سرشناسه:الفقیهي البزشکي، محمدرضا، 1345 -
عنوان واسم المؤلف:المقالات العشر/ محمدرضا الفقیهي البزشکي؛ [برای] موسسه دارالحکمة [کانادا]، انتشارات [زاگرس کانادا].
تفاصيل المنشور:تهران: میراث شرق، 1401.
مواصفات المظهر:548 ص.
شابک:1980000 ریال : 978-622-5843-05-9
حالة الاستماع:فاپا
لسان: العربية.
ملحوظة:فوق العنوان: بحوث في الفقه.
ملحوظة:کتابنامه: ص. [529] - 548؛ أيضا مع الترجمة.
عنوان آخر:بحوث في الفقه.
موضوع:مقالات عربية-- قرن 21م.
Arabic essays -- 21st century
المعرف المضاف:موسسة دارالحکمة کانادا
المعرف المضاف:House of Wisdom Institute of Canada
المعرف المضاف:انتشارات زاگرس کانادا
المعرف المضاف:Zagros Publications Canada
ترتيب الكونجرس:PJA4956
تصنيف ديوي:892/746
رقم الببليوغرافيا الوطنية:8844155
معلومات التسجيلة الببليوغرافية:فاپا
ص: 1
ص: 2
بحوث في الفقه المقالات العشر
ص: 3
ص: 4
الإهداء:. 15
المقالة الاُولی: في كفاية الغسل عن الوضوء وعدمها. 21
بيان أقوال المسئلة:. 25
ما هو مقتضی القاعدة في المقام؟. 29
الكلام في أدلّة الأقوال:. 32
الرّأی المختار في المقام:. 48
بقی هنا فروعٌ:. 50
الفرع الأوّل: في حدوث الحدث الأصغر أثناء غُسل الجنابة:. 50
الفرع الثانی: في الجمع بين الغُسل والوضوء. 54
بقی هنا شیء:. 59
الفرع الثالث: كفاية الغُسل عن الوضوء في سائر الأغسال إذا اتّحدت مع الجنابة:. 60
الفرع الرابع: في الأغسال المسنونة ومصاديقها:. 62
ص: 5
أمّا الزّمانيّة فأغسال:. 64
الأولی: غُسل الجمعة:. 64
والثّانية والثّالثة: غُسل العيدين:. 73
بقي هنا شیءٌ:. 75
والرابعة: أغسال ليالی شهر رمضان:. 77
وقت فعل الغسل في اللیالي المبارکة من شهر الصیام:. 83
والخامسة والسّادسة: غُسل يومي التّروية وعرفة وهما الثّامن والتّاسع من ذی الحجّة:. 85
والسّابعة: غُسل يوم المباهلة:. 85
والثّامنة: غسل ليلة النّصف من شعبان:. 87
والتّاسعة: غسل يوم الغدير:. 87
وأمّا الأغسال المكانيّة:. 89
أمّا الأغسال الفعليّة:. 91
1) غُسل الإحرام:. 92
2) غُسل الطّواف:. 94
3) غُسل زيارة النّبیّ والأئمّة المعصومين علیهم السلام :. 95
4 و5) غسل صلاتي الحاجة والاستخارة:. 98
6) غسل صلاة الاستسقاء:. 99
7) غسل المفرّط في صلاة الكسوفين مع احتراق القرص إذا أراد قضاءها:. 100
8) غسل التّوبة سواء كان عن فسق أو كفر:. 102
ص: 6
المقالة الثانية: في مفهوم الوطن الأصلی والمُستجدّ أو الإتّخاذی والوطن الشرعی التعبدی:. 104
عناوين فروعات المسألة إجمالاً:. 109
أمّا الفرع الأول: تعريف «الوطن» عند أهل اللغة و فقهاء الفريقين:. 110
أقوال فقهاء الفريقين في بيان معنی «الوطن»:. 112
الكلام في أدلّة الأقوال:. 123
أمّا الفرع الثانی: تقسيم الوطن إلی الأصلی، والمستجدّ أو الإتخاذی، والشرعی التعبدی:.. 133
أمّا الفرع الثالث: هل يعتبر في صدق عنوان «الوطن» أن يكون له فيه ملك؟.. 142
أمّا الفرع الرابع: هل ملاك الإتمام كونه غير مسافر أو كونه متوطّناً؟. 147
أمّا الفرع الخامس: كيف يصدق الإعراض عن الوطن الأصلی والمستجدّ والشرعی التعبّدی؟. 150
أمّا الفرع السادس: ما هو حكم عبادتي الصوم والصلاة لو تردّد في بقاء صدق عنوان «الوطن» و زواله إذا مرّ به ولم ينو إقامة عشرأيّام؟. 155
المقالة الثالثة: في المطاف وحدّه. 158
هل للطواف حدّ سائغ فمن يخرج عنه لم يكن طائفاً؟. 160
بيان الأقوال المسئلة وهي إجمالاً ثلاثة:. 160
أدلّة الأقوال:. 165
في إمكان الجمع بين الأدلّة:. 173
بقی هنا شيئان:. 176
هاهنا فروعٌ:. 178
ص: 7
الأوّل: ما هو ماهيّة مقام إبراهيم علیه السلام وحقيقته؟. 178
الثّانی: أنّه علی القول باختصاص المطاف بالبيت والمقام هل المعتبر وقوع الطّواف بين البيت والمحفظة الّتي يحفظ فيها المقام، أو بين البيت والمقام نفسه؟. 180
الثّالث: حِجر إسماعيل علیه السلام من البيت أو خارج عنه؟. 183
الرابع: إحتساب الحدّ في جانب الحجر من الحجر أو من البيت؟. 189
الخامس: عدم جواز الطّواف علی أساس البيت المسمّی ب- «شاذروان»:. 193
السادس: لو لمس الطّائف الجدار عند الشّاذروان، أو وضع يده علی جدار الحجر حال الطّواف فهل يبطل طوافه أم لا؟. 197
السابع: موضع المقام في عهد النّبیّ الأعظ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وموضعه اليوم:. 199
الثامن: في التّدانی من البيت حال الطّواف:. 201
التاسع: في جواز الطّواف فوق المطاف أو تحته:. 203
المقالة الرابعة: إثبات الهلال عند العامة مع عدم إثباته أو العلم بخلافه عندنا في جواز الإفطار وكفاية الحجّ:. 206
زمان الوقوف بعرفات:. 211
طرق إثبات الهلال ومحل الكلام منها:. 212
إثبات الهلال بحكم الحاكم عند الإماميّة:. 216
أدلّة إثبات الهلال وعدمه بحكم الحاكم عند الإماميّة:. 223
صور المسألة وأحكامها:. 234
هل الحجّ مع مراعاة التّقية في الصّورة الأخيرة مجزیء عمّا هو واجب عليه من الحجّ أم لا؟. 244
ص: 8
المقالة الخامسة: في العجز عن الهدی في الحجّ وبيان بدله وشرائطه. 254
بيان أقوال الفقهاء في المسئلة:. 257
أدلّة كون الصوم بدلاً عن الهدی عند العجز عنه:. 261
أمّا الاستدلال بالكتاب:. 261
وأمّا الاستدلال بالسنّة:. 262
لو فقد الهدی فقط إلا أنّه توقّع حصوله إلی آخر الشهر:. 263
هل أيّام «الحجّ» الّذی أمر بوقوع صيام الثلاثة فيها تشمل جميع أيّام أشهر «الحجّ» الثلاثة؟. 267
جواز الصوم البدل بعد التلبس بإحرام العمرة وقبل الإهلال بالحجّ:. 271
ما هی الأيّام الثلاثة الّتي يجب صومها في ذی الحجة عند فقدان الهدی؟. 276
ما هو مقتضی القاعدة في المقام؟. 282
الكلام في أدلة الأقوال:. 284
هل يجوز صيام بدل الهدی أيّام التشريق لمن كان بمنی؟. 292
وجوب التوالی في الصيام الثلاثة البدل عن الهدی:. 304
موارد الّتي لا يلزم فيه التوالی في الثلاثة:. 307
المقالة السادسة: في الربا حكمه، أقسامه ومستثنياته. 317
أمّا الرّبا في المعنی والمفهوم ومصطلح الفقهاء:. 320
حكم «الربا» عند الفريقين:. 327
أدلّة حرمة الرّبا في الشّريعة المقدسة:. 330
أمّا الرّبا في القرآن الكريم والشّرائع السّابقة:. 330
ص: 9
أمّا دليل حرمته من الأخبار والأحاديث:. 333
أمّا دليل حرمته من دليل العقل:. 342
أقسام الرّباء إجمالاً:. 344
مستثيات الرّبا المحرّم:. 345
الأولی: نفيه امتناناً وتفضّلاً عند الاضطرار ونحوه:. 348
الثانية: نفيه بين الوالد وولده:. 348
بقی هنا أمور:. 357
الأوّل: هل الحكم هنا طرفينی لكلّ من الآباء والأولاد، أم يختصّ الآباء فقط؟. 357
الثانی: هل الحكم هنا يعمّ مطلق الأولاد من الذّكور والإناث، أم يختصّ الذّكور فقط؟. 359
الثالث: هل هناك فرق بين الأولاد للصلب و ولد الولد؟. 361
الرابع: هل الحكم هنا يسری إلی أمّ أو لا؟. 364
الثالثة من مستثنيات الرّبا نفيه بين الرجل وزوجته:. 365
هل الحكم هنا يجری في مطلق الأزواج من الدائمة والمتمتّع بها، أم لا؟. 367
الرابع والخامس من مستثنيات الرّبا نفيه بين المسلم والكافر الحربی، والذمّی الّذی خرج عن شرائط الذمّة:. 369
السادس من مستثنيات الرّبا نفيه بين المولی وعبده:. 378
السابع من مستثنيات الرّبا نفيه في بيع المعدود مطلقاً، وفی المكيل والموزون مع اختلاف الجنسين:. 381
الثامن من مستثنيات الرّبا جواز أخذه من دون شرط:. 384
ص: 10
الروایات الواردة في المقام:. 386
الطائفة الأولی: ما دلّت علی أنّ خير القرض ما يجرّ منفعة، منها:. 386
الطائفة الثانية: ما دلّت علی الجواز بالمعنی الأعمّ إذا لم يكن بينهما شرط، منها:. 387
الطائفة الثالثة: ما دلّت علی الجواز إذا كان ذلك معروفاً بينهما من قبل، منها:. 388
الطائفة الرابعة: ما دلّت علی كراهة أخذ ذلك، منها:. 389
الطائفة الخامسة: ما دلّت علی احتسابه بعنوان الدّين، منها:. 389
طريقة الجمع بين الأخبار الواردة في الطوائف الخمسة:. 390
التاسع من مستثنيات الرّبا: جواز أخذه في قالب النقد والنسيئة والبيع بالأقساط :. 391
العاشر من مستثنيات الرّبا جواز أخذه في قالب الإجارة أو البيع بشرط القرض:. 393
المقالة السابعة: فيما يشترط في صحّة الإجارة من ناحية المتعاقدين، والعين المستأجرة، والمنفعة، والأجرة. 399
الأوّل: ما يشترط فيها من ناحية المتعاقدين:. 401
ما يستدل به على ما يشترط في المتعاقدين:. 405
الثانی: ما يشترط في العين المستأجرة وأدلّتها:. 413
منها: تعيين العين المستأجرة:. 414
ومنها: كونها معلومة عند المتعاقدين:. 415
ومنها: القدرة على التسليم في الجملة:. 418
ص: 11
بقى هنا شیء:. 422
الثالث: ما يشترط في المنفعة المقصودة وأدلّتها:. 428
437
الرابع: ما يشترط في أجرة الإجارة وأدلّتها:. 438
المقالة الثامنة: في شرائط المتعاقدين في المضاربة وشرائط مال القراض وربحه:. 439
عناوين فروعات المسألة إجمالاً:. 446
أمّا دليل جواز المضاربة:. 447
بقی هنا شیء وهو أنّه:. 454
هل المضاربة من العقود اللازمة أو الجائزة؟ وما هو الأصل فيها عند الشك فيهما؟. 454
ها هنا فروع:. 459
أمّا الفرع الأول: شرائط المتعاقدين:. 459
أمّا الفرع الثانی: بطلان المضاربة لو كان أو طرأ عليه العجز عن التجارة أثنائها:. 462
أمّا الفرع الثالث: مال القراض وشرائطه:. 464
أمّا الفرع الرابع: شرائط الربح الحاصل منها:. 475
المقالة التاسعة: في المزارعة وما يعتبر فيها وفي طرفيها من الشرائط والأحكام. 481
عناوين فروعات المسألة إجمالاً:. 486
دليل جواز المزارعة:. 487
أمّا الفرع الأول: تعريف المزارعة وماهيّتها طرداً وعكساً:. 499
ص: 12
أمّا الفرع الثانی: شرائط المتعاقدين:. 503
أمّا الفرع الثالث: أن يكون الحاصل فيها مشتركاً بينهما:. 505
أمّا الفرع الرابع: تعيين حصّة فيها من أحد الكسور، مثل النصف أو الثلث وأمثالهما:. 506
أمّا الفرع الخامس: تعيين مدّة العمل:. 508
أمّا الفرع السادس: كون الأرض قابلة للزرع إمّا فعلاً أو بالعلاج والإصلاح:. 511
أمّا الفرع السابع: تعيين المزروع إذا كان الأغراض مختلفاً فيه:. 513
أمّا الفرع الثامن: تعيين الأرض ومقدارها:. 515
أمّا الفرع التاسع: تعيين كون البذر وسائر المصارف علی أيّهما إذا لم يكن هناك تعارف وانصراف:. 516
المقالة العاشرة: في خيار الرؤية وأحكامه:. 519
وقبل الخوض في المقصود لا بدّ من تقديم مقدمات، وهی أربعة:. 523
أمّا المقدمة الأولی: الخيار في المعنی والمفهوم:. 524
وأمّا المقدمة الثانية: هل خيار الرؤية تختصّ بالبيع أو تعمّ سائر العقود والمعاملات؟. 526
وأمّا المقدمة الثالثة: الخيار من الحقوق أو من الأحكام؟. 529
وأمّا المقدمة الرابعة: ما هی أقسام الخيارات إجمالاً؟. 532
عناوين فروعات المسألة إجمالاً:. 533
أمّا دليل خيار الرؤية:. 534
أمّا الفرع الأوّل: تعريف خيار الرؤية وماهيّتها:. 539
أمّا الفرع الثانی: الخيار هنا بين الردّ والإمساك مجاناً من دون أرش:. 542
ص: 13
أمّا الفرع الثالث: محلّ هذا الخيار الأعيان الشخصيّة الغائبة:. 544
أمّا الفرع الرابع: إعمال هذا الخيار فوری:. 551
أمّا الفرع الخامس: في مسقطات هذا الخيار:. 555
مصادر التحقيق:. 563
ص: 14
أقدّم هذا الأثر المتواضع إلی الصّدّيقة الطاهرة فاطمة الزّهراء سَلَامُ اللهِ عَلَيْهَا ، صاحبة المنزلة الرفيعة في الكونين، وسيّدة نساء العالمين(1)، وريحانة خاتم الأنبياء والمرسلي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وزوجة أسد الله الغالب أمير المؤمنين علیّ بن أبي طالب علیه السلام، وأمّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام ، الّتي جُعلت محبّتها ومحبّة ذريّتها أجراً للرّسالة في القرآن الكريم(2)، وعندما كان رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يشتاق إلى الجنّة كان يشمّها(3)،
ص: 15
ويقول فيها: «فداها أبوها»(1)، وهی المحدّثة الّتي كانت أنيسة أُمّها في الرّحم طليلة حملها(2)، ومخاطبة جبرائيل الأمين بعد فراق أبيها(3)، العزيزة الّتي رفع
ص: 16
الرّحمن السّماوات، وبسط الأرض، وخلق الشّمس والقمر المنيرين، والبحار والكون برمّته لمحبّتها ومحبّة أبيها وزوجها وذريّتها الطّاهرة(1).
أقدّم هذا الجهد المتواضع إلی مقام المحدّثة الّتي يعجز الخلق عن معرفتها كما عجزوا عن معرفة ليلة القدر(2)، والّتي كانت فخر الأئمّة (3)، والكفؤ الوحيد
ص: 17
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علی سيّدنا ونبيّنا محمّد
وآله المعصومين الطاهرين واللعن علی أعدائهم أجمعين.
قد بحثنا في أيّام عطلة الحوزة العلميّة في الأصياف عن عدّة مسائل بصورة الفقه المقارن علی حسب مبانی الاستدلاليّة في الفقه الإماميّة، نجعلها تحت عنوان «المقالات العشر» هی عبارة عن:
1 - الكلام في كفاية الغسل عن الوضوء وعدمها:
2 - الكلام حول مفهوم الوطن الأصلی والاتخاذی، والوطن الشرعی التعبّدی:
3 - الكلام في المطاف وحدّه:
4 - الكلام في إثبات الهلال عند العامة مع عدم إثباته أو العلم بخلافه عندنا في جواز الإفطار وكفاية الحجّ:
5 - الكلام في العجز عن الهدی في الحجّ وبيان بدله وشرائطه:
6 - الكلام في الربا حكمه، أقسامه ومستثتنياته:
7 - الكلام فيما يشترط في صحّة الإجارة من ناحية المتعاقدين، والعين المستأجرة، والمنفعة والأجرة:
ص: 19
8 - الكلام في شرائط المتعاقدين في المضاربة، وشرائط مال القراض وربحه:
9 - الكلام في المزارعة وما يعتبر فيها وفی طرفيها من الشرائط والأحكام:
10 - الكلام في خيار الرؤية وأحكامه:
❊ ❊ ❊
ص: 20
ص: 21
ص: 22
الغسل بالفتح: مصدرٌ من غسل يغسل، وبالكسر: ما يُغسل به كالخطمی وغيره، وبالضّم: اسم مصدر من الإغتسال بمعنی الأثر المترتّب على الغَسل، وهو واحد من الطّهارات الثّلاث: الوضوء، والتّيمم، والغُسل، يقال الغُسل: عند إفاضة الماء علی جميع البدن(1)، واستقوی في «الجواهر» نقله في العرف الشرعی إلی الأفعال الخاصّة(2)، وهو بين واجب ومندوب.
فالواجب منه علی ما قيل سبعة(3)، وهی: غُسل الجنابة، والحيض، والنّفاس، والإستحاضة الّتي تثقب الكرسف، والأموات، ومسّ الأموات من
ص: 23
النّاس قبل تغسيلهم وبعد بردهم، والغُسل الّذی وجب بنذر وشبهه كمن نذر غُسل الجمعة مثلاً.
وفی «الكافی» أنّها ثمانية، حيث قال:
والأغسال على ضربين: مفروض ومسنون، فالمفروض ثمانية أغسال: غسل الجنابة، وغسل الحيض، وغسل النفاس، وغسل الاستحاضة المخصوصة، وغسل مس الميت، ... وغسل الميت ...، وغسل القاصد لرؤية المصلوب من المسلمين بعد ثلاث، وغسل المفرط في صلاة الكسوف مع العلم به وكونه احتراقاً، وجهة وجوب هذين الغسلين كونهما شرطاً في تكفير الذنب وصحة التوبة منه، فيلزم العزم عليهما لهذا الغرض(1).
والمندوب منها كثيرة اختلف الفقهاء في كمّيتها، نبحث عنه في الفرع الرابع من الفروعات المطروحة في آخر هذه المقالة إن شاء الله تعالی.
والغرض من تدوين هذه المقالة البحث عن كفاية الأغسال وعدمها كلاً أو بعضاً عن الوضوء في العبادات المشروطة به، فنقول ومنه التّوفيق:
إنّ من المسائل المدوّنة عند العامّة والخاصّة هی مسئلة كفاية مطلق الغسل عن الوضوء، وهی إجماعيّةٌ إجمالاً عند الإماميّة وأكثر العامّة، مختلف فيها عند بعضهم(2)، ومحصّل الأقوال عند الفريقين أربعةٌ:
ص: 24
الأولی: كفايته عن الوضوء في خصوص غسل الجنابة فقط، وقد ادّعی عليه اجماع أهل البيت علیهم السلام واطباق العلماء من الفريقين إلّا ما حكی عن قليل من العامّة، قال الشيخ رحمه الله :
من وجب عليه الوضوء وغسل الجنابة، أجزأه عنهما الغسل، وبه قال جميع الفقهاء إلا الشافعی فإنّ له ثلاثة أقوال: أحدها: مثل ما قلناه، وعليه يعتمد أصحابه، والثانی: أنّه يجب عليه أن يتطهر ثمّ يغتسل، أو يتطهر بعد أن يغتسل، والثالث: أنّه يجب عليه أن يتطهر أولاً، فيسقط عنه فرض غسل الأعضاء الأربعة في الغسل، ويأتی بما بقی، وقد أجزأه. دليلنا: قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)، يعنی اغتسلوا، ولم يفرق، وأيضاً إجماع الفرقة(1).
وقال العلامة رحمه الله :
يجزی غسل الجنابة عن الوضوء بإجماع أهل البيت علیهم السلام سواء جامعه حدث أصغر أو أكبر، وأطبق العلماء على عدم إيجاب الوضوء إلّا ما حكی عن داود وأبی ثور، فإنّهما أوجباهما معاً، وهو وجه للشّافعيّة لقوله تعالى: (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) وقالت عائشة: كان رسول اللّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لايتوضّأ بعد الغسل من الجنابة(2) .
وقال المحقّق الحلي رحمه الله في «النّافع»:
ص: 25
ويجزئ غسل الجنابة عن الوضوء، وفی غيره تردّدٌ أظهره أنّه لايجزئ(1).وادّعی المحقق النّراقی رحمه الله الإجماع المحقّق والمحكی عن جماعة من علمائنا الأخيار وعمل الفرقة في جميع الأعصار، واستفاضة الأخبار السّالمة عن المعارض(2) ، وقريب منه ما اختاره في «الجواهر» حيث قال:
لاإشكال في انفراد غسل الحيض عن غسل الجنابة بالنّسبة للوضوء للاجماع محصَّلاً ومنقولاً مستفيضاً غاية الاستفاضة كالنّصوص علی إجزاء الثّانی عنه(3).
وأرسله بعضٌ إرسال المسلّمات منهم السيّد الطّباطبائی صاحب «العروة»(4)، والإمام الرّاحل الخمينی قدس سره في «التّحرير» حيث قال:
يجزی غسل الجنابة عن الوضوء لكلّ ما اشترط به.
وقال في أحكام الحائض:
وغسله كغسل الجنابة في الكيفيّة والأحكام، إلّا أنّه لايجزی عن الوضوء فيجب الوضوء معه قبله أو بعده لكلّ مشروط به كالصّلاة، بخلاف غسل الجنابة كما مرّ (5).
الثّانية: كفايته عنه في جميع الأغسال الواجبة دون المستحبّة اختاره علم الهدی السيّد المرتضی رحمه الله وبعض آخر، قال السيّد:
ص: 26
ويستبيح بالغسل الواجب الصّلاة من غير وضوء، وانّما الوضوء في غير الأغسال الواجبة(1).ممّن صرّح بذلك أيضاً المجلسی الأوّل رحمه الله في «الروضة» حيث قال:
إنّه لم يقع في أخبار كيفية غسل الحيض والاستحاضة والنفاس ومسّ الأموات مع تواترها واشتمالها على أكثر المستحبات ذكر الوضوء، وبعيد أن يذكر المعصوم في مقام الاحتياج جميع ما يحتاج إليه ولا يذكر حكم الوضوء اعتماداً على أنّه سمع منه رجل قوله علیه السلام : «فِی كُلِّ غُسْلٍ وُضُوءٌ إِلَّا الْجَنَابَةَ»(2)، فالظاهر أنّ قول السيّد المرتضى رضی الله عنه قوی، بل يظهر من كثير من الأخبار أنّ الأغسال المندوبة أيضاً يجزی عن الوضوء وإن كان الاحتياط الوضوء سيّما في الأغسال المستحبة، فإنّه لا يترك فيه البتة لكن بنية القربة (3).
ثمّ لايخفی أنّ كلّ من قال بالقول الثّالث الآتی فهو القائل بالقولين الاوّلين بالطّريق الأولی، إذ النّسبة بين القول الثّالث والقولين الأوّلين عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ، فمن قال بالقول العام فهو القائل لامحالة بالقول الخاصّ أيضاً.
ص: 27
الثّالثة: كفايته عنه في جميع الأغسال، واجبة كانت أو مندوبة إذا كان استحبابها ثابتاً بالدّليل المعتبر لابمثل التّسامح في أدلّة السّنن، وهو خيرة ابن جنيد الإسكافی رحمه الله علی ما نسب اليه في «المختلف»(1)، وجملة من متأخّري المتأخّرين منهم المحدّث البحرانی رحمه الله في «الحدائق»(2)، والمحقّق الأردبيلی رحمه الله في «مجمع الفائدة والبرهان»(3)، وقد نسبه العلامة المجلسی رحمه الله في «البحار»(4) إلی كثير من المتأخّرين، وهذا أيضاً هو خيرة بعض فقهائنا المعاصرين كالسيّد الخوئی قدس سره وشيخنا الاستاذ آية الله العظمی مكارم الشّيرازی دام ظلّه(5).
الرّابعة: عدم كفاية الغسل عن الوضوء مطلقاً، وهو خيرة الشّافعی في أحد قوليه أو أقواله(6)، وكذا ما حكی عن داود وأبی ثور علی ما تقدّم من كلام العلامة في «التّذكرة»، قال الشّيخ رحمه الله في «الخلاف»:
من وجب عليه الوضوء وغسل الجنابة، أجزأه عنهما الغسل، وبه قال جميع الفقهاء إلّا الشّافعی فإنّ له ثلاثة أقوال: أحدها: مثل ما قلناه، وعليه يعتمد أصحابه، والثّانی: أنّه يجب عليه أن يتطهر ثمّ يغتسل، أو
ص: 28
يتطهر بعد أن يغتسل، والثالث: انّه يجب عليه أن يتطهر أولاً، فيسقط عنه فرض غسل الأعضاء الأربعة في الغسل، ويأتی بما بقی وقد أجزأه(1).
فبعد ما عرفت الأقوال في المسألة نشير إلی ما يقتضی القاعدة فيها.
أقول: إنّ الموجب للوضوء هو الحدث الأصغر والموجب للغسل هوالحدث الأكبر وحيث كان الشّرطان أو الموجبتان وكذلك الجزاءان مختلفين ومتغايرين في نوعهما مع الآخر فمقتضی القاعدة علی ما بُيّن في مبحث مفهوم «الشرط» من الكتب الاصوليّة، هو اقتضاء كلّ شرط موجبه، سواءٌ أتی بالآخر أم لا، بل هو أظهر من مسئلة «إذا اتّحد الشّرط واتّحد الجزاء»، فلا وجه لسقوط كلّ منهما أو سقوط أحدهما المعيّن بفعل الآخر إلّا بدليل حاكم(2) متصرّف في الدّليل المحكوم.
ص: 29
وقد أشار إلی هذه القاعدة السيّد الخوئی رحمه الله حيث قال في بيان مقتضی القاعدة إذا لم يقم دليل الكفاية:
وقد يفرض المكلّف غير متوضئ حال مسّه الميت أو استحاضتها أو غيرها من الأسباب، ومقتضى القاعدة حينئذ هو وجوب الوضوء مع تلك الأغسال، لأنّه غير متوضئ على الفرض، وإجزاء الأغسال عنه يتوقّف على دلالة الدليل عليه كما دلّ في غسل الجنابة، ولم يقم عليه دليل لأنّ كلامنا فيما تقتضيه القاعدة مع قطع النّظر عن الأخبار(1).
وكذا ابن قدامة الحنبلی في توجيه قول الشّافعی "بعدم كفاية الغسل عن الوضوء " حيث قال:
إنّ الجنابة والحدث وجدا منه، فوجبت لهما الطّهارتان كما لوكانا منفردين(2).
وبعبارة أخری:كان الشّك في ما نحن فيه من قبيل الأقلّ (وهو وجوب الغسل في المقام وحده) والأكثر (أی وجوب الغسل والوضوء معاً) الإرتباطيّن الّذی يوجب الإحتياط عقلاً بإتيان الأكثر إذ لو كان الواجب حقيقتاً علی المكلّف حينئذ هو الغسل والوضوء معاً واكتفی بالغسل وحده فإنّه لما برء ذمّته من تكليفه(3).
ص: 30
لايقال: إنّ الشّك في المقام وإن كان من قبيل الأقلّ والأكثر الإرتباطيّن إلّا أنّه حيث كان الوضوء والغسل من القبيل الشّرائط والموانع الّذی علی الآمر بيانه فيجری فيه البرائة لا الإشتغال.
لأنّا نقول: إنّ بحثنا في المقام لم يكن في أصل اشتراط الصّلاة بالطّهارة وعدمها حتّی تجری فيه البرائة، بل الشّك في ما نحن فيه هو في أنّ الطّهارة المشروطة بها الصّلاة هل تتحقّق بالغسل وحده أو بانضمامه الوضوء معاً، وفی مثله الأصل هوالإشتغال لاالبرائة.
اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المحدث بالحدث الأصغر والمحدث بالحدث الأكبر فإنّه محدثٌ إجمالاً، وطبيعة الأحداث في كليهما واحدة إلّا أنّه في الثّانية أشدّ، فإذا أقدم المكلّف علی رفع أشدّهما فإنّه يرتفع معه أضعفهما قطعاً، ونتيجته الإكتفاء بفعل الغسل عن الوضوء في جميع الأغسال من دون فرق بين الجنابة وغيرهما.
لكنّك خبير بأنّه إن ثبت بالدّليل المعتبر الشّرعی أنّ طبيعة الأحداث في جميع موجبتها واحدة فهو، وإلّا لزم القول بعدم سقوط الوضوء بالغسل مطلقاً، إذ سقوط الوضوء بالغسل بعد موجبه أمرٌ يحتاج إلی دليل معتبر قطعیّ.
ص: 31
أدلّة القول الأوّل: وهو كفاية الغسل عن الوضوء في خصوص الجنابة فقط، إنّه قد استدلّ لهذا القول تارةً بإجماع فقهاء الإماميّة بل اطباق علماء الإسلام إلّا من شذّ من العامّة، وأخری بالكتاب، وثالثة بالأخبار الواردة في المقام.
أمّا الإجماع فقد مرّ عند نقل الأقوال بعض ما يدلّ عليه فلا نعيدها، وأمّا دليله من الكتاب فقوله تبارك وتعالی: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِری سَبيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ...)(1)، وقوله تعالی: (... ، إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ...، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً ...)(2).
تقريب الإستدلال بهاتين الكريمتين أنّه قد أوجب الله تبارك وتعالی في الكريمة ألاولی خصوص الغسل علی الجنب حيث إنّه منع الجنب من الصّلاة وجعل الاغتسال مطلقاً الحدّ والغاية لإباحتها، فنتيجته جواز الصّلاة لمن اغتسل عن الجنابة، وكذلك في الكريمة الثّانية أوجب الطّهارة (أی الاغتسال) علی الجنب بالقول المطلق، فلو يجب عليه الوضوء زائداً علی الغسل للزم بيانه لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة بناءً علی القول بمنع التّكليف بلا بيان(3)، أو
ص: 32
الإغراء بالجهل لأنه علی الفرض أطلق الغسل وأراد انضمامه مع الوضوء من دون بيان.
إن قلت: إنّ الله تعالى أمر المحدث بالحدث الأصغر بالوضوء بقوله: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) الى قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ثمّ أمر الجنب أی المحدث بالحدث الأكبر بالغسل بقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) فمن كان محدثاً وجنباً وجب عليه الطهارتان معاً للجمع بين الأمرين.
قلنا: أمّا أوّلاً: إنّه بناءً علی هذا الإستدلال للزم القول بكفاية الغسل للجنب إذا لم يحدث بالحدث الأصغر، فلا يثبت بهما الوضوء في مطلق الجنب سواء جامعه حدث أصغر أم لا.
وثانياً: إنّ الكريمة الأولی واردة من أوّل أمرها في حكم الجنب وبحكم كونها في مقام البيان قد تنفی علی مطلق الجنب غير الغسل حيث إنّ الله تبارك وتعالی أوجب الغسل علی المحدث جنباً من دون أن أوجب عليه شيئاً آخراً غيره، ويؤيّد ذلك استدلال الإمام الباقر علیه السلام في مرسلة محمّد بن مسلم بهذه الآية الكريمة لنفی الوضوء زائداً علی الغسل(1).
وبعبارة أخری: إنّ الآية الكريمة الأخيرة كانت في مقام بيان حكم كلّ من الطّهارات الثّلاث: الوضوء، والغسل، والتّيمّم، ولم توجب علی المحدث
ص: 33
بالجنابة زائداً علی الغسل شيئاً، إذ التّفصيل قاطع للشّركة فعليه كانت وظيفةالمحدث بغير الجنابة هی الوضوء، و وظيفة المحدث بالجنابة هی الإغتسال لا الغير.
أمّا دليل القول من الأخبار والأحاديث فقد دلّت عليه صحيحةُ يَعْقُوبَ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ (الكاظم أو الرِّضا) علیهما السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ فِيهِ وُضُوءٌ أَمْ لَا فِيمَا نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ علیه السلام؟ قَالَ: «الْجُنُبُ يَغْتَسِلُ، يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَغْمِسَهُمَا في الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ أَذًى، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ وَعَلَى وَجْهِهِ وَعَلَى جَسَدِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ قَدْ قَضَى الْغُسْلَ وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ»(1)، وصحيحةُ زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام وَذَكَرَ كَيْفِيَّةَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: «لَيْسَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وُضُوءٌ»(2)، وصحيحةُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ يَعْنِی ابْنَ أَبِی نَصْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: «تَغْسِلُ يَدَكَ الْيُمْنَى مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ إِلَى أَصَابِعِكَ، وَتَبُولُ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى الْبَوْلِ، ثُمَّ تُدْخِلُ يَدَكَ في الْإِنَاءِ، ثُمَّ اغْسِلْ مَا أَصَابَكَ مِنْهُ، ثُمَّ أَفِضْ عَلَى رَأْسِكَ وَجَسَدِكَ، وَلَا وُضُوءَ فِيهِ»(3)، وصحيحةُ حَكَمِ بْنِ حُكَيْمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْغُسْلِ، فَضَحِكَ وَقَالَ: «وَأَیُّ وُضُوءٍ أَنْقَى مِنَ الْغُسْلِ وَأَبْلَغُ؟»(4)، ومصحّحةُ ابْنِ أَبِی عُمَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ:
ص: 34
«كُلُّ غُسْلٍقَبْلَهُ وُضُوءٌ إِلَّا غُسْلَ الْجَنَابَةِ»(1)، ومصحّحةُ ابْنِ أَبِی عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ أَوْ غَيْرِهِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «فِی كُلِّ غُسْلٍ وُضُوءٌ إِلَّا الْجَنَابَةَ»(2)، ومرسلةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام: إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَرْوُونَ عَن عَلِیٍ علیه السلام أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: «كَذَبُوا عَلَى عَلِیٍّ علیه السلام مَا وَجَدُوا ذَلِكَ في كِتَابِ عَلِیٍّ علیه السلام، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(3) .
أضف إلی ذلك الرّوايات الّتي ظاهرها المنع من الوضوء بالقول المطلق إلّا أنّ القدر المتيقّن أو المنصرف منها بقرينة ما ورد من جواز الوضوء (بالمعنی الأعمّ) في غير غسل الجنابة (4)، هو خصوص الجنابة مثل موثقة سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(5)، ومرسلة مُحَمَّدِ بْنِ
ص: 35
أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى: «أَنَّ الْوُضُوءَ قَبْلَ الْغُسْلِ وَبَعْدَهُ بِدْعَةٌ»(1)، وخبر عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(2)، ومرفوعة الْمُحَقِّقِ في الْمُعْتَبَرِ عَنِ الصَّادِقِ علیه السلام قَالَ: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(3).
فالرّوايات كما تری أكثرها صحاحٌ وقد صرّحت بانتفاء الوضوء مع غسل الجنابة بخصوصها، أو مع كلّ غسل الّذی القدر المتيقّن منه أو أظهر مصاديقه الجنابة.
ادلّة القول الثّانی: وهو كفاية الغسل عن الوضوء في جميع الأغسال الواجبة دون المستحبّة الّذی اختاره علم الهدی السّيد المرتضی رحمه الله .
ممّا يمكن أن يستدلّ علی هذا القول مضافاً إلی ما مرّ في دليل القول الأوّل، هو ما وردت في أبواب الحائض والنّفساء والمستحاضة من كفاية الغسل لهنّ عن الوضوء مثل صحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ: النُّفَسَاءُ مَتَى تُصَلِّی؟ قَالَ: «تَقْعُدُ قَدْرَ حَيْضِهَا وَتَسْتَظْهِرُ بِيَوْمَيْنِ، فَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ وَإِلَّا اغْتَسَلَتْ وَاحْتَشَتْ وَاسْتَثْفَرَتْ وَصَلَّتْ» الْحَدِيثَ(4)، وموثّقة مُحَمَّدِ بْنِ أَبِی حَمْزَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «تَجْلِسُ النُّفَسَاءُ أَيَّامَ حَيْضِهَا الّتي كَانَتْ تَحِيضُ ثُمَّ تَسْتَظْهِرُ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّی»(5)، وموثَّقة يُونُسَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ
ص: 36
امْرَأَةٍوَلَدَتْ فَرَأَتِ الدَّمَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ تَرَى؟ قَالَ: «فَلْتَقْعُدْ أَيَّامَ قُرْئِهَا الّتي كَانَتْ تَجْلِسُ ثُمَّ تَسْتَظْهِرُ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ رَأَتْ دَماً صَبِيباً فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَإِنْ رَأَتْ صُفْرَةً فَلْتَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْتُصَلِّ»(1)، فإنّها مع كونها في مقام البيان أو جواب السّؤال لم تتكلّم عن الوضوء أصلاً، مضافاً إلی ما وردت في أنّ غسل الجنابة والحيض واحد، منها موثقة عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلیٍّ الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَاحِدٌ»(2)، ومرفوعة مُحَمَّد بْنِ عَلِیِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ علیه السلام: «غُسْلُ
الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَاحِدٌ»(3)، وموثقة الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ الرِّضَا علیه السلام في حديث قَالَ: «وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ فَرِيضَةٌ وَغُسْلُ الْحَيْضِ مِثْلُهُ»(4).
إذ الظّاهر من الوحدة والمماثلة بينهما في كلام الإمام علیه السلام ليس في خصوص الشّكل والهيئة الظّاهريّة فقط، بل الوحدة والمماثلة بينهما فيما لها من الأحكام و الآثار أيضاً.
بل وقد نفت الوضوء عن الحائض ومثله صريحةً في موثّقة عمّار السّاباطیّ(5) الآتية قريباً في جملة أدلّة القول الثّالث.
ص: 37
ادلّة القول الثّالث: وهو كفاية الغسل عن الوضوء في جميع الأغسال الواجبة والمستحبّة، إذا كان استحبابها ثابتاً بالدّليل المعتبر لابمثل التّسامح في أدلّة السّنن الّذی هو خيرة ابن جنيد الإسكافی رحمه الله علی ما نسب اليه في «المختلف»(1)، وجملة من متأخّري المتأخّرين منهم المحدّث البحرانی رحمه الله في «الحدائق»(2)، والمحقّق الأردبيلی رحمه الله في «مجمع الفائدة والبرهان»(3)، واختاره أيضاً بعض فقهائنا المعاصرين كالسيّد الخوئی قدس سره وشيخنا الاستاذ آية الله العظمی مكارم الشّيرازی دام ظلّه(4) .
ممّا يمكن أن يستدلّ به لهذا القول مضافاً إلی ما مرّ في دليلي القولين الأوّلين، موثقة عمّار السّاباطی حيث قال: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَتِهِ أَوْ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوْ يَوْمِ عِيدٍ هَلْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: «لَا، لَيْسَ عَلَيْهِ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ قَدْ أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ، وَالْمَرْأَةُ مِثْلُ ذَلِكَ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، قَدْ أَجْزَأَهَا الْغُسْلُ»(5)، وخبر الْحَسَنِ بْنِ عَلِیِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
ص: 38
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَمْدَانِیَّ كَتَبَ إِلَى أَبِی الْحَسَنِ الثَّالِثِ علیه السلام يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ في غُسْلِ الْجُمُعَةِ؟ فَكَتَبَ: «لَا وُضُوءَ لِلصَّلَاةِ في غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا غَيْرِهِ»(1)، ومرسلة حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ لِلْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَيُجْزِيهِ مِنَ الْوُضُوءِ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «وَأَیُّ وُضُوءٍ أَطْهَرُ مِنَ الْغُسْلِ»(2).
ادلّة القول الرّابع: وهو عدم كفاية الغسل عن الوضوء في شيء من الأغسال واجبة كانت أو مندوبةً الّذي اختاره الشّافعي في أحد قوليه أو أقواله(3)، ونسبه العلامة أيضاً في «التّذكرة»(4) إلی داود وأبي ثور من الفقهاء العامّة:
ممّا يمكن أن يستدلّ به لهذا القول مضافاً إلی ما مرّ في مقتضی القاعدة في المقام من اقتضاء كلّ شرط موجبه، ما رواه سيف بن عميرة صحيحاً عَن أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِیِّ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ إِذَا أَجْنَبْتُ؟ قَالَ: «اغْسِلْ كَفَّيْكَ وَفَرْجَكَ، وَتَوَضَّأْ وُضُوءَ الصَّلَاةِ ثُمَّ اغْتَسِلْ»(5)، بناءً علی أنّ الأمر بالوضوء فيها ظاهرٌ في الوجوب.
ص: 39
فإذا كان الشّأن في الجنابة ذلك، ففي غيرها من سائر الأغسال أظهر، أو بالأولويّة والفحوی.
فالأقوال كما تری تدلّ علی كلّ منها بعض الأخبار والأحاديث، غير أنّ الأولی منها مدلَّلٌ عليها زائداً علی الأخبار، بالكتاب والإجماع أيضاً، فالمناسب في المقام تقسيم الرّوايات إلی طوائف مختلفة ثمّ الجمع بينها بالجمع العرفی المقبول حدّ الإمكان، واستنباط الرّأی المناسب حسب القواعد المقرّرة عند تعارض الأخبار، فنقول وبه نستعين إنّ الأحاديث الواردة في المسئلة علی ست طوائف:
تقسيم الرّوايات الواردة في المسألة إلی طوائف ستة:
الطّائفة الاولی: الرّوايات الّتي دلّت علی كفاية مطلق الغسل عن الوضوء:
وهی عبارة عن صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «الْغُسْلُ يُجْزِی عَنِ الْوُضُوءِ، وَأَیُّ وُضُوءٍ أَطْهَرُ مِنَ الْغُسْلِ؟»(1)، وخبر الكلينی رحمه الله وَرُوِیَ «أَیُّ وُضُوءٍ أَطْهَرُ مِنَ الْغُسْلِ»(2).
وجه الاستدلال بهاتين الرّوايتين إنّما يتمّ إذا كانت «ال» في كلمة «الغسل» فيهما للجنس لا العهد.
الطائفة الثّانية: الرّوايات الّتي دلّت علی كفاية أغسال الجنابة والحيض والجمعة والعيد وغيرها عن الوضوء:
وهی عبارةٌ عن موثقة عمّار السّاباطی قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَتِهِ أَوْ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوْ يَوْمِ عِيدٍ هَلْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ؟
ص: 40
فَقَالَ: «لَا، لَيْسَ عَلَيْهِ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ قَدْ أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ، وَالْمَرْأَةُ مِثْلُ ذَلِكَ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، قَدْ أَجْزَأَهَا الْغُسْلُ»(1)، وخبر الْحَسَنِ بْنِ عَلِیِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَمْدَانِیَّ كَتَبَ إِلَى أَبِی الْحَسَنِ الثَّالِثِ علیه السلام يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ في غُسْلِ الْجُمُعَةِ؟ فَكَتَبَ: «لَا وُضُوءَ لِلصَّلَاةِ في غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا غَيْرِهِ»(2)، ومرسلة حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ لِلْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَ يُجْزِيهِ مِنَ الْوُضُوءِ؟ فَقَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «وَأَیُّ وُضُوءٍ أَطْهَرُ مِنَ الْغُسْلِ»(3) ، وصحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في حَدِيث قَالَ: «فَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى عَرَفَاتٍ فَاضْرِبْ خِبَاءَكَ بِنَمِرَةَ، وَنَمِرَةُ هِیَ بَطْنُ عُرَنَةَ دُونَ الْمَوْقِفِ وَدُونَ عَرَفَةَ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَاغْتَسِلْ وَصَلِّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، فَإِنَّمَا تُعَجِّلُ الْعَصْرَ وَتَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِتَفْرُغَ نَفْسُكَ لِلدُّعَاءِ فَإِنَّهُ يَوْمُ دُعَاءٍ وَمَسْأَلَةٍ»(4)، وموثَّقة مُحَمَّدِ بْنِ أَبِی حَمْزَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «تَجْلِسُ النُّفَسَاءُ أَيَّامَ حَيْضِهَا الّتي كَانَتْ تَحِيضُ ثُمَّ تَسْتَظْهِرُ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّی»(5)، وصحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ: النُّفَسَاءُ
ص: 41
مَتَى تُصَلِّی؟قَالَ: «تَقْعُدُ قَدْرَ حَيْضِهَا وَتَسْتَظْهِرُ بِيَوْمَيْنِ، فَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ وَإِلَّا اغْتَسَلَتْ وَاحْتَشَتْ وَاسْتَثْفَرَتْ وَصَلَّتْ» الْحَدِيث(1)، وموثَّقة يُونُسَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ فَرَأَتِ الدَّمَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ تَرَى؟ قَالَ: فَلْتَقْعُدْ أَيَّامَ قُرْئِهَا الّتي كَانَتْ تَجْلِسُ ثُمَّ تَسْتَظْهِرُ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ رَأَتْ دَماً صَبِيباً فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَإِنْ رَأَتْ صُفْرَةً فَلْتَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْتُصَلِّ»(2)، وموثَّقة يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «تَجْلِسُ النُّفَسَاءُ أَيَّامَ حَيْضِهَا الّتي كَانَتْ تَحِيضُ، ثُمَّ تَسْتَظْهِرُ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّی»(3)، وموثَّقة سَمَاعَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَاجِبٌ إِذَا احْتَشَتْ بِالْكُرْسُفِ وَجَازَ الدَّمُ الْكُرْسُفَ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاتَيْنِ وَلِلْفَجْرِ غُسْلٌ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الدَّمُ الْكُرْسُفَ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً وَالْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَغُسْلُ النُّفَسَاءِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ» الْحَدِيث(4)، وخبر حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ عَنِ البَاقِرِ علیه السلام في حَكمِ النُّفَسَاءِ قَالَ: ....، قُلْتُ: فَمَا حَدُّ النُّفَسَاءِ؟ قَالَ: «تَقْعُدُ أَيَّامَهَا الّتي كَانَتْ تَطْمَثُ فِيهِنَّ أَيَّامَ قُرْئِهَا، فَإِنْ هِیَ طَهُرَتْ وَإِلَّا اسْتَظْهَرَتْ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَتْ وَاحْتَشَتْ، فَإِنْ كَانَ انْقَطَعَ الدَّمُ فَقَدْ طَهُرَتْ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعِ الدَّمُ فَهِیَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاتَيْنِ وَتُصَلِّی»(5).
ص: 42
قال المحقق رحمه الله بعد ذكر أخبار المستحاضة:
وظنّ غالط من المتأخّرين أنّه يجب علی هذه مع الأغسال وضوء مع كلّ صلاة، ولم يذهب إلی ذلك أحد من طائفتنا(1).
الطائفة الثّالثة: الرّوايات الّتي دلّت علی كفاية مطلق الغسل عن الوضوء إلّا غسل الجمعة:
وهی عبارة عن خبر الْكُلَيْنِیُّ: وَرُوِیَ أَنَّهُ «لَيْسَ شَیْ ءٌ مِنَ الْغُسْلِ فِيهِ وُضُوءٌ إِلَّا غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ قَبْلَهُ وُضُوءاً»(2)، وخبر عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ
الْأَوَّلِ علیه السلام قَالَ: «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَغْتَسِلَ لِلْجُمُعَةِ فَتَوَضَّأْ وَاغْتَسِلْ»(3).
الطّائفة الرّابعة: الرّوايات الّتي ظاهرها التّعميم والإطلاق ودلّت علی أنّ الوضوء مع الغسل بدعة إلّا أنّ القدر المتيقّن أو المنصرف منها بقرينة ما ورد من جواز الوضوء في غير غسل الجنابة(4)، هو خصوص الجنابة:
وهی عبارةٌ عن موثقة سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(5)، وخبر عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(6)، ومرفوعة الْمُحَقِّقِ في الْمُعْتَبَرِ عَنِ
ص: 43
الصَّادِقِ علیه السلام قَالَ:«الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(1)، ومرسلة مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَی: «أَنَّ الْوُضُوءَ قَبْلَ الْغُسْلِ وَبَعْدَهُ بِدْعَة»(2).
الطائفة الخامسة: الرّوايات الّتي نفت الوضوء في خصوص غسل الجنابة فقط:
وهی عبارةٌ عن صحيحة يَعْقُوبَ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ (الكاظم أو الرِّضا) علیهما السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ فِيهِ وُضُوءٌ أَمْ لَا فِيمَا نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ علیه السلام ؟ قَالَ: «الْجُنُبُ يَغْتَسِلُ، يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَغْمِسَهُمَا في الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ أَذًى، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ وَعَلَى وَجْهِهِ وَعَلَى جَسَدِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ قَدْ قَضَى الْغُسْلَ وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ»(3)، وصحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام وَذَكَرَ كَيْفِيَّةَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: «لَيْسَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وُضُوءٌ»(4)، وصحيحة أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ يَعْنِی ابْنَ أَبِی نَصْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: «تَغْسِلُ يَدَكَ الْيُمْنَى مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ إِلَى أَصَابِعِكَ، وَتَبُولُ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى الْبَوْلِ، ثُمَّ تُدْخِلُ يَدَكَ في الْإِنَاءِ، ثُمَّ اغْسِلْ مَا أَصَابَكَ مِنْهُ، ثُمَّ أَفِضْ عَلَى رَأْسِكَ وَجَسَدِكَ، وَلَا وُضُوءَ فِيهِ»(5)، وصحيحة حَكَمِ بْنِ حُكَيْمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ علیه السلام عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ
ص: 44
الصَّلَاةِ قَبْلَ الْغُسْلِ، فَضَحِكَوَقَالَ: «وَأَیُّ وُضُوءٍ أَنْقَى مِنَ الْغُسْلِ وَأَبْلَغُ؟»(1)، ومرسلة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام: إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَرْوُونَ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: «كَذَبُوا عَلَى عَلِیٍّ علیه السلام مَا وَجَدُوا ذَلِكَ في كِتَابِ عَلِیٍّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(2)، ومصححة ابْنِ أَبِی عُمَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «كُلُّ غُسْلٍ قَبْلَهُ وُضُوءٌ إِلَّا غُسْلَ الْجَنَابَةِ»(3)، ومصححة ابْنِ أَبِی عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ
عُثْمَانَ أَوْ غَيْرِهِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «فِی كُلِّ غُسْلٍ وُضُوءٌ إِلَّا الْجَنَابَةَ»(4).
وإرساله لايقدح في العمل بها بعد انجبارها بعمل الأصحاب في باب الجنابة لاأقلّ، وكونه من أصحاب الإجماع الّذی يقال في حقّه: لايرسل ولايروی إلّا عن ثقة (5).
الطائفة السّادسة: الرّواية الّتي دلّت علی لزوم الوضوء زائداً علی الغسل حتّی في الجنابة:
ص: 45
وهی عبارةٌ عن صحيحة أَبِی بَكْرٍ الْحَضْرَمِیِّ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ إِذَا أَجْنَبْتُ؟ قَالَ: «اغْسِلْ كَفَّيْكَ وَفَرْجَكَ، وَتَوَضَّأْ وُضُوءَ الصَّلَاةِ ثُمَّ اغْتَسِلْ»(1)، بناءً علی أنّ صيغة الأمر ظاهرٌ في الوجوب.
الكلام في الجمع بين الطوائف الستة من الأخبار:
في مقام الجمع بين روايات الطّوائف السّتة نقول: أمّا الطّائفة الأخيرة فهي وإن كانت صحيحةً سنداً إلّا أنّها حيث كانت من الأخبار الآحاد أوّلاً، وعلی خلاف الكتاب وجميع الرّوايات المتظافرة بل المتواترة معنی في الطوائف الخمسة الماضية ثانياً، وكذا فتوی الأصحاب بل علماء الإسلام إلّا من شذّ من العامّة ثالثاً، فلا تقاوم عند التعارض لتلك النّصوص الّتي دلّت إجمالاً علی كفاية غسل الجنابة عن الوضوء، وهذا ما يعبّر عنه في «الأصول» بأنّ: "اعراض الأصحاب عن خبر فإنّه يوجب وهنه وإن كان راويه ثقة وكان قویّ السّند، بل كلّما قوی سند خبر فأعرض عنه الأصحاب كان ذلك أكثر دلالة علی وهنه(2)، ولهذا قال الشّيخ محمّد بن الحسن الحُرّ العاملی رحمه الله بعد ما نقل الحديث: هذا محمولٌ علی التّقيّة.
وأمّا الطّائفة الاولی منها فيحمل «ال» فيها بقرينة روايات الطّائفة الثّانية، علی أنّ «ال» للجنس فيشمل للجنابة وغيرها.
وأمّا روايات الطّائفة الثّالثة الّتي دلّت علی كفاية مطلق الغسل عن الوضوء إلّا غسل الجمعة، فيحمل الوضوء فيها بقرينة ما دلّت في الطّائفة الثّانية علی
ص: 46
كفاية مطلق الغسل عن الوضوء في جميع الأغسال، علی استحبابه مع غسل الجمعة، وذلك لأنّ روايات الطّائفة الثّانية أظهرٌ أو نصّ في كفاية غسل الجمعة عن الوضوء، وروايات الطّائفة الثّالثة ظاهرةٌ في عدم كفاية غسل الجمعة عن الوضوء فيحمل الظّاهر علی الأظهر أو النصّ، ونرتفع اليد عن وجوبه ويبقی أصل المطلوبية بمعنی استحبابه مع غسل الجمعة بحاله، هذا مضافاً إلی ضعف سند الخبرين في الطّائفة الثّالثة بالنّسبة إلی أسناد الرّوايات في الطّائفة الثّانية وتظافر رواياتها.
وأمّا روايات الطّائفة الرّابعة فحيث حُكم فيها بأنّ الوضوء مع الغسل بدعةٌ، فهو مختصّ بغسل الجنابة لما مرّ في روايات الطّائفة الخامسة من جواز الوضوء مع كلّ غسل.
وبعبارة أخری: إنّ كلمة الغسل في هذه الرّوايات وإن كان مطلقاً يشمل الجنابة وغيرها، إلّا أنّه حيث يشترط في الأخذ بالإطلاق علی ما بيّن في علم الأصول عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التّخاطب(1) فيقيّد بخصوص الجنابة.
وأمّا روايات الطّائفة الخامسة فهی بتمامها نفت الوضوء بالنّسبة إلی غسل الجنابة إلّا أنّ أكثرها ساكتةٌ عن حكم غيرها، وأمّا ما ورد في مصححتي ابن عمير من اثباته في غير الجنابة فهو كما قلنا ظاهرٌ في وجوبه في غير الجنابة، وروايات الطّائفة الثّانية أظهرٌ أو نصٌّ في عدم وجوبه في سائر الأغسال، فيحمل الوضوء فيهما علی استحبابه في غير غسل الجنابة.
ص: 47
فبعد ما عرفت الأقوال وأدلّتها في المسئلة وكذا وجه الجمع بين أخبار الطّوائف السّتة أو الخمسة(1)، تصل النّوبة إلی بيان الرّأی المختار في المقام، فبناءً علی ما فصلّناه كان رأينا في المسئلة هو ما تقدّم تحت عنوان القول الثّالث أعنی كفاية الغسل مطلقاً عن الوضوء سواءٌ كان واجباً أو مندوباً إذا كان استحبابه ثابتاً بالدّليل المعتبر لابمثل التّسامح في أدلّة السّنن.
بيان ذلك:
إنّ المستفاد من الرّوايات في الطّوائف الأربعة الأولی مثل صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «الْغُسْلُ يُجْزِی عَنِ الْوُضُوءِ، وَأَیُّ وُضُوءٍ أَطْهَرُ مِنَ الْغُسْلِ؟»(2)، وموثقة عَمَّارٍ السَّابَاطِیِّ قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَتِهِ أَوْ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوْ يَوْمِ عِيدٍ هَلْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: «لَا، لَيْسَ عَلَيْهِ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ قَدْ أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ، وَالْمَرْأَةُ مِثْلُ ذَلِكَ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، قَدْ أَجْزَأَهَا الْغُسْلُ»(3)، ومرسلة حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ لِلْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَ يُجْزِيهِ مِنَ الْوُضُوءِ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «وَأَیُّ وُضُوءٍ
ص: 48
أَطْهَرُ مِنَ الْغُسْلِ»(1)، هو اصطياد حكم كلّی الّذی نعبّر عنه بأنّ كلّ غسل سواءٌ كان واجباً أو مندوباً كاف عن فرض الوضوء.
هذا من جانب، ومن جانب آخر حيث لم يثبت فيما بأيدينا من الأخبار والأحاديث ما يثبت به رجحان الغسل بذاته إذا لم تكن هناك غاية مفروضة أو مندوبة، فبمعونة تلك الرّوايات الّتي تثبت بها الحكم الكلّي المصطاد نقول: إن دلّ الدّليل المعتبر الشّرعي علی رجحان غسل ولو بعنوان كونه مندوباً فهو يكفي عن الوضوء وإلّا لم يكن لسقوط الوضوء بالغسل وجهٌ، ولاأقلّ من الشّك والرّجوع إلی ما هو مقتضی القاعدة في المقام من اقتضاء كلّ سبب موجبه سواءٌ أتی بالآخر ام لا.
إن قلت: إن دلّ دليلٌ علی كون غسل مندوباً ولو كان دليله غير معتبر عندنا، فهو يكفی في جعله تحت ذلك الحكم الكلیّ المصطاد، وذلك لما اشتهر بين الأصحاب من التّسامح في أدلّة السّنن.
قلنا: إنّه قد ثبت في محلّه أنّ الإستحباب كسائر الأحكام التّكليفيّة الخمسة حكمٌ شرعیّ يتوقّف اثباته علی دليل معتبر شرعیّ، وإلّا كان قولاً علی الشّارع بغير دليل الّذی هو منهی عنه في الكتاب(2) والسّنة، نعم إنّ غاية ما يستفاد منها هو إعطاء الله تبارك وتعالی ذلك الثّواب تفضّلاً، وهذا غير كون الشیء مندوباً شرعاً.
ص: 49
فبعد ما تبيّن حكم المسئلة حسب الأقوال الأربعة، قد يطرح هنا فروع قد يختلف حمكها علی كلّ من هذه المبانی نبحث عنها فيما يلی:
إذا أحدث المكلّف بالحدث الأصغر في أثناء غُسله الترتيبی من الجنابة، فقد اختلف الأصحاب في كونه مبطلاً لغُسله أم لا علی أقوال ثلاثة:
أحدها: أنّه يتمّ غسله ثمّ يتوضأ لحدثه، نسبه في «الحدائق» إلی جملة من الأصحاب، منهم السيّد المرتضی(1)، والمحقّق الحلي(2)، والفاضل الأردبيلی(3)، وتلميذه صاحب المدارك(4)، وجدّه الشّهيد الثّانی(5)، وبعضٍ آخر(6) قدس الله أسرارهم، واستقواه في «الجواهر»(7)، وهو أيضاً خيرة السيّد الطباطبائی اليزدی رحمه الله في «العروة»(8)، والإمام الرّاحل رحمه الله في «التّحرير» (9).
ص: 50
ثانيها: نفس القول الأوّل من دون أن يكون عليه شيئاً، حكاه في «الحدائق» عن القاضی ابن البرّاج(1)، وابن إدريس الحلي(2)، والمير محمّد باقر الدّاماد،
والمحقق السبزواری صاحب «الذّخيرة»(3) والشّيخ سليمان البحرانی(4).
ثالثها: بطلان الغُسل من أصله بالحدث في أثنائه و وجوب إعادته من رأسه، نسبه في «الحدائق»(5) إلی الصّدوق رحمه الله (6)، وإلی الشّيخ رحمه الله في كتابي «النّهاية» و«المبسوط»(7)، وإلی العلامة رحمه الله في بعض كتبه(8)، وفی «المستند» حكاية عن المحقّق الثّانی رحمه الله في «شرح الألفيّة» أنّه مشهور بين الأصحاب(9).
واستدلّ في «المدارك» علی القول الأوّل وهو عدم بطلان الغسل و وجوب وضوء بعده، بأنّ الحدث الأصغر ليس موجباً للغسل ولا لبعضه قطعاً فيسقط وجوب إعادة الغسل حينئذ، وأمّا وجوب الوضوء فلأنّ الحدث المتخلّل لا بدّ له
ص: 51
من رافع، وهو إمّا الغُسل بتمامه أو الوضوء، والأول منتف لتقدّم بعضه، فتعيّن الثانی، ثمّ عبّر عنه بأنّه أمتن الأقوال دليلاً (1)، وفی «المعتبر» أنّه الأشبه(2).
واستُدلّ للقول الثّانی بصدق الغُسل واستصحاب صحته لعدم قابليّة تأثير الحدث للإعادة، إذ الموجب للجنابة أحد الأمرين: الإنزال أو الدّخول، ولم يحصل شیءٌ منهما أثناء الغُسل حتّی يبطله، وباستفاضة النّصوص بانتفاء الوضوء مع غسل الجنابة مطلقاً (3)، خرج منه ما إذا أحدث بالأصغر بعد اتمامه بالإجماع، فبقی الباقی، وبما دلّ أيضاً علی عدم وجوب المولاة والمتابعة بين الأعضاء في الغسل وجواز التّراخی بينها إلی بعض اليوم(4)، الّذی يستلزم عادة لتخلّل الحدث في مثل تلك المدّة الطويلة (5)، وأنّه لم يصرّح أحد بلزوم إعادته الغُسل لو أحدث بالأصغر طولها.
وقد استدلّ للقول الثّالث وهو بطلان الغُسل من أصله بمرفوعة الصّدوق عن الصّادق علیه السلام أنّه قال: «لَا بَأْسَ بِتَبْعِيضِ الْغُسْلِ، تَغْسِلُ يَدَكَ وَفَرْجَكَ وَرَأْسَكَ، وَتُؤَخِّرُ غَسْلَ جَسَدِكَ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَغْسِلُ جَسَدَكَ إِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَحْدَثْتَ حَدَثاً مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ مَنِیٍّ بَعْدَ مَا غَسَلْتَ رَأْسَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَغْسِلَ جَسَدَكَ فَأَعِدِ الْغُسْلَ مِنْ أَوَّلِهِ»(6)، وبخبر الرّضوی علیه السلام «وَلَا بَأْسَ بِتَبْعِيضِ الْغُسْلِ، تَغْسِلُ يَدَكَوَفَرْجَكَ وَرَأْسَكَ، وَتُؤَخِّرُ غَسْلَ جَسَدِكَ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَغْسِلُ إِنْ أَرَدْتَ ذَاكَ، فَإِنْ
ص: 52
أَحْدَثْتَ حَدَثاً مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ بَعْدَ مَا غَسَلْتَ رَأْسَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَغْسِلَ جَسَدَكَ فَأَعِدِ الْغُسْلَ مِنْ أَوَّلِهِ»(1)، وبأنّ الصّحيح من غُسل الجنابة هو ما يرتفع معه جميع الأحداث وهذا الغسل بعد إتمامه لا يرفع الحدث المتخلّل بينه بالبديهة، مضافاً علی أنّ الحدث المتخلّل لا بُدّ له من رافع، وهو غير الوضوء لعدم مشروعيّته مع الغُسل في الجنابة، فلا بدّ أن يكون هو الغُسل الجديد(2).
أقول: أمّا جواب المسئلة فعلی القول الرّابع المتقدّم من عدم كفاية الغُسل مطلقاً عن الوضوء لإقتضاء كلّ شرط موجبه وأثره فظاهرٌ، إذ حدوث الحدث الأصغر في أثناء غُسل الجنابة لا محالة غير ضارٍ بالغُسل الفعلی لوضوح أنّ الموجب للغُسل غير الأصغر، فعليه يكون حال الغُسل بعد حدوثه كعدمه، وعلی المكلّف أن يتوضأ بعد إتمام غُسله.
وأمّا بناءً علی الأقوال الثّلاثة الأولی هاهنا، فالأوفق بالقواعد هو ترجيح القول الأوّل، لكونه أشهراً بالنّسبة إلی القول الثّالث بعد ضعف ما دلّ علی بطلان الغُسل من أصله، وأنّ الحدث الأصغر الحادث في أثنائه غير موجب لإعادة الغُسل يقيناً فيحكم فيه بمطلقات ما ورد فيه في باب نواقض الوضوء مثل صحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «لَا يُوجَبُ الْوُضُوءُ إِلَّا مِنْ غَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ ضَرْطَةٍ تَسْمَعُ صَوْتَهَا، أَوْ فَسْوَةٍ تَجِدُ رِيحَهَا»(3)، فإنّه يعم لما إذا وقع شیءٌ من ذلك بعد الغُسل أو في أثنائه، وبذلك يندفع ما استدلّ به القائل بصحّة الغُسل وعدم لزومه الوضوء بعده أصلاً.
ص: 53
علی القول بتعميم كفاية الغُسل عن الوضوء بمطلق الأغسال الواجبة أو المندوبة الّتي دلّ علی استحبابه دليل معتبر شرعی كما هو المختار، فلا مانع من الجمع بين الغُسل والوضوء إذا كان غُسله غير الجنابة، بل يستحب له ذلك، والأفضل حينئذ أن يتوضّیء أوّلاً ثمّ يغتسل، وأمّا في الجنابة فلا غُسل فيها لا قبله ولا بعده، قال الشّيخ رحمه الله في «النّهاية»:
وليس على المغتسل من الجنابة وضوء لا قبله ولا بعده، فإن توضّأ قبله أو بعده معتقداً بأنّ الغسل لا يجزيه، كان مبدعاً (1).
وقال العلامة الحلي قدس سره في «التّحرير»:
يكفی غسل الجنابة عن الوضوء، فإن توضّأ معتقداً عدم الإجزاء كان مبدعاً ولايستحب(2).
وقال السيّد رحمه الله صاحب «العروة»:
نعم في غسل الجنابة لا يجب الوضوء بل لا يشرّع بخلاف سائر الأغسال(3).
وقال السيّد الخوئی رحمه الله :
لا يشرّع الوضوء مع غسل الجنابة وذلك لقوله سبحانه: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) إلى قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) فإنّ التّفصيل قاطعٌ للشّركة فيستفاد من الآية المباركة أنّ
ص: 54
وظيفة غير الجنب هی غَسل الوجه واليدين ومسح الرّأسوالرجلين، وأمّا وظيفة الجنب فهی الاغتسال، فكما أنّ غير الجنب لايشرّع في حقّه الاغتسال فكذلك الجنب لايشرّع في حقّه الوضوء، وقد ورد في الأخبار أنّ غسل الجنابة ليس قبله ولابعده وضوء، فالكتاب والسنّة متطابقان على عدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة(1).
ويؤيّد ذلك بالرّوايات الطّائفة الرّابعة الّتي دلّت علی أنّ الوضوء مع الغُسل بدعةٌ، بناءً علی أنّ المنصرف أو القدر المتيقّن منها هوخصوص الجنابة، لكن الشّيخ رحمه الله في كتابي «التّهذيب» و«الإستبصار»، وأكثر العامّة وهم الحنابلة والحنفيّة والشّافعيّة وإن كانوا قائلين بكفاية غُسل الجنابة عن الوضوء كالإماميّة، افتوا بجوازه بل استحبابه قبل الغُسل من الجنابة، حيث قال في ذيل صحيحة الحضرمی(2):
قَوْلُهُ علیه السلام: «تَوَضَّأْ وُضُوءَ الصَّلَاةِ»، فإنّما أراد به النّدب والاستحباب لا الوجوب بدلالة ما تقدّم من الأخبار، ولا ينقض هذا التّأْويل(3).
وقال في «الإستبصار»:
فالوجه في هذا الخبر أن نحمله على ضرب من الاستحباب ولا ينافی ذلك(4).
ص: 55
ص: 56
وقال ابن قدامة:
إنّ العلماء أجمعوا علی استحباب الوضوء قبل الغُسل تأسياً برسول الله صلّی الله عليه وسلَّم، ولأنَّه أعون علی الغُسل وأهذب فيه(1).
وقال في بيان سيرة النّبیّ الأعظ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن أحمد:
الغُسل من الجنابة علی حديث عائشة وهو ما روی عنها قالت: «كان رسول الله صلّی الله عليه سلّم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثاً، وتوضّأ وضوئه للصّلاة، ثمّ يخلّل شعره بيده حتّی إذ أظنُّ أنّه قد أروی بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرّات، ثمّ غَسَلَ سائر جسده» متفق عليه، و روی أيضاً عن ميمونة: «وضع رسول الله صلّی الله عليه وسلّم وضوء الجنابة فأفرغ علی يديه فغسَّلهما مرّتين أو ثلاثاً، ثمّ أفرغ بيمينه علی شماله فغسل مذاكيره، ثمّ ضرب بيده الأرض أو الحائط مرَّتين أو ثلاثاً، ثمّ تمضمض واستنشقّ وغَسَلَ وجهه وذراعيه، ثمّ أفاض الماء علی رأسه، ثمّ غَسَلَ جسده، ثمّ تنحی عن مقامه ذلك فغَسَلَ رجليه، فأتيته بالمندليل فلم يردّها وجعل ينفض الماء بيديه»، ثمّ قال: (هذا الحديث وكذا حديث عائشة) متّفقٌ عليه، إلی أن حكی عن ماتن «المغنی»: وإن غسل مرَّةً وعمَّ بالماء رأسه وجسده ولم يتوضَّأ أجزأه بعد أن يتمضمض ويستنشقُّ وينوی به الغُسل والوضوء وكان تاركاً للإختيار(2).
وقال الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة»:
الحنابلة عدّوا سنن الغُسل كما يأتی: الوضوء قبله ...، والحنفيَّة عدّوا سنن الغُسل كالآتی: ...، وأن يتوضّأ قبله كوضوء الصّلاة ...،
ص: 57
والشّافعيّة عدّوا سنن الغسل كالآتی: التّسمية مقرونة بنيّة الغسل ...، والوضوء كاملاً قبله(1).
وحيث إنّ العامّة افتوا بكون الوضوء مندوباً قبل الغُسل حمل الشّيخ الحرّ العاملی رحمه الله صحيحة أبی بكر الحضرمیّ الدّالّة علی الوضوء قبل الغُسل من الجنابة علی التّقيّة، حيث قال: هذا محمول علی التقية.
ثمّ إنّه قد دلّت علی ترجيح كون الوضوء في غير الجنابة مقدّماً علی الغُسل الأخبار الواردة في الأبواب المختلفة الّتي كان الغُسل فيها واجباً أو مندوباً، منها مصححة ابْنِ أَبِی عُمَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «كُلُّ غُسْلٍ قَبْلَهُ وُضُوءٌ إِلَّا غُسْلَ الْجَنَابَةِ»(2)، وخبر الْكُلَيْنِیُّ وَ رُوِیَ: «أَنَّهُ لَيْسَ شَیْ ءٌ مِنَ الْغُسْلِ فِيهِ وُضُوءٌ إِلَّا غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ قَبْلَهُ وُضُوءاً»(3)، وخبر عَلِیِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ الْأَوَّلِ علیه السلام قَالَ: «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَغْتَسِلَ لِلْجُمُعَةِ فَتَوَضَّأْ وَاغْتَسِلْ»(4)، وخبر يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «إِذَا أَرَدْتَ زِيَارَةَ قَبْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام فَتَوَضَّأْ وَاغْتَسِلْ، وَامْشِ عَلَى هَيْئَتِكَ» الحديث (5)، ومرسلة بَشِيرٍ الدَّهَّانِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «مَنْ أَتَاهُ يَعْنِی الْحُسَيْنَ علیه السلام فَتَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ مِنَ الْفُرَاتِ، لَمْ يَرْفَعْ قَدَماً
ص: 58
وَلَمْ يَضَعْ قَدَماً إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِذَلِكَ حَجَّةً وَعُمْرَةً»(1)، هذا مع ما مرّ من الرّوايات في الطّائفة الرّابعة مثل موثقة سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(2)، وخبر عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(3)، ومرفوعة الْمُحَقِّقِ في الْمُعْتَبَرِ عَنِ الصَّادِقِ علیه السلام قَالَ: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»(4).
ثمّ إنّه لو تردّد للمكلّف أمر أراد الإحتياط بالجمع بين الغُسل والوضوء في الجنابة، كما إذا لم يستبرأ من جنابته بالبول فيما إذا كانت جنابته بلإنزال، وخرج منه بعد غُسله بلل يشتبه كونه بولاً أو منيّاً، فحيث دار أمره بين وجوب الغُسل أو الوضوء، فمن جانب يجب عليه الفراغ اليقينی بالغُسل والوضوء بعده معاً، ومن جانب آخر عدم مشروعيّة الوضوء له إذا كان الخارج منيّاً، فالأحوط له حينئذ أن ينقض غُسله الجديد بناقض ثمّ يتوضّأ بعده، إليه أشار السيّد رحمه الله صاحب «العروة» حيث قال:
في الموارد الّتي يكون الإحتياط في الجمع بين الغُسل والوضوء، الأولى أن ينقض الغسل بناقض من مثل البول ونحوه ثمّ يتوضأ لأنّ
ص: 59
الوضوء مع غسل الجنابة غير جائز، والمفروض احتمال كون غسله غسل الجنابة (1).
قد عرفت سقوط الوضوء مع غُسل الجنابة بل كونه غير مشروع معها، والبحث هنا بناءً علی اجتماع أغسال أخر معها (سواء كان جميعها مستحبّاً، أو بعضها واجباً وبعضها الأخری مستحبّاً)، وجواز فعلها بغُسل واحد كما ثبت في محلّه(2)، في أنّه هل يسقط الوضوء هنا كما يسقط فيما لو كانت الجنابة وحدها أم لا؟
والجواب أمّا أنّه علی القول بأنّ كفاية الغُسل عن الوضوء غير مختصّة بالجنابة بل يعمّ سائر الأغسال الواجبة، أو الواجبة والمستحبّة فواضح، أمّا لو قلنا بأنّ كفايته عن الوضوء مختصّة بها، فإنّه يقع الكلام في أنّه هل يسقط الوضوء أيضاً كما يسقط فيما لو كانت الجنابة وحدها أم لا؟
والظاهر بل المتعيّن كما استظهره النراقی رحمه الله سقوطه حينئذ، وذلك لإطلاق دليل عدم جواز الوضوء معها (3) صورتي وجود غسل آخر معها وعدمه.
ص: 60
وإن شئت قلت: إنّ تحقّق غير الجنابة معها غير ضار لكفايتها عن الوضوء، وكونه غير مشروع حينئذ.
قال النراقی رحمه الله :
وهل يسقط الوضوء - علی القول بوجوبه لغير غسل الجنابة - إذا جعل الجنابة مع غيرها غسلاً واحداً؟ الظاهر نعم، بل هو الظاهر من الجميع، لتحقّق غسل الجنابة المجزي عن الوضوء، ولا ينافيه تحقّق غيره. وقال والدی رحمه الله : الظاهر وجوب الوضوء، لصدق الاسمين، فتتعارض أدلّة وجوبه وعدمه، فيحصل التساقط، وتبقی أدلّة عموم الوضوء.
وفيه: أنّ غير غسل الجنابة لا يوجب بنفسه الوضوء، بل لا يسقط معه الوضوء، فهو لا يعارض المسقط إذا تحقّق(1).
ص: 61
قد عرفت أنّ مختارنا هنا هو تعميم كفاية الغُسل عن الوضوء إلی جميع الأغسال الواجبة والمندوبة الّتي ثبت استحبابه بالدّليل المعتبر لابمثل التّسامح في أدلّة السّنن، فعلينا أن نبحث عن عددها ومصاديقها في المقام.
لا يقال: إنّه قد اشتهر بين الأصحاب القول بالتّسامح في أدلّة السّنن لما ورد في بعض الأحاديث بأنّ «من بلغه شیءٌ من الثّواب كان له أجر ذلك»(1)، منها صحيحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام، حَيثُ قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ شَیْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَعَمِلَهُ، كَانَ أَجْرُ ذَلِكَ لَهُ وإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لَمْ يَقُلْهُ»(2).
لأنّا نقول: إنّ المراد بأحاديث «من بلغه شیءٌ من الثّواب كان له أجر ذلك» كما هو ظاهر، هو أنّ الله تبارك وتعالی يعطی ذلك الثّواب لعبده من باب التفضّل والإحسان، لا أن يثبت بذلك أنّه في عالم الواقع والثبوت أيضاً محكوم بالاستحباب وإن لم يدلّ عليه دليلٌ معتبرٌ شرعاً كما يشعر بذلك قوله علیه السلام: «وإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لَمْ يَقُلْهُ»، ولا أقلّ من الشّك فنتمسّك لنقيه بالبراءة.
وإن شئت قلت: إنّ الإستحباب حكم من الأحكام التكليفيّة الخمسة، يعتبر فيه ما يعتبر في سائر الأحكام الإلزاميّة من الوجوب والحرمة من لزوم اثباته بالدّليل المعتبر الشّرعی وإلا لم يثبت به شیء من الاستحباب ولا لوازمه، قد صرّح بذلك ابن إدريس الحلي رحمه الله في مقام الرّد علی إثبات الإستحباب بأدلّة التّسامح في أدلّة السّنن، حيث قال:
ص: 62
الّذی يقوی في نفسی واعتقده وأفتی به وأعمل عليه أنّ شغل الذّمّة بواجب أو مندوب يحتاج إلی دليل شرعی لأنّ الأصل برائة الذّمّة(1).
إذا عرفت ذلك فيجب علينا أن نبحث عن مصاديق تلك الأغسال، لا سيّما بملاحظة أنّ الأصحاب قد اختلفوا في عددها وكمّيتها، أنهاها بعض إلی مأة، وهی عند العامّة بين ثلاثة إلی ستة عشر، قال النراقی رحمه الله في «مستنده»:
وهی (الأغسال المسنونة) كثيرة جداً، وعن النفليّة أنّها خمسون، وذكر بعض الأجلّة منها نيفاً وستّين(2).
وقال السيّد صاحب «العروة»:
الأغسال المندوبة وهی كثيرةٌ، وعدّ بعضهم سبعاً وأربعين، وبعضهم أنهاها إلی خمسين، وبعضهم إلی أزيد من ستّين، وبعضهم إلی سبع وثمانين، وبعضهم إلی مأة، وهی أقسام: زمانيّة ومكانيّة وفعليّة؛ إمّا للفعل الّذی يريد أن يفعل، أو للفعل الّذی فعله. والمكانيّة أيضاً في الحقيقة فعليّة، لأنّها إمّا للدخول في مكان، أو للكون فيه(3).
وقال السيّد مهدی البحر العلوم رحمه الله في «المصابيح»:
والأغسال المندوبة المذكورة هنا ...، تقرب من مائة، وهذا الجمع من خواصّ هذا الكتاب، والثابتة من هذه الأغسال بالنصّ أو غيره أكثر من ثمانين غسلاً(4).
ص: 63
وقال عبد الرّحمن الجزيری:
قد عرفت ممّا قدمناه لك في «موجبات الغسل» الأمور الّتي توجب الغسل وتجعله فرضاً لازماً، وهناك أمور يسنّ من أجلها الغسل أو يندب ...، المالكية قالوا: الاغتسالات المسنونة ثلاثة: ...، والحنفية قالوا: إنّ الاغتسالات المسنونة أربعة...، والشّافعية قالوا: إن الاغتسالات غير المفروضة كلها سنة إذا لا فرق بين المندوب والسّنة عندهم، وهی كثيرة ...، والحنابلة حصروا الاغتسالات المسنونة في ستة عشر غسلاً(1).
وكيف كان حيث كان عدد الأغسال مختلفة غير متفقة عند الأصحاب نبحث عن كلّ ما قيل أو اشتهر كونها دلّت عليها الأدلّة المعتبرة بصورة مستقلّة، وقد أشار في «العروة» أنّها علی أقسام ثلاثة: الزّمانيّة، والمكانيّة، والفعليّة، وأنّ المكانيّة منها أيضاً ترجع إلی الفعليّة.
لاريب عندنا في رجحانها وقد ادّعی عليه في «الجواهر» شهرة الأصحاب شهرةً كادت تكون إجماعاً، وفی «العروة» عدّ رجحانها من الضروريّات، وهی كذلك عند العامّة إلا أنّ بعضاً منهم يجعلونها مندوبة لمن يريد صلاتها، فهی بناءً علی ذلك تكون من الأغسال الفعليّة لا الزّمانيّة، وكيف كان هی من الأغسال المندوبة الّتي لا تصل إلی حدّ الوجوب، قال الشّيخ رحمه الله في «النّهاية»:
ومن السّنن اللازمة، الغسل يوم الجمعة علی النّساء والرّجال والعبيد والأحرار، في السّفر والحضر مع التّمكن من ذلك، ووقت الغسل من طلوع الفجر إلی زوال الشّمس وكلّما قرب من الزّوال كان أفضل، فإنزالت الشّمس ولم يكن قد اغتسل قضاه بعد الزّوال، فإن
ص: 64
لم يمكنه قضاه يوم السّبت، فإن كان في سفر وخاف ألا يجد الماء يوم الجمعة أو لا يتمكن من استعماله جاز له أن يغتسل يوم الخميس(1).
وقال في «الخلاف» وأشار فيه إلی أقوال العامّة أيضاً:
غسل الجمعة والأعياد مستحب، وبه قال جميع الفقهاء، وذهب أهل الظّاهر داود وغيره إلى أنّه واجب، وروی ذلك عن كعب الأحبار، دليلنا: على ذلك: إجماع الفرقة، وأمّا الوجوب فالأصل براءة الذمة، وشغلها بواجب يحتاج الى دليل.
وقال في مبحث صلاة الجمعة منه:
غسل يوم الجمعة سنة مؤكّدة وليس بواجب، وبه قال الشّافعی ومالك وأبو حنيفة وأصحابه، وقال الحسن البصری وداود: واجب، دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضاً الأصل براءة الذمة، وإيجاب ذلك يحتاج الى دليل، وروی عن ابن عباس وابن مسعود أنّهما قالا: «غسل يوم الجمعة مسنون»، وروى زرارة عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سألته عن غسل يوم الجمعة قال: «سنة في السّفر والحضر الا أن يخاف المسافر على نفسه القر»(2).
وفی «الجواهر»:
علی المشهور بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعاً، بل هی كذلك لا نقراض الخلاف فيه علی تقديره، بل لم تعرف حكايته فيه بين من تقدّم من أصحابنا كالمفيد، بل ظاهره عدمه في المقنعة حيث قال:
ص: 65
وأمّا الأغسال المسنونة فغسل يوم الجمعة سنّةٌ للرّجال والنّساء، وغسل الإحرام سنّةٌ أيضاً بلا اختلاف(1).
وقال الإمام الرّاحل قدس سره:
غسل الجمعة، وهو من المستحبات المؤكّدة، حتّى قال بعض بوجوبه، ولكنّ الأقوى استحبابه، ووقته من طلوع الفجر الثّانی إلى الزّوال، وبعده إلى غروب الجمعة، ومن أوّل يوم السّبت إلى آخره قضاء، ولكنّ الأحوط فيما بعد الزّوال الى غروب الجمعة أن ينوی القربة من غير تعرض للأداء والقضاء، وأمّا في ليلة السّبت ففی مشروعية إتيانه تأمّل لا يترك الاحتياط بإتيانه فيه رجاء، ويجوز تقديمه يوم الخميس إذا خاف إعواز الماء يوم الجمعة، ثمّ إن تمكّن منه يومها قبل الزّوال لا بعده يستحب إعادته، وإن تركه حينئذ يستحب قضاؤه بعد الزّوال منها ويوم السبت، ولو دار الأمر بين التّقديم والقضاء فالأوّل أولى، وفی إلحاق ليلة الجمعة بيوم الخميس تأمّل، فالأحوط إتيانه رجاء، كما أنّ في إلحاق مطلق الأعذار بإعواز الماء يوم الخميس وجهاً، لكنّ الأحوط تقديمه حينئذ رجاء(2).
وقال ابن رشد القرطبی:
اختلفوا في طهر الجمعة، فذهب الجمهور إلی أنّه سنّة، وذهب أهل الظّاهر إلی أنّه فرضٌ، ولا خلاف فيما أعلم أنّه ليس شرطاً في صحّة الصّلاة(3).
ص: 66
وقال عبد الرّحمن الجزيری:
قد عرفت ممّا قدمناه لك في «موجبات الغسل» الأمور الّتي توجب الغسل وتجعله فرضاً لازماً، وهناك أمور يسنّ من أجلها الغسل أو يندب ...، المالكية قالوا: الاغتسالات المسنونة ثلاثة: أحدها: غسل الجمعة لمصلّيها، ولو لم تلزمه ويصحّ بطلوع الفجر والاتّصال بالذّهاب إلى الجامع، فإن تقدّم على الفجر أو لم يتصل بالذّهاب إلى الجامع لم تحصل السّنة فيعيده لتحصيلها ...، والحنفية قالوا: إنّ الاغتسالات المسنونة أربعة، وهی الغسل يوم الجمعة لمن يريد صلاتها فهو للصّلاة لا لليوم، ولو اغتسل بعد صلاة الفجر، ثمّ أحدث فتوضأ وصلّى الجمعة لم تحصل السّنة ...، والشّافعية قالوا: إن الاغتسالات غير المفروضة كلها سنة إذا لا فرق بين المندوب والسّنة عندهم، وهی كثيرة: منها غسل الجمعة لمن يريد حضورها، ووقته من الفجر الصّادق إلى فراغ سلام إمام الجمعة، ولا تسنّ إعادته وإن طرأ بعده حدث ...، والحنابلة حصروا الاغتسالات المسنونة في ستة عشر غسلاً، وهی الغسل لصلاة جمعة يريد حضورها في يومها إذا صلّاها»(1).
وقد ورد في فضل هذا الغُسل روايات كثيرة رواها الفريقين، منها:
1 - صحيحة مَنْصُور بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام حَيثُ قَالَ: «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الرِّجَالِ والنِّسَاءِ في الْحَضَرِ، وعَلَى الرِّجَالِ في السَّفَرِ»(2).
2 - صحيحة زُرارَةَ عَن أَبی جَعْفَرٍ علیه السلام: «لَا تَدَعِ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ، وشَمَّ الطِّيبَ، والْبَسْ صَالِحَ ثِيَابِكَ، ولْيَكُنْ فَرَاغُكَ مِنَ الْغُسْلِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِذَا زَالَتْ فَقُمْ، وعَلَيْكَ السَّكِينَةَ والْوَقَارَ»، وقَالَ: «الْغُسْلُ وَاجِبٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ»(3) .
ص: 67
3 - صحيحة الْحُسَيْن بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَوَّلَ علیه السلام كَيْفَ صَارَ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِباً؟ فَقالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَتَمَّ صَلَاةَ الْفَرِيضَةِ بِصَلَاةِ النَّافِلَةِ، وأَتَمَّ صِيَامَ الْفَرِيضَةِ بِصِيَامِ النَّافِلَةِ، وأَتَمَّ وُضُوءَ النَّافِلَةِ بِغُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، مَا كَانَ في ذَلِكَ مِنْ سَهْو أَو تَقْصِيرٍ أَو نِسْيَانٍ أَو نُقْصَانٍ».
ثمّ قال الشّيخ الحرّ العاملی صاحب «الوسائل» في ذيل الحديث:
أقول: في هذا قرينة واضحة علی أنّ المراد بالوجوب الاستحباب المؤكد، لأنّ إتمام وضوء النافلة ليس بواجب ولا لازم، كيف وإتمام الصّلاة والصيام الواجبين هنا ليس بواجب للقطع بعدم وجوب صوم النّافلة وصلاة النّافلة(1).
4 - صحيحة الْحَسَن بْنِ عَلِیِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَخِيهِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَلِیِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام عَن الْغُسْلِ في الْجُمُعَةِ والْأَضْحَى والْفِطْرِ، فَقالَ: «سُنَّةٌ ولَيْسَ بِفَرِيضَةٍ»(2).
5 - صحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام حَيثُ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: «سُنَّةٌ في السَّفَرِ والْحَضَرِ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْمُسَافِرُ عَلَى نَفْسِهِ الْقُرَّ»(3).
6 - مُوثَّقة عَمَّارٍ السَّابَاطِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَن الرَّجُلِ يَنْسَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى صَلَّى؟ فَقالَ: «إِنْ كَانَ في وَقْتٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ ويُعِيدَ الصَّلَاةَ، وإِنْ مَضَى الْوَقْتُ فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ»(4).
ص: 68
7 - موثَّقة الْحَسَن بْنِ عَلِیِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام حَيثُ قالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ فَاتَهُ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقالَ: «يَغْتَسِلُ مَا بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّيْلِ، فَإِنْ فَاتَهُ اغْتَسَلَ يَوْمَ السَّبْتِ»(1).
8 - ما رواه الصّدوق رحمه الله في «الهداية» عَن الإمامِ الصَّادِقِ علیه السلام: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى الرِّجَالِ والنِّسَاءِ في السَّفَرِ والْحَضَرِ»، ورُوِیَ أَنَّهُ رُخِّصَ في تَرْكِهِ لِلنِّسَاءِ في السَّفَرِ لِقِلَّةِ الْمَاءِ، والْوُضُوءُ فِيهِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَقالَ الإمامُ الصَّادِقُ علیه السلام: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ طَهُورٌ وكَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الذُّنُوبِ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ»(2).
9 - ما روی في «الْجَعْفَرِيَّات»: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنِی مُوسَى حَدَّثَنَا أَبِی عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ علیه السلام قَالَ: كَانَ عَلِیُّ علیه السلام يَقُولُ: «مَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ أَو لِعِلَّةٍ مَانِعَةٍ»(3).
10 - ما رواه في «البحار» بإسناده عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا علیه السلام: كَيْفَ صَارَ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِباً عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعَبْدٍ وذَكَرٍ وأُنْثَى؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى تَمَّمَ صَلَوَاتِ الْفَرَائِضِ بِصَلَوَاتِ النَّوَافِلِ، وتَمَّمَ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِصِيَامِ النَّوَافِلِ، وتَمَّمَ الْحَجَّ بِالْعُمْرَةِ، وتَمَّمَ الزَّكَاةَ بِالصَّدَقَةِ، وتَمَّمَ الْوُضُوءَ بِغُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ»(4).
11 - ما رواه أَبُو الْبَخْتَرِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ علیه السلام عَنِ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِیٍّ علیه السلام في وَصِيَّةٍ لَهُ: «يَا عَلِیُّ عَلَى النَّاسِ في كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ الْغُسْلُ، فَاغْتَسِلْ
ص: 69
يَوْمَالْجُمُعَةِ ولَو أَنَّكَ تَشْتَرِی الْمَاءَ بِقُوتِ يَوْمِكَ وتَطْوِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَیْ ءٌ مِنَ التَّطَوُّعِ أَعْظَمُ مِنْهُ»(1).
12 - ما رواه العلامة المجلسی رحمه الله في «البحار» بإسناده عَنِ السَّكُونِیِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»(2) .
13 - خبر زُرارَة عَن الإمامِ الصَّادِقِ علیه السلام: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ طَهُورٌ وكَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الذُّنُوبِ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ»(3).
14 - خبرمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ دُوَيْلِ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِی وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنّهُ قَالَ: «مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ واجْعَلْنِی مِنَ التَّوَّابِينَ واجْعَلْنِی مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ، كَانَ طُهْراً لَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ»(4).
15 - خبر أَنَسٍ عَن رَسُولِ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قالَ: «لَمَّا أُسْرِیَ بِی إِلَى السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ رَأَيْتُ تَحْتَ الْعَرْشِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَدِينَةٍ كُلُّ مَدِينَةٍ كَدُنْيَاكُمْ، ومَلَائِكَةً نَاشِرِي أَجْنِحَتِهِمْ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ ويُهَلِّلُونَهُ، ويَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلَّذِينَ يَحْضُرُونَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلَّذِينَ يَغْتَسِلُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ»(5).
ص: 70
16 - روی في كتاب (الْعَرُوسِ) لِلشَّيْخِ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الْقُمِّیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنّهُ قالَ: «اغْتَسِلْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَرِيضاً تَخَافُ عَلَى نَفْسِكَ»، وقالَ علیه السلام: «لَا يَتْرُكُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ إِلَّا فَاسِقٌ، ومَنْ فَاتَهُ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَلْيَقْضِهِ يَوْمَ السَّبْتِ»(1) .
17 - مرسلة مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّكُمْ
تَأْتُونَ غَداً مَنْزِلًا لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ فَاغْتَسِلُوا الْيَوْمَ لِغَدٍ، فَاغْتَسَلْنَا يَوْمَ الْخَمِيسِ لِلْجُمُعَةِ»(2).
18 - روی الشيخ رحمه الله بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أُمِّهِ وَأُمِّ أَحْمَدَ ابْنَةِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ قَالَتَا: كُنَّا مَعَ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام بِالْبَادِيَةِ وَنَحْنُ نُرِيدُ بَغْدَادَ فَقَالَ لَنَا يَوْمَ الْخَمِيسِ: «اغْتَسِلَا الْيَوْمَ لِغَدٍ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ الْمَاءَ بِهَا غَداً قَلِيلٌ، فَاغْتَسَلْنَا يَوْمَ الْخَمِيسِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ»(3).
19 - روی ابن عمر عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «إذا جَاءَ أحَدَكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ وَلْيَسْتَنْظِف»(4).
20 - روی ابن عباس عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُؤسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُباً، وَمَسُّوا مِنَ الطِّيبِ»(5).
21 - روی ابن مسعود عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ»(6).
ص: 71
22 - روی أبو سعيد وأبو هريرة وأنس عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «مَنْ أتَی الْجُمُعَةَ فَتَوَضَّأ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلٌ»(1).
23 - روی أبو أمامة: إنَّ رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قام في أصحابه ذات يوم فقال: «اغْتَسِلُوا
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةٌ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ»(2).
أقول: وهذه الرّوايات كما تری وصرّح بها أيضاً الشّيخ الحُرّ العاملی رحمه الله في ذيل صحيحة الحسين بن خالد المتقدمة لم تكن بحدّ يمكن أن نستظهر منها الوجوب، بل بعضها ظاهرةٌ وبعضها الأخری صريحةٌ في أنّ غسل الجمعة من السّنن المؤكدة الّتي لا ينبغی تركها اختياراً.
ص: 72
لا نری خلافاً بين الفريقين في استحباب غُسل العيدين الفطر والأضحی، بل ادعی عليه الإجماع عن غير واحد منهم: الشّيخ في «الخلاف»، والمحقّق في «المعتبر»(1)، والعلامة في «التّذكرة»(2)، وثانی الشّهيدين في «روض الجنان»(3)، والسيّد الطّباطبائی في «الرياض»(4)، والنّراقی في «المستند».
قال الشّيخ رحمه الله في «الخلاف»:
غسل الجمعة والأعياد مستحبٌ، وبه قال جميع الفقهاء، وذهب أهل الظّاهر داود وغيره إلى أنّه واجب، و روی ذلك عن كعب الأحبار، دليلنا: على ذلك إجماع الفرقة، وأمّا الوجوب فالأصل براءة الذّمة، وشغلها بواجب يحتاج الى دليل(5).
وقال النّراقی رحمه الله في «مستنده»:
ومنها (الأغسال المسنونة): غُسل عيد الفطر وغسل للأضحى، بالإجماعين، والمستفيضة من النّصوص الّتي تقدّم بعضها، و وقتهما بعد طلوع الفجر بالإجماع(6).
وقال المحقق الهمدانی رحمه الله في «المصباح»:
ومنها (الأغسال المسنونة): الغُسل الفطر والأضحى بلاخلاف فيه ظاهراً بل عن جماعة دعوی الإجماع عليه، ويدلّ عليه أخبارٌ كثيرةٌ (7).
ص: 73
وقال السيّد اليزدی رحمه الله في «العروة»:
الثّالث (من الأغسال المندوبة الزّمانيّة): غُسل يومي العيدين: الفطر والأضحى. وهو من السُّنن المؤكّدة، حتّى أنّه ورد في بعض الأخبار: «أنّه لو نسی غسل يوم العيد حتّى صلّى إن كان في وقت فعليه أن يغتسل ويعيد الصّلاة، وإن مضى الوقت فقد جازت صلاته»، وفی خبر آخر عن غُسل الأضحى، فقال علیه السلام: «واجب إلّا بمنى»، وهو منزّل على تأكّد الاستحباب، لصراحة جملة من الأخبار في عدم وجوبه(1).
وقد استدلّوا علی استحباب ذلك بأخبار مستفيضة بل متواترة (2) منها: صحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَحِينَ تُحْرِمُ، وَحِينَ تَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ تَزُورُ الْبَيْتَ، وَحِينَ تَدْخُلُ الْكَعْبَةَ، وَفِی لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً»(3).
وموثَّقة سَمَاعَةَ عَن أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : «... وَغُسْلُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَغُسْلُ يَوْمِ الْأَضْحَى سُنَّةٌ لَا أُحِبُّ تَرْكَهَا» الحديث(4).
وما رواه الحسن بن راشد عن جدّه الحسن بن راشد قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَغْفِرَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ لَيْلَةَ
ص: 74
الْقَدْرِ؟فَقَالَ: «يَا حَسَنُ إِنَّ الْقَارِيجَارَ(1) إِنَّمَا يُعْطَى أُجْرَتَهُ عِنْدَ فَرَاغِهِ وَذَلِكَ لَيْلَةُ الْعِيدِ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا يَنْبَغِی لَنَا أَنْ نَعْمَلَ فِيهَا؟ فَقَالَ: إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَاغْتَسِلْ» الْحَدِيثَ (2).
ومرفوعة أَبِی عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «صَلَاةُ الْعِيدِ يَوْمَ الْفِطْرِ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ نَهَرٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَهَرٌ قَصَدْتَ بِنَفْسِكَ اسْتِيفَاءَ الْمَاءِ بِتَخَشُّعٍ، وَلْيَكُنْ غُسْلُكَ تَحْتَ الظِّلَالِ، أَوْ تَحْتَ حَائِطٍ، وَتَسْتَتِرُ بِجُهْدِكَ» الْحَدِيثَ(3) .
وهو أنّ الأخبار الواردة في فضيلة الغُسل في العيدين كما تری بين كونه واقعاً في نهاريهما، وما يكون في ليلتيهما، ومطلقات، فنقيّد الأخيرة بقرينة الرّوايات المتظافرة الّتي تصرّح بكونه واقعاً في يوميهما بعد أنّ ما يستفاد منها أنّه لليلتيهما منحصرة في خبر الحسن بن راشد(4) الّذی في طريقه القاسم بن يحيی ولم يثبت له توثيق عند غالب علماء الرّجال، بل وضعّفه غير واحد، منهم ابن الغضائری(5)، وابن داود(6)، والعلامة (7)، بعد ما عرفت من تصريح بعض علی أنّ وقتها بعد طلوع الفجر، بل ادّعی عليه الإجماع في «المستند» حيث قال:
ص: 75
ومنها (الأغسال المسنونة) غسل عيد الفطر وغسل للأضحی، بالإجماعين، والمستفيضة من النصوص الّتي تقدّم بعضها، ووقتهما بعد طلوع الفجر، بالإجماع، وعدم الصّدق، وخبر علیّ(1).
فالقول بوقوعه في النّهار ممّا لا ريب فيه، ويؤيّده ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ في «قُرْبِ الْإِسْنَادِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ جَدِّهِ عَلِیِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ هَلْ يُجْزِيهِ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، هَلْ يُجْزِيهِ ذَلِكَ مِنْ غُسْلِ الْعِيدَيْنِ؟ قَالَ: «إِنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنِ اغْتَسَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ»(2).
ص: 76
قد ادّعی استحباب أغسال ليالی الإفراد من شهر رمضان وتمام العشر الثالثة منه واستحباب غسل آخر في آخر ليلة الثّالثة والعشرين منه، قال النراقی رحمه الله :
ومنها (الأغسال المسنونة): أحد وعشرون غسلاً في شهر رمضان: خمسة عشر للّيالی المفردة، وخمسة لسائر الليالی من العشر الأخير، وواحد آخر لثلاث والعشرين، ويأتی تفصيل المستند في الجميع في كتاب الصيام إن شاء الله(1).
وقال السيّد صاحب «العروة»:
الثّانی: من الأغسال الزّمانية أغسال ليالی شهررمضان، يستحبّ الغُسل في ليالی الإفراد من شهر رمضان وتمام ليالی العشر الأخيرة، ويستحبّ في ليلة الثّالث والعشرين غسل آخر في آخر الّليل، وأيضاً يستحبّ الغُسل في اليوم الأوّل منه، فعلى هذا الأغسال المستحبّة فيه اثنان وعشرون، وقيل: باستحباب الغُسل في جميع لياليه حتّى ليالی الأزواج، وعليه يصير اثنان وثلاثون، ولكن لادليل عليه، لكنّ الإتيان لاحتمال المطلوبية في ليالی الأزواج من العَشرَين الأوليين لابأس به، والآكد منها ليالی القدر، وليلة النّصف، وليلة سبعة عشر، والخمس وعشرين، والسّبع وعشرين، والتّسع وعشرين منه(2).
أقول: لم نقف علی استحباب جميع ما ذكروه من استحباب أغسال لياليه إفراداً أو أفرداً علی نصّ معتبر، والّذی ثبت استحبابه عندنا منها سبعةٌ بل ستّة:
1 و2 و3 و4): أغسال لياليه الثلاثة: التّاسعة عشر، وإحدی وعشرين، واثنين غُسل في الثّالثة وعشرين: مرّة في أوّلها ومرّة أخری في آخرها، وقد دلّت عليها
ص: 77
أخبار مستفيضة بل متواترة مثل صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا علیهما السلام قَالَ: «الْغُسْلُ في ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: في تِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَأُصِيبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام في لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقُبِضَ في لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، قَالَ: وَالْغُسْلُ في أَوَّلِ اللَّيْلِ وَهُوَ يُجْزِی إِلَى آخِرِهِ»(1)، وصحيحة سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام كَمْ أَغْتَسِلُ في شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةً؟ قَالَ: «لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَلَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ» الْحَدِيثَ(2)، واستدلّ لذلك أيضاً بصحيحة معاوية بن عمّار(3)، وصحيحة محمّد بن مسلم(4)، وصحيحة الفضل بن شاذان(5)، وصحيحتي عبدالله بن سنان(6)، وصحيحة محمّد بن مسلم(7)، وموثّقة محمّد بن مسلم(8)، وموثّقة زرارة(9)، وموثّقة بكير بن أعين(10)، وموثّقة عبدالله بن بكير(11)، وخبر الأعمش(12).ث
ص: 78
مّ إنّه قد استدلوا لاستحباب تكرير الغسل في آخر ليلة الثّالثة والعشرين بموثقة بل مصحّحة بريد بن معاوية العجلی حيث قال: «رَأَيْتُهُ اغْتَسَلَ في لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَمَرَّةً مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ»(1)، وإضماره مع ظهور أنّ المروی عنه هو الإمام علیه السلام غير قادح، لاسيّما مع رواية السيّد ابن طاوس في «الإقبال»(2) عنه أيضاً مستنداً له إلى الصادق علیه السلام، زائداً علی أنّه من القوّالون بالصّدق ومن أوتاد الأرض وأعلام الدّين فيما رواه الكشّی في ترجمته حيث قال:
حدّثنا: الحسين بن الحسن بن بندار القمّیّ، قال: حدّثنی سعد بن عبد اللّه بن أبی خلف القمّیّ، قال: حدّثنی محمّد بن عبد اللّه المسمعیّ، قال: حدّثنی علیّ بن حديد وعلیّ بن أسباط، عن جميل بن درّاج، قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول: «أَوْتَادُ
الْأَرضِ وَأَعْلَامُ الدِّينِ أَرْبَعَةٌ: مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَبُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَلَيْثُ بْنُ الْبَخْتَرِیِّ الْمُرَادِیُّ وَزُرَارَةُ بْنُ أَعْيَنَ».
ثمّ قال: وبهذا الإسناد: عن محمّد بن عبد اللّه المسمعی، عن علیّ بن أسباط، عن محمّد بن سنان، عن داود بن سرحان، قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول: «إِنِّی لَأُحَدِّثُ الرَّجُلَ بِحَدِيثٍ وَأَنْهَاهُ عَنِ الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ في دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْهَاهُ عَنِ الْقِيَاسِ فَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِی فَيَتَأَوَّلُ حَدِيثِی عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، إِنِّی أَمَرْتُ قَوْماً أَنْ يَتَكَلَّمُوا وَنَهَيْتُ قَوْماً، فَكُلٌّ يَتَأَوَّلُ لِنَفْسِهِ يُرِيدُ الْمَعْصِيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ، فَلَوْ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا لَأَوْدَعْتُهُمْ مَا أَوْدَعَ أَبِی علیه السلام أَصْحَابَهُ، إِنَّ أَصْحَابَ أَبِی علیه السلام كَانُوا زَيْناً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً، أَعْنِی زُرَارَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ وَمِنْهُمْ لَيْثٌ الْمُرَادِیُّ وَبُرَيْدٌ الْعِجْلِیُّ،
ص: 79
هَؤُلَاءِالْقَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ هَؤُلَاءِ الْقَوَّالُونَ بِالصِّدْقِ هَؤُلَاءِ (السّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)»(1).
غاية الأمر مع ذلك كلّه أنّ الحديث كما تری حكاية فعل عنه علیه السلام، فلا يستفاد منه تعميم الحكم، لاحتمال وقوعه منه مرّة، وبه بطل الاستدلال، نعم لامانع من فعله بقصد الرجاء، فلا يكفی به عن الوضوء.
5): ليلة السّابع عشر منه وقد تدلّ عليها صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا علیهما السلام قَالَ: «الْغُسْلُ في سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْطِناً: لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهِیَ لَيْلَةُ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَلَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَفِيهَا يُكْتَبُ الْوَفْدُ وَفْدُ السَّنَةِ، وَلَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِیَ اللَّيْلَةُ الّتي أُصِيبَ فِيهَا أَوْصِيَاءُ الْأَنْبِيَاءِ علیهم السلام وَفِيهَا رُفِعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ علیه السلام وَقُبِضَ مُوسَى علیه السلام، وَلَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ يُرْجَى فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَيَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ، وَإِذَا دَخَلْتَ الْحَرَمَيْنِ، وَيَوْمِ تُحْرِمُ، وَيَوْمِ الزِّيَارَةِ، وَيَوْمِ تَدْخُلُ الْبَيْتَ، وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِذَا غَسَّلْتَ مَيِّتاً أَوْ كَفَّنْتَهُ أَوْ مَسِسْتَهُ بَعْدَ مَا يَبْرُدُ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ فَرِيضَةٌ، وَغُسْلُ الْكُسُوفِ إِذَا احْتَرَقَ الْقُرْصُ كُلُّهُ فَاغْتَسِلْ»(2)، وصحيحة محمّد بن مسلم(3)، ويؤيّده مرفوعة محمّد بن علیّ بن الحسين(4)، وخبر الأعمش(5).
ص: 80
6): ليلة الأولی منه وقد تدلّ عليها موثّقة سَمَاعَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: «وَاجِبٌ في السَّفَرِ وَالْحَضَرِ إِلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ في السَّفَرِ لِقِلَّةِ الْمَاءِ، وَقَالَ: غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ وَاجِبٌ، وَغُسْلُالِاسْتِحَاضَةِ وَاجِبٌ إِذَا احْتَشَتْ بِالْكُرْسُفِ فَجَازَ الدَّمُ الْكُرْسُفَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَغُسْلُ النُّفَسَاءِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الْمَوْلُودِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الْمُحْرِمِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الزِّيَارَةِ وَاجِبٌ إِلَّا مِنْ عِلَّةٍ، وَغُسْلُ دُخُولِ الْبَيْتِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ دُخُولِ الْحَرَمِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَدْخُلَهُ إِلَّا بِغُسْلٍ، وَغُسْلُ الْمُبَاهَلَةِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ الِاسْتِسْقَاءِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مُسْتَحَبٌّ، وَغُسْلُ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سُنَّةٌ، وَغُسْلُ لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سُنَّةٌ لَا تَتْرُكْهَا لِأَنَّهُ يُرْجَى في إِحْدَاهُنَّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَغُسْلُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَغُسْلُ يَوْمِ الْأَضْحَى سُنَّةٌ لَا أُحِبُّ تَرْكَهَا، وَغُسْلُ الِاسْتِخَارَةِ يُسْتَحَبُّ»(1)، ويؤيّده مرفوعة عَلِیُّ بْنُ مُوسَى بْنِ طَاوُسٍ في كِتَابِ الْإِقْبَالِ قَالَ: رَوَى ابْنُ أَبِی قُرَّةَ في كِتَابِ عَمَلِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ في أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْهُ»(2).
7): ليلة أربعةٌ وعشرون منه وقد دلّت عليه ذيل ما رواه الصّدوق رحمه الله في «الخصال» في صحيحة محمّد بن مسلم عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام: وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِیُّ: قَالَ لِی أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «اغْتَسِلْ في لَيْلَةِ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَعْمَلَ في اللَّيْلَتَيْنِ جَمِيعاً»(3).
ص: 81
سند الصّدوق رحمه الله إلی عبد الرّحمن بن أبی عبدالله البصریّ في «الفقيه» متشكل من أبيه رحمه الله عن سعد بن عبدالله القمّی، عن أيّوب بن نوح، عن محمّد بنأبی عمير، عن عبد الرّحمن بن أبی عبدالله(1) وكلّهم ثقات، ومن البعيد أن يكون مشيخة الصّدوق رحمه الله إلی عبد الرّحمن بن أبی عبدالله البصریّ مختصّاً بالفقيه بل الظّاهر أنّه كذلك في سائركتبه أيضاً، فيثبت به استحباب الغُسل في ليلة أربعة وعشرين من شهر رمضان ويغنی به عن الوضوء أيضاً.
وأمّا ما يُقال من استحباب الغُسل في اللّيالی المفردة (2)، وكذلك في العشر الأخيرة منه في جميع لياليه(3)، أو اللّيلة النّصف من شهر رمضان(4)، أو أوّل يوم
ص: 82
منه(1) ، فلم يدلّ عليها نصّ معتبر، وعليه لاينبغی للإكتفاء به عن الوضوء إلّا للإتيان به بقصد الرّجاء.
إنّ زمان الغسل في اللّيالی المباركة في شهر الصّيام هوتمام اللّيل وإن كان الأولی إتيانه أوّل اللّيل، بل قبل الغروب، قال السيّد رحمه الله في «العروة»:
وقت غسل الليالی تمام اللّيل وإن كان الأولى إتيانها أوّل اللّيل، بل الأولى إتيانها قبل الغروب أو مقارناً له ليكون على غسل من أول اللّيل إلى آخره، نعم لايبعد في ليالی العشر الأخير رجحان إتيانها بين المغرب والعشاء لما نقل من فعل النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، وقد مرّ أنّ الغسل الثانی في ليلة الثالثة والعشرين في آخره(2).
