صناعة القائد في فكر الامام علي (عليه السلام)

هوية الکتاب

9789933582401 ISBN رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 1193 لسنة 2018 مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP37.36. K43 2018:LC المؤلف الشخصي: الخفاجي، محمد حمزة. العنوان: صناعة القائد في فكر الامام علي (عليه السلام): العباس بن علي انموذجا. بيان المسؤولية: تأليف محمد حمزة الخفاجي. بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018/ 1439 للهجرة. الوصف المادي: 240 صفحة؛ 24 سم. سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (385). سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة (144)، سلسلة الدراسات في آل علي، أولاد العباس (عليه السلام)؛ (2). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش: لائحة المصادر (الصفحات 217-235). موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40؛ للهجرة - نظريته في القيادة. موضوع شخصي: العباس بن علي بن ابي طالب (عليه السلام)، 26 - 61 للهجرة - سيرة. موضوع شخصي: العباس بن علي بن ابي طالب (عليه السلام)، 26 - 61 للهجرة - سماته القيادية. موضوع شخصي: العباس بن علي بن ابي طالب (عليه السلام)، 26 - 61 للهجرة - القابه. مصطلح موضوعي: القيادة في الاسلام. مؤلف اضافي: الحسني، نبيل قدوري، 1965-، مقدم. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق) - مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

سلسلة الدراسات في آل علي علیه السلام أولادهُ: العباس بن علي علیهما السلام (2) صناعة القائد في فكر الامام علي (عليه السلام): العباس علیه السلام بن علي انموذجا تأليف محمد حمزة الخفاجي اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه / 2018 م العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

بسم رائد الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة:

الحمد الله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاصة أنبيائه وصفوة رسله أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الهداة الأبرار.

وبعد:

فإن من الحقول المعرفية التي زخرت بها حياة أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) والتي نحتاج الى دراستها وجني ثمارها هي حياة آل علي (عليهم السلام) المتضمنة تلك الذوات المقدسة، وهم (والداه، وأولاده، وأزواجه) لا سيما سیدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء وابنيها الحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام) لتستقر ضمن السلسلة العلمية البحثية الموسومة ب (سلسلة دراسات في آل علي (عليهم السلام)) التي تسعى المؤسسة بواسطتها إلى بيان ما لهذه الذوات من إسهامات في الحياة الإسلامية ومسار الحركة الفكرية فيها.

ص: 5

وما هذا البحث الذي بين أيدينا والموسوم ب (صناعة القائد في فكر الإمام علي (عليه السلام) «العباس بن علي (علیها السلام) أنموذجاً») إلا واحدٌ من هذه الدراسات التي تضع بين يدي القارئ الكريم ثمار المعرفة التي حفت بها حياة هذه الشخصية؛ شخصية أبي الفضل العباس (عليه السلام) و دراسة جانب مهم من شخصيته وحياته التي بنيت وتكونت في مدرسة النبوة والإمامة، مدرسة أمير المؤمنين (عليه السلام).

فجزى الله الباحث على ما قدمه في بحثه خير الجزاء ونسأله التوفيق لإحياء تراث سيرة أمير المؤمنين الإمام علي وآله (عليهم السلام).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة:

الْحَمْدُ لِلّهِ النَّاشِرِ فی الْخَلْقِ فَضْلَهُ، وَالْبَاسِطِ فِیهمْ بِالْجُودِ یَدَهُ، نَحْمَدُهُ فِی جَمِیع أُمُورِهِ، وَنَسْتَعِینُهُ عَلَی رِعَایَةِ حُقُوقِهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ غَیْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بَأَمْرِهِ صَادِعاً وَبَذِکْرِهِ نَاطِقاً، فَأَدَّی أَمِیناً وَمَضَی رَشِیداً، وَخَلَّفَ فِینَا رَایَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ ...

أما بعد...

لم يأتِ قائدٌ کرسول الله (صلى الله عليه وآله) اطلاقاً منذ أن أهبط الله نبينا آدم (عليه السلام) وجعله خليفته في أرضه الى يومنا هذا، فهو قائد القادة، وسید السادة، وإمام الوری، وقد شهد له کسری و قیصر وبقية الملوك والناس أجمع بمختلف الأزمنة بأنه أعظم قائد شهده التاريخ، فكان (صلوات الله وسلامه عليه) قائدا سياسيا، عسکریا، اقتصادی، اجتماعيا، استطاع ان يغير الناس ويؤثر هم خُلُقياً ودينياً.

وبما ان أمير المؤمنين (عليه السلام) تربي بحجر هذا القائد فقد صار الإمام علي (عليه السلام) من أبرز قادة الدنيا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فالنبي هو من صنع من عليّ قائداً عظيماً، لذا حينما يتخرج من بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) قائد شجاع يمتلك من الخبرة والفطنة ما يؤهلانه لقيادة جيش بأكمله فهذا متوقع وليس بشيء غريب.

ص: 7

فقد تعلم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكثير من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخصوص كيفية صناعة القادة الناجحين وقد تخرج من تلك المدرسة العلوية ثلة من القادة من الآل والصحابة الطيبين؛ ومن القادة الذين تخرجوا من هذه الجامعة العظيمة والذي اخترناه أن يكون محور الحديث العباس بن علي (قمر العشيرة).

فقد تأثر العباس بن علي (عليهما السلام) بأبيه كما تأثر أمير المؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وآله) فمواقفه البطولية ومؤازرته ونصرته لسيد شباب أهل الجنة كل هذه المواقف تذكرنا بأمير المؤمنين ونصرته لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

وأمير المؤمنين (عليه السلام) كان مطلعا اطلاعا تاما على جميع الأحداث التي ستجري في زمن أبناءه الحسن والحسين (عليهما السلام) فقد أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مقتلهم وما سيحل بهم من ظلم و جور وقد حدث أمير المؤمنين أهل بيته والخواص من شيعته عن مقتل الحسين (عليه السلام)، لذا أراد أمير المؤمنين أن يكون للحسين أخ يدافع عنه ويحمي عياله ويقوم بكفالتهم کما كان هو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لذا سعى الإمام الى اختيار الزوجة الطيبة التي انجبتها الفحول من العرب كي يتوارث منهم الصفات القيادية، ثم اختار له البيت المناسب واتبع جميع الخطوات التي أمر بها النبي من تسمية وتربية دينية كي يُنشأ بطلاً وقائداً يشهد له العالم بوفائه وعظمته وشجاعته الفائقة.

فالعباس بن علي ورث واكتسب من آبائه جميع الصفات الحميدة، فضلاً على ذاته الطاهرة التي حوت جميع الفضائل والمكارم، والحسين بن علي (عليه السلام) حينما سلم رايته الكبرى بيد أخيه العباس (عليه السلام) فذلك عن معرفة ودراية أن قمر العشيرة كان مؤهلاً لأن يكون قائد جيشه، لأن القيادة بنظر الأئمة لها شروط ومن تلك الشروط: الإيمان، والبصيرة، والشجاعة، والكرم والجود، والمروءة، وغيرها من الصفات الأخرى التي يجب أن تتوافر في شخصية القائد.

ص: 8

فمن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال فيها: «وَ رَايَاتِكُم فَلا تُمِيلُوهَا وَلاَ تُخَلُّوهَا وَ لا تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ وَالْمَانِعِينَ الذِّمَارَ مِن فَإنَّ اَلصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ اَلْحَقَايقِ هُمُ اَلَّذِينَ يُخْفُونَ بِرَايَاتِهِمْ وَ يَكْتُفُونَهَا حَفّاً فِيهَا وَوْرَاثُهَا وَ أَمَامَهَا لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فِيهَا ولا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْها فَيُفْرِدُوهَا، أنجزَ اِمْرَؤٌ وَ قِرْنَهُ وَ آسَى أخاهُ بِنَفْسِهِ ولَمْ يَكِلْ قِرنَهُ إلى أَخِيهِ»(1).

فحينما نتكلم عن قائد جيش الإمام الحسين (عليه السلام) لا بد أن يكون هذا القائد ممن اصطفاهم الله وفضلهم على سائر خلقه، لأن قضية الطف قضية مرتبطة بالسماء ومخططها مخطط سماوي لذا تخلدت، فقُوّادها يجب أن يكونوا من خيرة خلق الله، فالحديث عن هذه الشخصية العظيمة توفيق من الله وفضل منه.

وقد قسم البحث على فصلين، ففي الفصل الأول تناولنا فيه صناعة القائد عن طريق الوراثة والاكتساب، ومن خلال ما ورثه قمر العشيرة وما اكتسبت روحه الطاهرة من صفات قيادية صار العباس قائدا معروفا ومشهورا على مدى العصور.

فتلك الحقبة الزمنية التي قضاها مع سادة الخلق هي ما جعلت منه سیدا عظيما وقائدا شجاعا حتى صار قمر العشيرة كأبيه بالفروسية والبسالة.

أما الفصل الثاني فقد تناولنا فيه أهم الصفات والألقاب الموروثة والمكتسبة لقمر العشيرة من آبائه وأهل بيته الطاهرين، فنسأل الله الموفقية في خدمة أمير المؤمنين وولده العباس (عليهما السلام).

ص: 9


1- 124 ومن كلام له (عليه السلام) في حث أصحابه على القتال، نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح، ص 180

ص: 10

التمهید

«مفهوم الصناعة والقيادة»

المسألة الأولى: مفهوم الصناعة

أولاً: الصناعة لغة:

ورد لفظة الصناعة في اللغة على النحو الآتي:

قال الزمخشري: صنع هو صانع من الصناع ماهر في صناعته وصنعته واستصنعته كذا ورجل صنع ماهر وصنع اليدين وامرأة صناع و قوم صنع ونعم ما صنعت، و نعم الصنيع صنيعك، وما أحسن صنع الله تعالى عندك وفلان صنيعتك ومصطنعك واصطنعتك لنفسي قال الحطيئة:

فإن يصطنعني الله لا أصطنعکم *** ولا أؤتکم مالي على العثرات

واصطنعت عنده صنيعة وصنع الله تعالى لك وفلان مصنوع له وقد تصنع فلان واتخذ مصنعة للماء وصنعا ومصانع وأصناعا «وتتخذون مصانع» قصورا ومدائن(1).

وجاء في لسان العرب: صنع: صَنَعَه يَصنَعُه صُنعاً، فهو مَصنوعٌ وصُنعٌ: عَمِلَه.

وقوله تعالى: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»(2)، قال أبو إسحق: القراءة بالنصب ويجوز الرفع، فمن نصب فعلى المصدر لأَن قوله تعالى: وترى الجِبالَ تَحسَبُها جامِدةً

ص: 11


1- اساس البلاغة، الزمخشري، ص 542
2- سورة النمل: الآية 88

وهي تَمُرُّ السّحابِ، دليل على الصَّنعةِ كأنه قال صَنَعَ الله ذلك صُنعاً، ومن قرأَ صُنعُ الله فعلى معنى ذلك صُنعُ الله. واصطَنَعَه: اتّخَذه.

وقوله تعالى: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي»(1)، تأويله اخترتك لِإقامة حُجَّتي وجعلتك بيني وبين خَلقِي حتى صِرتَ في الخطاب عني والتبليغ بالمنزلة التي أَكون أَنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم؛ وقال الأَزهري: أَي ربيتك لخاصة أَمري الذي أَردته في فرعون وجنوده.

وفي حديث آدم: قال لموسى، (عليهما السلام): أَنت كليم الله الذي اصطَنَعَك لنفسه؛ قال ابن الأَثير: هذا تمثيل لما أَعطاه الله من منزلة التقرِيبِ والتكريمِ.

والاصطِناع: افتِعالٌ من الصنِيعة وهي العَطِيّةُ والكرامة والإِحسان(2).

والصَّناعةُ: حِرفةُ الصانِع، وعَمَلُه الصَّنعةُ.

والصِّناعةُ: ما تَستَصنِعُ من أَمرٍ؛ ويقال: صَنَعَ فلان جاريته إِذا رَبّاها، وصَنَع فرسه إِذا قام بِعَلَفِه وتَسمِينه(3).

فالصناعة في اللغة تعني المهارة والاحسان والتربية والحرفة والاتقان.

ثانياً: مفهوم الصناعة في القرآن:

قال تعالى: «فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا»(4).

فمعنى أصنع الفلك: أي أعمل أو انشأ، فالصناعة تعني عمل الشيء.

ص: 12


1- سورة طه: الآية 41
2- لسان العرب، ج 8، ص 208 - 209
3- المصدر نفسه، ج 8، ص 210
4- المؤمنون: 27

قال تعالى: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»(1). أي فعل الله الذي احكم كل شيء(2)، وقال الكاشاني: أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي(3).

وقوله تعالى: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي»(4).

أي احسنت اليك في التربية وجعلتك نبيا قائداً كي تقود الناس الى عبادتي وطاعتي والتسليم لأمري.

قال السيد الطباطبائي: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي»، الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الاحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه واصطنعه أي حقق إحسانه إليه وثبته فيه، ونقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه(5).

قال ابن الجوزي: (هو الخير تسديه إلى إنسان)(6).

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي: أجريت عليه صنائعي ونعمي، وحسن عوائدي، وتربيتي، لتكون لنفسي حبيبا مختصا، وتبلغ في ذلك مبلغا لا يناله أحد من الخلق، إلا النادر منهم(7).

فسبحانه وتعالى أدّب أنبياءه وأحسن إليهم وأكملهم وهذا اللطف قد شملهم مذ كانوا أرواحاً وكل هذا يعود الى طاعتهم وامتثالهم، فهذه الأرواح منذ ان خلقها الله

ص: 13


1- النمل: 88
2- ينظر تفسير القمي، ج 2، ص 131
3- تفسير الآصفي، الفيض الكاشاني، ج 2، ص 917
4- طه: 41
5- تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 14، ص 153
6- زاد المسير في علم التفسير: ابن الجوزي، ج 5، ص 199
7- تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 506

كانت مطيعة لذا اقرهم في خير مستقر ثم جعل أفضل ملائكته تخدمهم وتسددهم فهؤلاء الطيبون هم أمناء وحيه وموضع سره لذا نالهم هذا اللطف الالهي.

ومثلما أحسن سبحانه على أنبيائه بأن جعل تربيتهم بين يدي خيار الخلق فقد احسن سبحانه لقمر العشيرة بل زاد احسانه عليه حينما جعل تربيته بين يدي اعظم مخلوق شهده العالم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاللطف الالهي شمل العباس منذ ان خلق روحه الطاهرة حتى جعله يتقلب في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، ثم جعل تربيته بين يدي اصحاب الكساء، فضلاً عن السيدة زینب، وهذا اللطف يستحقه قمر العشيرة لما له من استعداد في تلقي وتقبل ما هو خير له، فروح العباس مجبولة على الخير منذ أن خلقه الله.

ثالثاً: دلالة الصناعة عند أمير المؤمنين (علیه السلام).

من كتاب له (عليه السلام) أرسله الى معاوية قال فيه: «.. فَدَع عَنكَ مَن مَالَت بِهِ الرّمِیّةُ، فَإِنّا صَنَائِعُ رَبّنَا وَ النّاسُ بَعدُ صَنَائِعُ لَنَا..»(1).

قال حبيب الله الخوئي إنّ كلامه هذا فوق کلام البشر .. لا يتفوّه به إلَّا من اصطنعه الله تعالى لنفسه، ولا يقدر على الإتيان به إلَّا قائل إنّا لأمراء الكلام وفينا تنشّبت عروقه وعلينا تهدّلت غصونه، ولا يليق هذا الإدّعاء إلَّا لنبيّ أو وصي نبيّ، ولا يصدر نحو هذه الكلمة العليا إلَّا من قلب هو عيبة أسرار الله جلّ شأنه(2)

فسبحانه وتعالى هو من صنع من النبي والأئمة قادة ربانيين يأمرون الناس بالمعروف وينهونهم عن المنكر ويعلمونهم تأويل الأحاديث.

ص: 14


1- نهج البلاغة، رقم الكتاب: 28
2- 7منهاج البراعة، حبیب الله الهاشمي الخوئي، ج 19، ص 115

قال ابن أبي الحديد: (هذا كلام عظیم، عال على الكلام، ومعناه عال على المعاني، وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره، يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جلیل ظاهره ما سمعت، وباطنه أنهم عبيد الله، وأن الناس عبيدهم)(1).

فقد ربي سبحانه نبيه منذ نشأته الأولى إذ جعله في خير مستقر وفي أشرف وأطهر منبت، ثم جعل أفضل ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن الخصال، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: (وقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره)(2).

حتى وصل من الأدب والكمال ما شهد له الخالق بذلك، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ...)(3).

فالله هو من صنع وأدّب هذا القائد، ثم على هذا الاساس أدب النبي علي بن أبي طالب فكان علي تلميذ محمد (صلى الله عليه وآله) قال النبي: «أنا أديب الله وعلي أديبي»(4). فمن تلك الآداب الإلهية والتعاليم الربانية أدب النبي أمير المؤمنين.

ص: 15


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحدید، ج 15، ص 194
2- الخطبة: 192، ص 200
3- الكافي الكليني، ج 1 ص 266
4- مکارم الأخلاق، ص 17

قال الإمام علي (عليه السلام): «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدبه الله عز وجل، وهو أدبني، وأنا أؤدب المؤمنين، وأورث الأدب المكرمين»(1).

فهؤلاء الطيبون أدّبهم الله وهم أدباء الخلق فلولاهم لما عُبد الله وما عرف الحق من الباطل.

المسألة الثانية: مفهوم القيادة

أولاً: القيادة في اللغة.

وردت لفظة القيادة في اللغة بمعانٍ، منها:

قال ابن منظور: (القود: وهو نقيض الوق، يقود الدابة من أمامها ويشوفها من خلفها، فالقو من أمام والسوق من خلف.. وفي حديث الصلاة: اقتادوا رواحلهم؛ قاد الدابة قودا، فهي مقودة ومؤودة؛ الأخيرة نادرة وهي تميمية، واقتادها والاقتياد والقود واحد، واقتاده وقاده بمعنی، يقال: هذه الخيل قوة فلان القائد، وجمع قائد الخيل قادة وقاد، وهو قائد بين القيادة، والقا واحد القواد والقادة؛ ورجل قائد من قوم قد و قواد وقادة)(2).

وقال الطريحي (القيادة بالكسر: الصناعة، وفي الحديث المجتهدون، يعني في القرآن - قوّاد أهل الجنة يعني يقودونهم .. إليها، كأن المعنى يسبقونهم ويجرونهم إليها، والقائد واحد القواد والقادة، وفي حديث علي (عليه السلام) قریش قادة ذادة أي يقودون الجيوش، جمع قائد، واجتمع القواد والجند یرید بهم الأمراء الذين يقودون الجيش، أو من يقودون الخيل للرؤساء، والجند: العسكر، وفي حديث علي

ص: 16


1- مستدرك الوسائل، میرزا حسين النوري الطبرسي، ج 17، ص 267
2- لسان العرب، ج 3، ص 370

(عليه السلام) انظروا إلى عرصات من أقاده الله بعلمه أي جعله الله قائدا، والقود: أن يكون الرجل أمام الدابة آخذا بقيادها)(1).

نفهم مما تقدم ان القائد يكون في المقدمة، وهو الرئيس الذي يرأس كتيبة أو جيشاً.

ثانياً: القيادة اصطلاحاً.

بما أن مفهوم القيادة مفهوم واسع فقد تعددت وجهات النظر في تعريف القيادة فمنهم من قال: (انها قدرة الفرد في التأثير على شخص أو مجموعة وتوجيههم وإرشادهم من أجل كسب تعاونهم وحفزهم على العمل بأعلى درجة من الكفاية في سبيل تحقيق الأهداف الموضوعية .. وكذلك يقصد بها قدرة تأثير شخص ما على الآخرين حيث يجعلهم يقبلون قيادته طواعية ودونما إلزام قانوني، وذلك لاعترافهم التلقائي بقيمة القائد في تحقيق أهدافه وكونه معبراً عن آمالهم وطموحاتهم مما يتيح له القدرة على قيادتهم الجماعية بالشكل الذي يريده)(2).

فالقائد يجب أن يكون مؤثراً كي يقود الجند نحو الهدف، وهذا ما وجدناه في شخصية النبي وأمير المؤمنين والحسن والحسين وبقية الحجج (عليهم السلام).

وبما اننا نتكلم عن الجانب القيادي للمولى ابي الفضل العباس، فكذلك كان (عليه السلام) المؤثر الأول في معسكر الإمام الحسين حيث كان الجنديرون العباس معسکراً کاملاً، وهذه النظرة كانت في جيش الإمام وجیش العدو فكلاهما يعده جيشاً، ويكفي أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعد العباس جيشاً بأكمله.

ص: 17


1- مجمع البحرین، ج 3، ص 132 - 133
2- أسرار القيادة عند أمير المؤمنين، جمیل کامل، ص 9

وكان قمر العشيرة السند لجيش الإمام الحسين (عليه السلام)، ولا زال العباس قائدنا حتى في زمننا هذا، فالموالون لآل البيت الذين يقاتلون في سوح القتال يتهافتون باسمه، ويحملون لواء ابي الفضل وشعاراته، ويرددون اسمه في سوح القتال، وما يزيدهم ذلك إلا قوة وصلابة فأي تأثير هذا وأي قائد نتكلم عنه.

فالعباس بن علي أعطى للقيادة معنی خاصاً، فلا يوجد في زماننا هذا قائدٌ كأبي الفضل إطلاقاً ولا يوجد نظير له في جميع الأزمنة ونستثني الحجج فهم القادة الأوائل.

فالقيادة هي القدرة على التأثير في الآخرين بحيث تجذبهم الى حد أنهم يصبحون مسيرين وليسوا مخيرين، فهذه هي أسرار القيادة الناجحة، حتى يصل القائد الناجح الى الاعجاز، وهذا ما وصل له الإمام الحسين وأخوه أبو الفضل (عليهم السلام) في قيادتهم لجيش الله، فكان الجند يتسابقون على الموت لما يرون في قادتهم من صفات عظيمة كالإيمان، والكرم، والصبر، والثبات في أصعب الظروف، مما جعلهم أعظم القادة على مر العصور.

ثالثاً: القيادة في القرآن.

(لم يستخدم القرآن الكريم مصطلح القيادة بلفظه، كما لم يستخدم مشتقاته على مستوى جذر الكلمة (قود)، أما مشتقات الجذر فقد استخدمها مرتين فقط منها قوله: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ»(1).

وقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»(2))(3).

ص: 18


1- الأنعام: 90
2- الزخرف: 23
3- أسرار القيادة عند أمير المؤمنين، جمیل کمال، ص 16

ومن الألفاظ الأخرى الدالة على معنى القيادة ولها صلة بها:

1- لفظة (الخليفة).

قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(1).

فالخلافة تعني القيادة، ولا بد أن يكون الخليفة قائداً قادراً على إمارة الأرض في شتّى المجالات وإلا لما استخلفه الله على عباده، وقد وضح سبحانه للملائكة عظمة هذا الخليفة منذ البدء فحينما اعترضت الملائكة بقولهم: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»(2)، فالملائكة كانت تجهل مدی قدرة هذا القائد في تولي هذه المسؤولية العظيمة كونها تجهل من هو الخليفة وأي مستوى ومنزلة ورفعة وصل لها هذا الإنسان، لذا خاطبهم الله سبحانه بقوله: «قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»(3).

فقد علم الله سبحانه وتعالى خليفته الأسماء وأعطاه علم الأولين والآخرين فبذلك يكون الخليفة قادرا على تحمل هذه المسؤولية لامتلاكه هذه المؤهلات التي تجعله محيطاً بجميع الأمور منها الأمور الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فلما علمت الملائكة عظمة الخليفة قالوا: «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».

ص: 19


1- البقرة: 30
2- البقرة: 30
3- البقرة: 30 - 33

إذاً فالقائد يجب أن تكون له مؤهلات تؤهله للقيادة ومنها العلم والعدل وغيرها من المزايا والصفات التي لا بد أن تتواجد في شخصية القائد کي يحكم بين الناس بالحق، قال تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(1).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بينما أنا أمشي مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، في بعض طرقات المدينة، إذ لقينا شيخ طويل كث اللحية، بعيد ما بين المنكبين، فسلم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورحب به، ثم التفت إليَّ فقال: السلام عليك يا رابع الخلفاء ورحمة الله وبركاته، أليس كذلك هو یا رسول الله؟ فقال له رسول الله بلى، ثم مضى، فقلت یا رسول الله ما هذا الذي قال لي هذا الشيخ وتصديقك له، قال: أنت كذلك والحمد لله إن الله (عز وجل) قال في كتابه: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» والخليفة المجعول فيها آدم (عليه السلام) وقال: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» فهو الثاني وقال عز وجل حكاية عن موسى حين قال لهارون (عليهما السلام): «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ» فهو هارون إذا استخلفه موسی (علیه السلام) في قومه فهو الثالث، وقال (عز وجل) «وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» فكنت أنت المبلغ عن الله وعن رسوله وأنت وصيي ووزيري، وقاضي دیني والمؤدي عني، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فأنت رابع الخلفاء کما سلم عليك الشيخ، أولا تدري من هو؟ قلت: لا، قال: ذاك أخوك الخضر (عليه السلام) فاعلم)(2).

ص: 20


1- سورة، ص: 26
2- مسند الإمام الرضا(ع)، الشيخ عزیز الله عطاردي، ج 1، ص 128، ح 107

2- لفظة (الملك).

قوله تعالى: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(1).

فليس من الضروري أن يكون القائد غنياً وإنما القيادة بالمفهوم السماوي هي أن يكون للقائد مؤهلات كثيرة وإلا لما اختار الله طالوت، ومن مؤهلاته أن الله زاده علما فلم يكن علمه منحصراً في مجال وإنما كان واسع العلم، وفي قصة يوسف عليه السلام خير دليل على أهمية العلم فقد حكى الله عنه في كتابه العزيز: «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»(2).

كذلك زاده الله بسطة في الجسم فبعض الناس يمتلكون العلم ولكن ليس لهم قوة بدنية فالقائد يحتاج الى طول وقوة جسمانية تساعده على حمل السلاح وباقي التجهيزات الأخرى التي لا بد من حملها وارتدائها في الحرب، فهيبة القائد من الضروريات، والهيبة لا تأتي إلا من خلال هيكلية الجسم، فكان السبب في اختياره سبحانه لطالوت علمه وقوته وهذه هي المؤهلات والشرائط التي لا بد أن تتوفر في شخصية القائد.

جاء في تفسير الآصفي: إن بني إسرائيل بعد موسی عملوا بالمعاصي وغيروا دين الله وعتوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبي ينهاهم فلم يطيعوه، فسلط الله عليهم جالوت، وهو من القبط، فأذاهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم واستعبد

ص: 21


1- البقرة: 247
2- يوسف: 55

نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم وقالوا: سل الله أن يبعث لنا ملکا نقاتل في سبيل الله؛ وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع الله النبوة والملك في بيت. كانت النبوة في ولد «لاوي» والملك في ولد «یوسف» وكان طالوت من ولد «بن یامین» أخي يوسف لأمه، ولم يكن من بيت النبوة ولا من بیت المملكة، وكان أعظمهم جسما وكان شجاعا قويا وكان أعلمهم، إلا أنه كان فقيرا، فعابوه بالفقر. وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى، فوضعته فيه أمه، فألقته في اليم، كان في بني إسرائيل يتبركون به(1) فلما حضر موسى الوفاة، وضع فيه الالواح [ودرعه] وما كان عنده من آیات النبوة وأودعه يوشع وصيه، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عز وشرف مادام التابوت بينهم. فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم. فلما سألوا النبي وبعث الله طالوت إليهم ملكا يقاتل معهم، رد الله عليهم التابوت)(2).

وهنالك ألفاظ أخرى لها صلة بلفظة القيادة كلفظة السلطان والإمام والقدوة والأمير وغيرها...

رابعاً: القيادة في السنة المطهرة.

وردة لفظة القيادة في السنة المطهرة ومنها:

قال (صلى الله عليه وآله): (أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر)(3).

ص: 22


1- وفي تفسير القمي ج 1، ص 82 (فكان في بني إسرائيل معظما يتبركون به)
2- التفسير الأصفي، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 117
3- کنز العمال، المتقي الهندي، ج 11، ص 404

فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتكلم عن قيادة ربانية، فهؤلاء الطيبون اطاعوا الله حق طاعته وعملوا لمرضاته فجعلهم الله قادة اهل الأرض ثم اختار من بينهم سيد الرسل وخاتمهم.

فرسول الله (صلى الله عليه وآله) قائد القادة وسيد ولد آدم من الأولين والآخرين، وبما أن عليّاً نفس النبي فقد صار على قائد الناس وإمامهم بعد نبي الرحمة.

ففي رواية عن ابن عباس قال: (صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر فخطب، واجتمع الناس إليه، فقال (صلى الله عليه وآله): يا معشر المؤمنين، إن الله عز وجل أوحي إلي أني مقبوض، وأن ابن عمي عليا مقتول، وإني - أيها الناس - أخبركم خبرا، إن عملتم به سلمتم، وإن تركتموه هلکتم، إن ابن عمي عليا هو أخي ووزيري، وهو خليفتي، وهو المبلغ عني، وهو إمام المتقين، قائد الغر المحجلين ..)(1).

فالنبي والوصي (صلوات الله وسلامه عليهم) كان لهم شرف الصدارة على جميع الخلق لما لهم من صفات و کمالات تميزهم عن غيرهم، فالنبي فاق الانبياء صبرا وحلا وعَظَمَة لذا نال شرف السيادة والرياسة على جميع الخلق، والإمام علي (عليه السلام) نفس النبي وهذا يعطيه الأسبقية على جميع الخلق أيضاً.

فسبحانه وتعالى اذا اراد ان ينشئ دولة جعل هؤلاء الطيبين قادتها.

ص: 23


1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 121

ص: 24

الفصل الأول صناعة القائد في رؤية الإمام على علیه السلام

ص: 25

ص: 26

توطئة:

هنالك عاملان رئيسيان يؤثران على الإنسان من الناحية المادية والمعنوية منذ بدء نشأته في عالم الأصلاب ثم انتقاله الى عالم الأرحام، ومن ثم الى عالم الدنيا، حتى بلوغ تمام عقله وهذان العاملان هما:

أولاً: (العامل الوراثي).

الوراثة قانون سماوي ثابت ولا بد للإنسان أن يكتسب من الأب أو الأم أو الأجداد هذه الجينات الوراثية، ولم ينكر أحد هذا القانون حتى في العصور السابقة لأن العامل الوراثي واضح حيث تظهر على شكل الإنسان صفات وراثية متشابهة بأقرانه کلون العين ولون البشرة وطول القامة وما الى ذلك من الصفات الجسمانية.

وهنالك من الناس من يشبه آباءه أو أجداده كطبق الأصل؛ وهذا ما سمعنا عنه في شبه علي الأكبر ابن الإمام الحسين (عليهم السلام) من جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهذه المظاهر الواضحة خير دليل على أن الإنسان يكتسب هذه الصفات الوراثية من الآباء.

قال تعالى: «الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ»(1).

ص: 27


1- الإنفطار: 7 - 8

قال الحسن بن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: «فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ»، قال: «صور الله (عز وجل) علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى»(1).

وجاء في مجمع البیان (في أي صورة ما شاء ركبك) أي: في أي شبه من أب، أو أم، أو خال، أو عم)(2).

وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لرجل: «ما ولد لك؟ قال: يا رسول الله! وما عسى أن يولد لي، إما غلام، وأما جارية، قال، فمن يشبه؟ قال: يشبه أمه وأباه، فقال (صلى الله عليه وآله): لا تقل هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم، أما قرأت هذه الآية (في أي صورة ما شاء ركبك) أي: فيما بينك وبين آدم»(3).

نفهم من كلامه (صلى الله عليه وآله) إن الجينات الوراثية المكتسبة ليس لها حد ولا تنتهي إلى ظهر أو رحم معين وإنما يكتسب الصبي بعض المورثات من أصل النشأة حتى آخر صلب، فعن علي (عليه السلام)، قال: (أقبل رجل من الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله، هذه بنت عمي وأنا فلان ابن فلان حتى عد عشرة آباء، وهي فلانة بنت فلان حتی عد عشرة آباء، ليس في حسبي ولا في حسبها حبشي، وأنها وضعت هذا الحبشي، فأطرق رسول الله (صلى الله عليه وآله) طويلا، ثم رفع رأسه فقال: إن لك تسعة وتسعين عرقا، ولها تسعة

ص: 28


1- مناقب آل ابي طالب، ابن شهر اشوب، ج 3، ص 170
2- مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 10، ص 287
3- المصدر السابق، ج 10، ص 287

وتسعون عرقا، فإذا اشتملت اضطربت العروق، وسأل الله عز وجل كل عرق منها أن يذهب الشبه إليه ، قم فإنه ولدك ولم يأتك إلا من عرق منك أو عرق منها، قال: فقام الرجل وأخذ بيد امرأته، وازداد بها وبولدها عجبا)(1).

فهذه الآيات وما ورد عن الأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، توضح أهمية العامل الوراثي في التأثير على الإنسان وأنه قانون سماوي ومن نصائح الأطباء لبعض العوائل التي يتغلب عليها العامل الوراثي من أمراض وبعض الأمور السلبية كلون البشرة وغيرها من العاهات الظاهرة والباطنة أن يختاروا لنطفهم امرأة من غير عشيرتهم كي يقضوا على بعض الجينات الوراثية السلبية لأن الجينات الوراثية تنقل السلب والايجاب.

يقول الدكتور لبيب بیضون: (من مظاهر رحمة الله بالإنسان، إنه إذا كانت إحدى المورّثات (جينات) فيها خلل بحيث لو ظهرت تعطي كائناً مشوهاً، فمنذ الاقتران تكون هذه الصفة هي الصفة المختفية، في حين تتغلب عليها الصفة السليمة المقابلة لها فتظهر، أما إذا كانت هذه المورِّثة مصابة في الرجل والمرأة معاً ظهر العيب فيها حتماً، ولهذا كان الزواج المتعدد من الأقارب سبباً لظهور العاهات الكامنة فيهم ولذا قال النبي (صلى الله عليه وآله): (تَغَرَبوا تُنجوا)، أي كلما كانت الزوجة أبعد في القرابة كان الولد أنجب)2).

فالعامل الوراثي يعد من أهم العوامل كونه المؤثر الأول في بدء النشأة لذا أوصى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بهذا الأمر وأن نختار لنطفنا من أحسن البيوتات حسبا ونسبا ومظهراً لكي ينشأ الصبي بشكل طبيعي من كلتا الناحيتين الجسمية والنفسية.

ص: 29


1- مستدرك الوسائل، میرزا حسين النوري الطبرسي، ج 14، ص 303

وكما أن الجينات تؤثر على الطفل جسدياً، كذلك للجينات تأثيرات نفسية، کاکتساب الشجاعة، والفطنة، والفهم وما الى ذلك من الصفات النفسية المهمة فالعامل الوراثي من أهم العوامل فلا بد من مراعاة هذا الجانب وأن يكون الانسان فطنا في اختيار الزوجة.

ثانياً: (العامل الاكتسابي).

حينما يولد الصبي ينشأ بين أسرته وجيرانه وأصحابه وما الى ذلك من اقرباء واصدقاء فمن خلال تواجده معهم سوف يكتسب هذا الصبي بعض الصفات وهذا ما سميناه بالعامل الكسبي.

وللبيئة أثر كبير على الإنسان سواء كانت تأثيرات نفسية أو جسدية، فتعد البيئة من أهم المؤثرات على طبيعة الجسم، فالذي ينشأ في البادية يختلف جسمه وقوته عن ابن المدينة، كذلك العامل النفسي فالبيئة هي المؤثر الثاني في نشأة الإنسان فقد تختلف صفات الانسان وعاداته وتقاليده بحسب البيئة المحاطة به.

وللتقريب أكثر نضرب مثالاً على ذلك، فلو فرقنا بين توأمين فنأخذ واحداً منهم في البادية والآخر في المدينة فبعد مرور سنين بحيث يتكيف كل واحد منهم في البيئة التي عاش بها نجد أن الذي تربي في البادية يختلف عن صاحب المدينة بالكثير من الأمور منها الجسمية كخشونة البشرة وخشونة العظم، فقوة التحمل عنده تكون أكبر بنسبة كبيرة عن اخيه الذي عاش في المدينة فالغذاء مختلف وغيرها من المؤثرات الأخرى، كذلك العادات والتقاليد وحتى المعتقدات لا تبقى متشابهة وإن كان هنالك عامل وراثي قوي، إذاً فالبيئة تؤثر في شخصية الانسان تغيراً كبيراً.

ولو تأملنا جيدا العامل الوراثي والعامل الإكتسابي سوف نجد أن هنالك تداخلاً بين العاملين ومن الصعب فصل ذلك، ولكن قد يسأل سائل أي النسب قد تكون مؤثرة أكثر الوراثية أم الاكتسابية.

ص: 30

نقول: إن كلا الجانبين مهمان ولو كان الجانب الوراثي يكفي لما قام النبي بتربية أمير المؤمنين (عليه السلام) ونحن نعلم أن عليّاً ولد على الفطرة ولكن لتبقى هذه الفطرة سليمة يجب ان يهيئ الله له بيئة جيدة، فبعض الأهداف وبعض الشخصيات يجب أن تتهيأ لها الظروف الوراثية والبيئة بشكل تام حتى ينشئوا نشأة تامه ليس فيها نقص ليكونوا متميزين ومهيئين للظروف الحياتية التي رسمها الله لهم، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه في بيان قربه من رسول الله ومنزلته عنده: (.. وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله)، من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غیر رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله، فقلت یا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزير وإنك لعلى خير).

وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: (... یا کمیل إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدبه الله عز وجل وهو أدبني وأنا أؤدب المؤمنين وأورث الأدب المكرمين)(1).

ص: 31


1- بحار الأنوار، ج 74، ص 267؛ مستدرك الوسائل، ج 17، ص 267؛ مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) المؤلف: المير جهاني، ج 1، ص 115

وفي بحثنا هذا نتكلم عن قائد عظیم شهد له التاريخ بفضله ووفائه وعظمته وهو المولى أبو الفضل العباس (عليه السلام)، فقد هيأ الله للعباس بن علي صلباً طاهراً وبيتاً طاهراً كما هيئها لوالده، ذلك لعلم الله بفضلهم وطاعتهم ونفوسهم الطاهرة القابلة للاستجابة وتلقي ما هو خير لهم، كذلك علم الله بالجهد الذي سوف يبذل منهم لذا حفظهم الله من كل رجس.

فمن حسنت نيته وطابت روحه من المؤكد سوف يطيب الله طينته ويهيأ له من الظروف ما تنطبق مع صفاته وسجاياه، والكل يؤمن بعلم الله وإحاطته بالجزئيات وعلم ما كان وما سيكون، فمن خلال علمه بخلقه خلقهم بحسب طاعتهم واستحقاقهم ويؤكد قولنا هذا الامام الصادق، فعن محمد بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إن الله خلقنا من نور عظمته ثمَّ صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش فأسكن ذلك النور فيه فكنا نحن خلقا وبشرا نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا وخلق أرواح شیعتنا من طینتنا وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة، ولم يجعل الله لأحد في مثل الذي خلقهم منه نصيبا إلا للأنبياء والمرسلين فلذلك صرنا نحن وهم الناس وصار سائر الناس همجا للنار وإلى النار»(1).

ففي هذا الفصل سوف نتكلم عن النشأة القيادية للمولى أبي الفضل العباس بين الوراثة والاكتساب، لنبين أهمية هذين العاملين ومدى تأثيرهما على شخصية الإنسان من الناحية النفسية والبدنية.

وكان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد على الجانب الوراثي ويبين أهميته، قال (صلى الله عليه وآله): «اختاروا لنطفكم فإن العرق دساس» وقد

ص: 32


1- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقیه، محمد تقي المجلسي (الأول)، ج 13، ص 222

بيّن القرآن أهمية هذا الجانب بقوله: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»(1)، أي تقلب النبي في تلك العوالم وهو عالم الأصلاب من ساجد الى ساجد حتى استقر في ظهر عبد الله.

فكل آبائه (صلوات الله وسلامه عليه) کانوا موحدين فمن هذه الآية نستدل على أهمية الأمر كون الإنسان يكتسب من آبائه الكثير من الصفات التي تنتقل عن طريق الجينات الوراثية، وحين خروجه لعالم الدنيا سوف ينشأ بينهم فيكتسب عاداتهم وتقاليدهم وهذا هو الجانب الآخر المهم وهو الجانب الاكتسابي، قال النبي (صلى الله عليه وآله): (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه)(2).

فمن خلال كلام خاتم الرسل تتضح لنا أهمية الجانبين بشكل دقيق، لذا حينما أراد الإمام أن ينشأ قائداً عظيماً وولداً شجاعاً هيأ له من الأسباب ما يجعله متفوقا على الكثير من الخلق، حيث اختار له امراءة انجبتها فحول العرب، ليتوارث العباس من الهاشميين ومن العامريين القوة والشجاعة، ومن فيه هاتان الخصلتان لا بد من أنه يتصف بصفات اخرى تؤهله ليكون قائداً عظيماً) فالعباس بن علي صار من أبرز القادة على مر العصور.

ص: 33


1- الشعراء: 219
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 3، ص 281، ح 22

المطلب الأول: النشأة القيادية لأبي الفضل (علیه السلام) عن طريق الوراثة.

نتكلم عن النشأة القيادية للمولى أبي الفضل العباس (عليه السلام) وما اكتسبت روحه الطاهرة وجسده الطاهر من صفات وراثية عظيمة، فالله سبحانه يربي أولياءه منذ البدء ويتلطف بهم بعناية خاصة وما ذلك إلا لنزاهتهم واستحقاقهم، فالله سبحانه لا يفرق بين عبد وآخر إلا بالتقوى، لذا أقرهم في أصلاب شامخة، وارحام مطهرة؛ لما لهم من استجابة تختلف عن غيرهم، فتلك النفوس قابلة لتلقي كل ما هو حسن وجيد، كذلك أبدانهم فكل شيء فيهم يختلف لذا طهرهم الله وفضلهم، ومنهم هذا الولي العظيم قمر العشيرة، فروح العباس، ونفس العباس، وبدن العباس، وكل ما في العباس نبت على الطهارة والغيرة والرجولة.

فمنذ ان كان في عالم الاصلاب والارحام، بدأت نشأته على أن يكون قائداً وناصراً لدين الله ومضحيا لأخيه السبط المنتجب، فالحسين هو الدين، والعباس خلق لأجل الدين، إذاً فقد خلق العباس ليكون عضد الدین کما کان ابوه لمحمد.

وكما كان أمير المؤمنین کاشف الكرب عن وجه النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد كان العباس کاشف الكرب عن وجه الإمام الحسين (عليه السلام).

ففي هذا الفصل سنتكلم عن النشأة الوراثية والنشأة الاكتسابية للمولى ابي الفضل ونبين نتائجها.

ص: 34

المقصد الأول: صناعة القائد عن طريق الوراثة.

إن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء قانوناً وأمرنا بإتباع هذه القوانين ومنها قانون الوراثة وقانون الاكتساب، فالله سبحانه وتعالى من خلال أنبيائه ورسله أمرنا أن نختار لنطفنا كي يكتسب الجنين الصفات الطيبة الطاهرة.

والله سبحانه وتعالى كان ينقل أنبياءه وأولياءه من أصلاب شامخة الى ارحام مطهرة، ذلك لأهمية الأمر، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حق أصلاب الأنبياء:

«فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِی أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَ أَقَرَّهُمْ فِی خَیْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ کَرَائِمُ اَلْأَصْلاَبِ إِلَی مُطَهَّرَاتِ اَلْأَرْحَامِ، کُلَّمَا مَضَی مِنْهُمْ سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِینِ اَللَّهِ خَلَفٌ»(1).

ولو تصفحنا تاريخ الأنبياء والمعصومين الذين ابتلاهم الله بأزواج ضالات، لم نجد أيّاً من هؤلاء الأطهار، أصبح لديه مولود من تلك النساء الضالات، فهذا مؤشر قوي على أن الأم تنقل الصفات السلبية لدى الجنين لذا اختار الله سبحانه للأنبياء والمعصومين أشرف النساء وأطهرهن وأطيبهن.

وكان (صلى الله عليه وآله)، يأمر الناس باختيار الزوجة الطاهرة في المنبت الطاهر أي ليس فقط اختيار الزوجة بل اختيار العشيرة الصالحة والنظر الى العامل الوراثي لأن من طبيعة الجنين الاكتساب من خلال الوراثة.

قال ابو محمد الحسن العسكري (عليه السلام) «سأل عبدالله بن صوریا رسول الله فقال: (أخبرني يا محمد الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والشعر فمن المرأة، قال: صدقت يا محمد، ثم قال: فما بال الولد يشبه اعمامه ليس فيه من شبه

ص: 35


1- نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح، الخطبة 94 ص 139

أخواله شيء، ويشبه أخواله وليس فيه من شبه اعمامه شيء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيهما علا ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له فقال: صدقت يا محمد ..»(1).

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اختاروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين»(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «تزوجوا في الحجز الصالح، فإن العرق دساس»(3).

فنجده (عليه السلام) كان يتبع هذا القانون السماوي ويتبع ما أوصى به النبي فقبل أن يشرع الإمام بالزواج أراد امرأة طاهرة فاضلة لها نسب عریق كي تنجب له ولداً يكون لأخيه عوناً وسندا، كما كان هو عوناً وسنداً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لذا استشار أخاه عقيلاً، فهو عارف بأنساب العرب كي يختار امرأة ولدتها الفحول لتلد له فحل الفحول.

ومن خلال هذا المخطط وما رسمه أمير المؤمنين (عليه السلام) لا مجال بأن المولود القادم سيكون بطلاً قاهراً شجاعاً مختلفاً عن غيره من الناحية الجسمية والنفسية، فأبوه فحل الفحول وآباؤه هم فحول العرب فبهذا الجانب ضمن الإمام سلامة الجانب الوراثي.

روي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل، وكان نسّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: «أُنظر إلى امرأة وقد ولدتها الفحول لأتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً» فقال له: تزوّج (أُمّ البنين الكلابيّة) فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها(4).

ص: 36


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسی، ج 1، ص 48
2- الكافي، ج 5، ص 332
3- مکارم الاخلاق، الشيخ الطبرسي، ص 197
4- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، ص 357؛ قاموس الرجال، محمد تقي التستري، ج 12، ص 195

وباعتقادنا فإن الإمام عليّاً (عليه السلام) أعلم الناس بكل شيء كونه حجة الله في أرضه، فلماذا يستشير أخاه عقيلاً، ففي هذا الأمر عدة أوجه:

الوجه الأول: بیان عظمة هذا القائد

فالإمام علي (عليه السلام) بعلمه الغيبي، كان يعلم جيداً أن العباس شخص مختلف وليس انساناً عادياً، بل هو قائد عسكري ورجل عظیم، له مكانة رفيعة ومنزلة خصيصة عند الأئمة، وإنه من العظماء الخالدين، وممن يحظى بمنزلة رفيعة عند الصديقة فاطمة الزهراء، فغاية الإمام هو توضيح منزلة هذا القائد.

فكما كان الأنبياء يخبرون الناس بالنبي القادم اجلالاً له وتعظيمها، كذلك أراد الإمام أن يبين أهمية العباس ومكانته عند الله ومدى تأثيره في المجتمع، وقد سمع ذلك الحديث الكثير من الصحابة، فقد جاء في الأنوار العلوية (قيل اتی زهير إلى عبد الله بن جعفر بن عقيل قبل ان يقتل فقال يا أخي ناولني الراية فقال له عبد الله أو فيَّ قصور عن حملها قال لا ولكن لي بها حاجة قال فدفعها إليه وأخذها زهير وأتى فجاء إلى العباس بن علي وقال يا بن أمير المؤمنين أريد ان أحدثك بحديث وعيته فقال حدث فقد حلى وقت الحديث: حدث ولاحرج عليك فإنما *** ندري لنا متواتر الاسناد

فقال اعلم يا أبا الفضل ان أباك أمير المؤمنين لما أراد أن يتزوج أم البنين بعث إلى أخيه عقيل وكان عارفا بأنساب العرب فقال (عليه السلام): يا أخي أريد منك ان تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة لكي أصيب منها ولدا شجاعا وعضدا ينصر ولدي هذا - وأشار إلى الحسين - ليواسيه في طف كربلاء وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن أخواتك، قال فارتعد العباس وتمطى في ركابه حتى قطعه وقال يا زهير تشجعني

ص: 37

في مثل هذا اليوم والله لأرينك شيئا ما رأيته قط، قال فهمز جواده نحو القوم حتى توسط الميدان وساق الحديث إلى آخر مقتل العباس (عليه السلام)(1).

وقال السيد جعفر العاملي في الصحيح من سيرة الإمام: (إن علياً «عليه السلام» لم يكن بحاجة إلى علم عقيل «رحمه الله»، ولا إلى علم غيره بأنساب وأحوال العرب، إلا أن يكون المقصود هو تعريف الناس بمقام تلك الصفوة التي سيكون لها النصيب الأوفر في نصرة الإمام الحسين «عليه السلام» في كربلاء، وأن ذلك بمثابة إخبار غيبي عن ولادة هؤلاء الصفوة، وعن المهمات الجسام التي سوف يضطلعون بها، في نصرة هذا الدين.

وفيه إشارة إلى أن التهيؤ لهذه المواقف والتضحيات قد بدأ قبل ولادة يزيد وابن زیاد و.. و.. يضاف إلى ذلك: أنه أراد التنويه بعلم عقیل بالأنساب، ورد ما سوف يکیده به الأمويون وأعوانهم، وتبرئته من الاتهامات الباطلة التي سيوجّهونها إليه حين يكشف للناس مخازي أعداء علي (عليه السلام»..

مع يقيننا بأن علياً «عليه السلام» كان أعرف من عقيل في كل شيء .. ولم يكن بحاجة إليه في اختيار من يشاء من النساء.. ولكنه أراد أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يعلم الناس: أن لا غضاضة في الرجوع إلى أهل الخبرة، لإظهار فضلهم، والإعلان بالتكريم لهم)(2).

