أساس النحو

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الموسوی البهبهاني، السید علي، 1353 - 1264

عنوان واسم المؤلف: أساس النحو/ تالیف السید علي الموسوی البهبهاني؛ التحقیق: محمدحسین احمدي الشاهرودي

تفاصيل المنشور: قم: دار العلم آیت الله بهبهاني، 1422ق. = 1380.

مواصفات المظهر: 344 ص.عينة

شابک : 964-93458-0-915000ریال ؛ 964-93458-0-915000ریال

حالة الاستماع: القائمة السابقة

لسان : العربية

ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة

موضوع : اللغة العربية -- نحو

المعرف المضاف: احمدي شاهرودي، محمدحسین، مصحح

ترتيب الكونجرس: PJ6151/ب 94الف 5

تصنيف ديوي: 492/75

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-708

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: القائمة السابقة

ص: 1

اشارة

أساس النحو

تألیف

سماحة العلّامه المحقّق آیة الله العظمی

السیّد علي الموسوي البهبهاني (قدس سره)

1303 - 1395 ﻫ.ق

تحقیق محمّد حسین أحمدی الشاهرودي

ص: 2

اسم الکتاب: اساس النحو

المؤلف: آیة الله العظمی العلامة السید علي الموسوی البهبهاني

الناشر: دارالعلم آیة الله بهبهاني

تاریخ الطبعة الاول: 1422 ق

المطبعة: نهضت

عدد المطبوع: 2000 نسخه

شابک: 9 - 0 - 93458 - 964

مرکز پخش:

ایران - قم - انتشارات دارالعلم آیت الله بهبهانی

قم: هاتف: 7722729 - 0251 / فاکس: 7716929

اهواز: هاتف: 2225621 - 0611 / فاکس: 2211218

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

ترجمة المؤلف

مؤلّف هذا الکتاب الثمین أحد الفقهاء المبرّزین، صاحب النظرات والمباني العلمیّة الخاصّة، والمؤلّفات القیّمة، في الأدب والفقه والاُصول والحدیث والتفسیر والعقائد الإسلامیّة وغیرها من العلوم الدینیّة.

وهو عليّ بن محمّأ بن عليّ، وکان أبوه السیّد محمّد البهبهاني من علماء بهبهان.

مولده ونشأته:

تولّد في سنة 1303 أو 1304 في مدینة بهبهان، فکان فیها إلی سنة 1322، وتلقّی فیها دراسة المقدّمات والسطوح، ثمّ هاجر في سنة 1328 إلی النجف الأشرف (علی مشرّفها السلام) وتزوّد فیها من فطاحل تلک الحوزة علماً وخبرةً، وأصبح من ذوي العلم والنظر.

مشایخه ببهبهان:

1- السیّد محمّأ شاه ناظم الشریعة البهبهاني، المتوفّط 1370 ق.

وهو من تلامیذ الآخوند الخراساني صاحب الکفایة، والسیّد الطباطبائي

ص: 5

صاحب العروة، والشیخ هادي الطهراني صاحب المحجّة.

2- الشیخ المیرزا حسن البهبهاني، المتوفّی بعد سنة 1320، وکان أبوه المولی حسین البهبهاني من تلامیذ الشیخ الأنصاري بالنجف.

3- الشیخ عبد الرسول البهبهاني.

مشایخه بالنجف:

1- الشیخ محمّد کاظم الخراساني، المتوّفی 1329، صاحب کفایة الاُصول.

2- السیّد محمّد کاظم الطباطبائي الیزدي، المتوفّی 1337، صاحب العروة الوثقی.

3- السیّد محسن الکوهکمري، من أجلّة تلامذة الشیخ هادي الطهراني، کما أنّ سیّدنا البهبهاني من أجلّة تلامذة السیّد محسن (رحمة الله)

هذا، وکان یقول: أکثر تتلمذي علیه.

رجوعه إلی إیران:

بعد ستّت سنین من المکوث في النجف الأشرف، والاستفاضة من أساتذته العظام، رجع سنة 1328 إلی مسقط ردسه ببهبهان، فاشتغل فیها بالتدریس والإفاضة.

وبعد زواجه رجع مرّةً اُخری إلی النجف الأشرف، وأخذ یدرّس هناک، ولکن لأجل عدم مساعدة المزاج والابتلاء ببعض الأمراض لم یلبث إلّا سنة واحدة، وعاد مرّةً اُخری إلی بهبهان مشتغلاً بالتدریس والاُمور الشرعیّة، وکان فیها إلی سنة 1338.