استدلّ علی ذلك بصحيحة عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ اللَّيْلَةِ الّتي يُطْلَبُ فِيهَا مَا يُطْلَبُ مَتَى الْغُسْلُ؟ فَقَالَ: «مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَإِنْ شِئْتَ حَيْثُ تَقُومُ مِنْ آخِرِهِ، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْقِيَامِ؟ فَقَالَ: تَقُومُ في أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ»(3)، وصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا علیهما السلام أَنَّهُ قَالَ: «تَغْتَسِلُ في ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْغُسْلُ في أَوَّلِ اللَّيْلِ وَهُوَ يُجْزِی إِلَى آخِرِهِ»(4)، وصحيحة
ص: 83
زُرَارَةَ وَالْفُضَيْلِ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «الْغُسْلُ في شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ وُجُوبِ الشَّمْسِ قُبَيْلَهُ(1)، ثُمَّ تُصَلِّی، وَتُفْطِرُ»(2).فمقتضی قوله علیه السلام: «مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَإِنْ شِئْتَ حَيْثُ تَقُومُ مِنْ آخِرِهِ» في صحيحة عيص بن القاسم، أنّ المكلّف مخيّر في إتيان غسله في اللّيالی المذكورة في كلّ ساعة منها، وذلك لأنّ الزّمان لوكان زائداً علی عمل ولم يدل دليل من ناحية الشّارع علی إرادته تكرار العمل من جانب المكلّف، هوحمل دليل الفعل علی تخيير المكلّف في أجزاء ذلك الزّمان، وبه يحمل ما ظاهره اختصاص الغُسل بأوّل اللّيل أو قبل الغروب في صحيحتي محمّد بن مسلم وزرارة وفضيل، بأفضليّة وقوعه في تلك الأزمنة.
ص: 84
قد ادّعی النّراقی رحمه الله إجماع الأصحاب بقسميه علی استحباب الغُسل ليوم عرفة(1)، وقد دلّت علی استحبابه فيهما صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيهِمَا السَّلامُ قَالَ: «الْغُسْلُ في سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْطِناً: لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهِیَ لَيْلَةُ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ...، وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ» الحديث(2)، وموثَّقة سَمَاعَةَ عَن أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «...، وَغُسْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَاجِبٌ» الحديث (3).
قد وقع الخلاف بين الأصحاب في أنّه ما المراد بالمباهلة الّتي دلّت علی استحباب غسله موثّقة سماعة بن مهران عن أبی عبدالله علیه السلام: «وَغُسْلُ الْمُبَاهَلَةِ وَاجِبٌ»(4)؟ هل المراد بالمباهلة فيها، هو يوم باهل النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مع نصاری نجران، بتقدير اليوم أی غسل يوم المباهلة وهو اليوم الرّابع والعشرون أو الخامس والعشرون من ذی الحجّة، أو المراد بها الغُسل لنفس المباهلة؟ بناءً علی أنّ الأصل عدمه، فيكون من الأغسال الفعليّة لا الزّمانيّة، قال الشيخ الأنصاری رحمه الله :
ص: 85
والمراد بالوجوب الاستحباب المؤكد، والمراد بالمباهلة فيها وفی معقد إجماع الغنية يومها، كما فهمه الأصحاب علی ما اعترف به في محكیّ الحدائق، لا لإيقاع المباهلة(1).
وقال المحقق الهمدانی رحمه الله وقد أشار فيه إلی خلاف المجلسی رحمه الله :
والمراد بالمباهلة فيها - على الظّاهر- ليس إلّا يومها ولو بقرينة فتوى الأصحاب، لكن يحتمل قويّا إرادة الغُسل لفعل المباهلة، كما عن جماعة من المتأخّرين استظهاره، بل عن الحدائق أنّ في بعض الحواشی المنسوبة إلى المولى محمّد تقی المجلسی رحمه الله مكتوباً على الحديث المشار إليه ما صورته: «ليس المراد بالمباهلة اليوم المشهور حيث باهل النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مع نصارى نجران، بل المراد به الاغتسال لإيقاع المباهلة مع الخصوم في كلّ حين، كما في الاستخارة، وقد وردت بذلك رواية صحيحة في الكافی، وكان ذلك مشتهراً بين القدماء، كما لا يخفى» انتهی(2).
والتحقيق يقتضی أنّه إذا جاء الاحتمال لم يصحّ الاستناد إلی إطلاق الحديث لإثبات الحكم في شیء منهما بعد عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب، نعم لو أراد شخص فعل المباهلة يوم المباهلة، فإنّه يستحب له حينئذ غسله بلا ريب ويكفيه عن الوضوء حينئذ.
ص: 86
قد استدلّ الأصحاب علی استحباب الغُسل في تلك اللّيلة المباركة بالإجماع وبما وردت فيه من الأخبار،قال المحقق الهمدانی رحمه الله :
ومنها (الأغسال المسنونة) ليلة النّصف من شعبان بلاخلافٍ فيه، كما في الجواهر، بل عن الغنية دعوی الإجماع عليه(1).
واحتجّوا عليه بموثّقة أَبِی بَصِيرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «صُومُوا
شَعْبَانَ وَاغْتَسِلُوا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْهُ، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ»(2)، مؤيّدة بمرفوعة سَالِمٍ مَوْلَى أَبِی حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «مَنْ تَطَهَّرَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَأَحْسَنَ الطُّهْرَ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مُصَلَّاهُ فَصَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ إلی أن قال: قَضَى اللَّهُ لَهُ ثَلَاثَ حَوَائِجَ، إِمَّا في عَاجِلِ الدُّنْيَا أَوْ في آجِلِ الآخِرَةِ، ثُمَّ إِنْ سَأَلَ أَنْ يَرَانِی مِنْ لَيْلَتِهِ يَرَانِی»(3).
قال في «الجواهر»:
علی المعروف بين الأصحاب كما نسبه إليهم غير واحد، بل فی«التّهذيب» و«الغنية» و«الرّوض» الإجماع عليه، وهو الحجّة(4).
واستدلّوا عليه برواية عَلِیِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْعَبْدِیِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «صِيَامُ يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ يَعْدِلُ صِيَامَ عُمُرِ الدُّنْيَا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَنْ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ يَغْتَسِلُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَزُولَ مِقْدَارَ نِصْفِ سَاعَةٍ، إِلَى أَنْ قَالَ:
ص: 87
عَدَلَتْ عِنْدَ اللَّهِ مِائَةَ أَلْفِ حَجَّةٍ، وَمِائَةَ أَلْفِ عُمْرَةٍ، وَمَا سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا وَحَوَائِجِ الْآخِرَةِ إِلَّا قُضِيَتْ كَائِنَةً مَا كَانَتِ الْحَاجَة» الْحَدِيثَ(1)، وبما رواه السيّد بن طاوس في «الإقبال» عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَ فِيهِ فَضْلَ يَوْمِ الْغَدِيرِ إِلَى أَنْ قَالَ: «فَإِذَا كَانَ صَبِيحَةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَجَبَ الْغُسْلُ في صَدْرِ نَهَارِهِ»(2).
والحديثان وإن كانا ضعيفين بعدم توثيق بل جهالة أكثر رواتهما عند علماء الرّجال، لكنّه حيث كانا مفتی بهما عند الأصحاب فينجبر به ضعفهما، ويمكن أن نكتفی بهذا الغسل عن الوضوء.
ثمّ إنّه قد ذكر أغسال لأيّام من رجب وهی أوّله و وسطه وآخره ويوم السّابع والعشرين منه وهو يوم المبعث، وليوم المولود وهو السّابع عشر من ربيع الأوّل، ويوم النّيروز، ويوم التّاسع من ربيع الأوّل، ويوم دحو الأرض وهو الخامس والعشرين من ذی القعدة، وكلّ ليلة من ليالی الجمعة بل وكلّ زمان شريف(3)، لكنّه حيث لم يدلّ علی استحباب تلك الأغسال دليل معتبر فلا يجوز أن نكتفی بها عن الوضوء إلا أن نأتی بها بقصد الرجاء والمطلوبيّة.
ص: 88
إنّه قد ورد الأمر بالإغتسال لدخول حرمي مكة والمدينة، ولدخول في مدينة مكة المكرمة وفی الكعبة المعظّمة ومسجد النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في عدّة من الرّوايات المعتبرة، قال النّراقی رحمه الله :
الأغسال المتعلّقة بالأمكنة وهی سبعة أغسال: لدخول الحرم، ومكة، والمسجد الحرام، والكعبة، والمدينة، ومسجد النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وحرمه، كما يأتی في كتاب الحجّ، والغُسل لدخول كلّ مشهد من مشاهد الأئمة:، كما يأتی في باب المزار، ولكلّ مكان شريف، ذكره الإسكافی(1).
واستدلّوا علی ذلك بروايات منها: صحيحة معاوية بن عمّار عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ...، وَحِينَ تَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ ...، وَيَوْمَ تَزُورُ الْبَيْتَ وَحِينَ تَدْخُلُ الْكَعْبَةَ» الحديث(2).
وموثّقة سَمَاعَةَ عَن أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «...، وَغُسْلُ دُخُولِ الْبَيْتِ وَاجِبٌ، وَغُسْلُ دُخُولِ الْحَرَمِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَدْخُلَهُ إِلَّا بِغُسْلٍ» الحديث(3)، وفی ذيل صحيحة محمّد بن مسلم: «وَإِذَا دَخَلْتَ الْحَرَمَيْنِ وَيَوْمِ تُحْرِمُ وَيَوْمِ الزِّيَارَةِ وَيَوْمِ تَدْخُلُ الْبَيْت»(4).
ص: 89
وموثّقة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ...، وَحِينَ تَدْخُلُ الْحَرَمَ، وَإِذَا أَرَدْتَ (دُخُولَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِذَا أَرَدْتَ) دُخُولَ مَسْجِدِ الرَّسُول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ » الحديث(1)، وفی طريقها وإن كان «القاسم بن عروة» الّذی لم يثبت له توثيق، إلّا أنّه لم يرد فيه قدحٌ أيضاً، زائداً علی أنّه كان من المعاريف، صاحب روايات كثيرة، روی عن كثير، و روی عنه كثيرون منهم ابن أبی عمير الّذی أجمع الأصحاب علی تصحيح ما يصحّ عنه وأقرّوا له بالفقه وكونه ممّن لا يروی ولا يرسل إلا عن الثّقة(2)، فنقول أنّه ثقة أيضاً، قال السيّد الخوئی رحمه الله في تعريفه:
وقع بهذا العنوان في أسناد كثير من الرّوايات تبلغ مائة وخمسة وعشرين مورداً، فقد روى عن أبی بصير، وأبی جميلة، وأبی السفاتج، وأبی العباس، وأبی العباس البقباق، وابن بكير، وأبان بن عثمان، وإسحاق بن عمار، وبريد بن معاوية، وبريد العجلی، وزرارة، وعبد الحميد، وعبد الحميد الطائی، وعبد الله، وعبد الله بن بكير، وعبد الله بن سنان، وعبيد، وعبيد بن زرارة، وعبيد الله وعمران ابني علی الحلبيين، والفضل البقباق أبی العباس، والفضل بن عبد الملك أبی العباس، وهشام بن سالم. وروى عنه ابن أبی عمير، وابن فضال، وأحمد بن أبی عبد الله عن أبيه، وإسماعيل بن سهل، والحسن، والحسن بن علیّ، والحسين، والحسين بن سعيد، والعباس، والعباس بن معروف، وعلیّ بن مهزيار، ومحمّد بن خالد، ومحمّد بن خالد
ص: 90
البرقی، ومحمّد بن سعيد، ومحمّد بن عبد الله بن زرارة، ومحمّد بن عيسى، وهارون بن مسلم، والبرقی(1).
وأمّا الغسل لدخول المسجد الحرام، وكذا كلّ مشهد من مشاهد الأئمة: فلم نری فيما بأيدينا من الأخبار والرّوايات ما يدلّ علی ذلك إلّا من باب فحوی ثبوته لدخول مكة والمدينة ومسجد النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، نعم قد ورد الأمر بالغسل لزيارة أميرالمؤمنين وغيره من الأئمة: كما سنبحث عنه في القسم الأغسال الفعليّة، لكنّه غير الغسل لأجل الدّخول في تلك الأمكنة المشرفة.
أمّا الأغسال الفعليّة:
وهی علی قسمين: الأوّل: ما يكون مستحبّاً لأجل فعل الّذی يريد أن يفعله المكلّف فيما بعد، والثانی: ما يكون مستحبّاً لأجل فعل الّذی فعله فيما مضی، وقد ذكروا لكلّ منهما أغسالاً، أشار إليهما المحقّق رحمه الله إجمالاً حيث قال:
وسبعةٌ للفعل: وهی غسل الإحرام، وغسل زيارة النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمة علیهم السلام ، وغسل المفرط في صلاة الكسوف مع احتراق القرص إذا أراد قضاءها على الأظهر، وغسل التّوبة سواء كان عن فسق أو كفر، وصلاة الحاجة، وصلاة الاستخارة (2).
وقد أضاف إليها السيّد في « العروة »(3) أغسالاً اُخر، وكيف كان فأمّا ما تكون من قبيل الأوّل فما دلّت عليها الأدلّة المعتبرة، فهي:
ص: 91
لا خلاف في مشروعيّة الغسل للإحرام نصّاً وفتوی، وادّعی الفريقين الإجماع علی استحبابه غير أنّه عند أهل الظاهر منهم واجب، والأخبار الدالّة عليه متواترةٌ جدّاً (1) والعجب من صاحب الجواهر كيف عبّر عنها بأنّها كادت تكون متواترة؟!(2)، قال العلامة رحمه الله :
يستحب له الغسل إذا أراد الإحرام من الميقات وليس بواجب إجماعاً، ولا فرق بين الذّكر والأنثى، والحرّ والعبد، والبالغ وغيره، ويجوز تقديم الغسل على الميقات إذا خاف عوز الماء فيه ما لم ينم أو يمضی عليه يوم وليلة، ولو وجد الماء في الميقات استحب إعادة الغسل، ويجزی غسل اليوم لذلك اليوم وغسل اللّيلة لها ما لم ينم، فإن نام قبل عقد الإحرام أو لبس مخيطاً، أو أكل ما لا يحلّ للمحرم أكله استحب له إعادة الغسل(3).
وحكی ابن القدامة عن ابن المنذر:
أجمع أهل العلم أنّ الإحرام جائزٌ بغير اغتسال(4).
وقال ابن رشد القرطبی:
واتّفق جمهور العلماء علی أنّ الغسل للإهلال سنّة، وأنّه من أفعال المحرم حتّی قال ابن نوار: إنّ هذا الغسل للإهلال عند مالك أوكد من
ص: 92
غسل الجمعة، وقال أهل الظاهر: هو واجب، وقال أبوحنيفة والثوری: يجزیء منه الوضوء، وحجّة أهل الظاهر مرسل مالك من حديث أسماء بنت عميس أنّها ولدت محمّد بن أبی بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبوبكر لرسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فقال: «مرها فلتغتسل ثمّ لتهلّ» والأمر عندهم علی الوجوب. وعمدة الجمهور: أنّ الأصل هو براءة الذمّة حتّی يثبت الوجوب بأمر لا مدفع فيه(1).
قد استدلّ الأصحاب علی ذلك بروايات، منها: صحيحة معاوية بن عمَّار عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَحِينَ تُحْرِمُ» الحديث(2)، وصحيحة عبدالله بن سنان عنه علیه السلام: «إِنَّ الْغُسْلَ في أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْطِناً: غُسْلُ الْمَيِّتِ وَغُسْلُ الْجُنُبِ إلی أن قال: وَغُسْلُ الْإِحْرَامِ» الحديث(3)، وموثّقة سَمَاعَةَ عنه علیه السلام أيضاً: «وَغُسْلُ الْمُحْرِمِ وَاجِبٌ» الحديث(4).
وكذا ما دلّ علی لزوم إعادته لو بطل المكلّف غسله قبل عقد إحرامه كصحيحة النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ الكاظِمِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ لِلْإِحْرَامِ ثُمَّ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ؟ قَالَ: «عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْغُسْلِ»(5)، وصحيحة
ص: 93
عَلِیِّ بْنِ أَبِی حَمْزَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ اغْتَسَلَ لِلْإِحْرَامِ ثُمَّ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ؟ قَالَ: «عَلَيْهِ
إِعَادَةُ الْغُسْلِ»(1)،سياق الرّوايات واقتران بعضها مع بعض يشهد علی شدّة استحبابه، ففی صحيحة عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ لِلْإِحْرَامِ بِالْمَدِينَةِ وَيَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ؟ قَالَ: «لَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ»(2)، أی ليس عليه غسل واجب، لكونه نصّاً علی عدم الوجوب.
وقد عبّر عنه بغسل الزّيارة ولعّله لأنّ زيارة البيت طوافه، قد استدلّ عليه بأخبار منها: صحيحة معاوية بن عمَّار عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَحِينَ تُحْرِمُ، وَحِينَ تَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ تَزُورُ الْبَيْتَ» الحديث(3)، وصحيحة الفضل بن شاذان عَنِ الرِّضَا علیه السلام في كِتَابٍ كَتَبَهُ إِلَى الْمَأمُونِ: «وَغُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ، وَغُسْلُ الْعِيدَيْنِ، وَغُسْلُ دُخُولِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَغُسْلُ الزِّيَارَةِ، وَغُسْلُ الْإِحْرَامِ، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَلَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَلَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذِهِ الْأَغْسَالُ سُنَّةٌ، وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ فَرِيضَةٌ وَغُسْلُ الْحَيْضِ مِثْلُهُ»(4)، وموثّقة سماعة: «وَغُسْلُ الزِّيَارَةِ وَاجِبٌ إِلَّا مِنْ عِلَّةٍ» الحديث(5).
ص: 94
والكلام في كون غُسل الطّواف واجباً، كالكلام في غُسل الإحرام فلا نعيد.
إنّ النّاظر في الأخبار الكثيرة المتواترة الواردة في كيفيّة زيارات النّبیّ الأعظم والأئمة المعصومين علیهم السلام لاسيّما مثل الرّواية المشهورة الواردة بعنوان الزيارة الجامعة الّتي يزار بها كلّ إمام، يطمئنّ بأنّ من أهمّ آداب ومقدمات زيارتهم الغسل، وإن لم يرد نصّ عليه في خصوص زيارة بعضهم، زائداً علی دعوی الشّهرة بل الإجماع عليه، قال المحقق الهمدانی رحمه الله :
علی المشهور، بل عن «الغنية» دعوی الإجماع عليه، وعن «الوسيلة» عدّه في المندوب بلاخلاف، وعن «المصابيح» وغيره نسبته إلی قطع الأصحاب، وهو الحجّة في مثل المقام(1).
وكيف كان إنّه قد استدلّ علی ذلك بروايات منها: صحيحة مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِیِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِیِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِیِّ بْنِ مُوسَى علیه السلام: عَلِّمْنِی يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قَوْلًا أَقُولُهُ بَلِيغاً كَامِلًا إِذَا زُرْتُ وَاحِداً مِنْكُمْ، فَقَالَ: «إِذَا صِرْتَ إِلَى الْبَابِ فَقِفْ وَاشْهَدِ الشَّهَادَتَيْنِ وَأَنْتَ عَلَى غُسْلٍ، فَإِذَا دَخَلْتَ وَرَأَيْتَ الْقَبْرَ فَقِفْ وَقُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً، ثُمَّ امْشِ قَلِيلًا وَعَلَيْكَ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ وَقَارِبْ بَيْنَ خُطَاكَ ثُمَّ قِفْ وَكَبِّرِ اللَّهَ ثَلَاثِينَ مَرَّةً، ثُمَّ ادْنُ مِنَ الْقَبْرِ وَكَبِّرِ اللَّهَ أَرْبَعِينَ مَرَّةً تَمَامَ مِائَةِ مَرَّةٍ، ثُمَّ قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَوْضِعَ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ، وَمَعْدِنَ الرَّحْمَةِ، وَذَكَرَ الزِّيَارَةَ بِطُولِهَا(2)، وخبر يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ عَنْ أَبِی
ص: 95
عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «إِذَا أَرَدْتَ زِيَارَةَ قَبْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام فَتَوَضَّأْ، وَاغْتَسِلْ، وَامْشِ عَلَىهَيْئَتِكَ، وَقُلْ: ثُمَّ ذَكَرَ زِيَارَةً طَوِيلَةً(1)، ومرسلة الْعَلَاءِ بْنِ سَيَابَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في تَفسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قَالَ: «الْغُسْلُ عِنْدَ لِقَاءِ كُلِّ إِمَامٍ»(2) ، وخبر يُوسُفَ الْكُنَاسِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «إِذَا أَتَيْتَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ علیه السلام فَأْتِ الْفُرَاتَ وَاغْتَسِلْ بِحِيَالِ قَبْرِهِ، وَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ وَعَلَيْكَ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ حَتَّى تَدْخُلَ الْقَبْرَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِیِّ، وَقُلْ: وَذَكَرَ زِيَارَةً طَوِيلَةً(3)، وخبر أَبِی الصَّلْتِ الْهَرَوِیِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الرِّضَا علیه السلام فَدَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ قُمَّ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ وَقَرَّبَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «مَرْحَباً بِكُمْ وَأَهْلًا، فَأَنْتُمْ شِيعَتُنَا حَقّاً، يَأْتِی عَلَيْكُمْ زَمَانٌ تَزُورُونَ فِيهِ تُرْبَتِی بِطُوسَ،أَلَا فَمَنْ زَارَنِی وَهُوَ عَلَى غُسْلٍ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(4)، ومرفوعة مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ في «الْمِصْبَاحِ» قَالَ: رُوِیَ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وَقَبْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَقُبُورَ الْحُجَجِ: وَهُوَ في بَلَدِهِ فَلْيَغْتَسِلْ في يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ، وَلْيَخْرُجْ إِلَى فَلَاةٍ مِنَ الْأَرضِ، ثُمَّ يُصَلِّی أَرْبَعَ
ص: 96
رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِيهِنَّ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِذَا تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ فَلْيَقُمْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَلْيَقُلْ: السَّلَامُعَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِیُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِیُّ الْمُرْسَلُ، وَالْوَصِیُّ الْمُرْتَضَى، وَالسَّيِّدَةُ الْكُبْرَى، وَالسَّيِّدَةُ الزَّهْرَاءُ وَالسِّبْطَانِ الْمُنْتَجَبَانِ، وَالْأَولَادُ وَالْأَعْلَامُ وَالْأُمَنَاءُ الْمُسْتَخْزَنُونَ، جِئْتُ انْقِطَاعاً إِلَيْكُمْ وَإِلَى آبَائِكُمْ وَوَلَدِكُمُ الْخَلَفِ عَلَى بَرَكَةِ الْحَقِّ، فَقَلْبِی لَكُمْ سِلْمٌ وَنُصْرَتِی لَكُمْ مُعَدَّةٌ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بِدِينِهِ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لَا مَعَ عَدُوِّكُمْ، إِنِّی لَمِنَ الْقَائِلِينَ بِفَضْلِكُمْ، مُقِرٌّ بِرَجْعَتِكُمْ، لَا أُنْكِرُ لِلَّهِ قُدْرَةً، وَلَا أَزْعُمُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، سُبْحَانَ اللَّهِ ذِی الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، يُسَبِّحُ اللَّهَ بِأَسْمَائِهِ جَمِيعُ خَلْقِهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَرْوَاحِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ»، قَالَ: وَفِی رِوَايَةٍ أُخْرَى: «افْعَلْ ذَلِكَ عَلَى سَطْحِ دَارِكَ»(1).
ص: 97
قال في «الجواهر»:
بلا خلاف أجده فيهما، بل في «الغنية» الإجماع عليهما، وفی «الوسيلة» من المندوب بلا خلاف، وفی «المعتبر» مذهب الأصحاب، و«الرّوض» أنّه عمل الأصحاب، وعن «التّذكرة» عند علمائنا(1).
وقد استدلّ عليهما بموثّقة سماعة: «وَغُسْلُ
الِاسْتِخَارَةِ يُسْتَحَبُّ»(2)، وخبر مُقَاتِلِ بْنِ مُقَاتِلٍ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا علیه السلام: جُعِلْتُ فِدَاكَ عَلِّمْنِی دُعَاءً لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، فَقَالَ: «إِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ مُهِمَّةٌ فَاغْتَسِلْ وَالْبَسْ أَنْظَفَ ثِيَابِكَ وَشَمَّ شَيْئاً مِنَ الطِّيبِ، ثُمَّ ابْرُزْ تَحْتَ السَّمَاءِ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ تَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ فَتَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ فَتَقْرَأُ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تُتِمُّهَا عَلَى مِثَالِ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ غَيْرَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، فَإِذَا سَلَّمْتَ فَاقْرَأْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَسْجُدُ فَتَقُولُ في سُجُودِكَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ لَدُنْ عَرْشِكَ إِلَى قَرَارِ أَرْضِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ سِوَاكَ فَإِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ اقْضِ لِی حَاجَةَ كَذَا وَكَذَا السَّاعَةَ السَّاعَةَ، وَتُلِحُّ فِيمَا أَرَدْتَ»(3)، وخبر الصَّقْرِ بْنِ دُلَفَ قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدِی عَلِیَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِیٍّ الرِّضَا علیه السلام يَقُولُ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَلْيَزُرْ قَبْرَ جَدِّیَ الرِّضَا علیه السلام بِطُوسَ وَهُوَ عَلَى غُسْلٍ وَلْيُصَلِّ عِنْدَ رَأْسِهِ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَسْأَلِ اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ في قُنُوتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ مَأْثَماً أَوْ قَطِيعَةَ رَحِمٍ، إِنَّ مَوْضِعَ قَبْرِهِ
ص: 98
لَبُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ الْجَنَّةِ، لَا يَزُورُهَا مُؤْمِنٌ إِلَّا أَعْتَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النَّارِ، وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْقَرَارِ»(1).
قال في «الجواهر»:
ولعلّه يدخل في صلاة الحاجة ما ذُكر من الغُسل لصلاة الاستسقاء، لما في «الغنية» من الإجماع عليه(2).
وقد استدلّ عليه بموثّقة سماعة عن الصّادق علیه السلام: «وَغُسْلُ الِاسْتِسْقَاءِ وَاجِبٌ»(3)، قال الشّيخ آقا رضا الهمدانی رحمه الله بعد نقله الرّواية:
والمراد به الاستحباب المؤكد، إذ لا قائل بوجوبه علی الظّاهر، بل قد عرفت غير مرّة عدم ظهور هذه الرّواية في إرادة الوجوب بالمعنی المصطلح(4).
ومن القسم الثّانی أی الأغسال الّتي يستحب لأجل الفعل الّذی كان فعله في القبل:
ص: 99
من الأغسال المندوبة عندنا غسل تارك صلاة الكسوف أو الخسوف إذا تركهما متعمّداً إذا أراد قضاءهما، بل قيل بوجوبه للأخبار الواردة اللآمرة به لو احترق القرص كلّه، بل ادّعی عليه الإجماع، والأقوی عندی وجوبه حينئذ للأخبار أوّلاً وشهرتها بين القدماء ثانياً (1)، ولاأقلّ من كونه أحوطاً، قال الشّيخ في «الخلاف»:
من ترك صلاة الكسوف كان عليه قضاؤها، وإن كان قد احترق القرص
كلّه وتركها متعمداً كان عليه الغسل وقضاء الصّلاة، ولم يوافق على ذلك أحدٌ من الفقهاء، دليلنا: إجماع الفرقة(2).
وقال المحقق الهمدانی قدس سره :
و(من الأغسال المسنونة) غسل المفرّط في صلاة الكسوف أو الخسوف بأن تركهما متعمّداً مع احتراق القرص كلّه إذا أراد قضاءها علی الأظهر الأشهر بل المشهور سيّما بين المتأخّرين، كما في طهارة شيخنا المرتضی رحمه الله ، بل عن الغنية الإجماع عليه.
ثمّ قال بعد ما ذكر الأخبار الدّالة عليه:
وظاهر هذه الأخبار بأسرها وجوبه، كما حكی القول به عن صلاة المقنعة والمراسم والمهذّب ومصباح الشّيخ وجمله والمبسوط والخلاف والإقتصاد والكافی والوسيلة وشرح الجمل للقاضی والصّدوقين، نصّاً في بعضها وظهوراً في الباقی، ومال إليه في محكیّ المنتهی والمدارك، بل عن الشّيخ في الخلاف الإجماع علی أنّ من ترك
ص: 100
صلاة الكسوف مع احتراق القرص فعليه الغسل والقضاء، وعن شرح الجمل للقاضی: وأمّا لزوم القضاء فالدليل عليه الإجماع، وطريق براءة الذمّة، وكذلك القول في الغسل، ولذلك كلّه اختاره صريحاً بعض متأخّري المتأخّرين، إلا أنّ المحكی عن أكثر هؤلاء التصريح بالاستحباب(1).
وكيف كان إنّه قد استدلّ عليه بصحيحة محمّد بن مسلم: «الْغُسْلُ في سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْطِناً، إلی أن قال: وَغُسْلُ الْكُسُوفِ إِذَا احْتَرَقَ الْقُرْصُ كُلُّهُ فَاسْتَيْقَظْتَ وَلَمْ تُصَلِّ فَعَلَيْكَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتَقْضِیَ الصَّلَاةَ، وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ فَرِيضَةٌ»(2)، وصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ قَالَ: «الْغُسْلُ في سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْطِناً: إلی أن قال: وَغُسْلُ الْكُسُوفِ إِذَا احْتَرَقَ الْقُرْصُ كُلُّهُ فَاغْتَسِلْ»(3)، ومرسلة حَرِيزٍ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «إِذَا انْكَسَفَ الْقَمَرُ فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُصَلِّ فَلْيَغْتَسِلْ مِنْ غَدٍ وَلْيَقْضِ الصَّلَاةَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْقِظْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِانْكِسَافِ الْقَمَرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَضَاءُ بِغَيْرِ غُسْلٍ»(4)، وعن «فِقْهِ الرِّضَا علیه السلام »: «وَإِذَا احْتَرَقَ الْقُرْصُ كُلُّهُ فَاغْتَسِلْ، وَإِنِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ أَوِ الْقَمَرُ وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِ فَعَلَيْكَ أَنْ تُصَلِّيَهَا إِذَا عَلِمْتَ، فَإِنْ تَرَكْتَهَا مُتَعَمِّداً حَتَّى تُصْبِحَ فَاغْتَسِلْ فَصَلِّ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَرِقِ الْقُرْصُ فَاقْضِهَا وَلَا تَغْتَسِلْ»(5).
ص: 101
قد عدّ من الأغسال الفعليّة غسل التّوبة، بل ادّعی أنّه مذهب علمائنا أجمع، قال في «المصباح»:
(من الأغسال المسنونة) غسل التّوبة سواء كان عن فسق أو كفر علی المشهور، بل عن «المنتهی» أنّه مذهب علمائنا أجمع(1).
واستدلّوا عليه بصحيحة مَسْعَدَةَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی، إِنِّی أَدْخُلُ كَنِيفاً وَلِی جِيرَانٌ وَعِنْدَهُمْ جَوَارٍ يَتَغَنَّيْنَ وَيَضْرِبْنَ بِالْعُودِ فَرُبَّمَا أَطَلْتُ الْجُلُوسَ اسْتِمَاعاً مِنِّی لَهُنَّ، فَقَالَ علیه السلام: «لَا تَفْعَلْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا آتِيهِنَّ، إِنَّمَا هُوَ سَمَاعٌ أَسْمَعُهُ بِأُذُنِی، فَقَالَ علیه السلام: لِلَّهِ أَنْتَ، أَ مَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا)؟ فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ، لَكَأَنِّی لَمْ أَسْمَعْ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ عَرَبِیٍّ وَلَا مِنْ عَجَمِیٍّ، لَا جَرَمَ أَنِّی لَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَنِّی أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَاغْتَسِلْ وَصَلِّ مَا بَدَا لَكَ، فَإِنَّكَ كُنْتَ مُقِيماً عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، مَا كَانَ أَسْوَأَ حَالَكَ لَوْ مِتَّ عَلَى ذَلِكَ، احْمَدِ اللَّهَ، وَسَلْهُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكْرَهُ إِلَّا كُلَّ قَبِيحٍ، وَالْقَبِيحَ دَعْهُ لِأَهْلِهِ، فَإِنَّ لِكُلٍّ أَهْلًا»(2)، فإذا كان هذا حال الفاسق فاستحبابه للكافر بالأوليّة والفحوی، زائداً علی ما رواه العامة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه أمر قيس بن عاصم لمّا أسلم بالاغتسال بماء وسدر(3).
ص: 102
هذه أهمّ ما هی من الأغسال المسنونة الّتي دلّت عليها الأخبار المعتبرة، وأفتی بها الأصحاب.
إلی هنا تمّ بحمد الله والمنّة ما أردنا أن نبحث عنه في باب «الأغسال وكفايتها عن الوضوء وفروعاتها الأربعة المتعلّقة بها».
❊ ❊ ❊
ص: 103
ص: 104
ص: 105
المقالة الثانية: في مفهوم الوطن الأصلي والمُستجدّ ... الشرعي التعبديإنّ من شروط القصر للمسافر أن لا يقطع سفره في أثناء الطريق بأحد القواطع وإلا أتمّ، منها وصوله إلی وطنه وإن لم ينو فيه الإقامة العشرة الّتي توجب التمام عليه، أو مرّ به ولو آناًمّا فإنّه قاطع للسفر حقيقة، فلو تخلل في أثناء الثمانية مع العزم عليه من بدو الأمر فهو يوجب لعدم ثبوت القصر ابتداً ويصير السفر حينئذ سفرين ولكلّ منهما حكمه والمفروض قصور كلّ منهما عن مقدار المسافة المعتبرة، وكيف كان المسألة قد دلّت عليها الأخبار المستفيضة بل المتواترة معناً(1)، زائداً علی كونها محل اتفاق واجماع عند فقهاء الفريقين(2) وإن
ص: 106
اختلفوا موضوعاً في مفهوم الوطن من أنّه هل هو ما له فيه ملك مطلقاً وإن كان شجرة واحدة، سواء أقام فيه ستة أشهر أم لا، أو بشرط كونه منزله، أو زائداً عليهما استيطانه ستة أشهر، أو بشرط كون الستة في سنة واحدة أو في كلّ سنة، أو كفاية ما يصدق له فيه أنّه وطنه مطلقاً، أو ما يريد أن يقيم بها دائماً؟ إلی غيرها من تفاصيل وتفاسير.(1)
ثمّ إنّ الوطن قد يكون وطناً أصلياً وهو ما يكون محلّ ولادة الشخص ومحلّ إقامته واستقراره وموطن والديه من بدو الأمر وحين ولادته.
وأخری ما يكون وطناً اتخاذياَ مستجداً (2) و هو ما يتّخذه الإنسان مسكناً
ومقراً لتعيّشه من بعد ما هاجر من وطنه الأصلی.
والأخير قد قصده الإنسان للإستقرار والكون فيه دائماً الّذی يلازم عرفاً الإعراض عن وطنه الأصلی، وأخری لا يكون لذلك بل كان من قصده الرجوع
ص: 107
منه بعد مدّة معتدة بها، أو لا عزم له فعلاً لواحد من الرجوع أو البقاء، أو لم يلتفت إليه أصلاً لكنّه لم يصدق عليه حينئذ خلال إقامته فيه علی جميع هذه الفروض عنوان «المسافر» عرفاً بل يرجع إليه كلّما سافر منه لحاجة كما كان كذلك لمن اتّخذ هناك وطناً مؤبداً لنفسه من بدو الأمر أو من بعد ما هاجر من وطنه الأصلی.
ومنهم من قال بثبوت وطن ثالث يعبّرون عنه بالوطن الشرعی في قبال الوطنين الأصلی والمتّخذ من باب الحقيقة الشرعيّة والتنزيل الموضوعی والتصرف في عقد الوضع أو من باب التنزيل الحكمی التّعبدی والتصرف في عقد الحمل وسيأتی البحث عنه مفصّلاً في الفرع الثانی الآتی.
نبحث هنا إن شاء الله تعالی عن هذه المسألة وفروعاتها المرتبطة بالتّفصيل علی حسب مبانی الإستدلاليّة في الفقه الإماميّة مع الإذعان بكونها من المسائل الهامّة المبتلی بها لا سيّما في عصرنا و زماننا هذا، والّذی يجب أن ننبّه عليه قبل كلّ شیء أنّ الجواب عن هذه المسألة يدور حول أمرين رئيسيين هما:
الف: اثبات الوطن الشرعی
ب: هل ملاك الإتمام كونه غير مسافر أو كونه متوطّناً ؟
وكيف كان نقتفی في بحثنا رأی الإمام الراحل قدس سره فنذكر كلامه أوّلاً، ثمّ نعقّبه بذكر بعض أقوال فقهاء الفريقين الّتي وردت في المقام فإنّه رحمه الله ذكر المسألة وشرائطها، في طليعة مبحث «القول في قواطع السفر» من كتاب الصلاة من «تحرير الوسيلة» وفی المسألة الأولی منها حيث قال:
القول في قواطع السفر، وهی أمور: أحدها الوطن، فينقطع السفر بالمرور عليه، ويحتاج في القصر بعده إلى قصد مسافة جديدة سواء كان وطنه الأصلی ومسقط رأسه أو المستجدّ، وهو المكان الّذی اتخذه مسكناً ومقراً له دائماً، ولا يعتبر فيه حصول ملك ولا إقامة ستة أشهر،
ص: 108
نعم يعتبر في المستجدّ الإقامة فيه بمقدار يصدق عرفاً أنّه وطنه ومسكنه، بل قد يصدق الوطن بواسطة طول الإقامة إذا أقام في بلد بلا نية للإقامة دائماً ولا نية تركها.
مسألة 1: لو أعرض عن وطنه الأصلی أو المستجدّ وتوطّن في غيره فإن لم يكن له فيه ملك أو كان ولم يكن قابلاً للسكنى أو كان ولم يسكن فيه ستة أشهر بقصد التوطّن الأبدی يزول عنه حكم الوطنية، وأمّا إذا كان له ملك وقد سكن فيه ستة أشهر بعد اتخاذه وطناً دائماً أو كونه وطناً أصلياً فالمشهور على أنّه بحكم الوطن الفعلی، ويسمّونه بالوطن الشرعی، فيوجبون عليه التمام بالمرور عليه ما دام ملكه باقياً فيه، بل قال بعضهم بوجوب التمام إذا كان له فيه ملك غير قابل للسكنى ولو نخلة ونحوها، بل فيما إذا سكن ستة أشهر ولو لم يكن بقصد التوطّن دائماً بل بقصد التجارة مثلاً، والأقوى خلاف ذلك كلّه، فلا يجری حكم الوطن فيما ذكر كلّه، ويزول حكم الوطن مطلقاً بالاعراض، وإن كان الأحوط الجمع بين إجراء حكم الوطن وغيره فيها خصوصاً الصورة الأولى(1).
إنّ المباحث المطروحة في هذه المسألة وطليعتها يمكن إدراجها طیّ فروع خمسة آتية:
الأولی: تعريف «الوطن» عند أهل اللغة و فقهاء الفريقين.
الثانية: تقسيم الوطن إلی الأصلی، والمستجدّ أو الإتخاذی، والشرعی التعبّدی.
الثالثة: هل يعتبر في صدق عنوان «الوطن» أن يكون له فيه ملك؟
ص: 109
الرابعة: كيف يصدق الإعراض عن الوطن الأصلی والمستجدّ والشرعی التعبّدی؟
الخامسة: ما هو حكم عبادتی الصوم والصلاة لو تردّد في بقاء صدق عنوان «الوطن» و زواله، إذا مرّ به ولم ينو إقامة عشر أيّام؟
«الوطن» كفرس بالتحريك وقد يسكن علی وزن فلس لضرورة الشعر، واحد «الأوطان» وهو عند أهل اللغة: موطن الإنسان ومنزله ومسكنه الّذی يقيم به في الحال، و«الموطن» مفعل منه أی المكان الّذی قام به الإنسان، وجمعه المواطن كمسجد ومساجد ومنه قوله تعالی: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ في مَواطِنَ كَثيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْن)(1).
قال خليل بن أحمد الفراهيدی (م 175ه-) صاحب كتاب العين:
الوطن موطن الإنسان ومحلّه، وأوطان الأغنام: مرابضها الّتي تأوی إليها، ويقال: أوطن فلان أرض كذا، أی: اتخذها محلاً ومسكناً يقيم بها، والموطن كلّ مكان قام به الإنسان لأمر(2).
وقال أبوالحسين أحمد بن فارس بن زكريّا (م 395 ه-):
وطن: الواو والطاء والنون: كلمة صحيحة، فالوطن: محلّ الإنسان وأوطان الغنم: مرابضها، وأوطنتُ الأرض: اتخذتُها وطناً (3).
ص: 110
ص: 111
وقال ابن المنظور المصری (م 711 ه):
الوطن المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحلّه، وقد خفّفه رؤبة في قوله: أوطنتُ وطناً لم يكن وطنی لو لم تكن عاملها لم اسكن والجمع: أوطان، وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها الّتي تأوی إليها ...، والموطن مفعل منه وجمعه مواطن ...، وهی كلّ مقام قام به الإنسان لأمر فهو موطن له(1).
هذا تعريف «الوطن» عن منظر أرباب اللغة، وأمّا تعريفه عن منظر فقهاء الفريقين:
اختلف فقهاء الفريقين في تبيين معنی «الوطن» القاطع للسفر الّذی يوجب الإتمام والصيام بمجرد الوصول إليه ولو لم ينو فيه إقامة العشرة علی أقوال:
الأول: أنّه يكفی في صدق الوطن أن يكون له فيه ملك مطلقاً سواء كان منزلاً أو غيره ولو كان شجرة واحدة، وسواء أقام فيه ستة أشهر أم لا، فتوی الّذی نسبه في «المختلف» إلی ابن الجنيد الإسكافی رحمه الله (م 381 ه-) بأنّه قال:
من وجب عليه التقصير في سفر فنزل منزلاً أو قرية ملكها أو بعضها أتمّ وإن لم يقم المدة الّتي توجب التمام علی المسافر، وإن كان مجتازاً بها غير نازل لم يتمّ، وكذلك حكم منزل زوجة الرجل و ولده وأبيه وأخيه إن كان حكمه نافذاً فيه لا يزعجونه منه لو أراد المقام به(2).
ص: 112
وهو أيضاً خيرة العلامة الحلي (م 726 ه-) و زين الدّين بن علی العاملی المعروف بالشهيد الثانی (م 966 ه-) علی ما يظهر من فحوی كلامهما، فقال العلامة رحمه الله في «التذكرة»:
لو اتخذ بلداً دار إقامته كان حكمه حكم الملك وإن لم يكن له فيه ملك بحيث لو اجتاز عليه وجب عليه الإتمام فيه ما لم تغيّر نيّة الإقامة، ولو اتخذ بلدين فما زاد موضع إقامته كانا بحكم ملكه وإن لم يكن له فيهما ملك(1).
وقال الشهيد رحمه الله :
إذا اتّخذ الإنسان داراً وطناً على الدوام، فإنّه يشترط فيه إقامة ستّة أشهرٍ يصلّی فيها على التمام حتّى ينقطع سفره بالوصول إليه كالملك. وإذا تغيّرت النيّة أو زال الملك تغيّر الحكم(2).
ثمّ إنّ المستفاد من ابن قدامة الفقيه المعروف الحنبلی (م 620 ه-) إنّهم وإن قالوا في معنی الوطن ما سيأتی في القول السابع إلا أنّهم قد حكوا إجمالاً بالإتمام والصيام بمجرد الملك أو الضيعة حيث قال:
وإن مرّ في طريقه علی بلد له فيه أهل أو مال فقال أحمد في موضع: يتمّ، وقال في موضع: يتمّ إلا أن يكون مارّاً، وهذا قول ابن عباس، وقال الزهری: إذا مرّ بمزرعة له أتمّ، وقال مالك: إذا مرّ بقرية فيها أهله أو ماله
ص: 113
أتمّ إذا أراد أن يقيم بها يوماً وليلة، وقال الشافعی وابن المنذر: يقصّر ما لم يجمع علی إقامة أربع لأنّه مسافر لم يجمع علی أربع(1).
اللّهم إلا أن يقال إنّ كلام الإسكافی وكذلك العلامة والشهيد هنا لم يكن ناظراً لبيان معنی الوطن العرفی بل إنّهم كانوا في مقام بيان موجبات قواطع السفر منها الوطن وفی عرضه عندهم مطلق الملك كما أفتی به العامة، فعليه لم يكن قولهم هذا مخالفاً لما ذهب إليه سائر الفقهاء في معنی الوطن.
الثانی: أنّه يشترط في صدق الوطن الملك ومضی إقامة ستة أشهر بقصد التوطّن متوالية كانت الإقامة أو متفرقة، اختار هذا القول ظاهراً المحقق رحمه الله (م676 ه-) في «الشرائع» حيث قال:
والوطن الّذی يتمّ فيه هو كلّ موضع له فيه ملك قد استوطنه ستة أشهر فصاعداً متواليةً أو متفرقة(2).
ثم أضاف إليه المحقق العاملی رحمه الله في «المدارك» (م 1009 ه-) بقوله:
واطلاق العبارة يقتضی عدم الفرق في الملك بين المنزل وغيره، وبهذا التعميم جزم العلامة ومن تأخّر عنه حتّی صرّحوا بالإكتفاء في ذلك بالشجرة الواحدة واستدلوا عليه بما رواه الشيخ في الموثق عن عَمَّارِ بْنِ مُوسَى السَّابَاطِی عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في الرَّجُلِ يَخْرُجُ في سَفَرٍ فَيَمُرُّ بِقَرْيَةٍ لَهُ أَوْ دَارٍ فَيَنْزِلُ فِيهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا نَخْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَقْصُرْ، وَلْيَصُمْ إِذَا حَضَرَهُ الصَّوْمُ وَهُوَ فِيهَا»(3).
ص: 114
وكذا العلامة رحمه الله (م 726 ه- ) في كتابي الإرشاد والتبصرة فقال في «الإرشاد»:
يجب التقصير في الرباعيّة خاصّة بستة شروط: ...، الثالث: عدم قطع السفر بنيّة الإقامة عشرة فما زاد في الأثناء، أو بوصوله بلداً له فيه ملك استوطنه ستة أشهر فصاعداً(1).
وقال في «التبصرة»:
الشرط الثانی (من شرائط قصر الصلاة في السفر) أن لا ينقطع سفره ببلد له فيه ملك قد استوطنه ستة أشهر فصاعداً (2).
وهو أيضاً صريح الشيخ رحمه الله في «المبسوط» (م 460 ه-) حيث قال:
إذا سافر فمرّ في طريقه بضيعة له أو علی مال له أو كانت له أصهاراً و زوجة فنزل عليهم ولم ينو المقام عشرة أيام قصّر، وقد روی أنّه عليه التمام وقد بيّنّا الجمع بينهما وهو أنّ ما روی أنّه إن كان منزله أو ضيعته ممّا قد استوطنه ستة أشهر فصاعداً تمّم، وإن لم يكن استوطن ذلك قصّر(3).
وقال المحدث البحرانی رحمه الله في «الحدائق» (م 1186 ه-):
وقد وقع الخلاف هنا في ما ينقطع به السفر من مجرد الملك أو خصوص المنزل، فالمشهور بين المتأخّرين الإكتفاء بمجرد الملك ولو نخلة واحدة بشرط الإستيطان في تلك البلدة ستة أشهر، وذهب آخرون إلی اشتراط المنزل(4).
ص: 115
الثالث: أنّه يشترط في صدق الوطن أن يكون منزله مملوكاً مع إقامة الستة، فهو أخصّ من سابقه بإعتبار لزوم كون منزله مملوكاً، ممّن اختار هذا القول ابن إدريس الحلي رحمه الله (م 598 ه-) حيث قال:
من نزل في سفره قريةً أو مدينةً وله فيها منزل مملوك قد استوطنه ستة أشهر أتمّ وإن لم يقم المدّة الّتي توجب علی المسافر التمام، أو لم ينو المقام عشرة أيام، وإن لم يكن كذلك قصّر(1).
الرابع: يشترط في صدق الوطن أن يكون له فيه منزل مع استيطانه ستة أشهر في السنة، فهو أخصّ من سابقيه باعتبار الستة فإنّها فيهما مطلقة وهنا مقيدة بالسنة فلا تكفی الستة غير متوالية من سنتين أو سنين متعددة بخلافهما، لكنه ليس فيه تصريح بلزوم التوالی بين الستة في السنة أيضاً، هذا القول هو مذهب الصدوق رحمه الله (م 381 ه-) في «الفقيه» حيث قال بعد نقل: وَسَأَلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ يُسَافِرُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ وَإِنَّمَا يَنْزِلُ قُرَاهُ وَضَيْعَتَهُ؟ فَقَالَ: «إِذَا نَزَلْتَ قُرَاكَ وَأَرْضَكَ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ وَإِذَا كُنْتَ في غَيْرِ أَرْضِكَ فَقَصِّرْ»(2)، قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله :
يعنی بذلك إذا أراد المقام في قراه وأرضه عشرة أيّام، ومتی لم يرد المقام بها عشرة أيّام قصّر إلا أن يكون له بها منزل يكون فيه في السنة ستة أشهر، فإن كان كذلك أتمّ متی دخلها.
الخامس: الوطن هو ما يكون له فيه منزل مع استيطانه فيه فعلاً، فهو أعم بالنسبة إلی غير الأولی من هذه الأقوال باعتبار الاستيطان فإنّه فيه مطلق وفيها مقيّد بستة أشهر متوالية أو متفرقة، وأخصّ منها باعتبار فعليّة الاستيطان، هذا
ص: 116
القول هو ظاهر الشيخ الطوسی رحمه الله (م 460 ه- ) في «النهاية» والقاضی ابن البراج الطرابلسی رحمه الله (م 481 ه-) في كتابه المسمی ب- «الكامل» فقال الأول:
ومن خرج إلی ضيعة له وكان له فيها موضع ينزله ويستوطنه وجب عليه التمام، فإن لم يكن له فيها مسكن فإنّه يجب عليه التقصير(1).
وقال الثانی:
من كانت له قرية له فيها موضع يستوطنه وينزل به وخرج إليها وكانت عدة فراسخ سفره علی ما قدمناه فعليه التمام، وإن لم يكن له فيها سكن ينزل به ولا يستوطنه كان له التقصير(2).
وظاهر كلامهما هو اعتبار دوام الاستيطان كما يعتبر دوام المنزل والإسكان، ومثلهما ما قاله أبوالصلاح الحلبی رحمه الله (م 447 ه-) في «الكافی» حيث قال:
ويلزم التقصير لمكلفه إذا غاب عنه أذان مصره، فإن دخل مصراً له فيها وطن فنزل فيه فعليه التمام ولو صلاة واحدة، فإن لم ينزله أو لم يكن له فيه وطن فعزم علی الإقامة عشراً تمّم، وإن لم يعزم علی هذه المدة قصّر ما بينه وبين شهر ثمّ تمّم ولو صلاة واحدة(3).
وذلك لعدم انفكاك الوطن عن المنزل سيّما إذا لم يشترط في المنزل الملكيّة.
السادس: الوطن هو ما يكون له فيه ملك أقام فيه ستة أشهر، أو يكون وطناً له عرفاً، وحاصله كفاية أحد الوطنين الشرعی أو العرفی، نسبه النراقی رحمه الله في مستنده إلی بعض متأخرّي الأصحاب وقال:
ص: 117
صرّح بعض مشايخنا بعدم الخلاف نصّاً وفتویً في كفايته(1).
السابع: الوطن هو ما قصده الإنسان للتوطّن والسكونة فيه تأبيداً، الّذی هو خيرة الشهيد الثانی والشيخ محمد حسن النجفی صاحب الجواهر والسيّد الطباطبائی والإمام الراحل رضوان الله تعالی عليهم وجمع آخر من فقهائنا في المقام، نسب السيّد رحمه الله صاحب «العروة» ذلك إلی ظاهر كلمات الأصحاب وقد خالفه بعض محشيها منهم السيّد البروجردی قدس سره (2) وشيخنا الأستاذ مكارم الشيرازی دام ظله(3)، وكيف كان فالتأبيد أيضاً هو ظاهر مذهب الحنابلة غير أنّ الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة من العامة قد صرّحوا به، قال زين الدّين بن علی العاملی المعروف بالشهيد الثانی:
إذا اتّخذ الإنسان داراً وطناً على الدوام، فإنّه يشترط فيه إقامة ستّة أشهرٍ يصلّی فيها على التمام حتّى ينقطع سفره بالوصول إليه كالمِلْكِ. وإذا تغيّرت النيّة أو زال الملك تغيّر الحكم(4).
وقال الشيخ محمد حسن النجفی رحمه الله في «الجواهر»:
المراد بالوطن الّذی يتمّ فيه وإن عزم علی السفر قبل تخلّل العشرة هو كلّ موضع يتّخذه الإنسان مقراً ومحلاً له علی الدوام إلی الموت، لا أنّه قصد استيطانه مدّة وإن طالت مستمراَ علی ذلك غير عادل عنه كما نصّ عليه الفاضل والشهيد وغيرهما، بل نسبه في المدارك إلی سائر من
ص: 118
تأخّر عن العلامة من غير فرق بين ما نشأ فيه وما استجده ليتحقق حينئذ معنی الوطن الّذی نصّ في الصحاح والمصباح عن أنّه المكان والمقرّ، وأمر في النصّ والفتوی بالتمام فيه، ولا يعتبر في مفهومه عرفاً الاتحاد وإقامة الستة أشهر فيه وإن قال في «الذكری»: إنّه الأقرب معلاً بأنّه ليتحقق الاستيطان الشرعی مع العرفی(1).
وقال السيّد الطباطبائی اليزدی رحمه الله :
ظاهر كلمات العلماء - رضوان الله عليهم - اعتبار قصد التوطّن أبداً في صدق الوطن العرفی، فلا يكفی العزم علی السكنی إلی مدّة مديدة كثلاثين سنة أو أزيد، لكنّه مشكل، فلا يبعد الصدق العرفی بمثل ذلك، والأحوط إجراء الحكمين بمراعاة الإحتياط(2).
وقال السيّد البروجردی رحمه الله :
الوطن هو عبارة عن المكان الّذی يكون خروج الإنسان منه بسبب العوارض وحدوث الحوائج وعلی خلاف طبعه الأولی، والحاصل أنّه لا يصحّ الإلتزام بكون الملاك في صدق الوطن كونه مسقط رأس الشخص، أو مسكن آبائه وأجداده، أو مقرّه مع البناء علی الإقامة فيه مادام الحياة، بل المعتبر في صدق كون المكان وطناً للشخص هو أن يكون المكان مقرّه بحيث يكون خروجه منه بإزعاج مزعج بعد قضاء حوائجه الموجبة للخروج منه يرجع إلی ذلك المكان كالطيور الّتي ترجع إلی أوكارها بعد الخروج لتهيئة الرزق، فعلی ما قلناه من كونه الوطن هو الّذی يعدّ التباعد منه سفراً والكون فيه حضراً فما في العروة
ص: 119
الوثقی من أنّ المشهور بين الفقهاء اعتبار البناء علی الإقامة ما دام العمر في صدق الوطن ليس في محلّه لعدم اشتهاره بينهم(1).
وقال الإمام الراحل قدس سره :
الوطن ...، وهو المكان الّذی اتخذه مسكناً ومقراً له دائماً، ثمّ قال: لو أعرض عن وطنه الأصلی أو المستجدّ وتوطن في غيره فإن لم يكن له فيه ملك أو كان ولم يكن قابلا للسكنى أو كان ولم يسكن فيه ستة أشهر بقصد التوطّن الأبدی يزول عنه حكم الوطنية(2).
وحكی الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة» عن ظاهر الحنابلة وصريح الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة:
إنّ الوطن هو المحل الّذی يقيم فيه المرء علی الدوام صيفاً وشتاءً، أو ما نوی الإقامة فيه علی التأييد(3).
الثامن: ما اختاره العلامة الحلي رحمه الله (م 726 ه-) في كتابي «القواعد» و«التذكرة»، وهو أيضاً خيرة بعض المعاصرين كسيدي البروجردی(4) والخوئی قدس الله أسرارهما وشيخنا الأستاذ مكارم الشيرازی دام ظله(5) من أنّه يكفی في صدق الوطن كونه مقراً لإقامته فعلاً بحيث عاد إليه كلما خرج منه لحاجة
ص: 120
كأوطان الحيوانات وإن لم يكن مسقط رأسه ومسكن آبائه وأجداده ولم يكن له فيه ملك، قال العلامة رحمه الله في «التذكرة»:
لو اتخذ بلداً دار إقامته كان حكمه حكم الملك وإن لم يكن له فيه ملك بحيث لو اجتاز عليه وجب عليه الإتمام فيه ما لم تغيّر نيّة الإقامة، ولو اتخذ بلدين فما زاد موضع إقامته كانا بحكم ملكه وإن لم يكن له فيهما ملك(1).
وظاهر كلامه قدس سره هو كفاية صرف اتخاذ المحل بعنوان دار الإقامة واسكانه في صدق الوطن كما صرّح به علماء اللغة، من دون لزوم كونها علی الدوام، وذلك لكونه في مقام بيان تمام ما له دخل في تحقق قطع السفر به ومع ذلك لم يشر إلی هذا القيد.
أقول: هذه ثمانية أقوال ذكروها الفريقين في مفهوم الوطن، والظاهر إنّ الّذی يوجب إلی هذا الإختلاف العظيم هو الخلط في كلماتهم بين معنی الوطن اللغوی العرفی وبين معنی الوطن الشرعی التعبدی الحكمی علی القول بثبوته، فلو فككنا بين هذين المعنيين لَقلّة الأقوال جدّاً، وكيف كان محصّل الأقوال بعد إرجاع مطلقاتها إلی مقيّداتها أربعة، هی:
الأولی: أنّه يكفی في صدق الوطن أن يكون له فيه ملك مطلقاً سواء كان منزلاً أو غيره ولو كان شجرة واحدة، وسواء اقام فيه ستة أشهر أم لا، القول الّذی
ص: 121
يحكی عن صريح ابن الجنيد الإسكافی رحمه الله وفحوی كلام العلامة والشهيد قدس الله أسرارهما علی القول بكونهم كانوا في صدد بيان مفهوم الوطن.
الثانية: الوطن هو ما يكون له فيه ملك قد استوطنه فيه فعلاً ستة أشهر متواليةً بقصد التوطن وحيث لم ينفك الوطن عن المنزل فهو ملازم له، الّذی يستفاد من تجميع الأقوال الأربعة المتوسطة.
الثالثة: الوطن هو ما قصده الإنسان للتوطّن والسكونة فيه تأبيداً، الّذی هو خيرة الشهيد الثانی وصاحب الجواهر والسيّد الطباطبائی والإمام الراحل وبعض آخر من فقهائنا العظام في المقام ونسبه السيّد رحمه الله صاحب «العروة» إلی ظاهر كلمات الأصحاب رضوان الله تعالی عليهم، وكذلك كونه مذهب الحنابلة ظاهراً ومذهب الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة من العامة صريحاً.
الرابعة: الوطن هو ما قصده الإنسان للتوطّن والسكونة فيه فعلاً بحيث عاد إليه كلما خرج منه لحاجة وإن لم يكن مسقط رأسه ومسكن آبائه وأجداه ولم يكن له فيه ملك أصلاً ، الّذی هو خيرة العلامة الحلي رحمه الله في كتابي «القواعد» و«التذكرة»، وبعض المعاصرين كسيدي البروجردی(1) والخوئی قدس الله أسرارهما وشيخنا الأستاذ مكارم الشيرازی دام ظله وما صرّح به علماء اللغة.
والتحقيق أنّ بناء الأقوال الثلاثة الأولی علی القول بثبوت الوطن الشرعی وإن اختلفوا فيما يتحقّق به، وبناء الرابع علی المعنی اللغوی العرفی، علينا أن نبحث أولاً عن أدلة الأقوال حتّی نعلم أنّه هل يبقی مفهوم الوطن علی ما له من معناه اللغوی وهو موطن الإنسان ومنزله ومسكنه الّذی يقيم به في الحال، أو نُقل
ص: 122
إلی المعنی الشرعی من كونه ما له فيه ملك مطلقاً أو مع استيطانه ستة أشهر مطلقاً أو بشرط كونها في السنة إلی غير ذلك من التفاسير، فنقول وعليه التكلان:
أمّا دليل القول الأول: وهو أنّه يكفی في صدق الوطن أن يكون له فيه ملك مطلقاً سواء كان منزلاً أو غيره ولو كان شجرة واحدة، وسواء أقام فيه ستة أشهر أم لا.
إنّه قد استدل علی هذا القول بروايات مستفيضة منها: صحيحة عِمْرَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی جَعْفَرٍ الثَّانِی علیه السلام: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ لِی ضَيْعَةً عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا خَمْسَةِ فَرَاسِخَ فَرُبَّمَا خَرَجْتُ إِلَيْهَا فَأُقِيمُ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَأُتِمُّ الصَّلَاةَ أَمْ أُقَصِّرُ؟ فَقَالَ: «قَصِّرْ في الطَّرِيقِ وَأَتِمَّ في الضَّيْعَةِ»(1).
ومنها صحيحة إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْفَضْلِ الهَاشِمِی قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُسَافِرُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ وَإِنَّمَا يَنْزِلُ قُرَاهُ وَضَيْعَتَهُ؟ قَالَ: «إِذَا نَزَلْتَ قُرَاكَ وَأَرْضَكَ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ وَإِذَا كُنْتَ في غَيْرِ أَرْضِكَ فَقَصِّرْ»(2).
ومنها صحيحة أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِی نَصْرٍ البَزَنطِی قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَخْرُجُ إِلَى ضَيْعَتِهِ وَيُقِيمُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ أَ يَقْصُرُ أَمْ يُتِمُّ؟ قَالَ: «يُتِمُّ الصَّلَاةَ كُلَّمَا أَتَى ضَيْعَةً مِنْ ضِيَاعِهِ»(3).
ص: 123
ومنها موثقة عَمَّارِ بْنِ مُوسَى السَّابَاطِی عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في الرَّجُلِ يَخْرُجُ في سَفَرٍ فَيَمُرُّ بِقَرْيَةٍ لَهُ أَوْ دَارٍ فَيَنْزِلُ فِيهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا نَخْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَقْصُرْ، وَلْيَصُمْ إِذَا حَضَرَهُ الصَّوْمُ وَهُوَ فِيهَا»(1).
ومنها خبر مُوسَى بْنِ الْخَزْرَجِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی الْحَسَنِ علیه السلام: أَخْرُجُ إِلَى ضَيْعَتِی وَمِنْ مَنْزِلِی إِلَيْهَا اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخاً أُتِمُّ الصَّلَاةَ أَمْ أُقَصِّرُ؟ فَقَالَ: «أَتِمَّ»(2).
ومنها مرفوعة الرضوی علیه السلام: «وَإن دَخَلتَ قَريَةً وَلَك فِيهَا حِصَّةٌ فَأتمَّ الصَّلاةَ»(3).
أقول: وضعف الخبرين الأخيرين (حيث كان موسی بن الخزرج غير ظاهر الحال عند علماء الرجال والمرفوعة كما تری) وإن كان ينجبر بما تقدّم من الأخبار المتظافرة الّتي كانت أكثرها صحاح، إلا أنّ في مقابلها أخبار مستفيضة أخری تدلّ علی خلافها، منها الصّحاح الثلاث لابن يقطين:
الأولی: عَلِیُّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی الْحَسَنِ الْأَوَّلِ علیه السلام: الرَّجُلُ يَتَّخِذُ الْمَنْزِلَ فَيَمُرُّ بِهِ أَ يُتِمُّ أَمْ يُقْصُرُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَنْزِلٍ لَا تَسْتَوْطِنُهُ فَلَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُتِمَّ فِيهِ»(4).
ص: 124
والثانية: الْحَسَنُ بْنِ عَلِیِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَخِيهِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَلِیٍّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَوَّلَ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِبَعْضِ الْأَمْصَارِ وَلَهُ بِالْمِصْرِ دَارٌ وَلَيْسَ الْمِصْرُ وَطَنَهُ أَ يُتِمُّ صَلَاتَهُ أَمْ يَقْصُرُ؟ قَالَ: «يَقْصُرُ
الصَّلَاةَ وَالضِّيَاعُ مِثْلُ ذَلِكَ إِذَا مَرَّ بِهَا»(1).
والثالثة: عَلِیُّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی الْحَسَنِ الْأَوَّلِ علیه السلام: إِنَّ لِی ضِيَاعاً وَمَنَازِلَ بَيْنَ الْقَرْيَةِ وَالْقَرْيَتَيْنِ (الْفَرْسَخُ وَ) الْفَرْسَخَانِ وَالثَّلَاثَةُ؟ فَقَالَ: «كُلُّ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِكَ لَا تَسْتَوْطِنُهُ فَعَلَيْكَ فِيهِ التَّقْصِيرُ»(2).
ومنها: صحيحة سَعْدِ بْنِ أَبِی خَلَفٍ قَالَ : سَأَلَ عَلِیُّ بْنُ يَقْطِينٍ أَبَا الْحَسَنِ الْأَوَّلَ علیه السلام عَنِ الدَّارِ تَكُونُ لِلرَّجُلِ بِمِصْرٍ أَوِ الضَّيْعَةِ فَيَمُرُّ بِهَا؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ سَكَنَهُ أَتَمَّ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَسْكُنْهُ فَلْيَقْصُرْ»(3).
ومنها: صحيحة حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في الرَّجُلِ يُسَافِرُ فَيَمُرُّ بِالْمَنْزِلِ لَهُ في الطَّرِيقِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ أَمْ يَقْصُرُ؟ قَالَ: «يَقْصُرُ إِنَّمَا هُوَ الْمَنْزِلُ الَّذِی تَوَطَّنَهُ»(4).
ومنها: صحيحة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «مَنْ أَتَى ضَيْعَتَهُ ثُمَّ لَمْ يُرِدِ الْمُقَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ قَصَّرَ وَإِنْ أَرَادَ الْمُقَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَتَمَّ الصَّلَاةَ»(5).
ص: 125
ومنها: خبر مُوسَى بْنِ حَمْزَةَ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی الْحَسَنِ علیه السلام: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ لِی ضَيْعَةً دُونَ بَغْدَادَ فَأَخْرُجُ مِنَ الْكُوفَةِ أُرِيدُ بَغْدَادَ فَأُقِيمُ في تِلْكَ الضَّيْعَةِ أُقَصِّرُ أَوْ أُتِمُّ؟ فَقَالَ: «إِنْ لَمْ تَنْوِ الْمُقَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَقَصِّرْ»(1).
ومنها: مرسلة التهذيب: «أَنَّهُ صَلَّى في ضَيْعَتِهِ فَقَصَّرَ في صَلَاتِهِ»(2).
هذا مع احتمال حمل الأخبار القسم الأولی الدالة علی إتمام الصلاة في هذه الأمكنة علی التقيّة لما حكی ابن قدامة الحنبلی وبعض فقهائنا: من أنّ الملك مطلقاً من قواطع السفر عند العامة أو عند جماعة منهم(3)، وكيف كان إنّ الأخبار القسم الأولی علی رغم كونها موافقة لهؤلاء الفقهاء، قد أعرض الأصحاب عنها أيضاً مع كونها بمرأی ومنظرهم، لم نعرف عاملاً بها إلا ما يحكی عن ابن الجنيد الإسكافی وقليل ممّن اختاره ظاهراً علی القول بكونهم كانوا في صدد بيان مفهوم الوطن أو أنّ الملك مطلقاً من قواطع السفر في عرض الوطن، وهو نادر يمكن دعوی الإجماع المركب علی خلافه إذ كلّ من عرّف قواطع السفر أو الوطن قال إمّا بانضمام غير الملك إليه أو قال باشتراط غير ذلك، زائداً علی كون الأخبار القسم الثانية أكثر عدداً من الأولی، فبذلك يظهر ضعف هذا القول جداً.
ص: 126
وأمّا دليل القول الثانی: وهو أنّه يكفی في صدق الوطن أن يكون له فيه ملك قد استوطنه فيه فعلاً ستة أشهر متواليةً بقصد التوطن وحيث لم ينفك الوطن عن المنزل فهو ملازم له، الّذی يستفاد من تجميع الأقوال الخمسة المتوسطات.
إنّه قد استدل علی هذا القول بما تقدم في حجة القول الأول وبصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَقْصُرُ في ضَيْعَتِهِ؟ فَقَالَ: «لَا بَأْسَ مَا لَمْ يَنْوِ مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مَنْزِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ، فَقُلْتُ: مَا الِاسْتِيطَانُ؟ فَقَالَ: أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مَنْزِلٌ يُقِيمُ فِيهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُتِمُّ فِيهَا مَتَى دَخَلَهَا».
قَالَ: وَأَخْبَرَنِی مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ صَلَّى في ضَيْعَتِهِ فَقَصَّرَ في صَلَاتِهِ، قَالَ أَحْمَدُ: أَخْبَرَنِی عَلِیُّ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً: أنَّ ضَيْعَتَهُ الّتي قَصَّرَ فِيهَا الْحَمْرَاءُ (1).
وأمّا دليل القول الثالث: وهو أنّ الوطن هو ما قصده الإنسان للتوطّن والسكونة فيه تأبيداً، الّذی هو خيرة الشهيد الثانی وصاحب الجواهر والسيّد الطباطبائی والإمام الراحل وبعض آخر من فقهائنا في المقام ونسبه السيّد رحمه الله صاحب «العروة» إلی ظاهر كلمات الأصحاب رضوان الله تعالی عليهم، وكذلك كونه مذهب الحنابلة ظاهراً ومذهب الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة من العامة صريحاً.
والظاهر أنّه ليس لهؤلآء الفقهاء دليل إلا ما يدعی من ظهور كلمة «الوطن» لقصد التوطن دائماً كما عرفت في كلام صاحب الجواهر من أنّ الوطن عند
ص: 127
أرباب اللغة هو المقرّ والمكان، أو من باب استظهار نيّة الدوام من قوله علیه السلام «يَسْتَوْطِنُهُ» في صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع المتقدمة.
يلاحظ عليه بأنّ الفعل المضارع وإن كان استظهار الدوام والاستمرار منه ممكناً إلا أنّه ليس بنصٍ في ذلك ما لم يدلّ عليه دليل وقرينة كما إذا كان في مقام انشاء حكم وجعل أمر علی نحو القضايا الحقيقيّة كصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: رَجُلٌ شَكَّ في الْوُضُوءِ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: «يَمْضِی عَلَى صَلَاتِهِ وَلَا يُعِيدُ»(1)، ومثله في صحيحة أَبِی بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ شَكَّ وَهُوَ قَائِمٌ فَلَا يَدْرِی أَ رَكَعَ أَمْ لَمْ يَرْكَعْ؟ قَالَ: «يَرْكَعُ
وَيَسْجُدُ»(2)، وصحيحة أخری من مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ شَكَّ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى؟ قَالَ: «يَسْتَأْنِفُ»(3)، أی يستأنف صلاته دائماً كلّما شك بهذا النحو، هذا أولاً .
وثانياً: إنّ الوطن متخذ من مكان إسكان الشخص وموطنه، الّذی يعدّ عند الأصوليين مشتقاً (4) ومن المعلوم عندهم عدم اشتراط بقاء المبدء فيها إلی المستقبل لصحّة حملها عليها فعلاً حتّی في مثل الصفات المشبهات، ولاأقلّ من الشك ونفيه بأصالة عدم الزيادة، نعم إنّهم اتفقوا علی كون المشتق مجازاً
ص: 128
فيما يتتلبس به في الاستقبال ومن هنا نقول بأنّه لا عبرة بمن كان من عزمه التوطّن في مكان في المستقبل أن يكون هناك وطنه الآن.
وثالثاً: أنّ المستفاد من الأدلة النقليّة أنّ وظيفة المكلفين جميعاً هی الإتمام(1) والصيام(2) خرج من هذا العموم المسافر والمرأة الحائضة والنفساء والمريض إجمالاً (3)، فإذا شككنا فيمن وصل إلی وطنه الإتخاذی المستجد ولم يكن من قصده السكونة فيه تأبيداً أم كان غافلاً عنه ولم ينو إقامة العشرة فيه فعلاً هل يجب عليه الصيام والتمام أو عليه التقصير والإفطار؟ فالمرجع حينئذ فيالخاص المنفصل المجمل مفهوماً (أی المسافر) الدائر أمره بين الأقلّ (وهو
ص: 129
اختصاص الحكم بغير هذا) والأكثر (وهو شموله لما نحن فيه) هو التمسك بعموم العام(1) ، أی وجوب الصيام والإتمام في المقام.
ثمّ إنّ هنا كلاماً من المحقّق الهمدانی رحمه الله ناظراً إلی ما نحن بصدده حيث قال:
إنّ مقتضى القاعدة الأوّلية الّتي شرّعت عليها الصلاة هو الإتمام، والقصر إنّما يجب بعروض السفر الجامع لشرائط التقصير، فالمكلّف ما لم يكن مسافراً لم يشرّع في حقّه التقصير، وإنّما يصير مسافراً بالتباعد من منزله الّذی هو دار إقامته، وإذا وصل إلى منزله من سفره عاد حاضراً الّذی هو ضدّ المسافر ويسمّى ذلك الموضع الّذی هو موضع إقامته في العرف وطناً، ولايشترط في صدق هذا الإسم الملك ولا المنزل، بل ولا إقامة السّتة أشهر، أصليّاً كان ذلك الوطن أم مستجداً، مع أنّ الحكم بالتمام لدى وصوله إلى مستقره ليس منوطاً بصدق كونه وطناً له، بل بخروجه عن كونه مسافراً، فالبدوی الطالب للماء والكلاء الّذی بيته معه إذا نزل في مكان، ثمّ سافر من منزله متى عاد إليه خرج عن كونه مسافرا ً وإن لم ينو إقامة العشرة، بل ولو مرّ به في أثناء طريقه فإنّه حين وصوله إلی منزله صدق عليه أنّه حضر أهله ومستقرّه الّذی هو ضدّ المسافر، فوجب عليه الإتمام حينئذ سواء قلنا بتسميته في العرف وطناً له أم لم نقل لما أشرنا إليه من أنّ المدار على خروجه عن حدّ المسافر،لا دخوله في حدّ المقيم في وطنه، كی يكون التشكيك في صدق اسم الوطن عليه عرفاً موجباً للتشكيك في حكمه فهذا ممّا لا إشكال فيه(2).
ص: 130
وأمّا دليل القول الرابع: وهو أنّ الوطن هو ما قصده الإنسان للتوطّن والسكونة فيه فعلاً بحيث عاد إليه كلما خرج منه لحاجة وإن لم يكن مسقط رأسه ومسكن آبائه وأجداه ولم يكن له فيه ملك أصلاً .
يستظهر دليل هذا القول ممّا ذكرنا في ملاحظة دليل القول الثالث، زائداً علی أنّه لا يمكن سلب عنوان الوطن عن المكان الّذی لم يكن من عزم ساكنه السكونة فيه علی الدوام إلی حين الموت أو لم يكن له فيه ملك أو لم يكن مسقط رأسه ومسكن آبائه وأجداده، بل يصدق كونه وطناً له فعلاً عند العرف، وأنت خبير بأنّ عدم صحّة السلب وصحة الحمل بالحمل الأولی الذاتی أو الشائع الصناعی علامة لكون وضع اللفظ لنفس المعنی أو كونه من مصاديقه وأفراده حقيقة(1)، نعم يعتبر فيه الإقامة فيه بمقدار يصدق عليه عرفاً أنّه وطنه فربّما يصدق ذلك بالإقامة فيه بعد القصد المزبور شهراً أو أقلّ فلا يشترط إقامة الستة.
وبعبارة أخری: إنّ المتوطّن عرفاً ولغة هو عبارة أخری عن الحاضر ويقابله المسافر الّذی نائی عن أهله خارج عن موضع حضوره سواء كان له فيه ملك أم لا، وسواء كان هناك مسقط رأسه ومسكن آبائه وأجداه أو لم يكن(2).
وإلی ما ذكرنا أشار إليه اجمالاً السيّد البروجردی رحمه الله علی ما في تقريرات درسه ما هذا حاصله:
الوطن مفهوم منتزع عرفاً عن مكان إقامة الشخص فعلاً من دون أن يلاحظ فيه الإعتبارات السابقة ككون المكان محل ولادته أو مسكن آبائه وأجداده، ولا الحالات اللاحقة مثل كونه عازماً علی الإقامة فيه
ص: 131
إلی الأبد أو إلی أمد بعيد، بل هو مفهوم يحكی عن علقة وإضافة فعليّة بين الشخص ومكان استقراره في حال الحاضر بحيث يرجع إليه كلما خرج منه لحاجة ولأمر طارء عليه، وهذا ما يسمّی عند العرف بالوطن، سواء في ذلك أن يكون له في هذا البلد ملك أو منزل مملوك أو غير مملوك أو لم يكن كمن يكون من سكان المدارس أو المساجد والمعابر، وسواء قصد الإقامة فيه علی الدوام أو كان قاصداً للإقامة فيه مدة مديدة إقامة سائر الناس في منازلهم من جهة اقتضاء وضعه الفعلی لذلك، فالطلاب المجتمعون في مجامع الحوزات العلمية المقيمون فيها عشرين سنة أو أزيد ربما يعدّون متوطنين في تلك المجامع العلمية وإن لم يكن من قصدهم البقاء فيها دائماً، والتاجر الّذی ارتحل عن مسقط رأسه إلى بلد آخر وصار فيه مشتغلاً بشغله وتجارته واتخذ فيه دار الإقامة وإقامة أهله ربما يعدّ هذا البلد وطناً له وإن كان من قصده أن يرجع في آخر عمره إلى مسقط رأسه، وهكذا، فما هو المقرّ الفعلی للشخص بحيث يبقى فيه لو خلّی وطبعه يسمى وطناً له(1).
وقال الإمام الراحل قدس سره بعد تصريحه بأنّ الوطن هو المكان الّذی اتخذه مسكناً ومقراً له دائماً:
ولا يعتبر فيه (وطن) حصول ملك ولا إقامة ستة أشهر، نعم يعتبر في المستجدّ الإقامة فيه بمقدار يصدق عرفاً أنّه وطنه ومسكنه، بل قديصدق الوطن بواسطة طول الإقامة إذا أقام في بلد بلا نية للإقامة دائماً ولا نية تركها(2).
ص: 132
وكذلك السيّد اليزدی رحمه الله صاحب «العروة» حيث قال:
ولا يعتبر فيه بعد الإتحاد المزبور (كونه مسكناً ومقراً له دائماً) حصول ملك له فيه، نعم يعتبر فيه الإقامة فيه بمقدار يصدق عليه عرفاً أنّه وطنه، والظاهر أنّ الصدق المذكور يختلف بحسب الأشخاص والخصوصيّات فربّما يصدق بالإقامة فيه بعد القصد المزبور شهراً أو أقلّ، فلايشترط الإقامة ستة أشهر وإن كان أحوط، فقبله يجمع بين القصر والتمام إذا لم ينو إقامة عشرة أيّام(1).
هذا تمام الكلام في الفرع الأول .
إنّ الوطن يقسّم في كلمات الفقهاء إلی الأصلی وهو ما يكون محل ولادة الشخص ومحل إقامته واستقراره وموطن والديه من بدو الأمر وحين ولادته، وأخری ما يكون وطناً اتخاذياَ مستجداً وهو ما يتخذه الإنسان مسكناً ومقراً لتعيّشه من بعد ما هاجر من وطنه الأصلی علی وجه لا يصدق حين إقامته فيه عنوان المسافر، ومنهم من قال بثبوت الوطن الشرعی في قبال الوطنين الأصلی والمتّخذ.
قال الشيخ الأعظم الأنصاری رحمه الله ما هذا خلاصته:
الوطن علی ثلاثة أقسام: أحدها: الوطن الأصلی الّذی نشأ فيه، ولا إشكال ولا خلاف ظاهراً في كونه قاطعاً ما لم يهجر، سواء كان له فيه ملكٌ أم لا، وسواء استوطنه ستّة أشهر أم لا؛ لأنّ أدلّة اعتبار الملك واستيطان المدّة مختصّةٌ بغيره، كما لا يخفى، فلو فرضنا أنّ ولداً تولّد
ص: 133
في بلدٍ ثمّ سافر به أبوه بعد خمسة أشهر إلى بلدٍ آخر لا بنيّة الهجرة فعاد إليه بعد البلوغ فالظاهر وجوب التمام عليه، نعم لو هجره وليس له ملكٌ فالظاهر انقطاع حكمه.
الثانی: الوطن المتّخذ، بأن يتّخذ الرجل الغريب مكاناً دار إقامةٍ له على الدوام، ولا خلاف ظاهراً في عدم اعتبار الملك؛ لأنّ أدلّة اعتبار الملك مختصّةٌ بما يتّفق عبور المسافر عليه ومروره به بعد الخروج عن دار
مقامته.
الثالث: الوطن الشرعی، وهو عند المشهور بين المتأخّرين: كلّ منزلٍ قد أقام فيه ستّة أشهر مع ثبوت ملك له فيه(1).
وقال السيّد أبوالحسن الإصفهانی رحمه الله :
الوطن وهو بمعناه العرفی واضح وهو مسقط الرأس، والوطن الإتخاذی، ويظهر من بعض الأساطين أنّ له معنی ثالثاً وهو الوطن الشرعی(2).
والظاهر أنّ العامّة وإن لم يصرّحوا بالوطن الشرعی إلا أنّهم قائلون به إجمالاً لما أفتوا بأنّ الملك من قواطع السفر، قال ابن قدامة الفقيه المعروف الحنبلی (م 620 ه-):
وإن مرّ في طريقه علی بلدٍ له فيه أهلٌ أو مالٌ فقال أحمد في موضع: يتمّ، وقال في موضع: يتمّ إلا أن يكون مارّاً، وهذا قول ابن عباس، وقال الزهری: إذا مرّ بمزرعة له أتمّ، وقال مالك: إذا مرّ بقرية فيها أهله أو ماله أتمّ إذا أراد أن يقيم بها يوماً وليلة، وقال الشافعی وابن المنذر: يقصّر ما لم يجمع علی إقامة أربع لأنّه مسافر لم يجمع علی أربع(3).
ص: 134
لا كلام بين الفقهاء في أنّ الوطن إمّا أصلی أو اتخاذی، إنّما الكلام في أنّه هل كان هناك وطن آخر يسمّی بالوطن الشرعی تفسيراً للوطن الإتخاذی، أو في عرض القسمين المتقدمين من باب الحقيقة الشرعيّة والتنزيل الموضوعی والتصرف في عقد الوضع أو من باب التنزيل الحكمی التّعبدی والتصرف في عقد الحمل(1) حتّی نرجع إليه أيضاً في أحكام الوطن من قطع السفر به أم لا؟ وعلی فرض كونه أنّه ما هو؟
نفاه بعض من فقهائنا العظام بأنّ الوطن منحصر في العرفی أو الأصلی وأنّ مآل الوطنين الإتخاذی والشرعی هو الوطن العرفی، منهم السيّد صاحب العروة رحمه الله وبعض محشّيها حيث قال:
الوطن شرعی غير ثابت، ثم قال: قد عرفت عدم ثبوت الوطن الشرعی وأنّه منحصر في العرفی(2).
والإمام الراحل قدس سره بعد ما نسب القول بالوطن الشرعی إلی المشهور استقوی أنّ الأمر خلافه حيث قال:
وأمّا إذا كان له ملك وقد سكن فيه ستة أشهر بعد اتخاذه وطناً دائماً أو كونه وطناً أصلياً فالمشهور على أنّه بحكم الوطن الفعلی، ويسمّونه بالوطن الشرعی، فيوجبون عليه التمام بالمرور عليه ما دام ملكه باقياً فيه، بل قال بعضهم بوجوب التمام إذا كان له فيه ملك غير قابل للسكنى ولو نخلة ونحوها، بل فيما إذا سكن ستة أشهر و لو لم يكن بقصد التوطن دائماً بل بقصد التجارة مثلاً، والأقوى خلاف ذلك كلّه،
ص: 135
فلا يجری حكم الوطن فيما ذكر كلّه، ويزول حكم الوطن مطلقاً بالاعراض، وإن كان الأحوط الجمع بين إجراء حكم الوطن وغيره فيها خصوصاً الصورة الأولى(1).
في حين أنّه صحّحه بعض آخر، منهم السيّد الخوئی رحمه الله بل ونسبه إلی المشهور حيث قال:
ما ذكره المشهور من ثبوت الوطن الشرعی هو الصحيح وإنّما يتحقّق
بوجود منزل مملوك له في محلّ قد سكنه ستّة أشهر متّصلة عن قصد ونيّة، فإذا تحقّق ذلك أتمّ المسافر صلاته كلّما دخله إلا أن يزول ملكه(2).
فالمستفاد من عبارات مثبتي الوطن الشرعی أنّه يشترط في ثبوته اجمالاً تحقق أمور ثلاثة:
الف: أن يكون له فيه ملك أو منزل مملوك
ب: قد استوطنه ستة أشهر
ج: وأن يتخذه محلاً للاستقرار والسكونة فيه علی الدوام
فبناءً علی ذلك كلّ من استوطن موضعاً لم يكن هذا وطنه الأصلی وقد أقام فيه فيما مضی ستة أشهر مطلقاً أو استوطن المدة بقصد التوطّن الدائمی وكان له فيه ملك أو منزل مملوك، فما دام ملكه باقياً هاهنا يجب عليه الصّيام والإتمام متی يمرّ عليه وإن أعرض عنه ولم يكن حينه متوطناً فيه، فإذا مرّ الشخص بهذا
ص: 136
الموضع حال السفر ولم يكن مروره فيه بعنوان الإقامة العشرة يحكم عليه بكونه غير مسافر تعبداً وشرعاً.
إليه قد أشار محمد حسين الكاشف الغطاء رحمه الله (م 1373 ه-) حيث قال:
المشهور قالوا بوطن آخر وهو الوطن الشرعی وجعلوه عبارة عن الملك الّذی استوطنه ستة أشهر فاجروا عليه أحكام الوطن الحقيقی حتّی بعد الإعراض عنه فأوجبوا عليه التمام والصيام إذا مرّ به وجعلوه كالوطن من قواطع السفر وإن لم يقصد فيه إقامة عشرة(1).
قد استدلّوا عليه بصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَقْصُرُ في ضَيْعَتِهِ؟ فَقَالَ: «لَا بَأْسَ مَا لَمْ يَنْوِ مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مَنْزِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ، فَقُلْتُ: مَا الِاسْتِيطَان؟ فَقَالَ: أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مَنْزِلٌ يُقِيمُ فِيهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُتِمُّ فِيهَا مَتَى دَخَلَهَا».
قَالَ: وَأَخْبَرَنِی مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ صَلَّى في ضَيْعَتِهِ فَقَصَّرَ في صَلَاتِهِ، قَالَ أَحْمَدُ: أَخْبَرَنِی عَلِیُّ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً: أنَّ ضَيْعَتَهُ الّتي قَصَّرَ فِيهَا الْحَمْرَاءُ(2).
بتقريب دلالة الضيعة علی مطلق الملك أو أنّ المنزل يلازم الملك غالباً، وتفسير الاستيطان في كلام الإمام علیه السلام بالستة، وكون فعل المضارع دالاً علی الدوام.
يلاحظ عليه أوّلاً: مضافاً بما تقدّم في ردّ القول «بأنّه يكفی في صدق الوطن أن يكون للإنسان فيه ملك» وكذا القول «بأنّ الوطن هو ما قصده الإنسان للتوطن
ص: 137
والسكونة فيه تأبيداً»، أنّه علی القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة لا يكون ذلك إلابالوضع التعيينی الصريح كما في قول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «صَلُّوا كمَا رَأيتُونِی أصَلِّی»(1) بناءً علی كون الصلاة مستحدثة في الإسلام لا في الشرائع السابقة عليه، أو بالوضع التعيّنی الّذی منشأه كثرة الاستعمال، لاسبيل للثانی لانحصار الدليل في المقام في صحيحة ابن بزيع المتقدمة، ولا للأوّل لاحتمال كون الإمام علیه السلام كان في صدد بيان الوطن العرفی وأنّه المكان الّذی يكون الشخص مقيماً فيه الآن، داره وتكسّبه وأهله وعياله فيه فعلاً، وقد كان من قصده السكونة فيه مدة كستة أشهر علی الأقل مثلاً، ولا أقل من الاحتمال و بطلان الاستدلال لوضوح ما عرفت في محله أنّه لو دار الأمر بين نقل لفظ من معناه اللغوی إلی المعنی الشرعی فالأصل عدمه إلا بقرينة صارفة واضحة(2).
ممّا يشهد علی كون الصحيحة واردة لبيان الوطن العرفی لا الشرعی أنّه علی فرض الأخير للزم أن يكون مراد الإمام علیه السلام من الاستيطان هو السكونة الكذائيّة في السابق زائدة عليها الملكيّة، (كما صرّح بذلك مثبتي الحقيقة الشرعيّة حتّی يكون هناك وطنه تعبداً بحكم الشرع لتلك العلقة المالكية السابقة وتكون فائدة الملكيّة منحصرة في صورة الإعراض عن إدامة الاستيطان)، لا فعليّة الاستيطان الآن الّتي هی معتبرة في الوطن العرفی، إلا أنّ العرفی لايعتبر فيه الملك ولا داومه بل المعتبر فيه كفاية الاستيطان الفعلی فقط، فيرد هنا سؤالٌ أنّه أیّ فائدة حينئذ في الملكيّة؟!
ص: 138
ثم إنّه علی فرض حمل الصحيحة علی بيان الوطن الشرعی يلزم أن نتصرّف في قوله علیه السلام: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مَنْزِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ» بأحد تصرفين غير ظاهرين: أنيكون الفعل المضارع بمعنی الماضی، أو بقاء الفعل المضارع بحاله وتقدير كلمة «فيما مضی» بعد قوله: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ» وكلاهما كما تری، بخلاف ما لوكانت الرواية واردة لبيان الوطن العرفی، فالأولی أن يقال لا دلالة في الصحيحة علی المدّعی.
قد أشار الشيخ محمد حسن النجفی رحمه الله إلی هذين التصرفين إجمالاً حيث قال:
وعلی كلّ حال فالوطن ما عرفت (أنّه كلّ موضع يتّخذه الإنسان مقراً ومحلاً له علی الدوام إلی الموت) أو كلّ موضع له فيه ملك قد استوطنه فيما مضی من الزمان ستة أشهر فصاعداً كما هو المشهور نقلاً وتحصيلاً بل لاخلاف فيه إلا من نادر، بل في الروض وعن التذكرة الإجماع عليه وهو الحجّة(1).
فبناءً علی ذلك كلّ من اتّخذ موضعاً داراً للإقامة والسكونة فيه فعلاً بحيث يصدق عليه عرفاً أنّه حاضر غير مسافر وأنّه في بيته وأهله و وطنه، يجری عليه أحكام الحاضرين من دون فرق بين ما كان هناك وطنه الأصلی أو الإتخاذی، فإذا أعرض عنه وهجره وجعل موضعاً آخر داراً للسكونة وللإقامة فيه ولأهله وعياله صار هذا الموضع الجديد وطنه الفعليّة، فلو سافر من هذا الوطن الجديد و وصل إلی وطنه السابق فلا شك في أنّه الآن مسافر غير حاضر فيجب عليه القصر بلا ريب.
ص: 139
ممّا يدلّ علی ذلك زائداً علی ما تقدّم موثقة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَهُ بِهَا دَارٌ وَمَنْزِلٌ فَيَمُرُّبِالْكُوفَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجْتَازٌ لَا يُرِيدُ الْمُقَامَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يَتَجَهَّزُ يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «يُقِيمُ في جَانِبِ الْمِصْرِ وَيَقْصُرُ، قُلْتُ: فَإِنْ دَخَلَ أَهْلَهُ؟ قَالَ: عَلَيْهِ التَّمَامُ»(1).
بتقريب أنّ السائل كان من أهل الكوفة فيما مضی وقد أعرض عنها وتوطّن فعلاً في البصرة، إلا أنّ له علاقة ملك ومنزل في الكوفة والمفروض أنّه مجتاز بها يريد المقام فيه أقلّ من عشرة أيّام، فسئل أنّه هل يوجب مجرد مروره هذا علی الكوفة التمام؟ فأجاب الإمام علیه السلام بعدم الإيجاب حتّی يدخل بيته بالبصرة.
وثانياً: بعد عدم دلالة الصحيحة علی المدعی إنّ الإصرار علی القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة في المقام شهرة فتوائيّة قال به مشهور المتأخّرين بل متأخّر المتأخّرين(2) قد ثبت في محلّه عدم كونها حجة ودليلاً علی الحكم الشرعی(3).
وثالثاً: حيث إنّ الوطن الأصلی والعرفی لاينقص عن الوطن الشرعی فالقول بثبوته يلازم بأنّه لايتصور الإعراض عن الوطن الأصلی والعرفی أيضاً إذا كان ملك متوطنه باقياً بعد الإعراض!
إن قلت: لوكان المراد من الوطن الواقع عنه السؤال في الصحيحة بقوله: (ما الاستيطان؟) هو الوطن العرفی، فهو أمر واضح لا يخفی علی أحد فكيف كان
ص: 140
حقيقته أو محقّقه مخفيّاً علی مثل ابن بزيع حتّی يحتاج إلی السؤال؟! فلا بدّ من حمل السؤال علی معنی آخر خفیّ عنده وهو أنّ الوطن الشرعی بما ذا يحقّقه؟قلنا: إنّ ما قلت من أنّ الوطن العرفی بعد معروفيّة موضوعه لايناسب أن يكون واقعاً مورداً للسئوال عن كيفيّة تحقّقه أمر صحيح، لكن بعد ما كان الوطن العرفی يقسّم إلی قسمين: الوطن الأصلی وهو ما يكون محل ولادة الشخص ومحل إقامته واستقراره وموطن والديه من بدو الأمر وحين ولادته، وأخری ما يكون وطناً اتخاذياَ مستجداً وهو ما يتخذه الإنسان مسكناً ومقراً لتعيّشه من بعد ما هاجر من وطنه الأصلی، فمن القريب كون السؤال ناظراً إلی هذا المعنی الثانی بعد ما كان المرتكز في ذهن السائل هو القسم الأول منه، يشهد لذلك سؤاله عن الضيعة لا عن مولده لما يتّفق بعضاً أن يكون ضيعة الشخص ومكسبه في غير مولده وموطنه، وحيث كان هذا المعنی الثانی غير مرتكز عنده أجاب الإمام علیه السلام بما يتحقّق معها الوطن الإتخاذی بعنوان صغری من صغرياته علی سبيل المثال.
فتخلّص ممّا ذكرنا إلی هنا أنّ القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة في المقام ممّا لا دليل عليه بل الدليل علی خلافه.
ص: 141
قد عرفت أنّ الوطن يستعمل إجمالاً في كلمات الفقهاء في المعانی الثلاث: الأصلی، والمستجدّ أو الإتخاذی، والشرعی التعبدی، فالجواب عن هذا السؤال مبنی علی بيان أنّ المراد من «الوطن» أیّ هذه المعانی الثلاث؟ فإن كان المراد منه الأوّلان: الأصلی والإتخاذی فلايعتبر فيهما سوی الصدق العرفی اللغوی أی اتخاذ كونه مقراً ومسكناً لنفسه وعياله وأولاده بحيث لو سئل عن مسكنه؟ لأجاب أسكن البلد الفلانی، كان له ملك أو لا، كما صرّح به أرباب اللغة منهم خليل بن أحمد الفراهيدی (م 175 ه-) صاحب كتاب العين حيث قال:
الوطن موطن الإنسان ومحله، وأوطان الأغنام: مرابضها الّتي تأوی إليها، ويقال: أوطن فلان أرض كذا، أی: اتخذها محلاً ومسكناً يقيم بها، والموطن كلّ مكان قام به الإنسان لأمر(1).
وكذا بعض الفقهاء من الفريقين كالإمام الراحل قدس سره في المقام حيث قال:
ولا يعتبر فيه (الوطن) حصول ملك ولا إقامة ستة أشهر، نعم يعتبر في المستجدّ الإقامة فيه بمقدار يصدق عرفاً أنّه وطنه ومسكنه، بل قد يصدق الوطن بواسطة طول الإقامة إذا أقام في بلد بلا نية للإقامة دائماً ولا نية تركها(2).
وقد تقدّم حكاية الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة» أيضاً عن ظاهر الحنابلة وصريح الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة أنّهم قالوا:
ص: 142
إنّ الوطن هو المحل الّذی يقيم فيه المرء علی الدوام صيفاً وشتاءً، أو ما نوی الإقامة فيه علی التأييد(1).
من دون أن يضافوا إليه شيئاً.
وببيان آخر: إنّ المتوطّن كما صرّح به أرباب اللغة أيضاً هو عبارة أخری عن الحاضر ويقابله المسافر الّذی نائی عن أهله، خرج عن موضع حضوره سواء كان له فيه ملك أم لا (2).
نعم غاية ما يستفاد من عباراة مثبتي الوطن الشرعی، أنّ الملك لا فائدة له لإنشاء الوطن وايجاده، بل ثمرة ذلك بناءً علی ذلك إنّما هو لزوال حكم الوطن، فإن كان له فيه ملك لاسيّما إذا كان قابلاً للسكنی وقد سكن فيه ستّة أشهر بقصد التوطّن الأبدی فإنّه لايزول عنه حكم الوطنيّة حتّی بعد الإعراض عنه لصيرورة الوطن حينئذ وطناً شرعيّاً، بخلاف ما إذا لم يكن له فيه ملك وقد أعرض عنه إلی وطن آخر فإنّه يزول عنه حكم الوطنيّة.
قال الإمام الراحل قدس سره :
الوطن ...، وهو المكان الّذی اتخذه مسكناً ومقراً له دائماً، ثم قال: لو أعرض عن وطنه الأصلی أو المستجدّ وتوطن في غيره فإن لم يكن له فيه ملك أو كان ولم يكن قابلاً للسكنى أو كان ولم يسكن فيه ستة أشهر بقصد التوطن الأبدی يزول عنه حكم الوطنية، وأمّا إذا كان له ملك وقد سكن فيه ستة أشهر بعد اتخاذه وطناً دائماً أو كونه وطناً أصلياً فالمشهور على أنّه بحكم الوطن الفعلی، ويسمّونه بالوطن الشرعی،
ص: 143
فيوجبون عليه التمام بالمرور عليه ما دام ملكه باقياً فيه، بل قال بعضهم بوجوب التمام إذا كان له فيه ملك غير قابل للسكنى ولو نخلة ونحوها، بل فيما إذا سكن ستة أشهر ولو لم يكن بقصد التوطن دائماً بل بقصد التجارة مثلاً، والأقوى خلاف ذلك كلّه، فلا يجری حكم الوطن فيما ذكر كلّه، ويزول حكم الوطن مطلقاً بالاعراض، وإن كان الأحوط الجمع بين إجراء حكم الوطن وغيره فيها خصوصاً الصورة الأولى(1).
وقال السيّد الطباطبائی رحمه الله في «العروة»:
إذا أعرض عن وطنه الأصلی أو المستجدّ وتوطّن في غيره فإن لم يكن له فيه ملك أصلاً أو كان ولم يكن قابلاً للسكنى، كما إذا كان له فيه نخلة أو نحوها، أو كان قابلاً له ولكن ولم يسكن فيه ستة أشهر بقصد التوطن الأبدی يزول عنه حكم الوطنية فلايوجب المرور عليه قطع حكم السفر، وأمّا إذا كان له فيه ملك قد سكن فيه بعد اتّخاذه وطناً له دائماً ستّة أشهر، فالمشهور علی أنّه بحكم الوطن العرفی وإن أعرض عنه إلی غيره ويسمّونه بالوطن الشرعی، ويوجبون عليه التمام إذا مرّ عليه ما دام بقاء ملكه فيه لكنّ الأقوی عدم جريان حكم الوطن عليه بعد الإعراض، فالوطن الشرعی غير ثابت(2).
وأمّا إن كان المراد منه المعنی الثالث أی الوطن الشرعی فإنّه يعتبر فيه الملكيّة بلاريب بل ادعی عليه الإجماع، لما عرفت من أنّ المستفاد من عبارات مثبتي الوطن الشرعی أنّه يشترط في ثبوته اجمالاً تحقق أمور ثلاثة:
الف: أن يكون له فيه ملك أو منزل مملوك.
ب: قد استوطنه ستة أشهر
ص: 144
.ج: وأن يتخذه محلاً للاستقرار والسكونة فيه علی الدوام.
قد استدلّوا عليه بصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَقْصُرُ في ضَيْعَتِهِ؟ فَقَالَ: «لَا بَأْسَ مَا لَمْ يَنْوِ مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مَنْزِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ، فَقُلْتُ: مَا الِاسْتِيطَان؟ فَقَالَ: أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مَنْزِلٌ يُقِيمُ فِيهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُتِمُّ فِيهَا مَتَى دَخَلَهَا»(1).
قال الشيخ محمد حسن النجفی رحمه الله في «الجواهر»:
وعلی كلّ حال فالوطن ما عرفت (من أنّه كلّ موضع يتّخذه الإنسان مقراً ومحلاً له علی الدوام إلی الموت) أو كلّ موضع له فيه ملك قد استوطنه فيما مضی من الزمان ستة أشهر فصاعداً كما هو المشهور نقلاً وتحصيلاً بل لاخلاف فيه إلا من نادر، بل في الروض وعن التذكرة الإجماع عليه وهو الحجّة(2).
ثمّ إنّ المستفاد من ابن قدامة الفقيه المعروف الحنبلی (م 620 ه-) أيضاً إنّهم وإن قالوا في معنی الوطن ما مرّ من أنّه : هو المحلّ الّذی يقيم فيه المرء علی الدوام صيفاً وشتاءً، أو ما نوی الإقامة فيه علی التأييد، إلا أنّهم قد حكوا إجمالاً بالإتمام والصيام بمجرد الملك أو الضيعة حيث قال:
وإن مرّ في طريقه علی بلدٍ له فيه أهلٌ أو مالٌ فقال أحمد في موضع: يتمّ، وقال في موضع: يتمّ إلا أن يكون مارّاً، وهذا قول ابن عباس، وقال الزهری: إذا مرّ بمزرعة له أتمّ، وقال مالك: إذا مرّ بقرية فيها أهله أو ماله
ص: 145
أتمّ إذا أراد أن يقيم بها يوماً وليلة، وقال الشافعی وابن المنذر: يقصّر ما لم يجمع علی إقامة أربع لأنّه مسافر لم يجمع علی أربع(1).
لكن يمكن حمل كلامهم علی أنّ الملك من أحد مسقطات السفر لا أنّه أمارة للوطن، وكيف كان بعد ما عرفت في الفرع السابق تفصيلاً أنّ مختارنا في المقام أنّ القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ممّا لا دليل عليه بل الدليل علی خلافه، وأنّ ما ورد في الصحيحة مثل قوله: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مَنْزِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ» واردة لبيان الوطن العرفی لا الشرعی، فليس لهذا القول مجالاً حتی نبحث أنّه هل يعتبر في صدقه أن يكون له فيه ملك أم لا؟
وأمّا ما دعی من دعوی الإجماع عليه، فيمكن المناقشة فيه بأنّه علی فرض ثبوته إجماع من جانب المتأخّرين بل متأخّري المتأخّرين، زائداً علی أنّه إجماع مدركی مأخذه الرواية وليس بإجماع تعبّدی صرف كاشف عن قول المعصوم علیه السلام .
ثمّ حان هنا وقت الجواب عن المسألة الثانية الرئيسيّة الّتي يجب أن نجيب عنها، نطرحها تحت عنوان الفرع الآتی:
ص: 146
مسألة الّتي لا تنقص أهميّتها عن مسألة اثبات الوطن الشرعی بل هی أكثر أهميّة منها هی مسألة اثبات أنّه «هل ملاك الإتمام كون الشخص غير مسافر أو كونه متوطّناً»؟
سيتّضح لك إن شاءالله تعالی أنّ مسألة القصر والإتمام ليست دائرة مدار صدق الوطن وعدمه حتّی يبذل الفقيه جهده في تبيين مفهومه وتشريح شرائطه من أنّه هل يعتبر في صدقه نيّة الدوام أم لا؟ أو هل يشترط أن يكون له فيه منزلاً مملوكاً أو لا؟ بل إنّهما كانا يدوران حول كونه مسافراً أو غير مسافر، والوطن حيث كان من إحدی مسقطات السفر تتمّ به الصّلاة وإلا ليس له دخل، فيكفی في لزوم الإتمام عليه عدم صدق كونه مسافراً وإن لم يصدق أنّه متوطّن، قد دلّت علی ذلك أخبار كثيرة متواترة، منها:
صحيحة الْعِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «لَا يَزَالُ الْمُسَافِرُ مُقَصِّراً حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ»(1).
وصحيحة الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ الرِّضَا علیه السلام فِي كِتَابِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ: «وَالتَّقْصِيرُ في ثَمَانِيَةِ فَرَاسِخَ وَمَا زَادَ وَإِذَا قَصَّرْتَ أَفْطَرْتَ»(2).
وموثقة سَمَاعَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُسَافِرِ في كَمْ يُقَصِّرُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: «فِی مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَذَلِكَ بَرِيدَانِ وَهُمَا ثَمَانِيَةُ فَرَاسِخَ»، الْحَدِيثَ (3).
ص: 147
وصحيحة زُرَارَةَ وَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُمَا قَالا: قُلْنَا لِأَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام: مَا تَقُولُ في الصَّلَاةِ في السَّفَرِ كَيْفَ هِیَ؟ وَكَمْ هِیَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (وَإِذا
ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فَصَارَ التَّقْصِيرُ في السَّفَرِ وَاجِباً كَوُجُوبِ التَّمَامِ في الْحَضَرِ، قَالا: قُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) وَلَمْ يَقُلِ افْعَلُوا، فَكَيْفَ أَوْجَبَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ علیه السلام: أَ وَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: (فَمَنْ
حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا وَاجِبٌ مَفْرُوضٌ؟ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَهُ في كِتَابِهِ وَصَنَعَهُ نَبِيُّهُ، وَكَذَلِكَ التَّقْصِيرُ في السَّفَرِ شَیْ ءٌ صَنَعَهُ النَّبِیّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وَذَكَرَهُ
اللَّهُ في كِتَابِهِ»، الْحَدِيثَ(1).
وصحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «سَمَّى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قَوْماً صَامُوا حِينَ أَفْطَرَ وَقَصَّرَ: عُصَاةً، وَقَالَ: هُمُ الْعُصَاةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ أَبْنَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَ أَبْنَائِهِمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا»(2).
وموثقة مُحَمَّدِ بْنِ أَبِی عُمَيْرٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَبِی حَمْزَةَ الثُّمَالِیِّ قَالَ: كَانَ عَلِیُّ بْنُ الْحُسَيْنِ علیه السلام إِذَا سَافَرَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَبَقِیَ مَوَالِيهِ يَتَنَفَّلُونَ فَيَقِفُ يَنْتَظِرُهُمْ فَقِيلَ لَهُ أَ لَا تَنْهَاهُمْ فَقَالَ: «إِنِّی أَكْرَهُ أَنْ أَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى وَالسُّنَّةُ أَحَبُّ إِلَیَّ»(3).
ص: 148
رجال السند وهم: أحمد بن محمّد بن خالد البرقی، ومحمّد بن خالد البرقی، ومحمّد بن أبی عمير، وأبو حمزة الثمالی وإن قال النجاشی في محمّد بنخالد: إنّه ضعيف في الحديث(1)، كلّهم ثقات، ولا يقدح إرسال ابن أبی عمير لكونه من الأجلاء الّتي أجمعوا الأصحاب علی تصحيح ما يصحّ عنهم وأقرّوا لهم بالفقه وكونهم ممّن لايروون ولايرسلون إلا عن الثقات(2).
ومرفوعة الصدوق رحمه الله قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «مَنْ صَلَّى في السَّفَرِ أَرْبَعاً فَأَنَا إِلَى اللَّهِ مِنْهُ بَرِی ءٌ» يَعْنِی مُتَعَمِّداً (3).
ومرفوعة الثانية منه أيضاً قَالَ : وَ قَالَ الصَّادِقُ علیه السلام «الْمُتَمِّمُ في السَّفَرِ كَالْمُقَصِّرِ في الْحَضَرِ»(4).
إلی غير ذلك من الأخبار والأحاديث، فبناءً علی ذلك كلّ من توطّن في موضع غير وطنه الأصلی لابصورة دائميّة بل بصورة موقتة محدودة سواء كان لأجل التحصيل والتدريس، أو للشغل والتجارة، أو للتوظّف والمؤاجرة كسنة أو أزيد، فيجب عليهم الإتمام لا بملاك أنّهم مقيمون بحيث لو خرجوا منها بمقدار المسافة الشرعيّة ثمّ عادوا إليها لم يلزمهم تجديد النيّة وقصد الإقامة، بل بملاك كونهم ما داموا كذلك لا يعدّون من المسافرين ولم يعدّوا حينها من الضاربين في
ص: 149
الأرض، فلايضرّ خروجهم من تلك الأمكنة سواء كان بمقدار المسافة أو أقلّ أو أزيد كمن خرج من وطنه الأصلی.وبذلك يظهر أنّه لو اشتغل شخص بعمل في غير بلده الأصلی ولكن يسافر كلّ يوم لأجل شغله إلی تلك البلد كالمعلّم الّذی يبيت مع أهله في بلد ويشتغل بالدراسة نهاراً في بلد آخر ولم يزل علی هذا المنوال مدّة طويلة فهو يتمّ صلاته في كلّ من البلدين وإن تخلّلت بينهما المسافة الشرعيّة، وما ذلك إلا أنّه لايصدق عليه في كلا البلدين عنوان المسافر إذا كان عمله مستمراً، والمكلّف ما لم يكن مسافراً لم يشرّع في حقّه التقصير.
بعد ما مرّ أنّ الوطن يستعمل إجمالاً في كلمات الفقهاء في المعانی الثلاث: الأصلی، والمستجدّ أو الإتخاذی، والشرعی التعبّدی، فيختلف الإعراض عنه أيضاً علی كلّ من هذه المبانی، فأمّا علی القول بانحصاره في الوطن العرفی اللغوی، وأنّ الوطن الشرعی غير ثابت بل الدليل علی خلافه، وأنّ مآل الوطنين لإتخاذی والشرعی هو الوطن العرفی، فيحصل الإعراض بأحد وجهين: الإعراض القصدی العملی، والإعراض العرفی القهری.
أمّا الأوّل: الإعراض القصدی العملی بأن قصد الهجرة وهجر منه عملاً بأن توجّه إلی غيره، وإن لم يتّخذ بعده وطناً آخر، يتعرّض له السيّد الطباطبائی رحمه الله في «العروة» حيث قال:
ص: 150
يزول حكم الوطنيّة بالإعراض والخروج وإن لم يتّخذ بعد وطناً آخر، فيمكن أن يكون بلا وطن مدّة مديدة(1).والإمام الراحل قدس سره بعد ما نسب القول بالوطن الشرعی إلی المشهور ذهب إلی أنّ الأقوی خلافه، ثمّ يتعرّض لصورة الإعراض وقال:
لو أعرض عن وطنه الأصلی أو المستجد وتوطّن في غيره فإن لم يكن له فيه ملك، أو كان ولم يكن قابلاً للسكنی، أو كان ولم يسكن فيه ستة أشهر بقصد التوطّن الأبدی يزول عنه حكم الوطنيّة، وأمّا إذا كان له ملك وقد سكن فيه ستة أشهر بعد اتخاذه وطناً دائماً أو كونه وطناً أصلياً فالمشهور على أنّه بحكم الوطن الفعلی، ويسمّونه بالوطن الشرعی، فيوجبون عليه التمام بالمرور عليه ما دام ملكه باقياً فيه، بل قال بعضهم بوجوب التمام إذا كان له فيه ملك غير قابل للسكنى ولو نخلة ونحوها، بل فيما إذا سكن ستة أشهر ولو لم يكن بقصد التوطن دائماً بل بقصد التجارة مثلاً، والأقوى خلاف ذلك كلّه، فلا يجری حكم الوطن فيما ذكر كلّه، ويزول حكم الوطن مطلقاً بالاعراض، وإن كان الأحوط الجمع بين إجراء حكم الوطن وغيره فيها خصوصاً الصورة الأولى(2).
