤمن الذي يسير في طريق التكامل الأخلاقي أن ينظر إلى النِّعَم بالنظرة الواقعية الإسلامية، يعني أن يفهم المغزى منها وفق الرؤية الإسلامية العامة.

ووفق هذه النظرة علينا أن نتعامل مع النعم بالتالي:

إِنَّ النّعَم الإهيَّة في الوقت الذي تُدخل السرور على قلب المؤمن، لكنَّها في الوقت نفسه تفرض عليه أنْ يُؤدّي حقها، وحقها هو شكر الله تعالى وعدم استعمالها في الحرام إطلاقاً، فقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «أحسن الناس حالاً في النعم من استدام حاضرها بالشكر، واسترجع فائتها بالصبر». (1)

وعنه علیه السلام : «أقل ما يلزمكم الله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه». (2)

وروي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «لا تدوم النَّعَم إلَّا بعد ثلاث: معرفة بما يلزم الله سبحانه فيها، وأداء شكرها، والتعب فيها. (3)

هذا أوَّلاً.

ص: 95


1- عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 123).
2- نهج البلاغة (ج 4 / ص 78 ).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 318).

وثانياً: أنَّ كثرة النعم على الإنسان ليست دائماً علامة الحب الإلهي لهذا الفرد، وإنَّما هي في بعض الأحيان تكون علامة للنقمة الإلهية، أو تكون وسيلة للابتعاد عنه وعلا، وحتَّى تنضح الصورة تذكر أشد خطرين يمكن أن تمر بهما النعم:

الخطر الأوّل: الاستدراج:

بمعنى أنَّ الإنسان قد يكون مستحقًا للعقوبة، وحتّى يوقع نفسها فيها فإنَّ الله تعالى يُعطيه نِعَماً باستمرار، بحيث تتوالى عليه النعم، فيظنُّ حينها أنَّ الله تعالى يُحِبُّه، رغم أنَّه يعمل في معاصيه، وبالتالي، ستكون الحجّة أكد على هذا المذنب، لأنه رغم زيادة النّعَم الإلهية عليه، هو ما زال في المعصية غارقاً ولا يرعوي عنها.

فقد روي أنَّه سُئِلَ أبو عبد الله علیه السلام عن الاستدراج، فقال: «هو العبد يذنب الذنب فيملي له ويُجدّد له عندها النَّعَم فتُلهيه عن الاستغفار من الذنوب، فهو مستدرج من حيث لا يعلم». (1)

وهذه الحالة هي من أخطر ما يمكن أن تمر فيه النعم، وأشدّها سوءاً على الإنسان، ولشدَّة خطورتها نجد هناك تأكيداً شديداً في الآيات والروايات على أن يتم التعامل مع النّعم الإلهية بحذر دقيق، يقول تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي هُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّا نُعَل لَّهُمْ لِيَزْدادُوا إِنَّمَا وَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (آل عمران (178).

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمِلِي هُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين (الأعراف: 182 و183).

عن أمير المؤمنين علیه السلام :«يا ابن آدم إذا رأيت ربَّك سبحانه يتابع عليك نِعمه وأنت تعصيه .فاحذره». (2)

ص: 96


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 / ص 452 / باب الاستدراج / ح 2).
2- نهج البلاغة (ج 4 / ص 7) .

وعنه علیه السلام:«كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه، وما ابتلى الله أحداً بمثل الاملاء (له». (1)

الخطر الثاني: التكبر :

إِنَّ مُما تكون النَّعَم المتتالية سبباً له في بعض الأحيان هو أنها ستكون مدعاة للتكبر على من هو أقل نعمة سواء كانت النعمة مالاً أو ولداً أو جاهاً أو عشيرةً وما شابه، وقد حكى القرآن الكريم ذلك فيما حكاه عزوجل عن قارون: ﴿إِنَّ قارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنُ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْتَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم... ﴾ (القصص: 76- 79)

إنَّها النتيجة التي سيحكيها كلُّ مترف لا يؤمن بالله العظيم: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف : 34).

وأما إذا أراد العبد أن يتخلَّص من خطر النعمة فعليه :

أوَّلاً: أنْ يلتزم شكر النعمة بأداء حقها الله تعالى، وعدم الانجرار وراء المعاصي أو استعمال النَّعَم الإلهيّة فيما يُغضبه جلَّ وعلا.

فعن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: إني سألت الله أن يرزقني مالاً

ص: 97


1- نهج البلاغة (ج 4 / ص 27 و28).

فرزقني، وإني سألت الله أن يرزقني ولداً فرزقني ولداً، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً، فقال: «أما – والله - مع الحمد فلا». (1)

ثانياً: أن يعيش القلق والإحساس بالخوف من توالي النعم عليه، وليكن ملتزماً بالدعاء في أن لا يجعل الله تعالى عليه النِّعَم نقمةً وعذاباً، فعن أمير المؤمنين علیه السلام، قال: «أيها الناس، ليركم الله من النعمة وجلين كما يراكم من النقمة فَرِقين، إنَّه من وُسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً، ومن ضُيَّق عليه في ذات يده فلم يرَ ذلك اختباراً فقد ضيّع مأمولاً». (2)

ثالثاً: أن تكون النعمة دافعة له للتواضع ولصلة من هو أقل منه، لا العكس فإذا كنت غنيًّا فارفق بمن هو أقل منك مالاً، وإن كنت قوي البنية مفتول العضلات فأعن الضعيف واعف عن المسيء ما استطعت.

وقد حفظ لنا التاريخ وثائق نورانية في كيفية التعامل مع النعمة، فقد روي انه جاء رجل موسر إلى رسول الله صلى الله عليه واله نقي الثوب، فجلس إلى رسول الله صلی الله علیه و اله، فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر فقبض الموسر ثيابه من فقال له رسوله الله صلی الله علیه و اله:« أخفت أن يمسك من فقره شيء؟»، قال: لا، قال: «فخفت أنْ يصيبه من غناك شيء؟»، قال: لا، قال: فخفت أن يوسخ ثيابك؟»، قال: لا، قال: «فما حملك على ما صنعت؟»، فقال: يا رسول الله، إنَّ لي قريناً يُزين لي كلَّ قبيح ويُقبِّح لي كلَّ حسن (3)، وقد جعلت له نصف مالي، فقال رسول الله صلی الله علیه و اله للمعسر: «أتقبل؟»، قال: لا،

ص: 98


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 97 باب الشكر / ح 17).
2- نهج البلاغة (ج 4 / ص 83 و 84).
3- أي إنَّ لي شيطاناً يغويني ويجعل القبيح حسناً في نظري والحسن قبيحاً، وهذا الصادر مني من جملة اغوائه. ويمكن أن يُراد به النفس الأمارة التي طغت وبغت بالمال (من هامش المصدر).

فقال له الرجل : ولِمَ؟ قال: «أخاف أن يدخلني ما دخلك». (1)

وقد حُكي أنَّ مالكاً الأشتر رضی الله عنه كان مجتازاً بسوق وعليه قميص خام وعمامة منه، فرآه بعض السوقة، فأزرى بزيه، فرماه ببندقة تهاوناً به، فمضى ولم يلتفت، فقيل له: ويلك تعرف لمن رميت؟ فقال: لا، فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين علیه السلام. فارتعد الرجل ومضى ليعتذر إليه، وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلي، فلما انفتل انكبَّ الرجل على قدميه يُقبلهما، فقال: ما هذا الأمر؟ فقال: أعتذر إليك مما صنعت فقال : لا بأس عليك، فوالله ما دخلت المسجد إلا لأستغفرنَّ لك. (2)

ص: 99


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 262 و 263 / باب فضل فقراء المسلمين /ح 11).
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 42 /ص 157).

ص: 100

التعاطي الإيجابي مع تزاحم الحياة

بأدنى تأمل، يمكننا أن نكتشف أنَّ هذه الحياة هي حياة تزاحم، لأنَّ الفُرَص المتاحة فيها أقل بكثير من الرغبات لدى كلّ إنسان، وبالتالي حتّى يحصل الفرد على فرصته سيجد ألفاً غيره يريدون الحصول على نفس الفرصة ولأنَّ كلَّ إنسان يُحِبُّ ذاته، فإنَّ رغباته وإحساسه باحتمال الخسارة عندما لا يُدرك الفرصة قبل غيره تدفعه إلى أن يُسرع بأقصى ما عنده من قوَّة ليحصل على تلك الفرصة قبل غيره، والنتيجة أنَّنا سنعيش أشبه بحياة سباق سيارات سريعة على حلبة صراع، الأمر الذي سيؤدّي إلى: التنافس، والاحتكاك، والتصادم، وقد تصل الحال إلى محاولة تثبيط الآخر، أو تسقيطه، أو إبعاده عن حلبة السابق بدعاية مغرضة، أو إسقاط شخصيته، أو حتّى إزهاق روحه لو استلزم الأمر!

يُضاف إلى ذلك كلّه أنَّ الحياة أقصر بكثير من أن تسع رغبات الإنسان، بل قد يصل الإنسان إلى أقصى نقطة في حياته، ولكنَّه ما زال متعلّقاً بالحياة أكثر من ذي قبل، وهو ما كان يُخاف منه على أُمَّة الإسلام.

وهذا ما أشارت له الروايات الشريفة، فقد روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله أنه قال لابن مسعود: «يا ابن مسعود، قصر أملك، فإذا أصبحت فقل: (إنّي لا أُمسي)، وإذا أمسيت فقل : (إنّي لا أصبح ) واعزم على مفارقة الدنيا، وأحب لقاء الله ولا تكره لقاءه،

ص: 101

فإِنَّ الله يُحِبُّ لقاء من يُحِبُّ لقاءه ويكره لقاء من يكره لقاءه». (1)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : «أيها الناس، إنَّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل. فأما اتِّباع الهوى فيصد عن الحقِّ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة». (2)

أمام هذا الواقع، كيف يتم التعاطي والتعامل مع هذا التزاحم والتضاد المستمر، من مؤمن يريد أن يتكامل في طريق الخلود؟

هنا عدة نقاط لا بد أن نلتفت إليها :

النقطة الأولى: ليس من الصحيح أن ينسحب المؤمن من مضمار السباق، ليكون متفرجاً فقط، لأنَّ التسابق في الحياة أمر واقعي لا مفرّ منه، وهذا يعني أنَّ على المؤمن أن يشحذ همته ليدخل المضمار بكلّ إرادة وعزم، وأن يعمل على أن يزيد من فرصته في الفوز، وهو ما تشير إليه بعض الروايات الشريفة من قبيل ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام:«من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة». (3)

النقطة الثانية : على المؤمن أن يجعل هدفه من هذا السباق هي الحياة الأبدية، وليس شيئاً فانياً مؤقتاً، وقد حدّدت لنا النصوص القرآنية ما يلزم على المؤمن جعله هدفاً السباقه، فقال تعالى: ﴿وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران: 133).

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَه تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ

ص: 102


1- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي ( ص 452 ) .
2- نهج البلاغة (ج 1 /ص 92 و 93).
3- أمالي الشيخ الصدوق ( ص 766 / ح 4/1030).

نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ تَحْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنافِسُونَ (المطففين: 22 - 26 ) .

ويقول أمير المؤمنين علیه السلام : «إنَّ الدنيا قد أدبرت وآذنت ب-وداع، وإنَّ الآخرة قد أشرفت باطّلاع، ألا وإنَّ اليوم المضمار وغداً السباق، والسبقة الجنَّة، والغاية النار». (1)

النقطة الثالثة: لا يعني هذا عدم الاهتمام بالسباقات الدنيوية بقدر معتد به، وهو أنْ لا يكون المؤمن كَلّاً على غيره ولا يكون بموضع الذل والهوان، أي إنَّ على المؤمن أن يعيش القناعة من الدنيا، فيسعى لتحصيل ما يمكنه منها من خلال الطُّرق المحللة، فإن حصل على شيء منها فيها، وإلا فإنَّه يرضى بواقعه، ويبقى مستمرًا بسعيه وسباقه نحو الآخرة.

النقطة الرابعة: هناك عدة حلول طرحها الإسلام - وقد أيدها العقل – في كيفية التعامل مع حياة التزاحم، لتقليل حدة التصادم قدر الإمكان، متمثلة ببعض القوانين الأخلاقية، ومنها التالي:

القانون الأوّل: أنْ تجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين الناس، فتُحِبَّ لهم ما لنفسك، وتكره لهم ما تكره لها ، وهو قانون لو تم تفعيله، لخفت وطأة التصادم بشكل كبير جدا.

القانون الثاني: التعاون في طريق التكامل ، على قاعدة: (وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ، كما يقول الإمام الصادق علیه السلام). (2)

القانون الثالث: الزهد فيما لا يبقى، إذ إنَّ هناك العديد من الأفراد ممن يتنافسون في الفاني، فلا تُتعب نفسك معهم، وليكن سعيك لما يبقى لك ولو كان قليلاً بنظرهم،

ص: 103


1- نهج البلاغة (ج 1 /ص 70 و 71 ).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 45 باب آخر من الإيمان / ح 2).

وهذا ما أكده أمير المؤمنين علیه السلام في أكثر من كلمة، فقد قال علیه السلام : «فلرُبَّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له، واعلم أَنَّكَ إِنَّما خُلِقْتَ للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة... ». (1)

وقال علیه السلام عندما سأله رجل أن يعظه، ناهياً إياه عن بعض التصرُّفات، ومنها: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل، ويُرجي التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع وإِنْ مُنِعَ منها لم يقنع .... إن استغنى بطر وفتن وإن افتقر قنط ووهن يقصر إذا عمل ويبالغ إذا سأل، إن عرضت له شهوة أسلف المعصية وسوف التوبة، وإنْ عرته محنة انفرج عن شرائط الملة .... ، ينافس فيما يفنى ويسامح فيما يبقى، يرى الغنم مغرماً والغرم مغنماً...». (2)

ويقول علیه السلام في صفة المؤمن: «المؤمن يرغب فيما يبقى ويزهد فيما يفنى». (3)

القانون الرابع : الإيثار في مواضعه، وذلك فيما يمكن للفرد أنْ يُقدِّمه مما لا يتركه أو أحداً ممن تجب نفقته عليه في حرج، فإنَّ ذلك من شأن المؤمن، وهو خلق من شأنه أن يفتح آفاقاً واسعة للتكامل، وهو أحد أهم الصفات التي يلزم على المؤمنين أنْ يتّصفوا بها.

وقد روي عن أمير المؤمنين أنَّه قال: «لا تكمل المكارم إلَّا بالعفاف و الإيثار ». (4)

القانون الخامس: التكافل الاجتماعي مع الفقير، تطبيقاً لقول أمير المؤمنين علیه السلام:

ص: 104


1- نهج البلاغة (ج 3 /ص 48 و 49).
2- نهج البلاغة ( ج 4 /ص 38 و 39)
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 75/ ص 26 ).
4- عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 540).

«إِنَّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متّع به غني (1)، والله تعالى سائلهم عن ذلک ». (2)

ص: 105


1- منع غني (ن.خ).
2- نهج البلاغة (ج 4 /ص 78 )

ص: 106

هوية الانتماء للدين

هناك ثلاثة أُمور يلزم على من يريد التكامل الوجودي أنْ يُنفّذها بشكل دقيق:

الأمر الأوّل: المعرفة النظرية بالدِّين، والتي تتم من خلال استعمال منافذ المعرفة لدى الإنسان الحواس والعقل، بالاعتماد على مصادر المعرفة في الإسلام، وهي (القرآن والسُّنَّة).

الأمر الثاني: مطابقة العمل للمعرفة، بأن يكون سلوك الفرد الفقهي مطابقاً لما يريده الإسلام منه من خلال المعرفة التي اكتسبها بالدين.

الأمر الثالث: الانتماء إلى الدِّين، وهذا هو ما نريد تسليط الضوء عليه.

وحتّى يتّضح المقصود من الانتماء، نطرح السؤال التالي:

هل يكفي أنْ يتعرّف الإنسان على النظام الإسلامي في أن يكون مسلماً؟ الجواب: من الواضح أنَّ مجرَّد المعرفة لا تكفي، فإنَّ الإيمان ليس مجرد الأقوال باللسان فقط، وهذا أمر واضح.

فهل يكفي أن تكون أعمال الفرد مطابقة لنظام الإسلام ليكون مؤمناً؟

لجواب: أنَّ هذا أيضاً لا يكفي، فإنَّ هناك من الكفّار مَنْ يَتَّصفون بالعديد من الصفات المرغوب فيها في الإسلام، كالصدق والأمانة ومساعدة المحتاج وما شابه، ولكننا نحس بالوجدان أنَّنا لا نُسمّيهم مسلمين لمجرَّد مطابقة بعض أعمالهم للإسلام.

ص: 107

إذن ما هو الشيء الذي به يصح انطباق عنوان (المؤمن) على الفرد؟

الجواب: إنَّه الانتماء.

ولكن ما هو الانتماء؟

الجواب : لنضرب مثالاً يُوضّح الفكرة:

لو كان هناك مهندس معماري عبقري في مجاله، وعنده من النظريات الهندسية ما لم يأتِ به أحد قبله، فهل يمكن أن نحسبه على نقابة المهندسين) مثلاً أو أن نعتبره (منتسباً) في دائرة معيَّنة لمجرد كونه مهندساً بارعاً؟ أم أنَّه لا بد من الانتساب العملي للنقابة أو الدائرة، بأن تصدر له (هوية نقابة) أو (كتاب تنسيب)؟

من الواضح جدا أنه من دون صدور كتاب تنسيب يشهد له بأنه ضمن هذه النقابة أو الدائرة، فإنَّه يبقى بلا انتساب ولا انتماء، رغم امتلاكه للمعرفة، ورغم تطبيقه تلك المعرفة في بناء عمارات ناطحات للسحاب.

ونفس الكلام يُقال في الانتساب إلى الدِّين، فإنَّ مجرد المعرفة والعمل المطابق لا يكفي في تحقيق الانتساب، بل لا بدَّ من أمر إضافي هي (الهوية الإيمانية)، ليكون المؤمن فعلاً داخلاً (بصورة رسمية إذا صح التعبير) في الدين، وبالتالي، يكون تكامله شاملاً لكل العناصر المهمة فيه.

أمَّا كيف يكون الفرد منتمياً إلى الدين؟ وكيف يحصل على (هوية) الانتماء؟

فهذا ما يُحدده الدين نفسه.

رسم الدين لنا العديد من ممارسات التي تكشف عن الانتماء إلى الدِّين، وعلى فقد رسم من يريد التكامل الأخلاقي أن يضع تلك الممارسات في حيّز التنفيذ، وهي عديدة، نذكر

منها التالي:

ص: 108

أوَّلاً: ضرورة الإقرار اللساني والقلبي بالدين وما جاء به.

قال تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ (البقرة: 136).

وورد «قولوا: لا إله إلّا الله تُفلحوا». (1)

ثانياً: ضرورة قصد القربة إلى الله تعالى في الأعمال العبادية، فإنَّ عقد القلب على أنْ يكون العمل بنيَّة التقرُّب إلى الله تعالى يُلوّن العمل بلون آخر غير اللون الذي يكون فيه إذا صدر من دون نية القربة.