وقال الفاضل الدربندي: (اعلم: أنك إذا لاحظت أن مقصود أمير المؤمنين (عليه السلام) من تزويجه بأم البنين - أم العباس - أن يجعل أولادها ذخيرة وعدة ليوم الطف)(3).

ص: 38


1- اسرار الشهادة، الفاضل الدربندي، ج 2، ص 497، الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ص 443
2- الصحیح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)، السيد جعفر مرتضى العاملي، ج 1، ص 266
3- اسرار الشهادة، ج 2، ص 544

ففي مسير الإمام علي (عليه السلام) إلى حرب معاوية ووصوله الى كربلاء اخبر أمير المؤمنين أصحابه بمصرع أبناءه وهذا يؤكد أن الإمام مُطَّلِع إطّلاعاً تاماً على تلك الثلة الطاهرة، فعن الأصبغ بن نباتة، عن علي (عليه السلام)، قال: أتينا معه موضع قبر الحسين (عليه السلام) فقال: هاهنا مناخ ركابهم وموضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يقتّلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض(1).

وفي الرواية التي يرويها السيد المقرم من تقبيل کف العباس وبكائه عليه فكل ذلك يدل على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عالماً عارفا بأولئك الفتية الكرام وبالخصوص قمر العشيرة لما له من أهمية كبيرة كونه المكلف الأول في قيادة جيش الإمام الحسين (عليه السلام).

الوجه الثاني: بيان منزلة أم البنين ومكانتها عند الله

إن وجود درة طاهرة بهذا الوفاء وهذا الإيمان والإخلاص لا بد أن يظهرها الله للخلق لتكون مثلاً اعلى في الوفاء والتضحية، فقد جعلها الله في أفضل البيوت واطهرهن، فمن خلال سيد الأوصياء وعقيل ابن أبي طالب أظهر الله هذه السيدة الفاضلة(2).

ص: 39


1- روي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وقف بالكوفة في الموضع الذي صلب فيه زيد بن علي، وبكى حتّى اخضلّت لحيته، وبكى الناس لبكائه، فقيل له: يا أمير المؤمنين مما بكاؤك فقد أبكيت أصحابك؟ فقال: إن رجلا من ولدي يصلب في هذا الموضع لا أرى فيه خشية من رضى أن ينظر إلى عورته)، الملاحم والفتن، ابن طاووس، ص 244
2- قال الشيخ النقدي نقلا عن مجموعة الشهيد الأول. (کانت [أم البنين] من النساء الفاضلات العارفات بحق اهل البيت (عليهم السلام) کما کانت فصيحة بليغة لسنة ورعة ذات زهد و تقى وعبادة، ولإ كبارها و جلالتها زارتها زينب الكبرى بعد منصرفها من واقعة الطف کما کانت تزورها أيام العيد، کتاب زینب الكبرى، العلامة النقدي، ص 11

والله سبحانه وتعالى حينما يجعل سيدة تحل محل الزهراء ويكون أبناء فاطمة تحت رعايتها، يجب ان تكون هذه السيدة متصفة بصفات كثيرة فمن هذه الصفات:

1- التواضع:

فهذه السيدة الطاهرة رغم أنها من أشرف البيوتات وأفضلها حسباً ونسباً، إلا أنها لم تعطِ لنفسها قدراً أمام أبناء الزهراء، فهي تعلم في أي بيت جعلها الله، وتعلم جيداً أن الإنسان مهما وصل الى القمة فهو صغير أمام هذا البيت الطاهر، الذي اختاره الله أن يكون مهبط وحيه، فهذه الصفة من أهم الصفات التي يحبها الله، لذا اختارها الله وفضلها على سائر النساء، ولتواضعها كانت تعتبر نفسها خادمة لعلي وأبناء الزهراء، لذا صارت عظيمة وكبيرة عند الله وعند أهل البيت فعلي كان يجلها ويحترمها ولم يجد فيها غير الانحناء له.

عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: (كنا جلوسا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فذكرنا النساء وفضل بعضهن، على بعض فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « ألا أخبركم؟ « فقلنا: بلى يا رسول الله، فأخبرنا فقال: «إن من خير نسائكم الولود الودود والستيرة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها، الحصان عن غيره، التي تسمع قوله و تطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها)(1).

فهذه السيدة الولود الودود التي انجبت اربعة اقمار كانت من النساء الفاضلات، فالله سبحانه يختار لأوليائه أعظم البيوتات وأنزهها، ولما للعباس من أهمية كبيرة في الإسلام، فقد اختار له سبحانه هذه الأم المثالية، لتكون سبباً في تهيئة هذا القائد الناصر.

ص: 40


1- الوافي، الفيض الكاشاني، ج 21، ص 58

2- الرأفة والشفقة:

بعد رحيل الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لا بد من أم حنونة طيبة طاهرة تقوم برعاية السبطين والحوراء زينب (عليهم السلام) بدلاً عن فاطمة، فكانت السيدة أم البنين أهلا لذلك رغم أن فاطمة لا مثيل لها، لكن هذه السيدة اعجبت الإمام علياً، فقد ظهر الحنان والطيب من خلال تصرفاتها.

قال السيد المقرم: (وبلغ من عظمتها ومعرفتها وتبصرها بمقام أهل البيت أنها لما أُدخِلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان الحسنان مريضين اخذت تلاطف القول معهما وتلقي اليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهما وتخضع لهما کالأم الحنون)(1).

ومن المواقف الأخرى المشهورة التي توضح شفقة هذه السيدة الطاهرة على الحسنين أنها طلبت من أمير المؤمنين أن لا يسميها باسمها كي لا يتألم الحسن والحسين لعل اسم فاطمة يذكرهم بأمهم فاطمة، فهذه الرأفة وهذا العطف نابع

ص: 41


1- قمر بني هاشم، المقرم، ص 25. یروی: حينما كان عقيل يحدث أبيها حزام بشأن خطبة ابنته فاطمة لأخيه الإمام علي (عليه السلام)، كانت فاطمة تحدث أمها بحلم رأته في منامها، كأنها هي جالسة في دارها إذ وقع القمر في حجرها، وتبعه أربع كواكب (نجوم) ولما انتهت من حديثها دخل أبيها يبشرها ويبشر أمها بقدوم عقيل بن أبي طالب لخطبة فاطمة إلى أخيه الإمام علي (عليه السلام) ولما سمع أبيها الحلم استبشر، وقال: لقد حقق الله رؤياك يا بنيتي فأبشري بسعادة الدنيا والآخرة. وزفت إلى الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وقد رأى فيها النضج والعقل الراجح، وهي لم تزل في ريعان شبابها ولم تبلغ العشرين من عمرها، بالإضافة إلى الإيمان العميق، وسمو الأخلاق، و محاسن الصفات، والإخلاص، فأعزها (عليه السلام) فكانت جديرة أن تكون قرينة الإيمان وسمو الذات. ويروى ليلة زفافها قالت للإمام علي (عليه السلام) لي إليك حاجة، قال (عليه السلام): وما حاجتك؟ قالت: أرجو أن لا تسميني فاطمة لئلا ينكسر قلب الإمامين الحسنين وأختيهما ويتذكروا أمهم، عند ذلك سماها بكنيتها أم البنين، وهذه واحدة من ضروب الأدب والوفاء لسيدة نساء العالمين بعد رحيلها. كتاب العقيلة والفواطم الحاج حسين الشاكري، ص 116

عن معرفة وحب لآل البيت وكانت رأفتها وشفقتها على ابناء فاطمة أكثر من شفقتها على أبناءها وهذا ما زاد من منزلتها.

فمن وصايا لقمان لولده قال: (يا بني النساء أربعة: ثنتان صالحتان وثنتان ملعونتان فأما إحدى الصالحتين فهي الشريفة في قومها الذليلة في نفسها، التي إن أعطيت شکرت وإن ابتليت صبرت، القليل في يديها كثير، الصالحة في بيتها، والثانية الودود الولود، تعود بخير على زوجها، هي كالأم الرحیم تعطف على كبيرهم وترحم صغيرهم وتحب ولد زوجها وإن كانوا من غيرها، جامعة الشمل، مرضية البعل، مصلحة في النفس، والأهل والمال والولد، فهي كالذهب الأحمر طوبى لمن رزقها، إن شهد زوجها أعانته وإن غاب عنها حفظته ...)(1).

فهذه الصفات الطيبة في الزوجة الصالحة التي ذكرها لقمان لولده كانت متوفرة في شخصية أم البنين (عليها السلام) فشرف ام البنين من شرف الهاشميات لأن الله لا يضع أولياءه إلا في أرحام مطهرة.

فهذه السيدة العزيزة في قومها، كانت متواضعة مع زوجها، وكانت ترأف بالحسنين وتحبهما حب الإمامة وحب الأمومة فاجتمع في قلبها كلا الحبين، فهي سيدة عالمة فاضلة تقية نقية كانت تجمع أبناءها ولم تفرق بين أحد وأخر بل کانت تمیز الحسنين كونهما حجة الله.

وكانت هذه السيدة الفاضلة مرضية عند علي (عليه السلام)، تعينه في تربية عياله، فإذا وصفتها بالذهب فقد ظلمتها فهي من معدن أطهر وأزکی.

وعلى الرغم من أن أم البنين ليست هاشمية الأصل، إلا أننا نعدها من الهاشميات لقربها من بني هاشم روحاً وجسداً.

ص: 42


1- الاختصاص، الشيخ المفيد، ص 339

3- الايثار:

فقد آثرت هذه السيدة الطاهرة وبذلت كل ما لديها فلم يبق من ولدها أحد، فكانت رمزاً للتضحية والايثار، وقد بان وفاؤها وإيثارها للناس حينما جاء بشر ينعى الحسين فكانت السيدة أم البنين هي أول من استقبل بشراً عسى ان يأتيها بخبر يسرها، فكان يعزيها بمصرع أبناءها واحد تلو الاخر فلم تسأل عنهم وإنما سؤالها كان عن الحسين بن علي.

روي في كتاب المجالس العاشورائية (لما دخل بشير بن حذام المدينة المنورة لينعی الحسين (عليه السلام) التقى بأم البنين (وهي أم العباس) فقال لها: عظم الله لك الأجر بولدك عبد الله، قالت له: أسألك عن سيدي ومولاي الحسين. قال لها: عظم الله الأجر بولدك جعفر، قالت له: أسألك عن سيدي ومولاي الحسين، قال لها: عظم الله لك الأجر بولدك عثمان، قالت له: أسألك عن سيدي ومولاي الحسين، قال لها: عظم الله لك الأجر بولدك العباس، قالت له: أسألك عن سيدي ومولاي الحسين)(1).

فقد هان مقتل أولادها حينما سمعت بالفاجعة الأعظم فهذا خامس أهل العباء قد برج بالدماء فكانت تنادي واحسينا قبل ان تنعى أولادها الأربعة.

روي (أن العباس (عليه السلام) استشهد وله من العمر أربع وثلاثون سنة، وأن أُمّه أم البنين كانت تخرج لرثاء العباس (عليه السلام) وإخوته إلى البقيع فتبكي وتندب فتبكي كل من يمرّ بها ولايستغرب البكاء من الموالي فقد كانت أم البنين تُبكي مروان بن الحكم إذا مر بها وشاهد شجوها وهو أكبر المعاندين لآل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، ومن قول أُمّ البنين في رثاء أبي الفضل العباس وسائر أبناءها:

ص: 43


1- المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، السيد شرف الدین، ص 246

يَا مَنْ رَأَى الْعَبَّاسَ كَرَّ عَلَى جَمَاهِيرِ النَّقَدِوَ *** وَرَاهُ مِنْ أَبْنَاءِ حَيْدَرَ كُلُّ لَيْثٍ ذِي لَبَدٍ

أُنْبِئْتُ أَنَّ ابْنِي أُصِيبَ بِرَأْسِهِ مَقْطُوعَ يَدٍ *** وَيْلِي عَلَى شِبْلِي أَمَالَ بِرَأْسِهِ ضَرْبُ الْعَمَدِ

لَوْ كَانَ سَيْفُكَ فِي يَدِيْكَ لَمَا دَنَا مِنْهُ أَحَدٌ

ولها أيضاً:

لاَ تَدْعُوِنِّي وَيْكِ أُمَّ الْبَنِينَ *** تُذَكِّرِينِي بِلِيُوثِ الْعَرِينِ

كَانَتْ بَنُونَ لِي أُدْعَى بِهِمْ *** وَ الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ وَ لاَ مِنْ بَنِينَ

أَرْبَعَةٌ مِثْلُ نُسُورِ الرُّبَى *** قَدْ وَاصَلُوا الْمَوْتَ بِقَطْعِ الْوَتِينِ

تَنَازَعَ الْخِرْصَانُ أَشْلاَءَهُمْ *** فَكُلُّهُمْ أَمْسَى صَرِيعاً طَعِينَ

يَا لَيْتَ شِعْرِي أَ كَمَا أَخْبَرُوا *** بِأَنَّ عَبَّاساً قَطِيعُ الْيَمِين(1)

فهذه السيدة الوفية جعلت لها مكانة عظيمة بين أهل البيت حتى عُدَّت منهم، ذلك لوفائها وفدائها بأربعة أقمار لا مثيل لهم منهم قمر العشيرة الذي سطر بمجده أروع البطولات والتضحية والفداء.

الوجه الثالث: الاستشارة من ذوي الخبرة والمروءة

لابدَّ للإنسان الواعي الاستشارة عند القدوم الى اختيار الزوجة وذلك لأهمية الأمر الذي يقدم على مشروع كهذا يجب عليه أن يستشير أصحاب الخبرة، فمثل عقيل وذلك النسب والحسب العظيم الطاهر يكفيك عن شرفه وصدقه كان من العارفين بأنساب العرب وكانت العرب ترجع اليه في الانساب لذا أراد الإمام

ص: 44


1- مفاتیح الجنان، الشيخ عباس القمی، ص 643

لفت انتباهنا الى هذا الامر كي نحذو حذوه ونستشير من هو أهل للمشورة وهذا أمر مهم في اختيار الزوجة الصالحة.

كان يقال إن في قريش اربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قریش ويرجع الى قولهم وهم عقیل بن ابی طالب و مخرمة بن نوفل الزهري وابو الجهم بن حذيفة العدوي وحويط بن عبد العزى العامري(1).

وقد حذر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من العوامل الوراثية السلبية ففي رواية قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيبا فقال: (أيها الناس إياكم وخضراء الدمن، قیل: یا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء)(2).

قال الشيخ المفيد (فشبه المرأة الحسناء من أصل السوء بالخضرة التي تظهر على المزابل وفي أفنية البيوت عند وقوع الأمطار عليها، فهي وإن كانت نضرة حسنة فإنها على النجاسات من العذرة وأمثالها نابتة، وليس لها بقاء، ولا بها انتفاع)(3).

نفهم مما تقدم أن العامل الوراثي يأتي من جهة الأب ومن جهة الأم لذا اهتم الإمام بهذا الجانب، فالعباس بن علي (عليه السلام) قد ورث المحاسن الهاشمية فضلاً على العامرية فلو أتينا الى العامل الوراثي لأبي الفضل من جانب الأب فبنو هاشم لا يضاهيهم أحد من الناس بالشجاعة وغيرها من الصفات الأخرى من کرم وجود وجمال وقوة جسمانية فهم اسياد البشر، كذلك امتازت عشيرة ام البنين في الكثير من الصفات الطيبة ومن ابرزها الشجاعة وهذه الصفة جامعة للكثير من المحاسن فلا يكون الانسان شجاعا إلا وكان يتصف بصفات اخرى منها الكرم والجود وغير ذلك من الصفات الأخرى.

ص: 45


1- الاستیعاب، ابن عبد البر، ج 3، ص 1079
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 332
3- المقنع، الشيخ المفيد، ص 513

المقصد الثاني: ذكر بعض أجداد المولى قمر العشيرة من طرف الأب والأم.

فمن أجداد المولى ابي الفضل (عليه السلام) الذين اشتهروا بالسيادة والرياسة:

1- قصي بن كلاب:

قال ابن قتيبة: اسمه: زيد، وكان يسمی: مجمّعا وذلك أنه جمع قبائل قريش فأنزلها مكة، وبنى دار النّدوة، وأخذ المفتاح من «خزاعة»(1).

وقد (عظم أمر قصي حتى استخلص البيت من خزاعة وحاربهم وأجلاهم عن الحرم وصارت إليه السدانة والرفادة والسقاية، وجمع قبائل قريش وكانت متفرقة في البوادي فأسكنها الحرم ولذلك سمى مجمعا قال الشاعر:

أبوكم قصي كان يدعی مجمعا *** به جمع الله القبائل من فهر

وبنى دار الندوة، وهي أول دار بنیت بمكة فلم يكن يعقد أمرا تجتمع فيه قریش إلا فيها، فصار له مع السدانة والرفادة والسقاية النداوة واللواء)(2).

2- عبد مناف بن قصي بن كلاب:

من أجداد رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) كان يسمي قمر البطحاء، وكان له أمر قریش، بعد موت أبيه(3).

فهذا المجد وهذا الشرف كان ينتقل من قرشي الى قرشي حتى حاز عبد مناف هذه المآثر من آبائه، فقد ورث منهم الكرم والجود والرياسة والسقاية وغيرها من المآثر الأخرى.

ص: 46


1- المعارف، ابن قتيبة الدينوري، ص 70
2- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، أحمد بن علي الحسيني (ابن عنبة)، ص 26
3- الأعلام، خير الدين الزركلي، ج 4، ص 166

وجاء في تاريخ اليعقوبي: رأس عبد مناف بن قصي، وجلّ قدره، وعظم شرفه، ولما كبر أَمَر عبد مناف ابنه جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزوا به، فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش، وكان مدبر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف: عمرو بن هلل بن معيص بن عامر، وكان تحالف الأحابيش على الركن: يقوم رجل من قريش وآخر من الأحابیش، فيضعان أيديهما على الركن، فيحلفان بالله، وحرمة هذا البيت، والمقام، والركن، والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد، وعلى التعاون على كل من کادهم من الناس جميعا ما بل بحر صوفة، وما قام حری و ثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة، فسمي حلف الأحابيش(1).

وكان يسمى فخر البطحاء، وكان له الشوكة في قريش(2).

3- هاشم بن عبد مناف:

ولد عبد مناف بن قصي هاشما، واسمه عمرو، وكان يقال له عمرو العلى(3).

ملك هاشم الرفادة والسقاية واستقرت له الرياسة، وصارت له قريش تابعة تنقاد لأوامره(4).

وجاء في جمهرة خطب العرب: (تنافرت قریش وخزاعة إلى هاشم بن عبد مناف فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة فقال في خطبته: أيها الناس نحن آل إبراهيم

ص: 47


1- تاريخ اليعقوبي، ج 1، ص 241
2- موسوعة بطل العلقمي، ج 2، ص 65
3- تاريخ اليعقوبي، ج 1، ص 241
4- موسوعة بطل العلقمي، ج 2، ص 68

وذرية إسماعيل وبنو النضر بن كنانة وبنو قصي بن كلاب وأرباب مكة وسكان الحرم لنا ذروة الحسب ومعدن المجد ولكل في كل حلف يجب عليه نصرته وإجابة دعوته إلا ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم یا بني قصي أنتم كغصني شجرة أيهما كسر أوحش صاحبه والسيف لا يصان إلا بغمده ورامي العشيرة يصيبه سهمه ومن أحكه اللجاج أخرجه إلى البغي أيها الناس الحلم شرف والصبر ظفر والمعروف کنز والجود سؤدد والجهل سفه والأيام دول والدهر غير والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء وأكرموا الجليس يعمر ناديكم وحاموا الخليط يرغب في جواركم وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشرف وتهدم المجد وإن نهنهة الجاهل أهون من جريرته ورأس العشيرة يحمل أثقالها ومقام الحليم عظة لمن انتفع به، فقالت قریش رضينا بك أبا نضلة وهي کنيته)(1).

أما أبو طالب فهو سيد البطحاء وشيخ قريش وبيضة البلد، قال الراغب: (وبيضة البلد لما يقال في المدح والذم، أما المدح فلمن كان مصونا من بين أهل البلد ورئيسا فيهم، وعلى ذلك قول الشاعر:

كانت قريش بيضة فتفلقت *** فالمخ خالصه لعبد مناف(2)

فهذا هو جد العباس الأول الذي أودعه الله رعاية خاتم الرسل وأكرمه بوليد الكعبة، كان سيداً من السادة له من الفضائل والمكارم ما جعل البعض يبغضه لما له من منزلة عظيمة ودرجة رفيعة عند الله ورسوله.

ص: 48


1- جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، ج 1، ص 75 - 76
2- المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 67

جاء في تاريخ اليعقوبي: (كان لكل واحد من ولد عبد المطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد. وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال: رجال كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع مكة. وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبر جة الفضة يلحقون الأرض جيرانهم. فقال: يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة نبت لها مثل هؤلاء. هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال)(1).

فالإمام علي كان مطمئنا من جانبه کون بني هاشم أسياد العرب ولهم مجد لا يضاهي فهم صنائع الله بشهادة الناس، ولكنه (عليه السلام) كان يبحث عن امرأة ذات حسب و نسب لتكون خير وعاء لهذا القائد كي يحفظه الله من رجس الشيطان کما حفظ آباءه وأهل بيته وطهرهم تطهيرا.

الجانب الوراثي عن طريق أم البنين:

وقوله (عليه السلام) ولدتها فحول العرب، أي: قادة العرب، فهدف الإمام هدف سامٍ وهو تهيئة قائد ينشأ بين قادة كبار لا يعرفون معنى الهزيمة وإن دخلوا إلى سوح القتال فإما النصر أو الشهادة المشرفة وإن كلفهم ذلك قطع أيديهم.

فقد جاء في تاريخ اليعقوبي كانت الرئاسة والحكومة في قيس، وانتقلت في عدوان، وكان أول من حكم منهم ورأس: عامر بن الضرب، ثم صارت في فزارة، ثم صارت في عبس، ثم صارت في بني عامر بن صعصعة، ولم تزل فيهم(2).

وقال السيد عبد الرزاق المقرم (وقد ظهرت في أبي الفضل الشجاعتان الهاشمية التي هي الأربى والأرقی، فمن ناحية أبيه سيّد الوصييّن، والعامرية فمن ناحية أُمّه أُمّ البنين، فإنّ من قومها أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن کلاب، جدّ ثمامة

ص: 49


1- تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 12
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 227

والدة أم البنين، وهو الجدّ الثاني لأُمّ البنين، قيل له: ملاعب الأسنّة، لفروسيته وشجاعته، لقّبه بذلك حسّان لما رآه يقاتل الفرسان وحده وقد أحاطوا به قال: ما هذا إلاّ ملاعب الأسنة. وقيل: إنّ أوس بن حجر قال فيه:

يلاعب أطراف الأسنّة عامرُ *** فَراح لَهُ حظُ الكِتانِبِ أجمعُ

وهو الذي استعانه ابن أخيه عامر بن الطفيل على منافرة علقمة بن علاثه ابن عوف بن الأحوص، لمّا تفاخرا على أن يسوق كُلّ منهما مائة ناقة تكون لمن يحكم له، ووضع كُلّ منهما رهناً لمن أبناءهم على يد رجل من بني الوحيد، فسمّي الضمين إلى اليوم، وهو الكفيل، ولما استعانه عامر دفع إليه نعليه وقال له: استعن بهما في منافرتك، فإنّي قد ربعت بهما أربعين مرابعاً.

والمرباع: ما يأخذه الرئيس من ربع الغنيمة دون أصحابه، خالصاً لنفسه، وذلك عندما كانوا يغزون في الجاهلية وفي ذلك أنشد الأصمعي:

لك المرباع والصفايا *** وحكم والنشيطة والفضول

وأنشد غيره:

منّا الذي ربع الجيوش لصلبه *** عشرون وهو يعد في الأحياء

وهذان النعلان من مختصات الرئيس التي يخرج بها في الأيام الخاصّة، وإلاّ فلا مزية لهما حتّى يستعين بهما على المنافرة.

ومنهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن کلاب وهو أخو عمرة، الجدّة الأوّلى لأُمّ البنين، كان عامر أسود أهل زمانه، وأشهر فرسان العرب بأساً ونجدة، وأبعدها اسماً، حتّى بلغ أنّ قیصر إذا قدم عليه قادم من العرب قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإنّ ذکر نسباً عظم عنده وأرفده، وإلاّ أعرض عنه.

ص: 50

وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له، قال له قيصر: أنت ابن عمّ عامر بن الطفيل؟ فغضب علقمة، ثُمّ إنّه دخل على ملك الروم فقال له: انتسب؟ فانتسب له، قال الملك: أنت ابن عمّ عامر بن الطفيل؟ فغضب وخرج عنه.

ومنهم عروة الرّحال بن عتبة بن جعفر بن کلاب، والدكبشة، الجدّة الثانية لأُمّ البنين، كان وفّاداً على الملوك، وله قدر عندهم، ومن هنا سُمّي الرحّال، وهو الذي أجاز لطيمة النعمان التي كان يبعث بها كُلّ عام إلى سوق عكاظ، فقتله البراض بن قيس الكناني واستاق العير، وبسببه هاجت حرب الفجار بين حي خندف وقيس.

ومنهم الطفيل، فارس قرزل، وهو والد عمرة، الجدّة الأُولى لأُمّ البنين، كان معروفاً بالشجاعة والفروسية، وهو أخو ملاعب الأسنّة، وربيعة وعبيدة ومعاوية بنو جعفر بن کلاب يقال لأُمهم: أُمّ البنين، وإياها عنى لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن کلاب لما وفد بنو جعفر على النعمان بن المنذر، وكان سميره الربيع بن زياد العبسي، فاتهموه بالسعي عليهم، فلمّا غدوا على النعمان كان معهم لبيد وهو أصغرهم، فرأوا النعمان يأكل مع الربيع فقال لبيد:

يا واهبَ الخير الجزيل من سعة *** نحنُ بنو أُم البنين الأربعة

ونحنُ خيرعامر بن صعصعة *** المطعمون الجفنة المدعدعة

الضاربون الهام وسط الخيضعة *** إليك جاوزنا بلاداً مُسبعة

تخبر عن هذا خبيراً فاسمعه *** مهلاّ أبيتَ اللعن لاتأكل معه

إنّ أُسّته من برص ملمّعة *** وإنّه يُولج فيها إصبعه

يُولجها حتّی يواري اشجعه *** كأنّما يطلب شيئاً ضيّعه

ص: 51

فلم ينكر عليه النعمان ولا أحد من العرب لأنّ لهم شرفاً لا يدافع، ولذلك طرد النعمان الربيع عن مسامرته وقال له:

شرّد برحلك عنّي حيث شنت ولا *** تكثر عليّ ودع عنكَ الأباطيلا

قد قيل ذلك إنّ حقاً وان كذباً *** فما اعتذارك في شيء إذا قيلا(1)

فهذا ما أراده الإمام لولده العباس (عليه السلام) هو أن يتوارث هذا الوليد من أجداده الروح القيادية، المتسمة بالشرف والشجاعة والكرم والجود والصفات النبيلة التي لا بد أن تتواجد في شخصية القائد، كذلك أراد له السمعة الطيبة والصيت الشائع من كلا الجانبين لأن القائد يتصدر مقدمة الجيش لذا لا بد وأن يكون من ذوي البيوتات الطاهرة والسوابق الحسنة.

المطلب الثاني: النشأة القيادية للمولى أبي الفضل (علیه السلام) عن طريق الإكتساب.

نشأ هذا القائد العظيم بين أعظم قادة الدنيا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والذين هم حفظ الله شريعة نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهم الذين اوصى بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمرنا باتباعهم وهم الثقل الثاني، فمن خلال هذه المسألة سوف نبين نشأته القيادية وما اكتسبه هذا القائد من أولئك الحجج الأطهار، فالعباس بن علي فتح عينيه وهو ينظر الى هؤلاء القادة العظام، حتى اكتسب منهم جميع المزايا الحميدة والصفات النبيلة التي حواها أولئك الحجج، فمن خلال هذا البحث سنبين نشأته (عليه السلام) مع من خصهم الله بالسيادة والرياسة والولاية المطلقة. ص: 52


1- قمر بني هاشم، عبد الرزاق الموسوي المقرم، ص 18 - 21. جاء في كتاب الاغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، ج 11، ص 96، قال شاس: (لا تدخلوا على بني عامر؛ فإني أعلم النّاس بهم، قد قاتلتهم وقاتلوني وهزمتهم وهزموني، فما رأيت قوما قطَّ أقلق بمنزل من بني عامر! والله ما وجدت لهم مثلا إلَّا الشّجاع)

المقصد الأول: نشأته مع والده أمير المؤمنين (عليه السلام).

تكلمنا في المسألة السابقة عن النشأة الوراثية للمولى قمر العشيرة، وفي هذه المسألة نتكلم عن نشأته الاكتسابية، فكما قلنا إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يعلم أن الله قد ادخر له قمراً من أبناءه يكون ناصراً للحسين يوم الطف، لذا سعی أمير المؤمنين (عليه السلام) جاهداً الى اختيار الأم الصالحة لهذا الوليد وقد أعطاه الله مراده، ثم بقى الجانب الثاني المهم الذي لا يقل أهمية عن الجانب الوراثي وهو الجانب الاكتسابي.

فلا بد للإمام أن ينشأ هذا الوليد بكيفية خاصة، فللولد حقوق على الوالد، ومن هذه الحقوق: اختيار الام، وتسميته، وتأديبه، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (يجب اللولد على والده ثلاث خصال: اختياره لوالدته، وتحسين اسمه، والمبالغة في تأدیبه)(1).

الحق الأول: (اختيار الأم).

كان سبب اختيار أمير المؤمنين (عليه السلام) أم البنين لأمرين:

الأمر الأول: تأثيرها من حيث الوراثة وقد تحدثنا عن ذلك مسبقا.

الأمر الثاني: تأثيرها من خلال التربية.

فالإنسان يحتاج الى أم طيبة طاهرة يتعلم منها الطفل الحنان والعادات الطيبة، لأن الأم لها الدور الأكبر في تربية الأبناء، كون الأب مكلف بحسب المعاش وباقي المتطلبات الأخرى، لذا اختار الإمام علي لولده العباس أوفي الأمهات وأطيبهن کي يتربى تربية خاصة ويرعی برعاية خاصة فمن أعطي حناناً بطفولته سوف ينعكس عليه ذلك الحنان في كبره.

ص: 53


1- مستدرك سفينة البحار، الشيخ على النازي الشاهرودي، ج 10، ص 443

فأم البنين من النساء الفاضلات التقيات ذوات الصيت الشائع وهي عالمة فاضلة ذات فصاحة وسماحة ونبل، فمجرد أن تكلم الإمام مع أخيه عقيل عن خطوبة امرأة طاهرة أشار عقيل الى أم البنين بدون تفكير او مراجعة حساب، فهذا دليل على الشرف والسمعة الطيبة لهذه المرأة.

فكانت (رضوان الله عليها) تعلم أبناءها كيفية التعامل مع ابناء فاطمة، وان لا ينادوهم بأخي وانما ينادوهم بسيدي.

فالإمام علي اتبع وصايا رسول الله فكان العباس ثمرة تلك الوصایا، فمن وصايا النبي لعلي صلوات الله عليهما: «يا علي حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه، ويضعه موضعا صالحا»(1).

فهذه السيدة الوفية الطاهرة ربت ابناءها على الوفاء والولاء لآل البيت حتى ذاع صيتهم بين الناس فكان عينتهم وقمرهم هذا القائد.

ولكي يكون العباس قائداً وفياً وبطلا شجاعا جعلت أم البنين (رضوان الله عليها) تربيته بين أحضان أبيه وأخيه الحسن والحسين (عليهم السلام) واخته زینب، لأنها تعلم جيداً أنها مهما تحلت بصفات طيبة طاهرة إلا أنها ترى نفسها بسيطة امام أصحاب الكساء ولكن رغم ذلك الإحساس وذلك الشعور الذي ينتابها إلا أنها سعت جاهدة بغرس الوفاء في نفس العباس مع العلم ان العباس ولد وهو منغمس بالطاعة والوفاء والمحبة لآل البيت (عليهم السلام) ولكنها كانت تؤدي دورها وتعبر عن مشاعرها وحبها الصادق للحسين، فالعباس عاش بين خيار الخلق من أب وأم وأخوة وأخوات طاهرات فاضلات وهذا ما جعل منه عظيماً.

ص: 54


1- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 4، ص 371

أما: الحق الثاني: (تحسين الاسم).

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أول ما ينحل أحدكم ولده الاسم الحسن، فليحسن أحدكم اسم ولده)(1).

وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): (أول ما يبر الرجل ولده أن يسميه باسم حسن، فليحسن أحدكم اسم ولده)(2).

فمن خلال هذه الأحاديث الشريفة نفهم أن الاسم له تأثير كبير على المسمى من الناحية النفسية والاجتماعية، فقد يعطي الاسم انطباعاً سلبياً أو ايجابياً، لذا كان من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، فالأب يستطيع أن يعكس هذا الاسم الى الايجاب او السلب، فإن سماه اسماً طيباً سيؤثر على الصبي تأثيراً ايجابياً، وعکس ذلك اذا اختار له اسماً غير مناسب، لذا كان النبي يغير بعض الأسماء التي سميت في الجاهلية، فعن الإمام الصّادق، عن أبيه (عليهما السلام): قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله) يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان)(3).

وعن ابن عمر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير اسم عاصية، وقال: (أنت جميلة)(4).

وفي رواية وفد على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (ما اسمك؟ فقال: بغيض. قال: أنت حبيب، فسماه حبيبا)(5).

ص: 55


1- مستدرك الوسائل، میرزا حسين النوري الطبرسی، ج 15، ص 125
2- الكافي، ج 6، ص 18
3- قرب الاسناد، الحميري القمی، ص 93
4- سنن أبي داود، سلیمان بن الأشعث السجستاني، ج 2، ص 466
5- أسد الغابة، ابن الأثير، ج 1، ص 374

وكان السبب في تسمية العرب اولادهم بهذه الاسماء هو كثرة الحروب فكانت العرب في الجاهلية ترعب خصومها بهذه الاسماء، فعن أحمد بن أشيم عن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: (جعلت فداك لم سموا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد وأشباه ذلك؟ قال: كانت العرب أصحاب حرب فكانت تهول على العدو بأسماء أولادهم ويسمون عبيدهم فرجاً ومباركاً وميموناً وأشباه ذلك يتيمنون بها)(1).

وقد حثت السنة المطهرة على تسمية الصبي أو الصبية بأسماء كأسماء الأنبياء والأوصياء والسيدات الفاضلات الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام).

فقد روي عن السكوني قال: (دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا مغموم مکروب، فقال لي: يا سكوني مما غمك؟ قلت: ولدت لي ابنة فقال: یا سکوني على الأرض ثقلها وعلى الله رزقها، تعيش في غير أجلك وتأكل من غير رزقك، فسری والله عني، فقال لي: ما سميتها؟ قلت: فاطمة، قال آه آه ثم وضع يده على جبهته فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حق الولد على والده إذا كان ذكرا أن يستفره أمه، ويستحسن اسمه، ويعلمه كتاب الله ويطهره، ويعلمه السباحة وإذا كانت أنثي أن يستفره أمها، ويستحسن اسمها، ويعلمها سورة النور، ولا يعلمها سورة يوسف، ولا ينزلها الغرف، ویعجل سراحها إلى بيت زوجها، أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها ولا تلعنها ولا تضربها)(2).

فالإمام (عليه السلام) حينما سمى وليده قمر العشيرة بهذا الاسم كان يعلم جيدة سبب هذه التسمية، قال ابن منظور: (عَبَسَ یَعْبِسُ عَبْساً وعَبَّس: قَطَّب ما بین عینیه، ورجل عابِسٌ من قوم عُبُوس، ویوم عابسٌ وعَبُوسُ: شدیدٌ، والعَنْبَسِیُ من أسماء الأسد أخذ من العُبُوس فالعباس اسم من أسماء الأسد)(3).

ص: 56


1- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص 391
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 49، ح 6
3- لسان العرب، ابن منظور، ج 6، ص 128

وقال الزبيدي: (والعَابِسُ: الأَسَدُ الذِي تَهرُتُ منه الأُسود، وقال ابن الأعرابِيّ: کالعَبُوسِ والعَبّاسِ، قال ابن الأَعرَابِيّ: وبه سُمِّيَ الرجُلُ عَبَّاساً.

والعَبّاسَ: اسم عَلَمٍ، فمَن قال: عَبّاسٌ، فهو يُجزِيه مُجرَی زَیدٍ، ومَن قَال: العَبّاسُ، فإِنَّمَا أَرادَ أَن يَجعَلَ الرجلَ هو الشيءَ بعَينِه، قال ابن جِنِّی: العَبّاسُ وما أَشبهه من الأَوصَافِ الغالِبَة)(1).

فقد اختار أمير المؤمنين (عليه السلام)، اسماً لهذا الوليد الطاهر، وهو لائق بصفاته فالعباس عبوسٌ شديد على الكافرين، رحيم على المكرمين، وقد وصف الله الرسول الأكرم ومن معه بهذا الوصف، قال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ»(2).

وقیل عباس کشداد الأسد الضاري كانت الأعداء ترجف ابدانها وترتعد مفاصلها وتعبس وجوههم خوفا إذا برز اليهم(3).

فالعباس بن علي يمتلك من الشجاعة ما لا يمتلكها إلا المعصومون، لذا سماه الإمام بهذا الإسم وذلك لعلم الإمام بهذا القائد، فكان العدو بمجرد أن يلفظ اسم العباس ترتعد فرائصه خوفا فهذا هو القائد الذي اخبرت به السماء أمير المؤمنين فهو الأخ الناصر والمدّخر للحسين (عليه السلام).

ص: 57


1- تاج العروس الزبيدي، ج 8، ص 349
2- الفتح: 29
3- معالي السبطين، الفصل التاسع، المجلس التاسع عشر، ص 396

الحق الثالث: (المبالغة في تأديبه).

تربى الإمام علي (عليه السلام) في حجر النبي وأخذ منه جميع العلوم ومنها العلوم التربوية، فمن خلال مجالسته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) تعلم منه كيفية بناء الإنسان بناءاً كاملاً منذ صغره حتى بلوغه، فالنبي أدبه الله وعلي أدبه النبي وعلي أديب المكرمين.

عن الإمام علي (عليه السلام) قال: «... یا کمیل إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدبه الله (عز وجل) وهو أدبني وأنا أؤدب المؤمنين وأورث الأدب المكرمين»(1).

فالعباس بن علي أديب الأئمة فقد تربى بين ادباء الله ومن زكاهم الله وهذبهم وبصرهم، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فصار العباس بن علي مهذباً مؤدباً يحمل بين جانبيه جميع المكارم والمحاسن الجميلة.

والإمام (عليه السلام) يعرف جيداً حقوق الابن على الوالد، فقد أدى الإمام جميع هذه الحقوق المترتبة عليه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تجب للولد على والده ثلاث خصال: اختياره لوالدته، وتحسين اسمه، والمبالغة في تأدیبه»(2).

کما تعلم الإمام من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الأخلاق الحميدة فكان يرفع له في كل يوم من اخلاقه علماً حتى صار خُلق علي كخلق محمد (صلى الله عليه وآله) وإلا لما قال عليّ نفسي، وقد ربی أمير المؤمنين (عليه السلام) أبناءه على هذا النحو فكانت تربيتهم تربية محمدية هاشمية علوية منبعها واحد.

ص: 58


1- بحار الأنوار، ج 78، ص 267، مستدرك الوسائل، ج 17، ص 267، مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)، المؤلف: المير جهاني، ج 1، ص 115
2- تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 322

نجد أن العباس بن علي (عليه السلام) لم يقل لأخيه الحسين اخي وإنما يناديه سيدي، إلا حين مصرعه فقد ناداه يا اخي وذلك حينما قطعت يداه وأصابوه بعمد وسقط على المشرعة فحينها ناداه بأخي كانت غاية العباس هو بيان معنى الأخوة.

كذلك من الآداب التي تعلمها المولى ابو الفضل (عليه السلام) عدم الكلام في حضرة اسياده وعدم البدء في كلام وابداء الراي معهم فلم نقرأ في كتب التاريخ أن العباس خالف أخاه أو أبدى له الرأي وهذا دليل على أنه عالم فاضل يعرف من هو الحجة.

ومنذ أن ولد العباس والإمام يخبره أنه مدّخر للطف، كذلك الإمام الحسن والحسين والسيدة زينب فالكل يحشمه ويعطيه دروساً في الوفاء ومثل العباس عالم فطن لا يخفى عليه ذلك، لذا نشأ العباس (عليه السلام) بكيفية خاصة بين قادة عظام هم حجج الله وقادته في أرضه، فضلاً عن اخوانه من أبناء علي محمد ابن الحنفية وغيرهم من أهل بيته، فكل هؤلاء هم أصحاب رایات و قادة عسكريون، ويكفيه أمير المؤمنين فعلي وحده مدرسة قتالية بل مملكة عظيمة لا يضاهيها أحد فلم يذكر التاريخ أن الإمام علياً خسر في معركة، فهذا دليل على حنكته و کیاسته في قيادة الجيش، فالعباس (عليه السلام) فتح عينيه وهو ينظر الى هذا القائد العظيم الحنون فمنذ طفولته كان يعلمه الكثير من الأمور فالقائد يجب ان يكون ذا علم ودراية مع ما يمتلكه من قوة جسمانية لذا كان الإمام ينشأ ولده على هذا المنهاج.

روي في مستدرك الوسائل: (لما كان العباس وزينب - ولدي علي (عليه السّلام) صغيرين، قال علي (عليه السّلام) للعباس: قل: واحدٌ، فقال: واحدٌ، فقال: قل: اثنان. فقال: استحي أن أقول باللسان الذي قلت واحد (اثنان) فقبل علي (عليه السلام) عينيه، وزاد عليه في حاشية الأصل: «ثم التفت إلى زينب، وكانت على يساره، والعباس عن يمينه، فقالت: يا أبتاه أتحبنا؟ قال: نعم يا بنية، أولادنا أكبادنا،

ص: 59

فقالت: يا أبتاه حبان لا يجتمعان في قلب المؤمن: حب الله، وحب الأولاد، وإن كان لا بُدّ فالشفقة لنا، والحب لله خالصاً فازداد علي (عليه السلام) بها حبا)(1).

فالإمام ازداد حباً وبهجة بهذا القائد الفطن لأن من شرائط القيادة في الاسلام العلم والحلم والفطنة، والعلم جامع لهذه الفضائل فلا يتكلم بهذا الكلام إلا عالم عظيم وقد ورد عن المعصومين (عليهم السلام): (إن العباس بن علي زق العلم زقا)(2)، فالعباس منذ صغره كان عالماً وما هذا إلا مؤشر على أنه من المصطفين.

فأمير المؤمنين (عليه السلام) أراد أن يهون على ولده الحسين (عليه السلام) بهذا القمر لما يحدث له يوم الطف من مصاب عظيم، لذا أنشأه بكيفية خاصة.

ففي مسير جيش الإمام وقد مروا بكربلاء قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس: (... والذي نفس علي بيده، لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسم (صلی الله عليه وآله) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض کرب و بلاء، يدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمة، وأنها لفي السماوات معروفة، تذكر أرض کرب و بلاء کما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس. ثم قال: يا ابن عباس، اطلب لي حولها بعد الظباء، فوالله ما كذبت ولا كذبت، وهي مصفرة، لونها لون الزعفران. قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: یا أمير المؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي. فقال علي (عليه السلام): صدق الله ورسوله. ثم قام (عليه السلام) يهرول إليها، فحملها وشمها، وقال: هي هي بعينها، أتعلم - يا بن عباس - ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمها عیسی ابن مریم (عليه السلام)، وذلك أنه مر بها ومعه الحواریون فرأى ها هنا الظباء مجتمعة

ص: 60


1- مستدرك الوسائل میرزا حسين النوري الطبرسی، ج 15، ص 215، خاتمة المستدرك، میرزا حسين النوري الطبرسي، ج 8، هامش، ص 106
2- قمر بنی هاشم، عبد الرزاق الموسوي المقرم، ص 52، اسرار الشهادة، ص 324

وهي تبكي، فجلس عیسی (علیه السلام) وجلس الحواريون معه، فبکی وبکی الحواريون وهم لا يدرون لم جلس ولم بکی. فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أي أرض هذه؟ قالوا: لا، قال: هذه أرض يقتل فيها فرخ الرسول أحمد وفرخ الحرة الطاهرة البتول شبيهة أمي، ويلحد فيها، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلمني وتقول: إنها ترعى في هذه الأرض شوقا إلى تربة الفرخ المبارك، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض، ثم ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمها، وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشیشها، اللهم فأبقها أبدا حتى يشمها أبوه فتكون له عزاء وسلوة، قال: فبقيت إلى يوم الناس هذا، وقد اصفرت لطول زمنها، وهذه أرض کرب وبلاء، ثم قال بأعلى صوته: يا رب عیسی ابن مریم، لا تبارك في قتلته، والمعين عليه، والخاذل له، ثم بکی بکاء طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا، ثم أفاق، فأخذ البعر فصره في ردائه، وأمرني أن أصرها كذلك، ثم قال: يا بن عباس، إذا رأيتها تنفجر دما عبيطا ويسيل منها دم عبيط، فاعلم أن أبا عبد الله قد قتل بها ودفن. قال ابن عباس: فوالله لقد كنت أحفظها أشد من حفظي لبعض ما افترض الله عز وجل علي، وأنا لا أحلها من طرف کمي، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دما عبيطا، وكان كمي قد امتلأ دما عبيطا، فجلست وأنا باك، وقلت: قد قتل والله الحسين، والله ما كذبني علي قط في حديث حدثني، ولا أخبرني بشيء قط أنه يكون إلا كان كذلك، لأن رسول الله (صلى الله علیه و آله) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره، ففزعت وخرجت، وذلك عند الفجر، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين، ثم طلعت الشمس فرأيت كأنها منکسفة، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط، فجلست وأنا باك، فقلت: قد قتل والله الحسين، وسمعت صوتا من ناحية البيت، وهو يقول:

ص: 61

اصبروا آل الرسول *** قتل الفرخ النحول

نزل الروح الأمين *** ببكاء وعويل

ثم بکی بأعلى صوته وبكيت، فأثبت عندي، تلك الساعة، وكان شهر المحرم يوم عاشوراء لعشر مضين منه، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك، فحدثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه، فقالوا: والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة، ولا ندري ما هو، فكنا نرى أنه الخضر (عليه السلام)(1).

فالإمام علي (عليه السلام) كان عارفا بما يجري على ولده الحسين، لذا أراد اله اخا وفيا وأماً طيبة تحب الحسين اكثر من حبها لولدها وقد اعطاه الله ذلك.

ففي رواية يرويها السيد المقرم (نقلا عن کتاب قمر بني هاشم الفارسي، ص 21، ان أم البنين رأت أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الأيام أجَلَس ابا الفضل (عليه السلام) على فخذه وشمَّر عن ساعديه وقبلها وبكي فأدهشها الحال لأنها لم تكن تعهد صبياً بتلك الشمائل العلوية ينظر اليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر ولما أوقفها أمير المؤمنين على غامض القضاء وما يجري على يده من القطع في نصرة الحسين (عليه السلام) بكت و أعولت وشاركها من في الدار في الزفرة والحسرة غير اآن سید الاوصیاء بشرها بمكانة ولدها العزيز عند اللہ جل شأنه وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة کما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب فقامت تحمل بشرى الأبد والسعادة الخالدة)(2).

ص: 62


1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 695 - 696
2- قمر بني هاشم، عبد الرزاق المقرم، ص 28، نقلا عن کتاب قمر بني هاشم الفارسي، ص 21

لم يخيب العباس ظن أبيه فقد صار العباس کاشف الكرب عن وجه الحسين ذلك لما له من صفات تسر الحسين من غيرة ووفاء وصفات لا مثيل لها، فالمعصوم من الصعب أن يرتضي بشخص عادي لأن المعصوم مختلف في علاقته مع الله لذا لا يكشف كربه إلا شخص طاهر قريب من الله يمتلك الكثير من الصفات والمزايا التي تجعله مميزاً.

وكان المولى أبو الفضل (عليه السلام) يعلم أنه مدّخر للطف منذ صغره لذا كان يروض نفسه على تحمل المسؤولية وكانت أم البنين تلاحظ العباس كثيراً لذا صار بهذا الخلق وهذه الصفات.

قال السيد المقرم: (لم تكن كل البصائر في أبي الفضل (عليه السلام) اکتسابية بل كان مجتبلا من طينة القداسة التي مزيجها النور الإلهي حتى تكونت في صلب من هو مثال الحق ذلك الذي لو كشف عنه الغطاء ما ازداد يقينا فلم يصل ابو الفضل (عليه السلام) الى عالم الوجود إلا وهو معدن الذكاء والفطنة وآذان واعية للمعارف الإلهية ومادة قابلة لصوغ الفضائل كلها فاحتضنه حجر العلم والعمل حجر اليقين والایمان وعادت ارومته الطيبة هيكلا للتوحيد يغذیه ابوه بالمعرفة فتشرق عليه انوار الملكوت واسرار اللاهوت وتهب عليه نسمات الغيب فيستنشق منها الحقائق)(1).

ص: 63


1- قمر بنی هاشم، عبد الرزاق المقرم، ص 49

المقصد الثاني: جهاده مع ابيه.

إن معرفته (عليه السلام) بالأمور والأحداث التي ستجري في المستقبل جعل من أمير المؤمنين (عليه السلام) ينشأ أبناءه على حمل السلاح ويصنع منهم قادة كي يبقي الدين عامرا.

فحينما استلم أمير المؤمنين شؤون الدولة، مرقت طائفة ثم خرجت طائفة اخرى فكل تلك الأحداث السياسية والحروب التي جرت قد شهدها العباس مع ابيه وقد شارك مع والده بعض الحروب ومنها حرب صفين وقيل النهروان.