والظاهر أنّ مراده من الإعراض في ذيل كلامه للزوال كما صرّح به في صدر كلامه، هو الإعراض القصدی العملی، فالقول برعاية الإحتياط حينئذ إذا كان له فيه ملك احتياط مندوبی نشأ إمّا من صحيحة محمّد بن اسماعيل بن بزيع
ص: 151
المتقدمة (1) مع ما فيها من الملاحظات، أو لأجل مراعاة عدم مخالفة هؤلاء القائلين بالوطن الشرعی.
وكيف كان يمكن أن نستدلّ علی ذلك بموثقة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَهُ بِهَا دَارٌ وَمَنْزِلٌ فَيَمُرُّبِالْكُوفَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجْتَازٌ لَا يُرِيدُ الْمُقَامَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يَتَجَهَّزُ يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «يُقِيمُ في جَانِبِ الْمِصْرِ وَيَقْصُرُ، قُلْتُ: فَإِنْ دَخَلَ أَهْلَهُ؟ قَالَ: عَلَيْهِ التَّمَامُ»(2).
بتقريب أنّ السائل كان من أهل الكوفة سابقاً وقد أعرض عنها وتوطّن في البصرة حالاً، إلا أنّ له علاقة ملك ومنزل في الكوفة والمفروض أنّه مجتاز بها فعلاً يريد المقام فيه أقلّ من عشرة أيّام، فسئل أنّه هل يوجب مجرد مروره هذا علی الكوفة التمام؟ فأجاب الإمام علیه السلام بأنّه لا يكون الا إذا دخل بيته بالبصرة.
وأمّا الثانی: وهو الإعراض العرفی القهری بأن يطول مدّة خروجه عن وطنه السابق مقداراً يصحّ عرفاً سلب عنوان المقيم والمتوطن عنه بالنسبة إلی تلك البلد، لما ثبت في محلّه بأنّ عدم صحّة السلب وصحة الحمل بالحمل الأولی الذاتی أو الشائع الصناعی علامة لكون وضع اللفظ لنفس المعنی أو كونه من مصاديقه وأفراده حقيقة، وأنّ صحّة سلبه بالحملين أو بأحدهما دليل علی عدم كونه منها(3)، ونعبّر عن هذا بالإعراض العرفی القهری.
وقد ورد أيضاً أنّ «من سبق إلی مسجد أو مشهد أو نحوهما فهو أحقّ بها ما لم يطل خروجه عنها بمقدار ليلة أو يوم وإن لم يكن من قصده الإعراض عنها،
ص: 152
بل قد خرج لمجرد التوضّوء أو التطهير»، وما ذلك إلا من باب سلب اسم الجالس بالنسبة إليه، وحيث لا خصوصيّة فيها نتعدّی منها إلی المقام ونقول كلّ من طال خروجه عن وطنه مدّة معتدّة بها بحيث يصحّ عنه سلب اسم المتوطّن عرفاً فيزول عنه حكم الوطنيّة، منها:موثقة طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام: «سُوقُ الْمُسْلِمِينَ كَمَسْجِدِهِمْ فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إِلَى اللَّيْلِ، وَكَانَ لَا يَأْخُذُ عَلَى بُيُوتِ السُّوقِ كِرَاءً»(1).
ومرسلة مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِالْمَدِينَةِ أَوِ الْحِيرَةِ أَوِ الْمَوَاضِعِ الّتي يُرْجَى فِيهَا الْفَضْلُ فَرُبَّمَا خَرَجَ الرَّجُلُ يَتَوَضَّأُ فَيَجِی ءُ آخَرُ فَيَصِيرُ مَكَانَهُ، قَالَ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ»(2).
ومن المعلوم أنّ العرف في صحّة حمل الألفاظ إلی معانيها وعدمه فرّق في المصلّی والباسط وأمثالهما بين من كان سجادته وبساطه موجودةً في موضعه، وبين من لم يكن كذلك، ففی المقام أيضاً فرّق بين من بقی منزله وداره في وطنه السابق وبين من لم يكن، مع الإذعان بأنّ مجرد الدار ما لم تكن مقرونة بقرينة لادلالة فيها لبقاء علقة الوطنيّة، لما نری أنّ بعض الأغنياء المتموّلين كثيراً ما يهيّئون لأنفسهم دوراً وبيوتاً في بعض الأمصار والبلاد الّتي يسافرون إليها أحياناً لأجل الشغل أو التفريح من دون أن يكون من قصدهم التوطّن فيها أبداً كما هو ظاهر الأمر في موثقة ابن بكير السابقة.
ص: 153
وأمّا إذا لم يكن خروجه بهذا المقدار بأن تردّد في صدق اسم الوطن عليه ولم يهجر عنه بنحو الإعراض العملی العرفی، فيستصحب موضوع الوطنبالنسبة إليه كلّما وصل إلی وطنه وإن لم ينو فيه الإقامة العشرة الّتي توجب التمام عليه، أو مرّ به ولو آناًمّا.
هذا إذا قلنا بأنّ الوطن منحصر في الوطن العرفی اللغوی وأنّ مآل الوطنين الشرعی والإتخاذی هو العرفی، وأمّا بناءً علی القول بثبوت الوطن الشرعی فمن توطّن موضعاً وإن لم يكن هذا وطنه الأصلی وقد أقام فيه فيما مضی ستة أشهر مطلقاً أو استوطن المدة بقصد التوطن الدائمی وكان له فيه ملك أو منزل مملوك، فما دام ملكه باقياً هاهنا يجب عليه الصيام والإتمام متی يمرّ به وإن أعرض عنه، فإذا مرّ الشخص بهذا الموضع حال سفره ولم يكن مروره فيه بعنوان الإقامة العشرة يحكم عليه بكونه غير مسافر تعبداً وشرعاً، فزوال حكم الوطنيّة بالنسبة إليه لا يكون إلا بزوال ملكه فيها، أو بعدم الملك له هاهنا من بدو الأمر، أو بعدم وجود شرط آخر من الشروط المذكورة حسب المبانی المختلفة الّتي مرّت الإشارة إليها في بيان معنی الوطن، إلی ذلك أشار الإمام الراحل بقوله:
لو أعرض عن وطنه الأصلی أو المستجد وتوطّن في غيره فإن لم يكن له فيه ملك، أو كان ولم يكن قابلاً للسكنی، أو كان ولم يسكن فيه ستة أشهر بقصد التوطّن الأبدی يزول عنه حكم الوطنيّة(1).
وبذلك يظهر حكم المسألة في الفرع الآتی أيضاً.
ص: 154
بعد ما تبيّن معنی الوطن حسب المبانی المختلفة، تصل النوبة إلی بيان حكم عبادتي الصوم والصلاة لو تردّد في صدق عنوان «الوطن» و زواله إذا مرّ به ولم ينو فيه الإقامة.
أمّا بناءً علی القول بانحصار الوطن في الوطن العرفی اللغوی، فبمجرد الإعراض العملی يزول عنه حكم الوطنيّة وإن كان له فيه ملك أو دار، فمن لم يكن من عزمه العود إلی وطنه السابق لأجل التعيّش والسكونة فيها فمتی يمرّ بها يقصّر ويفطر مثل امرأة الّتي تزوّجت وانتقلت من بلدها إلی بلد زوجها بعد تزويجها، فهذه المرأة متی تذهب إلی بلد أبيها وأقاربها لأجل زيارة والديها وصلة رحمها وأمثالهما ولم تنو فيها الإقامة تقصّر صلاتها وتفطر صيامها.
وكذلك الأمر علی هذا المبنی لو طال خروجه عن وطنه بحيث يصحّ عنه عرفاً سلب عنوان المقيم والمتوطن بالنسبة إلی ذلك البلد يفطر ويقصّر.
وأمّا إذا لم يكن خروجه بقدر يصحّ عرفاً سلب عنوان المقيم والمتوطن عنه بالنسبة إلی وطنه، أو شك في بقائه وعدمه ولم يهجر عنه بنحو الإعراض العملی العرفی، فيستصحب موضوع الوطن بالنسبة إليه كلّما وصل إليه وإن لم ينو فيه الإقامة العشرة الّتي توجب التمام عليه، أو مرّ به ولو آناًمّا، فيتمّ به صلاته ويصوم.
وأمّا بناءً علی القول بثبوت الوطن الشرعی، فقد عرفت آنفاً بأنّ من توطّن موضعاً وإن لم يكن هذا وطنه الأصلی وقد أقام فيه فيما مضی ستة أشهر مطلقاً أو استوطن المدّة بقصد التوطّن الدائمی وكان له فيه ملك أو منزل مملوك، فما دام ملكه باقياً هاهنا يجب عليه بعنوان الوطن الشرعی التعبّدی الصيام والإتمام متی يمرّ به وإن أعرض عنه، فزوال حكم الوطنيّة بالنسبة إليه لا يكون إلا بزوال الملك
ص: 155
عنه، أو بعدم الملك له هاهنا من بدو الأمر، أو بعدم وجود شرط آخر من الشروط المذكورة حسب أقوال المختلفة الّتي مرّت الإشارة إليها في بيان معنی الوطن.
إلی هنا تمّ بحمد الله والمنّة ما أردنا أن نبحث عنه تحت عنوان «مفاهيم الوطن الأصلی والمُستَجَدّ أو الإتخاذی والوطن الشرعی التّعبدی وفروعاتها الستّة».
❊ ❊ ❊
ص: 156
ص: 157
ص: 159
الطّواف هو الواجب الثانی في العمرة، وهو عند الفقهاء عبارةٌ عن دوران سبعة أشواط حول الكعبة المكرّمة بتفصيل وشرائط مذكور في الكتب الفقهيّة، نبحث في هذا المجال فعلاً عن مسألة مقدار المطاف وسعته وما له من الفروع والمسائل، نذكر في الإبتداء أقوال المطروحة فيها وأدلّتها، ثمّ نتعرّض لما هو مختارنا في المقام:
الأوّل: ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، بل ادّعی أنّه ممّا كاد أن يكون إجماعاً، أو أجمعوا عليه أو مقطوع عندهم، وهو وجوب كونه بين الكعبة ومقام إبراهيم علیه السلام مراعياً قدر ما بينهما من البُعد إجمالاً في جميع أطراف البيت، وحدّ ذلك المقدار ستّةٌ وعشرون ذراعاً ونصف ذراع تقريباً.
قال الشيخ رحمه الله في «الخلاف»:
إذا تباعد من البيت حتّی يطوف بالسقاية وزمزم لم يجزه، وقال الشافعی: يجزيه، دليلنا: إنّ ما ذكرناه مقطوع علی إجزائه وما ذكروه ليس علی إجزائه دليل، فالاحتياط يقتضی ما قلناه(1).
وقال الفيض الكاشانی رحمه الله في «المفاتيح»:
وأن يطوف بين البيت والمقام، مراعياً قدر ما بينهما من جميع الجهات على المشهور، بل كاد يكون إجماعاً للنصّ، خلافاً للإسكافی والصدوق فجوزاه خارج المقام مع الضرورة، للصحيح: عن الطواف
ص: 160
خلف المقام، قال: «ما أحبّ ذلك، وما أرى به بأساً فلا تفعله الا أن لا تجد منه بداً»(1).
وقال السيّد الطباطبائی رحمه الله في «الرياض»:
وأن يكون طوافه بين المقام والبيت مراعياً قدر ما بينهما من جميع الجهات مطلقاً على المشهور، بل قيل: كاد أن يكون إجماعاً، وفی الغنية الإجماع عليه صريحاً (2).
وقال المحقق النّراقی رحمه الله في «مستنده»:
ومنها (واجبات الطواف) إخراج المقام عن الطواف بأن يكون الطواف بين البيت والمقام، مراعياً قدر ما بينهما من جميع الجهات، علی المشهور بين الأصحاب، بل قيل: كاد أن يكون إجماعاً، وعن الغنية: الإجماع عليه(3).
وقال في «الجواهر»:
لا خلاف معتدّ به أجده في وجوب كون الطواف بينه (المقام) وبين البيت، بل عن الغنية الإجماع عليه(4).
وفی «الغنية» ادّعی علی ذلك الإجماع وأنّه طريقة الإحتياط وموجب لليقين لبرائة الذمّة، حيث قال:
والواجب في الطواف النية، ومقارنتها، واستمرار حكمها، والطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة، والبداءة بالحجر الأسود والختام به، وأن يكون سبعة أشواط، وأن يكون البيت عن يسار الطائف، وأن يكون
ص: 161
خارج الحجر، وأن يكون بين البيت والمقام، فمن ترك شيئاً من ذلك لم يجزه الطواف، بدليل الإجماع الماضی ذكره، وطريقة الاحتياط، واليقين لبراءة الذمة، لأنّه لا خلاف في براءة الذمة منه إذا فعل على الوجه الّذی ذكرناه، وليس على براءتها منه إذا فعل على خلافه دليل(1).
وادّعی العلامة رحمه الله في «التّذكرة» أنّه كذلك عندنا حيث قال:
يجب عندنا أن يكون الطّواف بين البيت والمقام ويدخل الحجر في طوافه، فلوطاف في المسجد خلف المقام لم يصحّ طوافه لأنّه خرج بالتّباعد عن القدر الواجب فلم يكن مجزئاً ...، وقد روى الصدوق عن أبان عن محمّد الحلبی عن الصادق علیه السلام، قال: سألته عن الطواف خلف المقام، قال: «ما أحبّ ذلك وما أرى به بأساً فلا تفعله إلّا أن لا تجد منه بدّا»، وهو يعطی الجواز مع الحاجة كالزحام(2).
وفی «المدارك» و«الحدائق»(3) أنّه مقطوع عند الأصحاب، فقال في الأوّل:
قد قطع الأصحاب بأنّه يجب مراعاة قدر ما بين البيت والمقام من جميع الجهات، وفی رواية محمّد بن مسلم المتقدمة دلالة عليه(4).
وهوأيضاً خيرة الإمام الراحل قدس سره في «التّحرير» حيث قال:
الخامس(من واجبات الطّواف) أن يكون الطّواف بين البيت ومقام إبراهيم علیه السلام ومقدار الفصل بينهما في سائر الجوانب، فلا يزيد عنه، وقالوا: إنّ الفصل بينهما ستة وعشرين ذراعاً ونصف ذراع، فلا بدّ أن لا يكون الطّواف في جميع الأطراف زائداً على هذا المقدار، وقال أيضاً: لا يجوز جعل مقام إبراهيم داخلاً في طوافه، فلو أدخله بطل، ولو أدخله
ص: 162
في بعضه أعاد ذلك البعض، والأحوط إعادة الطواف بعد إتمام دوره بإخراجه(1).
القول الثّانی: جوازه خارج المقام إذا اقتضاه الضّرورة، مراعياً في ذلك الأقرب إلی المقام فالأقرب، هذا القول منسوب إلی ابن الجنيد الإسكافی رحمه الله (2)، وقد أفتی به بعض فقهائنا المعاصرين كالشّيخ الفاضل رحمه الله (3).
القول الثّالث: جوازه خارج المقام إختياراً علی كراهةٍ الّذی اختاره الصّدوق رحمه الله ظاهراً في «الفقيه»(4)، حيث لم يتعرّض أصلاً لصحيحة محمّد بن مسلم الآتی الدالّة علی لزم كون الطواف بين البيت والمقام، وهو أيضاً خيرة بعض فقهائنا المعاصرين كالمحقّق الخوئی رحمه الله في «المعتمد(5)، وشيخنا الاستاذ آية الله مكارم الشّيرازی، والسيّد القائد الخامنه ای، والشّيخ الوحيد الخراسانی، والسيّد علیّ السيستانی، والشّيخ حسين النّوری الهمدانی أدام الله أظلالهم(6)، إلّا أنّ بعضهم كالسيّد السّيستانی والشّيخ الوحيد صرّحوا بكراهة ذلك، وبعض آخر منهم صرّحوا بأنّ رعاية الحدّ بين البيت والمقام حسنٌ ومندوبٌ.
ص: 163
والعامّة أيضاً بمذاهبهم الأربعة من القائلين بذلك لكنّه بلا كراهة، والمجوّزين منهم لم ينحصروا في الشافعيّة فقط كما يظهر من بيان «الخلاف»
المتقدّمة، قال ابن قدامة الحنبلی:
وإن تباعد من البيت في الطواف أجزأه ما لم يخرج من المسجد، سواء حال بينه وبين البيت حائل مَن فيه أو غيره، أو لم يحل، لأنّ الحائل في المسجد لا يضرّ كما لو صلّی في المسجد مؤتمّاً بالإمام من وراء حائل، وقد روت أم سلمة قالت: شكوت إلی رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّی أشتكی، فقال: طوفی من وراء الناس وأنت راكبة، قالت: فطفت ورسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حينئذ يصلّی إلی جنب البيت، متفق عليه(1).
وقال الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة»:
للطواف مطلقاً بأنواعه شروط، فلا يصحّ إلا بها، فالشافعيّة قالوا: للطواف في ذاته ثمانية شروط: ...، السادس: كونه في المسجد وإن تسع، فيصحّ الطواف ما دام في المسجد ولو في هوائه أو علی سطحه ولو مرتفعاً عن البيت، ولو حال حائل بين الطائف والبيت، ... والمالكيّة قالوا: يشترط لصحّة الطواف شروط: ...، السابع: أن يكون داخل المسجد، فلا يصحّ علی سطحه ولا خارجه، ...، والحنابلة قالوا: يشترط لصحّة الطواف شروط: ...، ومنها أن يكون بالمسجد فلا يصحّ خارجه، ويصحّ علی سطحه، والحنفيّة قالوا: يشترط لصحّة الطواف أمور: أحدها: أن يكون داخل المسجد الحرام حتّی لو طاف بالكعبة من وراء زمزم، أو من وراء العمد جاز، أمّا إذا طاف خارج المسجد فإنّ طوافه لا يصحّ(2).
ص: 164
أدلّة القول بلزوم كون الطّواف بين البيت والمقام مراعياً قدر ما بينهما من البُعد في جميع أطراف البيت.
قد استدلّ لهذا القول مضافاً إلی الشّهرة ، أو الإجماع المدّعاة بما رواه الكلينی رحمه الله موثوقاً بل صحيحاً عن مُحَمَّد بْنِ يَحْيَى وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يَاسِينَ الضَّرِيرِ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ حَدِّ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الَّذِی مَنْ خَرَجَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ؟ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَالْمَقَامِ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تَطُوفُونَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ الْحَدُّ مَوْضِعَ الْمَقَامِ الْيَوْمَ، فَمَنْ جَازَهُ فَلَيْسَ بِطَائِفٍ، وَالْحَدُّ قَبْلَ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَ وَاحِدٌ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ مِنْ نَوَاحِی الْبَيْتِ كُلِّهَا، فَمَنْ طَافَ فَتَبَاعَدَ مِنْ نَوَاحِيهِ أَبْعَدَ مِنْ مِقْدَارِ ذَلِكَ كَانَ طَائِفاً بِغَيْرِ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ، لِأَنَّهُ طَافَ في غَيْرِ حَدٍّ وَلَا طَوَافَ لَهُ»(1).
والرّواية كما تری دالّة بالصّراحة علی أنّ من طاف بالبيت خارج المقام، فإنّه بمنزلة من طاف بغير البيت كمن طاف بالمسجد، فلا طواف له، لأنّه طاف في غير حدّه.
أمّا رجال الحديث غير «ياسين الضّرير البصری» فكلّهم ثقات، وهم محمّد بن يعقوب الكلينی، ومحمّد بن يحيی العطّار، ومحمّد بن أحمد بن يحيی بن عمران الأشعری، ومحمّد بن عيسی بن عبيد، وحريز بن عبدالله السجستانی، ومحمّد بن مسلم رياح الثّقفی الّذی كان من أصحاب الإجماع ومن خواص
ص: 165
صحابي إمامي الباقر والصادق عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، إلا أنّه أضمر اسم الإمام المسئول عنه ولم يذكر اسمه.
لكن الإنصاف أنّ إضماره لا يضر باعتبارها بعد ما كان المضمر مثل محمّد بن مسلم لما حكی السيّد الخوئی رحمه الله في ترجمته في كتاب «المعجم» بأنّ الشيخ المفيد رحمه الله في رسالته العدديّة عدّه بكونه من الفقهاء والأعلام المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الّذين لايطعن عليهم ولا طريق إلی ذمّ واحد منهم، أو أنّه ممّن اجتمعت العصابة علی تصديقهم وانقيادهم لهم بالفقه، ثمّ أنّه ذكر رواياتاً في مدحه منها: صحيحة البقباق عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَیَّ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً: بُرَيْدٌ الْعِجْلِیُّ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَعْيَنَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَالْأَحْوَلُ، أَحَبُّ النَّاسِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً»(1)، ومنها ما رواه الكشی في رجاله صحيحاً عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ بِالْجَنَّةِ: بُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْعِجْلِیُّ، وَأَبُو بَصِيرٍ لَيْثُ بْنُ الْبَخْتَرِیِّ الْمُرَادِیُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَ زُرَارَةُ، أَرْبَعَةٌ نُجَبَاءُ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ لَوْ لَا هَؤُلَاءِ انْقَطَعَتْ آثَارُ النُّبُوَّةِ وَانْدَرَسَتْ»(2)، ومنها صحيحة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِی يَعْفُورٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: إِنَّهُ لَيْسَ كُلَّ سَاعَةٍ أَلْقَاكَ وَلَا يُمْكِنُ الْقُدُومُ وَيَجِی ءُ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَيَسْأَلُنِی وَلَيْسَ عِنْدِی كُلُّ مَا يَسْأَلُنِی عَنْهُ، فَقَالَ: «مَا يَمْنَعُكَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الثَّقَفِیِّ؟ فَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِی وَكَانَ عِنْدَهُ وَجِيهاً»(3)، ثمّ اضاف الخوئی رحمه الله : بأنّ الروايات في مدح محمّد بن مسلم وجلالة شأنه وعظم مقامه متظافرةٌ مستفيضةٌ،
ص: 166
تقدّمت هذه الرّويات في ترجمة يزيد بن معاوية، وزرارة بن أعين، وليث بن البختری، ومحمّد بن علی بن النعمان الأحول(1).
أضف إلی ذلك كلّه ما نقله الكشی رحمه الله في رجاله عَن حَمْدَوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يَاسِينَ الضَّرِيرِ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ مَا شَجَرَ في رَأْيِی شَیْ ءٌ قَطُّ إِلَّا سَأَلْتُ عَنْهُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ(2)، فبناءً علی ذلك لا يبقی شك ولا ريب في أنّ محمّد بن مسلم الثقفی لا يسأل مسائل دينه ولا أحكامه إلا عن الإمام المعصوم علیه السلام، إلا أنّه مردد بين الإمامين الباقر علیه السلام أو الصادق علیه السلام وهذا المقدار غير ضارّ باعتبار الرّواية حيث أنّهم: من نور واحد.
هذا مع أنّ الغالب و المعمول في المحاورات العرفيّة أنّ الراوی السائل يذكر اسم الإمام المسئول عنه في ابتداء كتابه أو مسائله ولم يكرر اسمه علیه السلام في ابتداء كلّ مسألة لجهة الاختصار، فما معنی قوله: سألته ثلاثين ألف حديث أو ستة عشر ألف حديث، أنّه سأله علیه السلام في ثلاثين ألف أو ستة عشر ألف مجلس.
وأمّا «ياسين الضَّرير البصری» الّذی وقع في طريق الرّواية ولم يرد له توثيقٌ صريحٌ في الرّجال فيمكن أن يقال بأنّه ثقة أيضاً علی التّحقيق.
بيان ذلك:
أمّا أوّلاً: إنّ الّذی روی عن الضّرير هو محمّد بن عيسی بن عبيد الثّقة ومن البعيد عادتاً أن يكون شيخه لا أقلّ غير موثوق عند شخصه، لأنّ الظاهر أنّ رواية
ص: 167
الثقة الجليل عن شخص يدلّ على كونه موثّقاً معتمداً عليه عند ذلك الثقة، وإن جهلنا حاله.
وثانياً: علی فرض عدم توثيق الضّرير بواسطه نقل محمّد بن عيسی فالخبر لا الرّاوی لا أقلّ يكون موثوقاً عند الكلينی رحمه الله لما شهد في مقدمة كتابه بأنّ ما فيه من الأخبار والأحاديث وارداً من ناحية الصّادقين:(1)، مع وضوح أنّ المعيار في قبول الخبر عند الأصحاب هو وثاقة الخبر لا الرّاوی وأنّ وثاقة الرّاوی طريق إلی وثاقته، بل يمكن أن يقال إنّ دليل الحكم في المقام حيث كان منحصراً بهذا الحديث فنقله في «الكافی» أيضاً دليلٌ علی كون رجال الحديث ومنهم الضّرير كلّهم موثوقاً عند الكلينی قدس سره .
وثالثاً: إنّ الرّواية حيث كانت في مرأی ومنظر الأصحاب وقد أفتی كثير منهم لولا الإجماع علی مضمونها فهو دليل علی صحّتها، قد اشتهر: أنّ الرّواية كلّما ازدادت ضعفاً إذا عمل بها الأصحاب ازدادت قوّة، قال النائينی رحمه الله :
وأمّا الشهرة العملية: فهی عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى، وهذه الشهرة هی الّتي تكون جابرة لضعف الرّواية وكاسرة لصحتها إذا كانت الشّهرة من قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور، لمعرفتهم بصحة الرّواية وضعفها، ولا عبرة بالشّهرة العملية إذا كانت من المتأخرين، خصوصاً إذا خالفت شهرة القدماء(2).
ص: 168
ورابعاً: وهو العمدة تصريح العلامة رحمه الله بتصحيح أخبار الّتي كانت أسنادها موثوقاً إذا كان أحدهم ياسين الضّرير، حيث قال:
اعلم أنّ الشيخ الطوسی رحمه الله ذكر أحاديث كثيرة في كتاب التهذيب والاستبصار عن رجال لم يلق زمانهم وإنّما روى عنهم بوسائط وحذفها في الكتابين ثمّ ذكر في آخرهما طريقه إلى كلّ رجل رجل ممّا ذكره في الكتابين، وكذلك فعل الشيخ أبو جعفر ابن بابويه ونحن نذكر في هذه الفائدة على سبيل الإجمال صحة طرقهما إلى كلّ واحد واحد ممّن يوثق به، أو يحسن حاله، أو وثق وإن كان على مذهب فاسد ولم يحضرنی حاله دون من ترد روايته ويترك قوله وإن كان فاسد الطريق ذكرناه، وإن كان في الطريق من لا يحضرنا معرفة حاله من جرح أو تعديل تركناه أيضاً كلّ ذلك على سبيل الإجمال، إذ التفصيل موكول إلى كتابنا الكبير، وإنّما قصدنا ذلك للاختصار ولبلوغ الغاية بمعرفة صحة طرقهما وفسادها بذلك، فطريق الشيخ الطوسی رحمه الله في التهذيب ...، عن ياسين الضرير البصری صحيح(1).
وقد حكی المحقق الحائری رحمه الله :
وقال المحقّق الداماد رحمه الله : قد علم من المعهود من ديدن النجاشی أنّه (ياسين الضرير البصری) إمامی مستقيم المذهب لنقله ما نقله من غير غميزة عليه في دينه، وليس فيه من أئمّه الرجال مدح ولا ذمّ، فإنّ حديثه قوی(2).
فكلّ واحد من هذه الأمور علی حدّه فإن لم يكن دليلاً علی واثقة الخبر أو الرّاوی، فاجتماعها في مورد واحد علی الأقلّ يوجبها قطعاً !
ص: 169
أمّا دليل القول بجوازه خارج المقام إذا اقتضاه الضّرورة، مراعياً في ذلك الأقرب إلی المقام فالأقرب.
والظّاهر رجوع هذا القول إلی القول الأوّل، حيث أنّ كلّ من قال بهذا القول يقول بأنّ المطاف في حالة الإختيار هو ما بين البيت والمقام، وأيضاً كلّ من قال بالقول الأوّل يقول بأنّ من لم يمكنه الطّواف في الحدّ إختياراً يجوز له الطّواف بعد المقام إضطراراً مراعياً في ذلك الأقرب إليه فالأقرب(1)، فليس هذا القول قولاً مستقلاً برأسه، وكيف كان حيث كان هذا القول فاقداً للنّصّ الخاصّ يمكن أن يستدلّ له بالعمومات مثل قوله تعالی: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلّا وُسْعَها)(2)، وحديث الرّفع(3)، إذ من التّسعة المرفوعة عن الامّة المرحومة ما اضطرّوا إليه.
ثمّ لا يخفی في أنّ الأحكام الإضطراريّة أحكامٌ واقعيّةٌ ثانويّة، في مقابل الأحكام الواقعيّة الأوّليّة، بمعنی أنّه يُعمل بها عند عدم إمكان العمل بالأحكام الواقعيّة الأوليّة، ومن أجله يقال إنّ الأحكام الواقعيّة الثّانويّة أحكامٌ شخصيّةٌ في
ص: 170
مقابل الأحكام الواقعيّة الأوّليّة الّتي هی أحكامٌ نوعيّةٌ، فبناءً علی ذلك يلزم الجمود والاقتصار كمّاً وكيفاً علی الموارد المتيقّنة الشخصيّة.
ففی خصوص ما نحن فيه كلّما صادق الإضطرار مثلاً في شوط أو شوطين، أو بالنّسبة إلی فرد أو فردين، لا يجوز التّعدی منه إلی سائر الأشواط أو الأفراد، وهذا هو عبارةٌ اخری عن القاعدة الكليّة المسلّمة من أنّ «الضّرورات تتقدّر بقدرها»(1).
أمّا لزوم كونه في الأقرب إلی المقام فالأقرب، فحيث كان بعد المقام علی القول الأوّل خارجاً عن الحد مطلقاًّ، فلا يجب مراعاته لعدم كونه من أفراد المأموربه حتّی يلزم رعايته بقاعدة «الميسور لايسقط بالمعسور» المستفاد من قول أميرالمؤمنين علیه السلام في «عوالی اللآلی»: «مَا لا يُدرَكُ كُلُّهُ لا يُترَكُ كُلُّهُ»(2)، فإذا خرج الطّائف من المطاف ولو بخطوة كان بمنزلة من طاف بالمسجد، فالأقرب إلی المقام بالنسبة إليه مساوياً له مع غيره في عدم كونهما من أفراد المأموربه إلّا من باب الإحتياط النّدبی.
ثمّ إنّه استدلّ النّراقی رحمه الله في «مستنده»(3) لهذا القول بما سيأتی في دليل القول الثّالث من صحيحة الحلبیّ، والظّاهر أنّه أشار إلی الشّيخ الحرّ العاملی قدس سره في «الوسائل» حيث أنّه ذكر روايتي محمّد بن مسلم والحلبیّ الآتیّ في باب واحد وجعل عنوانه «باب وجوب كون الطّواف بين الكعبة والمقام، وعدم جواز التّباعد عنها بأكثر من ذلك من جميع الجهات، وبطلان الطّواف لو خرج عن
ص: 171
هذا القدر إختياراً ويجوز في الضّرورة»(1) مع أنّها أجنبيةٌ عنه إذ صحيحة الحلبیّ صريحةٌ بجواز الطّواف خلف المقام في حالة الإختيار علی كراهةٍ ترتفع كراهته أيضاً بالضّرورة، وهذا القول مدعيةٌ بعدم جواز الطّواف خلف المقام في حالة الإختيار إلّا إذا اقتضاه الضّرورة زائداً علی أنّ صحيحة أو موثّقة محمّد بن مسلم الدّالّة علی لزوم كون الطّواف بين البيت والمقام، لم تتعرّض لحكم حالة الإضطرار أصلاً، فالدّليل غير المدّعی.
وأمّا دليل القول الثّالث وهو جوازه خارج المقام إختياراً علی كراهةٍ.
استدلّ لهذا القول تارةً: بصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ عَلِیٍّ الْحَلَبِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ؟ قَالَ: «مَا أُحِبُّ ذَلِكَ وَمَا أَرَى بِهِ بَأْساً، فَلَا تَفْعَلْهُ إِلَّا أَنْ لَا تَجِدَ مِنْهُ بُدّاً»(2).
والصّحيحة كما تری صريحةٌ في جواز الطّواف خلف المقام علی كراهةٍ ترتفع كراهته لدی الإضطرار، لقوله علیه السلام «مَا أُحِبُّ ذَلِكَ وَمَا أَرَى بِهِ بَأْساً، فَلَا تَفْعَلْهُ إِلَّا أَنْ لَا تَجِدَ مِنْهُ بُدّاً»، فالمستفاد منها أنّ أصل جواز الطّواف إجمالاً بالنّسبة إلی مقدار المطاف غير محدد بحدّ، بل المعيار هو صدق الطّواف حول البيت عرفاً، وإن كان عن خلف المقام، لكنّه يستحب أن يكون بين البيت والمقام، غير أنّ الحديث حيث قد أعرض عنه مشهور القدماء فهو يلازم وهنه وضعفه وذلك لما اشتهر: أنّ الرّواية كلّما ازدادت صحّة إذا أعرض عنها الأصحاب ازدادت ضعفاً.
وأخری: بأنّه لوكان المطاف مقدّراً بين البيت والمقام، فهو حكم صعب شاق لا يتحمله غالب النّاس، قد يوجب إتلاف النفوس لا سيّما بالنسبة إلی الطواف
ص: 172
خلف الحجر علی وجه لا يناسب مع كون الإسلام دين الحنفيّة السهلة السمحة(1).
بعد إرجاع القول الثّانی إلی القول الأوّل بأنّه هو ذلك القول في حالته الضّرورة والإضطرار، لا أنّه قول مستقل في المسئلة، فبقی في المقام قولي الأوّل والثّالث، ومنشأهما كما تقدّم إختلاف مفهوم صحيحتي محمّد بن مسلم(2)، الدّالّة علی أنّ الطائف خلف المقام بمنزلة الطّائف في غير الحدّ ولاطواف له أصلاً، والحلبیّ(3)، الدّالّة علی جواز الطّواف خلف المقام علی كراهةٍ، فنبحث هنا في أنّه هل يمكن الجمع بينهما بالجمع العرفی المقبول حتّی لا تصل النوبة إلی إعمال مرجّحات باب التعارض؟ أو يلزم طرح أحدهما والأخذ بالآخر، وأنّه ما هو؟
ص: 173
التحقيق عدم إمكان الجمع العرفی بينهما، لأنّهما كانتا في جهتين مختلفين، حيث إنّ ظاهر قوله علیه السلام في صحيحة أو موثّقة محمّد بن مسلم: «فَمَنْ طَافَ فَتَبَاعَدَ مِنْ نَوَاحِيهِ أَبْعَدَ مِنْ مِقْدَارِ ذَلِكَ كَانَ طَائِفاً بِغَيْرِ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ، لِأَنَّهُ طَافَ في غَيْرِ حَدٍّ، وَلَا طَوَافَ لَهُ»، بطلان الطّواف إختياراً فيما زاد عن المقام، وظاهر قوله علیه السلام في صحيحة الحلبیّ: «مَا أُحِبُّ ذَلِكَ وَمَا أَرَى بِهِ بَأْساً، فَلَا تَفْعَلْهُ إِلَّا أَنْ لَا تَجِدَ مِنْهُ بُدّاً»، جوازه إختياراً علی كراهةٍ، فكيف يمكن لنا الجمع العرفی بين الصّحة والبطلان في موضوع واحد وفی حالة متساوية ؟!
فلابدّ لنا من إعمال المرجّحات حينئذ، فبمقتضی ما روى العلّامة مرفوعاً إلى زرارة بن أعين أنّه قال: سألت الباقر علیه السلام فقلت: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَأْتِی عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ؟ فَقَالَ علیه السلام: «يَا زُرَارَةُ خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَدَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِی إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ؟ فَقَالَ علیه السلام: خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَأَوْثَقِهِمَا في نَفْسِكَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ؟ فَقَالَ علیه السلام: انْظُرْ مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ، وَخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ، قُلْتُ: رُبَّمَا كَانَا مَعاً مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوِ مُخَالِفَيْنِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ وَاتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ علیه السلام: إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذَ بِهِ وَتَدَعَ الْأَخِيرَ»(1)، حيث إنّ القول الأوّل لا أقلّ مشهوراً بين قدماء الأصحاب أوّلاً، ومخالفاً لما أفتی به العامّة بمذاهبهم الأربعة ثانياً، لأنّهم كما مرّ لم يشترطوا كون الطّواف بين البيت والمقام أصلاً، بل أفتوا بجوازه إذا كان داخل
ص: 174
المسجد الحرام حيثما اتّسع(1)، و زائداً علی كونه مبرءً للذّمة وموافقاً للإحتياط ثالثاً، فنقدّمه علی القول الثّالث الدّالّة علی جواز الطّواف خارج المقام إختياراً.
والمحقق النّراقی قدس سره في «مستنده» فإنّه بعد ما نقل القول بوجوب كون الطّواف بين البيت و المقام عن المشهور بل كونه إجماعيّاً، والقول بعدم وجوبه عن الصّدوق، قال:
ولولا شذوذ القول به - ومخالفته للشّهرة القديمة، بل إجماع القدماء، بل مطلقاً، لعدم قائل صريحٍ به أصلاً ولا ظاهر سوی الصّدوق الغير القادح مخالفته في الإجماع - لكان حسناً، إلّا أنّ ما ذكرناه يمنع المصير إليه، ويخرج الموثّقة عن حيّز الحجيّة، فالقول الأوّل هو المفتی به والمعوّل(2).
وأمّا ما يقال: بأنّه حكم صعب شاق لا يتحمله غالب النّاس، لايناسب لكون الإسلام دين الحنفيّة السهلة السمحة، فيلاحظ عليه زائداً علی أنّه أمر استحسانی لا يصلح لأن يكون دليلاً لإثبات الأحكام الشرعيّة، مع إمكان رفع اليد عن الأحكام الشرعيّة الأوليّة لخصوص المضطرين غير القادرين منها بأدلّة الإضطرار وأنّه تبارك وتعالی لم يكلّف عباده إلّا دون ما يطيقونهم(3)، هذا أوّلاً.
وثانياً أنّه لا منافاة بينه وبين جعل حكم من الأحكام الشّريعة علی وجه يشقّ علی غالب المكلّفين كما في أحكام الجهاد أوالصّوم في الصّيف ولا سيّما
ص: 175
بالنسبة إلی النواحی الحارّة، إذ كون الإسلام دين الحنفيّة السّمحة ناظر إلی غالب الأحكام لاكلّ واحد واحد منها، وكيف كان فهو اجتهاد في مقابل النصّ.
الأوّل: قد تقدّم أنّ المحقّق الخوئی قدس سره علی ما تقريراته في «المعتمد» كان من القائلين بالقول الثالث أی جواز الطّواف خارج المقام إختياراً، لكنّه اختار ذلك لما لم يثبت عنده وثاقة الضَّرير وكان مبنائه في الأصول علی رغم المشهور عدم انجبار الأخبار الضّعاف بالشّهرة، وكذا عدم وهن الخبر بإعراض المشهور(1) وإلّا أنّه أيضاً من القائلين بالقول الأوّل المشهور.
ص: 176
لكنّه ينبغی له أن يقول في المقام أيضاً بمقالة المشهور أو لا أقلّ تحرّزاً عن مخالفتهم احتاط فيه بنحو الاحتياط الوجوبی، وذلك لأنّ القول بكون المطاف بين البيت والمقام قد اتّفقت عليه الخاصّة والعامّة ومبرء للذمّة يقيناً، بخلاف القول بجوازه وراء المقام، فإنّه دلّت علی جوازه خبر واحد موافق لما أفتی به العامّة بأجمعهم وقد أعرض عنه قدماء الأصحاب إلا واحد منهم !
الثانی: هل الأصل في المقام عند الشك في الأدلة النقليّة، أو بعد فرض حصول التعارض وتساقطها هو البرائة أو الإشتغال؟
أقول: حيث كان الشك في المقام من قبيل الشك في الجزئيّة والشرطيّة الّتي يجب علی الشارع بيانها وأنّه يصدق علی أیّ حال أنّه طاف البيت، فبناءً علی ذلك يعمّه إطلاق دليل الطواف في قوله تبارك وتعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(1)، فلا وجه حينئذ للجمود علی القول الأوّل والتمسك بأصالة الإشتغال لحصول الفراغ اليقينی عن عهدة التكليف، بل نتمسك لنفيه بالبرائة، نعم لا مانع منه حينئذ إلا من باب الاحتياط الندبی.
ص: 177
المَقام بفتح الميم لغةً اسم لمكان القيام، والمُقام بضمّها اسم لمكان الإقامة(1)، وفی الإصطلاح يطلق للصّخرة الّتي قام عليها إبراهيم علیه السلام عند بنائه البيت، أو عند ندائه لدعوة النّاس إلی الحجّ، ومن عظمته ذكره في القرآن تارة بعنوان آية بيّنة في قوله تعالی: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذی بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمينَ، فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(2)، واُخری بعنوان قبلة للمصلّين في قوله تعالی: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهيمَ وَإِسْماعيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِیَ لِلطَّائِفينَ وَالْعاكِفينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(3).
قال البلاغي في تفسيره:
إنّ مقام إبراهيم من آيات البيت الباهرة الخالدة، وهو الصّخرة الّتي قام عليها إبراهيم الخليل فأثّرت فيها قدماه الشريفتان تأثيراً بيّناً كما تؤثّر في الطّين الرّطب، وهذه الصّخرة وذلك الأثر محفوظان إلى الآن على رغم القرون المتطاولة وتتابع الحوادث وتقلب الأحوال، وفی ذلك أيضاً آية كبيرة(4).
وقال الشّيخ محمّد حسن النّجفی رحمه الله في تعريف المقام:
ص: 178
المقام الّذی هو لغة موضع قدم القائم، والمراد به هنا مقام إبراهيم علیه السلام أى الحجر الّذی وقف عليه لبناء البيت كما عن ابن أجير، أو للأذان بالحجّ كما عن غيره، بل عن العلوی وابن جماعة أنّه لما أمر بالنّداء وأقام على المقام تطاول المقام حتّى كان كأطول جبلٍ على ظهر الأرض فنادى، أو لما عن ابن عباس من أنّه لما جاء بطلب ابنه إسماعيل فلم يجده قالت له زوجته: انزل فأبى، فقالت: دعنی اغسل رأسك فأتته بحجر فوضع رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه، ثمّ رفعته وقد غابت رجله فيه، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته فغابت رجله الثّانية فيه، فجعله الله من الشّعائر، وعن الأزرقی أنّه لما فرغ من الأذان عليه جعله قبلة فكان يصلّی إليه مستقبل الباب، وذكر أيضاً أنّ ذرع المقام ذراع، وأنّ القدمين داخلان فيه سبعة أصابع، وعن ابن جماعة أنّ مقدار ارتفاعه من الأرض نصف ذراع وربع وثمن بذراع القماش، وأنّ أعلاه مربع من كلّ جهة نصف ذراع وربع، وموضع غوص القدمين ملبس بفضة، وعمقه من فوق الفضة سبع قراريط ونصف قيراط بالذراع المتقدّم أی ذراع مصر المستعمل في زمانه، ولعلّ اختلافهما باعتبار الذراع باليد والحديد(1).
وقد أشار إلی إحدی هذين التسميتين في مرسلة غَالِبِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ يُنَادِی في النَّاسِ الْحَجَّ قَامَ عَلَى الْمَقَامِ فَارْتَفَعَ بِهِ حَتَّى صَارَ بِإِزَاءِ أَبِی قُبَيْسٍ، فَنَادَى في النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَأَسْمَعَ مَنْ في أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ»(2).
ص: 179
وكيف كان قد حكی أنّ المقام والحجر الأسود كانتا من جملة أحجار الجنّة علی وجه الأرض، ففی «تفسير العيّاشی» عن الْمُنْذِرِ الثَّوْرِیِّ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ قَالَ علیه السلام : سَأَلْتُهُ عَنِ الْحَجَرِ؟ فَقَالَ: «نَزَلَتْ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ مِنَ الْجَنَّةِ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ اسْتَوْدَعَهُ إِبْرَاهِيمَ علیه السلام، وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَ(حَجَرُ بَنِی إِسْرَائِيلَ)، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: إِنَّ اللَّهَ اسْتَوْدَعَ إِبْرَاهِيمَ الْحَجَرَ الْأَبْيَضَ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الْقَرَاطِيسِ فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا بَنِی آدَمَ»(1).
أنّه علی القول باختصاص المطاف بالبيت والمقام هل المعتبر وقوع الطّواف بين البيت والمحفظة الّتي يحفظ فيها المقام، أو بين البيت والمقام نفسه؟
التحقيق أنّه لا مدخليّة للمحفظة في الحكم مع صحّة سلب اسمه عنها عرفاً وتبادر نفسه إلی الذّهن عند سماع اسمه بلا قرينة، الّذَين عدّ في علم الأصول من علائم الحقيقة والمجاز(2)، زائداً علی عدم ثبت بناء ومحفظة له في الكتب التّاريخيّة إلی زمن خلافة عمر بعد ما انتقل المقام إلی موضعه الفعلی بعد رفعه بسيل أم نهشل(3) ، فالمعتبر إحتساب الحدّ في هذة الدّائرة الفرضی إلی
ص: 180
نفس المقام كما استظهره أو صرّح به بعض فقهائنا منهم الشّهيد رحمه الله في «المسالك» حيث قال:
واعلم أنّ المقام حقيقة هو العمود من الصخر الّذی كان إبراهيم علیه السلام يصعد عليه عند بنائه البيت. ولكن اليوم عليه بناء يطلق على جميعه مع ما في داخله المقام عرفاً. وقد يستعمله الفقهاء في بعض عباراتهم. وقد أطلقوا هنا كون الطواف بين البيت والمقام، وكذلك النصوص، فهل المعتبر كونه بين البيت وحائط البناء الّذی على المقام الأصلی، أم بينه وبين العمود المخصوص؟ كلّ محتمل، وإن كان الاستعمال الشرعی في الثانی أقوى(1).
وفی «الرّوضة»:
والظّاهر أنّ المراد بالمقام نفس الصّخرة، لا ما عليه من البناء، ترجيحاً للاستعمال الشّرعی علی العرفی لوثبت(2).
ص: 181
والمحدّث البحرانی قدس سره في «الحدائق» فإنّه قال:إنّه متى كان المقام حقيقة إنّما هو الصّخر المذكور فالإطلاق على البناء إنّما وقع مجازاً بحسب العرف، والأحكام إنّما تترتّب على المعنى الحقيقی كما لا يخفى(1).
وصاحب «الجواهر» حيث قال:
وهل المعتبر وقوع الطّواف بين البيت وحائط البناء الّذی هو علی المقام الأصلی، أو بين الصّخرة الّتي هی المقام هنا؟ الظّاهر الثّانی(2).
ص: 182
حجر إسماعيل علیه السلام هوما احيط بجدار قوسی قصير من جهة شمال الكعبة المعظّمة بين الرّكنين العراقی والشّامی وقد يسمّی بالحطيم أيضاً، الّذی يستفاد من بعض الأخبار أنّه بيت إسماعيل، فيه مدفن إسماعيل وامّه هاجر وبعض بناته، وفيه أيضاً قبور بعض الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، منها: صحيحة الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْحِجْرِ؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تُسَمُّونَهُ الْحَطِيمَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِغَنَمِ إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّمَا دَفَنَ فِيهِ أُمَّهُ وَكَرِهَ أَنْ يُوطَأَ قَبْرُهَا فَحَجَّرَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ قُبُورُ أَنْبِيَاءَ»(1).
ومرسلة الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «الْحِجْرُ بَيْتُ إِسْمَاعِيلَ وَفِيهِ قَبْرُ هَاجَرَ وَقَبْرُ إِسْمَاعِيلَ»(2).
وخبر مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «دُفِنَ في الْحِجْرِ مِمَّا يَلِی الرُّكْنَ الثَّالِثَ عَذَارَى بَنَاتِ إِسْمَاعِيلَ»(3).
وخبر الصّدوق قال: و روی: «أَنَّ فِيهِ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ علیهم السلام ، وَمَا في الْحِجْرِ شَیْ ءٌ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا قُلَامَةُ ظُفُرٍ»(4) .
ثمّ إنّه وقع الكلام بين الفقهاء في أنّ الحجر هل هو من البيت أو خارجٌ عنه؟ علی قولين:
ص: 183
الأوّل: ما ذهب إليه العامّة بأجمعهم واختاره من فقهائنا العلامة الحلي رحمه الله ، ونسبه الشّهيد في «الدّروس» إلی المشهور من أنّه بتمامه أو بجزئه من البيت.قال العلامة رحمه الله في «التّذكرة»:
ويجب أن يكون بجميع بدنه خارجاً من البيت، فلايجوز أن يمشی على شاذروان البيت، لأنّه من البيت، والطّواف المأمور به هو الطّواف بالبيت، قال اللّه تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(1) وإنّما يكون طائفاً به لوكان خارجاً عنه، وإلّا كان طائفاً فيه.
ويجب أن يدخل الحجر في طوافه، وهو الّذی بين الرّكنين الشّاميّين، وهو موضع محوّطٌ عليه بجدار قصير بينه وبين كلّ واحد من الرّكنين فتحة، والميزاب منصوبٌ عليه، فلو مشى على حائطه أو دخل من إحدى الفتحتين وخرج من الأخرى وسلك الحجر، لم يجزئ، لأنّه يكون ماشياً في البيت، بل يجب أن يطوف حول الحِجر، وهو أحد قولي الشافعی لأنّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كذا طاف، ومن طريق الخاصّة: قول الصّادق علیه السلام: «من اختصر في الحجر الطّواف فليعد طوافه من الحجر الأسود»، وكتب إبراهيم بن سفيان إلى الرّضا علیه السلام: امرأة طافت طواف الحجّ، فلمّا كانت في الشوط السّابع اختصرت، فطافت في الحجر، وصلّت ركعتي الفريضة، وسعت و طافت طواف النّساء، ثمّ أتت منّى، فكتب: «تعيد»، والقول الثّانی للشّافعی: إنّ الّذی هو من البيت من الحجر قدر ستّة أذرع تتّصل بالبيت، لأنّ عائشة قالت: نذرت أن أصلّی ركعتين في البيت، فقال النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «صلّي في الحجر، فإنّ ستّة أذرع منه
ص: 184
من البيت»، ومنهم من يقول: ستّة أو سبعة أذرع، بنوا الأمر فيه على التقريب، وقال أبو حنيفة: إذا سلك الحجر، أجزأه، وليس بجيّد(1).
وقال في «المنتهی»:ويجب أن يكون بين البيت والمقام، ويجب أن يدخل الحجر في طوافه، فلو سلك الحجر أو على جداره، أو على شاذروان الكعبة لم يجزئه، وبه قال الشافعیّ، وقال أبو حنيفة: إذا سلك الحجر، لنا: أنّ الحجر من البيت وكذا الشاذروان(2).
وقال الشّهيد في «الدّروس»:
سادسها (من واجبات الطّواف): إدخال الحجر في طوافه، فلو طاف فيه أو مشى على حائطه لم يجزئ، سواء قلنا بأنّه من البيت كما هو
المشهور أو لا (3).
وقال عبد الله بن قدامة الحنبلی:
إنّما كان كذلك (وجوب كون الحجر داخلاً في الطّواف) لأنّ الله تعالی أمر بالطّواف بالبيت جميعه بقوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) والحجر منه، فمن لم يطف به لم يعتدّ بطوافه، وبهذا قال عطاء، ومالك، والشّافعی، وأبوثور، وابن المنذر، وقال أصحاب الرّأی: إن كان بمكة قضی ما بقی، وإن رجع إلی الكوفة فعليه دمٌ، ونحوه قال الحسن.
ولنا أنّه من البيت بدليل ما روت عائشة قالت: سألتُ رسول الله صلّی الله عليه وسلّم عن الحجر؟ فقال: هو من البيت، وعنها قالت: قال رسول الله صلّی الله عليه وسلّم: «إنَّ قومك استقصروا من بنيان البيت،
ص: 185
ولولا حداثة عهدهم بالشّرك أعدتُ ما تركوا منها، فإن بدا لقومك من بعدی أن يبنوا فهلمی لأريك ما تركوا منها، فأراها قريباً من سبعة أذرع»، رواهما مسلم، وعنها رضی الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله إنِّی نذرتُ أن أصلِّی في البيت، قال: صلّي في الحجر، فإنّ الحجر من البيت، وفی لفظ قالت: كنتُ أحبُّ أن أدخل البيت فاصلِّي فيه، فأخذرسول الله بيدي فأدخلني الحجر، وقال: صلّي في الحجر إن أردت دخول البيت، فإنّما هو قطعةٌ من البيت، قال التّرمذی: هو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، فمن ترك الطّواف بالحجر لم يطف بجميع البيت فلم يصحّ، كما لو ترك الطّواف ببعض البناء، ولأنّ النّبیّ صلّی الله عليه وسلّم طاف من وراء الحجر، وقد قال علیه السلام: «لتأخذوا عنَّی مناسككم»(1).
وحكی الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة» عن الحنفيّة في واجبات الطّواف وسننه اموراً، منها: أن يطوف وراء الحطيم - الحجر - لأنّ بعضه من البيت(2).
يلاحظ علی ما ذكره العلامة والشهيد رحمهما الله من أنّ الحجر من البيت، فزائداً علی كونه كلاماً شاذاً بيننا، معارض بما سيأتی من الرّوايات، فلا يمكن الذهاب إليه.
القول الثّانی: ما ذهب إليه المشهور من الفقهاء الإماميّة (إلّا ما تقدّم عن العلامة في كتابي «التذكرة» و«المنتهی»، وعن الشّهيد في «الدّروس») من أنّه لم يكن فيه شیءٌ من البيت، قال النّراقی رحمه الله في «مستنده»:
ص: 186
ليس الحجر من البيت كما قيل، بل نسبه في الدروس إلی المشهور، وعليه في الجملة رواية عامّية، لأنّه خلاف الأصحّ، كما دلّ عليه الصّحيح وغيره(1).
قد استدلّوا علی هذا القول برواياتٌ منها: صحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْحِجْرِ أَ مِنَ الْبَيْتِ هُوَ أَوْ فِيهِ شَیْ ءٌ مِنَ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: «لَا،وَلَا قُلَامَةُ ظُفُرٍ، وَلَكِنَّ إِسْمَاعِيلَ دَفَنَ أُمَّهُ فِيهِ فَكَرِهَ أَنْ يُوطَأَ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ حِجْراً، وَ فِيهِ قُبُورُ أَنْبِيَاءَ»(2).
وموثّقة يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: إِنِّی كُنْتُ أُصَلِّی في الْحِجْرِ، فَقَالَ لِی رَجُلٌ: لَا تُصَلِّ الْمَكْتُوبَةَ في هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ في الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَالَ: «كَذَبَ صَلِّ فِيهِ حَيْثُ شِئْتَ»(3).
والمروی عن الباقر علیه السلام: «وَالْحِجْرُ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا فِيهِ شَیْ ءٌ مِنْهُ، وَإِنَّهُمْ سَمَّوْهُ الْحَطِيمَ، وَقَالُوا إِنَّمَا هُوَ لِغَنَمِ إِسْمَاعِيلَ وَلَكِنْ دَفَنَ إِسْمَاعِيلُ أُمَّهُ فِيهِ فَكَرِهَ أَنْ يُوطَأَ قَبْرُهَا فَحَجَّرَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ قُبُورُ أَنْبِيَاء»(4).
وكيف كان سواءٌ قلنا بعدم كون الحجر من البيت كما هو الصّحيح، أوكونه منه علی مذهب العلامة ومن تبعه، فإنّه يجب علی الطّائف أن يدخل الحجر في طوافه، فإن اختصر في طوافه وسلك الحجر في شوط أو بعض الأشواط فعليه جبرها، إلّا أنّ فيه تفصيلاً بين فوت المولاة العرفيّة وعدمها، وكذالك بين كونه قبل تجاوز النّصف وبعده، ليس هذا موضع بحثه.
ص: 187
واستدلّ عليه بروايات منها: صحيحة الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: قُلْتُ: رَجُلٌ طَافَ بِالْبَيْتِ فَاخْتَصَرَ شَوْطاً وَاحِداً في الْحِجْرِ؟ قَالَ: «يُعِيدُ ذَلِكَ الشَّوْطَ»(1).
وصحيحة حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ (فَيَخْتَصِرُ في الْحِجْرِ)، قَالَ: «يَقْضِی مَا اخْتَصَرَ مِنْ طَوَافِهِ»(2).وصحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «مَنِ اخْتَصَرَ في الْحِجْرِ (فِی الطَّوَافِ) فَلْيُعِدْ طَوَافَهُ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ»(3).
وخبر إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِی الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام: امْرَأَةٌ طَافَتْ طَوَافَ الْحَجِّ فَلَمَّا كَانَتْ في الشَّوْطِ السَّابِعِ اخْتَصَرَتْ وَطَافَتْ في الْحِجْرِ، وَصَلَّتْ رَكْعَتَيِ الْفَرِيضَةِ، وَسَعَتْ، وَطَافَتْ طَوَافَ النِّسَاءِ، ثُمَّ أَتَتْ مِنًى؟ فَكَتَبَ علیه السلام: «تُعِيدُ»(4) .
ص: 188
قد مرّ أنّ حجر إسماعيل علیه السلام داخلٌ في المطاف سواء قلنا بعدم كونه من البيت كما هو المشهور والمختار أم قلنا بكونه منه، فبناءً علی القول باختصاص المطاف بالبيت والمقام، اختلفوا في إحتساب الحدّ في جانبه من البيت أو من الحجر؟ فذهب بعضٌ إلی إحتسابه من البيت وهم المشهور، وآخرون إلی إحتسابه من الحجر.
وظاهر الأصحاب إلی زمن الشهيد الثانی رضوان الله تعالی عليهم حيث عنونوا المسألة مطلقة بأنّه يجب علی الطائف أن يطوف بين البيت والمقام من دون أن يفصّلوا لحكمها في جانب الحجر، أنّهم احتسبوا الحدّ من جميع نواحي البيت منه ومقتضاه أنّه يضيق المطاف في جانبه بمقداره، قال المحقّق البحرانی رحمه الله :
قد قطع الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) بأنّه يجب مراعاة قدر ما بين البيت والمقام من جميع الجهات، ثمّ صرّحوا بأنّه يجب أن تحسب المسافة من جهة الحجر من خارجه، بأن ينزّل منزلة البيت وإن كان خارجاً من البيت، لوجوب إدخاله في الطّواف، فلايكون محسوباً من المسافة، واحتمل شيخنا في المسالك احتسابه منها على القول بخروجه وان لم يجز سلوكه.
أقول: أمّا الحكم الأول فلا ريب فيه، لما عرفت من دلالة رواية محمّد
بن مسلم(1) عليه، وأمّا الثّانی فلا يخلو من الإشكال، لأنّ مقتضى ما صرّحوا به أولاً- وهو مدلول الرّواية المذكورة- أنّ المسافة المعتبرة من
ص: 189
البيت الى المقام معتبرة من جميع الجهات، ومن جملتها جهة الحجر، ويؤكّده قوله علیه السلام في الرّواية المذكورة: «فكان الحدّ موضع المقام اليوم، فمن جازه فليس بطائف، والحدُ قبل اليوم واليوم واحدٌ، قدر ما بين المقام وبين البيت من نواحی البيت كلّها، فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك كان طائفاً بغير البيت. إلى آخره». وهو- كما ترى- صريحٌ في أنّ من تباعد من جميع نواحي البيت بأزيد من هذه المسافة المعتبرة من البيت إلى المقام كان طائفاً بغير البيت، وهذا ظاهرٌ في جهة الحجر وغيرها. فالاستثناء في هذه الجهة يحتاج إلى دليل، ومجرد وجوب إدخاله في الطّواف لا يستلزم ذلك، وبالجملة فإنّ ما ذكره شيخنا المشار إليه من الإحتمال لا يبعد تعينه. والمسألة في غاية الإشكال، والاحتياط يقتضی المحافظة تمام المحافظة على عدم البعد عن الحجر على وجه يلزم منه الخروج عن تلك المسافة(1).
وقال السيّد الخوئی رحمه الله علی ما في تقريراته في «المعتمد»:
المعروف والمشهور بين الأصحاب وجوب كون الطّواف بين الكعبة والمقام مراعياً ذلك القدر من البُعد في جميع أطراف البيت حتّی جهة حجر إسماعيل ولذا يضيق المطاف حينئذ من تلك الجهة ويكون قريباً من ستة أذرع ونصف ذراع، ويقرب في سائر الجوانب بستة وعشرين ذراعاً ونصف ذراع(2).
وأرسله إرسال المسلمات الإمام الراحل قدس سره في «التحرير» حيث قال:
ص: 190
يضيق محل الطواف خلف حجر إسماعيل بمقداره، وقالوا بقی هناك ستة أذرع ونصف تقريباً، فيجب أن لا يتجاوز هذا الحدّ، ولو تخلف أعاد هذا الجزء في الحدّ(1).
والظّاهر إنّ أوّل من صرّح باحتسابه من الحجر الشّهيد الثّانی قدس سره في كتابي «المسالك»(2) و«الرّوضة» حيث قال:
وتحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه وإن جعلناه خارجاً من البيت(3).
وتبعه المولی محمّد تقی المجلسی رحمه الله في «روضة المتّقين» حيث قال:
المشهور بين الأصحاب أنّه لا بدّ أن يكون الطواف بين البيت والمقام، ويكون المسافة من الجوانب الثلاثة الأخر أيضاً بمقدار تلك المسافة، والمسافة من جانب الحجر من الحجر لا من الكعبة، فلو بعد عن تلك المسافة ولو بخطوة كان باطلاً(4).
وصاحب «الجواهر» حيث قال:
نعم لاإشكال في إحتساب المسافة من جهة الحجر من خارجه بناءً علی أنّه من البيت، بل في «المدارك» وغيرها، وإن قلنا بخروجه عنه لوجوب إدخاله في الطّواف فلا يكون محسوباً من المسافة، وفيه أنّه خلاف ظاهر الخبر المزبور ولذا احتمل في «المسالك» احتسابه منها وإن لم يجز سلوكه، ولا ريب في أنّه الأحوط(5) .
ص: 191
وكذا بعض فقهائنا المعاصرين منهم السيّد محمّدرضا الگلپايگانی رحمه الله ، والشّيخ لطف الله الصّافی الگلپايگانی(1)، والشّيخ محمّد الفاضل رحمه الله (2)، والسيّد موسی الشّبيری الزّنجانی(3) .
التحقيق أنّ المسئلة مبتنيةٌ علی الفرع السابق وهوكون الحجر من البيت، أو خارجاً عنه، فبناءً علی كونه من البيت فلا شك حينئذ في إحتساب الحدّ في جانب الحجر من الحجر لا البيت، وعلی كونه خارجاً منه فإنّ الظّاهر والمتبادر من قوله علیه السلام «مِنْ نَوَاحِيهِ» في صحيحة أو موثّقة محمّد بن مسلم: «فَمَنْ طَافَ فَتَبَاعَدَ مِنْ نَوَاحِيهِ أَبْعَدَ مِنْ مِقْدَارِ ذَلِكَ كَانَ طَائِفاً بِغَيْرِ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ، لِأَنَّهُ طَافَ في غَيْرِ حَدٍّ، وَلَا طَوَافَ لَهُ» هو تضيق محل الطواف خلف حجر إسماعيل بمقداره، فعلی القول بالاشتراط لا يلزم من المنع من سلوك الحجر حينه، اتّساع دائرة المطاف في جهته، ولا أقلّ من الشك والأخذ بالاحتياط والقدر المتيقّن.
ص: 192
لا يجوز المشی علی أساس البيت حين الطّواف المسمّی ب- «شاذروان»، والشاذروان بفتح الذال من جدار البيت الحرام، وهو الّذی ترك من عرض الأساس خارجاً، ويُسمّى تأزير لأنّه كالإزار للبيت (1)، قال في «كشف اللثام»:
شاذروان الكعبة بفتح الذال المعجمة ...، وهو بعض من أساسها أبقته قريش خارجاً منها شبه الدكات، لما كانت الأموال الطيبة قاصرة عن بنائها كما كانت فضيّقوها، معرّب چادربند، أی الموضع الّذی يشد فيه أستار الكعبة بالأطناب، ويسمّی التأزير، لأنّه كالإزار لها(2).
وحكی في «المعتمد» عن «برهان قاطع»:
والكلمة فارسيّةٌ (شادروان) بالدّال المهملة «زير كنگرههای عمارتها را گويند»(3).
والمسألة خالية عن النصّ غير ما روی الشّيخ الحرّ العاملی رحمه الله في «الوسائل» مرسلاً عن جماعةٍ من فقهائنا منهم العلامة في «التّذكرة»: «أَنَّ الشَّاذَرْوَانَ كَانَ مِنَ الْكَعْبَةِ»(4)، وكيف كان احتجّوا لذلك بأنّه إذا كان شاذروان جزئاً من البيت فيكون الماشی عليه طائفاً في البيت ولا يكون ما بين البيت والمقام، وادّعی إنّه ممّا لا يكون فيه خلاف ولا إشكال، وأرسله بعض إرسال المسلمات، وحكی الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة»: أنّ الحكم
ص: 193
كذلك عند الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة(1)، وفی «الجواهر» عن ابن ظهرة من الحنفيّة: جواز الطّواف عندهم علی الشّاذروان لأنّه ليس من البيت.
قال في «الجواهر»:
لو مشی الطائف في طوافه علی أساس البيت الّذی هو القدر الباقی من أساس الحائط بعد عمارته المسمّی بالشاذروان، أو علی حائط الحجر لم يجزه بلا خلاف ولا إشكال، لعدم صدق الطواف بالبيت والحجر، إذ الأوّل من الكعبة فيما قطع به الأصحاب علی ما في المدارك، بل هو المحكی عن غيرهم من الشافعيّة والحنابلة وبعض متأخّري المالكيّة، نعم عن ابن ظهرة من الحنفيّة جواز الطواف عندنا علی شاذروان، لأنّه ليس من البيت(2).
وقال الإمام الراحل رحمه الله في «التّحرير»:
السادس(من شرائط الطّواف) الخروج عن حائط البيت وأساسه، فلو مشى عليهما لم يجز ويجب جبرانه،كما لو مشى على جدران الحجر وجب الجبران وإعادة ذاك الجزء، ولا بأس بوضع اليد على الجدار عند الشاذروان، والأولى تركه(3).
وقال السيّد الخوئی رحمه الله :
لا ريب ولا شك في لزوم كون الطواف حول البيت، فلا بُدّ أن يكون البيت الشّريف بتمامه مطافاً، فاللازم أن يجعل الشّاذروان داخل في المطاف لأنّ الشّاذروان أساس البيت وقاعدته، فلا يصحّ الطّواف داخل الكعبة وكذا لو طاف من فوق الشّاذروان.
ص: 194
وبعبارة أخرى: لا بدّ أن يكون الطّائف خارجاً من البيت ومن الشّاذروان، فلو طاف داخل البيت، أو من فوق الشّاذروان بطل طوافه برأسه، والحكم بالنّسبة إلى البيت واضحٌ، وأمّا بالنّسبة إلى الشّاذروان فالمعروف أنّه من أساس البيت وباعدته ومن نفس جدار الكعبة كما جاءت بذلك الآثار التاريخيّة، وهو القدر الباقی من أساس الحائط بعد عمارته أخيراً.
ولو شُك في دخول الشّاذروان في البيت وعدمه فالأصل أيضاً يقتضی جعله مطافاً واجراء حكم البيت عليه، وذلك لأنّه لو أخرجه عن المطاف ولم يطف حوله لم يحرز كون الطواف طوافاً بالبيت بعكس ما لو أدخله في المطاف إذاً فلا بدّ من إدخاله في البيت ليحرز كون الطّواف بالبيت من باب المقدمة العلميّة لحصول الطّواف بالبيت، ولذا لو فرضنا أنّ الكعبة الشّريفة خربت بتمامها (لا سمح اللّه) يجب إدخال ما شُك فيه من البيت في المطاف ولا بدّ من الطّواف في مكان يحرز كونه خارج البيت، ودعوى: كون الشّاذروان من البيت وعدمه من قبيل الشك بين الأقل والأكثر والأصل تقتضی عدم دخوله في البيت، ضعيفةٌ: بأنّ أصالة عدم دخول الشّاذروان في البيت لاتحقق كون الطواف طوافاً بالبيت ولاتوجب إحراز ذلك، نعم وقع الكلام في البطلان وعدمه فيما لو طاف من فوق الشّاذروان وأمّا أصل الحكم وهو جعل الشّاذروان مطافاً فممّا لاخلاف فيه أصلاً(1).
ص: 195
وقال ابن قدامة في «المغنی»:
ولو طاف علی جدار الحجر وشاذروان الكعبة وهو ما فضل من حائطها لم يجز، لأنّ ذلك من البيت فإذا لم يطف به فلم يطف بكلّ البيت، لأنّ النّبیّ صلّی الله عليه وسلّم طاف من وراء ذلك(1).
والتحقيق أنّه لا ينبغی شك و لا ترديد في عدم جواز الطواف علی أساس البيت حتّی لو لم يثبت بالدّليل القطعی كون الشّاذروان من البيت، وذلك للزوم إحراز البينيّة بين البيت والمقام لصحّة الطواف وإلا فهو محكوم بالبطلان.
ص: 196
لو لمس الطّائف الجدار عند الشّاذروان، أو وضع يده علی جدار الحجر حال الطّواف فهل يبطل طوافه أم لا؟
إنّ الأقوال هنا عند الفريقين دائر بين القول بالمنع والقول بالجواز إمّا بنحو الفتوی، أو الاحتياط الوجوبی أو الندبی، وكيف كان المسألة خالية عن النصّ، فيجب أن نعامل معها بالعمومات والقواعد، قال العلامة رحمه الله :
لو كان يطوف ويمسّ الجدار بيده في موازاة الشاذروان أو أدخل يده في موازاة ما هو من البيت من الحجر، فالأقرب عدم الصحّة، وهو أحد وجهي الشافعية لأنّ بعض بدنه في البيت، ونحن شرطنا خروج بدنه بأسره من البيت، والثانی للشافعية: الجواز، لأنّ معظم بدنه خارج، وحينئذ يصدق أن يقال: إنّه طائف بالبيت. وهو ممنوع، لأنّ بعض بدنه في البيت، كما لو كان يضع إحدي رجليه أحياناً على الشاذروان ويقف بالأخرى(1).
وقال الشهيد في «الدروس»:
وتاسعها(من واجبات الطواف): خروجه بجميع بدنه عن البيت، فلو مشى على شاذروانه - أی: أساسه - بطل، ولو كان يمسّ الجدار بيده أو
بدنه وهو خارج عنه في مشيه فالأقرب البطلان(2).
وقال في «كشف اللثام»:
ولو كان يمس الجدار بيده في موازاة الشاذروان صحّ طوافه، وهو أحد وجهي الشافعية؛ لصدق أنّه طائف بالبيت؛ لخروج معظمه منه. ومنعه في التذكرة ورجّح البطلان، كما إذا وضع أحد رجليه على الشاذروان،
ص: 197
وهو خيرة الدروس. أمّا مسّه لا في موازاته فلا بأس به، وهو مبنی على اختصاصه ببعض الجوانب كما عرفت(1).
وقال الإمام رحمه الله في «التّحرير»:
ولا بأس بوضع اليد علی الجدار عند الشّاذروان، والأولی تركه(2).
وكذلك هی فتواه في «المناسك»، ومحشيه هنا أيضاً دائر بينهما(3).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ العناوين الموجودة للمقام في الكتاب والأخبار، هی «الطّواف» ومشتقّاته مثل: «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» و«يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَالْمَقَامِ» و«مَنْ طَافَ» وأمثالها، والطّواف عند أهل اللغة عبارة عن: دوران الشّیء علی شیء(4)، أو الحركة حول شیء(5)، وحيث إنّ عدم صحّة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذّهن إجمالاً عن معنی تكون علامة كونه حقيقةً فيه(6)، ولا يسلب هذا العنوان عن هذا المعنی عمّن لمس الجدار عند الشّاذروان، أو وضع يده علی جدار الحجر حال الطّواف، فنقول بجواز ذلك حين الطّواف وإن كان الإحتياط في نفسه حسنٌ، لكنّ الإحتياط شیء والإفتاء بالمنع شیء آخر.
ص: 198
نعم لو كانت الأدلة اللفظيّة مجملة من هذه الجهة فللزم علينا أن نرجع إلی الأصول العمليّة، والأصل الجاری في مثل المقام هو الاحتياط والاشتغال تحصيلاً للفراغ اليقينی.
قد دلّت بعض القرائن والشّواهد علی أنّ مقام إبراهيم علیه السلام في عهده علیه السلام، وكذا في عهد النّبیّ الأعظ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حين فتح مكة المكرمة إلی أوائل خلافة عمر كان ملاصقاً بالكعبة المعظّمة، ثمّ إنّه انتقله إلی موضعه الّذی هو فيه اليوم.
منها: قوله علیه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة: «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَالْمَقَامِ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تَطُوفُونَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ» الحديث(1).
ومنها: صحيحة زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام: قَدْ أَدْرَكْتَ الْحُسَيْنَ علیه السلام ؟ قَالَ: «نَعَمْ، أَذْكُرُ وَأَنَا مَعَهُ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ السَّيْلُ وَالنَّاسُ يَتَخَوَّفُونَ عَلَى الْمَقَامِ يَخْرُجُ الْخَارِجُ يَقُولُ: قَدْ ذَهَبَ بِهِ السَّيْلُ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْخَارِجُ فَيَقُولُ: هُوَ مَكَانَهُ، قَالَ: فَقَالَ لِی: يَا فُلَانُ مَا صَنَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ يَخَافُونَ أَنْ يَكُونَ السَّيْلُ قَدْ ذَهَبَ بِالْمَقَامِ! فَقَالَ: نَادِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَهُ عَلَماً لَمْ يَكُنْ لِيَذْهَبَ بِهِ فَاسْتَقِرُّوا، وَكَانَ مَوْضِعُ الْمَقَامِ الَّذِی وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ علیه السلام عِنْدَ جِدَارِ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى حَوَّلَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِی هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ، فَلَمَّا فَتَحَ النَّبِیّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مَكَّةَ رَدَّهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِی وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ علیه السلام فَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ إِلَى أَنْ وَلِیَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَسَأَلَ النَّاسَ مَنْ مِنْكُمْ يَعْرِفُ الْمَكَانَ الَّذِی كَانَ فِيهِ الْمَقَامُ؟
ص: 199
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:أَنَا قَدْ كُنْتُ أَخَذْتُ مِقْدَارَهُ بِنِسْعٍ فَهُوَ عِنْدِی، فَقَالَ: ائْتِنِی بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَاسَهُ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ»(1).
ومنها: صحيحة إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِی مَحْمُودٍ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا علیه السلام: أُصَلِّی رَكْعَتَيْ طَوَافِ الْفَرِيضَةِ خَلْفَ الْمَقَامِ حَيْثُ هُوَ السَّاعَةَ أَوْ حَيْثُ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّی الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ؟ قَالَ: «حَيْثُ هُوَ السَّاعَةَ»(2) .
ومنها: ما قاله الشّيخ الحُرّ العاملی رحمه الله في ذيل صحيحة المتقدّمة:
أقول: رُوی في عدّة أحاديث أنّ المقام كان لاصقاً بالبيت فحوّله عمر إلی حيث هو الآن.
ثمّ إنّه يظهر من قوله علیه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم أنّ المطاف قدره ما بين البيت والمقام من دون أن يكون المقام بذاته دخيلاً في ذلك، فعليه لو تغيّر المقام من موضعه الّذی كان فيه اليوم إلی موضع أقرب أو أبعد إلی البيت كان المعيار هو هذه المسافة الفعليّة، كما دلّ عليه قوله علیه السلام: «وَالْحَدُّ قَبْلَ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَ وَاحِدٌ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ مِنْ نَوَاحِي الْبَيْتِ كُلِّهَا»، صرّح بذلك في «الجواهر» حيث قال:
إنّه لا مدخلية للمقام نفسه في الطواف، فلو حوّل عن مكانه وجب الطواف في المقدار المخصوص كما دلّ عليه الخبران المزبوران، بل خبر زرارة صريح، هذا(3).
ص: 200
المطاف وإن كان مقداره علی ما عرفت من البيت إلی المقام أو إلی خلفه في ساحة المسجد علی كراهة علی القولين اللّذَين تقدّم ذكرهما في أوّل المبحث، لكنّه قد يقال باستحباب التّدانی من البيت حين الطّواف، فإنّه وإن لم يرد به نصٌّ إلّا أنّه صرّح به بعض الفقهاء من الفريقين، باعتبار أنّ التّدانی من بيوت الملوك محبوب لكافة النّاس فكيف بالتّدانی من بيت مالك الملوك؟!(1)
قال الشّيخ محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الإصفهانی في «كشف اللثام»:
ويستحبّ التّدانی من البيت كما في «الوسيلة» و«الجامع» و«الشرائع»، قال في «المنتهى» و«التذكرة»: لأنّه المقصود، فالدّنو منه
أولى(2).
وقال الشّهيد الثّانی في «الرّوضة»:
و(من سننه) التّدانی من البيت وإن قلّت الخُطى، فجاز اشتمال القليلة على مزية وثواب زائد عن الكثيرة، وإن كان قد ورد في كلّ خُطوة من الطّواف سبعون ألف حسنة، ويمكن الجمع بين تكثيرها والتّدانی، بتكثير الطواف(3).
ومن العامّة صرّح بذلك الحنابلة مطلقاً، والشّافعيّة والمالكيّة لخصوص الرّجال والصّبيان دون النّساء(4).
ص: 201
وقال ابن قدامة:
يستحب الدّنو من البيت لأنّه هو المقصود(1).
أقول: إنّه لم نقف علی نصّ يثبت به استحاب التّدانی وما يقال بأنّ البيت حيث هو مقصود للطائفين فكلّما قرب الطائف إليه فهو أفضل، فإنّه استحسان لم يثبت به حكم من الأحكام الخمسة التّكليفيّة، لا سيّما بملاحظة ما ورد من الثواب لكلّ خُطوة منه الّذی يلازم عادة البعد منه، كما لا وجه لتوجيهه بالتّسامح في أدلّة السنن.
ومن هنا يظهر أيضاً ضعف الحكم باستحباب الرّمل حينه الّذی حكم به العامّة بأجمعهم، قال في المغنی:
معنی الرّمل: إسراع المشی مع مقاربة الخطو من غير وثب، وهو سنّة في الأشواط الثلاثة الأولی من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافاً(2).
ص: 202
إنّ ما نبحث عنه إلی هنا من مسئلة المطاف وسعته إلی المقام أوخلفه علی القولين المذكورين، فهو ناظر لحكمه في ساحة المسجد الحرام، ثمّ إنّه لو فرض علی كلا الحالتين إمكان الطّواف فوق المطاف في هوائه وفضائه، أو تحته من أرضه، فهل يجوز ذلك وإن كان منخفضاً أومرتفعاً عن البيت؟ أو فقل: هل المطاف إختياراً مختصّ بساحة المسجد أو يعمّ أيضاً لما فوقه في هوائه وفضائه، أو لما تحته من أرضه في نفس المكان؟
المسألة غير معنونة عند قدماء الأصحاب، والمعاصرين منهم صرّحوا غالباً بجوازه إذا أحرز كون الطبقة الجديدة محاذياً للبيت،وإلا فلا، والعامّة بين قائل بالجواز مطلقاً وهم الشافعيّة والحنابلة منهم، وقائل بالعدم وهم المالكيّة منهم، قال الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة»:
الشافعية - قالوا: للطواف في ذاته ثمانية شروط: ...، السادس: كونه في المسجد وإن اتسع، فيصحّ الطواف ما دام في المسجد، ولو في هوائه أو على سطحه، ولو مرتفعاً عن البيت، ولو حال حائل بين الطائف والبيت.
والمالكية - قالوا: يشترط لصحة الطواف شروط: ...، السابع: أن يكون داخل المسجد. فلا يصحّ على سطحه ولا خارجه.
والحنابلة - قالوا: يشترط لصحة الطواف شروط: ...، ومنها أن يكون بالمسجد فلا يصحّ خارجه، ويصحّ على سطحه(1).
وكيف كان إنّه لم نری في ما بأيدينا من الأحاديث والأخبار الواردة في باب «الطّواف» ما تكون ناظرة بحكم المسئلة إلّا ما ورد في باب «جواز الصّلاة علی
ص: 203
جبل أبی قبيس ونحوه ممّا هو أعلی من الكعبة، أو أسفل منها مع استقبال جهتها»(1)، منها موثّقة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: صَلَّيْتُ فَوْقَ أَبِی قُبَيْسٍ الْعَصْرَ فَهَلْ يُجْزِی ذَلِكَ وَالْكَعْبَةُ تَحْتِی؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّهَا قِبْلَةٌ مِنْ مَوْضِعِهَا إِلَى السَّمَاءِ»(2)، ومرفوعة مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الصَّدُوق قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ علیه السلام: «أَسَاسُ الْبَيْتِ مِنَ الْأَرضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا»(3).
والتحقيق أنّ قوله علیه السلام في المرفوعة: «أَسَاسُ الْبَيْتِ مِنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا» وإن كان صريحاً بأنّ الكعبة المعظّمة ليست نفس البنية الشّريفة، بل محلّها من تخوم الأرض في السّابعة السّفلی إلى سطح الأرض في السّابعة العليا، إلّا أنّه ضعيفة سنداً لا يمكن الإسناد بها، وأمّا قوله علیه السلام في الموثّقة: «إِنَّهَا قِبْلَةٌ مِنْ مَوْضِعِهَا إِلَى السَّمَاءِ» فيحتمل أن يكون المراد بقوله علیه السلام «إِنَّهَا قِبْلَةٌ» عبارة أخری عن كونها كعبة من موضعها إلی السّماء السابعة، فيثبت به جواز الطّواف في هواء المطاف وفضائه وإن كان مرتفعاً عن البيت المرئی بكثير، كما يحتمل أن يكون المراد به مجرد جواز الصّلاة في الأمكنة المرتفعة عن البيت لكونها شطراً وجهةً للكعبة بأن يكون مفسّراً لقوله تبارك وتعالی: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما
ص: 204
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُالْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(1)، لا أنّها كعبة من موضعها إلی السّماء وإن كانت بحذاء البيت المعمور، أو العرش(2)، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، زائداً علی أنّ المستفاد من قوله تعالی: (وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(3) تحصيلاً الفراغ اليقينی هو لزوم كون الطّواف حول الكعبة المعظّمة الّتي تسمّی بالبيت العتيق.
ثمّ إنّه لو دار الأمر بين الطّواف خارج المطاف في ساحة المسجد إضطراراً، وبين الطّواف في فضاء المطاف وهوائه فوق الكعبة المعظّمة، أوتحته من أرضه في نفس دائرة المطاف، فالطّواف فوق الكعبة المعظّمة ودونها في نفس دائرة المطاف أولی من الطّواف خارج المطاف وإن كان في ساحة المسجد، إذ عدم كون خلف المقام مطافاً علی ما اخترناه في ساحة المسجد يقينی وفوق الكعبة وتحتها مشكوك، وكيف كان الاحتياط يقتضی أن يجمع بينهما حينئذ.
إلی هنا تمّ بحمد الله والمنّة ما أردنا أن نبحث عنه في باب «المطاف وفروعاته التسعة المتعلّقة به».
❊ ❊ ❊
ص: 205
ص: 206
ص: 207
بعض العبادات كالصوم والحجّ وقتها مشروط بإثبات الهلال، قال الله تبارك وتعالی: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِی أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وقال عزّوجلّ: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِیَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج)، وقال أيضاً: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومات)(1)، وعن الصّادق علیه السلام في بيان المراد من قوله عزّ وجلّ: (قُلْ هِیَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج) قال: «لِصَوْمِهِمْ
وَفِطْرِهِمْ وَحَجِّهِمْ»(2)، وحيث إنّ مكان مناسك الحجّ كوقته مشترك لعامّة المسلمين من الشّيعة وأهل السنّة والجماعة لا سيّما في مثل مسئلة الوقوف بعرفات والوقوف بالمشعر الحرام الّتي يمكن أن يقال إنّه لا اتّحاد ولا اشتراك في جميع مناسك الحجّ مثل ما يكون في الوقوفين علی وجه لا تجوّز حكومة الحجاز ومقامات الحرمين الشّريفين علی ما تشهد بعض مذكرات أسفار المؤلفة للحجّ، لفئة من المسلمين أن يقفوا في الموقفين في غير وقت الّذی يقف فيهما النّاس(3)، وهذا الأمر منهم غير بعيد إذ فقهاء العامّة من الأشاعرة والمعتزلة يسلكون مذهب التّصويب(4) الّذی أجمع الإماميّة علی بطلانه، فلا مانع عندهم أن ينشاء الشّارع الحكم بثبوت الهلال علی طبق ما يؤدّی إليه نظر مفتی العامّة وحاكمهم، فربّما يثبت عندهم أو عند
ص: 208
بعض منهم هلال شهر ذی حجّة الحرامولم يثبت عندنا بحيث يكون يوم التروية عندنا بحسب الاستصحاب علی ما بُيّن في مبحث «يوم الشّك»، يوم عرفة عندهم(1)، وقد أشار إلی هذه العويصة والمشكلة الشيخ محمّد حسن النّجفی رحمه الله في «الجواهر» حيث قال:
نعم بقی هنا شیءٌ مهمٌّ تشتدّ الحاجة إليه وهو أنّه لو قامت البيّنة عند قاضی العامّة وحكم بالهلال علی وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصحّ للإمامیّ الوقوف معهم ويجزی لأنّه من أحكام التّقيّة ويعسر التكليف بغيره، أو لا يجزی لعدم ثبوتها في الموضوع الّذی محلّ الفرض منه، كما يؤمی إليه وجوب القضاء في حكمهم بالعيد في شهر رمضان الّذی دلّت عليه النصوص الّتي منها «لأن أفطر يوماً ثمَّ أقضيه أحب إلىَّ من أن يضرب عنقی»؟ لم أجد لهم (الفقهاء) كلاماً في ذلك، ولا يبعد القول بالاجزاء هنا إلحاقاً له بالحكم للحرج، واحتمال مثله في القضاء، وقد عثرت على الحكم بذلك (الإجزاء) منسوباً للعلامة الطباطبائی (بحرالعلوم)، ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغی تركه، والله العالم(2).
فبناءً علی ذلك إمّا لم يتبيّن عندنا العلم بمخالفة حكمهم مع الواقع، وإمّا يتّفق العلم بالمخالفة(3)، وعلی كلا الحالين إمّا يمكن أن نعمل علی وفق مذهب
ص: 209
الحقّ بلا خوف وضرر، وإمّا لا يمكن، نبحث في هذه المقالة إن شاء الله عن حكم تلك الصّور الأربعة بالتّفصيل، وقبل الخوض في المبحث نذكر كلام الإمام الرّاحل رحمه الله في المقام فإنّه قال في «التّحرير»:
لو ثبت هلال ذی الحجة عند القاضی من العامة وحكم به ولم يثبت عندنا فإن أمكن العمل على طبق المذهب الحق بلا تقيّة وخوف وجب، وإلا وجبت التبعيّة عنهم، وصحّ الحجّ لولم تتبيّن المخالفة للواقع، بل لا يبعد الصّحة مع العلم بالمخالفة، ولا تجوز المخالفة، بل في صحّة الحجّ مع مخالفة التقية إشكال، ولمّا كان أفق الحجاز والنجد مخالفاً لآفاقنا سيما أفق إيران فلا يحصل العلم بالمخالفة إلا نادراً (1).
ص: 210
واعلم أنّ لكلّ من الوقوفين وقت اختياریٌ وزمانٌ اضطراریٌ، فوقت إختياری عرفة باجماع الفريقين إلّا الحنابلة من العامّة محدّدٌ من زوال يوم العرفة إلی غروبها(1)، واضطراری عرفة من غروب ليلة النّحر إلی الفجر(2) ، وأمّا الحنابلة فذهبوا إلی أنّ وقت المعتبر شرعاً للوقوف من فجر اليوم التّاسع من شهر ذی الحجّة إلی فجر اليوم العاشر وهو يوم النّحر(3).
قال الشّيخ رحمه الله في «الخلاف»:
وقت الوقوف من حين تزول الشّمس إلى طلوع الفجر من يوم النّحر، وبه قال جميع الفقهاء إلا أحمد بن حنبل فإنّه خالف في الأوّل فقال: من عند طلوع الفجر من يوم عرفة و وافق في الآخر، و روی في بعض أخبارنا: إلى طلوع الشّمس، وفی شاذها: إلى الزّوال من يوم النّحر، ولم يقل به أحد من الفقهاء، دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط(4).
هذا حكم المسئلة بحسب الواقع ومقام الثبوت، وأمّا بحسب الظّاهر ومقام الإثبات فإمّا أن يثبت هلال شهر ذی حجّة الحرام عند قاطبة المسلمين فالحكم واضح ولا كلام لنا فيه، لكنّه كثيراً ما يتّفق إثباته عند حاكمهم ولم يثبت عندنا بحيث يكون يوم التّروية عندنا بحسب الاستصحاب يوم عرفة عندهم، وحينئذ إمّا لم تتبيّن عندنا العلم بمخالفة حكمه مع الواقع، وقد يتّفق العلم بالمخالفة كما إذا حكم حاكمهم بإثبات الهلال علی خلاف الصناعة العلميّة والقواعد
ص: 211
المقرّرة عندنا، وعلی كلا التّقديرين إمّا يمكن أن نعمل علی وفق مذهب الحقّ بلا خوف ولا ضرر، وإمّا أن لا يمكن، فصار أقسام المسئلة أربعة:
إنّ طرق إثبات الهلال(1) علی ما ثبت في محلّه منحصرة فی:
الف: رؤية المكلّف بنفسه
ب: التّواتر
ج: الشّياع المفيد للعلم
د: مضیّ ثلاثين يوماً من هلال الشّهر الماضی
ه- : البيّنة الشّرعيّة، وهی خبر عدلين
و: وأضاف بعض الفقهاء حكم الحاكم الّذی لم يعلم خطأه ولاخطأ مستنده
قال الشّيخ رحمه الله في «الخلاف»:
علامة شهر رمضان و وجوب صومه أحد شيئين: إمّا رؤية الهلال، أو شهادة شاهدين، فإن غمّ عدّ شعبان ثلاثين يوماً ويصام بعد ذلك بنية الفرض، فأمّا العدد والحساب فلا يلتفت إليهما ولايعمل بهما، وبه قالت الفقهاء أجمع.
وحكوا عن قوم شذاذ أنّهم قالوا: يثبت بهذين وبالعدد، فإذا أخبر ثقاة من أهل الحساب والعلم والنجوم بدخول الشّهر وجب قبول قولهم، وذهب قوم من أصحابنا إلى القول بالعدد، وذهب شاذ منهم إلى القول بالجدول.
ص: 212
إلی أن قال:
لا يقبل في رؤية هلال رمضان إلّا شهادة شاهدين، فأمّا الواحد فلا يقبل منه هذا مع الغيم، وأمّا مع الصّحو فلا يقبل إلا خمسون قسامة، أو اثنان من خارج البلد، وللشّافعی قولان: أحدهما: مثل ما قلناه من اعتبار الشاهدين، وبه قال مالك، والأوزاعی، والليث بن سعد وسواء كان صحوا أو غيماً، والآخر: أنّه يقبل شهادة واحد، وعليه أكثر أصحابه، وبه قال في الصّحابة عمر، وابن عمر، وحكوه عن علیّ علیه السلام، وبه قال في الفقهاء أحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة: إن كان يوم غيم قبلت شاهداً واحداً، وإن كان صحواً لم يقبل إلا التواتر فيه والخلق العظيم(1).
وقال السيّد الطّباطبائی رحمه الله في «العروة»:
فصل في طرق ثبوت(2) هلال رمضان وشوّال للصوم والإفطار، وهی أُمور: الأوّل: رؤية المكلف نفسه، الثانی: التواتر، الثالث: الشّياع المفيد للعلم، وفی حكمه كلّ ما يفيد العلم ولو بمعاونة القرائن، فمن حصل له العلم بأحد الوجوه المذكورة وجب عليه العمل به وإن لم يوافقه أحدٌ، بل وإن شهد و ردّ الحاكمُ شهادته، الرّابع: مضی ثلاثين يوماً من هلال شعبان أو ثلاثين يوماً من هلال رمضان فإنّه يجب الصوم معه في الأول والإفطار في الثّانی، الخامس: البيّنة الشّرعيّة، وهی خبر عدلين سواء شهدا عند الحاكم وقبل شهادتهما أولم يشهدا عنده، أو شهدا و ردّ شهادتهما فكلّ من شهد عنده عدلان عنده يجوز بل يجب عليه
ص: 213
ترتيب الأثر من الصوم أو الإفطار، ولا فرق بين أن تكون البينة من البلد أو من خارجه وبين وجود العلّة في السّماء وعدمها، نعم يشترط توافقهما في الأوصاف فلواختلفا فيها لا اعتبار بها، نعم لوأطلقا أو وصف أحدهما وأطلق الآخر كفى ولا يعتبر اتحادهما في زمان الرؤية مع توافقهما على الرؤية في الليل، ولا يثبت بشهادة النساء ولا بعدل واحد ولو مع ضمّ اليمين، السّادس: حكم الحاكم الّذی لم يعلم خطاؤه ولا خطاء مستنده كما إذا استند إلی الشّياع الظّنی، ولا يثبت بقول المنجمين ولا بغيبوبة الشّفق في الليلة الأخرى، ولا برؤيته يوم الثلاثين قبل الزّوال، فلا يحكم بكون ذلك اليوم أول الشّهر ولا بغير ذلك ممّا يفيد الظّن ولوكان قويّاً إلا
للأسير والمحبوس(1).
وقال الإمام الرّاحل رحمه الله :
يثبت الهلال بالرؤية وإن تفرّد به الرائی، والتواتر والشّياع المفيدين للعلم، ومضی ثلاثين يوماً من الشّهر السّابق، وبالبيّنة الشّرعيّة، وهی شهادة عدلين، وحكم الحاكم إذا لم يعلم خطأه ولا خطأ مستنده، ولا اعتبار بقول المنجمين، ولا بتطوق الهلال أو غيبوبته بعد الشفق في ثبوت كونه لليلة السابقة وإن أفاد الظنّ (2).
ص: 214
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ محلّ كلامنا في هذه المقالة هو ما إذا ثبت الهلال عندنا لكنّه لم يحكم به مفتی العامة وقاضيهم(1)، أو ثبت عنده لكنّه علی خلاف الصناعة العلميّة والقواعد المقرّرة عندنا (مثل قبول شهادة من شرب قليلاً من
ص: 215
النّبيذ بوجه لايسكر منه عادتاً عند الشّافعية والحنفيّة(1)، أو شهدت النّساء به خاصّة(2) )، كما هوكثير الإبتلاء في زماننا هذا، إذا لم يمكننا التخطّی عنه.
وقبل الورود في بيان المسألة وحكم صورها المتصورة، فبما أنّ مسألة إثبات الهلال عند حاكم العامّة وقاضيهم متفرعٌ علی قبول حكمه عندنا، ينبغی أن ننظر إجمالاً إلی الأقوال وحكم مسألة ثبوت الهلال بحكم الحاكم، عند الإماميّة، فنقول:
عدّ بعضٌ من فقهائنا العظام أنّ من طرق إثبات الهلال عند الإماميّة حكم الحاكم به، نسبه في «الحدائق»(3) و«المستمسك»(4) إلی ظاهر الأصحاب، وفی «المستند والموسوعة»(5) إلی المشهور، وفی «الجواهر» إمكان تحصيل الإجماع عليه، وقد تأمّل أو توقّف في حجيّته بعض آخر كصاحب «الحدائق» وبعض محشي «العروة».
من القائلين بحجيّة ذلك من الإماميّة العلامة الحلي رحمه الله ( 648 - 726 ه-)، حيث عامل معه معاملة الإرسال المسلم، وجعل رؤية الشخص بنفسه في
ص: 216
ثبوت الهلال ومن جهة إفادته القطع واليقين مثل ما لو حكم به الحاكم! فقال في «التّذكرة»:
ويلزم صوم رمضان من رأى الهلال وإن كان واحداً انفرد برؤيته، سواء كان عدلاً أو غير عدل، شهد عند الحاكم أو لم يشهد، قبلت شهادته أو ردّت، ذهب إليه علماؤنا أجمع، وبه قال مالك والليث، والشافعی، وابن المنذر، وأصحاب الرّأی لما رواه العامّة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» ، وتكليف الرسو صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما يتناول الواحد يتناول الجميع وبالعكس، ومن طريق الخاصة: قول الصّادق علیه السلام وقد سئل عن الأهلّة: «هی أهلّه الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر»، ولأنّه يتيقّن أنّه من رمضان، فلزمه صومه، كما لو حكم به الحاكم، ولأنّ الرؤية أبلغ في باب العلم من الشّاهدين، بل الشّاهدان يفيدان الظنّ، والرؤية تفيد القطع، فإذا تعلّق حكم الوجوب بأضعف الطريقين فبالأقوى أولى(1).
واستقرب الشّهيد رحمه الله (م 786 ه-) في «الدروس» إثباته بذلك حيث قال:
وهل يكفی قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب نعم، ولو قال: اليوم الصوم أو الفطر، ففی وجوب استفساره على السامع ثلاثة أوجه، ثالثها إن كان السامع مجتهداً(2).
وقال المحقق السبزواری رحمه الله (م 1090 ه- ):
في قبول قول الحاكم الشرعی وحده في ثبوت الهلال وجهان، أحدهما: نعم، وهو خيرة الدّروس لعموم ما دلّ على أنّ الحاكم يحكم بعلمه، ولأنّه لوقامت عنده البيّنة فحكم بذلك وجب الرّجوع إلى قوله
ص: 217
كغيره من الأحكام والعلم أقوى من البينة، ولأنّ المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين وما يتحقق به العدالة، إلى قوله: فيكون مقبولاً في جميع الموارد(1).
وقال البحرانی رحمه الله (م 1186 ه-):
هل يجب على المكلف العمل في الصوم والفطر بحكم الحاكم الشرعی؟ والظاهر أنّ هذا الحكم (إثبات الهلال بالشاهدين) لا ريب فيه ولا اشكال، وإنما الإشكال في أنّه هل يجب على المكلف العمل بحكم الحاكم الشرعی متى ثبت ذلك عنده وحكم به أم لا بد من سماعه بنفسه من الشاهدين؟ ظاهر الأصحاب الأوّل، بل زاد بعضهم كما سيأتی في المقام إن شاء الله تعالى الاكتفاء برؤية الحاكم الشرعی(2).
وقال كاشف الغطاء رحمه الله ( م 1228 ه- ) :
فيما يثبت به دخول شهر رمضان وغيره، وهو أُمور: أحدها: رؤية الهلال ...، ثانيها: عدّ ثلاثين للشهر السّابق ...، ثالثها: الشياع المفيد للعلم، أو الظنّ المؤاخی له...، رابعها: الشياع العملیّ ...، خامسها: شهادة العدلين من الرّجال دون النساء والخناثى المُشكلة على المُثبت للهلال ...، سادسها: حكم الفقيه المجتهد المأمون بالنسبة إلى مقلّديه، سواء حكم برؤيةٍ أو ببيّنة أو غيرهما، ولو شهد من غير حكم، كان كغيره من الشهود(3).
وقال الشّيخ محمّد حسن النّجفی رحمه الله (م 1266 ه- ) في «الجواهر»:
ص: 218
الظاهر ثبوته (الهلال) بحكم الحاكم المستند إلى علمه، لإطلاق ما دلّ على نفوذه وأنّ الرّاد عليه كالرّاد عليهم: من غير فرق بين موضوعات المخاصمات وغيرها كالعدالة والفسق والاجتهاد والنّسب ونحوها ...، والتشكيك فيه هو تشكيك فيما يمكن تحصيل الإجماع عليه، خصوصاً في أمثال هذه الموضوعات العامة الّتي هی من المعلوم الرجوع فيها إلى الحكام، كما لا يخفى على من له خبرة بالشرع وسياسته، وبكلمات الأصحاب في المقامات المختلفة، فما صدر من بعض متأخري المتأخرين من الوسوسة في ذلك من غير فرق بين حكمه المستند إلى علمه أو البيّنة أو غيرهما لا ينبغی الالتفات إليه، لما عرفت من ثبوت الهلال بذلك، بل الظاهر عدم الفرق في ذلك بين الحاكم الآخر وغيره، فيجب الصوم أو الفطر على الجميع، نعم لو قال: اليوم الصوم أو الفطر من غير تصريح بكونه لرؤية أو شهادة ففی الدروس في وجوب استفساره على السامع ثلاثة أوجه، ثالثها إن كان السامع مجتهداً استفسره، قلت: قد يقوى في النظر عدم وجوب استفساره، ضرورة كون ذلك منه حكماً، فيجب اتباعه به، لإطلاق ما دلّ عليه(1).
وقال السيّد عبد الأعلی السبزواری رحمه الله (م 1414 ه- ) في «المهذب»:
الظاهر أنّ اعتبار حكم الحاكم في الجملة من المسلّمات العقلائية عند الناس، لأنّ لكلّ مذهب وملّة حاكم وحكم في أمورهم الدّينية والدّنيوية خصوصاً الأمور النّوعية الّتي يحتاج النوع إليها، فالمقتضی للحجيّة في حكم الجامع للشرائط موجود والمانع عنه مفقود، فلابدّ من الاعتبار، فيصحّ أن يقال: إنّ كلّ مورد يرجع فيه النّاس بفطرتهم إلى
ص: 219
الحاكم يكون حكمه فيه معتبراً إلّا مع ثبوت الرّدع، وقد ثبت الرّدع عن حكم من لم يكن جامعاً للشرائط من المسلمين فكيف بغيرهم ؟
وأمّا الفقيه الإمامیّ الجامع للشرائط، فمقتضى فطرة الشّيعة اعتبار حكمه إلّا مع ثبوت الرّدع، لأنّهم يرون حكمه حكم الإمام علیه السلام، وتقتضيه العمومات والإطلاقات، كالتوقيع الرفيع: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواه حديثنا، فإنّهم حجتی عليكم، وأنا حجة اللَّه»، وإطلاق قول أبی جعفر علیه السلام في الصّحيح: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم، إذا كانا شهدا قبل زوال الشّمس، وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بالإفطار ذلك اليوم، وأخّر الصّلاة إلى الغد فصلّى بهم»، وفی المقبولة: «ينظران من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّی قد جعلته عليكم حاكماً»، إلى غير ذلك من الأخبار الّتي وردت للامتنان على الشّيعة إلى ظهور الحجة، لسوقهم إلى ملاذ وملجأ في جميع أمورهم كما هو المفطور في النفوس في جميع المذاهب والأديان، فالمقتضی للحجيّة في حكم الجامع للشرائط موجود والمانع عنه مفقود فلابدّ من الاعتبار(1).
وقد تقدّم كلام الإمام الرّاحل رحمه الله (م 1409 ه- ) حيث قال:
يثبت الهلال بالرؤية وإن تفرّد به الرائی ...، وحكم الحاكم إذا لم يعلم خطأه ولاخطأ مستنده(2).
ص: 220
وأمّا القائلين بعدم الحجيّة أوالمتوقّفين فيها، فأوّل من وقفنا عليه من الأصحاب الشّيخ يوسف البحرانی رحمه الله فإنّه بعد ما ذكر مستند من قال بوجوب العمل بحكم الحاكم، قال:
وبالجملة فالمسألة عندی موضع توقّف وإشكال لعدم الدّليل الواضح في وجوب الأخذ بحكم الحاكم بحيث يشمل موضع النزاع(1).
وكذا المحقّق النّراقی رحمه الله (م 1245 ه- ) حيث قال في «المستند»:
هل يجب قبول حكم الحاكم في ثبوت الهلال، أم لا؟ وهو إمّا يكون بحكمه بعد ثبوته عنده بشاهدين أو الشياع، أو بعد رؤيته بنفسه.
فعلى الأول، ففی الحدائق: أنّ ظاهر الأصحاب وجوب القبول، ونقل عن بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين: العدم، ومال هو إليه أيضاً.
دليل الأول: الأخبار الدالّة بعمومها أو إطلاقها على وجوب الرّجوع إلى حكم الفقيه، وقوله علیه السلام في مقبولة ابن حنظلة: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم اللّه وعلينا ردّه»، والتوقيع الرفيع: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواه أحاديثنا»، وخصوص صحيحة محمّد بن قيس: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار» ...، ودليل الثانی وهو الأقوى: الأصل، والأخبار المعلّقة للصّوم والفطر على الرؤية أو مضی الثلاثين، والناهية عن اتّباع الشكّ والظنّ في أمر الهلال، وقول الحاكم لايفيد أزيد من الظنّ(2).
ص: 221
وقال في «العوائد»:
فلا يقبل قوله في غير مقام المرافعة في رؤية الهلال، و وقوع النجاسة في هذا الإناء، و وقوع التذكية على ذلك الجلد، ونحو ذلك ممّا ليس فيه إخبار عن قول الشارع، لعدم دليل عليه. فإنّ الأخبار إنّما هی واردة في أحكام الأئمة وعلومهم، وقضاياهم ونحو ذلك، فلا يشمل شيء منها مثل رؤية الهلال.
وبالجملة: جميع الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الفقهاء وحكمهم واردة فيما يتعلق بالدعاوی والقضاء بين الخصوم، والفتوى في الأحكام الشرعية(1).
ومنهم السيّد الخوئی رحمه الله (م 1413 ه- ) حيث قال:
إنّ مسألة الهلال لم تكن كذلك (ممّا يأمر فيه بالرجوع إلی رواة الأحاديث)، فإنّه لا تجب فيها مراجعة الإمام علیه السلام حتّى في عصر حضوره وإمكان الوصول إليه، بل للمكلّف الامتناع عن ذلك والاقتصار على الطرق المقرّرة لإثباته، فإن توفّرت لديه وقامت الحجّة الشرعيّة أفطر، وإلّا بقی على صومه، ولم يعهد في عصر أحد من الأئمّة علیهم السلام حتّى مولانا أمير المؤمنين علیه السلام المتصدّی للخلافة الظاهريّة مراجعة النّاس ومطالبتهم إيّاه في موضوع الهلال على النهج المتداول في العصر الحاضر بالإضافة إلى مراجع التقليد، إذ لم يذكر ذلك ولا في رواية واحدة ولو ضعيفة ، وعلی الجملة قوله علیه السلام: «فهو حجّتی عليكم» أی في كلّ ما أنا حجّة فيه، فلا تجب مراجعة الفقيه إلا فيما تجب فيه مراجعةالإمام علیه السلام وهو مورده منحصر في أحد أمرين: إمّا الشّبهات
ص: 222
الحكميّة، أو باب الدعاوی والمرافعات، وموضوع الهلال خارج عنهما معاً(1).
هذه جملة من أقوال فقهائنا العظام رضوان الله تعالی عليهم نفياً وإثباتاً حول مسألة ثبوت الهلال بحكم الحاكم، نذكر هنا ما يستدلّ به لكلا القولين في المقام.
فبعد ما عرفت الأقوال في المسألة نتعرّض إبتداءً لذكر أدلّة النّافين، فنقّبعها بذكر أدلّة المثبتين، ثمّ نختار منها ما هو يقتضيه القواعد والمبانی المقررة للاستنباط، أمّا النّافون(2) فقد استدلّوا علی مذهبهم تارة ب- «الأصل»، ومرادهم بذلك هو أصالة عدم حجيّة ما شك في حجيّته الّذی كان مستنده حكم العقلاء وعموم ما دلّ علی المنع عن العمل بالظنّ كقوله تعالی: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَيْئا)(3)، وغاية ما يستفيد من حكم الحاكم ليس إلا الظنّ.
وأخری: بالأخبار الدالّة علی إثبات الصّوم والفطر بالرؤية، أو مضی ثلاثين يوماً من الشهر الماضی، والناهية عن اتّباع الشكّ والظنّ في أمر الهلال(4)، منها:
ص: 223
صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا وَلَيْسَ بِالرَّأْیِ وَلَا بِالتَّظَنِّی وَلَكِنْ بِالرُّؤْيَةِ» الْحَدِيثَ(1).
وصحيحة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: في كِتَابِ عَلِیٍّ علیه السلام: «صُمْ لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرْ لِرُؤْيَتِهِ وَإِيَّاكَ وَالشَّكَّ وَالظَّنَّ فَإِنْ خَفِیَ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ»(2).
بتقريب أنّ الإمام علیه السلام قد حصر الصوم والإفطار بالرؤية وحكم عند الشّك بإتمام الشّهر الأوّل ثلاثين.
وثالثة: بما مرّ من السيّد الخوئی رحمه الله بأنّ أدلّة ولاية الفقيه قاصرة عن مثل هذا حيث إنّ مسألة الهلال ليست ممّا تجب فيها مراجعة الإمام علیه السلام حتّی في عصر حضوره، فللمكلّف الامتناع عن ذلك والاقتصار على الطرق المقرّرة لإثباته، لاسيّما أنّه لم يعهد في عصر أحد من الأئمّة علیهم السلام حتّى مولانا أمير المؤمنين علیه السلام المتصدّی للخلافة الظاهريّة مراجعة النّاس ومطالبتهم إيّاه في موضوع الهلال كما هو المتداول في العصر الحاضر في مراجعتهم إلى مراجع التقليد.
وأمّا المثبتون فإنّهم استدلّوا علی مذهبهم بالأدلّة الثلاث: الكتاب، والأخبار، والإجماع، أمّا دليله من الإجماع، فقال في «الخلاف»:
للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأحكام من الأموال، والحدود، والقصاص وغير ذلك، سواء كان من حقوق الله تعالی أو من حقوق
ص: 224
الآدميين، فالحكم فيه سواء ...، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً قوله تعالی: (يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)(1)، وقال تعالی لنبيّه محمّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)(2)...، وأيضاً لو لم يقض بعلمه أفضی إلی ايقاف الأحكام أو فسق الحكام(3).
وقال في «الغنية»:
يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأشياء من الأموال والحدود والقصاص وغير ذلك. وسواء في ذلك ما علمه في حال الولاية أو قبلها، بدليل إجماع الطائفة ...، ولا يقبل شهادة النّساء فيما يوجب حداً، لا على الانفراد من الرجال ولا معهم، بلا خلاف إلا في الزنى عندنا على ما قدمناه، ولا تقبل شهادتهنّ على كلّ حال في الطلاق، ولا في رؤية الهلال، بدليل إجماع الطائفة(4).
يظهر من تصريحه في ذيل كلامه بعدم قبول شهادة النّساء برؤية الهلال، أنّ مراده بجميع الأشياء، وكذا قوله: غير ذلك، في صدر كلامه هو تعميم العمل بحكم الحاكم لمثل إثبات الهلال.
وقريب منه ما قاله في «السرائر»:
ص: 225
عندنا للحاكم أن يقضی بعلمه في جميع الأشياء، لأنّه لو لم يقض بعلمه، أفضى إلى إيقاف الأحكام، أو فسق الحكّام(1).وأمّا دليله من الكتاب فقوله تبارك وتعالی: (يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)(2)، وقوله عزّوجلّ: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)(3)، بتقريب أنّ الخليفة إذا كان منصوباً من قبل الله تعالی فحكمه حكمه فلزم العمل به، وقد ذمّ الله عزّ وجلّ من دعی إلی حكمه فأعرض عنه، فقال: (وإِذٰا
دُعُوا إِلَى اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)(4)، ومدح قوماً إذا دعوا إليه فأجابوه، فقال: (إِنَّمٰا كٰانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذٰا دُعُوا إِلَى اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنٰا وَأَطَعْنٰا وَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(5).
والحاكم الشرعی أيضاً حيث كان بما ثبت في محلّه وسيأتی من الأدلّة منصوباً من جانب الإمام علیه السلام، حكمه حكم الإمام علیه السلام فلا يجوز استنكافه.
وأمّا دليله من الأخبار، فإنّه قد وردت روايات عامّة في باب «ولاية الفقيه» يستفاد منها ذلك، منها: قوله علیه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ في دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ أَوْ إِلَى الْقُضَاةِ، أَ يَحِلُّ ذَلِكَ؟ فَقَالَ علیه السلام: «مَنْ تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ فَحَكَمَ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ ثَابِتاً، لِأَنَّهُ أَخَذَ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ
ص: 226
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكْفَرَ بِهَا، قُلْتُ: كَيْفَ يَصْنَعَانِ؟ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ في حَلَالِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً فَإِنِّی قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْحَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَإِنَّمَا بِحُكْمِ اللَّهِ اسْتُخِفَّ وَعَلَيْنَا رُدَّ، وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»(1).