ثالثاً الاهتمام بأمور المسلمين، وعدم غضّ النظر عما يُصلح حالهم، فعن رسول الله صلی الله علیه و اله: «من أصبح لا يهتم (2) بأمور المسلمين فليس بمسلم». (3)

وعنه صلی الله علیه و اله:«من ردَّ عن قوم من المسلمين عادية [ماء] (4) أو ناراً، وجبت له الجنة». (5) وعن المعلّى بن خُنَيس، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام، فقلت : ما حق المؤمن على

ص: 109


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 1 /ص 51).
2- في شرح أُصول الكافي لمولى محمّد صالح المازندراني (ج) 9 ص (30): أي لا يعزم دفع الأذى والكرب عنهم ولا يقصد إعانتهم في أمر الدنيا والآخرة وقضاء حوائجهم وإيصال الخير إليهم وإرشادهم إلى مصالحهم.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص 163 / باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 1)؛ وعلق المولى محمد صالح المازندراني في شرح أصول الكافي (ج 9/ ص 29) بما نصه: أي ليس بكامل في الإسلام ولا يُعبأ بإسلامه، والمراد بأمورهم أعم من الأمور الدنيوية والأخروية، ولو لم يقدر عليها فالعزم حسنة يُثاب به وكمال له.
4- لفظة (ماء) ليست في أكثر النسخ و (العادية) المتجاوز من الحد، والتاء للمبالغة.
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 164 / باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم /ح 8 ) .

المؤمن؟ فقال: «إنّي عليك شفيق، أخاف أن تعلم ولا تعمل، وتُضيَّع ولا تتحفّظ :قال قلت: لا حول ولا قوة إلَّا بالله .

قال علیه السلام:«اللمؤمن على المؤمن سبع حقوق واجبات ليس منها حق إلا واجب على أخيه إنْ ضيَّع منها حقًا أخرج من ولاية الله ويترك طاعته ولم يكن له فيها نصيب:

أيسر حقٌّ منها أن تُحِبُّ له ما تُحِبُّ لنفسك، وأن تكره له ما تكره لنفسك.

والثاني: أن تعينه بنفسك، ومالك، ولسانك، ويدك، ورجلك.

والثالث: أن تتبع رضاه، وتجتنب سخطه، وتطيع أمره.

والرابع : أن تكون عينه ودليله ومرآته.

والخامس : أن لا تشبع ويجوع، وتروي ويظمأ، وتلبس ويعرى.

والسادس: إنْ كان لك خادم وليس له خادم، ولك امرأة تقوم عليك وليس له امرأة تقوم عليه، أن تبعث خادمك يغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه.

والسابع : تبر ،قسمه، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإن كانت له حاجة فبادر إليها مبادرة، ولا تُكلَّفه أنْ يسألك، فإذا فعلت ذلك وصلت بولايتك ولايته وولايته بولايتك». (1)

وطبعاً، أكثر من يُطالب بهذا الأمر هم الذين بيدهم زمام الأمور ومقاليد الإدارة والحكم، وقد كان أمير المؤمنين علیه السلام على مستوى عالٍ جدًّا في هذا الجانب من الاهتمام بأمور المسلمين، الأمر الذي بيَّنه علیه السلام بعبارة غاية في الروعة، فقال علیه السلام : «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهاتَ أنْ يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من

ص: 110


1- الدعوات لقطب الدين الراوندي (ص 226/ ح 625).

لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيتُ مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟ أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أنْ تبيت ببطنةٍ وحولك أكباد تحنُّ إلى القِدِّ.

أأقنع من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش ؟! (1)

رابعاً: الدفاع عن الإسلام والمسلمين ما أوتي إلى ذلك سبيلاً، سواء كان الدفاع بالجهاد في سوح القتال، أو برد الغيبة عنهم ، وما شابه، فقد روي أنه نال رجل من عرض رجل عند النبي صلى الله عليه واله فردَّ رجل من القوم عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه واله : «من ردَّ عن عِرْض أخيه كان له حجاباً من النار». (2)

وروي أنه نظر أمير المؤمنين علیه السلام إلى رجل يغتاب رجلاً عند الحسن ابنه علیه السلام، فقال:« يا بنيَّ، نَزِّهُ سمعك عن مثل هذا، فإنَّه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك». (3)

خامساً: صياغة السلوك الخارجي وفق المنظومة الكاشفة عن الانتماء، الأمر الذي حددته بعض الروايات الشريفة، ومنها ما روي عن الإمام الحسن المجتبى علیه السلام أنَّه قال:«...شيعة علي علیه السلام هم الذين لا يبالون في سبيل الله أوقع الموت عليهم أو وقعوا على الموت، وشيعة علي علیه السلام هم الذين يُؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم وهم الذين لا يراهم الله حيث نهاهم ولا يفقدهم من حيث أمرهم، وشيعة علي علیه السلام هم الذين يقتدون بعليّ في إكرام إخوانهم المؤمنين». (4)

ص: 111


1- نهج البلاغة (ج 3 / ص 71 و 72).
2- أمالي الشيخ المفيد (ص 338).
3- الاختصاص للشيخ المفيد ( ص 225).
4- التفسير المنسوب للإمام العسكري علیه السلام (ص 319).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنه قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدوّنا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها ». (1)

وعنه علیه السلام: « ... فإنَّما شيعة على من عف بطنه وفرجه، واشتدَّ جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر». (2)

ص: 112


1- الخصال للشيخ الصدوق ( ص 103 /ح 62).
2- الكافي للشيخ الكليني ( ج 2 /ص 233 باب المؤمن وعلاماته وصفاته /ح 9).

الدقة في تفعيل الاختيار

خلق الله تعالى الإنسان وجعله موجوداً مختاراً يفعل بإرادته، وليس هو العمياء، وهذا أمر وجداني لا يمكن التشكيك فيه من عاقل. ،

ثمّ إنَّ السبب الرئيسي وراء كون الإنسان مسؤ وإلَّا – أي لو كان كالآلة - فلا يمكن أن يُحكم عليه بكونه مسؤولاً عما يصدر عنه من أفعال، ولكن الاختيار هو الذي كان وراء ذلك، وبالتالي، صح عقاب المخطئ.

والطريق إلى الله تعالى لا بدّ فيه من تفعيل الاختيار بصورة صحيحة إذا ما جعلنا التالي في الحسبان:

أَوَّلاً: أنَّ الإنسان في الوقت الذي جُهّز بعقل هو أيضاً جُهّز بشهوات، وكما أنَّ العقل يدفع الإنسان نحو فعل الصواب فإنّ الشهوات تدفعه نحو إشباع نهمها بأي طريق كان، وهذا يعني حدوث نزاعات كثيرة بين العقل والشهوات في مقام الفعل، أو قل: في مقام تفعيل الإرادة.

ثانياً: أنَّ الرغبات في الحياة أكثر من الفُرَص، وبالتالي قد تحدث تصادمات في مقام تحصيل الفرصة، وهو أمر يُؤدّي أيضاً إلى حدوث تنازع في داخل النفس الإنسانية في مقام تفعيل الإرادة.

ثالثاً: قد تحصل نزاعات وخصومات بين الأفراد لسبب ولآخر، وبالتالي قد يعمل

ص: 113

كلّ فردٍ على أن يكون هو الطرف المنتصر، وهنا أيضاً يأتي دور تفعيل الإرادة في اختيار طريق ما .

رابعاً: قد يضطر الفرد إلى التضحية بأمر معيَّن، إمَّا لاضطراره إلى ذلك (كمن يضطر للتضحية بعضو من أعضاء بدنه ليحافظ على باقي بدنه)، أو لأنه بتضحيته بأمر ما يربح أمراً آخر، وهنا أيضاً يأتي دور الإرادة في الاختيار الصحيح. وفي كلِّ هذه الحالات وغيرها تكون الكلمة الأخيرة للإرادة، وهي بيد الإنسان إلى آخر لحظة .

وفي طريق التكامل الأخلاقي أيضاً يكون الدور الأهم هو لتلك الأداة الإنسانية:

ولذلك نجد في النصوص الدينية إشارات عديدة إلى ضرورة أن يكون المؤمن قادراً على التحكُّم بإرادته، بحيث يجعلها تُوجّه فعله نحو الكمال، وإلى ضرورة ضبط الاختيار وعدم تركه من دون قيادة صحيحة.

وعلى كلِّ حالٍ، يلزم على المؤمن أن يضبط اختياره وإرادته وفق التالي:

أوَّلاً: اختيار طريق الهدى مع المعرفة والتذكَّر، وعدم الميل إلى طريق الضلال أبداً.

من دعاء لمولانا الإمام السجاد علیه السلام: «... وَمَنْ أَبْعَدُ غَوْراً فِي الْبَاطِلِ، وَأَشَدُّ إِقْدَاماً عَلَى السُّوءِ مِنّي حِينَ أَقِفُ بَيْنَ دَعْوَتِكَ وَدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ، فَأَتَّبِعُ دَعْوَتَهُ عَلَى غَيْرِ عَمَى مِنِّي فِي مَعْرِفَة بِهِ، وَلَا نِسْيَان مِنْ حِفْظِي لَهُ، وَأَنَا حِينَئِذٍ مُوقِنٌ بِأَنَّ مُنْتَهَى دَعْوَتِكَ إِلَى الجُنَّةِ، وَمُنْتَهَى دَعْوَتِهِ إِلَى النَّارِ ...». (1)

فهذا النص واضح جدًّا في أنَّ الإنسان عندما يقف في مفترق طرق تُؤدّي إلى هداية

ص: 114


1- الصحيفة السجادية ( ص 82 /الدعاء رقم 16 ) .

أو ضلال، فإنَّه هو بإرادته يختار طريقاً معيناً، وبالتالي، ليس من الصحيح أن يرمي الفرد إثم جريمته أو معصيته على أمر خارج عن ذاته، فالفعل منك وإليك ولا غير.

ثانياً: اختيار الفعل الأكمل لو دار الأمر بين فعلين كلاهما فيه خير وكمال، وأنْ يكون كالطالب الذي يمتحن الذي يعمل على اختيار الأسئلة التي يكون الجوابها درجة أكثر من غيره ، ليحصل على تراكم للدرجات أكثر، أو كالتاجر الذي يبحث عن التجارة التي تدرُّ عليه المال أكثر، وهكذا المؤمن عليه أن يختار من الأعمال ما تكون ثمرته أعظم وأنفع له، وإن كان العمل الآخر خيراً أيضاً.

وقد روي عن الإمام الباقر علیه السلام في صفة النبي الأكرم أنه: «ما ورد عليه أمران قطّ كلاهما الله رضى، إلَّا أخذ بأشدّهما (1) على بدنه». (2)

ولقد مُدِحَ عمار بن ياسر لاتصافه بهذه الصفة أيضاً، كما روي ذلك عن رسول الله صلی الله علیه و اله: «ما خُيّر عمار بن ياسر بين أمرين إلَّا اختار أشدّهما ». (3)

ثالثاً: إذا كان المؤمن مخيراً بين فعلين يرجع أثر هما لغيره، وكان الأمر بيده، فعليه أنّ يختار أهونهما على صاحبه وأرفقهما به ولا يُحمّله الأصعب وإن كان قادراً على تحمله. ومن ذلك مسألة استقصاء الحقِّ، فإذا كان لك حق على غيرك، فاعمل على أن تكون هيناً ليناً معه، رغم قدرتك على أخذ الأكثر، وليضع المؤمن في باله أنَّ لله تعالى عليه حقوقاً

ص: 115


1- وعلَّق المولى محمّد صالح المازندراني في شرح أُصول الكافي (ج 12/ ص 93 و 94) بقوله: حملا لنفسه القدسية على الرياضة، والانحراف عن الكسل والراحة وطلباً للأفضل كما تقرَّر «أفضل الأعمال أحمزها»، وروي: «أفضل الأعمال ما أكرهت عليه نفسك»، وفيه تنبيه على أنَّه لا بد من تذليل النفس المائلة إلى الراحة بحمل الأشق من الطاعات عليها لتعتاد في الخيرات، ويسهل لها سلوك سبيل الطاعات، حتّى ترتقي إلى غاية الكمالات وتدرك أرفع درجة المثوبات.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 8 /ص 130 في زهد النبي علیه السلام / ح 100)
3- أمالي الشيخ الصدوق (ص 490 / ح 667 / 9).

كثيرة، وأنَّه يُحِبُّ أنْ يرأف به الباري جلَّ وعلا، وأنْ يُخفف عليه أثناء المطالبة.

فلو أساء إليك أحدهم، فيمكنك أخذ حقك، ولكن تذكَّر قوله تعالى: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (الشورى: 40)، حينها سيكون تفعيلك لاختيارك بشكل آخر .

روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله أنه قال: «إذا أوقف العباد نادى مناد : ليقم من أجره على الله وليدخل الجنَّة»، قيل: من ذا الذي أجره على الله؟ قال: «العافون عن الناس، فقام كذا وكذا ألفاً فدخلوا الجنة بغير حساب ». (1)

وهكذا لو كان لك حق على أخيك، فكن كما أراد الأئمة عليهم السلام، حيث روي أنَّ أبا عبد الله علیه السلام قال لرجل شكاه بعض إخوانه: «ما لأخيك فلان يشكوك؟»، فقال: أيشكوني أن استقصيت حقي؟! قال: فجلس مغضباً ثمّ قال: «كأنك إذا استقصيت لم تُسى! أرأيت ما حكى الله تبارك وتعالى: ﴿وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ﴾ [الرعد: 21] أخافوا أن يجور عليهم الله ؟! لا والله ما خافوا إلَّا الاستقصاء، فسماه الله سوء الحساب، فمن استقصى فقد أساء». (2)

ص: 116


1- كنز العُمل للمتَّقي الهندي (ج 3 /ص 374 - 7009).
2- تفسير العياشي (ج 2 ص 210).

الإيمان بالكتاب كله

إنَّ الدِّين الإسلامي عبارة عن منظومة متكاملة، تعالج مختلف المسائل الحياتية عقائدياً وفقهياً وأخلاقياً، وحتّى يكون المؤمن أهلاً لحمل هذا الدين عليه أن يلتزمه بكل مفرداته، ولا يُبعض في التدين.

إلَّا أنَّ القرآن الكريم يحكي لنا عن حالة يُمكن أنْ نُطلق عليها حالة (الفصام في الشخصية الإسلاميَّة)، وهي حالة انتقائية قد يتّخذها بعض من يدعي التدين، بأنْ يأخذ من الدين بعضاً ويترك بعضاً آخر، لسبب وآخر ، فقد يأخذ ما يتماشى مع مصلحته الشخصية ويترك ما يتعارض معها، وقد يأخذ ما يعتبره موافقاً لما يؤمن به من متبنيات مُسبقة ويرفض ما لا يتوافق معها، وقد يأخذ ما يتوافق مع الحس ويرفض ما لا يعتمد عليه، وقد يأخذ ما يتوافق مع أحكامه العرفية ويرفض ما دونها، وهكذا.

وفي الحقيقة، هذه حالة مرضية يلزم على المؤمن أن يقي نفسه منها ما أوتي إلى ذلك سبيلاً، بل هي أمر لازم عليه ولا رخصة فيه.

ومن لا يلتزم بالدين كُلّاً واحداً، يكن ممن قال عنهم القرآن الكريم: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ (البقرة : 85) .

ولكن مع الالتفات إلى أنَّ هذه الحالة ليست دائماً تُخرج الإنسان عن الإيمان إلى الكفر ، فقد تُخرجه كذلك (كما إذا كفر ببعض أُصول الدين)، وقد تُخرجه إلى الفسق (كما إذا ترك بعض الفروع مع الاعتراف بها)، وقد تُخرجه إلى عما لا ينبغي للمؤمن أن یخرج

ص: 117

عنه، كما إذا ترك بعض الصفات الأخلاقية.

وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ التبعيض في الالتزام بمفردات الدين مما يلزم على من يريد التكامل الأخلاقي الابتعاد عنه، الابتعاد عنه، لأنّ كلّ مفردة من مفردات الدين – سواء كانت عقائدية أو فقهية أو سلوكية - لها نصيب في التكامل الأخلاقي، وترك أي واحدة منها يحرم المؤمن من فرصة للتكامل.

وحتی نكون على بينة من الأمر نذكر بعض الأمور التي يحصل فيها (تبعيض) في التدين، الأمر الذي يعني ضرورة الحذر منها، ومن تلك الأمور التالي:

الأمر الأوّل: لا شكّ أنَّ العلم شرف عظيم، وأنَّه كما قال رسول الله صلى الله عليه واله: «تعلموا العلم فإنَّ تعلُّمه حسنة، ومدراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة ...». (1)

ولكن العلم في الوقت الذي هو شرف هو مسؤولية عظيمة أيضاً، ومن مسؤوليته العمل به وضرورة نشره لمن لا يعلم به، وإلا فسيكون وبالاً على الإنسان.

وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام أنه قال: «ما أخذ الله ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم، حتَّى أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهال، لأنَّ العلم كان قبل الجهل ». (2)

الأمر الثاني: أنَّ القرآن الكريم يُعطي حدًّا واضحاً للصلاة بقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ ﴾ (العنكبوت: 45)، فكمال الصلاة في نهيها عن الفحشاء والمنكر، وبالتالي، فعلى المؤمن أن يجعل من صلاته حاجزاً دون أيّ منكر أو معصية، وخَرْقُ هذا الحاجب بفعل ما لا يجوز، يعني أنَّ الصلاة لم تكن على

ص: 118


1- الخصال للشيخ الصدوق ( ص 522).
2- أمالي الشيخ المفيد ( ص 66).

الحال التي أرادها الله تعالى لها، وبالتالي قد تنقلب من كونها (قربان كلّ تقي) (1) إلى ما ذكره النبي صلی الله علیه واله حيث روي أنَّه قال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ». (2)

الأمر الثالث: أنّ الله تعالى فرض الصوم وجعله جُنَّة من النار، ولكن الصوم ليس الانقطاع عن الطعام والشراب فقط، كما يفعله البعض، وإنَّما هو طريق لاجتناب كلّ معصية، ولفعل كلّ طاعة، وقد بينت ذلك مولاتنا الزهراء عليها السلام بما روي عنها أنّها قالت: «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه». (3)

الأمر الرابع: لا شكّ أنَّ البشاشة والابتسامة من الأمور التي تنبغي للمؤمن، فعن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «من تبسم في وجه أخيه كانت له حسنة». (4)

والذي ينبغي عليه أن يكون المؤمن هو ما قاله أمير المؤمنين علیه السلام: «المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً». (5)

ولكن البعض مع الأسف، رغم التزامه بهذا الأمر مع أصدقائه وزملائه، إلَّا أنَّه إذا دخل إلى بيته لم ير أهله منه إلا وجهاً عبوساً، ولساناً يقطر قمطريراً! ولعله يصل إلى ما روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله: «إنَّ الرجل ليُدرك بالحلم درجة الصائم القائم، وإنَّه ليُكتب جبّاراً ولا يملك إلّا أهل بيته».(6)

بينما المفروض أن يكون لأهل بيته النصيب الأوفر من هذا الخلق الطيب، وكما

ص: 119


1- نهج البلاغة (ج 4 / ص 34)
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 79 /ص 198).
3- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1 /ص 268).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 205 و 206 / باب في الطاف المؤمن وإكرامه /ح 1).
5- نهج البلاغة (ج 4 / ص 78 و 79).
6- كنز العُمال للمتَّقي الهندي (ج 3 /ص 129 / ح 5809).

روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ». (1)

وعنه صلی الله علیه واله: عيال الرجل أسراؤه، وأحبّ العباد إلى الله أحسنهم صنعاً إلى أُسرائه». (2)

الأمر الخامس : لا شكّ أنَّ الكدَّ على العيال من الأمور اللازمة على المؤمن، وأنَّ «الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله ». (3)

ولكن على المؤمن أن يكون كده بالحد الشرعي من جميع جهاته، والتي يمكن اختصارها بأن يكون اكتسابه للمال من حلال، وصرفه للمال في الحلال أيضاً، واختلال أحد هذين الأمرين يعني خللاً في الشخصية الإيمانية. وقد روي عن أبي جعفرعلیه السلام قال: «إنَّ الرجل إذا أصاب مالاً من حرام لم يُقبل منه حجّ، ولا عمرة، ولا صلة رحم». (4)

وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ القاعدة تقتضي أن يلتزم المؤمنُ الدِّينَ من جميع أطرافه، وأنْ يلتزم جميع حدوده وأي خلل معرفي أو تطبيقي فيه يُؤدّي إلى تأخره في تحصيل الكمال،

أو ربما تراجعه إلى الوراء

ص: 120


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3 /ص 555 / ح 4908 ) .
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3 /ص 555 / ح 4909).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 88 باب من كدَّ على عياله / ح 1)، عن أبي عبد الله علیه السلام.
4- أمالي الشيخ الطوسي ( ص 680 / ح 26/1447).

كن محسناً

يواجه الإنسان في حياته الدنيا الكثير من مفرداتها الصعبة، والتي تتطلب منه موقفاً معيَّناً، وقد يكون له الحقُّ في الكثير من الخصومات فيها، فما هو التعامل الذي ينبغي أنْ يكون عليه المؤمن؟ وكيف يجعل من تعامله مع الناس مركباً من مراكب الكمال وسُلَّماً إليه ؟

إِنَّ القرآن الكريم يُعطي القاعدة الأخلاقية التربوية في ذلك، وهي قاعدة: (كن محسناً).

وخطاب القرآن في ذلك جاء بصيغتين :

الصيغة الأولى: بيان أنَّ التصرُّف الصحيح من المؤمن مع عموم الناس هو الإحسان، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ (البقرة: 83)، التي ورد في تفسيرها عن أبي جعفر علیه السلام: «قولوا للناس أحسن ما تُحِبُّون أنْ يُقال فيكم». (1)

الصيغة الثانية: بيان أنَّ على من يدعي أنه عبد الله تعالى، أو من يريد أن يكون عبداً لله تعالى، أنْ يتعامل وفق الأحسن، وليس مجرد الحسن، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (الإسراء: (53). ﴾

ولهذه القاعدة تطبيقات عديدة، نذكر منها التالي:

ص: 121


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 165 باب الاهتمام بأمور المسلمين... / ح 10)

التطبيق الأوّل: الجدال، فعندما يحصل جدال ونقاش في قضيَّة معيّنة، سواء كانت علمية أو غيرها، فيما يتعلق بإثبات الحقِّ وما شابه، فليس المطلوب من المؤمن التعصب والتيبس، بل المطلوب هو تفعيل قاعدة (كن محسناً) من خلال ما رسمه الباري جلَّ وعلا بقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ (المؤمنون: (96)، وبقوله تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتاب إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: (46).

والنتيجة المرجوة من هذا التعامل حينها هو ما قاله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: التطبيق الثاني: عندما يتعرض المؤمن إلى إساءة من غيره، فمن الواضح أنَّ الحقّ يقول لك: خذ الصاع بالصاع والكيل بالكيل ، ولكن الأفضل من ذلك هو أن تكون محسناً، تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ هُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ) (النحل: 126)، ولقوله تعالى: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَنا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (الشورى: 40).

وهذا هو ما دأب عليه أهل البيت علیهم السلام، فكانوا كثيراً ما يعفون عمَّن أساء لهم.

قال الواقدي: كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين في إمارته، فلما عُزِلَ أمر به الوليد أنْ يُوقف للناس ، فقال : ما أخاف إلَّا من علي بن الحسين! وقد وقف عند دار مروان، وكان علي قد تقدّم إلى خاصَّته ألا يعرض له أحد منكم بكلمة، فلما مر ناداه :هشام اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]). (1)

وزاد ابن فيّاض في الرواية في كتابه: إنَّ زين العابدين أنفذ إليه وقال: «انظر إلى ما أعجزك من مال تُؤخَذ به فعندنا ما يسعك، فطب نفساً منا ومن كل من يطيعنا، فنادى

ص: 122


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3 /ص 301/ تاریخ الطبري /ج 5 /ص 217) .

هشام اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته». (1)

التطبيق الثالث على المؤمن أن يتعامل مع والديه بالحسنى، مهما كانت الحال التي عليها الوالدان، فإنَّ لهما الحق على الولد بأن يكون محسناً لهما، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصَاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً﴾ (لقمان: 15).

عن زكريا بن إبراهيم، قال: كنت نصرانياً، فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد الله علیه السلام، فقلت : إني كنت على النصرانية وإنّي أسلمت.... وإنَّ أبي وأُمّي على النصرانية وأهل بيتي، وأُمّي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: «يأكلون لحم الخنزير؟»، فقلت: لا، ولا يمشونه، فقال: «لا بأس، فانظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها...»، فلما قدمت الكوفة ألطفت لأُمّي وكنت أُطعمها وأفلي (2) ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يا بني، ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى عنك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟ فقلت رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبي ؟ فقلت: لا ولكنه ابن نبي، فقالت: يا بني، إنَّ هذا نبي، إنَّ هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أُمَّه، إنَّه ليس يكون بعد نبينا نبي ولكنَّه ابنه فقالت: يا بني دينك خير دين اعرضه عليَّ، فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام، وعلمتها ، فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بني، أعد عليَّ ما علمتني، فأعدته عليها، فأقرّت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها، وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها. (3)

ص: 123


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3 /ص 301 )
2- في القاموس : فلا رأسه يفليه كيفلوه : بحثه عن القُمَّل كفلاه. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 160 و 161 / باب البر بالوالدين/ ح 11).

التطبيق الرابع : عندما تكون وليا أو قيّماً على يتيم، فعليك أن تتعامل معه بكل إحسان، إذ لا شكّ أنَّ اليتيم يمر بظروف نفسية صعبة جدًّا، قد تُؤدّي به إلى أن يُسيء التصرف في بعض الأحيان، فالمطلوب حينها من المؤمن أن لا ينهره ولا يتعامل معه بقسوة، فالإحسان هنا مطلوب جدًا جدًّا، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْبَتِيمَ فَلا تَشْهَرُ﴾ (الضحى : 9).

وقد روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله : «إنَّ في الجنَّة داراً يقال لها : دار الفرح، لا يدخلها إلَّا من فرح يتامى المؤمنين». (1)

التطبيق الخامس عندما يأتيك سائل، فإن أعطيته فبها وإلا فردَّه بماء وجهه ردا جميلاً، فإن لم تُحسِن له بمالك فأحسن له بقولك، وقد قال تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (الضحى: 10).

وقد كان من صفات نبينا الأكرم صلی الله علیه و اله أنه ما سأله أحد حاجة إلّا رجع بها أو بميسور من القول . (2)

وفي نفس الوقت، عليك عندما تُقرّر الإعطاء، أنْ تُعطي بإحسان أيضاً، ولا تُرفق عطيتك بوابل من الكلام المؤذي للسائل، فإنَّ الله تبارك وتعالى يقول: ﴿قَوْلُ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ (البقرة: 263 ) .

وقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال: «ولبعض إمساكك عن أخيك مع لطف، خير من بذلٍ مع جَنَف». (3)

ص: 124


1- كنز العُمال للمتَّقي الهندي (ج 3 /ص 170 / ح 6008 ).
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 82).
3- تحف العقول لابن شعبة الحراني ( ص 81)؛ والجنف: الجور، ربَّما كان الامساك مع حسن الخلق خير من البذل مع الجور. (من هامش المصدر).

الحذر من آفات الفضائل

تحصيل الفضائل والكمالات هدف أسمى للمؤمن في هذه الحياة، وهو في سعيه لذلك يواجه العديد من المشاكل والصعوبات، وسترافقه تلك المشاكل أنّى كان في طريق التكامل. على أنَّه يُستفاد من الروايات الشريفة أنَّ الصعوبات تتزايد طردياً مع تحصيل الكمالات والفضائل، لذلك كان أكثر الناس بلاء الأنبياء علیهم السلام، ثم الأمثل فالأمثل. (1)

الملاحظة المهمة هنا هي أنّ هناك بعض المشاكل والفيروسات الأخلاقية من النوع الذي يترافق مع الفضائل نفسها. وبعبارة أخرى أوضح: إنَّ الفضائل في الوقت الذي هي تزيد من كمال المؤمن، هي تُفرز في بعض الأحيان آفات ورذائل سلوكية، أي إن هناك رذائل تنبع من نفس الفضائل، الأمر الذي يعني الحذر كل الحذر من السماح لتلك الفضائل بأنْ تُفرز تلك الرذائل، وهذا من عجائب النفس الإنسانية، التي تُولّد من الفضيلة رذيلة!

وحتّى نكون على بينة من هذا الأمر نذكر الأمور التالية:

الأمر الأوّل: لا شكّ أنَّ العلم فضيلة، وأنَّ للعالم منزلة عند الله تعالى، ولكن العلم في بعض الأحيان يكون سبباً للتحاسد والتكبر، وربَّما يصل الأمر إلى محاولة تسقيط الآخر من أجل أن يُبرز الشخص علمه.

ص: 125


1- في الدعوات لقطب الدين الراوندي ( ص 166 / ح 460 ) : سُئِل النبي صلی الله علیه واله : أيُّ الناس أشدّ بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثل فالأمثل»

لذلك، على من يسير في طريق تحصيل العلم أن يبقى متشبثاً بجهله! أي أن يضع في حسبانه دوماً وأبداً أنه مهما كان عنده من المعلومات المخزونة في ذهنه فإنَّ هناك من

هو أعلم منه، وأنه مهما اكتسب من المعارف فما لم يُقيدها بالعمل الصالح فإنّها لن تنفعه، وحسبك بإبليس الذي ما كان يعوزه العلم ولكن علمه لم ينفعه حينما لم يتخلَّ عن تكبره، ومن هنا قال أمير المؤمنين علیه السلام :« فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يُدرى أمن سني الدنيا أم سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصية ؟!». (1)

الأمر الثاني: العبادة معراج للكمال، ولن ينال أحد كمالاً من دون العبادة، وكلَّما أكثرتَ من العبادة الله تعالى كلَّما أسرعت في مركب الكمال، ولكنها قد تُفرز غروراً يُصيب العبد، الأمر الذي قد يجعله يعمل من أجل أن يسود الناس، ويحصل على التكريم والاحترام منهم ، أي إنَّه قد يُشرِك في عبادته غير الله تعالى، فيدبُّ إليه الرياء من طرفٍ خفي، وإذا به لا يحصل من عبادته إلا على التعب والنصب !

فعن سيد العابدين علیه السلام أنه قال: «حق الله الأكبر عليك أن تعبده ولا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة». (2)

وفي نفس الوقت روي عن رسول الله صلی الله علیه واله: «إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله عزوجل يوم القيامة إذا جازي العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم؟». (3)

ص: 126


1- نهج البلاغة ( ج 2 /ص 138 و 139).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 2 /ص 618 و 619 / باب الحقوق / ح 3214) .
3- عدَّة الداعي لابن فهد الحلي (ص 214).

بل قد يصل الأمر ببعض العبّاد أن يمن على الله تعالى بعبادته! الأمر الذي حكاه القرآن الكريم بقوله عزّ من قائل: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنتُمْ صادِقِينَ ﴾ (الحجرات : 17).

عن علي بن سويد عن أبي الحسن علیه السلام قال: سألته عن العُجب (1) الذي يُفسِد العمل، فقال: «العُجب درجات منها أنْ يُزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً، فيُعجبه ويحسب أنَّه يُحسن صنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عزوجل، والله عليه فيه المن ». (2)

الأمر الثالث: العطاء، والكرم والبذل، والسخاء، صفات يُحِبُّها الله تعالى، ويُحِبُّ أن يراها في عبده، ولكنها في بعض الأحيان تكون سبباً لرذيلة (المن)، وحينها لن تنفع الإنسان، وسيبذل الإنسان ماله ويكون حسرةً عليه، فلا هو حصل على ماله، ولا هو حصل على ثواب بذله !

بل قد يتعود الإنسان العطاء، ولكنه يصل إلى مرحلة يستحيي فيها من عدم لا يقع في حرج مع الناس بحيث تتحوّل نيَّته إلى إرضاء الناس لا القربة إلى الله تعالی.

الأمر الرابع: العقل نعمة عظيمة، بها صار الإنسان ملك الأرض وحاكمها، ولكن هذه القوة المدركة قد تُفرز سلوكيات تجعل الإنسان يستخدم عقله في الدمار الشامل بحيث يتحوّل العقل من مركب للعمران إلى مدفع للخراب وقتل ملايين البشر !

ص: 127


1- العُجب الزهو، ورجل معجب من هو بما يكون منه حسناً أو قبيحاً يزهو، وفي العبادة استعظام العمل الصالح واستكباره والابتهاج والإدلال به وأن يرى نفسه خارجاً عن حد التقصير، وهذا هو العُجب المفسد للعبادة، لأنه حجاب للقلب عن الرب ومانع له عن رؤية منه ونعمه وتوفيقه. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني ( ج 2 /ص 313 باب العُجب / ح 3).

الأمر الخامس: القدرة نعمة أيضاً، يمكن للإنسان أن يستعملها في صنع كمالات متعددة، فيساعد بها الفقير، ويكدُّ بها على عياله، ويبني بها نفسه مادياً ومعنوياً، ولكنَّها في الوقت نفسه قد تكون سبباً للتسلُّط على الضعاف، وللظلم، فربَّ رئيس وقائد ظلموا رعيَّتهم، ولم يعطوهم النصف من أنفسهم.

وهكذا يمكن أن نجد عشرات الأمثلة في ذلك.

والخلاصة التي يمكن قولها هنا هي التالي:

أوّلاً: أنَّ تحصيل الفضائل على شرافته لا يعني العصمة من الخطأ، ولا يوجب الاطمئنان في حد نفسه، لاحتمال أن تكون الفضائل منبعاً لرذائل من حيث لا يشعر المؤمن.

ثانياً : على المؤمن أن ينظر إلى واقعه، ولا يخدع نفسه، ولا يُغالي في ذاته، فإنَّه مهما كان عالماً مثلاً فليتذكَّر : تَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76).

وهكذا لو كان عند الإنسان قدرة معيَّنة، مالية كانت أو سلطوية أو ما شابه، فليتذكّر ما روي عن أبي قتادة، قال: كنت عند أبي عبد الله علیه السلام، فدخل عليه زياد القندي، فقال له: «يا زياد وليت لهؤلاء؟»، قال: نعم يا بن رسول الله لي مروءة وليس وراء ظهري مال، وإنَّما أُواسي إخواني من عمل السلطان، فقال: «يا زياد، أما إذا كنت فاعلاً ذلك، فإذا دعتك نفسك إلى ظلم الناس عند القدرة على ذلك فاذكر قدرة الله عزوجل على عقوبتك، وذهاب ما أتيت إليهم عنهم ، وبقاء ما أتيت إلى نفسك عليك، والسلام». (1)

وهكذا في كلّ صفة يكتسبها المؤمن عليه أن ينظر لها بقدرها وبحجمها لا أكثر.

ص: 128


1- أمالي الشيخ الطوسي ( ص 303/ ح 49/602).

ثالثاً: على المؤمن دوماً أن يتشبث بفقره الوجودي، وأن يتمثل دوماً قول موسى بن عمران علیه السلام:« رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» (القصص: 24).

وأن يُردّد دوماً وأبداً: رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، لا أقل من ذلك ولا أكثر ». (1)

ص: 129


1- الكافي للشيخ الكليني ( ج 2 /ص 581 / باب دعوات موجزات لجميع الحوائج / ح 15).

ص: 130

كن عزيزاً

العزّة ،والذلّة، صفتان متضادتان، تتجاذبان شخصية الإنسان، حسب المواقف الحياتية التي يمر بها، والإنسان يمكنه أن يُعزَّ نفسه، كما يمكنه أن يُذها، إلا أن المؤمن - وحتى يكون في الوجهة الصحيحة للتكامل - عليه أن يلتزم عزَّة النفس ما أُوقي إلى ذلك سبيلاً، وأنْ لا يُدخلها في ذلّ مهما أمكنه ذلك.

وحتّى تتضح الصورة أكثر نذكر التالي:

أوّلاً: أنَّ العزّة أوّلاً وبالذات هي الله تعالى، فهو وحده العزيز المطلق، وكلُّ العزّة له جل وعلا، قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ) (فاطر: 10).

ومن هنا، كان الإعزاز - وكذا الإذلال - بيده جلَّ وعلا، إذ كلُّ ما دونه فهو بالنسبة إليه ذليل فقير، وحيث إنَّه تعالى هو الكمال المطلق، فبالتالي، من أراد العزّ فلا بد له من استجدائها منه جل وعلا. قال تعالى: ﴿قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ لِمَنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران:26).

ولذا، فإن كل من يطلب العزّ من غير الله تعالى ومن غير طريقه جل وعلا، فإن تصيبه ليس سوى الذل والهوان، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعاً ) (النساء: 139).

ص: 131

ثانياً: شاء الله تعالى أن تكون العزّة مقسَّمةً بينه وبين رسوله صلی الله علیه و اله والمؤمنين، قال :تعالى: ﴿وَالله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (المنافقون: 8).

وهذه المشيئة استتبعها حث ديني بأن يكون المؤمن عزيزاً بعزّ الله تعالى، ولا يُذِلَّ نفسه، الأمر الذي كشفته الروايات الشريفة الدالة على هذا المعنى، فعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إِنَّ الله عزوجل فوَّض إلى المؤمن أُموره كلَّها ولم يُفوّض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع قول الله عزوجل يقول: ﴿وَالله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؟ فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، ثمّ قال: إنَّ المؤمن أعزُّ من الجبل، إنَّ الجبل يستقلّ منه بالمعاول والمؤمن يستقل من دينه شيء». (1)

ثالثاً: وحتّى تكون عزيزاً بعزّ الله تعالى عليك أن تطلب طريق العزّ الإلهي، الذي ذكرت الروايات الشريفة أنه يكون من خلال التالي:

أ - طاعة الله تعالى، الأمر الذي بيَّنه الرسول الأعظم صلی الله علیه واله ببيان رائع فيما روي عنه أَنَّه قال: «إنَّ الله تعالى يقول كلَّ يوم: أنا ربُّكم العزيز، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز». (2)

ومن نفس هذا المنطلق جاء الإمام الصادق علیه السلام ليقول: «من أراد عزّا بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته». (3)

ب – اليأس من الناس، وعدم الطمع بما في أيديهم، فإنَّه يورث الإنسان عزًا لا مثيل له، فإنَّ الحاجة إلى الناس قد تستوجب إذلال النفس في بعض الأحيان، وقد أشار إلى ذلك الإمام الصادق علیه السلام بما روي عنه أنه قال: «لا يزال العزُّ قلقاً حتّى يأتي داراً قد

ص: 132


1- الكافي للشيخ الكليني (ج/ 5 ص 63 / باب كراهة التعرُّض لما لا يُطيق / ح 1).
2- کنز العُمال للمتقي الهندي (ج 15 / ص 784 / ح 43101).
3- الخصال للشيخ الصدوق ( ص 169 / ح 222).