فأمير المؤمنين (عليه السلام) كان يصطحب العباس في تلك المعارك كي يصنع منه بطلا وقائداً لايهاب الموت.

يروى: أنّه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) شاب على وجهه نقاب، تعلوه الهيبة، وتظهر عليه الشجاعة، يقدّر عمره بالسبع عشرة سنة، يطلب المبارزة، فهابه الناس، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء، فقال: إنّ أهل الشام يعدونني بألف فارس، ولكن أرسل إليه أحد أولادي، وكانوا سبعة، وکُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم، فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه، ولمّا برز إليه ألحقه بهم، فهابه الجمع ولم يجرؤ أحد على مبارزته، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه البسالة التي لا تعدو الهاشميين، ولم يعرفوه لمكان نقابه، ولما رجع إلى مقرّه دعاه أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) و أزال النقاب عنه، فإذا هو «قمر بني هاشم» ولده العباس (عليه السلام)(1).

ص: 64


1- قمر بني هاشم، عبد الرزاق المقرم، ص 122، ينظر کتاب الكبريت الأحمر، ص 301

وكان العباس عضداً لأخيه الحسين في تلك المعارك التي خاضوها مع والدهم امير المؤمنين (عليه السلام) فقد حمل العباس مع اخيه الحسين ومجموعة من الأنصار على جيش معاوية حتى أزاحوهم عن مراكزهم وكشفوا الفرات(1).

وكان (عليه السلام) يتعلم من أبيه کيفية ادارة الجيش وبعض خدع الحرب التي لا بد للقائد أن يتعلمها وقد كان أمير المؤمنين يتبادل مع قمر العشيرة الملابس لكي لا يعرفه العدو، جاء في المناقب للخوارزمي أنه (خرج من عسكر معاوية کریب بن أبرهة من آل ابن ذي يزن وكان مهيبا «قويا «يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فيذهب بكتابته فقال له معاوية: ان عليا يبرز بنفسه وكل أحد لا يتجاسر على مبارزته وقتاله، قال كريب: أنا أبرز إليه، فخرج إلى صف أهل العراق ونادی: ليبرز إلى علي، فبرز إليه مرتفع بن وضاح الزبيدي فسأله من أنت؟ فعرفه نفسه فقال: كفؤ کریم وتكافحا فسبقه کریب فقتله ونادى: ليبرز إلي أشجعكم أو علي، فبرز إليه شرحبيل بن بكر وقال لكريب: يا شقي ألا تتفكر في لقاء الله ورسوله يوم الحساب عن سفك الدم الحرام، قال كريب: إن صاحب الباطل من آوى قتلة عثمان ثم تكافحا فقتله کریب، ثم برز إليه الحرث بن الجلاح الشيباني وكان زاهدا صواما قواما وهو يقول:

هذا علي والهدى حقا معه *** نحن نصرناه على من نازعه

ثم تكافحا فقتله كريب فدعا علي (عليه السلام) ابنه العباس، وكان تاما کاملا من الرجال فأمره بأن ينزل عن فرسه وينزع ثيابه، ففعل فلبس علي (عليه السلام) ثيابه وركب فرسه وألبس ابنه العباس ثيابه وأركبه فرسه لئلا يجبن كريب عن مبارزته، فلما همَّ علي بذلك جاءه عبد الله بن عدي الحارثي وقال: يا أمير المؤمنين

ص: 65


1- ينظر، الكبريت الأحمر، ص 301

بحق إمامتك فائذن لي أبارزه، فإن قتلته وإلا قتلت شهيدا بين يديك، فأذن له علي فتقدم إلى كريب وهو يقول:

هذا علي والهدى يقوده *** من خير عيدان قریش عوده

لا يسأم الدهر ولا يؤوده *** وعلمه معاجز وجوده

فتصارعا ساعة، ثم صرعة کریب، ثم برز إليه علي (عليه السلام) متنكرا وحذره بأس الله وسخطه، فقال له كريب: أترى سيفي هذا؟ لقد قتلت به كثيرا مثلك، ثم حمل على علي بسيفه فاتقاه بحجفته، ثم ضربه علي (عليه السلام) على رأسه فشقه حتى سقط نصفين وقال:

النفس بالنفس والجروح قصاص *** ليس للقرن بالضراب خلاص

بيدي عند ملتقى الحرب سيف *** هاشمي يزينه الاخلاص

مرهف الشفرتين أبيض كالملح *** ودرعي من الحديد دلاص

ثم انصرف أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال لابنه محمد: «قف مكاني فإن طالب وتره يأتيك»، فوقف محمد عند مصرع کریب فأتاه أحد بني عمه وقال: أين الفارس الذي قتل ابن عمي؟ قال محمد: وما سؤالك عنه، فانا أنوب عنه، فغضب الشامي وحمل على محمد، وحمل عليه محمد فصرعه، فبرز إليه آخر فقتله حتى قتل من الشاميين سبعة، فأتاه شاب وقال لمحمد: أنت قتلت عمي وإخوتي، فبرزت إليك الأشفي صدري منك أو ألحق بهم؟ وقال: ثم تكافحا مليا فضربه محمد فصرعه)(1)

ص: 66


1- المناقب، الموفق الخوارزمی، ص 227 - 228

فالعباس بن علي كان تاماً كاملاً وكان له من العمر الشريف سبعة عشر عاماً(1)، فلو قاتل ابو الفضل العباس صناديد العرب بهذا العمر الشريف فلا نستغرب من ذلك، فقد سبق وأن قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) أشجع فرسان العرب وهو بهذا العمر.

ومما يؤكد أن العباس شارك مع ابيه في الحروب هو خوف بني امية منه، فلولا أنهم شاهدوا قتاله مسبقاً لما عرضوا عليه الامان في الطف.

فتواجده جنب هذا القائد العظيم علّمه الكثير من الأمور، كذلك استماعه لخطب أبيه التي يأمر بها المقاتلين بالثبات والعض على النواجذ والصبر وعدم الفرار كلها تقوية لعزيمة الجند، والعباس بن علي مع امتلاكه هذه القوة والقدرة والشجاعة حينما يسمع ذلك من ابيه يزداد قوة وبسالة حتى وصل الى حد أنه عُدَّ جيشاً بأكمله ففي هذه المعركة قد استفاد العباس (عليه السلام) من والده أموراً منها:

- فنون الحرب:

فعدم كشف اللثام وتغيير الملابس تعد من الخدع الحربية فالبعض بل الأغلب حينما يرون علياً هو المقبل ينهزمون لذا كان يضع نقاباً كي لا يعرفوه.

كذلك حينما يرون فارساً بهذه الشجاعة ولا يعرفون من هو قد يعتقدون أن هنالك الكثير في جيش الإمام بهذه القوة والبسالة فبهذا تكون معنوياتهم منكسرة مما يساعد على النصر.

وقد فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) الموقف نفسه مع العباس بن الحارث بن عبد المطلب حيث اخذ ثيابه ولبسها وبرز الى العدو.

ص: 67


1- ينظر الكبريت الأحمر، ج 2، ص 300

روي في المناقب ایضاً (أنه برز في اليوم التاسع عشر من أصحاب معاوية عثمان ابن وائل، وكان يعد بمائة فارس وله أخ يسمى حمزة يعدهما معاوية للشدائد وجعل عثمان بن وائل يلعب برمحه وسيفه، والعباس بن الحارث بن عبد المطلب ينظر إليه مع سلیمان بن صرد الخزاعي فقال لسليمان: أنا أبرز إليه وقد نهاني أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي قلبي أني اقتله، فبرز إليه وقال:

بطل إذا غشي الحروب بنفسه *** كانت وحادته كحملة عسكر

بطل إذا أفترت نواجذ وقعة *** حصد الرؤوس كحصد زرع مثمر

فتكافحا مليا، فلم يظفر أحدهما بصاحبه فقال سليمان للعباس: ألا تجد فرصة عليه؟ فقال: فيه شجاعة ثم ضربه بعد ذلك العباس فرمی برأسه ووقف مكانه، فبرز إليه أخوه حمزة فأرسل إليه علي (عليه السلام) فنهاه عن مبارزته وقال له: انزع ثيابك وناولني سلاحك وقف مكاني وأنا أخرج إليه، فتنكر علي وخرج إلى حمزة فظن حمزة انه العباس الذي قتل أخاه، فضربه علي (عليه السلام) فقطع إبطه وكتفه ونصف وجهه ورأسه فتعجب اليمانيون من تلك الضربة وهابوا العباس وبرز إلى علي (عليه السلام) عمرو بن عنبس اللخمي وكان شجاعا «فجعل يلعب برمحه وسيفه، فقال علي (عليه السلام): هلم للمكافحة، فليس هذا وقت اللعب، فحمل عمرو على علي (عليه السلام) حملة منكرة فاتقاها بحجفته ثم ضربه علي وسطه فبان نصفه وبقی نصفه على فرسه فقال عمرو بن العاص: ما هذه إلا ضربة علي فكذبه معاوية فقال له عمرو: قل للخيل تحمل عليه، فإن ثبت مكانه فهو علي بن أبي طالب، فحملوا عليه فثبت لهم ولم يتزعزع ثم حمل عليهم فجعل يقتلهم حتى قتل منهم ثلاثة وثلاثين رجلا، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين لا تتعب نفسك، فقال علي (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكرم الناس على الله تعالى وقد قاتل بنفسه يوم أحد

ص: 68

ويوم حنين ويوم خيبر، ولو أن معاوية وعمرا برزا «إلي لتخلص شيعتي مما يقاسونه، فقال الأشتر: بحق قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فانصرف وأنا أحاربهم اليوم فأذن له علي (عليه السلام) في ذلك فقال الأشتر:

لقيت وفري وانحرفت عن العلى *** ولقيت أضيافي بوجه عبوس

ان لم أشن علی ابن هندغارة *** لم تخل يوما من نهاب نفوس

خيلا كأمثال السعالی شربا *** يعدويبيض في الكريهة شوس

حمى الجديد عليهم فكأنه *** ومضان برق أو شعاع شموس(1).

- حسم الموقف من قبل القائد:

لكي لا يتعرض الجند الى الضعف والانكسار، وكم من معركة قد حسمت على يده (عليه السلام) منها معركة الخندق وخيبر وغيرها، فالقائد الحقيقي هو من يتصدى الى الصعاب وهذا الأمر يذكرنا بموقف العباس حينما منعوا الماء عن الحسين فكان العباس المكلف الأول من قبل الحسين لكشفها، ذلك لعلم الإمام الحسين (عليه السلام) بأنه قادر على حل هذه المشكلة.

فمن ينشأ مع قائد يترقب الشهادة ويعدّها مكرمة وفضيلة لا بعدها فضيلة ينشأ نشاءة مختلفة، فمن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: (إِنَّ أَکْرَمَ اَلْمَوْتِ اَلْقَتْلُ، وَ اَلَّذِی نَفْسُ اِبْنِ أَبِی طَالِبٍ بِیَدِهِ، لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّیْفِ أَهْوَنُ عَلَیَّ، مِنْ مِیتَةٍ عَلَی اَلْفِرَاشِ فِی غَیْرِ طَاعَةِ اَللَّهِ)(2).

ص: 69


1- المناقب، للموفق الخوارزمي، ص 230 - 232
2- نهج البلاغة، الخطبة: 123 ومن كلام له (ع) قاله لأصحابه في ساحة الحرب بصفين، ص 179

فهذا هو القائد الذي نشأ معه قمر العشيرة فقد تعلم العباس من ابيه القيادة الحقيقية، فن المؤكد أن في الحقبة التي عاشها المولى أبي الفضل مع أبيه أمير المؤمنين قد تعلم منه كثيراً من الأمور وأخبره عن الأحداث التي سوف تجري في الطف، وكان يوصيه كثيراً بحب السبطين واتباعهم ومن أهم وصايا أمير المؤمنين لولده العباس أوصاه أنه إذا ملك المشرعة أن لا يشرب الماء وأخوه الحسين عطشان وأوصاه أيضا بكفالة السيدة زينب وحماية الظعينة، لأن أمير المؤمنين عاش هذه الأحداث قبل ولده، فقد دافع أمير المؤمنين عن رسول الله وتكفل حماية حرم النبي وهاجر وجاهد مع رسول الله ولم يفارقه أبداً، فأراد الإمام أن يزرع في قلب العباس روح الوفاء والتضحية والذب عن حرم النبي وأهل بيته.

وللعباس بن علي مكانة عظيمة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد عده الإمام من أبناء فاطمة، كونه أول مولود من أم البنين حظي برعاية السبطين والسيدة زینب، فكانت رعايته خاصة فهو القائد الذي بشر به الإمام وكان يترقبه قبل مجيئه إلى الدنيا، وما ذلك إلا بعلم من الله.

قال الشيخ علي النمازي: (انه كان عند وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) في درجة رفيعة ومقام کریم)(1).

فهذا المقام الذي ناله عند سيد الأوصياء كان عن علم بأن العباس ممن ادخروا النصرة الدين ونصرة سيد شباب اهل الجنة.

جاء في معالي السبطين عن كتاب عدة الشهور: (لما كانت ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان وأشرف علي (عليه السلام) على الموت أخذ العباس وضمه الى

ص: 70


1- مستدرکات علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج 4، ص 350

صدره الشريف وقال: ولدي وستقر عيني بك في يوم القيامة ولدي إذا كان يوم عاشوراء ودخلت المشرعة أياك أن تشرب الماء وأخوك الحسين عطشان)(1).

فالإمام (عليه السلام) يعلم أن العباس كفؤ لا يرتضي أن يشرب الماء لذا قال له ستقر عيني بك، ويعلم ايضا ان الله سبحانه قد ادخر العباس للحسين کما ادخره لرسول الله، وإنما يوصیه حبا بالحسين وما سيجري عليه من ظلم، فقمر العشيرة ورث من ابیه روح الفداء وروح التضحية والايثار وجميع الفضائل والمكارم حتى صار العباس يقارن بأبيه في الشجاعة والبسالة وغير ذلك من الفضائل الأخرى.

المقصد الثالث: نشأته القيادية مع سيدي شباب أهل الجنة.

من أهم الأمور التي اعتمد عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) في بناء شخصية العباس القيادية أنه (عليه السلام) جعل العباس بين يدي ابناء الزهراء كي يكتسب منهم الصفات القيادية فهؤلاء الحجج هم قادة الكون بعد النبي والوصي.

فكلاهما تربى بين أحضان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعلما علومه وورثا منه جميع الصفات الحسنة، فمن ضمن ذلك المخطط الذي رسمه الإمام (عليه السلام) في تهيئة هذا القائد أنه (عليه السلام) جعل العباس يكتسب منهم ويأخذ عنهم تلك العلوم والمعارف ويتعلم منهم كيفية القيادة.

أولاً: نشأته القيادية مع أخيه الحسن بن علي (علیه السلام).

بعد استشهاد سيد الوصيين (عليه السلام) تولى الإمام الحسن قيادة الأمة فكانت الظروف أصعب على المؤمنين حيث بدأ معاوية بإغراء المسلمين بالأموال الطائلة فقد شهد ذلك الزمان الكثير من التقلبات ومن ابرزها أن عبيد الله بن العباس ابن ص: 71


1- معالي السبطين، الفصل التاسع المجلس الحادي والعشرون، ص 411

عم الامام الحسن (عليه السلام)، ومن أبرز قادة جيشه، قد صالح معاوية بعدما اغراه معاوية بأموال طائلة، فكان هذا الحدث أحد الاسباب التي جعلت الامام الحسن يصالح معاوية.

جاء في الإرشاد ان معاوية (أرسل إلى عبيد الله بن العباس يرغبه في المصير إليه، وضمن له ألف ألف درهم، يعجل له منها النصف، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة، فانسل عبيد الله بن العباس في الليل إلى معسكر معاوية في خاصته، وأصبح الناس قد فقدوا أميرهم، فصلى بهم قیس رضي الله عنه ونظر في أمورهم.

فازدادت بصيرة الحسن (عليه السلام) بخذلان القوم له، وفساد نیات المحكمة فيه بما أظهروه له من السب والتكفير واستحلال دمه ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوائله إلا خاصة من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام)(1).

فلوا تأملنا جيداً تلك الأحداث المؤلمة وما جرى على الإمام الحسن (عليه السلام) من مأساة، فالموت اهون على الامام من الصلح مع معاوية ذلك الغادر الفاجر، ولكنه (عليه السلام) اراد بهذا الصلح حقن دماء المسلمين، وبالخصوص تلك الثلة التي كانت مع الحسين يوم عاشوراء من أهل بيته وأصحابه وغيرهم من الأنصار الطيبين الموالين لذا كان الامام الحسن (عليه السام) الممهد لتلك الثورة.

فتلك الحقبة التي عاشها العباس بن علي (عليه السلام) مع اخيه الحسن قد اكسبته من أخيه الكثير من الأمور السياسة، فالقائد لا يكون قائداً إلا وأن يكون له دور سیاسي فبعض الأحداث لا تعالج بالحرب وإنما تعالج بالسياسة، والعباس بن علي (عليه السلام) كان نافذ البصيرة يعرف من هم ابناء فاطمة ويعرف جيداً دوره مع

ص: 72


1- الارشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 13

الامام الحسن (عليه السلام)، فلم نجد أن المولى ابا الفضل قد اعترض على اخيه بكلمة، بل كان عارفا أن ما يقوم به الامام الحسن هو عين الصواب، وقد عرف المسلمون ذلك بعد استشهاد کریم اهل البيت (عليه السلام).

يروى أنه سئل ابن إسحاق متی ذل الناس قال: حيث مات الحسن بن علي عليه السلام(1).

فمن المؤكد أن قيادة الإمام الحسن قد اعطت للعباس بن علي (عليهما السلام) دروساً كثيرة في كيفية القيادة، فلا زال العباس يتهيأ لذلك اليوم، لأن ما یری العباس في يوم العاشر أصعب وأشد من جميع هذه الظروف، فالصبر على المصاب وتجرع الغصص والنكبات مع اخوته، و تحمل کلام الشامتين والمنافقين والجهلاء واستيعاب الناس ومدی خساستهم وتعديهم على بيت الرسالة، وكل ما يمر به الإمام الحسن سوف يحدث في عاشوراء بل تزداد قساوة الأمويين فلا بد من تهيئة النفس لتلك المواقف الأشد والأصعب، لكي يؤدي العباس دوره القيادي الكامل وأن يوضح للناس معنى التضحية والفداء في سبيل الدين، وكشف نوايا الأمويين.

فقد تحمل العباس تلك الظروف الصعبة والقاسية مع اخيه الحسن حتى دُسَّ السم الى کریم أهل البيت فكان ذلك الحدث من أعظم المصائب وأفجعها عليه بعد مقتل أبيه أمير المؤمنين.

ثانياً: نشأته القيادية مع أخيه الحسين بن علي (علیه السلام).

حينما دس السم الى الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) اوصى أخاه الإمام الحسين ان يدفنه في البقيع كي لا تشب الفتنة لأن الإمام الحسن (عليه السلام) كان

ص: 73


1- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، السيد علي خان المدني الشيرازي، ص 429

يعرف جيداً نوايا بني امية فلا تخفى عنه تلك المكائد(1).

ص: 74


1- ففي رواية تروى عن عبد الله بن إبراهيم عن زياد المخارقي قال: (لما حضرت الحسن (عليه السلام) الوفاة استدعى الحسين بن علي (عليهما السلام) فقال: «يا أخي، إني مفارقك ولاحق بربي (عز وجل) وقد سقيت السم ورمیت بكبدي في الطست، وإني لعارف بمن سقاني السم، ومن أين دهیت، وأنا أخاصمه إلى الله تعالى، فبحقي عليك إن تكلمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يحدث الله عز ذكره في، فإذا قضيت فغمضني وغسلني وكفني واحملني على سريري إلى قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وآله لأجدد به عهدا، ثم ردني إلى قبر جدتي فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها فادفني هناك. وستعلم يا ابن أم أن القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيجلبون في منعكم عن ذلك، وبالله أقسم عليك أن لا تهريق في أمري محجمة دم «ثم وصى (عليه السلام) إليه بأهله وولده وتركاته، وما كان وصى به إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) حين استخلفه وأهله لمقامه، ودل شیعته على استخلافه و نصبه لهم علما من بعده. فلما مضى (عليه السلام) لسبیله غسله الحسين (عليه السلام) و كفنه وحمله على سريره، ولم يشك مروان ومن معه من بني أمية أنهم سيدفنونه عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتجمعوا له ولبسوا السلاح، فلما توجه به الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى قبر جده رسول الله (صلى الله علیه و آله) ليجدد به عهدا أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: مالي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب، وجعل مروان يقول: يا رب هيجا هي خير من دعة أيدفن عثمان في أقصى المدينة، ويدفن الحسن مع النبي؟! لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف. وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أمية، فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت، فإنا ما نريد (أن ندفن صاحبنا) عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكنا نريد أن نجدد به عهدا بزيارته، ثم نرده إلى جدته فاطمة (عليها السلام) فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان وصی بدفنه مع النبي (صلى الله عليه وآله) لعلمت أنك أقصر باعا من ردنا عن ذلك، لكنه (عليه السلام) كان أعلم بالله ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما کما طرق ذلك غيره، ودخل بيته بغير إذنه. ثم أقبل على عائشة فقال لها: وا سوأتاه! يوما على بغل ويوما على جمل، تريدين أن تطفئي نور الله، وتقاتلين أولياء الله، ارجعي فقد كفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين، والله تعالى منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين) الارشاد، ج 2، ص 17-18

فلولا وصية سيد شباب أهل الجنة لكان يوم الطف ذلك اليوم، ولأراهم قمر العشيرة يوما عبوسا يتذكره بنو امية الى ابد الآبدين، ولكن العباس منقاد الى قادته وسادته ابناء فاطمة (عليهم السلام)، فالمشيئة الالهية اقتضت ان تؤجل الطف.

فكانت قيادة الإمام الحسن (عليه السلام) عشر سنين حتى استلم الإمام الحسين القيادة فحذا حذو اخيه، فلم يجعل الفتنة تشب واستمر الإمام الحسين بمنهاج اخيه الحسن حتى هلك معاوية.

هنا تغير الحال فيزيد (عليه اللعنة) شارب الخمر وملاعب القردة قد حكم وجهر بالكفر فمثل الحسين بن علي لا يبايع من هو معلن الفساد.

روی این شهر اشوب: (لما مات معاوية كتب يزيد إلى الولید بن عقبة بن أبي سفيان بالمدينة يأخذ البيعة من هؤلاء الأربعة أخذا ضيقا ليست فيه رخصة فمن تأبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه، فأحضر الوليد مروان وشاوره في ذلك فقال: الرأي أن تحضرهم وتأخذ منهم البيعة قبل ان يعلموا، فوجه في طلبهم وكانوا عند التربة فقال عبد الرحمن وعبد الله: ندخل دورنا ونغلق أبوابنا، وقال ابن الزبير: والله ما أبایع یزیدا ابدا، وقال الحسين بن علي (عليه السلام): أنا لا بد لي من الدخول على الوليد وأنظر ما يقول، ثم قال لمن حوله من أهل بيته: إذا انا دخلت على الوليد وخاطبته وخاطبني وناظرته وناظرني كونوا على الباب فإذا سمعتم الصيحة قد علت والأصوات قد ارتفعت فاهجموا إلى الدار ولا تقتلوا أحدا ولا تثيروا الفتنة، فلما دخل عليه وقرأ الكتاب قال: ما كانت أبايع ليزيد، فقال مروان: بايع لأمير المؤمنين، فقال الحسين: كذبت ويلك على المؤمنين من أمره عليهم؟ فقام مروان وجرد سيفه وقال: مر سیافك ان يضرب عنقه قبل ان يخرج من الدار ودمه في عنقي، وارتفعت الصيحة فهجم تسعة عشر رجلا من أهل بيته

ص: 75

وقد انتضوا خناجرهم فخرج الحسين معهم ووصل الخبر إلى يزيد فعزل الوليد وولاها مروان)(1).

فمن المؤكد أن العباس بن علي كان أول المقتحمين لنجدة اخيه الحسين بن علي، ونلاحظ ان العباس لا زال مقيداً من قبل الامام حتى في هذه الظروف الصعبة، وإلا مثل مروان وأمثال مروان (عليهم لعائن الله) لا يوقفون العباس، والدليل أنه (عليه السلام) أخرج الحسين بدون حدوث اي نزال فقد أجبرهم على السكوت وتقبل الأمر.

فبنو أمية قد توعدوا بقتل ابن بنت رسول الله وإن كان في بيت الله الحرام، وهذا ما قاله الإمام الحسين لابن عباس حينما اعترضه بعدم المسير الى العراق: (هيهات [هيهات] یا بن عباس إن القوم لا يتركوني وإنهم يطلبوني أين كنت حتى أبايعهم کرها ويقتلوني، والله لو كنت في حجر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني، والله إنهم ليعتدون علي كما اعتدى اليهود في يوم السبت واني في أمر جدي رسول الله حيث أمرني وإنا لله وإنا إليه راجعون)(2).

ومنها قال له: (لأن أقتل في أي مكان من الأرض أحب إلي من أن أقتل هنا فيستباح البلد الحرام بسببي)(3).

ص: 76


1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر اشوب، ج 3، ص 240، وفي رواية (ثم صار الحسين بن علّي (عليهما السلام) إلى منزله، ثمّ دعا بماء، فلبس وتطهّر بالماء، وقام فصلى ركعتين، ودعا ربّه بما أحبّ في صلاته؛ فلمّا فرغ من ذلك أرسل إلى فتيانه وعشيرته ومواليه وأهل بيته فأعلمهم بشأنه، ثمّ قال: کُونُوا بِبابِ هذَا الرَّجُلِ فَإِنی ماضٍ إلَیهِ وَ مُکَلِّمُهُ، فَإنْ سَمِعْتُمْ أَنَّ صَوْتِی قَدْ عَلا، وَ سَمِعْتُمْ کَلامی وَ صِحْتُ بِکُمْ؛ فَادْخُلُوا یا آلَ الرَّسُولِ! وَاقْتَحَمُوا مِنْ غَیرِ إذْنٍ، ثُمَّ اشْهَرُوا السُّیوفَ وَلاتَعْجَلُوا، فَإِنْ رَاَیتُمْ ما تَکْرَهُونَ فَضَعُوا سُیوفَکُمْ، ثَمَّ اقْتُلُوا مَنْ یریدُ قَتْلی) الفتوح أحمد ابن اعثم الكوفي، ج 5، ص 13
2- مدينة المعاجز، السيد هاشم البحراني، ج 3، ص 435
3- شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج 33، ص 597

فلما وصل الأمر إلى هذا الحد بنوایا بني امية قام العباس (عليه السلام) فيهم خطيبا.

فقد جاء في تقويم الشيعة (في هذا اليوم سنة 60 ه خرج مولانا الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة الى كربلاء بيوم صعد قمر بني هاشم (عليه السلام) فوق البيت وقال: (الحمد لله الذي شرف هذا بقدوم ابيه من كان بالأمس بيتاً أصبح قبله، أيها الكفرة الفجرة! أتصدون طريق البيت لإمام البررة، من هو أحق به من سائر البرية؟ من هو أدنی به؟ ولولا حكم الله الجلية واسراره العلية واختباره البرية لطار البيت إليه قبل أن يمشي لديه، قد استلم الناس الحجر والحجر يستلم يديه ولو لم تكن مشيئة مولاي مجبوله من مشية الرحمن، لوقعت عليكم كالصقر الغضبان على عصافير الطيران، اتخوفون قوما يلعب بالموت في الطفولة فكيف كان في الرجولية ولفديت بالحامات السيد البريات دون الحيوانات.

هيهات فانظروا ثم انظروا ممن شارب الخمر وممن صاحب الحوض والكوثر؟ وممن في بيته الغواني السكران وممن في بيته الوحي والقران؟ وممن في بيته اللهوات والدنسات وممن في بيته التطهير والآيات؟ هیهات وانتم وقعتم في الغلطة التي قد وقعت فيها قریش لأنهم ارادوا قتل رسول الله (صلى الله عليه واله) وانتم تريدون قتل ابن بنت نبيكم، ولا يمكن لهم مادام أمير المؤمنين (صلى الله عليه واله) حيا وكيف يمكن لكم قتل ابي عبدالله الحسين (عليه السلام) ما دمت حیا سليلا؟ تعالوا اخبرکم بسبيله بادورا قتلي واضربوا عنقي ليحصل مرادكم لابلغ الله مدارکم وبدد اعماركم واولادکم ولعنة الله عليكم وعلى اجدادكم)(1).

ص: 77


1- تقویم الشيعة، عبد الحسين النيشابوري، ص 424، نقلا عن خطیب کعبة لعلي أصغر یونسیان، نقلا عن مناقب السادة الكرام لعين العارفين الهندي

فوجود أبي الفضل العباس الى جانب الإمام (عليه السلام) يعني وجود حاجز كبير يجب تخطيه كي يصل العدو الى مراده فهذا الكلام بمثابة انذار لبني امية وقد اثبت العباس كلامه (عليه السلام).

ففي رواية (أن العباس لما رأى وحدته عليه السلام أتی أخاه وقال: يا أخي هل من رخصة؟ فبكى الحسين عليه السلام بكاء شديدا ثم قال: يا أخي أنت صاحب لوائي وإذا مضیت تفرق عسكري)(1).

فالإمام الحسين (عليه السلام) يؤكد كلام المولى ابي الفضل بأن وجود قمر العشيرة یعنی بقاء معسكر الإمام، فهذه الراية التي تتوسط معسكر الحسين الخفاقة في کربلاء تعني الأمان.

فبعد مصرع أبي الفضل العباس روي أن الحسين بن علي قال (عليه السلام): (جَزاكَ اللهُ مِنْ أخ خَیْراً، لَقَدْ جاهَدْتَ فِی اللهِ حَقَّ جِهادِهِ.

وصرخت زینب وقالت: وا أخاه! واعبّاساه! وا قلّة ناصراه! وا ضيعتاه من بعدك! فقال الحسين (عليه السلام): إي، وَاللهِ! مِن بَعدِهِ وا ضَيعَتاه! وا انقِطاعَ ظَهراه! فجعل النساء يبكين ويندبن علیه، ویکی الحسين (عليه السلام)، وأنشأ يقول:

أخي يا نُورَ عَيني يا شَقيقي *** فَلي قَد کُنتَ كَالرُّكنِ الوَثيقِ

أَيا ابنَ أَبي نَصَحتَ أَخاكَ حَتّى *** سَقاكَ اللهُ كَأساً مِن رَحيق

أَيا قَمَراً مُنيراً کُنتَ عَوني *** عَلى كُلِّ النَّوائِبِ فِي المَضيقِ

فَبَعدَكَ لا تَطيبُ لَنا حَياةٌ *** سَنُجمَعُ فِي الغَداةِ عَلَى الحَقيقِ

اَلا لِلّهِ شَكواني وَصَبري *** وَما أَلقاهُ مِن ظَمأ وَضيق(2).

ص: 78


1- بحار الانوار، ج 45، ص 41
2- المصدر نفسه، ص 399

وفي رواية أخرى (أنّ العبّاس بن عليّ (عليه السلام) كان حامل لواء أخيه الحسين (عليه السلام)، فلمّا رآی جمیع عسكر الحسين (عليه السلام) قتلوا وإخوانه وبني عمّه، بکی وأنّ إلى لقاء ربّه، إشتاق وحنّ، فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين (عليه السلام)، وقال: يا أخي! هل رخصة؟ فبكى الحسين (عليه السلام) بكاءً شديداً حتّى ابتلّت لحيته المباركة بالدموع، ثمّ قال: يا أَخي! كُنْتَ الْعَلامَةَ مِنْ عَسْكَري، وَ مُجْمَعَ عَدَدِنا، فَإِذا أَنْتَ غَدَوْتَ يَؤُلُ جَمْعُنا إِلَى الشِّتاتِ، وَ عِمارَتُنا تَنْبَعِثُ إِلَى الْخَرابِ)(1).

فهذا هو القائد الذي ادخره أمير المؤمنين (عليه السلام) ليوم الطف، فقد أبلى العباس بلاءً حسنا حتى شهد له أئمة کرام بذلك المجهود الكبير.

المطلب الثالث: الشروط القيادية المتوافرة في شخصية قمر العشيرة.

كان العباس کاشف کرب اخيه الحسين، والمحامي عن عياله، والذاب عن حرمه، قد توافرت في شخصيته جميع المؤهلات القيادية التي أوصى بها الإمام علي مالك الأشتر، فمن كلام له (عليه السلام) لمالك الاشتر قال فيه: «.. فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ، أَنْصَحَهُمْ فِى نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ، وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَ لايَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ، ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِى الْأَحْسَابِ، وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ ، وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ»(2).

ص: 79


1- المنتخب، ص 287؛ معالي السبطين، الفصل التاسع، المجلس العشرون، ص 402
2- الكتاب: 53، في عهده الى الاشتر النخعي، ص 433

فلو اتينا الى هذه الشروط التي ذكرها الامام مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) واستعرضناها في شخصية أبي الفضل العباس (عليه السلام) سنجدها مطابقة طبق الأصل مع قمر العشيرة لذا اتبع الامام الحسين وصايا ابيه في اختيار القائد.

المقصد الأول: (النصح).

قوله (عليه السلام): «فَوَلَّ مِنْ جُنُودِكَ، أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلاِمَامِكَ».

نصح: نَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ، والناصحُ: الخالص من العسل وغيره، وكل شيءٍ خَلَصَ، فقد نَصَحَ(1).

ومن المجار قولُهم رجُلٌ ناصحُ الجَيبِ: نَقِيُّ الصَّدرِ ناصِحُ القلب، لا غشَّ فيه، والنُّصحُ: الاجتهادُ في المَشُورَةِ، وقد يستعار فيقال: فلانٌ ناصحُ الجَيبِ، أَي ناصِحُ القَلبِ، ليس في قَلبه غِشٌّ، وقيل: ناصحُ الجَيبِ مثل قولهم: طاهرُ الثَّوب(2).

فالنصح يعني الإخلاص، والاخلاص نقيض الغش، وعلى هذا الأساس اختار الإمام الحسين (عليه السلام) أنصح أهل بيته وأصحابه.

وقد جاء في زيارة المولى ابي الفضل التي تروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في حق عمه العباس: «اشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة الخلف النبي المرسل»(3).

فالعباس بن علي نصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين ولفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) بل بالغ في النصيحة.

ص: 80


1- لسان العرب، ج 2، ص 615
2- تاج العروس، ج 4، ص 231
3- کامل الزیارات، جعفر بن محمد بن قولویه، ص 440

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في الزيارة نفسها: «و أشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود».

فقد بالغ قمر العشيرة في نصحه وجهاده حتى نال رضا الله والمعصومين (عليهم السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من ضمن لي خمسا اضمن له الجنة: النصيحة لله عز وجل والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله، والنصيحة لجماعة المسلمين)(1).

وقال الصادق في الزيارة نفسها ايضاً: «اشْهَدُ لَقَدْ نَصَحْتَ للَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَخیكَ فَنِعْمَ الْأَخُ الْمُواسی»، فقد شهد لمجهود العباس في النصح أئمة کرام وحجج أطهار، قال تعالى: «إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ»(2)، ويعني النصح لله الطاعة له سبحانه والاخلاص في عبادته وتجنب نواهيه، والدعوة اليه في السر والعلانية .

ومن نصح نفسه ونصح الاخرين كان أعظم الناس عند الله، ومن الأحاديث الشريفة الأخرى التي تبين فضل المناصحة قوله (صلى الله عليه وآله): «إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه»(3).

والناصح يكون ذا نفع لذا صار من خيار الناس لأنه يدعو الى ترك الباطل والاستقامة والحرص على عمل الخير لذا صار أحب الخلق إلى الله سبحانه.

عن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: قال الله (عز وجل): «أحب ما تعبد لي به عبدي النصح لي»(4).

ص: 81


1- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 424
2- التوبة: 91
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 16، ص 382، ح 5
4- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، عبد العظيم المنذري، ج 2، ص 577

فهذا هو نهج الأنبياء والأولياء والصالحين فهم أنصح العباد، والعباس بن علي قد سار على نهج الحق فكان (عليه السلام) من أنصح العباد.

تنقسم المناصحة الى قسمين:

- مناصحة قولية:

وقد ورد أن العباس بالغ في النصيحة وأعطى غاية المجهود لأنه (عليه السلام) لم يترك حجة على القوم فقد نصح الناس وبالغ في نصحهم وقد ذكرنا تلك الخطبة الرائعة التي خطبها المولى أبو الفضل في بيت الله الحرام حيث بين فيها منزلة الإمام وعظمته وضلال يزيد وزمرته.

ولما أراد القوم أن يهجموا على معسكر الإمام ارسله الإمام الحسين ليتفاوض معهم، وهذا ايضا شاهد على أنه (عليه السلام) من الناصحين لله ولرسوله وأهل بيته.

كذلك حينما أراد العباس (عليه السلام) أن يستقي للحسين وعياله الماء، فحينما وصل العلقمي قام بنصحهم وتذكرتهم، فلم يزيدهم نصحه الا تعنتاً لأن الله طبع على قلوبهم وسمعهم وابصارهم فهم لا يفقهون كلام المولى.

ولم يبرز من معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) من أصحاب الإمام أو من أهل بيته الا ونصح القوم، قال تعالى: «وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(1)، فكل هذه المناصحة تسمى مناصحة قولية.

ص: 82


1- هود: 34

- المناصحة الفعلية:

أما المناصحة الفعلية، فكان للعباس دور كبير منها أنه (عليه السلام) لم يرتضِ بأمان ابن زیاد، كذلك مآثره، كتقديم اخوته للقتال وتضحيته و كل ما جرى على ابي الفضل من مصائب تسمى مناصحة فعلية.

المقصد الثاني: (نقاوة الجيب).

قوله (عليه السلام): «وَأَنْقَاهُمْ جَیْباً»:

أي أطهرهم جيبا(1).

فمن الشرائط الأخرى التي توافرت في شخصية ابي الفضل نقاوة الجيب، ويعني أنقاهم جيباً، أي انقاهم مالاً، وهذا لا شك فيه فأبوه ممن شهد في حقه المخالفون في قسمته بیت المال والمساواة بينهم إذ كان أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة المسلمين إلا انه يأكل الخبز والملح ويعتق المملوك من کدیده، وكان يتوسد الحجر وينام وهو جائع فهذا دليل على امانته وعفته.

والعباس بن علي تربي بحجر هذا القائد وهذا الخليفة الذي شهد بحقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو خير الخلق بعده.

فهؤلاء الطيبون الطاهرون بعيدون كل البعد عن الشبهات فلا تشتبه عليهم الأمور فهم أصحاب بصائر يعرفون الحلال من الحرام ولا تختلط عليهم الأمور لذا اختارهم الله وفضلهم على سائر خلقه.

وليس يعني نقاوة الجيب نقاوة المال فقط، وإنما تشمل نقاوة السرائر فحينما نقول عن السيدات الفاضلات کالزهراء وزينب وام البنين وسائر النساء الطاهرات انهن

ص: 83


1- توضیح نهج البلاغة، السيد محمد الحسيني الشيرازي، ج 4، ص 161

(نقيات الجيوب) أي أنهن طاهرات من دنس الشيطان، فالعباس بن علي كان طاهراً غيوراً نقيا تقياً ورعاً له من البصيرة ما يجعله معصوماً.

المقصد الثالث: (الحلم).

قوله (عليه السلام): «وَ أَفضَلَهُم حِلماً مِمّن يُبطِئُ عَنِ الغَضَبِ وَ يَستَرِيحُ إِلَي العُذرِ»:

جاء في اللغة: (الحليم: من أسمائه تعالى وهو الذي لا يستفزه الغضب، وحلم يحلم حلما - بضمتين وإسكان الثاني للتخفيف، إذا صفح وستر، فهو حليم، وذوو الأحلام والنهي: ذوو الأناة والعقول)(1).

فالعباس بن علي كان حليما رشيداً لا يغضب إلا لله ولا يتسرع في شيء، ورغم قوته وصلابته كان يتبع أمر اخيه الحسين، ذلك بأشد الأزمات والمواقف، ومن تلك المواقف الصعبة التي مرت على المولى ابي الفضل التي تبين حلمه (عليه السلام) یوم دفن أخيه الامام الحسن بن علي (عليهما السلام)، فالعباس باستطاعته ان يدفن الامام الحسن (عليه السلام) عند قبر النبي ولكن حلمه واتباعه لوصية اخيه دفعانه الى تقبل الامر.

والأكثر من ذلك يوم عاشوراء وتلك المأساة التي حدثت، وجور بني أمية إلا أن العباس لم يتصرف تصرفا إلا وكان الحسين يأمره بذلك، فمن هنا يتضح لنا مدى حلم العباس وصبره وتقاته وادراكه للأمور ورجاحة عقله، فهو من قوم لا تاخذهم في الله لومة لائم فتلك الصفات الطاهرة أهلته الى أن يكون القائد الأول في جيش الامام الحسين والمستشار لديه، فالإمام المعصوم لا يستشير إلا من ذوي الخبرات واصحاب البصائر.

ص: 84


1- مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي ، ج 6، ص 49

فقد ساهم العباس بن علي (عليهما السلام) في انجاح تلك الثورة وكشف نوايا الأمويين، لأن الحسين اراد بتلك التضحيات كشف الستار للناس وفضح الخلفاء الفاسدين والممهدين لتلك الحكومة الأموية الضالة المضلة.

المقصد الرابع: (الرأفة بالضعفاء والشدة على الأقوياء).

قوله (عليه السلام): «وَ يَرأَفُ بِالضّعَفَاءِ وَ يَنبُو عَلَي الأَقوِيَاءِ».

وهذه سجية العباس كان يرأف بالصغير والكبير، وهو ساقي العطاشی، حيث كان موضع اطمئنان النساء والاطفال، ولرأفته وعطفه جعله الحسین کافل عياله وحرمه.

فللعباس بن علي (عليهما السلام) سمات يعرفها كل مؤمن ومؤمنة، فكان النساء والأطفال وكل المخدرات تطمئن حينما ترى العباس لأن النساء تعرف جيداً أن العباس بن علي غيرة الله في ارضه و تعرف شهامته وعطفه.

وفي المقابل نجد أن العدو يراه غضبة الله وصاعقته، وهذه الصفات قد ورثها واكتسبها المولى من أبيه أمير المؤمنين واخوته من أبناء فاطمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، فالإمام علي كان عطوفاً على الضعفاء(1) شديداً على الأقوياء يلاعب

ص: 85


1- يروى أن أمير المؤمنين (عليه السلام): (نظر إلى امرأة على كتفها قربة ماء فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك علي صبیانا يتامى وليس عندي شيء فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس فانصرف وبات ليلته قلقا، فلما أصبح حمل زنبیلا فيه طعام فقال بعضهم: اعطني أحمله عنك، فقال: من يحمل وزري عني يوم القيامة، فأتی و قرع الباب فقالت من هذا؟ قال أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة فافتحي فإن معي شيئا للصبيان فقالت: رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال: اني أحببت اکتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين الصبيان لأخبز أنا، فقالت أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ولكن شأنك والصبيان فعللهم حتى أفرغ من الخبز، فعمدت إلى الدقيق فعجنته وعمد علي إلى اللحم فطبخه وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال له: يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما مر في امرك، فلما اختمر العجين قالت: يا عبد الله سجر التنور، فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول: ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الأرامل واليتامی، فرأته امرأة تعرفه فقالت ويحك هذا أمير المؤمنين، قال فبادرت المرأة وهي تقول وا حيائي منك يا أمير المؤمنين، فقال بل وا حيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في امرك. (مناقب آل ابي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 382

اليتامى، يراه اليتيم فيطمئن، ولكن حينما يراه المحارب يرتعد ويشعر بعدم الاطمئنان وكأن الموت مقبل عليه.

كذلك العباس بن علي اتصف بهذه الصفات، فعلى الرغم من أن الفرار عار عند العرب الا أن الفرار من علي لا يعد عندهم عاراً، كذلك الأمر ينطبق مع ولده العباس فمن يفر منه لا يعاتب ولا يعير فالكل يهابه.

فيا عجباً لهذه النفوس وهذه القلوب التي تمتلك هذه القوى فهذه القلوب تتقلب لمرضاة الله، تارة رحيمة وتارة شديدة فهذه هي صفات الاولياء والصديقين والصالحين، فهم رحماء فيما بينهم أشداء على الكافرين.

جاء في تفسير القمي، عن معنى قوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ»(1)، فهذه صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التوراة والإنجيل وصفة أصحابه فلما بعثه الله (عز وجل) عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله، (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فكانت اليهود تقول للعرب قبل مجيء النبي (صلى الله عليه وآله) أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة ويكون مهاجرته بمدينة وهو آخر الأنبياء وأفضلهم في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة يلبس الشملة ويجتزئ بالكسرة والتمرات،

ص: 86


1- الفتح: 29

ویرکب الحمار العري، وهو الضحوك القتال يضع سيفه على عاتقه، ولا يبالي من لاقي يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر، لنقتلنكم به یا معشر العرب قتل عاد)(1).

وكان أمير المؤمنين بكاءً في المحراب ضحاكاً عند النزال وهذه الصفة توارثها العباس من أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال السيد جعفر الحلي:

عَبَسَت وُجوهُ القَومِ خَوفَ المَوتِ وال *** عبّاسُ فيهم ضاحِكٌ مُتَبَسِّمُ

قَلَبَ اليَمينَ على الشِّمالِ وغاصَ في ال *** اوساطِ يَحصُدُ للرؤوسِ ويَحطِمُ

بَطَلٌ تورَّثَ مِن أبيه شَجاعَةً *** فيها اُنوفُ بني الضَّلالَةِ تُرغَمُ

أوتشتكي العطش الفواطم عنده *** وبصدرِ صعدته الفراتُ المفعم

في كفِّه اليسري السقاءُ يقلهُ *** وبكفِّه اليمنى الحسامُ المخذم(2).

المقصد الخامس: (عدم اثارة العنف).

قوله (عليه السلام): «وَ مِمّن لَا يُثِيرُهُ العُنفُ وَ لَا يَقعُدُ بِهِ الضّعفُ».

إن ما ذكرناه من أمر المناصحة والمبالغة في النصح، خير دليل على أن العباس لا يريد القتال ولم يكن ذلك بضعف منه وإنما اتباعه لمشيئة الرحمن والتأسي بالحجج وهذه الصفة من شيم الشجعان فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يبدأ بقتال كذلك امير المؤمنين وقد شهدنا مواقف الإمام الحسن وما مر به من ظروف صعبة فلم يأمر أصحابه بالقتال، وقد سار على نهجه الحسين بن علي، ففي رواية يرويها المجلسي، (نادی شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين أتعجلت بالنار قبل

ص: 87


1- تفسير القمي، ج 1، ص 33
2- مجمع مصائب أهل البيت، ج 1، ص 315، للشاعر المرحوم السيد جعفر الحلي، المتوفي: 1315

يوم القيامة؟ فقال الحسين (عليه السلام): من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن؟ فقالوا: نعم، فقال له: يا بن راعية المعزى أنت أولى بها صليا، ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين عليه السلام من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه فإن الفاسق من أعداء الله و عظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه، فقال له الحسين (عليه السلام): لا ترمه فاني أكره أن أبدأهم بقتال)(1).

فعدم بدء القتال لا يعني الخوف من العدو وإنما يكره الامام أن يبدأ القتال، فمن حكمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) قالها لولده الحسن (عليه السلام): «لاتَدْعُوَنَّ إِلى مُبَارَزَةٍ، وَ إِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ، فَإِنَّ الدَّاعِىَ بَاغٍ، وَ الْبَاغِى مَصْرُوعٌ»(2).

ومن وصاياه (عليه السلام) لمالك الاشتر قال: «يا مالك لا تبدأ القوم بقتال حتى يبدؤوك، واعذر إليهم، واجعل الحجة عليهم»(3).

نفهم من كلامه (عليه السلام) أن كل من يدعو الى نزال فهو مصروع لا محالة، الأمر الثاني إلقاء الحجة على من يبدأ القتال، فعلي بن ابي طالب كان يتبع نهج القرآن وما أمر به النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله).

قال تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»(4).

وقوله تعالى: «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»(5).

ص: 88


1- بحار الانوار، ج 45، ص 5
2- الحكمة: 233
3- الدر النظيم، يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي، ص 355
4- البقرة: 190
5- البقرة: 194

فالله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين، والعباس بن علي معروف في طاعته وامتثاله لله وللحجج، فلم يبدأ قمر العشيرة في قتال ولو أراد أن يبدأ لبدأ مع جيش الحر ابن يزيد الرياحي الذي ارسله عبيد الله بن زیاد (عليه اللعنة) فكان ذلك العدد ایسر عليه من ذلك الجيش ولكن قمر العشيرة منقاد لأئمته.

وعلى الرغم من شجاعة المولى أبي الفضل (عليه السلام) الفائقة إلا أنه لم يظهرها للناس، حتى في قتاله مع أبيه في صفين كان يضع نقابا على وجهه فهذا الأمر يكشف لنا أن العباس (عليه السلام) لا يريد أن يظهر قوته للناس وإنما جهاده كان لله، والعباس ليس بضعيف بل هو غضبة الله وصاعقته على الكافرين ولكن رغم ذلك كان ممن يبطئ الغضب وحاشا لأبي الفضل ان يغضب عبثاً وإنما كان غضبه لله، وهذه الصفة كانت متواجدة في شخصية الحمزة بن عبد المطلب فكان صاحب حمية وهذه الحمية كانت ممدوحة عند الأئمة كونها خالصة لله ولرسوله.

فبنو هاشم من صفاتهم أنهم أهل كرم وجود وشجاعة فائقة وقد شهد لهم أعداؤهم بأنهم أشجع العرب، فمنهم حمزة أسد الله وأسد رسوله، ومنهم جعفر الطيار ذو الجناحين، ومنهم أمير المؤمنين الذي لم يشهد الكون مثيله، والعباس ورث الشجاعة منهم، وعلى الرغم من ذلك إلا أنهم كانوا أحرص الناس على عدم التفرقة والقتال، وكم من فتنة أطفئوها فهذا دليل على انهم لا يحبون العنف.