ص: 6

وفي تلک السنة بدعوة جماعة من أفاضل درس اُستاذه المرحوم آیة الله السیّد محسن الکوهکمري، هاجر إلی النجف الأشرف مرّةً ثالثة وهیّأ أسباب التوقّف هناک، فرجع إلی بهبهان لیحمل عائلته معه، ولکن مرضت زوجته في الطریق بمدینة رامهرمز، فتوقّف هناک عدّة أشهر، ثمّ بدعوة المؤمنین وإصرارهم، ولعله لعلّةٍ اُ[ری عزم علی المکث في رامهرمز - العبد یدبّر والله یقدّر - وطال هذا المکث إلی سنة 1362، وکان فیه مدرّساً ومرجعاً للناس في أحکامهم واُمورهم الشرعیّة.

وفي سنة 1362 لأجل زیارة الأئمة الطاهرین (علیهم السلام) سافر إلی العتبات المقدّسة، وبطلب بعض أعاظم علماء کربلاء أقام فیها سنتین، أخذ بتدریس خارج الفقه والاُصول، وبعدها هاجر إلی النجف الأشرف وبقي فیه سنة وعدّة شهور، یدرّس خارج الفقه، وفي سنة 1365 اُرسلت من رامهرمز رسائل متعدّدة إلیه وإلی آیة الله العظمی السیّد أبو الحسن الإصفهاني - المرجع العامّ للشیعة الإمامیّة في ذلک الزمان - طلبوا فیها أن یرجع السیّد البهبهاني إلی رامهرمز، وعلی أساس ذلک طلب السیّد الإصفهانی (رحمة الله) منه أن لا یردّ طلبهم، ولذا عاد سماحته إلی رامهرمز وبقي فیها إلی سنة 1370.

وفي تلک السنة هاجر إلی الأهواز، وضمن تشکیل الحوزة العلمیّة أخذ یدرّس الفقه والاُصول.

ومن سنة 1386 وما بعدها إلی آخر عمره الشریف وبدعوةٍ من بعض علماء إصبهان اختار الإقامة ستّة أشهر من السنة في إصبهان وستّة أشهر (أیّام الخریف والشتاء) في أهواز، وکان کثیر من أهالي البلدین وغیرهم مقلّدین له في أحکامهم الشرعیّة.

ص: 7

تألیفاته:

1- الاشتقاق أو کشف الأستار عن وجه الأسرار المودعة في الروایة الشریفة المسندة إلی باب مدینة العلم المنقولة عن أبي الأسود الدؤلي في اُصول العربیّة، طبع سنة 1381 بطهران في 171 صفحة.

2- مقالات حول مباحث الألفاظ من اُصول الفقه، طبع بطهران في 192 صفحة.

3- أساس النحو، رسالة موجزة في النحو.

4- شرح أساس النحو، وهو الکتاب الذي بین یدیک، وهو کتاب استدلالي بدیع، یتضمّن قواعد العربیّة مع بیان مبانیها واُسسها، وقد طبع مع متنه سنة 1385 بطهران في 223 صفحة.

5- الفوائد العلیّة الشاملة للقواعد الکلّیة ممّا یبتني علیه کثیرٌ من معضلات مسائل الفقه والاُصول، ویتضمّ« اثنتین وسبعین فائدة.

6- الفائق أو التوحید الفائق في معرفة الخالق، رسالة وجیزة في إثبات التوحید، طبع أوّلاً في 26 صفحة سنة 1384 بخرّم آباد، ثمّ طبع بطهران بضمیمة کتاب التوحید للشیخ هادي الطهراني في 20 صفحة.

7- چهل پرسش پیرامون موضوعات اعتقادی و پاسخ آنها، طبعت هذه الرسالة أوّلاً بعنوان «فوائد هشتگانه» ثمّ بعنوان «بیست پرسش و پاسخ» ثمّ ثالثاً مشتملاً علی ثلاثین سؤالاً!، ورابعاً مشتملاً علی الأربعین.

8- مصباح الهدایة في إثبات الولایة، وقد طبع عدّة مرّات، وترجم بالفارسیّة من قبل عدّة أشخاص.

ص: 8

9- الحاشیة علی توضیح المسائل لآیة الله العظمی البروجردي، مطبوع.

10- الحاشیة علی وسیلة النجاة لآیة الله العظمی الإصفهاني، مطبوع.

11- الحاشیة علی العروة الوثقی، مطبوع.