استشعر أهلُها اليأس مما في أيدي الناس، فيوطنها». (1)

ج - كظم الغيظ، رغم قدرة المؤمن على إظهار غيظه وتنفيذ ما تُمليه عليه قوَّته السبعية من الانتقام أو على الأقل أخذ الحقِّ بطريقة (العين بالعين)، فعن أبي عبد الله علیه السلام: «ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده الله عزوجل عزّاً في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عزوجل: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمرن: 134]، وأثابه الله مكان غيظه ذلك». (2)

ويدخل ضمن هذا المعنى: العفو عمن يتجاوز عليك، أو عمَّن يسيء إليك، وأنت تعفو عنه لا لشيء إلَّا تقرباً إلى الله تعالى، وفي ذلك روي عن رسول الله الأعظم صلى الله عليه واله أَنَّه قال: «من عفا عن مظلمة، أبدله الله بها عزًا في الدنيا والآخرة». (3)

د - الصبر على المصيبة، فإنَّ هذه الحياة مليئة بالمصائب والابتلاءات والمؤمن له منها النصيب الأوفر، وحتّى يواجهها بقوة عليه أن يزيد من قوة تحمله وصبره وصبره اتّجاهها، وهذا سيُؤدّي فيما يُؤدّي إليه أن يهب الله تعالى له عزَّا جزاءً لصبره على المصيبة أو البلاء، وفي ذلك روي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنه قال:«من صبر على مصيبة زاده الله عزّا على عزّه، وأدخله جنّته مع محمّد وأهل بيته». (4)

رابعاً: أنَّ العزّ لا يكتمل بمجرد القيام بموجباته المتقدمة، وإِنَّما على المؤمن أيضاً أنْ يبتعد عن موجبات ضده (الذلّ)، فإنَّ له موجبات أيضاً إذا فعلها المؤمن أذلَّته ولم تنفعه تلك الموجبات للعزّ، بمعنى أن تلك الموجبات للعزّ تُعبّر عن مقتضيات لتحصيل العزّ

ص: 133


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 75/ ص 206 )
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 110 / باب كظم الغيظ / ح 5 ) .
3- أمالي الشيخ الطوسي ( ص 182 و 183 / ح 306/ 8).
4- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 198)

من الله تعالى، وحتّى يفعل المقتضي فعله لا بدَّ أنْ تُبعَد عنه أنْ تُبعَد عنه الموانع من عنه الموانع من تأثيره، وتلك الموانع هي عبارة عن موجبات الذلّ وأسبابه، وتلك الأسباب عديدة، منها:

أ - الطمع، فإنَّه يوجب الوقوع في الذلّ، فإنَّ الطمع مركب أعمى، لا يرى إلَّا الوصول إلى إشباع حاجته، ولو على حساب ذلّ النفس، فمن كان طماعاً كان إلى الذل أقرب منه إلى العزّ. وقد روي عن الإمام الباقر علیه السلام أَنَّه قال: «لا ذلَّ كذل الطمع ». (1)

ب – كشف الضر والحاجة إلى الناس، فإنّها موجبة لأن يستخفّ الناس بالفرد، ولذا كانت هناك توجيهات من الأئمة علیهم السلام بأن يعمل المؤمن على إخفاء ضُرّه ما استطاع، وفي ذلك روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «رضي [ب]الذل من كشف [عن] ضرَّه». (2)

وعن مفضّل بن قيس قال دخلت على أبي عبد الله علیه السلام فذكرت له بعض حالي، فقال: يا جارية، هاتِ ذلك الكيس، هذه أربعمائة دينار ...، فخذها وتفرج بها»، قال: فقلت لا والله جعلت فداك ما هذا دهري (3) ، ولكن أحببتُ أن تدعو الله عزوجل لي، قال: فقال: «إنّي سأفعل، ولكن إيّاك أنْ تُخبر الناس بكل حالك فتهون عليهم». (4)

ج – ظلم الناس، فإنَّه يُؤدّي إلى الذل بين يدي الله تعالى، وعلى رؤوس الأشهاد، وقد روي أنَّ رجلاً شكى إلى الإمام الصادق علیه السلام من جاره، فقال له علیه السلام: «اصبر عليه»، فقال : ينسبني الناس إلى الذلّ، فقال: «إِنَّا الذليل من ظَلَمَ». (5)

ص: 134


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني ( ص 286).
2- تحف العقول لابن شعبة الحراني (ص 201).
3- أي ليس هذا عادتي وهمتي، فإنّ الدهر يقال للهمَّة والعادة. (من هامش المصدر).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 4 / ص 21 و 22 / باب كراهية المسألة / ح 7) .
5- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 75 / ص 205).

ملاحظتان مهمتان

الملاحظة الأُولى: هناك بعض الأفعال والتصرُّفات لا بدَّ للمؤمن أن يربو بنفسه عنها، ولا يتناولها بفعله ولا بقوله، لأنّها من موجبات إذلال النفس، ومنها ما روي عن الإمام الحسين علیه السلام من أنَّه قال في آخر لحظات حياته : «ابعثوا إلى ثوباً لا يُرغَب فيه، أجعله تحت ثيابي، لئلا أُجرد»، فأُتي بتبان، فقال: «لا، ذاك لباس من ضُرِبَت عليه بالذلة ... ». (1)

و من ذلك أيضاً ما روي عن عبد الله جبلة الكناني، قال: استقبلني أبو الحسن الإمام الكاظم علیه السلام وقد علَّقْتُ سمكة في يدي، فقال: «اقذفها، إنَّني لأكره للرجل السري أنْ يحمل الشيء الدنيّ بنفسه، ثمّ قال: «إنَّكم قوم أعداؤكم كثيرة، عاداكم الخلق، يا معشر الشيعة إنَّكم قد عاداكم الخلق، فتزيَّنوا لهم بما قدرتم عليه». (2)

وهكذا على المؤمن أن يأنف عن معاقرة أي أمر من شأنه أنْ يُذِلَّه ولو بعد حين، كالكذب والسرقة والغيبة والنميمة وما شابه هذه الأمور.

الملاحظة الثانية: صحيح أنَّ على المؤمن أن يتعزّز ما أمكنه، ولكن هناك مقامين يكون العزُّ فيهما بالتذلُّل، وهما: التملُّق إلى الله تعالى، وإلى الأستاذ في طلب العلم، وقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال:«ليس من أخلاق المؤمن التملُّق... إلَّا في طلب العلم». (3)

ص: 135


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 45/ ص 54).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 480 / باب النوادر /ح 12 )
3- الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي (ج 2 /ص 464 / ح 7671).

ص: 136

اختيار الخليط

لا شك ولا ريب أنَّ الإنسان اجتماعي في حياته العملية اليومية (1)، وبالتالي فإنَّه سوف يُقيم الكثير من العلاقات الاجتماعية، التي تقتضي عقد الجلسات والاجتماعات مختلفة المدى، ومن ذلك نجد أنَّ الإنسان يحتاج بين الفينة والأخرى أن يجالس بعض الأصدقاء والأخلاء. وهنا تأتي القاعدة الأخلاقية التي تقضي على المؤمن أن يكون اختياره لجلسائه منسجماً مع هدفه المفترض، وهو تحصيل الكمال والقرب الإلهي، الأمر الذي يعني أن يكون جلساؤه ممن يساعدونه على ذلك، لا أنّهم يقفون مانعاً من تحصيل الكمال.

وهذا يعني بصراحة: أنَّ على المؤمن أن يكون دقيقاً فيمن يختارهم ليكونوا خلانه ومؤانسيه، وحتّى تتم الصورة نذكر الأُمور التالية:

الأمر الأوّل: أنَّ مجالسة الإخوان ومفاكهتهم من الأُمور التي تساعد المؤمن على تجاوز صعاب الحياة ونسيان أحزانها ، بالترفيه عن نفسه معهم، وهذا أمر يحتاجه المؤمن بين فترة وأُخرى، لئلا تنغلق عليه نفسه أو يمل قلبه.

ولذا روي عن الإمام الكاظم علیه السلام :«اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات ساعة لمناجاة الله وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يُعرفونكم عيوبكم، ويُخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرَّم،

ص: 137


1- بغضّ النظر عن كونه كذلك بطبعه أو أنه مستخدم بطبعه.

وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات». (1)

الأمر الثاني: أنَّ مجالسة الإخوان هي عمل من أعمال الفرد التي سيتم حسابه عليها، ولذلك افترضت النصوص الدينية أنْ يجالس المؤمن عدة أصناف لا يُخاف منهم عليه، قد وضحت الروايات الشريفة تلك الأصناف، ومنها ما روي أنَّ لقمان الحكيم قال لابنه : يا بني، اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإن تكن عالماً نفعك علمك، وإن تكن جاهلاً علموك، ولعل الله أنْ يظلهم برحمته فيعمك معهم. وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله عزوجل ، فلا تجلس معهم، فإن تكن عالماً لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلاً يزيدوك جهلاً، ولعل الله أن يظلهم بعقوبة فيعمك معهم. (2)

وعن رسول الله صلی الله علیه و اله: قالت الحواريون لعيسى يا روح الله من نجالس ؟ قال :« من يُذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويُرغبكم في الآخرة عمله ». (3)

وعنه صلی الله علیه و اله: «لا تجلسوا عند كل عالم إلا عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس: من الشكَّ إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرغبة إلى الزهد». (4)

الأمر الثالث: أنَّ هناك العديد من الأصناف الذين نهت الروايات الشريفة عن مجالستهم، لأنَّ لهم تأثيراً سلبياً على القلب، بسبب أعمالهم التي يقومون بها، فعلى المؤمن أنْ يكون مستعدًا للتضحية بمجالستهم مقابل أن يربح قلبه وقربه من الله تعالى.

ص: 138


1- تحف العقول لابن شعبة الحراني ( ص 409 و 410).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1 /ص 39/ باب مجالسة العلماء و صحبتهم / ح 1).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1 /ص 39 /باب مجالسة العلماء وصحبتهم/ ح 3).
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 1 /ص 205).

ومن أولئك التالي:

أوَّلاً: الأنذال: النذل هو الخسيس من الناس الذي تزدريه في خلقته وعقله، أي إنَّه المحتقر في جميع أحواله (1) . ومن الواضح أنَّ الجلوس مع هكذا فرد يُؤدّي إلى اكتساب بعض الخسة منه ولو بعد حين، وعلى الأقل يلزم من مجالسته تعميم حكمه على من يجالسه، فإنَّ الناس تحكم على الشخص برفيقه ومن يجالسه، وهذه حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها .

ثانياً: غير المحارم من النساء، فإنَّ ذلك يسحب إلى الحرام وعلى الأقل إلى الشبهة شيئاً فشيئاً. ونفس الأمر يُقال للنساء، فلا تجالس غير محارمها لنفس السبب، ولذا روي عن رسول الله صلى الله عليه واله أَنَّه نهى عن محادثة النساء، يعني غير ذوات المحارم، وقال: «لا يخلون رجل بامرأة، فما من رجل خلا بامرأة إلَّا كان الشيطان ثالثهما». (2)

فليحذر الذين يعملون في أماكن مختلطة، أو يُعاملون غير جنسهم في شراء أو معاملة رسمية وما شابه، فإنَّ الخروج عن الحدود الشرعية في التعامل مما يُعمي القلب ويُقسّيه.

ثالثاً: مجالسة الأغنياء، وقد يستغرب البعض بادئ ذي بدء من عد هذا العنوان من جملة من لا ينبغي مجالستهم ، ولكن الروايات وضحت المقصود منه، والمغزى الذي كان وراء النهي عن مجالستهم، وأنَّ المقصود هو نوع خاص من الأغنياء، لا كلّ غني، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه واله :«إياكم ومجالسة الموتى»، قيل : يا رسول الله من الموتى؟ قال: «كلّ غنيّ أطغاه غناه». (3)

ص: 139


1- تاج العروس للزبيدي (ج 15 /ص 728 /مادة نذل).
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 2 /ص 214 /ح 788 ).
3- تنبيه الخواطر للشيخ ورّام( ج 2 /ص 32)

وقد جمع هذه الثلاثة ما روي عن رسول الله الأعظم صلی الله علیه و اله : «ثلاثة مجالستهم ثميت القلب: مجالسة الأنذال، والحديث مع النساء، ومجالسة الأغنياء». (1)

رابعاً: مخالطة السَّفِلة (أو السِّفْلة) (2) ، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «إياك ومخالطة السفلة فإنَّ السفلة لا يؤول إلى خير ». (3) .

أمَّا عن معنى السفلة فقد قيل في معناه أحد المعاني التالية (4):

المعنى الأوّل: أنَّ السَّفِلة هو الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، فقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال: «إنْ كنت لا تبالي ما قلت وما قيل لك، فأنت سفلة». (5)

المعنى الثاني : أنَّه من لم يسره الإحسان ولم تسنه الإساءة.

المعنى الثالث : أنَّه من ادَّعى الأمانة (أو الإمامة) وليس لها أهل.

المعنى الرابع والخامس من يضرب بالطنبور، ومن يشرب الخمر، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه سُئِلَ عن السفلة، فقال:«من يشرب الخمر، ويضرب بالطنبور». (6)

المعنى السادس الذي يأكل في الأسواق أي من لا يجلس في مجلس مناسب ومخصَّص للطعام، فقد روي أنَّه سُئِلَ الإمام أبو الحسن الكاظم علیه السلام عن السفلة، فقال:

ص: 140


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 87).
2- قال الشيخ علي النمازي الشاهرودي في مستدرك سفينة البحار (ج 5 /ص 64): بكسر السين وسكون الفاء، أو بفتحها مع كسر العين.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5 /ص 158 /باب من تكره معاملته ومخالطته / ح 7)
4- المعاني الأربعة الأولى من هامش المصدر نقلا عن كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3 /ص 165).
5- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 6 /ص 295 / 28/821).
6- الخصال للشيخ الصدوق (ص 62 /ح 89).

«السفلة الذي يأكل في الأسواق». (1)

المعنى السابع من يلهو عن ذكر الله تعالى ولا يذكره ، ومن لا يخاف الله تعالى في فعله وقوله، فقد روي أنَّه سُئِلَ الأمام الرضا علیه السلام عن السفلة فقال:«من كان له شيء يلهيه عن الله » (2) وروي عن أمير المؤمنين علیه السلام في حديث الأربعمائة:«احذروا السفلة فإِنَّ السفلة من لا يخاف الله عزوجل، فيهم قتلة الأنبياء وفيهم أعداؤنا». (3)

ص: 141


1- مستطرفات السرائر لا بن إدريس الحليّ ( ص 576).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 442).
3- الخصال للشيخ الصدوق ( ص 635).

ص: 142

المنكسرة قلوبهم

أفضل ما في الوجود هو الإنسان، وأفضل ما في الإنسان مضغة فيه تُسمّى القلب وهي مركز المشاعر والأحاسيس وغيرها، وإنَّما سُمّي القلبُ قلباً لتقلبه وعدم استقراره وإنَّ (مثل القلب مثل الريشة تُقلبها الرياح بفلاة) (1)، ولذلك فإنَّ للقلب حالات متعددة، فقد يكون أزهراً يسطع كأنَّ فيه مصباحاً، وقد يكون منكوساً مقلوباً رأساً على عقب، وقد يكون رمادياً فلا هو أسود ولا هو أبيض ، وقد روي في حالاته عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «القلوب ثلاثة : قلب منكوس لا يعي شيئاً من الخير، وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء، فالخير والشرُّ فيه يعتلجان (2) ، فأيهما كانت منه غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر ، ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة، وهو قلب المؤمن ». (3)

ولكن تذكر بعض الروايات قلباً من نوع آخر، إنَّه قلب يُحِبُّه الله تعالى، لذلك إذا أردْتَ أنْ تجد الله تعالى، فلا تبحث عنه في شرق أو غرب، بل ستجده عند ذلك القلب، إنَّه القلب (المنكسر)، فقد روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله أَنَّه سُئِلَ : أين الله ؟ فقال صلی الله علیه واله :« عند المنكسرة قلوبهم». (4)

ص: 143


1- الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي (ج 2 /ص 529 / ح 8135).
2- الاعتلاج المصارعة وما يشابهها. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 ص 422 باب في ظلمة قلب المنافق وإن أعطى اللسان، ونور قلب المؤمن وإنْ قصّر به لسانه/ ح 3).
4- الدعوات لقطب الدين الراوندي (ص 120 /ح 282).

وحتّى تنضح الصورة نذكر الأمور التالية:

الأمر الأوّل: من الواضح في عقيدتنا أنَّ الله تعالى ليس من سنخ الموجودات المادية لكي يحتاج إلى مكان أو يوجد في مكان ، وإنَّما هو موجود مجرد لا يحتويه مكان، بل هو خالق المكان، وقد روي أنَّ أمير المؤمنين علیه السلام أجاب يهودياً سأل عن مكان الله تعالى فقال له: «إِنَّ الله جلَّ وعزّ أَيْنَ الأين فلا أين له، وجلَّ عن أنْ يحويه مكان، وهو في كلّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره، وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يُصدق ما ذكرته لك.... ألستم تجدون في بعض كتبكم أنَّ موسى بن عمران علیه السلام كان ذات يوم جالساً إذ جاءه مَلَك من المشرق، فقال له موسى: من أين أقبلت؟ قال: من عند الله ، ثمّ جاءه مَلَك من المغرب، فقال له: من أين جئت؟ قال من عند الله، وجاءه مَلَك آخر فقال : قد جئتك من السماء السابعة من عند الله تعالى، وجاءه مَلَك ،آخر ، فقال : قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند الله عزّوجل اسمه، فقال موسى علیه السلام سبحان من لا يخلو منه مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مکان؟». (1)

ومعه، فيكون معنى أنَّ الله تعالى يكون عند القلب المنكسر هو الكون والقرب المعنوي لا المادي.

ومن هذا القبيل ما روي في الحديث القدسي: «لا يسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن ». (2)

قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ

ص: 144


1- الإرشاد للشيخ المفيد (ج 1 /ص 201 و 202).
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج4 /ص 7).

أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (المجادلة: 7).

الأمر الثاني: أنَّ معنى القلب المنكسر هو القلب الذي يحس بالفقر والحاجة والخضوع والانكسار لحالة من الحالات، فكأنه انكسر بسبب ذلك الإحساس، وهو توصيف مجازي للدلالة على وجود لين فيه أو هشاشة، بحيث يتأثر بسرعة، فكأنه زجاج رقيق، يُخاف عليه من الانكسار.

وإنّما يكون القلب منكسراً إذا أحس بالفقر الوجودي، بمعنى: أنَّ الإنسان إذا التفت إلى وجوده في هذه الحياة، وجد نفسه ضعيفاً جدًّا، بحيث إنَّه يخاف من مخلوقات لا تُرى بالعين المجرَّدة أن تدخل إلى جسمه عنوةً فتشل حركته أو تطرحه أرضاً، وبالتالي فهو بحاجة إلى من يدافع عنه ويحميه مما لا يستطيع أن يواجهه بالمباشرة، وإن كان صغيراً في حجمه! وهكذا يجد الإنسان نفسه مفتقراً إلى الكثير من الوسائط والآلات لكي يتمكّن من قضاء حوائجه في هذه الحياة، فالحياة عموماً لا يمكن أن تستمر لو فقد الناس - كلَّ الناس - مثلاً عيونهم ويمكننا أن نتصوّر الظلام الحالك الذي تعيشه البشرية لو فقدت هذه الآلة فقط !

وهكذا يجد الإنسان نفسه محتاجاً إلى موجود لا يُلمس، ولا يُرى، إِنَّه محتاج إلى (الأُوكسجين) لكي يعيش، وهذا الأوكسجين ليس متاحاً للإنسان، فهو لا يُصنع في معامل تكفي للبشر كلّهم، ولا يُشترى في بورصة عالمية، إنَّه هبة من موجود أعلى، كريم جواد.

کل هذا ،وغيره، لو التفت إليه الإنسان لوجد نفسه ضعيفاً جدًا جدًّا، مما يُسبّب له الانكسار والإحساس بالحاجة والفقر المدقع، وهنا، يتحوّل ذلك القلب المنكسر إلى التفكير باللجوء إلى القادر على توفير كل ما يحتاجه الإنسان في حياته، فيخشع ويذلُّ

ص: 145

بين يدي الله تعالى.

روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال: «إنَّ الله عباداً كسرت قلوبهم خشية الله.... يستَبقون إليه بالأعمال الزاكية، لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له القليل...». (1)

فإذا انكسر القلب من خشية الله تعالى كان له ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام : «طوبى للمنكسرة قلوبهم من أجل الله». (2)

الأمر الثالث: أنَّ صفة انكسار القلب مرَّة تُؤخَذ بلحاظ المؤمن نفسه، فيكون المطلوب منه أن يستشعر ضعفه وفقره إلى الباري جلّ وعلا، فيعيش الخشوع والخضوع له جل وعلا. كما تقدَّم في الأمر الثاني.

ومرَّة تُؤخَذ في إنسان آخر، انكسر قلبه لسبب ولآخر ، وهنا، يكون المطلوب من المؤمن أن يقف إلى جنب صاحب القلب المنكسر ، ليواسيه، ويُخفّف عنه، ليكون مع

الذين انكسرت قلوبهم وسيحصل على نفس النتيجة المرجوة، وهي القرب من الله تعالى.

ومن أُولئك الذين انكسرت قلوبهم التالي:

أولاً : عزيز قوم ذلَّ، وغني قوم افتقر ، فإنَّ مثل هؤلاء يُمثلون مصداقاً واضحاً لمن انكسر قلبه بسبب تقلبات الدنيا وغدرها، وبالتالي، فعلى المؤمن أن لا يُعيّر أمثال هؤلاء، ولا يستهزئ بهم، بل يدعو الله تعالى بالعافية، ويقف إلى جنب أُولئك المنكوبين، قربةً لوجه الله تعالى.

وهذا ما كان فعله رسول الله صلى الله عليه واله مع صفية بنت حيي بن أخطب كبير اليهود بعد

ص: 146


1- كتاب الزهد للحسين بن سعيد الكوفي (ص 5) ؛ وبحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج66/ ص 286).
2- عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 313).

فتح خيبر، حيث إنَّه لم يجعلها كسائر الغنائم بل خيَّرها بين العتق والزواج به، وبين الرجوع لأهلها، فاختارت الزواج به. (1)

وقد نقل الحلبي في سيرته أنَّه لما جيء ببنات كسرى أُسارى إلى بلاد المسلمين، لم يرتض أمير المؤمنين علیه السلام أنْ يُنادى عليهنَّ كبقية السبايا وانتهى الحال بهنَّ بأنْ يتزوَّجن من سالم بن عمر ومحمّد بن أبي بكر، والإمام الحسين علیه السلام، وكانت زوجة الإمام الحسين هي أُمَّ الإمام زين العابدين عليهم السلام. (2)

ص: 147


1- في ذخائر العقبى لأحمد بن عبد الله الطبري (ص (190 : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله] قد افتتح خيبر وغنم أموالهم وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفى رسول الله صلّى الله عليه وآله] صفية بنت حي بن أحطب فأعدَّها لنفسه، وخيَّرها بين اثنين أنْ يعتقها وتكون زوجته أو تلحق بأهلها، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته... وقد نُقِلَ في تفسير القمّي (ج 2 ص 321 و 322): في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ [الحجرات: 11]، فإنَّها نزلت في صفية بنت حيّ بن أخطب، وكانت زوجة رسول الله ، وذلك أنَّ عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها يا بنت اليهودية، فشكت ذلك إلى رسول الله صلی الله علیه و اله، فقال لها: «ألا تجيبنهما »؟ ، فقالت: بماذا يا رسول الله؟ قال: قولي: أبي هارون نبي الله ، وعمّي موسى كليم الله، وزوجي محمّد رسول اللهصلی الله علیه و اله، فما تنكران منّي ؟ ، فقالت لهما، فقالتا : هذا علمك رسول الله صلی الله علیه و اله، فأنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالُونَ»، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، قال الشعوب العجم، والقبائل العرب، وقوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَنْقاكُمْ» وهو ردُّ على من يفتخر بالأحساب والأنساب.
2- في السيرة الحلبية ( ج 2 /ص 221 و 222): ولما جيء لعمر في زمن خلافته بسواري كسرى وتاجه ومنطقته...، وجيء له بمال كثير من مال کسری و بنات كسرى وكنَّ ثلاثاً وعليهنَّ الحلى والخلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه.... ثمّ جيء ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه، وأمر المنادي أن ينادي عليهنَّ وأنْ يزيل نقابهنَّ عن وجوههنَّ ليزيد المسلمون في ثمنهنَّ فامتنعن من كشف نقابهنَّ ووكزن المنادي في صدره، فغضب عمر وأراد أن يعلوهنَّ بالدُّرَّة وهنَّ يبكين، فقال له علي رضي الله تعالى عنه : مهلاً .... فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه [وآله] يقول: ارحموا عزيز قوم ذلّ، وغنيّ قوم افتقر ، فسكن غضبه، فقال له على: «إنَّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهنَّ من بنات السوقة»، فقال له :عمر: كيف الطريق إلى العمل معهنَّ، فقال: «يُقوَّمن ، ومهما بلغ ثمنهنَّ يقوم به من يختارهنَّ، فقُوِّمن وأخذهنَّ على [علیه السلام ] عنه ، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر، فجاء منها بولده سالم، وأُخرى لمحمد بن أبي بكر، فجاء منها بولده القاسم، والثالثة لولده الحسين، فجاء منها بولده عليّ الملقب بزين العابدين، وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علماً وورعاً، وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسري، فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه..

ثانياً: اليتيم، فإنَّه حتى لو كان غنيًّا بماله، وحتّى لو كان له أعمام أو أخوال مثلاً يراعونه، ولكنهم مهما كانوا فليسوا كأبيه، وهو بالتالي يحس بألم يعتصر قلبه لا يشعر به إِلَّا من مرَّ باليتم في صغره، وبالتالي، فعلى المؤمن أن يعمل على إدخال السرور على قلب اليتيم مهما أمكنه ذلك.

ومن هنا روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله: «إنَّ في الجنَّة داراً يقال لها: (دار الفرح)، لا يدخلها إلا من فرَّح يتامى المؤمنين». (1)

ص: 148


1- الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي ( ج 1 /ص 354 - 2322).

تجمُّل المؤمن

هذه الحياة رخيصة جدًا بالقياس إلى الآخرة، بل لا قيمة لها بالقياس إليها، ولذلك جاءت النصوص التربوية تدعو إلى أن لا يتعلّق المؤمن بها، وأنْ لا يتعامل معها إلا كجسر يوصله إلى هدفه المعيَّن ، ولذلك فهي مجرد مركب يوصلك إلى هدفك في رحلتك نحو الله تعالى، قال تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه (الانشقاق: (6).

وهذا أمر واضح جدًّا.

والذي يُراد التنبيه عليه هنا هو أنَّ هذا التعامل مع الحياة لا يقتضي من المؤمن أن يظهر بمظهر البائس الفقير، بحيث يراه الرائي ويحسبه مشرداً! ليس مطلوباً منه أنْ يبقى أشعثاً أغبراً، ليس ضرورياً أن يلبس المسوح ويتقمص الرهبنة.

كلّا، فإنّ الله تعالى لم يحرم المؤمن من الحياة، ولم يجعلها خاصَّة بالكافرين، بل شرَّع للمؤمن أن يستفيد من الحياة وطيّباتها ، فإنَّه أحق بها من غيره، لأنه يتعامل معها كما يريد الله تعالى، لا كما يريد الشيطان، قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 32).

عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : «أبصر رسول الله صلی الله علیه و اله رجلاً شعثاً شعر رأسه وسخةً ثيابه

ص: 149

سيّئةً حاله، فقال رسول الله صلی الله علیه و اله : من الدِّين المتعة وإظهار النعمة ». (1)

وعنه صلی عليه الله واله: «بئس العبد القاذورة (2)». (3)

ومن هنا، فعلى المؤمن أن يظهر بمظهر محترم لائق بعبد انتسب إلى ربِّ عظيم جليل، وأنْ يتزيَّن بما حلَّ من الزينة، فإنَّ في ذلك سروراً لأخيه المؤمن، وكبتاً وغيظاً لعدوه، ومن هنا روي عن أمير المؤمنين علیه السلام : «اليتزيَّن أحدكم لأخيه المسلم كما يتزيَّن للغريب الذي يُحِبُّ أنْ يراه في أحسن الهيأة». (4)

وعن أبي عبد الله علیه السلام ، قال : «إِنَّ الله عزوجل يُحِبُّ الجمال والتجمل ويبغض البؤس والتباؤس (5)» . (6)

وقد ذُكِرَ في أحوال النبي الأعظم صلی الله علیه و اله أنه إذا أراد أن يخرج لأصحابه هيأ نفسه ورتَّب ملابسه وصفَّف شعره. (7)

وفي هذا المجال عدّة تطبيقات نذكر منها التالي :

ص: 150


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 / ص 438 و 439 / باب التجمل وإظهار النعمة / ح 5).
2- القاذورة من الرجال الذي لا يبالي ما قال وما صنع . (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 / ص 438 و 439 / باب التجمل وإظهار النعمة / ح 6 ) .
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 439 و 440 / باب التجمُّل وإظهار النعمة / ح 10 ) .
5- التباؤس: التفاقر، وأن يرى تخشُّع الفقراء اخباتاً وتضرعاً. (من هامش المصدر)
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 439 و 440 / باب التجمل وإظهار النعمة / ح 14).
7- في تفسير القرطبي (ج 7 /ص 197) روى مكحول ، عن عائشة، قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله] ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويُسوّي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: «نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليُهيّئ من نفسه، فإنَّ الله جميل يُحِبُّ الجمال». وفي كنز العمال للمتقي الهندي (ج 10 612 و 613 / ح 30315): أنَّ النبيَّ صلى الله عليه [وآله] كان إذا قَدِمَ عليه الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك، قال الراوي: فرأيته وَفَدَ عليه وَفد كندة وعليه حلّة يمانية.

التطبيق الأوَّل: الملابس، فإنَّه ينبغي للمؤمن أن تكون ملابسه نظيفة مرتبة، وأنْ تكون متناسبة مع وضعه الاجتماعي والمادي والعرفي لا أن يلبس ملابس المشرّدين بحجة الزهد في الدنيا، فالزهد لا يُراد به ذلك كما هو واضح لمن قرأ النصوص الدينية الواردة فيه، والتي تعتبر حقيقة الزهد في ترك الحرام.

روي أنَّه قال أبو عبد الله علیه السلام العبيد بن زياد إظهار النعمة أحبُّ إلى الله من صيانتها، فإيّاك أنْ تتزيَّن إلا في أحسن زيّ قومك»، قال : فما رئي عبيد إِلَّا في أحسن زي قومه حتّى مات. (1)

وعن أبي عبد الله علیه السلام يقول: «الثوب النقي يكبت العدو». (2)

وعن رسول الله صلى الله عليه واله : «من اتَّخذ ثوباً فلينظفه». (3)

وروي أنَّه مرَّ سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله علیه السام وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان، فقال: والله لآتينه ولأ و بخَنَّه ! فدنا منه ، فقال : يا ابن رسول الله ما

لبس رسول الله صلى الله عليه واله مثل هذا اللباس ولا علي ولا أحد من آبائك، فقال له أبو عبد الله علیه السلام : «كان رسول الله صلی الله علیه و اله في زمان قَتْرِ مُقتَر ، وكان يأخذ لقتره واقتداره وإنَّ الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها (4)، فأحقُ أهلها بها ، أبرارها»، ثمّ تلا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32]، ونحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله، غير أنّي يا ثوري ما ترى عليَّ من ثوب إنَّما ألبسه للناس»، ثمّ اجتذب يد سفيان فجرَّها إليه، ثمّ رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً،

ص: 151


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 440 و 441 / باب التجمل وإظهار النعمة /ح 15).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 441 / باب اللباس/ ح 1).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 441 / باب اللباس / ح 3).
4- العزالى جمع العزلاء مثل الحمراء، وهو فم المزادة، فقوله: (أرخت) أي أرسلت، يريد شدَّة وقع المطر على التشبيه بنزوله من أفواه المزادة.( من هامش المصدر).

فقال: «هذا ألبسه لنفسي، وما رأيته للناس»، ثمّ جذب ثوباً على سفيان أعلاه غليظ خشن وداخل ذلك ثوب ليّن، فقال: «لبس» هذا الأعلى للناس ولبست هذا لنفسك

تسرُّها». (1)

التطبيق الثاني: الشعر، فإنَّه من أفضل زينة بني آدم، وقد روي عنه أنه صلی الله علیه و اله قال: «الشعر الحسن من كسوة الله فأكرموه (2)، ومن اتخذ شعراً فليُحسِن ولايته أو لِيجُزّه». (3)

وروي أنَّه سُئِلَ أبو الحسن الرضا علیه السلام عن قول الله: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلَّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31]، قال: «من ذلك التمشُّط عند كل صلاة ». (4)

ومن هنا، فالمؤمن يحترم شعر رأسه، ويقصه بما لا يجعله في موضع غيبة، وبشكل لا يخرج فيه عن الحد العقلائي المتعارف، علماً أنَّ بعض الروايات نهت عن قص الشعر بشكل معيَّن، وهو ما يُسمّى بالقنازع أو القزع تشبيهاً له بقزع السحاب، أي قطعها، حيث روي عن أمير المؤمنين أنه قال: «لا تحلقوا الصبيان القزع، والقزع أن يحلق موضعاً وبدع موضعاً». (5)

وروي أنَّ أبا عبد الله علیه السلام كان يكره القزع في رؤوس الصبيان، وذكر أن القزع أن يحلق الرأس إلا قليلاً ويترك وسط الرأس يُسمّى القزعة (6)، وأنه أتي النبي صلی الله علیه واله بصبي

ص: 152


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 442 و 443 / باب اللباس / ح 8).
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 125)
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق( ج 1 /ص 129 / ح 326).
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1 /ص 128 ح 318).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 / ص 39 و 40 / باب كراهية القنازع / ح 1).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 / ص 39 و 40 /باب كراهية القنازع/ ح 2).

يدعو له وله قنازع، فأبى أن يدعو له، وأمر بحلق رأسه... (1)

التطبيق الثالث: الطيب، فإنَّه من الزينة التي يُستَحبُّ للمؤمن أن يدوم عليها، وقد روي عن أبي الحسن علیه السلام أنَّه قال: «لا ينبغي للرجل أن يدع الطيب في كلّ يوم، فإن لم يقدر عليه فيوم ويوم لا، فإن لم يقدر ففي كل جمعة ولا يدع». (2)

ولقد كان أهل البيت علیهم السلام لا يدعون الطيب أبداً، بل روي أنَّه ما أنفقت في الطيب فليس بسرف (3)، وأنَّه كان رسول الله صلی الله علیه و اله يُنفق في الطيب أكثر مما يُنفق في الطعام (4)، وأنَّه كان يُعرَف موضع سجود أبي عبد الله علیه السلام بطيب ريحه. (5)

نعم، المرأة لا بدَّ أنْ تتحرّز من إظهار طيبها لغير محارمها، لأنَّه يُمثل عورة لها، وقد يجعل من يشمُّ طيبها يرغب فيما لا يحلّ منها، ومن هنا روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله أنه قال: «أيما امرأة استعطرت ثمّ خرجت فمرَّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية». (6)

وفيما يتعلّق بحد طيب المرأة روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله:« طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، وطيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه». (7)

ومن هنا حكم بعض الفقهاء بعدم جواز تعطّر المرأة وخروجها من بيتها إذا كان بقصد إيقاع الرجال في الحرام أو لزم منه افتتان الرجال.

ص: 153


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 39 و 40 / باب كراهية القنازع / ح 3).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 510 / باب الطيب / ح 4 ) .
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 / ص 512 / باب الطيب/ ح 16 ).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 512 / باب الطيب / ح 18).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 511 / باب الطيب / ح 11)
6- الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي (ج 1 /ص 459 / ح 2971).
7- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 512 / باب الطيب/ ح 17).

ص: 154

لا تستوحشوا طريق الحق

الإنسان - لأنَّه كائن اجتماعي – يأنس بغيره من أبناء جنسه، وكلما كثرت جهات الاشتراك بينك وبين الآخر، كلَّما كان الأنس به أكثر.

والإنسان لذلك يكره الوحشة والوحدة، وهذا أمر وجداني.

والدِّين كان يعرف هذه الحقيقة في الإنسان، لذلك وردت بعض التشريعات التي تدفع الإنسان نحو الاختلاط بغيره، وتُبعده عن الوحدة والتوحش ما أمكن، ومن ذلك التالي: أوَّلاً: رجحان أن لا يبيت الرجل لوحده في البيت إلَّا أنْ يكون معه غيره.

ثانياً: رجحان أنْ لا يدخل الرجل في مكان مظلم إلَّا ومعه سراج.

ثالثاً: رجحان السفر مع رفيق، وأن لا يسافر الإنسان وحده.

ومن النصوص التي أشارت إلى هذه الأمور هي التالي:

عن ميمون قال: نزلت على أبي جعفر علیه السلام، فقال : يا ميمون، من يرقد معك بالليل؟ أمعك غلام؟»، قلت: لا، قال:«فلا تنم وحدك، فإنَّ أجرأ ما يكون الشيطان على الإنسان إذا كان وحده ». (1)

ص: 155


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 533 / باب كراهية أن يبيت الإنسان وحده والخصال المنهي عنها لعلة مخوفة / ح 1 ) .

وعن سماعة بن مهران قال سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل يبيت في بيت وحده، فقال: «إنّي لأكره ذلك ، وإنْ اضطر إلى ذلك فلا بأس، ولكن يُكثر ذكر الله في منامه ما استطاع». (1)

وعن أبي عبد الله علیه السلام ، قال : «إنَّ الشيطان أشدّ ما يهم بالإنسان إذا كان وحده، فلا تبيتنَّ وحدك، ولا تسافرةً وحدك». (2)

وعن رسول الله صلى الله عليه واله أنَّه كره أن يدخل بيتاً مظلماً إلا بسراج . (3)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: سَلْ عن الرفيق قبل الطريق ». (4)

وعن رسول الله صلی الله علیه واله:« لرفيق ثمّ الطريق». (5)

فالإنسان لا يألف الوحشة، ويستوحش من الوحدة، ولذلك، استوحش من القبر، وارتعب قلبه من تذكر وحشته ووحدته وضيقه، القبر الذي له كلام في كل يوم يقول : أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حفر النار. (6)

ص: 156


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 / ص 534 / باب كراهية أن يبيت الإنسان وحده والخصال المنهي عنها لعلّة مخوفة / ح 4 ) .
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 /ص 534 / باب كراهية أن يبيت الإنسان وحده والخصال المنهي عنها لعلَّة مخوفة / ح 9).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6 / ص 534 / باب كراهية أن يبيت الإنسان وحده والخصال المنهي عنها لعلة مخوفة / ح 6).
4- نهج البلاغة (ج 3 /ص 56).
5- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 357 /ح 15).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 3 /ص 242 /باب ما ينطق به موضع القبر /ح 4732)، والرواية عن الإمام الصادق علیه السلام.

وثانياً: أنَّ طريق الحقِّ يعني التزام المبادئ ولو على حساب المصالح والمجاملات، قال تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ الله أَلا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: (22).