وخبر الصّدوق رحمه الله في كتاب «كمال الدّين» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ الْعَمْرِیَّ أَنْ يُوصِلَ لِی كِتَاباً قَدْ سَأَلْتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَیَّ، فَوَرَدَ التَّوْقِيعُ بِخَطِّ مَوْلَانَا صَاحِبِ الزَّمَانِ علیه السلام: «أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اللَّهُ وَثَبَّتَكَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا
الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِی عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ»، الحديث(2).
زائداً علی ما وردت من الأخبار الخاصّة في باب القضاء وفصل الخصومات كصحيحة الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَزْنِی أَوْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ مَعَ نَظَرِهِ لِأَنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ في خَلْقِهِ وَإِذَا نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَسْرِقُ أَنْ يَزْبُرَهُ وَيَنْهَاهُ وَيَمْضِیَ وَيَدَعَهُ، قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ لِلَّهِ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَتُهُ وَإِذَا كَانَ لِلنَّاسِ فَهُوَ لِلنَّاسِ»(3).
ومرفوعة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: دَخَلَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَلَى أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام فَسَأَلَاهُ عَنْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ قَالَ: «قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ
ص: 227
وَقَضَى بِهِ عَلِیٌّ علیه السلام ...، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَلِيّاً علیه السلام كَانَ قَاعِداً في مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُفْلٍ التَّيْمِیُّ وَمَعَهُ دِرْعُ طَلْحَةَ، فَقَالَ لَهُ عَلِیٌّ علیه السلام: هَذِهِ دِرْعُ طَلْحَةَ أُخِذَتْ غُلُولًا يَوْمَالْبَصْرَةِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُفْلٍ: اجْعَلْ بَيْنِی وَبَيْنَكَ قَاضِيَكَ الَّذِی رَضِيتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شُرَيْحاً، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ دِرْعُ طَلْحَةَ أُخِذَتْ غُلُولًا يَوْمَ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: هَاتِ عَلَى مَا تَقُولُ بَيِّنَةً! فَأَتَاهُ الْحَسَنُ علیه السلام فَشَهِدَ أَنَّهَا دِرْعُ طَلْحَةَ أُخِذَتْ غُلُولًا يَوْمَ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: هَذَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَلَا أَقْضِی بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ آخَرُ، قَالَ: فَدَعَا قَنْبَراً فَشَهِدَ أَنَّهَا دِرْعُ طَلْحَةَ أُخِذَتْ غُلُولًا يَوْمَ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: هَذَا مَمْلُوكٌ وَلَا أَقْضِی بِشَهَادَةِ مَمْلُوكٍ، قَالَ: فَغَضِبَ عَلِیٌّ علیه السلام وَقَالَ: خُذُوهَا فَإِنَّ هَذَا قَضَى بِجَوْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَتَحَوَّلَ شُرَيْحٌ عَنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا أَقْضِی بَيْنَ اثْنَيْنِ حَتَّى تُخْبِرَنِی مِنْ أَيْنَ قَضَيْتُ بِجَوْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ أَوْ وَيْحَكَ إِنِّی لَمَّا أَخْبَرْتُكَ أَنَّهَا دِرْعُ طَلْحَةَ أُخِذَتْ غُلُولًا يَوْمَ الْبَصْرَةِ فَقُلْتَ هَاتِ عَلَى مَا تَقُولُ بَيِّنَةً! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حَيْثُمَا وُجِدَ غُلُولٌ أُخِذَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَقُلْتُ إِنَّكَ رَجُلٌ لَمْ يَسْمَعِ الْحَدِيثَ فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ أَتَيْتُكَ بِالْحَسَنِ فَشَهِدَ فَقُلْتَ هَذَا وَاحِدٌ وَلَا أَقْضِی بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ آخَرُ وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ فَهَاتَانِ ثِنْتَانِ، ثُمَّ أَتَيْتُكَ بِقَنْبَرٍ فَشَهِدَ أَنَّهَا دِرْعُ طَلْحَةَ أُخِذَتْ غُلُولًا يَوْمَ الْبَصْرَةِ فَقُلْتَ هَذَا مَمْلُوكٌ وَلَا أَقْضِی بِشَهَادَةِ مَمْلُوكٍ وَلَا بَأْسَ بِشَهَادَةِ مَمْلُوكٍ إِذَا كَانَ عَدْلًا، ثُمَّ قَالَ: وَيْلَكَ أَوْ قَالَ وَيْحَكَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ يُؤْمَنُ مِنْ أَمْرِهِمْ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا»(1).
والتّحقيق أنّ الناظر المنصف إذا نظر في هذه الأدلّة بعضها مع بعض يطمئن بأنّ الإمام علیه السلام كان في صدد بيان مناط كلّی بأنّ حكم الإمام لايردّ لأنّه منصوب من قبل الله فحكمه حكم الله والرّاد عليه رادّ علی الله عزّ وجلّ لا أنّ ذلك منحصر في هذه الأمثلة، ومثله الفقيه العادل الإمامی بمقتضی ما ثبت في
ص: 228
باب «ولاية الفقيه»، وبذلك يخرج عن كونه ظناً غير معتبر شرعاً، فلهم أن يحكموا حتّی بالنسبة إلی غير مقلّديهم بمقتضی علمهم في باب إثبات الهلال وغيره، علی وجه لا يبقی مجالاً حينئذ للرّجوع إلی الأصل، أو الأخبار الدالّة علیإثبات الصّوم والفطر بالرؤية أو مضی الثلاثين، والناهية عن اتّباع الشكّ والظنّ في أمر الهلال، إذ الأصل دليل حيث لا دليل، فتلك الأخبار مخصَّصة بهذه الرّوايات.
وإن شئت قلت: إنّ الرّوايات الدالّة علی إثبات الصّوم والفطر بالرؤية أو مضی الثلاثين، والناهية عن اتّباع الشكّ والظنّ في أمر الهلال، لم تكن ناظرة إلی ما نحن بصدده من إثبات الهلال بحكم الحاكم وعدمه، بل هی ناظرة إلی شیءٍ آخر و هو أنّه إذا شهد واحد برؤية الهلال ولم تكن في السّماء علّة، فلا وجه لعدم رؤيته الآخرون كما صرحت بذلك صحيحة أَبِی أَيُّوبَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ الْخَرَّازِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام حيث قال: قُلْتُ لَهُ: كَمْ يُجْزِی في رُؤْيَةِ الْهِلَالِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ فَلَا تُؤَدُّوا بِالتَّظَنِّی، وَلَيْسَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ أَنْ يَقُومَ عِدَّةٌ فَيَقُولَ وَاحِدٌ قَدْ رَأَيْتُهُ وَيَقُولَ الْآخَرُونَ لَمْ نَرَهُ، إِذَا رَآهُ وَاحِدٌ رَآهُ مِائَةٌ، وَإِذَا رَآهُ مِائَةٌ رَآهُ أَلْفٌ، وَلَا يُجْزِی في رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ في السَّمَاءِ عِلَّةٌ أَقَلُّ مِنْ شَهَادَةِ خَمْسِينَ، وَإِذَا كَانَتْ في السَّمَاءِ عِلَّةٌ قُبِلَتْ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ يَدْخُلَانِ وَيَخْرُجَانِ مِنْ مِصْرٍ»(1).
فعليه فالفقيه الإمامی نائب عن الإمام علیه السلام في كلّ شیء من شأنه الرّجوع إلی الإمام علیه السلام الّذی منه حكمه بإثبات الهلال، يخرج منه ما كان مشروطاً بالعصمة والمصونة الذاتيّة، وذلك لأنّ الرّجوع إليهم في خصوص الأحكام
ص: 229
والفتاوی معلوم لدی الجميع علی وجه لايحتاج إلی الفهم والسّؤال، وقد صرّح بذلك الحاج آقا رضا الهمدانی رحمه الله حيث قال :
من تدبّر في هذا التوقيع الشريف يرى أنّه علیه السلام قد أراد بهذا التوقيع إتمام الحجّة على شيعته في زمان غيبته بجعل الرّواة حجّة عليهم على وجه لايسع لأحد أن يتخطّى عمّا فرضه اللّه معتذراً بغيبة الإمام، لامجرّدحجّية قولهم في نقل الرّواية أو الفتوى؛ فإنّ هذا مع أنّه لايناسبه التعبير ب- «حجتی عليكم» لايتفرّع عليه مرجعيتهم في الحوادث الواقعة الّتي هی عبارة عن الجزئيات الخارجية الّتي من شأنها الإيكال إلى الإمام، كفصل الخصومات و ولاية الأوقاف والأيتام وقبالة الأراضی الخراجية الّتي قصرت عنها أيدي سلاطين الجور الّذين يجوز التقبّل منهم، وغير ذلك من موارد الحاجة إلى الرجوع إلى الإمام، فلو رأى مثلاً صلاح اليتيم أن يأخذ ماله من هذا الشخص الّذی لا ولاية له عليه شرعاً، وينصب شخصاً آخر قيّما عليه في ضبط أمواله وصرفها في حوائجه فليس لمن عنده مال اليتيم أن يمتنع من ذلك ويستعمل رأيه في التصرّف فيه على حسب ما يراه صلاحاً لحال اليتيم، وكذا في الأوقاف ونظائرها وإن أفتى له الفقيه عموماً بجواز التصرّف فيها بالّتي هی أحسن، فإنّه لو امتنع من دفع المال إلى من نصبه الفقيه قيّما عليه بزعمه أنّ بقاءه عنده أصلح بحال اليتيم من دفعه إلى ذلك الشخص فسرق المال، لم يعذر ذلك الشخص في ما رآه بعد أن نصب الإمام علیه السلام الفقيه حجّة عليه في الحوادث الواقعة الّتي منها هذا المورد.
والحاصل: أنّه يفهم من تفريع إرجاع العوام إلى الرّواة على جعلهم حجّة عليهم، أنّه أريد بجعلهم حجّة إقامتهم مقامه في ما يرجع فيه إليه، لامجرّد حجّية قولهم في نقل الرواية والفتوى، فيتمّ المطلوب(1).
ص: 230
وأمّا ما تقدّم من السيّد الخوئی رحمه الله من قصور أدلّة النيابة عن مثل المقام إذ مسألة الهلال ليست ممّا تجب فيها مراجعة الإمام علیه السلام حتّی في عصر حضوره، فللمكلّف الامتناع عن ذلك والاقتصار على الطرق المقرّرة لإثباته، لاسيّما أنّه لم يعهد في عصر أحد من الأئمّة علیهم السلام حتّى مولانا أمير المؤمنين علیه السلام المتصدّیللخلافة الظاهريّة مراجعة النّاس ومطالبتهم إيّاه في موضوع الهلال كما هو المتداول في العصر الحاضر في مراجعتهم إلى مراجع التقليد.
فيلاحظ عليه: أوّلاً أنّ مراجعة الإمام علیه السلام لإثبات ذلك شیء، و وجوب إطاعته بعد ما حكم به شیء آخر، إذ ليس لأحد أن يمتنع من تسليم حكمه بعده، قال الله عزّ وجلّ: (فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(1).
وثانياً: حيث إنّ الأمر في إثبات هلال شوال وعدمه دائر بين وجوب الصيام وحرمته، فمن المعلوم أنّ النّاس كلّما عارضهم شك لإثباته يراجعون لفهم وظيفتهم إلی حكامهم بحيث ربما نری كثيراً من العوام الّذين لم يلتزموا بالتقليد في أحكام دينهم من المراجع, أو كانوا من المجتهدين، يراجعون المراجع لإثبات هلالي رمضان وشوال، كما تقدّم من عبارة «الجواهر» حيث قال:
خصوصاً في أمثال هذه الموضوعات العامة (إثبات الهلال) الّتي هی من المعلوم الرجوع فيها إلى الحكام، كما لا يخفى على من له خبرة بالشرع وسياسته، وبكلمات الأصحاب في المقامات المختلفة، فما صدر من بعض متأخري المتأخرين من الوسوسة في ذلك من غير فرق بين حكمه المستند إلى علمه أو البيّنة أو غيرهما لا ينبغی الالتفات إليه،
ص: 231
لما عرفت من ثبوت الهلال بذلك، بل الظاهر عدم الفرق في ذلك بين الحاكم الآخر وغيره، فيجب الصوم أو الفطر على الجميع(1).
ومنه قصّة المعروف عن داود بن الحصين، حيث إنّه روی عن رجل من أصحابه عن أبی عبدالله علیه السلام أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ في زَمَانِ أَبِی الْعَبَّاسِ: إِنِّی دَخَلْتُعَلَيْهِ وَقَدْ شَكَّ النَّاسُ في الصَّوْمِ وَهُوَ وَاللَّهِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَ صُمْتَ الْيَوْمَ؟ فَقُلْتُ: لَا، وَالْمَائِدَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَادْنُ فَكُلْ، قَالَ: فَدَنَوْتُ فَأَكَلْتُ، قَالَ: وَقُلْتُ: الصَّوْمُ مَعَكَ وَالْفِطْرُ مَعَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِأَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: تُفْطِرُ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: إی وَاللَّهِ أُفْطِرُ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقِی»(2).
هذا، لكن حيث إنّ حجيّة العلم إذا اخذ بنحو الطّريقيّة ذاتيّةٌ، وحجيّة كلّ شیء بسببه وليست بجعل أحد علی وجه لا نحتاج في حجّيته إلی جعل تشريعی حتّی يقال: إنّ القطع حينئذ حجةٌ من دون فرق بين كون القاطع قطّاعاً أو غير قطّاع(3)، فإن علم المكلّف خطأ الحاكم أومبناه فيما حكم به، فلم يثبت حكمه في حقّه شيئاً، ومن هنا لا اعتبار بحكم الحاكم إذا حكم بإثبات الهلال بالعين المسلّحة والأجهزة الحديثة كالنظارات القويّة، لمن لم يقلّد أو لم يفت بأثباته كذلك، كما أشار إليه السيّد الخوئی رحمه الله حيث قال:
الوجود الواقعی (للقمر) لا أثر له في تكوّن الهلال وإن علمنا بتحقّقه علماً قطعيّاً حسب قواعد الفلك وضوابط علم النجوم، إذ العبرة حسب
ص: 232
النصوص المتقدّمة بالرؤية وشهادة الشاهدين بها شهادة حسيّة عن باصرة عاديّة لا عن صناعة علميّة أو كشفه عن علوّه وارتفاعه في الليلة الآتية، ومنه تعرف أنّه لا عبرة بالرؤية بالعين المسلّحة المستندة إلی المكبّرات المستحدثة والنظارات القويّة كالتسكوب ونحوه، من غير أنيكون قابلاً للرؤية بالعين المجردة والنظر العادی، نعم لا بأس بتعيين المحل بها ثمّ النظر بالعين المجردة، فإذا كان قابلاً للرؤية ولو بالاستعانة من تلك الآلات في تحقيق المقدمات كفی وثبت به الهلال كما هو واضح(1).
ثمّ إنّه إن أخبر الحاكم بإثبات الهلال عنده إلّا أنّه لم يحكم به، فلم يثبت خبره في حقّ غيره شيئاً ما دام لم يكن المخبَر حدّ التواتر أو الشياع المفيد للعلم، غاية الأمر إذا أخبر بنحو المشاهدة فهو شاهد واحد يحتاج لإثباته في حق غيره إلی شاهد آخر لكنّه بالنسبة إلی شخصه ممضاة، صرّح بذلك صحيحة علیّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام حيث قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَرَى الْهِلَالَ في شَهْرِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ لَا يُبْصِرُهُ غَيْرُهُ لَهُ أَنْ يَصُومَ؟ قَالَ: «إِذَا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ فَلْيَصُمْ، وَإِلَّا فَلْيَصُمْ مَعَ النَّاسِ»(2)، يؤيّده ما روی عن ابن عباس: أنّ بريرة أعتقت تحت عبد فاختارت الفسخ، فقال لها النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «لو راجعتيه فإنّه أبو ولدك»، فقالت: أبأمرك يا رسول الله؟ فقال: «لا إنَّمَا أنَا شَافِعٌ» فقالت: لا حاجة لی فيه(3).
ص: 233
فبعد ما فرغنا من مسألة إثبات الهلال بحكم الحاكم عند الإماميّة وأدلّتهم، نذكر صور المتصورة للمسألة وأحكامها الخاصّة فنقول وبه نستعين:صور المسألة وأحكامها:
قد عرفت في أوائل المبحث أنّ في المسألة أربعة أقسام متصورة، نبحث هنا عنها وعن أحكامها:
الصّورة الأولی: وهی ما إذا ثبت الهلال عند قاطبة المسلمين.
الصّورة الثّانية: وهی ما إذا ثبت الهلال عند حاكم العامّة خاصّة، إلا أنّه لا يحصل لنا علم بمخالفة حكمه مع الواقع.
الصّورة الثّالثة: وهی ما إذا ثبت الهلال عنده وتبيّن عندنا العلم بمخالفة حكمه مع الواقع لكنّه يمكن لنا أن نعمل علی طبق وظيفتنا بلا خوف ولا ضرر.
الصّورة الرّابعة: نفس الصورة إلّا أنّه لا يمكن لنا أن نعمل علی طبق مذهب الحقّ بلا خوف ولا ضرر.
أمّا الصّورة الأولی: فالحكم فيها واضح لأنّه يكون من باب التّواتر أو الشّياع المفيد للعلم فلا كلام فيه.
وأمّا الصّورة الثّانية: فبما أنّ قبول حكم الحاكم وحده إذا لم يشع الخبر بين المسلمين مشروط عندنا بالعدالة والولاية اللّتين لاأقلّ الأخيرة منهما مفقودة في قاضيهم، فليس لقبول حكمه سبيل، فقد صرّح به في مقبولة عمر بن حمزة المتقدمة أنّ: «مَنْ تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ فَحَكَمَ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ ثَابِتاً، لِأَنَّهُ أَخَذَ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكْفَرَ بِهَا...، انْظُرُوا إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ في حَلَالِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً فَإِنِّی قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَإِنَّمَا بِحُكْمِ اللَّهِ
ص: 234
اسْتُخِفَّ وَعَلَيْنَا رُدَّ، وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»(1).
وكذا قوله علیه السلام في التوقيع الشّريف: «وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِی عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ»(2)، فهی أيضاً تدلّ علی الرّجوع إلی خصوص الفقهاء الإماميّة لا العامّة.
فيجب علی المكلّف حينئذ بأن يعمل بالاستصحاب بعدّه اليوم الشّك من الشّهر الماضی كما دلّت عليه صحيحة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: في كِتَابِ عَلِیٍّ علیه السلام: «صُمْ لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرْ لِرُؤْيَتِهِ، وَإِيَّاكَ وَالشَّكَّ وَالظَّنَّ، فَإِنْ خَفِیَ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ»(3).
وكذا خبر أَبِی خَالِدٍ الْوَاسِطِیِّ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام في حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لَمَّا ثَقُلَ في مَرَضِهِ قَالَ: «إِنَّ السَّنَةَ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ قَالَ: ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ: فَذَاكَ رَجَبٌ مُفْرَدٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ أَلَا وَهَذَا الشَّهْرُ الْمَفْرُوضُ رَمَضَانُ فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِذَا خَفِیَ الشَّهْرُ فَأَتِمُّوا الْعِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْماً وَصُومُوا الْوَاحِدَ وَثَلَاثِينَ» الْحَدِيثَ .(4)
زائداً علی ما ورد من عدم جواز التعويل علی قول المخالفين في الصوم والفطر والأضحی(5)، منها: ما رواه مُحَمَّدُ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِیِّ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ
ص: 235
الثَّانِی علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا تَقُولُ في الصَّوْمِ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِیَ أَنَّهُمْ لَا يُوَفَّقُونَ لِصَوْمٍ؟ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَةُ الْمَلَكِ فِيهِمْ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟قَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمَّا قَتَلُوا الْحُسَيْنَ علیه السلام أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَكاً يُنَادِی أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ الظَّالِمَةُ الْقَاتِلَةُ عِتْرَةَ نَبِيِّهَا لَا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ لِصَوْمٍ وَلَا فِطْرٍ»(1).
إن قلت: قد روی الشيخ رحمه الله بِإِسْنَادِه عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیِّ بْنِ مَحْبُوب عَنِ الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِی الْجَارُودِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام إِنَّا شَكَكْنَا سَنَةً في عَامٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْوَامِ في الْأَضْحَى، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَى أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُضَحِّی فَقَالَ: «الْفِطْرُ يَوْمُ يُفْطِرُ النَّاسُ وَالْأَضْحَى يَوْمُ يُضَحِّی النَّاسُ، وَالصَّوْمُ يَوْمُ يَصُومُ النَّاس»(2)، وروی أيضاً عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أَنَّهُ قَالَ: «فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضْحُونَ وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تُعَرِّفُونَ»(3)، فعليه لزم علينا متابعة العامّة في الفطر والأضحی والوقوفين.
قلنا: يلاحظ عليه أوّلاً: أمّا ما رواه الشّيخ رحمه الله بإسناده عن محمّد بن علیّ بن محبوب وإن كان طريقه إلى محمّد بن علیّ بن محبوب علی ما في مشيخة التهذيب متشكلاً من عدة ثقات حيث قال:
وما ذكرته في هذا الكتاب عن محمّد بن علیّ بن محبوب فقد أخبرنی به الحسين بن عبيد اللّه عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطار، عن أبيه محمّد بن يحيى، عن محمّد بن علیّ بن محبوب(4).
وقال العلامة الحلي رحمه الله :
ص: 236
طريق الشيخ الطوسی رحمه الله في التهذيب إلى محمّد بن يعقوب الكلينی صحيح، وإلى أحمد بن إدريس وكذا إلى علیّ بن إبراهيم بن هاشم ... وكذا عن محمّد بن علیّ بن محبوب(1).
وكذا سائر رواته، إلّا أنّ في طريقه زياد بن المنذر المكنّی بأبی الجارود الزيدی المذهب الّذی إليه تنسب الجاروديّة لم تثبت وثاقته عند أئمة الرّجال(2)، وإن وثّقه المحقّق الخوئی رحمه الله لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات بأنّه قد شهد جعفر بن محمّد بن قولويه بوثاقة جميع رواتها (3)، لكنّ المشهور أنّه رحمه الله قد عدل عن هذا المبنی في آخر عمره الشريف.
وكذا الرّواية النّبويّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فإنّها أيضاً من الأخبار الآحاد الّتي لم تثبت من طرق الصّحيح في المجامع الرّوائيّة والأصل فيها هو ما حكاها بعض العامّة كالبيهقی في سننه.
وثانياً: لم ينطبق الخبران علی الأصول والقواعد المقررة في الفقه الإماميّة فلا يثبت بهما شیء، زائداً علی أنّه يمكن أن يكون المراد منهما هو ما إذا ثبت الهلال بالشّياع لا ما إذا ثبت الهلال عند قاضی العامّة وحاكمهم من دون شياع وتواتر فتكونان دليلين علی عدّ يوم الشك من الشهر الماضی ما دام لم يشع رؤية الهلال بين النّاس.
وثالثاً: علی فرض تسليم أسنادهما وكونهما ناظرتين لحكم المقام فهما معارضتان لما تقدّم من الأخبار السّابقة وغيرها الدّالّة علی أنّ المعيار في الصّوم والإفطار هو الرّؤية أو مضی الثلاثين، والناهية عن اتّباع الشكّ والظنّ في أمر
ص: 237
الهلال، فبمقتضی ما رَوَى الْعَلَّامَةُ مَرْفُوعاً إِلَى زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: سَأَلْتُ الْبَاقِرَ علیه السلام فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَأْتِی عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ؟ فَقَالَ علیه السلام: «يَا زُرَارَةُ خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَدَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِی إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ؟ فَقَالَ علیه السلام: خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَأَوْثَقِهِمَا في نَفْسِكَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ؟ فَقَالَ علیه السلام: انْظُرْ مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ، وَخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ، قُلْتُ: رُبَّمَا كَانَا مَعاً مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوِ مُخَالِفَيْنِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ ؟ فَقَالَ: إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ وَاتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ علیه السلام: إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذَ بِهِ وَتَدَعَ الْأَخِيرَ»(1)، حيث إنّ الرّوايات الأولی مشهورةٌ بل متّفقةٌ عليها عند الأصحاب أوّلاً، ومخالفةٌ لما أفتی به العامّة بأجمعهم ثانياً، إذ فقهاء العامّة علی ما قاله الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة» وإن لم يشترطوا في إثبات الهلال حكم الحاكم لكنّهم اتّفقوا علی أنّه لوحكم بثبوت الهلال علی أیّ طريق في مذهبه فبما أنّ حكم الحاكم يرفع الخلاف، ثبت في حقّ عموم المسلمين وإن خالفوه في المذهب(2)، وزائدة علی كونها موافقةً لأصل الإستصحاب ثالثاً، فنقدّمها علی هذين الرّوايتين الأخيرتين.
هذا فيما لوكان العمل بخلاف العامّة وعلی طبق المذهب الحقّ بلا تقيّة ممكناً كما صرّح به الإمام الرّاحل قدس سره حيث قال :
ص: 238
لو ثبت هلال ذی الحجة عند القاضی من العامة وحكم به ولم يثبت عندنا فإن أمكن العمل على طبق المذهب الحقّ بلا تقية وخوف وجب(1).
وإلا سيأتی حكمه عند بيان الصورة الرابعة.
وأمّا حكم الصّورة الثّالثة: وهی ما إذا ثبت الهلال عند حاكم العامّة وقاضيهم لكنّه تبيّن عندنا العلم بمخالفة حكمه مع الواقع، كما إذا علمنا بأنّه حكم بإثبات الهلال علی خلاف الصناعة العلميّة والقواعد المقرّرة عندنا مثل قبوله شهادة واحدة أو شهادة النّساء به منفردات، إلّا أنّه يمكن لنا أن نعمل علی طبق الوظيفة بلا خوف ولا ضرر.
فالحكم في هذه الصّورة أظهر من سابقتها، فما نقول فيها آت هنا بعينه زائدةً علی أنّه حيث نعلم خطأ الحاكم في حكمه في هذه الصّورة نزيد عليه أيضاً بأنّ قبول حكم الحاكم كما عرفت منوط بعدم العلم بخطأ الحاكم في مستنده إذ حجّيّة العلم إذا أخذ بنحو الطريقيّة ذاتيّة وحجّيّة كلّ شیء بسببه، وحينئذ حيث فرضنا أنّه يمكن للمكلّف أن يعمل علی طبق وظيفته الشّرعيّة بجعل يوم الشّك من الشّهر الماضی بلا خوف ولا ضرر فلا بدّ له من أن يعمل علی طبق تكليفه الشّرعی.
وأمّا حكم الصّورة الرّابعة: الّتي هی أهمّ صور المسألة ومن أجلها ندوّن المقالة، وهی ما إذا ثبت الهلال عند حاكم العامّة وقاضيهم وتبيّن عندنا العلم بمخالفة حكمه مع الواقع، لكنّه لايمكن لنا أن نعمل علی طبق مذهب الحقّ بلا خوف ولاضرر، ففی بطلان الحجّ وصحّته حينئذ وجهان بل قولان: من كونه من
ص: 239
قبيل المصدود(1) أو من مصاديق فوات الحجّ فيبطل، ومن كونه من مصاديق التقيّة فيصحّ، أقواهما الثانی، فمن القائلين بالأوّل الشهيد رحمه الله في «المسالك» حيث قال:
المصدود إمّا أن يكون حاجّا أو معتمراً، والمعتمر إمّا أن يكون متمتّعاً أو مفرداً، فإن كان حاجاً تحقّق صدّه بالمنع من الموقفين معاً إجماعاً، وبالمنع من أحدهما مع فوات الآخر، وبالمنع من المشعر مع إدراك اضطراریّ عرفة خاصّة دون العكس. وبالجملة يتحقّق بالمنع ممّا يفوت بسببه الحج، وقد تقدّم تحرير اقسامه الثمانية، ومن هذا الباب ما لو وقف العامّة بالموقفين قبل وقته لثبوت الهلال عندهم لا عندنا، ولم يمكن التأخّر عنهم لخوف العدو منهم أو من غيرهم فإنّ التقية هنا لم يثبت(2).
وقريب منه ما قاله صاحب الجواهر رحمه الله في رسالته المسمّی ب- «نجاة العباد» فإنّه قال:
ولو وقف العامّة بالموقفين قبل وقته لثبوت الهلال عندهم دوننا ولم يمكن التاخّر عنهم فهو بحكم من فاته الحجّ لا بحكم المصدود وان كان الأحوط اجراء الحكمين عليه(3).
والمحقّق النائنی رحمه الله علی ما في دليل مناسكه عن السيّد الحكيم رحمه الله أفتی فيه بالبطلان لكونه من أقسام فوات الحجّ، حيث قال:
ص: 240
ولو وقف مخالفونا بالموقفين قبل وقته لثبوت الهلال عندهم دوننا، ولم يمكن التخلف عنهم حتى في إدراك اضطراری الموقفين، كان من فوات الحج كما تقدّم، وليس من الصد عن الموقفين، ويتحلل عن إحرامه بعمرة مفردة، وكذا كل من تعذّر عليه المضی في حجه لمانع، ولم يكن ممنوعاً عن دخول مكة، ولا عن الموقفين(1).
ومن القائلين بصحّة الحجّ حينئذ الإمام الراحل قدس سره حيث قال:
لو ثبت هلال ذی الحجة عند القاضی من العامة وحكم به ولم يثبت عندنا فإن أمكن العمل على طبق المذهب الحقّ بلا تقية وخوف وجب، وإلا وجبت التبعية عنهم، وصحّ الحجّ لولم تتبين المخالفة للواقع، بل لا يبعد الصحة مع العلم بالمخالفة، ولا تجوز المخالفة، بل في صحّة الحجّ مع مخالفة التّقية إشكال(2).
التحقيق أنّ الحكم الأوليّة في هذه الصّورة هو أيضاً عدم تنفيذ حكمه، لما نعلم أنّ حكمه مخالف للواقع وللقواعد المقررة للاستنباط، فعلی المكلّف أن يعمل بما هو وظيفته الشرعيّة، لكنّه حيث لم يمكنه أن يعمل علی طبق وظيفته بلا خوف ولا ضرر فبما أنّ دائرة الأحكام والتكاليف الأوليّة منوطة بعدم الضّرر والحرج من دون فرق في ذلك أن يكون الضّر أو الخوف متوجهين إلی شخص المكلّف أو غيره أو إلی مذهبه مثل هتك حرمة الشيعة وانحطاط شأنهم وجعلهم في معرض التّهمة ومظنة السّوء، فقاعدتي «التّقيّة» و«لاضرر» حاكمان علی تلك الأحكام، فلا يجب علی المكلّف أن يقف في الموقفين في وقتهما الخاصّ بل يجب عليه أن يقف فعلاً فيهما مع سائر المسلمين، فإنّه قد وردت هناك روايات
ص: 241
متواترة، بل فوق حدّ التواتر في مشروعية التقية ولزوم رعايتها، وفی بعضها أنّه لو قلت: إنّ تارك التّقيّة كتارك الصّلاة لكنت صادقاً، منها:
صحيحة ابْنِ أَبِی عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) قَالَ: «بِمَا صَبَرُوا عَلَى التَّقِيَّةِ (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) قَالَ: الْحَسَنَةُ
التَّقِيَّةُ وَالسَّيِّئَةُ الْإِذَاعَةُ».(1)
وصحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «التَّقِيَّةُ في كُلِّ ضَرُورَةٍ وَصَاحِبُهَا أَعْلَمُ بِهَا حِينَ تَنْزِلُ بِهِ»(2).
وصحيحة إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِیِّ وَمَعْمَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَامٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَزُرَارَةَ قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: «التَّقِيَّةُ في كُلِّ شَیْ ءٍ يُضْطَرُّ إِلَيْهِ ابْنُ آدَمَ فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ»(3).
وصحيحة مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام عَنِ الْقِيَامِ لِلْوُلَاةِ؟ فَقَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: «التَّقِيَّةُ مِنْ دِينِی وَدِينِ آبَائِی وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ»(4).
وصحيحة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِی يَعْفُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «التَّقِيَّةُ تُرْسُ الْمُؤْمِنِ وَالتَّقِيَّةُ حِرْزُ الْمُؤْمِنِ وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ» الْحَدِيثَ(5).
وصحيحة جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «إِنَّ أَبِی كَانَ يَقُولُ: أَیُّ شَیْ ءٍ أَقَرُّ لِلْعَيْنِ مِنَ التَّقِيَّةِ؟! إِنَّ التَّقِيَّةَ جُنَّةُ الْمُؤْمِنِ»(6).
ص: 242
وصحيحة الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: «لَا دِينَ لِمَنْ لَا وَرَعَ لَهُ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ، وَإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْمَلُكُمْ بِالتَّقِيَّةِ، قِيلَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مَتَى؟ قَالَ: إِلَى قِيَامِ الْقَائِمِ، فَمَنْ تَرَكَ التَّقِيَّةَ قَبْلَ خُرُوجِ قَائِمِنَا فَلَيْسَ مِنَّا» الْحَدِيثَ(1).
وخبر أَبی عُمَرَ الْأَعْجَمِیِّ قَالَ: قَالَ لِی أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «يَا بَا عُمَرَ إِنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الدِّينِ في التَّقِيَّةِ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ» الْحَدِيثَ (2).
وخبر حَبِيبِ بْنِ بَشِيرٍقَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «سَمِعْتُ أَبِی يَقُولُ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَیْ ءٌ أَحَبَّ إِلَیَّ مِنَ التَّقِيَّةِ، يَا حَبِيبُ إِنَّهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ تَقِيَّةٌ رَفَعَهُ اللَّهُ، يَا حَبِيبُ مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَقِيَّةٌ وَضَعَهُ اللَّهُ، يَا حَبِيبُ إِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا هُمْ في هُدْنَةٍ فَلَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا».(3)
ومرفوعة ابن إدريس الحلي رحمه الله عن داود الصّرمی عن مولانا علیّ بن محمّد الهادی عليهما السّلام قال: قال لی: «يَا دَاوُدُ لَوْ قُلْتُ إِنَّ تَارِكَ التَّقِيَّةِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ لَكُنْتُ صَادِقاً»(4).
فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ المكلّف يجب عليه حينئذ أن يقف في الموقفين مع سائر المسلمين، لكنّه بقی هنا شیء وهو أنّه هل الحجّ هذا مجزیء عمّا هو واجب عليه أم لا ؟
ص: 243
قد عرفت أنّ التكليف الفعلی للمكلّف حينئذ هو مراعاة التّقيّة والوقوف مع سائر المسلمين في الموقفين، لكنّه بقی هنا أمرٌ آخر وهو أنّه هل يجزی حجّه هذا عمّا هو واجب عليه، أو يجب عليه أن يبدلّ حجّه بالعمرة المفردة للخروج عن الأحرام، فإن كانت استطاعته من السّنة الحاضرة ولم تبق بعدها سقط عنه الوجوب وإلّا يجب عليه الحجّ من قابل؟
فمن القائلين بالأوّل الشّيخ محمّد حسن النّجفی رحمه الله في «الجواهر» حيث لم يستبعد جوازه وقال:
نعم بقی هنا شیءٌ مهمٌّ تشتدّ الحاجة إليه وهو أنّه لو قامت البيّنة عند قاضی العامّة وحكم بالهلال علی وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصحّ للإمامیّ الوقوف معهم ويجزی لأنّه من أحكام التّقيّة ويعسر التكليف بغيره، أو لا يجزی لعدم ثبوتها في الموضوع الّذی محلّ الفرض منه، كما يؤمی إليه وجوب القضاء في حكمهم بالعيد في شهر رمضان الّذی دلّت عليه النصوص الّتي منها «لأن أفطر يوماً ثمَّ أقضيه أحب إلىَّ من أن يضرب عنقی»؟ لم أجد لهم (الفقهاء) كلاماً في ذلك، ولا يبعد القول بالاجزاء هنا إلحاقاً له بالحكم للحرج، واحتمال مثله في القضاء، وقد عثرت على الحكم بذلك (الإجزاء) منسوباً للعلامة الطباطبائی (بحرالعلوم)، ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغی تركه، والله العالم(1).
ص: 244
وهو أيضاً خيرة الإمام الرّاحل قدس سره في «التّحرير» كما مرّ آنفاً، وأصرح منه ما قاله في «الرسائل»:
وممّا يشهد لترتب أثر التقيّة في الموضوعات وأنّ الوقوفين في غير وقتهما مجزيان أنّه من بعد رسول اللّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلى زمان خلافة أمير المؤمنين ومن بعده إلى زمن الغيبة كان الأئمة وشيعتهم مبتلين بالتّقية أكثر من مائتي سنة وكانوا يحجّون مع أمراء الحاج من قبل خلفاء الجور أو معهم، وكان أمر الحجّ وقوفاً وإفاضةً بأيديهم لكونه من شئون السلطنة والأمارة، ولا ريب في كثرة تحقق يوم الشك في تلك السنين المتمادية ولم يرد من الأئمة علیهم السلام ما يدلّ على جواز التخلّف عنهم أو لزوم إعادة الحجّ في سنة يكون هلال شهر ذی الحجة ثابتاً لدى الشّيعة مع كثرة ابتلائهم، ولا مجال لتوهم عدم الخلاف في أول الشهر في نحو مائتي وأربعين سنة ولافی بنائهم على إدراك الوقوف خفاء كما يصنع جهّال الشيعة في هذه الأزمنة، ضرورة أنّه لو وقع ذلك منهم ولو مرة أو أمروا به ولو دفعة لكان منقولاً إلينا لتوفر الدّواعی به، فعدم أمرهم به ومتابعتهم لهم أدلّ دليل على أجزاء العمل تقية ولو في الخلاف الموضوعی وهذا ممّا لا إشكال فيه ظاهراً (1).
ومن القائلين بالثّانی لدی العلم بالخلاف السيّد الخوئی قدس سره في «المعتمد» و«الموسوعة» حيث قال:
إذا ثبت الهلال عند قاضی أهل السنة وحكم على طبقه، ولم يثبت عند الشيعة ففيه صورتان:(الأولى) ما إذا احتملت مطابقة الحكم للواقع، فعندئذ وجبت متابعتهم والوقوف معهم وترتيب جميع آثار ثبوت الهلال الراجعة إلى مناسك حجّه من الوقوفين وأعمال منى يوم النحر
ص: 245
وغيرها ويجزئ هذا في الحجّ على الأظهر، ومن خالف ما تقتضيه التقيّة بتسويل نفسه أنّ الاحتياط في مخالفتهم، ارتكب محرماً وفسد وقوفه. والحاصل: أنّه تجب متابعة الحاكم السنّی تقيّة، ويصحّ معها الحجّ والاحتياط حينئذ غير مشروع ولا سيّما إذا كان فيه خوف تلف النفس ونحوه كما قد يتّفق ذلك في زماننا.
(الثانية) ما إذا فرض العلم بالخلاف وأنّ اليوم الّذی حكم القاضی بأنّه يوم عرفة هو يوم التروية واقعاً، ففی هذه الصورة لا يجزئ الوقوف معهم، فإن تمكّن المكلّف من العمل بالوظيفة والحال هذه ولو بأن يأتی بالوقوف الاضطراری في المزدلفة دون أن يترتب عليه أیّ محذور ولوكان المحذور مخالفته للتقيّة، عمل بوظيفته، وإلّا بدّل حجّة بالعمرة المفردة ولا حجّ له، فإن كانت استطاعته من السنة الحاضرة ولم تبق بعدها سقط عنه الوجوب إلّا إذا طرأت عليه الاستطاعة من جديد(1).
التحقيق أنّ الّذی قاله السيّد الخوئی رحمه الله هنا من الحكم في الصّورة الأولی من لزوم متابعة العامّة عند احتمال مطابقة حكمهم للواقع إذا لم يشع أمر الهلال بين النّاس، إنّما هو فيما لا يمكن لنا العمل علی طبق الوظيفة الشّرعيّة بجعل يوم الشّك بلا خوف ولا ضرر من الشّهر الماضی استصحاباً، وإلّا كانت الوظيفة علی حسب المبانی الأوليّة كما عرفت العمل بالاستصحاب بلا ريب، هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ محل الإجزاء علی ما بُيّن في الأصول(2) هو ما إذا أتی المكلّف بالمأمور به الاضطراری أو الظاهری عند عدم تمكنه من الإتيان بالمأمور به بالأمر
ص: 246
الواقعی، كمن تيمّم عند فقدانه الماء أو تعذّر من استعمال الماء، فحينئذ حيث إنّه أتی بما هو مقدور له فعلاً وأنّ هذا الأمر الظاهری أو الاضطراری أمرٌ ثانویٌّ له شرعاً، فبما أنّ الله تبارك وتعالی لايكلّف عباده إلّا بما هو مقدورٌ لهم(1)، فهذا العمل الإضطراری أو الظاهری لامحالة يقع مجزياً عن المأمور به بالأمر الواقعی الأوّلی، غير أنّ هذا غير جارية هنا إذ المكلّف في فرض العلم بمخالفة حكمهم مع الواقع لم يفعل ما هو مصداق للمأمور به لا واقعاً ولا ظاهراً، لعدم كون الوقوف في يوم التّروية في العرفات وكذا ليلة العرفة في المشعر مأموراً به أصلاً، فلا وجه لصحّة الحجّ حينئذ.
لكنّ الّذی يسهّل الأمر في المقام وكما أشرنا إليه في بدو حكم هذه الصّورة الأخيرة، أنّ دائرة الأحكام والتكاليف الأوليّة منوطة بعدم الضّرر والحرج فكلّما اتّفق ذلك لمكلّف أو لقاطبة من المكلّفين فقاعدتا «التّقيّة» و«لاضرر» حاكمان لهم بعنوان الحكم الثانوی بالنسبة إلی تلك الأحكام الحرجيّة والضّرريّة الأوليّة، والحكومة كما يقال هی: أن يقدّم أحد الدليلين على الآخر تقديم سيطرة وقهر من ناحية أدائية لا من ناحية السّند أو الحجيّة، بل هما على ما هما عليه من الحجيّة بعد التّقديم، بمعنی أنّهما بحسب لسانهما وأدائهما لا يتكاذبان في مدلولهما فلا يتعارضان كما في الخاصّ المنافی في مدلوله للعام، وإنّما التَقديم كما عرفت من ناحية أدائية بحسب لسانهما، بمعنى أنّ الدليل الحاكم يكون لسانه لسان تحديد موضوع الدليل المحكوم أو محموله تنزيلاً وادّعاءً، فلذلك يكون الدليل الحاكم متصرفاً في عقد الوضع أو عقد الحمل في الدليل
ص: 247
المحكوم(1)، من أمثلتها في الشّرعيّات مثل أنّه لا شك لكثير الشّك(2)، أو نفی شك المأموم مع حفظ الإمام وبالعكس(3)، فإنّ هذا وأشباهه يكون حاكماً على أدلّة حكم الشّك، لأنّ لسانه إخراج شك كثير الشك وشك المأموم أو الإمام عن حضيرة صفة الشّك تنزيلاً فمن حقّه حينئذ ألا يُعطى له أحكام الشّك من نحو إبطال الصّلاة أو البناء على الأكثر أو الأقل أو غير ذلك، وكذا مثل لا غيبة للمتجاهر(4) ، ولا ربا بين الوالد والولد(5)، أو لحمة الرضاع كلحمة النّسب(6).
ومثاله في العرفيّات مثل ما لو قال المولی لعبده «أكرم العلماء»، ثمّ قال عقيب أمره «المتّقی عالمٌ» فإنّ قوله الأخير يكون حاكماً علی أمره الأوّل نتيجته توسعة معنی العالم ادّعاءً إلی ما يشمل للمتّقی تنزيلاً للتّقوی مرتبة العلم فيعطی للمتّقی حكم العلماء وإن لم يكن بعالم حقيقة، وعكسه كما لو قال عقيب أمره بإكرام العلماء «الفاسق ليس بعالم».
ففی المقام حيث فرضنا أنّه لايمكن لحاجّ الشيعة الإماميّة أن يقفوا في الموقفين علی وفق مذهب الحقّ بلا خوف ولا ضرر لا سيّما في مثل هذا الزّمان
ص: 248
الّذی كانت الوهابيّة خذلهم الله بصدد هتك الشيعة والطعن عليهم، فقاعدتا «التّقيّة» و«لاضرر» حاكمان لهم بعنوان الحكم الثانوی الشرعی بالنسبة إلی الحكم الأوّلی، أیّ جعل يوم الشك من الشّهر ذی القعدة الحرام استصحاباً، فبناءً علی ذلك يكون يوم التروية لهم في حكم يوم العرفة تنزيلاً وادّعاءً، فعليه تجب عليهم التّبعيّة عنهم في الوقوفين ولازمها أوّلاً: صحّة حجّهم هذا عمّا هو واجب عليهم، وثانياً: نقول زائداً علی ما ذهب إليه الإمام الرّاحل رحمه الله في «التّحرير» من الإشكال في صحّة الحجّ في صورة مخالفة التّقيّة، بأنّه حيث نُهی عن الوقوف حينئذ بمقتضی تلك الأدلّة، فبما أنّ النهی في العبادات يقتضی الفساد فلا محالة لا يكون حجّهم في صورة مخالفة التّقيّة موصوفاً بالصّحة أبداً، بل وإن لم نقل بأنّ الأمر بالشّیء (كالعمل تقيّتاً) يقتضی النهی عن ضدّه (وهوالوقوف في الوقت الاستصحابی) فأيضاً لايكون حجّهم صحيحاً وذلك لخلوّه حينئذ عن الأمر الّذی يستكشف منه وجود مناط المصلحة فيه، فالمكلّف مع تحقّق شرائط التّقيّة لايكون مكلّفاً إلّا بالوقوف تقيّةً مع سائر المسلمين وعليه لو تحمّل المشقّة علی نفسه وتوقف في اليوم العرفة الاستصحابی لايكون وقوفه واجداً للملاك والمناط.
وبعبارة أخری: أنّ الجواز والتّرخيص للمكلّف في موارد التّقيّة والحرج حكم الزامی بنحو «العزيمة» دون «الرخصة»، فلا تزاحم حينئذ بين الحكم الأولی والثانوی تقيّةً من باب الأهم والمهمّ حتّی نقول بصحّة المهمّ عند ترك الأهمّ.
هذا مع أنّه لوشككنا في أنّ الحكم هنا هل هو الأخذ بمورد التّقيّة متعيّناً أو أنّ المكلّف مخيّرٌ بينها وبين الحكم الأوّلی؟ فالأصل أيضاً يقتضی التّعيين
ص: 249
تحصيلاً للفراغ اليقينی ونتيجته هو بطلان الحجّ في الصّورة الرّابعة عند مخالفة التّقيّة.
وقد صرّح بكفاية المأمور به تقيّةً عن المأمور به الواقعی الأوّلی، ما رواه محمّد بن محمّد بن النّعمان الشّيخ المفيد رحمه الله بإسناده في «الإرشاد» عن محمّد بن إسماعيل عن محمّد بن الفضل أنّ علیّ بن يقطين كتب إلى أبی الحسن موسى علیه السلام: يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام: «فَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ مِنَ الِاخْتِلَافِ في الْوُضُوءِ وَالَّذِی آمُرُكَ بِهِ في ذَلِكَ أَنْ تُمَضْمِضَ ثَلَاثاً وَتَسْتَنْشِقَ ثَلَاثاً وَتَغْسِلَ وَجْهَكَ ثَلَاثاً وَتُخَلِّلَ شَعْرَ لِحْيَتِكَ وَتَغْسِلَ يَدَيْكَ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثاً، وَتَمْسَحَ رَأْسَكَ كُلَّهُ، وَتَمْسَحَ ظَاهِرَ أُذُنَيْكَ وَبَاطِنَهُمَا، وَتَغْسِلَ رِجْلَيْكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثاً وَلَا تُخَالِفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ»، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى عَلِیِّ بْنِ يَقْطِينٍ تَعَجَّبَ مِمَّا رَسَمَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام فِيهِ مِمَّا جَمِيعُ الْعِصَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَوْلَایَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ وَأَنَا أَمْتَثِلُ أَمْرَهُ، فَكَانَ يَعْمَلُ في وُضُوئِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَيُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ جَمِيعُ الشِّيعَةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام وَسُعِیَ بِعَلِیِّ بْنِ يَقْطِينٍ إِلَى الرَّشِيدِ وَقِيلَ إِنَّهُ رَافِضِیٌّ فَامْتَحَنَهُ الرَّشِيدُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى وُضُوئِهِ نَادَاهُ كَذَبَ يَا عَلِیَّ بْنَ يَقْطِين مَنْ زَعَمَ أَنَّكَ مِنَ الرَّافِضَةِ، وَصَلَحَتْ حَالُهُ عِنْدَهُ وَ وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام: «ابْتَدِئْ مِنَ الْآنَ يَا عَلِیَّ بْنَ يَقْطِينٍ وَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى اغْسِلْ وَجْهَكَ مَرَّةً فَرِيضَةً وَأُخْرَى إِسْبَاغاً وَاغْسِلْ يَدَيْكَ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ كَذَلِكَ وَامْسَحْ بِمُقَدَّمِ رَأْسِكَ وَظَاهِرِ قَدَمَيْكَ مِنْ فَضْلِ نَدَاوَةِ وَضُوئِكَ فَقَدْ زَالَ مَا كُنَّا نَخَافُ مِنْهُ عَلَيْكَ وَالسَّلَامُ»(1).
ص: 250
لا يقال: ينتقض ما ذكرتم بما ورد من جواز إفطار يوم الشّك من شهر رمضان تقيّةً والإذعان بقضائه بعده في مرسلة دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ في زَمَانِ أَبِی الْعَبَّاسِ: إِنِّی دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَقَدْ شَكَّ النَّاسُ في الصَّوْمِ وَهُوَ وَاللَّهِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَ صُمْتَ الْيَوْمَ؟ فَقُلْتُ: لَا، وَالْمَائِدَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَادْنُ فَكُلْ، قَالَ: فَدَنَوْتُ فَأَكَلْتُ، قَالَ: وَقُلْتُ: الصَّوْمُ مَعَكَ وَالْفِطْرُ مَعَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِأَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: تُفْطِرُ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: إی وَاللَّهِ أُفْطِرُ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقِی»(1).
ففی المقام حيث لايمكن قضاء الوقوف بعده فعلی الحاجّ أن يبدل حجّهم بالعمردة المفردة خروجاً عن الإحرام وأن يحجّوا في القابل في صورة سبق الاستطاعة أو بقائها.
لأنّا نقول: بعد فرض تسليم سند الخبر بالفرق بامكان القضاء في «الصوم» بسهولة وعدمه في المقام للزوم العسر والحرج الشّديد علی القول بوجوب إعادته، زائداً علی أنّه قد مضى فى عصر الأئمة علیهم السلام من قبل زمن الغيبة علی شيعتهم ما يزيد عن مأتي سنة كان أمر إثبات الهلال منوطاً بحكم حاكم العامّة وقاضيهم، ولم نجد حتّی مورداً واحداً ولو بنحو إشارة أو إشعار حكموا فيه ببطلان الحجّ بلحاظ كون الوقوف مستنداً إلى حكم قاضی العامّة ومفتيهم لأجل عدم إثبات الهلال عند الشيعة، وأنّ كون مقتضى الاستصحاب عدمه، ولا وجهلتوهم عدم وقوع الاختلاف في أول الشهر في مثل هذه المدّة الطويلة خصوصاً
ص: 251
مع ملاحظة مثل خبر أَبِی الْجَارُودِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام إِنَّا شَكَكْنَا سَنَةً في عَامٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْوَامِ في الْأَضْحَى فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَى أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُضَحِّی فَقَالَ: «الْفِطْرُ يَوْمُ يُفْطِرُ النَّاسُ وَالْأَضْحَى يَوْمُ يُضَحِّی النَّاسُ، وَالصَّوْمُ يَوْمُ يَصُومُ النَّاس»(1)، ولا مجال لبنائهم على إدراك الوقوف خفاء.
كما أنّ دعوى إنّ ذلك إنّما هو من جهة عدم تمكّن الشيعة من الوقوف في وقته الواقعی مدفوعة بمنع عدم التمكّن منه دائماً، لإمكانه ولو مرّة واحدة في خلال هذه المدّة المذكورة، فلا وجه لذلك غير الإجزاء وكفاية الوقوف الصّادر
تقية.
هذا مع أنّه لم يكن في خبر الشّيخ المفيد رحمه الله المتقدّمة في جريان قصّة علی بن يقطين(2) من إعادة أو قضاء الصّلوات مع الوضوء تقيّةً عينٌ ولا أثر، زائداً علی أنّه لو لم نقل بالإجزاء والكفاية في المقام، وقلنا بلزوم تكرار الحجّ في القابل حينئذ فما المؤمِّن وكيف نطمئن بعدم تكرار هذه المشكلة والعويصة في السّنوات الآتية بعدها؟!
ثمّ إنّ ما ذكرناه إلی هنا في الحكم الصّورة الرّابعة من لزوم متابعة مفتی العامّة وقاضيهم في حكمه بإثبات الهلال، إنّما هو يجری بالنّسبة إلی الحجّ، وأمّا بالنّسبة إلی الصوم والفطر فلا، حيث إنّه لم يكن مراعاتهما عندهم بمثابة الحجّ، مع إمكان التّقيّة عنهم فيهما بسهولة من دون خوف وضرر، فعليه من كان إماميّاً ساكناً بلاد العامّة من الحجاز وغيره فلا يجوز له الاعتماد علی حكم قاضيهم بإثبات الهلال فيهما إذا لم يمض ثلاثين يوماً من هلال شعبان أو ثلاثين يوماً من
ص: 252
هلال رمضان، أو لم يقم به البيّنة، أو لم يشع ذلك بين النّاس، أو لم يراه المكلّف هو بنفسه، وعليه العمل بما يقتضيه المذهب من عدّ يوم الشّك من الشهر السابق، كما صرّحت بذلك صحيحة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ المُتُقَدّمَةِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: في كِتَابِ عَلِیٍّ علیه السلام: «صُمْ لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرْ لِرُؤْيَتِهِ، وَإِيَّاكَ وَالشَّكَّ وَالظَّنَّ، فَإِنْ خَفِیَ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ»(1).
إلی هنا تمّ بحمد الله والمنّة ما أردنا أن نبحث عنه في باب «إثبات الهلال عند العامة مع عدم إثباته أو العلم بخلافه عندنافی جواز الافطار وكفاية الحجّ».
❊ ❊ ❊
ص: 253
ص: 254
ص: 255
يجب علی المتمتع بالحجّ بعد عمرته أن يحرم بالحجّ، وأن يقضی وقوفه بعرفات والمشعر الحرام، وأن يفعل واجباته بمنی يوم النحر وهی ثلاثة: رمی جمرة العقبة بالحصی؛ وهدی إحدی النعم الثلاث: الإبل، والبقر، والغنم؛ والحلق أو التقصير.
نبحث هنا عن حكم الواجب الثانی من واجبات منی أی الهدی إذا عجز عنه الناسك بأن لا يكون هو ولا قيمته عنده، ولم يكن قادراً علی الاقتراض بلا مشقة وكلفة، أو لا يكون قادراً علی أدائه في وقته بسهولة، فحينئذ ينتقل فرضه منه إلی الصوم، والمسألة قد دلّت عليها أخبار متظافرة بل متواترة، زائداً علی كونها محل اتفاق واجماع عند فقهاء الفريقين إجمالاً، أرسله بعض إرسال المسلمات(1)، وادّعی آخرون عدم الخلاف(2)، أو الإجماع عليه(3).
أمّا لو وجد القيمة دون الهدی إلا أنّه توقّع حصوله إلی آخر الشهر فسنبحث عنه في إدامة هذه المقالة.
قبل البحث عن المسألة وفروعاتها المرتبطة، ينبغی أن ننظر إليها عن منظر الأقوال الواردة فيها، وهی:
ص: 256
بيان أقوال الفقهاء في المسئلة:
قال الشيخ رحمه الله (م 460 ه-) في «النهاية»:
ومن لم يقدر علی الهدی ولا علی ثمنه وجب عليه صيام عشرة أيّام، ثلاثة في الحجّ وسبعة إذا رجع إلی أهله(1).
وقال المحقق الحلي رحمه الله (م 676 ه-) في «الشرائع»:
وإذا فقدهما (أی الهدی وثمنه) صام عشرة أيّام: ثلاثة في الحجّ متتابعات يوماً قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة ...، وصوم السبعة بعد وصوله إلی بلده(2).
وزاد عليه في «الجواهر»:
بلا خلاف أجده فيه بيننا بل الإجماع بقسميه عليه(3).
وقال العلامة رحمه الله (م 726 ه-) في «التذكرة»:
ويجب صوم بدل الهدی للمتمتّع إذا لم يجد الهدی ولا ثمنه بالنصّ والإجماع(4).
وقال في موضع آخر منه:
إذا لم يجد الهدی ولا ثمنه، انتقل إلى البدل عنه وهو صوم عشرة أيّام: ثلاثة أيّام في الحجّ متتابعات، وسبعة إذا رجع إلى أهله، بالنصّ والإجماع، قال اللّه تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ
ص: 257
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)، وتعتبر القدرة على الهدی فيمكانه، فمتى عدمه في موضعه، انتقل إلى الصوم وإن كان قادراً عليه في بلده، لأنّ وجوبه موقّت، وما كان ذلك اعتبرت القدرة عليه في موضعه، كالماء في الطهارة إذا عدمه في موضعه، ولا نعلم فيه خلافاً(1).
وادّعی في «المنتهى» أنّه لا خلاف فيه بين علماء الإسلام كافة حيث قال:
إذا لم يجد الهدی ولا ثمنه وجب عليه أن يصوم بدله عشرة أيام: ثلاثة أيام في الحجّ متتابعات، وسبعة إذا رجع إلى أهله لاخلاف في ذلك بين العلماء كافة لقوله تعالى: (فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْیِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) وتعتبر القدرة عليه في مكانه فمتى عدمه في موضعه انتقل إلى الصوم وإن كان قادراً عليه في بلده لأنّ وجوبه موقت وما كان وجوبه موقتاً اعتبرت القدرة عليه في موضعه كالماء في الطهارة إذا عدمه انتقل إلى التراب ولا نعلم فيه خلافاً (2).
وقال الشهيد رحمه الله (م 966 ه-) في «المسالك»:
وإذا فقدهما أی الهدی وثمنه، ويتحقق العجز عن الثمن بأن لا يقدر على تحصيله ولو بتكسب يليق بحاله، ولا ببيع ما زاد على المستثنى في الدّين. والمعتبر القدرة في موضعه لا في بلده. نعم لو تمكّن من بيع ما في بلده ولو بدون ثمن المثل، أو من الاستدانة عليه، فالأقوى الوجوب(3).
ص: 258
وقال المحدث البحرانی رحمه الله (م 1186 ه-) في «الحدائق»:الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) في أنّ من لم يجد الهدی ولا قيمته فإنّ فرضه ينتقل إلى الصيام(1).
وقال المحقق الطباطبائی (م 1231 ه-) في «الرياض»:
ومع فقد الثمن أيضاً يلزمه الصوم قولًا واحداً وهو ثلاثة أيام في الحجّ متواليات، وسبعة في أهله، بالكتاب والسنة والإجماع(2).
وقال النراقی رحمه الله (م 1245 ه-) في «المستند»:
من أحرم بالتمتّع ولم يكن له هدی ولا ثمنه الّذی يشتريه يجب عليه الانتقال إلى بدله، وهو صوم عشرة أيّام، بالكتاب، والسنّة، والإجماع، ثلاثة وسبعة، وتلك عشرة كاملة (3).
وقال الإمام الراحل قدس سره (م 1409 ه-):
لو لم يقدر على الهدی بأن لا يكون هو ولا قيمته عنده يجب بدله صوم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة أيام بعد الرجوع منه(4).
وقال السيّد الخوئی رحمه الله (م 1413 ه-):
لا ريب في أنّ المتمتع بالحج إذ لا يتمكن من الهدى ولا ثمنه يجب عليه صيام عشرة أيام: ثلاثة أيام في الحجّ، وسبعة إذا رجع إلى أهله (5).
ص: 259
وقال محمّد بن عبدالله بن ابوبكر المعروف بابن العربی المالكی
(م 543 ه- ):إذا لم يجد الهدى فصيام ثلاثة أيام في الحجّ، قال علماؤنا: وذلك بأن يصوم من إحرامه بالحجّ إلى يوم عرفة هذه حقيقته، وقال أبو حنيفة: يصومه في إحرامه بالعمرة لأنّه أحد إحرامي المتمتع، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحجّ، دليلنا قوله تعالى: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) فإذا صامه في العمرة فقد أدّاه قبل وقته فلم يجزه (1).
وقال ابن قدامة (م 620 ه-):
لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنّ المتمتع إذا لم يجد الهدی ينتقل إلی صيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع تلك عشرة كاملة، وتعتبر القدرة في موضعه فمتی عدمه في موضعه جاز له الانتقال إلی الصيام وإن كان قادراً عليه في بلده، لأنّ وجوبه موقت وما كان وجوبه موقتاً اعتبرت القدرة عليه في موضعه كالماء في الطهارة إذا عدمه في مكانه انتقل إلی التراب(2).
فبعد ما عرفت نموذجاً من الأقوال المطروحة لدی الفريقين حول المسألة نبحث عن أدلّتها عندهم:
ص: 260
إنّه قد استدلّ علی ذلك تارة بالإجماع، وأخری بالكتاب، وثالثة بالأخبار والرّوايات الواردة في المقام، وحيث إنّ المسألة كانت من التعبّديّات فليس للعقل فيها مجال.
أمّا الإجماع فقد نشير إليه عند ذكر أقوال الفقهاء فلا نعيده، أمّا دليله من الكتاب:
قال الله تبارك وتعالی: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْیِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَديدُ الْعِقابِ)(1).
تقريب الاستدلال أنّه تبارك وتعالی قد أوجب علی النائی عن مكة المكرمة الّذی وظيفته حجّ التمتع إذا لم يجد الهدی أن يصوم عشرة أيّام: ثلاثة في الحجّ، وسبعة إذا رجع إلی أهله وبلده، وتعبيره منه جلّ جلاله هذا :(فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ) عين ما عبّر به في تبديل الغسل إلی التيمم في سورتي النساء والمائدة(2)، فيكون
ص: 261
المراد في المقامين هو عدم وجدان الهدی أو الماء بنظر عرف المتشرعين، فعليه لوكان الهدی موجوداً والناسك وإن كان فاقداً ثمنه الآن إلا أنّه قادر علی الاقتراض بلا مشقة وكلفة ومنّة ويمكن له أدائه في وقته، أو كان عنده زائداً من مؤن السفر علی قدر حاجاته ما يمكن بيعه، وجب عليه الهدی لكونه مصداقاً للواجد بنظر العرف ولا تصل النوبة حينئذ لتبديل الحكم إلی البدل.
وقد أشار إلی ذلك المحقق رحمه الله في «المنتهی» في جواب ابن إدريس الحلي رحمه الله إذ أوجب الانتقال إلی الصوم حينئد، حيث قال:
لنا أنّ وجدان الثمن بمنزلة وجدان العين كوجدان ثمن الماء عنده مع أنّ النص ورد (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) وكذا وجدان ثمن الرقبة في العتق مع ورود النصّ بوجدان العين وما ذلك إلا أنّ التمكّن يحصل باعتبار الثمن هناك ويصدق عليه أنّه واجد للعين فكذا هنا(1).
إنّ الروايات الواردة في المقام متظافرة بل متواترة جداً ما تقرب عشرات أخبار(2)، فيها صحاح وثقات وغيرهما بحيث نستغنی معها عن البحث حول أسانيدها مع كونها معمولة بها عند فقهائنا، والمهمّ فيها غالباً أنّ القدر الجامع
ص: 262
بينها هو تسالم الرّوات والأئمة المسئول عنهم: أصل بدليّة الصوم عنالهدی، والسؤال إنّما هو عن كيفيته وأحكامه وشرائطه عند عروض الحالات المختلفة، نتعرّض لبعضها بالمناسبة إن شاء الله تعالی عند البحث عن الفروع الآتية.
إنّ الذی مرّ إلی هنا كلّه فيما إذا فقد الهدی والقيمة معاً أو كان فاقداً للثمن فقط، أمّا لو انعكس الأمر بأن فقد الهدی أيّام التشريق دون الثمن إلا أنّه توقّع حصوله طول ذی الحجة، فهل الوظيفة حينئذ انتظار الهدی، أو انتقال الفرض إلی الصوم، أو التخيير بين الوجهين أو غيرها؟ اختلف الفقهاء في ذلك علی أقوال ثلاثة:
أحدها: لزوم انتظار الهدی حينئذ، فإن أراد الرجوع إلی أهله يخلف ثمنه عند ثقة يشتريه إلی آخر الشهر في عامه فيذبحه عنه وإلا ففی العام القابل في ذی الحجة أيضاً، نسبه في «المستند» إلی الصدوقين في «الفقيه»، والمفيد في «المقنعة»، والطوسی في «المبسوط»، وابن زهرة في «الغنية»، والمرتضی في «الجمل»، والمحقق في «النافع»، والفاضل في «المنتهی»، والحلبی في «الكافی»، وابن حمزة في «الوسيلة» رضوان الله تعالی عليهم، بل عن ظاهر «الغنية» الإجماع عليه(1)، وهو الأقوی بل المتعيّن عندی.
ثانيها: انتقال الفرض إلی الصيام كما في صورة عدم التّوقع، الّذی اختاره الحلي رحمه الله في «السرائر»، والمحقق رحمه الله في «الشرائع»(2).
ص: 263
ثالثها: التخيير بين القولين المذكورين وبين التصدق بثمنه بالوسطی من قيمة الهدی في تلك السنة، علی ما نسب العلامة رحمه الله في «المختلف» إلی ابن جنيد الإسكافی رحمه الله (1).
قد أشار إلی هذه الأقوال الثلاثة السيّد علی الطباطبائی رحمه الله صاحب «الرياض» حيث قال:
واعلم أنّه لو فقد الهدی و وجد ثمنه وهو يريد الرجوع استناب ثقة في شرائه وذبحه طول ذی الحجة فإن لم يوجد فيه ففی العام المقبل في ذی الحجة على الأظهر الأشهر، بل عليه عامة من تأخرّ، وفی ظاهر الغنية الإجماع عليه، وهو الحجّة مضافاً إلى الصحيح الصريح في ذلك ...، وقيل بل ينتقل فرضه إلى الصوم، والقائل الحلي وتبعه الماتن في الشرائع وربما يعزى الى العمانی ...، وللإسكافی هنا قول ثالث مخيّر بين القولين الأوّلين وبين الصدقة بالوسطى من قيمة الهدی في تلك السنة(2).
وكيف كان قد استدل علی القول الأوّل مضافاً إلی كونه مشهوراً بل إجماعياً بصحيحة حَرِيزٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام في مُتَمَتِّعٍ يَجِدُ الثَّمَنَ وَلَا يَجِدُ الْغَنَمَ، قَالَ: «يُخَلِّفُ الثَّمَنَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ وَيَأْمُرُ مَنْ يَشْتَرِی لَهُ وَيَذْبَحُ عَنْهُ وَهُوَ يُجْزِئُ عَنْهُ، فَإِنْ مَضَى ذُو الْحِجَّةِ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى قَابِلٍ مِنْ ذِی الْحِجَّةِ»(3).
ص: 264
لا كلام في سند الحديث ودلالته، وبه نقيّد إطلاق الكتاب الدالّة علی وجوب الصيام عند عدم وجود الهدی: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)، كما في غيره من إطلاقات الكتاب المقيّدة بالسنّة، أو كان خارجاً عن شموله تخصّصاً لعدم صدق كونه غير واجد للهدی عرفاً، فلا ينتقل فرضه إلی الصيام حينئذ.
واستدلّ علی القول الثانی تارة بأنّه يصدق عليه كونه غير واجد الهدی، وأخری بصحيحة أبی بصير عن أحدهما عليهما السّلام قال: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ تَمَتَّعَ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُهْدِی حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ وَجَدَ ثَمَنَ شَاةٍ أَ يَذْبَحُ أَوْ يَصُومُ؟ قَالَ: «بَلْ يَصُومُ، فَإِنَّ أَيَّامَ الذَّبْحِ قَدْ مَضَتْ»(1).
يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ واجد الثمن واجد له عرفاً، لصدقه علی من كان ذو مال اشتری الهدی حال سفره، وظهور بل صريح الموصول في قوله: فَلَمْ يَجِدْ مَا يُهْدِی حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ وَجَدَ ثَمَنَ، للثمن ثانياً، بمعنی أنّه وقت الذبح غير واجد لكلا الهدی وثمنه معاً، فلمّا مضت الأيّام وجد الثمن، فأجابه علیه السلام بأنّه من الّذين أوجب الله عليهم الصيام، فالدليل غير المدعی، وقد أشار إلی ذلك في «المختلف» حيث قال:
إنّ وجدان الهدی عبارة عن وجود عينه أو ثمنه. والرواية بعد سلامة سندها محمولة على أنّه إذا لم يجد الهدی ولا ثمنه فشرع في الصوم ثمّ وجد الهدی فإنّه لا يجب عليه الهدی(2).
ص: 265
وأمّا ما ذهب إليه ابن الجنيد الإسكافی فالظاهر أنّه جمع بين دليل قولي الأول والثانی وبين خبر عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا بِمَكَّةَ فَأَصَابَنَا غَلَاءٌ في الْأَضَاحِیِّ فَاشْتَرَيْنَا بِدِينَارٍ، ثُمَّ بِدِينَارَيْنِ، (ثُمَّ بَلَغَتْ سَبْعَةً ، ثُمَّ لَمْ تُوجَدْ) بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، فَوَقَّعَ هِشَامٌ الْمُكَارِی رُقْعَةً إِلَى أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام فَأَخْبَرَهُ بِمَا اشْتَرَيْنَا ثُمَّ لَمْ نَجِدْ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، فَوَقَّعَ: «انْظُرُوا إِلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِی وَالثَّالِثِ ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمِثْلِ ثُلُثِهِ»(1).
يلاحظ عليه بضعف السند لعدم توثيق عبد الله بن عمر عند علماء الرجال أوّلاً(2)، وكونها معرض عنها عند الأصحاب مع كونها في مرأی ومسمعهم إلا عند الإسكافی ثانياً، وعدم وجود شاهد لهذا الجمع في الروايات الواردة في المقام ثالثاً(3).
ص: 266
قد ثبت في محلّه أنّه لا ينعقد الإحرام بعمرة التمتّع وحجّها إلا في أشهر الحجّ، وهی: شوال، وذوالقعدة، إلی طلوع الفجر من يوم النحر في ذی الحجّة(1)، نبحث هنا عن الأيّام الّتي إن فقد الناسك الهدی وثمنه يجب عليه صيامها، هل هی تعمّ هذه الشهور الثلاثة، أم مختصّة بشهر منها؟
ادعی غير واحد من الأصحاب بصورة إرسال المسلم، أو عدم وجدانهم الخلاف، أو كونه ممّا أجمعوا عليه بأنّه يجب أن يكون في خصوص ذی الحجّة منها، منهم المحقق في «الشرائع» و«النافع»(2)، والفاضل الإصفهانی رحمه الله في «كشف اللثام»(3)، والسيّد الطباطبائی رحمه الله في «الرياض»(4)، والمحدث البحرانی رحمه الله في «الحدائق»(5)، والمحقق النراقی في «المستند»(6)، والإمام الراحل قدس سره في «التحرير»(7).ففی «الجواهر» فإنّه بعد ما نقل كلام المحقق
ص: 267
صاحب «الشرائع» رحمه الله : وإذا فقدهما صام عشرة أيّام: ثلاثة في الحجّ متواليات، قال:
وشهره وهو هنا ذوالحجّة عندنا ...، بلا خلاف أجده في شیء من ذلك، بل الإجماع بقسميه عليه(1).
وأمّا العامة فلم أری في كتبهم التصريح بذلك إلا أنّ ظاهر كلماتهم ذلك، وإن اختلفوا في صومها في أيّام عمل العمرة قبل أن يهلّ بالحجّ، أو جواز صومها في أيّام منی(2).
وكيف كان يُستدل علی ذلك زائداً علی الإجماع المدعی في كلام الجماعة، بتفسير «الحجّ» في عدّة روايات متظافرة في كريمة: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)(3)، بأيّام خاصّة من ذی الحجّة، بل النهی عن فعله في ذی القعدة ففی الشوال بالألويّة والفحوی،منها:
صحيحة رِفَاعَةَ بْنِ مُوسَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْمُتَمَتِّعِ لَا يَجِدُ الْهَدْیَ؟ قَالَ: «يَصُومُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ ويَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، قَالَ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ التَّشْرِيقِ، قُلْتُ: لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ جَمَّالُهُ، قَالَ: يَصُومُ يَوْمَ الْحَصْبَةِ وَبَعْدَهُ يَوْمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْحَصْبَةُ؟ قَالَ: يَوْمُ نَفْرِهِ، قُلْتُ: يَصُومُ
ص: 268
وَهُوَ مُسَافِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُسَافِراً، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَقُولُ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) يَقُولُ في ذِی الْحِجَّةِ»(1).وقال في «السرائر» في وجه تسمية يوم النفر بيوم الحصبة:
وسمّی يوم النفر الثانی، يوم الحصبة، لأنّه يستحب لمن نفر في النّفر الثانی التحصيب، ولا يستحب لمن نفر في النفر الأوّل التحصيب، وهو نزول المحصّب، وهو ما بين العقبة وبين مكة، وهی أرض ذات حصى صغار مستوية بطحاء، إذا رحل من منى حصل فيها، يستحب له النزول هناك قليلاً اقتداءً بالرّسو صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأنّه نزل هناك(2).
وصحيحة حَمَّادِ بْنِ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «قَالَ عَلِیٌّ علیه السلام في قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ) قَالَ: قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، فَمَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ الْأَيَّامُ فَلْيُنْشِئْ يَوْمَ الْحَصْبَةِ وَهِیَ لَيْلَةُ النَّفْرِ»(3).
ومرفوعة مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِیُّ في تَفْسِيرِهِ عَنْ رِبْعِیِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (موسی بن جعفر الكاظم) علیه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) قَالَ: «يَوْمٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ، فَمَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ فَلْيَقْضِ ذَلِكَ في بَقِيَّةِ ذِی الْحِجَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ في كِتَابِهِ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)»(4).
ص: 269
وخبر دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ في حَدِيثٍ: «(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) يَصُومُ يَوْماً قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَهُ أَنْ يَصُومَ مَتَى شَاءَ إِذَا دَخَلَ في الْحَجِّ»(1).وصحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً وَأَحَبَّ أَنْ يُقَدِّمَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ في أَوَّلِ الْعَشْرِ فَلَا بَأْسَ»(2).
ومرفوعة مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیِّ بْنِ الْحُسَيْنِ في الْمُقْنِعِ قَالَ سَأَلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ مُتَمَتِّعاً في ذِی الْقَعْدَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ ثَمَنُ هَدْیٍ، قَالَ: «لَا يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَتَحَوَّلَ الشَّهْرُ»، الْحَدِيثَ(3).
وخبر فِقْهُ الرِّضَا علیه السلام: «وَمَنْ كَانَ مُتَمَتِّعاً وَلَمْ يَجِدْ هَدْياً فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَالَ علیه السلام: إِذَا عَجَزْتَ عَنِ الْهَدْیِ وَلَمْ يُمْكِنْكَ صُمْتَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ»(4).
وخبر الصَّدُوقُ في «الْمُقْنِع»: «وَمَنْ كَانَ مُتَمَتِّعاً وَلَمْ يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الْحَجِّ، يَوْماً قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»(5).
زائداً علی كونها مفتی بها عند الأصحاب بل عند الفريقين.
ص: 270
جواز الصوم البدل بعد التلبس بإحرام العمرة وقبل الإهلال(1) بالحجّ:
بعد ما عرفت أنّ زمان الإتيان بالصيام الأيام الثلاثة هو خصوص شهر ذی الحجة من شهور الحجّ، تصل النوبة إلی أنّه هل يجوز الإتيان بها بعد التلبس بإحرام العمرة من قبل إتمام مناسكها، أو يلزم كونها بعد الإهلال بالحجّ؟ أمّا عدمجواز إتيانها قبل الشروع في عمل العمرة فلا خلاف فيه بيننا وأكثر العامة إلا ما روی عن أحمد علی ما حكاه العلامة رحمه الله في «التذكرة».
الأقوال هنا دائر بين القول بجواز كونها بعد التلبس بإحرام العمرة وقبل الإهلال بالحجّ وهو الأقوی، ذهب إليه المشهور بل في «الجواهر» عدم الخلاف بل الإجماع بقسميه عليه وهو أيضاً خيرة أبی حنيفة وأحمد في أحد قوليه، والقول بالمنع علی ما هو خيرة المحقق الحلي رحمه الله في «النافع» لكنه في «الشرائع» من القائلين بالقول الأوّل، وكذا الشهيد الأوّل رحمه الله في «الدروس» وثانيهما علی ما ادعاه في «الجواهر»، وهو أيضاً مذهب مالك والشافعی من العامّة.
قال العلامة رحمه الله في «التذكرة» وفيه إشارة إلی أقوال العامة أيضاً:
ويجوز صوم الثلاثة قبل الإحرام بالحجّ، وقد وردت رخصة في جواز صومها من أوّل العشر إذا تلبّس بالمتعة وبه قال الثوری والأوزاعی، لأنّ إحرام العمرة أحد إحرامي التمتّع، فجاز الصوم بعده وبعد الإحلال منه، كإحرام الحجّ ...، وقال أبو حنيفة: يجوز صومها إذا أحرم بالعمرة، وهو رواية عن أحمد، وعنه رواية أخرى: إذا أحلّ من العمرة، وقال مالك والشافعی: لا يجوز إلّا بعد الإحرام بالحجّ - وبه قال إسحاق وابن المنذر، وهو مروی عن ابن عمر لقوله تعالى: (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ)،
ص: 271
ولأنّه صوم واجب، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه كرمضان والآية لا بدّ فيها من تقدير، فإنّ الحجّ أفعال لا يصام فيها، إنّما يصام في وقتها أو في أشهرها، لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)، والتقديم جائز إذا وجد السبب، كتقديم التكفير على الحنث عنده، إذا عرفت هذا، فلا يجوز تقديم صومها على إحرام العمرة إجماعاً، إلّا ما روی عن أحمدأنّه يجوز تقديم صومها على إحرام العمرة، وهو خطأ لأنّه تقديم للواجب على وقته وسببه، ومع ذلك فهو خلاف الإجماع(1).
وقال المحدث البحرانی رحمه الله :
ويجوز تقديمها من أول ذی الحجة بعد التلبس بالمتعة، والظاهر أنّ هذا القول هو المشهور بين المتأخرين(2).
وقال المحقق الحلي رحمه الله في «النافع»:
ويجوز تقديم الثلاثة من أول ذی الحجة، بعد التلبس بالحجّ، ولا يجوز قبل ذی الحجة(3).
وقال الشهيد رحمه الله في «الدروس»:
وليكن الثلاثة بعد التلبّس بالحجّ ويجوز من أوّل ذی الحجّة، ويستحبّ السابع وتالياه ولا يجب، ونقل ابن إدريس أنّه لا يجوز قبل هذه الثلاثة، وجوّز بعضهم صومه في إحرام العمرة وهو بناء على وجوبه بها، وفی الخلاف لا يجب الهدی قبل إحرام الحجّ بلا خلاف، ويجوز الصوم قبل إحرام الحجّ، وفيه إشكال (4).
ص: 272
وقال المحقق العاملی رحمه الله في «المدارك»:
إنّما يسوغ تقديم الصوم من أوّل ذی الحجة مع التلبس بالعمرة، واعتبر بعضهم التلبس بالحجّ، ويدفعه تعلق الأمر في الأخبار الكثيرة بصوميوم قبل التروية مع استحباب الإحرام بالحجّ يوم التروية ...، هذا قول علمائنا وأكثر العامة(1).
وقال في «الرياض»:
ولا يجوز صومها إلّا بعد التلبس بالمتعة، إلّا في رواية عن أحمد، قال في المنتهى: وهو خطأ؛ لأنّه تقديم للواجب على وقته وسببه، ومع ذلك فهو خلاف قول العلماء (2).
وفی «جواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله صاحب «الشرائع»: ولا يصح صوم هذه الثلاثة إلا في ذی الحجة بعد التلبس بالمتعة، قال:
بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، نعم عن أحمد في رواية جواز تقديمها علی إحرام العمرة، وهو خطأ واضح ضرورة كونه تقديماً للواجب علی وقته وسببه بلا دليل، نعم يتحقق التلبس بالمتعة بدخوله في إحرام العمرة الّتي صارت جزء من حجّ التمتع كما صرّح به غير واحد، بل قد عرفت النصّ والإجماع علی رجحان صومها في السابع مع استحباب أن يكون الإحرام بالحجّ في الثامن، ولكن مع ذلك اشترط الشهيد التلبس بالحجّ ونحوه المصنف في النافع وثاني الشهيدين، لكونه تقديماً للواجب علی وقته وللمسبب علی سببه، وهو كالإجتهاد في مقابلة ما عرفت(3).
ص: 273
والعجب من «الجواهر» إنّه كيف يدعی كونه ممّا لا خلاف فيه بل الإجماع بقسميه عليه، مع تصريحه في ذيل كلامه بمخالفة مثل المحقق والشهيدينلذلك، اللّهم إلا أن يقال بأنّ مخالفتهم حيث يكون إجتهاداً في مقابلة ما يستفاد من النصوص، فلا يضرّ بالإجماع.
وقال الإمام الراحل قدس سره :
ويشترط أن يكون الصوم بعد الإحرام بالعمرة، ولا يجوز قبله(1).
وقال ابن قدامة الحنبلی:
وأمّا وقت جواز صومها فإذا أحرم بالعمرة، وهذا قول أبی حنيفة، وعن أحمد: أنّه إذا حلّ من العمرة، وقال مالك والشافعی: لا يجوز إلا بعد إحرام الحجّ، ويروی ذلك عن ابن عمر وهو قول إسحاق وابن المنذر، لقول الله تعالی: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ)، ولأنّه صيام واجب فلم يجز تقديمه علی وقت وجوبه كسائر الصيام الواجب، ولأنّ ما قبله وقت لا يجوز فيه المبدل فلم يجز البدل كقبل الإحرام بالعمرة، وقال الثوری والأوزاعی يصومهن من أوّل العشر إلی يوم عرفة(2).
وقد مرّ كلام ابن العربی المالكی حيث قال:
إذا لم يجد الهدى فصيام ثلاثة أيام في الحجّ، قال علماؤنا: وذلك بأن يصوم من إحرامه بالحجّ إلى يوم عرفة هذه حقيقته، وقال أبو حنيفة: يصومه في إحرامه بالعمرة لأنّه أحد إحرامي المتمتع، فجاز صوم الأيّام فيه كإحرامه بالحجّ، دليلنا قوله تعالى: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) فإذا صامه في العمرة فقد أدّاه قبل وقته فلم يجزه(3).
ص: 274
فبعد ما عرفت الأقوال في المسألة، فإنّه يمكن أن نستدلّ علی مقالة المشهور تارة: بإنّه يطلق علی المحرم حينما يحرم بإحرام عمرته للتمتع بكونهشرع حجّه، وذلك لأنّ إحرام العمرة هو أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده كما أنّه يجوز بعد إحلال منه.
وأخری: وهو العمدة في المقام تفسير الصيام في «الحجّ» في كريمة: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) في عدّة روايات متظافرة كما مرّ بأيّام خاصّة من ذی الحجّة، وهی لا أقلّ من جهة المبحوث عنها في مقام البيان ولم تكن في واحدة منها من لزوم كونها بعد الإحرام بالحجّ عين ولا أثر، إذ لو كان حسب الفرض الصيام بعد الإحرام بالحجّ لازماً لوجب بيانه، لئلا يلزم الإغراء بالجهل أو تأخير البيان عن وقت الحاجة، زائداً من إدعاء الإجماع بل وفاق المسلمين والروايات الدالة علی استحباب الإحرام للحجّ يوم التروية(1).
مؤيّدة بخبر عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيهِمَا السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً وَأَحَبَّ أَنْ يُقَدِّمَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ في أَوَّلِ الْعَشْرِ فَلَا بَأْسَ»(2)، وخبر أَبَانٌ الْأَزْرَقُ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْیَ وَأَحَبَّ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ في أَوَّلِ الْعَشْرِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ»(3)، بتقريب أنّ جواز الصيام من أوّل العشر يلازم غالباً مع إحرام العمرة أو بعد الفراغ منها.
ص: 275
وثالثة: بأنّه لو فرض لزوم كونها بعد الإحرام بالحجّ، فلرعاية الترتيب للزم أن يكون ذلك بعد أيّام التشريق لكونها بدل عن الهدی الواجب يوم النحر، وهیعلی مخالفتها للنصوص المجوزة، لم يقل به أحد من الفريقين إلا ما حكی عن مالك(1).
ورابعة: بأنّه لو شككنا مع ذلك كلّه فحيث كان الشك في المقام من قبيل الشك في الجزئيّة والشرطيّة، فالأصل فيه هو البرائة لا احتياط أو الاشتغال.
بعد ما تبيّن أنّ فرض الفاقد عن الهدی وثمنه هو صيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة بعد الرجوع منه، وأنّه يشترط كونها في ذی الحجة وإن لم يحرم بإحرام الحجّ، تصل النوبة إلی تعيين هذه الأيّام الثلاثة، هل المكلف مخيّر في اتيانها كيفما شاء، أو أنّه مكلّف بإتيانها في أيّام خاصة منها وما هی هذه الأيّام؟ ومحصّل الأقوال هنا خمسة:
الأوّل: أنّها بعد الإحرام بالعمرة وهی الزاماً أو علی الأحوط وجوباً أو ندباً السابع والثامن والتاسع من شهر ذی الحجة، هذا القول هو خيرة الشيخ الطوسی رحمه الله في «المبسوط» وابن إدريس الحلي رحمه الله في «السرائر» والمحقق العاملی رحمه الله في «المدارك» والإمام الراحل قدس سره في «التحرير»(2).
ص: 276
الثانی: هی أيضاً بعد الإحرام بالعمرة إلا أنّه يستحب أن يكون ذلك في السابع والثامن والتاسع من شهر ذی الحجة وهو الأقوی، اختار هذا القول المحقق رحمه الله في «الشرائع»، والعلامة رحمه الله في «التذكرة» و«المنتهی» وادعی فيه أنّهمذهب علمائنا أجمع، وكذلك الشيخ الحر العاملی رحمه الله في «الوسائل» حيث جعل عنوان الباب: «باب أنّ من لم يجد ثمن الهدی لزمه صوم ثلاثة أيام متوالية في الحجّ، ويستحب كون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلی أهله»(1)، ومن العامة الحنفية وابن قدامة الحنبلی(2).
أقول: والعجب إنّه كيف يدعی في «المنتهی» أنّه مذهب علمائنا أجمع مع كونه متأخراً عن الشيخ رحمه الله وهو كما تری وسيأتی من القائلين بقولي الأوّل والثالث؟!
الثالث: إنّها بعد الإحرام بالعمرة ويستحب أن يكون آخر يومها يوم التروية، هذا القول هو خيرة الشيخ رحمه الله في «الخلاف»(3).
الرابع: إنّها لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحجّ لأنّه يكون من قبيل فعل الواجب قبل حلول أجله، فكما لا يجب الذبح قبل وقته فكذلك بدله، ويستحب أن يكون آخر الثلاثة يوم عرفة، فيستحب له تقديم الإحرام بالحجّ قبل يوم التروية ليصومها
ص: 277
في الحجّ، هذا القول هو خيرة طاوس وعطاء والشعبی ومجاهد والحسن والنخعی وسعيد بن جبير وعلقمة وعمر بن دينار وأصحاب الرأی(1) .الخامس: إنّها لا يجوز أيضاً إلا بعد الإحرام بالحجّ إلا أنّه يستحب أن يكون آخر يومها يوم التروية، هذا القول هو خيرة الشافعی وابن عمر وعائشة والقاضی والمروی عن أحمد علی ما حكاه النووی وابن قدامة في كتابيهما (2).
فبعد ما عرفت محصل الآراء في المقام نذكر بعضاً منها:
قال الشيخ رحمه الله (385 - 460 ه-) في «المبسوط»:
فإذا لم يقدر على الهدى ولا على ثمنه وجب عليه صيام عشرة أيام ثلاثة في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله، فالثلاثة أيّام يوم قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، فإن فاته صوم هذه الأيّام صام يوم الحصبة وهو يوم النفر ويومين بعده متواليات، فإن فاته ذلك أيضاً صامهن في بقية ذی الحجة ...، وقد رويت رخصة في تقديم صوم الثلاثة أيّام من أوّل العشر، والأحوط الأوّل لأنّه ربما حصل له الهدى(3).
وقال في «الخلاف»:
لا يجوز الصيام بدل الهدی إلا بعد عدم الهدی، وعدم ثمنه، فإن عدمهما جاز له الصوم، وإن لم يحرم بالحجّ بأن يصوم يوماً قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، وقد روی رخصة في أوّل العشر، وقال أبو حنيفة: إذا أهل بالعمرة يجوز له الصيام إذا عدم الهدی، ودخل وقته، ولا يزال كذلك إلا يوم النحر، وقال الشافعی: لا يجوز له الصيام إلا بعد
ص: 278
الإحرام بالحجّ وعدم الهدی، ولا يجوز له الصوم قبل الإحرام بالحجّ قولاً واحداً.
ووقت الاستحباب أن يكون آخره يوم التروية، ووقت الجواز أن يكون آخره يوم عرفة.دليلنا: أنّه لا خلاف بين الطائفة أنّ الواجب أن يصوم الثلاثة أيّام الّتي ذكرناها مع الاختيار، وأنّ الإحرام بالحجّ ينبغی أن يكون يوم التروية، فخرج من ذلك جواز الصوم قبل الإحرام بالحجّ (1).
وقال ابن إدريس الحلي رحمه الله (م 598 ه-) في «السرائر»:
فإذا صام الثلاثة الأيّام، و رجع إلى أهله، صام السّبعة الأيام، ولا يجوز له أن يصومهن في السفر، ولا قبل رجوعه إلى أهله ...، ومن فاته صوم يوم قبل التروية، صام يوم التروية، ويوم عرفة، ثم صام يوما آخر، بعد أيام التشريق، ولا يجوز له أن يصوم أيّام التشريق، فإن فاته صوم يوم التروية، فلا يصم يوم عرفة، بل يصوم الثلاثة الأيّام، بعد انقضاء أيّام التشريق متتابعات، وقد رويت رخصة في تقديم الصوم الثلاثة أيّام، من أول العشر، و الأحوط الأول ...، وإجماع أصحابنا أيضاً، منعقد على ذلك، إلا أنّهم أجمعوا، على أنّه لا يجوز الصيام إلا يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وقبل ذلك لا يجوز، ولو لا إجماعهم لجاز ذلك(2).
وقال المحقق رحمه الله (م 676 ه-) في «الشرائع»:
وإذا فقدهما (أی الهدی وثمنه) صام عشرة أيّام: ثلاثة في الحجّ متتابعات، يوماً قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، ولو لم يتفق اقتصر على التروية وعرفة ثمّ صام الثالث بعد النفر، ولو فاته يوم التروية أخّره
ص: 279
إلى بعد النفر، ويجوز تقديمها من أوّل ذی الحجة بعد أن تلبس بالمتعة(1).وقال العلامة رحمه الله (648 - 726 ه-) في «التذكرة»:
لو فقد الهدی والثمن، انتقل إلى الصوم، ويستحب أن تكون الثلاثة في الحجّ يوماً قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، عند علمائنا(2).
وقال في «المنتهی»:
يستحب أن يكون الثلاثة في الحجّ هی يوم قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة فيكون آخرها يوم عرفة ذهب إليه علماؤنا أجمع، وبه قال عطاء وطاوس والشعبی ومجاهد والحسن والنخعی وسعيد بن جبير وعلقمة وعمر وابن دينار وأصحاب الرأی(3).
وقال المحقق العاملی رحمه الله (م 1009 ه-) في «المدارك»:
والمسألة محل تردد ولا ريب أنّ المصير إلى ما دلّت عليه هذه الأخبار (الدالة علی تعيين اليوم السابع إلی التاسع) أولى وأحوط(4).
قال الإمام الراحل قدس سره (1320 - 1409 ه-) في «التحرير»:
يجب وقوع صوم ثلاثة أيّام في ذی الحجة، والأحوط وجوباً أن يصوم من السابع إلى التاسع، ولا يتقدم عليه(5).
ص: 280
وقال ابن قدامة (م 620 ه-):
ولكلّ واحد من صوم الثلاثة والسبعة وقتان: وقت جواز، ووقت استحباب، فأمّا وقت الثلاثة فوقت الاختيار لها: أن يصومها ما بين إحرامه بالحجّ ويوم عرفة ويكون آخر الثلاثة يوم عرفة، قال طاوس: يصوم ثلاثة أيّام آخرها يوم عرفة، وروی ذلك عن عطاء والشعبی ومجاهد والحسن والنخعی وسعيد بن جبير وعلقمة وعمر بن دينار وأصحاب الرّأی، وروی ابن عمر وعائشة أنّه يصومهن ما بين إهلاله بالحج ويوم عرفة، وظاهر هذا: أن يجعل آخرها يوم التروية وهو قول الشافعی، لأنّ صوم يوم عرفة بعرفة غير مستحب وكذلك ذكر القاضی في المحرر والمنصوص عن أحمد الّذی وقفنا عليه ....، وأمّا وقت جواز صومها: فإذا أحرم بالعمرة، وهذا قول أبی حنيفة، وعن أحمد: أنّه إذا حلّ من العمرة، وقال مالك والشافعی: لا يجوز إلا بعد إحرام الحجّ، ويروی ذلك عن ابن عمر وهو قول إسحاق وابن المنذر لقول الله تعالی: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) ولأنّه صيام واجب فلم يجز تقديمه علی وقت وجوبه كسائر الصيام الواجب، ولأنّ ما قبله وقت لا يجوز فيه المبدل فلم يجز البدل كقبل الإحرام بالعمرة، وقال الثوری والأوزاعی: يصومهنّ من أول العشر إلی يوم عرفة، ولنا: أنّ إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده كإحرام الحجّ، فأمّا قوله: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) فقيل: معناه في أشهر الحجّ (1).
ص: 281
الغرض من تبين القاعدة والأصول العمليّة عند تبيين المسائل هو الرجوع إليها عند فقدان النصّ، أو اجماله، أو التعارض بين النصّين، أو التباس المصاديق الخارجيّة لرفع تحيّر المكلف في مقام العمل بحسب الظاهر(1).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القاعدة هنا تقتضی أن لا يكون زمان وجوب الصوم إلا بعد الإحرام بالحجّ لإنّه في الحقيقة من قبيل فعل لم يجب موجبه وأنّه بدل عن الهدی في يوم النحر، فكما لا يجوز التقديم في سائر الأبدال فكذلك في المقام، بل نقول زائداً عليه كما حكی عن مالك(2) بأنّه يلزم أن لا يكون إلا بعد تحقّق العجز عنه في يومه فكيف يجوز فعله قبل زمان وجوب مبدله؟!
وإن شئت قلت: الصوم هنا مسبب عن عجز الناسك عن الهدی فإذا كان أصل الهدی ونفسه لا يكون إلا بعد الإحرام بالحجّ فكيف يجوز تقديمه علی سببه؟!
أضف إلی ذلك أنّ مقتضی كلمة «الفاء» في الآية الكريمة (فَصِيامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) أيضاً هو الترتيب والتعقيب.
يؤيد ذلك بمرسلة أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَرْخِیِّ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا علیه السلام: الْمُتَمَتِّعُ يَقْدَمُ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْیٌ أَ يَصُومُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «يَصْبِرُ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْ فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَجِدْ»(3).
ص: 282
أللّهم إلا أن يقال: بعد عزم الناسك بالحجّ وشروعه بإحرام العمرة التمتع يستقر في ذمته جميع مناسكه من العمرة إلی تمام الحجّ فعلاً إلا أنّ الإتيان بها مرهونة علی ترتيبها الزمانی كما يجب علی هذا المنوال تمام ركعات الصلاة علی المصلّی بمجرد شروعه فيها، إلی ذلك أشار في «السرائر» حيث قال:
فإن قيل: كيف يصام بدل الهدی قبل وجوب الهدی، لأنّ الهدی ما يجب ذبحه إلا يوم النحر ولا يجوز قبله؟
قلنا: إذا أحرم بالحجّ متمتعاً، وجب عليه الدم، ويستقر في ذمته، وبه قال أبو حنيفة، والشافعی، وقال عطاء: لا يجب حتّى يقف بعرفة، وقال مالك: لا يجب حتّى يرمی جمرة العقبة، دليلنا: قوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْیِ)(1)، فجعل تعالى الحجّ غاية لوجوب الهدی، فالغاية وجود أوّل الحجّ، دون إكماله، يدلّ عليه قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَى اللَّيْلِ)(2)، كانت الغاية دخول أوّل الليل دون إكماله كلّه، وإجماع أصحابنا أيضاً، منعقد على ذلك، إلا أنّهم أجمعوا، على أنّه لا يجوز الصيام إلا يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وقبل ذلك لا يجوز، ولو لا إجماعهم لجاز ذلك لعموم الآية، وصيام هذه الأيّام يجوز سواء أحرم بالحجّ، أو لم يحرم، لأجل الإجماع من أصحابنا أيضاً وإلا فما كان يجوز الصيام إلا بعد إحرام الحجّ، لأنّه قال تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) فجعل الحجّ غاية لوجوب الهدی، فإذا لم يحرم ما وجدت الغاية، بل الإجماع مخصّص لذلك، ويمكن أن يقال: العمرة المتمتع بها إلى الحجّ، حجّ وحكمها
ص: 283
حكم الحجّ، لأنّها لا ينعقد الإحرام بها، إلا في أشهر الحجّ، فعلى هذا إذا أحرم بها، فقد وجد أوّل الحجّ(1).
دليل القول الأوّل: وهو أنّ زمان الصوم بعد الإحرام بالعمرة وهو الزاماً أو علی الأحوط وجوباً أو ندباً السابع والثامن والتاسع من شهر ذی الحجة، يستدل علی ذلك بروايات متظافرة منها:
صحيحة رِفَاعَةَ بْنِ مُوسَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْمُتَمَتِّعِ لَا يَجِدُ الْهَدْیَ؟ قَالَ: «يَصُومُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، قَالَ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ التَّشْرِيقِ، قُلْتُ: لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ جَمَّالُهُ، قَالَ: يَصُومُ يَوْمَ الْحَصْبَةِ وَبَعْدَهُ يَوْمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْحَصْبَةُ؟ قَالَ: يَوْمُ نَفْرِهِ، قُلْتُ: يَصُومُ وَهُوَ مُسَافِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُسَافِراً، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَقُولُ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) يَقُولُ في ذِی الْحِجَّةِ»(2).
وصحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَجِدْ هَدْياً؟ قَالَ: «يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الْحَجِّ يَوْماً قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَتَسَحَّرُ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَيَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ جَمَّالُهُ أَ يَصُومُهَا في الطَّرِيقِ؟ قَالَ: إِنْ شَاءَ صَامَهَا في الطَّرِيقِ وَإِنْ شَاءَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»(3).وصحيحة حَمَّادِ بْنِ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «قَالَ عَلِیٌّ علیه السلام في قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ) قَالَ: قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، فَمَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ الْأَيَّامُ فَلْيُنْشِئْ يَوْمَ الْحَصْبَةِ وَهِیَ لَيْلَةُ النَّفْرِ»(4).
ص: 284
وصحيحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ البِجلی قَالَ: كُنْتُ قَائِماً أُصَلِّی وَأَبُوالْحَسَنِ علیه السلام قَاعِدٌ قُدَّامِی وَأَنَا لَا أَعْلَمُ فَجَاءَهُ عَبَّادٌ الْبَصْرِیُّ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ مَا تَقُولُ في رَجُلٍ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ هَدْیٌ؟ قَالَ: «يَصُومُ
الْأَيَّامَ الّتي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: فَجَعَلْتُ سَمْعِی إِلَيْهِمَا، فَقَالَ لَهُ عَبَّادٌ: وَأَیُّ أَيَّامٍ هِیَ؟ قَالَ: قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ، قَالَ: فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَصُومُ صَبِيحَةَ الْحَصْبَةِ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، الحديث»(1).
وصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ قَالَ: «الصَّوْمُ
الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامِ إِنْ صَامَهَا فَآخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَلْيُؤَخِّرْهَا حَتَّى يَصُومَهَا في أَهْلِهِ، وَلَا يَصُومُهَا في السَّفَرِ»(2).
ومرفوعة مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِیُّ في تَفْسِيرِهِ عَنْ رِبْعِیِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (موسی بن جعفر الكاظم) علیه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ
ص: 285
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) قَالَ: «يَوْمٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ، فَمَنْ فَاتَهُ ذَلِكَفَلْيَقْضِ ذَلِكَ في بَقِيَّةِ ذِی الْحِجَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ في كِتَابِهِ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)»(1).
ومرفوعة مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: رُوِیَ عَنِ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وَالْأَئِمَّةِ علیهم السلام : «أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا وَجَدَ الْهَدْیَ وَلَمْ يَجِدِ الثَّمَنَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الْحَجِّ، يَوْماً قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ لِجَزَاءِ الْهَدْیِ، فَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ تَسَحَّرَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَهِیَ لَيْلَةُ النَّفْرِ وَأَصْبَحَ صَائِماً وَصَامَ يَوْمَيْنِ مِنْ بَعْدُ فَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ حَتَّى يَخْرُجَ وَلَيْسَ لَهُ مُقَامٌ صَامَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ في الطَّرِيقِ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ الْعَشْرَ في أَهْلِهِ وَيَفْصِلُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ بِيَوْمٍ وَإِنْ شَاءَ صَامَهَا مُتَتَابِعَةً، إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَنْ جَهِلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ صَامَهَا بِمَكَّةَ إِنْ أَقَامَ جَمَّالُهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ صَامَهَا في الطَّرِيقِ أَوْ بِالْمَدِينَةِ إِنْ شَاءَ فَإِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ صَامَ السَّبْعَةَ الْأَيَّامِ»(2).
ومرفوعة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَرْزَمِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِیٍّ: في صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ، قَالَ: «قَبْلَ
التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ تَسَحَّرَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ»(3).
ص: 286
ومرفوعة إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِی يَحْيَى عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام قَالَ: «يَصُومُ الْمُتَمَتِّعُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دَمٌ صَامَ إِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ يَتَسَحَّرُ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ ثُمَّ يُصْبِحُ صَائِماً»(1).فالرّوايات كما تری متظافرة عدداً فيها صحاح وغير صحاح، يستفاد منها تعيين الأيام الثلاثة السابع إلی التاسع لبدل الهدی لكنّها إذا اجتمعت مع الرّوايات أو الرواية الدالة علی القول الثانی فذهب بعض إلی كونها أحوط وجوباً أو استحباباً، أو استفادوا منها الاستحباب.
وأمّا دليل القول الثانی: وهو أنّ زمان الصوم أيضاً بعد الإحرام بالعمرة إلا أنّه يستحب أن يكون ذلك في السابع والثامن والتاسع من ذی الحجة، يستدل علی هذا القول زائداً علی ما دلّت علی القول الأوّل بما وردت من جواز الصوم من أوّل ذی الحجة في موثقة بل صحيحة مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَاْ عَنْ سَهْلٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِی نَصْرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيهِمَا السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً وَأَحَبَّ أَنْ يُقَدِّمَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ في أَوَّلِ الْعَشْرِ فَلَا بَأْسَ»(2).
وخبر مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِه عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ وَمُحَمَّدِ بْن سِنَانٍ جَمِيعاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْكَانَ قَالَ حَدَّثَنِی أَبَانٌ الْأَزْرَقُ عَنْ
ص: 287
زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْیَ وَأَحَبَّ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ في أَوَّلِ الْعَشْرِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ»(1).والظاهر أنّ الرّوايتين كانتا واحدة، لوحدة الراوی والمروی عنه والمفهوم، وإن كان الراوی عن زرارة في الأولی عبد الكريم بن عمرو، وفی الثانی أبان الأزرق.
وكيف كان إنّه لا كلام في رجال سند الصحيحة إلا من ناحية سهل بن زياد الآدمی، فإنّه وإن ضعّف(2) لكنّه ثقة علی التحقيق، وذلك لكثرة نقله الحديث ما تبلغ أكثر من ألفين وثلاثمائة حديثاً زائداً علی اعتناء الأصحاب والأجلاء بأحاديثه ما لم يوجد أو يشذ بهذا المقدار بالنسبة إلی غيره، وقد وثّقه الشيخ إجمالاً في رجاله حيث قال: سهل بن زياد الآدمی يكنّی أبا سعيد ثقة رازی(3)، قال السيّد الخوئی رحمه الله في ترجمته:
إنّ سهل بن زياد وقع الكلام في وثاقته وعدمها، فذهب بعضهم إلى وثاقته، ومال إلى ذلك الوحيد قدس سره ، واستشهد عليه بوجوه ... سمّاها أمارات التوثيق، منها: أنّ سهل بن زياد كثير الرواية، ومنها رواية الأجلاء عنه، ومنها: كونه شيخ إجازة، ومنها: غير ذلك، إلی أن قال: وقع بعنوان
ص: 288
سهل بن زياد في أسناد كثير من الروايات، تبلغ ألفين وثلاثمائة وأربعة موارد(1).ولو تنزلنا عنه ولن نقل بواثقة الرجل بذلك، فالخبر لا الرّاوی لا أقلّ حيث يكون منقولاً بواسطة الكلينی رحمه الله يكون موثوقاً عنده لما شهد في مقدمة كتابه بأنّ ما فيه من الأخبار والأحاديث وارداً من ناحية الصّادقين:(2)، مع وضوح أنّ المعيار في قبول الخبر عند الأصحاب هو وثاقة الخبر لا الرّاوی وأنّ وثاقة الرّاوی طريق إلی وثاقته.
أمّا تقريب الاستدلال أنّ قوله علیه السلام في الأخيرين: «فَلَا بَأْسَ» أو «فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ» نصّ في جواز الصوم من أوّل ذی الحجّة، وتلك الرّوايات ظاهرة في وجوب وتعيين الصوم في خصوص الأيام السابع إلی التاسع، والجمع بينهما يحصل بحمل الظاهر علی النصّ بأن نقول: أنّه يجوز الصوم من أوّل الشهر لكنّه يستحب كونه في تلك الأيام الخاصة.
أو فقل أنّ تلك الأخبار ناظرة إلی ما هو الغالب من إقدام الناسك الفاقد للصوم معمولاً في تلك الأيّام، وذلك لأنّه بطبيعة الحال ما دام راجياً متوقعّاً حصول الهدی لا يقدم الصيام، يؤيد ذلك بمرسلة أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَرْخِیِّ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا علیه السلام: الْمُتَمَتِّعُ يَقْدَمُ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْیٌ أَ يَصُومُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «يَصْبِرُ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْ فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَجِدْ»(3)، بأنّه ينبغی له ما دام راجياً من الإصابة أن لا يقدم عليه، خرج منه ما لو كان الناسك من بدو الأمر
ص: 289
عالماً بعدم إمكان الصيّام حينها كالمرأة الّتي تكون زمان حيضها في تلك الأيّام، أو آيساً من الظفر بالهدی فلا مانع لهما لأن يقدما للصيام من أوّل العشر، لكنّه معذلك يستحب للأخير أن يجعله في تلك الأيّام، وقد أشار إلی ذلك إجمالاً في «الاستبصار» حيث قال في ذيل خبر زرارة الثانية:
فلا ينافی ما قدّمناه من الأخبار في أنّ هذه الثلاثة أيّام آخرها يوم عرفة، لأنّ تلك الأخبار محمولة علی الفضل وهذا الخبر محمول علی الرّخصة لمن يخاف ألا يتمكن من ذلك، ولا تنافی بينهما علی هذا الوجه.
وإن شئت قلت: أنّ الأخبار من الجانبين تكون من قبيل المثبتات، فلا تعارض بينهما حتّی لزم لنا الأخذ بالمرجّحات، فعليه يحمل الأولی منهما علی الاستحباب.
وأمّا دليل القول الثالث: وهو أنّ زمان الصوم بعد الإحرام بالعمرة لكنّه يستحب أن يكون آخر يومها يوم التروية، الّذی اختاره الشيخ رحمه الله في «الخلاف» واستدلّ لذلك بأنّه:
لا خلاف بين الطائفة أن الواجب أن يصوم الثلاثة أيّام الّتي ذكرناها (قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة) مع الاختيار، وأنّ الإحرام بالحجّ ينبغی أن يكون يوم التروية، فخرج من ذلك جواز الصوم قبل الإحرام بالحجّ(1).
يلاحظ عليه: بأنّه لا ملازمة بين استحباب اختيار الإحرام للحجّ يوم التروية وإتمام صيام البدل في ذلك اليوم أو قبله، إذ دليل الصوم شیء ودليل استحباب
ص: 290
الإحرام للحجّ يوم التروية شیء آخر، ولا نستفيد منهما جواز كون الصوم قبل الإهلال بالحجّ.
وأمّا دليل القول الرابع: وهو أنّ الصوم لا يكون إلا بعد الإحرام بالحجّ ويستحب أن يكون آخر الثلاثة يوم عرفة، فعليه أن يقدم إحرامه بالحجّ قبل يوم التروية ليصومها في الحجّ، يمكن أن يستدل علی هذا القول بما تقدم في تصوير مقتضی القاعدة في المقام من أنّ القاعدة هنا تقتضی أن لا يكون زمان وجوب الصوم إلا بعد الإحرام بالحجّ، وذلك لأنّه بدل الهدی في يوم النحر وإنّه في الحقيقة من قبيل فعل لم يجب موجبه، مؤيّدة بمرسلة الكرخیّ(1).
وأمّا دليل القول الخامس: وهو أنّ الصوم أيضاً لا يكون إلا بعد الإحرام بالحجّ إلا أنّه يستحب أن يكون آخر الثلاثة يوم التروية، وذلك لمقتضی الأصل أوّلاً، ولأنّ صوم يوم عرفة بعرفة غير مستحب ثانياً (2).
يلاحظ عليهما: بأنّ الأصل دليل حيث لا دليل والمرسلة ضعيفة لا يحتجّ بها، فلا اعتبار بهما بعد وجود الأخبار المتظافرة بل المتواترة الدالة علی القولين الأولين، زائداً علی أنّ كلامنا هنا في الصوم الواجب البدل لا في الصوم المندوب وبينهما بون بعيد.
فتحصّل إلی هنا أنّ المستفاد من مجموع الأخبار الواردة في المقام أنّ المختار والمتعين في الأيام الثلاثة الّتي يجوز صومها عند تعذّر الهدی، هی كونها بعد الإحرام بالعمرة من أوّل العشر إلا أنّه يستحب أن يجعلها لدی الاختيار من السابعة إلی التاسعة منها.
ص: 291
قد عرفت أنّه يجب علی المتمتع بالحجّ يوم النحر أن يهدی بمنی من إحدی النعم الثلاث، وأنّه لو كان عاجزاً عنه يتبدل فرضه حينئذ من الهدی إلی الصيام، وهو عشرة أيّام: ثلاثة منها في الحجّ والسبعة الباقية منها بعد رجوعه إلی أهله، فنبحث هنا عن جواز ذلك وعدمه أيّام التشريق(1) بمنی، أمّا خصوص يوم العيد وهو يوم النحر فلا ريب في كونه منهياً عنه بإجماع فقهاء الإسلام بل الضرورة بين المسلمين كافة(2)، ولدلالة الأخبار الكثيرة عليه(3).
وأمّا جوازه في اليومين أو الأيّام الثلاثة بعده، فقد اختلف الفقهاء فيه علی ثلاثة أقوال:
ص: 292
الأوّل: عدم جوازه مطلقاً، وهو «الأشهر» علی قول العلامة رحمه الله في «المختلف»(1)، و«المجمع عليه» علی قول الشيخ رحمه الله في «الخلاف»، وهو أيضاً قول فقهاء أهل العراق والشافعی في الجديد(2).