12- جامع المسائل، وهو أکبر وأشمل من توضیح المسائل، طبع مرّات.

13- رسالة علمیّة اُخری، مطبوعة.

14- هدایة الحاجّ في مناسک الحجّ، طبعت مرّات.

آثاره المبارکة الخالدة:

1- بناء المساجد الکثیرة في مختلف البلاد في أهواز ویاسوج وکهگیلویه وبویر أحمد وإصبهان.

2- بناء مدرسة علمیّة في یاسوج.

3- بناء مؤسسة دار التبلیغ في أهواز.

4- بناء مستشفی (درمانگاه) في إصبهان.

5- مدرسة دار العلم في أهواز ومکتبته العامرة التي یشرف علیها الیوم حفیده الموفّق السیّد نور الدین بن السیّد عبدالهل مجتهدزادة.

مکانته العلمیّة وأخلافه المرضیّة:

إنّه (رحمة الله) بحقّ کان من فقهاء الطراز الأوّل، ومن المراجع، والکلّ یعترف بذلک. کان متبحّراً في العلوم المتداولة کاللغة والصرف والنحو وعلوم البلاغة والکلام والتفسیر والفقه والاُصول وغیرها.

وإنّ سماحته کاُستاذه السیّد محسن الکوهکمري واُستاذ اُستاذه العلّامة الشیخ

ص: 9

هادي الطهراني کان صاحب بعض المباني العلمیّة الخاصّة، وتألیفاته التي ذکرناها حاکیة عن صدق هذا الادّعاء.

وکان (رحمة الله) بالإضافة إلی مکانته العلمیّة زاهداً ورعاً تقیّاً یعیش حیاة ساذجة سلیمة من التعقید، وکان یتواضع إلی أبعد حدود التواضع. کان في النجف الأشرف إذا دخل المدرسة یأتي إلیه الطلّاب المبتدئون ویعرضون علیه إشکالاتهم، فکان یحلّها لهم مع کامل التواضع وفي بعض الأحیان کان هو یطرح علیهم بعض الأسئلة حتّی یحرّکهم للاُمور العلمیّة وإذا لم یحصلوا علی الجواب یأتي لهم بالجواب مع کمال الملاطفة والمحبّة وبعبارات واضحة ومفهومة. ومع أنّه کراراً منع من الاُنس بالطلّاب المبتدئین لکنّه لم یعبأ بذلک فبقي علی سجیّته في عنایته للطلّاب المبتدئین.

کان لا یتکلّم إلّا بعد طول أناه وتفکّر، کما کان قلیل الکلام، ویفوه في مجالات الرأي والبحث بقول الحقّ، وکان یراعي أدب المناظرة مع مناظره مهما کان.

وفي الجلسات العامّة (أیّام الجمع والأعیاد) والتي یأتي الناس إلیه لزیارته، کان یأخذ کتاباً کمجموعة ورّام بن أبي فراس وغیره من الکتب الأخلاقیّة والحدیث ویقرأ للناس ویترجم لهم والکلّ یسمعون له وینزّه المجلس عن حالة الفغلة والسکوت والغیبة وغیرها.

ولم یشاهد علیه ولم یسمع منه بلسان أو حرکة أو إشارة أنّه اغتاب أحداً، وکان یعظّم ویحترم ویجلّل عملاً ولفظاً، حضوراً وغیاباً، العلماء والمراجع.

کان زهده وتقواه وبساطته وعدم التکلّف والتصنّع (التشریفات) المتعراف آنذاک درساً کبیراً ومؤثّراً في حقّ أولاده نسباً ومعنویاً من أب رحیم واُستاذ جامع.

کان یهتمّ بإقامة الصلاة جماعة في الأوقات الثلاثة حتّی الصبح، وفي السنین

ص: 10

الأخیرة کان یقیم صلاة الصبح في الأهواز في البیت حیث یجتمع عدّة من بعید وقریب للاقتداء به، وبإصبهان یقیم صلاة الصبح في مسجد رضوان.

کان یقضي أوقات فراغه بتلاوة القرآن وذکر النبيّ والأئمة الأطهار بالصلاة والسلام.

یقوم اللیل وقت السحر ویحییه بالعبادة، وکان مقیّداً بالنوافل والمستحبّات.

وعند حضوره مجالس أبي عبدالله (علیه السلام) کان یبکي بکاءً خالصاً وکثیراً.