المقصد السادس: (المروءة).

قوله (عليه السلام): «ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاْحْسَابِ».

يعني بذوي المروءات، الحافظين لدينهم المتطهرين من دنس الجاهلية، ففي رواية أن معاوية سأل الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) عن الكرم والمروءة؟ فقال

ص: 89

الحسن: «أما الكرم فالتبرع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال، والاطعام في المحل، وأما المروءة فحفظ الرجل دينه وإحراز نفسه من الدنس، وقيامه بضيفه وأداء الحقوق وإفشاء السلام»(1).

فكم مرة عرض على المولى ابي الفضل الأمان ولكنه (عليه السلام) رفض ذلك، فلم يرتضِ قمر العشيرة أن يكون في مأمن أهل الرجس وأخوه الحسين لا أمان له .

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «المروءة برية من الحناء والغدر»(2)، فالعباس بريء من هؤلاء الكفرة الذين صدوا عن الحق.

فجهاده ضد هؤلاء الكفرة، وأداؤه ما كلف به من قبل الحسين، ومبالغته في جهاده توضح مدى مروءته.

وعنه (عليه السلام) لما سئل عن المروءة قال: «حفظ الدين، وإعزاز النفس، ولين الكنف، وتعهد الصنيعة، وأداء الحقوق، والتحبب إلى الناس»(3).

وقال (عليه السلام): «المروءة اسم جامع لسائر الفضائل والمحاسن»(4).

فالعباس بن علي (عليه السلام) هو من اسس الفضل، فكل فضيلة ترجع اليه وتنسب لشخصه، فقد جمع الله فيه فضائل جمة، منها خَلقِية ومنها خُلُقِية، فكان جمال العباس مروءته.

وعنه (عليه السلام) قال: «على قدر شرف النفس تكون المروءة»(5).

ص: 90


1- ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، ابن عساکر، ص 165
2- میزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 2878
3- تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، ابن شعبة الحراني، ص 225
4- میزان الحكمة، الريشهري، ج 3، ص 2433
5- المصدر السابق، ج 4، ص 2878

فمن هنا نقيس مروءة العباس فنفس العباس لا تقاس بنفوس عادية وأنما تقاس بنفس الحسين ودليل ذلك قول الامام (اركب بنفسي انت)(1)، أي فداك نفسي، وهذا لا يعني أن العباس يساوي الإمام بالمنزلة فالحسين حجة الله فهو أعلى درجة، ولكن كلام الإمام الحسين (عليه السلام) لقمر العشيرة يبين عظیم منزلة العباس وعلو نفسه الشريفة حتى فدى تلك النفس الطاهرة.

المقصد السابع: (البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة).

قوله (عليه السلام): «وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ».

ومن أصلح من بني هاشم وتلك البيوتات العريقة التي صارت مهبط وحي الله ومحل مختلف الملائكة، فالعباس بن علي تربى في ذلك البيت الذي أذن الله أن يرفع، فلا يضاهي حسبه ونسبه وسابقية آبائه أحد من الخلق، فوالده أول من أمن وصلى مع النبي وجاهد في سبيل الله حتى شهد له معاندوه، فلم ينكر سابقية أمير المؤمنين أحد من الخلق.

عن ابن عباس، أنه قال: في قول الله (عز وجل): «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»، قال: سابق هذه الأمة علي بن أبي طالب)(2).

وفي مناشدته (عليه السلام) يوم الشورى قال: «نشدتكم الله، أفيكم أحد، نزلت فيه «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»، غیري؟ قالوا: اللهم لا)(3).

فالقائد يكون من أبرز الجيش لذا يحتاج الى مؤهلات كثيرة ومن اهمها ان تكون له عشيرة عريقة من كلا الجانبين، ليباهي بذلك الخصوم.

ص: 91


1- الارشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 90
2- شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، ج 2، ص 350
3- المسترشد، محمد بن جرير الطبري (الشيعي)، ص 352

المقصد الثامن: (أن يكون صاحب نجدة وشجاعة وسخاء).

قوله (عليه السلام): «ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْکَرَمِ، وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ».

فمعنى أهل النجدة أي النصرة، ففي زيارة المولى ابي الفضل (عليه السلام) قال الامام الصادق (عليه السلام): «فَنِعْمَ الصَّابِرُ الْمُجاهِدُ الْمُحَامِي النَّاصِرُ وَالْأَخُ الدَّافِعُ عَنْ أَخِيهِ الْمُجِيبُ إِلى طاعَةِ رَبِّهِ الرَّاغِبُ» ...).

وقوله أيضاً: (واستجاب له دعوته)، فالعباس استجاب الدعوة الإمام حينما قال ألا من ناصر ینصرنا؟ فمن يجيب دعوة الإمام فقد أجاب الله لذا يقول الصادق (عليه السلام) في زيارة عمه العباس: «المجيب إلى طاعة ربّه» فمن اطاع الحسين فقد اطاع الله كون الحسين حجة الله، قال جابر: (لما عزم الحسين بن علي (عليهما السلام)، على الخروج إلى العراق أتيته فقلت له: أنت ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأحد سبطیه، لا أرى إلا أنك تصالح کما صالح أخوك الحسن، فإنه كان موفقا راشدا.

فقال لي: «يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله وأمر رسوله، وإني أيضا أفعل بأمر الله وأمر رسوله ..»)(1).

وهذا ما تعلمه قمر العشيرة من ابيه فكان الإمام أول المطيعين والمصدقين والمؤمنين بالنبي وهو في حداثة سنه، وكان أول الناصرين والمدافعين عن الدعوة وقد جاهد بين يدي النبي حتى جاء النصر والفتح على يده، كذلك العباس كان السباق في النجدة والنصرة لسبط النبي.

ص: 92


1- الثاقب في المناقب، ص 322

جاء في معالي السبطين: عن فخر المخدرات زینب (عليها السلام) قالت: لما كانت ليلة عاشوراء (أو ليلة العاشر) من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين (عليه السلام) وأنصاره وقد أفرد له خيمة فوجدته جالساً وحده يناجي ربه ويتلو القرآن فقلت أفي مثل هذا الليلة يترك أخي وحده؟ والله لأمضين إلى اخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك فأتيت إلى خيمة العباس فسمعت منها همهمة ودمدمة فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي واخوتي وأولاد اخوتي مجتمعين كالحلقة وبينهم العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو جاث على ركبته کالأسد على فريسته فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلا من الحسين (عليه السلام) مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: في آخر خطبته: يا أخوتي وبني اخوتي وبني عمومتي إذا كان الصباح فما تقولون؟ فقالوا: الأمر إليك يرجع ونحن لا نتعدى لك قولك فقال العباس: إن هؤلاء - أعني الاصحاب - قوم غرباء والحمل الثقيل لا يقوم إلا بأهله فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم نحن نقدمكم للموت لئلا يقول الناس قدموا أصحابهم فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة، فقامت بنو هاشم وسلوا سيوفهم في وجه العباس وقالوا: نحن على ما أنت عليه، قالت زينب فلما رأيت كثرة اجتماعهم وشدة عزمهم وإظهار شيمتهم سكن قلبي وفرحت ولكن خنقتني العبرة فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين (عليه السلام) وأخبره بذلك فسمعت من خيمة حبیب بن مظاهر همهمة ودمدمة فمضيت إليها ووقفت بظهرها ونظرت فيها فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين کالحلقة وبينهم حبیب بن مظاهر وهو يقول: يا أصحابي لم جئتم الى هذا المكان؟ أوضحوا كلامكم رحمكم الله، فقالوا: أتينا لننصر غریب فاطمة، فقال لهم: لم طلقتم حلائلكم؟ فقالوا لذلك، قال حبيب: فإذا كان في الصباح فما أنتم قائلون فقالوا

ص: 93

الرأي رأيك ولا نتعدى قولاً لك.. قال: فاذا صار الصباح فأول من يبرز الى القتال أنتم نحن نقدمكم للقتال؟ ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب لئلا يقول الناس قدموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم، فهزوا سيوفهم على وجهه وقالوا نحن على ما أنت عليه، قالت زينب: ففرحت من ثباتهم ولكن خنقتني العبرة فانصرفت عنهم وأنا باكية وإذا بأخي، فقال: أخية .. فقلت: لبيك يا أخي فقال (عليه السلام) يا أختاه منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة أخبريني ما سبب تبسمك؟ فقلت له يا أخي رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا فقال (عليه السلام) لي: يا أختاه اعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر، وبهم وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم؟ فقلت: نعم، فقال (عليه السلام): عليك بظهر الخيمة قالت زينب: قالت السيدة زینب صلوات الله وسلامه عليها: فوقفت على ظهر الخيمة، فنادى أخي الحسين (عليه السلام): أين إخواني وبنو أعمامي، فقامت بنو هاشم، وتسابق منهم العباس وقال: لبيك لبيك ما تقول؟. فقال الحسين عليه السلام: أريد أن أجدد لكم عهدا، فأتي أولاد الحسين، وأولاد الحسن، وأولاد علي، وأولاد جعفر، وأولاد عقیل، فأمرهم بالجلوس فجلسوا. ثم نادى: أين حبیب بن مظاهر، أين زهير، أين هلال، أين الأصحاب؟ فأقبلوا وتسابق منهم حبیب بن مظاهر وقال: لبيك يا أبا عبد الله فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم، فأمرهم بالجلوس فجلسوا، فخطب فيهم خطبة بليغة ثم قال: يا أصحابي اعلموا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي، وأنا أخاف عليكم من القتل، فأنتم في حل من بيعتي، ومن أحب منكم الانصراف فلينصرف في سواد هذا الليل. فعند ذلك قامت بنو هاشم وتكلموا بما تكلموا، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم، فلما رأى الحسين عليه السلام حسن إقدامهم وثبات أقدامهم قال عليه السلام: إن کنتم كذلك،

ص: 94

فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم في الجنة. فكشف لهم الغطاء ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها، والحور العين ينادين: العجل العجل فإنا مشتاقات إليكم فقاموا بأجمعهم وسلوا سيوفهم وقالوا: يا أبا عبد الله ائذن لنا أن نغير على القوم ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء.

فقال (عليه السلام): اجلسوا، رحمكم الله وجزاكم الله خيرا. ثم قال: ألا ومن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد، فقام علي بن مظاهر وقال: ولماذا يا سيدي؟ فقال (عليه السلام): إن نسائي تسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي. فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته، فقامت زوجته إجلالا له، فاستقبلته وتبسمت في وجهه فقال لها: دعيني والتبسم. فقالت: يا بن مظاهر إني سمعت غریب فاطمة خطب فیکم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة فما علمت ما يقول؟ قال: يا هذه! إن الحسين عليه السلام قال لنا: ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمها لأني غدا أقتل ونسائي تسبی! فقالت: وما أنت صانع؟ قال: قومي حتى ألحقك ببني عمك بني أسد. فقامت ونطحت رأسها في عمود الخيمة، وقالت: والله! ما أنصفتني يا بن مظاهر! أيسرك أن تسبی بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنا آمنة من السبي!؟ أيسرك أن تسلب زینب إزارها من رأسها، وأنا أستتر بإزاري!؟ أيسرك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها، وأنا أتزين بقرطي!؟ أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء؟ والله! أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء. فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين (عليه السلام) وهو يبكي. فقال له الحسين (عليه السلام): ما يبكيك؟ فقال: سيدي! أبت الأسدية إلا مواساتكم! فبكى الحسين (عليه السلام) وقال: جزيتم عنا خيرا...)(1).

ص: 95


1- معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين، السيد محمد مهدي الحائري، ص 311 - 312، الفصل الثامن، المجلس الثالث

فإن كان الأنصار ونساؤهم أصحاب نجدة، فكيف بقائد جيش الإمام وهو مختار من قبل الإمام الحسين، فالله سبحانه قد کشف للحسين عن أصحابه وأراه منازلهم.

قوم إذا نود وا لدفع ملمة *** والخيل بين مدعس ومكردس

لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا *** يتهافتون على ذهاب الأنفس(1)

فالحسين كان موعوداً بهذا الأخ الناصر قبل ولادته فأمير المؤمنين (عليه السلام) سعي جاهداً كي يجد أماً طاهرة لهذا الوليد ليكون ناصراً للحسين، فمنذ ذلك الحين والحسين يترقب ذلك القائد الذي ادخره الله لنصرته، فحينما ولد العباس فتح عينيه بوجه الإمام الحسين (عليه السلام) فلا زالت تلك النظرة مطبوعة في عين العباس حتى آخر لحظة.

وقد برهن العباس بن علي (عليه السلام) ولاءه وحبه لأخيه الحسين (عليه السلام) حينما جمع بني هاشم وأمرهم بالتقدم الى القتال، فكان السباق في النجدة والنصرة السيد الشهداء.

وكان الحسين (عليه السلام) حينما ينظر لأخيه العباس وهو بهذه القوة والصلابة یُسر به وبثباته، وكذلك النساء والاطفال حينما يرون العباس يشعرون بالسكينة والطمأنينة، فقد توارث قمر العشيرة من آبائه تلك الهيبة واكتسب من ابناء فاطمة هذه الشخصية، فالحسين هو من انشأ قمر بني هاشم بهذه النشأة حتى صار قائد جيشه، وهذا الأمر يذكرنا بمحمد وعلي، فعلي نشأ بحجر محمد حتى صار قائد جيشه.

فنشأته مع الحسين بن علي كان لها الحظ الأوفر، مما زاده تعلقا بأخيه سيد الشهداء فالعباس وإن نشأ بين يدي والده والإمام الحسن فهو ايضا من المقربين للحسين

ص: 96


1- شرح الاخبار، القاضي النعماني المغربي، ج 3، هامش، ص 184

في تلك الحقبة، فهذه الملازمة تذكرنا بملازمة امير المؤمنين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول السيد المقرم: فكان هو وأخوه الشهيد من مصادیق قوله تعالى: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا»(1).

والسر في ذلك هو أن العباس خلق للطف؛ يعني أنه (عليه السلام) خلق للحسين، وإنما تلك الأيام التي قضاها مع ابيه أمير المؤمنين واخيه الحسن كانت تهيئة للطف فقد رسم الله للعباس هذا المخطط.

وقوله (عليه السلام): «وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْکَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ»، فالعباس بن علي اجتمعت به هذه الصفات فشجاعته يشهد لها جميع الناس.

أما كرمه فلا زال العباس بن علي باب الله الذي يؤتي منه، وفي حياته جاد العباس بروحه الطاهرة وجسده الطاهر والجود بالنفس اقصى غاية الجود.

أما سماحته فبنو هاشم معروفون في السماحة ومقابلة الإساءة بالإحسان وموقف الحر ابن يزيد الرياحي خير دليل على سماحتهم، فمجرد أن تاب وندم قَبِل الإمام الحسين ندمه وتوبته، فلم نسمع أن قمر العشيرة اعترض على ذلك، فبمجرد تقبل الإمام الحسين الحر تقبله جميع الموجودين وبلا شك أن العباس أول المسامحين بعد الحسين.

فالعباس بن علي عمل بما يرضي الله حتى نال هذه المكانة وهذه المنزلة فلقد اتبع رسول الله في كل شيء؛ ذلك لاتباعه وانقياده التام لأمير المؤمنين وأبناء الزهراء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين امامان قاما أو قعدا)(2).

ص: 97


1- قمر العشيرة، المقرم، ص 26
2- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 156

وغيرها من الأحاديث الأخرى التي أوصى بها النبي، فالحسن والحسين امامان مفترضا الطاعة فكل ما يأمران به هو حجة، والعباس عالم فقيه يعرف من هو الحجة لذا كان مسلما لهما أتم التسليم، فإن أمر الإمام الحسن بالصبر كان العباس أول الصابرين وإن أمر الإمام الحسين بالجهاد ثار العباس وكان أول المجاهدين لذا شهد له الإمام السجاد والإمام الصادق في جهاده وتسليمه واتباعه وبصيرته وایمانه الذي وصل به إلى حقائق الايمان وصدق اليقين.

فالعباس تتلمذ بين يدي اعظم قادة شهد لهم التاريخ، عن الباقر (عليه السلام) قال: (ما تكلم الحسين بين يدي الحسن إعظاما له، ولا تكلم محمد بن الحنفية بين يدي الحسين إعظاما له)(1)، لذلك لم يتكلم قمر العشيرة مع حجج الله إعظاماً لهم، فالعباس بن علي تتلمذ بين يدي الحسين مدة طويلة حتى اكتسب منه جميع الصفات الطيبة والأخلاق الحميدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَا مَشَی اَلْحُسَیْنُ (علیه السلام) بَیْنَ یَدَیِ اَلْحَسَنِ (علیه السلام) قَطُّ، وَ لاَ بَدَرَهُ بِمَنْطِقٍ إِذَا اِجْتَمَعَا، تَعْظِیماً لَهُ»(2)، وهذا ما لاحظناه في سيرة المولى أبي الفضل العباس (عليه السلام).

ص: 98


1- مناقب آل ابي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 169
2- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، علي الطبرسي، ص 295

الفصل الثاني الصفات والألقاب القيادية التي ورثها واكتسبها قمر العشيرة علیه السلام

ص: 99

ص: 100

توطئة:

إن الذات القدسية للمولى أبي الفضل العباس (عليه السلام) اسست على التقوى والفضائل والمكارم وجميع الكمالات النفسية المجردة من الشوائب، فروح العباس جبلت على هذه القيم والمبادئ الانسانية السامية، فالعباس من العظماء والكرماء الذين تخلدوا، فمثلي لا يصل لذاته الطاهرة ولا يدرك عمقها، لأن العباس لا يعرفه إلا الإمام المعصوم لذا نحن نستند الى كلام الأئمة في حق هذا العبد الصالح كي تصل الى عظیم منزلته ونسأل الله أن يعرفنا بهذا المولى حق معرفته .

ومن أهم النصوص التي نستدل بها عن عظیم منزلة المولى قمر العشيرة؛ الزيارة الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام)، فضلاً عما ورد عن المعصومين في حق العباس بن علي (عليهما السلام).

ففي الفصل الأول سنتناول بعض الصفات الخَلقِية والخُلقِية التي ورثها واكتسبها هذا العبد الصالح من تلك الشجرة الهاشمية والأنوار البهية، والعصمة العلوية فالعباس تربي بحجر سيد الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذاً فالمنبع واحد فكلاهما تربى نفس التربية.

ولقمر العشيرة ألقاب كثيرة منها موروثة ومنها مكتسبة ومن خلال هذا البحث والغوص في بحر مکارم العباس الخَلقية والخُلقية سوف نصل الى بعض الحقائق التي لا بد من معرفتها عن هذا المولى الطاهر، فنسأل الله الموفقية في خدمة قمر العشيرة:

ص: 101

المطلب الأول: الصفات الخلقية للمولى أبي الفضل العباس (علیه السلام).

لكي يكون القائد مميزاً يجب أن تكون فيه صفات أساسية كالعلم والجسم، وقد أضاف الله سبحانه وتعالى لهذا القائد جمال الوجه فكان العباس قمراً منيراً حتى قيل عنه قمر بني هاشم، ومن خلال هذا المطلب سنوضح ذلك.

المقصد الأول: (البسطة في الجسم).

من أهم الصفات الخلقية التي ورثها العباس بن علي من آبائه (صلوات الله عليهم) هي البسطة في الجسم، فهذه الصفة من الصفات الأساسية التي يجب أن يتصف بها القائد، فالله سبحانه اختار طالوت لأنه سبحانه زاده بسطة في الجسم، كذلك العباس اتصف بهذه الصفة والعباس بن علي (عليهما السلام) كان يتميز بالضخامة، فكان عظیم الجسم، وكان تاماً متناسقاً.

قال ابو الفرج الأصفهاني، (كان العباس رجلا وسيما جميلا يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان في الأرض وكان يقال له، قمر بني هاشم، وكان لواء الحسين بن علي (عليه السلام) معه يوم قتل)(1).

وجاء في مستدرك علم الرجال في ترجمة المولى أبي الفضل العباس (عليه السلام): (وكان شجاعا فارسا وسیما جسيما، يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان الأرض، وكان من فقهاء أولاد الأئمة عليهم السلام، وكان عدلا ثقة نقيا تقيا )(2).

فقد ورث ذلك الجسم من آبائه الكرام في (كان أبو طالب [عليه السلام] شیخا جسيما وسیما، عليه بهاء الملوك ووقار الحكماء، قيل لأكثم: ممن تعلمت الحكمة

ص: 102


1- مقاتل الطالبيين، ابو الفرج الأصفهاني، ص 56
2- مستدرکات علم رجال الحدیث، الشيخ على النازي الشاهرودي، ج 4، ص 350

والرئاسة والحلم والسيادة؟ فقال: من حليف العلم والأدب ، سید العجم والعرب، أبي طالب بن عبد المطلب)(1).

وهذه الصفة يجب أن تتوفر في القائد وإلا لكان منتقصاً، فهيبة القائد تكون في جسمه، وكلما زاد القائد طولاً زاد هيبة، وبلا شك أن الفرسان تهرب من الفارس الجسيم، وبالخصوص اذا كان جسوراً في سوح الوغى، وقد سمعوا عن المولى ابي الفضل العباس (عليه السلام) الكثير من البطولات التي خاضها مع والده في صفين وغيرها من المواقف الاخرى، لذا كانوا يهابونه كثيراً.

فالبسطة في الجسم من الأمور الأساسية التي يجب أن تتوفر في شخصية القائد، وإذا أراد الله سبحانه أن يستخلف قوما زادهم بسطة وقوةً، قال تعالى: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً»(2).

جاء في تفسير قوله «وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً» قرئ بالسين والصاد وقيل في معناه قولان: أحدهما - قال ابن زيد: زادهم قوة، وقال غيره: أراد به المرة من بسط اليدين إذا فتحت على أبعد أقطارها، وقال الزجاج والرماني: كان أقصر هم طوله سبعين ذراعا وأطولهم مئة ذراع، وقال قوم: كان أقصرهم اثني عشر ذراعا، وقال أبو جعفر (عليه السلام): «كانوا كأنهم النخل الطوال، وكان الرجل منهم ينحت الجبل بيده فيهدم منه قطعة»(3).

وقد اشتهر العباس ببطولاته، فكانت الفرسان تفر منه كما تفر من ابيه لما له من هيبة وقوة، وقد كان شديد البطش کما کان موسی بن عمران، روى الصدوق:

ص: 103


1- مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج 6، ص 559
2- الأعراف: 69
3- التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج 4، ص 445

(كان موسى (عليه السلام) قد أعطی بسطة في الجسم وشدة في البطش، فذكره الناس وشاع أمره)(1).

والعباس بن علي ورث ذلك الطول وتلك الهيبة من أسلافه الطيبين، ومنهم: العباس بن عبد المطلب، فقد جاء في كتاب المعارف للدينوري، أن (العباس بن عبد المطلب كان يمشي في الطوائف كأنه عماريّة على ناقة، والناس كلهم دونه)(2).

وجاء في تاريخ دمشق (كان علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب جميلا وتعجب الناس من طوله فقال رجل سمعهم يا سبحان الله كيف نقص الناس لقد أدركنا العباس بن عبد المطلب يطوف بهذا البيت كأنه فسطاط أبيض لطوله فحدثت بذلك علي بن عبد الله فقال كنت إلى منكب أبي وكان أبي إلى منكب جدي)(3).

وقال ابن الحجاج البلويّ الشافعيّ: (كان عقيل بن أبي طالب طوالا، أحد العشرة الذين طولهم عشر أشبار)(4).

و (كان رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فوق الربعة ولم يكن بالطويل المشذب وكان إذا مشى مع الطوال طالهم)(5).

والنبي الأكرم (صلى الله علیه و آله) هو الإنسان الكامل كان إذا مشى مع الطوال يطولهم، فالطول من الكمالات التي تعطي للإنسان هيبة وجمال، لذا خص الله هذا القائد بهذا القوام اليافع ليكون سند الدين.

ص: 104


1- کمال الدین وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص 150
2- المعارف، ابن قتيبة الدينوري، ص 592
3- تاریخ دمشق، ابن عساکر، ج 43، ص 50
4- عقیل ابن أبي طالب، الأحمدي الميانجي، ص 98
5- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، الزمخشري، ج 2، ص 188

فالجسم له أهمية كبيرة للقائد كذلك للمحارب، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) حينما يبرز من بني امية من له طول وضخامة، يختار له من اصحابه الجسيم الطويل، روى الطبري أنه (خرج يسار مولی زیاد بن أبي سفيان، وسالم مولى عبید الله بن زياد، فقالا من يبارز ليخرج إلينا بعضكم قال فوثب حبیب بن مظاهر وبرير بن حضير فقال لهما حسين: اجلسا فقام عبد الله بن عمير الكلبي فقال أبا عبد الله رحمك الله ائذن لي فلأخرج إليهما فرأى حسين رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين فقال حسين إني لأحسبه للأقران قتالا اخرج إن شئت قال فخرج إليهما فقالا له من أنت فانتسب لهما فقالا لا نعرفك ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبیب بن مظاهر أو بریر بن خضير ويسار مستنتل(1) أمام سالم فقال له الكلبي يا ابن الزانية وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس ويخرج إليك أحد من الناس إلا وهو خير منك ثم شد عليه فضربه بسيفه حتی برد فإنه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شد علیه سالم فصاح به قد رهقك العبد قال فلم يأبه له حتى غشيه فبدره الضربة فاتقاه الكلبي بيده اليسرى فأطار أصابع كفه اليسرى ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله وأقبل الكلبي مرتجزا وهو يقول وقد قتلهما جميعا:

إن تنكروني فانا ابن كلب *** حسبي ببيتي في عليم حسبي

إني امرؤ ذو مرة وعصب *** ولست بالحوار عند النكب

إني زعيم لك أم وهب *** بالطعن فيهم مقدما والضرب

ضرب غلام مؤمن بالرب)(2).

فالطول يزيد من هيبة الرجل ويعتبر من الشرائط المهمة في اختيار القائد.

ص: 105


1- أي: متقدم أمام الصف
2- تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ج 4، ص 226

المقصد الثاني: (الحُسُن).

وينقسم الى:

أولاً: (الحُسن الخارجي).

فالجمال من المظاهر العجيبة التي تبين قدرة الله في بديع صنعته، فالله سبحانه أبدع في خلق أوليائه وأنبيائه وزادهم على غيرهم من الجمال الباهر والحسن الزاهر، وقد جعل جمال يوسف آية من آياته وهي معجزته في ذلك الوقت، فضلاً عن معاجزه الأخرى، وقد حکی الله عن جماله في كتابه الكريم، قال تعالى: وقال نشوة في المدينة امر العزيز تراود فتاها عن فيه قد شتمها با ا لنراها في ضلال مبين * فلا سمعت بمكره أرسلت إليه وأنمتدت له متكأ واتت كل واحدة منه گیا وقالت اخرج عليه فلما رأينه أكبر نه وقطعن أيدي و كاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا مل گريم * قال ذلك الذي بني فيه(1).

وقد اشتهر بنو هاشم بالجمال ايضاً، ورسول الله من فاق جماله جمال يوسف، فقد جاء في فتح الباري: (لم يبعث الله تعالى نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبیکم (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، أحسنهم وجها، وأحسنهم صوتا)(2).

وبما أننا نتكلم عن قمر هذه العشيرة، فهذا الجمال المتكامل في شخصية المولى أبي الفضل العباس (عليه السلام) من ملامح عجيبة، وبسطة في الجسم قد ورثها العباس من آبائه وأجداده، فبنو هاشم اتصفوا بالجمال وقد قيل لعبد مناف وهو أحد أجداد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قمر البطحاء(3)، ولعبد الله والد النبي

ص: 106


1- يوسف: 30 - 32
2- فتح الباري، ابن حجر، ج 7، ص 162
3- ينظر الأعلام، خير الدين الزركلي، ج 4، ص 166

قمر الحرم، وكان هاشم يدعى القمر(1) ولا شك ان أم البنين وتلك العشيرة امتازوا بالجمال ايضاً.

جاء في السيرة الحلبية أن عبد الله كان (أحسن فتى يرى في قريش وأجملهم وكان نور النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يرى في وجهه کالكوكب الدري أي المضيء المنسوب إلى الدر حتى شغفت به نساء قريش ولقي منهن عناء ولينظر ما هذا العناء الذي لقيه منهن.

قيل إنه لما تزوج آمنة لم تبق امرأة من قريش من بني مخزوم وعبد شمس وعبد مناف إلا مرضت أي أسفا على عدم تزوجها به)(2).

وعن ابن عباس عن أبيه: (مائتي أمرأة من بني مخزوم وعبد مناف متن وخرجن من الدنيا ولم يتزوجن أسفا على ما فاتهن من عبد الله)(3).

وفي رواية أن معاوية سأل أحد المعمرين الذين أدركوا أجداد النبي (قال فأخبرني هل رأيت هاشما قال نعم رأيت رجلا طوالاً حسن الوجه يقال إن بين عينيه بركة أو غرة بركة قال فهل رأيت أمية قال نعم رأيت رجلا قصيرا أعمى يقال ان في وجه أشرا وشؤما)(4).

فهذه صفات أولياء الله إذ يمتازون بالحسن والبهجة سيماهم في وجوههم، ونجد في المقابل صفات اعدائهم، فتلك النفوس القبيحة تظهر على معانيهم فتكشف عن نواياهم الفاسدة، فالله سبحانه يكشف للخلق عن تلك النفوس فإن طابت ظهر فيها الورع والجود والكمالات الأخرى فتظهر على وجوههم، والعكس في اعداء

ص: 107


1- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، أحمد بن علي الحسيني (ابن عنبة)، ص 25
2- السيرة الحلبية، الحلبي، ج 1، ص 62
3- ينظر بطل العلقمي، ج 1، ص 270
4- کنز الفوائد، أبو الفتح الكراجكي، ص 261

الدين حيث يظهر الشر والشؤم في تلك الوجوه وكأن الله يعطي على حسب القلب فإن طاب القلب طاب الجسد وإن خبث خبث الجسد.

وجاء في تفسير السمعاني أنه (نزل أبرهة والجند بالمغمس، وسمع أهل مكة بذلك، وسيدهم يومئذ عبد المطلب بن هاشم، وأغار الجند على ما وجدوا من أموال أهل مكة وإبلهم، وأخذوا مائتي بعير لعبد المطلب ثم إنه جاء عبد المطلب، إلى أبرهة في طلب بعيره، وكان رجلا جسيما وسيما، فلما رآه أبرهة أعجبه حسنه وجماله فقال: ما حاجتك؟ فقال: أن ترد علي إبلي، فقال لترجمانه: قل (ألم يجعل كيدهم في تضليل) له: أعجبني ما رأيت من هيئتك، ثم رغبت عنك حين سمعت كلامك، فقال عبد المطلب: وما الذي رغب الملك عني؟ فقال: جئت لأهدم شرفك وشرف آبائك، فتركت ذكره وسألتني إبلا أخذت لك! فقال له عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا يمنعه، فأمر برد الإبل عليه، فعاد عبد المطلب، وأمر أهل مكة حتى تنصرف في رؤوس الجبال، وقال: قد جاءکم مالا قبل لكم به)(1).

والعباس بن علي ورث هذا الجمال من ابائه الطاهرين فهذه الجينات الوراثية التي انتقلت لهذا المولى جمع الله فيها جمال الهاشميين فضلاً على جمال العامريين، حتى صار قمر بني هاشم، فذلك الجمال الباهر والحسن الزاهر للمولى ابي الفضل جعله قمر العشيرة وأي عشيرة تلك حتى صار قمرها، فكان علي بن ابي طالب (عليه السلام) اقرب الناس خَلقا وخُلقا لرسول الله وقيل في وصفه (عليه السلام): (كأن وجهه القمر ليلة البدر حسنا)(2).

روى الصدوق (رحمه الله) في الأمالي، عن سيد العابدين علي بن الحسين، عن أبيه (علیهما السلام)، قال: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم إلى علي بن

ص: 108


1- تفسير السمعاني، السمعاني، ج 6، ص 283
2- ينظر بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 35، ص 2

أبي طالب (عليه السلام) وقد أقبل وحوله جماعة من أصحابه، فقال: (من أراد أن ينظر إلى يوسف في جماله، وإلى إبراهيم في سخائه، وإلى سليمان في بهجته، وإلى داود في قوته، فلينظر إلى هذا)(1).

وجاء في المناقب لابن شهر آشوب في صفة فاطمة، (كانت كأنها القمر ليلة البدر أو الشمس كفرت غماما أو خرجت من السحاب وكانت بيضاء بضة)(2).

وقيل في وصف الامام الحسين (عليه السلام): (كان له جمال عظيم، ونور يتلألئ في جبينه وخده يضيء حواليه في الليلة الظلماء وكان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

فعلى الرغم من وجود أقمار کالحسن والحسين فضلاً على علي الأكبر، والقاسم ابن الحسن، وزين العباد، وبقية أخوة العباس، فهم اشبه الخلق برسول الله وأمير المؤمنين، إلا أن لقب قمر العشيرة كان لأبي الفضل العباس (عليه السلام) فأي جمال هذا وأي حسن وأي طلعة واشراقة حتى قيل عنه قمر بني هاشم، ولعظیم وصفه كانت لأم البنين (رضوان الله تعالى عليها) أبيات تتعوذ بها من شر الحاسدين تقول في هذه الأبيات:

أعيذه بالواحد *** من عين كل حاسد

قائم والقاعد *** مسلمهم والجاحد

صادرهم والوارد *** مولودهم والوالد(4)

ص: 109


1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 757
2- مناقب آل ابي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 132
3- الإمام الحسين في أحاديث الفريقين، السيد علي الأبطحي، ج 2، ص 259، نقلا عن، محاضرات الأوائل والأواخر لعلي درة الحنفي: 71، حياة الحسين: 1/ 36، بطل العلقمي: 2/ 144
4- المنمق، محمد بن حبيب البغدادي، ص 351

وقيل: أول ما ولد العباس بن علي كان يلقب في زمنه قمر بني هاشم ويكنى بأبي الفضل(1)، فجمال العباس ونوره الذي اشرق في سماء المدينة بان بولادته وبأول اشراقة، فسبحان الله احسن الخالقين.

فالله سبحانه وتعالى قد جعل في أبي الفضل العباس (عليه السلام) الوسامة والجمال العجيب، فالعباس كان جميل الوجه والجسم، كذلك هو جميل القلب والروح، مما زاده تميزاً عن سائر الخلق، فهذا هو قائد جيش الإمام الحسين فقد جمع الله في هذا القائد کمالات نفسية وجسمانية حتى صار مضرب مثل للقيادة الفذة من جميع النواحي لأن الجمال يعطي للقيادة جانباً کمالياً.

روي عن الأصبغ بن نباتة أنه قال: (رأيت رجلا من بني أبان بن دارم أسود الوجه وقد كنت أعرفه شديد البياض جميلا، فسألته عن سبب تغيره وقلت له: ما کدت أعرفك، فقال: اني قتلت رجلا بكربلاء وسيما جسيما، بين عينيه أثر السجود، فما بت ليلة منذ قتلته إلى الان إلا وقد جاءني في النوم وأخذ بتلابيبي وقادني إلى جهنم، فيدفعني فيها فأظل أصيح، فلا يبقى أحد في الحي إلا ويسمع صياحي قال: فانتشر الخبر، فقالت جارة له: انه ما زلنا نسمع صياحه حتى ما يدعنا ننام شيئا من الليل، فقمت في شباب الحي إلى زوجته فسألناها فقالت: أما إذا أخبر هو عن نفسه، فلا أبعد الله غيره، قد صدقكم، قال: والمقتول هو العباس بن علي (عليهما السلام))(2).

وفي رواية أخرى أن الرجل الذي علق رأس العباس هو حرملة بن كاهل الأسدي (عليه لعنة الله) فعن هشام بن محمد عن القاسم (بن الأصبغ) المجاشعي قال: (لما) أتي بالرؤوس إلى الكوفة إذ فارس من أحسن الناس وجها قد علق في لبب فرسه رأس (... كأنه القمر ليلة تمامه والفرس طرح فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض.

ص: 110


1- ينظر، مقتل الامام الحسين، أبو مخنف الأزدي، ص 176
2- مقتل الحسين (عليه السلام)، أبو مخنف الأزدي، ص 181

فقلت له: رأس من هذا؟ قال: رأس (العباس بن علي (رضي الله عنهما). (قلت: وأنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي، قال: فلبث أياما وإذا بحرملة) فصار وجهه أشد سوادا من القار (فقلت له: لقد رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجها منك وما أدري اليوم إلا أقبح وإلا أسود وجها منك! فبکی) وقال: (والله منذ حملت الرأس وإلى اليوم) ما تمر علي ليلة إلا واثنان يأخذان بضبعي ثم ينتهيان بي إلى النار فيدفعاني فيها (وأنا أنكص فتسفعني) ثم مات على أقبح حال)1).

فرغم ذلك المصاب وما جرى له من طعن وضرب كان وجهه مشرقاً كالقمر الزاهر حتى وهو في ذلك الحال فسبحان الله احسن الخالقين، فالعباس بن علي آية من آيات الجمال ورغم ذلك الجمال الخارق لم يذكر جماله بمقدار حمیته وغيرته ووفائه فكان جماله الداخلي أكثر شهرة من جماله الخارجي.

ثانياً: (الحسن الباطني).

قد استعرضنا حسن العباس الظاهري، أما حسنه الباطني، فقد ظهر في الطف بصورة واضحة، فالعباس وما يملك من جمال فطري في ذاته المقدسة، فضلاً عمّا اكتسبه المولى من جمال روح المعصومين، وتلك الذوات الطاهرة، صار لقمر العشيرة جمال داخلي شهد له أئمة كبار، ومن أهم المواقف التي تبين عظیم منزلته وما يضم من جواهر في ذاته المقدسة؛ يوم عرض فيه الامام الحسين (عليه السلام) على اصحابه أن يتركوه وأن يتخذوا ذلك الليل جملا، فظهر جمال العباس الباطني وكشف عن روحه الطاهرة حينما قال (لا أرانا الله ذلك اليوم) فالعباس كان أول المبتدئين بذلك الكلام.

ص: 111

جاء في مقاتل الطالبيين: قام الحسين في أصحابه خطيبا فقال: اللهم إنك تعلم إني لا أعلم أصحابا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت خيرا من أهل بيتي فجزاکم الله خيرا فقد آزرتم وعاونتم، والقوم لا يريدون غيري ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا فإذا جنکم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم، فقال إليه العباس بن علي أخوه، وعلي ابنه، وبنو عقيل فقالوا له: معاذ الله والشهر الحرام فمإذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم إنا ترکنا سیدنا وابن سيدنا وعمادنا وتركناه غرضا للنبل و دريئة للرماح وجزرا للسباع وفررنا عنه رغبة في الحياة معاذ الله، بل نحيا بحياتك ونموت معك فبکی وبكوا عليه، وجزاهم خيرا(1).

وروى أهل السير عن الضحاك بن قيس المشرقي قال: (إن الحسين (عليه السلام) جمع تلك الليلة (ليلة عاشورا) أهل بيته وأصحابه فخطبهم بخطبته التي قال فيها: أما بعد فإني لا أعلم أهل بيت الخ.. فقام العباس فقال: لم نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك ابدا، ثم تكلم أهل بيته وأصحابه بما يشبه هذا الكلام)(2).

كذلك حينما ملك العباس المشرعة وكان الماء بيديه الشريفتين، رفضت روح العباس ان تشرب والحسين وعياله عطاشی.

فالعباس كان بأمس الحاجة الى ذلك الماء لعل هذه الشربة تجعله يقوى على مقارعة الابطال، لكن قمر العشيرة وتلك الذات الطاهرة أبت أن تشرب الماء، وفضلت البقاء على هذا الحال لكي تواسي نفس الحسين.

فهذا هو الجمال الذاتي الذي اشرق بوجه العباس وأهل بيته فتلك الابدان الطاهرة

ص: 112


1- مقالتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني، ص 74
2- مقتل الحسين (عليه السلام) ابو مخنف الأزدي، ص 177

جمالهم جمال رباني، فكم من موقف اظهر فيه سبحانه جمال علي بن أبي طالب (عليه السلام) الباطني؛ کمبيته في الفراش، وكم من مرة عرض نفسه الشريفة الى القتل في سبيل الله ورسوله.

كذلك الامام الحسن وما أظهر الله من تلك الذات الكريمة، وقد اظهر الله جمال روح الحسين حينما صار الإمام الحسين بنفس موقف العباس.

فقد يستوعب البعض موقف العباس ويعدّه شيئاً طبيعياً في مواساته لأخيه وعدم شربه للماء، فقد عهد العباس منذ صغره على هذا الوفاء.

ولكن ليس من الطبيعي أن الحسين لم يشرب الماء والفرس عطشان ولم يسبقه في شرب الماء، جاء في معالي السبطين أن الحسين بن علي (عليه السلام) (دخل المشرعة، وأقحم الفرس على الفرات فلما أولغ الفرس برأسه ليشرب، قال (عليه السلام): أنت عطشان وأنا عطشان والله لا ذقت الماء حتى تشرب، فلما سمع الفرس كلام الحسين (عليه السلام) شال برأسه ولم يشرب كأنه فهم الكلام)(1).

فهذا الجانب الانساني الذي أظهره الحسين ليس لكي يوصل لنا هذا المشهد فقط، وإنما رأفة الحسين تشمل حتى الحيوانات لذا اختاره الله أن يكون حجته على ارضه.

فسبحانه وتعالى يجعل أولياءه وحججه بهذه المواقف ليكشف لنا عن تلك الذوات الطاهرة والجواهر الزاهرة ليكونوا لنا الأسوة.

فالعباس بن علي تأسي بهذه الأنفس الزكية حتى وصل الى هذا المستوى وهذه المنزلة.

ص: 113


1- معالي السبطين، الفصل العاشر، المجلس الثاني، ص 431

والعباس وما يملك من جمال عجيب، قد بذله للدين فقد اهدى للزهراء تلك الكفين الطاهرتين فضلاً عن رأسه الشريف وعينه وجسمه فلم يبقَ من جسده الطاهر شيء إلا كان موضع رمح او نبلة أو طعنة فكان جمال روح العباس بمقدار ما وُصِف لنا من جمال الوجه، بل فاق جمال الباطن جمال الظاهر.

وهذا الحُسن والجمال الذي يكمن في ذات العباس سوف نجده في الصفات الخُلُقية للمولى أبي الفضل العباس، وسنتطرق الى هذه الصفات في المبحث القادم.

المطلب الثاني: الصفات الخُلقية.

خص سبحانه وتعالى قمر العشيرة بصفات خُلُقية كثيرة فمن خلال هذا المطلب سنذكر بعض صفات المولى الخُلقية التي كان يتحلى بها:

المقصد الأول: (العلم).

العباس بن علي من أهل بيت زقو العلم زقا، وقد ورد ذلك عن لسان أمير المؤمنين: (عليه السلام) قال: «ان العباس بن علي زق العلم زقا»(1).

قال السيد المقرم: (وهذا من ابداع التشبيه والاستعارة فإن الزق يستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوَ على الغذاء بنفسه وحيث استعمل الامام (عليه السلام) وهو العارف بأساليب الكلام هذه اللفظة هنا نعرف ان ابا الفضل (عليه السلام) كان محل القابلية لتلقي العلوم والمعارف مذ كان طفلاً ورضيعاً كما هو كذلك بلا ریب)(2).

فكل انسان يحتاجالى وقت كي يحصل على العلم حتى يمر بمراحل کي يتلقى العلم بشكل تدريجي وهذا حال الجميع، وإن كان هنالك تفاوت بین

ص: 114


1- اسرار الشهادة، ج 2، ص 495
2- قمر بني هاشم، السيد المقرم، ص 52

الناس لكن هذا التفاوت يكون بنسب قليلة، لكن قمر بني هاشم اختلف، فقد زق العلم منذ الصغر، قال تعالى: «فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا»(1).

فهذه الآية تبين أن تلقي العلم يتأتى عن طريقتين؛ طريقة حصولية(2) وطريقة حضورية(3).

فهذا العبد الصالح وهو الخضر (عليه السلام) من علمه الله ذلك العلم وألهمه إياه كما ألهمه لقمر العشيرة، ولكن نبي الله موسى (عليه السلام) في هذا الموقف كان علمه اکتسابیاً کما توضحه الآية المباركة.

فالعباس بن علي ورث العلم من آبائه واكتسبه بطريقة مختلفة كما هو حال أمير المؤمنين (عليه السلام)، فعن الأصبغ بن نباتة، قال: (لما جلس علي (عليه السلام) في الخلافة وبايعه الناس، خرج إلى المسجد متعمما بعامة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لابساً بردة رسول الله (صلى الله عليه وآله) منتعلا نعل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، متقلدا سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصعد المنبر، فجلس عليه متمكنا، ثم شبك بين أصابعه، فوضعها أسفل بطنه، ثم قال: يا معشر الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، هذا

ص: 115


1- الكهف: 65 - 67
2- حضور المعلوم بنفسه لدى العالم به، فيتم له إدراكه والعلم به من خلال الحقيقة المعلومة ذاتها، ومن دون توسط أي شيء، وهذا هو المصطلح عليه بالعلم الحضوري. کتاب العصمة، السيد كمال الحيدري، ص 121
3- حضور المعلوم عند العلم به من خلال صورته، فهو لا يدركه من خلال ذاته، بل عبر صورته الحاكية والكاشفة عنه، وهذا يعني وجود وسيط بين العالم والمعلوم، فهو لا يحضر بنفسه لدى العالم، ولا يشهده العالم بل يشاهد صورته الحاكية عنه، وهذا هو المصطلح عليه بالعلم الحصولي. كتاب العصمة، السيد كمال الحيدري، ص 121

سفط العلم، هذا لعاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذا ما زقني رسول الله (صلى الله عليه وآله) زقا زقا، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين...)(1).

فكما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يغذي أمير المؤمنين هذه العلوم، كذلك علي بن أبي طالب (عليه السلام) غذا ولده قمر بني هاشم هذه العلوم الربانية، فكانت هذه العلوم منسجمة ومتحدة مع تلك الذوات الطاهرة.

عن رسول الله (صلى الله علیه و آله): (علم الباطن سر من أسرار الله (عز وجل)، وحكم من حكم الله، يقذفه في قلوب من شاء من عباده)(2).

من شاء من عباده، أي: من يريد العلم ويطلبه من الله.

والعباس بن علي أخذ علومه في أوائل عمره من أبيه وأمه وإخوته(3).

أضف الى ذلك أنه أخذ علمه من سيدة شهد لها الإمام زين العابدين بأنها عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة.

فقد أخذ العباس بن علي علمه من معينه ونمیره، فقد تتلمذ على يد خيار الخلق من الأولين والاخرين، فعلي سيد الخلق بعد رسول الله والحسنان هما سیدا شباب اهل الجنة فهم أهل العلم، إذ حازوا ميراث النبوة فكان قمر العشيرة (عليه السلام) تابعاً لهم وماضياً على أثرهم، فعلمه مأخوذ من جوهر العلوم الألهية والتعاليم الربانية التي مصدرها ومرجعها نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا حينما نقول أن العباس كان عالماً وفقيهاً فلا شك في ذلك.

ص: 116


1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 22
2- میزان الحکمة، ج 3، ص 2107
3- ينظر: معالي السبطين الفصل التاسع، المجلس الثامن في ذكر أولاد أم البنين، ص 390، نقلا عن (کنز المصائب)

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين (عليه السلام)» وسئل عن الذي عنده علم من الكتاب اعلم أم الذي عنده علم الكتاب فقال «ما كان علم الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر»، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ألا ان العلم الذي هبط به آدم من السماء إلى الأرض وجميع ما فضلت به النبيون إلى خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله»)(1).

وكان أبو الفضل (عليه السلام) طفلا صغيراً وهو موحد لله حق توحيده، فحينما قال له أمير المؤمنين (قل: واحدٌ، فقال: واحد، فقال: قل: اثنان، فقال: استحي أن أقول باللسان الذي قلت واحد (اثنان) ..)(2).

فهذه المعرفة بالله لا يصل لها شيخ كبير، فمن هذه الرواية نثبت ان قمر العشيرة كان مختلفاً، فهو بهذا العمر يستحي من الله ويعلم أن الله مطلع على العباد، فكيف لا يكون قمر العشيرة من العلماء الفضلاء، وهو ابن أول القوم اسلاماً واقدمهم ایماناً وأحرصهم على الدين.

والله سبحانه وتعالى أكرم بني هاشم وخصهم بفضائل واعطاهم من فضله ما لم يبلغه ملك مقرب فكان العلم أول مکرمة اكرمهم الله بها، ففي خطبة مولانا سید الساجدين التي خطبها في الشام، قال (عليه السلام): «أيها الناس أعطينا ستا وفضلنا بسبع: أعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين...»(3).

ص: 117


1- تفسير القمي، ج 1، ص 367
2- خاتمة المستدرك، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ج 8، ص 106
3- بحار الانوار، ج 45، ص 138

ومن آثار علمه وانعكاسها على شخصه انه (عليه السلام) كان نافذ البصيرة صلب الایمان مسلماً لأمر الله، فكل صفاته تدل على علمه.

فالله سبحانه وتعالی کما زاده بسطةً في الجسم فقد زاده بسطةً في العلم والحكمة، ومن المؤكد ان الإمام الحسين حينما يختار من ينوب عنه في قيادة الجيش يجب ان يختار من بين العلماء اعلمهم ومن بين الفضلاء افضلهم واكرمهم واطيبهم ومن الشجعان اشجعهم، فصار الاختيار له.

فكل تصرف تصرف به قمر العشيرة مع ابيه واخوته دليل على انه من العلماء الفضلاء وممن زقوا العلم زقا، فكان لا يخالفهم في قول ولا بفعل بل كان تابعاً، وهذا الاتباع والانقياد التام دليل على علم العباس وتبحره في كتاب الله والعلوم الدينية وإلا لما امتلك هذه البصيرة، فلا يصل الانسان الى هذه المكانة وهذا القرب إلا ان يكون عالما عاملا بعلمه.