والثانی: جوازه يوم الحصبة فقط وهو يوم النفر، فإن كان هو أوّل يوم من الثلاثة فعليه أن يكمله بيومين بعده، هذا القول هو خيرة الصدوق في «الفقيه»(3) ووالده علی ما نسب إليه في «المختلف»(4)، والشيخ في «النهاية»(5)، وابن إدريس الحلي في «السرائر»(6)، والمحدث البحرانی في «الحدائق»(7)، والمحقق العاملی رحمه الله في «المدارك»(8)، والمحقق السبزواری في «الذخيرة»(9)، رضوان الله تعالی عليهم.
والثالث: إباحته حتّی في أيّام التشريق، وهو خيرة ابن جنيد الإسكافی رحمه الله (10)، وقال به الشافعی في القديم، واختاره أيضاً مالك وأحمد
ص: 293
وأصحاب الرأی، وإسحاق وابن عمر وعائشة وعروة وعبيد بن عمير والزهری والأوزاعی من العامة(1).
فقال الشيخ رحمه الله في «الخلاف»:
لا يجوز صيام أيّام التشريق في الحجّ بدل الهدی في أكثر الرّوايات وعند المحصلّين من أصحابنا وبه قال علیّ علیه السلام في الصحابة، وإليه ذهب أهل العراق، وبه قال الشافعی في الجديد، وقال في القديم: يصومها، وبه قال ابن عمر وعائشة في الفقهاء مالك وأحمد وإسحاق، وقد روى في بعض روايات أصحابنا ذلك، دليلنا: إجماع الفرقة على أن صوم أيّام التشريق محرّم لمن كان بمنى، وأخبارنا في هذا المعنى قد أوردناها في الكتاب المقدم ذكره، وروى أبو هريرة إنّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نهى عن صيام ستة أيّام: يوم الفطر، والأضحى، وأيّام التشريق، واليوم الّذی يشك فيه من رمضان، وروى عمرو بن سليم عن أبيه قال: بينا نحن بمنى إذ أقبل علیّ بن أبی طالب علیه السلام على جمل أحمر ينادی: أنّ الرسو صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: إنّها أيّام أكل وشرب فلا يصومنّ أحد فيها، وقد أوردنا في الكتاب ما فيه كفاية من الأخبار من طرقنا، وأنّهم قالوا: يصبح ليلة الحصبة صائماً وهی بعد انقضاء أيّام التشريق(2).
ص: 294
وقال ابن الجنيد رحمه الله :
فإن دخل يوم عرفة وفاته صيام الثلاثة الأيّام في الحجّ صام فيما بينه وبين آخر ذی الحجة، وكان مباحاً صيام أيّام التشريق وفی السفر وفی أهله إذا لم يمكنه غير ذلك(1).
وقال العلامة رحمه الله في «المختلف»:
إذا فاته صوم الثلاثة قبل العيد صامها بعد انقضاء أيّام التشريق هذا هو الأشهر، وهو اختيار الشيخ رحمه الله في بعض كتبه، وأبی الصلاح، وابن البراج، وابن حمزة، وقال الشيخ في النهاية: فإن فاته صوم الثلاثة أيّام قبل العيد فليصم يوم الحصبة- وهو يوم النفر- ويومان بعده، وكذا قال علیّ بن بابويه، وابنه، وابن إدريس، وقال ابن الجنيد: فإن دخل يوم عرفة و فاته صيام الثلاثة الأيّام في الحجّ صام فيما بينه وبين آخر ذی الحجة، وكان مباحاً صيام أيّام التشريق في السفر، وفی أهله إذا لم يمكنه غير ذلك، وقال في الخلاف: لا يجوز صيام أيّام التشريق في بدل الهدی في أكثر الروايات وعند المحصلّين من أصحابنا، لنا: الإجماع منّا على تحريم صوم أيّام التشريق، وما روی أنّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بعث بديل بن ورقاء الخزاعی على جمل أورق وأمره أن يتخلل الفساطيط وينادی في الناس أيّام منى: ألا لا تصوموا فإنّها أيام أكل وشرب وبعال، وما رواه ابن سنان في الصحيح، عن الصادق علیه السلام قال: سألته عن رجل تمتع فلم يجد هدياً قال: فليصم ثلاثة أيّام ليس فيها أيّام التشريق ولكن يقيم بمكة حتّى يصومها، وسبعة إذا رجع إلى أهله(2).
وقال الإمام الراحل رحمه الله في «التحرير»:
ص: 295
ولو لم يتمكّن من صوم السابع صام الثامن والتاسع وأخّر اليوم الثالث إلى بعد رجوعه من منى، والأحوط أن يكون بعد أيّام التشريق أی الحادی عشر والثانی عشر والثالث عشر(1).
وقال ابن قدامة الحنبلی في «المغنی»:
إذا ثبت هذا (أنّ صوم البدل واجب فلا يسقط بخروج وقته كصوم رمضان) فإنّه يصوم أيّام منی، وهذا قول ابن عمر وعائشة وعروة وعبيد بن عمير والزهری ومالك والأوزاعی وإسحاق والشافعی في القديم، لما روی ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخّص في أيّام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدی، رواه البخاری، وهذا ينصرف إلی ترخيص النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ولأنّ الله تعالی أمر بصيام الثلاثة في الحجّ، ولم يبق من أيّام الحجّ إلا هذه الأيّام، فيتعيّن الصوم فيها فإذا صام هذه الأيّام فحكمه حكم من صام قبل يوم النحر، وعن أحمد رواية أخری: لا يصوم أيّام منی، روی ذلك عن علیّ والحسن وعطاء وهو قول ابن المنذر لأنّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نهی عن صوم ستة أيّام - ذكر منها أيّام التشريق - وقال علیه السلام إنّها أيّام أكل وشرب ولأنّها لا يجوز فيها صوم النفل فلا يصومها عن الهدی كيوم النحر(2).
وكيف كان إنّ الّذی يوجب لهذا الخلاف هنا هو اختلاف ما وردت من الأخبار في المقام، فإنّ لكلّ قول دليلاً منها، فإن يمكن أن نجمع بينها، وإلا للزم أن نرجع إلی المرجّحات، أمّا دليل القول الأوّل وهو عدم جواز الصوم في تلك الأيّام مطلقاً فقد استدلّ عليه بروايات منها:
ص: 296
صحيحة يَحْيَى الْأَزْرَقُ أنَّه سَألَ أَبَا إِبْرَاهِيمَ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مُتَمَتِّعاً وَلَيْسَ لَهُ هَدْیٌ فَصَامَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ ؟ فَقَالَ: «يَصُومُ يَوْماً آخَرَ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِيَوْمٍ، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ مُتَمَتِّعٍ كَانَ مَعَهُ ثَمَنُ هَدْیٍ وَهُوَ يَجِدُ بِمِثْلِ الَّذِی مَعَهُ هَدْياً فَلَمْ يَزَلْ يَتَوَانَى وَيُؤَخِّرُ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَغَلَتِ الْغَنَمُ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَشْتَرِیَ بِالَّذِی مَعَهُ هَدْياً؟ قَالَ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ»(1).
وصحيحة ابْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ تَمَتَّعَ فَلَمْ يَجِدْ هَدْياً؟ قَالَ: «فَلْيَصُمْ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَيْسَ فِيهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَلَكِنْ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَتَّى يَصُومَهَا، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»، وَذَكَرَ حَدِيثَ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ(2).
وصحيحة ابْنِ مُسْكَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَجِدْ هَدْياً؟ قَالَ: «يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قُلْتُ لَهُ: أَ فِيهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَتَّى يَصُومَهَا، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ فَلْيَصُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ(3).
مرفوعة الصدوق رحمه الله وَ رُوِیَ عَنِ الْأَئِمَّةِ علیهم السلام : «أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا وَجَدَ الْهَدْیَ وَلَمْ يَجِدِ الثَّمَنَ صَامَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَإِنَّ النَّبِیّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بَعَثَ
ص: 297
بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِیَّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّلَ الْفَسَاطِيطَ وَيُنَادِیَ في النَّاسِ أَيَّامَ مِنًى: أَلَا لَا تَصُومُوا فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ»(1).
فالرّوايات كما تری متظافرة، أكثرها صحاح تدلّ بالصراحة علی عدم جواز الصوم أيّام التشريق.
وأمّا دليل القول الثانی وهو جوازه يوم النفر فقط، فإن كان هو أوّل يوم من الثلاثة فعليه أن يكمله بيومين بعده، فقد استدلّ علی هذا القول أيضاً بروايات متظافرة منها:
صحيحة رِفَاعَةَ بْنِ مُوسَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْمُتَمَتِّعِ لَا يَجِدُ الْهَدْیَ؟ قَالَ: «يَصُومُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، قَالَ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ التَّشْرِيقِ، قُلْتُ: لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ جَمَّالُهُ، قَالَ: يَصُومُ يَوْمَ الْحَصْبَةِ وَبَعْدَهُ يَوْمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْحَصْبَةُ؟ قَالَ: يَوْمُ نَفْرِهِ، قُلْتُ: يَصُومُ وَهُوَ مُسَافِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُسَافِراً، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَقُولُ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) يَقُولُ في ذِی الْحِجَّةِ»(2).
وصحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَجِدْ هَدْياً؟ قَالَ: «يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الْحَجِّ يَوْماً قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَتَسَحَّرُ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَيَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ جَمَّالُهُ أَ يَصُومُهَا في الطَّرِيقِ؟ قَالَ: إِنْ شَاءَ صَامَهَا في الطَّرِيقِ وَإِنْ شَاءَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»(3).
ص: 298
وصحيحة حَمَّادِ بْنِ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: «قَالَ عَلِیٌّ علیه السلام في قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ) قَالَ: قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، فَمَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ الْأَيَّامُ فَلْيُنْشِئْ يَوْمَ الْحَصْبَةِ وَهِیَ لَيْلَةُ النَّفْرِ»(1).
وصحيحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ البِجلی قَالَ: كُنْتُ قَائِماً أُصَلِّی وَأَبُو الْحَسَنِ علیه السلام قَاعِدٌ قُدَّامِی وَأَنَا لَا أَعْلَمُ فَجَاءَهُ عَبَّادٌ الْبَصْرِیُّ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ مَا تَقُولُ في رَجُلٍ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ هَدْیٌ؟ قَالَ: «يَصُومُ
الْأَيَّامَ الّتي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: فَجَعَلْتُ سَمْعِی إِلَيْهِمَا، فَقَالَ لَهُ عَبَّادٌ: وَأَیُّ أَيَّامٍ هِیَ؟ قَالَ: قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ، قَالَ: فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَصُومُ صَبِيحَةَ الْحَصْبَةِ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، الحديث»(2).
ومرفوعة مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: رُوِیَ عَنِ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وَالْأَئِمَّةِ علیهم السلام : «أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا وَجَدَ الْهَدْیَ وَلَمْ يَجِدِ الثَّمَنَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الْحَجِّ: يَوْماً قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ لِجَزَاءِ الْهَدْیِ، فَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ تَسَحَّرَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَهِیَ لَيْلَةُ النَّفْرِ وَأَصْبَحَ صَائِماً وَصَامَ يَوْمَيْنِ مِنْ بَعْدُ فَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ حَتَّى يَخْرُجَ وَلَيْسَ لَهُ مُقَامٌ صَامَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ في الطَّرِيقِ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ الْعَشْرَ في أَهْلِهِ وَيَفْصِلُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ بِيَوْمٍ وَإِنْ شَاءَ صَامَهَا مُتَتَابِعَةً، إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَنْ جَهِلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في
ص: 299
الْحَجِّ صَامَهَا بِمَكَّةَ إِنْ أَقَامَ جَمَّالُهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ صَامَهَا في الطَّرِيقِ أَوْ بِالْمَدِينَةِ إِنْ شَاءَ فَإِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ صَامَ السَّبْعَةَ الْأَيَّامِ»(1).ومرفوعة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَرْزَمِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِیٍّ: في صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ ، قَالَ: «قَبْلَ
التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ تَسَحَّرَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ»(2).
ومرفوعة إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِی يَحْيَى عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام قَالَ: «يَصُومُ الْمُتَمَتِّعُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دَمٌ صَامَ إِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ يَتَسَحَّرُ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ ثُمَّ يُصْبِحُ صَائِماً»(3).
وخبر حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ سَأَلَهُ عَمَّنْ ضَاعَ ثَمَنُ هَدْيِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَشْتَرِی بِهِ؟ قَالَ: «يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ الْحَصْبَةِ»(4).
فِقْهُ الرِّضَا علیه السلام: «إِذَا عَجَزْتَ عَنِ الْهَدْیِ وَلَمْ يُمْكِنْكَ صُمْتَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ فَاتَكَ صَوْمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ صُمْتَ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْحَصْبَةِ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهَا»(5).
وأمّا دليل القول الثالث وهو جواز الصيام البدل بل لزومه حتّی في أيّام التشريق، فقد استدلّ علی ذلك بموثقة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ
ص: 300
أَبِيهِ أَنَّ عَلِيّاً علیه السلام كَانَ يَقُولُ: «مَنْ فَاتَهُ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ في الْحَجِّ وَهِیَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ فَلْيَصُمْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَقَدْ أُذِنَ لَهُ»(1).
وموثقة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيّاً علیه السلام كَانَ يَقُولُ: «مَنْ فَاتَهُ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الّتي في الْحَجِّ فَلْيَصُمْهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ»(2).
وعن طريق العامة ما رواه ابن عمر: «أنَّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ رَخَصَّ لِلمُتُمَتِّعِ إذَا لَم يَجِدَ الهَدیَ أن يَصُومَ أيَّامَ التَّشرِيق»، وعن ابن عمر وعائشة: «أنَّه لَم يُرَخَّص في أيَّامِ التَّشرِيق أن يَصُمنَ إلا لِمَن لَم يَجِد الهَدیَ»(3).
فمفهوم هذه الرّوايات أنّه لا يجوز صيام أيّام التشريق بمنی، إلا لمن فات عنه صيام الثلاثة البدل عن الهدی.
إذا عرفت ذلك، فتصل النوبة إلی أنّه هل يمكن الجمع بينها بالجمع المقبول العرفی، أم لا؟
أمّا الأخبار الدالة علی القول الأخير والقولين الأوّلين فبما أنّهما كانتا في جهتين مختلفتين فلا يمكن أن نجمع بينهما، إذ الأوليان دلّتا علی عدم جواز صوم البدل في أيّام التشريق إجمالاً، وهی صريحة في جواز ذلك فتتعارضان، زائدةً علی كونها من الأخبار الآحاد، وضعف أسانيدها بالنسبة إلی ما دلّت علی
ص: 301
الأوليين، فبمقتضی ما رَوَى الْعَلَّامَةُ مَرْفُوعاً إِلَى زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: سَأَلْتُ الْبَاقِرَ علیه السلام فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَأْتِی عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ؟ فَقَالَ علیه السلام: «يَا زُرَارَةُ خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَدَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِی إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ؟ فَقَالَ علیه السلام: خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَأَوْثَقِهِمَا في نَفْسِكَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ؟ فَقَالَ علیه السلام: انْظُرْ مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ، وَخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ، قُلْتُ: رُبَّمَا كَانَا مَعاً مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوِ مُخَالِفَيْنِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ وَاتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ علیه السلام: إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذَ بِهِ وَتَدَعَ الْأَخِيرَ»(1)، فحيث كانت الأوليان مشهورة بين فقهائنا، ومخالفة لما اختاره غالب العامة، وموافقة للإحتياط، فنقدّمهما علی ما دلّت علی الأخير.
وقد حمل الشيخ الحر العاملی رحمه الله روايتي عبد اللّه بن ميمون القدّاح، وإسحاق بن عمّار الّلتا تدلان علی القول الثالث علی التّقية حيث قال بعد الخبرين:
ذكر الشيخ أنّ هذين الخبرين شاذّان مخالفان لسائر الأخبار، فلا يجوز المصير إليهما انتهی، ويحتمل الحمل علی التقيّة لما مرّ، وعلی صوم اليوم الثالث وهو يوم الحصبة لمن نفر فيه أو قبله لخروجه من منی.
فبعد ما فراغنا من هذه المرحلة فلنلاحظ نسبتها في الأوليين، وحيث كانت الرّوايات الدالّة علی القول الأوّل عامة تشتمل للمنع عن الصيام في تمام أيّام التشريق، وما دلّت علی الثانی استثنت من المنع خصوص يوم النفر منها،
ص: 302
فنقدّمها علی الأوّل من باب حمل العام علی الخاص زائدة علی كونها أكثر عدداً بالنسبة إليها، أو نحمل الأولی علی الاستحباب والثانية علی الجواز بأنّه يستحب للفاقد إذا أمكنه الإقامة بمكة من بعد عوده من منی أن يؤخّر صيامه إلی بعد أيّام التشريق بتمامه، كما دلّت عليه صحيحة رِفَاعَةَ بْنِ مُوسَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْمُتَمَتِّعِ لَا يَجِدُ الْهَدْیَ؟ قَالَ: «يَصُومُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، قَالَ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ التَّشْرِيقِ، قُلْتُ: لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ جَمَّالُهُ، قَالَ: يَصُومُ يَوْمَ الْحَصْبَةِ وَبَعْدَهُ يَوْمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْحَصْبَةُ؟ قَالَ: يَوْمُ نَفْرِهِ، قُلْتُ: يَصُومُ وَهُوَ مُسَافِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُسَافِراً، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَقُولُ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) يَقُولُ في ذِی الْحِجَّةِ»(1)، فأمره الإمام علیه السلام أوّلاً بالصيام بعد مضی أيّام التشريق، وحيث اعتذر السائل بقوله: لم يقم عليه جمّاله، فأجابه بصيام يوم الحصبة ويومين بعده.
ثمّ لا يخفی إنّ المراد بالنفر كما صرّح به قوله علیه السلام: «يَوْمُ نَفْرِهِ» في صحيحة رفاعة بن موسی المتقدمة، هو اليوم الّذی نفر فيه الناسك لا خصوص يوم الثانی عشر أو الثالث عشر، وذلك لأنّ للنفر مصداقان: أولهما يوم الثانی عشر من ذی الحجة بعد الزوال لمن اتقی النساء والصيد ولم يبقی بها إلی أن تغرب الشمس، والثانی يوم الثالث عشر بعد الرمی في أوّل النهار، ولا أقل من الشك ولزوم الأخذ بالمتيقن، فعليه فما دام الناسك لم ينفر منها فلا يجوز له صيام البدل.
ص: 303
لا خلاف بيننا في أنّه يعتبر التوالی في الصيام الثلاثة البدل عن الهدی، أمّا العامة فلم يعتبروا ذلك وأجازوه ظاهراً في تمام العشر الأوّل كيفما اتفق عملاً باطلاق الآية الشريفة، وأنّ الأصل عدم الاشتراط، أرسله بعض الأصحاب إرسال المسلمات، وبعض آخر منهم كونه ممّا لا خلاف فيه أو ممّا أجمعوا عليه، قال العلامة رحمه الله :
يجب صومها (الثلاثة) متتابعاً أمّا السبعة فلا يجب التتابع فيها، ولم يوجب الجمهور التتابع في الثلاثة أيضاً وأجمع علماؤنا على إيجاب التتابع فيها إلا إذا فاته قبل يوم التروية ويوم عرفة ويفطر العيد ثمّ يصوم يوماً آخر بعد انقضاء أيام التشريق، ولو صام غير هذه الأيّام وجبت فيها التتابع ثلاثة(1).
وقال الفيض رحمه الله في «المفاتيح»:
وإذا فقدهما صام عشرة أيّام: ثلاثة في الحجّ، أی في بقية أشهره وهو ذو الحجة، وسبعة إذا رجع إلى أهله، بالكتاب والسنة والإجماع، موالياً
للثلاثة بالنصّ والإجماع(2).
وفی «الجواهر» فإنّه بعد ما حكی كلام المحقق رحمه الله في «الشرائع» بأنّه: إذا فقدهما (أی الهدی وثمنه) صام عشرة أيام: ثلاثة في الحجّ متواليات، قال:
بلا خلاف، بل عن المنتهی وغيره الإجماع عليه مضافاً إلی النصوص(3).
ص: 304
وقال الإمام الراحل قدس سره في «التحرير»:
يجب وقوع صوم ثلاثة أيام في ذی الحجة، والأحوط وجوباً أن يصوم
من السابع إلى التاسع، ولا يتقدم عليه، ويجب التوالی فيها(1).
وقال ابن رشد القرطبی:
لا خلاف أنّ العشر الأول من أيّام الحجّ، واختلفوا في من صامها في أيّام عمل العمرة قبل أن يهلّ بالحجّ، أو صامها في أيّام منی، فأجاز مالك صيامها في أيّام منی ومنعه أبوحنيفة وقال: إذا فاتته الأيّام الأولی وجب الهدی في ذمته، ومنعه مالك قبل الشروع في عمل الحجّ وأجازه أبوحنيفة(2).
وكيف كان استدلّ الإماميّة علی ذلك تارة بالإجماع المدعی في كلام جماعة، وأخری بما يستفاد من ظواهر الرّوايات المتظافرة المذكورة في دليل القول الأوّل الّتي مضمونها أنّ وظيفة العاجز عن الهدی يوم النحر، هو الصيام من اليوم السابع إلی التاسع من ذی الحجة، وثالثة بما وردت من الأخبار الآمرة بالتوالی أو الناهية عن الافتراق بالخصوص في المقام، منها:
صحيحة أو موثقة عَلِیِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ أَ يَصُومُهَا مُتَوَالِيَةً أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَهَا؟ قَالَ: «يَصُومُ الثَّلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهَا، وَالسَّبْعَةَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهَا، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ السَّبْعَةِ وَالثَّلَاثَةِ جَمِيعاً»(3).
ص: 305
وصحيحة أو موثقة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ : «لَا تَصُومُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ مُتَفَرِّقَةً»(1).
وخبر عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام قَالَ: سَأَلَهُ عَبَّادٌ الْبَصْرِیُّ عَنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْیٌ؟ قَالَ: «يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، قَالَ: فَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ؟ فَقَالَ: لَا يَصُومُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَلَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَلَكِنْ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ»(2).
وخبر عَلِیِّ بْنِ الْفَضْلِ الْوَاسِطِیِّ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِذَا صَامَ الْمُتَمَتِّعُ يَوْمَيْنِ لَا يُتَابِعُ الصَّوْمَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَقَدْ فَاتَهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ فَلْيَصُمْ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْجَمَّالُ فَلْيَصُمْهَا في الطَّرِيقِ، أَوْ إِذَا قَدِمَ عَلَى أَهْلِهِ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»(3).
دلالة الأخبار واضحة وينجبر ضعف الضعاف منها بما مرّ من الإجماع وعمل الأصحاب، وبذلك نقيّد إطلاق الأمر بالصيام في الآية الشريفة، فلا تصل النوبة إلی الأخذ بالأصل.
ص: 306
قد يستثنی من وجوب التتابع في الثلاثة ما إذا فاته الصوم يوم السابع فعليه أن يصوم الثامن والتاسع، وصام الثالث بعد أيّام التشريق، نسبه في «المدارك» إلی المشهور(1)، وحكی عن ابن إدريس الحلي رحمه الله وغيره الإجماع عليه(2)، وزاد عليه ابن حمزة رحمه الله في «الوسيلة» ما لو إذا صام يومي السابع والثامن خاف إن صام التاسع أيضاً يضعفه الصوم عن الدعاء يوم عرفة، فأجاز له حينئذ أن يؤخر الثالث إلی بعد انقضاء أيّام التشريق مستدلاً بأنّ التشاغل بالدعاء في ذلك اليوم أمر مطلوب للشارع فجاز الإفطار له، وقد نفی عنه البأس العلامة رحمه الله في «المختلف».
قال علیّ بن حمزة رحمه الله :
ويصوم ثلاثة الأيّام في الحجّ، وهی يوم التروية ويوم قبله ويوم بعده، فإن فاته اليوم قبل التروية صام بدله يوماً بعد انقضاء أيّام التشريق، فإن فاته صوم يوم التروية واليوم قبله لم يصم يوم عرفة وصام بعد انقضاء أيّام التشريق، وإن صام يوم التروية ويوماً قبله وخاف إن صام يوم عرفة عجز عن الدعاء أفطر وصام بدله بعد انقضاء أيّام التشريق(3).
وقال ابن إدريس الحلي رحمه الله في «السرائر»:
من فاته صوم يوم قبل التروية، صام يوم التروية ويوم عرفة، ثم صام يوماً آخر بعد أيّام التشريق ولا يجوز له أن يصوم أيّام التشريق، فإن فاته صوم
ص: 307
يوم التروية، فلا يصم يوم عرفة بل يصوم الثلاثة الأيّام، بعد انقضاء أيّام التشريق متتابعات(1).
وقال العلامة رحمه الله في «المختلف»:
هذه الثلاثة متتابعة إلّا في موضع واحد وهو أنّه إذا فاته قبل يوم التروية، صام يوم التروية وعرفة ثمّ صام الثالث بعد أيّام التشريق، قاله ابن إدريس، وقال ابن حمزة: لو صام قبل التروية ويوم التروية وخاف إن صام يوم عرفة عجز عن الدعاء أفطر وصام بدله بعد انقضاء أيّام التشريق، ولا بأس بهذا القول، احتجّ ابن إدريس بأنّ الأصل التتابع، خرج عنه الصورة المجمع عليها، فيبقى الباقی على الوجوب، واحتجّ ابن حمزة بأنّ التشاغل بالدعاء أمر مطلوب للشرع فساغ له الإفطار، كما لو كان الفائت الأوّل(2).
وفی «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله صاحب «الشرائع»: ولو لم يتفق اقتصر علی التروية وعرفة ثمّ صام الثالث بعد النفر، قال:
كما هو المشهور بل عن ابن إدريس وغيره الإجماع عليه وهو الحجّة في اغتفار الفصل بالعيد وأيّام التشريق في التوالی(3).
وقال الإمام الراحل رحمه الله في «التحرير»:
ولو لم يتمكّن من صوم السابع صام الثامن والتاسع وأخّر اليوم الثالث إلى بعد رجوعه من منى، والأحوط أن يكون بعد أيّام التشريق أی الحادی عشر والثانی عشر والثالث عشر(4).
ص: 308
أقول إنّ هنا دعويين: إحداهما: ما لو فاته الصوم في اليوم السابع، والثانية: ما لو إذا صام التاسع خاف أن يضعفه الصوم عن الدعاء يوم عرفة، وادّعی فيهما جواز تأخير الثالث إلی بعد النفر من منی، فأمّا الأولی فقد استدل لها زائداً علی الإجماع المدعی بصحيحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِيمَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَ: «يُجْزِيهِ أَنْ يَصُومَ يَوْماً آخَرَ»(1).
وصحيحة يَحْيَى الْأَزْرَقِ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ الكاظِمِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مُتَمَتِّعاً وَلَيْسَ لَهُ هَدْیٌ فَصَامَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ؟ قَالَ: «يَصُومُ يَوْماً آخَرَ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ»(2).
لكنه يعارضهما صحيحة عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ مُتَمَتِّعٍ يَدْخُلُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْیٌ، قَالَ: «فَلَا يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَتَسَحَّرُ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ فَيُصْبِحُ صَائِماً وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ، وَيَصُومُ يَوْمَيْنِ بَعْدَهُ»(3).
وصحيحة رِفَاعَةَ بْنِ مُوسَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْمُتَمَتِّعِ لَا يَجِدُ الْهَدْیَ؟ قَالَ: «يَصُومُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، قَالَ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ التَّشْرِيقِ، قُلْتُ: لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ جَمَّالُهُ، قَالَ: يَصُومُ يَوْمَ الْحَصْبَةِ وَبَعْدَهُ يَوْمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْحَصْبَةُ؟ قَالَ: يَوْمُ نَفْرِهِ، قُلْتُ: يَصُومُ
ص: 309
وَهُوَ مُسَافِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُسَافِراً، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَقُولُ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَصِيامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ) يَقُولُ في ذِی الْحِجَّةِ»(1).
وخبر عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ الكاظِمِ علیه السلام قَالَ: سَأَلَهُ عَبَّادٌ الْبَصْرِیُّ عَنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْیٌ قَالَ: «يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، قَالَ: فَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ؟ فَقَالَ: لَا يَصُومُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَلَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلَكِنْ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ»(2).
فهنا طائفتين من الأخبار، دلّت أوليهما علی جواز تأخير الثالث إلی بعد ايّام التشريق ورجوعه من منی، وثانيتهما علی المنع من ذلك، فيقع التّعارض بينهما، وقد حاولوا للتخلّص عنه بوجوه: منها ما حمل الشيخ رحمه الله ما دلّت علی المنع علی صوم كلّ من الثامن والتاسع مستقلاً لا مجتمعاً ومنضمّاً، حيث قال بعد ذكر خبر عبد الرّحمن المتقدمة:
لا ينافی ما قدّمناه في أنّ من صام يوم التّروية ويوم عرفة جاز له أن يضيف إليه يوماً آخر، لأنّه إنّما نهى عن صوم يوم التّروية ويوم عرفة على الانفراد ولم ينه عن صومهما على طريق الجمع لتصحّ إضافة يوم الثّالث إليه على ما قدّمناه.
ومنها: حمل الطائفة الثانية منهما علی ما إذا ترك يوم السابع عمداً، وما دلّت علی الجواز بما إذا تركه عن غير عمد(3)، يؤيّده ما رواه علیّ بن الفضل الواسطی قال: سمعته يقول: «إِذَا صَامَ الْمُتَمَتِّعُ يَوْمَيْنِ لَا يُتَابِعُ الصَّوْمَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَقَدْ فَاتَهُ
ص: 310
صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ، فَلْيَصُمْ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْجَمَّالُ فَلْيَصُمْهَا في الطَّرِيقِ، أَوْ إِذَا قَدِمَ عَلَى أَهْلِهِ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»(1).
ومنها: الجمع العرفی بحمل ما دلّت علی المنع الظّاهرة في الحرمة علی الكراهة وذلك لقرينة قوله علیه السلام في صحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج: «يُجْزِيهِ أَنْ يَصُومَ يَوْماً آخَرَ»(2)، لكونه نصّاً في الجواز وقد اتّفقوا علی تقديم النصّ علی الظّاهر(3).
ومنها: حمل الطائفة الثانية منهما علی الصورة التقيّة علی ما صرّح به الفيض رحمه الله وجعله الأولی حيث قال:
وحمله علی التقيّة أولی، إذ السائل عامیّ (4).
والظاهر أنّ الأقوی منها هو الأوّل وذلك لأنّ كلمة «لا» إذا لم تتكرر تدلّ علی أنّ المنفی والممنوع هو المجموع بخلاف ما إذا تكررت فتدلّ بالمنطوق علی أنّه هو كلّ فرد فرد من الأفراد المذكورة بعدها، غاية الأمر أنّها حينئذ إذا لم يمكننا أن نتمسك بإطلاقه، فبالنسبة إلی المجموع ساكتة، فنرجع فيه في مثل المقام إلی الأخبار المجوزة في الطائفة الأولی، والأحوط أن يكون ذلك عند فوت السابع لا عن عمد.
ص: 311
ومن هذا الباب أيضاً قولهم علیهم السلام : «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِیِّ الْعَظِيمِ»، حيث تدلّ علی أنّ وجود كلّ من الحول والقوّة لا تكونان إلا به تبارك وتعالی، بخلاف ما لو قيل: «لا حول وقوّة إلا بالله العلی العظيم» فإنّها بالمنطوق تدلّ علی أنّ المنفی هو المجموع، وإنّما يستفاد كلّ من الفردين بالإطلاق أو بالقرائن الخارجيّة، قال السيّد الخوئی رحمه الله في مقام ترجيح هذا الوجه من الحمل:
وما ذكره الشيخ متين جداً فإنّهم قد ذكروا أنّ حرف (لا) إذا لم تتكرر يدلّ على أنّ الممنوع هو المجموع، وأمّا إذا تكررت فتدلّ على أنّ الممنوع كلّ واحد من الفردين مستقلاً، ومقتضى الإطلاق يدلّ على الانضمام والاجتماع أيضاً، فإذا قيل لا تجالس زيداً ولا تجالس عمرواً، معناه لا تجالس زيداً بانفراده ولا تجالس عمرواً بانفراده، وإطلاقه يقتضی النهی عن اجتماعهما وانضمامهما، بخلاف ما لو قيل: لا تجالس زيداً وعمرواً فإنّه يدلّ على المنع عن الانضمام، ولا يشمل الانفراد والاستقلال، فقوله: لا يصوم يوم التروية ولا يوم عرفة يدلّ على المنع على الانفراد ولا يشمل ضمّ صوم يوم التروية بيوم عرفة(1).
هذا مع أنّ سائر الوجوه متفرعة علی ثبوت التعارض بخلاف الأولی، زائدة علی ضعف الأخير، لما عرفت من أنّ العامة لم يعتبروا التوالی أصلاً، بل يقول به كيفما اتّفق.
وكيف كان إنّه علی فرض ثبوت التعارض، فحيث كانت الطائفة الأولی من الأخبار قد اتّفق الأصحاب علی الإفتاء بها بخلاف الثانية، فلا تصل النوبة إلی التساقط، نعم لو كانتا متساويتين فكان المرجع له حينئذ هو الأخبار الدالّة علی لزوم التوالی، فلا بدّ له من ان يؤّخر صومه الى بعد أيّام التّشريق، لكنّه يجوز له أن
ص: 312
يجعل أوّل صومه يوم الحصبة وإن كان هو من أيّام التّشريق لما دلّت عليه أخبار كصحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَجِدْ هَدْياً؟ قَالَ: «يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الْحَجِّ يَوْماً قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَتَسَحَّرُ
لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَيَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ جَمَّالُهُ أَ يَصُومُهَا في الطَّرِيقِ؟ قَالَ: إِنْ شَاءَ صَامَهَا في الطَّرِيقِ وَإِنْ شَاءَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»(1).
ثمّ إنّه لو فات منه الصوم في اليوم السابع وصام اليومين بعده، فهل تجب المبادرة إليه فوراً بعد رجوعه من منی، أم يكفی مجرد كونه في طول ذی الحجة؟ الأقوال هنا دائر بين وجوب المبادرة إليه فوراً، وعدمها، فمن القائلين بالأول الفاضل الإصفهانی رحمه الله حيث قال:
والظاهر وجوب المبادرة إلى الثالث بعد زوال العذر وإن أطلقت الأخبار والفتاوى الّتي عثرت عليها، إلّا فتوى ابن سعيد فإنّه قال: صام يوم الحصبة وهو رابع النحر(2).
واستحوط تلميذه في «الجواهر» رحمه الله وقال:
ولا ريب أنّ الأحوط المبادرة بها بعد أيّام التشريق وإن كان الوجوب لا يخلو من نظر بعد إطلاق النصّ والفتوى، بل قد سمعت ما في النصّ من كون المراد من قوله «فِی الْحَجِّ» شهر ذی الحجة، مضافاً إلى ما تسمعه ممّا يدلّ على جواز صومها طول ذی الحجة من النصّ والإجماع وغيرهما، والله العالم(3).
ص: 313
ومن القائلين بعدم وجوب المبادرة إليه فوراً المحقق النراقی رحمه الله حيث قال:
وهل تجب المبادرة إليها بعد التشريق، فإن فات فليصم بعد ذلك، كما نسب إلى ظاهر الأكثر؟ أو لا، بل يجوز التأخير عنه اختياراً أيضاً ما لم يخرج ذو الحجة؟ الظاهر: الثانی، للأصل السليم عمّا يعارضه، سوى أخبار كثيرة قاصرة عن إفادة الوجوب، لمكان الجملة الخبريّة، أو المتضمّنة للأمر بصوم آخر أيّام التشريق، الّذی لا قائل بوجوبه ظاهراً، بل تعارضها فيه أخبار كثيرة أخرى، فيجوز صومها طول ذی الحجّة(1).
التحقيق يقتضی أن لا تكون المبادرة الفورية إليه واجباً لكنّه أحوط، نعم يعتبر أن يكون ذلك في مكة المكرمة وفی طول الشهر، لما دلّت عليه الكريمة المتقدمة: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْیِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) الآية(2)، وظاهر صحيحتي يَحْيَى الْأَزْرَقِ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مُتَمَتِّعاً وَلَيْسَ لَهُ هَدْیٌ فَصَامَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ؟ قَالَ: «يَصُومُ يَوْماً آخَرَ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ»(3)، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِيمَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَ: «يُجْزِيهِ أَنْ يَصُومَ يَوْماً آخَرَ»(4)، لا سيما بعد ما كان الإمام علیه السلام في مقام البيان و سكت عن ذلك معتضداً بأصالة عدم الإشتراط.
ص: 314
هذا كلّه حول الدعوی الأولی، وأمّا الدعوی الثانية الّتي اختارها ابن حمزة الطوسی رحمه الله فالظاهر كونها في غاية البعد، إذ أنّ ما وردت من إطلاقات النّهی عن صوم يوم عرفة كصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: «مَنْ قَوِیَ عَلَيْهِ فَحَسَنٌ إِنْ لَمْ يَمْنَعْكَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ يَوْمُ دُعَاءٍ وَمَسْأَلَةٍ فَصُمْهُ، وَإِنْ خَشِيتَ أَنْ تَضْعُفَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا تَصُمْهُ»(1) ، وموثقة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ وَأَبِی عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ قَالَا: «لَا تَصُمْ في يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَلَا عَرَفَةَ بِمَكَّةَ وَلَا في الْمَدِينَةِ وَلَا في وَطَنِكَ وَلَا في مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَار»(2)، فإنّ القدر المتيقّن منها هو الصوم المندوب، وما نحن بسدده هو الصوم الواجب البدل عن الهدی، وقد يشترط في الأخذ بالإطلاق علی ما بيّن في علم الأصول عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التّخاطب(3)، فلا يمكن لأن نجوز لإفطار يوم الثالث بمجرد احتمال أو خوف ضعفه بالصوم عن الدّعاء، بعد النصوص وإجماعهم علی اعتبار التتابع في الصيام الثلاثة البدل عن الهدی.
إلی هنا تمّ بحمد الله والمنّة ما أردنا أن نبحث عنه في باب «العجز عن الهدی في الحجّ وبيان بدله وشرائطه».
❊ ❊ ❊
ص: 315
ص: 316
ص: 317
ص: 318
إنّ من المحرّمات عند الخاصّة والعامّة بل وعند جميع الشّرائع السّابقة (1) «الرّبا»، قد دلّت علی حرمته الأدلّة الثّلاثة، بل قيل الأدلّة الأربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، وهو عندهم من الكبائر العظام، قد نهی عنه نهياً مغلظاً، أوعد الله عزّ وجلّ مرتكبه بالخلود في النّار(2) و وعيدٍ لا نری مثله في ذنب من الذّنوب، وهو إعلان الحرب من جانبه ورسوله علی هذه الفئة الظالمة(3).
نبحث في هذا الموجز إن شاء الله تعالی عن موضوعه وحكمه وأقسامه، ثمّ نتعرّض لمستثنياته بالتّفصيل عند الفريقين، فنقول وبه نستعين:
ص: 319
«الرّبا» بالمدّ والقصر في اللغة مطلق «الزّيادة» يقال ربا المال يربو، إذا زاد وارتفع، وهو أيضاً «الكثرة» و«الفضل» و«النّماء» و«العلوّ»، يطلق الفضل غالباً بزيادة الكيفی، وغيره من المعانی بزيادة الكمّی أو بكلا الزّيادتين.
وفی الشرع الزّيادة إلا أنّها في خصوص المكيل والموزون إذا عوملت أحد المثلين بالآخر مع زيادة في المقدار وإن تخالفا في الصّفات والخواصّ، وفی مطلق القرض بشرط الزّيادة، يسمّی الأوّل بالرّبا المعاملی والثانی بالقرضی، يبحث عن الأوّل غالباً في ذيل مباحث «التجارة» وعن الثّانی طی مباحث «الدّين والقرض» من الكتب الفقهی.
وبذلك يعلم أنّ النّسبة بين المعنيين عموم وخصوص مطلق، إذ كلّ رباء في مصطلح الفقهاء رباء في لسان اللغويين دون العكس.
قال أحمد بن فارس (م 395 ه-) في «المقائيس»:
الرّاء والباء والحرف المعتل، وكذلك المهموز منه يدلّ على أصل واحد، وهو الزّيادة والنّماء والعُلُوّ، تقول من ذلك: ربا الشّى ءُ يربُو، إذا زاد، و رَبَا الرّابيةَ يَربُوها، إذا علاها، و رَبَا: أصابه الرَّبْو، والرَّبْو: علُوُّ النفَسِ ...، والرَّبوة والرُّبْوة: المكانُ المرتفع، ويقال أَرْبَت الحنطة: زَكَتْ، وهى تُرْبِى، والرِّبْوة بمعنى الرَّبْوة أيضاً، ويقال ربَّيْتُهُ وتربَّيْتُه، إذا غذَوْته، وهذا ممّا يكون على معنيين: أحدهما من الّذى ذكرناه، لأنّه إذا رُبِّى نَما و زكا و زاد، والمعنى الآخر مِن ربّيته من التَّربيب، ويجوز [أن يكون أصل] إحدى الباءات ياءً. والوجهان جيِّدان، والرِّبا فى المال والمعاملة معروف، وتثنيته رِبَوَان و رِبَيَان (1).
ص: 320
وقال ابن أثير (م 606 ه-):
قد تكرر ذكر «الرِّبَا» فى الحديث والأصل فيه الزّيادة، رَبَا المال يَرْبُو رَبْواً إذا زاد وارتفع، والاسم الرِّبَا مقصور، وهو فى الشّرع: الزّيادة على أصل المال من غير عقد تبايع، وله أحكام كثيرة فى الفقه. يقال: أَرْبَى الرجل فهو مُرْبٍ(1).
وقال ابن منظور المصری (م 711 ه-):
«ربا»: رَبا الشّی ءُ يَرْبُو رُبُوّاً و رِباءً: زاد و نما، وأَرْبَيْتُه: نَمَّيته، وفی التّنزيل العزيز: (وَيُرْبِی الصَّدَقاتِ) ومنه أُخِذَ الرِّبا الحَرام؛ قال الله تعالى: (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا في أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) قال أَبو إِسحاق: يَعنی به دَفْعَ الإِنسان الشّی ءَ ليُعَوَّضَ ما هو أَكثرُ منه، وذلك في أكثر التفسير ليس بحرام، ولكن لا ثواب لمن زاد على ما أَخذ، قال: والرِّبا رِبَوانِ: فالحرام كلُّ قَرْض يُؤْخَذُ به أَكثرُ منه أَو تُجَرُّ به مَنْفَعة فحرام، والّذی ليس بحرام أَن يَهَبَه الإِنسان يَسْتَدْعی به ما هو أَكْثَر أَو يُهْدیَ الهَدِيَّة ليُهْدى له ما هو أَكثرُ منها (2).
وقال الفيّومی (م 770 ه-) في «المصباح»:
الرِّبَا: الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ وهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْهرَ و يُثَنَّى (رِبَوَانِ) بالْوَاوِ عَلَى الأَصْلِ وقَدْ يُقَالُ: (رِبَيَانِ) عَلَى التَّخْفِيفِ، وَيُنْسَبُ إلَيْهِ عَلَى لَفْظِهِ فيُقَالُ: (رِبَویٌ) ...، و(رَبَا) الشَّى ءُ يَرْبُو إذَا زَادَ و(أَرْبَى) الرَّجُلُ بالْأَلِفِ دَخَلَ فِى الرِّبَا و(أَرْبَى) عَلَى الْخَمْسَةِ زَادَ عَلَيْهَا، و رَبِیَ الصَّغِيرُ (يَرْبَى) مِنْ بَابِ تَعِبَ، و(رَبَا) (يَرْبُو) مِنْ بَابِ عَلَا إذَا نَشَأَ، ويَتَعَدَّى بالتَّضْعِيفِ فَيُقَالُ: (رَبَّيْتُهُ) (فَتَرَبَّى)، و(الرُّبْوَةُ): الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ بِضَمِّ الرَّاءِ وهُوَ الْأَكْثَرُ والْفَتْحُ لُغَةُ بَنى تَمِيمٍ والْكَسْرُ لُغَةٌ سُمِّيَتْ (رَبْوَةً) لأنها (رَبَتْ)
ص: 321
فَعَلَتْ، والْجَمْعُ (رُبًى) مثْلُ مُدْيَةٍ ومُدًى و(الرَّابِيَةُ) مثْلُهُ وَالْجَمْعُ (الرَّوَابِی)(1).
هذا تعريفه حسب اللغة، وأمّا تعريفة حسب اصطلاح الفقهاء، فقال القاضی ابن براج الطرابلسی رحمه الله (م 481 ه-) في تعريف المعاملی منه:
والرّبا محرم في شرع الإسلام، وهو الفاضل من الشيئين إذا كانا من جنس واحد من المكيلات أو الموزونات، وليس يصحّ الرّبا إلا فيما كان مكيلا أو موزوناً فأمّا ما كان من غير ذلك فلا يدخل فيه.(2)
وقال ابن أدريس الحلي رحمه الله (م 598 ه-):
ولا يكون الرّبا المنهی عنه المحرم في شريعة الإسلام، عند أهل البيت علیهم السلام ، إلا فيما يكال أو يوزن، فأمّا ما عداهما من جميع المبيعات، فلا ربا فيها بحال، لأنّ حقيقة الرّبا في عرف الشّرع، هو بيع المثل من المكيل، أو الموزون بالمثل متفاضلا، نقداً ونسيئة إذا كان البيّعان غير والد و ولد، أو زوج و زوجة، أو مسلم و حربی، أو عبد وسيّده.
وكلّ ما يكال أو يوزن، فإنّه يحرم التفاضل فيه، والجنس واحد، نقداً ونسيئة، مثل بيع درهم بدرهم، وزيادة عليه، ودينار بدينار، وزيادة عليه، وقفيز حنطة بقفيز منها، وزيادة عليه، ومكوك شعير بمكوك منه، وزيادة عليه، وكذلك حكم جميع المكيلات و الموزونات.
وإذا اختلف الجنسان فلا بأس بالتفاضل فيهما نقداً ونسيئة، إلا الدراهم والدنانير، فلا يجوز النسيئة فيهما، لا متماثلا ولا متفاضلا، ويجوز ذلك نقداً متفاضلا، ومتماثلا بغير خلاف بين أصحابنا، لقوله علیه السلام المجمع عليه، إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم، ولولا
ص: 322
الإجماعالمنعقد على تحريم بيع الدنانير والدراهم نسيئة، لجاز ذلك، لأنّه داخل في عموم قوله علیه السلام، فخصصناهما بالإجماع، وبقی الباقی وما عداهما على أصل الإباحة(1) .
وقال العلامة الحلي رحمه الله (م 726 ه-) حيث قال:
وهو لغة: الزيادة، واصطلاحاً: بيع أحد المثلين بالآخر مع الزّيادة (2).
وقد عرّفه زين الدّين العاملی المعروف بالشهيد الثّانی رحمه الله (م 966 ه-) بتعريف كامل جامع حيث قال:
الرّبا - لغة - الزيادة، قال اللّٰه تعالى: (فَلٰا يَرْبُوا عِنْدَ اللّٰهِ)، و- شرعاً - بيع أحد المتماثلين المقدّرين بالكيل أو الوزن في عهد صاحب الشر صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو في العادة بالآخر مع زيادة في أحدهما حقيقة أو حكماً، أو اقتراض أحدهما مع الزّيادة وإن لم يكونا مقدّرين بهما، إذا لم يكن باذل الزّيادة حربيّاً، ولم يكن المتعاقدان والداً مع ولده، ولا زوجاً مع زوجته.
وعلى القول بثبوته في كلّ معاوضة يبدّل البيع بالمعاوضة على أحد المتماثلين، إلى أخره، وقد يعرّف بأنّه زيادة أحد العوضين المتماثلين، إلى أخره، نظراً إلى مناسبة المنقول عنه(3).
ص: 323
وتبعه في ذلك بعض كالمحدّث البحرانی رحمه الله فی: «الحدائق»(1)، والشّيخ محمّد حسن النجفی رحمه الله في «الجواهر» حيث قال:
ليس المراد من الرّبا المحرّم مطلق الزّيادة كما هو معناه لغة، بل المراد
به كما في «المسالك» وغيرها: بيع أحد المتماثلين المقدّرين بالكيل أو الوزن ...، الخ (2).
وقريب منه ما عرّفه الشيخ الميرزا علیّ المشكينی رحمه الله (م 1428 ه-) في ضمن بيان مبسوط حيث قال:
«الرّبا» بالمدّ والقصر في اللغة الزيادة، قال في النهاية: هو في الأصل الزيادة، ربا المال يربو ربواً إذا زاد وارتفع والاسم الرّبا مقصوراً انتهى، وفی المفردات: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت)، أی زادت، والرّبا الزيادة على رأس المال، لكن خصّ في الشرع بالزيادة على وجه دون وجه، ونبّه بقوله: (يمحق اللّه الرِّبَا) أنّ الزّيادة المعقولة المعبر عنها بالبركة مرتفعة عن الرّبا انتهى.
وقد كثر استعمال اللفظ عند الشرع والمتشرعة بحيث صار اصطلاحاً في معنى أخصّ من المعنى اللغوی، قال في المسالك: هو شرعاً بيع أحد المتماثلين المقدرين بالكيل والوزن بالآخر مع زيادة في أحدهما حقيقة أو حكماً، أو اقتراض أحدهما مع الزيادة، وإن لم يكونا مقدرين بهما انتهى، وبالجملة فالرّبا عند الأصحاب على قسمين، معاملی وقرضی، والأوّل هو بيع أحد المتماثلين بالآخر مع زيادة عينية كبيع منّ من الحنطة الجيدة مثلاً بمنين من حنطة ردية أو بمن ودرهم، أو حكمية كبيع منّ من الحنطة نقداً بمنّ منها نسية، فإنّ المبيع زائد على الثمن
ص: 324
بمقدار قيمة المدة فكان البائع أعطى منا ومهلة بمن فهو كمن اعطى منا وربع من بمن ولذا لو باع منا بدراهم نقداً كان أرخص ممّا لو باع بها نسية.
وقد اشترطوا في تحقق موضوع الربّا في هذا القسم أمرين أولهما - اتحاد الجنس المراد به النوع في المقام فان الحبّ مثلا جنس تحته أنواع كثيرة كالحنطة، والأرز، والعدس، والحمص، وغيرها، فافراد كلّ نوع متماثلة وإن اختلفت في الصّفة وكانت أصنافاً كالحنطة الحمراء والبيضاء، وكذا الأرز العنبر والشنبة، فلا ربا لو بيع الحنطة بالأرز أو العدس مع التفاضل.
ثانيهما - كون العوضين من قبيل المكيل والموزون، فلا ربا فيما يباع بالعدّ والمساحة والمشاهدة.
والثانی - أعنی الرّبا القرضی فقد ذكروا أنّه يتحقق فيما إذا أقرض مالاً بشرط الزيادة، بأن يؤدّی المقترض أزيد ممّا اقترضه، كان الاشتراط صريحاً، أو تقارضا مبنيّا عليها، ولا فرق بين كون الزيادة عيناً كاقراض عشرة دراهم باثني عشر، أو عملاً كاشتراط خياطة ثوب على المقترض، أو منفعة أو انتفاعا كاشتراط المقرض الانتفاع بالعين المرهونة على القرض، أو على قرض آخر، أو صفة كاقراض دراهم مكسورة أو ردية بشرط ردّ الصحيحة أو الجيدة، ولا فرق أيضاً بين كون المال المقترض مكيلا أو موزوناً أو غيرهما كالمعتبر بالعدّ والمساحة والمشاهدة، إلی أن قال: وفرعوا على الرّبا القرضی بأنّه إنّما يحرم الزيادة مع الشرط، وأمّا بدونه فلا بأس به بل يستحب للمقترض بذل شی ء زيادة لأنّه من حسن القضاء، وأنّه إنّما يحرم شرط الزيادة على المقترض دون المقرض كما إذا أقرضه عشرة بشرط أن يرد ثمانية، أو بشرط أن يخيط للمقترض ثوبا،
ص: 325
وأنّ حرمة الإقراض مع الزيادة لا يستلزم بطلان أصل القرض فيصحّ الأصل ويبطل الشرط وتحرم الزيادة.(1)
وقال ابن قدامة الحنبلی (م 620 ه-):
الرّبا في اللغة: هو الزّيادة ...، وهو في الشّرع الزّيادة في أشياء مخصوصة(2).
وقال الجزيری (م 1361 ه- ):
ومن البيوع الفاسدة المنهی عنها نهياً مغلظاً «الرّبا» ومعناه في اللغة: الزّيادة، قال الله تعالى: (فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا الْمٰاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أی علت وارتفعت، وذلك معنى الزّيادة فإنّ العلو والارتفاع زيادة على الأرض، وقال تعالى: (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِیَ أَرْبىٰ مِنْ أُمَّةٍ) أی أكثر عدداً.
وأمّا في اصطلاح الفقهاء: فهو زيادة أحد البدلين المتجانسين من غير أن يقابل هذه الزّيادة عوض، ويقسّم إلی قسمين: الأوّل: ربا النسيئة وهو أن تكون الزّيادة المذكورة في مقابلة تأخير الدّفع، و مثال ذلك: ما إذا اشتری إردباً من القمح في زمن الشّتاء بإردب ونصف يدفعها في زمن الصّيف، فإنّ نصف الإردب الّذی زاد في الثمن لم يقابله شیءٌ من المبيع، وإنّما هو في مقابل الأجل فقط ولذا سُمّی ربا النّسيئة أی التّأخير، الثانی: ربا الفضل وهو أن تكون الزّيادة المذكورة مجردة عن التّأخير فلم يقابلها شیءٌ، وذلك كما إذا اشتری إردباً من القمح بإردب
ص: 326
وكيلة من جنسه مقايضة بأن استلم كلّ من البائع والمشتری ماله، وكما إذا اشتری ذهباً مصنوعاً زنته عشرة مثاقيل بذهب مثله قدره مثقالاً (1).
أكثر التعاريف كما تری مخصوصة بخصوص ربا المعاملی في البيع خاصّة ولا يعمّ غيره من المعاوضات علی القول بثبوته في سائر المعاملات كالصّلح وغيره، ولا للقرضی منه، لكن أنّ ما عرّفه الشّهيد الثّانی رحمه الله يعمّ الجميع.
وكيف كان فبعد ما فرغنا من هذه المرحلة نتعرّض لحكمه عند الفريقين:
قد مرّ إجمالا أنّ الرّباء يعدّ من المحرّمات المتّفقة عليه عند فقهاء الفريقين وكذا عند بعض الشرائع السابقة، بل وقد ادّعی كونه من ضروريّات الدّين، فمن أنكر حرمته بعد علمه بذلك فقد خرج عن زمرة المسلمين كمنكر غيره من ضروريّات الدّين مثل الصّلاة والصّوم إذا كان عالماً بوجوبها في الشّريعة المقدسة.
قال الشّيخ رحمه الله (م 460 ه-) في النهاية:
الرّبا محظور في شريعة الإسلامية(2).
وقال العلامة الحلي رحمه الله (م 726 ه-):
الرّبا الزيادة لغة، وفی الشّرع بيع أحد المتساويين جنساً بالآخر مع التفاضل قدراً مع شرائط تأتی، وهو حرام بالنصّ والإجماع(3).
ص: 327
وقال المحدّث البحرانی رحمه الله (م 1186 ه-):
وهو لغة الزيادة ...، وتحريمه ثابت بالكتاب والسّنة والإجماع(1).
وقال الشّيخ محمّد حسن النجفی رحمه الله (م 1266 ه-):
الفصل السّابع في الرّبا المحرّم كتاباً وسنّة واجماعاً من المؤمنين بل المسلمين، بل لايبعد كونه من ضروريّات الدّين فيدخل مستحلّه في سلك الكافرين(2).
وقال الإمام الرّاحل قدس سره :
وقد ثبت حرمته بالكتاب والسّنّة وإجماع من المسلمين بل لا يبعد كونها من ضروريّات الدّين، وهو من الكبائر العظام وقد ورد التّشديد عليه في الكتاب العزيز والأخبار الكثيرة (3).
وقال أستاذنا المعظّم الشّيخ مكارم الشيرازی دام ظّله:
يعتبر تحريم الرّبا من الأحكام الإسلامية المهمّة والّتي لها صدى واسع في الآيات والرّوايات الشّريفة، والكثير من الفقهاء العظام عند ما يبحثون هذه المسألة يكتفون في إثبات حرمة الرّبا بالأدلّة الثلاثة (القرآن، والحديث، والإجماع) في حين أنّ تحريم الرّبا يمكن إثباته دون شكّ بدليل عقلی أيضاً (كما سيأتی بيانه). فعلى هذا تكون الأدلّة على تحريم الرّبا وبيان أهميّة وخطر هذا الذّنب العظيم أربعة، (القرآن، والسنّة، والإجماع، والعقل)(4).
ص: 328
وقال ابن قدامة الحنبلی (م 620 ه-):
الرّبا في اللغة: هو الزّيادة ...، وهو في الشّرع الزّيادة في أشياء مخصوصة، وهو محرّم بالكتاب والسّنة والإجماع ...، وأجمعت الأمّة علی أنّ الرّبا محرّم (1).
وقال الجزيری (م 1361 ه- ):
لا خلاف بين أئمّة المسلمين في تحريم ربا النّسيئة، فهو كبيرةٌ من الكبائر بلا نزاع، وقد ثبت ذلك بكتاب الله تعالی وسنّة رسوله وإجماع المسلمين ...، أمّا ربا الفضل وهو أن يبيع أحد الجنسين بمثله بدون تأخير في القبض فهو حرامٌ في المذاهب الأربعة، ولكن بعض الصّحابة أجازه، ومنهم سيّدنا عبد الله بن عبّاس رضی الله عنهما، علی أنّ بعضهم نقل أنّه رجع عن رأيه أخيراً وقال بحرمته أيضاً(2).
هذه نموذج من أقوال فقهاء الفريقين المطروحة في المقام وإليك دليله من الكتاب والسّنة:
ص: 329
إنّه قد استدلّ علی حرمة الرّبا تارة بالإجماع وضرورة الدّين، وأخری بالكتاب، وثالثة بالأخبار والرّوايات الواردة في المقام، ورابعة بدليل العقل.
أمّا الإجماع فقد نشير إليه عند ذكر أقوال الفقهاء فلا نعيده، أمّا دليله من الكتاب:
قد وردت لفظة الرّبا في اثنتی عشرة آية قرآنية والّتي منها لها أهميّة خاصّة في بحثنا هی قوله تبارك وتعالی: (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا في أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُريدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(1).
وقوله تعالی: (الَّذِينَ يَأكلُونَ الرِّبا لايَقُومُونَ إلّا كما يَقُومُ الَّذِی يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطانُ مِنَ المَسِّ ذلِك بِأَنَّهُم قالُوا إنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَن جائَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهی فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمرُهُ إلَی اللهِ وَمَن عادَ فَاُولئِك أَصحُابُ النّارِ هُم فِيها خالِدُونَ) (2).
وقوله عزّ وجلّ: (يَا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ ذَرُوا ما بَقِیَ مِنَ الرِّبا إن كنتُم مُؤمِنِينَ فَإن لَم تَفعَلوا فَأذَنوا بِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبتُم فَلَكم رُءُوسُ أموالِكم لاتَظلِمُونَ وَلاتُظلَمُونَ)(3).
ص: 330
وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(1).وقوله جلّ وعلا: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ كَثيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَليماً)(2).
وفی فقه الرّضا علیه السلام: «اعْلَمْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ سُحْتٌ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِمَّا قَدْ وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا، وَهُوَ مَحْرَّمٌ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِیٍّ وَفِی كُلِّ كِتَابٍ»(3)، وقد ورد حكم تحريم الرّبا في موضعين من التوراة أيضاً: الأوّل: سِفر لاويان فصل رقم 25، الثانی: سِفر الخروج فصل رقم 22.
أوّل سورة علی حسب ترتيب نزول القرآن ورد فيها ذكر الرّبا سورة «الرّوم» الّتي نزلت بمكة المكرمة، ثمّ جاء ذكره في ثلاثة من السّور المدنی: «البقرة» و«آل عمران» و«النساء»، إلا أنّ الّذی جاء في السورة الرّوم لايمكن أن يستفاد منه الحرمة لكونه واردة بشكل نصيحة أخلاقيّة بأنّ ما زعتم من ازدياد الثروة بالرّبا لايكون كذلك عندالله عزّ وجلّ.
وأمّا الّذی يستفاد من الكريمتين الأخيرتين وإن دلّ علی كونه حراماً علی اليهود، لكن حيث ذكره القرآن من دون أن يستنكره عليه، فنستفيد كونه حكماً إمضائيّاً عنده أيضاً.
ص: 331
والّذی جاء في سورة «آل عمران» فإنّه ناظر إلی تحريم قسم خاصّ من الرّبا وساكتة عن حكم غيره من أقسامه نفياً وإثباتاً، أی الرّبا الجاهلی أو الرّبا المضاعف الّذی من أقبح أنواعه وكان متداولاً في الجاهليّة، وهو أنّ المدين عند ما لايستطيع من أداء دينه في الموعد المقررة له تضاف ربحه إلی رأس ماله السّابق بعنوان قرض جديد ويجعل له مدة أخری بربح آخر زائد عن السّابقوهكذا حتّی تضاعف الدّين الأوّل إلی أضعاف مضاعفة، وتفصيله كما عن ابن عباس:
كان الرّجل منهم إذا حلّ دينه على غريمه فطالبه به، قال المطلوب منه: زدنی في الأجل وأزيدك في المال، فيتراضيان عليه ويعملان به، فإذا قيل لهم: هذا ربا، قالوا: هما سواء، يعنون بذلك أنّ الزيادة في الثمن حال البيع، والزّيادة فيه بسبب الأجل عند محل الدّين سواء، فذمّهم الله به وألحق الوعيد بهم(1).
وأمّا الّذی جاء في سورة «البقرة»، ففی الكريمة الأولی منها تشبّه حال المرابی يوم القيامة بالمصروع أو المجنون الّذی لايستطيع الاحتفاظ والتوازن عند القيام والسير، ثمّ أوعده بالخلود في النّار، وفی الكريمتين آخرتين منها بعد ما أنذر المؤمنين عن أخذ الرّبا، هدّدهم بحرب الله ورسوله عليهم إن لم يتركوا الرّباء، شیء الّذی لا نری مثله في غيره من أقسام الذنوب والمعاصی.
فيستفاد من مجموع الآيات المذكورة أنّ مطلق الرّبا علی نحو القضيّة الحقيقيّة، يعدّ في مقابل جنس البيع أوّلا، وأنّه حرام في الإسلام كما كان حراماً علی اليهود ثانياً، وقد أكد علی تحريمه حتّی أعلن بحرب الله ورسوله علی مرتكبه ثالثاً، وأنّ مستحلّه كافر بالله العظيم رابعاً، ويستحقّ مرتكبه الخلود في
ص: 332
النّار خامساً، زائداً علی ما تقدّم من فقه الرّضا علیه السلام من حرمته عند جميع الشرائع والأمم قبل الإسلام.
إنّ هناك روايات كثيرة متواترة قد دلّت علی حرمة الرّبا وأنّه من المعاملات الإقتصاديّة الظالمة يمكن جعلها علی الأقلّ طیّ إحدی عشر طائفة، وهی:
الطائفة الأولی: ما دلّت علی التّخوف والتّحذر من الرّبا وما سيأتی من آثاره في المستقبل، منها:
مرسلة أَحْمَدَ بْنِ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِی هَذِهِ الْمَكَاسِبُ- الْحَرَامُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ وَالرِّبَا»(1).
وما رواه عن طريق العامّة عن أبی هريرة قال: قال رسول اللّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «لَآتِيَنَّ عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَی مِنهُم ْ أَحَدٌ إلّا أكلَ الرِّبَا فَمَنْ لَمْ يَأكلْ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ»(2).
الطائفة الثانية: ما دلّت علی أنّ الرّبا من موجبات الزلزلة والهلاك والخسوف والنقصان، منها:
ما رواه المحدث النوری رحمه الله مرسلة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: «إِذَا أَكَلَتْ أُمَّتِی الرِّبَا كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ وَالْخَسْفُ»(3).
وما رواه الطبرسی رحمه الله مرفوعاً عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ هَلَاكاً ظَهَرَ فِيهِمُ الرِّبَا»(4).
ص: 333
وما رواه في «المستدرك» مرفوعاً عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: «إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا في قَرْيَةٍ أُذِنَ في هَلَاكِهَا»(1).
والنّبو صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الّذی رواه العامّة في كتبهم الرّوائيّة والتفسريّة عن طريق عمروبن عاص أنّه قال: «مَا مِنْ قَومٍ يَظهَرُ فِيهِمُ الرِّبَا إلَّا اُخِذُوا بِالسِّنَّةِ، وَ مَا مِنْ قَومٍ يَظهَرُ فِيهِمُ الرُّشَا إلَّا اُخِذُوا بِالرُّعبِ»(2).
الطائفة الثالثة: ما دلّت علی أنّ الرّبا من أخبث المكاسب، منها:
موثقة سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «أَخْبَثُ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا»(3).
وما رواه الصدوق رحمه الله مرفوعاً قال: ومن ألفاظ رسول اللّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الموجزة الّتي لم يسبق إليها: «شَرُّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا»(4).
ص: 334
وما رواه أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى في نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْنِی الْجَوَادَ علیه السلام: «السُّحْتُ الرِّبَا»(1).
الطائفة الرابعة: ما دلّت علی كيفيّة حشر المرابين في القيامة، منها:صحيحة هشام عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «لَمَّا أُسْرِیَ بِی إِلَى السَّمَاءِ رَأَيْتُ قَوْماً يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ عِظَمِ بَطْنِهِ، قَالَ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَئِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا»(2).
ومرفوعة الشيخ الطّبرسی في «مجمع البيان» عن البراء بن عازب قال: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ جَالِساً قَرِيباً مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في مَنْزِلِ أَبِی أَيُّوبَ الْأَنْصَارِیِّ، فَقَالَ مُعَاذٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَ رَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (يَوْمَ
يُنْفَخُ في الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوٰاجَاً)(3)، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تُحْشَرُ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ مِنْ أُمَّتِی أَشْتَاتاً قَدْ مَيَّزَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَدَّلَ صُوَرَهُمْ، فَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدِةِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَعْضُهُمْ مُنَكَّسُونَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ فَوْقُ وَوُجُوهُهُمْ مِنْ تَحْتُ ثُمَّ يَسْحَبُونَ عَلَيْهَا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْمُنَكَّسُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَأَكَلَةُ الرِّبَا»(4).
ص: 335
وعن أبی هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «اَتَيتُ لَيْلَةَ أُسْرِیَ بِی عَلَی قَوْمٍ بُطُونُهُم كالبُيُوتِ فِيهَا الحَيَّاتُ تُرَی مِن خَارِجِ بُطُونِهِم، فَقُلتُ: مَن هَؤُلَاءِ يَا جَبرَائِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أكلَةُ الرِّبَا»(1).
الطائفة الخامسة: ما دلّت علی أنّ الرّبا من الموبقات والكبائر العظام، منها:
صحيحة محمّد بن سنان أنّ عَلِیَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا علیه السلام كَتَبَ إِلَيْهِ فِيمَا كَتَبَ مِنْ جَوَابِ مَسَائِلِهِ: «وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا لِمَا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ فَسَادِ الْأَمْوَالِ ...، وَهِیَ كَبِيرَةٌ بَعْدَ الْبَيَانِ وَتَحْرِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا»، الحديث(2).
وما رواه في «الخصال» بإسناده عن أبی هريرة أنّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: «اجْتَنِبُوا
السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّی يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ»(3).
وما حكاه في فقه الرّضا علیه السلام: «اعْلَمْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ سُحْتٌ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِمَّا قَدْ وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا، وَهُوَ مَحْرَّمٌ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِیٍّ وَفِی كُلِّ كِتَابٍ»(4).
ص: 336
وما رواه أبوحيّان الأندلسی الشّافعی في تفسيره عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: «إنَّ أَكْلُ الرِّبَا مِنَ السَّبعِ الْمُوبِقَاتِ»(1).
الطائفة السادسة: ما لعن فيها الرّبا وجميع المرتبطين به، منها:
خبر زيد بن علیّ عن آبائه عن علیّ علیه السلام أنّه قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الرِّبَا وَآكِلَهُ وَبَائِعَهُ وَمُشْتَرِيَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ»(2).وما رواه في عقاب الأعمال بإسناده الّذی ذكره في عيادة المريض عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديث أنّه قال: «وَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا مَلَأَ اللَّهُ بَطْنَهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ وَإِنِ اكْتَسَبَ مِنْهُ مَالًا لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ وَلَمْ يَزَلْ في لَعْنَةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا كَانَ عِنْدَهُ قِيرَاطٌ»(3).
والنّبوی صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الّذی رواه عبدالله بن مسعود: «لَعَنَ اللهُ آكلَ الرِّبَا، وَ مُؤْكِلَهُ وَشَاهِدَهُ، وَكاتِبَهُ»(4).
الطائفة السابعة: ما دلّت علی أنّ الرّبا يمنع من قبول الصّلاة بل من جميع الأعمال، منها:
ص: 337
ما رواه المحدّث النوری رحمه الله مرفوعة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ خَمْسَةِ نَفَرٍ: الآبِقِ مِنْ سَيِّدِهِ، وَامْرَأَةٍ لَا يَرْضَى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَمُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَالْعَاقِّ، وَآكِلِ الرِّبَا»(1).
وفی صحيحة أبی بصير قال سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ، فَإِنْ قُبِلَتْ قُبِلَ مَا سِوَاهَا» الحديث(2).وما رواه في «عقاب الأعمال» بإسناده الّذی ذكره في عيادة المريض عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديث أنّه قال: «وَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا مَلَأَ اللَّهُ بَطْنَهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ وَإِنِ اكْتَسَبَ مِنْهُ مَالًا لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ وَلَمْ يَزَلْ في لَعْنَةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا كَانَ عِنْدَهُ قِيرَاطٌ»(3).
الطائفة الثامنة: ما دلّت علی أنّ الرّبا يوجب الكفر ومحق الدّين، منها:
صحيحة زرارة عن أبی عبدالله علیه السلام قال: قلت له: إِنِّی سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِی الصَّدَقاتِ)، وَقَدْ أَرَى مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا يَرْبُو مَالُهُ، فَقَالَ: «أَیُّ مَحْقٍ أَمْحَقُ مِنْ دِرْهَمٍ رِبًا؟ يَمْحَقُ الدِّينَ وَإِنْ تَابَ مِنْهُ ذَهَبَ مَالُهُ وَافْتَقَرَ»(4).
وما رواه علیّ بن إبراهيم في تفسيره مرفوعاً في بيان قوله تعالی: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِی الصَّدَقاتِ)، قال: قيل للصّادق علیه السلام: قَدْ نَرَی الرَّجُلَ يُرْبِی وَمَالُهُ يَكثُرُ، فقال: «يَمْحَقُ اللَّهُ دِينَهُ، وَإنْ كانَ مَالُهَ يَكثُرُ»(5).
ص: 338
الطائفة التاسعة: ما دلّت علی أنّ الرّبا أعظم من الزّنا بذات محرم عندالله عزِ وجلّ، منها:
صحيحة هشام بن سالم عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «دِرْهَمٌ رِبًا أَشَدُّ مِنْ سَبْعِينَ زَنْيَةً كُلُّهَا بِذَاتِ مَحْرَمٍ»(1).وصحيحة أبی بصير عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «دِرْهَمٌ رِبًا أَشَدُّ مِنْ ثَلَاثِينَ زَنْيَةً كُلُّهَا بِذَاتِ مَحْرَمٍ مِثْلِ عَمَّةٍ وَخَالَةٍ»(2).
وصحيحة سعيد بن يسار قال: قال أبوعبدالله علیه السلام: «دِرْهَمٌ وَاحِدٌ رِبًا أَعْظَمُ مِنْ عِشْرِينَ زَنْيَةً كُلُّهَا بِذَاتِ مَحْرَمٍ»(3).
وصحيحة جميل بن درّاج عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «دِرْهَمٌ رِبًا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سَبْعِينَ زَنْيَةً كُلُّهَا بِذَاتِ مَحْرَمٍ فِي بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ»(4).
والنّبوی صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الّذی رواه العامة في مجامعهم عن طريق أبی هريرة أنّه قال: «الرِّبَا سَبْعُونَ حُوباً أيْسَرُهَا مِثْلَ أنْ يَنْكحَ الرَّجُلُ أمَّهُ»(5).
ص: 339
الطائفة العاشرة: ما دلّت علی ثبوت قتل مستحلّ الرّبا، منها:
موثقة عبدالله بن بكير قال: بَلَغَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرِّبَا وَيُسَمِّيهِ اللِّبَأَ، فَقَالَ: «لَئِنْ أَمْكَنَنِی اللَّهُ مِنْهُ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ»(1).وما رواه علیّ بن إبراهيم القمّی في تفسيره مرفوعاً عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في قوله تعالی: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِیَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(2)، فَإِنَّهُ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَّلَ اللَّهُ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) الْآيَةَ( (3)، فَقَامَ خَالِدُ بْنُ وَلِيدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رِبَا أَبِی في ثَقِيفٍ وَقَدْ أَوْصَانِی عِنْدَ مَوْتِهِ بِأَخْذِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِیَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)(4) قَالَ: «مَنْ أَخَذَ الرِّبَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ»(5)، إذ القدر المتيقن منه بقرينة ما جاء في الموثقة: ويسمّيه اللّباء، هو من أخذ الرّباء مستحلاً.
الطائفة الحادية عشر: ما دلّت علی أنّ عاقبة المرابی النّار، منها:
ص: 340
مرفوعة القطب الرّاوندی في «لبّ اللباب» عن علیّ علیه السلام أنّه قال: «خَمْسَةُ أَشْيَاءَ تَقَعُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ وَلَا بُدَّ لِتِلْكَ الْخَمْسَةِ مِنَ النَّارِ: مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا، وَلَا بُدَّ لِآكِلِ الرِّبَا مِنَ النَّارِ»(1).
وما رواه في «عقاب الأعمال» بإسناده الّذی ذكره في عيادة المريض عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديث أنّه قال: «وَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا مَلَأَ اللَّهُ بَطْنَهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ بِقَدْرِ مَا أَكَلَوَإِنِ اكْتَسَبَ مِنْهُ مَالًا لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ وَلَمْ يَزَلْ في لَعْنَةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا كَانَ عِنْدَهُ قِيرَاطٌ»(2).
وما رواه العامة في مسانيدهم عن طريق عبدالله بن مسعود عن أبيه عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: «مَا ظَهَرَ في قَوْمٍ الرِّبا وَالزِّنا إلّا أحَلُّوا بِأنفُسِهِم عِقَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(3).
والأخبار الواردة في المقام لا تنحصر بذلك، وهی كما تری كثيرة متواترة، فيها صحاح وغير صحاح علی وجه يغنينا عن البحث حول أسانيدها، قد رواها الفريقين في مجامعهم الرّوائيّة والتفسريّة، تنادی بأعلی صوتها بأنّ الرّبا من أخبث المكاسب، وأنّه من الموبقات والكبائر العظام، يوجب لعن الله وملائكته و رسوله علی جميع المرتبطين به، يمنع من قبول الصلاة والأعمال، يوجب الكفر ومحق الدّين، أعظم من الزنية بذات محرم، قد أوجب الله عزّ وجلّ علی مستحلّه القتل، وأنّ مآله إلی النّار والجهيم.
ص: 341
ثمّ إنّه قد استدلّ علی حرمة «الرّباء» أيضاً بدليل العقل، وذلك لتعبير القرآن(1) عنه بكونه من مصاديق أكل المال بالباطل ومن المصاديق البارزةللظلم، وأنّ قبحه من المستقلات العقليّة الّتي كلّما حكم العقل به حكم الشرع بحرمته، قد استدلّ به أستاذنا المعظّم الشّيخ مكارم الشيرازي دام ظّله، حيث قال:
بما أنّ الرّبا من المصاديق البارزة للظلم - وسيأتي شرح هذا الموضوع في بحث حكمة تحريم الرّبا - بل إنّ الرّبا من أفحش أنواع الظلم وأشدّه، وحرمة الظلم من المستقلّات العقلية، فعلى هذا يكون الرّبا قبيحاً عقلاً وحراماً. مضافاً إلى أنّ الرّبا مصدر لمفاسد كثيرة والّتي يستقلّ العقل بقبحها أيضاً، وبذلك يكون الرّبا حراماً عقلاً من هذه الجهة أيضاً، فمن ينكر أنّ الكثير من الأفراد قد تحطمت معيشتهم على صخرة الرّبا، بل إنّ بعض المجتمعات أيضاً لم تسلم من شرره وسمومه، فوقعت ضحية القروض الربوبية، وفقدت كلّ ما تملك بسببه، حتّى إنّ الكثير من بلدان عالمنا الثالث في عصرنا الحاضر قد وقعت أسيرة في حبائل المرابين العالميّين، وأمسى كلّ شيء لديهم من
ص: 342
اقتصاد غيره في خطر محدق. والنتيجة لما تقدّم من الأبحاث أنّ الرِّبا حرام بالأدلّة الأربعة (1).
والتحقيق أنّ إثبات حرمة الرّبا بدليل العقل هو أوّل الكلام، لا سيّما بملاحظة ما سيأتی من أنّ من أقسامه، الرّبا المعاملی الّذی يعدّونه العرف بنظرهم لولا حكم الشرع بحرمته نوعاً من البيع المشروع، ولا يكون قبحه عندهمبمثابة الرّبا القرضی، ومن المعلوم أنّ المراد من الظلم في الآيات المستدلّ بها في المقام كان كالمراد منه في الأدعية والمناجاة في مقام طلب المخلوق التوبة من ربّه جلّ وعلاه(2)، لا الظلم بمعنی ما يستفاده العقلاء بما هم عقلاء، نعم بعد ما حكم الشرع بكون شیء حراماً أو واجباً فمن تجاوز عنه من المؤمنين بعد علمه بذلك، حكم العقل بكونه تعدّی حداً من حدود الله تعالی، لكنّه ليس من المستقلات العقليّة الّتي كلّما حكم العقل بقبح شیء حكم الشرع بحرمته، فالأقوی بل المتعيّن أن نستدلّ علی حرمة الرّبا هنا بالأدلّة الثلاثة فقط.
فإلی هنا تمّ الكلام في أدلّة حرمة الرّبا من الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل، وأمّا أقسامه فنقول:
ص: 343
ينقسم الرّباء عند الفريقين علی قسمين: معاملی، وقرضی، فالأوّل هو بيع أحد المتماثلين بالآخر مع زيادة عينيّة أو حكميّة، وقد اشترطوا في تحقّق موضوع الرّباء في هذا القسم أمرين: اتّحاد الجنس، وكون العوضين من قبيل المكيل أو الموزون، فعليه لا رباء فيما يباع بالعدّ أوالمساحة أوالمشاهدة.
والثانی: أی الرّبا القرضی فقد ذكروا أنّه يتحقّق فيما إذا أقرض مالاً بشرط الزيادة، سواء اشتراطا الزيادة صريحاً، أو تقارضا مبنيّاً عليها.
قال الشهيد رحمه الله في «المسالك»:
و(هو) شرعاً بيع أحد المتماثلين المقدّرين بالكيل أو الوزن في عهد صاحب الشر صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو في العادة بالآخر مع زيادة في أحدهما حقيقة أو حكماً، أو اقترض أحدهما مع الزيادة وإن لم يكونا مقدّرين بهما(1).
وقال الإمام الراحل قدس سره :
وهو قسمان: معاملی وقرضی، أمّا الأوّل فهو بيع أحد المثلين بالآخر مع زيادة عينيّة كبيع منّ من الحنطة بمنّين منها، أو بمنّ ودرهم، أو حكميّة كمنّ منها نقداً بمنّ منها نسيئة، والأقوی عدم اختصاصه بالبيع، بل يجری في سائر المعاملات كالصلح ونحوه، وشرطه أمران: الأوّل: اتّحاد الجنس عرفاً ...، الثانی: كون العوضين من المكيل أو الموزون، فلا ربا فيما يباع بالعدّ أو المشاهدة(2).
وقال ابن قدامة الحنبلی:
والرّبا علی ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة، وأجمع أهل العلم علی
ص: 344
تحريمهما ...، ثمّ اتّفق أهل العلم علی أنّ ربا الفضل لا يجری إلا في الجنس الواحد(1).
فبعد ما فرغنا من البحث حول موضوع «الرّبا» وحكمه وأقسامه، نبحث عن مستثنياته فنقول:
قد عرفت حرمة «الرّباء» بالأدلّة الثلاثة أو قيل بالأدلّة الأربعة، وأنّه محرّم عند الفريقين، بل وعند جميع المذاهب والشرائع، هذا بحسب حكمه الشرعی الأوّلی، لكنّه قد ارتفع حكمه عندنا في موارد لتبدّل موضوعه أو نفيه بحكم الشارع في مصاديق خاصّة من باب الحكومة والتصرف في عقد الوضع، أو من باب التنزيل الحكمی التعبّدی والتصرف في عقد الحمل(2)، قال السيّد المرتضی رحمه الله :
وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّه لا ربا بين الولد ووالده، ولا بين الزوج وزوجته، ولا بين الذمّی والمسلم، ولا بين العبد ومولاه، وخالف باقی الفقهاء في ذلك وأثبتوا الرّبا بين كلّ من عدّدناه، وقد كتبت قديماً في جواب مسائل وردت من الموصل وتأوّلت الأخبار الّتي يرويها أصحابنا المتضمّنة لنفی الرّبا بين ما ذكرناه علی أنّ المراد بذلك وإن كان بلفظ الخبر معنی الأمر كأنّه قال: يجب أن لا يقع بين من ذكرنا ربا
ص: 345
كما قال تعالی: (وَمَن دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(1)، وكقوله تعالی: (فَلا رَفَثَوَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ في الحَجِّ)(2)، ...، واعتمدنا في نصرة هذا المذهب علی عموم ظاهر القرآن، ثمّ لمّا تأمّلت ذلك (الأخبار) رجعت عن هذا المذهب لأنّی وجدت أصحابنا مجمعين علی نفی الرّبا بين ما ذكرنا وغير مختلفين فيه في وقت من الأوقات، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنّه حجّة ويختصّ به ظاهر القرآن(3).
وقال الإمام الراحل قدس سره في «التحرير»:
لا ربا بين الوالد وولده، ولا بين الرّجل وزوجته، ولا بين المسلم والحربی، بمعنی أنّه يجوز أخذ الفضل للمسلم، ويثبت بين المسلم والذمّی، هذا بعض الكلام في الرّبا المعاملی، وأمّا القرضی فيأتی الكلام فيه إن شاءالله تعالی(4).
ثمّ قال في مبحث القرض منه:
إنّما تحرم الزّيادة مع الشرط وأمّا بدونه فلا بأس، بل تستحب للمقترض حيث إنّه من حسن القضاء وخير النّاس أحسنهم قضاءً، بل يجوز ذلك إعطاءً وأخذاً لو كان الإعطاء لأجل أن يراه المقرض حسن القضاء فيقرضه كلّما احتاج إلی الاقتراض، أو كان الإقراض لأجل أن ينتفع من المقترض لكونه حسن القضاء، ويكافئ من أحسن إليه بأحسن الجزاء بحيث لولا ذلك لم يقرضه، نعم يكره أخذه للمقرض خصوصاً إذا كان
ص: 346
إقراضه لأجل ذلك، بل يستحب أنّه إذا أعطاه شيئاً بعنوان الهدية ونحوها يحسبه عوض طلبه، بمعنی أنّه يسقط منه بمقداره(1).
وقال محيی الدّين النووی الشّافعی في ضمن بيان مبسوط:يستوی في تحريم الرّبا الرّجل والمرأة، والعبد والمكاتب بالإجماع، ولا
فرق في تحريمه بين دارالإسلام ودارالحرب، فما كان حراماً في دارالإسلام كان حراماً في دارالحرب، سواء جری بين مسلمَين أو مسلم وحربیّ، سواء دخلها المسلم بأمان أم بغيره، هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وأبويوسف والجمهور، وقال أبوحنيفة: لا يحرم الرّبا في دارالحرب بين المسلم وأهل الحرب، ولا بين مسلمَين لم يهاجرا منها، وإذا باع مسلمٌ لحربیّ في دارالحرب درهماً بدرهمين، أو أسلم رجلان فيها ولم يهاجرا فتبايعا درهماً بدرهمين جاز، واحتجّ له بما روی عن مكحول عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: «لا ربا بين مسلم وحربیّ في دارالحرب»، ولأنّ أموال أهل الحرب مباحة بغير عقد، فالعقد الفاسد أولی.
واحتجّ أصحابنا بعموم القرآن والسّنّة في تحريم الرّبا من غير فرق، ولأنّ ما كان ربا في دارالإسلام كان ربا محرّماً في دارالحرب كما لو تبايعه مسلمان مهاجران، وكما لو تبايعه مسلم وحربیّ في دارالإسلام، ولأنّ ما حرم في دارالإسلام حرم هناك كالخمر وسائر المعاصی، ولأنّه عقد علی مالا يجوز في دارالإسلام فلم يصحّ كالنكاح الفاسد هناك.
والجواب عن حديث مكحول أنّه مرسل ضعيف فلا حجّة فيه، ولو صحّ لتأوّلناه علی أنّ معناه لا يباح الرّبا في دارالحرب جمعاً بين الأدلّة، وأمّا قولهم: أنّ أموال الحربی مباحة بلا عقد، فلا نسلّم هذه الدّعوی إن دخلها المسلم بأمان، فإن دخلها بغير أمان فالعلّة منتقضة كما إذا دخل
ص: 347
الحربی دارالإسلام فبايعه المسلم فيها درهماً بدرهمين، وإنّه لا يلزم من كون أموالهم تباح بالاغتنام استباحتها بعقد الفاسد، ولهذا تباح ابضاع نسائهم بالسّبی دون العقد الفاسد(1).فبعد ما عرفت بعض ما ذكروه في المقام، نبحث عن كلّ واحد واحد من مستثنياته بصورة مستقلّة، وهی عبارة عن:
إنّ من أوضح موارد رفع التكاليف بالنسبة إلی كلّ مكلّف هو رفعها عند الاضطرار ونحوه، كمن اضطرّه حفظ النفس المحترمة وأمثاله إلی المعاملات الربويّة أو غيرها من المحرمات، ففی الصحيح عن أبی بصير عن أبی عبدالله علیه السلام: «لَيْسَ شَیْ ءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا وَقَدْ أَحَلَّهُ لِمَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ»(2).
أجمع الأصحاب علی نفی الرّبا بين الوالد وولده، وفی «الانتصار» كما مرّ أنّه من متفردات الإماميّة، حيث قال:
وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّه لا ربا بين الولد ووالده، ولا بين الزوج وزوجته، ولا بين الذمّی والمسلم، ولا بين العبد ومولاه، وخالف باقی الفقهاء في ذلك وأثبتوا الرّبا بين كلّ من عدّدناه(3).
وقال العلامة رحمه الله في «المختلف»:
ص: 348
لا ربا بين الوالد وولده، ولا بين الرّجل وزوجته، ذهب إليه علمائنا غير أنّ ابن الجنيد فصّل فقال: لا ربا بين الوالد وولده إذا أخذ الوالد الفضل(1).وفی «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : لا ربا بين الوالد وولده ويجوز لكلّ منهما أخذ الفضل من صاحبه، ولا بين المولی ومملوكه، ولا بين الرّجل وزوجته، قال:
إجماعاً محكيّاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً، صريحاً وظاهراً، بل يمكن تحصيله، إذ لا خلاف فيه إلا من المرتضی في الموصليّات، لكن في الانتصار بعد أن ذكر ممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّه لا ربا بين الوالد والده، ولا بين الزوج وزوجته، ولا بين الذمّی والمسلم، ولا بين العبد ومولاه، وخالف باقی الفقهاء، قال: وقد كتبت قديماً في جواب مسائل وردت علیّ من الموصل وتأوّلت الأخبار الّتي يرويها أصحابنا المتضمّنة لنفی الرّبا بين ما ذكرناه علی أنّ المراد بذلك وإن كان بلفظ الخبر معنی الأمر كأنّه قال: يجب أن لا يقع بين من ذكرنا ربا كما قال تعالی: (وَمَن دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(2)، وكقوله تعالی: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ في الحَجِّ)(3)، ...، واعتمدنا في نصرة هذا المذهب علی عموم ظاهر القرآن، ثمّ لمّا تأمّلت ذلك (الأخبار) رجعت عن هذا المذهب لأنّی وجدت أصحابنا مجمعين علی نفی الرّبا بين ما ذكرنا وغير مختلفين فيه في وقت من الأوقات، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنّه حجّة ويختصّ به ظاهر القرآن، ثمّ قال: وهو كما تری بعد اعترافه
ص: 349
بالخطا وأنّه مخالف للإجماع في فتواه السابقة، لا يقدح في تحصيل الإجماع، بل هو مؤكد له(1).وكيف كان إنّه قد استدلّ علی ذلك زائداً علی الإجماع المدّعی ببعض روايات وردت في المقام، منها:
موثقة بل صحيحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: «لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَلَدِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَلَا بَيْنَ أَهْلِهِ رِبًا»، الحديث(2).
رجال السند كلّهم من الإماميين وأكثرهم من الثقات والأجلاء، وهم: محمّد بن يحيی العطار القمّی، ومحمّد بن أحمد بن يحيی بن عمران الأشعری، ومحمّد بن عيسی بن عبيد، وياسين الضرير البصری، وحريز بن عبدالله السجستانی، وزرارة بن أعين الشيبانی، فأمّا محمّد بن يحيی العطار القمّی فهو من أصحاب الكاظم علیه السلام كان ثقة جليلاً كثير الرواية، قال النّجاشی في ترجمته:
محمّد بن يحيی أبوجعفر العطار القمّی: شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة، عين، كثير الحديث، له كتب، منها: كتاب مقتل الحسين علیه السلام، وكتاب النوادر، أخبرنی عدّة من أصحابنا عن ابنه أحمد عن أبيه بكتبه(3).
وقال السيّد الخوئی رحمه الله في عدد أحاديثه:
محمّد بن يحيی أبوجعفر وقع بهذا العنوان في أسناد كثير من الرّوايات، تبلغ خمسة آلاف وتسعمائة وخمسة وثمانين مورداً (4).
ص: 350
وأمّا محمّد بن أحمد بن يحيی بن عمران الأشعری: فإنّه أيضاً كثير الرواية وكان من الثقات والأجلاء، لكنّه قيل فيه: إنّه يروی عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالی عمّن أخذه، فلا يعتمدوا برواياته الّتي فيها غلو، أو ما كان في طريقهمحمّد بن عيسی بن عبيد بإسناد منقطع، الّذی ليس هنا منه، وكيف كان إنّه لا يوجب طعناً في شخصه.
قال الشيخ رحمه الله في ترجمته:
محمّد بن أحمد بن يحيی بن عمران الأشعری القمّی: جليل القدر، كثير الرّوايات، له كتاب نوادر الحكمة وهو يشتمل علی كتب جماعة ...، العدد اثنان وعشرون كتابا، أخبرنا بجميع كتبه ورواياته عدّة من أصحابنا ...، وقال أبوجعفر بن بابويه: إلا ما كان فيها من غلو أو تخليط وهو الّذی يكون طريقه محمّد بن موسی الهمدانی، أو يرويه عن رجل، أو عن بعض أصحابنا، أو يقول: و روی أو يرويه عن محمّد بن يحيی المعاذی، أو عن أبی عبدالله الرّازی الجامورانی، أو عن السيّاری، أو يرويه عن يوسف بن السخت، أو عن وهب بن منبه، أو عن أبی علیّ النيشابوری، أو أبی يحيی الواسطی، أو محمّد بن علیّ الصيرفی، أو يقول: وجدت في كتاب ولم أروه، أو عن محمّد بن عيسی بن عبيد بإسناد منقطع ينفرد به(1).
وقال العلامة رحمه الله في رجاله:
محمّد بن أحمد بن يحيی بن عمران بن عبدالله [سعد الله خ ل] بن سعد بن مالك الأشعری القمّی أبوجعفر، كان ثقة في الحديث، جليل
ص: 351
القدر، كثير الرّواية إلا أنّ أصحابنا قالوا: إنّه يروی عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، ولا يبالی عمّن أخذ، وما عليه في نفسه طعن في شیء(1).
وأمّا محمّد بن عيسی بن عبيد: فهو أيضاً من الثقات والأجلاء، قال النجاشی في ترجمته:محمّد بن عيسی بن عبيد بن يقطين بن موسی مولی أسد بن خزيمة، أبو جعفر جليل في (من) أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرّواية، حسن التصانيف، روی عن أبی جعفر الثانی علیه السلام مكاتبة ومشافهة، وذكر أبوجعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنّه قال: ما تفرّد به محمّد بن عيسی من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه، ورأيت أصحابنا ينكرون هذا القول ويقولون: من مثل أبی جعفر محمّد بن عيسی؟ ...، قال أبوعمرو: قال القتيبی: كان الفضل بن شاذان رحمه الله يحبّ العبيدی ويثنی عليه ويمدحه ويميل إليه، ويقول: ليس في أقرانه مثله، وبحسبك هذا الثناء من الفضل رحمه الله(2).
وأمّا ياسين الضرير البصری وإن لم يرد له توثيقٌ صريحٌ في كتب الرّجال فيمكن أن يقال بأنّه ثقة أيضاً علی التّحقيق.
بيان ذلك:
أمّا أوّلاً: إنّ الّذی روی عن الضّرير هو محمّد بن عيسی بن عبيد الثّقة ومن البعيد عادتاً أن يكون شيخه لا أقلّ غير موثوق عند شخصه، لأنّ الظاهر أنّ رواية الثقة الجليل عن شخص يدلّ على كونه موثّقاً معتمداً عليه عند ذلك الثقة، وإن جهلنا حاله.
ص: 352
وثانياً: علی فرض عدم توثيق الضّرير بواسطه نقل محمّد بن عيسی فالخبر لا الرّاوی لا أقلّ يكون موثوقاً عند الكلينی رحمه الله لما شهد في مقدمة كتابه بأنّ ما فيه من الأخبار والأحاديث وارداً من ناحية الصّادقين:(1)، مع وضوح أنّ المعيارفي قبول الخبر عند الأصحاب هو وثاقة الخبر لا الرّاوی وأنّ وثاقة الرّاوی طريق إلی وثاقته.
وثالثاً: إنّ الرّواية حيث كانت في مرأی ومنظر الأصحاب وقد أفتی كثير منهم بل كلّهم علی مضمونها فهو دليل علی صحّتها، قد اشتهر: أنّ الرّواية كلّما ازدادت ضعفاً إذا عمل بها الأصحاب ازدادت قوّة، قال النائينی رحمه الله :
وأمّا الشهرة العملية: فهی عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى، وهذه الشهرة هی الّتي تكون جابرة لضعف الرّواية وكاسرة لصحتها إذا كانت الشّهرة من قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور، لمعرفتهم بصحة الرّواية وضعفها، ولا عبرة بالشّهرة العملية إذا كانت من المتأخرين، خصوصاً إذا خالفت شهرة القدماء(2).
ورابعاً: وهو العمدة تصريح العلامة رحمه الله بتصحيح أخبار الّتي كانت أسنادها موثوقاً إذا كان أحدهم ياسين الضّرير، حيث قال:
اعلم أنّ الشيخ الطوسی رحمه الله ذكر أحاديث كثيرة في كتاب التهذيب والاستبصار عن رجال لم يلق زمانهم وإنّما روى عنهم بوسائط وحذفها في الكتابين ثمّ ذكر في آخرهما طريقه إلى كلّ رجل رجل ممّا ذكره في الكتابين، وكذلك فعل الشيخ أبو جعفر ابن بابويه ونحن نذكر في هذه
ص: 353
الفائدة على سبيل الإجمال صحة طرقهما إلى كلّ واحد واحد ممّن يوثق به، أو يحسن حاله، أو وثق وإن كان على مذهب فاسد ولم يحضرنی حاله دون من ترد روايته ويترك قوله وإن كان فاسد الطريق ذكرناه، وإن كان في الطريق من لا يحضرنا معرفة حاله من جرح أو تعديل تركناه أيضاً كلّ ذلك على سبيل الإجمال، إذ التفصيل موكولإلى كتابنا الكبير، وإنّما قصدنا ذلك للاختصار ولبلوغ الغاية بمعرفة صحة طرقهما وفسادها بذلك، فطريق الشيخ الطوسی رحمه الله في التهذيب ...، عن ياسين الضرير البصری صحيح(1).
وقد حكی المحقق الحائری رحمه الله :
وقال المحقّق الداماد رحمه الله : قد علم من المعهود من ديدن النجاشی أنّه (ياسين الضرير البصری) إمامی مستقيم المذهب لنقله ما نقله من غير غميزة عليه في دينه، وليس فيه من أئمّه الرجال مدح ولا ذمّ، فإنّ حديثه قوی(2).
فكلّ واحد من هذه الأمور علی حدّه فإن لم يكن دليلاً علی واثقة الخبر أو الرّاوی، فاجتماعها في مورد واحد علی الأقلّ يوجبها قطعاً !
وأمّا حريز بن عبدالله السجستانی: فهو أيضاً إمامی ثقة، قال الشيخ رحمه الله في ترجمته:
حريز بن عبدالله السجستانی: ثقة، كوفی، سكن سجستان، له كتب منها: كتاب الصلاة، كتاب الصوم، كتاب النوادر، تعدّ كلّها في الأصول، أخبرنا بجميع كتبه ورواياته الشيخ أبوعبدالله محمّد بن محمّد النعمان المفيد رحمه الله عن جعفربن محمّد بن قولويه عن أبی
ص: 354
القاسم جعفربن محمّد العلوی الموسوی عن ابن نهيك عن ابن أبی عمير، عن حمّاد، عن حريز، وأخبرنا عدّة من أصحابنا عن محمّد بن علیّ بن الحسين عن أبيه عن سعد بن عبدالله، وعبدالله بن جعفر، ومحمّد بن يحيی، وأحمد بن إدريس، وعلّی بن موسی بن جعفر كلّهم عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد، وعلّی بن حديد،وعبدالرّحمن بن أبی نجران عن حمّاد بن عيسی الجهنی عن حريز، وأخبرنا الحسين بن عبيدالله عن أبی محمّد الحسن بن حمزة العلوی عن علیّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز(1).
وأمّا زرارة بن أعين الشيبانی: الّذی اسمه عبد ربّه، ولقبه زرارة، يكنّی بأبی علیّ وأبی الحسن، وكان من عيون أصحاب الإمامين الصّادقين عليهما السّلام وأكابر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً ومعرفة بالكلام، وتوفّی عام 150 ه- ، وردت في مدحه روايات دلّت علی سموّ مكانته وجلالة شأنه عند الأئمة علیهم السلام ، قال الكشی رحمه الله في ترجمته:
حدّثنا الحسين بن الحسن بن بندار القمیّ، قال: حدّثنی سعد بن عبدالله بن أبی خلف القمیّ، قال: حدّثنی محمّد بن عبدالله المسمعیّ، قال: حدّثنی علّی بن حديد وعلّی بن أسباط، عن جميل بن درّاج، قال: سمعت أباعبدالله علیه السلام يقول: «أَوْتَادُ الْأَرْضِ وَأَعْلَامُ الدِّينِ أَرْبَعَةٌ: مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَبُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَلَيْثُ بْنُ الْبَخْتَرِیِّ الْمُرَادِیُّ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَعْيَنَ»(2).
وقال حسن بن علیّ بن داود الحلي رحمه الله في رجاله:
ص: 355
زرارة بن أعين الشيبانی مولاهم أبو علیّ اسمه عبد ربه، وكان أعين بن سنسن، بالمهملتين المضمومتين، عبداً رومياً لرجل من بنی شيبان، تعلّم القرآن ثمّ أعتقه فعرض عليه أن يدخل في نسبه، فأبى أعين ذلك، وقال: أقرنی على ولائی، وكان سنسن راهباً في بلاد الروم. له عدّة أولاد: الحسن والحسين و رومی وعبيد وعبد الله و يحيى بنو زرارة، وله إخوة:حمران النحوی له ابنان: حمزة ومحمّد، وبكير أبو الجهم له عبد الله بن بكير، و عبد الله بن أعين، و عبد الملك بن أعين وابنه ضريس. و زرارة كان أصدق أهل زمانه و أفضلهم، قال فيه الصادق علیه السلام: «لو لا زرارة لقلت إنّ أحاديث أبی علیه السلام ستذهب»، و روى الكشی عن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال: «أحبّ النّاس إلیّ أحياء وأمواتا أربعة: بريد بن معاوية، (بالباء المفردة المضمومة، والراء المهملة المفتوحة) البجلی، و زرارة و محمّد بن مسلم وأبو بصير»، و قال علیه السلام لشخص: «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس»، وأومأ إلى رجل من أصحابه، فسألت عنه؟ فقيل زرارة. و قال علیه السلام في الأربعة المذكورين: إنّهم من الّذين قال الله تعالى: (السّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)، وحال زرارة أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح(1).
ومنها خبر عمرو بن جُمَيع الّذی رواه المشايخ الثلاثة عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه قال: قال أميرالمؤمنين علیه السلام: «لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَ وَلَدِهِ رِبًا، وَلَيْسَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ رِبًا»(2).
ص: 356
وعن فقه الرّضا علیه السلام: «وَلَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَ وَلَدِهِ رِبًا، وَلَا بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ رِباً، وَلَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ، وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّیِّ»(1).
دلالة الأخبار علی المطلوب واضحة، وضعف الأسناد في غير الأوّل منجبر بعمل الأصحاب واستنادهم في فتاويهم إليها.
الأوّل: هل الحكم هنا طرفينی لكلّ من الآباء والأولاد، أم يختصّ الآباء فقط؟
إنّ المشهور بل المتفق عليه بين الأصحاب هو الأوّل، لكنّه خالف في ذلك ابن الجنيد رحمه الله علی ما حكی عنه العلامة رحمه الله في «المختلف» حيث قال:
لا ربا بين الوالد و ولده، ولا بين الرّجل وزوجته، ذهب إليه علماؤنا غير أنّ ابن الجنيد فصّل فقال: لا ربا بين الوالد و ولده إذا أخذ الوالد الفضل(2).
وقال في «التذكرة»:
لا ربا بين الوالد و ولده، فلكلّ منهما أن يأخذ الفضل من صاحبه(3).
وفی «المسلك» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : لا ربا بين الوالد و ولده ويجوز لكلّ منهما أخذ الفضل من صاحبه، ولا بين المولی ومملوكه، ولا بين الرّجل وزوجته، قال:
ص: 357
هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل الإجماع عليه(1).
وفی «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : لا ربا بين الوالد و ولده ويجوز لكلّ منهما أخذ الفضل من صاحبه، قال:
كما صرّح به الحلي والفاضلان والشهيدان وغيرهم، بل لعلّه لا خلاف فيه إلا من الإسكافی، فقال كما في «المختلف»: لا ربا بين الوالد وولده إذا أخذ الوالد الفضل، إلا أن يكون له وارث أو عليه دين، وهو اجتهاد في مقابلة النصّ والفتوی(2).
وكيف كان إنّه قد دلّ علی ما ذهب إليه المشهور زائداً علی الإجماع المدّعی، أنّ المتبادر من كلمة «بين» في قوله علیه السلام: «لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَلَدِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَلَا بَيْنَ أَهْلِهِ رِبًا»(3)، هو جوازه لكلّ منهم من الجانبين، إذ لو كان مراده علیه السلام من ذلك هو التفصيل الّذی ذكره ابن الجنيد للزم التصريح به حذراً عن الإغراء بالجهل، كما صرّح به في الكافر الحربی في خبر آخر عن عمرو بن جُمَيع عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه قال: قال رسول اللّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ حَرْبِنَا رِبًا، نَأْخُذُ مِنْهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ وَنَأْخُذُ مِنْهُمْ وَلَا نُعْطِيهِمْ»(4).
والظاهر أنّ الّذی منع الإسكافی من الحكم بالتعميم، هو أخذه بالقدر المتيقّن، لكنّه غير لازم بعد التبادر والخبر، بل الأخبار.
ص: 358
والتحقيق أنّ كلمة «الولد» لم يكن من الحقائق الشرعيّة حتّی لزم علينا أن نرجع في فهم المراد منه إلی معناه الشرعی، بل هو باق علی ما هو عليه من معناه اللغوی، فلنرجع في مفهومه إلی علامات الحقيقة والمجاز وما صرّح به أرباباللغة في مجامعهم، منهم خليل بن أحمد الفراهيدی (م 175 ه-)، فقال في بيانه:
الولد اسم يجمع الواحد والكثير، والذّكر والأنثی سواء(1).
وقال ابن منظور المصری (م 711 ه-) حكاية عن ابن شميل:
الولد اسم يجمع الواحد والكثير، والذّكر والأنثی(2).
وقال الطريحی (م 1087 ه-):
الولد يطلق علی الذّكر والأنثی، والمثنّی والمجموع، فَعَل بمعنی مفعول (مولود)، وجمعه أولاد (3).
فقد عرفت تصريحهم بأنّ الولد يعمّ مطلق الذّكور والإناث، زائداً علی أنّه يعادل في الفارسيّة ب- «فرزند» وهو في عرفهم يستعمل مطراداً في مطلق الأولاد، ذكوراً كانوا أم إناثاً بحيث لا يمكن سلب هذا العنوان عمّن كان ولده بنتاً، وقد صرّح بالتعميم أيضاً الفقهاء والمفسرون من الفريقين، منهم العلامة الحلي رحمه الله حيث قال:
لا فرق بين الولد الذّكر والأنثی، لشمول اسم الولد لهما (4).
ص: 359
والمحقق الكركی رحمه الله فإنّه قال:
ولا فرق في الولد بين الذكر والأنثی، لشمول الاسم(1).
واستقوی شموله السيّد الحكيم رحمه الله حيث قال:لا فرق في الولد بين الذكر والأنثى والخنثى على الأقوى، ولا بين الصغير والكبير ولا بين الصلبی و ولد الولد، ولا في المملوك بين القن والمدبر والذكر والأنثى، ولا في الزوجة بين الدائمة والمتمتع بها، وليست الأم كالأب فلا يصحّ الرّبا بينها وبين الولد، كما لا فرق بين ربا البيع و ربا القرض(2).
وقال الفخر الرازی في تفسيره:
واعلم أنّه لا فرق في الولد بين الذكر والأنثى، ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن، ولا بين البنت وبين بنت الابن، واللّه أعلم(3).
فتحصّل إلی هنا أنّ الحكم عام يشمل مطلق الأولاد من الذّكور والإناث.
ص: 360
إنّه اختلف فيه الأصحاب وأرباب اللغة، فهم بين قائل بالإلحاق، وقائل بعدمه، وقائل بالتوقف إفتاءً والأخذ بالاحتياط عملاً، قال العلامة الحلي رحمه الله :
وهل يثبت الرّبا بين الجدّ و ولد الولد؟ إشكال، أقربه الثّبوت عملاً بالعموم الدّال علی التحريم، وأصالة إرادة الحقيقة، و ولد الولد يسمّی ولداً مجازاً (1).
وفی «المسلك» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : لا ربا بين الوالد و ولده ويجوز لكلّ منهما أخذ الفضل من صاحبه، قال:
والحكم مختصّ بالولد النسبیّ بالنسبة إلی الأب، فلا يتعدّی الحكم إلی الأمّ، ولا إلی الجدّ مع ولد الولد، ولا إلی ولد الرّضاع، علی إشكال فيهما، اقتصاراً بالرّخصة علی مورد اليقين، و وجه العدم إطلاق اسم الولد عليهما، ومن ثمّ حرمت إمرأته علی الأب والجدّ من آية حلال الأبناء(2).
وقال في «الجواهر»:
صرّح جماعة منهم الفاضل وثاني المحققين والشهيدين بعدم تعدّی الحكم إلی ولد الولد، لكن توقّف فيه بعضهم، بل في الدّروس الجزم بالإلحاق، وهو لا يخلو من قوّة، وإن كان الأحوط خلافه، كما أنّ
ص: 361
الأحوط الاقتصار علی الذّكر، لأنّه المنساق عرفاً، لكن في التذكرة وجامع المقاصد أنّه لا فرق في الولد بين الذّكر والأنثی، لشمول الاسم، وحينئذ لا إشكال في الخنثی وإن كانت مشكلاً (1).
وقال أبوهلال العسكری في بيان الفرق بين «الولد» و«المولود»:
الفرق بين الولد والمولود، فإنّ الولد يطلق علی ولد الولد أيضاً بخلاف المولود، فإنّه لمن وُلد منك من غير واسطة، ويدلّ عليه قوله تعالی: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزی والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً)(2).
والتحقيق أنّه لا كلام في المقام من حيث الحكم والكبری، بل البحث هنا من جهة الصغری وسعة مصاديق بعض هذه العناوين الّتي استثنيت عنه الحكم، وضيقه، كالولد والعبد، هل يختصّ الولد مثلاً بالأولاد للصلب أم يعمّ ولد الولد أيضاً؟ أو العبد هل يختصّ بالقنّ أم يشمل للمدبّر والمكاتب؟ وهكذا، فلا بدّ في تسرّی الحكم حينئذ إمّا من ظهور عرفی صريح في المعنی الوسيع حتّی يشترك فيه الجميع من قبيل المصاديق المشترك المعنوی كاستعمال الولد في الأولاد الذّكور والإناث كما مرّ، أو العلم بتنقيح المناط القطعی(3)، أو الألويّة
ص: 362
القطعيّة(1)، أو وجود نصّ يصرّح بالإلحاق كقول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ»الحديث(2)، فإذا انتفت الأربعة لا يمكننا الحكم بالتسرّی، لا سيّما فيما إذا كان سلب العنوان عن المصاديق المشكوكة علی نحو الحقيقة ممكناً.
هذا، وقد ثبت في الأصول أيضاً أنّه فرق في المخصّص الدائر أمره بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين بين المخصّص المتّصل والمنفصل، ففی المتّصل إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملاً فبما أنّه لم ينعقد للعام من بدو الأمر ظهور، فلا محالة يسری إجماله إلی العام أيضاً، بخلاف المخصّص المنفصل حيث يتمسك حينئذ في موارد المشكوك إلی العام، وما نحن بسدده من هذا القبيل، إلی ذلك أشار في «الكفاية» حيث قال:
إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملاً بأن كان دائراً بين الأقلّ والأكثر وكان منفصلاً، فلا يسری إجماله إلی العام لا حقيقة ولا حكماً، بل كان العام متّبعاً فيما لا يتّبع فيه الخاصّ، لوضوح أنّه حجّة فيه بلا مزاحم أصلاً، ضرورة أنّ الخاصّ إنّما يزاحمه فيما هو حجّة علی خلافه تحكيماً للنصّ أو الأظهر علی الظاهر، لا فيما لا يكون كذلك كما لا يخفی.
وإن لم يكن كذلك بأن كان دائراً بين المتباينين مطلقاً، أو بين الأقلّ والأكثر فيما كان متّصلاً فيسری إجماله إليه حكماً في المنفصل المردد بين المتباينين وحقيقة في غيره(3).
ص: 363
زائداً علی أنّ ما ذكره أبوهلال في بيان الفرق بين الولد والمولود لم يوافقه أحد من أرباب اللغة، وقد مرّ آنفاً قول الطريحی: بأنّ الولد: فَعَل بمعنی مفعول (مولود)، وأنّ جمعه الأولاد، فإنّه صرّح كما هو ظاهر بأنّ معنی الولد هو المولود،فكيف كان فإن نستفيد من الطّرق الأربعة المتقدمة أنّ الحكم عام لكلا المعنيين كما ادّعاه أبوهلال فبها ونعمت، وإلا فالمتبع فيه هو متابعة عمومات حرمة الرّبا في المقام، أو القول بالتوقف والأخذ بالاحتياط عملاً.