وفي کلمة واحدة أقول: قد عجنت في وجوده الأخلاق الکریمة والسجایا الحسنة بصورة ذاتیة وطبیعیة من دون ذرّة من التکلّف والتصنّع، وکان ممّن قیل في حقّهم:

یدکّرکم الله رؤیته، في علمکم منطقه، ویرغّبکم في الآخرة عمله.

رحمة الله ورضوانه علیه، ورزقنا الله تعالی هذه الکرائم والأعمال الخالصة الصالحة.

عنایة أعلام الاُمّة به:

وجود هذه الفضائل في السیّد المؤلف رضوان الله تعالی علیه کان یملک قلوب عامّة الناس الذین یعاشرونه ویستفیدون منه، بل قلوب أعلام الاُمّة ومراجعها وعلمائها، ولذا کان (رحمة الله) منهم بموضع تجلیل وتکریم واحترام.

کان بکربلاء المقدّسة مورد تکریم شدید لأکبر مرجع دیني آیة الله العظمی الحاج آغا حسین القمّي الطباطبائي، وبطلب منه أقام في کربلاء لمدّة سنتین وأخذ فیها بالتدریس.

وکان بالنجف الأشرف مورد تجلیل لرئیس الاُمّة والحوزات العلمیّة آیة الله العظمی السیّد أبي الحسن الإصبهاني، وبطلب سماحته أجاب دعوة أهل مدینة

ص: 11

رامهرمز للمرّة الثانیة وتوقّف فیها سنتین.

وکان بإصبهان یعدّ شیخ العلماء، وعلماء هذا البلد وهذه الحوزة المبارکة کلّ یقرّ بفضله وقداسته، وکان یقیم الجماعة ظهراً في مسجد الشیخ لطف الله، وبعدها في مسجد السیّد، وبعدا في أعظم مسجد بإصبهان - مسجد الإمام - وجماعته من أعظم الجماعات وأشرفها.

وفي مشهد الرضا (علیه السلام) عند تشرّف السیّد للزیارة کرّمه وجلّله أحسن تکریم وتجلیل الآیة العظمی السیّد محمّد هادي المیلاني أحد المراجع (قدس سره) .

وفي الحوزة العلمیّة بقم کان مورد عنایة المراجع العظام وبالأخصّ الإمام الخمینی رضوان الله تعالی علیه، وللسیّد (رحمة الله) ید بیضاء في حمایته عن الإمام الخمیني - رحمة الله علیه ورضوانه - ونهضته، قد دوّنتها تأریخ النهضة الإسلامیة، فراجع.(1)

ثلمة لا یسدّها شيء:

مات (قدس سره) في لیلة 18 ذي القعدة الحرام سنة 1395 ق. وترک خلفه سیلاً من الدموع والآهات، ودفن في دار العلم - المدرسة التي أسّسها بنفهس النفیسة - وصار مضجعه مزاراً لطلّاب العلوم الدینیّة خصوصاً وللمؤمنین عموماً.

واُقیم بهذه المناسبة مجالس عظیمة في الأهواز وإصبهان وقم وغیرها من قبل مراجع الدین والعلماء وغیرهم تجلیلاً له وتکریماً لمقام العلم والتقوی.

وقیل في رثائه:

عليٌّ والتقی وضعا لمعنی *** إذا لفظاهما مترادفان

فقدناه ویا خسران حظّ *** وشکوانا لربٍّ مستعان

ص: 12


1- کتاب اسناد انقلاب اسلامی: 28، 107، 126 و 156.

الصفحة الاُولی والثانیة من نسخة الأصل بخطّ المؤلف (قدس سره)

ص: 13

الصفحة الأخیرة من نسخة الأصل بخطّ المؤلف (قدس سره)

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الذي ارتفع کُنهُه عن الأوهام، وانخفض عن معرفة حقیقتِه الأحلامُريال فنصب العالمَ عَلَماً یدلّ علی وجوب وجوده، ورکّبه ترکیب تألیفٍ یُنبِّه علی وحدته وتفرّده، والصلاة والسلام علی أفضل سفرائه وأتمّ کلماته، محمّدٍ وعترته الطاهرین المعصومین، ولعنة الله علی أعدائمه أجمعین.

أمّا بعد، فیقول العبد الراجي عفوَ ربّه الغنيّ، عليٌّ بن محمّد بن عليّ الموسوي البهبهاني:

إنّه لمّا کان أصل النحو فرعاً من فروع شجرة الطور، وقَبَساً من قَبَسات دَوحة النور، مولانا عليّ أمیر المؤمنین - علیه وعلی أبنائه الطاهرین أفضل صلوات المصلّین - تصدّی أهل العلم في کلِّ زمانٍ لتوضیح أساسه واستنباط فروعه، فأکثروا فیه التصنیف والتألیف، وحرّروا فیه کتباً ورسائل.