العباس بن علي من فقهاء أهل البيت:

جاء في كتاب منتهى المطلب: (كان العباس من فقهاء أولاد الأئمة (عليهم السلام)، وكان عدلا ثقة نقيا تقيا)(1).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «.. العالم بمنزلة الصائم القائم المجاهد في سبيل الله، وإذا مات العالم انثلم في الاسلام ثلمة لا تسد إلى يوم القيامة»(2).

ذكرنا هذا الحديث لنبين عظیم منزلة المولى ابي الفضل فهو عالم وفقيه اخذ علمه من باب علم النبي، فكان ذا شأن كبير قبل شهادته كونه من العلماء والفقهاء، ولعلمه وعظيم قدره حينما قتل ترك فراغا لا يسد الى يوم القيامة لذا ورد في الزيارة المباركة

ص: 118


1- منتهى المطلب، العلامة الحلي، ج 6، ص 367، مستدرکات علم الرجال، علي النازي، ج 4، ص 350
2- الخصال الشيخ الصدوق، ص 504

«فَلَعَنَ اللّهُ أُمَّةً قَتَلَتْكَ وَلَعَنَ اللّهُ أُمَّةً ظَلَمَتْكَ وَلَعَنَ اللّهُ أُمَّةً اسْتَحَلَّتْ مِنْكَ الْمَحارِمَ وَانْتَهَكَتْ حُرْمَةَ الاْءِسْلامِ»(1).

فمن المؤكد أن العالم كلما زاد علما وقدراً كلما زادت هذه الثلمة، لذا بقتله (عليه السلام) قد انتهكوا حرمة الاسلام كونه من فقهاء أهل البيت (عليهم السلام).

جاء في كتاب العصمة الكبرى للمولى ابي الفضل أنه: (مهما بلغت ذروة إنتهاك المؤمن فلا تصل إلى إنتهاك حرمة الإسلام، ولكن إنتهاك المولى أبي الفضل العباس (عليه السلام) يؤدي إنتهاك حرمة الإسلام، ومن المعلوم أن انتهاك حرمة الإسلام هو الكفر بعينه ما يعني أن إنتهاك حرمة العباس تستلزم الكفر وما ذاك إلا لأنه معصوم کعصمة الأنبياء والمرسلين، ومما يؤكد ما أشرنا إليه أن نفس العبارة المتقدمة قد ذكرها مولانا الإمام الصادق في نفس الزيارة شاهداً للإمام بأنه ممن انتهكت بقتله حرمة الإسلام فيقول: «السلام عليك يا صريع العبرة الساكبة وقرين المصيبة الراتبة، لعن الله أمَّةً استحلت منك المحارم وانتهكت فيك حرمة الإسلام...»

وبالجملة: إنَّ مساواة المولى أبي الفضل (عليه السلام) مع المولى سيِّدنا الإمام الحسين (عليه السلام) في كون قتلهما سبباً لإنتهاك حرمة الإسلام، لدلالة كبری على عصمة العبد الصالح (عليه السلام) ..)(2).

يقول الإمام الصادق في زيارته ايضاً: «لعن الله من قتلك، ولعن الله من جهل حقك، واستخف بحرمتك، ولعن الله من حال بينك وبين ماء الفرات».

إن من يتجرأ على قتل العباس من المؤكد أنه ملعون، كون العباس له درجة عظيمة عند الله فكلما كان الإنسان قريباً الى الله زادت حرمته، ولا يكون الإنسان أقرب الا بعلمه وخشيته وقربه من الله.

ص: 119


1- مفاتیح الجنان، الشيخ عباس القمي (مترجم: نجفي)، ص 641
2- العصمة الكبرى لولي الله العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ص 65

كذلك الاستخفاف بحرمة العباس من أقبح الأفعال، روی جماعة عن القسم بن الأصبغ بن نباتة قال: (رأيت رجلا من بني أبان بن دارم أسود الوجه وقد كنت أعرفه شديد البياض جميلا، فسألته عن سبب تغيره وقلت له: ما كدت أعرفك، فقال: اني قتلت رجلا بكربلاء وسيما جسيما، بين عينيه أثر السجود، فما بت ليلة منذ قتلته إلى الآن إلا وقد جاءني في النوم وأخذ بتلابيبي وقادني إلى جهنم، فيدفعني فيها فأظل أصيح، فلا يبقى أحد في الحي الا ويسمع صياحي قال: فانتشر الخبر، فقالت جارة له: انه ما زلنا نسمع صياحه حتى ما يدعنا ننام شيئا من الليل، فقمت في شباب الحي إلى زوجته فسألناها فقالت: أما إذا أخبر هو عن نفسه، فلا أبعد الله غيره، قد صدقكم، قال: والمقتول هو العباس بن علي (عليهما السلام)(1).

فهذا هو حال من جهل حق المولى واستخف بحرمته، حيث الخزي والعار في الدنيا والاخرة. وقوله (عليه السلام): «لعن الله من جهل حقك».

نفهم من هذه العبارة أن للعباس بن علي حقوقاً يجب علينا معرفتها، ومن هذه الحقوق:

أولاً: يجب أن نعرف أنه ولي من أولياء الله.

ثانياً: إنه من أكابر العلماء والفقهاء الذين اخذوا علمهم من الحجج بدون واسطة فبهذا يكون العباس أعلم الخلق وأفقههم بعد الحجج الأطهار.

قال تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»(2).

ص: 120


1- مقتل الحسين (عليه السلام)، أبو مخنف الأزدي، ص 181
2- الزمر: 9

ثالثاً: إنه معصوم(1) ابن معصوم أخ معصومين عم معصومين.

رابعاً: إن له منزلة عظيمة إذ يغبطه جميع الشهداء والصديقين، وبهذه الغبطة نعرف أن شهادته كانت أعلى درجات الشهادة ونستثني سيد الشهداء (عليه السلام).

خامساً: إن منزلته تتلو الحجج الأطهار.

فمن جهل هذه الأمور وتكلم بغير ذلك كان ممن جهل حق المولى واستخف بحرمته، فالذي يستخف بعلم العباس وقداسة العباس ومنزلة العباس ويقلل من شأنه فهو مطرود من رحمة الله بنص الإمام الصادق.

وقد ورد في زيارة عاشوراء: (لعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها)(2).

فمقام العباس عظیم عند الله والمعصومين، فمن ساوی هذا العبد الصالح مع غيره من الناس العاديين كان مستخفاً بحرمته وممن جهل حقه؛ لأن منزلة العباس ومكانته أجل وأرفع من أن تقاس مع غيره من الناس وإنما يقاس مع الأنبياء والصديقين والصالحين، قال تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ»(3)، فلو احصينا صفاته وما يمتلك من فضائل الأيقنا أن شخص العباس لا يقاس إلا بمن كملت جميع صفاته غير القابلة للخطأ.

وقد بين الإمام الصادق في زيارة المولى أبي الفضل قرب العباس ومنزلته من الله، قوله (عليه السلام): (سلام الله وسلام ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين، وعباده

ص: 121


1- لعصمة العباس مبحث خاص سنتطرق له في المقصد السابع
2- کامل الزیارات، ص 329
3- الرعد: 16

الصالحين، وجميع الشهداء والصديقين، والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح، عليك يا ابن أمير المؤمنين)(1).

فهذا السلام المتواصل من الله وملائكته وأنبيائه ورسله دليل على عظيم منزلته وقربه من الله، لذا يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارة عمه العباس: (وعرف بيني وبينه وبين رسولك وأوليائك)، فإن المعرفة به تعني النجاة في الدنيا والآخرة، لذا يجب علينا معرفته كي نقتدي به، والعباس بن علي اهل لأن يقتدى به.

ولعل سبب عدم معرفة البعض لقمر العشيرة بالمعرفة الحقيقية ذلك أن العباس بن علي نسي ذاته المقدسة وانشغل بخدمة السبطين فلم يتكلم بحياته إلا بالضرورة احتراما لحجج الله وهذا ما تعلمه من الأئمة (عليهم السلام)، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يكون إمامان إلا وأحدهما صامت لا يتكلم، حتى يمضي الأول)(2).

لذا لم نجد في سيرة المولى أبي الفضل سوى الانقياد والتسليم والطاعة لله ولرسوله وللحجج، ولكن لمن له معرفة وبصيرة من خلال هذا الانقياد وهذا التسليم يستدل على علم المولى، ومن كلام الإمام الصادق للمفضل قال (عليه السلام): (...ان الدين وأصل الدين هو رجل وذلك الرجل هو اليقين وهو الایمان وهو إمام أمته وأهل زمانه فمن عرفه عرف الله ومن أنكره أنكر الله ودينه)(3).

ومن الشواهد التي دلت على أنه من فقهاء ابناء الأئمة، معرفته بالحجج الأطهار واستيعابهم بشكل تام والثبات معهم في جميع الأدوار التي مروا بها، فعن شعیب

ص: 122


1- کامل الزیارات، ص 440
2- بحار الأنوار، ج 25، ص 107
3- بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار)، ص 549

الحداد، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: (إن حديثنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للایمان)(1).

وكذلك جهاده معهم، خير دليل على تبحره في العلوم الإلهية، فقد جاهد قمر العشيرة مع أئمة الهدى بقلبه ويده ولسانه.

فمن خلال أعماله وما قام به ابو الفضل من جهاد أعداء الدين ومحاربتهم، ومعرفته بوجوب نصرة الإمام والذب عنه وعن حرمه، ووجوب الاحتساب في سبيل لله، والصبر على المصيبة والثبات، وحرمة الغدر ووجوب الوفاء مع الإمام بالبيعة، نثبت أنه (عليه السلام) كان من فقهاء أهل البيت وعلمائهم.

فالعباس بن علي من المجاهدين بل هو من أعظم المجاهدين على مر العصور لذا تخلد اسمه الشريف وصار يغبطه على مكانته جميع المجاهدين؛ ذلك لصبره واحتسابه في ذات الله(2).

المقصد الثاني: (الشجاعة).

من الصفات والكمالات النفسية الأخرى التي اتصف بها قمر العشيرة: (الشجاعة) وهي مفخرة من مفاخر العرب، والشجاعة من صفات الأنبياء والأولياء، ولا يصل الانسان الى هذه الصفة إلا أن يمتلك قوة ايرانية وقوة جسمانية.

جاء في اللغة: (الشَّجاعةُ: شِدّةُ القَلبِ في البأس، والأَشجَعُ من الرجال: مثل الشُّجاع، ويقال للذي فيه خِفَّةٌ کالهَوَج لقُوّته ويسمى به الأَسَدُ، ويقال للأَسد أَشجَعُ وللَّبُوءَة شَجعاءُ)(3).

ص: 123


1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 52
2- ومن اراد الاستزادة فليراجع: العبد الصالح العباس بن علي بن ابي طالب، السيد هادي الموسوي
3- لسان العرب، ابن منظور، ج 8، ص 173

وفي الاصطلاح، الشجاعة: (هي الاقدام على المكاره في وقت الحاجة، وإهانة الموت)(1).

ولا يكون الإنسان شجاعاً إلا أن يتصف بصفات كثيرة منها الإيمان والكرم، والجود، والوفاء، والصدق، وغيرها من الصفات الأخرى.

والإنسان يرث الشجاعة من آبائه ولكن قد تقوى هذه الصفة أو تضعف بحسب المكان الذي يتربي فيه الانسان، لذا نجد أن العباس بن علي (عليه السلام) كان يتصف بهذه الصفة لما له من مقومات نفسية ومعنوية.

والعباس ورث الشجاعتين من آبائه ثم تربى في بيت أشجع فرسان العرب، وقد تكلمنا في الفصل الأول عن اجداد المولى ابي الفضل من أمه فاطمة الكلابية وشجاعتهم الفائقة التي شهد لها الشجعان(2)، ويكفيه أن علياً والده فهذه وحدها مكرمة.

وكيف لا يكون العباس بطلاً جسوراً و قائداً عظيماً وهو يرى ذلك الأب وهو يخطب في القوم ويتوغل في صفوفهم.

فجهاده مع أبيه واستماعه لتلك الخطب الرائعة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، جعلته بطلاً لا مثيل له، فمن كلام له (عليه السلام) في تعليم الحرب والمقاتلة والمشهور أنه قاله لأصحابه ليلة الحرير أو أول اللقاء بصفين: «مَعَاشِرَ اَلْمُسْلِمِینَ اِسْتَشْعِرُوا اَلْخَشْیَةَ، وَ تَجَلْبَبُوا اَلسَّکِینَةَ وَ عَضُّوا عَلَی اَلنَّوَاجِذِ، فَإِنَّهُ أَنْبَی لِلسُّیُوفِ عَنِ اَلْهَامِ وَ أَکْمِلُوا اَللَّأْمَةَ، وَ قَلْقِلُوا اَلسُّیُوفَ فِی أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا، وَ اِلْحَظُوا اَلْخَزْرَ وَ اُطْعُنُوا اَلشَّزْرَ، وَ نَافِحُوا بِالظُّبَی وَ صِلُوا اَلسُّیُوفَ بِالخُطَا، وَ اِعْلَمُوا أَنَّکُمْ بِعَیْنِ اَللَّهِ

ص: 124


1- معارج نهج البلاغة، علي بن زيد البيهقي، ص 30
2- ومن أراد الاستزادة فاليراجع، موسوعة بطل العلقمي، ج 1، ص 118 الى ص 183

مَعَ اِبْنِ عَمِّ رَسُولِ اَللَّهِ، فَعَاوِدُوا اَلْکَرَّ وَ اِسْتَحْیُوا مِنَ اَلْفَرِّ، فَإِنَّهُ عَارٌ فِی اَلْأَعْقَابِ وَ نَارٌ یَوْمَ اَلْحِسَابِ، وَ طِیبُوا عَنْ أَنْفُسِکُمْ نَفْساً، وَ اِمْشُوا إِلَی اَلْمَوْتِ مَشْیاً سُجُحاً، وَ عَلَیْکُمْ بِهَذَا اَلسَّوَادِ اَلْأَعْظَمِ وَ اَلرِّوَاقِ اَلْمُطَنَّبِ، فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ اَلشَّیْطَانَ کَامِنٌ فِی کِسْرِهِ، قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَهِ یَداً وَ أَخَّرَ لِلنُّکُوصِ رِجْلاً، فَصَمْداً صَمْداً حَتَّی یَنْجَلِیَ لَکُمْ عَمُودُ اَلْحَقِّ، وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّهُ مَعَکُمْ وَ لَنْ یَتِرَکُمْ أَعْمالَکُمْ»(1).

فتلك الكلمات هي عبر ودروس نفسية يستفيد منها المقاتل، فبعض الصحابة والمقربين من أمير المؤمنين (عليه السلام) وصلوا الى حد الإعجاز في قتالهم كمالك الأشتر، فكيف بالذي نشأ وهو صغير في حجر هذا القائد العظيم الذي ورث منه محاسن الاخلاق وطيب الخصال.

جاء في مروج الذهب (وقد كان أصحاب الجمل حملوا على ميمنة علي وميسرته فكشفوها، فأتاه بعض ولد عقيل وعلي يخفِق نعاساً على قرَبوس سرجه، فقال له: يا عم، قد بلغت میمنتك وميسرتك حيث ترى، وأنت تخفق نعاساً؟

قال: اسكت يا ابن أخي، فان لعمك يوماً لا يعدوه، والله ما يبالي عمك وقع على الموت أو وقع الموت عليه، ثم بعث الى ولده محمد ابن الحنفية وكان صاحب رايته: احمل على القوم، فأبطأ محمد بحملته، وكان بإزائه قوم من الرماة ينتظر نفاد سهامهم فأتاه علي فقال:

هلا حملت، فقال لا أجد متقدَّماً إلا على سهم أو سنان، وإني منتظر نفاد سهامهم وأحمل، فقال له: احمل بين الأسنة، فإن للموت عليك جنة)(2).

ص: 125


1- نهج البلاغة، تحقيق (صبحي الصالح)، خطبة: 66، ص 97
2- مروج الذهب، ج 2، ص 366

فمن ينشأ مع قائد عظيم كعلي بن أبي طالب (عليه السلام) لا بد أن يكون مختلفاً في قتاله ونزاله وصولاته، وقد شهد لمحمد ابن الحنفية في شجاعته حتى الأعداء فهذا السيد الهاشمي والبطل العلوي قد أبطأ في هذا الموقف وكان ينتظر نفاد سهامهم.

أما العباس بن علي (عليه السلام) فكان موقفه اقوى فقد تناثرت عليه السهام من كل جانب فكان لا يكترث لها ولا لتلك الجموع الغفيرة إنما همه ايصال الماء الى مخيم الإمام الحسين ومن ارجوزة له (عليه السلام) قال:

«لا ارهب الموت اذا الموت رقی».

فهذا الكلام يذكرنا بكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لأحد أبناء أخيه عقيل (عليه السلام): «والله ما يبالي عمك وقع على الموت أو وقع الموت عليه».

وقد ظهرت الشجاعة العباسية منذ صباه، بل ظهرت شجاعته منذ طفولته فهذا هو حال الهاشميين، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لو ولد أبو طالب الناس كلهم لكانوا شجعانا)(1).

فبين ما ورثه العباس من آبائه وأجداده و ما اكتسبة؛ فضلاً على شجاعته اصبح العباس لا يقاس إلا بالحجج من حيث الشجاعة والبسالة.

فصار هذا القائد كأبيه في سوح القتال يجندل الأبطال ويقلب الحال، وقد كان جیشاً بأكمله يوم الطف وكان العدو رغم وجود أبطال من الأنصار ومن بني هاشم يشهد لهم التاريخ في شجاعتهم لكن همهم وخوفهم من قمر العشيرة، بمقدار خوفهم من الباقين لما رأوا له من بطولات يوم صفين.

ص: 126


1- شجرة طوبی، الشيخ محمد مهدي الحائري، ج 2، ص 305

قال أبو جعفر وابن الأثير: (لما نشبت الحرب بين الفريقين تقدم عمر بن خالد ومولاه سعد، ومجمع بن عبد الله، و جنادة بن الحرث فشدوا مقدمين بأسيا فهم على الناس، فلما وغلوا فيهم عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم، فندب الحسين (عليه السلام) لهم أخاه العباس فحمل على القوم وحده، فضرب فيهم بسيفه حتى فرقهم عن أصحابه وخلص إليهم فسلموا عليه فأتی بهم، ولكنهم كانوا جرحى فأبوا عليه أن يستنقذهم سالمين، فعاودوا القتال وهو يدفع عنهم حتى قتلوا في مكان واحد فعاد العباس إلى أخيه وأخبره بخبرهم)(1).

فالعباس بن علي يمتلك شجاعة فائقة ولولا القربة والعطش الذي اجهده لكان من الصعب أن يصلوا له وإن كثر عددهم، ولكن القدر شاء أن يكون مصرعه جنب الشريعة، كي يبقى ذكره خالداً، فشجاعة العباس لا توصف.

ومن أبرز بطولاته في الطف أنه (عليه السلام) قد جلب الماء لعيال الحسين يوم السابع من محرم الحرام، وقد جعل ابن سعد على الشريعة اربعة آلاف مقاتل، إلا أنه لم يكترث لذلك الجمع بل همه ايصال الماء وقد فعل ذلك وأوصل الماء الى عيال الحسين بعد أن كشف المشرعة وقتل كل من تقدم له.

وقد اختلفت شجاعة الهاشميين عن غيرهم فهي شجاعة مع مروءة فكان الإمام يضرب العدو ضربة واحدة فتزهق روحه وهذا حال الهاشميين فهم مطمئنون حتى في سوح القتال، عكس أعدائهم حيث كانوا يقتلون بهمجية ويضربون بشكل عشوائي ويقذفون بالحجارة وهذا دليل على عدم ثباتهم، ولو قسنا المأساة التي جرت على الحسين والعباس ومصارع الشهداء لعرفنا أن العدو كان مرعوبا منهم، ذلك من خلال الطعن والضرب فلم يكتفوا بقطع يمين العباس وشاله بل رموه

ص: 127


1- مقتل الحسين ابو مخنف، ص 178

بالنبال حتى أصابوا جسمه الطاهر ولم يكن مكان من جسده الشريف إلا وأصابوه كذلك الإمام الحسين قد تعرض لثلاث وثلاثين طعنة وأربعة وثلاثين ضربة(1)، فما فعله بنو امية بكرام الخلق. إنما هو تعبير عن جبنهم و خساستهم.

المقصد الثالث: (الوفاء).

قال ابن منظور: (الوفاءُ: ضد الغدر، يقال: وَفَى بعهده(2)، والوَفِيُّ: الذي يُعطِي الحقَّ ويأخذ الحقَّ، وفي التنزيل العزيز: يُوفُون بالنَّذر(3).

ومن الآيات التي تؤكد على الالتزام بالوفاء والعهد، قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»(4)، وقوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ»(5).

فالله سبحانه وتعالى، يعلمنا الوفاء بكل شيء بالنذر والعهود، لكي نتصف بهذه الصفة الحسنة التي اتصف بها أنبياءه وأولياءه فهي صفة عظيمة ولا يكون الإنسان مؤمناً حتى يتصف بهذه الصفة.

والوفاء من أشهر صفات المولى أبي الفضل (عليه السلام) التي تحلت بها نفسه الشريفة، فقد كان وفياً لأبناء فاطمة ومصدقاً لهم، وهذا ما تعلمه من أبيه وامه.

فعلي (عليه السلام) كان وفياً مخلصاً مع النبي، وأم البنين كانت من السيدات الفظلات التي وفت مع علي والزهراء في رعايتها للسبطين والسيدة زينب.

ص: 128


1- جاء في اللهوف ص 339، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (وجد في الحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة)
2- لسان العرب، ص 398
3- المصدر نفسه، ص 399
4- الإسراء: 34
5- النحل: 91

فهذا العرق الهاشمي الذي غرس على الوفاء والصدق حتى صار مثالاً عظيماً للناس، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَیُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَلْوَفَاءَ تَوْأَمُ اَلصِّدْقِ وَ لاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَی مِنْهُ»(1).

فهاتان صفتان متلازمتان، فالإنسان لا يكون وفياً الا أن يكون صادقاً، ومن لا وفاء له لا صدق له، وقد شهد للعباس بن علي (عليهما السلام) بالوفاء والتسليم والتصديق الإمام الصادق بقوله (عليه السلام): (اشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لحلف النبي المرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصي المبلغ، والمظلوم المهتضم فجزاك الله عن رسوله وعن أمير المؤمنين وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء، بما صبرت واحتسبت واعنت، فنعم عقبى الدار)(2).

فشهادة الإمام لقمر العشيرة تعني شهادة الله لهذا العبد الصالح بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة، فبهذا الوفاء وهذه الاعانة قد نال المولى ابو الفضل افضل الجزاء في دار الدنيا ودار الاخرة؛ ففي الدنيا جعل الله اسمه في عليين وجعل قبره ملجأ الخائفين والسائلين وباب حوائج الناس، أما في الآخرة فلمنزلته وعظيم قدره يغبطه جميع الشهداء والصديقين.

وفي تكملة زيارة المولى، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «أَشهد وأُشهد الله انك مضيت على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابون عن أحبائه، فجزاك الله أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفي جزاء أحد ممن وفي ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة امره، واشهد انك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية

ص: 129


1- نهج البلاغة، الخطبة: 41، ص 83
2- کامل الزیارات، جعفر بن محمد بن قولویه، ص 440

المجهود، فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه افسحها منزلا، وأفضلها غرفا، ورفع ذكرك في عليين، وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا»(1).

فالبدريون ممن وفوا ببيعتهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يبدلوا فمنهم من استشهد ومنهم من يترقب اما النصر أو الشهادة، لذا ذكرهم الإمام في هذه الزيارة، فالعباس مضى مثل أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله، حتى قتل صابراً محتسباً.

والعباس من الذين وفوا مع الحسين حتى أعطاه الله منزلة عظيمة ودرجة رفيعة يغبطه عليها جميع الشهداء والصديقين ذلك لوفائه وصدقه.

فمن وفي مع الله فالله سبحانه وتعالى سوف يفي له بكل ما وعد به عباده الصالحين بأوفي جزاء المحسنين.

وقد ذكر الإمام الصادق (عليه السلام) البدريين ذلك لوجه التشابه بين البدريين وأهل الطف:

الوجه الأول:

كان مصير الدين بهؤلاء الرجال الأوفياء مع قلة العدد وكثرة العدو، كذلك أهل الطف فلولاهم لما استقام الدين، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، فعلى الرغم من قلتهم إلا أنهم جاهدوا وصابروا ورابطوا حتى نصرهم الله.

والبدريون اصحاب بصيرة وايمان وثبات ومن ابرزهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) و حمزة بن عبد المطلب (عليه السلام) وغيرهم من الرجال الأكفاء، فهؤلاء هم أهل بدر الذي مضى قمر العشيرة على اثرهم.

ص: 130


1- کامل الزیارات، جعفر بن محمد بن قولویه، ص 442

فجهاده مع أخيه الحسين بكربلاء كجهاد البدريين مع رسول الله بل فاق العباس جهاد البدريين ذلك بسبب تواجد النساء والعيال فهذا ثقل كبير لا يحمله الا ابن علي.

فكان جهاده من أعظم الجهاد إذ جاهد العباس بيده ولسانه وقلبه وكل ما يملك من قوة حتى بذل غاية المجهود، ففي زيارة المولى جاء:

«فَنِعْمَ الصَّابِرُ الْمُجاهِدُ الْمُحَامِي النَّاصِرُ وَالْأَخُ الدَّافِعُ عَنْ أَخِيهِ الْمُجِيبُ إِلى طاعَةِ رَبِّهِ الرَّاغِبُ فِيما زَهِدَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الثَّوابِ الْجَزِيلِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَأَلْحَقَكَ اللّهُ بِدَرَجَةِ آبائِكَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

فالعباس بن علي مضى على ما مضى عليه والده أمير المؤمنين وبقية الشهداء حتى ألحقه الله بدرجتهم في الجنة فهذا هو الاتباع الصحيح وهذا هو استحقاق كل وفي وفي لله ولرسوله وللحجج الکرام.

والوجه الثاني:

إن قريشاً أرادوا قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليقضوا على الإسلام فهم يعلمون أن وجوده يعني بقاء الإسلام.

كذلك بنو أمية أرادوا قتل ابن بنت نبيهم لأنهم علموا ايضاً أن وجود الحسين يعني وجود الدين وبقاءه، فكان دفاع البدريين وأهل الطف دفاعاً عقائدياً فهؤلاء دافعوا عن نبيهم وهؤلاء دافعوا عن امامهم. لكن الفرق بين البدريين وشهداء الطف أن أهل بدر كان لهم الأمل في الفوز ولكن أصحاب الحسين كانوا يعلمون أن فوزهم بشهادتهم، لذا زاد أجرهم ورفعت منازلهم حتى صاروا أحباء الله وأولياءه وأصفياءه وأوداءه(1).

ص: 131


1- في كامل الزیارات، ص 464، حينما نزور الشهداء نقول (السلام عليكم يا أولياء الله وأحباءه، السلام علیکم یا أصفياء الله و أوداءه)

عن شيبان، قال : ( أقبلنا مع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من صفين حتّى نزلنا کربلاء وهو على بغلة له، فنزل عن البغلة فأخذ كفاً من تحت حافر البغلة فشمّها ثمّ قبّلها ووضعها على عينيه وبكى وقال: وأيّ حبيب يُقتل في هذا الموضع، كأني أنظر إلى ثقل من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أناخوا بهذا الوادي، فخرجتم إليهم فقتلتموهم، ويلٌ لكم منهم، وويلٌ لهم منکم، ما أعلم شهداء أفضل منهم إلاّ شهداء خلقهم مع محمّد (صلى الله عليه وآله) ببدر، ثمّ قال: ائتوني برجل حمار أو فكّ حمار، فأتيته بر جل حمار میّت فأوتده في موضع حافر البغلة، فلما قتل الحسين (عليه السلام) جئت فاستخرجت رجل الحمار من موضع دمه (عليه السلام) وإن أصحابه لربض حوله)(1).

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خرج أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يسير بالناس حتّى إذا كان من كربلاء على مسيرة ميل أو ميلين، تقدّم بين أيديهم حتّى صار بمصارع الشهداء، ثمّ قال (قبور) قبض فيها مائتانبي ومائتا وصيّ ومائتا سبط شهداء بأتباعهم، فطاف بها على بغلته خارجاً رجليه من الركاب وأنشأ يقول: مناخ ركاب ومصارع شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم)(2).

ومن أهم المواقف العظيمة والمشرفة التي كشفت عن وفائه ووفاء اخوته من أم البنين وهم عبد الله، وجعفر، وعثمان (عليهم السلام) أن ابن زیاد (عليه اللعنة) عرض عليهم الأمان في الطف فحينما سمعوا قوله غضبوا ونبع الوفاء من أعينهم،

ص: 132


1- مسند الإمام علي، السيد حسن القبانجي، ج 8، ص 396
2- المصدر نفسه، ج 8، ص 397

قال عبد الله بن أبي المحل بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن کعب بن عامر بن کلاب [لابن زیاد عليه اللعنة]: (أصلح الله الأمير، ان بني أختنا مع الحسين فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت، قال: نعم ونعمة عين، فأمر كاتبه فكتب لهم أمانا فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له کزمان، فلما قدم عليهم دعاهم فقال: هذا أمان بعث به خالكم، فقال له الفتية: أقرئ خالنا السلام وقل له: ان لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سمية!..

وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي فقالوا له: مالك وما تريد؟ قال: أنتم يا بني أختي آمنون، قال له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك لأن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!!)(1).

وفي رواية أخرى (أقبل شمر بن ذي الجوشن حتى وقف على معسكر الحسين رضي الله عنه فنادى بأعلى صوته: أين بنو أختنا، عبد الله وجعفر والعباس بنو علي بن أبي طالب! فقال الحسين لإخوته: «أجيبوه وإن كان فاسقا فإنه من أخوالكم!» فنادوه، فقالوا: ما شأنك وما تريد؟ فقال: يا بني أختي! أنتم آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنین یزید بن معاوية! فقال له العباس بن علي رضي الله عنه: «تبا لك يا شمر ولعنك الله ولعن ما جئت به من أمانك هذا يا عدو الله! أتأمرنا أن ندخل في طاعة العناد ونترك نصرة أخينا الحسين رضي الله عنه»، قال: فرجع الشمر إلى معسكره مغتاظا)(2).

ص: 133


1- مقتل الحسين، ابو مخنف الأزدي، ص 103 - 104
2- الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج 5، ص 94

وفي اللهوف روی ابن طاووس أن العباس بن علي (عليه السلام) قال لشمر: .. «تبت يداك ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدو الله أتأمرنا ان نترك أخانا وسيدنا الحسين ابن فاطمة عليهما السلام وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء»(1).

فأي وفاء هذا وأي سباق يتسابقون به هؤلاء الفتية الأطهار على حب الحسين، فمثل الشمر و ابن زیاد وجلاوزتهم (عليهم لعنة الله) لا يستوعبون وفاء العباس واخوته ولا يعرفون مدى وفائهم وطاعتهم لأخيهم الحسين، فهذا عرض مخجل يستحي منه العباس وأخوته کون هؤلاء من عشيرتهم ويعرضون عليهم الأمان.

فكان الرد عليهم کرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما عرضوا عليه السيادة فقال لهم «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على إن أترك هذا الامر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك»(2).

فبهذا الرد كان العباس واخوته من الأوفياء، لأن الوفاء لمثل هؤلاء غدر عند الله، والغدر بهم وفاء عنده سبحانه، فمن حكمة له (عليه السلام) قال فيها: «الْوَفَاءُ لِأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللّهِ، وَالْغَدْرُ بَأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللّهِ»(3).

فالذي تربى بحجر الحق وينبوع الوفاء لا يرتضي بالغدر ولا يقبل بالذل، ولا يقبل بقائد غير حسين، فلأجل ذلك الوفاء قد جعل الله له قبراً بجوار أخيه الحسين وجعله رمزاً من رموز الوفاء ذلك لطاعته وتصديقه واتباعه لحلف النبي، فلمزار العباس خصوصية عجيبة حيث جعله الله باباً للحوائج تكرمة لهذا الوفاء.

ص: 134


1- اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص 54
2- شرح ابن أبي الحديد، ج 14، ص 54
3- نهج البلاغة، الحكمة: 259

فالعباس وفي بعهوده وذمه مع اخيه، ووفي لأمه أم البنين التي أوصته بطاعة الحسين وخدمته، كذلك وفي لأبيه حينما أوصاه بأن لا يشرب الماء وأخوه الحسين عطشان، ووفي للحسن بنصرته للحسين، ووفي للزهراء ببذل نفسه دون ابنها، ولكن لن نقول یا سکينه أنه لم يفِ بعدم رجوعه بالماء حاشاه من ذلك، فقد أصابوا قربته وقطعوايمينه وشماله فكان معذوراً فلذلك بقي العباس على الشريعة لم يرتضِ أن يحمله الحسین خجلاً منه.

فقد شاء القدر أن يكون العباس رمز الوفاء والفداء والتضحية والاباء، فلو قالوا ما معنى كلمة وَفي لقلت تعني العباس.

المقصد الرابع: (الإباء).

جاء في اللغة: (أَبيٌّ: ذو إِباءٍ شديد إِذا كان ممتنعاً، ورجل أَبَيانٌ: ذو إِباءٍ شديد. ويقال: تَأَبَّی علیه تَأَبِّياً إذا امتنع عليه، ورجل أَبَّاء إِذا أَبی أَن يُضامَ، والإِباءُ: أَشدُّ الامتناع)(1).

فبنو هاشم هم أباة العرب وفخرها وعزها، والعباس بن علي ورث هذه الصفة واكتسبها من آبائه وأجداده فتلك النفس الابية التي رفضت كل باطل وأبت إلا الحق صارت مضرب مثل في الإباء وله يرثي العباس ابن أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

أبا الفضل يا من أسس الفضل والابا *** أبي الفضل الا ان تكون له أبا(2)

ص: 135


1- لسان العرب ج 14، ص 4
2- أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 6، ص 443

فالإباء من شيم الأطهار وشمائل الكرام الذين رفضوا الاستعباد والجور فأبت نفوسهم الظلم وامتنعت عن كل رذيلة، والعباس بن علي تأبی نفسه الا أن تكون مطيعة لله ولرسوله ولأخيه الحسين (عليه السلام).

فهذه النفس العزيزة أبت أن ترخص إلا لمن هو أغلى منها، ولا توجد نفس أغلى من نفسه الطاهرة سوى نفس ابن بنت رسول الله والحجج، لذا أبي العباس أن يشرب الماء وأخوه عطشان، وأبی أن يخضع للظلم وقد أحاطت بابن بنت فاطمة زمر الضلال، والعباس غيور يأبى العار وأي عار أكثر من ترك ابن فاطمة واللحاق بابن آكلة الأكباد، فليس من فعال الدين أن يترك العبد مولاه، وليس من فعال الدين أن لا يواسي الاخ أخاه، وهذا ما عبر عنه المولى أبو الفضل في ابياته حينما ملك الشريعة فأبت نفسه الشريفة أن تشرب الماء والحسين يتلظى عطشى فقال (عليه السلام):

يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لاكنت أن تكوني

هذا حسينُ واردَ المنون *** وتشربين بارد المعين

تالله ماهذا فعال دیني *** ولا فعال صادق اليقينِ

فقد شح العباس على نفسه في سبيل ان يسقي الحسين وأطفال الحسين وقد ملك الشريعة ولم يشرب حتى استشهد عطشاناً.

ص: 136

المقصد الخامس: (الإيمان).

قال ابن منظور: (الإِيمانُ: التصديقُ(1)، وآمَنت بالشيء إذا صَدَّقت به(2).

فالإيمان يعني التصديق، ويجب أن يكون التصديق بالقلب واللسان والجوارح، فلا يكون الإنسان مؤمنا حتى يكون ما بقلبه على لسانه، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إن الإيمان هو التصدیق بالقلب والعمل بالأركان والقول باللسان)(3).

فمن هذا الحديث نذکر ایمان المولى ابي الفضل، فالعباس بن علي (عليه السلام) إنما كان مجهوده نتيجة لما وصل إليه من حقائق الإيمان.

قال الإمام الصادق في زيارة عمه العباس: «أشهد لك بالتسليم والتصديق»، فمعنى التسليم، أي أنه (عليه السلام) كان مسلم لأمر مولاه الحسين في كل شيء، والتسليم أعلى درجات الإيمان، ولا يكون الإنسان مسلما إلا أن يكون مؤمنا مصدقاً، ومن غرر حكمه (عليه السلام) قال: (أصل الإيمان التسليم لأمر الله)(4).

عن المفضل بن عمرو قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) باي شيء علم المؤمن انه مؤمن قال: «بالتسليم لله في كل ما ورد عليه»)(5).

ومن حكمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «لَأَنْسُبَنَّ الْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي، الْإِسْلاَمُ هُوَ التَّسْلِيمُ وَ التَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ، وَ الْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَ التَّصْدِيقُ

ص: 137


1- لسان العرب، ج 13، ص 23
2- المصدر نفسه، ج 13، ص 24
3- التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 55
4- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 121
5- بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار)، ص 542

هُوَ الْإِقْرَارُ، وَ الْإِقْرَارُ هُوَ الْأَدَاءُ وَ الْأَدَاءُ هُوَ الْعَمَلُ»(1).

فالعباس عالم عامل وفقيه تتلمذ على يد مولاه أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) فحينما يكون مسلما للحسين ومصدقا له، لا لأجل الأخوة وانما كان عارفا أن الحسين حجة الله في أرضه.

قال تعالى: «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ»(2). قال بالولاية(3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «كان عمنا العباس صلب الایمان جاهد مع أبي عبد الله وأبلى بلاء حسنا ومضى شهيدا»(4).

فقائد جيش الامام الحسين (عليه السلام) ليس مؤمناً فحسب بل كان صلب الایمان، ثابتاً لا يتزعزع رغم الشدائد.

وقد سُئِلَ الإمام (عليه السلام) عَنِ دعائم الإِيمَانِ، فَقَالَ: «الاْيمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ، والْيَقِينِ، وَالْعَدْلِ، وَالْجَهَادِ. ایمانا في يقين»(5).

فهذه الدعائم الأربعة كانت منغرسة في نفس العباس منذ صغره، حتى صار قائداً عظیماً صبوراً رحيماً.

ص: 138


1- نهج البلاغة، الحكمة: 125
2- لقمان: 22
3- تفسير القمي، ج 2، ص 166
4- مقتل الإمام الحسين، ابو مخنف، ص 176
5- نهج البلاغة، الحكمة: 31

والقائد يجب أن يكون صلب الایمان لأن ظروف الحرب والضغوطات التي تحيط به في المعركة قد تكون صعبة جداً لذلك حينما نقول أن مسألة القيادة في الطف مسألة مرتبطة بالسماء، ذلك لأن درجات الإيمان مختلفة بين شخص وآخر، فالبعض يصل الى مرحلة يفقد فيها ایمانه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَمِنَ الْإيمَانِ مَايَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقَرّاً فِى الْقُلُوب، ومِنهُ مَا یَکُونَ عَوَارِیَّ بَينَ القُلُوبِ والصُدُورِ»(1).

لذا كان الاختيار من عند الله لمن هو كفؤ لهذه المسؤولية، فالعباس بن علي رغم المصائب التي رآها والظمأ وحال العيال، والنساء من بكاء وعطش وجوع، فهذا الحال يقلل العزيمة ويضعف الهمة عند البعض، إلا أنه (عليه السلام) كان صلباً قوياً ثابتاً بل كلما اشتد به الأمر كان (عليه السلام) يزداد ایماناً وحمية، قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ یَرْتابُوا».

والعباس بن علي قد شاهد أهل بيته واخوته يُقتلون أمامه لكنه (عليه السلام) لم يتردد لحظة عن الجهاد بل كان يتشوق لقتال الأعداء.

قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار لانَ، وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل ونشر، لم يتغير قلبه»(2).

فهذا القائد العظيم الذي قضى حياته وهو بجنب الحسين كان لا يفارقه ابداً، وقد اكتسب منه جميع الصفات والكمالات.

ففي رواية تروى عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: «لما اشتد الامر بالحسين بن علي ابن أبي طالب (عليهما السلام)، نظر إليه من كان معه فإذا هو

ص: 139


1- نهج البلاغة: الخطبة 189، ص 280، تحقیق صبحي الصالح
2- المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج 1، ص 251

بخلافهم لأنهم كلما اشتد الأمر تغيرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم وكان الحسين (عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت! فقال لهم الحسين (عليه السلام): صبرا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة تعبر بکم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وماهو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إن أبي حدثني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كَذَبت ولا کُذِّبت»(1).

فقائد جيش الحسين (عليه السلام) من تلك النفوس التي تهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم عند الأهوال ودليل ذلك انه كان مبتسما في الشدائد فهذه الابتسامة دليل على ایمانه ويقينه، فكاشف الكرب لا يكشف كرب الحسين إلا وفيه هذه الصفة.

وعلى الرغم من غيرته الهاشمية وعرقه الذي ينبض للجهاد، کان بمجرد ان يكلمه الإمام الحسين يهدأ وما هذا إلا تعبير عن ایمانه وطاعته وتسليمه لمولاه.

وإيمان العباس لا يقاس إلا بإيمان المعصومين، لأن المواقف التي ثبت فيها لا يتحملها إلا معصوم، فهذه النفوس الطاهرة كانت مطمئنة راضية بقضاء الله وقدره، فقبل أن يستشهد المولى أبو الفضل (عليه السلام) كان يبشر نفسه بقوله: (وأبشري برحمة الجبار).

ص: 140


1- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص 288

فلم ينظر المولى أبو الفضل الى الجانب المؤلم والمأساوي، وإنما نظر الى رحمة الله، فهذه الدرجة من الایمان وهذا اليقين قد جعل العباس ينظر الى ما وراء الشهادة من نعيم أبدي.

ومن خلال التضحيات والأعمال الحسنة نعرف مدی ایمان الانسان، فالإيمان يثبت بالعمل، فلو تتبعنا سيرة المولى ابي الفضل وما قام به من أعمال حتى صار کاشف الكرب عن وجه الحسين؛ فالذي يكشف كرب الحسين كيف تكون اعماله، والحسين بن علي لا ينكرب الا لأمور تخص الدين، إذاً فأعمال العباس جميعها تخص الدين، منها الجهاد في سبيل الله، ومعاونة الضعيف، وإكرام الضيف، ونصرة المظلوم، وغيرها من الأعمال الأخرى، فكل ما يقوم به العباس من عمل هو نابع عن ايمانه العميق الذي وصل الى حقائق الايمان.

المقصد السادس: (البصيرة).

من الصفات الخُلُقية التي اتصف بها أولياء الله هي البصيرة والعباس بن علي مضى على يقين من دينه وبصيرة من أمره.

جاء في اللغة: (البَصيرة اسم لما اعتقد في القلب من الدين وتحقيق الأَمر؛ وقيل: البَصيرة الفطنة، تقول العرب: أَعمى الله بصائره أَي فِطَنَه؛ عن ابن الأَعرابي: وفي حديث ابن عباس: أَن معاوية لما قال لهم: يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم، قالوا له: وأَنتم يا بني أُمية تصابون في بصائر کم، وفَعَلَ ذلك على بَصِيرَةٍ أَي على عَمدٍ، وعلى غير بَصيرة أَي على غير يقين)(1).

ص: 141


1- لسان العرب، ابن منظور، ج 4، ص 65

أما في الاصطلاح: فهي ملكة في الانسان يميز بها الحق من الباطل ولا تأتي هذه البصيرة إلا من العلم والمعرفة والصفاء النفسي، وقد تتفاوت هذه الملكة من شخص لآخر حسب درجة الايمان واليقين، فحينما يقول الامام الصادق (عليه السلام): (كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة)، أي لا مجال فيه إلى الشك والتردد. وعرفها البعض هي: (البيّنة والدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به)(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصرا من بعض، وهي الدرجات»(2).

قال تعالى: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي»(3).

عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي»(4)، قال: (ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وامير المؤمنين (عليه السلام)، والأوصياء من بعدهم)(5).

فالبصيرة صفة تكمن في ذات الانسان، والمتبصر في دينه هو المؤمن الحقيقي الذي لا تهزه الصعاب ولا تميل به الرياح حيث تشاء، وإنما تقوده بصيرته.

وهذا القائد العظيم الذي نتكلم عنه ليس من أصحاب البصيرة فقط، بل كان نافذ البصيرة، قال جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة)(6).

ص: 142


1- القرآن وفضائل أهل البيت (ع)، محمد الصالحي الأنديمشکي، ص 141
2- میزان الحكمة، ج 3، ص 1870
3- يوسف: 108
4- يوسف: 108
5- تفسير نور الثقلین، ج 2، ص 477
6- مقتل الحسين، ابو مخنف، ص 176

فالعباس ليس له بصيرة بل بصائر ينظر بها في أعماق ایمانه فتسطع بنور جبینه الذي ينير به الظلام، وما هذا النور الذي يسطع من جبينه إلا انعکاس عن بصيرته التي شهد بها الحجج الاطهار.

وقول الإمام الصادق في زيارته للمولى ابي الفضل (عليه السلام): (اشهد انك لم تهن ولم تنكل، وانك مضيت على بصيرة من امرك، مقتديا بالصالحين، ومتبعا للنبيين، جمع الله بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المحسنين، فإنه ارحم الراحمين)(1).

فالبصيرة نور في العقل والقلب والروح والنفس وجميع الجوارح، تسري مع أولياء الله مسرى الدم في الجسد.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (قسم العقل على ثلاثة أجزاء، فمن كانت فيه كمل عقله، ومن لم تكن فيه فلا عقل له: حسن المعرفة بالله (عز وجل)، وحسن الطاعة له، وحسن البصيرة على أمره)(2).

فقوله (عليه السلام): (نافذ البصيرة) أي أن العباس بن علي (عليهما السلام) كان يرى الأشياء بحقيقتها.

وقد جاء في كتاب منازل السائرين : (البصيرة ما يخلَّصك من الحيرة، وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى أن تعلم أنّ الخبر القائم بتمهيد الشريعة يصدر عن عين لا تخاف عواقبها، فترى من حقّه أن تلذّه يقينا، وتغضب له غيرة.

والدرجة الثانية: أن تشهد في هداية الحقّ وإضلاله إصابة العدل، وفي تلوين أقسامه رعاية البرّ، وتعاين في جذبه حبل الوصال.

ص: 143


1- کامل الزیارات، جعفر بن محمد بن قولویه، ص 442
2- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 102

والدرجة الثالثة: بصيرة تفجّر المعرفة، وتثبت الإشارة، وتنبت الفراسة)(1).

فالإنسان حينما يكرس حياته في سبيل الله ويبقى على فطرته ويترك الدنيا وملذاتها فإن الله سبحانه وتعالى يجعله متبصراً متنوراً بنور القداسة، وهذا النور الذي يقذفه الله في قلبه وروحه وبدنه يجعله من المتبصرين الذين يرون الأشياء بحقيقتها.

المقصد السابع: (العصمة).

قبل البدء بذكر عصمة المولى أبي الفضل العباس (عليه السلام) لا بد من بیان معنى العصمة.

قال ابن منظور: (العِصْمة في كلام العرب: المَنْعُ، وعِصْمةُ الله عَبْدَه: أن يَعْصِمَه مما يُوبِقُه، عَصَمه يَعْصِمُه عَصْماً: منَعَه ووَقَاه، وفي التنزيل: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ؛ أي: لا مَعْصومَ إلا المَرْحومُ؛ أي لا مَعْصومَ إلا المَرْحومُ، والعَصْمة: الحِفظ، يقال: عَصَمْتُه فانْعَصَمَ، واعْتَصَمْتُ بالله إذا امتنعْتَ بلُطْفِه من المَعْصِية)(2).

أما العصمة اصطلاحاً: (قوة راسخة في النفس (ملكة)، يمتنع بها الإنسان عن اقتراف المعاصي وارتكاب الأخطاء)(3).

وقيل: (هي الملكة اليقينية التي لا يمكن لصاحبها أن يعصي الله تعالى بحسب ما آتاه الله من العلم المانع له من ارتكاب المعاصي والأخطاء)(4).

فمن الصفات التي اتصف بها هذا العبد الصالح العصمة، والعصمة ملكة تمنع العبد عن ارتكاب المعاصي صغيرها وكبيرها، وهو أمر اختياري لا جبري، فالله

ص: 144


1- منازل السائرین، عبد الله الأنصاري، ص 94
2- لسان العرب، ج 12، ص 403 - 404
3- بداية المعرفة، حسن مكي العاملي، ص 217
4- العصمة الكبرى لولي الله، ص 45

سبحانه وتعالى حينما يعصم عبداً من عباده إنما يوجد فيه هذه الصفة ثم يهيئ له اسباب العصمة، كما هو الحال مع الملائكة فالله سبحانه وتعالى وجدهم مطيعين منزهين من كل شائبة، فلذلك عصمهم وهيّأ لهم اسباباً ومن أهم تلك الأسباب أنه سبحانه جردهم عن الغرائز کغريزة الشهوة وغيرها من الغرائز الاخرى.

أما الأنبياء والحجج والأولياء وباقي العباد الصالحين فلم يجردهم من هذه الشهوات ولكن هيأ لهم بيئة طاهرة منذ أن خلقهم في عالم الأصلاب حتى نقلهم الى عالم الأرحام ثم إلى هذا العالم فكل ذلك تدبير منه تعالى بعد ما وجدهم مطيعين منزهين، كذلك هيء الله لوليه قمر العشيرة هذه الاسباب.

ومنها: انه سبحانه جعله يتقلب بين اصلاب شامخة وارحام مطهرة، ثم جعل تربيته على يد خيار الخلق، حتى صار العباس بن علي (عليه السلام) بهذا المستوى العالي من الايمان والمعرفة والبصيرة والشجاعة والجود وكل الصفات التي تتواجد في شخصية المعصوم.

وقد قسم البعض العصمة على قسمين:

العصمة الاستكفائية:

وهي العصمة التي لا يحتاج صاحبها الى غيره، کعصمة رسول الله والأنبياء والحجج(1).