والتحقيق أنّه حيث كان العنوان الوارد في النصوص الدالّة علی الجواز، هو الأب دون الوالدين، وأنّ الحكم بالجواز كان علی خلاف العومات الدالّة علی التحريم، وأنّه يصحّ سلب عنوان الأمّ عن عنوان الوالد حقيقة، وبعد منع القياس وعدم العلم بتنقيح المناط القطعی، أو الأولويّة القطعيّة في المقام، فيجب أن نقتصر في موارد الرخصة والجواز علی المصاديق المتيقّنة، للزوم الاقتصار في تمام موارد العمومات عند احتمال التخصيص علی ما علم خروجه عن حكم العام من دون شك، ولا أقلّ من الشك والأخذ بالاحتياط، كما صرّح بذلك إجمالاً في «الجواهر» حيث قال:
لايتعدّی الحكم إلی الأمّ لحرمة القياس بعد اختصاص الدليل بغيرها(1).
ص: 364
قد تقدّم أنّ نفی الرّباء بين الّذين سمّيناهم سابقاً الّذی منهم الرّجل و زوجته، حكم مفتی به عند الأصحاب، بل ادّعی كونه ممّا أجمعوا عليه أو من متفردات الإماميّة، ففی «الجواهر» بعد ما نقل كلام المحقق رحمه الله بأنّه: لا ربا بين الوالد و ولده ويجوز لكلّ منهما أخذ الفضل من صاحبه، ولا بين المولی ومملوكه، ولا بين الرّجل و زوجته، قال:
إجماعاً محكيّاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً، صريحاً وظاهراً، بل يمكن تحصيله(1).
واستدلّوا علی ذلك زائداً علی الإجماع المدعی، بما وردت من الأخبار في المقام الّتي منها:
صحيحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: «لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَلَدِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَلَا بَيْنَ أَهْلِهِ رِبًا»، الحديث(2).
ومرفوعة محمّد بن علیّ بن الحسين بن بابويه قال: قال الصّادق علیه السلام: «لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّیِّ رِبًا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا رِبًا»(3).
وما رواه في فقه الرّضا رحمه الله : «وَلَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَ وَلَدِهِ رِباً، وَلَا بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ رِباً، وَلَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّیِّ»(4).
ص: 365
قد عبّر من باب الكناية عن الزّوجة في الصحيحة ب- «أهل»، كما عبّر عنها القرآن كذلك في قصّة موسی علیه السلام و زوجته، حيث قال: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّی آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّی آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)(1).
والكلام في جوازه من جانب واحد أو من جانبين كالكلام فيه في الآباء والأولاد، زائدة علی أنّه لم يكن في المقام من تفصيل الإسكافی رحمه الله أثراً، وأنّه يقدّم الرّجل علی أهله في الصحيحة وفی المرفوعة علی العكس، وقد صرّح غير واحد من الأصحاب بكون الحكم هنا كذلك، منهم العلامة حيث قال:
لا ربا بين الوالد و ولده ...، ولا بين الرّجل و زوجته، ولكلّ منهما أن يأخذ الفضل من صاحبه(2).
ص: 366
فصّل في المقام بعض بين الدائمة والمتمتّع بها، بالجواز في الأولی وعدمه في الثانية، كما أنّه يحتمله أيضاً في المتمتّع بها بين ما إذا كانت مدّة النكاح في المنقطة قليلة بحيث يمكن سلب عنوان الزّوجة والأهل عنها فلا يجوز، وبين ما كانت كالدائمة في المدّة والأهليّة فإنّه يجوز، قال العلامة رحمه الله في «التذكرة»:
يثبت الرّبا بين الرّجل و زوجته بالعقد المنقطع لأنّ التفويض في مال الرّجل إنّما يثبت في حقّ العقد الدائم، فإنّ للزّوجة أن تأخذ من مال الرّجل المأدوم(1).
وقال الشهيد رحمه الله في «المسالك»:
ولا فرق في الزّوجة بين الدائم والمنقطع علی الظاهر لإطلاق النصّ، خلافاً للتذكرة حيث خصّها بالدائم معلّلاً بأنّ التفويض في مال الرّجل إنّما يثبت في حقّ العقد الدائم، فإنّ للزّوجة أن تأخذ من مال الرّجل المأدوم(2).
وقال السيّد الطباطبائی رحمه الله صاحب «العروة»:
المشهور عدم الفرق في الزّوجة بين الدائمة والمتمتّع بها، لصدق الزّوجة والأهل، وعن جماعة الاختصاص بالدائمة لمنع الصّدق، أو للانصراف عن المتمتّع بها خصوصاً إذا كانت المدّة قليلة، ولا يبعد التّفصيل بين ما إذا اتّخذها أهلاً اتّخاذ الزّوجة الدائمة وغيرها، أمّا المطلقة رجعيّة فالظاهر احتسابها أجنبيّة فلا يلحقها الحكم(3).
ص: 367
التحقيق أنّ عنوان «الزّوجة» الّتي يعبّر عنها في اللغة العربيّة ب- «إمرأة الرّجل»، وفی الفارسيّة ب- «همسر» لها ضربان: الدائمة والمتمتّع بها، وهما تستويان في جميع الأحكام والمسائل إلا ما أخرجه الدّليل كالإرث والنفقة، وما نحن بسدده ليس من هذا القبيل لا سيّما بعد عدم إمكان سلب عنوان «إمرأة الرّجل وأهله» عنها ما دامت في نكاحه ولو كانت مدّة الاستمتاع قليلة، فالأقوی في المقام هو ما ذهب إليه المشهور من تساويهما في جواز الرّبا، خلافاً للمطلقة الرّجعيّة حين عدّتها حيث يصحّ عنها سلب عنوان الزّوجيّة حقيقة، وجواز الرجوع إليها مدّة عدّتها إنّما هو لأمر آخر لا لكونها زوجة حقيقة.
ص: 368
قد فصّل فقهائنا العظام في الكافر بين الحربی وأهل الذمّة منهم، فادّعوا الإجماع علی جوازه في الأوّل من دون فرق فيه بين دار الإسلام أو دار الحرب إذا أخذ المسلم الفضل، ولم يجيزوا ذلك أكثرهم في الذمّی وإن كان الآخد هو المسلم، إلا أنّه نسب الشهيد رحمه الله في «المسالك» إلی ظاهر جماعة من الإماميّة أنّهم أطلقوا الجواز في الحربی من دون فرق بين أخذ المسلم الفضل أو الكافر، وأمّا العامة فأبوحنيفة منهم أجازه في الحربی في خصوص دارالحرب، وآخرون بثبوته مطلقاً، قال العلامة رحمه الله :
ولا بين المسلم والحربی فيأخذ منهم الفضل ولا يعطيهم إيّاه لأنّهم في الحقيقة فَیءٌ للمسلمين ...، لا ربا عندنا بين المسلم والحربیّ سواء كان ذا أمان أو لا، وسواء كان في دار الإسلام أو دار الحرب وبه قال أبو حنيفة للأحاديث السابقة، و روى الجمهور عن النّبیّ صلّى اللّٰه عليه وآله قال: «لَا رِبًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ في دَارِ الْحَرْبِ» ونحن لم نشرط الدار. ولأنّه في الحقيقة فَی ء للمسلمين وقد بذل ماله بإذنه للمسلم فجاز له أخذه منه حيث أزال أمانه عنه ببذله له. وقال الشافعی ومالك وأحمد وأبو يوسف: يثبت الرّبا بين المسلم والحربیّ مطلقاً كثبوته بين المسلمين ...، وفی ثبوت الرّبا بين المسلم والذمّیّ خلاف أقربه: الثبوت، لعصمة أموالهم، وعموم الأحاديث والنصوص الدالّة على تحريم مطلق الرّبا (1).
ص: 369
وفی «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : لا ربا بين الولد و ولده ويجوز لكلّ منهما أخذ الفضل من صاحبه، ولا بين المولی ومملوكه، ولا بين الرّجل وزوجته، ولا بين المسلم وأهل الحرب، قال:
إجماعاً محكيّاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً، صريحاً وظاهراً، بل يمكن تحصيله(1).
وقال الشهيد رحمه الله :
ولا بين المسلم وأهل الحرب، هذا إذا أخذ المسلم الفضل وإلا حرم، ولا فرق بين الحربیّ المعاهد وغيره، ولا بين كونه في دار الحرب والإسلام، وأطلق جماعة نفی الرّبا هنا من غير فرق بين أخذ المسلم الزّيادة أو الحربیّ، والتفصيل أقوی(2).
وقال ابن قدامة الحنبلی:
ويحرم الرّبا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام، وبه قال مالك والأوزاعی وأبويوسف والشافعی وإسحاق، وقال أبوحنيفة: لا يجری الرّبا بين مسلم وحربی في دار الحرب، وعنه في مسلمَين أسلما في دار الحرب: لا ربا بينهما، لما روی المكحول عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: «لَا رِبًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ في دَارِ الْحَرْبِ»، ولأنّ أموالهم مباحة وإنّما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحاً (3).
واستدلّ الأصحاب علی جواز أخذ الزّيادة للمسلم في خصوص الحربی زائداً علی الإجماع المدعی، تارة بما رواه المشايخ الثلاثة عن عمرو بن جُمَيع
ص: 370
عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه قال: قال رسول اللّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ حَرْبِنَا رِبًا، نَأْخُذُ مِنْهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ وَنَأْخُذُ مِنْهُمْ وَلَا نُعْطِيهِمْ»(1).
ولا كلام لنا في سند الخبر بعد ما كان مفاده مفتی به عند الأصحاب، وشهادة الكلينی والصدوق رضوان الله تعالی عليهما بأنّ ما رويا في كتابيهما فهو مروی عن الصادقين:(2)، وقد تقدّم أنّ المعيار في قبول الخبر عند الأصحاب هو وثاقة الخبر لا الرّاوی وأنّ وثاقة الرّاوی طريق إلی وثاقته.
هذا مع أنّ الله عزّ وجلّ قد نفی مطلق تسلّط الكفّار علی المؤمنين الّذی منه أخذهم الرّبا من المؤمنين، بمقتضی قوله تبارك وتعالی: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)(3).
وأخری: بما أشار إليه في «التذكرة» بأنّه بعد ما كانت أموالهم فيئاً للمسلمين فيجوز تملّكها لكلّ من تسلّط عليها من المسلمين لا سيّما إذا بذلها بطيب نفسه.
ص: 371
وثالثة: بقاعدة «الإلزام»(1)، فإذا أحلّ قوم علی أنفسهم الرّبا واعتقدوا جوازه فلا مانع من إلزامهم بذلك، وقد دلّت عليه أخبار، منها موثقة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الْأَحْكَامِ؟ قَالَ: «تَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِی دِينٍ بِمَا يَسْتَحِلُّونَ»(2).
وما رواه علیّ بن أبی حمزة البطائنی عن أبی الحسن الكاظم علیه السلام أنّه قال: «أَلْزِمُوهُمْ بِمَا أَلْزَمُوا (بِهِ) أَنْفُسَهُمْ»(3).
هذا تمام الكلام في الكافر الحربی، وأمّا الذمّی فقد تقدّم إجمالاً أنّ المشهور فيه هو ثبوت الرّبا كثبوته بين المسلمَين، يؤيّد ذلك أنّ الذمّی من أهل الكتاب بالتزامه بشرائط الذمّة(4) يدخل في ضمان المسلمِين ويجعل نفسه كأحد
ص: 372
منهم، ولا أقلّ من الشك وحيث كان المخصّص منفصلاً لزوم الأخذ بعمومات ما دلّت علی حرمة مطلق الرّباء، قال ابن إدريس الحلي رحمه الله :
والرّبا يثبت بين المسلم وأهل الذمة، كثبوته بينه وبين مسلم مثله، وهذا هو الصحيح من أقوال أصحابنا، و إليه يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسی في جميع كتبه. وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا ربا بين المسلم وأهل الذمة، وجعلهم كالحربيّين، ذهب إلى ذلك شيخنا المفيد وابن بابويه وغيرهما، والأوّل هو المعتمد، ويعضده ظاهر التنزيل وهو قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبٰا) فخرج من ذلك أهل الحرب، بالإجماع المنعقد من أصحابنا، وبقی من عداهم داخلاً في عموم الآية، فلا يجوز التخصيص للعموم، إلا بأدلّة موجبة للعلم، قاطعة للأعذار(1).
وقال العلامة رحمه الله في «التذكرة»:
في ثبوت الرّبا بين المسلم والذمّیّ خلاف أقربه: الثبوت، لعصمة أموالهم، وعموم الأحاديث والنصوص الدالّة على تحريم مطلق الرّبا (2).
وفی «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : ويثبت الرّبا بين المسلم والذمّی، قال:
ص: 373
قطعاً إذا كان الآخذ الذمّی، وبالعكس على الأشهر بل المشهور، نقلاً وتحصيلاً، بل عليه عامة المتأخرين إلا النادر، بل لم أجد فيه خلافاً إلا ما سمعته من المرتضى وحكی عن ابني بابويه والمفيد والقطيفی، مع أنّه قال بعض مشايخنا أنّی لم أجد له ذكراً في المقنعة(1).
لكنّه ورد نفی الربا بالنسبة إليه أيضاً في مرفوعة الصدوق عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّیِّ رِبًا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا رِبًا»(2).
والتحقيق بعد فرض تسليم السند أنّها كما صرّح به العلامة رحمه الله محمول علی الذمّی الخارج عن شرائط الذمّة(3)، فهم حينئذ كما سيأتی ويستفاد من بعض النصوص كانوا بمنزلة أهل الحرب، وإلا فهی مطروحة بإعراض الأصحاب عنها.
بقی هنا شیء:
بناء علی القول بثبوت الرّبا بين المسلم والذمّی كما هو المختار، وأنّ من شرائط الذمّة علی ما صرّح به الكتاب وبعض الأخبار، أداء الجزية، وبعد الإذعان بأنّ الّذين يعيشون منهم معنا الآن في جميع الممالك الإسلاميّة لا يعطونها، بل يعمل معهم معاملة سائر المسلمين، فهل يحرم أيضاً أخذ الرّباء منهم فعلاً ؟
التحقيق أنّ الحكم هنا نفياً وإثباتاً دائر مدار الالتزام بشرائط الذمّة وعدمه، فما دام الذمّی التزم بشرائط الذمّة الّتي منها أداء الجزية، حصنت نفسه وحرمت أمواله، وإلا كما صرّح به غير واحد يعامل معه معاملة الكافر الحربی ويصير ماله حينئذ فيئاً للمسلمين، منهم قطب الدّين الرّواندی رحمه الله حيث قال:
ص: 374
وشرائط الذمّة خمسة: قبول الجزية، وأن لا يتظاهروا بأكل لحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح الزناء، ونكاح المحرمات، فإن خالفوا شيئاً من ذلك خرجوا من الذمّة، قال تعالى: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)(1)، أی فقاتلوهم، فوضع المظهر موضع المضمر إشعاراً بأنّهم إذا نكثوا فهم ذوو الرئاسة في الكفر، وفی الآية دلالة على أنّ الذمّی إذا أظهر الطعن في الإسلام فإنّه يجب قتله لأنّ عهده معقود على أن لا يطعن في الإسلام، فإذا طعن فقد نقض عهده(2).
وكذلك المحقق البحرانی رحمه الله حيث قال:
المشهور بين الأصحاب ثبوت الرّبا بين المسلم والذمّی، لعموم أدلة التحريم، ولأنّ مال الذمّی محترم. وذهب السيّد المرتضى وابنا بابويه وجماعة إلى عدم ثبوته وعليه دلّت الأخبار المتقدمة، والّذی يقرب عندی أنّ هذه الأخبار إنّما صرّحت بنفی الرّبا بين المسلم والذمّی، بناء على أنّ أهل الكتاب في تلك الأعصار فضلاً عن زماننا هذا قد خرقوا الذمّة، ولم يقوموا بها كما صرّح به جملة من الأخبار، ومن ثمّ دلّ جملة من الأخبار على أنّ مالهم فی ء للمسلمين، وجواز استرقاقهم، كما صرّح به جملة من الأصحاب أيضاً، وحينئذ فلا اشكال، وعلى هذا فيختصّ جواز أخذ الفضل بالمسلم، دون الذمّی كما تقدّم في الحربی(3).
وهناك بيان عن العلامة الطباطبائی رحمه الله في حكمة أخذ الجزية منهم، يؤيّد ما ذكرناه حيث قال:
ص: 375
وأمّا الجزية فهی عطيّة ماليّة مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمّتهم وحُسن إدارتهم، ولا غنی عم مثلها لحكومة قائمة علی ساقها حقّة أو باطلة (1).
وكيف كان إنّه يمكن أن نستدلّ علی أنّ الحكم هنا نفياً وإثباتاً دائر مدار الالتزام بشرائط الذمّة وعدمه، بقوله تعالی: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)(2)، وقوله سبحانه: (قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدينُونَ دينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(3)، وما رواه أبو البختری عن جعفر عن أبيه قال: قال علیّ علیه السلام: «الْقِتَالُ
قِتَالانِ: قِتَالُ أَهْلِ الشِّرْكِ لَا يُنْفَرُ عَنْهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤْتُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَقِتَالٌ لِأَهْلِ الزَّيْغِ لَا يُنْفَرُ عَنْهُمْ حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ أَوْ يُقْتَلُوا»(4)، وما رواه حفص بن غياث عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه قال: «سَأَلَ رَجُلٌ أَبِی علیه السلام عَنْ حُرُوبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام وَكَانَ السَّائِلُ مِنْ مُحِبِّينَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بِخَمْسَةِ أَسْيَافٍ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا شَاهِرَةٌ ...، وَسَيْفٌ مِنْهَا مَكْفُوفٌ، وَسَيْفٌ مِنْهَا مَغْمُودٌ ...، فَأَمَّا السُّيُوفُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْهُورَةُ، فَسَيْفٌ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)(5)،(فَإِنْ تابُوا -
ص: 376
يَعْنِی آمَنُوا - وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ في الدِّينِ)(1)، فَهَؤُلَاءِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَتْلُ أَوِ الدُّخُولُ في الْإِسْلَامِ، وَأَمْوَالُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ سَبْیٌ عَلَى مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فَإِنَّهُ سَبَى وَعَفَا وَقَبِلَ الْفِدَاءَ، وَالسَّيْفُ الثَّانِی عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(2)، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ في أَهْلِ الذِّمَّةِ، ثُمَّ نَسَخَهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(3)، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ إِلَّا الْجِزْيَةُ أَوِ الْقَتْلُ وَمَالُهُمْ فَیْ ءٌ، وَذَرَارِيُّهُمْ سَبْیٌ، وَإِذَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حَرُمَ عَلَيْنَا سَبْيُهُمْ، وَحَرُمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَحَلَّتْ لَنَا مُنَاكَحَتُهُم»(4).
وقد تقدّم مرفوعة الصدوق رحمه الله عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّیِّ رِبًا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا رِبًا»(5)، وحملها علی الذمّی الخارج عن شرائط الذمّة.
ص: 377
ادّعوا الإجماع بقسميه علی نفی الرّباء بين المولی وعبده، منهم «الجواهر» فإنّه بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : لا ربا بين المولی ومملوكه، قال:
إجماعاً بقسميه، وللخبرين السّابقين(1).
وقال الشهيد رحمه الله في «المسالك»:
والحكم بنفی الرّبا بين السيّد ومملوكه إمّا لعدم صحّة البيع، بناء على أنّه لا يملك، فيصدق عدم الرّبا(من باب السالبة بانتفاع الموضوع)، وإمّا بناء على أنّه يملك، وكان الأولى بالقائل بعدم ملكه ترك ذكره، لكن لمّا ورد النصّ به تعرّضوا له، ويشترط مع القول بملكه أن لا يكون مشتركاً، فلو كان كذلك ثبت بينه وبين كلّ من الشركاء، والمدبّر وأمّ الولد في حكم القنّ، أمّا المكاتب بقسميه فلا على الظاهر مع احتماله(2).
وقال الميرزا القمّی رحمه الله :
اختلف العلماء فى أنّ العبد هل يصلح للتملك أو لا؟ بل هو كالدابة بالنسبة إلى جلّه او علفه، وفيه أقوال: نسب الأوّل إلى الأكثر الشهيد الثانى، وجعله فى الدّروس ظاهر الأكثر، ولكن نسب جماعة من الأصحاب الثانى إلى المشهور والأكثر، وعن التذكرة: أنّه مذهب الأكثر، وعن كتاب نهج الحقّ: أنّه مذهب الإماميّة، وعن الشيخ فى الخلاف فى باب الزكاة: «لا زكاة عليه لأنّه لا يملك اجماعاً»، وعن السرائر: «إجماع أصحابنا أنّ جميع ما بيد العبد فهو مال لسيّده»، وعن
ص: 378
نهاية الأحكام وموضع آخر من السرائر: «أنّه غير مالك عندنا»، وعن المنتهى نسبته إلى أصحابنا. و مثله عن المبسوط فى كتاب الكفارات.
ومن الصدوق وابن الجنيد: «إنّ العبد يملك». وقيل: كلامه فى المقنع كالصريح فى أنّه يملك فاضل الضريبة- هو ما يقاطعه عليه مولاه بأن يعطيه كلّ شهر، أو كلّ سنة، ويكون الزائد له، وعن جماعة أنّهم حملوا كلامهم على أنّه يملك ملكاً غير مستقر. وعن المقداد: أنّه يملك ملكاً غير تام. وفى الشرائع: «العبد لا يملك»، وقيل: يملك فاضل الضريبة، وهو المروی، وارش الجناية على قول. ولو قيل: يملك مطلقاً لكنّه محجور عليه بالرّق حتّى يأذن المولى كان حسناً ...، الأظهر القول بعدم ملكه مطلقاً كما أنّ الأظهر أنّه قول الأكثر(1).
وكيف كان إنّه قد استدلّ علی عدم ثبوت الرّباء بين العبد وسيّده بروايات، منها:
صحيحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: «لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَلَدِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَلَا بَيْنَ أَهْلِهِ رِبًا»، الحديث(2).
وخبر عمرو بن جُمَيع الّذی رواه المشايخ الثلاثة عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه قال: قال أميرالمؤمنين علیه السلام: «لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَ وَلَدِهِ رِبًا، وَلَيْسَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ رِبًا»(3).
وما رواه في فقه الرّضا علیه السلام: «وَلَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَ وَلَدِهِ رِبًا، وَلَا بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ رِباً، وَلَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ، وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّیِّ»(4).
ص: 379
والتحقيق أنّ مسألة عدم ثبوت الرّباء بين السيّد وعبده يبتنی تارة: علی ما ذهب إليه المشهور من أنّ العبد لا يملك مطلقاً، وللسيّد أن يتصرّف في أمواله كيف شاء حتّی اشتهر: «العبد وما في يده كان لمولاه» مستدلّين بقوله تعالی: (ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شيء) (1)، فيكون عدم الرّباء حينئذ من قبيل السالبة بانتفاع الموضوع.
وأخری: علی أنّ له أن يملك لكنّه محجور عن التصرف في أمواله كالصغير والمجنون وكان اختيار أمره بيد مولاه، فعليه يكون عدم ثبوته حينئذ لأجل تخصيص عمومات حرمة الرّباء.
ص: 380
قد عرفت أنّ الرباء قرضی ومعاملی، ما نبحث عنه هنا ناظر إلی نفيه في خصوص بيع المعدود مطلقاً سواء كان العوضان مختلفين في الجنس أم متحدين، وفی بيع المكيل والموزون إذا كانا مختلفين من حيث الجنس، وادّعی أنّ جوازه إجماعيّاً عندنا، قال الشيخ رحمه الله في «الخلاف»:
إذا باع ما فيه الرّبا من المكيل والموزون، مختلف الجنس، مثل الطعام والتمر، جاز بيع بعضه ببعض متماثلاً ومتفاضلاً ...، لا ربا في المعدودات، ويجوز بيع بعضها ببعض متماثلاً ومتفاضلاً، نقداً ونسيةً. وللشافعی فيه قولان: قال في القديم: مثل ما قلناه، وقال في الجديد: فيه الرّبا إذا كان مطعوماً- مثل السفرجل والرّمان والبطيخ وما أشبه ذلك- فعلى هذا يجوز بيع جنس بجنس غيره متفاضلاً يداً بيد، مثل رمانة بسفرجلتين، وسفرجلة بخوختين، وما أشبه ذلك، لأن التفاضل لا يحرم في جنسين، وإنّما يحرم النسية والتفرق قبل القبض. وأمّا الجنس الواحد فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلين، مثل رمانة برمانتين، وسفرجلة بسفرجلتين، و خوخة بخوختين، وبطيخة ببطيختين ...، دليلنا: الآية وأيضاً الأصل الإباحة، والمنع منه يحتاج إلى دليل، وأيضاً عليه إجماع الفرقة، وأخبارهم تدلّ على ذلك(1).
وقال في «السرائر»:
ولا يكون الرّبا المنهی عنه المحرّم في شريعة الإسلام، عند أهل البيت علیهم السلام ، إلا فيما يكال أو يوزن، فأمّا ما عداهما من جميع المبيعات فلا ربا فيها بحال، لأنّ حقيقة الرّبا في عرف الشرع، هو بيع المثل من
ص: 381
المكيل أو الموزون بالمثل متفاضلاً نقداً ونسيئة إذا كان البيّعان غير والد و ولد، أو زوج و زوجة، أو مسلم وحربی، أو عبد وسيّده(1).
وقال في «الجواهر»:
الثانی من الأمور (المعتبرة في ثبوت الرّبا) اعتبار الكيل والوزن فإذا كان المبيع والثمن كذلك مع اتحاد الجنس حرم الرّبا فيهما إجماعاً بقسميه، وسنّة وكتاباً، بل كاد يكون ضرورياً، إنّما الكلام في اشتراط ذلك فيه وقد عرفت سابقاً اشتراط الجنسية، أمّا التقدير بهما على معنى أنّه لا ربا إلا في مكيل أو موزون فهو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل عن الخلاف ومجمع البيان والتذكرة وظاهر الغنية والسرائر الإجماع على عدم الرّبا في المقدر بالعدد، وإن كنت لم أتحقّقه فيما حضرنی منها، إلا أنّ الأصل والعمومات كافية في الجواز، مضافاً إلى النصوص المستفيضة إن لم تكن متواترة(2).
واستدلّوا علی ذلك زائداً علی الإجماع المدّعی، بأخبار متظافرة بل متواترة بحيث يغنينا عن البحث حول أسانيدها، منها:
صحيحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: «لَا يَكُونُ الرِّبَا إِلَّا فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ»(3).
وصحيحة الّتي روها المشايخ الثلاثة عن عبيد بن زرارة قال سمعت أبا عبدالله علیه السلام يقول: «لَا يَكُونُ الرِّبَا إِلَّا فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ»(4).
ص: 382
وصحيحة الحلبیّ عن أبی عبدالله علیه السلام إنّه قال: «مَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ مُخْتَلِفٍ أَوْ مَتَاعٍ أَوْ شَیْ ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يَتَفَاضَلُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ مِثْلَيْنِ بِمِثْلٍ يَداً بِيَدٍ، فَأَمَّا نَظِرَةً فَلَا يَصْلُحُ»(1).
وصحيحة أخری عن الحلبیّ قال: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: في رَجُلٍ قَالَ: لآِخَرَ بِعْنِی ثَمَرَةَ نَخْلِكَ هَذَا الَّذِی فِيهِ بِقَفِيزَيْنِ مِنْ بُرٍّ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ يُسَمِّی مَا شَاءَ فَبَاعَهُ، فَقَالَ: «لَا بَأْسَ بِهِ»(2).
وصحيحة سماعة قال: سَأَلْتُهُ (الصّادق علیه السلام ) عَنِ الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ؟ فَقَالَ: «لَا يَصْلُحُ شَیْ ءٌ مِنْهُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ إِلَّا أَنْ يَصْرِفَهُ نَوْعاً إِلَى نَوْعٍ آخَرَ، فَإِذَا صَرَفْتَهُ فَلَا بَأْسَ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ وَأَكْثَرَ»(3).
وصحيحة أخری عن سماعة عن أبی عبدالله علیه السلام أنّ قال: «الْمُخْتَلِفُ مِثْلَانِ بِمِثْلٍ يَداً بِيَدٍ لَا بَأْسَ»(4).
وموثقة منصور بن حازم قال: سألته (الصّادق علیه السلام) عَنِ الشَّاةِ بِالشَّاتَيْنِ وَالْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ مَا لَمْ يَكُنْ كَيْلًا أَوْ وَزْناً»(5).
ص: 383
وما رواه عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد عن عبدالله بن الحسن عن جدّه علیّ بن جعفر عن أخيه موسی بن جعفر علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى سَمْناً فَفَضَلَ لَهُ فَضْلٌ أَ يَحِلُّ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهُ رِطْلًا أَوْ رِطْلَيْنِ زَيْتاً؟ قَالَ: «إِذَا اخْتَلَفَا وَتَرَاضَيَا فَلَا بَأْسَ»(1).
وما رواه محمّد بن مسلم في حديث أنّه قال: «إِذَا اخْتَلَفَ الشَّيْئَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مِثْلَيْنِ بِمِثْلٍ يَداً بِيَدٍ»(2).
إنّ من المسائل الّتي اتفقت عليها الخاصّة وأكثر العامّة، مسألة جواز أو استحباب إعطاء المستقرض غريمه تبرعاً و عن طيب نفسه ومن دون شرط سابق، أزيد من دَينه لما فيه من حسن القضاء، لكنّه استحب للدائن احتسابه حينئذ عوضاً عن طلبه، خلافاً للحنفيّة من العامة حيث أجازوه علی نحو الكراهة إذا اشترط ذلك حين العقد، قال العلامة رحمه الله في «التذكرة»:
ولو دفع إليه أزيد فإن شرط ذلك كان حراماً إجمالاً لما روی الجمهور عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: «كلّ قرض يجرّ منفعة فهو حرام»، وإن دفع الأزيد في المقدار من غير شرط عن طيبة نفس منه بالتبرّع كان حلالاً إجماعاً، ولم يكره بل كان أفضل للمقترض(3).
وفی «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : لو شرط النفع حرم الشرط، قال:
ص: 384
بلا خلاف فيه بل الإجماع منّا بقسميه عليه، بل ربما قيل: إنّه إجماع المسلمين لأنّه ربا ...، نعم لو تبرّع المقترض بزيادة في العين أو الصفة
جاز، بل لا أجد فيها خلافاً بيننا (1).
وقال الإمام الراحل قدس سره :
إنّما تحرم الزيادة مع الشرط، وأمّا بدونه فلا بأس، بل تستحب للمقترض حيث أنّه من حسن القضاء، و خير النّاس أحسنهم قضاء، بل يجوز ذلك إعطاء وأخذاً لو كان الإعطاء لأجل أن يراه المقرض حسن القضاء، فيقرضه كلّما احتاج إلى الاقتراض، أو كان الإقراض لأجل أن ينتفع من المقترض لكونه حسن القضاء، ويكافئ من أحسن إليه بأحسن الجزاء بحيث لو لا ذلك لم يقرضه، نعم يكره أخذه للمقرض خصوصاً إذا كان إقراضه لأجل ذلك، بل يستحب أنّه إذا أعطاه شيئاً بعنوان الهدية ونحوها يحسبه عوض طلبه، بمعنى أنّه يسقط منه بمقداره(2).
وقال الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة»:
الحنفيّة قالوا: يتعلّق بالقرض أحكام ...، يكره أن يقرض شخص لآخر في نظير منفعة، ولكن محلّ ذلك إذا كانت المنفعة مشترطة في العقد كأن يقرضه مثلاً عشرين إردباً من القمح «الغلت» علی أن يأخذ مثلها نظيفاً، أمّا إذا أقرضه شيئاً رديئاً فأعطاه جيّداً بدون شرط فإنّه لا كراهة فيه، والشافعيّة قالوا: ...، يفسد القرض بشرط يجرّ منفعة للمقرض كردّ زيادة في القدر أو الصّفة ...، فلو ردّ زيادة بلا شرط فحسن، والمالكيّة قالوا: ...، إنّه يحرم علی المقرض أن يأخذ هديّة من المقترض إلا إذا كانت له عادة بذلك من قبل، أو طرأ ما يدعو للهديّة كمصاهرة ونحوها،
ص: 385
أمّا الهديّة لأجل الدّين فهی تحرم ظاهراً وباطناً، فإن كانت لمجرد التوادّ والتحابب فإنّها تحلّ باطناً ولكن لا يقرّها القاضی ظاهراً، والحنابلة قالوا: ...، لا يجوز أن يشترط في عقد القرض شرطاً يجرّ منفعة للمقرض كأن يشترط المقرض علی المقترض أن يسكنه داراً مجاناً، أو رخيصاً، أو يعطيه خيراً ممّا أخذه منه، أو يهدی إليه هديّة، أو نحو ذلك(1).
ثمّ إنّه قد استدلّ الإماميّة علی ذلك زائداً علی الإجماع المدعی، بروايات متظافرة، بل متواترة(2)، يمكن إدراجها ضمن خمسة طوائف:
موثقة بشير بن مَسلمة عن أبی عبدالله علیه السلام قال: قال أبوجعفر علیه السلام: «خَيْرُ الْقَرْضِ مَا جَرَّ الْمَنْفَعَةَ»(3).
وما رواه محمّد بن عبده قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْقَرْضِ يَجُرُّ الْمَنْفَعَةَ؟ فَقَالَ: «خَيْرُ الْقَرْضِ الَّذِی يَجُرُّ الْمَنْفَعَةَ»(4).
وما رواه العامة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه اقترض بكراً فردّ بازلاً رباعيّاً، فقال: «إنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضاءً»(5).
ص: 386
صحيحة الحلبیّ عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «إِذَا أَقْرَضْتَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ جَاءَكَ بِخَيْرٍ مِنْهَا فَلَا بَأْسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمَا شَرْطٌ»(1).
وصحيحة إسحاق بن عمّار عن أبی الحسن الكاظم علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَعَ رَجُلٍ مَالٌ قَرْضاً فَيُعْطِيهِ الشَّیْ ءَ مِنْ رِبْحِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ فَيَأْخُذَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ شَرَطَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطاً»(2).
وصحيحة خالد بن حجّاج قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ كَانَتْ لِی عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَداً قَضَانِيهَا مِائَةً وَزْناً؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ، قَالَ: وَقَالَ: جَاءَ الرِّبَا مِنْ قِبَلِ الشُّرُوطِ إِنَّمَا يُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ»(3).
وصحيحة الحلبیّ عن أبی عبدالله علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَسْتَقْرِضُ الدَّرَاهِمَ الْبِيضَ عَدَداً ثُمَّ يُعْطِی سُوداً وَزْناً وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهَا أَثْقَلُ مِمَّا أَخَذَ وَتَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فَضْلَهَا؟ فَقَالَ: «لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرْطٌ وَلَوْ وَهَبَهَا لَهُ كُلَّهَا صَلَحَ»(4).
ص: 387
وصحيحة أخری عنه عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «إِذَا أَقْرَضْتَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ أَتَاكَ بِخَيْرٍ مِنْهَا فَلَا بَأْسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمَا شَرْطٌ»(1).
وما رواه علیّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن حفص بن غياث عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه قال: «الرِّبَا رِبَاءَانِ: أَحَدُهُمَا رِبًا حَلَالٌ، وَالْآخَرُ حَرَامٌ، فَأَمَّا الْحَلَالُ فَهُوَ أَنْ يُقْرِضَ الرَّجُلُ قَرْضاً طَمَعاً أَنْ يَزِيدَهُ وَيُعَوِّضَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَهُ بِلَا شَرْطٍ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَهُ بِلَا شَرْطٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُبَاحٌ لَهُ وَ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابٌ فِيمَا أَقْرَضَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ)(2)، وَأَمَّا الرِّبَا الْحَرَامُ فَهُوَ الرَّجُلُ يُقْرِضُ قَرْضاً وَيَشْتَرِطُ أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَهُ فَهَذَا هُوَ الْحَرَامُ»(3).
صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبی عبدالله علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُسْلِمُ في بَيْعٍ أَوْ تَمْرٍ عِشْرِينَ دِينَاراً وَيُقْرِضُ صَاحِبَ السَّلَمِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ أَوْ عِشْرِينَ دِينَاراً؟ قَالَ: «لَا يَصْلُحُ إِذَا كَانَ قَرْضاً يَجُرُّ شَيْئاً فَلَا يَصْلُحُ، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ يَأْتِی حَرِيفَهُ وَخَلِيطَهُ فَيَسْتَقْرِضُ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيُقْرِضُهُ وَلَوْ لَا أَنْ يُخَالِطَهُ وَيُحَارِفَهُ وَيُصِيبَ عَلَيْهِ لَمْ يُقْرِضْهُ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَعْرُوفاً بَيْنَهُمَا فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يُصِيبُ عَلَيْهِ فَلَا يَصْلُحُ»(4).
ص: 388
وما رواه المشايخ الثلاثة في كتبهم عن هذيل بن حيّان أخی جعفر بن حيّان الصيرفی قال: قلت لأبی عبدالله علیه السلام:
إِنِّی دَفَعْتُ إِلَى أَخِی جَعْفَرٍ مَالًا فَهُوَ يُعْطِينِی مَا أُنْفِقُهُ وَأَحُجُّ مِنْهُ وَأَتَصَدَّقُ، وَقَدْ سَأَلْتُ مَنْ قِبَلَنَا فَذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ لَا يَحِلُّ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَنْتَهِیَ إِلَى قَوْلِكَ، فَقَالَ لِی: «أَكَانَ يَصِلُكَ قَبْلَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ مَالَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: خُذْ مِنْهُ مَا يُعْطِيكَ فَكُلْ مِنْهُ وَاشْرَبْ وَحُجَّ وَتَصَدَّقْ، فَإِذَا قَدِمْتَ الْعِرَاقَ فَقُلْ: جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَفْتَانِی بِهَذَا»(1).
موثقة إسحاق بن عمّار عن العبد الصّالح علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَرْهَنُ الْعَبْدَ أَوِ الثَّوْبَ أَوِ الْحلي أَوِ الْمَتَاعَ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ، فَيَقُولُ صَاحِبُ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ: أَنْتَ في حِلٍّ مِنْ لُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ، فَالْبَسِ الثَّوْبَ وَانْتَفِعْ بِالْمَتَاعِ وَاسْتَخْدِمِ الْخَادِمَ؟ قَالَ: «هُوَ لَهُ حَلَالٌ إِذَا أَحَلَّهُ وَمَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ»(2).
صحيحة غياث بن إبراهيم عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه قال: «إِنَّ رَجُلًا أَتَى عَلِيّاً علیه السلام فَقَالَ: إِنَّ لِی عَلَى رَجُلٍ دَيْناً فَأَهْدَى إِلَیَّ هَدِيَّةً، قَالَ: احْسُبْهُ مِنْ دَيْنِكَ عَلَيْهِ»(3).
ص: 389
ثمّ إنّا إذا تأملنا الأخبار الواردة في المقام وننظر بعضها مع بعض، نستنتج أنّ الطائفة الأولی منها بقرينة ما دلّت من العمومات الدالّة علی حرمة الرّباء والزيّادة في القرض، بأنّها ناظرة إلی فعل المقترض فيما إذا لم يكن هناك شرط حين العقد، بل إنّما أعطاه المستقرض بطيب نفسه واختياره كما صرّحت بذلك الرّوايات في الطائفة الثانية.
وأمّا ما دلّت علی كراهة أخذه، أو احتسابه بعنوان الدّين في الأخيرتين فإنّها ناظرة إلی فعل الدائن، وأنّ الأمر الوارد في الأخير بقرينة الطوائف السابقة ولا سيّما الرابعة يحمل علی الاستحباب.
وأمّا ما دلّت في الطائفة الثالثة علی جوازه إذا كان ذلك معروفاً بينهما من قبل، فبقرينة ما تقدّم في الطائفة الثانية من جواز أخذه إذا لم هناك شرط، وما يأتی في الطائفة الرابعة من كراهة أخذه من جانب الدائن يحمل علی عدم كراهته فيما إذا لم يكن للقرض فيه دخل أصلاً، بل وهبه كما يهبه قبل ذلك، وإلا كان مكروهاً.
ولا مانع من كون فعل من ناحية شخص مندوباً وأنّه بعينه من جانب آخر مكروهاً، فإذا لم يكن هناك شرط ولا يكون ذلك معروفاً بينهما من قبل فإنّه يستحب إعطائه للمستقرض من باب إجزاء المحسن بالإحسان وشكر المنعم، لكنّه يكره حينئذ للدائن أخذه هديّة لنفسه، بل يحتسبه بعنوان بعض طلبه.
ص: 390
جواز أخذه في قالب النقد والنسيئة والبيع بالأقساط(1) :
إنّ من الطرق المانعة عن الابتلاء بالرّبا اختصاص التسهيلات بصورة البيع وهو في الحقيقة خارج عن عنوانه موضوعاً وحكماً، فإذا طلب مستقرض من الأشخاص الحقيقيّة أو المؤسّسات الحقوقيّة الماليّة مالاً بعنوان القرض ليصرفه في جهة من حاجاته، يجوز لهم أن يخصّهم ذلك المال حسب المقتضيات والظروف في قالب بعض العقود الشرعيّة غير القرض، كالمشاركة والمضاربة والجعالة وأمثالها، ويكون أخذ الربح بإزائها حينئذ علی ما ثبت في مباحثها جائزاً.
منها النقد والنسيئة والبيع بالأقساط الرائجتان بين النّاس في معاملاتهم من قديم الأيّام إلی زماننا هذا وتبعاً لبعض الدواعی والأغراض العقلائيّة، وحيث كان للأجل قسطاً من الثمن يبذل بإزائه من الثمن فيهما عادتاً أكثر ممّا يبذل منه في النقد، وبنسبة مدّة وصوله زماناً تقلّ القيمة وتكثر، وهذه الزيادة إذا كان الأجل مضبوطاً ولم يكن البيع مردداً بين النقد والنسيئة أو الآجال المتعددة مشروعة لكونها حاصلة من جهة البيع لا القرض، أو الرّبا المعاملی الّذی يعتبر فيه اتحاد
ص: 391
الجنسين إذا كانا من قبيل المكيل أو الموزون، إلی ذلك أشار المفيد رحمه الله حيث قال:
لا يجوز البيع بأجلين على التخيير كقولهم هذا المتاع بدرهم نقداً وبدرهمين إلى شهر أو إلى سنة، أو بدرهم إلى شهر واثنين إلى شهرين، فإن ابتاع إنسان شيئاً على هذا الشرط كان عليه أقلّ الثمنين في آخر الأجلين(1).
وقال العلامة رحمه الله :
يجوز البيع نقداً ونسيئة معاً، وأن يكون ما يبيعه بالنسيئة أكثر ثمناً ممّا لو
باعه نقداً إذا عرف المتبايعان القيمة من غير كراهة (2).
ومنه ما لو اشتری سلعة بثمن نسيئة إلی أجل معيّن، ثمّ باعها بصاحبه أو غيره بثمن أقلّ منها نقداً، فقال في «التذكرة»:
لو باع سلعةً بثمن مؤجّل ثمّ اشتراها قبل قبض الثمن بأقلّ من ذلك الثمن، جاز، وكذا لو باعها بثمن نقداً واشتراها بأكثر منه إلىٰ أجل، جاز، سواء كان قد قبض الثمن أو لم يقبض، وبه قال الشافعی، لأنّ البيع ناقل والعين قابلة للنقل دائماً، والمتبايعان من أهل العقد، فكان صحيحاً؛ عملًا بالمقتضی السالم عن المبطل. ولأنّه ثمن يجوز بيع السلعة به من غير بائعها، فجاز بيعها به من بائعها، كما لو كان باعه بسلعة أو بمثل الثمن(3).
ص: 392
وكيف كان إنّه يمكن أن يستدل علی ذلك زائداً علی أصالة الجواز وعدم كونها من مصاديق الرّبا، بما يستدل به علی جواز تلك العقود.
إنّ من المسائل المبتلی بها بين المؤجرين والمستأجرين في هذه الأزمنة، مسألة «الرهن والإجارة»، وهی أن يعطی المستأجر بموجره مبلغاً ليقلّ بنسبته من مبلغ الإجارة، في حين أنّها في الحقيقة قرض وإجارة لما ثبت في محلّه أنّ الرّهن أمانة في يد المرتهن لا يجوز له أن يتصرّف فيه تصرّفاً مزيلة للعين، بل لا يجوز له أن يتصرّف فيه من دون إذن منه وإن كان غير مزيل، وحيث يعامل معه الموجرين معاملة القرض فيترتب عليه أحكامه، فبناء على ذلك لو أقرض المستأجر أو المشتری مبلغاً وشرط على المؤجر أو المالك تقليل مبلغ الإجارة أو البيع كان من قبيل الزيادة الانتفاعية ويشمله أدلة حرمة الرّبا الّتي لا خلاف في حرمته بين الخاصة والعامة.
لكنّه لو أجار المؤجر ملكه أو باع البائغ ماله بأقلّ من قيمته السوقية، وشرطا على المستأجر أو المشتری أن يقرضه مبلغاً معيّناً، فتقليل الثمن حينئذ يكون من باب تخفيف من جانب المؤجر أو البائع لمبلغ الإجارة أو ثمن المبيع، لا الشرط الممنوع من جانب المقرض، وهو جائز عند الإماميّة وأكثر العامة، بل الدعی عليه الإجماع عندنا، وقد أشار إليه المفيد رحمه الله حيث قال:
ولا بأس أن يبتاع الإنسان من غيره متاعاً أو حيواناً أو عقاراً بالنقد والنسية معاً على أن يسلف البائع شيئاً في مبيع، أو يستسلف منه في مبيع، أو يقرضه مائة درهم إلى أجل، أو يستقرض منه، وقد أنكر ذلك جماعة من أهل الخلاف ولسنا نعرف لهم حجة في الإنكار، وذلك أنّ
ص: 393
البيع وقع على حلال والسّلف والقرض جائزان، واشتراطهما في عقد البيع غير مفسد له بحال(1).
وقال الشيخ رحمه الله في «الخلاف»:
يكره البيع والسلف في عقد واحد، وليس بمحظور ولا فاسد، وهو أن يبيع داراً على أن يقرض المشتری ألف درهم، أو يقرضه البائع ألف درهم، وليس ذلك بمحظور، وقال الشافعی: ذلك حرام.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً الأصل الإباحة، والمنع يحتاج إلى دليل، وأيضاً البيع صحيح بالانفراد، والقرض صحيح مثله، فمن ادّعى أنّ الجمع بينهما فاسد فعليه الدلالة (2).
وفی «الجواهر»:
الأقوى حرمة القرض بشرط البيع محاباة أو الإجارة أو غيرها من العقود، فضلاً عن الهبة ونحوها (3).
وقال الإمام الراحل قدس سره :
لا يجوز شرط الزيادة بأن يقرض مالاً على أن يؤدّی المقترض أزيد ممّا اقترضه، سواء اشتراطاه صريحاً أو أضمراه بحيث وقع القرض مبنيّاً عليه، وهذا هو الرّبا القرضى المحرّم الّذی ورد التشديد عليه، ولا فرق في الزيادة بين أن تكون عينية كعشرة دراهم باثني عشر، أو عملاً كخياطة ثوب له، أو منفعة، أو انتفاعاً كالانتفاع بالعين المرهونة عنده، أو صفة مثل أن يقرضه دراهم مكسورة على أن يؤدّيها صحيحة، وكذا لا فرق بين أن يكون المال المقترض ربويّاً بأن كان من المكيل والموزون، وغيره بأن كان معدوداً كالجوز والبيض.
ص: 394
ثمّ قال: لو أقرضه وشرط عليه أن يبيع منه شيئاً بأقلّ من قيمته، أو يؤاجره بأقلّ من أجرته كان داخلاً في شرط الزيادة، نعم لو باع المقترض من المقرض مالاً بأقلّ من قيمته وشرط عليه أن يقرضه مبلغاً معيناً لا بأس به(1).
وقال ابن قدامة الحنبلی:
وكلّ قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف ....، وإن شرط أن يؤجره داره بأقلّ من أجرتها، أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها، أو على أن يهدی له هدية، أو يعمل له عملاً كان أبلغ في التحريم ...، وإن شرط في القرض أن يوفّيه أنقص ممّا أقرضه وكان ذلك ممّا يجری فيه الرّبا لم يجز لإفضائه إلى فوات المماثلة فيما هی شرط فيه، وإن كان في غيره لم يجز أيضاً، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعی، وفی الوجه الآخر يجوز، لأنّ القرض جُعل للرفق بالمستقرض، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه، بخلاف الزيادة، ولنا : أنّ القرض يقتضی المثل، فشرط النقصان يخالف مقتضاه، فلم يجز كشرط الزيادة(2).
وكيف كان إنّه قد استدل الإمامية على جواز الأجارة أو البيع بشرط القرض زائدة على الإجماع بروايات متظافرة منها:
صحيحة محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبی الحسن علیه السلام: إِنَّ سَلْسَبِيلَ طَلَبَتْ مِنِّی مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُرْبِحَنِی عَشَرَةَ آلَافٍ فَأُقْرِضُهَا تِسْعِينَ أَلْفاً وَأَبِيعُهَا ثَوْبَ وَشْیٍ تُقَوَّمُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، قَالَ: «لَا بَأْسَ»(3).
ص: 395
وصحيحة أخری عنه قال: قلت للرّضا علیه السلام: الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْمَالُ فَيَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهِ يَبِيعُهُ لُؤْلُؤَةً تَسْوَى مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيُؤَخِّرُ عَنْهُ الْمَالَ إِلَى وَقْتٍ، قَالَ: «لَا بَأْسَ بِهِ، قَدْ أَمَرَنِی أَبِی فَفَعَلْتُ ذَلِكَ»(1).
وصحيحة عبد الملك بن عتبة قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ أُعَيِّنَهُ الْمَالَ أَوْ يَكُونُ لِی عَلَيْهِ مَالٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَطْلُبُ مِنِّی مَالًا أَزِيدُهُ عَلَى مَالِیَ الَّذِی لِی عَلَيْهِ، أَ يَسْتَقِيمُ أَنْ أَزِيدَهُ مَالًا وَأَبِيعَهُ لُؤْلُؤَةً تَسْوَى مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذِهِ اللُّؤْلُؤَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أُؤَخِّرَكَ بِثَمَنِهَا وَبِمَالِی عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا شَهْراً؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ»(2).
وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سُئِلَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ عَلَى رَجُلٍ مِنْ قِبَلِ عِينَةٍ عَيَّنَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا حَلَّ عَلَيْهِ الْمَالُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْلِبَ عَلَيْهِ وَيَرْبَحَ، أَ يَبِيعُهُ لُؤْلُؤاً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مَا يَسْوَى مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيُؤَخِّرُهُ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبِی رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمَرَنِی أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ في شَیْ ءٍ كَانَ عَلَيْهِ»(3).
ومرسلة محمّد بن سليمان الديلمی عن أبيه عن رجل كتب إلى العبد الصالح علیه السلام يَسْأَلُهُ أَنِّی أُعَامِلُ قَوْماً أَبِيعُهُمُ الدَّقِيقَ أَرْبَحُ عَلَيْهِمْ في الْقَفِيزِ دِرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُونِی أَنْ أُعْطِيَهُمْ عَنْ نِصْفِ الدَّقِيقِ دَرَاهِمَ، فَهَلْ مِنْ
ص: 396
حِيلَةٍ لَا أَدْخُلُ في الْحَرَامِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْه: «أَقْرِضْهُمُ الدَّرَاهِمَ قَرْضاً، وَازْدَدْ عَلَيْهِمْ في نِصْفِ الْقَفِيزِ بِقَدْرِ مَا كُنْتَ تَرْبَحُ عَلَيْهِمْ»(1).
تقريب الاستدلال أنّه يستفاد منها جواز كون البيع مشروطاً بالقرض، لكن يقابلها صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُسْلِمُ في بَيْعٍ أَوْ تَمْرٍ عِشْرِينَ دِينَاراً وَيُقْرِضُ صَاحِبَ السَّلَمِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ أَوْ عِشْرِينَ دِينَاراً؟ قَالَ: «لَا يَصْلُحُ إِذَا كَانَ قَرْضاً يَجُرُّ شَيْئاً فَلَا يَصْلُحُ، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ يَأْتِی حَرِيفَهُ وَخَلِيطَهُ فَيَسْتَقْرِضُ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيُقْرِضُهُ، وَلَوْ لَا أَنْ يُخَالِطَهُ وَيُحَارِفَهُ وَيُصِيبَ عَلَيْهِ لَمْ يُقْرِضْهُ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَعْرُوفاً بَيْنَهُمَا فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يُصِيبُ عَلَيْهِ فَلَا يَصْلُحُ»(2).
والتحقيق أنّه حيث بعد ما كان قوله علیه السلام: «فَلَا يَصْلُحُ» لم يكن نصّاً في التحريم أن يحمل على الكراهة، وذلك لأنّ القول بالجواز هو المفتی بها عند الإمامية أوّلاً، وقد دلّت عليه الروايات المتظافرة المتقدمة ثانياً، ولذا حمله الأصحاب على الكراهة أو التقيّة لموافقته لما ذهب إليه بعض العامة، إلى ذلك أشار الفيض الكاشانی حيث قال:
هذا الخبر يحتمل الكراهة والاشتراط والتقيّة (3).ولا أقلّ من الشك فيرجع فيه إلى الأصل.
إلى هنا تمّ بحمد الله والمنّة ما أردنا أن نبحث عنه حول موضوع الرّبا حكمه، أقسامه ومستثنياته.
ص: 397
ص: 398
ص: 399
ص: 400
إنّ الشرائط المعتبرة في المقام إمّا راجعة إلى المتعاقدين، أو إلى العين المستأجرة، أو إلى المنفعة المقصودة منها، أو إلى الأجرة المقابلة لها، نبحث عنها إن شاءالله تعالی طیّ فروع أربعة:
أمّا ما يشترط فيه من ناحية المتعاقدين فيشترط في طرفي العقد في كلّ عقد من العقود المالية شروط يعبّر عنها بالشرائط العامة وهی: البلوغ، والعقل، والقصد، والإختيار، والرشد، وعدم الحجر، من دون فرق فيها بين كونه بيعاً أو إجارة أو مضاربة ونحوها، قد بحث عنها الفقهاء غالباً في أبواب مختلفة من الكتب الفقهية مثل «البيع» و«الإجارة» و«المزارعة» و«المضاربة» و«الإقرار» و«الحجر»، أرسلوه بعض منهم إرسال المسلمات، وقد صرّح أيضاً بعدم الخلاف أو الإجماع بعض آخر، قال المحقق رحمه الله في «الشرائع» :
شرائطها (الإجارة) وهی ستة: الأوّل: أن يكون المتعاقدان كاملين جائزي التصرف، فلو آجر المجنون لم تنعقد إجارته وكذا الصبیّ غير المميز، وكذا المميّز إلا بإذن وليه، وفيه تردّد (1).
وقال في «الرياض» بعد كلام المحقق في «المختصر»: أن يكون المتعاقدان جائزي التصرف:
بلا خلاف، بل في الغنية عليه الإجماع، لعموم أدلة الحجر على غيرهما، فلا تصحّ إجارة الصبیّ مطلقاً وإن كان مميزاً وأذن له الولیّ على
ص: 401
الأقوى، ولا المجنون مطلقاً، ولا المحجور عليه بدون إذن الولیّ أو من في حكمه، لامطلقاً (1).
وفی مبحث بيع «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله في «الشرائع» : وأمّا الشروط فمنها ما يتعلّق بالمتعاقدين، وهو البلوغ والعقل والاختيار، فلا يصحّ بيع الصبیّ ولا شراؤه، قال:
بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه(2).
ثمّ تعرض لها إجمالاً في مبحث الإجارة منه اتّكالاً لما بيّنه في مبحث البيع(3).
وفی مبحث المفلس من كتابه بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : إذا حجر عليه (المفلس) تعلّق به منع التصرف لتعلّق حقّ الغرماء، واختصاص كلّ غريم بعين ماله، و قسمة أمواله بين غرمائه، قال:
لا خلاف بين الأصحاب في أنّه يمنع من التصرف(4).
وقال الإمام الراحل قدس سره :
يشترط في صحّة الإجارة أمور: بعضها في المتعاقدين أعنی المؤجر والمستأجر، وبعضها في العين المستأجرة، وبعضها في المنفعة ، وبعضها في الأجرة. أمّا المتعاقدان، فيعتبر فيهما ما اعتبر في المتبايعين من البلوغ والعقل والقصد والاختيار وعدم الحجر الفلس أو سفه ونحوهما (5).
ص: 402
وقد أشار إلى هذه الشرائط إجمالاً القرطبی من العامة في مبحث الإجارات من كتابه، حيث قال:
والنظر في هذا الكتاب شبيه بالنظر في البيوع، أعنی إنّ أصوله تنحصر بالنظر في أنواعها، وفی شروط الصحّة فيها والفساد، وفی أحكامها. وقال في مبحث الحجر منه: أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الّذين لم يبلغوا الحلم ...، واختلفوا في الحجر على العقلاء الكبّار إذا ظهر منهم تبذير أموالهم، فذهب مالك والشافعی وأهل المدينة وكثير من أهل العراق إلى جواز ابتداء الحجر عليهم بحكم الحاكم، وكذلك إذا ثبت عنده سفهم وأعذر إليهم فلم يكن عندهم مدفع، وهو رأی ابن عباس وابن زبير، وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق إلى أنّه لا يبتدأ الحجر علی الكبّار، وهو قول إبراهيم وابن سيرين، وهؤلاء انقسموا قسمين: فمنهم من قال: الحجر لا يجوز عليهم بعد البلوغ بحال وإن ظهر منهم التبذير، ومنهم من قال: إن استصحبوا التبذير من الصّغر يستمرّ عليهم وإن ظهر منه رشد بعد البلوغ ثمّ ظهر منهم سفه ...، وربما قالوا: الصّغر هو المؤثر في منع التصرف بالمال، بدليل تأثيره في إسقاط التكليف. وإنّما اعتبر الصّغر، لأنّه الّذی يوجد فيه السفه غالباً، كما يوجد فيه نقص العقل غالباً (1).
وقال في الباب الثانی من أبواب الطلاق:
واتّفقوا علی أنّه (أی المطلِّق الجائز الطلاق) الزوج العاقل البالغ الحرّ غير المكروه ...، فأمّا طلاق المكره فإنّه غير واقع عند مالك والشافعی وأحمد وداود وجماعة وبه قال عبدالله عمر وابن زبير وعمربن الخطاب وعلیّ بن أبی طالب وابن عباس ...، وقال أبوحنيفة
ص: 403
وأصحابه: هو واقع، وكذلك عتقه دون بيعه، ففرّقوا بين البيع والطلاق والعتق(1).
وتعرّض الجزيری منهم أيضاً للشروط المعتبرة في المقام عند المذاهب مفصلاً في مبحث الإجارة من كتابه، وقال في مبحث الحجر منه:
ويحجر على المدين في تصرفاته المالية حتّى لا تضيع على النّاس حقوقهم وأموالهم الّتي استندانها منهم، ثمّ ذكر اتفاق المذاهب علی ذلك(2).
وقال في الركن الثانی من أركان البيع:
الركن الثانی: العاقد، وأمّا العاقد سواء كان بائعاً أو مشترياً فإنّه يشترط له شروط: منها: أن يكون مميزاً، فلا ينعقد بيع الصبی الّذی لا يميز، وكذلك المجنون ...، ومنها: أن يكون العاقد مختاراً، فلا ينعقد بيع المكره ولا شراؤه لقوله تعالی: (بِالْبَاطِلِ إلّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)(3)، وقول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «إنَّما البَيْعُ عن تَراضٍ»(4).
ص: 404
إنّه قد استدلّ على اشتراط هذه الأمور زائداً على ما تقدّم من إرساله إرسال المسلمات ودعوى الإجماع عليه، بالكتاب والسنة، أمّا الكتاب فقوله تبارك وتعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)(1)، بتقريب أنّه سبحانه قد أمر بدفع أموال اليتامى إليهم بعد بلوغهم واستئناس رشدهم، وعبّر عن الشرط الأوّل ببلوغ النكاح، كما أشار إليه أيضاً ببلوغهم زمان الإحتلام في قوله عزّ وجل: (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَليمٌ حَكيمٌ)(2)، الّذی هو كناية عن خروج المنی ويكون من إحدى علامات البلوغ، وصرّح به في صحيحة هشام بن سالم عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه قال: «انْقِطَاعُ يُتْمِ الْيَتِيمِ الِاحْتِلَامُ، وَهُوَ أَشُدُّهُ، وَإِنِ احْتَلَمَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ وَكَانَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً فَلْيُمْسِكْ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَالَهُ»(3)، وكذا في خبر بل صحيحة حمران بن أعين الشيبانی حيث قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام قُلْتُ لَهُ: مَتَى يَجِبُ عَلَى الْغُلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْحُدُودِ التَّامَّةِ، وَتُقَامَ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذَ بِهَا؟ قَالَ: «إِذَا خَرَجَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَأَدْرَكَ، قُلْتُ: فَلِذَلِكَ حَدٌّ يُعْرَفُ بِهِ؟ فَقَالَ: إِذَا احْتَلَمَ، أَوْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ أَشْعَرَ، أَوْ أَنْبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ التَّامَّةُ، وَأُخِذَ بِهَا وَأُخِذَتْ لَهُ، قُلْتُ: فَالْجَارِيَةُ مَتَى تَجِبُ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ، وَتُؤْخَذُ بِهَا، وَيُؤْخَذُ لَهَا؟ قَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْغُلَامِ، إِنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ وَ دُخِلَ بِهَا وَلَهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ، وَدُفِعَ إِلَيْهَا
ص: 405
مَالُهَا، وَجَازَ أَمْرُهَا في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ، وَأُخِذَ لَهَا بِهَا، قَالَ:وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ يَحْتَلِمَ، أَوْ يُشْعِرَ، أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ»(1).
والرشد كما صرّح به علماء اللغة، هو الصلاح واصابة الحقّ والصّواب، خلاف الغیّ والضلال(2). ومقابل الرشيد السفيه، وهو أعمّ من أن يكون لقلّة سنه، أو لقلّة عقله وإدراكه، قال الله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(3)، وقد فسّرت «السّفيه» في مرفوعتي يونس بن يعقوب(4) وعلیّ بن أبی حمزة البطائنی(5) عن الصّادق علیه السلام ب- «الصغير» و«من لا تثق به» الشامل بعمومها للمجنون أيضاً سواء كان كبيراً أم لا، وبدلالته الإلتزامية على اشتراط العقل، فعليه لا يكون الصغير ولا المجنون برشيدين، فتدلّ الكريمتان على اشتراط البلوغ والعقل من هذه الشروط في صحة المعاملات الماليّة.
ص: 406
ثمّ إنّه قد استدل على اشتراط كون العاقد في المعاملات مختاراً بعموم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةًعَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحيماً)(1)، فمن اكره على شیء من المعاملات فلا تكون تجارته تجارة عن تراض منه، وبقرينة المقابلة يكون أكل ماله حينئذ أكلاً للمال بالباطل قد نهى الله تعالی عنه، وقد ثبت في محله أنّ الأوامر والنواهی الواردة في أبواب المعاملات كانت للإرشاد إلى الأحكام الوضعية من اشتراط متعلقاتهما في صحّة هذه العقود والمعاملات والحكم بفسادها عند مخالفتهما.
وإن شئت قلت: التراضی إنّما يتحقّق بالرضاء والإختيار، لا بالإجبار والإكراه، فانحصر الحلّ في المستشنی من الإستثناء.
وكذا قوله سبحانه في آية الإكراه: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ)(2)، الّتي نزلت في قصّة عمّار ياسر بعدم البأس بانكار الحقّ واظهار الكفر كرهاً وتقية، فإطلاقه يشمل المقام أيضاً.
والمراد بالإكراه في المقام هو العاقد الّذی حمّل عليه أيجاب الإجارة أو قبولها قهراً، بحيث يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله الضرر لو تركه.
ص: 407
هذا دليل اشتراط هذه الأمور أی البلوغ والعقل والإختيار بالكتاب، وأمّا دليل اشتراطها بما وردت من الأخبار والأحاديث فإنّه قد استدل على اشتراط البلوغ والعقل بروايات مستفيضة، فيها صحاح وغير صحاح، منها:صحيحة هشام بن سالم عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه قال: «انْقِطَاعُ يُتْمِ الْيَتِيمِ بِالاحْتِلَامِ وَهُوَ أَشُدُّهُ، وَإِنِ احْتَلَمَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدُهُ وَ كَانَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً فَلْيُمْسِكْ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَالَهُ»(1).
فإذا كان هذا حكم السفيه، الّذی يصرف أمواله في غير الأغراض الصحيحة والعقلائية، ففی المجنون بالأولوية والفحوی.
وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه قال: «إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَدَخَلَ في الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ احْتَلَمَ أَمْ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَكُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ، وَكُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتُ، وَجَازَ لَهُ كُلُّ شَیْ ءٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفاً أَوْ سَفِيهاً»(2)، قد حملها الشيخ الحرّ رحمه الله في «الوسائل» علی حصول البلوغ بالانبات.
وخبر محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيی عن أحمد بن محمّد عن بن محبوب عن عبد العزيز العبدی عن حمزة بن حمران عن أبی جعفر علیه السلام في حديث أنّه قال: «الْجَارِيَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ وَدُخِلَ بِهَا وَلَهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ، وَدُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا، وَجَازَ أَمْرُهَا في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ، وَأُخِذَ
ص: 408
لَهَا بِهَا، قَالَ: وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ يَحْتَلِمَ، أَوْ يُشْعِرَ، أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ»(1).أقول: رجال السند كلّهم إمامی ثقات، سوی حمزة بن حمران أعين الشيبانی الّذی لم يرد له في الرجال توثيق(2)، وعبد العزيز العبدی الّذی حكی ضعفه النجاشی عن شيخه ابن نوح وبتبعه سائر أصحاب الرّجال من دون أن يذكروا لضعفه وجهاً (3)، مع كونهما ذا كتاب وأصل في الحديث، ويروى كتاب الأخير جماعة منهم الحسن بن المحبوب(4) الّذی هو إمامی ثقة جليل، قد جعله الكشی في إعداد ما أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هولاء وتصدقيهم وأقرّوا لهم بالفقه والعلم(5)، وقال ابن داود في ترجمته: أجمعت العصابة على تصحيح ما يصّح عنه والاقرار له بالفقه(6)، زائداً على كون الرواية مفتی بها عند الفقهاء، وأنّ الرواية مروية بواسطة الكلينی رحمه الله وشهادته بأنّ ما روی في كتابه فهو
ص: 409
مروی عن الصادقين:(1)، فبذلك لا يبعد أن نعبّر عنها بالموثقة بل الصحيحة(2).
ومرفوعة دعائم الإسلام، عن أبی عبد الله رحمه الله أنّه قال في وَلِیِّ الْيَتِيمِ: «إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاحْتَلَمَ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ، وَإِنِ احْتَلَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ يُوثَقُ بِهِ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ، وَأَنْفَقَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَيْهِ»(3).
وما روت العامة والخاصة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعلىّ علیه السلام مسنداً أو مرفوعاً من رفع القلم عن ثلاثة: «عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الطِّفْلِ حَتَّى يَحْتَلِمَ»(4)، والرواية وإن كانت ضعيفة سنداً إلا أنّ فقهاء الفريقين قد تلقّاها بالقبول.
ص: 410
وأمّا دليل اشتراط الإختيار من الأخبار، فقد روی عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في خطبته بمنى في حجة الوداع: «أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ حَقّاً، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَمَالُهُ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ»(1).
وما روی ابن أبی جمهور الأحسائی في كتابه عن رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: «الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ مَالُهُ إلّا عَن طِيبِ نَفْسِهِ»(2).
وما روی عن طريق العامة عن النبّی صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ»(3).
ولا يبعد كونهما واحدة ، وكيف كان لا يقدح وحدتها، أو ضعف أسانيدهما بعد ما كانت الرواية أو الروايات واضحة الدلالة، معمولة بها عند الأصحاب بل عند الفريقين، وكونها موافقاً للكتاب.
هذا مع ما ورد من لزوم الإختيار في صحة «الطلاق» و«العتق» بانضام عدم الفرق بينهما وسائر العقود والايقاعات من باب تنقيح المناط القطعی، إذ لا يعرف لخصوص الطلاق أو العتق خصوصية من هذه الجهة مفقودة في غيرهما، منها صحيحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: سَأَلْتُهُ عَنْ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَعِتْقِهِ؟ فَقَالَ: «لَيْسَ طَلَاقُهُ بِطَلَاقٍ، وَلَا عِتْقُهُ بِعِتْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّی رَجُلٌ تَاجِرٌ أَمُرُّ بِالْعَشَّارِ وَمَعِی مَالٌ، فَقَالَ: غَيِّبْهُ مَا اسْتَطَعْتَ وَضَعْهُ مَوَاضِعَهُ، فَقُلْتُ: فَإِنْ حَلَّفَنِی بِالطَّلَاقِوَالْعَتَاقِ؟ فَقَالَ: احْلِفْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ تَمْرَةً فَحَفَرَ بِهَا مِنْ زُبْدٍ كَانَ قُدَّامَهُ، فَقَالَ: مَا أُبَالِی حَلَفْتُ لَهُمْ بِالطَّلَاقِ
ص: 411
وَالْعَتَاقِ أَوْ أَكَلْتُهَا»(1).
وأمّا دليل اشتراط كون العاقد غير محجور عن التصرف في أمواله، أنّه إذا كان ديون شخص زائداً عمّا يملكه فعلاً وحكم عليه الحاكم أيضاً بكونه ممنوعاً عن التصرف في أمواله، فحيث تعلّق بأمواله حقّ غرمائه لا سيّما كلّ من وجد عين ماله فيها، فلا يجوز له أن يتصرف فيها إلا بإجازتهم، قد استدلّ على ذلك بصحيحة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه: «أَنَّ عَلِيّاً علیه السلام كَانَ يُفَلِّسُ الرَّجُلَ إِذَا الْتَوَى عَلَى غُرَمَائِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ، فَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، فَإِنْ أَبَى بَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ» يَعْنِی مَالَهُ(2).
وموثقة السكونی عن جعفر عن أبيه: «أَنَّ عَلِيّاً علیه السلام كَانَ يَحْبِسُ في الدَّيْنِ ثُمَّ يَنْظُرُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَعْطَى الْغُرَمَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ دَفَعَهُ إِلَى الْغُرَمَاءِ فَيَقُولُ لَهُمُ: اصْنَعُوا بِهِ مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ آجِرُوهُ، وَإِنْ شِئْتُمُ اسْتَعْمِلُوهُ»(3).
ومرفوعة دعائم الإسلام عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه قال: «الْمُفْلِسُ إِذَا قَامَ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءُ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مِنْهُمْ بِقَبْضِ حَقِّهِ مِمَّا وَجَدَ في يَدَيْهِ كُلُّ عَامِلٍ عَمِلَ فِيهِ، أَوْ أَجِيرٍ اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ بِأُجْرَةٍ، أَوْ بِثَمَنِ دَابَّةٍ إِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَتْ عَلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْغُرَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ أُسْوَةً»(4)، ينجبر ضعفها بعمل الأصحاب.
ص: 412
أمّا اعتبار القصد في المتعاقدين فهو من قبيل القضايا قياساتها معها، لبناء العقلاء كافة على أنّ ما لا قصد فيه ساقط عن الاعتبار مطلقاً، والمراد به القصد الجدّی الإنشائی، فعليه لا عبرة بما صدر أحياناً من الغافل والنائم والساهی والناسی والمدهوش والسكران والمغمى عليه، زائداً على ما ورد من تعميم كون الأعمال بالنّيات.
أضف إلى ذلك كلّه أنّ العقلاء بما هم عقلاء لا يترتبون الآثار المترتبة على العقود والايقاعات على من أكره على شیء منها، وكذا على كلّ من لم يكن ببالغ ولا قاصد ولا عاقل أو سفيه أو محجور، هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل.
نتعرّض في هذا الفرع للأمور المعتبرة في العين المستأجرة وأدلتها، وأحسن الأقوال في هذا المجال علی ما ظفرنا عليه هو ما قاله الإمام الراحل قدس سره حيث قال:
وأمّا العين المستأجرة فيعتبر فيها أمور: منها - التعيين، فلو آجر إحدي الدارين أو إحدي الدابتين لم تصحّ، ومنها - المعلوميّة، فإن كانت عيناً خارجية فإمّا بالمشاهدة وإمّا بذكر الأوصاف الّتي تختلف بها الرغبات في إجارتها، وكذا لو كانت غائبة أو كانت كلية، ومنها - كونها مقدوراً على تسليمها، فلا تصحّ إجارة الدابة الشاردة ونحوها، ومنها - كونها ممّا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، فلا تصحّ إجارة ما لا يمكن الانتفاع بها، كما إذا آجر أرضاً للزراعة مع عدم إمكان إيصال الماء إليها، ولا ينفعها ولا يكفيها ماء المطر ونحوه، وكذا ما لا يمكن الانتفاع بها إلا بإذهاب عينها كالخبز للأكل والشمع أو الحطب للإشعال، ومنها - كونها مملوكة أو مستأجرة، فلا تصحّ إجارة مال الغير إلا بإذنه أو
ص: 413
إجازته، ومنها - جواز الانتفاع بها، فلا تصحّ إجارة الحائض لكنس المسجد مباشرة(1).
أقول: حيث لا يمكن الإنتفاع بالمنفعة إلا بعد تسليم العين المؤجرة فيعتبر فيها أمور وهی كثيرة:
لو كانت العين مجهولة أو مردّدة بين فردين أو أفراد مثل أن آجر إحدي الدارين أو إحدي الدابتين لم تصحّ، نعم إذا كان أصل الإجارة قطعياً ويكون موردها إحدي العينين المتماثلتين من جميع الصفات والمنافع المقصودة عندهما، وكذا في الأجرة المجعولة لهما بأن لا يتفاوت لواحد من المتعاقدين كونه هذا أو ذلك كتفاح أنتصف من الوسط، فالأقوی كون الإجارة صحيحة، وتكون مثل من باع صاعاً من صبرة معلومة متساوية الأجزاء حيث يكون المبيع واحد منها على البدل، ففی المقام يتشخّص مورد الإجارة بما اختاره المستأجر، وحيث يكون عقد الإجارة لازمة من الطرفين فليس للموجر حينئذ منعه منها.
وإن شئت قلت: لا يختص التعيين بالعين المستأجرة فقط، بل كما سيأتی يشمل الطرف الآخر وهو الأجرة أيضاً، فكما يجوز كون الأجرة المجعولة للعين جزئية أو كليّة تتشخصّ بما سلّمها المستأجر، فكذلك يجوز أن يكون مورد الإجارة واحدة من العيون الّتي متشابهات من جميع الصفات والمنافع المقصودة منها عند المتعاقدين وفی الأجرة المجعولة لها، بحيث لا يتفاوت لواحد منهما كونه هذا أو ذلك.
ص: 414
فزائداً على كون العين المستأجرة معينة عندهما، للزم أن تكون معلومة لديهما أيضاً، والمراد به المعلومية بالإضافة إلى الصفات والمنافع الّتي تختلف بها الرغبات لغرض إجارتها، فإن كانت داراً مثلاً، احتاج إلى مشاهدة البيوت، ليعرف تعدادها وأنّها صغيرة أو كبيرة، وغيرها من الأوصاف والكيفيات.
والنسبة بين العنوانين هی العموم والخصوص المطلق، وذلك لأنّ كلّ معلوم معين، لكنّه ليس كلّ معيّن بمعلوم لاحتمال أن يكون شیء واحد معين مجهولاً من بعض الجهات والأوصاف، فعليه لو كانت العين حاضرة للزم مشاهدتها حتّى لا يبقى فيها جهة مخفية عند من استأجرها، ولو كانت غائبة أو كليّة للزم توصيفها بما يرفع معه الجهالة كما في بيع السّلم، قال العلامة رحمه الله في مبحث البيع من «التذكرة»:
أجمع علماؤنا على أنّ العلم شرط فيهما (العوضين) ليعرف ما الّذی ملك بإزاء ما بذل فينتفی الغرر، فلا يصحّ بيع الغائب ما لم تتقدّم رؤيته مع عدم تغيره، أو وصفه وصفاً يرفع الجهالة - وبه قال الشعبی والنخعی والأوزاعی والحسن البصری وعبيد الله بن الحسن العنبری ومالك وإسحاق والشافعی في أصحّ القولين، وأحمد في إحدي الروايتين لنهي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن الغرر، ولأنّه باع ما لم يره ولم يوصف فلم يصحّ، كبيع النوى في التمر، ولأنّه نوع بيع فلم يصحّ مع الجهل بصفة المبيع، كالسّلم.
ص: 415
وقال أبو حنيفة والشافعی في القول الثانی، وأحمد في الرواية الثانية: بالصّحة، لقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، ولأنّه عقد معاوضة، فلا تفتقر صحّته إلى رؤية المعقود عليه كالنكاح(1).
بضميمة أنّ شرائط العين في المقام تساوی شرائطها هاهنا، وقال في مبحث الإجارة من «التحرير»:
تجوز إجارة الأعيان المشاهدة والموصوفة، ويثبت له خيار الرؤية، والأقرب عندی جواز إجارة غير المعيّن مع الوصف الرافع للجهالة، ويجب في الأعيان المشاهدة رؤية كلّما يتعلّق الغرض به، فإن كانت داراً احتاج إلى مشاهدة البيوت، ليعرف صغيرها وكبيرها ومرافقها، وإن كانت حمّاماً، وجب مشاهدة قدره ليعلم كبرها وصغرها، ومعرفة مائه هل هو من قناة أو بئر؟ ويحتاج إلى مشاهدة البئر وعمقها ومئونة إخراج الماء منها، ومشاهدة الأتون(2) ومطرح الرماد، وموضع الرمل، ومصرف ماء الحمام . ولو استأجر أرضاً، وجب أن يشاهدها لانتفاء معرفتها بالوصف(3).
وقال في «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله : الشرط الرابع أن تكون المنفعة معلومة:
بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه، للغرر وغيره، بل قيل: إنّ العامّة الّذين اكتفوا بالمشاهدة في البيع، وافقوا هنا علی وجوب العلم بقدر المنفعة، لا يجوز حينئذ علی المجهولة فضلاً عن المبهمة ولو
ص: 416
بابهام العين المستأجرة بل لا بدّ من التزام العين في الذمّة كما يلتزمها بالسّلم وتشخيص العين(1).
ثمّ إنّه قد استدل على اشتراطها تارة بعدم الخلاف أو الإجماع، وأخرى وهو العمدة بأنّ بناء العقلاء على ذلك حيث إنّهم ينتظمون عقودهم الماليّة الهامّة على وجه معلوم واضح لا يعتريه أیّ ترديد وشبهة يوجب منازعة في الحال أو المستقبل، ويذمّون كلّ من لم يلتفت بذلك، فعليه فالمعاملة على المردد غير المعلوم، خارج عن حدود المعاملات الرائجة بينهم، ولا تكون مشمولة عندهم لأدلة وجوب الوفاء بالعقود والعهود.
وثالثة: بما رواه الخاصة والعامة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من أنّه قد نهى رسول اللّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»(2)، بناء على إلغاء خصوصية عن البيع واستفادة المناط القطعی للمقام منه، والخبر وإن كان غير نقی السند إلا أنّه حيث كان مشهوراً بينهم قد أفتى به الفقهاء على بطلان ما يوجب الغرر في كافة المعاملات، فينجبر به ضعفه، قال الشيخ الأعظم رحمه الله بعد نقله الخبر: واشتهار الخبر بين الخاصة والعامة يجبر إرساله(3).
ص: 417
حيث إنّ الغرض من الإجارة هو الانتفاع بمنفعة العين، فيجب إمّا أن يكون الموجر قادراً على تسلميها، أو على قول قویّ أن يكون المستأجر قادراً بنفسه على الانتفاع بها ولو بأخذها من الغاصب ونحوه، وإلا يكون بذل المال بإزائها حينئذ عملاً سفهيّاً قد نهى العقل والنقل عنه، أرسلها كثير من الفقهاء إرسال المسلمات منهم الإمام الراحل قدس سره في المقام، وادّعى عدم الخلاف أو كونها ممّا أجمع عليه الأصحاب بعض آخر، بل وهی أيضاً شرط عند قاطبة العامة(1)، فلا تصحّ إجارة الآبق ولا الدابة الشاردة ونحوهما، قال ابن إدريس الحلى رحمه الله .
ومنها (الشرائط) أن يكون مقدوراً على تسليمه، حسّاً وشرعاً، فلو آجر عبداً آبقاً، أو جملاً شارداً، أو ما لا يملك التصرف فيه، لم يصحّ (2).
ومثله المحقق رحمه الله في «الشرائع» حيث قال:
السادس (من شرائط المنفعة) أن تكون المنفعة مقدوراً على تسليمها، فلو آجر عبداً آبقاً لم تصحّ (3).
وقال في «المسالك» بعد نقل كلام المحقق صاحب «الشرائع»:
نعم لو كان المستأجر يتمكّن من تحصيله جاز من غير ضميمة كالبيع. وكذا القول في المغصوب لو آجره للغاصب أو لمن يتمكّن من قبضه(4).
ص: 418
وقال المحقق الأردبيلی رحمه الله :
من شرائط الإجارة قدرة الموجر على تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر، ولا شك في اشتراط كون العين المستأجرة مقدورة التسليم في الجملة ليمكن الانتفاع المطلوب منها، إذ استيجار الغير المقدورة الّتي لا يمكن الانتفاع المطلوب منها سفه و غرر، ولا يجوز ، والظاهر عدم الخلاف فيه، ويدلّ عليه العقل والنقل مثل استيجار الأخرس للتعليم والأعمى لحفظ متاع بالبصر. وأمّا اشتراط كون تسليم المنفعة مقدوراً للموجر فالظاهر لا، بل يكفی إمكان التسليم، فلو كان المستأجر قادراً على استيفاء المنفعة بأخذ العين من الغاصب بنفسه أو بمعاونة غيره، فالظاهر جواز استيجاره (1).
وسيّد بن زهرة الحلبیّ رحمه الله بعد ما عدّ القدرة على التّسليم في إعداد ما يشترط في صحة الإجارة، قال:
كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة المحقّة، ولأنّه لا خلاف في صحة العقد مع تكامل ما ذكرناه، وليس على صحته مع اختلال بعضه دليل(2).
وقد ذكر ابن قدامة الحنبلی: أنّ عدم قدرة المستأجر من الانتفاع بالعين في بعض مدّة الإجارة تثبت للمستأجر خيار الفسخ فإن فسخ فلا كلام، وإن لم ينفسخ وعادت العين في أثناء المدّة استوفی ما بقی منها، وعليه من الأجر بقدر ما استوفی منها. وفی تمام طول مدّة الإجارة توجب انفساخ العقد، لفوات المعقود عليه وهو المنفعة(3)، فيدلّ بالملازمة على أنّ القدرة شرط في صحة الإجارة.
ص: 419
وقال الشيخ رحمه الله في كتاب البيوع من «الخلاف»:
لا يجوز بيع العبد الآبق منفرداً، ويجوز بيعه مع سلعة أخرى، وقال الفقهاء بأسرهم: لا يجوز بيعه، ولم يفصّلوا، وحكی عن ابن عمر أنّه أجازه، وعن محمّد بن سيرين أنّه قال: إن لم يعلم موضعه لم يجز، وإن علم موضعه جاز، دليلنا على منع بيعه منفرداً: إجماع الفرقة، ولأنّه لا يقدر على تسليمه، ولأنّه بيع الغرر، فأمّا جوازه مع السلعة الأخرى فإجماع الفرقة، ودلالة الأصل، والمنع يحتاج إلى دليل(1).
بناءً على كونه شرطاً مشتركاً في البيع والإجارة. وكيف كان قد استدلّ عليه تارة بالاتفاق والإجماع، وأخرى بالكتاب وثالثة بما وردت من الأخبار في المقام، أمّا الإجماع فقد أشرنا إليه آنفاً عند نقل كلمات الحلبی والمحقق الأردبيلی والشيخ رضوان الله تعالی عليهم، وتقدّم أنّها أيضاً شرط عند قاطبة العامة، وأمّا الكتاب فقد قال الله تبارك وتعالى: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)(2)، وحيث إنّ الغرض من الإجارة عند العرف والعقلاء منحصر في إمكان استيفاء المستأجر بالعين المستأجرة، يكون إعطاء الأجر عند فقدانه إعطاءً سفهيّاً قد نهى الله عنها.
وإمّا الأخبار فالعمدة منها هو ما تقدّم من النّبو صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ المشهور الدّال على النّهى عن بيع الغرر، والاستدلال به بعد تماميّة سنده وشموله لكافة المعاملات والعقود، متفرع على بيان معنی «الغرر» ومفهومه لغة وعرفاً، فأمّا معناه عند أهل اللغة، فقد ذكروا لمادة الغرّ والغرور والغرر والغِرّة بالكسر والغُرّة بالضم معاني
ص: 420
متعددة، إلا أنّ ما يناسب منها في المقام هو الغرر بمعنى الخطر والهلاك(1)، والمراد به كلّ ما كانت من البيوع والمعاملات غرريّة في حدّ ذاته ومحلّاً للخطر باعتبار كون أحد العوضين فيه كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، والآبق بلا ضميمة، غير معلوم الحصول، فيكون إعطاء المال في مقابله حينئذ تضيعاً للمال وتعريضاً للتلف والهلاك، ومن شأنه أن يحترز عنه في العرف والعادة، بحيث من لم يلتفت إليه ولا يعتنی به ولم يحترز عنه، كان محلاً للتوبيخ ومستحقّاً للّوم عند العقلاء.
وأمّا معناه عند العرف هو الفساد والبطلان، كما هو متفاهم فقهاء الفريقين منه في الحديث، بأنّ النهی الوارد في النّبوى صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يكون للإرشاد إلى فساد متعلّقه، بمعنی أنّ كلّ ما يخالف الأغراض من ايجادها في باب البيوع والمعاملات فهو غرری وفاسد، ولم يكن مشمولاً لأدلّة وجوب الوفاء بالعقود والعهود.
ومنها: ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق علیه السلام عن آبائه: في مناهی النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: «وَنَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَنَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ»(2)، بتقريب أنّه على عمومه يشمل لمن آجر ما لا يقدر على تسليمه، ومثله ما رواه الفريقين مرسلاً عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في قوله لحكيم بن حزام: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»(3).
ص: 421
بعد ما ثبت اشتراط القدرة هنا، فهل يشترط مباشرة المؤجر التسليم بنفسه أم لا؟
قد مرّ أنّ الغرض من الإجارة هو أن ينتفع المستأجر بمنفعة العين، فالظاهر
أنّه كما تقدّم من استظهار الأردبيلی رحمه الله في شرح الإرشاد(1) أنّه لا فرق بين أن سلّمها المؤجر بنفسه العين إليه، أو تصدّی غيره لذلك من دون فرق بين كونه وكيلاً عنه أو متبرعاً، أو كفّله المستأجر بشخصه ولو بإن استأجرها بثمن أرخص من ثمن المثل، ولاأقلّ من الشك فيرجع لدفعه حينئذ إلى الأصل.
ومنها: أن تكون العين ممّا يمكن الانتفاع بها مع بقائها:
من الشرائط المعتبرة في العين المستأجرة أن تكون العين ممّا يمكن الانتفاع
بها مع بقاء عينها، وهذا من قبيل قضايا قياساتها معها بحيث لا يحتاج إلى إقامة الدليل والبرهان، إذ حقيقة الإجارة عبارة عن تمليك المنافع لا الأعيان، فلا بدّ في مصاديقها من التّحفظ على رعاية هذا الأصل، و كلّ ما ينافی ذلك فهو يضادّ مفهومها، من دون فرق فيه بين أن تكون العين ممّا انعدمت منها المنفعة المقصودة، أو فاقدة لها من البدو، مثل ما إذا آجر أرضاً للزراعة مع عدم إمكان إيصال الماء إليها، ولا يكفيها ماء المطر ونحوه، أو تكون ممّا يتعذّر فيه الزرع لغلبة الملح وغيره.
و بين أن لا تكون العين ممّا ينتفع بها مع بقاء عينها كأن يستأجر شيئاً لا ينتفع به إلا بإذهاب عينه كالخبز للاكل والحطب والنفط للاشتعال.
ومنها: أن تكون العين مملوكة أو مستأجرة:
ص: 422
لا خلاف في اشتراط هذا الشرط على وجه أرسله الأصحاب إرسال المسلمات، وذلك لإنّ الإجارة نوع تصرف في المال فيشترط أن تكون العين مملوكة أو مستأجرة حتّی لا يتصرّف في مال الغير بغير إذنه، فإذا لم يكن العاقد مالكاً فإن آجرها لنفسه فهو غاصب وكان آكلاً للمال بالباطل، وإن آجره لمالكه فهو فضول، فإن قلنا ببطلانها من أصلها فلا تصحّ الإجارة رأساً، وإن قلنا بالصّحة والتوقف على الإجازة فتصحّ معها، ففی «الجواهر» بعد حكاية كلام المحقق في «الشرائع»: أن تكون المنفعة مملوكة، قال:
بلا خلاف أجده فيه، بل هو من الواضحات، ضرورة عدم تحقّق المعارضة في غير المملوكة الّتي يكون الموجر والمستأجر فيها على حدّ سواء كمنافع الأعيان المباحة(1).
يمكن أن نستدلّ علی ذلك بعموم قوله تعالی: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(2)، وما روی الفريقين عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسِه»(3).
ثمّ إنّ المراد من الملكية في المقام، هو ملكية التصرف لا العين، إذ النسبة بين العنوانين عموم وخصوص من وجه، قد تجتمعان كما إذا كان المالك واجداً لجميع الشروط المعتبرة في المتعاقدين، وأخرى ما يكون مالكاً للعين فقط دون التّصرف كأن يكون سفيهاً أو محجوراً، وثالثة على عكس ذلك بأن يكون مالكاً
ص: 423
للتّصرف لا العين كما إذا كان العاقد وليّاً أو وصيّاً أو وكيلاً عن المالك، فإنّهم حينما كانوا غير مالكين لكنّه يصحّ تصرفاتهم في أموال المولّى عليه والموصی عليه والموكّل، فالأولى أن نعبّر هنا عوض كون العين مملوكة أو مستأجرة، بأنّ الموجر ممّن يجوز له التصرف في العين المستأجرة.
ومنها: كون العين ممّا يجوز الانتفاع بها:
من الشرائط المذكورة في المقام جواز الانتفاع بالعين حالة الإجارة، وقد مثّلوا لذلك بعدم صحة إجارة الحائض والجنب لكنس المسجد مباشرة في زمان حدثهما، حيث إنّ المنفعة إذا كانت محرمة فلا يمكن، أو لا يجوز تسليمها شرعاً، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، وقد تقدّم أنّ القدرة على التّسليم شرط في صحة الاجارة.
وهنا قول بالصّحة بأنّ هذا الاستدلال إنّما يصحّ إذا كان نفس العمل بذاته محرماً كأن آجر نفسه لعمل محرّم من قتل أو ضرب ونحوهما من المحرّمات الإلهيّة الّتي لم يكن لأحد بالنسبة إليها بعد نهى الشارع سلطنة حتّى يمكن تمليكه للغير بالإجارة ونحوها وبتبعه لم يكن الغاصب ضامناً لما أتلفه، بخلاف المقام الّتي كانت المنفعة وهى كنس المسجد حلالاً بذاته، إذ الكنس بما هو كنس حلال، وإنّما المحرّم هو مكث الحائض في المسجد المتوقّف عليه الكنس، وحرمة هذا لا تستلزم حرمة مقارناته، ومن ثمّ لو آجرت نفسها لذلك حينئذ غير مبالية بأمر الدّين، فهى مالكة لأجرة المسمّی، فمن القائلين بالقول الأوّل العلامة الحلي رحمه الله في «القواعد» حيث قال:
والمنع الشرعی كالحسّی، فلو استأجر لقلع ضرس صحيح أو قطع يد صحيحة أو استأجر جنباً أو حائضاً لكنس المسجد لم يصحّ، ولو
ص: 424
كانت السنّ وجعة أو اليد متآكلة صحّت، فإن زال الألم قبل القلع انفسخت الإجارة (1).
وقريب منه ما قاله في «الجواهر» ما هذا نصّه:
نعم لا فرق في تعذّر التّسليم المانع من صحة الإجارة بين العقلی والشرعی، فلو استأجر لقلع ضرس صحيح أو قطع يد صحيحة، أو جنباً أو حائضاً بخصوصهما لكنس المسجد في زمان حدثهما لم تصحّ (2) .
واختار القول الآخر السيّد الخوئی قدس سره حيث قال في ملاحظته على دليل منعه الّذی ذكره أستاذه المحقق النائينی رحمه الله من: أنّ المنفعة المحرمة ليست مملوكة ليمكن تمليكها:
ويتندفع بأنّ هذا إنّما يتّجه بالإضافة إلى إجارة الأعمال، فلو آجر نفسه لعمل محرّم من قتل أو ضرب أو كذب أو نقل الخمر من مكان إلى آخر و نحو ذلك من المحرّمات الإلهية لم يصحّ، نظراً إلى عدم السلطنة له على هذه الأعمال بعد النهی الشرعی، فلا تعتبر ملكيّته لما هو ممنوع عنه، ولم يكن تحت اختياره، فليس له إذاً التمليك للغير كما افاده قدس سره .
وأمّا بالنسبة إلى إجارة الأعيان فكلّا، إذ المحرّم إنّما هو فعل المستأجر من إحراز المسكر أو بيع الخمر ونحو ذلك لا الحيّثية القائمة بالمال الّتي هی مناط صحة الإيجار حسبما مرّ...، وممّا يرشدك إلى أنّ تلك القابليّة مملوكة حتّى فيما لو صرفت في الحرام أنّه لا ينبغی التأمّل في أنّ من غصب داراً فأحرز فيها الخمر، أو دكّاناً فباعها فيه، أو دابة فحملها عليها من مكان إلى آخر فإنّه يضمن لمالك العين أجرة المثل
ص: 425
لما استوفاها من المنافع جزماً، ولا سبيل إلى القول بعدم الضمان بدعوى عدم ماليّتها بعد كونها محرمة.
وهذا بخلاف ما لو أجبر حراً على عمل محرّم من كذب أو ضرب أو حمل الخمر ونحو ذلك، فإنّه لا يضمن هذه المنافع، إذ الحرام لا مالية له في شريعة الإسلام، فلا يكون الحرّ مالكاً لذاك العمل حتّى يكون الغاصب ضامناً لما أتلفه ...، ثمّ وصل إلى هذه النتيجة أنّه: لو فرضناها غير مبالية بالدّين فدخلت المسجد وكنست فلما ذا لا تكون هذه المنفعة مملوكة بعد أن كانت محللة ومقدورة التسليم تكويناً ؟ وهذا المقدار كاف في صحة الإجارة، إذاً فلا بدّ في الحكم بالبطلان من التماس دليل آخر(1).
أقول: المسألة كما عرفت ذات قولين: قول بالمنع الّذی اختاره الأكثر بل كثير، وقول بالجواز الّذی هو خيرة السيّد الخوئی رحمه الله ، والتحقيق أن نفصّل في المقام بين ما لو أنشأ العقد مبنياً على فرض العصيان، أی الكنس مباشرة بشرط كونهما في زمان حدثهما، فإنّه لا وجه لصحته حينئذ، لتوقف الوفاء بالإجارة دائماً مع هذا الفرض على المكث الحرام والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً.
وبين ما لم يكن كذلك بأن اتّفق كونهما في تلك الحالة، ولم يكن من عزمهما فعله حينئذ، فالأقوى من هذين القولين عندی فيها هو القول الثانی، وذلك لأنّه بعد ما كان طرفي الإجارة أی المنفعة والأجرة مباحة في حدّ ذاتهما، وكون المقام من قبيل الأقلّ والأكثر الاستقلاليين الّذی مرجعه البرائة، يشمله إطلاقات أدلة الإجارة، إذ قاعدة «الممنوع شرعاً كالممنوع عقلاً» على فرض
ص: 426
تسليمها لم تثبت أزيد من فرض الأوّل، فإن دلّ دليل آخر على منع الأكثر أيضاً، وإلا فالأصل جوازه.
نعم لا ريب في أنّهما لو كنسا المسجد مباشرة حالة حدثهما عاصيان، لكنّ الإجارة لم تكن من قبيل العبادات حتّى يكون النهی عن شیء غير مرتبط بها مستقيماً وهو المكث في المسجد زمان حدثهما مبطلاً لها، العصيان شیء والبطلان شیء آخر، وحيث إنّ رفع الحدث في الجنب اختياری فالصّحة بالنسبة إليه أظهر.
وبعبارة أخرى: لا يستكشف من إثبات الحكم تكليفاً إثباته وضعاً كما في البيع وقت النداء على ما هو المشهور(1).
وقد حدّ المنع أيضاً في خبر تحف العقول عن الصادق علیه السلام المنجبر ضعفه بفتوى المشهور، وجوه الحرام من الإجارة، في أن يؤاجر الإنسان نفسه على عمل كان منهياً ومحرماً عليه من غير جهة الإجارة، حيث قال: «فَأَمَّا وُجُوهُ الْحَرَامِ مِنْ وُجُوهِ الْإِجَارَةِ نَظِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُهُ، أَوْ شُرْبُهُ، أَوْ لُبْسُهُ، أَوْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ في صَنْعَةِ ذَلِكَ الشيء، أَوْ حِفْظِهِ، أَوْ لُبْسِهِ، أَوْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ في هَدْمِ الْمَسَاجِدِ ضِرَاراً، أَوْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حِلٍّ، أَوْ حَمْلِ التَّصَاوِيرِ وَالْأَصْنَامِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْبَرَابِطِ وَالْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ شيء مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ الَّذِی كَانَ مُحَرَّماً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْإِجَارَةِ فِيه،ِ وَكُلُّ أَمْرٍ مَنْهِیٍّ عَنْهُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْإِنْسَانِ إِجَارَةُ نَفْسِهِ فِيهِ، أَوْ لَهُ، أَوْ شيء مِنْهُ، أَوْ لَهُ إِلَّا لِمَنْفَعَةِ مَنِ اسْتَأْجَرَهُ كَالَّذِی يَسْتَأْجِرُ الْأَجِيرَ يَحْمِلُ لَهُ الْمَيْتَةَ يُنَحِّيهَا عَنْ أَذَاهُ، أَوْ أَذَى غَيْرِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ»(2).
إلى هنا تمّ الكلام في الفرع الثانی من الفروع الأربعة.
ص: 427
وأمّا ما يعتبر في المنفعة المستأجرة فهی أيضاً أمور، وأحسن الأقوال في هذا المجال علی ما ظفرنا عليه أيضاً هو ما قاله الإمام الراحل قدس سره حيث قال:
وأمّا المنفعة فيعتبر فيها أمور: منها كونها مباحة، فلا تصحّ إجارة الدكّان لإحراز المسكرات أو بيعها، ولا الدابة والسفينة لحملها، ولا الجارية المغنية للتغنی ونحو ذلك، ومنها كونها متمولّة يبذل بإزائها المال عند العقلاء، ومنها تعيين نوعها إن كانت للعين منافع متعددة، فلو استأجر الدابة يعيّن أنّها للحمل أو الركوب أو لإدارة الرّحى وغيرها، نعم تصحّ إجارتها لجميع منافعها، فيملك المستأجر جميعها، ومنها معلوميتها إمّا بتقديرها بالزمان المعلوم كسكنی الدار شهرة أو الخياطة أو التعمير والبناء يوماً، وإمّا بتقدير العمل كخياطة الثوب المعيّن خياطة كذائية فارسية أو روميّة من غير تعرّض للزمان إن لم يكن دخيلاً في الرّغبات وإلا فلا بدّ من تعيين منتهاه(1).
فأوّل ما يعتبر فيها هو كونها مباحة، فلا تصحّ ولا تنعقد إجارة الدكّان لإحراز المسكرات أو بيعها ولا الدابة والسفينة لحملها، ولا الجارية المغنية للتغنّی ونحو ذلك، أرسله بعض إرسال المسلمات، وادّعى عليه الإجماع عند الأصحاب بعض آخر، والظاهر أنّه كذلك عند العامة(2)، لكن حكی في «الخلاف» عن أبی حنفية والشافعی من العامة القول بالصّحة والتحريم، فعليه أن يعمل فيه بغيرها من الأعمال المباحة دون ما استأجره له، حيث قال:
إذا استأجر داراً ليتّخذها مأخوراً يبيع فيها الخمر، أو ليتّخذها كنيسة، أو بيت نار، فإنّ ذلك لا يجوز والعقد باطل، وقال أبو حنيفة: العقد
ص: 428
صحيح، ويعمل فيه غير ذلك من الأعمال المباحة دون ما استأجره له، وبه قال الشافعی.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً فهذه الأشياء محظورة بلا خلاف، فلا يجوز الاستيجار لها (1).
وقال المحقق رحمه الله في «الشرائع»:
فلو آجره مسكناً ليحرز فيه خمراً، أو دكّاناً ليبيع فيه آلة محرمة، أو أجيراً ليحمل له مسكراً لم تنعقد الإجارة، وربما قيل بالتحريم وانعقاد الإجارة، لإمكان الانتفاع في غير المحرّم، والأوّل أشبه لأنّ ذلك لم يتناوله العقد(2).
وقال في مبحث التجارة منه عند البحث عمّا يحرم التكسب به لحرمة ما قصد به:
كالآت اللهو مثل العود والمزمر، وهياكل العبادة المبدعة كالصليب والصنم، وآلات القمار كالنرد والشطرنج، وما يفضی إلى مساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدّين، وإجارة المساكن والسفن للمحرمات، وبيع العنب ليعمل خمراً وبيع الخشب ليعمل صنماً (3).
وزاد عليه في «الجواهر»:
فلا خلاف أجدها فيها مع التصريح بالشرطية أو الاتفاق عليها على وجه بنی العقد عليها، بل عن مجمع البرهان نسبته إلى ظاهر الأصحاب، بل عن المنتهی دعوى الإجماع عليه، كما عن الخلاف والغنية الإجماع على عدم صحة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر أو الدكّان ليباع فيه، بل عن الأوّل زيادة نسبته إلى أخبار الفرقة أيضاً، بل قد
ص: 429
يظهر من الأصحاب كون الحكم كذلك مع فرض القصد لذلك وإن لم يكن على جهة الشرطية بل إنّما كان على جهة الغائية، بل قد يقال: يكون الحكم كذلك عندهم مع فرض ذلك من البائع خاصة، فضلاً عن اشتراطه وعن اتفاق المشتری معه عليه(1).
ومن المصرّحين بكونها إجماعيّة سيّد بن زهزة الحلبی رحمه الله حيث بعد ما عدّ إباحة المنفعة في إعداد ما يشترط في صحة الإجارة، قال:
كلّ ذلك، بدليل إجماع الطائفة المحقّة، ولأنّه لا خلاف في صحة العقد مع تكامل ما ذكرناه، وليس على صحته مع اختلال بعضه دليل(2).
وقال القرطبی فيما أجتمعوا على إبطال إجارته:
كلّ منفعة كانت لشیء محرّم العين، وكذلك كلّ منفعة كانت محرّمة بالشرع مثل أجر النوائح وأجر المغنّيات، وكذلك كلّ منفعة كانت فرض عين على الإنسان بالشرع مثل الصلاة وغيرها (3).
ثمّ إنّه قد استدلّ علی ذلك زائداً على ما تقدّم من دعوى الإجماع، تارة: بأنّ المنفعة المحرّمة مطلوبة العدم في نظر الشارع والممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً، أو لا تكون هی مملوكة لأحد بوجه من الوجوه، فلا يتعلّق بها ملك المؤجر حتّى يملّكها غيره، أو أنّ جواز العقد عليها حينئذ يكون من قبيل التعاون على الإثم، أو
ص: 430
أكل المال بالباطل(1)، وقد نهى الله عزّ وجل عنهما(2)، إليه أشار إجمالاً العلامة رحمه الله حيث قال:
كلّ منفعة محرّمة لا يجوز عقد الإجارة فيها لأنّها مطلوبة العدم في نظر الشرع، فلا يجوز عقد الإجارة على تحصيلها وذلك كالزنا والزمر وأنواع الملاهی وتعلّمها وتعليمها، والغناء والنوح بالباطل، فلا يجوز الاستيجار لفعل الغناء، وبه قال مالك والشافعی وأبو حنيفه وصاحباه وأبو ثور، وكره ذلك الشعبی والنخعی لأنّه محرّم، فلا يجوز الاستيجار عليه كإجارة أمة للزنا، ولا يجوز استيجار كاتب ليكتب له غناء ونوحاً بالباطل لأنّه انتفاع بمحرّم ، وقال أبوحنيفة يجوز ولا يجوز الاستيجار على كتابة شعر محرّم ولا بدعة ولا شیء محرّم كذلك(3).
وقد حكى السيّد الخوئی رحمه الله عن أستاذه الشيخ النائينی قدس سره بأنّ المنفعة المحرّمة غير مملوكة(4).
وأخرى : بما ورد من الأخبار الواردة في المقام كرواية تحف العقول المتقدّمة عن الصادق علیه السلام: «فَأَمَّا وُجُوهُ الْحَرَامِ مِنْ وُجُوهِ الْإِجَارَةِ نَظِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُهُ، أَوْ شُرْبُهُ، أَوْ لُبْسُهُ، أَوْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ في صَنْعَةِ ذَلِكَ الشيء، أَوْ حِفْظِهِ، أَوْ لُبْسِهِ، أَوْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ في هَدْمِ الْمَسَاجِدِ ضِرَاراً، أَوْ قَتْلِ النَّفْسِ
ص: 431
بِغَيْرِ حِلٍّ، أَوْحَمْلِ التَّصَاوِيرِ وَالْأَصْنَامِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْبَرَابِطِ وَالْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ شيء مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ الَّذِی كَانَ مُحَرَّماً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْإِجَارَةِ فِيه،ِ وَكُلُّ أَمْرٍ مَنْهِیٍّ عَنْهُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْإِنْسَانِ إِجَارَةُ نَفْسِهِ فِيهِ، أَوْ لَهُ، أَوْ شيء مِنْهُ، أَوْ لَهُ إِلَّا لِمَنْفَعَةِ مَنِ اسْتَأْجَرَهُ كَالَّذِی يَسْتَأْجِرُ الْأَجِيرَ يَحْمِلُ لَهُ الْمَيْتَةَ يُنَحِّيهَا عَنْ أَذَاهُ، أَوْ أَذَى غَيْرِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ»(1).
وخبر صابر أو جابر قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُؤَاجِرُ بَيْتَهُ فَيُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ قَالَ: «حَرَامٌ أَجْرُهُ»(2)، وما وردت في تحريم مؤنة الظالمين ولو بمدّة قلم وأنّ الإعانة على الإثم كنفس الإثم(3)، وغيرها ممّا وردت في باب النهى عن المنكر(4) .
ثمّ إنّ هناك روايات أخر تدلّ على جواز ذلك، منها صحيحة ابن أذينة قال: كَتَبْتُ إِلَى أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُؤَاجِرُ سَفِينَتَهُ وَدَابَّتَهُ مِمَّنْ يَحْمِلُ فِيهَا أَوْ عَلَيْهَا الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ قَالَ: «لَا بَأْسَ»(5)، وما وردت أيضاً في جواز بيع العصير والعنب والتمر ممّن يعمله خمراً (6)، قد ذكروا الفقهاء في مقام الجمع بينها وجوها من الاحتمالات، والأحسن منها ما اختاره عدّدة من حمل الأوّل على ما يكون الغرض من الإجارة تلك الغاية المنتهيّة، بأن ذكرت وشرطت في متن
ص: 432
العقد أو وقع الاتفاق عليها، والثانی على ما لم يكن كذلك(1)، أو ردّها لكونها مخالفة للكتاب وللأخبار المستفيضة بل المتواترة، ولحكم العقل، صرّح بذلك الإمام الراحل قدس سره في مبحث «المكاسب المحرمة» حيث قال:
فتلك الروايات بما أنّها مخالفة للكتاب والسنة المستفيضة، وبما أنّها مخالفة الحكم العقل كما تقدّم، وبما أنّها مخالفة لروايات النهی عن المنكر، بل بما أنّها مخالفة لأصول المذهب ومخالفة لقداسة ساحة المعصوم علیه السلام حيث إنّ الظاهر منها أنّ الأئمة علیهم السلام كانوا يبيعون تمرهم ممّن يجعله خمراً وشراباً خبيثاً ولم يبيعوه من غيره، وهو ممّا لا يرضى به الشيعة الإمامية، كيف ولو صدر هذا العمل من أواسط الناس كان يعاب عليه، فالمسلم بما هو مسلم والشيعی بما هو كذلك، يرى هذا العمل قبيحاً مخالفاً لرضا الشارع، فكيف يمكن صدوره من المعصوم علیه السلام !؟(2).
فإلى هنا ثبت بطلان الإجارة وحرمة الأجرة لو كانت المنفعة مقيّدة بوجه الحرام أو إذا بنی العقد عليه، وأمّا ما حكی عن أبی حنفية والشافعی من القول بالصحة والتحريم، فعليه أن يعمل فيه بغيرها من الأعمال المباحة دون ما استأجره له، فهو علی فرض تسليمه دعوی بلا دليل، ويكون من قبيل ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد، فساده أظهر من أن يخفی.
والثانی من الأمور المعتبرة في باب المنفعة عند الفريقين كونها متموّلة أو متقوّمة أو مقصودة على اختلاف التعابير، يبدل بإزائها المال عند العقلاء، والدليل عليه زائداً علی الإجماع أو كونه ممّا لا ريب فيه عند الأصحاب أنّ
ص: 433
الإجارة وإن كانت حقيقتها لغة وشرعاً عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم من دون تقيّد بكونها متموّلة، إلا أنّ العقلاء حذراً عن كونها معاوضة سفيهيّة يعتبرون كونها متموّلة حتّى يصحّ بذل المال بإزائها في عرفهم، وحيث إنّ الشارع لم يتصرّف في مفهوم الإجارة من هذه الجهة لا دليل على ثبوتها عنده لو كانت المنفعة غير متمولة، فينتج كونها ممضاة عنده أيضاً، هذا وقد تقدّم في مبحث الشرائط المعتبرة في المتعاقدين اشتراط كونهما غير محجورين لسفه ونحوه، فبناء على ذلك لا فرق في بطلان الإجارة سواء كانا المتعاقدان أو أحدهما سفيهاً، أو كانا عاقلين لكنّهما يعملان بعمل السفهاء، قال العلامة رحمه الله في إعداد الشرائط المعتبرة في المنفعة:
و شروطها خمسة: الأوّل: أن تكون متقوّمة ليصحّ بذل المال في مقابلتها، فإنّ ما لا قيمة له لا يجوز بذل المال في مقابلته لأنّه يكون سفهاً كما لا يجوز بيع لا قيمة له، فكما لا يجوز بيع حبة واحدة من حنطة لعدم تقوّمها كذا لا يجوز استيجار ورقه واحدة من الرّيحان للشمّ لأنّها لا تقصد للشمّ ولا يصحّ تقويمها، فأشبه الحبة الواحدة من الحنطة لا يجوز بيعها، ولو كثرت الأوراق في الأغصان متعددة حتّى قصدت بالشمّ جاز استيجارها(1).
وقال المحقق الكركی رحمه الله :
يشترط لجواز بذل العوض المالی في مقابل المنفعة أن تكون متقوّمة، أی أن يكون لها قيمة عند أهل العرف غالباً، لأنّ ما لا قيمة له لا يجوز بذل المال في مقابله، ولا يحسن وقوع المعاوضة عليه، فلو استأجر نحو التفاحة للشمّ، أو طعاماً لتزيين المجلس به، أو الدراهم والدنانير
ص: 434
للتزيين بها، أو الشمع كذلك، أو الأشجار للوقوف في ظلّها، ففی صحّة الإجارة نظر، ينشأ من التردّد في كون هذه المنافع مقوّمة أم لا (1).