وحیث لم یتأمّلوا في الأساس حقّ التأمّل، وبَنَوا غالباً من دون أصلٍ وأساس، اختلفت الأقوال وتستّتت آراء الرجال، ولم یأتوا بشيءٍ یُشفي العلیل، ویَروي الغلیل، فکم من مطلبٍ اتّفقوا علیه وخلافُه به أجدر! وکم من مبحثٍ اختلفوا فیه وهو بالاتّفاق أحقّ! رکنوا غالباً إلی ما لا ینبغي الرکون إلیه، وکثیراً ما

ص: 15

اعتمدوا علی ما لا یحقّ الاعتماد علیه.

فأحببت أن اُؤلّف فیه - بحول الله تعالی وقوّته - مختصراً یتمیّز به الشراب من لامع السراب، ومقتبَساً لا یحتجب نوره عن کلّ ناظرٍ من ذوي الألباب.

فألّفت فیه - بحمد الله تعالی - مختصراً شافیاً، وموجزاً کافیاً، حاویاً لاُصول العربیّة، ومتضمِّناً لأساسها، فسمّیته ب-«أساس النحو».

ولکنّه لکثرة اختصاره، ونهایة إیجازه، وعدم استئناس أذهان الناظرین به، صَعُبَ علیهم درکُ مقاصده والوصولُ إلی مبانیه.

فشرحته شرحاً ینحلّ به غوامضُهُ وینکشف به أستارُه، وها أنا الشارع فیه.

ص: 16

المقدّمات التي یستحقّ تقدیمها

اشارة

[المقدّمات التي یستحقّ تقدیمها](1)

أحوال الکَلِم

[أحوال الکَلِم](2)

فاعلم: أنّ للکَلِم أحوالاً مترتّبة یُبحَث عن کلٍّ منها في فنّ:

فجلمةٌ منها باحثةٌ عن أحوال المفردات، کاللغة، والصرف، والاشتقاق. فإنّ الأوّل باحثٌ عنها من حیث جواهرها وموادّها. والثاني عنها من حیث صورها وهیئاتها وما یلحقها: من الإعلال والإدغام والحذف وهکذا. والثالث عنها من حیث انتساب بعضها ببعض في الأصالة والفرعیّة.

وجملةٌ منها باحثةٌ عن أحوال المرکّبات، کالنحو، والمعاني، والبیان، والبدیع. فإنّ الأوّل باحثٌ عنها من حیث هیئاتها الترکیبیّة وتأدیتها لمعانیها الأصلیّة وما یلحقها من الإعراب. والثاني عنها باعتبار إفادتها وتأدیتها لمعانٍ مغایرةٍ لأصل المعنی. والثالث باعتبار تلک الإفادة في مراتب الوضوح. والرابع من حیث وزنها.

ص: 17


1- العنوان منّا.
2- العنوان منّا.

تعریف النحو وموضوعه وفائدته

[تعریف النحو وموضوعه وفائدته](1)

ف-﴿ النحو اُصولٌ ضابطةٌ لأحوال الکَلِم من حیث الترکیب والإعراب﴾.

وما اشتهر: من أخذ العلم والبناء في الحدّ وإضافة الأحوال إلی أواخر الکَلِم وإسقاط الترکیب عنه، في غیر محلّه.

أمّا الأوّل، فلأنّ النحو - کسائر الفنون - من مقولة المدرَکات لا الإذراک؛ إذ من الظاهر أنّ المبحوث عنه فیه أحوال الکَلِم لا العلم بها، ومن هنا جُعل موضوعه الکلمة والکلام، وصحّ قولک: «علمت النحوَ»، فلو کان من مقولة الإدراک لزم أن یکونمووضعه العالِم، وأن یبحث عن العلم برفع الفاعل - مثلاً - وأن یصحّ قولک: «علمت النحو» إذا علمت بعلم زیدٍ بمسائله، وأن تکون الفنون متِّحدة الحقیقة والموضوع، مختلفةً في المتعلَّق وهي المسائل؛ إذ حقیقة الفنون حینئذٍ هي التصدیقات والإدراکات وموضوعها القوّة الدرّاکة، فیلزم رجوع جمیع الفنون إلی فنٍّ واحد؛ ضرورة أنّ الاختلاف في المتعلِّق لا یوجب الاختلاف في المتعلِّق.