العصمة غير الاستكفائية:

وهي العصمة التي يحتاج صاحبها الى غيره، فهذه العصمة جاءت عن طريق الاكتساب(2).

ص: 145


1- ينظر قمر بني هاشم، السيد المقرم، ص 76
2- ينظر المرجع نفسه

قال السيد المقرم (ليس من البدع أن قلنا أن (قمر بني هاشم) كان متحلياً بهذه الحلية بعد أن يكون مصاغاً من نور القداسة الذي لا يمازجها أي شين وعلى هذا كان معتقد شيخ الطائفة وإمامها الحجة الشيخ محمد طه نجف (قدس سره) فإنه قال بترجمة العباس من كتاب (اتقان المقال) ص 75 هو أجل من أن يذكر في المقام بل المناسب أن يذكر عند ذكر أهل بيت المعصومين (عليه وعليهم أفضل التحية والسلام).

فتراه لم يقل عند ذكر رجالات أهل بيته الأعاظم، بل اثبت المعصومين منهم، وليس هذا العدول إلّا لأنَّه يرتأي في صفهم ويعده منهم.

وتابعه على ذلك العلامة ميرزا محمد علي الأورد بادي فقال من قصيدته المتقدّمة:

أجلّ عباس الكتاب والهدى *** والعلم والدين واصحاب العبا

عن أن يطيش سهمه فینشني *** والاثم قد اثقل منه منكبا

لم نشترط في ابن النبي عصمة *** ولا نقول انه قد اذنبا

ولا اقول غير ما قال به *** (طه الإمام) في الرجال النجبا

فالفعل منه حجة كقوله *** في الكل يروي عن ذويه النقبا

وهذه النظرية في أبي الفضل لم ينكرها عالم من علماء الشيعة، نعرفه بالثقافة العلميّة، والتقدّم بالأفكار الناضجة، وقد استضأنا من أُرجوزة آية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (رحمه الله) التي ستقرأها في فصل المديح حقائق راهنة، وكرائم نفيسة، سمت بأبي الفضل إلى أوج العظمة، وأخذت به إلى حظائر القدس، وصعدت به إلى أعلى مرتبة من العصمّة.

وممّا يزيدنا بصيرة في عصمته ما ذكرناه سابقاً في شرح قول الصادق: «لعن الله أُمة استحلّت منك المحارم وانتهكت في قتلك حرمة الإسلام».

ص: 146

فإنّ حُرمة الإسلام لا تنتهك بقتل أي مسلم مهما كان عظيماً، ومهما كان أثره في الإسلام مشكوراً، إلاّ أن يكون هو الإمام المعصوم، فلو لم يبلغ العبّاس المراتب السماوية في العلم والعمل لمقام أهل البيت لما استحقّ هذا الخطاب، وهذا معنی العصمة. نعم، هي غير واجبة ..)(1).

وقول المولى ابي الفضل (عليه السلام): (ما أشركت بالله لمحة بصر ولا خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما أمر، وأنا منه الورقة من الشجر وعلى الأصول تثبت الفروع)، فهذا الكلام دليل على عصمته (عليه السلام): فالعباس بن علي لم يشرك بالله طرفة عين كونه نشأ في بيت التوحيد فكان من اصول قوية ودوحة هاشمية، غير قابلة للخطأ.

(وقد سئل: متى أسلم علي؟ قال: ومتی کفر إلا أنه جدد الاسلام)(2).

فقد تخرج المولى قمر العشيرة من جامعة أمير المؤمنين التي حوت جميع العلوم المحمدية، ومن ينشأ في بيت العصمة لا شك أنه معصوم. والعباس بن علي اتبع أمير المؤمنين والحجج فبهذا الاتباع الكامل، نال رضا النبي.

فالعباس عالم وفقيه مذ كان طفلاً، وهذا مؤشر على اختلافه عن سائر الناس في ادراكه وفطنته منذ صغره.

ومن الأمور الأخرى التي استدل بها السيد المقرم على عصمة المولى هي مشاركتة في تغسيل سبط رسول الله الإمام الحسن (عليه السلام) دون ان يغمض عينيه أو يضع اي شيء يحجبه عن النظر الى جسد المعصوم، فهذه احدی کرامات المولى وخصائصه.

ص: 147


1- قمر بني هاشم، للمقرم، ص 76
2- مناقب آل أبي طالب، ج 1، ص 292

يقول السيد عبد الرزاق: عن قوله (عليه السلام): «وإنّ لعمّي العبّاس منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة».

يدخل في عموم لفظ الشهداء صريحة بيت الوحي (أبو الحسن علي الأكبر)، الذي أفضنا القول في عصمّته في الرسالة الخاصة به، وإذا كان العبّاس غير معصوم كيف يغبطه المعصوم على ما أُعطي من رفعة ومقام عالٍ؟ لأنّ المعصوم لا يغبط غيره، فلا بدّ أن يكون للعبّاس أعلى مرتبة من العصمة کما عرفت، ومن هنا غبط منزلته التي أعدت له جميع الشهداء، حتّى من كان معصوماً كعلي الأكبر وأمثاله، غير الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين))(1).

كذلك من الأمور الأخرى التي استدل بها البعض على عصمة المولى قمر العشيرة هو تولي الإمام السجاد دفن عمه وحده دون ان يعينه على ذلك أحد، فكل الأجساد الطاهرة قد أسهم بنو اسد في دفنها مع الإمام السجاد (عليه السلام) إلا جسد الإمام الحسين وأخوه أبو الفضل حيث قال لهم (إن معي من يعينني).

قال الراوي: (ثمَّ مشى (عليه السلام) إلى عمِّه العباس (عليه السلام) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء، وأبكت الحور في غرف الجنان، ووقع عليه يلثم نحره المقدَّس قائلا: على الدنيا بعدك العفا یا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهید محتسب ورحمة الله وبركاته، وشقَّ له ضريحاً، وأنزله وحده کما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد: إن معي من يعينني..)(2).

ص: 148


1- قمر العشيرة، المقرمُ ص 76
2- المجالس العاشورية في المأتم الحسينية، ص 467

وفي رواية قال لبني أسد: (انظروا هل بقي أحد، فقالوا نعم، يا أخا العرب بقي بطل مطروح على المسناة، وحوله جثتان وکلما حملنا جانباً منه سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف والسهام، فقال: امضوا بنا إليه فمضینا، فلما رآه انكب عليه يقبله، وهو يقول: على الدنيا بعدك العفایا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهید محتسب ورحمة الله وبركاته ثم أمرنا أن نشق له ضريحاً ففعلنا، ثم أنزله وحده ولم يشرك معه أحداً منا)(1).

يقول السيد المقرم: (أما الإمام فالأمر فيه واضح لأنه لا يلي امره إلا إمام مثله ولكن الأمر الذي لا نكاد نصل الى حقيقته وكنهه، فعله بعمه الصديق الشهيد، مثل ما فعل بأبيه الوصي وليس ذلك إلا لأن ذلك الهيكل المطهر لا يمسه إلا ذوات طاهرة في ساعة هي أقرب حالاته الى المولى سبحانه ولا يدنو منه من ليس من أهل ذلك المحل الأرفع)(2).

ويتحصل من ذلك أن العباس معصوم سواء كانت عصمته استكفائية او غير استكفائية.

وقد يكون سبب تقسیم البعض العصمة على قسمين؛ لكي لا يشتبه الناس بين عصمة الأئمة الاثني عشر وغيرهم من الأولياء الصالحين فقد يساوي البعض بين الائمة الاثني عشر وبعض اولياء الله لذا قسموا العصمة على هذا النحو.

وقد فند البعض هذا الرأي وقال ان المعصوم اما يكون معصوماً أو لا يكون لأن العصمة ملكة في الإنسان تمنع صاحبها عن الوقوع في المعصية وقيل : (إنّ التفرقة بين

ص: 149


1- معالي السبطين، الفصل الحادي عشر، المجلس الخامس ص 486
2- قمر بني هاشم، ص 73

العصمة الصغرى والكبری تفرقة عقلية وليس ثمة ما يؤيدها في الآيات والأخبار، والتقييد بنسبة العصمة الصغرى إلى المولى الكريم الصدّيق الشهيد العباس ابن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام من قبل بعض العلماء، إنَّما هو حصر وتقييد غير حاصر لا يكون جامعاً و مانعاً عن الأغيار، لا تعدو كونها سوى اجتهادات شخصية طبقاً لفهم النصِّ لدى هذا الفريق من العلماء، وهي اجتهادات لا تعبِّر عن الرأي الصحيح لمتكلمي الطائفة المحقّة، فضلاً عن نظر المعصوم علیه السلام فلربما يكون أصحاب رأي العصمة الصغرى الإكتسابية قد أصابوا الواقع بحسب نظرهم وإن لم يكونوا كذلك بحسب نظرنا العلمي، ولا يصح التعبد برأي هذا الفريق - لا سیَّما وأنَّه خارج عن جادة الدليل المعتبر والإحتياط بالتورع عن القول بما نعتبره بخساً بحقِّ العباس وليّ الله الذي تشهد مواقفه ومعاجزه على علو شأنه عند الله تعالى - ولا الحماس الشديد لهذا الرأي الضعيف مادام الأمر دائراً مدار الاجتهاد بفهم النص الدال على عصمة العبد الصالح أبي الفضل العباس عليه السلام، فالمحققون من علماء الطائفة يعتقدون بعصمته عليه السلام إلا أن الخلاف في ماهية هذه العصمة، هل هي كبرى أم صغری، ذاتية أم اکتسابية؟، فذهب كلّ فريقٍ إلى رأي، والأقوى عندنا هو العصمة الكبرى)(1).

ويتضح لنا: ان الفرق بين العصمة الاستكفائية والعصمة غير الاستكفائية: هو أن صاحب العصمة الاستكفائية هو المكلف من قبل الله في ادارة شؤون الأمة من أحكام شرعية وغيرها من الأمور بنص من قبله تعالى، أما صاحب العصمة غير الاستكفائية يكتفي في عصمته على نفسه، ويكون خاضعاً لأمر من نص عليه، حيث هنالك من ينوب عنه في تولي شؤون الكون.

ص: 150


1- العصمة الكبرى لولي الله العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام)، سماحة المرجع الديني آية الله الحجَّة المحقق: الشيخ محمد جميل حمّود العاملي، ص 10

عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عز وجل): «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم» فقال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام): فقلت له: إن الناس يقولون: فما له لم يسم عليا وأهل بيته عليهم السلام في كتاب الله (عز وجل)؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا ولا أربعا، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهما درهم، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزل الحج فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعا حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزلت «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم «- ونزلت في علي والحسن والحسين - فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): في علي: من کنت مولاه، فعلي مولاه، وقال صلى الله عليه وآله أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله (عز وجل) أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض، فأعطاني ذلك وقال: لا تعلموهم فهم أعلم منكم، وقال: إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة، فلو سكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يبين من أهل بيته، لادعاها آل فلان وآل فلان، لكن الله (عز وجل) أنزله في كتابه تصدیقا لنبيه (صلى الله عليه وآله) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا «فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام، فأدخلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت الكساء في بيت أم سلمة، ثم قال: اللهم إن لكل نبي أهلا وثقلا وهؤلاء أهل بيتي وثقلي، فقالت أم سلمة: ألست من أهلك؟ فقال: إنك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان علي أولى الناس بالناس لكثرة ما بلغ

ص: 151

فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإقامته للناس وأخذه بيده، فلما مضى علي لم يكن يستطيع علي ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي ولا العباس بن علي ولا واحدا من ولده إذا لقال الحسن والحسين: إن الله تبارك وتعالى أنزل فينا کما أنزل فيك فأمر بطاعتنا کما أمر بطاعتك وبلغ فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) کما بلغ فيك وأذهب عنا الرجس کما أذهبه عنك، فلما مضى علي (عليه السلام) كان الحسن (عليه السلام) أولى بها لكبره، فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده ولم يكن ليفعل ذلك والله عز وجل يقول: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فيجعلها في ولده إذا لقال الحسين أمر الله بطاعتي کما أمر بطاعتك وطاعة أبيك وبلغ في رسول الله (صلى الله عليه وآله) کما بلغ فيك وفي أبيك وأذهب الله عني الرجس کما أذهب عنك وعن أبيك، فلما صارت إلى الحسين (عليه السلام) لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدعي عليه كما كان هو يدعي على أخيه وعلى أبيه، لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه ولم يكونا لیفعلا ثم صارت حين أفضت إلى الحسين عليه السلام فجرى تأويل هذه الآية «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله» ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين، ثم صارت من بعد علي بن الحسين إلى محمد بن علي (عليه السلام))(1).

فذكر قمر العشيرة من قبل الإمام الصادق مع من لهم شأن الولاية ذلك لثقل العباس بن علي ومكانته عند الأئمة وما يملك من علوم و معارف جمة.

ونفهم ايضاً أن للعصمة درجات(2) كما أن لليقين درجات قال الإمام الصّادق

ص: 152


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 286 - 288
2- س 1235: هل يصح أن نقول بالعصمة لغير الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) كالسيدة الحوراء زینب (عليها السلام) وأبي الفضل العباس (عليه السلام)، وهل للعصمة مراتب؟: العصمة التي ذكرها الله في آية التطهير مختصة بالنبي وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) المعبر عنهم بأربعة عشر معصوما، وفي سائر الناس من المنتسبين إلى النبي أو الأئمة (صلوات الله عليهم) لا تكون هذه العصمة، ولكن يمكن أن تكون بمرتبة نازلة، يمتازون بها عن سائر الأتقياء والصلحاء، وهذا كما في أبي الفضل العباس، والسيدة زینب (عليها السلام) وغيرهما ممن ورد في حقهم بعض الأخبار (سلام الله عليهم أجمعين) كيف لا يكون كذلك، فإن السيدة زينب شريكة الحسين (عليه السلام) في قيامه بوجه الظالمين، فإن أسرها، وخطبها التي إذا نطقت بها كأنها نطقت عن لسان أبيها (عليه السلام) معروف مشهور متواتر، وإن أبا الفضل العباس (عليه السلام) فداؤه في سبيل أخيه الحسين (عليه السلام) وما تحمل من المصائب في سبيل الدین، وتشييد مذهب التشيع أمر معروف بين عامة المسلمين، فضلا عن المؤمنين، والله العالم، صراط النجاة، السيد الخوئي، ج 3، ص 425

(عليه السلام): (اليقين يوصل العبد إلى كلّ حال سنيّ ومقام عجیب، أخبر رسول الله (صلَّى الله عليه و آله) عن عظم شأن اليقين حين ذكر عنده انّ عیسی ابن مریم (عليه السّلام)، كان يمشي على الماء، فقال: لو ازداد يقينه لمشي في الهواء)(1).

(فدلّ بهذا انّ رتب الانبياء (عليهم السّلام)، مع جلالة محلَّهم من الله كانت تتفاضل على حقيقة اليقين لا غير)(2).

وقول الإمام العباس:

فليس هذا من فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقينِ

دليل على أن العباس من أصحاب اليقين و (مما ذكره بعض المحققين (رضوان الله تعالى عليه) قال: وقد استبان أن ابا الفضل العباس (عليه السلام) من ارقى درجات اليقين العرفاني التي لا يمكن ان يتجاوزها إلا من كان معصوماً بالعصمة الإلهية التي هي حقيقة النبوة والإمامة(3).

ص: 153


1- مصباح الشريعة و مفتاح الحقيقة (فارسی)، المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام) (مترجم: گیلاني)، ص 525
2- المصدر نفسه، ص 525
3- ينظر، قمر بني هاشم، السيد أحمد شکر، ص 152

المطلب الثالث: الألقاب الموروثة والمكتسبة لقمر العشيرة.

إن القمر العشيرة (عليه السلام) عدة ألقاب منها موروثة ومنها مكتسبة، وقد عدله الشيخ علي النمازي ستة عشر لقبا(1)، فمن ألقابه (عليه السلام): السقاء، وحامل اللواء، وقمر العشيرة وغيرها من الألقاب الأخرى، ومن خلال هذا المطلب سنتناول بعض ألقاب قمر العشيرة:

المقصد الأول: (لقب العبد الصالح).

العبادة: هي غاية الخضوع والتذلل، ولذلك لا تحسن إلا لله تعالى الذي هو مولى أعظم النعم، فهو حقيق بغاية الشكر(2).

والصَّلاح: ضدّ الفساد؛ صَلَح يَصلَحُ وَيصلَحُ صَلاحاً وصُلُوحاً، ورجل صالح في نفسه من قوم صُلَحاء ومُلِلح في أَعماله وأُموره، وقد أَصلَحه الله(3).

فلقب (العبد الصالح) من الألقاب التي توضح منزلة المولى قمر العشيرة (عليه السلام) ومكانته عند الله، ففي زيارة الإمام الصادق (عليه السلام) لعمه العباس يقول (عليه السلام): (السلام عليك أيها العبد الصالح، المطيع لله ولرسوله ولفاطمة الزهراء والحسن والحسين)(4).

فسبحانه وتعالى ما خلق الخلق إلا ليعبدوا، فشهادة الإمام لعمه العباس (عليه السلام) بالعبودية لله الواحد والطاعة له سبحانه دليل على أن قمر العشيرة كان

ص: 154


1- ينظر، مستدرك علم رجال الحدیث، الشيخ علي النازي الشاهرودي، ج 4، ص 350
2- مجمع البحرين، الطريحي، ج 3، ص 92
3- لسان العرب، ج 2، ص 516
4- کامل الزیارات، جعفر بن محمد بن قولویه، ص 441

من العابدين الزاهدين الذين عبدوا الله حق عبادته وأطاعوه حق طاعته وقد اتضحت طاعته لله من خلال طاعته للحجج، وإلا لما وصفه الإمام بالعبد الصالح، فشخصية العباس بن علي مطابقة لجميع معاني العبودية التي اتصف بها عباد الله الصالحون.

والله سبحانه وتعالى أراد لعباده الرفعة والمنزلة العظيمة في دار الدنيا ودار الاخرة لذا أمرهم بالعبودية له وحده، فكان الأنبياء والأولياء يتشرفون بهذا اللقب ويتسابقون على أن يكونوا اقرب العباد له سبحانه وأصلحهم في أرضه.

فقمر العشيرة من الأولياء الصالحين والعباد المكرمين الذين عبدوا الله ولم يشركوا به طرفة عين، فمنذ صغره كان من الموحدين.

وهذه العبودية لله الواحد كان يستشعرها منذ صغره، وهذا دليل كافٍ على أنه من المصطفين الطاهرين.

ومن كلام لقمر العشيرة خاطب به أحد جلاوزة ابن زیاد، قال (عليه السلام): (ما أشركت بالله لمحة بصر، ولا خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما أمر وأنا منه(1) الورقة من الشجرة، وعلى الأصول تثبت الفروع... فكم من صبي صغير خير من شيخ كبير عند الله تعالى)(2).

والعباس بن علي منذ نشأته في عالم الاصلاب، كان ينتقل من ساجد الى ساجد ومن عابد الى عابد حتى صار العباس من عباد الله المخلصين فبنو هاشم ترجع سلالتهم الى كرام الخلق.

ص: 155


1- يعني النبي
2- أسرار الشهاداة، الفاضل الدربندي، ج 2، ص 105

ثم نشأ قمر العشيرة (عليه السلام) بين أطهر الخلق الذين نالوا أعلى مراتب العبودية، فكانت روحه الطاهرة منغمسة بالطاعة لله الواحد ومسلمة لأمره.

ولقب العبد الصالح لا يطلق إلا للعباد المقربين الذين بذلوا اقصى ما لديهم في إحياء دين الله، قال تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ»(1).

وقوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ»(2).

وقوله تعالى: «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ»(3).

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقرب الخلق الى الله وهو حبیبه و نجیبه قد وصفه الله بهذه الوصف، قال تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»(4).

كذلك عيسى ابن مريم من الأنبياء المقربين وممن اصطفاهم الله وفضلهم على سائر خلقه كان يقول: «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(5).

ص: 156


1- ص: 17
2- التحریم: 10
3- الأنعام: 83 - 85
4- الاسراء: 1
5- مریم: 30

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يفتتح کتبه بهذه الكلمة قال (عليه السلام): «مِنْ عَبْدِاللَّهِ عَلِیِّ أَمِیرِالْمُؤْمِنِینَ إِلَی أَهلِ الکُوفَةِ»(1).

ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر قال (عليه السلام): مِنْ عَبْدِاللَّهِ عَلِیِّ أَمِیرِالْمُؤْمِنِینَ»(2).

وغيرها من الكتب الأخرى التي يفتتحها بالعبودية، ذلك ليوضح لهم أن الانسان سواء كان زعيماً او رئيساً فهو عبد من عبيد الله ولقب العبد عند علي اجلها واقربها اليه.

ومن دعاء أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) «إلهي كفي بي عزا أن أكون لك عبدا وكفى بي فخرا أن تكون لي ربا»(3).

فأمير المؤمنين (عليه السلام) يعتز بهذا اللقب ومن المؤكد أن قمر العشرة يعتز به كون العبودية ولقب العبد الصالح عزة وفخر، لأن العزة لله ولمن أطاعه من العباد.

عکس ذلك الذلة لمن خالفه وعصاه ورفض أن يكون عبداً له، وهذا ما حدث لإبليس عليه اللعنة فقد صغره الله بتكبره ورفضه للعبودية؛ لأن السجود لآدم كانت عبودية لله وطاعة له سبحانه، فبرفضه ذلك الامر قد خرج من العبودية لذا كان من الخاسرين الصاغرين، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ، أَلاَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللهُ بِتَكَبُّربِهِ، وَوَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ،

ص: 157


1- نهج البلاغة، ت صبحي الصالح، الكتاب: رقم (1) أرسله إلى أهل الكوفة - عند مسيره من المدينة إلى البصرة، ص 363
2- المصدر نفسه الكتاب: 38، ص 410
3- کنز الفوائد، أبي الفتح الكراجكي، ص 181

فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وَأَعَدَّ لَهُ فِي الاْخِرَةِ سَعِيراً»(1).

فمن هنا نفهم ان العبودية عزة كما جاء في قوله تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا»(2)، والله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً وصفه بهذه الوصف، وما للملائكة من منزلة وقربي من الله قد وصفهم بقوله: «عباد مکرمون»، إلا ان الانسان اذا عبد الله حق عبادته، كان اقرب الى الله منهم.

فعن محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يذكر أنه أتی رسول الله (صلى الله عليه وآله) ملك فقال: إن الله (عز وجل) يخيرك أن تكون عبدا رسولا متواضعا أو ملکا رسولا، قال: فنظر إلى جبرئيل وأومأ بيده أن تواضع، فقال: عبدا متواضعا، رسولا، فقال الرسول: مع أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئا، قال: ومعه مفاتيح خزائن الأرض)(3).

وعن بشير الكناسي قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «وصلتم وقطع الناس وأحببتم وأبغض الناس وعرفتم وأنكر الناس وهو الحق إن الله اتخذ محمدا (صلى الله عليه وآله) عبدا قبل أن يتخذه نبيا وإن عليا (عليه السلام) كان عبدا ناصحا لله عز وجل»)(4).

وجاء في تفسير قوله تعالى: «فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ»(5)، «فَاجْتَبَاهُ

ص: 158


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192، ص 287
2- فاطر: 10
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 122
4- الكافي، ج 8، ص 146
5- القلم: 50

رَبُّهُ»، أي : اختاره، «فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ»: من الكاملين في الصّلاح)(1).

نفهم مما تقدم إن ما وصل له الأنبياء والأولياء من منزلة ودرجة رفيعة وقربی من الله، كان سببها عبوديتهم وشعورهم بها وصلاح انفسهم وصلاح الناس، فهم عباد مکرمون لا يخالفون الله، وممن اصلحوا في الارض ولم يفسدوا.

ومن مصاديق العبودية الخالصة؛ الطاعة لله ولرسوله وللحجج، قال تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا»(2).

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «أعينونا بالورع فإنه من لقي الله (عز وجل) منکم بالورع كان له عند الله فرجا، وإن الله (عز وجل) يقول: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا» فمنا النبي، ومنا الصديق، ومنا الشهداء، ومنا الصالحون»(3).

فلقب العبد الصالح للمولى أبي الفضل من أعظم الألقاب وأجلها، ولولا خضوعه وخشوعه وانقياده وتسليمه وطاعته، وتصديقه للواحد الأحد، ورغبته بالثواب، و تجنبه العقاب، وحبه الصادق للخمسة الأطهار، لما وصل العباس الى هذه المرتبة وهذه الدرجة التي شهد بها أئمة كبار.

ص: 159


1- تفسیر کنز الدقائق وبحر الغرائب، الشيخ محمد بن محمد رضا القمي المشهدي، ج 13، ص 395
2- النساء: 69
3- البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ج 2، ص 124

والعباس بن علي نشأ مع أعبد خلق الله وأقربهم اليه، بعد نبيه الاكرم (صلى الله عليه وآله)، فعلي بن أبي طالب اول مخلوق عبد الله مع النبي، ولم يشرك بالله طرفة عين، كذلك الإمام الحسن والإمام الحسين فهم حججه في أرضه، ونوره في عرشه يسبحون الله لا يفترون، فمثل العباس وهو بهذا الاخلاص والوفاء والعلم والحلم كيف لا يكون من عباد الله المخلصين والمصطفين.

يقول الشيخ المظفر: (عبادة العباس (عليه السلام) كانت بجميع الأعضاء، فلسانه عبد الله بالذكر والشكر والدعاء والاستغفار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاية الى إمامه وأخيه الحسين (عليه السلام).

أما جبهته فقد أثر بها السجود، وأما عينه فقد نبت فيها السهم في الجهاد دون إمامه؛ وأما يداه فقطعتها من الزند بعد أن عبد بها الله تعالى أنواعاً من العبادة، جاهد بها الأشرار ورفعها في الأذكار وبسطها في العطاء والسجود والركوع وغير ذلك.

وأما رأسه فقد فضخت هامته بعامود الحديد؛ وأما رجلاه فقد قام بها في كل عبادة وسعى بها إلى كل خير ومشي بها الى كل جهاد وحمل الماء لعطاشى آل محمد وآخر عبادة عبد بها أنه جعل يفحص بهما حين سقط على شاطئ العلقمي مفضوخ الهامة مقطوع اليدين؛ وأما وجهه الكريم فقد سالت عليه الدماء في سبيل الله ..

واما صدره الشريف فقد وزعته الأسنة والسيوف والنبال المحددة وهكذا سبيل سائر أعضائه حتى جاء في وصفه أنه إذا حمل منه جانب سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف وطعن الرماح)(1).

ص: 160


1- موسوعة بطل العلقمي، ج 2، ص 314

المقصد الثاني: (لقب حامل اللواء).

من الالقاب التي اشتهر بها قمر العشير (حامل اللواء)، فلا يحمل اللواء إلا من اكتملت به جميع الصفات القيادية وقد (اجمع اصحاب المقاتل على أن راية الحسين (عليه السلام) بذلك اليوم كانت بيد أخيه العباس (عليه السلام) کما کانت راية رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) وهذا شاهد على كونه أشجع الناس وأن عمدة الإمام في حفظ الخيام ودفع الطعام اللثام عنها كانت مرتبطة بوجوده الشريف.. وإن كان كل واحد من أهل البيت أسداً هصوراً وحامي حماة، ومدافعاً عن الحق بأعلى ما عنده )(1).

قال ابن منظور: واللِّواء: لِواء الأَمير، واللِّواء: العَلَم، والجمع أَلوِيَة وأَلوِياتٌ، الأَخيرة جمع الجمع؛ قال: جُنحُ النَّواصِي نحوُ أَلوِياتِها، وفي الحديث: لیواءُ الحَمدِ بيدي يومَ القيامةِ، اللِّواء: الرايةُ ولا يمسكها إِلا صاحبُ الجَيش(2).

فاللواء لا يكون إلا لمن تجمعت به جميع الكمالات النفسية والجسدية، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَرَایَتَکُم فَلَا تَمِیلُوهَا وَلاتُخِلُّوهَا وَلاَ تَجعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيدِي شُجعَانِكُم»(3).

فلقب حامل اللواء كان جديرا به قمر العشيرة، فلا يحمل هذا اللواء إلا الشجاع المؤمن، وقد توارث هذا اللقب واكتسبه من آبائه وأهل بيته (عليهم السلام).

ص: 161


1- الكبريت الأحمر، ص 444
2- لسان العرب، ج 15، ص 266
3- نهج البلاغة، 124 ومن كلام له (ع) في حث أصحابه على القتال، ص 180

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) حامل لواء الإسلام في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم تزل هذه الراية يتوارثها الشجعان حتى صارت بيد المولى أبي الفضل (عليه السلام).

فقد روي في الإرشاد عن البحتري القريشي قال: (كانت راية قريش ولواؤها جميعا بيد قصی بن کلاب، ثم لم تزل الراية في يدولد عبد المطلب يحملها منهم من حضر الحرب، حتى بعث الله رسوله (صلى الله عليه وآله) فصارت راية قریش وغير ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأقرها في بني هاشم، وأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليهما السلام) في غزاة ودان وهي أول غزاة حمل فيها راية في الاسلام مع النبي (صلى الله عليه وآله) ثم لم تزل معه في المشاهد، ببدر وهي البطشة الكبرى، وفي يوم أحد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار، فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصعب بن عمير، فاستشهد ووقع اللواء من يده فتشوفته القبائل، فأخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدفعه إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فجمع له يومئذ الراية واللواء فهما إلى اليوم في بني هاشم)(1).

وعن زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) قال: (كسرت زند علي يوم أحد وفي يده لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسقط اللواء من يده فتحاماه المسلمون أن يأخذوه، فقال رسول الله: فضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة)(2).

ص: 162


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 1، ص 79
2- مناقب آل ابي طالب (عليهم السلام) ابن شهرآشوب، ج 3، ص 85

فكان علي صاحب لواء النبي في كل زحف، وفي معركة الأحزاب أراد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن يبرهن للمسلمين أن هذه الراية لا تليق إلا بعلي ولا يتم الفتح إلا به.

قال الراوندي: (أنه لما سار إلى خيبر أخذ أبو بكر الراية إلى باب الحصن فحاربهم فحملت اليهود فرجع منهز ما يجبن أصحابه ويحجبنونه، ولما كان من الغد أخذ عمر الراية وخرج، ثم رجع يجين الناس. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: ما بال أقوام يرجعون منهزمين يجبنون أصحابهم؟! أما لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، کرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه، وكان علي (عليه السلام) أرمد العين، فتطاول جميع المهاجرين والأنصار وقالوا: أما علي فإنه لا يبصر شيئا، لا سهلا ولا جبلا. فلما كان من الغد خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الخيمة والراية في يده فرکزها وقال: أين علي؟ فقيل: یا رسول الله هو رمد معصوب العينين. قال: هاتوه إلي. فأتي به يقاد ففتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عينيه ثم تفل فيهما، فكأنما لم ترمدا قط، ثم قال: «اللهم أذهب عنه الحر والبرد» فكان علي يقول: ما وجدت بعد ذلك حرا ولا بردا في صيف ولا شتاء. ثم دفع إليه الراية ثم قال له: «سر في المسلمين إلى باب الحصن، وادعهم إلى إحدى ثلاث خصال: إما أن يدخلوا في الاسلام، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وأموالهم لهم، وإما أن يذعنوا بالجزية والصلح، وهم الذمة وأموالهم لهم، وإما الحرب، فإن هم اختاروا الحرب فحاربهم»، فأخذها وسار بها والمسلمون خلفه حتى وافي باب الحصن فاستقبله حماة اليهود وفي أولهم مرحب يهدر کا يهدر البعير، فدعاهم إلى الاسلام فأبوا، ثم دعاهم إلى الذمة فأبوا، فحمل عليهم أمير المؤمنين عليه السلام فانهزموا بين يديه ودخلوا الحصن وردوا بابه، وكان الباب حجرا منقورا في صخر، والباب من الحجر في ذلك الصخر المنقور كأنه

ص: 163

حجر رحی، وفي وسطه ثقب لطیف، فرمى أمير المؤمنين عليه السلام بقوسه من يده اليسرى، وجعل يده اليسرى في ذلك الثقب الذي في وسط الحجر دون اليمني لأن السيف كان في يده اليمنى، ثم جذبه إليه فانهار الصخر المنقور، وصار الباب في يده اليسرى، فحملت عليه اليهود، فجعل ذلك ترسا له، وحمل عليهم فضرب مرحبا، فقتله وانهزم اليهود من بين يديه، فرمی عند ذلك بالحجر بيده اليسرى إلى خلفه، فمر الحجر - الذي هو الباب - على رؤوس الناس من المسلمين إلى أن وقع في آخر العسكر؛ وقال المسلمون: فذرعنا المسافة التي مضى فيها الباب فكانت: أربعين ذراعا، ثم اجتمعنا على ذلك الباب لنرفعه من الأرض، وكنا أربعين رجلا حتى تهيأ لنا أن نرفعه قليلا من الأرض)(1).

كذلك لا تليق الراية ولا يليق هذا اللقب بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا الأبناءه (عليهم السلام) والعباس بن علي نال هذا اللقب بجدارة، حتى أعطاه الحسين الراية العظمى، كما اعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) رايته العظمی لأخيه ووصيه فصار العباس حامل اللواء.

عن جعفر بن محمد قال: (عبأ الحسين بن علي أصحابه فأعطى رايته أخاه العباس بن علي عليه السلام)(2).

والحسين بن علي وهو زعيم الجيش، كان حريصا أشد الحرص على حامل اللواء لعدّة أسباب منها:

السبب الأول: إن حامل اللواء يعدّ العامود الفقري للجيش، فإن سقط اللواء انهار الجيش لذا كان سبب اصرار الحسين على ابقائه في قلب الجيش.

ص: 164


1- الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي، ج 1، ص 159 - 160
2- مقاتل الطالبيين، أبي الفرج الأصفهاني، ص 55

السبب الثاني: ثقل العباس في جيش الامام الحسين بن علي يعدُّ العباس جيشاً بأكمله، وهذه النظرة كانت عند الأعداء ايضاً، فبعض بني امية بل اكثرهم كانوا حاضرين بصفين وقد شاهدوا قتال العباس وبطولاته مع والده أمير المؤمنين فلم تزل تلك البطولات والصولات العباسية في ذاكرتهم.

لذا كان الامام يدخره للصعاب، فوجود راية العباس خفاقة في سماء کربلاء تعني بقاء الحسين والخيام بمأمن.

والحسين حينما يعد قمر العشيرة جيشاً بأكمله فالإمام لا يبالغ في ذلك وإنما هي حقائق، فالذي يكشف نهر العلقمي وعليه أربعة ألاف مقاتل ثم يجلب الماء الى مخيم الحسين ألا يكون جيشا بأكمله، ولو لم تكن بمسؤوليته جلب الماء لأفني العباس من كان على العلقمي، لكن القدر شاء أن يكون العباس مكلفاً من قبل الامام الحسين بهذا الأمر، ففي تكملة الرواية، قال العباس: (قد ضاق صدري وسئمت من الحياة وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين، فقال الحسين (عليه السلام): فاطلب هؤلاء الأطفال قليلا من الماء، فذهب العباس ووعظهم وحذرهم فلم ينفعهم فرجع إلى أخيه فأخبره فسمع الأطفال ينادون: العطش العطش! فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة، وقصد نحو الفرات فأحاط به أربعة آلاف ممن كانوا موكلين بالفرات، ورموه بالنبال فكشفهم وقتل منهم على ما روي ثمانين رجلا حتى دخل الماء، فلما أراد أن يشرب غرفة من الماء، ذکر عطش الحسين وأهل بيته، فرمی الماء وملا القربة وحملها على كتفه الأيمن، وتوجه نحو الخيمة، فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب، فحاربهم حتى ضربه نوفل الأزرق على يده اليمني فقطعها، فحمل القربة على كتفه الأيسر فضربه نوفل فقطع يده اليسرى من الزند، فحمل القربة بأسنانه فجاءه سهم فأصاب القربة وأريق ماؤها ثم جاءه

ص: 165

سهم آخر فأصاب صدره، فانقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين: أدركني، فلما أتاه رآه صريعا فبکی وحمله إلى الخيمة، ثم قالوا: ولما قتل العباس قال الحسين عليه السلام: الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي)(1).

لقد رسم الله سبحانه وتعالى لهم هذا الطريق وشاء لهم ان يقتلوا صبراً في سبيله كي تتخلد واقعة كربلاء ويتخلد ذكرهم، وهذا القائد العظيم الذي لم يترك راية الدين تسقط حتى قطعت كلتا يداه، فكان همه أن لا تنكس هذه الراية فيغيروا على الحسين وحرمه، و همه الآخر هو ايصال الماء الى مخيم الحسين، فلأجل حامل اللواء، فليسطر التاريخ أرواع الملاحم والبطولات والتضحيات والفداء بحق هذا القائد العظيم.

المقصد الثالث: (لقب المواسي).

جاء في الزيارة المباركة: «أَشْهَدُ لَقَدْ نَصَحْتَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلاِخِيكَ فَنِعْمَ الأَخُ الْمُوَاسِي».

ففي اللغة: (المؤَاساة المشاركة، ما يُؤَاسِيه ما يُصِيبه بخیر من قول العرب آسِ فلاناً بخير أَي أَصِبه، وقيل: ما يُؤَاسيه من مَوَدَّته ولا قرابته شيئاً مأخوذ من الأَوسِ وهو العَوض، ويقال: هو يؤاسِي في ماله أي يساوِي، ويقال: رَحِم الله رَجُلاً أَعطی من فَضلٍ وآسَی من کَفافٍ)(2).

ولقب المواسي من الالقاب التي اكتسبها المولى من أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) فكان علي نعم المواسي والمحامي عن رسول الله (صلى الله عليه وإله).

ص: 166


1- بحار الأنوار، ج 45، ص 39 - 42
2- لسان العرب، ج 14، ص 36

ففي معركة أحد (.. وقد انهزم أصحابه فلم يزل أمير المؤمنين (عليه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه، وسمعوا مناديا ينادي من السماء «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي» فنزل جبرئیل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «هذه والله المواساة يا محمد» فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «لأني منه وهو مني» وقال جبرئیل «وأنا منکما»(1).

فالإنسان لا يعرف أخاه إلا في ساعة الشدة، فكان يوم أحد شاهداً آخر على مواساة أمير المؤمنين لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، كذلك كان الطف شاهداً لقمر العشيرة في مواساته لسيد شباب اهل الجنة، فمن حكمة له (عليه السلام) قال: «ما حفظت الأخوة بمثل المواساة»(2).

ومن وصية له (عليه السلام) قال لكميل: «ومن أخوك؟ أخوك، الذي لا يخذلك عند الشديدة ولا يقعد عنك عند الجريرة»(3).

فکما واسي أمير المؤمنين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد واسي العباس مولاه الحسين بأشد مواساة، فحينما اشتد القتال وقتل أصحاب الحسين واستشهدوا جميعا ثم استشهد علي الأكبر وكثر القتل في بني هاشم، أراد العباس أن يواسي أخاه فقال لأخوته الثلاثة من أمه وأبيه، وهم: عبد الله، وجعفر، وعثمان، یا بني أمي تقدموا للقتال، وحاموا عن سیدکم حتى تستشهدوا دونه، وقد نصحتم لله ولرسوله.

ص: 167


1- تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي، ج 1، ص 116
2- عیون الحکم، ص 477
3- تحف العقول عن آل الرسول (ص)، ابن شعبة الحراني، ص 173

وحينما يخاطب المولى قمر العشيرة اخوته من أبيه وأمه، يقول لهم: «حاموا عن سیدکم وليس اخيكم»، فهذا ما تعلمه العباس منذ صغره.

جاء في ابصار العين: (إنه لما قتل أصحاب الحسين (عليه السلام) و جملة من أهل بیته دعا العباس إخوته الأكبر فالأكبر، وقال لهم: تقدموا، فأول من دعاه عبد الله أخوه لأبيه وأمه فقال: «تقدم يا أخي حتى أراك قتيلا وأحتسبك فإنه لا ولد لك»، فتقدم بين يديه وجعل يضرب بسيفه قدما ويجول فيهم وهو يقول:

أنا ابن النجدة والأفضال *** ذاك علي الخير في الأفعال

سیف رسول الله ذوالنكال *** في كل يوم ظاهر الأهوال

فشد عليه هاني بن ثبیت الخضرمي فضربه على رأسه فقتله)(1).

وقال أهل السير: لما قتل أخوة العباس لأبيه وأمه عبد الله وعثمان دعا جعفرا فقال له: «تقدم إلى الحرب حتى أراك قتيلا كأخويك فأحتسب کما احتسبتهما، فإنه لا ولد لكم»، فتقدم وشد على الأعداء يضرب فيهم بسيفه وهو يقول:

إني أنا جعفرذوالمعالي *** ابن علي الخيري الأفضال(2)

فقوله عليه السلام (لا ولد لكم)، أراد به أن يبين ألمه وحزنه على أخوته، فهؤلاء الأطهار لم يكن لديهم عقب، فمن المؤسف ان ينقطع ذلك النسل الشريف، فهذا ما أشار إليه المولى أبو الفضل، كي يعظم مصابهم.

ص: 168


1- ابصار العين في أنصار الحسين (ع)، الشيخ محمد السماوي، ص 68
2- المصدر السابق، ص 70

كذلك أراد (عليه السلام) أن يبين غاية الأمويين فتلك الزمر الضالة ارادوا أن يمحوا نسل النبي والعترة الطاهرة، ذلك النسل الذي هو مفخرة العرب، لكن الله سبحانه جعل شانئهم الابتر، فأين ذلك العدد الهائل من بني امية، وأين ذكرهم وإن ذُکِروا إنما يُذكرون للعن، أما ابناء علي فقد خلدهم التاريخ فهذا هو الكوثر.

ولكي يعظم الأجر وتكون المواساة أعظم، قدم العباس أخوته جميعهم، فأفنوا انفسهم لكي يبقى الدين عامراً، فلهذه المواساة وبذلهم انفسهم، قد جعل الله اسماءهم کالنجوم المشرقة فلا يوجد انسان مؤمن إلا وهو يعرف من هم أبناء أم البنين.

وغاية العباس ايضا هو أن يبقى مع أخيه الحسين يواسيه ويشاركه المصاب بكل شيء كي لا يقصر معه.

فسبحانه وتعالى خلقنا لأجلهم ولكي نسمع هذه البطولات وهذه التضحيات ونعرف أن هنالك من الخلق من وصل الى اليقين بالله حتى فداه بكل ما لديه من مال وبنين وأنفس طاهرة زكية.

جاء في كتاب قمر بني هاشم للسيد المقرم: إن أمير المؤمنين دعا العباس وضمه اليه و قبل بين عينيه وأخذ عليه العهد اذا ملك الماء يوم الطف أن لا يذوق قطرة منه قطرة وأخوه الحسين عطشان فقول ارباب المقاتل نفض الماء من يده ولم يشربه انما هو لأجل الوصية من أبيه المرتضى.

لم يذق الفرات أسوة به *** میمما بمانه نحو الخبا

لم ير في الدين يبل غلة *** وصنوه فيه الظما قد ألهبا

والمرتضى أوصى اليه في ابنه *** وصية صدته عن أن یشربا(1)

ص: 169


1- قمر بني هاشم، المقرم، ص 62

وجاء في مقتل الحسين لأبي مخنف حينما استاذن من أخيه الحسين فقال (عليه السلام) له: أنت حامل لوائي، فقال: لقد ضاق صدري وسئمت الحياة، فقال له الحسين (عليه السلام): ان عزمت فاستسق لنا ماءا، فأخذ قربته وحمل على القوم حتى ملأ القربة قالوا واغترف من الماء غرفة ثم ذكر عطش الحسين (عليه السلام) فرمی بها وقال:

يانفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لاكنت أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعین(1)

وفي زيارة الناحية المقدسة المروية عن الحجة المنتظر (عج) نقول (السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتلیه یزید بن الرقاد الحيتي و حکیم بن الطفيل الطائي(2).

فالإمام لا يواسي أخاه الحسين كونه أخاه وابن والده فقط، وانما يواسي دینه وإمامه الذي احاطته الزمر الباغية.

ولتكون المواساة أكبر فقد قدم العباس کفين قطيعتين وعينين وجعل جسده الطاهر عرضة للسيوف والرماح حتى اثخن بالجراح.

يقول الفاضل الدربندي: حمل على الرجال و جدل الأبطال حتى قرب من أخيه الحسين (عليه السلام) وهو يقول:

ص: 170


1- مقتل الحسين (ع ) أبو مخنف الأزدي، ص 179
2- اقبال الاعمال، السيد ابن طاووس، ج 3، ص 74

يا حسين بن علي *** إن يريد القوم فقدك

لن ينالوك بسوء *** إنما نالوه جدك

إن عندي من مصابي *** مثل ما إن هو عندك(1)

فالحزن والألم الذي بقلب الحسين من فقد الأحبة وحال العيال والنساء، وما وصل له الدين من ضياع، نفسه موجود بقلب العباس وإلا لما حاز هذا اللقب، فتلك المسؤولية التي بعاتق الإمام الحسين كان يتقاسمها معه قمر العشيرة لذا صار کاشف الكرب عن وجه الحسين.

وحتى في أواخر عمره الشريف کان يواسي أخاه ويتفكر في حاله وما سيجري عليه، فقد روي (أن الحسين أخذ رأس العباس (عليه السلام) ووضعه في حجره وجعل يمسح الدم عن عينه فرآه وهو يبكي فقال الحسين (عليه السلام) ما يبكيك يا أبا الفضل؟ قال: أخي يا نور عيني وكيف لا أبكي ومثلك الآن جئتني وأخذت رأسي عن التراب فبعد ساعة من يرفع رأسك عن التراب؟ ومن يمسح التراب عن وجهك وكان الحسين (عليه السلام) جالساً إذ شهق العباس شهقة وفارقت روحه الطيبة وصاح الحسين عليه السلام وا أخاه)(2).

لقد نسي العباس ألم الكفين وألم العامود وألم السهام وذلك المصاب، وكان (عليه السلام) يستشعر وحدة الحسين، فلو سطرنا المؤلفات على ان نصل الى عمق المولى ابي الفضل لما وصلنا الى تلك الذات المقدسة وما حوته من صفات نبيله.

ص: 171


1- اسرار الشهادة، ج 2، ص 499
2- معالي السبطين، الفصل التاسع، المجلس الحادي والعشرون، ص 407

المقصد الرابع: (لقب السقّاء).

من الألقاب التي حازها المولى أبو الفضل وتوارثها من آبائه هي السقاية، وقد تكون أحب الألقاب إليه.

والسقاية: هي إرواء الكبد الظامي، وبما أن الماء سبب الحياة، صارت السقاية من أعظم الأعمال وأجلها عند الله بعد الإيمان به والجهاد في سبيله(1)، فلا يصل الإنسان الى هذه الصفة إلا أن يكون رجلاً نبيلاً يتصف بصفات كثيرة كالسخاء، والجود، والشجاعة وغيرها من الفضائل الأخرى؛ فمن أحبه الله جعله من السقاءين، وبنو هاشم من أجود خلق الله فهم سلالة النبوة و محط وحيه لذا نالوا هذا اللقب وهذه المكرمة.

ومن الأحاديث الشريفة التي ذكرت أهمية السقاية وفضيلتها في الاسلام:

أولاً: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «من أفضل الأعمال إبراد الكبد الحري» يعني سقي الماء(2).

ثانياً: عن أبي علقمة مولى بني هاشم، قال: (صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصبح، ثم التفت إلينا فقال: «معاشر أصحابي، رأيت البارحة عمي حمزة

ص: 172


1- قال تعالى: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ»، التوبة: 19، وهذه الآية لا تنفي فضيلة السقاية ولكن تبين فضل الايمان بالله والجهاد في سبيله، فلا يستوي أي شيء مع هاتين الفضيلتين وإن كانت فضيلة السقاية فضيلة عظيمة، عن أبي بصير عن أحدهما في قول الله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) قال: نزلت في علي وحمزة وجعفر والعباس وشيبة انهم فخروا في السقاية والحجابة، فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله: (واليوم الآخر) الآية، فكان علي وحمزة وجعفر والعباس (عليهم السلام) الذين آمنوا بالله واليوم الآخر و جاهدوا في سبيل الله لا يستوون عند الله)، تفسير العياشي، ج 2، ص 83، ح 35
2- مستدرك الوسائل، میرزا حسين النوري الطبرسي، ج 7، ص 250

بن عبد المطلب، وأخي جعفر بن أبي طالب، وبين أيديهما طبق من نبق، فأكلا ساعة فتحول لهما النبق عنبا، فأكلا ساعة فتحول العنب رطبا، فدنوت منهما فقلت: بأبي أنتما، أي الأعمال أفضل؟ فقالا: وجدنا أفضل الأعمال: الصلاة عليك، وسقي الماء، وحب علي بن أبي طالب (عليه السلام)»)(1).

فمن بين أفضل الأعمال التي اختارها الله هي السقاية فمن هنا نعرف سبب تفاخر بني هاشم بهذه المكرمة فهي شرف دنیوي وشرف أخروي.

ومن خلال هذه الأحاديث نعرف لماذا زاد الله بني هاشم وبالخصوص المولى أبا الفضل شرفاً ورفعةً حتى صار باباً من أبواب الله.

فالسقاية تجري في عروق أبي الفضل (عليه السلام)، ومن يروي انساناً عادياً يدخله الله فسيح جناته ويعطيه منزلة رفيعة فكيف بساقي عطاشی کربلاء ومنهم سيد شباب أهل الجنة فمن يسقي حجة الله فقد سقى ينبوع الحياة.

وقد كان مع الإمام حجتا زمانهم منهم الإمام السجاد، والإمام الباقر (عليهما السلام) ناهيك عن منزلة علي الأكبر والطفل الرضيع والقاسم بن الحسن، ورقية وسكينة وخولة والسيدة زينب وغيرهن من النساء الفاضلات، فهؤلاء الأطهار من رجال ونساء كانوا بأمس الحاجة الى الماء بسبب منع بني امية الماء عنهم، فكان العباس ساقيهم فأجر العباس لا يعلمه إلا هو سبحانه، لذا كان لقب السقاء وأبو قربة من أقرب الكنى والألقاب لدى المولى وأحبهن إليه .