وعن المحقق العاملی رحمه الله أنّ المسألة ممّا لا ريب فيه عند الأصحاب حيث قال:
وهو ممّا لا ريب فيه عندهم لكنّهم لم يذكروا له عنواناً، ومعنى كونها مقوّمة أن يكون لها قيمة عند أهل العرف، سواء كان الغالب ذلك أو
احتيج إلى ذلك في بعض الأحيان فكانت لها قيمة حينئذ(2).
وقال المحقق البحرانی رحمه الله في مبحث إجارة الآبق مع الضميمة:
ثمّ إنّه على تقدير الجواز مع الضميمة فإنّهم قد صرّحوا بأنّه يشترط كونها متموّلة يمكن إفرادها بالمعاوضة(3).
وحكى الجزيری من العامة اتفاق المذاهب علی ذلك(4).
والثالث من الأمور المعتبرة في باب المنفعة أنّها لو كانت لها منافع متعددة، وتعلّق الغرض بواحدة منها أو ببعضها أن يتعيّن نوعها، فلو استأجر الدابة لمنفعة خاصة من الحمل أو الركوب أو إدارة الرحی ونحوها لا بدّ من التعيين حين العقد لاختلاف الأغراض والرغبات والأجرة باختلاف منافعها لئلّا يتحقّق الغرر الناشئ عن الجهل، نعم إن كان الغرض متعلقاً بالجميع فلا يلزم التعيين وهی له جميعاً، فهی من القضايا قياساتها معها، إذ الإجارة معاملة عقلائية، وأساس المعاملات العقلائية على التحفظ على أمور رائجة بينهم الّتي منها تعيين منفعة عين
ص: 435
المستأجرة، فإذا كان هناك منافع متعددة و تعلّق غرضهما بواحدة منها أو ببعضها للزم أن يصرّح بها حين العقد، وإلا كان العقد خارجاً عن حدود المعاملات الرائجة بينهم لكونها معاملة غررية أو سفهة.
والرابع من الأمور المعتبرة في هذا الفرع الّتي ادعی كونها ممّا لا خلاف فيه بل في «الجواهر» الإجماع بقسميه عليه، هی معلوميّة المنفعة المقصودة منها بتمام أبعادها، الّتي لها دخل في مقاصد العقلاء، ويتفاوت بها رغباتهم في الإجارة، على وجه ينتفی معها الغرر، وترتفع بها الجهالة، ويسدّ باب المنازعة بين المتعاقدين، وذلك لأنّها من مقوّمات حقيقة الإجارة حتّی يقال: «إنّها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم»(1)، فلا تتحقّق حقيقتها عند العرف والعقلاء ما لم تكن طرفيها معلومة عند المتعاقدين.
ولا يخفی أنّ معلوميّة كلّ شیء بحسبه وله طرق فإمّا أن تكون بتقدير العمل بنسبته إلى المعمول كخياطة الثوب المعلوم وركوب الدّابة إلى موضع معيّن أو تعلم بتقدير المدّة والزمان كأن يستأجر داره أو دابته لسكونة شهر و ركوب شهر، ونحوها، ففی «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق رحمه الله صاحب «الشرائع»: أن تكون المنفعة معلومة، قال:
بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، للغرر وغيره، بل قيل: إنّ العامة الّذين اكتفوا بالمشاهدة في البيع وافقوا هنا على وجوب العلم بقدر المنفعة، فلا يجوز حينئذ على المجهولة فضلاً عن المبهمة، ولو بايهام العين المستأجرة، بل لا بدّ من التزام العين في الذّمة كما يلتزمها بالسّلم وتشخيص العين(2).
ص: 436
فبناءً علی ذلك لو كانت العين غائبة أو كليّة للزم توصيفها بما يرفع الجهالة كما في السّلم، ولو كانت حاضرة كفته المشاهدة أو التوصيف، وكيف كان قد استدلّ على اشتراطه تارة بعدم الخلاف أو الإجماع كما مرّ، وأخرى وهو العمدة بأنّ بناء العقلاء على ذلك حيث إنّهم ينتظمون عقودهم الماليّة الهامّة على وجه معلوم واضح لا يعتريه أیّ ترديد وشبهة يوجب المنازعة في الحال أو المستقبل، ويذمّون كلّ من لم يعتن بذلك، فعليه فالمعاملة على المبهم غير المعلوم خارج عن حدود المعاملات الرائجة بينهم، ولا يكون مشمولاً عندهم لأدلّة وجوب الوفاء بالعقود والعهود.
وثالثة: بما رواه الخاصة والعامة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من أنّه: «قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»(1)، بناء على إلغاء خصوصيّة البيع واستفادة المناط القطعی منه، والخبر وإن كان غير نقى السند إلا أنّه حيث كان مشهوراً بينهم قد أفتى به الفقهاء على بطلان ما يوجب الغرر في كافة المعاملات، فينجبر به ضعفه، وقد مرّ كلام الشيخ الأعظم رحمه الله بعد نقله الخبر: واشتهار الخبر بين الخاصة والعامة يجبر إرساله(2)، هذا تمام الكلام في الفرع الثالث.
ص: 437
وأمّا ما يعتبر في أجرة الإجارة فهی أيضاً أمور، أشار إليه الإمام الراحل قدس سره بقوله:
وأمّا الأجرة فتعتبر معلوميّتها، وتعيين مقدارها بالكيل أو الوزن أو العدّ في المكيل والموزون والمعدود، وبالمشاهدة أو التوصيف في غيرها، ويجوز أن تكون عيناً خارجيّةً، أو كليّاً في الذمة، أو عملاً، أو منفعةً أو حقاً قابلاً للنقل مثل الثمن في البيع(1).
والكلام في الأمور المعتبرة في الأجرة أيضاً من جهة اعتبار معلوميّتها وتعيين مقدارها، كالكلام في العين المستأجرة، وحيث إنّ الأجرة قد تكون من قبيل المكيلات أو الموزونات، أو المعدودات فطريق تعيينها إنّما هو بالكيل أو الوزن أو العدّ، وأمّا إذا كانت من غيرها مثل ما لوكانت من قبيل عمل، أو منفعة، أو حقّ قابل للنقل، أو كانت كليّة في الذّمة فيعتبر كونها بالمشاهدة أو توصيفها بما يرفع معه الغرر كما في السّلم.
إلى هنا تمّ بحمد الله والمنة ما أردنا أن نبحث عنه حول ما يشترط في صحة الإجارة من الشرائط المعتبرة في المتعاقدين، وفی العين المستأجرة، وفی المنفعة، وفی الأجرة.
❊ ❊ ❊
ص: 438
ص: 439
ص: 440
المضاربة عقد من العقود في باب المعاملات وقد تسمّی قراضاً أيضاً وكيف كان هما اسمان بمعنی واحد إلا أنّ الأوّل لغة أهل العراق والثانی لغة أهل الحجاز(1)، والمضاربة مفاعلة من الضرب بمعنی السفر من باب تسمية الشیء باسم لازمه وذلك لأنّ الإتجار يلازم السفر غالباً لا سيّما في مثل الأزمنة القديمة، يقال لضرب العامل في الأرض لتحصيل الربح مضاربة إذ المالك سبب والعامل مباشر له، أو لأنّ كلا ًمنهما يضرب الربح بسهمه، المالك بماله والعامل بعمله فهما شريكان فيه ويساوى كلّ واحد منهما صاحبه في الاشتراك في أصل الربح وإن اختلفا في كميّته ومقداره في بعض الأحيان، والثانی مأخوذ من القرض بمعنى: القطع الّذی منه المقراض، لقطع المالك حصّة من ماله ودفعه إلى العامل ليتّجر به، وقطع العامل حصة من الربح الحاصل بسعيه للمالك، فعليه العامل مقارَض بالبناء للمفعول كما أنّه على الأول مضارِب بالبناء للفاعل، وقد احتمل أن يكون «فاعل» في المقام بمعنی «فعل» كسافرت في سافرت الدّهر بمعنی سفرته، وداويت في داويت المريض بمعنی دويته، وآويت الغريب بمعنی أويته، وطالعت الكتاب بمعنی طلعته.
من أحسن ما قيل في وجه تسميته بهما ما قاله في «الرياض» رحمه الله حيث قال:
المضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، لأنّ العامل يضرب فيها للسعی على التجارة وابتغاء الربح بطلب صاحب المال، فكان الضرب مسبّب عنهما، فتحقّقت المفاعلة لذلك، أو من ضرب كلّ منهما في الربح بسهم، أو لما فيه من الضرب بالمال وتقليبه، وهذه لغة أهل
ص: 441
العراق، وأهل الحجاز يعبّرون عنها بالقراض من القرض وهو القطع، كأنّ صاحب المال اقتطع منه قطعة وسلّمها إلى العامل، أو اقتطع له قطعة من الربح في مقابلة عمله؛ أو من المقارضة، وهی المساواة، ومنه قول أبی الدرداء: قارض الناس ما قارضوك فإن تركتهم لم يتركوك، و وجه التساوی هنا أنّ المال من جهةٍ والعمل من أخرى والربح في مقابلهما، فقد تساويا في قوام العقد، أو أصل استحقاق الربح وإن اختلفا في كمّيته(1).
ثمّ إنّ الاتجار بمال الغير إن كان بصورة اشتراك كلّ من المالك والعامل في الربح الحاصلة علی ما سيأتی تفصيله فهو قراض أو مضاربة، وإن كان علی وجه أن يكون الربح كلّه للعامل فهو قرض، وعلی العكس فهو بضاعة، أشار إلی ذلك ابن سعيد الحلي رحمه الله في «الجامع» حيث قال:
إعطاء الغير مالاً ليحفظه وديعة، وليكون الربح للعامل قرض، وليكون الربح لربّه بضاعة، وليكون الربح بينهما قراض(2).
يبحث عن موضوع ما نحن فيه الفقهاء غالباً في كتبهم تحت عنوان «المضاربة»(3)، لكنّهم قد بحثوا عنها أيضاً تحت عنوان «القراض»(4)، وأخری
ص: 442
تحت عنوان «القراض والمضاربة» معاً (1)، إلا أنّ بعضاً منهم كالشيخ المفيد رحمه الله (م 413 ه-) في «المقنعة» والشيخ الطوسی رحمه الله (م 460 ه-) في «النهاية» وقطب الدّين الراوندی رحمه الله (م 573 ه-) في «فقه القرآن» من الخاصّة، وابن قدامة الّذی كان من الفقهاء الحنبلی المعروف في القرن السابع في كتابه «المغنی» من العامة أدرجواها تحت أبحاث «كتاب الشركة»(2).
وكيف كان حيث إنّها عقد من العقود تحتاج إلى الطرفين هما الموجب والقابل، يكفی في الإيجاب كلّ لفظ يفيد هذا المعنی بالظهور العرفی كقوله: «ضاربتك أو قارضتك أو عاملتك على كذا» وما أفاد هذا المعنى، وفی القبول «قبلت» وشبهه(3).
ص: 443
وقد عبّر عنها السيّد رحمه الله صاحب «العروة» تبعاً للشيخ رحمه الله في «المبسوط»(1) بأنّها عبارة عن دفع الإنسان مالاً إلی غيره ليتّجر به علی أن يكون الربح بينهما، ثمّ اعترض عليه بعض محشي العروة بأنّ المضاربة ليست من الأفعال الخارجيّة حتّی يفسّر بأنّها عبارة عن دفع الإنسان بل هی عقد واقع بين شخصين علی أن يكون رأس المال في التجارة من أحدهما والعمل من الآخر ولو حصل ربح يكون بينهما بنسبة معيّنة(2).
لكن الإنصاف أنّ العقود والمعاملات كما هو المختار تقع بالكتابة والمعاطاة كما تقع بالصيغ والألفاظ، والدفع نوع من المعاطاة.
ولا فرق في المقام بين أن يكون الموجب هو المالك أو العامل كما إذا تقدّم المقاولة بها من دون أن ينشیء العقد، ثمّ قال العامل إنّی أخذت مالك لأتّجر به ويكون الربح بيننا نصفاً وقال المالك قبلت، وكذا الكلام في كلّ عقد من العقود، فلا فرق في البيع حينئذ أن يكون الموجب هو البائع أو المشتری، وفی الإجارة أن يكون هو المؤجر أو المستأجر، وفی الجعالة أن يكون هو الجاعل أو العامل.
كما أنّه لا فرق فيهما أيضاً بين أن يكونا مفردين أم مجتمعين أو مختلفين، فيقسّم الربح بينهم إذا حصل علی نسبة حصصهم وما تعيّنا وقت العقد من أحد الكسور مثل النصف أو الثلث وأمثالهما، وتقسيمه كما يمكن أن يكون عند إتمام العمل بعد انقضاء المدّة والمحاسبات الدقيقة، كذلك يمكن أن يكون تخميناً
ص: 444
طیّ المدّة علی النسبة الّتي تعيّنا وقت العقد بصورة اليوميّة أو الأسبوعيّة ونحوهما ثمّ محاسبته دقيقاً عند إتمام العمل والمدّة وأخذ الناقص منهما سهمه منه حينئذ، كما هو المتعارف اليوم في المؤسسات الماليّة والبنوك.
نبحث هنا عن «شرائط المتعاقدين في المضاربة وشرائط مال القراض و ربحه»، نستدلّ في هذه المقالة إن شاء الله تعالی عن هذه المسألة بالتّفصيل علی حسب مبانی الإستدلاليّة في الفقه الإماميّة، نقتفی في بحثنا رأی الإمام الراحل قدس سره نذكر كلامه أوّلاً، ثمّ نعقّبه بذكر بعض أقوال فقهاء الفريقين الّتي وردت في المقام فإنّه رحمه الله ذكر المسألة، في المسألة الأولی من مسائل «كتاب المضاربة» من «تحرير الوسيلة» فقال:
يشترط في المتعاقدين البلوغ والعقل والاختيار، وفی ربّ المال عدم الحجر لفلس، وفی العامل القدرة على التجارة برأس المال، فلو كان عاجزاً مطلقاً بطلت، ومع العجز في بعضه لا تبعد الصّحة بالنسبة على إشكال، نعم لو طرأ في أثناء التجارة تبطل من حين طروّه بالنسبة إلى الجميع لو عجز مطلقاً، وإلى البعض لو عجز عنه على الأقوى، وفی رأس المال أن يكون عيناً، فلا تصحّ بالمنفعة ولا بالدَّين سواء كان على العامل أو غيره إلا بعد قبضه، وأن يكون درهماً وديناراً، فلا تصحّ بالذهب والفضة غير المسكوكين والسبائك والعروض، نعم جوازها بمثل الأوراق النقدية ونحوها من الأثمان غير الذهب والفضة لا يخلو من قوة، وكذا في الفلوس السود، وأن يكون معيّناً، فلا تصحّ بالمبهم كأن يقول: قارضتك بأحد هذين أو بأيّهما شئت، وأن يكون معلوماً قدراً و وصفاً، وفی الربح أن يكون معلوماً، فلو قال: «إنّ لك مثل ما شرط فلان لعامله» ولم يعلماه بطلت، وأن يكون مشاعاً مقدراً بأحد الكسور كالنصف أو الثلث فلو قال: على أنّ لك من الربح مائة والباقی لی أو بالعكس أو لك نصف الربح وعشرة دراهم مثلاً لم تصحّ، وأن يكون
ص: 445
بين المالك والعامل لا يشاركهما الغير، فلو جعلا جزء منه لأجنبی بطلت إلا أن يكون له عمل متعلّق بالتجارة (1).
إنّ المباحث المطروحة في هذه المسألة يمكن إدراجها طی فروع أربعة:
الأولی: شرائط المتعاقدين
الثانية: بطلان المضاربة لو كان أو طرأ عليه العجز عن التجارة أثنائها
الثالثة: مال القراض وشرائطه
الرابعة: شرائط الربح الحاصل منها
وقبل الورود في صلب الموضوع فالتحقيق يقتضی أن نبحث عن أصل جواز هذا العقد عند الشارع فنقول وبه نستعين:
ص: 446
إنّه قد استدلّ علی ذلك تارة بعدم الخلاف أو الإجماع بل البديهی بين المسلمين، وأخری بالنصّ والأخبار المستفيضة، فمن القائلين بعدم الخلاف أو الإجماع أو كونها بدهيّاً بين المسلمين الشيخ الطوسی رحمه الله (م 460 ه-) في «المبسوط» حيث قال:
وعلى جوازه (القراض) دليل الكتاب وإجماع الأمة ... فإنّه لا خلاف فيه(1).
وابن البراج الطرابلسی رحمه الله (م 481 ه- ) فإنّه قال:
والقراض من العقود الجائزة في الشريعة بغير خلاف(2).
وعلامة الحلي رحمه الله (م 726 ه- ) حيث قال في «التحرير»:
القراض معاملة صحيحة بالإجماع(3)، وقال في «التذكرة»: وهذه المعاملة جائزة بالنصّ والإجماع، لما روی العامّة أنّ الصحابة أجمعوا عليها(4).
وقريب منه ما قاله جمال الدّين أحمد بن محمد الأسدی المعروف بإبن فهد الحلي رحمه الله (م 841 ه- ) حيث قال:
ص: 447
وأمّا الإجماع فلم يختلف فيه الأمة، بل أجمعوا على مشروعيته، وإن اختلفوا في آحاد مسائله(1).
وفی «الجواهر»:
الموافق لما هو المشهور بل المجمع عليه من مشروعيتها المدلول عليها بقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) وغيره، و بالمتواتر من السنة المرويّة من الطرفين، فما عن المفيد والشيخ في النهاية وسلار وابن البراج وظاهر أبی الصلاح من عدم مشروعيتها فليس للعامل حينئذ إلا أجرة المثل، وإن وقع من المالك اشتراط الحصة من الربح، الا أنّه من الوعد الّذی لا يجب الوفاء به - معلوم البطلان و واضح الفساد (2).
أقول: قد مرّ آنفاً تصريح ابن البراج الطرابلسی بكون المضاربة من العقود الجائزة في الشريعة المقدسة بغير خلاف، فما نسبه إليه في «الجواهر» من مخالفته لذلك إمّا غير صحيح أو فتوی آخر منه.
وقال القاضی ابن رشد القرطبی المالكی (520 - 595 ه- ):
لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وإنّه ممّا كان في الجاهليّة فأقرّه الإسلام(3) .
وقد صرّح بذلك أيضاً الشيخ عبد الرّحمن الجزيری من علماء الأزهر بمصر في القرن الرابع عشر حيث قال:
دليل المضاربة الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز ذلك النوع من المعاملة ولم يخالف فيه أحد وقد كان معروفاً في الجاهلية فأقرّه
ص: 448
الإسلام لما فيه من المصلحة، وذلك شأنه في كلّ تشريعه فهو دائماً يبحث عن المصلحة ليقرّها ويحثّ على تحصيلها ويحذّر من المفسدة والدنو منهاحتّى يعيش المجتمع عيشة راضية، يستعين بعض أفراده ببعض فيما يعود عليهم جميعاً بالخير والسعادة، فالمضاربة عقد قد يكون فيه مصلحة ضرورية للناس وعند ذلك يكون داخلاً في القاعدة العامة وهی الحثّ على عمل ما فيه المصلحة ويكون له حكم الفائدة المترتبة عليها فكلّما عظمت فائدة المضاربة كان طلبها مؤكداً في نظر الشرع، ولهذا قال بعضهم: أنّها سنة، ولا حاجة إلى تأويل قوله هذا بأنّها ثبتت بالسن (1).
ثمّ إنّه خالف الإجماع بعض منهم شيخي المفيد والطوسی رضوان الله تعالی عليهما في «المقنعة» و«النهاية»(2)، ولعلّهم استدلّوا علی ذلك بتبعيّة المنافع للأعيان فإن وقع من المالك للعامل اشتراط الحصّة من الربح فهو في الحقيقة من الوعد الّذی لا يجب الوفاء به، بل المالك حينئذ مخيّر بين اعطائه العامل ما وافقه عليه وبين اعطائه أجرة المثل، إلا أنّه مدفوع نقضاً وحلاً.
أمّا الأوّل فبالنقض بمثل المزارعة والمساقاة حيث إنّ المزارعة معاملة علی أن تزرع الأرض بحصة من حاصلها، والمساقاة معاملة علی أصول ثابتة بأن يسقيها مدة معيّنة بحصة من ثمرها (3)، فكما كانت العين في المزارعة للعامل وفی المساقاة للمالك إلا أنّ منفعتهما تنقسم بينهما علی حسب نسبة الّتي تعيّنا وقت العقد فكذلك في المقام.
ص: 449
وأمّا الثانی بأنّ تبعيّة المنافع للأعيان فهو من قبيل المقتضی لولا المانع، فلا تنافی تفكيكها بالمعاقدة أو الاشتراط كما في مثل بيع العين المستأجرة حيث إنّها تصير مسلوبة المنفعة مدّة إجارتها بالشرط.
هذا دليل المسألة بحسب الإجماع والإتفاق، وأمّا دليلها بحسب النصّ والأدلّة النقليّة فقد استدلّ عليها بالكتاب والأخبار، فمن الكتاب بانضمام الآيات الثلاثة: وهی قوله تبارك وتعالی: (وَإِذا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة)(1)، و(فَاقْرَؤُا
ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ)(2)، وقوله تعالی: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)(3)، يعلم أنّ المراد ب- «الضرب في الأرض» هو السفر، والسفر أعمّ من أن يكون للتجارة أو لغيرها من الأغراض المشروعة مثل السفر لمناسك الحجّ والعمرة أو الزيارات أو لتحصيل العلم أو لصلة الرحم ونحوها، قال السيّد محمّد بن علی بن إبراهيم الأسترآبادی في كتابه المسمی ب- «آيات الأحكام»:
قوله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ظاهر أنّ فضل اللّه أعمّ من المال والعلم والثّواب وغيرها فيدخل فيه السّفر للتجارة وتحصيل المال، ولتحصيل العلم، والحجّ والزيارات، وصلة
ص: 450
الرّحم ونحوها، وقد ورد من طرق العامّة والخاصّة روايات في الحثّ على التّجارة مذكورة في موضعها، نقل عن ابن مسعود: أيّمارجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه، كان عند اللّه بمنزلة الشّهداء ثمّ قرأ: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ) الآية(1).
وكذا عموم قوله تبارك وتعالی: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم)(2)، فالعامل يضرب في الأرض للتجارة ابتغاء الربح فهو مضارب، ولا شیء يدلّ علی انحصار جواز تجارة الإنسان بمال نفسه فقط، بل هی أعمّ من أن تكون بمال نفسه أو بمال غيره إذا ارتضيا بأن يكون رأس المال في التجارة من أحدهما والعمل من الآخر ويكون الربح بينهما علی ما شرطاه من الحصّة وقت العقد.
أضف إلی ذلك كلّه أنّ المضاربة كانت من العقود والمعاملات المقصودة عند العقلاء الّتي لها مكانة خاصة في عالَم الإقتصاد منذ قبل الإسلام ولم ينافيها الشارع بل يؤيّدها، فبناءً علی القول بكونها من العقود اللازمة علی ما سيأتی يشملها عموم الأمر بالوفاء بالعقود في قوله تبارك وتعالی: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(3).
أمّا دليل المسألة من الأخبار والأحاديث فهناك أخبار مستفيضة متضافرة، بل متواترة كثيرة تدلّ علی بعض حالات وعوارض المسألة بعد تسالم الرواة
ص: 451
والمروی عنهم أصل جوازها(1)، منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطِی الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَيَنْهَى أَنْ يَخْرُجَ بِهِ فَخَرَجَ؟ قَالَ: «يُضَمَّنُ الْمَالَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا»(2).
رجال السند وهم محمّد بن يعقوب الكلينی، ومحمّد بن يحيی العطار، ومحمّد بن الحسين أبی الخطاب، وعلیّ بن الحكم الأنباری، والعلاء بن رزين القلاء، و محمّد بن مسلم الثقفی كلّهم إماميون ثقات وجليلون، زائداً علی أنّ الأخير من الأصحاب الإجماع.
وموثقة عبد الرّحمن بن أبی عبد اللّه قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ الْمَالُ مُضَارَبَةً فَيَقِلُّ رِبْحُهُ فَيَتَخَوَّفُ أَنْ يُؤْخَذَ فَيَزِيدُ صَاحِبَهُ عَلَى شَرْطِهِ الَّذِی كَانَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ بِهِ»(3).
رجال السند الواقع فيها كلّهم ثقات أيضاً إلا أنّ القاسم بن محمّد الجوهری الواقع فيه واقفی، قال الشيخ الطوسی رحمه الله في رجاله:
القاسم بن محمّد الجوهری له كتاب، واقفی(4)، وقال في فهرسته: القاسم بن محمّد الجوهری الكوفی له كتاب، أخبرنا به المفيد عن ابن بابويه عن ابن الوليد عن الصفار عن أحمد بن محمّد، وأحمد بن أبی عبد الله عن أبی عبد الله البرقی، والحسين بن سعيد عنه(5).
ص: 452
أقول: لا يخفی جلالة مثل الشيخ المفيد، وعلیّ بن الحسين بن بابويه القمّی والد الصدوق، ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، ومحمّد بن الحسن الصفار، وأحمد بن محمّد بن عيسی الأشعری رضوان الله تعالی عليهم الّذين رووا كتاب الجوهری، والأخير هو الّذی كان شيخاً للقمّيين وأخرج البرقی وسهل بن زياد الآدمی وغيرهما من الرواة عن بلدة «قم» بسبب اعتمادهم علی المجاهيل والمراسيل ورواياتهم عن الضعفاء(1)،أضف إلی ذلك جعله في رجال ابن داود في إعداد «الممدوحين ومن لم يضعّفهم الأصحاب فيما علمته(2)، فعليه لا مانع من أن نعبّر عن الرواية بكونها موثقة، لاسيّما بعد ما كان الراوی من الرّواة الكثير الرّواية، قد نقل رواياته الكلينی والشيخ وغيرهما رضوان الله تعالی عليهم.
تقريب الاستدلال بهما أنّ أصل مسألة جواز «القراض» و«المضاربة» في كليهما كانت مفروغة عنها عند السائل والإمام علیه السلام وإنّما سأله عن حكم خروج العامل مع مال القراض عند نهی المالك في الأولی، وجواز إعطاء سهم المالك
ص: 453
أكثر ممّا توافقا عليه حين العقد في الثانية، فأجاب الإمام علیه السلام في الأوّل بالضمان وشركتهما في الربح عند حصوله، وعدم البأس في الثانی.
المعروف والمشهور عند فقهائنا كونها من العقود الجائزة من الجانين، أرسله بعض إرسال المسلمات منهم الإمام الراحل قدس سره في المسألة الحادی عشرة من مسائل كتاب المضاربة من «التحرير»(1)، وادّعی عدم الخلاف والإجماع عليه بعض آخر، بل في «الجواهر» الإجماع بقسميه عليه.
وأمّا العامة فقد فصّلوا فيها بين قبل الشروع في العمل وبعده، فاتّفقوا علی كونها من العقود الجائزة في الأوّل واختلفوا بعده، فقال مالك: أنّها حينئذ عقد
ص: 454
لازم يورث، وقال الشافعية والحنفية والحنابلة: أنّها باقية علی ما هی من الجواز لا فرق فيها بين قبل العمل وبعده.
قال العلامة رحمه الله :
وهذه المعاملة جائزة بالنصّ والإجماع(1).
والمحقق العاملی رحمه الله بعد ما حكی كلام العلامة في «القواعد»: القراض عقد جائز من الطرفين لكلّ منهما فسخه سواء نضّ المال أو كان به عروض، قال:
إجماعاً كما في «مجمع البرهان» وبلا خلاف كما فيه أيضاً وفی «الكفاية» و«الرياض» وفی «الغنية» الإجماع على جوازه وأنّ لكلّ منهما فسخه متى شاء، وبذلك صرّح في «السرائر» و«التذكرة» مراراً، وبجميع ما في الكتاب صرّح في «المبسوط» و«الشرائع» و«النافع» و«التحرير» و«الإرشاد» وشروحه و«الروضة»، وصرّح بأنّها جائزة من الطرفين في «الوسيلة» وغيرها، وهو المستفاد من مطاوی كلمات كتب القدماء، وبه أفصحت عباراتهم عند قولهم: لا يلزم اشتراط الأجل، وهو قضية كلام كلّ من قال إنّها تبطل بالموت، ومع ذلك قال في «جامع الشرائع»: إنّها عقد لازم من الطرفين، ولم يحضرنی نسخة أخرى إذ لعلّه غلط من قلم الناسخ(2).
وقال المحقق رحمه الله صاحب «الشرائع»: وهو جائز من الطرفين، لكلّ واحد منهما فسخه سواءٌ نضّ المال أو كان به عروض، ثمّ زاد عليه في «الجواهر» بقوله:
ص: 455
بلا خلاف فيه بل الإجماع بقسميه عليه، وهو الحجّة في الخروج عن قاعدة اللزوم(1).
وقال الشهيد رحمه الله :
لا خلاف في كون القراض من العقود الجائزة من الطرفين، ولأنّه وكالة في الابتداء، ثمّ قد يصير شركة، وهما جائزان أيضاً (2).
وقريب منها ما قاله المحقق الكركی رحمه الله حيث قال:
القراض عقد جائز من الطرفين يتضمّن معنى التوكيل، فيبطل بخروج المالك عن أهلية الاستنابة، والعامل عن أهلية النيابة (3) .
وقال القاضی ابن رشد القرطبی المالكی:
إنّه أجمع العلماء علی أنّ اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وأنّ لكلّ واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض، واختلفوا إذا شرع العامل فقال مالك: هو لازم وهو عقد يورث، فإن مات وكان للمقارض بنون أمناء كانوا في القراض مثل أبيهم، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين، وقال الشافعی وأبوحنيفة: لكلّ واحد منهما
الفسخ إذا شاء وليس هو عقد يورث(4).
وقال ابن قدامة الحنبلی:
المضاربة من العقود الجائزة تنفسخ بفسخ أحدهما أيّهما كان، وبموته والحجر عليه لسفه، لأنّه متصرف في مال غيره بإذنه كالوكيل، ولا فرق
ص: 456
بين ما قبل التصرف وبعده، فإذا انفسخت والمال ناض لا ربح فيه أخذه ربّه، وإن كان فيه ربح قسما الرّبح علی ما شرطاه(1).
أقول: الظاهر أنّ ما ادعوا من الإجماع علی كون القراض من العقود الجائزة، إجماع مدركی لحملهم القراض علی الوكالة أو كونه يتضمّن معناها (2)، مع أنّ المرتكز في عرف العقلاء منذ قبل الإسلام إلی زماننا هذا كونه عقداً مستقلاً متداولاً بينهم وإنّهم فرّقوا عملاً بينه وبين الوكالة، إذ في الوكالة علی تجارة مثلاً يستحقّ الوكيل أجرة مورد وكالته مطلقاً سواء حصل ربح أم لا، قليلاً كان أم كثيراً، بخلافه في المقام إذ العامل إنّما يستحقّ الربح علی فرض حصوله لا مطلقاً، وهو شريك فيه مع المالك علی النّسبة الّتي تعيّنا وقت العقد من أحد الكسور مثل النصف أو الثلث.
والإنصاف أنّ مشابهة القراض بالمزارعة والمساقاة أكثر من الوكالة، حيث إنّ أصل الأرض والأشجار فيهما كانتا لمالكيهما وإنّما العامل فيهما في قبال عمله شريك بحصة من حاصلهما وثمرهما كالمضاربة، والمعروف بين فقهائنا وأكثر العامة كونهما عقدين لازمين لا تنفسخان بفسخ أحدهما إلا إذا كان له خيار أو التقايل كسائر العقود اللازمة فلا تبطل بموت أحدهما بل يقوم وارثه مقامه(3)، نعم لو مات العامل وكانت المضاربة مشروطة بمباشرته أو كان وارثه
ص: 457
غير أمين أو غير صالح للعمل، تبطل العقد حينئذ مراعاة للشرط ودفعاً للضرر المحتمل المتوجه إلی المالك لحكومة(1) أدلته علی كلّ دليل.
ثمّ علی تقدير عدم تماميّة ما ذكرناه لرفع الإجماع المدّعی علی الجواز وبقاء الشك في اللزوم، فنأخذ بلأصل الجاری في باب العقود من أنّ الأصل فيها كونها لازمةً إلا ما دلّ الدليل علی خلافه، وذلك لبناء العقلاء علی الوفاء بعقودهم وإلا لما استقرّ بينهم حجر علی حجر، ولعموم الأمر بالوفاء بالعقود في مثل قوله تبارك وتعالی: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2) .
ص: 458
هذا علی مبنی اللزوم وأمّا علی المبنی الجواز كما عليه القوم فلو فسخت المضاربة قبل حلول أجله رجع المال إلی مالكه، فلو حصل ربح قسّم بينهماعلی النسبة الّتي تعيّنا حين العقد، نعم حذراً عن ضرر كلّ منهما بفسخ صاحبه قبل حلول الأجل يمكن اشتراط لزومها في ضمن عقد لازم آخر وإن لم يكن الضرر موجوداً فعلاً بناءً علی القول بأنّ الشروط الجائزة في ضمن العقود اللازمة تصير لازمة.
فإذا فرغنا من هذه المرحلة فلنبحث في فروعات المسألة، وهی كما عرفت أربعة: الأولی منها: شرائط المتعاقدين، فنقول وعليه التكلان:
قال الإمام الراحل قدس سره :
يشترط في المتعاقدين البلوغ والعقل والاختيار، وفی ربّ المال عدم الحجر لفلس، وفی العامل القدرة على التجارة برأس المال(1).
أقول: الشرائط كما تری إمّا مشتركة بينهما وإمّا مختصة بكلّ واحد من المالك أو العامل، أمّا الشرائط المشتركة بينهما فثلاثة: البلوغ، والعقل، والإختيار، وهذه الشروط إجمالاً شروط عامة، معتبرة في كلّ عقد من العقود الماليّة من دون فرق فيها بين المضاربة وغيرها، قد بحث عنها الفقهاء غالباً في أبواب مختلفة من الكتب الفقهيّة مثل «البيع والمضاربة، والإقرار، والحجر، والطلاق، والحدود» ، وقد بحثنا عنها وعن أدلّتها مفصّلاً فيما يشترط من ناحية المتعاقدين في مبحث «الإجارة»، فراجع.
ص: 459
هذا حكم الشرائط المشتركة بين المالك والعامل، وأمّا يختصّ المالك زائداً علی ذلك بعدم المنع من التصرف في أمواله لفلس، والعامل بالقدرة علی التجارة برأس المال.
أمّا عدم الحجر المالك والظاهر أنّه لا اختصاص بخصوص المفلّس، بل يعمّ المملوك أيضاً بناءً علی عدم تملكه شيئاً، وكيف كان إنّ المفلّس إذا كان ديونه زائداً علی أمواله وحكم الحاكم عليه أيضاً بكونه ممنوعاً من التصرف في أمواله فلا يجوز له أن يتصرف فيها من دون فرق فيه بين المباشرة والمشاركة والمضاربة باتفاق الفريقين، بل يقسّم أمواله بين غرمائه لتعلّق حقّهم إليها، ولا يخفی في اختصاصه بالمالك فقط، إذ العامل ولو كان مفلساً فإنّه ممنوع من التصرف في أمواله لتعلّق حقّ غرمائه إليها، لكنّه ليس ممنوعاً من التصرف في نفسه بتحصيل مال جديد بالمضاربة والجعالة وأمثالهما.
وادّعی في «الجواهر» إجماع الأصحاب علی اشتراطه، فإنّه بعد ما نقل كلام المحقق رحمه الله : إذا حجر عليه (المفلس) تعلّق به منع التصرف لتعلّق حقّ الغرماء، واختصاص كلّ غريم بعين ماله، وقسمة أمواله بين غرمائه، قال:
لا خلاف بين الأصحاب في أنّه يمنع من التصرف(1).
وقال الجزيری:
ويحجر علی المدين في تصرفاته المالية حتّی لا تضيع علی الناس حقوقهم وأموالهم الّتي استدانها منهم، ثمّ ذكر اتفاق المذاهب علی ذلك (2).
ص: 460
قد استدلّ علی ذلك بخبر السَّكُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ علیه السلام: «أَنَّ عَلِيّاً علیه السلام كَانَ يَحْبِسُ في الدَّيْنِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَعْطَى الْغُرَمَاءَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ دَفَعَهُ إِلَى الْغُرَمَاءِ فَيَقُولُ لَهُمُ اصْنَعُوا بِهِ مَا شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُمْ آجِرُوهُ وَإِنْ شِئْتُمُ اسْتَعْمِلُوهُ»(1)، ومرفوعة دعائم الإسلام عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال: «الْمُفْلِسُ إِذَا قَامَ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءُ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مِنْهُمْ بِقَبْضِ حَقِّهِ مِمَّا وَجَدَ في يَدَيْهِ كُلُّ عَامِلٍ عَمِلَ فِيهِ أَوْ أَجِيرٍ اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ بِأُجْرَةٍ، أَوْ بِثَمَنِ دَابَّةٍ إِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَتْ عَلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْغُرَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ أُسْوَةً»(2)، ينجبر ضعفهما بعمل الأصحاب.
وأمّا يختص العامل زائداً علی ما تقدّم بكونه قادراً علی التجارة برأس المال بأن لا يكون عاجزاً عن العمل نفسياً أو بواسطة كثرة المال أو كثرة الرقباء أو غيرهما، واشتراط القدرة كغيرها من الشروط المشتركة أو المختصة في المقام كانت من قبيل: " القضايا قياساتها معها" حيث إنّ حكمة دفع المالك المال إليه وماهيّة المضاربة ليست إلا التجارة وكسب الربح والمال، كما أشار إليه في «الجواهر» حيث قال:
وذلك لمعلومية اعتبار قدرة العامل على العمل في الصحة نحو ما ذكروه في الإجارة، ضرورة لغوية التعاقد مع العاجز عن العمل الّذی هو روح هذه المعاملة (3).
فعليه لا يبعد أن يقال أنّها قبل أن تكون من الشرائط الشرعيّة كانت من الشرائط العقليّة، ولأجل ذلك فرضه الأكثر مفروغاً عنه وإنّما بحثوا عن عوارضها
ص: 461
وما يتعلّق بها من كونه ضامناً حينئذ لما أخذه أم لا؟ وكيف كان هذا الشرط غير مختص بالمقام بل يأتی أيضاً في كلّ أجير آجر نفسه لإتيان عمل من صوم أو صلاة أو حجّ ونحوها، هذا تمام الكلام في الفرع الأول.
قال الإمام الراحل قدس سره :
فلو كان عاجزاً مطلقاً بطلت، ومع العجز في بعضه لا تبعد الصّحة بالنسبة على إشكال، نعم لو طرأ في أثناء التجارة تبطل من حين طروّه بالنسبة إلى الجميع لو عجز مطلقاً، وإلى البعض لو عجز عنه على الأقوى(1).
قد عرفت آنفا أنّ من الشرائط المختصة بالعامل أن يكون قادراً علی التجارة بالمال، فهذا الفرع في الحقيقة نتيجة لذلك الشرط ويستفاد حكمه منه بأنّه لو تبيّن أنّ العامل كان عاجزاً من التجارة بذلك المال بتمامه من بدو الأمر بطلت المضاربة بلا شك، لفقدانها شرط الصحة من حين العقد، وبانتفاعه ينتفی المشروط لتابعيّة النتيجة دائماً أخس مقدماتها.
أمّا لو كان عاجزاً عنها بالنسبة إلی بعض المال، فيمكن أن نحكم بالبطلان بالنسبة إلی المقدار غير المقدور، وبالصحة بالنسبة إلی الميسور منه لاقتضاءكلّ سبب مسببه، لكنّه حيث كانت العقود تابعة للقصود لو كان قصد المالك التجارة بتمام المال فلا يمكن حينئذ أن نحكم بالصحة أيضاً.
ص: 462
وبعبارة أخری: مطلوب المالك هنا واحد أو متعدد؟ فإن كان مطلوبه واحداً فحيث كانت العقود تابعة للقصود فلا محالة يكون العقد باطلاً، وإن كان متعدداً فنحكم فيه بالتفصيل.
وعلی كلا التقديرين يكون يد العامل يداً ضمانيّا، لأنّه مع كونه عاجزاً ثبوتاً وواقعاً عن الإتجار بذلك وضع يده علی المال علی غير وجه المأذون له فيكون ضامناً، سواء علم بعجز نفسه أم لا، لعدم دخالة علم العامل في مسألة الضمان لبطلان المضاربة بحسب الواقع ونفس الأمر وقد ثبت في الأصول اشتراك الأحكام بين العالم بها والجاهل(1)، فيكون يده علی أیّ حال يد غصب وضمان، فإن حصل حينئذ ربح يكون تمامه للمالك وللعامل أجرة مثل عمله.
نعم لو كان المالك عالماً بذلك من حين العقد فهو الّذی أقدم عليه ويكون ماله أمانة مالكيّة في يد العامل ولا يكون ضامناً إذا تلف بغير الإفراط أو التفريط.
هذا إذا كان العجز عن التجارة من حين العقد، أمّا لو طرأ العجز عن التجارة أثنائها فإن عجز عنها مطلقاً فتبطل العقد لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه، سواء كان من حين العقد أو أثناء المدة، وأمّا لو عجز عن بعضه فالكلام هو الكلام، من اقتضاء كلّ سبب مسببه، ومن تابعيّة العقود للقصود.
ثمّ إنّه في صورة العجز عن بعضه فقد فصّل الإمام الراحل قدس سره بين العجز من بدو الأمر والعجز أثناء التجارة، فاختار صحة القراض بالنسبة إلی المقدور فيالأول علی إشكال، وفی الثانی علی الأقوی، والظاهر أنّ علة التفصيل بين المقامين هی وجود استصحاب الصّحة في الأخير وعدمه في الأول.
ص: 463
قال الإمام الراحل قدس سره :
وفی رأس المال أن يكون عيناً، فلا تصحّ بالمنفعة ولا بالدَّين سواء كان على العامل أو غيره إلا بعد قبضه، وأن يكون درهماً وديناراً، فلا تصحّ بالذهب والفضة غير المسكوكين والسبائك والعروض، نعم جوازها بمثل الأوراق النقدية ونحوها من الأثمان غير الذهب والفضة لا يخلو من قوة، وكذا في الفلوس السود، وأن يكون معيّناً، فلا تصحّ بالمبهم كأن يقول: قارضتك بأحد هذين أو بأيّهما شئت، وأن يكون معلوماً قدراً ووصفاً(1).
نبحث في هذا الفرع عن مال القراض وما يتعلّق به، يشترط في ذلك أوّلاً: أن يكون عيناً في مقابل الدّين والمنفعة، فلا تصحّ المضاربة بالدّين حتّی يقبض وإن كان العامل مديوناً باتفاق الفريقين، قد استدلّ علی ذلك تارة: باتفاق الفقهاء وإجماعهم من غير مخالف في البين كما صرّح بذلك في «الجواهر» فإنّه بعد ما حكی عبارة المحقق رحمه الله في «الشرايع»: ومن شرطه أن يكون عيناً فلا يجوز بالدّين، وأن يكون دراهم أو دنانير، قال:
بلا خلاف أجده في شی ء منه بل الإجماع بقسميه عليه(2).
ومثله ما قاله المحقق البحرانی رحمه الله حيث قال:
لا خلاف بين الأصحاب في أنّه يشترط في مال القراض أن يكون عيناً لا ديناً وأن يكون دراهم أو دنانير، ثمّ نقل عن «التذكرة» حكايته الإجماع عليه (3).
ص: 464
وفی «الرياض» بعد نقله الإجماع علی ذلك عن الشهيد رحمه الله في كتابي «الروضة» و«المسالك» قال: وهو الحّجة(1).
وادّعی أيضاً ابن رشد القرطبی اتفاق مالك والشافعی وأبوحنيفة علی ذلك حيث قال:
وجمهور العلماء: مالك والشافعی وأبوحنيفة علی أنّه إذا كان لرجل علی رجل دين لم يجز أن يعطيه قراضاً قبل أن يقبضه(2).
وقال ابن قدامة الحنبلی:
ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدّين الّذی عليك، نصّ أحمد علی هذا، وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفاً، قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم أنّه لا يجوز أن يجعل الرجل ديناً له علی رجل مضاربة (3).
وأخری: بما رواه المشايخ الثلاثة رضوان الله تعالی عليهم عن السكونی عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام في رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَيَتَقَاضَاهُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَيَقُولُ هُوَ عِنْدَكَ مُضَارَبَةً قَالَ: «لَا يَصْلُحُ حَتَّى تَقْبِضَهُ مِنْهُ»(4)، وهوصريح في المدعی، لكنّ طريقه كان ضعيفاً يمكن انجبار ضعفه(5)
ص: 465
بعمل الأصحاب وتلقّيهم بالقبول زائداً علی ما نقله المشايخ الثلاثة في كتبهم، وشهادة الكلينی والصدوق رضوان الله تعالی عليهما بأنّ ما رويا في كتابيهما فهو مروی عن الصادقين:(1)، وأنّ المعيار في قبول الخبر عند الأصحاب هو وثاقة الخبر لا الرّاوی وأنّ وثاقة الرّاوی طريق إلی وثاقته.
أضف إلی ذلك كلّه أنّ ماهيّة المضاربة وحقيقتها هی الاتجار بالمال، والدَّين ما لم يقبض مال ثبت في ذمة المديون للدائن فكيف يمكن الاتجار به ؟!
نعم لو كان ما بإزاء الدَّين موجوداً حين العقد بحيث يمكن تحصيله بسهولة وقال الدائن هو عندك مضاربة بتوكيله العامل في قبضه عن طرفه وجعله مالاًللقراض فلا إشكال فيه كما صرّح بذلك الإمام الراحل قدس سره في المسألة الرابعة من هذه المسائل(2).
ص: 466
وثانياً: قد يقال أنّه يشترط أن يكون مال القراض درهماً أو ديناراً مسكوكين، فبناءً علی ذلك لا تصحّ المضاربة بالذّهب والفضة غير المسكوكين، وكذا بما يذاب ويصاغ منهما بصورة القطعات المستطيلة الّتي نسميها اليوم ب- «الشِمش»، ولا بالنقود والأوراق الماليّة والإسكناسات الرائجة في أسواق المعاملات، ولا بالأمتعة والأجناس، أرسله الأكثر بل الكثير إرسال المسلمات كابن البراج رحمه الله في «المهذب»(1)، وابن حمزة الطوسی رحمه الله في «الوسيلة»(2)، وابن إدريس الحلي رحمه الله في «السرائر»(3)، والكيذری رحمه الله في «الإصباح»(4)، والمحقق رحمه الله في كتابي «الشرائع»(5) و«المختصر»(6)، والعلامة الحلي رحمه الله في «القواعد»(7)، وادّعیعليه الإجماع في كلام جماعة من الفقهاء منهم الحلبیّ رحمه الله في «الغنية»(8)، والشيخ الطوسی رحمه الله في «الخلاف» حيث قال:
ص: 467
لا يجوز القراض إلا بالأثمان الّتي هی الدارهم والدنانير، وبه قال أبوحنيفة، ومالك، والشافعی، وقال الأوزاعی وابن أبی ليلی: يجوز بكلّ شیءٍ يتموّل كالحبوب والأدهان ...، دليلنا: إنّ ما اخترناه مجمع علی جواز القراض به، وليس علی جواز ما قالوه دليل(1).
وكذا العلامة رحمه الله في «التذكرة» فإنّه قال:
وله (رأس المال) شروط ثلاثة: الشرط الأوّل: أن يكون من النقدين: دراهم ودنانير مضروبة منقوشة، عند علمائنا وبه قال الشافعی ومالك وأبو حنيفة، لأنّ القراض معاملة تشتمل على غررٍ عظيم؛ إذ العمل مجهول غير منضبطٍ، والربح غير متيقّن الحصول، وإنّما سوّغنا هذه المعاملة مع الغرر الكثير؛ للحاجة والضرورة، فتختصّ بما تسهل التجارة عليه وتروج في كلّ حالٍ وكلّ وقتٍ؛ لأنّ النقدين أثمان البياعات، والناس يتداولون بالمعاملة عليها من عهد النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وقبله وبعده إلى زماننا هذا، ويرجعون إليهما في قِيَم المُتلفات. ولأنّ النقدين ثمنان لا يختلفان بالأزمنة والأصقاع إلّا قليلًا نادراً، ولا يقوَّمان بغيرهما، وأمّا غيرهما من العروض فإنّ قيمتها تختلف دائماً (2).
ص: 468
والمحقق الطباطبائی في «الرياض»حيث قال:
ويشترط في مال المضاربة أن يكون عيناً لا ديناً إجماعاً، كما يأتی دنانير أو دراهم إجماعاً، كما في «الروضة» و«المسالك» وعن «التذكرة» وهو الحجّة (1).
وقد مرّ آنفاً دعوی عدم الخلاف بل الإجماع بقسميه علی ذلك من صاحب «الجواهر»(2)، وبه قال أيضاً جمهور فقهاء العامة، علی ما حكی ابن رشد القرطبی حيث قال:
إنّهم أجمعوا علی أنّه جائز بالدنانير والدراهم واختلفوا في العروض، فجمهور فقهاء أمصار علی أنّه لا يجوز القراض بالعروض وجوّزه ابن أبی ليلی(3).
ثمّ إنّه هل يجوز المضاربة بغيرهما من النقود والأوراق الماليّة والإسكناس الرائجة اليوم في أسواق المعاملات، أم لا؟
ظاهر الأصحاب بل صريحهم أنّه لا يجوز القراض إلا بالنقدين من الذهب والفضة المسكوكين، في حين أنّه قد عبّر عنه بعض تبعاً للأخبار الكثيرة الواردة في المقام(4) بأنّه هو أن يدفع الإنسان إلی غيره مالاً ليتّجر به من دون أن يقيّدوه
ص: 469
بكونه منهما، منهم المفيد رحمه الله في «المقنعة»(1) والديلمی رحمه الله في «المراسم»(2) والشيخ رحمه الله في «النهاية»(3)، واستقوی جوازه الإمام الراحل قدس سره هنا بمثل الأوراق النقدية من الأثمان من غيرهما.
والتحقيق أنّه كما يستفاد من الأخبار وكذا أقوال الفقهاء الواردة في باب «المضاربة< و«القراض» بأنّ الغرض منهما هو التجارة بما يسهل ويروج في كلّ وقت وحال، وأنّ التجارة بالأثمان لا الأجناس هو الرائج غالباً عند المبادلات والمعاملات، وأنّها في بداية أمرها انحصرت في الدراهم والدنانير المضروبتين من الذهب والفضة حتّی يسمّيين بالنقدين، فاشترطوا بأنّ القراض لا يكون إلا بالنقدين من الذهب والفضة المسكوكين، لكنّها بعد ما ظهرت الفلوس والأوراق الماليّة والإسكناس وتبدّلت المبادلة بها في أسواق المعاملات وراجت، خرجت النقدين عن هذا العنوان، وصارتا مثمنات، فالأقوی بل المتعيّن حينئذ هو المضاربة بهذه الإسكناتات والأوراق الماليّة لأنّها أثمان رائجة اليوم.
وكيف كان حتّی لو فرض وجود الإجماع علی صحّة المضاربة إذا كانت بالنقدين من الذهب والفضة المسكوكين كما أشار إليه في «الغنية» و«التذكرة» و«الرياض» وغيرها، فهو أوّلا: إجماع مدركی، وثانياً: لا دلالة فيه علی بطلانها إذا كانت بغيرهما من النقود، وذلك لأنّه لا يستلزم من إثبات شیء نفی غيره.
ثمّ إنّه لا مانع من العقد علی رأس المال إذا كان من الفلوس والأوراق الماليّة، أو بغيرها من المنافع والأجناس بناءً علی جواز المضاربة بخصوص
ص: 470
الدرهم والدينار المضروبين منهما، والعمل من الآخر من باب عقد مستقل رائج مرغوب فيه بين آحاد العقلاء في جميع الأمصار والبلدان وإن لم يكن اسمه «المضاربة» المصطلحة في الفقه، بأن يقول المالك للعامل اتّجر بهذه المنافع والأجناس ويكون الربح بيننا نصفين مثلاً، فيكون داخلاً في عموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود)(1) و«الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»(2)، لما نری كثيراً ما أنّ صاحب الحرف والمشاغل بعد ما كانوا كبّار السّن أو ضعفوا عن التجارة بأنفسهم، فوّضوا مكاسبهم مع ما فيها من الأمتعة والأجناس إلی العاملين الشابّين علی غير جهة الجعالة تحصيلاً للفائدة الأكثر بأن يقسّمون ربح مكاسبهم مع العاملين بصورة النصف أو بغيره من النسب، حيث إنّ العاملين متی كانوا مشتغلين بالحرف والمكاسب علی أن يكونوا شريكين في تمام الربح الحاصل منها يتهجّدون أكثر ممّا إذا استخدموا عليها بصورة الجعالة وأجر ثابت.
وقد أشار إلی ما ذكرناه إجمالاً شيخنا الأستاذ مكارم الشيرازی دام ظله حيث قال:
عدم تحقّق عنوان المضاربة معلوم ولكن عدم صحته كمعاملة مستقلة ممنوع، لأنّ التحقيق عدم انحصار العقود في العناوين الخاصّة المعروفة، بل يجوز كلّ عقد دائر بين العقلاء بمقتضی العمومات إذا اجتمع فيه الشرائط العامة بعد عدم ردع الشارع عنه(3).
ص: 471
وثالثاً: أن يكون مال القراض معيّناً غير مردد، فعليه لا تصحّ المضاربة عندنا وعند الشافعيّة من العامة بالمبهم كأن يقول: قارضتك بأيّهما شئت من هذين النقدين ما لم يعيّنهما، قال الشيخ رحمه الله في «الخلاف»:
لا يصحّ القراض إذا كان رأس المال جزافاً، وبه قال الشافعی، وقال أبو حنيفة: يصحّ القراض ويكون القول قول العامل حين المفاصلة، وإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة قدّمت بيّنة ربّ المال، دليلنا: أنّ القراض عقد شرعی يحتاج إلى دليل شرعی، وليس في الشرع ما يدلّ على صحّة هذا القراض، فوجب بطلانه (1).
وقال في «الجواهر» في بيان بطلان المضاربة بالمال المردّد بعد ما حكی كلام المحقق رحمه الله في «الشرائع»: فلو أحضر مالين وقال قارضتك بأيّهما شئت لم ينعقد بذلك قراض:
للإبهام المانع من تعلّق العقد، فإنّ المبهم لا وجود له في الخارج، وموقوفية العقد مع التخيير إلى حال وقوعه، وليس في الأدلة حتّى الإطلاقات ما يدلّ على مشروعية ذلك، بل لعلّ الأدلة قاضية بخلافه، ضرورة ظهورها في سببية العقود وعدم تأخّر آثارها عنها، وجعل الخيار كاشفاً عن مورد العقد من أوّل الأمر لا دليل عليه، لكونه مخالفاً للأصل، ومن هنا لم يحك خلاف في البطلان حتّى من القائلين بالجواز مع الجهالة(2).
وقال السيّد رحمه الله في «العروة»:
الرابع: أن يكون معيناً فلو أحضر مالين وقال قارضتك بأحدهما أو بأيّهما شئت لم ينعقد إلا أن يعيّن ثمّ يوقعان العقد عليه، نعم لا فرق بين
ص: 472
أن يكون مشاعاً أو مفروزاً بعد العلم بمقداره و وصفه، فلو كان المال مشتركاً بين شخصين فقال أحدهما للعامل قارضتك بحصتی في هذا المال صحّ مع العلم بحصته من ثلث أو ربع، وكذا لو كان للمالك مائة دينار مثلاً فقال قارضتك بنصف هذا المال صحّ(1).
ثمّ السيّد الخوئی رحمه الله أجاب عمّا استدلّ به صاحب «الجواهر» للبطلان بقوله:
إنّ الفرد المردّد وإن لم يكن له وجود في الخارج، إلّا أنّ الجامع الّذی هو عبارة عن عنوان أحدهما موجود في الخارج لا محالة، فإنّه موجود بوجود الفردين ولذا يقال: إنّه يعلم بنجاسة أحد الإناءين، والحال أنّ الّذی لا وجود له كيف يعلم بنجاسته؟ إذن فلا مانع من إيقاع المضاربة على أحدهما، فإنّه مشمول للعنوان الوارد في النصوص، أعنی دفع المال للتجارة، وحينئذٍ فيكون التخيير للعامل أو المالك على حسب ما يتّفقان عليه (2).
أقول: لم يرد في المقام نصّ بالخصوص إلا ما وردت من عمومات الوفاء بالعقود والشروط، والّذی يمكن أن نستدلّ به هنا للبطلان هو أنّ المضاربة بالمبهم قد ينجر إلی الغرر لإمكان دعوی كلّ منهما كون مال القراض غير ما تصوره الآخر بما يوجب التنازع بينهما، فكما يعتبر العلم التفصيلی بالعوضين في سائر العقود والمعاملات مثل البيع والإجارة والجعالة وغيرها فكذلك في المقام، بل يمكن أن يقال أنّه لم يعهد من العقلاء المضاربة بمال المبهم حتّی أمضاه الشارع.
ورابعاً: أن يكون معلوماً من حيث القدر والوصف.
ص: 473
إنّ رأس المال قد يكون معيناً إجمالاً بأنّه هو هذا المال الحاضر، لكنّه ربما لا يعلم قدره بأنّه كم هو؟ أو وصفه بأنّه درهم أو دينار، أو من التومان الإيران أو من الدولار الأمريكی، أو كليهما مجهولان بأن لا يكون مقداره ولا وصفه معلومين.
والفرق بين هذا الشرط والشرط الثالث هو أنّه نبحث في الشرط السابق عن كون مال القراض معيّناً الّذی يقابله «المردد»، ونبحث هنا عن كونه معلوماً الّذی يقابله «المجهول»، إذ من الممكن أن يكون مال معيناً من حيث العين ولا يكون معلوماً من حيث النوع أو القدر.
قال السيّد الحكيم رحمه الله بعد نقله كلام السيّد رحمه الله في «العروة»: أن يكون معلوماً قدراً و وصفاً:
على المشهور، بل ظاهر التذكرة أنّه لا خلاف فيه بيننا، وحكی عن الشيخ في الخلاف، ولكن عن المبسوط: أنّه حكى عن بعضٍ بطلان المضاربة بالجزاف، وحكى عن بعض: الصحّة، ثمّ قال: «وهو الأقوى عندی»، وعن المختلف: اختياره، لعموم أدلّة الصحّة، من دون دليل واضح على المنع، وفی الشرائع: اشتراط أن يكون المال معلوم المقدار (1).
أقول : الكلام في اشتراط معلوميّة القدر والوصف كالكلام في اشتراط كونه معيّناً غير مبهم، والدليل هنا كالدليل هاهنا وروحه انتفاع الغرر ودفع التنازع بين المتعاقدين.
ثمّ إنّه إذا كان المال غير معلوم من حيث قدر والوصف فهل يكفی حينئذ مشاهدته عن بيانهما أم لا؟ صرّح السيّد في «العروة» بأنّه لا يكفی حيث قال:
ص: 474
أن يكون معلوماً قدراً و وصفاً، ولا تكفی المشاهدة وإن زال به معظم الغرر(1).
والظاهر كما أشار إليه في «العروة» أنّ الحكم تابع مدار الغرر وعدمه، فكلّما يصدق بقاء الغرر يشمله أدلة النهی، إذ لا دليل علی التفصيل بين بقاء الغرر بتمامه وببعضه، هذا تمام الكلام في الفرع الثالث.
قال الإمام الراحل قدس سره في بيان هذا الفرع:
وفی الربح أن يكون معلوماً، فلو قال: إنّ لك مثل ما شرط فلان لعامله، ولم يعلماه بطلت، وأن يكون مشاعاً مقدراً بأحد الكسور كالنصف أو الثلث فلو قال: علىّ أن لك من الربح مائة والباقی لی أو بالعكس، أو لك نصف الربح وعشرة دراهم مثلاً لم تصحّ، وأن يكون بين المالك والعامل لا يشاركهما الغير، فلو جعلا جزء منه لأجنبی بطلت إلا أن يكون له عمل متعلّق بالتجارة(2).
يشترط في ربح القراض أمور هی كما تلى:
الأولی: أن يكون مقدار نسبة الربح معلوماً عندهما، فعليه فلو قال المالك إنّ لك مثل ما شرط فلان لعامله ولم يعلما به بطلت المضاربة، وذلك لرفع الجهالة المستوجبة للغرر، ودفع التنازع، ولاختلاف أغراض كلّ من المتعاقدين باختلاف مقدار الربح كماً وكيفاً بأن دفع سهم ربح صاحبه نقداً أو بعد مضی زمان مثلاً، أو في بلد كذا ونحو ذلك.
ص: 475
والثانية: أن يكون الربح مشاعاً بينهما مقدّراً بأحد الكسور كالنصف أو الثلث، قال المحدث البحرانی رحمه الله :
الظاهر أنّه لا خلاف بينهم في أنّه يشترط في الربح الشياع، بمعنى أن يكون كلّ جزء جزء منه مشتركاً، لأنّه مقتضى المضاربة كما تنادی به الأخبار المتقدمة من حكمها بأنّ الربح بينهما يعنى كلّ جزء جزء منه، وما لم يكن مشتركاً فإنّه خارج عن مقتضاها، فهذا الشرط داخل في مفهوم المضاربة (1).
وفی «الجواهر» بعد ما حكی كلام المحقق رحمه الله صاحب «الشرائع»: لا بدّ أن يكون الربح مشاعاً، قال:
فلو كان لأحدهما شیء معيّن منه والباقی للآخر بطل إجماعاً (2) .
وقال ابن رشد القرطبی الأندلسی:
وأجمعوا علی أنّ صفته (القراض) أن يعطی الرجلُ الرجلَ المالَ علی أن يتّجر به علی جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال، أیّ جزءٍ كان ممّا يتفقان عليه ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً (3).
وقال الشيخ عبدالرّحمن الجزيری:
المضاربة عند الفقهاء فهی: عقد بين اثنين يتضمّن أن يدفع أحدهما للآخر مالاً يملكه ليتّجر فيه بجزء شائع معلوم من الربح كالنصف أو الثلث أو نحوهما بشرائط مخصوصة (4).
ص: 476
ثمّ إنّه قد استدلّ علی ذلك زائداً علی الإجماع المدعی عند الفريقين، بروايات مستفيضة بل متواترة، الدلالة علی اشتراكهما في الربح وهی بين صحاح وغير صحاح علی نحو نستغنی عن البحث حول أسانيدها(1)، منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطَى الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيُنْهَى أَنْ يَخْرُجَ بِهِ فَخَرَجَ؟ قَالَ: «يَضْمَنُ الْمَالَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا»(2) .
وصحيحة الحلبیّ عن أبی عبد اللّه علیه السلام في الرَّجُلِ يُعْطِی الرَّجُلَ مَالًا مُضَارَبَةً فَيُخَالِفُ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ، قَالَ: «هُوَ ضَامِنٌ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا»(3).
وصحيحة الْكِنَانِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْمُضَارَبَةِ يُعْطَى الرَّجُلُ الْمَالَ يَخْرُجُ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُنْهَى أَنْ يَخْرُجَ بِهِ إِلَى غَيْرِهَا، فَعَصَى فَخَرَجَ بِهِ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى فَعَطِبَ الْمَالُ؟ فَقَالَ: «هُوَ ضَامِنٌ فَإِنْ سَلِمَ فَرَبِحَ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا»(4).
وموثقة جميل عن أبی عبد اللّه علیه السلام في رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا يَشْتَرِی بِهِ ضَرْباً مِنَ الْمَتَاعِ مُضَارَبَةً، فَذَهَبَ فَاشْتَرَى بِهِ غَيْرَ الَّذِی أَمَرَهُ، قَالَ: «هُوَ ضَامِنٌ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَ»(5).
ص: 477
وموثقة إسحاق بن عمّار عن أبی الحسن علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؟
قَالَ: «الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ»(1).
ومرفوعة «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال في المتضاربين: «وَهُمَا
الرَّجُلَانِ يَدْفَعُ أَحَدُهُمَا مَالًا مِنْ مَالِهِ إِلَى الْآخَرِ يَتَّجِرُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ فَضْلٍ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ».
ومرفوعة أخری عنه عن أبی عبد اللّه أنّه قال: «وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ الْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّا لِصَاحِبِهِ، فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَاهُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ رَأْسِ مَالِهِ»(2).
والثالثة: عدم جواز جعل الربح لغير المتعاقدين
قال الإمام الراحل قدس سره :
وأن يكون بين المالك والعامل لا يشاركهما الغير، فلو جعلا جزء منه لأجنبی بطلت إلا أن يكون له عمل متعلّق بالتجارة(3).
قال المحقق العاملی رحمه الله بعد ما حكی كلام العلامة رحمه الله في «قواعده»: وشروطه أربعة: الأوّل: أن يكون مخصوصاً بالمتعاقدين، فلو شرط جزءاً منه لأجنبی فإن كان عاملاً صحّ وإلا بطل:
قولاً واحداً في الحكمين معاً كما في «المبسوط» وبهما صرّح فی «المهذب» و«الشرائع» و«التذكرة» و«التحرير» و«الإرشاد»
ص: 478
و«التنقيح» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«المسالك» و«مجمع البرهان»(1).
وحكی الجزيری عن الشافعية أنّهم قالوا:
يشترط في الربح أمور: الأوّل: أن يكون مختصاً بالعاقدين فلا يصحّ أن يجعل لغيرهما جزء منه إلا لعبديهما، فما شرط لأحدهما يضمّ إلی ما شرط لسيّده(2).
ثم إنّه قد استدلّ علی ذلك بما تقدّم في النصوص المتقدمة الواردة في باب المضاربة من أنّ الربح بينهما أی المالك والعامل، فلو جعل شیء منه لغيرهما فهو خارج عن مقتضی عقد المضاربة، إذ المالك يأخذ حصته من الربح الّذی يكون في مقابل ماله، والعامل يأخذ ما يكون في مقابل عمله، فليس للأجنبی شیء يختصّ به، إلا أن يكون هو أيضاً عاملاً في الجملة مثل الحمّال والدّلال، فيكون بمنزلة العوامل المتعدّد.
هذا إذا كان جعل الربح للغير علی وجه إلزامی في متن العقد لكونه أجنبيّاً عن طرفي العقد، لكن الظاهر أنّه لو توافقا و رضيا بطيب نفسهما لجعله لأجنبیّ كالأيتام أو الفقراء أو السادة مثلاً من باب الصدقة والتيمن والتبرك وأمثالها علی وجه يمكن مخالفته لكلّ منهما كلّ حين، بل وعلی وجه إلزامی من باب الوفاء بالنذر وشبهه، فلا دليل حينئذ علی بطلانه، ولا أقلّ من الشك فيرجع فيه إلی الأصل وهو تسلّط النّاس علی أموالهم(3).
ص: 479
إلی هنا تمّ بحمد الله والمنة ما أردنا أن نبحث عنه في باب «شرائط المتعاقدين في المضاربة وشرائط رأس المال و ربحه».
❊ ❊ ❊
ص: 480
ص: 481
ص: 482
المزارعة عقد من العقود اللازمة في باب المعاملات وقد تسمّی «مخابرة»(1) أيضاً من الخبرة بمعنی النصيب وذلك لأنّ كلّ واحد من المتعاقدين فيها يستحقّ خبرته ونصيبه من نتاج الزرع(2)، أو الخَبْرُ بمعنی الزرع(3)، وإمّا مأخوذة من معاملة النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأهل خيبر قد أشار إلی ذلك الطريحی في «مجمع البحرين» حيث قال:
قيل أصل المخابرة من خيبر لأنّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أقرّها في أيدي أهلها على النصف من محصولها فقيل خابرهم أی عاملهم في خيبر(4).
وفی «المسالك»:
وقد يعبّر عن المزارعة بالمخابرة، إمّا من الخبير وهو الأكّار، أو من الخبارة وهی الأرض الرخوة، أو مأخوذة من معاملة النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأهل
خيبر(5) .
وكيف كان هی إجمالاً معاملة بين مالك التصرف في الأرض سواء كانت الأرض ملكاً له أو كونه مالكاً لانتفاعها بالإجارة ونحوها (6)، و بين العامل الزارع
ص: 483
بحصّة مشاعة معلومة ممّا يخرج من حاصلها علی النسبة الّتي تعيّنا وقت العقد من أحد الكسور كالنصف أو الثلث و نحوهما.
نبحث هنا عن «المزارعة وما يعتبر فيها وفی طرفيها من الشرائط والأحكام»، ونستدلّ في هذه المقالة إن شاء الله تعالی عن هذه المسألة بالتّفصيل علی حسب مبانی الإستدلاليّة في الفقه الإماميّة، نقتفی في بحثنا رأی الإمام الراحل قدس سره نذكر كلامه أوّلاً، ثمّ نعقّبه بذكر بعض أقوال فقهاء الفريقين الّتي وردت في المقام فإنّه رحمه الله ذكر تعريف المسألة وشرائطها، في طليعة كتاب المزارعة من «تحرير الوسيلة» وفی المسألة الأولی منها حيث قال:
هی (المزارعة) المعاملة على أن تزرع الأرض بحصة من حاصلها، وهی عقد يحتاج إلى إيجاب من صاحب الأرض، و هو كلّ لفظ أفاد إنشاء هذا المعنى، كقوله زارعتك أو سلمت إليك الأرض مدّة كذا على أن تزرعها على كذا وأمثال ذلك، وقبول من الزارع بلفظ أفاد ذلك كسائر العقود، والظاهر كفاية القبول الفعلی بعد الإيجاب القولی، بأن يتسلم الأرض بهذا القصد، ولا يعتبر في عقدها العربية فيقع بكلّ لغة، ولا يبعد جريان المعاطاة فيها بعد تعيين ما يلزم تعيينه.
ص: 484
مسألة1: يعتبر فيها زائداً على ما اعتبر في المتعاقدين من البلوغ والعقل والقصد والاختيار والرشد وعدم الحجر لفلس إن كان تصرفه مالياً دون غيره كالزارع إذا كان منه العمل فقط أمور:
أحدها - جعل الحاصل مشاعاً بينهما، فلو جعل الكلّ لأحدهما أو بعضه الخاص كالّذی يحصل متقدماً أو الّذی يحصل من القطعة الفلانية لأحدهما والآخر للآخر لم يصحّ.
ثانيها - تعيين حصة الزارع بمثل النصف أو الثلث أو الربع ونحو ذلك.
ثالثها - تعيين المدّة بالأشهر أو السنين، ولو اقتصر على ذكر المزروع في سنة واحدة ففی الاكتفاء به عن تعيين المدّة وجهان، أوجههما الأوّل لكن فيما إذا عيّن مبدأ الشروع في الزرع، وإذا عيّن المدّة بالزمان لا بدّ أن يكون مدّة يدرك فيها الزرع بحسب العادة، فلا تكفی المدّة القليلة الّتي تقصر عن إدراكه.
رابعها - أن تكون الأرض قابلة للزرع ولو بالعلاج والإصلاح وطم الحفر وحفر النهر ونحو ذلك، فلو كانت سبخة لا تقبل للزرع أو لم يكن لها ماء ولا يكفيه ماء السماء ولا يمكن تحصيل الماء له ولو بمثل حفر النهر أو البئر أو الشراء لم يصحّ.
خامسها - تعيين المزروع من أنّه حنطة أو شعير أو غيرهما مع اختلاف الأغراض فيه، ويكفی فيه تعارف يوجب الانصراف، ولو صرح بالتعميم صحّ فيتخير الزارع بين أنواعه.
سادسها - تعيين الأرض، فلو زارعه على قطعة من هذه القطعات أو مزرعة من هذه المزارع بطل، نعم لو عيّن قطعة معينة من الأرض الّتي لم تختلف أجزاؤها وقال: زارعتك على جريب من هذه القطعة على النّحو الكلّی في المعيّن فالظاهر الصحة، ويكون التخيير في تعينه لصاحب الأرض.
ص: 485
سابعها - أن يعيّنا كون البذر وسائر المصارف على أیّ منهما إن لم يكن تعارف(1).
المباحث المطروحة في هذه المسألة وطليعتها يمكن إدراجها طیّ فروع تسعة آتية:
الأولی: تعريف المزارعة وماهيّتها طرداً وعكساً:
الثانية: شرائط المتعاقدين:
الثالثة: كون الحاصل فيها مشتركاً بينهما:
الرابعة: تعيين حصة الزرع من أحد الكسور مثل النصف أو الثلث أو الربع وأمثالها:
الخامسة: تعيين مدّة العقد:
السادسة: كون الأرض قابلة للزرع إمّا فعلاً أو بالعلاج والإصلاح:
السابعة: تعيين المزروع إذا كان الأغراض مختلفاً فيه:
الثامنة: تعيين الأرض ومقدارها:
التاسعة: تعيين كون البذر وسائر المصارف علی أیّ منهما إذا لم يكن هناك تعارف وانصراف:
وقبل الورود في صلب الموضوع فالتحقيق يقتضی أن نبحث عن أصل جواز هذا العقد وحكمها عند الشارع فنقول وبه نستعين:
ص: 486
إنّه قد استدلّ علی ذلك تارة بالإجماع زائداً علی أنّ جوازها كانت مفروغاً عنها وسالمة عن النزاع عند كثير من الأصحاب(1)، وأخری بالنصّ والأخبار، وثالثة بالأصل، قال الشيخ رحمه الله في «الخلاف»:
المزارعة بالثلث، والربع، والنصف، أو أقلّ، أو أكثر بعد أن يكون بينهما مشاعاً جائزة، وبه قال في الصحابة علیّ علیه السلام وعبد اللّه بن مسعود، وعمّار بن ياسر، وسعد بن أبی وقاص، وخباب بن الأرت، وفی الفقهاء ابن أبی ليلى، وأبو يوسف، ومحمّد، وأحمد، وإسحاق، وقال قوم: أنّها لا تجوز ذهب إليه ابن عباس، وعبد اللّه بن عمر، وأبو هريرة، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعی، وأبو ثور، دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، فإنّهم لا يختلفون في ذلك، وأيضاً الأصل جوازه والمنع يحتاج إلی دلالة(2).
وقريب منها ما قاله في «المبسوط»(3)، وقال الشهيد رحمه الله في «المسالك»:
والمزارعة عقد مشروع عندنا إجماعاً، وعند أكثر علماء الإسلام، ومنع منه الشافعی وأبو حنيفة وبعض العامّة إلّا في مواضع مخصوصة (4).
ص: 487
وكذا ما قاله الشيخ محمد حسن النجفی رحمه الله في «الجواهر»حيث قال:
ولا ريب في مشروعية هذا العقد (المزارعة) عندنا، وعند أكثر علماء الإسلام، بل نصوصاً فيها وفی المساقاة مستفيضة أو متواترة (1).
وقال ابن قدامة:
المزارعة هی دفع الأرض إلی من يزرعها أو يعمل عليها والزرع بينهما، وهی جائزة في قول كثير من أهل العلم، قال البخاری: قال أبو جعفر: ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون علی الثلث والربع، وزارع علیّ وسعد وابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز والقاسم وعروة وآل أبی بكر وآل علیّ وابن سيرين، وممّن رأی ذلك سعيد بن المسيّب وطاوس وعبدالرّحمن ابن الأسود وموسی بن طلحة والزهری وعبدالرّحمن بن أبی ليلی وابنه وأبويوسف ومحمّد، وروی ذلك عن معاذ والحسن وعبدالرّحمن ابن يزيد، قال البخاری: وعامل عمر النّاس علی أنّه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا، وكرهها عكرمة ومجاهد والنخعی وأبوحنيفة (2).
هذا دليل المسألة بحسب الإجماع والإتفاق، ثم إنّه قد استدلّ علی ذلك كما مرّ بأصالة الجواز وأنّ المنع يحتاج إلی دليل(3)، وكذا بالنصوص والأخبار الخاصّة الّتي وردت في المقام، منها: ما رواها المحمّدون الثلاث في كتبهم صحيحاً عن يعقوب بن شعيب وقد رواها الشيخ الحر العاملی رحمه الله صاحب
ص: 488
الوسائل عن «الكافی» في ضمن ثلاثة أحاديث مقطعات(1) ، وهی علی ما رواها الكلينی رحمه الله في «الكافی» كما تلی:
محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن صفوان عن يعقوب بن شعيب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْأَرْضُ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَيَدْفَعُهَا إِلَى الرَّجُلِ عَلَى أَنْ يَعْمُرَهَا وَيُصْلِحَهَا وَيُؤَدِّیَ خَرَاجَهَا وَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ» قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطِی الرَّجُلَ أَرْضَهُ وَفِيهَا رُمَّانٌ أَوْ نَخْلٌ أَوْ فَاكِهَةٌ فَيَقُولُ: اسْقِ هَذَا مِنَ الْمَاءِ وَاعْمُرْهُ وَلَكَ نِصْفُ مَا أُخْرِجَ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ» قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطِی الرَّجُلَ الْأَرْضَ فَيَقُولُ: اعْمُرْهَا وَهِیَ لَكَ ثَلَاثُ سِنِينَ أَوْ خَمْسُ سِنِينَ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ» قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمُزَارَعَةِ؟ فَقَالَ: «النَّفَقَةُ مِنْكَ وَالْأَرْضُ لِصَاحِبِهَا فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا مِنْ شَیْ ءٍ قُسِمَ عَلَى الشَّطْرِ، وَكَذَلِكَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أَهْلَ خَيْبَرَ حِينَ أَتَوْهُ فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا وَلَهُمُ النِّصْفُ مِمَّا أَخْرَجَتْ»(2).
دلالة الحديث علی المطلوب واضحة، و رجال السند وهم محمّد بن يعقوب الكلينی(3) و محمّد بن يحيی العطار القمّی(4) ومحمّد بن الحسين بن
ص: 489
أبی الخطاب (1) وصفوان بن يحيی البجلی(2) ويعقوب بن شعيب بن ميثم التمّار(3) كلّهم من الثقات الإماميين زائداً علی أنّ غير الأخير منهم من الأجلاء وأنّ صفوان بن يحيی البجلی قد عدّه الكشی وابن داود و غيرهما في السّتة الّذين كانوا من أصحاب أبی عبد الله علیه السلام وأجمعوا الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنهم وأقرّوا لهم بالفقه وكونهم ممّن لايروون ولايرسلون إلا عن الثقات وهم: يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بياع السابری، ومحمّد بن أبی عمير، وعبد الله بن مغيرة ، والحسن بن محبوب ، وأحمد بن محمّد بن أبی نصر(4).
ومنها: ما رواها الشيخ رحمه الله صحيحاً في «التهذيب» بالسند الآتی:
ص: 490
عنه (الحسين بن سعيد) عن صفوان عن ابن مسكان وفضالة عن أبان جميعاً عن محمّد الحلبیّ وابن أبی عمير عن حمّاد عن عبيد اللّه الحلبیّ عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «لَا بَأْسَ بِالْمُزَارَعَةِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالْخُمُسِ» (1).
دلالة الرواية كسابقتها واضحة وأمّا رجال السند فهم متشكل من الشيخ رحمه الله إلی الحسين بن سعيد و منه إلی الإمام علیه السلام، أمّا الحسين بن سعيد بن حمّاد بن مهران الأهوازی فهو إمامی ثقة عين جليل القدر له مصنفات كثيرة(2)، وصفوان بن يحيی البجلی الّذی قد تقدّم الكلام آنفاً في كونه من السّتة الّذين كانوا من أصحاب أبی عبد الله علیه السلام وأجمعوا الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنهم وأقروا لهم بالفقه وكونهم ممّن لايروون ولايرسلون إلا عن الثقات، وعبدالله بن مسكان أبو محمّد فهو أيضاً إمامی فقيه عين ثقة جليل من أصحاب الإجماع(3)، وفضالة بن أيّوب الأزدی كان ثقة في حديثه مستقيماً في دينه ومن فقهاء بلده(4)، وأبان بن عثمان الأحمر فهو أيضاً من السّتة الّذين
ص: 491
أجمعت العصابة على تقديمهم والإقرار له بالفقه وإن كان مذهبه ناووسياً فاسداً لكنّه مقبول عند الكشی وغيره لذلك الإجماع (1)، ومحمّد بن علیّ بن أبی شعبة الحلبی أبو جعفر كان من الإمامية ثقة في حديثه لا يطعن عليه وعلی إخوته عبيد الله وعمران وعبد الأعلى، حفظة بصير بالفقه والأخبار، شيخ الطائفة وفقيهها و وجهها بخراسان، سمع منه شيوخ الطائفة وهو حديث السن، له مصنفات كثيرة لم ير في القمّيين مثله في الحفظ وفی كثرة علمه، له نحو من ثلاثمائة مصنف(2)، ومحمّد ابن أبی عمير زياد بن عيسى أبو أحمد الأزدی البزاز فقد تقدّم الكلام في كونه من السّتة الّذين كانوا من أصحاب أبی عبد الله علیه السلام وأجمعوا الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنهم وأقروا لهم بالفقه وكونهم ممّن لايروون ولايرسلون إلا عن الثقات(3)، زائداً علی كونه وجهاً من وجوه الإماميّة جليل القدر عظيم المنزلة عند الخاصّة والعامّة، من أورع النّاس وأعبدهم وأنسكهم نسكاً في زمانه صاحب مصنفات كثيرة حتّی قيل أنّها أربعة وتسعون كتاباً منها كتاب النوادرالمعروف(4)، وحمّاد بن عثمان الناب جليل
ص: 492
القدر هووأخواه جعفر والحسين بنی عثمان بن زياد الرواسی كلّهم فاضلون خيار ثقات وكان حمّاد ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم والإقرار لهم بالفقه الّذين لم يختلفوا الأصحاب في تعظيمهم، هم ثمانية عشر رجلاً: ستّة منهم من أصحاب أبی جعفر الباقر علیه السلام وستّة منهم من أصحاب أبی عبد الله علیه السلام وستّة منهم من أصحاب الكاظم والرّضا عليهما السلام وحمّاد من الأخير روى عنه جماعة منهم أبو جعفر محمّد بن الوليد بن خالد الخزاز البجلی(1)، وعبيد الله بن علیّ بن أبی شعبة الحلبی الكوفی، بيت آل أبی شعبة بيت معروف في الكوفه من الثقات الأخيار مرجوعاً إليهم فيما يقولون وكان عبيد الله كبيرهم و وجههم، له كتاب معمول عليه هو أوّل كتاب صنّفه الشيعة، قيل إنّه عرض على الصادق علیه السلام فصحّحه واستحسنه وقال ليس لهؤلاء - يعنی المخالفين - في الفقه مثله(2).
هذا رجال السند من الحسين بن سعيد إلی الإمام علیه السلام وأمّا رجاله من الشيخ رحمه الله إلی الحسين سعيد فقال الشيخ رحمه الله في بيان طريقه إلی الحسين بن سعيد: أخبرنا بكتبه و رواياته ابن أبی جيد القمّی عن محمّد بن الحسن عن
ص: 493
الحسين بن الحسن بن أبان عن الحسين بن سعيد بن حمّاد بن سعيد بن مهران، قال ابن الوليد: وأخرجها إلينا الحسين بن الحسن بن أبان بخط الحسين بن سعيد وذكر أنّه كان ضيف أبيه، وأخبرنا بها عدّة من أصحابنا عن محمّد بن علیّ بن الحسين عن أبيه، ومحمّد بن الحسن ومحمّد بن موسى بن المتوكل عن سعد بن عبد الله، والحميری عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد(1).
وقد صحّح العلامة رحمه الله طريق الشيخ رحمه الله إلی عدّة رجال منهم الحسين بن سعيد حيث قال:
طريق الشيخ أبی جعفر الطوسی رحمه الله في كتاب الاستبصار إلى محمّد بن يعقوب صحيح، وكذا علیّ بن إبراهيم بن هاشم، وكذا عن محمّد بن يحيى العطار، وكذا عن أحمد بن إدريس، وكذا عن الحسين بن محمّد، وكذا عن محمّد بن إسماعيل، وكذا عن حميد بن زياد، وكذا عن أحمد بن محمّد بن عيسى وعن أحمد بن محمّد بن خالد البرقی، وكذا عن الفضل بن شاذان، وعن الحسن بن محبوب حسن، وعن الحسين بن سعيد صحيح(2).
إلی غير هاتين الرّوايتين من الرّوايات المتضافرة بل المتواترة الدالّة بالمطابقة أو الإلتزام علی جواز المزارعة عند الشارع المقدس(3).
أضف إلی ذلك أنّ الزراعة كانت من المشاغل الرائجة بين النّاس منذ خلق الله تبارك وتعالی آدم علیه السلام إلی زماننا هذا، وهی الآن صارت من الفنون و الحرف
ص: 494
الصناعيّة الّتي يتعلّمها الطلاب في الجامعات الفنيّة العلميّة، كم من مالك من المالكين الأراضی الزراعيّة لم يعلّمها بهذا النحو وكم من عالم بها ليس له ملك زراعيّة أصلاً، والمالكين لهذه الأراضی لاسيّما في الأراضی الكبيرة الوسيعة وإن يمكن لهم استخدام العاملين العالمين بها من طريق الجعالة والإجارة إلا أنّه حيث إذا كان العامل شريكاً مع المالك في حاصل الزرع بنحو الإشاعة إزدادت حاصلها إزدياداً فاحشاً فالرغبة فيها من الجانبين علی المعاملة بنحو المزارعة أكثر من الرغبة إليها علی نحو الجعالة والإجارة، بل يمكن أن يقال إنّ الزراعة بنحو المزراعة كانت من العقود والمعاملات العقلائيّة الرائجة المتداولة بين النّاس حتّی قبل الإسلام ولم يردع عنها الشارع بل امضاها بمقتضی الرّوايات الّتي أشرنا إليها آنفاً فيشملها عموم الأمر بالوفاء بالعقود في قوله تعالی: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1)، و«الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِم» (2).
ثمّ إنّه قد استدلّ بعض العامة القائلين بعدم جواز المزراعة تارة بأصالة تابعيّة كلّ نماء ونتاج لمن ملك العين كما أشار إليها الشيخ رحمه الله بما حاصله: ومن قال بعدم جواز المزراعة قال: إذا زارع رجلا فعمل كان الزرع لصاحب البذر لأنّه عين ماله، سواء كان هو العامل أو المالك، فعليه أجرة المثل للأكار إن كان البذر لرب الأرض أو أجرة المثل للمالك إن كان البذر للعامل، وإن كان البذر لهما فالزرع لهما بنسبة بذره وعليهما أجرة المثل للآخر بنسبة أجرة الأرض أو العمل(3).
ص: 495
وأخری: بما روی عن زيد بن ثابت قال: نهی رسول اللّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: «أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع»(1)، وكذا ما روی ابن قدامة من الفقهاء الحنابلة وغيره حديثاً في منعها عن رافع بن خديج أنّه قال: كنّا نخابر على عهد رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فذكر أنّ بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن أمر كان لنا نافعاً وطواعية رسول الله أنفع، قال: قلنا: ما ذاك؟ قال: قال رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمّى»، وعن ابن عمر قال: ما كنّا نرى بالمزارعة بأساً حتّى سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن المخايرة، ثمّ روى مثله عن جابر(2).
ففيه أمّا قصة تابعيّة كلّ نماء و منفعة لمن ملك العين والأصل فهی علی إطلاقها ممنوعة لعدم دليل عليها أولاً، وانتقاضها في مثل جواز بيع العين المستأجرة للأجنبی مع بقاء الإجارة، وجواز بيع الثمرة علی أصولها، وجواز التجارة بمال الغير مضاربة وغيرها ثانياً، وكونها في مقابل تلك النصوص المجوزة إجتهاداً في مقابل النصّ ثالثاً.
وأمّا حديث رافع بن خديج بقرينة حديث زيد بن ثابت يحتمل قويّاً أن يكون المراد منه إجارة الأرض بالثلث أو الربع ونحوهما لما يستعمل المخابرة كثيراً ما في كلي المزارعة المصطلحة، وفی إجارة الأرض، يشهد لما ذكرنا جعل الراوی قول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «ولا يكرها» في مقابل قوله: كنّا نخابر على عهد رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فيستفاد منه أنّ المراد من المخابرة في الخبر هو استكراء الأرض
ص: 496
للزراعة لا المزارعة المعهودة، فالنهی الوارد في الخبرين وأمثالهما محمول علی الإجارةعلی شیء مشاع، لما ثبت في محله من لزوم كون مال الإجارة معلومةً قدراً وجنساً ونوعاً و صفةً (1)، فلا تصحّ بشیء غير محقق الوقوع أو المجهول وزناً وإن كان معلوماً سهماً علی فرض حصوله، بخلاف المزارعة حيث يعتبر فيها كون العوض مشتركاً بنحو الإشاعة السيّالة، ولا أقلّ من الإحتمال وبطلان الاستدلال، لقد أشار إلی ذلك السيّد أبوالمكارم بن زهرة حيث قال:
وما روى من نهي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن المخابرة محمول على إجارة الأرض ببعض الخارج منها وإن كان معيّناً، لأنّ ذلك لا يجوز باتفاق، لعدم القطع على
إمكان تسليمه(2).
ثمّ إنّه علی فرض تسليم سند الخبرين وكون النهی الوارد فيهما هو المزارعة المعهودة فهو معارض للرّوايات المتضافرة بل المتواترة الدالة بالمطابقة أو الإلتزام علی جواز المزارعة عند الشارع المقدس، منها ما روی العامة والخاصة من معاملة النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مع أهل خيبر بما يخرج من حاصلها بالنصف، قال ابن القدامة الفقيه العامی الحنبلی بعد نقل قصة النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مع أهل خيبر:
هذا أمر صحيح مشهور، عمل به رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حتّی مات ثمّ خلفاؤه الراشدون حتّی ماتوا، ثمّ أهلوهم من بعدهم ولم يبق بالمدينة أهل بيت إلا عمل به، وعمل به أزواج رسول الل صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من بعده، إلی أن قال: إنّ أحاديث رافع مضطربة جداً! مختلفة اختلافاً كثيراً يوجب ترك العمل بها لو انفردت فكيف يقدّم علی مثل حديثنا؟ قال الإمام أحمد: حديث
ص: 497
رافع ألوان أو ضروب ...، و روی البخاری عن عمرو بن دينار قال: قلتلطاوس لو تركت المخابرة فإنّهم يزعمون أنّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نهی عنها، قال إنّ أعلمهم - يعنی ابن عباس - أخبرنی أنّ النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لم ينه عنها ولكن قال: «أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً».
ثمّ إنّ أحاديث رافع منها ما يخالف الإجماع وهو النهی عن كراء المزارع علی الإطلاق، ومنها ما لايختلف في فساده كما قد بيّنا، وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعة وتارة عن ظهير بن رافع، وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب إخراجها واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر الجارية مجری التواتر الّتي لا اختلاف فيها وبها عمل الخلفاء الراشدون وغيرهم فلا معنی لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية(1).
فنأخذ بالمتضافرات والمتواترات المجوزة المشهورة ونترك الشاذ النادر الّذی ضُعّف هكذا، لما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة (2) ومرفوعة زرارة بن أعين (3) وغيرهما من علاج الأخبار المتعارضات بها.
ص: 498
فبعد ما فرغنا من هذه المرحلة فلنبحث في فروعات المسألة وهی كما عرفت تسعة، الأولی منها: تعريف المزارعة وماهيّتها طرداً وعكساً، فنقول وعليه التكلان:
قال الإمام الراحل قدس سره في بيان تعريفها:
هی (المزارعة) المعاملة على أن تزرع الأرض بحصة من حاصلها، وهی عقد يحتاج إلى إيجاب من صاحب الأرض، وهو كلّ لفظ أفاد إنشاء هذا المعنى، كقوله زارعتك أو سلمت إليك الأرض مدّة كذا على أن تزرعها على كذا وأمثال ذلك، وقبول من الزارع بلفظ أفاد ذلك كسائر العقود، والظاهر كفاية القبول الفعلی بعد الإيجاب القولی، بأن يتسلّم الأرض بهذا القصد، ولا يعتبر في عقدها العربية فيقع بكلّ لغة، ولا يبعد جريان المعاطاة فيها بعد تعيين ما يلزم تعيينه(1).
المزراعة لغة مفاعلة من الزرع، وهی تقتضی وقوعه منهما معاً، وفی الشرع معاملة علی (منفعة) الأرض بين مالك التصرف فيها سواء كونها ملكاً له أو كونه مالكاً لانتفاعها بالإجارة ونحوها، وبين العامل الزارع بحصّة مشاعة سيّالة معلومة ممّا يخرج من حاصلها علی النسبة الّتي تعيّنا وقت العقد من أحد الكسور كالنصف أو الثلث ونحوهما إلی مدّة معلومة، والزرع وإن كان فعل العامل إلا أنّه حيث كان بطلب أحدهما وقبول الآخر نسب الفعل إليهما، أو يكون من باب استعمال " فاعل " بمعنی " فعل " كسافر بمعنی سفر.
ص: 499
والأولی حيث إنّ المزارعة ليست من قبيل المعاملة علی الأرض بيعاً ولا من قبيل المعاملة علی منفعتها إجارة، بل يعامل كلّ من المتعاقدين منفعة ما يتعلّق به الآخرَ برفع يد صاحبه كذلك، أن نعبّر عنها بأنّ المزارعة هی: معاملة كلّ من المالك (الأرض والبذر والماء والعمل) منفعة ما يتعلّق به للزراعة في مقابل رفع يد الآخر كذلك مدّة معلومة بأن يكون حاصل الزرع مشاعاً سيّالاً بينهما.
المعاملة في التعريف بمنزلة الجنس تعمّ البيع والإجارة والمساقاة والمزارعة، خرج بالمعاملة علی منفعة الأرض «البيع» و«المساقاة» لكونهما معاملة علی نفس الأرض أو أصولها بأن يسقيها مدّة معينة بحصة من ثمرها وكانت الأرض في الأخير حقيقتاً من توابعها، وبالحصة «إجارة الأرض للزراعة أو للأعمّ بحصة من حاصلها» لما عرفت من لزوم كون مال الإجارة معلومةً قدراً وجنساً ونوعاً وصفةً فلا تصحّ بشیء غير محقق الوقوع أو المجهول وزناً وإن كان معلوماً سهماً علی فرض حصوله.
و ذكر المدة لا دخل لها في التعريف إلا لبيان كون المزارعة الصحيحة هی الّتي مدّتها معلومة لدی المتعاقدين، لبطلان المعاملات إذا كانت غرريّةً.
والّذی أن ننبّه عليه أنّ التعاريف الّتي تذكر للبيع أو لغيره من المعاملات غالباً إنّما هی من قبيل شرح الاسم، فيراد منها بيان المعرَّف على وجه الاجمال وليست تعاريف حقيقية حتّی يبتنی الأمر فيها على التدقيق ببيان الجنس والفصل الحقيقيين، وإلی ذلك أشار السيّد البروجردی رحمه الله في تعليقته علی العروة حيث قال:
هذا من شرح الاسم وأمّا ماهيّتها فهل هی من سنخ المشاركات أو المعاوضات؟ وعلى الثانی فهل هی تمليك حصّة من منفعة الأرض من الزارع بحصّة من عمله مع اشتراط كون الحاصل بينهما بنسبة الحصّتين حتّى تكون من إجارة الأرض بالعمل مطلقاً، أو هی تمليك تمام منفعة
ص: 500
الأرض من الزارع بحصّة من الحاصل فيما إذا كان البذر من الزارع وتمليك الزارع تمام عمله من المالك بحصّة منه فيما كان البذر من المالك حتّى تكون تارة من إجارة الأرض وأخرى من إجارة النفس بعين معدومة فعلًا غير معلومة الوجود والكمّية فيما بعد؟ وجوه، أقربها الأوّل والتفصيل لا يسعه المقام( (1).
و حيث إنّها عقد من العقود تحتاج إلی الطرفين هما الموجب والقابل، يكفی في الإيجاب كلّ لفظ يفيد إنشاء هذا المعنی بالظهور العرفی كقوله: «زراعتك أو سلّمت إليك الأرض مدّة كذا علی أن تزرعها علی كذا»(2)، ولا يعتبر في وقوع العقد كونه بالعربيّة فقط بل يكفی بكلّ لفظ يفيد هذا المعنی، وذلك لما سيأتی من فحوی وقوعه بالمعاطاة ولتقدّم وقوع العقود في كلّ نحلة وملّة قبل الإسلام بلغاتهم وإمضاء الشارع إيّاها.
ثمّ إنّه كما تصحّ المزارعة بالايجاب والقبول اللفظيين، تصحّ بالمعاطاة والكتابة وذلك لأنّ الأصل في العقود هو وقوعها معاطاة كما هی كذلك قبل الإسلام ولم يردع عنها الشارع، وكما تصحّ إذا كان الايجاب من جانب المالك تصحّ إذا كان من جانب العامل في مثل ما إذا تقدم المقاولة بها من دون أن ينشیء العقد، ثمّ قال العامل إنّی زراعت في أرضك مدّة كذا ويكون الحاصل بيننا نصفاً وقال المالك قبلت، وكذا الكلام في كلّ عقد من العقود، فلا فرق في
ص: 501
البيع أن يكون الموجب هو البائع أو المشتری، وفی الإجارة أن يكون هو المؤجر أو المستأجر، وفی الجعالة أن يكون هو الجاعل أو العامل، وهكذا.
وإلی ذلك أشار المحقق السبزواری رحمه الله حيث قال:
وأمّا اعتبار الإيجاب والقبول اللفظيّين والماضويّة وتقديم الإيجاب على القبول والعربيّة والمقارنة وسائر ما قيل في العقود اللازمة كما ادّعاه في المسالك فغير لازم، وصرّح الفاضلان بجوازها بصيغة الأمر، وصرّح في القواعد بالاكتفاء بالقبول الفعلی وهو جيّد(1).
وقريب منه ما قاله السيّد الطباطبائی رحمه الله صاحب «العروة» حيث قال:
كذا لا يعتبر تقديم الإيجاب على القبول ويصحّ الإيجاب من كلّ من المالك والزارع بل يكفی القبول الفعلی بعد الإيجاب القولی على الأقوى وتجری فيها المعاطاة وإن كانت لا تلزم إلا بالشروع في العمل(2).
ص: 502
قال الإمام الراحل قدس سره في بيان هذا الفرع :
يعتبر فيها ما اعتبر في المتعاقدين من البلوغ والعقل والقصد والاختيار والرشد وعدم الحجر لفلس إن كان تصرفه مالياً دون غيره كالزارع إذا كان منه العمل(1).
قد بحثنا مفصّلاً عن شرائط المتعاقدين ومستنداتها فيما يشترط من ناحية المتعاقدين في مبحث «الإجارة»، فراجع.
هذا حكم الشرائط المشتركة بين المالك والعامل، وأمّا يختص المالك (سواء كان مالكاً للأرض أو الماء أو البذر) زائداً علی ما تقدّم بعدم المنع من التصرف في أمواله لفلس.
قال السيّد رحمه الله في «العروة» في إعداد الشرائط العامة في المقام:
ومالكيّة التصرف في كلّ من المالك والزارع، نعم لا يقدح حينئذ فلس الزارع إذا لم يكن منه مالٌ، لأنّه ليس تصرّفاً ماليّاً (2).
والظاهر أنّه لا اختصاص بخصوص المفلس، بل يعمّ المملوك أيضاً بناءً علی عدم تملك العبد، وكيف كان إنّ المفلس إذا كان ديونه زائداً علی أمواله وحكم الحاكم عليه بكونه ممنوعاً من التصرف في أمواله، فلا يجوز له أن يتصرف فيها من دون فرق فيه بين المباشرة والمشاركة والمزارعة باتفاق الفرقين، بل يقسّم أمواله بين غرمائه لتعلّق حقّهم إليها، قال الشيخ محمّد حسن النجفی رحمه الله بعد نقل كلام المحقق رحمه الله :
إذا حجر عليه (المفلس) تعلّق به منع التصرف لتعلّق حقّ الغرماء،
ص: 503
واختصاص كلّ غريم بعين ماله، و قسمة أمواله بين غرمائه: لا خلاف بين الأصحاب في أنّه يمنع من التصرف(1).
وقال الشيخ عبدالرّحمن الجزيری:
ويحجر علی المدين في تصرفاته الماليّة حتّی لا تضيع علی النّاس حقوقهم وأموالهم الّتي استدانها منهم، ثمّ ذكر اتفاق المذاهب علی ذلك(2).
ثمّ إنّه قد استدلّ علی ذلك بخبر السَّكُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ عَلِيّاً علیه السلام كَانَ يَحْبِسُ في الدَّيْنِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَعْطَى الْغُرَمَاءَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ دَفَعَهُ إِلَى الْغُرَمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمُ اصْنَعُوا بِهِ مَا شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُمْ آجِرُوهُ وَإِنْ شِئْتُمُ اسْتَعْمِلُوهُ»(3)، ومرفوعة دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: «الْمُفْلِسُ إِذَا قَامَ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءُ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مِنْهُمْ بِقَبْضِ حَقِّهِ مِمَّا وَجَدَ في يَدَيْهِ كُلُّ عَامِلٍ عَمِلَ فِيهِ أَوْ أَجِيرٍ اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ بِأُجْرَةٍ، أَوْ بِثَمَنِ دَابَّةٍ إِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَتْ عَلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْغُرَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ أُسْوَةً»(4)، ينجبر ضعفهما بعمل الأصحاب.
ثمّ لا يخفی أنّه إنّ هذا الشرط مختص بالمالك إذ العامل وإن كان مفلساً فإنّه ممنوع من التصرف في أمواله لتعلّق حقّ غرمائه إليها، لكنّه ليس ممنوعاً عن تحصيل مال جديد بالمزارعة والمضاربة وإجارة نفسه وأمثالها.
ص: 504
أمّا اعتبار القصد في المتعاقدين فهو من قبيل القضايا قياساتها معها، لبناء العقلاء كافّة على أنّ ما لا قصد فيه ساقط عن الاعتبار مطلقاً، والمراد به القصد الجدّی الإنشائی، فعليه لا عبرة بما صدر عن الغافل والنائم والساهی والناسی والمدهوش والسكران والمغمى عليه، هذا تمام الكلام في الفرع الثانی.
قال الإمام الراحل قدس سره في بيان هذا الشرط:
جعل الحاصل مشاعاً بينهما، فلو جعل الكلّ لأحدهما أو بعضه الخاص كالّذی يحصل متقدماً أو الّذی يحصل من القطعة الفلانية لأحدهما والآخر للآخر لم يصحّ(1).
قد عبّر عن هذا الشرط في «التحرير» بكون الحاصل مشاعاً، وفی «العروة» بكونه مشتركاً بينهما حيث قال: أن يكون النماء مشتركاً بينهما، فلوجعل الكلّ لأحدهما لم يصحّ مزارعة(2)، لكنّه حيث يبُحث في الفرع الآتی عن كيفيّة تقسيم النماء الحاصلة وأنّه بنحو الإشاعة السيّالة فالأولی أن نبحث هنا عن أصل كون النماء مشتركاً بينهما.
وكيف كان فلو جعل الكلّ لأحدهما أو بعضه الخاص كذلك لم يكن ذلك المزارعة المصطلحة بل إنّه جعالة أو إجارة، أو مزارعة باطلة يجب علی كلّ منهما أجرة مثل ما يملكه الآخر من العمل والأرض وكان الحاصل لمالك البذر، وحيث كان الدليل في هذا الفرع وفی الفرع الآتی واحداً فنبحث عن دليلهما هاهنا.
ص: 505
قال الإمام الراحل قدس سره في بيان هذا الشرط:
تعيين حصّة الزارع بمثل النصف أو الثلث أو الربع ونحو ذلك(1).
قد أشرنا في الفرع السابق أنّه يعتبر في المزارعة أن يكون حاصل الزرع مشتركاً مشاعاً، ونبحث هنا عن كيفيّة هذا التقسيم بكونه سيّالاً من أحد الكسور لتخرج الإجارة عن التعريف، أرسله بعض إرسال المسلمات(2)، وادّعی عدم الخلاف أو الإجماع والإتفاق عليه بعضٌ آخر(3)، قال المحقق الطاطبائی رحمه الله في «الرياض»:
وشروطها ثلاثة أحدها: أن يكون النماء مشاعاً بينهما تساوياً فيه أو تفاضلاً بلا خلاف بل عليه الإجماع في الغنية وغيرها، وهو الحجة(4).
ص: 506
هذا حكم المسألة بحسب الإجماع والإتفاق وأمّا دليلها بحسب النصّ والأدلّة النقليّة، فقد استدلّ عليها بأخبار، منها: صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبی عبد اللّه علیه السلام في حديث، قال: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمُزَارَعَةِ؟ فَقَالَ: «النَّفَقَةُ
مِنْكَ وَالْأَرْضُ لِصَاحِبِهَا فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا مِنْ شَیْ ءٍ قُسِمَ عَلَى الشَّطْرِ، وَكَذَلِكَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أَهْلَ خَيْبَرَ حِينَ أَتَوْهُ فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا وَلَهُمُ النِّصْفُ مِمَّا أَخْرَجَتْ»(1).
وصحيحة عبيد اللّه الحلبیّ عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «لَا بَأْسَ بِالْمُزَارَعَةِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالْخُمُسِ»(2).
وصحيحة عبد اللّه بن سنان أنّه قال: في الرَّجُلِ يُزَارِعُ فَيَزْرَعُ أَرْضَ غَيْرِهِ فَيَقُولُ ثُلُثٌ لِلْبَقَرِ وَثُلُثٌ لِلْبَذْرِ وَثُلُثٌ لِلْأَرْضِ؟ قَالَ: «لَا يُسَمِّی شَيْئاً مِنَ الْحَبِّ وَالْبَقَرِ وَلَكِنْ يَقُولُ ازْرَعْ فِيهَا كَذَا وَكَذَا إِنْ شِئْتَ نِصْفاً وَإِنْ شِئْتَ ثُلُثاً»(3).
وخبر أبی الرّبيع الشّامیّ عن أبی عبد اللّه علیه السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَزْرَعُ أَرْضَ رَجُلٍ آخَرَ فَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ ثُلُثاً لِلْبَذْرِ وَثُلُثاً لِلْبَقَرِ؟ فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِی أَنْ يُسَمِّیَ بَذْراً وَلَا بَقَراً، وَلَكِنْ يَقُولُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ: أَزْرَعُ في أَرْضِكَ وَلَكَ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا نِصْفٌ أَوْ ثُلُثٌ أَوْ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ، وَلَا يُسَمِّی بَذْراً وَلَا بَقَراً فَإِنَّمَا يُحَرِّمُ الْكَلَامُ»(4).
ص: 507
أقول: دلالة الأخبار علی المطلوب واضحة، أكثرها صحاح، زائداً علی أنّها لا تنحصر بهذا المقدار(1) وقد أفتی علی وفقها الأصحاب، وهی كما تدلّ علی لزوم كون الحاصل مشتركاً بينهما تدلّ أيضاً علی كيفيّتها علی النحو الإشاعة السيّالة.
قال الإمام الراحل قدس سره في بيان هذا الشرط:
تعيين المدّة بالأشهر أو السنين، ولو اقتصر على ذكر المزروع في سنة واحدة ففی الاكتفاء به عن تعيين المدّة وجهان، أوجههما الأوّل لكن فيما إذا عيّن مبدأ الشروع في الزرع، وإذا عيّن المدّة بالزمان لا بدّ أن يكون مدّة يدرك فيها الزرع بحسب العادة، فلا تكفی المدّة القليلة الّتي تقصر عن إدراكه(2).
أرسلوه بعض الأصحاب إرسال المسلمات، وقد ادعی كونه مشهوراً (3)، أو لا خلاف فيه معتداً به(4)، أو مجمعاً عليه الأصحاب، قال في «تذكرة»:
يشترط فى المزارعة تقدير المدّة وتعيينها بالأيّام والشهور المضبوطه فلا تجوز مع جهالة المدّة اجماعاً لما فيه من الغرر وأدائه الى التنازع(5).
ص: 508
وقد أشار إليه في «الشرائع» حيث قال:
وإذا شرط مدّة معيّنة بالأيّام أو الأشهر صحّ، ولو اقتصر على تعيين المزروع من غير ذكر المدّة فوجهان: أحدهما: يصحّ لأنّ لكلّ زرع أمداً فيبنی على العادة كالقراض، والآخر: يبطل لأنّه عقد لازم فهو كالإجارة فيشترط فيه تعيين المدّة دفعاً للغرر لأنّ أمد الزرع غير مضبوط وهو أشبه(1).
ثمّ إنّه قد استدلّ علی ذلك بعد الإجماع المدعی تارة: بعموم النهی عن الغرر المستفاد من المرسلة المعروفة: «نَهَى النَّبِیّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عَن الْغَرَرِ» أو «عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»(2)، الّتي ضعف سندها منجبر بعمل الأصحاب، وقد عُبّر عن حكمة بطلان العقود الغرريّة بكونها مظنّة للتنازع بين المتعاقدين، وأخری: بمشابهة المزارعة بالإجارة في المعنى، وثالثة: بما يستفاد من ظاهر بعض أخبار يدّعی دلالتها علی المدعی منها: صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبی عبد اللّه علیه السلام في حديث قال: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطِی الْأَرْضَ وَيَقُولُ اعْمُرْهَا وَهِیَ لَكَ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ خَمْسَ سِنِينَ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ»(3).
ص: 509
وصحيحة الحلبیّ عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «إِنَّ الْقَبَالَةَ أَنْ تَأْتِیَ الْأَرْضَ الْخَرِبَةَ فَتُقَبِّلَهَا مِنْ أَهْلِهَا عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَتَعْمُرَهَا وَتُؤَدِّیَ مَا خُرِّجَ عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ»(1).
أقول: إنّ المسألة ظاهراً فاقدة للنصّ إذ يحتمل أن يكون المراد من قبالة الأرض أو عمارتها المشار إليهما في الصحيحتين هو إجارتها واعطاء أجرتها من حاصلها لا المزارعة المعهودة، فالعمدة في المقام هو الإجماع المدعی ومتابعة العمومات والقواعد الدالّة علی نفی الغرر، وحيث إنّ المعاملات الّتي تكون مظنة لتنازع المتعاقدين لم يقدم عليه العقلاء بما هم عقلاء غير مرضی عند الشارع وغير ممضاة في نظره، فالمزارعة غير المبيّنة فيها المدّة باطلة شرعاً.
لكن لا يخفی أنّ المراد بتعيين المدّة أعمّ من تعيينها بالصراحة، أو تعيينها بحسب العرف والعادة بحيث ينصرف إلی زمان خاص عندهم.
ثمّ إنّه لا بدّ في تعيين المدّة أن تكون وافيةً بالمزروع، وإلا فإن علما بعدم وفائها به، ومع ذلك أقداما علی العقد، فهو أيضاً باطل لإشعاره بعدم إرادتهما الجديّة لذلك.
ص: 510
قال الإمام الراحل قدس سره في بيان هذا الشرط:
أن تكون الأرض قابلة للزرع ولو بالعلاج والإصلاح وطم الحفر وحفر النهر ونحو ذلك، فلو كانت سبخة لا تقبل للزرع أو لم يكن لها ماء ولا يكفيه ماء السماء ولا يمكن تحصيل الماء له ولو بمثل حفر النهر أو البئر أو الشراء لم يصحّ(1).
هذه من القضايا الّتي قياساتها معها حيث إنّ مفهوم المزارعة لا يتحقّق إلا بإمكان تحقّق الزرع وقابليّة الأرض له إمّا فعلاً أو بالعلاج والإصلاح، وإلا لغی العقد ويعدّ في نظر العقلاء من المعاملات السّفهی، وهو في الحقيقة سالبة بانتفاء الموضوع، قد أشار إلی ذلك الشيخ محمّد حسن النجفی رحمه الله في «الجواهر» حيث قال:
ضرورة استبعاد إرادته الصّحة مع العلم بعدم إمكان الانتفاع بها في ذلك(2).
وفی «الرياض» وادّعی كونه ممّا لا خلاف فيه إجمالاً، فإنّه بعد ما ذكر الشرط المذكور قال:
أنّه لا خلاف في اشتراطه في الجملة، وإن اختلفوا في متعلّقه هل هو الصّحة مطلقاً، كما هو ظاهر العبارة فيبطل العقد مع عدمه مطلقاً، ولو مع العلم بفقده ابتداءً، وعدمه بعد وجوده، أو في صورة الجهل بعدمه حين العقد خاصّة، كما هو ظاهر الفاضل في الإرشاد حيث حكم
ص: 511
بالبطلان بعدمه إلّا مع العلم به، أو اللزوم في صورة الجهل خاصّة؟ فللعامل الخيار فيها بعد العلم(1).