وهذا يعني، أنَّ المؤمن سوف يجد الكثير من الناس ممن يرغب عن هذا المبدأ، من يرغب فيه هم ثَلة قليلة ،لذا سيكون السائر في طريق الحق قليل الصحبة ضئيل الرفاق، وهو أمر نبه عليه أمير المؤمنين علیه السلام من قبل، حينما قال: «أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإنَّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل». (1)

وهنا ألفت النظر إلى عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: ليست الكثرة علامة الحقانية، ولا هي هي ملاكها وأساسها، فإنّ الحقَّ أمر ثابت واضح، ومن يلتزم به يكن على الحق وإن كان لوحده، والقرآن يُنبه على أنَّ الكثرة قد تكون في الطريق الباطل، فيقول تعالى: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ

ص: 157


1- نهج البلاغة (ج 2 /ص 181)؛ وفي شرح أصول الكافي لمولى محمد صالح المازندراني (ج 9/ (187) قال بعض الأفاضل: لما كانت العادة أن يستوحش الناس من الوحدة وقلة الرفيق في طريق طويل صعب، نهى علیه السلام عن الاستيحاش في تلك الطريق، وكنّى به عما عساه يعرض لبعضهم من الوسوسة بأنَّهم ليسوا على حقٌّ لقلَّتهم وكثرة مخالفيهم، لأنَّ قلّة العدد في الطريق مظنَّة الهلاك والسلامة مع الكثرة، فنبَّههم على أنَّهم في طريق الهدى وإن كانوا قليلين، ثمّ نبّه على قلة عدد أهل طريق الهدى وهي اجتماع الناس على الدنيا، فقال: «فإنَّ الناس...» إلى آخره، واستعار للدنيا المائدة بملاحظة تشبيهها في كونها مجتمع اللذات، وكنّى عن قصر مدتها بقصر شبعتها عن استعقاب الانهماك فيها للعذاب الطويل في الآخرة بطول جوعها، ولفظ الجوع مستعار للحاجة الطويلة بعد الموت إلى المطاعم الحقيقية الباقية من الكمالات النفسانية، وهو بسبب الغفلة في الدنيا، فلذلك نسب الجوع إليها.

كارِهُونَ (المؤمنون: 70).

وهذا الأمر يقتضي على المؤمن أن يصبر على الحقِّ وإنْ كان لوحده، وإنْ كان مُرَّا، فقد روي عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : «لما حضرت أبي عليَّ بن الحسين عليه السلام الوفاة ضمني إلى صدره وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به يا بني، اصبر على الحقِّ وإنْ كان مُرا ». (1)

الملاحظة الثانية : أنَّ التزام طريق الحق ليس مجانياً، بل هو يحتاج إلى تقديم تضحيات عديدة، ومن تلك التضحيات هو تحمُّل الكثرة المضادّة، والترحيب بالقلَّة الموافقة.

وليكن المؤمن كما كان بطل التوحيد نبي الله إبراهيم الخليل حينما قال في ما نقله عنه القرآن الكريم: ﴿إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (الصافات: 99).

فعن سماعة بن ،مهران قال قال لي عبد صالح (صلوات الله عليه): «يا سماعة، أمنوا على فرشهم وأخافوني (2)، أما والله لقد كانت الدنيا وما فيها إلا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره لأضافه الله عزوجل إليه حيث يقول: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كانَ أُمَّةٌ قانِتَاً للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [النحل : 120]، فغبر بذلك ما شاء الله (3)، ثمّ إِنَّ الله آنسه بإسماعيل

ص: 158


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 9 باب الصبر /ح 13).
2- أي بالإذاعة وترك التقيَّة، والضمير في (آمنوا) راجع إلى المدعين للتشيع. (من هامش المصدر).
3- قوله : ( وما فيها) الواو للحال و (ما) نافية ( ولو كان معه غيره) أي من أهل الإيمان. (لإضافة الله عزوجلإليه ) لأنَّ الغرض ذكر أهل الإيمان التاركين للشرك حيث قال: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ ، فلو غيره لذكره معه. إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً لأنَّه كان على دين لم يكن عليه أحد غيره، فكان أُمَّةً واحدةً، وكان هذا بعد وفات .لوط. علیه السلام وقوله قانتا لله أي مطيعاً له. حنيفا أي مستقيماً على الطاعة وطريق الحق وهو الإسلام و قوله: (فغبر) في أكثر النسخ بالغين المعجمة والباء الموحدة، أي مكث أو مضى وذهب، فعلى الأوَّل فيه ضمير مستتر راجع إلى إبراهيم، وعلى الثاني فاعله ( ما شاء الله، وفي بعض النسخ: [فصبر]، فهو موافق للأوَّل، وفي بعضها بالعين المهملة، فهو موافق للثاني.(من هامش المصدر).

وإسحاق فصاروا ثلاثة، أما والله إنَّ المؤمن لقليل وإنَّ أهل الكفر لكثير، أتدري لِمَ ذاك؟»، فقلت: لا أدري جعلت فداك، فقال: «صُيَّروا أنساً للمؤمنين، يبثُون إليهم ما في صدورهم فيستريحون إلى ذلك ويسكنون إليه». (1)

الملاحظة الثالثة: ليكن معلوماً للمؤمن أنَّ تحمُّل الوحدة أو قلة الرفاق في طريق الحق لن يذهب عليه من دون أجر، بل إنَّ الله تعالى وعد المؤمن بثواب عظيم إذا ثبت على الحقِّ، فقد روي عن حماد السمدري [ أو السمندري]، قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد عليها السلام : إني أدخل بلاد الشرك، وإنَّ من عندنا يقول : إِنْ متَّ ثَمَّ حُشِرْتَ معهم؟ قال: فقال لي: «يا حماد، إذا كنت ثَمَّ تذكر أمرنا وتدعو إليه؟»، قال: قلت: نعم، قال: فإذا كنت في هذه المدن - مدن الإسلام - تذكر أمرنا وتدعو إليه؟»، قال: قلت: لا،

فقال لي: «إِنَّكَ إِنْ مِتَّ ثَمَّ حُشِرْتَ أُمّة وحدك، وسعى نورك بين يديك». (2)

وهذا ما وصف به القرآن الكريم النبي إبراهيم علیه السلام بأنَّه كان لوحده أُمَّة، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةٌ قانِتَا لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (النحل: 120).

الملاحظة الرابعة على المؤمن أن يقطع وحشة القلة بنور الاتصال بالغيب، فعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: «لو مات من بين المشرق والمغرب، لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي». (3)

ص: 159


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 243 و 244 / باب في قلة عدد المؤمنين/ ح 5 ) .
2- أمالي الشيخ الطوسي ( ص 45 و 46 / ح 23/54 ).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 602 كتاب فضل القرآن / ح 13)؛ وفي شرح أُصول الكافي لمولى محمّد صالح المازندراني (ج 11 /ص 21) أراد أنَّ من كان معه القرآن بالتلاوة والتدبر في آياته والتفكر فيما فيه من أسراره وأحكامه وقصصه وحكاياته لا يستوحش من الوحدة ولا يهتم بالانقطاع عن الخلق. والظاهر أنَّ المراد بالموت المعنى المعروف مع احتمال أن يُراد به انقطاع الخلق كلهم عنه، إذ فيه موت نفوسهم بالضلالة والجهالة.

إنَّ الله تعالى يُبشِّر عباده بأنَّه معهم فليتذكَّر المؤمن تلك الإشراقات الربانية عليه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ (الحج: 38)، وقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ حِكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (الطور: 48)، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ (الحديد: 4) ، وغيرها من الآيات في هذا المعنى.

الملاحظة الخامسة: ينبغي أن نلتفت إلى أنَّ المؤمن وإنْ كان يعيش بين قلة مثله، إِلَّا أنَّ الكثرة لا تعني إلَّا الوحشة ،الإيمانية، مما يعني أنهم قد يُمثلون أُنساً للمؤمنين في هذه الحياة الموحشة، ويعني أيضاً أنَّ على المؤمن أن لا يقطع علاقته تماماً بالكثرة، فإنَّ الحياة بالتالي تجمع بين المؤمن وبين غيره، فعليه أن يتعايش مع الجميع بما لا يُؤثر على دينه.

ومن ذلك من يُسمّيهم أمير المؤمنين علیه السلام بإخوان المكاشرة، فقد روي أنه قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان، فقال: «الإخوان صنفان : إخوان الثقة، وإخوان المكاشرة». (1)

فأما إخوان الثقة فهم الكفَّ والجناح والأهل والمال ، فإذا كنت من أخيك على حدّ الثقة فابذل له مالك وبدنك وصافِ من صافاه (2)، وعاد من عاداه، واكتم سره وعيبه وأظهر منه الحسن، واعلم أيّها السائل أنَّهم أقل من الكبريت الأحمر.

وأما إخوان المكاشرة فإنَّك تصيب لذتك منهم، فلا تقطعنَّ ذلك منهم ولا تطلبنَّ ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان». (3)

وعن الإمام الصادق علیه السلام ، قال : الإخوان ثلاثة فواحد كالغذاء الذي يُحتاج إليه

ص: 160


1- الكشر ظهور الأسنان في الضحك، وكاشره إذا ضحك في وجهه وباسط، والاسم الكشرة كالعشرة . (من هامش المصدر).
2- أي أخلص الودَّ لمن أخلص له الود. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 248 و 249 / باب في أنّ المؤمن صنفان/ ح 3)

كلّ وقت فهو العاقل، والثاني في معنى الداء وهو الأحمق (1)، والثالث في معنى الدواء فهو اللبيب». (2)

ص: 161


1- في نهج البلاغة (ج 4 / ص 11)، قال أمير المؤمنين علیه السلام : يا بني إياك ومصادقة الأحمق، فإنَّه يريد أنْ ينفعك فيضرك. وفيه أيضاً (ص 52) و قيل له علیه السلام : صف لنا العاقل ، فقال علیه السلام :« هو الذي يضع الشيء مواضعه»، فقيل : فصف لنا الجاهل، فقال: قد فعلت»،( يعني أنَّ الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه، فكأنَّ ترك صفته صفة له إذ كان بخلاف وصف العاقل).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 323).

ص: 162

نفسك أحبّ الأنفس إليك

حُبُّ الخير للنفس مما جبل عليه الإنسان، فهو لا يريد لها تلفاً طرفة عين أبداً، وهو في هذا لم يخرج عن الطبيعة الإنسانية، ولم يرتكب جريمة تاريخية، فله كل الحق في ذلك، فنفس الإنسان أحبّ الأنفس إليه، ومن حقه أن يحافظ عليها.

ولكنَّه في مقام العمل قد يتعامل مع نفسه على أنّها أبغض الأنفس إليه، وبالتالي، سيكون هذا التعامل عاملاً من عوامل تثبيطها عن هدفها الكمالي الأسمى.

والقاعدة هنا تريد القول: عليك أيها المؤمن أن تتعامل مع ذاتك ونفسك على أنّها أحبّ الأنفس إليك، وأن يكون هذا التعامل واقعياً، لا خيالياً، وأن يكون مبتنياً على أساسات متينة تضمن لك النجاح والربح والوصول إلى الهدف المنشود.

وحتّى تكون الصورة واضحة نشير هنا إلى ثلاث نقاط يلزم على المؤمن أن يلتفت إليها في تعامله مع نفسه الحبيبة:

النقطة الأولى : لا تؤذ نفسك بالمعصية:

كما أنَّ البدن يتأذى إذا أصابته بعض الأمراض والعلل أو الحوادث المادية، كذلك الروح تتأذى إذا أصابتها بعض الأمراض الروحية، وليس هناك من شيء يُؤلمها كارتكاب المعصية،وبالتالي، فالذي يدَّعي أنَّه يُحِبُّ ذاته ونفسه، عليه أن يحافظ عليها من الآلام الروحية كما يحافظ على بدنه من الآلام المادية.

ص: 163

و فی ذلک روی أنه قال أبو عبد الله علیه السلام:«كتب رجل إلى أبي ذر : يا أبا ذرّ رضی الله، أطرفني بشيء من العلم. فكتب إليه العلم كثير ، ولكن إن قدرت أنْ لا تُسيء إلى من تُحِبُّه فافعل. قال: فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يُحِبُّه؟ فقال له: نعم، نفسك أحبّ الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها». (1)

النقطة الثانية: لا تُشْق نفسك ليسعد غيرُك !

إذا كانت نفس المرء هي أحبّ الأنفس إليه ، فالمفروض أنْ لا يُشْقِها لأجل سعادة غيره!

صحيح أن على المؤمن أن يلتزم نفقة عياله، وصحيح أن عليه أن يُوفّر لهم الحياة الكريمة، من ملبس ومأكل ومسكن، وصحيح أنه ينبغي له أن يجعلهم في مأمن من صروف الدهر وغدرات الزمن ، ولكن ليس من الصحيح أنْ يُوفِّر هذه الأمور بهلاك وشقاء نفسه، وحتّى نكون على بينة أُلفت النظر إلى التالي:

أوّلاً: اسعَ واكسب ما استطعت، لكن بالحلال، فإنَّك إن كسبت شيئاً من حرام فلن يشفع لك أهلك وولدك ولا عشيرتك! فإنَّه كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدَّثِّر: 38).

وفي صورة ينقلها لنا القرآن الكريم عن بعض ما يحدث في يوم القيامة، يقول عزّ من قائل: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْتَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَمَا هُمْ بحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَنْقاهُمْ وَأَثقالاً مَعَ أَنْقاهِمْ

ص: 164


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 458 / باب محاسبة النفس / ح 20)؛ وفي شرح أُصول الكافي لمولى محمد صالح المازندراني (ج 10 /ص 214): لعلَّ المراد به هو الزجر عن إساءة المحبوب الحقيقي وهو الله بأن لا يقابل نعماه بالكفران ولا يُبدِّل طاعته بالعصيان، والتمثيل بالنفس لإيضاح ما استبعده السائل، وهذه كلمة وجيزة لأنَّ الوفاء بمضمونها متوقف على علم الأخلاق والشرائع كلّها مع الأعمال القلبية والبدنية طرّها.

وَلَيُسْتَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (العنكبوت: 12 و 13).

فأنت وحدك من ستتحمل تبعات عملك، فكن على حذر.

ثانياً: لا تكن بخيلاً، لا على نفسك، ولا على عيالك، وليكن نصب أعيننا قولُ أمير المؤمنين علیه السلام :«عجبتُ للبخيل ! يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إيّاه

طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويُحاسب في الآخرة حساب الأغنياء». (1)

ثالثاً: لا تكن خازناً لغيرك، فعليك أن تنفع نفسك أولاً، وأن تقيها من المصير المظلم، ثمّ تُفكّر بغيرك، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (التحريم: 6).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام لابنه الحسن علیه السلام :« يا بني، لا تُخَلَّفَنَّ وراءك شيئاً من الدنيا، فإِنَّك تُخَلَّفه لأحد رجلين : إما رجل عمل فيه بطاعة الله، فسعد بما شقيت به، وإما رجل عمل فيه بمعصية الله، فكنت عوناً له على معصيته، وليس أحد هذين حقيقاً أنْ تُؤثره على نفسك ». (2)

وضع في حساباتك ما روي عن الإمام زين العابدين علیه السلام : خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله :تعالى: ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ (المؤمنون: 101)، والله لا ينفعك غداً إِلَّا تقدمةٌ تُقدَّمها من عمل صالح». (3)

ص: 165


1- نهج البلاغة (ج 4 / ص 29 و 30).
2- نهج البلاغة (ج 4 / ص 96 و 97).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3 /ص 291 و 292).

النقطة الثالثة : لا تُهنْ نفسك:

من الطبيعي جدًّا أنَّ الحرّ - فضلاً عن المؤمن - لا يرضى لنفسه بالإهانة والذلّ، بل يريد لها العزَّ ،والسؤدد، وقد نلتفت إلى بعض مفردات العزّ وما يقابله من الهوان (1)، ولكن قد نغفل عن بعض الأمور التي تُؤدّي إلى المهانة من حيث لا نشعر، وقد أسعفتنا النصوص الدينية بمفردات علينا أن نلتفت إليها جيّداً في هذا المجال، نذكر منها التالي: أوّلاً: إظهار العوز والفقر، فإنَّه يُذِلُّ النفس شاء المرء أم أبى، وقد روي عن لقمان الحكيم أنَّه قال لابنه: يا بني، ذقت الصبر وأكلت لحاء الشجر، فلم أجد شيئاً هو أمر من الفقر، فإنْ بُليتَ به يوماً فلا تُظهر الناس عليه فيستهينوك ولا ينفعوك بشيء، ارجع إلى الذي ابتلاك به، فهو أقدر على فرجك وسله، من ذا الذي سأله فلم يعطه أو وثق به فلم يُنجِه ؟ ! ». (2)

فعليك بأن تكون كما قال القرآن الكريم:« يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التعفف »(البقرة: 273).

ثانياً: التصرُّف برعونة أو من دون حساب جيد للموقف، كما روي عن النبي صلى الله عليه واله أنَّه قال في وصيته لأمير المؤمنين علیه السلام: «يا على، ثمانية إن أُهينوا فلا يلوموا إلَّا أنفسهم ». (3)

1 - «الذاهب إلى مائدة لم يُدْعَ إليها»، أي إذا كانت المائدة مبذولة لأُناس مخصوصين بالدعوة، فإنَّ الذي يذهب من دون دعوة، إذا أُهين فلا يلومنَّ إلا نفسه.

2 - «والمتأمر على ربِّ البيت»، أي الذي يُصدر أوامر على صاحب بيت هو جالس فيه، فالضيف ينبغي له أن يلتزم الأدب في بيت غيره.

ص: 166


1- راجع : القاعدة (22) : كُنْ عزيزاً.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 4 /ص 22 باب كراهية المسألة/ ح 8).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 410).

3- «وطالب الخير من أعدائه»، فما الذي تتوقعه من عدوك؟ هل تتوقع أنْ يُعطيك حاجتك بكل احترام وحفظ للمقام؟!

4 - وطالب الفضل من اللئام، فاللئيم يخذل المرء وقد يُهينه بقصد أو بدون قصد، وقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «إيّاك أن تعتمد على اللئيم، فإنَّه يخذل من اعتمد عليه (1)، وبذل الوجه إلى اللثام الموت الأكبر». (2)

5 – «والداخل بين اثنين في سر لهم لم يُدخِلاه فيه»، إذ لا شكّ أنَّهما حينما لم يُدخِلاه في سرهما فهما لا يريدان أن يطلع عليه ، فإذا دسَّ الفرد أنفه في ذلك لم يجد إلَّا ما لا يُحِبُّ. 6 - والمستخف بالسلطان»، إذ لا توجد قيود أو حدود يمكن للسلطان الظالم أن يتوقف عندها، فلا يأمن الفرد إذا استهان بالسلطان من إهانة السلطان له، لذلك، على المؤمن أن يتحين الفرصة المناسبة التي تحفظ عزّة نفسه عند كلامه مع السلطان، وإذا كان الموقف يستلزم الوقوف ضدَّ السلطان بعزّة نفس، فليقف المؤمن ولو كان ثمن وقفته تلك حياته.