ومن أسلاف المولى الذين اتصفوا بهذه الصفة (قصي) (وهاشم) (وعبد المطلب).

ص: 173


1- مستدرك الوسائل، میرزا حسين النوري الطبرسی، ج 7، ص 250

قال السيد عبد الرزاق المقرم أن قريشاً أذعنت (لقصي) بسقاية الحاج فكان يطرح الزبيب في الماء ويسقيهم کما كان يسقيهم اللبن(1).

وفي البحار أن قريشاً سلمت ل (هاشم) مفاتیح الكعبة والسقاية والحجابة والرفادة ومصادر أمور الناس ومواردها، وسلموا إليه لواء نزار، وقوس إسماعيل عليه السلام، وقميص إبراهيم (عليه السلام)، ونعل شيث عليه السلام، وخاتم نوح عليه السلام، فلما احتوى على ذلك كله ظهر فخره ومجده، وكان يقوم بالحاج ويرعاهم، ويتولى أمورهم ويكرمهم، ولا ينصرفون إلا شاکرین.

قال أبو الحسن البكري: وكان هاشم إذا أهل هلال ذي الحجة يأمر الناس بالاجتماع إلى الكعبة، فإذا اجتمعوا قام خطيبا (ويقول: «معاشر الناس إنكم جيران الله وجيران بيته، وإنه سيأتيكم في هذا الموسم زوار بيت الله وهم أضياف الله، والأضياف هم أولى بالكرامة، وقد خصكم الله تعالى بهم وأكرمكم، وإنهم سيأتونكم شعثا غبرا من كل فج عميق، ويقصدونكم من كل مكان سحيق، فأقروهم واحموهم وأكرموهم يكرمكم الله تعالى» وكانت قريش تخرج المال الكثير من أموالها، وكان هاشم بنصب أحواض الأديم، ويجعل فيها ماء من ماء زمزم، ويملأ باقي الحياض من سائر الآبار بحيث تشرب الحجاج، وكان من عادته أنه يطعمهم قبل التروية بيوم، وكان يحمل لهم الطعام إلى منى وعرفة، وكان يثرد لهم اللحم والسمن والتمر، ويسقيهم اللبن إلى حيث تصدر الناس من منى، ثم يقطع عنهم الضيافة)(2).

ص: 174


1- ينظر، کتاب قمر بني هاشم عبد الرزاق الموسوي المقرم، ص 41
2- بحار الأنوار، ج 15، ص 37 - 38

وقام عبد المطلب بسقاية الحاج كما كان آباؤه يفعلون ذلك بل قام عبد المطلب بحفر زمزم حتى صار الناس لا يحتاجون للآبار، فقد روي في السيرة الحلبية كان الناس قبل ظهور زمزم تشرب من آبار حفرت بمكة وأول من حفر بها بئرا قصي کما تقدم وكان الماء العذب بمكة قليلا ولما حفر عبد المطلب زمزم بني عليها حوضا وصار هو وولده يملآنه فیکسره قوم من قریش لیلا حسدا فيصله نهارا حين يصبح فلما أكثروا من ذلك وجاء شخص واغتسل به غضب عبد المطلب غضبا شديدا فأري في المنام أن قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل أي حلال مباح(1).

فكل هذه السقاية التي ذكرناها تسمی سقاية فعلية، أما السقاية القولية يعبر عنها بالاستسقاء، ولا يستسقي القوم الا ذو جاه عظیم و منزلة عالية عنده سبحانه.

يروى أنَّ أبا طالب (رضوان الله تعالى عليه) استقى برسول الله (صلى الله عليه وآله) لما أصاب قریش قحط وفي ذلك يقول أبو طالب من قصيدة يمدح بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشرف وكرم أكثر من ثمانين بيتا:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامی عصمة للأرامل)(2)

وهذا أمير المؤمنين يستسقي بالحسن والحسين، ففي رواية يرويها الصدوق رحمه الله (جاء قوم من أهل الكوفة إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالوا له: (يا أمير المؤمنين ادع لنا بدعوات في الاستسقاء) فدعا

ص: 175


1- ينظر السيرة الحلبية، ج 1، ص 57
2- السيرة الحلبية، الحلبي، ج 1، ص 189 - 190

علي (عليه السلام) الحسن والحسين (عليهما السلام) فقال: «یا حسن ادع»، فقال الحسن (عليه السلام): «اللهم هيج لنا السحاب بفتح الأبواب بماء عباب ورباب بانصباب وانسكاب يا وهاب، ...، ثم قال للحسين (عليه السلام): ادعُ فقال الحسين (عليه السلام): «اللهم معطي الخيرات من مظانها، ومنزل الرحمات من معادنها، ومجري البركات على أهلها، منك الغيث المغيث، وأنت الغياث المستغاث ...»، فما تم كلامه حتی صب الله الماء صبا، وسئل سلمان الفارسي رضي الله عنه فقيل له: يا أبا عبد الله هذا شئ علماه؟ فقال: ويحكم ألم تسمعوا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: «أجريت الحكمة على لسان أهل بيتي»(1).

ص: 176


1- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 535 - 538، ح 1504. ومن خطبة له (عليه السلام) في الاستسقاء قال: (اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا، وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وَهَامَتْ دَوَابُّنَا، وَتَحَيَّرَتْ في مَرَابِضِهَا، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ في مَرَاتِعِهَا، وَالحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا، اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الآنَّةِ، وَحَنِينَ الْحَانَّةِ - اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا، وَأَنِينَهَا في مَوَالِجِهَا، اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ، حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ، فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ، وَالْبَلاَغَ لِلْمُلْتَمِسِ نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الاْنَامُ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ وَهَلَكَ الْسَّوَامُ، أَلاَّ تُؤَاخِذَنَا بَأَعْمَالِنَا، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا، وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ، وَالرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ - وَالنَّبَاتِ الْمُونِقِ سَحّاً وَابِلاً، تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ، وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ، اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً، تَامَّةً عَامَّةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً، هَنِيئَةً مَرِيعَةً، زَاكِياً نَبْتُهَا ثَامِراً فَرْعُهَا نَاضِراً وَرَقُهَا، تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلاَدِكَ، اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا، وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا، وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا، وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا، وَتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا، وَتَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا، وَتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا، مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ، وَعَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ، عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ وَوَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً مِدْرَاراً هَاطِلَةً، يُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ، وَيَحْفِزُ»لا الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا، وَلاَ جَهَامٍ عَارِضُهَا، وَلاَ قَزَعٍ رَبَابُهَا، وَلاَ شَفَّانٍ ذِهَابُهَا - حَتَّى يُخْصِبَ لاِمْرَاعِهَا الْمجْدِبُونَ - وَيَحْيَا بِبَرَكَتِهَا المُسْنِتُونَ - فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا - وَتَنْشُرُ رَحْمَتَكَ وَأَنْتَ * (الْوَلِيُّ الْحَميدُ)، نهج البلاغة

وقد قام أمير المؤمنين (عليه السلام) بأعظم من هذه السقاية وذلك في معركة بدر حيث أجهد المسلمين العطش فلم يتجرأ أحد الوصول الى ذلك البئر لشدة الظلمة وهول الموقف إلا علي (عليه السلام)، ففي مناقب ابن شهر آشوب:

(قال الحارث: لما كانت ليلة بدر قال النبي (صلى الله عليه وآله)، من يستقي لنا من الماء؟ فأحجم الناس فقام علي فاحتضن فرسه ثم اتى بئرا بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها فأوحى الله إلى جبرئیل و میکائیل وإسرافيل، تأهبوا لنصرة محمد وحزبه، فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه فلما حاذوا البئر سلموا عليه من عند آخرهم اكراما وتبجيلا)(1).

ص: 177


1- آل ابي طالب، مناقب ابن شهر آشوب، ج 2، ص 80. وروى ابن شهر آشوب ایضاً، انه نزل أمير المؤمنين (عليه السلام) بالعسكر عند وقعة صفين عند قرية صندودياء فقال مالك الأشتر: ينزل الناس على غير ماء؟ فقال يا مالك ان الله سيسقينا في هذا المكان احتفر أنت وأصحابك فاحتفروا فإذا هم بصخرة سوداء عظيمة فيها حلقة لجين فعجزوا عن قلعها وهم مائة رجل فرفع أمير المؤمنين يده إلى السماء وهو يقول: طاب طاب یا عالم یا طيبوثا بوثة شمیا کرباجا نوثا تودیثا بر جوثا آمین آمین یا رب العالمين يا رب موسى وهارون ثم اجتذبها فرماها عن العين أربعين ذراعا فظهر ماء أعذب من الشهد و أبرد من الثلج وأصفى من الياقوت فشربنا وسقينا ثم رد الصخرة وأمرنا أن نحثو عليها التراب فلما سرنا غير بعيد قال: من منكم يعرف موضع العين؟ قلنا: كلنا، فرجعنا فخفي مکانها علينا فإذا راهب مستقبل من صومعة فلما بصر به أمير المؤمنين قال: شمعون؟ قال: نعم هذا اسمي سمتني به أمي ما اطلع عليه إلا الله ثم أنت، قال: وما تشاء يا شمعون؟ قال: هذا العين واسمه قال: هذا عين زاحوما وفي نسخة راجوه وهو من الجنة شرب منها ثلاثمائة نبي وثلاثة عشر وصياً و أنا آخر الوصيين شربت منه، قال: هكذا وجدت في جميع كتب الإنجيل وهذا الدير بني على قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها ولم يدرکه عالم قبلي غيري وقد رزقنيه الله، وأسلم. وفي رواية انه جب شعیب ثم رحل أمير المؤمنين والراهب يقدمه حتى نزل صفين فلما التقى الصفان كان أول من اصابته الشهادة فنزل أمير المؤمنين وعيناه تهملان وهو يقول المرء مع من أحب الراهب معنا يوم القيامة) ، مناقب آل ابي طالب، ابن شهر آشوب، ج 2، ص 123

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسقي حتى العدو، ففي معركة صفين حينما ملك معاوية النهر منع جيش الامام من شرب الماء، لكن الإمام حينما کشف الجيش وصار النهر بحوزته، لم يمنع الماء عن معسكر الاعداء بل أباحه وما هذا الفعل إلا تعبير عن انسانية أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو الانسان الحقيقي الذي ذكر في كتاب الله العزيز.

كذلك موقف الامام الحسين بن علي (عليه السلام) مع الحر وسقايته للحر ومن كان معه يذكرنا بموقف ابيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ففي الارشاد للشيخ المفيد: (جاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن یزید التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه السلام) في حر الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم، فقال الحسين (عليه السلام) لفتيانه: « اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشفوا الخيل ترشيفا «ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه وسقوا آخر، حتى سقوها كلها، فقال علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين (عليه السلام) ما بي وبفرسي من العطش قال: «أنخ الراوية» والراوية عندي السقاء، ثم قال: «يا ابن أخي أنخ الجمل» فأنخته فقال: «اشرب» فجعلت کلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين (عليه السلام): «اخنث السقاء» أي اعطفه، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه فشربت وسقیت فرسي)(1).

ص: 178


1- الارشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 78

فهذه النفوس المطمئنة كانت تسقي العدو في اشد الظروف، فلو كان غير ابن بنت رسول الله في هذا الموقف لادخر هذا الماء، لكن مبدأ الحسين ونفسه الطاهرة تأبى أن تكون شحيحة، فهذا ما تعلمه المولى أبو الفضل من ابيه واخوته الأطهار، فالسقاية في الحرب من أصعب السقايا فهي تحتاج الى نفوس مطمئنة، وهذا ما عظم موقف المولى أبي الفضل فمن خلال ما ورثه واكتسبه العباس بن علي (عليه السلام) من هذه النفوس الطيبة فضلاً عن نفسه القدسية التي حوت جميع هذه الصفات، كان لقب السقاء يليق به أكثر من جميع الآباء ولو قارنا بين سقاية العباس وسقاية آبائه وأجداده لرجح العباس، والدليل هو أن العباس كان ساقي الحسين وأهل بيته وأصحابه وهم في أشد ظمأ وأصعب موقف، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيا نفسا، «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»)(1).

ومن خطبة له (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله) يوم الفتح قال: «... ان كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت فإني قد أمضيتها لأهلها»(2).

وبلا شك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعلم الله المسبق قد أمضى هذا الأمر الى المولى أبي الفضل لأنه أهل لذلك، فالنبي في كثير من الروايات كان يخبر الإمام علياً وفاطمة عن مقتل ولده الحسين وأهل بيته في كربلاء ورواية ام سلمة وعروجه الى كربلاء ورؤيته لأهل بيته وهم مخضبين بدمائهم خير شاهد

ص: 179


1- مکارم الاخلاق، الشيخ الطبرسي، ص 135
2- مسند أحمد، ج 2، ص 103

على ما نقول، ففي رواية عن أم سلمة (رضي الله عنها) أنها قالت: (خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلا، ثم جاءنا وهو أشعث أغبر ويده مضمومة، فقلت: يا رسول الله، مالي أراك شعثا مغبرا؟! فقال: «أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال لها كربلاء، فأريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقط دماءهم فها هي في يدي» وبسطها إلي فقال: «خذيها واحتفظي بها» فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعته في قارورة وسددت رأسها واحتفظت به، فلما خرج الحسين (عليه السلام) من مكة متوجها نحو العراق، كنت أخرج تلك القارورة في كل يوم وليلة فأشمها وأنظر إليها ثم أبكي لمصابه، فلما كان في اليوم العاشر من المحرم - وهو اليوم الذي قتل فيه عليه السلام - أخرجتها في أول النهار وهي بحالها، ثم عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط، فصحت في بيتي وبكيت وكظمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة، فلم أزل حافظة للوقت حتى جاء الناعي ينعاه فحقق ما رأيت)(1).

فسبحانه وتعالى کشف لرسول الله عن تلك الفتية، فمثل العباس وهو اشبه الناس بعلي قولا وفعلا لا يخفى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وقوله (صلى الله عليه وآله): (فإني قد أمضيتها لأهلها)، يعني السقاية فالنبي امضاها لمن هو احق بها، لأن هذه الفضيلة لا يورثها النبي إلا لرجل من أهل بيته، إذ أنها من أفضل الأعمال فقد أورثها لعلي والحسن والحسين ومن ثم نال هذا الشرف أبو الفضل.

ص: 180


1- الارشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 130 - 131

فالعباس خلق لهذا اليوم وخلق ليؤدي هذه الأدوار ومن بين تلك الأدوار السقاية حيث كانت السيدة الطاهرة أم البنين والإمام علي بهيئانه لهذا الدور منذ صغره وكان العباس مستعداً استعداداً تاماً لهذا اليوم.

روي في لواعج الاشجان (لما اشتد العطش على الحسين (عليه السلام) وأصحابه أمر أخاه العباس بن علي (عليهما السلام) فسار في عشرين راجلا يحملون القرب وثلاثين فارسا فجاءوا حتى دنوا من الماء ليلا وأمامهم نافع بن هلال البجلي يحمل اللواء فقال عمرو بن الحجاج: مَن الرجل؟ قال: نافع، قال ما جاء بك؟ قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلاتمونا عنه، قال: فاشرب هنيئا قال لا والله لا اشرب منه قطرة والحسين عطشان هو وأصحابه، فقالوا لا سبيل إلى سقي هؤلاء إنما وضعنا هذا المكان لنمنعهم الماء، فقال نافع لرجاله املأوا قربكم فملأ وها وثار إليهم عمر بن الحجاج وأصحابه فحمل عليهم العباس ونافع بن هلال فكشفوهم واقبلوا بالماء ثم عاد عمرو بن الحجاج وأصحابه وأرادوا أن يقطعوا عليهم الطريق فقاتلهم العباس وأصحابه حتى ردوهم وجاءوا بالماء إلى الحسين (عليه السلام))(1).

وجاء في كتاب أسرار الشهادة للفاضل الدربندي (لما سمع العباس [الأطفال وهم ينادون العطش العطش] رمق بطرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي أريد أن أعتد بعدتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء، فركب فرسه وأخذ رمحه، والقربة في كتفه، وقصد الفرات.

ص: 181


1- لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين، ص 111، ينظر موسوعة بطل العلقمي العباس الاكبر، الشيخ المظفر، ج 2، ص 44

وفي بعض مقاتل أصحابنا:

أنه لما نادي الحسين أما من ذابّ یذبّ عن حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج اليه أخوه العباس وقبّل بين عينيه، وسار حتّى أتي إلى الشريعة، وإذا دونها عشرة آلاف فارس مدرعة، فلم يهولوه، فصاحت له الرجال من كل جانب و مکان: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا العباس بن علي بن أبي طالب.

ثم نادی یا بني فلاح، أنا ابن أختكم أم عاصم الكلابية، وأنا عطشان، وأهل بيت محمد يذادون من الماء وهو مباح للكلاب والخنازير ونحن منه محرومون، وإليه بالحسرة ناظرون، فقال له عمر بن الحجاج: يعزّ علي يا ابن الأخت ما نزل بك من العطش، ولو علمت لأرسلت إليك الماء، دونك والفرات يا ابن الأخت، فسار العباس حتى نزل الفرات وجعل يملأ القربة.

فبلغ خبره الى عمر بن سعد فقال: علي برأس عمر بن الحجاج، حيث يقوي علينا أعداءنا، فبعث إليه عمر بن الحجاج، وهو يقول: لا تعجل علي إنما عملت ذلك لأحتال على قتله، ونهر عليه الرجال وقال: دونكم العباس فقد حصل بأیدیکم، فلما رآهم العباس وقد تسارعوا إليه وهو مكب على الماء وهم أن يشرب فذكر عطش أخيه الحسين (عليه السلام) فلم يشرب وحط القربة عن عاتقه، واستقبل القوم يضربهم بسيفه وكأنه النار في الأحطاب، وهو ينشد ويقول:

أنا الذي أعرف عند الزمجرة *** ابن علي المسمی حیدرة

فأثبتوا اليوم لنا يا كفرة *** لعترة الحمد وال البقرة

ثم حمل على القوم وهو يقتل فيهم، حتى قتل من أبطالهم وسادتهم مائة، ثم عاد إلى القربة فاحتملها على عاتقه وهو يقول:

ص: 182

لله عين رأت ماقد أحاط بنا *** من اللئام وأولاد الدعيات

يا حبذا عصبة جادت بأنفسها *** حتى تحل بأرض الغاضريات

الموت تحت ذباب السيف مكرمة *** إذ كان من بعده سكنی لجنات

ثم حمل على الرجال وجدل الأبطال حتى قرب من أخيه الحسين (عليه السلام) وهو يقول:

یا حسین بن علي *** إن يريد القوم فقدك

لن ينالوك بسوء *** إنما نالوه جدك

إن عندي من مصابي *** مثل ماهو عندك

قال: وكان في عسكر عمر بن سعد رجل يقال له المارد بن صديف التغلبي، فلما نظر الى ما فعله العباس من قتل الأبطال، خرق أطماره ولطم على وجهه ثم قال لأصحابه: لا بارك الله فيكم، أما والله لو أخذ كل واحد منكم ملء كفّه تراباً لطمرتموه، ولكنكم تظهرون النصيحة وأنتم تحت الفضيحة، ثم نادى بأعلى صوته:

أقسم على من كان في رقبته بيعة الأمير يزيد، وكان تحت الطاعة، إلا اعتزل عن الحرب وأمسك عن النزال، فأنا لهذا الغلام الذي قد أباد الرجال، وقتل الأبطال وأودي الشجعان وأفناهم بالحسام والسنان، ثم من بعده أقتل أخاه الحسين ومن بقي من أصحابه معه.

فقال له شمر [عليه لعنة الله]: إذا قد ضمنت انك تكون كفؤ الناس أجمع، ارجع إلى الأمير عمر بن سعد وأطلعه على انك تأتيه بالقوم أجمعين إذا كان بك غنى عنا.

فقال له المارد: یا شمر، أما والله ما فيكم خير لأنفسكم، فكيف تعيرون غيركم.

ص: 183

فقال له الشمر: ها نحن نرجع إلى رأيك وأمرك وننظر فعالك معه.

ثم قال الشمر للناس: اعتزلوه على الحرب حتى ننظر ما يكون منهما.

فأقبل المارد بن صدیف، وأفرغ عليه درعين ضيقين الزرد، وجعل على رأسه بيضة عادية، وركب فرساً أشقر أعلى ما يكون من الخيل، وأخذ بيده رمحاً طويلاً، فبرز إلى العباس بن علي (عليه السلام)، فالتفت العباس فرآه وهو طالب له پرعد ويبرق، فعلم أنه فارس القوم، فثبت له حتى إذا قاربه صاح به المارد: یا غلام ارحم نفسك واغمد حسامك، واظهر للناس، فالسلامة أولى من الندامة، فكم من طالب أمر حيل بينه وبين ما طلبة وغافصه(1) أجله، واعلم أنه لم يحاربك في هذا اليوم أشد قسوة مني، وقد نزع الله الرحمة عليك من قلبي، وقد نصحت إن قبلت النصيحة ثم أنشأ يقول:

إني نصحتك ان قبلت نصيحتي *** حذرا عليك من الحسام القاطع

ولقد رحمتك إذ رأيتك يافعاً *** ولعل مثلي لا يقاس بيافع

أعط القيادة تعش بخیر معيشة *** أولا فدونك من عذاب واقع

قال: فلما سمع العباس کلامه وما أتی به من نظامه قال له: ما أراك أتيت إلا بجميل، ولا نطقت إلا بتفضيل، غير أني أرى جعلك في مناخ تذروه الرياح، أو في الصخر الأطمس، لا تقبله الأنفس، وكلامك كالسراب يلوح، فإذا قصد صار أرضاً بوار، والذي أصّلته أن استسلم إليك فذلك بعيد الوصول صعب الحصول وأنا يا عدو الله وعدو رسوله، فمعهود للقاء الأبطال والصبر على البلاء في النزال

ص: 184


1- فاجأه وأخذه على غرة

ومكافحة الفرسان وبالله المستعان، فمن كملت هذه الأوصاف فيه فلا يخاف ممن برز إليه، ويلك أليس لي اتصال برسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وأنا غصن متصل بشجرته، وتحفة من نور جوهره ومن كان من هذه الشجرة فلا يدخل تحت الذمام ولا يخاف ضرب الحسام، فأنا ابن علي، لا أعجز من مبارزة الاقران، وما أشرکت بالله لمحة بصر، ولا خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما أمر، وأنا منه الورقة من الشجرة، وعلى الأصول تثبت الفروع، فاصرف عنك ما أملته، فما أنا ممن يأسي على الحياة، ولا يجزع من الوفاة، فخذ في الجد واصرف عنك، ثم أنشأ يقول:

صبراً على جور الزمان القاطع *** ومنية ما أن لها من دافع

لاتجزعن فكل شيء هالك *** حاشا لمثلي أن يكون بجازع

فلنن رماني الدهر منه بأسهم *** وتفرق من بعد شمل جامع

فكم لنا من وقعت شابت لها *** قمم الأصاغرمن ضراب قاطع

قال: فلما سمع المارد کلام العباس وما أتی به من شعره، لم يعط صبراً دون أن حقق عليه بالحملة وبادره بالطعنة، وهو يظن أن أمره هين، وقد وصل إليه، وقد مكنه العباس من نفسه، حتى اذا وصل إليه السنان، قبض العباس على الرمح وجذبه إليه، فكاد يقلع المارد من سرجه، فخلاله الرمح، ورد يده الى سيفه وقد تخلله الخجل عندما ملك منه رمحه.

قال: فشرع العباس الرمح للمارد فصاح به: يا عدو الله، إنني أرجو من الله تعالى أن أقتلك بر محك، فجال المارد على العباس وقحم عليه، فبادره العباس وطعن جواده في خاصرته فشب به الجواد ووثب المارد فاذا هو على الأرض ولم يكن للعين طاقة على قتال العباس راجلاً، لأنه كان عظیم الجثة ثقيل الخطوة، فاضطربت

ص: 185

الصفوف، وتصايحت الألوف، وناداه الشمر: لا بأس عليك، ثم قال لأصحابه: ویلکم أدركوا صاحبكم قبل أن يقتل.

قال: فخرج إليه غلام له بحجرة(1) يقال لها الطاوية(2)، فلما نظر إليه المارد فرح بها وكف خجله، وصاح: یا غلام عجل بالطاوية قبل حلول الداهية، فأسرع بها الغلام إليه، فكان العباس اسبق من عدو الله إليها، فوثب وثبات مسرعات وصل بها إلى الغلام، فطعنه بالرمح في صدره فأخرجه من ظهره، واحتوى على الحجرة فركبها، وعطف على عدو الله، فلما رآه تغير وجهه وحار أمره فأيقن بالهلاك.

ثم نادى بأعلى صوته: يا قوم أغلب على جوادي واقتل برمحي، يالها من سبة، ومعيرة، قال: فحمل الشمر وأتبعه سنان بن انس وخولی بن یزید الاصبحي، وأحمد بن مالك، وبشر بن سوط، وجملة من الجيش، فنضوا الأعنة وقدموا الأسنة وجردوا السيوف، وتصايحت الرجال، ومالت نحو العباس، فناداه أخوه الحسين (عليه السلام) ما انتظارك يا أخي بعدو الله؟ فقد غدر القوم بك.

قال: ونظر العباس إلى سرعة الخيل ومجيئهم كالسيل، فعطف عليه بر محه، فناداه المارد: یا ابن علي، رفقا بأسيرك يكون لك شاكراً، فقال العباس: ويلك أبمثلي يلقي إليه الخدع والمحال، ما أصنع بأسير وقد قرب المسير؟ ثم طعنه في نحره، وذبحه من الأذن الى الأذن، فانجدل صريعا، يخور في دمه.

ووصلت الخيل والرجال إلى العباس، فعطف عليهم وهو على ظهر الطاوية، وكانت الخيل تزيد عن خمسمائة فارس، فلم يكن إلا ساعة حتى قتل منهم ثمانين

ص: 186


1- الحجرة: الفرس
2- جاء في الكبريت الأحمر، ج 2، ص 306، (ذكر حديث الطاوية والمارد في كتاب قرة العين في مشهد الحسين)

رجلاً، وأشرف الباقون على الهرب، فعندها حمل عمر بن سعد، وزحفت إثره الأعلام، ومالت إليه، فصاح به أخوه الحسين (عليه السلام): «يا أخي اسند إلي لأدفع عنك وتدفع عني»، فجعل العباس يقاتل وهو متأخر وقد أدركته الخيل والرماح كأجام القصب، وصار يضرب فيهم يمينا وشمالاً، إلى أن وصل لأخيه الحسين ....

فصاح به الشمر (لعنه الله): یا ابن علي إن كنت قد رجلت المارد عن الطاوية وقتلته فهي والله التي كانت لأخيك الحسن يوم سابط المدائن، فلما وصل العباس إلى أخيه الحسين (عليه السلام) ذكر له ما قاله الشمر من خبر الطاوية، فنظر الحسين (عليه السلام) وقال: هذه والله الطاوية التي كانت الملك الري، وإنه لما قتله أبي علي بن أبي طالب وهبها لأخي الحسن...

وصارت الطاوية تلوذ بمولانا الحسين (عليه السلام)، ودخل العباس إلى خيمة الحرم بالسقاء الذي معه، فتواسوا به الأطفال ولم يرووا، لأنه ما بقي فيه إلا أربعة أواق ماء...)(1).

فلا زال العباس بن علي يقاتل بين يدي اخيه الحسين ويدافع عن حرمه ويطلب لهم الماء حتى قتل (عليه السلام) ففي الارشاد، حملت الجماعة على الحسين (عليه السلام) فغلبوه على عسكره، واشتد به العطش، فركب المسناة يريد الفرات وبين يديه العباس أخوه، فاعترضته خیل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ویلکم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكنوه من الماء، فقال الحسين (عليه السلام): «اللهم أظمئه» فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنکه، فانتزع الحسين عليه السلام السهم وبسط يده تحت حنکه فامتلأت راحتاه بالدم، فرمی به ثم قال:

ص: 187


1- اسرار الشهادة: ج 2، ص 498 - 500

«اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك» ثم رجع إلى مكانه وقد اشتد به العطش. وأحاط القوم بالعباس فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل - رضوان الله عليه - وكان المتولي لقتله زید بن ورقاء الحنفي وحکیم بن الطفيل السنبسي بعد أن أثخن بالجراح فلم يستطع حراكا)(1).

المقصد الخامس: (لقب الطيار).

من الألقاب التي توارثها المولى أبو الفضل العباس (عليه السلام) لقب الطيار، كعمه جعفر بن ابي طالب (عليه السلام) فكلاهما حاز هذا اللقب بجدارة، وكان سبب تسميتهما بهذا اللقب أن الله سبحانه وتعالى أبدلهما بدل کفيهما القطيعتين جناحين يطيران بهما مع الملائكة.

فالعباس بن علي (عليه السلام) لم يرث ولم يكتسب من أي شخصية عادية، وانما جمع الله فيه أعظم الصفات التي كانت في آبائه وأعمامه، فللطيار صفات أحبها الله منها حبه للفقراء ومجالستهم.

روى الطبراني: (كان جعفر يحب المساكين يجلس إليهم يحدثهم ويحدثوه وكان رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يسميه أبو المساكين)(2).

وكان جعفر يتصف بالسخاء وحسن المجاورة، فقد روي أنه كان يقول لأبيه أبي طالب (عليه السلام) يا أبه اني لأستحي أن أطعم طعاما وجيراني لا يقدرون على مثله وكان يقول له أبوه إني لأرجو ان يكون فيك خلف من عبد المطلب(3).

ص: 188


1- الارشاد، ج 2، ص 109 - 110
2- المعجم الكبير، الطبراني، ج 2، ص 109
3- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، السيد علي خان المدني الشيرازی، ص 69

وقد كان جعفر (عليه السلام) موضع فخر واعتزاز للنبي وعترته (صلوات الله وسلامه عليهم) فعن أبي أيوب الأنصاري، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الفاطمة: «ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة حيث يشاء وهو ابن عم أبيك جعفر»(1).

وحينما قتل جعفر حزن النبي حزناً شديداً، كذلك حزن الإمام علي أشد الحزن على أخيه (قال جابر: فلما كان اليوم الذي وقع فيه القتال صلى النبي (صلى الله عليه وآله) بنا الفجر ثم صعد المنبر فقال:

«قد التقى اخوانكم مع المشركين فأقبل يحدثنا بكرّات بعضهم على بعض» إلى أن قال: «قتل زید بن حارثة وسقطت الراية» ثم قال: «قد أخذها جعفر بن أبي طالب وتقدم للحرب بها» ثم بكى وقال: «قطعت يده وقد أخذ الراية بيده الأخرى»، ثم قال: «قطعت يده الأخرى وقد ضم اللواء إلى صدره إلى أن أخبر بشهادته» و یکی رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجميع من حضر ولم يكن علي حاضرا، فعند ذلك دخل علي (عليه السلام) في المسجد فلما بصر به النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«إن عليا لا يطيق انصتوا واسكتوا» فسكتوا فلما دخل علي ونظر في وجوه الناس قال: «یا رسول الله هل لك علم بأخي جعفر» فبکی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: «آجرك الله يا أبا الحسن لقد قتل» فبكى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، الآن انقصم ظهري»)(2).

ص: 189


1- أعيان الشيعة، السيد محسن الأميني، ج 2، ص 52
2- شجرة طوبی، محمد مهدي الحائري، ج 2، ص 299، وفي البحار، قال عبد الله بن دینار: قدم لقمان من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: ملكت أمري، قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت، قال: جدد فراشي، قال: ما فعلت أختي؟ قال: ماتت، قال: سترت عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري، بحار الانوار، ج 13، ص 424

وهذه الكلمة الأخيرة تذكرنا بقول الإمام الحسين حينما رأى أخاه العباس صريعاً على نهر العلقمي، قال (عليه السلام): «الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي»(1).

فكان مصرع العباس من أشد المواقف التي شهدها سيد الشهداء، لأنه العلامة في معسكره، لذا حينما قال الإمام الآن انكسر ظهري فعلاً ان مصرع ابي الفضل (عليه السلام) قد كسر ظهر الحسين (عليه السلام) وادى الى تشتت الاطفال وتفرقهم في البوادي و فيها قتل الحسين بن علي، فلمثل العباس فاليبكِ الباكون وليندب النادبون.

عن ثابت بن أبي صفية، قال: (نظر سيد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) إلى عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاستعبر، ثم قال: «ما من يوم أشد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يوم أحد، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب».

ثم قال (عليه السلام): «ولا يوم كيوم الحسين (عليه السلام) از دلف إليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله (عز وجل) بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا».

ثم قال (عليه السلام): «رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلی، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»)(2).

ص: 190


1- بحار الأنوار، ج 45، ص 42
2- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 547

وقد روى الشيخ الصدوق هذا الحديث في الخصال، وقال: والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العباس بن علي عليهما السلام في كتاب مقتل الحسين بن علي عليهما السلام(1).

يقول صاحب الكبريت الأحمر: (يدل كلام الصدوق هذا على وفرة الاخبار في فضل العباس (عليه السلام) ولكنها ضاعت بضياع الكتب التي حوتها فقد فُقِدَ كثير من كتب الشيعة، لأن مقتل الصدوق غير أماليه المعروف بالمجالس قطعاً کما يظهر من فهرست الشيخ الطوسي وسائر الفهارس والكتب الرجالية ولم يبقَ من مؤلفات الشيخ الصدوق الثلاثمائة إلا عدد قليل في زماننا)(2).

فمقام العباس بن علي ومقام جعفر ابن ابي طالب من أرفع المقامات عند الله وعند الحجج فهي مكانة رفيعة ومنزلة خاصة.

عن الشعبي قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: كنت إذا سألت عليّا شيئا فمنعني فقلت له: بحق جعفر أعطاني)(3).

وقد افتخر بجعفر بن أبي طالب (عليه السلام) الإمام علي والإمام الحسين(4) والإمام السجاد(5) (عليهم السلام).

ص: 191


1- الخصال، ص 68
2- الكبريت الأحمر، ج 2، ص 344
3- الاستیعاب، ابن عبد البر، ج 1، ص 244
4- ففي رواية قال الإمام الحسين: ((أما بعد: فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين المصدق لرسول الله بما جاء به من عند ربه، أوليس حمزة سيد الشهداء عمي، أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي..)، الثاقب في المناقب، ص 322
5- من خطبة للإمام السجاد (عليه السلام) خطب فيها أمام یزید (عليه اللعنة) وأهل الشام قَالَ (عليه السلام): (أیُّهَا النّاسُ، اُعطینا سِتّاً وفُضِّلنا بِسَبعٍ، اُعطینَا العِلمَ وَالحِلمَ وَالسَّماحَةَ وَالفَصاحَةَ وَالشَّجاعَةَ وَالمَحَبَّةَ فی قُلوبِ المُؤمِنینَ، وفُضِّلنا بِأَنَّ مِنَّا النَّبِیَّ المُختارَ مُحَمَّداً، ومِنَّا الصِّدّیقُ، ومِنَّا الطَّیّارُ، ومِنَّا أسَدُ اللّهِ وأسَدُ الرَّسولِ، ومِنّا سِبطا هذِهِ الاُمَّةِ، مَن عَرَفَنی فَقَد عَرَفَنی ومَن لَم یَعرِفنی أنبَأتُهُ بِحَسَبی ونَسَبی

ومن كتاب له (عليه السلام) أرسله الى معاوية [وهو من محاسن الكتب] يوضح به عظیم منزلتهم وما أكرمهم الله به من خصائص وكرامات لا يصل لها الا نبي مرسل، قال (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ [فِيهِ] اصْطِفَاءَ اللهِ تعالى مُحَمَّداً (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لِدِينِهِ، وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ بِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً، إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلاَءِ اللهِ عِنْدَنَا، وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا، فَكُنْتَ فِي ذلكِ كَنَاقِلِ الَّتمْرِ إِلَى هَجَرَ، أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ.

وَزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الاْسْلاَمِ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ، وَإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ، وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ، وَالسَّائِسَ وَالْمَسُوسَ! وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ، وَالتَّمْييزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الاْوَّلِينَ، وَتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ! هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا، وَطَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا! أَلاَ تَرْبَعُ أَيُّهَا الاْنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ وَتَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ، وَتَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ! فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ، وَلاَ لَكَ ظَفَرُ الظَّافِرِ! وَإِنَّكَ لَذَهّابٌ فِي التِّيهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ. أَلاَ تَرَى - غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ، لكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أُحَدِّثُ - أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمُهاجِرينَ، لِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَخَصَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلاَتِهِ عَلَيْهِ! أَوَلاَ تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْديِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَلِكُلٍّ فَضْلٌ - حَتَّى إذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ، قِيلَ: الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَذُوالْجَنَاحَيْنِ! وَلَوْ لاَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ. فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِه الرَّمِيَّةُ، فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا»(1).

ص: 192


1- نهج البلاغة، الخطبة: 28 من كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية، ص 385 - 387

فمن طبيعة بني هاشم أنهم لا يتفاخرون ولا يتفاضلون إلا عند الضرورة وإذا تكلموا إنما ليوضحوا بعض الحقائق، وما قاله الإمام عن خصائص شهدائهم إنما هي قطرة في بحر، والإمام (عليه السلام) في كلامه هذا قد اشار الى أمور غيبية بين فيها منزلة أبناءه أيضاً؛ فالحسين والعباس من شهداء بني هاشم بل من سادة الشهداء.

فقوله (عليه السلام): «إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا»:

فهذا الكلام لا ينحصر في حمزة عم النبي وجعفر فقط، وإنما يخص الامام الحسين والعباس أيضاً، فكلاهما نال هذا اللقب فالحسين حاز هذا اللقب کما حازه الحمزة بن عبد المطلب، لكن الحسين سبق الأولين والآخرين حتى صار الحسين سيداً على السادات.

وقوله (عليه السلام): «حَتَّى إذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ»:

أي: اذا قطعت يد شهيدنا عوضه الله بجناحين ولقب ب (الطيار) وهذا ما أكرم الله به جعفراً والعباس، فالله سبحانه وتعالى قد عوض جعفر بن ابي طالب والعباس بن علي (عليهما السلام) جناحين يطيران بهما في الجنة.

وقد جعل الله سبحانه كفَّي ابي الفضل العباس باباً من أبوابه في الدنيا والاخرة، وهذه كرامة من الله لتلك الكفين الطاهرتين.

قال الفاضل الدربندي: (وقد سمعت عن بعض من أثق به، أنه نقل عن بعض المتتبعين في كتب المقاتل انه قال: إذا صار يوم المحشر واشتد الأمر على أهل المحشر بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى فاطمة (عليه السلام) لتحضر مقام الشفاعة، فيقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «یا فاطمة ما عندك من اسباب الشفاعة، وما ادخرت لأجل هذا اليوم الذي فيه

ص: 193

الفزع الأكبر؟»، فتقول فاطمة: (عليها السلام): «يا أمير المؤمنين كفانا لأجل هذا المقام اليدان المقطوعتان من ابني العباس».

يقول الفاضل الدربندي ايضاً: وقد أخبرني جمع من الثقاة في هذا الزمان: أن واحداً من مؤمني هذا العصر، كان يزور سيد الشهداء في كل يوم ثلاث مرات أو في صبيحة كل يوم، وما كان يزور العباس إلا بعد عشرين يوما أو ما يقرب منه، وقد رأى في الطيف الصديقة الطاهرة، وسلم عليها، فأعرضت عنه فقال: بأبي أنت وأمي لأي تقصير مني تعرضين عني؟ قالت: «لإعراضك عن زيارتك ابني»، قال: اني أزور ابنك في كل يوم، قالت: «تزور ابني الحسين (عليه السلام) ولا تزور ابني العباس»)(1).

فمنذ ان خلق الله قمر العشيرة كشف الله لوليه ووصي نبيه ما سيجري على هاتين الكفين، فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقبل يديه.

وكما کشف الله لرسوله وأراه جعفر وهو يطير مع الملائكة فقد كشف الله للإمام السجاد (عليه السلام) عن عمه العباس وما حباه الله سبحانه من کرامات.

فالعباس بن علي (عليه السلام) كان يتصف بجميع ما اتصف به عمه جعفر وإلا لما وصل الى هذا اللقب، بل فاق العباس منزلة عمه، ففي الرواية السابقة المروية عن الامام السجاد تبين فيها منزلة العباس وأن منزلته يغبطها جميع الشهداء والصديقين.

ص: 194


1- أسرار الشهادة، ج 2، ص 514

روي في الامالي للشيخ الصدوق عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: « .. أما الحسين فإنه مني، وهو ابني وولدي، وخير الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين، ومولى المؤمنين، وخليفة رب العالمين، وغياث المستغيثين، و كهف المستجيرين، وحجة الله على خلقه أجمعين، وهو سيد شباب أهل الجنة، وباب نجاة الأمة، أمره أمري، وطاعته طاعتي، من تبعه فإنه مني، ومن عصاه فليس مني، وإني لما رأيته تذكرت ما يصنع به بعدي، كأني به وقد استجار بحرمي وقبري فلا يجار، فأضمه في منامه إلى صدري، وآمره بالرحلة على دار هجرتي، وأبشره بالشهادة، فيرتحل عنها إلى أرض مقتله وموضع مصرعه أرض کرب وبلاء وقتل وفناء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمتي يوم القيامة ..»(1).

وجاء في روضة المتقين في زيارة قبور الشهداء: (السلام عليكم أيها الربانيون، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع ونحن لكم خلف وأنصار وأشهد أنكم أنصار الله وسادات الشهداء في الدنيا والآخرة فإنكم أنصار الله كما قال الله عز وجل:

«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا»(2).

وفي مقاتل الطالبيين، قام الحسين في أصحابه خطيبا فقال: «اللهم إنك تعلم اني لا اعلم أصحابا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت خيرا من أهل بيتي فجزاکم الله خيرا فقد آزرتم وعاونتم»(3).

فشهداء الطف هم سادات الشهداء فكيف بقادتهم.

ص: 195


1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 177
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقیه، محمد تقي المجلسي (الأول)، ج 5، ص 434
3- مقاتل الطالبيين، ص 74

يقول صاحب کتاب الكبريت الأحمر: (علمت بصريح الأحاديث الصحيحة والزيارات أن فتيان بني هاشم الذين نالوا الشهادة في كربلاء ليس لهم نظير على وجه الأرض وهذا القول في حق ابي الفضل أظهر لأن درجته أعلى من كل درجة إلى الحد الذي يغبطه بها الشهداء)(1).

المقصد السادس: (لقب كبش الكتيبة).

من ألقاب المولى ابي الفضل العباس (عليه السلام) كبش الكتيبة، قال الفراهيدي: (كبش الكتيبة: قائدها)(2)، وقال الجوهري: (كبش القوم: سیدهم)(3).

وهذا اللقب كان الإمام الحسين يطلقه على قمر العشيرة (عليه السلام)، روي انه لما تجهزت القافلة وأراد الإمام الحسين أن ينطلق الى كربلاء (نادي الإمام (عليه السلام): «أين أخي؟ أين كبش كتيبتي»)(4).

فكان العباس كبش كتيبة الإمام الحسين، وكبش الكتيبة هو القائد الذي يرأس الجيش، فمن كانت له جرأة واقدام على المكاره هو من يلقب بهذا اللقب ويتولى أمر القيادة، ومن اختير لهذا المنصب يجب ان يكون اشجع الجيش.

فلا يطلق هذا اللقب لأحد إلا من كملت فيه جميع الصفات التي يتحلى بها القائد، وهذا اللقب قد اكتسبه قمر العشيرة من ابيه أمير المؤمنين علي بن أبي

ص: 196


1- الكبريت الأحمر، ج 2، ص 349، المجلس الرابع، في ذكر الأخبار المأثورة
2- العين، الخليل الفراهيدي، ج 5، ص 298
3- الصحاح، الجوهري، ج 3، ص 1017
4- أسرار الشهادة، ج 2، ص 629، المجالس العاشورية في المآتم الحسينية، الشيخ عبد الله ابن الحاج حسن آل درویش، نقلاً عن، معالي السبطين، الحائري، 1/ 220، واسرار الشهادة، الدربندي، ص 367

طالب (عليه السلام) كان كبش كتيبة النبي، فقد جاء في الارشاد (كانت الألوية من قريش مع بني عبد الدار، وكان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة، وكان يدعى كبش الكتيبة.

قال: ودفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وجاء حتى قام تحت لواء الأنصار.

قال: فجاء أبو سفيان إلى أصحاب اللواء فقال: يا أصحاب الألوية، إنكم قد تعلمون أنما يؤتى القوم من قبل ألويتهم، وإنما أتيتم يوم بدر من قبل ألويتكم، فإن کنتم ترون أنكم قد ضعفتم عنها فادفعوها إلينا نكفكموها.

قال: فغضب طلحة بن أبي طلحة وقال: ألنا تقول هذا؟ والله لأوردنکم بها اليوم حياض الموت، قال: وكان طلحة يسمى كبش الكتيبة.

قال: فتقدم وتقدم علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال علي: «من أنت؟» قال: أنا طلحة بن أبي طلحة، أنا كبش الكتيبة فمن أنت؟ قال: «أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب» ثم تقاربا فاختلفت بينهما ضربتان، فضربه علي بن أبي طالب (عليه السلام) ضربة على مقدم رأسه، فبدرت عيناه وصاح صيحة لم نسمع مثلها قط وسقط اللواء من يده، فأخذه أخ له يقال مصعب، فرماه عاصم بن ثابت فقتله، ثم أخذ اللواء أخ له يقال له عثمان، فرماه عاصم - أيضا - فقتله، فأخذه عبد لهم يقال له صواب - وكان من أشد الناس - فضرب علي بن أبي طالب (عليه السلام) يده فقطعها، فأخذ اللواء بيده اليسرى، (فضربه) على يده فقطعها، فأخذ اللواء على صدره وجمع يديه وهما مقطوعتان عليه، فضربه علي عليه السلام على أم رأسه فسقط صريعا وانهزم القوم، وأكب المسلمون على الغنائم ....)(1).

ص: 197


1- الارشاد، الشيخ المفيد، ج 1، ص 80 - 81، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 20، ص 82

فكبش الكتيبة هو الذي يتصدى للصعاب والذي يتقدم لرد المكاره والمعضلات، وكم من معضلة كان لها أبو الحسن، فعلي قاتل عمرو بن ود ومرحب وغيرهم من صناديد العرب الذي شهد لهم التاريخ بشجاعتهم فلم يتجرأ أحد من المسلمين على البروز لهؤلاء غير ابي الحسن، فكان عمرو ابن ود من المقاتلين وممن تهابه الفرسان فهو شجاع ناهيك عن تلك الهمجية الجاهلية التي يمتلكها جعلت الناس تهابه، فحينما سمعت اخته بمصرعه تأسفت ولكن لما سمعت أن قاتله علي بن أبي طالب (قالت: كفؤ کریم ثم أنشأت تقول:

لو كان قاتل عمر وغير قاتله *** لكنت أبكي عليه آخرالأبد

لكن قاتله من لايعاب به *** من كان يدعى قديما بيضة البلد(1)

فقمر العشيرة وماله من ميزات وصفات نبيلة حينما يسمع عن أبيه تلك البطولات يزداد قوةً وصلابةً، كذلك تواجده معه في الحروب كصفين والنهروان جعلَ العباس كأبيه.

وعلى الرغم من قلة حروب المولى أبي الفضل إلا أن صيته شاع بين الناس، فالكل يعرف قوة العباس وصلابته فهم يعدونه جیشاً.

والعباس شارك في صفين وقيل النهروان، وهذا ما ذكره التاريخ لنا عن هذا البطل في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولعل هنالك مواقف كثيرة لم تذكر بسبب ضياع الكتب.

أما في حيات الامام الحسن فنحن نعلم أن الحسن صالح معاوية فكان دور الموالين هو السكوت وتقبل هذا الصلح.

ص: 198


1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 171

وفي حياة الإمام الحسين (عليه السلام) كان الطف هو الشاهد له، فلو لم يذكر التاريخ اي قتال لأبي الفضل (عليه السلام) سوى تلك المواقف التي شهدها بالطف لكفاه ذلك من فخر، فالطف وحدها تشهد ببطولاته التي تخلدت على مر العصور والازمان.

فعلى الرغم من وجود الكثير من الابطال الذين خلدهم التاريخ إلا أن شجاعة العباس لا زالت تذكر بل يضرب بها المثل الأعلى.

والعباس بن علي (عليهما السلام) كان عارفا بموقعه وما لكبش الكتيبة من أهميه كبيرة بالنسبة إلى معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، فحينما سقط (عليه السلام) على المسنات وأتاه الإمام ليحمله لم يرتضِ الرجوع، وكان للعباس اسباب قد جعلت الحسين يتركه في مكانه، ففي رواية يرويها الفاضل الدربندي توضح تلك الاسباب، قال اسحق: (فأتاه الحسين (عليه السلام) كالصقر إذا انحدر على فريسته، ففرقهم يميناً وشمالاً بعد أن قتل من المعروفين سبعين رجلاً، فجاء نحو العباس وهو ينادي: «وا أخاه وا عباسا، الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي»، ثم انحنى عليه ليحتمله، ففتح العباس عينيه فرأى أخاه الحسين يريد أن يحمله، فقال له: «إلى أين تريد بي يا أخي؟» فقال: «الى الخيمة»، فقال: «يا أخي بحق جدك رسول الله أن لا تحملني، دعني في مكاني هذا»، فقال (عليه السلام): «لماذا؟» قال: «لأني مستحٍ من ابنتك سكينة وقد وعدتها بالماء، ولم آنها به، والثاني أنا كبش كتيبتك ومجمع عددك فإذا رآني أصحابك وأنا مقتول فلربما يقل عزمهم ويذل صبرهم»، فقال الحسين (عليه السلام): «جزیت عن أخيك خيراً حيث نصرتني حياً وميتاً»)(1).