هذا حكم عدم الإنتفاع بها من بدو الأمر وعدم إمكان قابليّتها لذلك ولو بالعلاج والإصلاح من حفر النهر أو البئر أو شراء الماء مع عدم كفاية ماء السّماء لذلك، أمّا لو خرجت الأرض عن قابليّة الإنتفاع بها للزرع أثناء المدّة علی وجه لا يمكن الإنتفاع بها طليلة المدّة فالأقوی فيه أيضاً هو بطلان العقد من حينه لاتّحاد المسألتين، إذ لا وجه لاستصحاب صحة العقد بعد ما تغيّر الموضوع، فللمالك حينئذ ما حصل من الزرع بنسبة الّتي تعيّنا وقت العقد لو كان، وإلا ليس له شیء لوضوح كون أجرة المالك من نماء الزرع المفروض كونه مفقوداً في المقام.
وبعبارة أخری: إنّ شرط قابليّة الأرض للزرع من الشرائط المقومة لموضوع عقد المزارعة، فإذا فقد الشرط فقد المشروط ضرورة من دون فرق بين الإبتداء والأثناء.
ص: 512
قال الإمام الراحل قدس سره في بيانه:
تعيين المزروع من أنّه حنطة أو شعير أو غيرهما مع اختلاف الأغراض فيه، ويكفی فيه تعارف يوجب الانصراف، ولو صرّح بالتعميم صحّ فيتخير الزارع بين أنواعه(1).
إنّه لو اختلف الأغراض في مزروع من أنواع المزروعات من الحنطة أو الشعير أو الأرز ونحوها فلا يتحقّق معه مفهوم العقد، لا سيّما إذا كان اختلاف أغراضهما راجعاً إلی مقدار النفع الحاصل منها، أو استفادة كلّ منهما نوعاً خاصّاً منها في مصارفه الشخصيّة وأمثال ذلك، فعليهما أن يعيّنا المزروع وإلا بطل العقد لكونه مظنّة للغرر والتنازع بين المتعاقدين، ولأنّ ما لم يقدم عليه العقلاء بما هم عقلاء غير مرضی عند الشارع وهو غير ممضاة في نظره، نعم إذا كان هناك تعارف يوجب انصراف إطلاق الزرع إلی نوع خاص منها علی وجه كان العقد مبنيّاً عليه، فإنّه تعيين.
ولو أطلق المالك ولم يكن هناك تعارف ولا يختلف الأغراض فيها بما يوجب التنازع بينهما بوجه من الوجوه، أو صرّح بالتعميم صحّ العقد، وللزارع حينئذ لو كان هو المأمور بتحضير البذر كما صرّح به في «المسالك» التخيير بين أنواع المزروعات، حيث قال:
وإنّما يتمّ ذلك (تخيير العامل) لو كان البذر من عنده، أمّا لو كان من عند صاحب الأرض فالتخيير إليه بطريق أولى، لا إلى المزارع. وإنّما
ص: 513
تخيّر مع الإطلاق لدلالة المطلق على الماهيّة من حيث هی، وكلّ فرد من أفراد الزرع يصلح أن يوجد المطلق في ضمنه(1).
وكيف كان لو تعيّن الزرع لم يكن لواحد منهما التعدّی منه، وذلك لعموم الأمر بالوفاء بالعقود والشروط(2)، فلو تخلف كان للآخر فسخ العقد وأخذ أجرة مثل ما له من العمل أو الملك، أو إمضائه العقد بهذه الكيفيّة وأخذه أجرة المسمّی، إليه أشار المحقق رحمه الله في «الشرائع» رحمه الله حيث قال:
وإن عيّن الزرع لم يجز التعدّی ولو زرع ما هو أضر والحال هذه كان لمالكها أجرة المثل إن شاء أو المسمّى مع الأرش ولو كان أقلّ ضرراً جاز(3).
ص: 514
قال الإمام الراحل قدس سره في بيانه:
تعيين الأرض، فلو زارعه على قطعة من هذه القطعات أو مزرعة من هذه المزارع بطل، نعم لو عيّن قطعة معيّنة من الأرض الّتي لم تختلف أجزاؤها وقال: زارعتك على جريب من هذه القطعة على النّحو الكلّی في المعيّن فالظاهر الصّحة، ويكون التخيير في تعينه لصاحب الأرض(1).
الشّرط السّادس من الشّروط الّتي ذكرها الإمام الراحل قدس سره وغيره في عقد
المزارعة هو «تعيين الأرض ومقدارها»، فلو لم يعيّنها المالك أو مقدارها بطل العقد لما تقدم غير مرّة من كونه مظنّة للغرر والتنازع بين المتعاقدين لاختلاف الأراضی قوة وضعفاً، علواً ودنواً الّذی يعرفه أهل الخبرة بالزراعة وغيرهم علی وجه يوجب تفاوت مقدار المحصول والمنافع، ولأنّ ما لم يقدم عليه العقلاء بما هم عقلاء غير مرضی عند الشارع وغير ممضاة في نظره، إلا إذا كان هناك تعارف يوجب انصراف إطلاق الأرض إليها.
نعم لو كان مقدار الأرض المعقودة عليها معيّناً وكانت أجزائها متقاربة من حيث المحصول والنماءات علی وجه ينعدم معه الغرر والتنازع عرفاً، فالأقوی الصّحة من باب الكلّی في المعيّن ويكون التخيير حينئذ من جانب المالك كمن باع صاعاً من صبرة، وإن كان للعامل الامتناع من قبولها ما دام بقيت من الأرض بمقدار القطعة.
اللهم إلا أن يقال: إنّ امتناع العامل من قبولها دليل علی اختلاف الأغراض فيبطل العقد حينئذ للغرر والتنازع.
ص: 515
قال الإمام الراحل قدس سره في بيانه:
أن يعيّنا كون البذر وسائر المصارف على أیّ منهما إن لم يكن تعارف(1).
يشترط في باب المزارعة زائداً علی ما تقدّم من الشّرائط، تعيين كون البذر وكذا سائر المصارف والتكاليف علی أیّ منهما إذا لم يكن هناك انصراف مغنٍ عنه ولو بسبب التعارف، فبدونه بطل العقد لكونه مظنّة للغرر والتنازع بين المتعاقدين، ويكون الزرع حينئذ من باب تبعيّة المنافع للأعيان إلا ما خرجت بالدليل لصاحب البذر أیّ منهما، وللآخر أجرة مثل ما كان له من الماء والأرض وسائر المصارف، وبالمتعارف يحمل صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبی عبد اللّه علیه السلام حيث جعل الإمام علیه السلام النفقات علی الزارع والمحصول لهما علی الشّرط، فإنّه قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْأَرْضُ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَيَدْفَعُهَا إِلَى الرَّجُلِ عَلَى أَنْ يَعْمُرَهَا وَيُصْلِحَهَا وَيُؤَدِّیَ خَرَاجَهَا وَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمُزَارَعَةِ؟ فَقَالَ: النَّفَقَةُ مِنْكَ وَالْأَرْضُ لِصَاحِبِهَا، فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ شَیْ ءٍ قُسِمَ عَلَى الشَّطْرِ وَكَذَلِكَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ خَيْبَرَ حِينَ أَتَوْهُ فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا وَلَهُمُ النِّصْفُ مِمَّا أَخْرَجَتْ»(2).
وكيف كان ففی كلّ موضع فقد فيه شرط من شرائط المزارعة بما يحكم عليه ببطلان العقد، فعلی كلّ واحد من العامل والمالك أجرة مثل ما للآخر من العمل
ص: 516
والماء والأرض وسائر المصارف، ويكون الحاصل من باب تبعيّة المنافع للأعيان لصاحب البذر أيّهما كان، فإن كان البذر منهما فيقسم الحاصل بينهما علی النسبة الّتي بذلاه وعليهما ما للآخر من أجرة العمل أو النفقات، وقد أشار إلی ما ذكرناه إجمالاً المحقق رحمه الله في «الشرائع» حيث قال:
كلّ موضع يحكم فيه ببطلان المزارعة تجب لصاحب الأرض أجرة المثل(1).
إلی هنا تمّ بحمد الله والمنة ما أردنا أن نبحث عنه في باب «المزارعة وما يعتبر فيها وفی طرفيها من الشرائط والأحكام».
❊ ❊ ❊
ص: 517
ص: 518
ص: 519
ص: 520
حيث إنّ الأعيان الشخصيّة الّتي وقع عليها العقد من دون فرق بين أنواع التجارات والمعاملات لم تكن حاضرة دائماً وقت العقد، فربما وقع العقد علی شیء باعتبار توصيفه أو رؤيته السابقة بناءً علی بقائه علی تلك الأوصاف والكيفيات، وحينئذ قد يوجد الشیء علی خلاف ما وصفه أو ما يرآه المتعاملان من الأوصاف والشرائط الّتي يتفاوت بها رغبات النّاس أو الأثمان والقيم، فقد ثبت للآخر بذلك خيار الفسخ، يُجبر به ما يفوت من حيث المعاوضة أو ما لم يُدفع إليه من العنوان الّذی وقع عليه العقد، يُسمّی ب- «خيار الرؤية» تارة، وب- «خيار النقيصة» الشامل لها وللشرط والعيب أيضاً تارة أخری، قال ابن أثير الجزری (م 606 ه-):
الخِيَار: الاسم من الِاخْتِيَارِ، وهو طلب خير الأمرين إما إمضاء البيع، أو فسخه، وهو على ثلاثة أضرب: خِيَار المجلس، وخِيَار الشّرط، وخِيَار النّقيصة: أمّا خِيَارُ المجلس ...، وأمّا خِيَارُ الشّرط ...، إلی أن قال: وأمّا خِيَارُ النّقيصة فأن يظهر بالمبيع عيب يوجب الرّدّ أو يلتزم البائع فيه شرطاً لم يكن فيه، ونحو ذلك(1).
نبحث هنا إن شاء الله تبارك وتعالی عن حكم هذا الخيار بالتفصيل علی حسب مبانی الإستدلاليّة في الفقه الإماميّة، وحيث نقتفی في بحثنا رأی الإمام الراحل قدس سره نذكر كلامه أولاً، ثمّ نعقبه بذكر بعض أقوال فقهاء الفريقين الّتي وردت في المقام، فقال رحمه الله في القسم السادس من أقسام الخيارات:
السادس خيار الرؤية: وهو فيما إذا اشترى شيئاً موصوفاً غير مشاهد ثمّ وجده على خلاف ذلك الوصف بمعنى كونه ناقصاً عنه، وكذا إذا وجده
ص: 521
على خلاف ما رآه سابقاً، فيكون له خيار الفسخ، وفيما إذا باع شيئاً بوصف غيره ثمّ وجده زائداً على ما وصف أو وجده زائداً على ما يراه سابقاً أو وجد الثمن على خلاف ما وصف أی ناقصاً عنه فله خيار الفسخ في هذه الموارد.
مسألة 1 - الخيار هنا بين الرد والإمساك مجاناً، وليس لذی الخيار الإمساك بالأرش، كما لايسقط خياره ببذله ولا بإبدال العين بالأخرى، نعم لو كان للوصف المفقود دخل في الصّحة توجه أخذ الأرش للعيب لا لتخلف الوصف.
مسألة 2 - مورد هذا الخيار بيع العين الشخصية الغائبة حين المبايعة، ويشترط في صحته إمّا الرؤية السابقة مع حصول الاطمئنان ببقاء تلك الصفات وإلا ففيه إشكال، وإمّا توصيفه بما يرفع به الجهالة عرفاً بأن حصل له الوثوق من توصيفه الموجب لرفع الغرر بذكر جنسها ونوعها وصفاتها الّتي تختلف باختلافها الأثمان ورغبات النّاس.
مسألة 3 - هذا الخيار فوری عند الرؤية على المشهور، وفيه إشكال.
مسألة 4 - يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في ضمن العقد إذا لم يرفع به الوثوق الرافع للجهالة، وإلا فيفسد ويفسد العقد، وبإسقاطه بعد الرؤية، وبالتصرف في العين بعدها تصرفاً كاشفاً عن الرضا بالبيع، وبعدم المبادرة إلى الفسخ بناء على فوريته(1).
ص: 522
الأولی: الخيار في المعنی والمفهوم
الثانية: هل خيار الرؤية تختصّ بالبيع أو يعمّ سائر العقود والمعاملات؟
الثالثة: الخيار من الحقوق أو من الأحكام؟
الرابعة: ما هی أقسام الخيارات إجمالاً؟
ولايخفی ما في هذا الخيار وغيره من الأهميّة والآثار، إذ كما أنّ المعاملات متداولة بين أسواق النّاس ومعاملاتهم فبتبعها الخيارات الجارية فيها، لاسيّما في مثل الخيار الشرط والغبن والتأخير والرؤية والعيب الّتي دلّت عليها بناء العقلاء قبل ما دلّ عليها دليل الشرع، فهی أصول عقلائية قد أمضاها الشارع، فقد كثيراً ما يوجد تخلف أحد المتعاملين أو طرفي المعاملة علی ما شرطاه أو علی ما يبنی عليه العقد من الصّحة والحلول، فحينئذ فعلينا إمّا أن نلتزم بالعقد مجاناً، أو نختار البطلان بالفسخ، أو نتدارك تخلف الوصف أو الشرط بالأرش بالخيار الجارية فيها.
ص: 523
الخيار لغةً: اسم مصدر من الإختيار بمعنی انتخاب إحدی أطراف أو أحدي الطرفين الجائزين، وقد يُعبّر عنه في اصطلاح الفقهاء ب- «ملك فسخ العقد» أو ب- «ملك إقرار العقد وإزالته بعد وقوعه»، أو ب- «طلب خير الأمرين
من الفسخ والإمضاء»، قال ابن أثير الجزری (م 606 ه-) في بيانه:
الخيار: الاسم من الاختيار، وهو طلب خير الأمرين إمّا إمضاء البيع، أو فسخه، وهو على ثلاثة أضرب: خيار المجلس، وخيار الشّرط، وخيار النّقيصة (1).
وقال المحقق الطباطبائی رحمه الله (م 1231 ه-) في «الرياض»:
الخيار هو والخيرة بمعنى المشيّة في ترجيح أحد الطرفين الجائزين، وشرعاً عبارة عن ملك إقرار العقد وإزالته بعد وقوع مدّة معلومة(2).
وقال الشيخ الأنصاری رحمه الله (م 1281 ه-):
الخيار لغةً: اسم مصدرٍ من «الاختيار» غُلّب في كلمات جماعة من المتأخّرين في «ملك فسخ العقد»، فيدخل ملك الفسخ في العقود الجائزة وفی عقد الفضولی، وملك الوارث ردّ العقد على ما زاد على الثلث، وملك العمّة والخالة لفسخ العقد على بنت الأخ والأُخت، وملك الأمة المزوّجة من عبد فسخ العقد إذا أُعتقت، وملك كلّ من الزوجين للفسخ بالعيوب، ولعلّ التعبير ب- «الملك» للتنبيه على أنّ الخيار من الحقوق لا من الأحكام، فيخرج ما كان من قبيل الإجازة
ص: 524
والردّ لعقد الفضولی والتسلّط على فسخ العقود الجائزة، فإنّ ذلك من الأحكام الشرعيّة لا من الحقوق؛ ولذا لا تورّث ولا تسقط بالإسقاط، وقد يعرّف بأنّه: «ملك إقرار العقد وإزالته»، ويمكن الخدشة فيه بأنّه: إن أُريد من «إقرار العقد» إبقاؤه على حاله بترك الفسخ، فذكره مستدرك؛ لأنّ القدرة على الفسخ عين القدرة على تركه؛ إذ القدرة لا تتعلّق بأحد الطرفين، وإن أُريد منه إلزام العقد وجعله غير قابلٍ لأن يفسخ، ففيه: أنّ مرجعه إلى إسقاط حقّ الخيار، فلا يؤخذ في تعريف نفس الخيار، مع أنّ ظاهر الإلزام في مقابل الفسخ جعله لازماً مطلقاً، فينتقض بالخيار المشترك، فإنّ لكلّ منهما إلزامه من طرفه لا مطلقاً، ثمّ إنّ ما ذكرناه من معنى الخيار هو المتبادر منه عند الإطلاق في كلمات المتأخّرين، وإلّا فإطلاقه في الأخبار وكلمات الأصحاب على سلطنة الإجازة والردّ لعقد الفضولی وسلطنة الرجوع في الهبة وغيرهما من أفراد السلطنة شائع(1).
وقال الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة»:
معنی الخيار في البيع وغيره: طلب خير الأمرين منهما، والأمران في البيع: الفسخ والإمضاء، فالعاقد مخيّر بين هذين الأمرين(2).
ص: 525
ذهب غير واحد من الفقهاء إلی تعميم هذا الخيار إلی جميع العقود والمعاملات الشخصيّة الموصوفة، وذلك لما استدلّ عليه بعومات قاعدة لا ضرر فيما إذا كان فقدان الوصف يعدّ ضرراً بالنسبة إليه، مثل مرسلة الصّدوق رحمه الله قال النبی صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ في الْإِسْلَامِ - فَالْإِسْلَامُ يَزِيدُ الْمُسْلِمَ خَيْراً وَلَا يَزِيدُهُ شَرّاً»(1)، ومثل صحيحة جميل بن درّاج قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى ضَيْعَةً وَقَدْ كَانَ يَدْخُلُهَا وَيَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَنْ نَقَدَ الْمَالَ صَارَ إِلَى الضَّيْعَةِ فَقَلَبَهَا ثُمَّ رَجَعَ فَاسْتَقَالَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يُقِلْهُ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «إِنَّهُ لَوْ قَلَبَ مِنْهَا وَنَظَرَ إِلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ قِطْعَةً ثُمَّ بَقِیَ مِنْهَا قِطْعَةٌ وَلَمْ يَرَهَا لَكَانَ لَهُ في ذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ»(2)، فالرواية وإن كانت واردة في البيع والشراء إلا أنّه يمكن دعوی القطع بعدم خصوصيّة المورد بل علّة الحكم فيها هی ثبوت الخيار لأجل تخلف الوصف، وهی بعينها جارية أيضاً في غير البيع من سائر العقود والمعاملات الشخصيّة ممّا يعتبر فيه المشاهدة أو الوصف كالصلح ولإجارة والهبة المشروطة والمعوضة ونحوها، إلی ذلك أشار في «الجواهر» حيث قال:
والظاهر ثبوت خيار الرؤية في غير البيع ممّا يعتبر فيه المشاهدة أو الوصف كالإجارة ونحوها، لأنّ العمدة فيه حديث الضرار، بل يمكن القول بثبوته فيما لا يعتبر فيه ذلك كالصلح تنزيلاً للخيار في خلاف
ص: 526
الوصف في المعيّن منزلة الإبدال في الوصف المعيّن فتأمل جيداً والله اعلم(1).
و من المصرّحين بالتعميم الشيخ الأعظم رحمه الله حيث قال:
الظاهر ثبوت خيار الرؤية في كلّ عقدٍ واقعٍ على عينٍ شخصيّةٍ موصوفةٍ كالصلح والإجارة؛ لأنّه لو لم يحكم بالخيار مع تبيّن المخالفة، فإمّا أن يحكم ببطلان العقد؛ لما تقدّم عن الأردبيلی في بطلان بيع العين الغائبة، وإمّا أن يحكم بلزومه من دون خيار.
والأوّل مخالفٌ لطريقة الفقهاء في تخلّف الأوصاف المشروطة في المعقود عليه، والثانی فاسدٌ من جهة أنّ دليل اللزوم هو وجوب الوفاء بالعقد وحرمة النقض، ومعلومٌ أنّ عدم الالتزام بترتّب آثار العقد على العين الفاقدة للصفات المشترطة فيها ليس نقضاً للعقد، بل قد تقدّم عن بعضٍ أنّ ترتيب آثار العقد عليها ليس وفاءً وعملًا بالعقد حتّى يجوز، بل هو تصرّفٌ لم يدلّ عليه العقد، فيبطل.
والحاصل: أنّ الأمر في ذلك دائرٌ بين فساد العقد وثبوته مع الخيار، والأوّل منافٍ لطريقة الأصحاب في غير باب، فتعيّن الثانی(2).
وقال العلامة الحلي رحمه الله في جريان هذا الخيار في «الإجارة»:
تجوز إجارة الأعيان المشاهدة والموصوفة، ويثبت له خيار الرؤية(3).
وحكی الجزيری عن الحنفية أنّهم قالوا:
ويثبت خيار الرؤية في أربعة مواضع: الأوّل: الأعيان اللازم تعيينها بحيث لا تكون ديناً في الذمّة كما إذا اشترى مقداراً معيناً من الحنطة غائباً عنه على أن يستلمه، أمّا إذا اشتراه على أن يكون ديناً في ذمة البائع
ص: 527
فإنّه لا يثبت فيه خيار الرؤية لأنّه يكون مسلماً وليس في المسلم فيه خيار رؤية، نعم إذا كان رأس مال المسلم «الثمن» عيناً فإنّه يثبت فيه خيار الرؤية للمسلم إليه «البائع»، أمّا الأثمان الخالصة «الدراهم والدنانير» فإنّه لا يثبت فيها خيار الرؤية، وإذا كان المبيع إناء من أحد النقدين فإنّه يثبت فيه خيار الرؤية.
الثانی: الإجارة: فإذا استأجر أرضاً محدودة لم يرها كان له الخيار في ردّها عند رؤيتها.
الثالث: القسمة: فإذا كان شريكاً لآخر في عين فاقتسمها معه ولم يرها كان له خيار الردّ عند رؤيتها، ولكن لايثبت خيار الرؤية في قسمة ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات، فلو اقتسما حنطة موصوفة بدون رؤية في ما عدا ذلك من الأجناس المختلفة والأشياء الّتي من نوع واحد غير مثلی كالثياب المتحد نوعها، والبقر فقط، والغنم.
الرابع: الصلح عن دعوى المال على شیء معيّن، فإذا ادعى شخص أنّ له عند آخر مالاً فاصطلح معه على أن يعطيه عيناً لم يرها كان له الخيار في ردّها عند رؤيتها(1).
ص: 528
إنّ في بيان الفرق بين الحقوق والأحكام كلاماً جامعاً مبسوطاً عن السيّد الطاطبائی «صاحب العروة» في حاشيته علی مكاسب الشيخ رحمه الله نذكره بعينه:
الفرق بين الحقوق والأحكام، أمّا بحسب المعنی والمفهوم، فالحقّ نوع من السّلطنة على شيء متعلّق بعين كحقّ التّحجير وحقّ الرّهانة وحقّ الغرماء في تركة الميّت، أو غيرها كحقّ الخيار المتعلّق بالعقد أو على شخص كحقّ القصاص وحقّ الحضانة وحقّ القسم ونحو ذلك، فهی مرتبة ضعيفة من الملك بل نوع منه وصاحبه مالك لشيء يكون أمره إليه كما أنّ في الملك مالك لشیء من عين أو منفعة، بخلاف الحكم فإنّه مجرّد جعل الرّخصة في فعل شيء أو تركه، أو الحكم بترتّب أثر على فعل أو ترك، مثلاً في حقّ الخيار في العقود اللازمة حيث ثبت أنّه من الحقوق نقول إنّ الشارع جعل للمتعاقدين أو أحدهما سلطنة على العقد أو على متعلّقه وحكم بأنّه مالك لأمره من حيث الإمضاء والفسخ والردّ والاسترداد، وأمّا الجواز في العقود الجائزة حيث إنّه من الحكم ليس إلّا مجرّد رخصة الشارع في الفسخ والإمضاء لا بحيث يكون هناك اعتبار سلطنة من الشارع لأحد الطّرفين أو كليهما، فهو نظير جواز شرب الماء وأكل اللّحم حيث إنّه ليس هناك اعتبار سلطنة من الشارع له على ذلك بحيث يقال إنّه ذو شیء في الماء واللّحم، بل ليس إلّا أنّه مورد الحكم ومتعلّقه، فالفرق بين الجواز في العقود اللّازمة والجواز في العقود الجائزة أنّ المجعول للشارع في الأوّل السّلطنة على العقد بخلاف الثّانی ....، وبالجملة إن اعتبر الشارع مالكيّة شخص لأمر وسلطنة على شيء فهو من باب الحقّ، وإن لم يكن منه إلّا مجرّد عدم المنع من فعل شيء أو ترتيب الأثر على فعل أو ترك بحيث يكون الشّخص مورداً أو محلاً لذلك الحكم فهو من باب الحكم، نعم حكمه بكونه مالكاً لذلك الأمر من جملة الأحكام كما أنّ حكمه بكون
ص: 529
الشخص مالكاً لعين أو منفعة كذلك، فجعل الشارع الخيار من باب الحكم، لكن نفس الخيار الّذی هو المجعول حقّ لديه هذا، وأمّا بحسب المصاديق والصّغريات فالفرق بينهما في غاية الإشكال إذ في جميع الموارد يمكن تصوير كلا الوجهين ولا بدّ من مراجعة الدّليل والميزان في ذلك إمّا الإجماع أو لسان الدّليل كأن يطلق عليه لفظ الحقّ أو لفظ الحكم فيه أو ملاحظة الآثار واللّوازم، مثلاً إذا ثبت جواز إسقاطه أو نقله يعلم أنّه من باب الحقّ ولكن لا عكس إذ يمكن أن يكون حقّاً لازماً أو مختصّاً ومع عدم إمكان التّشخيص بهذه الموازين فالمرجع الأصل وهو مختلف بحسب الآثار، فلو شكّ في جواز الإسقاط أو النّقل فالأصل عدمهما، ولو كان للحكم أثر وجودی فالأصل عدمه أيضاً، ثمّ إنّ عدم كون الحكم ممّا يقبل الإسقاط والنّقل من القضايا الّتي قياساتها معها لأنّ أمر الحكم بيد الحاكم وليس للمحكوم عليه إسقاطه ولا نقله، لأنّ المفروض أنّه لم يجعل له السّلطنة على شيء حتّى يكون أمره بيده، نعم لو كان معلّقاً على موضوع وكان داخلاً في ذلك الموضوع فله الخروج عنه ليرتفع ذلك الحكم لكنّه ليس من باب الإسقاط، بل من باب تبديل الموضوع هذا.
وأمّا الحقوق فهی بحسب صحّة الإسقاط والنّقل بعوض أو بلا عوض والانتقال القهری بإرث ونحوه أقسام، فمنها: ما لا ينتقل بالموت ولا يصحّ إسقاطه ولا نقله وقد عدّ من ذلك حقّ الأبوّة وحقّ الولاية للحاكم وحقّ الاستمتاع بالزّوجة وحقّ السّبق في الرّماية قبل تمام النّضال وحقّ الوصاية ونحو ذلك، ويمكن أن يقال إنّها أو جملة منها من الأحكام لا من الحقوق، ومنها: ما يجوز إسقاطه ولا يصحّ نقله ولا ينتقل بالموت أيضاً كحقّ الغيبة أو الشتم أو الأذيّة بإهانة أو ضرب أو نحو ذلك بناء على وجوب إرضاء صاحبه وعدم كفاية التّوبة، ومنها: ما ينتقل بالموت ويجوز إسقاطه ولا يصحّ نقله كحقّ الشّفعة على وجه، ومنها: ما يصحّ
ص: 530
نقله وإسقاطه وينتقل بالموت أيضاً كحقّ الخيار وحقّ القصاص وحقّ الرّهانة وحقّ التحجير وحقّ الشّرط ونحو ذلك، ومنها: ما يجوز إسقاطه ونقله لا بعوض كحقّ القسم(1).
حاصل الكلام: أنّ الحق مرتبة نازلة من الملك ويكون أمره بيد مَن له الخيار، بخلاف الحكم الّذی هو مجرد جعل الرخصة من قِبل الشارع الآمر لفعل شیء أو تركه، أو حكمه بترتب أثر علی فعله أو تركه، فبناء علی ذلك يجوز في الحقوق إسقاطها إجمالاً من جانب أربابها أو انتقالها إلی الغير إختياراً أو قهراً كما في موارد الإرث في الحقوق القابلة للأمرين من الإسقاط أو الإنتقال ما لا يجوز في الأحكام، فإنّ جعل الشارع مثلاً لزوم معلوميّة العوضين في البيع وسائر المعاملات حكم لا يجوز لأحد من المتعاملين أو غيرهما اسقاطها.
ص: 531
أقسامه على ما عدّده الإمام الراحل قدس سره وأكثر فقهائنا سبعة هی عبارة عن: خيار المجلس، والحيوان، والشرط، والغبن، والتأخير، والرؤية، والعيب.
وأمّا العامة، ففی «الفقه علی المذاهب الأربعة» من دون أن يتعرّض لعدد خاص فقد سمّی عن خيار المجلس، والشرط، والعيب، والرؤية، ثمّ حكی عن المالكية أنّهم قالوا:
لاخيار في المجلس أصلاً بل الخيار ينقسم إلی قسمين هما خيار الشرط الّذی يسمّی بخيار الشرطی، وخيار النقيصة الّذی يسمّی بخيار الحكمی(1).
وكيف كان إنّها في بعض العبارات: خمسة(2)، وفی بعضها الآخر: ستة(3)، وفی ثالثة: سبعة(4)، وفی رابعة: ثمانية(5)، وفی خامسة: إحدی عشر(6)، وفی سادسة: أربعة عشر(7)، والّذی يسهل الأمر أنّه بعد ما يمكن إرجاع بعضها إلی بعض، لم يكن في المقام خلاف بل إنّها مجرد جمع وتحديد.
ص: 532
ففی «الجواهر» بعد نقل كلام المحقق في «الشرائع»: وأقسامه خمسة، قال:
فقد ذكر المصنف هنا منها خمسة، وآخر: سبعة، وثالث: ثمانية، ورابع: أربعة عشر، وليس ذلك خلافاً وإنّما هو مجرد جمع واستقصاء (1).
وقال الشيخ الأعظم الأنصاری رحمه الله :
هی كثيرة إلا أنّ أكثرها متفرقة، والمجتمع منها في كلّ كتاب سبعة، وقد أنهاها بعضهم إلی أزيد من ذلك، حتّی أنّ المذكور في اللمعة مجتمعاً أربعة عشر، مع عدم ذكره لبعضها، ونحن نقتفی أثر المقتصِر علی السبعة كالمحقق والعلامة لأنّ ما عداها لايستحق عنواناً مستقلاً، إذ ليس له أحكام مغايرة لسائر أنواع الخيار(2).
فبعد ما فرغنا من بيان المقدمات، نبحث عن أصل المسألة وفروعاتها، والمباحث المطروحة هنا يمكن إدراجها طی فروع خمسة آتية:
الأولی: تعريف خيار الرؤية وماهيّتها
الثانية: الخيار هنا بين الردّ والإمساك مجاناً من دون أرش
الثالثة: محلّ هذا الخيار الأعيان الشخصيّة الغائبة
الرابعة: إعمال هذا الخيار فوری
الخامسة: مسقطات هذا الخيار
ص: 533
وقبل بيان الفروعات ينبغی أن نبحث عن دليل خيار الرؤية وحكمها عند الشارع فنقول وبه نستعين:
إنّ الأصل الأولی العام في كلّ عقد ومعاملة إذا استكملت شرائطه أن يكون لازماً منجزاً بحيث ليس لأحد من المتعاملين التخلف عن مقتضاه بل للحاكم إلزام المتخلف إليه(1)، ولا مقتضی للجواز إلا بدليل حاكم كما في موارد الخيار: كخيار المجلس، والشرط، والعيب، والحيوان، والرؤية وما أشبه ذلك، ولو لا ذلك لاختلّ نظام النّاس في معاملاتهم ومعاشهم ولا تقم لهم سوق وتجارة.
قد أرسله أكثر الأصحاب إرسال المسلمات والدّعی العلامة وغيره عدم الخلاف أو الإجماع والإتفاق عليه، ونسبه ابن قدامة الّذی كان شيخ الحنابلة في عصره إلی ظاهر المذهب وأنّه قول أكثر العامة.
قال العلامة الحلي رحمه الله :
يشترط في بيع خيار الرؤية وصف المبيع وصفاً يكفی في السّلم عندنا، وإذا فعل ذلك صحّ البيع في قول أكثر العلماء، لانتفاء الجهالة بذكر الأوصاف فصحّ كالسّلم، وعن أحمد والشافعی وجهان: أحدهما: أنّه لا يصحّ حتّى يراه لأنّ الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع فلم يصحّ البيع بها، ويمنع عدم المعرفة مع ذكر الأوصاف، أمّا ما لا يصحّ السّلم فيه فلا يصحّ بيعه بالصفة، لعدم ضبطه(2).
وقال أيضاً:
ص: 534
بيع العين الشخصيّة الموصوفة جائز عندنا، ويثبت الخيار لو لم توجد على الوصف علىٰ ما تقدّم ...، وقال الشافعی: يثبت الخيار علىٰ كلّ حال(1).
وفی «المستند» وفيها إشارة إلی أدلّتها وأنّه ممّا لاخلاف فيه، أو ممّا اتفقوا أو اجمعوا عليه، قال:
خيار الرؤية: وهو إنّما يثبت في بيع الأعيان الموجودة في الخارج من غير مشاهدة حال البيع إذا كان بالوصف وظهر عدم المطابقة، أو برؤية قديمة إذا ظهر بخلافها، فإن ظهرت النقيصة كان الخيار للمشتری إن كان هو الموصوف له، وإن ظهرت الزيادة كان للبائع إن كان هوكذلك، وكأنّه لاخلاف فيه كما في «الكفاية»، بل بلاخلاف كما في «شرح الإرشاد» للأردبيلی وغيره، بل بالاتّفاق كما في «الحدائق»، بل بالإجماع كما في «شرح المفاتيح»، بل بالإجماع المحقّق له، ولصحيحة جميل(2)، إلی أن قال: ويدلّ على المطلوب أيضاً النّبوی صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ المنجبر بما ذكر: «من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار»، وما رواه في «التذكرة» عن طريق الخاصّة: أنّهم سألوا عن بيع الجرب الهرويّة، فقال: «لا بأس به إذا كان لها بارنامج، فإن وجدها كما ذكرت وإلّا ردّها»، أی يجوز له ردّها، مع أنّ الردّ ليس على الوجوب إجماعاً، بل المعنى: إن شاء، وهو معنى الخيار، وقد يستدلّ على المطلوب في جميع الصور بنفی الضرار والضرر(3).
وقال في «الجواهر»:
ص: 535
كان الأصل في البيع اللزوم، أی بنائه عليه لا علی الجواز وإن ثبت في بعض أفراده(1).
وقال الجزيری:
والأصل في عقد البيع أن يكون لازماً متى استكمل شرائطه، ولكن قد عدل عن ذلك في مسائل الخيار لحكمة جليلة وهی مصلحة العاقدين، فقد أباح الشارع الخيار استيفاء للمودة بين النّاس، ودفعاً للضغائن والأحقاد من أنفسهم، إذ قد يشتری الواحد السلعة أو يبيعها لظرف خاص يحيط به بحيث لو ذهب ذلك الظرف لندم على بيعها أو شرائها، ويعقب ذلك الندم غيظ فضغينة وحقد وتخاصم وتنازع إلى غير ذلك من الشرور والمفاسد الّتي يحذر منها الدّين ويمقتها كلّ المقت، فمن أجل ذلك جعل الشارع للعاقد فرصة يحتاط فيها لنفسه، ويزن فيها سلعته في جو هادئ كی لا يكون له عذر في الندم ذلك، على أنّه قيد ذلك بشروط تحفظ للعقد قيمته، فلا يكون عرضة للنقض والإبطال بدون سبب صحيح(2).
وقال ابن قدامة الحنبلی:
وإذا وصف المبيع للمشتری فذكر له من صفاته ما يكفی في صحة السلم صحّ بيعه في ظاهر المذهب، وهو قول أكثر أهل العلم، وعن أحمد: لا يصحّ حتّی يراه، لأنّ الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع، فلم يصحّ البيع بها كالّذی لا يصحّ السلم فيه(3).
ص: 536
أقول: يمكن أن نستدلّ علی دليل خيار الرؤية مضافاً إلی الإرسال المسلم في كلمات الأصحاب وعدم الخلاف أو الإتفاق أو الإجماع المدّعی في «مجمع الفائدة»(1) و«الحدائق»(2) و«التذكرة»(3) وغيرها، بما تقدّم في المقدمة الثانية من الإستدلال علی تعميم خيار الرؤية إلی جميع العقود والمعاملات اللازمة بعمومات نفی الضرر عن المتعاملين فيما إذا كان فقدان الوصف يعدّ ضرراً بالنسبة إليهما، وأيضاً بصحيحة جميل بن دراج حيث قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى ضَيْعَةً وَقَدْ كَانَ يَدْخُلُهَا وَيَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَنْ نَقَدَ الْمَالَ صَارَ إِلَى الضَّيْعَةِ فَقَلَبَهَا ثُمَّ رَجَعَ فَاسْتَقَالَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يُقِلْهُ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «إِنَّهُ لَوْ قَلَبَ مِنْهَا وَنَظَرَ إِلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ قِطْعَةً ثُمَّ بَقِیَ مِنْهَا قِطْعَةٌ وَلَمْ يَرَهَا لَكَانَ لَهُ في ذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ(4)، وبمرسلة الشيخ رحمه الله في «الخلاف»: روی عنهم: أنّهم سئلوا عن بيع الجرب الهروية؟ فقالوا: «لا بأس به إذا كان لها بارنامج، فان وجدها كما ذكرت وإلا ردّها»(5)، المنجبر ضعفها بالإجماعات المنقولة وعمل الأصحاب، قال العلامة رحمه الله في بيان تقريب الإستدلال بها:
وأراد بالبارنامج كتاب يذكر فيه صفات السلعة علىٰ الاستقصاء، ولو وُجد علىٰ الوصف فلا خيار لأصالة اللزوم وعدم المقتضی لثبوته(6).
ص: 537
وبما رواه البيهقی في سننه عن أبی هريرة عن النَّبِیِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «مَنِ اشْتَرَى شَيْئاً لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ»(1)، مع فحوی ما دلّت علی صحة السّلم(2)
(وهو ما كان الثمن نقداً والمثمن نسيئة) إذ توصيف غيرالموجود في السّلم قد ينجر إلی عزّة الوجود بخلاف توصيف العين الموجود الغائبة، وإلی ذلك أشار صاحب «الجواهر» حيث قال:
ضرورة أنّ ما نحن فيه أولی بالصّحة من السّلم(3).
ص: 538
قال الإمام الراحل قدس سره في بيان المراد منها:
خيار الرؤية: وهو فيما إذا اشترى شيئاً موصوفاً غير مشاهد ثمّ وجده على خلاف ذلك الوصف بمعنى كونه ناقصاً عنه، وكذا إذا وجده على خلاف ما رآه سابقاً، فيكون له خيار الفسخ، وفيما إذا باع شيئاً بوصف غيره ثمّ وجده زائداً على ما وصف أو وجده زائداً على ما يراه سابقاً أو وجد الثمن على خلاف ما وصف أی ناقصاً عنه فله خيار الفسخ في هذه الموارد(1).
وعرّفه العلامة رحمه الله في ضمن كلام موجز بقوله:
خيار الرؤية: فمن اشترى موصوفاً غير مشاهد كان للمشتری خيار الفسخ إذا وجده دون الوصف، ولو لم يشاهده البائع وباعه بالوصف فظهر أجود كان الخيار للبائع(2).
وقال المحدث البحرانی رحمه الله في بيانه:
خيار الرؤية: وهو ثابت لمن لم ير إذا باع أو اشترى بالوصف ثمّ ظهر مخالفاً، فإن كانت المخالفة بظهور الزيادة على الوصف تخيّر البائع، وإن كانت بالنقص عنه تخيّر المشترى(3).
وقال ابن قدامة في تعريفه علی وجه الإجمال:
ويعتبر لصحة العقد الرؤية من البائع والمشتری جميعاً، وإن قلنا بصحة البيع مع عدم الرؤية فباع ما لم يره، فله الخيار عند الرؤية، وإن لم يره
ص: 539
المشتری أيضاً فلكلّ واحد منهما الخيار وبهذا قال الشافعی، وقال أبوحنيفة: ليس له الخيار لحديث عثمان وطلحة (1).
أقول: إنّ المراد من الرؤية في المقام كما دلّت عليه أقوال الفقهاء هو وجدان العين الموصوفة الغير المشهودة حين المعاملة، فإن كانت العين كما وُصفت لزم العقد عندنا بلا ريب، وبه قال محمّد بن سيرين وأيّوب ومالك والعنبری وإسحاق وأبوثور وابن منذر من العامة، لأنّه سلّم له المعقود عليه بتمامه وكماله، فلم يكن له خيار، كالمسلم فيه، ولكن قال الثوری وأبوحنيفة وأصحابه علی ما حكی عنهم:
له الخيار بكلّ حال، لأنّه يسمّى ببيع خيار الرؤية، وللشافعيّة وجهان من الثبوت وعدمه حينئذ(2).
وأمّا إن كانت ناقصة عمّا وصفها البائع أو عمّا يراها المشتری كان الخيار للمشتری، وإن كانت زائدة علی ذلك فالخيار للبائع، وإن ظهر الزيادة والنقصان من جهتين تخيّرا معاً،كأن يقول بعتك الأرض الفلانی علی كونها واقعة في الناحية الشرقية من الشارع فبان وقوعها في الناحية الغربية منها الّتي قيمتها أو استفادة منها متفاوتاً لما وقعت في تلك الناحية، أو أنّ الشیء الفلانی مصنوع سنة كذا أو بلد أو مملكة كذا، أو أنّ مقداره كذا فظهر خلافه بأن كان من غير السنة أو البلد، أو زائداً أو ناقصاً عن ذلك المقدار بما يتفاوت معها القيم و رغبات النّاس، وكذا الكلام في ناحية الثمن في كلا الحالتين، إذ كما يجوز التوصيف في المثمن يجوز ذلك في الثمن أيضاً.
ص: 540
خلافاً لما ذهب إليه المقدس الأردبيلی رحمه الله من بطلان البيع إذا وجده علی خلاف الوصف من دون الخيار، حيث قال:
ولی في أمثال هذا الخيار تأمل، لأنّ العقد إنّما وقع على الموصوف بوصف خاص، والفرض عدم وجوده في هذا المتاع، فما وقع العقد عليه فكيف يصحّ البيع ويثبت الخيار فيه، فمقتضى القاعدة بطلان هذا البيع لا ثبوت الخيار(1).
والتحقيق أنّ تخلّف الأوصاف تارة يوجب مغايرة الموصوف للموجود عرفاً، ففی هذه الأوصاف الّتي لها دخل في ماهية الموصوف لاخلاف في بطلان المعاملة حينئذ لأنّه يكون من قبيل «ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد»، أو مقتضی «تبعيّة العقود للقصود»، وأخری ما لايوجب ذلك بل يقال أنّه فاقد للوصف أو الأوصاف المأخوذة فيه، ففی مثل هذه الموارد لا دليل علی بطلان المعاملة، بل للمنقول إليه الخيار، ومحل كلامنا في المقام هو هذا الأخير.
والعجب من المقدس الأردبيلی قدس سره حيث أختار هنا بطلان البيع إذا وجد العين علی خلاف الوصف، مع أنّه قد حكی في موضع آخر من كتابه عدم خلاف الأصحاب علی صحة مقروناً بالخيار، ثمّ استظهر صحّة مذهبهم إذ قال:
خيار الرؤية وهو سادس الأقسام، لعلّ في ثبوت أصل هذا الخيار أيضاً عندنا لا خلاف فيه، وإن لم يوافق الوصف ما وصف وتغير الغائب بعد الرؤية تغيراً موجباً لزيادة الثمن أو نقصانه عادة وعرفاً، ففی الزيادة الخيار للبائع وفی النقصان للمشتری، وهو ظاهر(2).
ص: 541
وكيف كان هذا إذا لم يكن تخلّف الوصف موجباً لكون الشیء معيوباً، وإلا خرج من هذا العنوان وجری عليه عنوان خيار العيب.
قال الإمام الراحل قدس سره :
الخيار هنا بين الردّ والإمساك مجاناً، وليس لذی الخيار الإمساك بالأرش، كما لايسقط خياره ببذله ولا بإبدال العين بالأخرى، نعم لو كان للوصف المفقود دخل في الصحة توجه أخذ الأرش للعيب لا لتخلف الوصف(1).
وقال الشيخ الأعظم رحمه الله :
لا يسقط هذا الخيار ببذل التفاوت ولا بإبدال العين، لأنّ العقد إنّما وقع علی الشخصی، فتملك غيره يحتاج إلی معاوضة جديدة (2).
أقول: قد عرفت في معنی الخيار ومفهومه أنّه لغة انتخاب إحدی أطراف أو أحدي الطرفين الجائزين، وإصطلاحاً هو «ملك فسخ العقد» أو «ملك إقرار العقد وإزالته بعد وقوعه» أو «طلب خير الأمرين من الفسخ والإمضاء»، ولازم ذلك عدم سقوط الخيار بإبدال العين بعين أخری واجدة للوصف، وأنّه ليس للمشتری أيضاً إمساك العين بالأرش أو ببذل البائع التفاوت.
زائداً علی أنّ البيع هنا شخصی وليس كالسّلم كليّاً حتّی يجوز لذی الخيار الإمتناع عن قبول الناقص كمّاً أو كيفاً والمطالبة بالبدل، فدار الأمر هنا بين الفسخ ورجوع كلّ مال إلی مالكه، أو الإمضاء مجاناً.
ص: 542
وإن شئت قلت: إنّه بعد ما كان العقد في المقام شخصيّاً فالإبدال أو الإمسلك ببذل التفاوت معاملة جديدة يحتاج إلی عقد جديد مفقود في المقام.
إن قلت: إنّه يمكن لذی الخيار المصالحة مع صاحبه بإسقاط حقّه عن الفسخ بأخذ الأرش وبذل التفاوت من جانب مَن عليه الخيار، فكان صاحب الخيار هنا في الحقيقة مخيراً بين الأمور الثلاثة: من الفسخ، أو الإمضاء مجاناً، أو الإمساك بالأرش.
قلنا: الصلح كما بيّن في محلّه(1) عقد جديد بنفسه، يحتاج إلی الإيجاب والقبول المستقلّين وليس من أطراف الخيار، والتخيير هنا كتخيير أولياء الدم في العمد حيث إنّهم مخيّرون بين القصاص أو العفو مجّاناً، وليس لهم من الدية سبيل لا عيناً ولا تخييراً، فعليه لو بذل الجانی نفسه للقود ليس للولی مطالبة الدية حينئذ، نعم يجوز لهم التصالح مع الجانی عوضاً عن قصاصه علی مال معادل للدية أو الأكثر أو الأنقص منه، إلا أنّه يحتاج إلی قبوله.
هذا إذا لم يكن تخلّف الوصف موجباً لكونه معيوباً، أمّا لوكان فقده عيباً اتّجه القول بجواز أخذ الأرش حينئذ مع الإمساك لدخوله حينئذ تحت عنوان خيار العيب الّذی كان التخيير فيه بين الفسخ والإمساك بالأرش، أو بلا أرش من باب «الإقدام»، أو «تسلط النّاس علی أموالهم»(2)، ما لم يصل إلی حدّ السفة والإضرار، لحكومة أدلّته عليهما.
ص: 543
قال الإمام الراحل قدس سره :
مورد هذا الخيار بيع العين الشخصية الغائبة حين المبايعة، ويشترط في صحته إمّا الرؤية السابقة مع حصول الاطمئنان ببقاء تلك الصفات وإلا ففيه إشكال، وإمّا توصيفه بما يرفع به الجهالة عرفاً بأن حصل له الوثوق من توصيفه الموجب لرفع الغرر بذكر جنسها ونوعها وصفاتها الّتي تختلف باختلافها الأثمان و رغبات النّاس(1).
وقال الشيخ الأعظم الأنصاری رحمه الله :
مورد هذا الخيار بيع العين الشخصيّة الغائبة، والمعروف أنّه يشترط في صحّته ذكر أوصاف المبيع الّتي يرتفع بها الجهالة الموجبة للغرر، إذ لولاها لكان غرراً، وعبّر بعضهم عن هذه الأوصاف بما يختلف الثمن باختلافه(2).
وقال ابن قدامة الحنبلی:
والبيع بالصفة نوعان: أحدهما: بيع عين معينة (غائبة)، مثل أن يقول: بعتك عبدی التركی ويذكر سائر صفاته ...، الثانی: بيع موصوف غير معيّن، مثل أن يقول: بعتك عبداً تركيّاً، ثمّ يستقصی صفات السلم فهذا في معنی السلم، فمتی سلم إليه عبداً علی غير ما وصف فردّه، أو علی ما وصف فأبدله لم يفسد العقد، لأنّ العقد يقع علی غير هذا فلم ينفسخ العقد بردّه كما لو سلم إليه في السلم غير ما وصف له فردّه(3).
ص: 544
أقول: يعتبر في صحة العقود والمعاملات علم المتعاملين بطرفي المعاوضة، فلا يصحّ البيع مثلاً إذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً سواء كان من حيث الجنس، أو النوع، أو القدر، أو الكيف، أو الوصف وغيرها، للزومه الغرر وقد نهی النب صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن بيع الغرر(1) ، ففی غير النقد من الثمن أو المثمن (النسيئة والسلف) وكذا في العيون الموجودة الغير المشهودة حين المعاملة الّتي تكون من أنواع البيع النقد حيث يكون أحد طرفي المعاوضة غير موجود أو غير مشهود حين العقد يشترط في صحته من أحد الأمرين: إمّا توصيفه بذكر جميع أوصافه الّتي لها دخل في القيم والأثمان وفی رغبات النّاس بما يرتفع معه الجهالة الموجبة للغرر.
أو رؤيته المبيع قبل العقد مع حصول الاطمئنان ببقاء صفاته إلی زمان المعاملة، فإن وجد العين كما رأی أو كما وُصفت لزمه العقد بلا شك، وإلا فإن كانت ناقصة عنه كان الخيار للمشتری، وإن كانت زائدة علی ذلك فالخيار للبائع.
ثمّ إنّه لما كان الخيار علی خلاف مقتضى أصالة اللّزوم الّذی ثبت في محلّه بناء العقود عليها، للزم في الخروج عنها أن نقتصر على مورد النصّ، وقد تقدّم أنّ النصّ الّذی يستدلّ به في المقام بعد عمومات نفی الضرر، هو صحيحة جميل بن درّاج إذ قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى ضَيْعَةً وَقَدْ كَانَ
ص: 545
يَدْخُلُهَا وَيَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَنْ نَقَدَ الْمَالَ صَارَ إِلَى الضَّيْعَةِ فَقَلَبَهَا ثُمَّ رَجَعَ فَاسْتَقَالَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يُقِلْهُ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام: «إِنَّهُ لَوْ قَلَبَ مِنْهَا وَنَظَرَ إِلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ قِطْعَةً ثُمَّ بَقِیَ مِنْهَا قِطْعَةٌ وَلَمْ يَرَهَا لَكَانَ لَهُ في ذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ»(1)، الّتي موردها العين الشخصيّة الغائبة.
أضف إلی ذلك أنّه لايتصور خيار الرؤية في غير العين الشخصيّة الغائبة أصلاً، وذلك لأنّ في البيع العين الكلية سواء كان نسيئة أو سلفاً إذا كان المبيع أو الثمن فاقداً للوصف أو الأصاف الّتي اتفق عليها المتعاملان، ليس الفاقد مصداقاً للمبيع أو الثمن، بل هو أجنبی عنهما ولا معنی لثبوت الخيار في الشیء الأجنبی عن مقتضی العقد، بخلاف البيع الشخصی الفاقد حيث إنّه قد وقع العقد علی شخصه.
وحيث انحصر النص في المقام تقريباً في الصحيحة فينبغی لنا أن نطمئن بوثاقة رجال السند، وهی متشكل من محمّد بن الحسن الشيخ الطوسی رحمه الله بإسناده إلی محمّد بن علی بن محبوب الأشعری القمّی، ومنه عن أيّوب بن نوح، عن ابن أبی عمير، عن جميل بن دراج.
ولها أيضاً طريق آخر في «الفقيه» بإسناده إلی محمّد بن أبی عمير ومنه عن جميل بن دراج، وهو علی ما بيّنه في مشيخته هكذا:
وما كان فيه عن محمّد بن أبی عمير فقد رويته عن أبی، ومحمّد بن الحسن - رضی اللّه عنهما - عن سعد بن عبد اللّه، والحميریّ جميعاً
ص: 546
عن أيّوب بن نوح، وإبراهيم هاشم، ويعقوب بن يزيد، ومحمّد بن عبد الجبّار جميعاً عن محمّد بن أبی عمير(1).
أمّا طريق الشيخ إلی محمّد بن علیّ بن محبوب، فقال في مشيخة التهذيب:
وما ذكرته في هذا الكتاب عن محمّد بن علیّ بن محبوب فقد أخبرنى به الحسين بن عبيد اللّه عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطار عن أبيه محمّد بن يحيى عن محمّد بن علیّ بن محبوب(2).
لا كلام في وثاقة رجال الّذين وقعوا في طريقه وكذا الّذين وقعوا في سند الحديث إلی جميل بن دراج فإنّهم من الثقات الإماميين الأجلاء زائداً علی أنّ محمّد بن أبی عمير كان من الّذين أجمعوا الأصحاب علی تصحيح ما يصحّ عنهم وأقرّوا لهم بالفقه وكونهم ممّن لا يروون ولا يرسلون إلا عن الثقات(3)، غير أنّ الحسين بن عبيدالله السعدی، الّذی يظهر من العلامة رحمه الله ومن تصريح المحقق الشوشتری في قاموسه اتحاده مع الحسين بن عبيدالله المحرر والقمّی(4)، وكذا أحمد بن محمّد بن يحيی العطار القمّی كانا محلاً للكلام عند
ص: 547
علماء الرجال، فالنجاشی عند ترجمة الحسين في رجاله أشار إلی أنّه ممّن طعن عليه و رُمی بالغلو، حيث قال:
الحسين بن عبيد الله السعدی: أبو عبد الله بن عبيد الله بن سهل ممّن طعن عليه و رمی بالغلو. له كتب صحيحة الحديث(1).
لكنّك كما تری أنّه وثّق الرجل من حيث الرواية والحديث بقوله: «له كتب صحيحة الحديث»، وأمّا رميه بالغلو لو سلّم كونه قدحاً فيه عنده فهو لايمنع عن كونه ثقةً من جهة الرواية، وذلك لأنّ مراد القدماء ولا سيّما القمّيين منهم للرواة بالغلوّ، هو كون الراوی ممّن يروی ما هو من الأخبار المشتملة علی المعانی الدقيقة في فضائل أهل بيت النبوة:، أو ما فيها من المعاجز المشتملة علی الإخبار بالمغيبات زعماً بأنّه لا يعلم الغيب إلا هو، فربما كان رميهم بذلك فضيلة.
وأمّا أحمد بن محمّد بن يحيی العطار القمّی، قال ابن داود في ترجمته: أنّه مهمل(2) ، وعدّه ابن الغضائری في قسمة الضعفاء من رجاله(3)، وصرّح المحقق العاملی رحمه الله في «المدارك» بأنّه مجهول(4) ، إلا أنّه كان كثير الرّواية ومن مشايخ الصّدوق رحمه الله ، قد ذكره كثيراً ما في مشيخة «الفقيه» مقروناً بالرضوان، منها ما قاله في بيان طريقه إلی عبدالله بن أبی يعفور حيث قال:
ص: 548
وما كان فيه عن عبد اللّه بن أبی يعفور فقد رويته عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار2 عن سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن أبی عبد اللّه البرقیّ، عن أبيه، عن محمّد بن أبی عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد اللّه بن أبی يعفور(1).
وقال السيّد الخوئی رحمه الله :
أحمد بن محمّد بن يحيى العطار، روى عنه أبو جعفر ابن بابويه، رجال الشيخ في من لم يرو عنهم:، أقول: الظاهر أنّه هو أحمد بن محمّد بن يحيى العطار الآتی، فإنّه من مشايخ الصّدوق، روى عنه كثيراً في كتبه، ذكره مترضياً عليه، في طريقه إلى أمية بن عمرو، إلی أن قال : أحمد بن محمّد بن يحيى العطار. وقع بهذا العنوان في أسناد كثير من الروايات تبلغ خمسة وستين مورداً: فقد روى عن أبيه في سبعة وخمسين مورداً، و روى عنه أبو الحسين بن أبی جيد، والحسين بن عبيد الله في جميع ذلك، وهو أحمد بن محمّد بن يحيى العطار الآتی(2).
وأنّ العلامة الحلي رحمه الله في الفائدة الثامنة من خلاصته عند ذكر طرق الشيخ، صحّح طريقه إلی محمّد بن علیّ بن محبوب الأشعری القمّی حيث قال:
وإلى الحسين بن سعيد صحيح، وكذا عن محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعری، وكذا عن محمّد بن علیّ بن محبوب(3).
وحكی السيّد بحر العلوم رحمه الله في رجاله عن الشيخ البهائی قدس سره في (مشرق الشمسين) أنّه قال:
ص: 549
قد يدخل في أسانيد بعض الأحاديث من ليس له ذكر في كتب الجرح والتعديل بمدح ولا قدح غير أنّ أعاظم علمائنا المتقدّمين قد اعتنوا بشأنه واكثروا الرواية عنه، وأعيان مشايخنا المتأخّرين قد حكموا بصحة روايات هو في سندها، والظاهر أنّ هذا القدر كاف في حصول الظن بعدالته، ثمّ ذكر: أنّ من ذلك: «أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطار، والحسين بن الحسن بن أبان، وأبا الحسين علیّ بن أبی جيد، فهؤلاء وأمثالهم من مشايخ الأصحاب، لنا ظنّ بحسن حالهم وعدالتهم، وقد عددت حديثهم في (الحبل المتين) وفی هذا الكتاب في الصحيح، جرياً على منوال مشايخنا المتأخرين، و نرجو من اللّه سبحانه أن يكون اعتقادنا فيهم مطابقاً للواقع(1).
وكيف كان إنّ الّذی يسهّل الأمر أنّ الرواية كانت معمولة بها عند الأصحاب، زائداً علی أنّ لها كما مرّ طريق آخر صحيح رواه الصدوق رحمه الله بإسناده عن محمّد بن أبی عمير، وشهادته في مقدمة «الفقيه»: بأنّه لم يقصد فيه ما قصد المصنّفون من حكايتهم جميع ما رووه، بل قصد إلی إيراد ما أفتی به وحكم بصحّته، واعتقد أنّه حجّة بينه وبين ربّه، ومستخرجة من الكتب المشهورة(2)، فلا كلام لنا في صحة الحديث ودلالته.
ص: 550
قال الإمام الراحل قدس سره :
هذا الخيار فوری عند الرؤية على المشهور، وفيه إشكال(1).
وقال العلامة الحلي رحمه الله :
كلّ موضع يثبت الخيار إمّا مع الوصف عندنا أو مطلقاً عند المجوّزين فإنّما يثبت عند رؤية المبيع على الفور، لأنّه خيار الرؤية، فيثبت عندها، وبه قال أحمد وله آخر: أنّه يتقيّد بالمجلس الّذی وجدت الرؤية فيه، لأنّه خيار ثبت بمقتضى العقد من غير شرط، فيقيّد بالمجلس، كخيار المجلس، والوجهان للشافعيّة، وأصحّهما عندهم: الثانی(2).
وقال الشهيد الأوّل رحمه الله :
خيار الرؤية: وهو ثابت في بيع الأعيان الشخصيّة مع عدم المطابقة، فيتخيّر من وصف له، ولو وصف لهما وزاد ونقص تخيّر، أو تقدّم الفاسخ منهما، وهو فوری على الأصحّ، وكذا خيار الغبن(3).
وقال المحدث البحرانی رحمه الله :
ظاهر كلام أكثر الأصحاب اشتراط الفوريّة في هذا الخيار(4).
وقال المحقق النراقی رحمه الله :
هل هذا الخيار على الفور، أو التراخی؟ فيه وجهان، أشهرهما- كما قيل: الأوّل، اقتصاراً فيما خالف أدلّة لزوم العقد على أقلّ ما يندفع به الضرر، وقد يقال: وهو كان حسناً لو كان المستند مجرّد أدلّة نفی
ص: 551
الضرر، ولكنّك عرفت النصّ المطلق أيضاً، فإطلاقه يثبت الثانی، إلی أن قال: وإذن الأجود ما عليه الأكثر(1).
وقال الشيخ الأعظم الأنصاری رحمه الله :
الأكثر على أنّ الخيار عند الرؤية فوریٌّ، بل نسب إلى ظاهر الأصحاب، بل ظاهر التذكرة عدم الخلاف بين المسلمين إلّا من أحمد، حيث جعله ممتدّاً بامتداد المجلس الّذی وقعت فيه الرؤية، واحتمله في نهاية الإحكام، ولم أجد لهم دليلاً صالحاً على ذلك إلّا وجوب الاقتصار في مخالفة لزوم العقد على المتيقّن، ويبقى على القائلين بالتراخی في مثل خيار الغبن والعيب سؤال الفرق بين المقامين، مع أنّ صحيحة جميل المتقدّمة في صدر المسألة مطلقةٌ يمكن التمسّك بعدم بيان مدّة الخيار فيها على عدم الفوريّة وإن كان خلاف التحقيق، كما نبّهنا عليه في بعض الخيارات المستندة إلى النصّ، وقد بيّنا سابقاً ضعف التمسّك بالاستصحاب في إثبات التراخی وإن استندوا إليه في بعض الخيارات السابقة(2).
وحكی الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة» عن الحنفيّة أنّهم قالوا:
ولا يتأقت(3) خيار الرؤية بوقت، فإذا رآه ثمّ مضت مدّة بعد رؤيته
يتمكّن فيها من فسخ العقد ولم يفسخه فإنّ خياره لا يسقط على الأصحّ، ثمّ حكی عن المالكيّة أنّهم قالوا: الخيار عند الرؤية (4).
ص: 552
وقال ابن قدامة الحنبلی:
للمشتری الخيار عند رؤية المبيع في الفسخ والإمضاء، ويكون علی الفور، فإن اختار الفسخ فله ذلك، وإن لم يفسخ لزم العقد، لأنّ الخيار خيار الرؤية فوجب أن يكون عندها، وقيل: يتقيد بالمجلس الّذی وجدت الرؤية فيه لأنّه خيار ثبت بمقتضی العقد من غير شرط فتقيّد بالمجلس كخيار المجلس(1).
قد عرفت أنّ المشهور عند الأصحاب كما صرّح به الإمام الراحل قدس سره علی أنّ إعمال هذا الخيار فوری، وقد نسبه في «الحدائق» و«المستند» و«المكاسب» إلی الأكثر، وفی «الدروس» إلی الأصحّ، والّذی نظنّه بعد تتبع أقوالهم وعدم وجدان قائل بجواز التراخی في المقام، أنّ إصطلاحات المشهور أو الأكثر أو الأصحّ هنا لم يستعملن فيما لها من المعنی والمفهوم حتّی يكون مقابل الأكثر الكثير، ومقابل الأصحّ الصحيح، ومقابل الشهرة الشاذ، بل المراد منها ومن أمثالها أنّ القول بالفور في خيار الرؤية هو القول الشائع الرائج عند فقهائنا، فلا تنافی بينها وبين القول بعدم الخلاف أو الإتفاق والإجماع المستفاد من كلام العلامة رحمه الله وغيره.
وكيف كان تحقيق المطلب يقتضی أن نبحث في المقام تارة حسب القواعد، وأخری حسب الرّوايات والنصوص.
أمّا حسب القواعد: فالقائدة يقتضی أن نختار القول بالفور، اقتصاراً في فسخ العقد اللازم على الموضع القطع واليقين.
وأمّا بحسب الروايات والنصوص، فإن كان الدليل علی ذلك هو عمومات نفی الضرر كمرسلة النّبو صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ في الْإِسْلَامِ - فَالْإِسْلَامُ يَزِيدُ
ص: 553
الْمُسْلِمَ خَيْراً وَلَا يَزِيدُهُ شَرّاً»(1)، فالحكم دائر مدار وجود الضرر وعدمه، وهو أيضاً يقتضی القول بالفورية حيث إنّ نفی الضرر يحصل بإمكان إعمال الخيار في أوّل زمان يتمكن مَن له الخيار مِن اختيار الفسخ، ولا دليل علی الأزيد من ذلك.
وإن كان الدليل علی ذلك هو قوله علیه السلام في صحيحة الجميل: «إِنَّهُ لَوْ قَلَبَ مِنْهَا وَنَظَرَ إِلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ قِطْعَةً ثُمَّ بَقِیَ مِنْهَا قِطْعَةٌ وَلَمْ يَرَهَا لَكَانَ لَهُ في ذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ»(2)، فهی وإن كانت دالة بالإطلاق علی التعميم والشمول الأزمانی، إلا أنّه حيث كان ذلك بمدد مقدمات الحكمة الّتي من جملتها عدم وجود القدر المتيقن (وهو الإكتفاء بالفور من باب عدم صدق الضرر فيما زاد عنها، أو الإقتصار في فسخ العقد اللازم علی الموضع القطع واليقين) في مقام التخاطب(3)، فيجب أن نقتصر علی موضع الوفاق، ولا أقلّ من الشك وبطلان الإستدلال بها للتعميم.
وبذلك يظهر أنّه لا وجه لاستشكال الإمام قدس سره علی القول بالفورية، ولا
سيّما بعد ضعف التمسك بالإستصحاب في الشبهات الحكمية الزمانی، المردد زمان الخارج بين الأقلّ والأكثر(4).
فتخلّص ممّا تقدم إلی هنا أنّه لادليل بلا معارض للقول بالتراخی في المقام.
ص: 554
ثمّ إنّه ليس المراد من الفوريّة هنا الفوريّة الحقيقيّة العقليّة لأنّه خلاف المتفاهم العرفی، بل الفوريّة العرفيّة المتداولة بعد ما كان فوريّة كلّ شیء بحسبه.
قال الإمام الراحل قدس سره :
يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في ضمن العقد إذا لم يرفع به الوثوق الرافع للجهالة، وإلا فيفسد ويفسد العقد، وبإسقاطه بعد الرؤية، وبالتصرف في العين بعدها تصرفاً كاشفاً عن الرضا بالبيع، وبعدم المبادرة إلى الفسخ بناء على فوريّته(1).
وقال الشيخ الأعظم الأنصاری رحمه الله :
يسقط هذا الخيار بترك المبادرة عرفاً على الوجه المتقدّم في خيار الغبن، وبإسقاطه بعد الرؤية، وبالتصرّف بعدها، ولو تصرّف قبلها ففی سقوط الخيار وجوهٌ، ثالثها: ابتناء ذلك على جواز إسقاط الخيار قولاً قبل الرؤية، بناءً على أنّ التصرّف إسقاطٌ فعلی، وفی جواز إسقاطه قبل الرؤية وجهان مبنيّان على أنّ الرؤية سبب أو كاشف(2).
وحكی الجزيری في «الفقه علی المذاهب الأربعة» عن الحنفيّة أنّهم قالوا:
ويسقط خيار الرؤية بأمور: أولاً: أن يحدث في المبيع وهو في يد المشتری فإنّه لا يكون له حينئذ الحقّ في ردّه بخيار الرؤية، ثانياً: أن يتعذّر ردّه بإحداث تغيير فيه «المبيع» كما إذا مزق ثوباً ليخيطه، ثالثاً: أن يتصرّف فيه تصرّفاً غير قابل للفسخ كالإعتاق، رابعاً: أن يتصرّف فيه تصرّفاً يوجب حقّاً للغير كأن يرهنه، فإذا اشترى شيئاً لم يره ثمّ رهنه
ص: 555
سقط حقّه في الخيار، سواء كان ذلك التصرف قبل رؤية المبيع أو بعده، وكذلك إذا باعه بيعاً باتاً بدون أن يشترط لنفسه «البائع» الخيار أو أجره كذلك، فإنّ ذلك يسقط حقّه في الردّ قبل رؤية المبيع أو بعدها، خامساً: أن يتصرّف فيه تصرّفاً لا يوجب حقّاً للغير، ولكن بشرط أن يكون ذلك التصرّف بعد رؤية المبيع لا قبلها ...، سادساً: أن يقبض المبيع بعد رؤيته، سابعاً: أن يدفع الثمن بعد رؤيته أيضاً، ثامناً: أن يرسل رسوله ليحمله إلى داره فإن خياره يبطل ما دام في داره، فإذا أعاده إلى دار المشتری عاد حقّه في الخيار، تاسعاً: إذا اشترى أرضاً لم يرها ثمّ أعارها لآخر فزرعها المستعير، أو اشترى أثواباً فلبس واحداً منها فإنّ خياره يبطل في الجميع، وبالجملة فكلّ ما يبطل خيار الشرط، يبطل خيار الرؤية إلا الأشياء الّتي لا تبطل خيار الرؤية قبل رؤية المبيع بالخيار، وعرض المبيع على البيع، والهبة بلا تسليم، فإنّهاتبطل شرط الخيار ولا تبطل خيار الرؤية(1).
أقول: كان كلامنا في الفرع السابق في أنّ إعمال الخيار في الرؤية فوری أم لا؟ فمن اختار هناك الفورية فلا محالة يقول هنا بإسقاط خياره بترك المبادرة بالفسخ فوراً، ولكن في هذا الفرع نبحث عن مطلق مسقطاته الّتي منها ترك
المبادرة به علی القول بها، وكيف كان يسقط هذا الخيار بأمور:
الأوّل: باشتراط سقوطه في ضمن العقد أو قبله فيما إذا تقدّم المقاولة به وبنيا العقد عليها، من باب «الإقدام»، ولقول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»(2).
ص: 556
ممّا يمكن أن نستدلّ به علی جواز إسقاط الخيار حين العقد، ما وردت في باب الجارية المكاتبة الّتي قد أدّت بعض ثمنها فيشترط عليها ابن زوجها المملوك بأن يعينها علی أداء ما بقی من الثمن بشرط أن تسقط خيارها علی استدامة نكاح أبيه بعد ما صارت حرّة فصحّه الصادق علیه السلام ذلك(1)، فإذا جاز إسقاط الخيار ضمن العقد أو قبله في الكتابة يجوز في غيرها من موارد الخيار لعدم خصوصية المورد.
وقد مرّ في مقام بيان الفرق بين الحكم والحقّ، أنّ الحقّ مرتبة نازلة من الملك ويكون أمره بيد مَن له الخيار، بخلاف الحكم الّذی هو مجرد جعل الرخصة من قِبل الشارع الآمر لفعل شیء أو تركه، أو حكمه بترتب أثر علی فعله أو تركه، فبناء علی ذلك يجوز في الحقوق إسقاطها إجمالاً من جانب أربابها أو انتقالها إلی الغير إختياراً أو قهراً كما في موارد الإرث في الحقوق القابلة للأمرين من الإسقاط أو الإنتقال، ما لا يجوز في الأحكام.
هذا إذا لم يصل الإشتراط المزبور إلی رفع الوثوق والجهالة بوجود أو بقاء تلك الأوصاف إلی زمان العقد، لما عرفت من أنّ العين الشخصيّة الّتي وقع العقد عليها إذا لم يكن حاضرة وقت العقد، قام الرؤية السابقة أو الوصف مقام رؤيتها حينه، فإذا وصف البائع مثلاً عينه بأنّها كذا وكذا وشرط معذلك علی المشتری سقوط خياره الناشیء من تخلف ذلك الوصف أو الأوصاف، فلازمه
ص: 557
ذهاب الوثوق الحاصل من توصيفه الّذی عبارة أخری عن جهالة المبيع، إذا باع علی الشرط بنحو شرط النتيجة، وبفساده يفسد العقد أيضاً، من المصرّحين بذلك المحقق الصيمری رحمه الله في «غاية المرام»(1) والمحقق الكركی رحمه الله في «جامع المقاصد»(2) حيث ذهبا إلی بطلان كلا من الشرط والعقد حينئذ لجهالة المبيع وعدم رضاء البائع إلا بالشرط.
بل نقول زائداً عليه بأنّ ذلك يوجب الدور الباطل حيث إنّ فساد الشرط في المقام سبب لفساد المشروط وهو العقد، وفساد المشروط يوجب لفساد الشرط.
هذا كلّه بناء علی القول بثبوت الخيار قبل الرؤية بالتخلف حين العقد كما هو المختار وأنّما هی كاشفة عنه، وأمّا علی القول بالسببيّة فلايثبت له الخيار إلا بعدها ولا يلزم الشرط لأنّه كان من قبيل إسقاط ما لم يجب(3)، وإلی ذلك أشار من الخاصة العلامة رحمه الله ومن العامة ابن قدامة الحنبلی، فقال في «التذكرة»:
إذا اختار إمضاء العقد قبل الرؤية لم يلزم، لتعلّق الخيار بالرؤية، وبه قال أحمد والشافعی في أظهر الوجهين(4).
وقال في «المغنی»:
ص: 558
إن اختار الفسخ قبل الرؤية انفسخ، لأنّ العقد غير لازم في حقّه فملك الفسخ كحالة الرؤية، وإن اختار إمضاء العقد لم يلزم لأنّ الخيار يتعلّق بالرؤية، ولأنّه يؤدّی إلی إلزام العقد علی المجهول فيقضی إلی الضرر، وكذلك لوتبايعا بشرط أن لايثبت الخيار للمشتری لم يصحّ الشرط لذلك، وهل يفسد البيع بهذا الشرط؟ علی وجهين بناء علی الشروط الفاسدة في البيع(1).
والتحقيق كما أشرنا إليه آنفاً هو القول بجواز العقد وعدم الإلتزام بالشرط علی هذا الفرض، وذلك لأنّ أصل جعل الشارع الخيار في مواضعها أنّه حكم كسائر الأحكام الوضعی أو التكليفی الإلهی الشرعی، لكن الإستفادة منه حقّ كسائر الحقوق الّتي أمره بيد صاحبه إن شاء أسقطه وإن شاء أبقاه، وقد ثبت في محلّه بل ادعی عليه إجماع الإماميّة علی أنّ أحكام الله تبارك وتعالی مشتركة بين العالم والجاهل بها في عالم الواقع والثبوت، ومختلفة في عالم الظاهر والإثبات(2)، ففی المقام قد جعل الله تعالی الخيار لصاحبه دفعاً لما تضرر من تخلف الوصف أو الأوصاف المتعهدة له حين العقد، والعلم الحاصل عن طريق الرؤية إنّما يكون كاشفاً وطريقاً إلی إثباته ظاهراً لا لثبوته واقعاً، فما دام لم يصل الإشتراط المزبور إلی رفع الوثوق والجهالة بوجود أو بقاء تلك الأوصاف إلی زمان العقد يصحّ إسقاطه حين العقد أو المقاولة به قبل العقد.
الثانی: إسقاطه بعد الرؤية، لا إشكال في نفوذه لأنّ لكلّ ذی حقّ إسقاط
ص: 559
حقّه وأنّه مسلط علی حقّه كما هو مسلط علی ماله، زائداً علی أنّه إسقاط في ظرف وجوده بعد ثبوته وإثباته، سواء قلنا بأنّ الرؤية كاشف أو سبب له.
قال الشيخ محمّد حسن النجفی رحمه الله :
ولا ريب في صحة إسقاط هذا الخيار بعد تحقّقه كما في غيره من الحقوق، بل وبعد العقد قبل التحقق، خلافاً للمحكی عن التذكرة وغيرها للاكتفاء في صحة الإسقاط بوجود السبب، فإنّه حقّ أيضاً يسقط بالإسقاط، وقد يقال: بأنّه إن صادف المخالفة في الواقع أثر، لعدم اعتبار العلم بذلك قطعاً، وإلا كان العقد لازماً بدونه، ودعوى - أنّ الحقّ لا يثبت إلا بظهور المخالفة لا بوجودها في نفس الأمر - يمكن منعها، كما سمعت نحوه في خيار الغبن، وحينئذ فلا ريب في صحة اشتراط سقوطه بالعقد كخيار المجلس ونحوه، بل لا يبعد ذلك وإن قلنا بعدم ثبوته إلا بعد ظهور المخالفة، خلافاً لجماعة منهم الكركی فإنّه - بعد ان استظهر الصحة في غيره حتّى الغبن والتأخير- قال: «فإن شرط رفعه بطل الشرط والعقد، للزوم الغرر، لأنّ الوصف قام مقام الرؤية، فإذا شرط عدم الاعتداد به كان غير مرئی ولا موصوف»(1).
الثالث: التصرف في العين بعد رؤيتها تصرفاً كاشفاً عن الرضا بالبيع، فهو في الحقيقة إسقاط فعلی في مقابل الإسقاط اللفظی، وإنّما نقول إذا كان كاشفاً عن الرضا لأنّ الفعل المطلق ليس كالقول صريحاً في تنجز إسقاط من له الخيار حقّه، بل هو أعم من الإلتزام بالبيع أو العقد مطلقاً حتّی علی تقدير الفسخ والردّ، ومن الإلتزام به فعلاً، لكنّه إذا أنضمّ إلی رؤية المبيع فاقداً لما وُصف فإنّه يدلّ بالإلتزام علی وفائه بالبيع كيف ما كان، يمكن أن نستدلّ زائداً عليه بما ورد من
ص: 560
الأخبار في إسقاط الخيار بالتصرف في خيار الحيوان من باب «تنقيح المناط العرفی»، منها:
صحيحة علیّ بن رئاب عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال: «الشَّرْطُ في الْحَيَوَانِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِلْمُشْتَرِی اشْتَرَطَ أَمْ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَإِنْ أَحْدَثَ الْمُشْتَرِی فِيمَا اشْتَرَى حَدَثاً قَبْلَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ فَذَلِكَ رِضًا مِنْهُ فَلَا شَرْطَ، قِيلَ لَهُ: وَمَا الْحَدَثُ؟ قَالَ: إِنْ لَامَسَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ نَظَرَ مِنْهَا إِلَى مَا كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ»، الحديث .(1)
وصحيحة محمّد بن الحسن الصّفّار قال:كتَبْتُ إِلَى أَبِی مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِیٍ الْعَسْكَرِیِ علیه السلام في الرَّجُلِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً فَأَحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً مِنْ أَخْذِ الْحَافِرِ أَوْ أَنْعَلَهَا، أَوْ رَكِبَ ظَهْرَهَا فَرَاسِخَ أَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا في الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الّتي لَهُ فِيهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْحَدَثِ الَّذِی يُحْدِثُ فِيهَا، أَوِ الرُّكُوبِ الَّذِی يَرْكَبُهَا فَرَاسِخَ؟ فَوَقَّعَ علیه السلام: «إِذَا أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً فَقَدْ وَجَبَ الشِّرَاءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»(2).
وصحيحة علیّ بن رئاب أخری قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً لِمَنِ الْخِيَارُ؟ فَقَالَ: «الْخِيَارُ لِمَنِ اشْتَرَى، إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَ رَأَيْتَ إِنْ قَبَّلَهَا الْمُشْتَرِی أَوْ لَامَسَ؟ قَالَ: فَقَالَ: إِذَا قَبَّلَ أَوْ لَامَسَ أَوْ نَظَرَ مِنْهَا إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ فَقَدِ انْقَضَى الشَّرْطُ وَلَزِمَتْهُ»(3).
هذا حكم التصرف الكاشف عن الرضاء بعد الرؤية، أمّا إذا كان قبلها، فإن قلنا بأنّ الرؤية سبب للخيار فلا شك في عدم سقوطه بذلك لانتفاء المسبب بانتفاء السبب لوضوح عدم كون الإسقاط الفعلی أقوی من الإسقاط القولی اللفظی الصريح علی هذا المبنی حيث إنّه كان من قبيل إسقاط ما لم يجب، فإن اختار الفسخ فالحكم فيه كما لوكان العقد فاسداً في رجوع كلّ مال إلی مالكه
ص: 561
الأول وعلی المتصرف ضمان تصرفه من باب القاعدة المعروفة، وهی «أنّ كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»(1).
وأمّا علی القول بالكشف كما هو الصحيح، فحيث إنّ الفعل ليس صريحاً في تنجز الإسقاط كالقول فليس مسقطاً إلا إذا كان بصورة الدال علی الرضاء ولو بنحو «الإقدام».
الرابع: عدم المبادرة إلى الفسخ بناء على القول بفوريته، قد بحثنا في الفرع السابق بالتفصيل عن أنّ إعمال الخيار في الرؤية فوری أم لا؟ فمن اختار هناك الفورية فلا محالة يقول هنا بإسقاط خياره بترك المبادرة بالفسخ فوراً، وهذا من القبيل القضايا قياستها معها.
إلی هنا تمّ بحمدالله والمنّة ما أردنا أن نبحث عنه تحت عنوان «خيار الرؤية وأحكامها»، وقد فرغنا عن تنظيم هذه المقالات العشر قم المقدسة في اليوم الثامن من شهر رجب المرجب سنة 1442.
❊ ❊ ❊
مصادر التحقیق
1 - القرآن الكريم.
2 - آلاء الرّحمن في تفسير القرآن، محمّد جواد البلاغي(م 1352 ه-)، بنياد البعثة، قم، الطبعة الأولی، 1420 ه- .
3 - الآيات الأحكام في تفسير كلام الملك العلام، محمّد بن علیّ بن إبراهيم الأسترابادي (م 1028 ه-)، مكتبة المعراجي، طهران، الطبعة الأولی، 1394 ه- .
4 - أحكام القرآن لابن العربي، ابن العربي محمّد بن عبدالله بن أبوبكر (468 - 543 ه-)، دارالكتب العلميّة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1424 ه-.
5 - أحكام القرآن (الجصّاص)، أحمد بن علیّ الجصّاص (م 370 ه-)، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1405 ه- .
6 - إرشاد الأذهان إلی أحكام الإيمان، الحسن بن يوسف بن المطهّر العلامة الحلّي( 648 - 726 ه)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولی، 1410 ه- .
7 - الإرشاد في معرفة حجج الله علی العباد، الشّيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد نعمان العكبري البغدادي (336 - 413 ه-)، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1413 ه- .
ص: 562
8 - الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385 - 460 ه-)، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الأولی، 1390 ه- .
9 - إصباح الشيعة بمصباح الشريعة، قطب الدّين الكيدري(حي إلی 610 ه-)، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، قم، الطبعة الأولی، 1416 ه- .
10 - أصول الفقه، محمّد رضا المظفّر(1322 - 1383ه-)، مركز الطّباعة والنّشر التّابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم - إيران، الطبعة السّابعة، 1389 ش.
11 - الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السّنة، سيّد بن طاووس الحلّي(م 664 ه-)، مركز الطّباعة والنّشر التّابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم - إيران، الطبعة الأولی، 1415 ه- .
12 - الانتصار في انفرادات الإماميّة، السيّد المرتضی(م 436 ه-)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولی، 1415 ه-.
13 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار علیهم السلام ، محمّد باقر المجلسي(1037 - 1110 ه-)، مؤسّسه الوفاء، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1403 ه- .14 - البحر المحيط في التفسير، أبو حيّان محمّد بن يوسف الأندلسي (م 745 ه-)، دارالفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1420 ه- .
15 - بدائع الصنائع، أبوبكر بن مسعود الكاشاني (م 587 ه-)، المكتبة الحبيبيّة، پاكستان، الطبعة الأولی، 1409 ه- .
ص: 563
16 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد الحفيد الأندلسي(م 595 ه-)، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الثانية، 1432 ه- .
17 - البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، السيّد حسين الطباطبائي البروجردي(م 1380 ه-)، مكتبة السيّد، قم، الطبعة الثالثة، 1416 ه- .
18 - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، نورالدّين بن أبي بكر الهيثمي(م 807 ه-)، مركز خدمة السنة والسيرة النّبويّة، المدينة المنورة، الطبعة الأولی، 1413 ه- .
19 - تاج العروس من جواهر القاموس، السيّد مرتضی الحسيني الزّبيدي الواسطي (م 1205 ه-)، دارالفكر للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1414 ه- .
20 - تبصرة المتعلمين في أحكام الدّين، الحسن بن يوسف بن المطهّر العلامة الحلّي( 648 - 726 ه)، مؤسسة الطباعة والنشر التابع لوزارة الثقافة الإسلامي، طهران، الطبعة الأولی، 1411 ه- .
21 - تبيان الصلاة، السيّد حسين الطباطبائي البروجردي(م 1380 ه-)، كنز العرفان للطباعة والنشر، قم، الطبعة الأولی، 1426 ه- .
22 - التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385 - 460 ه-)، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی .
ص: 564
23 - تحرير الأحكام الشّرعيّة علی مذهب الإماميّة، الحسن بن يوسف بن المطهّر العلامة الحلّي( 648 - 726 ه)، مؤسسة الإمام الصّادق علیه السلام، قم - إيران، الطبعة الأولی، 1420 ه- .
24 - تحرير الوسيلة، روح الله الموسوي الخميني(1320 - 1409 ه-)، دار العلم، قم، الطبعة التاسعة، 1380 ش.
25 - تحف العقول، ابن شعبة الحراني(م القرن الرابع)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الثانية، 1404 ه-.
26 - التّحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي(م 1426ه-)، دار الكتب العلميّة، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة، 2009 م -
1430 ه- .
27 - تذكرة الفقهاء، العلامة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهر(648 - 726 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، قم، الطبعة الأولی، 1414 ه- - 1372 ش.
28 - تذكرة الفقهاء(ط القديمة)، العلامة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهر(648 - 726 ه-)، مكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
29 - تفسير العياشی، محمّد بن مسعود بن محمّد بن العيّاشی السّمرقندی (م 320 ه-)، النّشر العلمية، طهران، الطبعة الأولی، 1380 ه- .
30 - تفسير القمّی، علیّ بن إبراهيم القمّی (م بعد 307 ه)، دار الكتاب، قم، الطبعة الثالثة، 1404 ه- .
ص: 565
31 - التفسير الكبير( مفاتيح الغيب)، الفخر الرازى (م 606 ه-)، دار إحياء التراث العربی، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1420 ه- .
32 - تكملة العروة الوثقی، السيّد أبو القاسم الخوئی( 1317 - 1413 ه-)، منشورات مدينة العلم، قم المقدسة، الطبعة الثمانية والعشرون، 1410 ه- .
33 - التّنقيح الرائع لمختصر الشرائع، جمال الدّين مقداد بن عبدالله المعروف بالفاضل المقداد(م 826 ه-)، مكتبة آية الله المرعش النجفی، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1404 ه- .
34 - تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسی(385 - 460 ه-)، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الرابعة، 1365 ش.
35 - ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، الشّيخ الصّدوق (م 381 ه-)، دار الشّريف الرّضی، ايران - قم، الطبعة الثانية، 1406ه- .
36 - جامع الشتات في أجوبة والسئوالات، الميرزا القمیّ(م 1232 ه-)، مؤسسة كيهان، تهران، الطبعة الأولی، 1413 ه- .
37 - الجامع لأحكام القرآن، محمّد بن أحمد القرطبی (م 671 ه-)، ناصر خسرو، تهران، الطبعة الأولی، 1364 ش.
38 - الجامع للشرائع، يحيی بن سعيد الحلي(م 689 ه-)، مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة، قم، الطبعة الأولی، 1405 ه- .39 - جامع المقاصد في شرح القواعد، علیّ بن حسين العاملی الكركی الملقب بالمحقّق الثّانی(م 940 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، قم المقدّسة، الطبعة الثّانية، 1414 ه- .
ص: 566
40 - جمل العلم والعمل، علیّ بن الحسين الموسوی (السّيد المرتضی) (م 436 ه-) مطبعة الآداب، الطبعة الأولی، النجف الأشرف، 1387 ه- .
41 - جواهر الفقه، عبد العزيز أبوجعفر محمّد بن الحسن القاضی ابن البرّاج الطرابلسی(م 481 ه-)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1411 ه- .
42 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمّد حسن النّجفی( م 1266 ه)، دار إحياء التّراث العربی، بيروت، الطبعة السّابعة، 1403 ه- .
43 - حاشية المكاسب، السيّد محمّد كاظم الطباطبائی اليزدی(م 1338 ه-)، مؤسسة اسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، 1421 ه- .
44 - الحدائق النّاضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشّيخ يوسف البحرانی (م1186ه-)، مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرسين بقم المقدّسة، الطبعة الأولی، 1405 ه- .
45 - الخصال، الشّيخ الصّدوق (م 381 ه-)، المنشورات الإسلاميّة التّابعة لجامعة المدرسين، قم المقدّسة، الطبعة الأولی، ذی القعدة 1403 ه- - 1362ش.
46 - خلاصة الأقوال في معرفة أحوال الرجال، الحسن بن يوسف بن المطهّر العلامة الحلي(648 - 726 ه-)، دار الذخائر، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1411ه- .
ص: 567
47 - الدر المنثور في التفسير المأثور، جلال الدّين عبدالرّحمن بن أبي بكر السيوطي(م 911 ه-)، مكتبة آية الله المرعشي النجفی، قم، الطبعة الأولی، 1404 ه- .
48 - الدّروس الشرعيّة في فقه الإماميّة، شمس الدّين محمّد بن مكي العاملي الشهيد الأوّل (734 - 786 ه-)، مؤسّسه النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، صفر المظفّر 1414 ه- .
49 - دعائم الإسلام، نعمان بن محمّد المغربي المعروف بابن حيّون (م 363 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، قم - ايران ، الطبعة الثانية ، 1385 ه- .
50 - دليل الناسك - تعليقة وجيزة على مناسك الحج (للنائينی)(م 1355 ه-)، السيّد محسن الحكيم (م 1360 ه-)، مدرسه دار الحكمه، النجف الأشرف، الطبعة الثالثة، 1416 ه- .
51 - ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، المحقّق السّبزواري محمّد باقر بن محمّد المؤمن(م 1090 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، قم ، الطبعة الأولی، 1247 ه- .
52 - رؤية الهلال، رضا مختاري ومحسن صادقي، مركز الطباعة والنّشر التّابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1426 ه- .
53 - الربا والبنك الإسلامي، آية الله مكارم الشيرازي، مدرسة الإمام عليّ أبي طالب علیه السلام، قم، الطبعة الأولی، 1422 ه- .
ص: 568
54 - رجال ابن داود، الحسن بن عليّ بن داود الحلي (647 - حيّ إلی 707 ه-)، المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، الطبعة الأولی، 1392 ه- .
55 - رجال ابن الغضائری، أحمد بن الحسين بن عبيد الله الغضائری (م 450 ه-)، دارالحديث، قم، الطبعة الأولی، 1422 ه- .
56 - رجال البرقی، أبوجعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقی(م274 ه-)، انتشارات دانشگاه تهران، تهران، الطبعة الأولی، 1383 ه- .
57 - رجال الشيخ الطوسي(الأبواب)، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسي (385 - 460 ه-)، مؤسسة النّشر الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الأولي، 1415 ه- .
58 - رجال العلامة (خلاصة الأقوال)، الحسن بن يوسف بن المطهّر العلامة الحلي (648 - 726 ه-)، منشورات المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، الطبعة الثانية، 1381 ه- .
59 - رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال)، محمّد بن عمر الكشّي (م قرن 4 ه-)، دار النّشر التابعة لجامعة مشهد، مشهد، الطبعة الأولی، 1348 ش.
60 - رجال النّجاشي، أبو الحسن أحمد بن عليّ النّجاشي(372 - 450 ه-)، دار النّشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولی، 1407 ه- .
61 - الرسائل العشر، الإمام الخميني(1320 - 1409ه-)، مؤسسه تنظيم ونشر آثار امام خميني قدس سره، قم - ايران، الطبعة الأولی، 1420 ه- .
ص: 569
62 - رسائل الشّهيد الثانی، زين الدّين عليّ الجبل عاملي(م 966 ه-)، مكتبة بصيرتي، قم المقدّسة، الطبعة الأولی، 1421 ه- .
63 - رسائل المحقق الكركي، علیّ بن الحسين العاملي الكركي المعروف بالمحقق الثاني(م 940 ه-)، دار النّشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولی، 1409 ه- .
64 - روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، زين الدّين عليّ الجبل عاملي الملقب بالشّهيد الثّاني(م 966 ه-)، دار النشر الإسلامي التابع للمركز الإعلامي في الحوزة العلمية، قم - إيران، الطبعة الأولی، 1402 ه- .
65 - الرّوضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة، زين الدّين عليّ الجبعي العاملي الشّهيد الثّانی(م966 ه-)، انتشارات دار التّفسير، قم، الطبعة الثالثة، 1382 ش.
66 - روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، محمّد تقي ابن مقصود علی الإصبهاني المشهور بالمجلسي الأول (م 1070 ه-)، مؤسسة الثقافي الدينية كوشانبور، قم - ايران، الطبعة الثانية، 1406 ه- .
67 - رياض المسائل في بيان أحكام الشّرع بالدّلائل، السيّد عليّ الطباطبائي(م 1231 ه-)، مؤسّسة النّشر الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الأولی، رمضان المبارك 1412 ه- .
68 - سؤال وجواب(لكاشف الغطاء)، محمّد حسين النجفي كاشف الغطاء (م 1373 ه-)، مؤسسة كاشف الغطاء، الطبعة الأولی.
ص: 570
69 - السّرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، محمّد بن منصور ابن إدريس الحلي (558 - 598 ه-) مؤسّسة النّشر الإسلامي، قم المقدّسة، الطبعة الثانية،1410 - 1411 ه- .
70 - سلسلة الينابيع الفقهيّة، عليّ أصغر مرواريد، مؤسّسه فقه الشّيعة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1410 ه- - 1990 م.
71 - سنن ابن ماجة القزويني، محمّد بن يزيد القزويني(209 - 273 ه-)، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولی، 1418 ه-.
72 - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السّجستاني (202 - 275 ه-)، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولی، 1420 ه- .
73 - سنن التّرمذی، محمّد بن عيسی التّرمذی (209 - 279 ه-)، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولی، 1419 ه- .
74 - سنن الدار قطني، أبوالحسن علیّ بن عمر بن أحمد البغدادي(م 385 ه-)، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1424 ه- .
75 - السّنن الكبری، أحمد بن الحسين البيهقي (م 458 ه-)، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1411 ه- .
76 - سنن النسائي، أحمد بن شعيب النسائي(215 - 303 ه-)، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1348 ه- .
77 - الشافی في شرح الكافي، الملا خليل بن غازي القزويني(م 1089 ه-)، دارالحديث، قم، الطبعة الأولی، 1429 ه-.
ص: 571
78 - شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، نجم الدّين جعفر بن الحسن المحقّق الحلي(602 - 676 ه-)، مؤسّسة إسماعيليان، قم - إيران، الطبعة الثّانية، 1408 ه- .
79 - شرح الأزهار، الإمام أحمد بن يحيی بن المرتضی الزيدي(م 840 ه-)، مكتبة غمضان، صنعاء - اليمن، الطبعة الأولی، 1400 ه- .
80 - صحيح البخاری، محمّد بن إسماعيل البخاري(194 - 256 ه-)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولی، 1401 ه- .
81 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجّاج النيشابوري(م 261 ه-)، دار أحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1375 ه- .
82 - صلاة المسافر للمحقق الإصفهاني، محمّد حسين الكمبانی الإصفهاني(م 1362 ه-)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1409 ه-.
83 - العروة الوثقی، محمّد كاظم الطباطبائی اليزدي(1247 - 1338ه-)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت لبنان، الطبعة الثانية، 1409 ه- .
84 - العروة الوثقی، محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي(1247 - 1338ه-) مع تعليقات آية الله العظمی مكارم الشيرازي وعدة من الفقهاء العظام، دار نشر الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام، قم، الطبعة الثانية، 1430 ه- - 1388 ش.
85 - العروة الوثقی (المحشی)، السيّد الطباطبائي اليزدي(1247 - 1338 ه-)، مؤسسة النّشر الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1419 ه- .
ص: 572
86 - علل الشرائع، الشّيخ الصّدوق (م 381 ه-)، مكتبة الداوري، قم، الطبعة الأولی، 1386 ه- .
87 - عوائد الأيّام في بيان قواعد الأحكام، أحمد بن محمّد مهدي النَّراقي(م 1245 ه- )، مركز الطباعة والنّشر التّابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1417 ه- .
88 - عوالي اللآلي العزيزيّة، ابن أبي جمهور الأحسائي(م أوائل القرن العاشر)، مطبعة سيّد الشهداء علیه السلام، قم، الطبعة الأولی، 1403 ه- .
89 - عيون أخبار الرّضا علیه السلام، الشّيخ الصّدوق (م 381 ه-)، نشر جهان، تهران، الطبعة الأولی، 1378 ه- .
90 - غاية المرام في شرح شرائع الإسلام، مفلح بن الحسن الصيمري (م حدود 900 ه-)، دارالهادي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1420 ه- .
91 - غنية النزوع إلی علمي الأصول والفروع، ابن زهرة الحلبي(م 585 ه-)، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، قم، الطبعة الأولی، 1417 ه- .
92 - الفروق الغويّة، أبی هلال العسكري(م 395 ه-)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة السادسة، 1433 ه- .
93 - فقه الرّضا علیه السلام، المنسوب إلی علیّ بن موسی الرضا علیه السلام (153 - 202 ه-)، مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، مشهد، الطبعة الأولی، 1406 ه- .
94 - الفقه علی المذاهب الأربعة، عبد الرّحمن الجزيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة السابعة، 1406 ه- - 1986 م .
ص: 573
95 - فقه القرآن للراوندي، قطب الدّين الراوندي(م 573 ه-)، انتشارات مكتبة آية الله المرعشي النجفی، قم، الطبعة الثانية، 1405 ه- .
96 - فوائد الأصول، محمّد حسين النائيني(م 1355 ه-)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولی، 1376 ش.
97 - الفوائد الرجاليّة، السيّد محمّد مهدي بحر العلوم الطباطبائي(م 1212 ه-)، مكتبة الصادق علیه السلام، طهران، 1405 ه- .
98 - فوائد القواعد، زين الدّين عليّ الجبعی العاملي الملقب بالشّهيد الثّاني (م966 ه-)، مركز الطّباعة والنّشر التّابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم - إيران، الطبعة الأولی، 1419 ه- .
99 - الفهرست للشيخ الطوسي، أبوجعفر محمّد الحسن الطوسي(385 - 460 ه-)، المكتبة الرضويّة، النجف الأشرف، الطبعة الأولی.
100 - قاموس الرجال، محمّد تقي الشوشتري(م 1415 ه-)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1410 ه- .
101 - قرب الإسناد، عبد الله بن جعفر الحميري(م قرن 3 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، قم المقدّسة، الطبعة الأولی، 1413ه- .
102 - القواعد (مأة قاعدة فقهيّة)، السيّد محمّد كاظم المصطفوي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الرابعة، 1421 ه- .
103 - قواعد الأحكام في مسائل الحلال والحرام، الحسن بن يوسف بن المطهّر العلامة الحلي( 648 - 726 ه)، دار النّشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولی، 1413 ه- .
ص: 574
104 - القواعد الفقهيّة، آية الله مكارم الشيرازي، دارالنشر الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام، قم، الطبعة الخامسة، 1435 ه- .
105 - الكافی، محمّد بن يعقوب الكليني (م329ه-)، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الرابعة، 1407 ه- .
106 - الكافی في الفقه، تقيّ الدّين بن نجم الدّين أبو الصّلاح الحلبيّ(374 - 447 ه-)، مركز الطّباعة والنّشر التّابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم - إيران، الطبعة الأولی، 1430ه- - 1387 ش.
107 - كتاب التفسير، محمّد بن مسعود العياشي(260 - 329 ه-)، العلميّة، طهران، الطبعة الأولی، 1380 ه- .
108 - كتاب الحجّ (للشاهرودي)، السيّد محمود الشاهرودي (م 1394 ه-)، مؤسسة أنصاريان، قم، الطبعة الأولی، 1402 ه- .
109 - كتاب الخلاف، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، (385 - 460 ه-)، مؤسّسه النشر الإسلامي، قم، الطبعة الرّابعة، 1415 ه- .
110 - كتاب الصّلاة، الشّيخ الأعظم الأنصاري (م 1281 ه-)، المؤتمر العالمي لتراث الشّيخ الأعظم، قم - ايران، الطبعة الأولی، 1415 ه- .
111 – كتاب الطهارة، الشّيخ الأعظم الأنصاري (م 1281 ه-)، المؤتمر العالمي لتراث الشّيخ الأعظم، قم - ايران، الطبعة الأولی، 1415 ه- .
112 - كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي(م 175 ه-)، مؤسّسه دار الهجرة، قم - إيران، الطبعة الثانية، 1409 ه- .
ص: 575
113 - كتاب مقدس(عهد عتيق وعهد جديد)، دروگولين، لندن، 1932 م.
114 - كتاب المكاسب، الشّيخ الأعظم الأنصاري (م 1281 ه-)، المؤتمر العالمي لتراث الشّيخ الأعظم، قم - ايران، الطبعة الأولی، 1415 ه- .
115 - كتاب المناهل، السيّد محمّد المجاهد الطباطبائي الحائري(م 1242 ه-)، مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، قم المقدسة، الطبعة الأولی.
116 - كشف الرّموز في شرح المختصر النّافع، الفاضل الآبي(حي إلی 672 ه-)، مؤسّسه النّشر الإسلامي، قم، الطبعة الثالثة، 1417 ه- .
117 - كشف الغطاء عن مبهمات الشّريعة الغراء (ط - الحديثة)، جعفر بن خضر الكاشف الغطاء (م 1228 ه-)، دارالنشر الإسلامي التابع للمركز الإعلامي في الحوزة العلمية، قم - إيران، الطبعة الأولی، 1422 ه- .
118 - كشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحكام، محمّد بن الحسن الفاضل الهندي(م 1137 ه-)، دار النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأُولی، 1416 ه- .
119 - كفاية الأثر في النصّ علی الأئمّة الإثنی عشر علیهم السلام ، علیّ بن محمّد الخزاز القميّ (من تلاذمة الشّيخ الصّدوق)، انتشارات بيدار، قم، 1401 ه- .
120 - كفاية الأحكام، المحقّق السّبزواري محمّد باقر بن محمّد المؤمن(م 1090 ه-)، دار النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولی، 1423 ه- .
ص: 576
121 - كفاية الأصول، الآخوند الخراسانی المولی محمّد كاظم (1255 - 1329 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، بيروت، الطبعة الأولی، 1411 ه- - 1990 م.
122 - كمال الدّين وتمام النعمة، محمّد بن عليّ بن بابويه (م 381 ه-)، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الثانية، 1395ه- .
123 - كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدّين عليّ المتقی بن حسام الدّين الهندي (م 975 ه-)، مؤسسة الرّسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الخامسة، 1405 ه- - 1985 م.
124 - لسان العرب، محمّد بن مكرم بن منظور المصري(630 - 711 ه-)، دارالفكر للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1414 ه- .
125 - اللمعة الدمشقيّة في فقه الإماميّة، شمس الدّين محمّد بن مكي العاملي الملقب بالشهيد الأوّل (734 - 786 ه-)، دارالتراث الإسلاميّة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1410 ه- .
126 - المبسوط في فقه الإماميّة، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسي(385 -460 ه-) المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، طهران - إيران، الطبعة الثّالثة، 1387 ه- .
127 - مجمع البحرين، فخر الدّين الطّريحي( 979 - 1087 ه-)، مكتب نشر فرهنگ إسلامي، طهران، الطبعة الثانية، 1408 ه- - 1367 ش.
ص: 577
128 - مجمع البيان في تفسير القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسي المعروف بأمين الإسلام (م 548 ه-)، انتشارات ناصر خسرو، تهران، الطبعة الثالثة، 1372 ش.
129 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، عليّ بن أبی بكر الهيثمي(م 807 ه-)، دارالكتب العلميّة، بطروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1408 ه- .
130 - مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، أحمد بن محمّد المقدس الأردبيلي(م 993 ه-)، دار النّشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولی، 1403 ه- .
131 - المجموع في شرح المهذّب، يحيی بن شرف النووي الشّافعي(م 676 ه-)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولی.
132 - مجموعة فتاوي ابن الجنيد، محمّد بن الجنيد الإسكافي(م قرن الرابع)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولی، 1416 ه- .
133 - المحاسن، أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (م 274 ه-)، دار الكتب الإسلاميّة، قم، الطبعة الثانية، 1371ه- .
134 - المحيط في اللغة، صاحب العباد(م 385 ه-)، عالم الكتاب، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1414 ه- .
135 - المختصر النافع في فقه الإماميّة، نجم الدّين جعفر بن الحسن المحقّق الحلي (م 676 ه-)، قم، المنشورات المصطفوي، الطبعة الأولی
ص: 578
136 - مختلف الشّيعة في أحكام الشّريعة، الحسن بن يوسف بن المطهّر العلامة الحلي(648 - 726 ه-)، مؤسّسه النّشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، رمضان المبارك 1413 ه-.
137 - مدارك الأحكام في شرح شرائع الأحكام، السّيد محمّد بن عليّ الموسوي العاملي(م 1009 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، مشهد المقدّسة، الطبعة الأولی، محرّم الحرام 1410 ه- .
138 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسو صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ محمّد باقر المجلسي(1037 - 1110 ه-)، دارالكتب الإسلاميّة، ايران، الطبعة الثانية، 1404 ه- .
139 - المراسم العلويّة في الأحكام النّبويّة في الفقه الإماميّة، سلاّر بن عبد العزيز الديلمي(م 448 ه-)، منشورات الحرمين، قم، الطبعة الأولی، 1404 ه- .
140 - مسالك الأفهام إلی تنقيح شرائع الإسلام، زين الدّين عليّ الجبعي العاملي الشّهيد الثّاني(م966 ه-)، مؤسسة المعارف الإسلاميّة، قم، الطبعة الأولی، 1413 ه- .
141 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، حسين النّوري الطبرسي(1254 - 1320 ه-)، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، بيروت، الطبعة الأولی، 1408 ه- - 1988 م.
142 - مستمسك العروة الوثقی، السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (م 1390 ه-)، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی.
ص: 579
143 - المستند في شرح العروة الوثقی كتاب الإجارة، الشّيخ مرتضی البروجردي تقريرات مباحث السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئي(1317 - 1413 ه-)، المطبعة العلمية، قم، الطبعة الأولی، 1364 ش.
144 - مستند الشّيعة في أحكام الشّريعة، أحمد بن محمّد مهدي النّراقي(م 1245 ه-)، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1429 ه- - 2008 م.
145 - مسند أحمد، أحمد بن محمّد بن حنبل(م 241 ه-)، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1416 ه- .
146 - مصابيح الأحكام، السيّد مهدي البحر العلوم(م 1212 ه-)، منشورات ميثم التمار، قم، الطبعة الأولی، 1427 ه-.
147 - مصباح الأصول، السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئی(1317 - 1413 ه-)، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، الطبعة الأولی، 1422 ه- .
148 - مصباح الفقاهة (المكاسب)، محمّد علي التوحيدي محاضرات السيّد أبو القاسم الخوئي( 1317 - 1413 ه-)، المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، الطبعة الأولی، 1374 ه- .
149 - مصباح الفقيه، آقا رضا بن محمّد هادي الهمداني (م 1322 ه-)، مؤسسة الجعفريّة لإحياء التّراث ومؤسسة النّشر الإسلامي، قم - ايران، الطبعة الأولی، 1416 ه- .
ص: 580
150 - مصباح المتهجّد، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي(385 - 460 ه-)، مؤسّسه فقه الشّيعة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1411 ه- - 1991 م.
151 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمّد الفيومي (م 770 ه-) مؤسسة دار الهجرة، قم، الطبعة الثانية، 1414 ه- .
152 - مصطلحات الفقه، الميرزا عليّ المشكيني(م 1428 ه-)، نشرالهادی، قم، الطبعة الأولی، 1419 ه- .
153 - معانی الأخبار، محمّد بن عليّ بن بابويه (م 381 ه-)، دار النّشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولی، 1403 ه-.
154 - المعتبر في شرح المختصر، المحقّق الحلي(م 676 ه-)، مؤسسة سيّد الشّهداء علیه السلام، قم، الطبعة الأولی، 1407 ه- .
155 - المعتمد في شرح المناسك، السيّد رضا الخلخالي محاضرات المحقق الخوئي(1317 - 1413 ه-)، المطبعة العلميّة، قم، الطبعة الأولی، 1409 ه- .
156 - معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرجال، السيّد أبو القاسم الخوئي( 1317 - 1413 ه-)، دار الزهراء، بيروت، الطبعة الأولی، 1409 ه- .
157 - معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريّا (م 395 ه-)، مكتب الأعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولی، جمادي الآخرة 1404 ه- .
ص: 581
158 - المغني، ابن قدامة (م 630 ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
159 - مفاتيح الشرائع، الفيض الكاشاني (م 1091 ه-)، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، الطبعة الأولی.
160 - مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي( م حوالي 1226 ه-)، دار النّشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولی، 1419 ه- .
161 - مفردات ألفاظ القرآن، الرّاغب الأصفهاني(م 425 ه-)، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولی، 1412 ه- - 1992 م.
162 - المقنع، الشّيخ الصّدوق محمّد بن علیّ بن بابويه القمّي (م381 ه-)، مؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام، قم - إيران، الطبعة الأولی، 1415 ه- .
163 - المقنعة، محمّد بن محمّد بن النّعمان العكبريّ الملقب بالشّيخ المفيد(م 413 ه-) مركز الطّباعة والنّشر التّابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم - إيران، الطبعة الرّابعة، 1417 ه- .
164 - المكاسب المحرمة، الإمام الخميني(م 1409 ه-)، مؤسسة التنظيم والنشر لآثار الإمام الخميني، قم، الطبعة الأولی، 1415 ه- .
165 - منتهی المطلب في تحقيق المذهب، العلامة الحلي(648 - 726 ه-)، مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد - ايران، الطبعة الأولی، 1412 ه- .
ص: 582
166 - منتهى المقال في أحوال الرجال، محمّد بن اسماعيل الحائري المازندراني(م 1216 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، قم المقدّسة، الطبعة الأُولی، 1416 ه- .
167 - من لا يحضره الفقيه، الشّيخ الصّدوق(م 381 ه-)، مؤسّسه النّشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1413 ه- .
168 - منهاج الصالحين (المحشي للحكيم) مع تعليقات الشهيد الصدر، السيّد محسن الطباطبايي الحكيم (م 1390 ه-)، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، الطبعة الأولی، 1410 ه- .
169 - موسوعة الإمام الخوئي، السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413 ه-)، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم - ايران، الطبعة الأولی، 1418 ه- .
170 - المهذّب، القاضي ابن البراج الطبرابلسي(م 481 ه-)، مؤسّسه النّشر الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الأولی، جمادی الأُولی 1406 ه- .
171 - مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام، السيّد عبد الأعلی الموسوي السّبزواري، مؤسسة المنار، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1413 ه- .
172 - المهذّب البارع في شرح مختصر النافع، الشيخ أحمد بن فهد الحلي( م 841 ه-)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة، الطبعة الأولی، 1407 ه- .
173 - الميزان في تفسير القرآن، محمّد حسين الطباطبائي(م 1402 ه-)، مژسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1390 ه- .
ص: 583
174 - نكت النهاية، نجم الدّين جعفر بن الحسن الحلي (م 676 ه-)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولی، 1412 ه- .
175 - نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، العلامة الحلي(648 - 726 ه-)، مؤسّسة إسماعيليان، قم، الطبعة الثّانية، 1410 ه- .
176 - النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن أثير الجوزي( 544 - 606 ه-)، مؤسسة اسماعيليان، قم، الطبعة الأولی، 1364 ش .
177 - النّهاية في مجرد الفقه والفتاوي، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385 - 460 ه-) دار الكتب العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1400 ه- .
178 - الوافی، ملا محسن الفيض الكاشاني (م 1091 ه-)، مكتبة الإمام أميرالمؤمنين عليّ رحمه الله ، اصبهان - ايران، الطبعة الأولی ، 1406 ه- .
179 - وسائل الشّيعة إلی تحصيل مسائل الشّريعة، الشّيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي(م 1104 ه-)، مؤسّسه آل البيت علیهم السلام لإحياء التّراث، قم المقدّسة، الطبعة الأُولی، 1410 ه- .
180 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة، محمّد بن عليّ بن حمزة الطوسي (حي إلی 566 ه-)، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، الطبعة الأولی، 1408 ه- .
❊ ❊ ❊
ص: 584