7 - والجالس في مجلس ليس له بأهل، وهذا يمكن أن نُفسّره بتفسيرين : الأوّل: أنْ يذهب الفرد إلى أماكن مشبوهة أو يُصاحب أُناساً مشبوهين ويجلس معهم، فإنَّ أمثال تلك المجالس مما يجرُّ الشكَّ إليه، ومما يجعله في موضع إهانة ولو بعد حين، ولذا فإنَّ «من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظنَّ»، كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام. (3)

الثاني: في الأعراف الاجتماعية هناك مجالس محدّدة لأشخاص لهم نوع من الوجاهة

ص: 167


1- عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي ( ص 95).
2- عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي ( ص 195).
3- نهج البلاغة (ج 4 / ص 41 )

مثلاً، وما دون تلك المجالس المحدّدة تكون للأصغر عمراً أو للأقل شأناً اجتماعياً وهكذا، فإذا جلس الفرد في مجلس هو أعلى من شأنه الاجتماعي، فإنَّه يُعرض نفسه للإهانة، أو على الأقل سيُطلب منه أن ينزل عن ذلك المجلس إلى ما هو دونه، وهو نوع من الإهانة أيضاً، وإنْ كانت مخفّفة، ولذلك وردت النصوص التربوية آمرة المؤمن بأن يجلس في مجلس هو أقل من مستواه، حتّى يتم رفعه إلى مجلسه المناسب، وبالتالي سيكون في هذا إظهار لرفعته وإكراماً له، فعن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «لا تُسرعنَّ إلى أرفع

موضع في المجلس، فإنَّ الموضع الذي تُرفَع إليه خير من الموضع الذي تُحَطُّ عنه». (1)

وفي وصيَّة الإمام الكاظم علیه السلام لهشام بن الحكم «يا هشام، إنَّ أمير المؤمنين علیه السلام كان يقول : إنَّ من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يُجيب إذا سُئِلَ، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق . إنَّ أمير المؤمنين علیه السلام قال : لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهنَّ، فمن لم يكن فيه شيء منهنَّ فجلس فهو أحمق». (2)

8- «والمقبل بالحديث على من لا يسمع منه»، فلا ترم حديثك إلا في موضع مناسب ووقت مناسب، وقد روي أنه قال الإمام الحسين بن علي عليه السلام يوماً لابن عبّاس: «لا تتكلَّمَنَّ فيما لا يعنيك، فإنّي أخاف عليك الوزر، ولا تتكلَّمَنَّ فيما يعنيك حتّى ترى للكلام موضعاً، فرُبَّ متكلّم قد تكلَّم بالحقِّ فعِيْبَ ». (3)

ص: 168


1- عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي ( ص 522).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1 /ص 19 كتاب العقل والجهل / ح 12).
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 75 /ص 127).

الحذر من إحباط العمل

لا شكّ أنَّ هدف المؤمن هي الآخرة، ولا شكّ أنَّه يهدف منها إلى الربح الأُخروي الخالد، وهذا أمر ليس مجانياً، بل إنَّ له ثمناً على المؤمن أن يدفعه، حتّى يحصل على غايته، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْواهُمْ بِأَنَّ هُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ لله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهُ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بِايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).

فالجنَّة ليست مجانية، وإنَّما لها ثمن كما بينت الآية الكريمة.

فالعمل هو ثمن الجنَّة، وكلَّما زاد المؤمن من أعماله الحسنة كلَّما اقترب من الحصول عليها، وهذا أمر واضح.

ولكن هناك حقيقة مُرَّة لا بدَّ أنْ نتجرع مرارة معرفتها، ونحذر من الوقوع في مصيدتها، وهي أنَّ العمل مهدد بأن يسقط من اليد في منتصف الطريق قبل أن يصل و الفرد به إلى ساحة المحشر ، فلا يبقى للفرد منه إلَّا التعب والنصب، الأمر الذي يُسمّيه الإسلام بالإحباط.

وقد بيّنه الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله بقوله فيما روي عنه أنَّه قال: «من قال: (سبحان الله) غرس الله له بها شجرة في الجنَّة، ومن قال: (الحمد لله) غرس الله له بها شجرة في الجنَّة، ومن قال : (لا إله إلَّا الله) غرس الله له بها شجرة في الجنَّة، ومن قال: (الله أكبر) غرس الله له بها شجرة في الجنَّة، فقال رجل من قريش يا رسول الله، إنَّ شجرنا في الجنَّة لكثير ،

ص: 169

قال: «نعم، ولكن إيّاكم أنْ تُرسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك أنَّ الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (محمد : 33). (1)

وحتى تتضح الصورة نذكر النقاط التالية :

النقطة الأولى معنى الإحباط.

يأتي (الحبط) في اللغة على عدة معانٍ، وما يتناسب مع مقامنا هو التالي (2):

1 - حبطت الدابَّة حبطاً، إذا أصابت مرعى طيِّباً فأفرطت في الأكل حتّى تنتفخ فتموت.

فهي كناية عن بداية جيدة واستفادةٍ مرجوة، لكن يعقبها عدم حساب دقيق للنتائج، بحيث تأتي النتائج عكسية.

عنه .

2 - أحبط ماء الرَّكيَّة (أي البئر ) ، إذا ذهب ذهاباً لا يعود كما كان.

وهي كناية عن خسران شيء نافع، بحيث يذهب عنه أصله.

3- إذا عمل الرجل عملاً ثمّ أفسده قيل: حبط عمله .

4 – أحبط عن فلان: أعرض، يقال: قد تعلّق به ثمّ أحبط عنه، إذا تركه وأعرض وكلَّ هذه المعاني تشترك في أنَّ الفرد يبدأ عملاً لكنَّه يُفسِده أو يُبطله أو يُضيّعه بيده هو، بسبب عدم حساب النتائج بدقة، أو عدم الاهتمام به وما شابه.

والإحباط في الاصطلاح الإسلامي لم يخرج عن هذه المعاني اللغوية، فهو بمعنى إبطال الأعمال الصالحة التي كان الفرد قد أتعب نفسه في إنجازها، بحيث لا يبقى له من

ص: 170


1- أمالي الشيخ الصدوق ( ص 704 و 705/ ح 16/968).
2- تاج العروس للزبيدي (ج 10 /ص 213 / مادة حبط).

العمل إلَّا التعب، بل اللوم، وربَّما العقاب.

النقطة الثانية:

«هناك بحث بين علماء العقائد في صحة الإحباط... بالنسبة لثواب الأعمال الصالحة.... والمشهور بين المتكلمين الإماميَّة كما يقول العلامة المجلسي هو بطلان الإحباط... (1)، غاية الأمر أنهم يرون أن تحقق الثواب مشروط أن يستمر الإنسان على إيمانه في الدنيا إلى النهاية ... ». (2)

وسواء ثبت الإحباط أو لا، وسواء كان معناه هو إلغاء العمل الصالح تماماً أو إلغاء ثوابه، فإنَّ على المؤمن أن يحذر من أن يقع في سببٍ يُؤدّي به إلى إحباط عمله، ولو على نحو احتمال انتفاء ثواب العمل الصالح، فإنَّ الاحتياط العقلي يقتضي أن يُحيط المؤمن عمله الصالح بسور من الورع والتقوى والابتعاد عن الحرام. وبعبارة أخرى: إنَّ معنى الإحباط هو أن يقوم العبد بعمل سيئة لها أثر في إبطال عمل صالح سابق أو إبطال ثوابه على الأقل، وحيث إنَّ المطلوب من المؤمن الابتعاد بل الهرب من الذنوب صغيرها وكبيرها وعلى طول خط وجوده في الحياة، فلا فرق حينها بين ثبوت الإحباط أو عدم ثبوته وبأي معنى كان.

النقطة الثالثة:

إنَّ للإحباط أسباباً عديدة نذكر بعضاً مهما منها، وهو التالي:

أولاً: عدم الورع:

وهو أهمها وأخطرها، فقد روي عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام

ص: 171


1- هناك خلاف في ذلك أشار إليه صاحب البحار في تحقيق له( ج 5 /ص 332 وما بعدها)، و(ج 68 /ص 197 وما بعدها)
2- تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 2 /ص 109) .

عن قول الله عزوجل : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَباءً مَنْشُوراً﴾ [الفرقان: 23] ، قال: «أما والله إن كانت أعمالهم أشد بياضاً من القباطي (1)، ولكن كانوا إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه». (2)

وروي عن رسول الله صلى الله عليه واله أنه قال: «الأعلمنَّ أقواماً من أُمَّتي يأتون القيامة بحسنات أمثال الجبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثوراً! أمَا إِنَّهم إخوانكم من أهل جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها». (3)

ثانياً: الرياء:

فإِنَّه يُبطل العمل كما صرح بذلك الفقهاء، ولذلك حذرت الروايات منه كثيراً، إلى الحد الذي اعتبرته الشرك الخفي.

عن النبي الأعظم صلی الله علیه و اله : « إِنَّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته يقول الله عزوجل: اجعلوها في سجين (4)، إنَّه ليس إيّاي أراد بها » .(5)

وعنه صلی الله علیه و اله: «إنَّ المرائي يُنادى يوم القيامة : يا فاجر ! يا غادر! يا مرائي! ضلَّ عملك، وبطل أجرك، اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له ». (6)

ص: 172


1- القباطي - بالفتح - الثياب البيض الرقاق المصرية، والقبط - بالكسر – يقال لأهل مصر. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 81 باب اجتناب المحارم /ح 5).
3- كنز العُمال للمتقي الهندي (ج 16/ص 5 / ح 43685)؛ وميزان الحكمة للريشهري (ج 1/ ص 528 /مادة الحبط).
4- أي أثبتوا تلك الأعمال، أو التي تزعمون أنها حسنات في ديوان الفُجّار الذي هو في سجين كما قال :تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ [المطفّفين: 7] . (من هامش المصدر).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 294 و 295 باب الرياء / ح 7).
6- منية المريد للشهيد الثاني (ص 318).

ثالثاً: عقوق الوالدين فإنَّه من الذنوب التي تُعجَّل عقوبتها، كما نصت الروايات الشريفة، وهو مما يُؤدّي إلى عدم قبول العمل إلا مع رضاهما .

وقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «من نظر إلى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة». (1)

وعن أبي جعفر علیه السلام، قال : «إنَّ أبي نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي، والابن متكئ على ذراع الأب»، قال: «فما كلَّمه أبي علیه السلام مقتاً له حتّى فارق الدنيا». (2)

رابعاً: الغصب:

فإنَّه حرام واضح، والغاصب مغضوب عليه إلَّا إذا أرجع ما غصبه إلى أهله، وإنَّ الغصب مما يُؤدّي إلى إحباط العمل، وقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله أنه قال: «من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقه، لم يزل الله عزوجل معرضاً عنه، ماقتاً لأعماله التي يعملها من البِرَّ والخير، لا يُثبتها في حسناته حتَّى يتوب ويرد المال الذي أخذه إلى صاحبه». (3)

ص: 173


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 349 باب العقوق / ح 5) .
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2 /ص 349/ باب العقوق / ح 8).
3- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 273).

ص: 174

كفّر عن ذنوبك

مخالفة قانون إلهي، يترتب عليه استحقاق العقوبة من الله تعالى والعقوبة هي بمستوى لا يمكن أن يتحمله بدن الإنسان الضعيف، الأمر الذي بينه أمير المؤمنين علیه السلام بقوله : «اعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار فارحموا نفوسكم، فإنَّكم قد جربتموها في مصائب الدنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تُصيبه، والعثرة تُدميه والرمضاء تُحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر وقرين شيطان؟ أعلمتم أنَّ مالكاً إذا غضب على النار حطم بعضها بعضاً لغضبه، وإذا زجرها توثَبت بين أبوابها جزعاً من زجرته...؟ (1)».

ولكن هل مجرد ارتكاب المعصية يعني أنّها كُتِبَت ورُفِعَت الأقلام وجفت الصُّحُف؟

كلَّا، فإنَّ الله تعالى أبى إلَّا أن يكون رحيماً بعباده، ففتح لهم نافذة واسعة يستطيعون من خلالها التكفير عن مخالفاتهم ومحوها، وحتّى تتضح الصورة نتكلم في نقطتين:

النقطة الأولى معنى التكفير .

الكفر لغةً مأخوذ من التغطية، ولذا سُمّي الليل كافراً لأنَّه يستر بظلمته كلَّ شي وسُمّي البحر كافراً أيضاً لأنه يستر ما فيه، وكذا السحاب المظلم لأنه يستر ما تحته، وسُمّي الزارع كافراً لستره البذر بالتراب ومنه قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ

ص: 175


1- نهج البلاغة ( ج 2 /ص 112 و 113).

الْكُفَّارَ نَباتُهُ ﴾ (الحديد: (20)، وكذلك القبر سُمّي كافراً لأنَّه يستر البدن. (1)

وإِنَّما سُمّي الكافر بالله تعالى كافراً لأنَّه يُغطّي الحقيقة ويُلقي ظلاماً على فطرته التي تنادي به كل صباح ومساء أنْ آمن بالله تعالى، قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ﴾ (النمل: 14 ) .

هذا كلّه في المعنى اللغوي.

والمقصود من التكفير في الذنوب لا يخرج كثيراً عن هذا المعنى اللغوي، فالتكفير هنا هو بمعنى: ستر الذنب وتغطيته، وقوله تعالى: ﴿لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ (المائدة: 65)، أي سترناها حتّى تصير كأن لم تكن، أو يكون المعنى : نُذهبها ونُزيلها... (2)، أي سترناها عليهم، وغفرناها لهم. (3)

فالتكفير باختصار إما بمعنى إلغاء وحذف الذنوب السابقة تماماً، وإما إلغاء العقوبة المترتبة عليها. وهو على كلِّ حالٍ تجلّ واضح جدًّا للرحمة الإلهيّة. (4)

النقطة الثانية: ما هي مكفرات الذنوب؟

لقد وفّرت لنا النصوص الدينية جهد البحث عن تلك المكفرات، وأرفدتنا بها بكل وضوح، وهي كثيرة، والذي يمكن أن نراه فيها أنّها على نوعين:

ص: 176


1- تاج العروس للزبيدي (ج 7/ ص 450/ مادَّة كفر).
2- المصدر السابق.
3- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 3 /ص 379).
4- في تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 5 /ص 409): وأما الفرق بين (تكفير السيئات) و(الغفران)، فقد قال بعض المفسرين بأنَّ الأولى إشارة إلى الحجب من الدنيا، والثانية إلى النجاة من الجزاء الأُخروي، ويرد احتمال آخر هنا وهو أنَّ (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى، ولكن (الغفران إشارة إلى مسألة العفو الإلهي والخلاص من الجزاء...

النوع الأوّل: لا إرادي:

أي إنَّ هناك بعض الأمور التي تُعتبر من مكفرات الذنوب، ولكنَّها تنزل على الإنسان وتتلبس به من دون إرادته، بل لعله لا يعلم بأنّها من مكفرات الذنوب، ولعله يكره أن تنزل به، ولكنَّ الله تعالى ومن باب اللطف بعباده والرحمة بهم، يُنزل تلك الأمور عليهم ليغفر لهم، إذا ما صبروا ولم يخرجوا عن حدّ الإيمان. ومن تلك الأُمور التالي:

أولاً : العقوبة في الدنيا:

فقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله: «إنَّ المؤمن إذا قارف الذنوب وابتلي بها ابتلي بالفقر، فإنْ كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلّا ابتُلي بالمرض فإنْ كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلّا ابتُلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإن كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلّا ضُيّق عليه عند نفسه، حتّى يلقاه وما له من ذنب يدّعيه عليه، فيأمر به إلى الجنة. وإنَّ الكافر والمنافق ليُهوّن عليهما خروج أنفسهما حتَّى يلقيان (1) الله حين يلقيانه، وما لهما عنده من حسنة يدعيانها عليه، فيأمر بهما إلى النار». (2)

ثانياً: الأمراض في الدنيا:

فقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «إذا ابتلى الله عبداً أسقط عنه من الذنوب بقدر علته». (3)

ولكن بشرط، وهو ما ذكره الإمام الصادق علیه السلام فيما روي عنه: «من اشتكى ليلة فقبلها بقبولها وأدّى إلى الله شكرها، كانت له كفّارة ستين سنة»، قال الراوي أبو عبد

ص: 177


1- هكذا في المصدر ، والأصح : (يلقيا) بحذف النون، لتقدُّم ( حتّى) على الفعل الذي هو من الأفعال الخمسة التي تُنصب بحذف النون.
2- مشكاة الأنوار لعلي الطبرسي ( ص 175).
3- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1 /ص 218).

الرحمن قلت وما معنى قبلها بقبولها ؟ قال: «صبر على ما كان فيها ». (1)

ثالثاً: الهم والحزن .

فإنَّها من مكدّرات الخواطر بلا شكّ، وتذكر بعض الروايات أنها قد تكون بسبب صدور بعض الذنوب من العباد، فيكون تكفير تلك الذنوب بالهم والحزن، وقد روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله: «ساعات الهموم ساعات الكفّارات، ولا يزال الهم بالمؤمن حتّى يدعه وما له من ذنب». (2)

وعنه صلی الله علیه و اله: «إنَّ من الذنوب ذنوباً لا يُكفّرها صلاة ولا صوم!»، قيل: يا رسول الله، فما يُكفّرها؟ قال: «الهموم في طلب المعيشة». (3)

رابعاً: استغفار الملائكة.

فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال لأبي بصير: «يا أبا محمد، إنَّ الله عزوجل ملائكة يُسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا، كما يُسقط الريح الورق في أوان سقوطه، وذلك قوله عزوجل: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةٌ وَعِلْاً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، استغفارهم والله لكم...». (4)

خامساً: الموت:

فقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله أنه قال: «الموت كفّارة لذنوب المؤمنين». (5)

ص: 178


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 193).
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج 64/ ص 244).
3- الدعوات لقطب الدین الراوندی( ص 56/ ح 141).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 8 /ص 34/ مقامات الشيعة وفضائلهم... / ح 6).
5- أمالي الشيخ المفيد (ص 283).

سادساً: العذاب في البرزخ:

البرزخ هو القبر، وتُؤكِّد النصوص الدينية على أنَّ القبر إما روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حفر النيران، أي إنَّه عبارة عن محكمة مصغرة عن الآخرة، وبالتالي فإنَّ المؤمن إذا كان عليه بعض الذنوب فإنَّه يأخذ جزاءها في البرزخ حتَّى يقوم يوم القيامة سالماً من آثارها، وقد روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنه قال: «فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْتَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ﴾ [الرحمن: 39] ، والمعنى:«أنَّ من اعتقد الحق ثمّ أذنب ولم يتب في الدنيا عُذَّب عليه في البرزخ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يُستَل عنه». (1)

النوع الثاني: إرادي:

أي إنَّه لا بدَّ أنْ يقوم العبد ببعض الأفعال الحسنة التي يكون لها أثر في تكفير ،الذنوب، وعنوان هذه الأفعال هو : فعل الحسنات عموماً.

فإنّها في الوقت الذي تزيد من رصيد المؤمن الإيجابي، تعمل بعضها على تكفير الذنوب السابقة، وقد روي عن أمير المؤمنين أنه قال: «إنَّ الله تعالى يُكفّر بكل حسنة سيئة، قال الله: ﴿إِنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114}». (2)

أما ما هي تلك الحسنات؟ فهذا ما وضّحته لنا النصوص الدينية، ونذكر منها التالي:

أوّلاً: الصلاة:

وهذا أمر واضح من سياق قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ) (هود: 114).

ص: 179


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 9 /ص 343 و 344).
2- أمالي الشيخ الطوسي ( ص 26).

وقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «لو كان على باب أحدكم نهر، فاغتسل منه كلَّ يوم خمس مرات، هل كان يبقى على جسده من الدَّرَن شيء؟! إِنَّما مثل الصلاة مثل النهر الذي يُنقي الدَّرَن، كلَّما صلى صلاة كان كفارة لذنوبه، إلَّا ذنب أخرجه من الإيمان مقيم عليه». (1)

ثانياً: حسن الخلق.

فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: أنّه قال: «إنَّ حسن الخلق يُذيب الخطيئة كما تُذيب الشمس الجليد، وإنَّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يُفسد الخل العسل». (2)

ثالثاً: كثرة السجود الله تعالى:

فقد روي أنّه جاء رجل إلى رسول الله صلی الله علیه و اله فقال: یا رسول الله، كثرت ذنوبي وضعف عملي ؟ فقال رسول الله صلی الله علیه واله :« أكثر السجود، فإنَّه يُحِطّ الذنوب كما تُحِط الريح ورق الشجر ». (3)

رابعاً: إغاثة الملهوف:

فقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام :« من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب». (4)

خامساً: الحج والعمرة

فقد روي أنَّ رسول الله صلی الله علیه واله قال : «العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما، والحجّة المتقبلة

ص: 180


1- الأصول الستة عشر لعدة محدثين (ص 73).
2- كتاب الزهد للحسين بن سعيد الكوفي (ص 29 و 30/ ح 73).
3- أمالي الشيخ الصدوق (ص 589 / ح 11/814).
4- الدعوات لقطب الدين الراوندي (ص 223/ ح 615).

ثوابها الجنَّة، ومن الذنوب ذنوب لا تُغفَر إلَّا بعرفات». (1)

سادساً: الصلاة على محمد وآله الطاهرين:

فقد روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنه قال: «من لم يقدر على ما يُكفّر به ذنوبه، فليكثر من الصلاة على محمّد وآله ، فإنَّها تهدم الذنوب هدماً ». (2)

ص: 181


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1 /ص 294).
2- أمالي الشيخ الصدوق (ص 131 / ح 8/123).

ص: 182

حسن العاقبة

تعوّدنا في المنتجات الصناعية أن نقرأ تاريخ نفادها، أي انتهاء مدة صلاحية استعمالها، سواء كانت طعاماً أو جهازاً معيناً أو حتّى عمارة مبنية أو جسراً أو طائرةً، فلكلّ منها تاريخ نفاد.

في عالم أعمال الإنسان لا يوجد تاريخ نفاد، أي إنَّه لا يوجد عمل له مدة وينتهي من حيث النتائج، فقد ينتهي نفس الوجود الفيزيائي للعمل في غضون ثوان، ولكن أثره يبقى إلى أن يرافق الإنسان في آخرة الخلود، فقد يتكلم الفرد بكلمة فتكون كما روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و اله في موعظته لأبي ذر : «يا أبا ذر ، إِنَّ الرجل يتكلم بالكلمة من رضوان الله (جل ثناؤه) فيكتب له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة في المجلس ليُضحِكهم بها فيهوي في جهنّم ما بين السماء والأرض. يا أبا ذرّ، ويل للذي يُحدِّث فيكذب ليُضحِك القوم، ويل له ويل له، ويل له». (1)

ولذلك يُؤكِّد القرآن على أنَّ الذي يرافق المرء في يوم القيامة إنَّما هي أعماله التي عملها في حياته هذه، فهي لا تفنى وإن فنى البدن.

قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزِىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام: 160).

وفي موقف مهول يحكيه القرآن الكريم بقوله عزّ من قائل: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ

ص: 183


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 536 و537).

فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ . وَتَرَى الجبال تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمرُّ مَرَّ السَّحاب صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ (النمل: 87 - 90 ).

وكما يمكن أن تُصاب الأطعمة بما يُفسدها قبل وقت انتهاء صلاحيتها المتوقع، كذلك يمكن أنْ تُصاب الأعمال بما يُفسدها، وبالتالي يُحوّلها إلى غير نتيجتها المتوقعة كما تقدَّم الكلام حول هذا الأمر في قاعدة تجنب الإحباط - .

ومن هنا، فعلى المؤمن أن يلتفت إلى أمرين:

الأمر الأوّل: ضرورة الجد في عمل الحسنة وترك السيئة.

الأمر الثاني: ضرورة المحافظة على الحسنات والابتعاد عن السيئات إلى آخر العمر. والأمر الثاني لا يقل أهميةً ولا خطورةً عن الأمر الأوّل.

ولذلك جاءت التوصيات الدينية بضرورة الاهتمام بالعاقبة والخاتمة الحسنة، فليس مهما فقط فعل الحسنة، وإنّما المهم أيضاً المحافظة عليها إلى أن تجيء معك يوم القيامة. ولذلك، نجد أنَّ هناك أناساً بدؤوا حياتهم كأفضل ما يُرام، ولكنَّهم تعثّروا في وسط الطريق أو في آخره، ولم يقوموا بعد عثرتهم، وحالهم حال ما نُقِلَ عن ابن مالك صاحب الألفية أنَّه قال :

عصيت هوى نفسي صغيراً، فعندما دهتني الليالي بالمشيب وبالكبر.

أطعتُ الهوى ! عكس القضيَّة ليتني خُلِقْتُ كبيراً ثمّ عُدْتُ إلى الصغر. (1)

ص: 184


1- نُقِلَ أنَّ ابنه بدر الدين أجابه: أبي قال قولاً شاع في البدو والحضر وحثَّ على الاحسان كُلّاً وما اقتصر. هنيئاً له، إذ لم يكن كابنه الذي أطاع الهوى في الحالتين وما اعتذر .

وليس بعيداً عن الأذهان بلعم بن باعورا (1)، الذي كان يُتوقع أن يكون من القدوات الصالحة، ولكنه وكما نقل القرآن الكريم : ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِها وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 175 و176).

ولا الشلمغاني (2) الذي كان يُتوقع منه أن يكون وجهاً مشرقاً من وجوه علماء الغيبة الصغرى، ولكنَّه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه أيضاً.

وهكذا لو قلبت صفحات التاريخ لوجدت العشرات من أولئك الذين انقلبوا على أعقابهم وربَّما نجد عشرات الأمثلة من حياتنا اليومية.

أمام هذا الواقع، علينا أن نلتفت هنا إلى عدة نقاط :

النقطة الأولى: على المؤمن أن يسعى جهده لتكثير الأعمال الصالحة، وأنْ يُراعی

ص: 185


1- في تفسير القمي (ج 1 /ص 248): عن أبي الحسن الرضاء علیه السلام أنه «أُعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، فكان يدعو به فيُستجاب له، فمال إلى فرعون، فلما مرَّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون البلعم : ادعو الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمر في طلب موسى وأصحابه، فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها، فأنطقها الله ، فقالت: ويلك على ما تضربني؟ أتريد أجيء معك لتدعو على موسى نبي الله وقوم مؤمنين؟ فلم يزل يضربها حتَّى قتلها، وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه». وفي تفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي (ج 1 /ص 722) قيل : إنَّ بلعم طلب منه قومه أن يدعو على موسى ومن معه، فأبى وقال: كيف أدعو على من فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة ؟! فألحوا عليه حتّى فعل، فخرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب.
2- في كتاب رجال النجاشي ( ص 378/ الرقم 1029) محمد بن عليّ الشلمغاني أبو جعفر المعروف بابن أبي العزاقر، كان متقدماً في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديئة (الرديَّة)، حتّى خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان وقتله وصلبه.

كثيراً جانب (الورع) فيها، فيجتنب السيئات مهما حقرت أو صغرت، فإنَّ تر الحسنات من شأنه أنْ يُولّد بعض الحصانة للمؤمن من الوقوع في وادٍ سحيق.

عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطه معصيته (1) وأنت لا تعلم وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم. وأخفى وليَّه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً من عبيد الله، فربَّما يكون وليَّه وأنت لا تعلم». (2)

النقطة الثانية : أنَّ ملاك العمل ليس ببداية وقوعه، وإنما في عمله ثمّ الحفاظ عليه من أنْ يُحبط بعمل سيئ، وبالتالي، على المؤمن أن يكون حذراً جدا من خسرانه ما عمل من أعمال ،صالحة، مما تَعِبَ في تحصيلها ، وبذل جهده ووقته وربَّما راحته وماله من أجلها.

عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال: «الدنيا كلُّها جهل إلَّا مواضع العلم والعلم حجَّة إِلَّا ما عُمِلَ به، والعمل كلُّه رياء إلا ما كان مخلصاً، و الإخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما يُختم له ». (3)

وروي أنه قال عيسى بن مريم عليه السلام : «يا معشر الحواريين، بحقِّ أقول لكم: إنَّ الناس يقولون : إنَّ البناء بأساسه، وأنا لا أقول لكم كذلك»، قالوا: فماذا تقول يا روح الله؟ قال: «بحقِّ أقول لكم : إنَّ آخر حجر يضعه العامل هو الأساس». (4)

ص: 186


1- في كمال الدين للشيخ الصدوق ( ص 296 /باب 26 /ح 4)، «فربَّما وافق سخطه وأنت لا تعلم»، وهو أوضح مما في الخصال.
2- الخصال للشيخ الصدوق ( ص 209 و 210).
3- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 371).
4- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ( ص 348).

النقطة الثالثة: على المؤمن أن يعيش الخوف، وما يستلزمه من الحذر من الانقلاب على العقب، وأن يتحسّس هذا الشعور عملياً، فلا يطمئن لنفسه أبداً، بل يبقى متيقظاً لخدعها، علها تخدعه بشيء يحسب أنه حسن، ومن هنا روي عن رسول الله صلی الله علیه و اله أنه قال :« لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقّن الوصول إلى رضوان الله، حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له». (1)

النقطة الرابعة: على المؤمن أن يلتفت إلى أنَّ هناك مقتضيات لتحصيل حسن العاقبة، عليه أن يعمل على تحصيلها وتفعيلها في حياته اليومية، وقد أرفدتنا الروايات الشريفة بها، ومن ذلك ما ذلك ما روي أَنَّه كتب الإمام الصادق إلى بعض الناس: «إنْ أردت أنْ يُختم بخير عملك حتَّى تُقبَض وأنت في أفضل الأعمال: فعظم الله حقَّه أنْ لا تبذل نعماءه في معاصيه، وأن تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلَّ من وجدته يُذكر منا أو ينتحل مودتنا، ثمّ ليس عليك صادقاً كان أو كاذباً، إنَّما لك نيّتك وعليه كذبه». (2)

وروي عن علي بن يقطين أنَّه قال: استأذنت مولاي أبا إبراهيم موسى بن جعفر عليه السلام في خدمة القوم فيما لا يثلم ديني، فقال: «لا ، ولا نقطة قلم، إلا بإعزاز مؤمن، وفكه من أسره، ثمّ قال علیه السلام: إِنَّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانك، والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلَّا، لم يُقبل منكم عمل، حنُّوا على إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا». (3)

وروي أنه نظر أمير المؤمنين علیه السلام إلى رجل أثر الخوف عليه، فقال: «ما بالك؟»، قال: إنّي أخاف الله فقال : يا عبد الله خف ذنوبك، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده،

ص: 187


1- التفسير المنسوب إلى لإمام العسكري (ص 239/ ح 117).
2- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق (ج 1 /ص 7/ ح 8 )
3- قضاء حقوق المؤمنين لابن طاهر الصوري ( ص 34 /ح 48) .

وأطعه فيها كلفك، ولا تعصه فيما يُصلحك، ثم لا تخف الله بعد ذلك، فإنَّه لا يظلم أحداً، ولا يُعذِّبه فوق استحقاقه أبداً، إلَّا أنْ تخاف سوء العاقبة بأنْ تُغيّر أو تُبدل، فإن أردت أنْ يُؤمِّنك اللهُ سوءَ العاقبة، فاعلم أنَّ ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إيّاك وحلمه وعفوه عنك». (1)

وكما أنَّ هناك مقتضيات لحسن العاقبة، هناك موانع منها، أي إنَّ هناك أُموراً وأفعالاً تُؤدّي إلى خسران المرء آخرته والختم بالعمل السيئ، وهذه يلزم المؤمن أن يبتعد عنها ما أُوتي إلى ذلك سبيلاً، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كان عاقبة عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: (86).

وقال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذِلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ (يونس: 39) .

ص: 188


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام (ص 265).

المصادر والمراجع

1- القران الکریم.

2- الإرشاد الشيخ المفيد :تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام / ط 2 / 1414 ه- / دار المفيد بيروت.

3- الأُصول الستّة عشر : عدة محدّثين / تحقيق : ضياء الدين المحمودي / ط 1/ 1421 ه- / دار الحديث.

4 - إعانة الطالبين البكري الدمياطي ط 1 / 1418ه-/ دار الفكر/ بيروت.

5 - الاعتقادات: الشيخ الصدوق/ تحقيق : عصام عبد السيد/ ط2 / 1414 ه-/ دار المفيد / بيروت.

6 - الأمالي: الشيخ الصدوق تحقيق قسم الدراسات/ ط 1 / 1417 ه-/ مؤسسة البعثة.

7- الأمالي الشيخ الطوسي / تحقيق مؤسسة البعثة/ ط 1 / 1414 ه-/ دار الثقافة / قم.

8 - الأمالي: الشيخ المفيد تحقيق الأستادولي، علي أكبر الغفاري ط 2 / 1414 ه- / دار المفيد بيروت.

9 - بحار الأنوار العلامة المجلسي / الطبعة الثانية المصححة/ 1403 ه- / مؤسسة الوفاء بيروت.

10 – بصائر الدرجات : محمد بن الحسن الصفار / تحقيق : کوچه باغي / 1404 ه-/

ص: 189

مطبعة الأحمدي منشورات الأعلمي طهران.

11 - تاج العروس: الزبيدي / 1414ه-/ دار الفكر/ بيروت.

12 - تاريخ بغداد الخطيب البغدادي تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا ط 1 /1417ه- دار الكتب العلمية /بيروت.

13- التبيان: الشيخ الطوسي / تحقيق أحمد حبيب قصير العاملي/ ط 1/ 1409ه- / مكتب الإعلام الإسلامي.

14 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ تحقيق على أكبر الغفاري ط 2/ 1404ه- /مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.

15 - التفسير الأصفى: الفيض الكاشاني ط 1 / 1418ه- / مكتب الإعلام الإسلامي.

16 – تفسير الإمام العسكري علیه السلام المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام / الطبعة - الأُولى المحققة 1409ه- / مدرسة الإمام المهدي "/ قم.

17 - تفسير الأمثل : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

18 - تفسير العياشي : محمّد بن مسعود العياشي / تحقيق : هاشم الرسولي المحلّاتي/ المكتبة العلمية الإسلامية / طهران.

19 – تفسير القرطبي: القرطبي / تحقيق : البردوني دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

20 – تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمّي تحقيق: طيب الجزائري/ ط 3 /1404ه- /مؤسسة دار الكتاب /قم.

21 - تفسير شبّر : السيد عبد الله شبّر / راجعه الدكتور حامد حنفي داود /ط 3/

ص: 190

1385ه- .

22 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي / تحقيق : لجنة من العلماء ط 1/ 1415ه- / مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

23 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش / مطبعة حيدري / دار الكتب الإسلامية /طهران.

24 - تهذيب الأحكام الشيخ الطوسي تحقيق: حسن الخرسان/ ط3/ 1364ش / مطبعة خورشيد دار الكتب الإسلاميَّة /طهران.

25 - التوحيد: الشيخ الصدوق تحقيق هاشم الحسيني الطهراني جماعة المدرسين /قم.

26 - جامع السعادات محمد مهدي النراقي / تحقيق : محمد كلانتر /دار النعمان.

27 - الجامع الصغير : السيوطي / ط 1 / 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

28 - الخصال: الشيخ الصدوق تحقيق: عليّ أكبر الغفاري / 1403ه- / جماعة المدرسين /قم.

29- دعائم الإسلام القاضي النعمان المغربي / تحقيق : آصف فيضي/ 1383ه- / دار المعارف/ القاهرة.

30 - الدعوات: قطب الدين الراوندي / ط 1 / 1407ه- / مطبعة أمير/ مؤسسة الإمام المهدي / قم.

31 - ذخائر العقبى أحمد بن عبد الله الطبري / 1356ه- / مكتبة القدسي/ القاهرة.

32 - رجال النجاشي: النجاشي / ط 5 / 1416ه- / مؤسسة النشر الإسلامي/

ص: 191

قم.

33 - روضة الواعظين الفتّال النيشابوري /تحقيق محمد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي /قم.

34 - سُنَن النبي: محمد حسين الطباطبائي /تحقيق: محمد هادي الفقهي/ 1419ه- /مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.

35 - السيرة الحلبية : الحلبي / 1400ه-/ دار المعرفة/ بيروت.

36 - شرح أصول الكافي: المازندراني / تحقيق : الشعراني/ ط 1/ 1421ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

37 - شرح الأسماء الحسنی الملا هادى السبزواري / منشورات مكتبة بصيرتي / قم.

38 - الصحيفة السجادية : تحقيق: محمّد باقر الأبطحي / ط 1 / 1411ه- / مطبعة نمونة /مؤسسة الإمام المهدي "، مؤسسة الأنصاريان /قم.

39- عدَّة الداعي : ابن فهد الحلّي / تحقيق : أحمد الموحدي القمي/ مكتبة وجداني/ قم

40 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي تحقيق: مجتبى العراقي/ ط 1 /1403ه- / مطبعة سيّد الشهداء /قم.

41 - عيون أخبار الرضا الشيخ الصدوق تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404ه- / مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

42 - عيون الحكم والمواعظ : علي الليثي الواسطي / تحقيق حسين البير جندي/ ط 1 /دار الحديث.

ص: 192

43 - فقه الحضارة: السيد السيستاني / بقلم الدكتور محمد حسين علي الصغير /دار المؤرّخ العربي/ بيروت .

44 - قضاء حقوق المؤمنين الحسن بن طاهر الصوري / تحقيق : حامد الخفاف/ مؤسسة آل البيت عليهم السلام .

45 - الكافي: الشيخ الكليني / تحقيق عليّ أكبر الغفاري / ط 5 / 1363ش/ مطبعة حيدري /دار الكتب الإسلامية /طهران.

46 - كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي / 1399ه- / مطبعة العلمية/ قم.

47 - كمال الدين: الشيخ الصدوق تحقيق عليّ أكبر الغفاري/ 1405ه- / مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.

48 - كنز العمال: المتقي الهندي تحقيق بكري حياني/ 1409ه- / مؤسسة / الرسالة/ بيروت.

49 - المبدأ والمعاد: صدر الدين الشيرازي قدَّمه وصححه السيد جلال الدين /الآشتياني 3 1422ه- / مركز انتشارات دفتر تبليغات إسلامي.

50 - المحاسن البرقي / تحقيق جلال الدين الحسيني المحدث/ 1370ه-/ دار : الكُتُب الإسلامية طهران.

51 - مستدرك الوسائل : الميرزا النوري الطبعة الأولى المحققة / 1408ه- / مؤسَّسة آل البيت عليهم السلام / بيروت.

52 - مستدرك سفينة البحار على النمازي تحقيق حسن بن علي النمازي /1418ه- / مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.

53 - مستطرفات السرائر : ابن إدريس الحلّي ط 2 1411ه- / مؤسسة النشر

ص: 193

الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

54 - مسند أحمد أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

55 - مشكاة الأنوار: على الطبرسي / تحقيق : مهدي هوشمند ط 1 / 1418ه- /دار الحديث.

56 - المصنف : عبد الرزاق الصنعاني / تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي.

57 - معاني الأخبار : الشيخ الصدوق تحقيق عليّ أكبر الغفاري/ 1379ه- / مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.

58 - المعجم الأوسط: الطبراني / 1415ه- / دار الحرمين.

59 - مكارم الأخلاق الشيخ الطبرسي / ط 6 / 1392ه-/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

60 - من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق :تحقيق: علي أكبر الغفاري /ط 2 /مؤسّسة النشر الإسلامي /قم.

61 - مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب :تحقيق: لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه- / المكتبة الحيدرية /النجف.

62 - منية المريد: الشهيد الثاني :تحقيق رضا المختاري/ ط 1/ 1409ه- / مكتب الإعلام الإسلامي.

63 - نهج البلاغة : الشريف الرضي / شرح محمّد عبده / ط 1 / 1412ه- / مطبعة النهضة دار الذخائر / قم .

ص: 194

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.