ص: 199


1- أسرار الشهادة، ج 2، ص 504

فهذه النظرة القيادية العجيبة تثبت أن العباس لا مثيل له، إذ أنه بهذا الحال كان عليه السلام بغاية التركيز فقد اعطى قمر العشيرة اسبابا مقنعة والحسين بن علي قائد عظيم يعرف مكانة العباس وتأثيره على النساء وباقي الموجودين في معسكره، ففي تكملة الرواية، (قال: فوضعه في مكانه ورجع إلى الخيمة وهو يكفكف دموعه بکمه، فلما رأوه مقبلاً أتت إليه سكينة ولزمت عنان جواده وقالت: يا أبتاه هل لك علم بعمي العباس؟ أراه أبطأ، وقد واعدني بالماء وليس له عادة أن يخلف وعده أم هو يجاهد الأعداء؟ فعندها بکی الحسين (عليه السلام) وقال: یا ابتاه إن عمك العباس قتل وبلغت روحه الجنان، فلما سمعته زینب صرخت ونادت: وا اخاه وا عباساه وا قلة ناصراه وا ضيعتاه من بعدك، فقال الحسين (عليه السلام): أي والله من بعده وا ضيعتاه وا انقطاع ظهراه، فجعلن النساء يبكين ويندبن عليه، وبکی الحسين (عليه السلام) معهم)(1).

فالنساء والأطفال يعرفون جيداً أن كبش الكتيبة اذا سقط حل الضياع بهم لما له من أهمية كبيرة فكبش الكتيبة هو قلب الجيش.

ونفس هذا الشعور شعر به بقية الرجال الذين بقوا بعد مصرع العباس، قال الشيخ المظفر: (فقد بقي من أصحاب الحسين (عليه السلام) بعد شهادة العباس جماعة وبعضهم جرحى فالإمام زين العابدین وعقبة بن سمعان مولى الرباب وبعض الموالي كانوا أحياء، والضحاك المشرقي الذي نجی بعد شهادة العباس (عليه السلام) وعنه وعن عقبة بن سمعان تروى أخبار الطف ونجی زیاد الأقطع والد الفراء بعد أن قطعت يده بالطف، والموقع الأسدي أُسر ونفاه ابن زیاد الى الزارة، والحسن المثني عالج أخواله جراحاته فبرأ منها، وسويد بن أبي المطاع قتل بعد شهادة الحسين (عليه السلام) سمعهم وهو جريح يقولون: قتل الحسين، فأخرج

ص: 200


1- المصدر نفسه، ج 2، ص 504 - 505

سكيناً فقاتل بها فقتل، وسوار بن المنعم النهمي الهمداني أُسر جريماً ومات لستة أشهر وغير هؤلاء وهم الذين يقل عزمهم عند مشاهدة العباس (عليه السلام) قتيلاً وكذلك كان الأمر فقد هرب الضحاك واستسلم عقبة وأُسر الباقون بعد قتل الحسين (عليه السلام) وكانوا بوجوده واثقين بسلامة الحسين (عليه السلام) وبسلامة الحسين (عليه السلام) سلامتهم مضمونة، فإذا قتل العباس تيقنوا قتل الحسين (عليه السلام) فقل عزمهم، وهذا من التدبير وهو يدل على مهارة العباس (عليه السلام) بالفنون الحربية وخبرته بها)(1).

ومن المؤكد أن حكمة الله في بقاء العباس على المشرعة، كي يكون القمر العشيرة قبرٌ مساوٍ لقبر أخيه الحسين، ويكون بابه الذي يؤتي منه.

فالله سبحانه وتعالى حينما اطلع على ذلك الاحساس النابع من روح العباس وشعوره بالخجل بعدم جلبه للماء، مع العلم أن المولى أبا الفضل لم يقصر بل بالغ العباس في جهاد أعدائه، لكن هذا الاحساس وهذا الشعور بالخجل، قد میزه على غيره حتى صار العباس روح الحسين کما کان أبوه روح الرسول.

المقصد السابع: (لقب العمید).

من الألقاب التي منحت للمولى أبي الفضل لقب (العميد)، ولقب العميد يمنح لأبرز شخصية في الجيش او الكتيبة، لأن العميد من يعتمد عليه في المواقف الصعبة، فالعميد هو سيد القوم وسندهم.

جاء في لسان العرب: (اعتَمَد على الشيء: توکَّأَ، والعُمدَةُ: ما يُعتَمَدُ عليه، واعتَمَدتُ على الشيء: اتكأتُ عليه، واعتمدت عليه في كذا أَي اتَّكَلتُ عليه)(2).

ص: 201


1- موسوعة بطل العلقمي، ج 2، ص 55
2- لسان العرب، ج 1 ص 200

فالحسين بن علي كان يعتمد على أبي الفضل في ادارة الجيش وحماية الحرم والكثير من الامور العسكرية، ففي رواية (لما زحف القوم على أبي عبد الله الحسين (قال له العباس بن علي رحمة الله عليه: «یا أخي أتاك القوم»، فنهض ثم قال: «يا عباس، اركب - بنفسي أنت يا أخي - حتى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم».

فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارسا، منهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العباس: «ما بدا لكم وما تريدون؟» قالوا: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزکم، قال: «فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم»، فوقفوا وقالوا: القه فأعلمه، ثم القنا بما يقول لك.

فانصرف العباس راجعا يركض إلى الحسين (عليه السلام) يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم، ويكفونهم عن قتال الحسين، فجاء العباس إلى الحسين (عليه السلام) فأخبره بما قال القوم، فقال: «ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغدوة وتدفعهم عنا العشية، لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد أحب الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار».

فمضى العباس إلى القوم ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول: إنا قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زیاد، وإن أبيتم فلسنا تارکیکم، وانصرف)(1).

ص: 202


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2، ص 90 - 91

فالذي قام به قمر العشيرة (عليه السلام) ليس بالشيء الهين لأن مثل عمر بن سعد وشمر وغيرهم ممن يريدون السلطة، ووجود كثرة من الطامعين بذلك الجيش (لعنة الله عليهم اجمعين) كانوا يريدون قتل ابن بنت رسول الله بأسرع وقت، كي يحصلوا على مغانمهم، لكن العباس بسياسته استطاع ان يؤجل القتال ليوم آخر، فهذا الأمر يحتاج الى فصاحة وطريقة خاصة في التعامل بمثل هذه المواقف وخصوصا مع اناس کهؤلاء، فالمدة التي عاشها قمر العشيرة مع ابيه واخوته من ابناء علي وفاطمة قد زادته خبرة في ادارة امور الجيش، فمنذ نشأته وهو يتهيأ لمثل هذه المواقف.

وكان الإمام الحسين يصحبه في الجلسات الخاصة، ففي رواية أنه (عليه السلام) قال لعمر بن سعد (لعنه الله): «أني أريد أن أكلمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك»، فخرج إليه ابن سعد في عشرين وخرج إليه الحسين في مثل ذلك، فلما التقيا أمر الحسين (عليه السلام) أصحابه فتنحوا عنه، وبقي معه أخوه العباس، وابنه علي الأكبر، وأمر عمر بن سعد وأصحابه فتنحوا عنه، وبقي معه ابنه حفص وغلام له)(1).

وكان (عليه السلام) المتحدث عن لسان أخيه وما ذلك إلا لبيان خصوصية العباس بن علي عند أخيه الحسين واعتماده عليه في المشورة في أمور الحرب، ففي رواية: قال أبو الفضل العباس (عليه السلام): «یا عمر بن سعد، هذا الحسين بن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنكم قتلتم أصحابه وأخوته وبني عمي، وبقي فريداً مع أولاده وعياله وهم عطاشى، قد أحرق الظمأ قلوبهم، فاسقوهم شربة من الماء، لأن أطفاله وعياله وصلوا إلى الهلاك، وهو مع

ص: 203


1- بحار الأنوار، ج 44، ص 388

ذلك يقول: دعوني الى طرف الروم والهند وأخلي لكم الحجاز والعراق، وأشرط لكم أن غداً في القيامة لا أخاصمكم عند الله، حتى يفعل الله بكم ما یرید».

فلما أوصل العباس إليهم الكلام عن أخيه، فمنهم من سكت ولم يرد جوابا، ومنهم من جلس يبكي، فخرج الشمر (لعنه الله) وشبث بن ربعي، فجاءا نحو العباس وقالا: يابن أبي تراب قل لأخيك لو كان كل وجه الأرض ماء وهو تحت أيدينا ما أسقيناكم منه قطرة، إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد، فتبسم العباس ومضى إلى أخيه الحسين (عليه السلام))(1).

الملفت بهذا الموقف تبسم العباس، فالعباس بن علي (عليه السلام) يتبسم لمثل هذا العرض، فقمر العشيرة يعلم جيداً أن مثل الحسين لا يرضخ ولا يساوم على حساب الدين ولا يرتضي أن یکون یزید شارب الخمر هو من يتولى قيادة الأمة، فمثل هذا العرض يتبسم له قمر العشيرة، ولعل هذه الابتسامة لجهل هؤلاء الفسقة وعدم معرفتهم بقوة الحسين وارادته وصلابته.

كذلك توضح هذه الابتسامة اطمئنان العباس، فهذه هي صفات اولياء الله، فعميد جيش الإمام كان من المطمئنين، لذا كان الإمام الحسين يعتمد عليه.

وكان الإمام السجاد (عليه السلام) أول من يسأل عليه من الرجال قمر العشيرة كونه عميد الجيش، ففي رواية (لمّا ضاق الأمر بالحسين (عليه السلام) وقد بقي وحيداً فريداً، التفت إلى خيم بني أبيه فرآها خالية منهم، ثمّ التفت إلى خیم بني عقيل فوجدها خالية منهم، ثمّ التفت إلى خيم أصحابه فلم ير منهم أحداً، فجعل يكثر من قول: لا حَولَ ولا قُوَّهَ إلّا بِاللّهِ العَلِیِّ العَظیمِ.

ص: 204


1- المنتخب، الطريحي، ج 2، ص 288

ثمّ ذهب إلى خيم النساء، فجاء إلى خيمة ولده زین العابدین (عليه السلام) فرآه ملقى على نطع من الأديم، فدخل عليه وعنده زینب تمرّضه، فلمّا نظر إليه علي بن الحسين (عليهما السلام) أراد النهوض فلم يتمكّن من شدّة المرض، فقال لعمّته: «أسنديني إلى صدرك فهذا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أقبل»، فجلست زینب خلفه وأسندته إلى صدرها، فجعل الحسين (عليه السلام) يسأل ولده عن مرضه، وهو يحمد الله تعالى، ثمّ قال: «يا أبتاه! ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين؟» فقال له الحسين (عليه السلام): «يا وَلَدِي! قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَاَنْساهُمْ ذِكْرَ اللّهِ، وَ قَدْ شُبَّ الْقِتالُ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ لَعَنَهُمُ اللّهُ حَتّى فاضَتِ الأْرْضُ بِالدَّمِ مِنّا وَ مِنْهُمْ».

فقال علي (عليه السلام): «يا أبتاه! أين عمّي العبّاس؟ فلمّا سأل عن عمّه اختنقت زینب بعبرتها، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه، لأنّه لم يخبره بشهادة عمّه العبّاس، خوفاً من أن يشتدّ مرضه.

فقال (عليه السلام): «يا بُنَىَّ! إِنَّ عَمَّكَ قَدْ قُتِلَ، وَ قَطَعُوا يَدَيْهِ عَلى شاطِىءِ الْفُراتِ!» فبكى عليّ بن الحسين (عليه السلام) بكاء شديداً حتّى غشي عليه)(1).

فالحجج تعرف مكانة العباس وأهمية تواجده قرب المخيم، فوجود العباس يعني وجود سد کبير وحاجز عظيم يمنع هؤلاء الكفرة من التقرب الى حرم الحسين.

ص: 205


1- معالي السبطين، الفصل العاشر، المجلس السادس، ص 440

المقصد الثامن: (لقب المستجار).

ومن ألقابه الأخرى (عليه السلام) لقب (المستجار) فهذا القائد الهمام كانت النساء والاطفال تستجير به، وليست النساء والاطفال من يستجير بالعباس فقط، بل كان الإمام الحسين (عليه السلام) يستجير به، كما استجار النبي (صلى الله عليه وآله) بأمير المؤمنين (عليه السلام) يوم أحد.

فعن عكرمة قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله ليفر، وما رأيته في القتلى، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء، فكسرت جفن سیفي، وقلت في نفسي لأقاتلن به عنه حتى أقتل، وحملت على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله (صلى الله عليه وآله) قد وقع على الأرض مغشيا عليه، فقمت على رأسه، فنظر إلي وقال: ما صنع الناس يا علي؟ فقلت: كفروا - یا رسول الله - وولوا الدبر (من العدو) وأسلموك، فنظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى كتيبة قد أقبلت إليه، فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة، فحملت عليها بسيفي أضربها يمينا وشمالا حتى ولوا الادبار، فقال لي النبي (صلى الله عليه وآله): أما تسمع يا علي مديحك في السماء، إن ملكا يقال له رضوان ينادي، لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. فبكيت سرورا، وحمدت الله سبحانه على نعمته»)(1).

وقد استجار الحسین بقمر العشيرة في طف کربلاء، قال الشاعر محمد رضا الازري:

يوم أبو الفضل استجاربه الهدى *** والشمس من كدر العجاج لثامها(2).

ص: 206


1- الارشاد، الشيخ المفيد، ج 1، ص 87
2- شهداء أهل البيت (ع) قمر بني هاشم، الحاج حسين الشاكري، ص 41

وقد حدث الشيخ الجليل الحاج ملا علي التبريزي، قال: (سمعت من بعض أفاضل علماء العرب أن الأزري لما قال: (يوم أبو الفضل استجار به الهدی)، ومعناه ان يوم استجار الحسين (عليه السلام) بأخيه العباس توقف في ذلك وتخيل أن هذا الصراع من البيت لعله غير مقبول عند الحسين (عليه السلام) ولذا توقف في مصراعه الآخر وما اتم البيت فنام ورأى الحسين (عليه السلام) في منامه وقال (عليه السلام) له: ولنعم ما قلت ولقد أحسنت وأجدت، نعم لقد استجرت بالعباس يوم عاشوراء وتحممه و قل بعده (والشمس من كدر العجاج لثاما) يعني استجرت به حين أغبرت السماء والأرض واغبرت من كثرة العجاج والغبار حتى كأن الشمس تلثمت وتنقبت بالعجاج)(1).

فهذا هو غيرة الله في أرضه، خلق ليكون ناصراً ومعينا وبطلاً يستجير به الحسين لما له من وفاء ومحبة لأصحاب الكساء، فهو من الحسين علي من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

المقصد التاسع: (لقب حامي الظعينة).

من الألقاب الشهيرة للمولى أبي الفضل (عليه السلام) لقب (حامي الظعينة) فقد تكفل قمر العشيرة بحماية الظعينة وحماية السيدة زينب، فوجود العباس يعني وجود الطمأنينة والسكينة في قلوب النساء والأطفال، لما له من هيبة عجيبة تسكن لها قلوب الأطفال والنساء، وتضطرب لها قلوب الأعداء.

قال الفاضل الدربندي: (لاحظت قول سید الشهداء عليه السلام بعد شهادة العباس: (الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي، وا ضيعتاه بعدك يا أخي)، وهكذا قول الصديقة الصغرى زينب الطاهرة: (واضیعتاه بعدك يا أخي)، اهتديت الى أصول ملكوتية وأسرار لاهوتية.

ص: 207


1- معالي السبطين، ص 400، الفصل التاسع المجلس العاشر، نقلا عن كتاب المنتخب، ص 307

فمنها: أن لحياة العباس كانت عند حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والنساء الطاهرات والبنات الهاشميات بمنزلة حياة جميع الشهداء من الأصحاب والعترة النبوية الهاشمية، أي من الجهة الراجعة الى سکون واطمئنان قلوب الحرم والنساء الطاهرات وقوة افئدتهن وزوال الخوف والدهشة والاضطراب عنهن، بل ان فائدة حياته عندهن كانت أزيد من حياة كل المستشهدين بين يدي الإمام (عليه السلام)(1).

ويروي البعض (انه في ليلة عاشوراء، وحيث أو كل الإمام الحسين مهمة المحافظة على المخيم إلى أخيه البطل العباس (عليهما السلام) وقد كان العباس يراقب الوضع بكل حذر، فإذا به یری سوادا بين الخيم فنادى من أنت؟ فإذا به أخته زينب.

قال العباس: «ما أخرجك في سواد هذا الليل يا أختاه؟»، قالت: جئت لكي أحدثك بحديث ..، قال: «الآن حلى وقت الحديث».

ثم قصت زینب للعباس کیف ان أباها بعد وفاة أمها الصديقة سلام الله عليها سأل أخاه عقيلا بأن يدله على بنت ولدتها الفحولة من العرب، فلما سأله ما تصنع بها، قال لتلد لي شبلا ينصر ابني الحسين، ثم أضافت زینب قائلة: يا أخي الحرم حرمك، وهنالك انتفض العرق الهاشمي بين عيني العباس وقال: «أو تشجعيني يا أختاه، لأنعمن لك عينا»)(2).

فالسيدة زينب أرادت أن تقول للعباس ان هذا اليوم هو اليوم الذي ادخرك ابوك لأجله فلا تقصر، فالعباس وما يمتلك من بصيرة عرف غاية السيدة، لذا لم تنم للعباس عين ولم يقصر قمر العشيرة حتى قتل ظامئا جنب الماء.

ص: 208


1- اسرار الشهادة، ج 2، ص 545
2- الصديقة زينب (عليها السلام)، شقيقة الحسين، السيد محمد تقي المدرسي، ص 55

قال الشيخ المظفر (وكأنهم خَصّوه بهذا اللقب للفرق بينه وبين أخيه سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) الملقب بحامي الإسلام وحامي الشرع المقدس، ورتبة العباس دون رتبة الحسين (عليه السلام) و حماية الظعينة ادنی من حماية الشريعة الغراء رتبة بكل معنى، ومن جهة ثانية إن الإمام الحسين (عليه السلام) هو الامير والسيد والقائد ولا يباشر كل المهمات بنفسه وأنه لا بد للرئيس من معتمد يقوم مقامه وينوب عنه في المهمات و كان من أهل الكفاءة له والأهمية في القيام بواجبه ليحصل الاعتماد عليه في ما رشح له وحيث لم يكن لسبط النبي (صلى الله عليه وآله) أهم من القيام بحياطة العائلة المخدرة وحمايتها في تلك الفيافي الموحشة والمفاوز المقرفة وكان أوثق القادمين معه في نفسه اخوه العباس الأكبر وابنه علي الاكبر لما فيهما من الكفاءة لكل مهم يناط بهما فوظفهما لهذه المهمة، فكانا يقومان بترحيل العائلة وإنزالها ويتوليان حراستها مع فتيان العلويين، وأكثرهما قياماً بهذا الواجب وأشدهما مباشرة لهذه الوظيفة أبو الفضل العباس)(1).

فكان قمر العشيرة اقرب اهل بیت الحسين من تلك الخيام هو وعلي الأكبر، ففي رواية لما سمع الحسين اصوات النساء من بكاء وعويل أرسل إليهن أخاه العباس وعليا ابنه وقال لهما سكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن(2).

فالإمام حينما يرسل قمر العشيرة وعلياً الاكبر الى النساء من المؤكد أنه عالم أن مثل العباس وولده علي الاكبر يزيلان الهموم ويطمئنان النفوس ويكشفان کرب كل مکروب.

ص: 209


1- بطل العلقمي، الشيخ المظفر، ج 2، ص 56
2- ينظر، لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين، ص 113

وهذا اللقب قد اكتسبه قمر العشيرة من ابيه، فعلي بن أبي طالب (عليه السلام) كان حامي ظعائن النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، فقد روى الشيخ الطوسي أنه (كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) کتابا يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التلوم، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي، فلما أتاه کتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) تهيأ للخروج والهجرة، فأذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين، فأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلى ذي طوى، وخرج علي (عليه السلام) بفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب - وقد قيل هي ضباعة - وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبو واقد رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (صلوات الله علیه): ارفق بالنسوة يا أبا واقد، إنهن من الضعائف، قال: إني أخاف أن يدركنا الطالب - أو قال: الطلب - فقال علي (عليه السلام): «أربع عليك، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لي: يا علي، إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه»؛ ثم جعل - يعني عليا (عليه السلام) - يسرق بهن سرقا رفيقا وهو يرتجز ويقول:

ليس إلا الله فارفع ظنكا *** يكفيك رب الناس ما أهمكا

وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب، وعددهم سبعة فوارس من قریش مستلئمين، وثامنهم مولى لحرب بن أمية يدعی جناحا، فأقبل علي (عليه السلام) على أيمن وأبي واقد، وقد تراءى القوم، فقال لهما: أنيخا الإبل واعقلاها، وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم (عليه السلام) منتضیا سیفه، فاقبلوا عليه

ص: 210

فقالوا: أظننت أنك یا غدر ناج بالنسوة؟! ارجع لا أبا لك، قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغما، أو لنرجعن بأكثرك شعرا وأهون بك من هالك، ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه، فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته وتختله علي (عليه السلام) فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضيا فيه حتى مس کاثبة فرسه، فكان (عليه السلام) یشد على قدمه شد الفرس، أو الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:

خلوا سبيل المجاهد المجاهد *** آليت لا أعبد غير الواحد

فتصدع عنه القوم وقالوا له: اغن عنا نفسك يا بن أبي طالب، قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليتعقبني أو فليدن مني)(1).

فکما حامی أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ظعائن النبي فقد حامی قمر العشيرة عن ظعائن الحسين ولكن ظروف ابي الفضل کانت اصعب كون العدد فاق الحد المعقول فبنو امية تكالبوا وتجمعوا على قتل ابن بنت رسول الله وسبي عياله والاغارة على الخيام ونهب ما فيها، لكن وجود قمر العشيرة كان الحاجز أمام هؤلاء الكفرة، فالعباس بن علي اعطى للقيادة معنى آخر حتى صارت القيادة هي التي تتشرف به.

والعباس بن علي كان عارفا أن حماية الظعينة من أهم الأمور وأوجبها فالذب عن حرم رسول الله من اعظم الجهاد.

قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله): «من مات دون اهله فهو شهيد».

ص: 211


1- الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 469- 470

فهذا الحديث يؤكد على اهمية حفظ العرض ووجوب الدفاع عنه، والعباس غيرة الله في أرضه لا يرتضي أن يحدث لبنات النبي وبقية الحرائر اي مكروه فقد سعى العباس جاهداً في حماية الظعينة حتى قتل دونهم.

فلحمايته الظعينة وذبه عن حرم الحسين وصبره واحتسابه وإعانته للحسين وعيال الحسين نال العباس بن علي أفضل الجزاء وأوفي جزاء المحسنين.

فبعد مقتل العباس بن علي (عليه السلام) شعرت السيدة زينب وجميع النساء والأطفال بالغربة، کما احس الإمام الحسين بذلك الاحساس فقد اصبح الحسين غريباً وحيداً بلا ناصر ولا معين فأي ثقل هذا وأي قائد ذاك الذي ترك هذا الفراغ الكبير الذي لا يملأ مكانه أحد من الناس.

ص: 212

الخاتمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين..

أما بعد..

فقد توصل البحث إلى عدة نتائج أبرزها:

أولاً: إن من الضروري وجود القائد لذا كان رسول الله (صلى الله علیه و آله) يصنع من أهل بيته وأصاحبه قادة يعتمد عليهم في غيابه وكان يأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) بالاقتداء به، فكان ثمرة ذلك الاقتداء هذه الثلة الطيبة ومن أبرز هؤلاء القادة بعد الحجج قمر العشيرة.

ثانياً: اهتمام الإمام (عليه السلام) بالجانب الوراثي والاكتسابي يؤكد أهمية هذين الجانبين وضرورتهما في صناعة القائد، فالوراثة قانون سماوي لذا يجب الأخذ والعمل به حين الشروع بالزواج كي يصنع من الابناء ما يحب، كذلك العامل الاكتسابي له الخصوصية نفسها.

ثالثاً: إن اتباع القوانين السماوية من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) في تنشئة القائد وصناعته، هي من أوصلت قمر العشيرة لهذا المستوى العالي، فلم نسمع ان هنالك بطلا فاق العباس قوة وشجاعة وصلابة، غير الحجج الأطهار فالعباس وصل الى المستوى الذي يفوق الخيال.

ص: 213

رابعاً: تعد الاسرة من أهم العوامل التي تسهم في تنشئة القائد.

خامساً: يجب ان يكون للقائد صفات وميزات خاصة تؤهله لتولي القيادة وهذه الصفات منها صفات خَلقية ومنها خُلقية.

سادساً: يجب تنشئة القائد تنشئة دينية منذ صغره.

سابعاً: التنشئة المبكرة من اهم العوامل التي تسهم في صناعة القائد، فالطفل بفطرته یکتسب من آبائه وأهل بيته المحيطين به، لذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم ويربي أبناءه منذ الصغر كي تبقى هذه المفاهيم مترسخة في اذهانهم حتى الكبر.

ثامناً: النظرة الى المستقبل هي التي صنعت من هؤلاء الطيبين قادة ومفکرین.

تاسعاً: الحرص على الدين وسلامة الناس من الضياع هذا ما جعل من أمير المؤمنين (عليه السلام) ينشأ مثل هؤلاء الفتية الكرام.

عاشراً: إن اختيار القائد لا يكون الا من ذوي الخبرات والقادة الكبار والذين لهم حرفة في هذا المجال.

الحادي عشر: الشعور بالمسؤولية منذ الصغر ما جعل من قمر العشيرة ان يكون بهذا المستوى العالي.

الثاني عشر: يجب تنشئة القائد جسديا ونفسيا.

ص: 214

الثالث عشر: ان الذي جعل من العباس مختلفا عن غيره هو ایمانه و بصيرته وما حوت نفسه الطاهرة من کمالات اخرى منذ الصغر، فالعباس من الأولياء الذين أكرمهم الله وتلطف عليهم منذ النشأة الأولى الى أن وضعه سبحانه في حجر علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكل هذا باستحقاق فهو يستحق ذلك اللطف.

الرابع عشر: ان اتباع العباس وانقياده الى الحجج کاشف عن مدى طاعته لله وانقياده له سبحانه، فمن خلال طاعة الحجج والتسليم لهم بكل شيء يتبين لنا مدى طاعته لخالقه.

الخامس عشر: إن الصفات والالقاب التي ورثها واكتسبها قمر العشيرة كانت منسجمة مع نفس العباس وروحه وبدنه فلولا أن هذه الذات مجبولة على هذه الصفات والكمالات لما تقبلتها.

ص: 215

ص: 216

المصادر والمراجع

* أبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام): الشيخ محمد السماوي، الوفاة: 1370، تحقيق: الشيخ محمد جعفر الطبسي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: رمضان المبارك 1419 - 1377 ش، المطبعة: مطبعة حرس الثورة الإسلامية، الناشر: مركز الدراسات الإسلامية لممثلية الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية.

* أساس البلاغة: الزمخشري، الوفاة: 538، سنة الطبع: 1960، الناشر: دار ومطابع الشعب - القاهرة.

* أسرار القيادة عند الإمام علي (عليه السلام) جمیل کامل، الطبعة الأولى 1437 - 2016، دار العلوم.

* أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، الوفاة: 1371، تحقیق و تخریج: حسن الأمين، الطبعة: الناشر: دار التعارف للمطبوعات - بيروت - لبنان.

* إكسير العبادات في أسرار الشهادات، للمولى العلامة الفقيه الشيخ آغا بن عابد الشيروَاني الحَائِري المعروُف بالفاضل الدربندي أعلى الله مقامه، المتوفي عام 1285 ه، تحقيق الشيخ محمد جمعة بادي والاستاذ ملة عطية الجمري، الطبعة الأولى، 1415 ه - 1994 م.

ص: 217

* الاختصاص، الشيخ المفيد، الوفاة: 413، تحقيق: علي أكبر الغفاري، السيد محمود الزرندي، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1414 - 1993 م، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.

* الإرشاد، الشيخ المفيد، الوفاة: 413، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1414 - 1993 م، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.

* الاستیعاب: ابن عبد البر، الوفاة : 463، تحقيق: علي محمد البجاوي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1412 - 1992 م، الناشر: دار الجيل - بيروت - لبنان.

* الإعجاز العلمي عند الإمام علي (عليه السلام)، الدكتور لبيب بیضون، مؤسسة الأعلمي، بيروت لبنان، الطبعة الاولى: 1425 ه 2005.

* الأمالي، الشيخ الصدوق، الوفاة: 381، تحقیق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1417 الناشر: مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة.

* الإمام الحسين في أحاديث الفريقين: السيد علي الأبطحي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: جمادي الأولى 1418، المطبعة: امير - قم.

ص: 218

* التبيان في تفسير القرآن، المؤلف: الشيخ الطوسي، الوفاة: 460، تحقیق و تصحیح: أحمد حبيب قصير العاملي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: رمضان المبارك 1409، المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي.

* الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، عبد العظيم المنذري، الوفاة: 656، سنة الطبع: 1408 - 1988 م، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.

* التفسير الأصفي، الفيض الكاشاني، الوفاة: 1091، تحقیق: مرکز الأبحاث والدراسات الإسلامية، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1418 - 1376 ش، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي.

* الثاقب في المناقب، ابن حمزة الطوسي، الوفاة: 560 تحقیق: نبيل رضا علوان، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1412، المطبعة: الصدر - قم، الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر - قم المقدسة.

* الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي، الوفاة: 573 المجموعة: مصادر الحديث الشيعية، القسم العام، تحقيق: مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام)، بإشراف السيد محمد باقر الموحد الأبطحي، الطبعة: الأولى، كاملة محققة، سنة الطبع: ذي الحجة 1409، المطبعة: العلمية - قم، الناشر: مؤسسة الإمام المهدي - قم المقدسة.

ص: 219

* الخصال: الشيخ الصدوق، تصحیح و تعليق: علي أكبر الغفاري، سنة الطبع: 18 ذي القعدة الحرام 1403 - 1362 ش، المطبعة: الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

* الدر النظيم: يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي، الوفاة: 664، تحقيق: الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

* الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: السيد علي خان المدني الشيرازي، الوفاة: 1120، تحقيق: تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم، سنة الطبع: 1397، الناشر: منشورات مكتبة بصيرتي - قم.

* السيرة الحلبية، الحلبي، الوفاة: 1044، مصادر سيرة النبي والائمة (عليهم السلام)، سنة الطبع: 1400، المطبعة: بيروت - دار المعرفة.

* الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، السيد جعفر مرتضى العاملي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1426 - 1385 ش المطبعة: دار الحديث، الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر - قم - ایران.

* الصديقة زينب (عليها السلام) شقيقة الحسين (عليه السلام): السيد محمد تقي المدرسي، الطبعة: الاولى، سنة الطبع: 1416، الناشر: منشورات البقيع.

ص: 220

* العصمة الكبرى لوليّ الله العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) سماحة المرجع الديني آية الله الحجَّة المحقق الشيخ محمد جميل حمّود العاملي، الطبعة الأولى، 4141 ه - 3144 م، مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث. مؤسسة قمر بني هاشم (عليه السلام) للتسجيلات الإسلامية والطباعة والنشر ماليزيا - كوالالمبور لبنان - بيروت.

* العصمة: السيد كمال الحيدري، بقلم محمد القاضي، الطبعة الأولى 1417 - 1997.

* العقيلة والفواطم، الحاج حسين الشاكري.

* الفتوح: أحمد بن اعثم الكوفي، الوفاة: 314 ه، تحقیق: علي شيري (ماجستير في التاريخ الإسلامي)، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1411، المطبعة: دار الأضواء، الناشر: دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع.

* القرآن وفضائل أهل البيت (عليهم السلام): محمد الصالحي الأنديمشكي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: ذي القعدة - 1425، المطبعة: افق، الناشر: ذوي القربی.

*الكافي: الشيخ الكليني، الوفاة: 329، تصحیح و تعليق: علي أكبر الغفاري، الطبعة: الخامسة سنة الطبع: 1363 ش المطبعة: حيدري الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران.

ص: 221

* الكبريت الأحمر في شرائط المنبر، الشيخ محمد باقر تاقائني البيرجندي، تحقیق: محمد شعاع فاخر.

* اللهوف في قتلى الطفوف: السيد ابن طاووس، الوفاة: 664، سنة الطبع: 1417، الناشر: أنوار الهدى - قم - ایران.

* المجالس العاشورية في المأتم الحسينية: الشيخ عبد الله ابن الحاج حسن آل درويش، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1428، المطبعة: ستاره - قم / الناشر: انتشارات أهل الذكر - قم - ایران.

* المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، السيد شرف الدين، الوفاة: 1377، تحقيق: مراجعة وتحقيق: محمود بدري، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1421، المطبعة: عترت، الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية - قم.

* المحاسن: أحمد بن محمد بن خالد البرقي، الوفاة : 274، تصحیح وتعليق: السيد جلال الدين الحسيني (المحدث)، سنة الطبع: 1370 - 1330 ش الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران.

* المسترشد: محمد بن جرير الطبري (الشيعي)، الوفاة: ق 4، تحقيق: الشيخ أحمد المحمودي، الطبعة: الأولى المحققة، سنة الطبع: 1415، المطبعة: سلمان الفارسي - قم / الناشر: مؤسسة الثقافة الإسلامية لكوشانبور.

* المعارف: ابن قتيبة الدينوري، الوفاة: 276، تحقيق: دکتور ثروت عكاشة، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1969، المطبعة: مطابع

ص: 222

دار المعارف بمصر.

* المعارف، ابن قتيبة الدينوري، الوفاة: 276، تحقيق: دکتور ثروت عكاشة، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1969، المطبعة: مطابع دار المعارف بمصر.

* المعجم الكبير: الطبراني، الوفاة: 360، تحقیق و تخریج: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة: الثانية، مزيدة ومنقحة، الناشر: دار إحياء التراث العربي.

* المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، الوفاة: 42، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1404.

* المقنعة، الشيخ المفيد، الوفاة: 413، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1410 المطبعة: الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

* المنتخب: الشيخ فخر الدين الطريحي النجفي، الوفاة: 1085، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان.

* المنمق: محمد بن حبيب البغدادي، الوفاة: 245، صححه وعلق عليه خورشید أحمد فاروق، نسخة مخطوطة.

* الوافي، الفيض الكاشاني، الوفاة: 1091، عني بالتحقيق والتصحيح والتعليق عليه والمقابلة مع الأصل ضياء الدين الحسيني «العلامة» الأصفهاني الطبعة: الأولى، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) العامة - أصفهان.

ص: 223

* بحار الأنوار، العلامة المجلسي، تحقيق: الشيخ عبد الزهراء العلوي، سنة الطبع: 1403 - 1983 المطبعة: الناشر: دار الرضا - بيروت - لبنان.

* بداية المعرفة: الشيخ حسن مكي العاملي، الطبعة الأولى، 1433 - 2012، مکتب الكلمة الطيبة، بغداد - العراق.

* بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار)، الوفاة: 290، تصحیح و تعليق وتقديم: الحاج میرزا حسن کوچه باغي، سنة الطبع: 1404 - 1362 ش، المطبعة: مطبعة الأحمدي - طهران، الناشر: منشورات الأعلمي - طهران.

* تاج العروس، الزبيدي، الوفاة: 1205، تحقيق: علي شيري، سنة الطبع: 1414 - 1994 م، المطبعة: دار الفكر - بيروت الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت.

* تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، الوفاة: 310، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، الطبعة: الرابعة، سنة الطبع: 1403 - 1983 م / الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان.

* تاريخ اليعقوبي: اليعقوبي، الوفاة: 284، الناشر: دار صادر - بيروت - لبنان.

ص: 224

* تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، الوفاة: 571، سنة الطبع: 1415، المطبعة: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.

* تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ابن شعبة الحراني: الوفاة: ق 4، تصحیح و تعليق: علي أكبر الغفاري، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1404 - 1363 ش، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

* ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام): ابن عساکر، الوفاة: 571، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1400 - 1980 م، الناشر: مؤسسة المحمودي للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.

* تفسير العياشي، المؤلف: محمد بن مسعود العياشي، الوفاة: 320، تحقيق: الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، الطبعة: الناشر: المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.

* تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، الوفاة: نحو 329، تصحیح وتعليق وتقديم: السيد طيب الموسوي الجزائري، الطبعة: الثالثة، سنة الطبع: صفر 1404، المطبعة: الناشر: مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر - قم - ایران.

* تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، الوفاة: 548، تحقیق وتعلیق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1415 - 1995 م، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان.

ص: 225

* تقویم الشيعة: عبد الحسین نیشابوري، الطبعة: الثالثة، طهران، 1432 ه.

* توضیح نهج البلاغة، محمد الحسيني الشيرازي، الوفاة: 1422، الناشر: دار تراث الشيعة - طهران - ایران.

* تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الوفاة: 1376، تحقیق: ابن عثيمين، سنة الطبع: 1421 - 2000 م، المطبعة: بيروت - مؤسسة الرسالة، الناشر: مؤسسة الرسالة.

* جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1381 - 1962، الطبعة: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.

* خاتمة المستدرك: ميرزا حسين النوري الطبرسی، الوفاة: 1320، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: رجب 1415 المطبعة: ستارة - قم الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث - قم - ایران.

* ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: الزمخشري، الوفاة: 538، تحقیق: عبد الأمير مهنا، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1412 - 1992 م، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت.

ص: 226

* روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقیه، محمد تقي المجلسي (الأول)، نمقه وعلّق عليه و أشرف على طبعه «السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي».

* روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، تحقيق: تقديم: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، الناشر: منشورات الشريف الرضي - قم.

* زاد المسير في علم التفسير: ابن الجوزي، الوفاة : 597، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد الله: الطبعة الأولى، سنة الطبع: جمادی الأولى 1407 - كانون الثاني 1987 م، الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزيع.

* زينب الكبرى، الشيخ جعفر النقدي، الناشر: منشورات مكتبة المفيد.

* سنن أبي داود، سلیمان بن الأشعث السجستاني، الوفاة: 275، تحقیق و تعليق: سعيد محمد اللحام، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1410 - 1990 م، الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزيع.

* شجرة طوبی: الشيخ محمد مهدي الحائري، الوفاة: 1369، الطبعة: الخامسة، سنة الطبع: محرم الحرام 1385، المطبعة: منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف.

ص: 227

* شرح الأخبار، المؤلف: القاضي النعمان المغربي، الوفاة: 363، تحقيق: السيد محمد الحسيني الجلالي، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1414، المطبعة: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

* شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، الوفاة: 656، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1378 - 1959 م، الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه.

* عقيل بن أبي طالب، الأحمدي الميانجي، تحقيق ومراجعة: مجتبی فرجي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1425 - 1383 ش، الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر.

* عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، أحمد بن علي الحسيني (ابن عنبة)، الوفاة: 828، تحقيق: تصحيح: محمد حسن آل الطالقاني، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1380 - 1961 م.

* عيون أخبار الرضا (عليه السلام) الشيخ الصدوق، الوفاة: 381، تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، سنة الطبع: 1404 - 1984 م، المطبعة: مطابع مؤسسة الأعلمي - بيروت - لبنان، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان.

ص: 228

* عيون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي، الوفاة: ق 6، تحقيق: الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، الطبعة: الأولى، المطبعة: دار الحدیث.

* فتح الباري، ابن حجر، الوفاة: 852، الطبعة: الثانية، المطبعة: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان.

* قاموس الرجال، الشيخ محمد تقي التستري، الطبعة: الاولى سنة الطبع: 1419 ه، قم، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

* قبال الأعمال: السيد ابن طاووس، الوفاة: 664، تحقيق: جواد القيومي الاصفهاني، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: رجب 1414، المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي.

* قرب الاسناد، الحميري القمي، الوفاة: 304، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1413، المطبعة: مهر - قم، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث - قم.

* قمر بني هاشم، عبد الرزاق الموسوي المقرم، الطبعة الاولى، سنة الطبع: 1389 - 1431، منشورات المطبعة الحيدرية في النجف 1369 ه - 1949 م.

ص: 229

* کامل الزیارات، جعفر بن محمد بن قولویه، الوفاة: 367، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: عید الغدیر 1417، المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي، الناشر: مؤسسة نشر الفقاهة.

* کشف الغمة في معرفة الأئمة: علي بن أبي الفتح الإربلي، الوفاة: 693، الطبعة: الثانية سنة الطبع: 1405 - 1985 م الناشر: دار الأضواء - بيروت - لبنان.

* کمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، الوفاة: 381، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، سنة الطبع: محرم الحرام 1405 - 1363 ش، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

* کنز العمال: المتقي الهندي، الوفاة: 975، ضبط و تفسير: الشيخ بكري حياني، تصحیح وفهرسة: الشيخ صفوة السقا، سنة الطبع: 1409 - 1989 م: مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان.

* کنز الفوائد: أبي الفتح الكراجكي، الوفاة: 449، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1369 ش، المطبعة: غدیر، مکتبة المصطفوي - قم.

* لسان العرب، ابن منظور الوفاة: 711، سنة الطبع: محرم 1405، الناشر: نشر أدب الحوزة.

ص: 230

* لواعج الأشجان: السيد محسن الأمين، الوفاة: 1371، سنة الطبع: 1331، المطبعة: مطبعة العرفان - صيدا، الناشر: منشورات مكتبة بصيرتي - قم.

* مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، الوفاة: 1085 الطبعة: الثانية سنة الطبع: شهریور ماه 1362 ش.

* مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، الوفاة: 346، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1404 - 1363 ش - 1984 م، الناشر: منشورات دار الهجرة ایران - قم.

* مستدرك الوسائل، میرزا حسين النوري الطبرسی، الوفاة: 1320، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة: الأولى المحققة، سنة الطبع: 1408 - 1987 م، المطبعة: الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث - بيروت - لبنان.

* مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النازي الشاهرودي، الوفاة: 1405، تحقیق و تصحیح: الشيخ حسن بن علي النمازي، سنة الطبع: 1418، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

* مستدرکات علم رجال الحدیث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، الوفاة: 1405 الطبعة: الأولى، سنة الطبع: ربيع الآخر 1412، المطبعة: شفق - طهران، الناشر: ابن المؤلف.

ص: 231

* مسند أحمد: الإمام أحمد بن حنبل، الوفاة: 241، الناشر: دار صادر - بيروت - لبنان.

* مسند الإمام الرضا (عليه السلام): الشيخ عزیز الله عطاردي، تجميع و ترتیب: الشيخ عزیز الله عطاردي الخبوشاني، سنة الطبع: ربيع الآخر 1406، المطبعة: مؤسسة طبع و نشر آستان قدس الرضوي، الناشر: المؤتمر العالمي الإمام الرضا (عليه السلام).

* مسند الإمام علي (عليه السلام): السيد حسن القبانجي، تحقيق: الشيخ طاهر السلامي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1421 - 2000 م، المطبعة: الأعلمي، الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان.

* مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، علي الطبرسي، الوفاة: ق 7، تحقیق: مهدي هوشمند، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1418، المطبعة: دار الحديث.

* مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)، الميرجهاني، الوفاة: 1388، سنة الطبع: 1388.

* مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة: المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)، الوفاة: 148، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1400 - 1980 م، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بيروت - لبنان.

ص: 232

* معالي السبطين في احوال الحسن والحسين (عليهما السلام)، الشيخ محمد مهمدي الحائري، الطبعة الاولى، 1432 ه - 2011 م، مؤسسة البلاغ.

* معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، الوفاة: 381، تصحیح وتعليق: علي أكبر الغفاري سنة الطبع: 1379 - 1338 ش، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

* مفاتیح الجنان، الشيخ عباس القمي (مترجم: نجفي)، الوفاة: 1359، تحقیق: تعريب: السيد محمد رضا النوري النجفي، سنة الطبع: 1385 ش - 2006 م، المطبعة: البعثة - قم، الناشر: مكتبة العزيزي - قم.

* مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني، الوفاة: 356، تقدیم وإشراف: كاظم المظفر، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1385 - 1965 م، الناشر: منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف.

* مقتل الحسين (عليه السلام)، أبو مخنف الأزدي، الوفاة: 157، تعليق: حسين الغفاري / المطبعة: مطبعة العلمية - قم.

* مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، الوفاة: 548، الطبعة: السادسة، سنة الطبع: 1392 - 1972 م، المطبعة : الناشر: منشورات الشريف الرضي.

ص: 233

* منازل السائرين: عبد الله الأنصاري، الوفاة: 481، تحقيق: اعداد وتقديم: علي الشيرواني، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1417 المطبعة: قدس - قم، الناشر: مؤسسة دار العلم.

* مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب، الوفاة: 588، تصحیح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، سنة الطبع: 1376 - 1956 م، المطبعة: الحيدرية - النجف الأشرف، الناشر: المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف.

* مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المؤلف: محمد بن سليمان الكوفي، الوفاة: 300، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: محرم الحرام 1412، المطبعة: النهضة الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - قم المقدسة.

* منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: حبیب الله الهاشمي الخوئي، الوفاة: 1324، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي، الطبعة: الرابعة، المطبعة: مطبعة الاسلامية بطهران.

* موسوعة بطل العلقمي، العباس ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليها السلام، سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر (قدس سره)، مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق - النجف الأشرف، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بيروت - لبنان.

* میزان الحکمة، محمد الريشهري، تحقيق: دار الحديث، الطبعة:

ص: 234

الأولى، الناشر: دار الحدیث.

* نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الوفاة: 40، ما اختاره وجمعه الشريف الرضی، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية: الدكتور صبحي صالح الطبعة: الأولى، سنة الطبع : 1387 - 1967 م.

* وسائل الشيعة، الحر العاملي الوفاة: 1104 تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1414 المطبعة: مهر - قم الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث بقم المشرفة.

* ينابيع المودة لذوي القربی: القندوزي، الوفاة: 1294، تحقيق: سيد علي جمال أشرف الحسيني، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1916، المطبعة: أسوه.

ص: 235

ص: 236

المحتويات

مقدمة المؤسسة...5

المقدمة...7

التمهيد...11

المسألة الأولی: مفهوم الصناعة...11

أولاً: الصناعة لغة...11

ثانياً: مفهوم الصناعة في القرآن...12

ثالثاً: دلالة الصناعة عند أمير المؤمنين (علیه السلام)...14

المسألة الثانية: مفهوم القيادة...16

أولاً: القيادة في اللغة...16

ثانياً: القيادة اصطلاحاً...17

ثالثاً: القيادة في القرآن...18

1- لفظة (الخليفة)...19

2- لفظة (الملك)...21

رابعاً: القيادة في السنة المطهرة...22

ص: 237

الفصل الأول صناعة القائد في رؤية الإمام علی علیه السلام

توطئة...27

المطلب الأول: النشاءة القيادية لأبي الفضل (علیه السلام) عن طريق الوراثة...34

المقصد الأول: صناعة القائد عن طريق الوراثة...35

الوجه الأول: بيان عظمة هذا القائد...37

الوجه الثاني: بیان منزلة أم البنين ومكانتها عند الله...37

الوجه الثالث: الاستشارة من ذوي الخبرة والمرؤة...44

المقصد الثاني: ذكر بعض أجداد المولى قمر العشيرة من طرف الأب والأم...46

المطلب الثاني: النشاءة القيادية للمولى أبي الفضل (علیه السلام) عن طريق الإكتساب...52

المقصد الأول: نشأته مع والده أمير المؤمنين (علیه السلام)...53

الحق الأول: (اختيار الأم)...53

أما: الحق الثاني: (تحسين الاسم)...55

الحق الثالث: (المبالغة في تأدیبه)...58

المقصد الثاني: جهاده مع ابيه...64

المقصد الثالث: نشأته القيادية مع سيدي شباب أهل الجنة...71

أولاً: نشأته القيادية مع أخيه الحسن بن علي (علیه السلام)...71

ثانياً: نشأته القيادية مع أخيه الحسين بن علي (علیه السلام)...73

المطلب الثالث: الشروط القيادية المتوفرة في شخصية قمر العشيرة...79

المقصد الأول: (النصح)...80

المقصد الثاني: (نقاوة الجيب)...83

ص: 238

المقصد الثالث: (الحلم)...84

المقصد الرابع: (الرأفة بالضعفاء والشدة على الأقوياء)...85

المقصد الخامس: (عدم اثارة العنف)...87

المقصد السادس: (المروءة)...89

المقصد السابع: (البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة)...91

المقصد الثامن: (ان يكون صاحب نجدة وشجاعة وسخاء)...92

الفصل الثاني الصفات والألقاب القيادية التي ورثها واكتسبها قمر العشيرة

المطلب الأول: الصفات الخَلقية للمولى أبي الفضل العباس (علیه السلام)...102

المقصد الأول: (البسطة في الجسم)...102

المقصد الثاني: (الحسن)...106

أولاً: (الحسن خارجي)...106

ثانياً: (الحسن الباطني)...111

المطلب الثاني: الصفات الخُلُقِیة...114

المقصد الأول: (العِلم)...114

المقصد الثاني: (الشجاعة)...123

المقصد الثالث: (الوفاء)...128

ص: 239

المقصد الرابع: (الإباء)...135

المقصد الخامس: (الإيمان)...137

المقصد السادس: (البصيرة)...141

المقصد السابع: (العصمة)...144

المطلب الثالث: الألقاب الموروثة والمكتسبة لقمر

العشيرة...154

المقصد الأول: (لقب العبد الصالح)...154

المقصد الثاني: (لقب حامل اللواء)...161

المقصد الثالث: (لقب المواسي)...166

المقصد الرابع: (لقب السقاء)...172

المقصد الخامس: (لقب الطيار)...188

المقصد السادس: (لقب كبش الكتيبة)...196

المقصد السابع: (لقب العميد)...201

المقصد الثامن: (لقب المستجار)...206

المقصد التاسع: (لقب حامي الظعينة)...207

الخاتمة...213

المصادر...217

المحتويات...237

ص: 240

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.