والذي ألقاهم في هذا الوهم إطلاقُ العلم علیه وعلی سائر الفنون غفلةً عن

ص: 18


1- العنوان منّا.

أنّه من باب التجّوز؛ فإنّ الفنون من جهة إعدادها للعمل وتمحّضها فیه بحیث لو قطع النظر عنه کأنّها کانت منسلخةً عن عنوان الفنّیة تتّحد معه ویصحّ حمله علیها، فإنّ الحمل بعد ثبوت الاتّحاد بین طرفیه تحقیقاً فکذا یصحّ بعد ثبوته تنزیلاً، ولا یمکنک أخذ العلم في التعریف من هذا الباب لمکان الباء المتعلّق به.

وبعض(1) من تنبّه لما بیّنّاه - من کون الفنون هي المسائل - تَعَسَّف في تصحیح التعرایف المأخوذ فیها العلم، بجعل أسامي الفنون مصطلحةً في أمرین: المسائل، والعلم بها، وجَعَل التعاریف باعتبار الاصطلاح الثاني، ولم یتنبّه أنّ المبحوث عنه هي المسائل، والتعریف لا بدّ أن یکون للمبحوث عنه. مع أنّ جعل الاصطلاح لیس إلّا لغرض البحث، ومع عدم البحث عنه لا مجال لجعل أسامي الفنون مصطلحةً فیه.

وأمّا الثاني، فلأنّه - کبناء الکلمة وصیتها - من الحالات الثابتة لنفس الکلمة مع قطع النظر عن الترکیب، والنحو إنّما یُبحَث فیه عن الحالات اللاحقة لها من طرف الترکیب، إذ لو عمّ البحث فیه لمطلق أحوالها لزم أن یکون البحث عن أبنیة الکلمة راجعاً إلی النحو أیضاً. والحاصل: أنّه لو لم یکن الترتّب(2) ملحوظاً لزم اختلاط الصرف والنحو ورجوعهما إلی فنٍّ واحد.

لا أقول: إنّ البحث عن البناء المقابل للإعراب راجعٌ إلی الصرف - کما توهّمه بعضهم - لعدم دخله في بناء الکلمة ووزنها کما هو ظاهر، بل أقول: إنّه - کأبنیة الکلمة وأوزانها - خارجٌ عن النحو، وإنّما یبحث عنه فیه مقدّمةً لمقاصده من جهة تمییز الموارد التي یظهر فیها الإعرابُ ممّا لم یظهر فیها.

ص: 19


1- هو السیّد الشریف في حاشیته علی شرح الشمسیّة (منه).
2- کذا، والمناسب بدل «الترتّب»: الترکیب.

ثمّ إنّ المبحوث عنه في النحو أنواع الإعراب والبناء، وأنواع البناء لا تندرج تحت أصلٍ إلّا في الأفعال والحروف، وأمّا في الأسماء فمقصورةٌ علی السماع، فذکر الأسماء المبنیّة لا تکون إلّا استطراداً بملاحظة ما بیّنّاه.

وأمّا الثالث: فلأنّ الإعراب والبناء من صفات الکلم لا أواخره؛ ولذا قُسّم الاسم إلی المعرب والمبني وجُعل موضوع النحو الکلمة لا أواخرها، ویرشدک إلیه أیضاً: أنّ الإعراب ناشٍ من کیفیّة التراکیب: من الفاعلیّة والمفعولیّة والإضافة وهکذا، وهي من صفات الکلمة لا أواخرها، فکذلک مقتضاها لاستحالة تخلّف المقتضی عن مقتضیه، والبناء مقابلٌ للإعراب، ومن المعلوم أنّ المتقابلین یتواردان علی محلٍّ واحد، ولا یجوز اختلاف محلّهما، فهما من صفات نفس الکلمة وحالاتها - کالتعریف والتنکیر وغیرهما من الحالات - غایة الأمر أنّ ورودهما علی آخر الکلمة کالتنوین.

وأمّا الرابع، فلأنّه کما یُبحَث فیه عن قواعد الإعراب، مثل: الفاعلُ مرفوعٌ، والمفعولُ منصوبٌ، والمضافُ إلیه مجرورٌ، فکذلک یُبحَث فیه عن قواعد الترکیب، مثل: أنّ المضاف مقدَّم علی المضاف إلیه، ولا یکون معرَّفاً ولا منوَّناً، ولا یجوز الفصل بینهما بأجنبيٍّ، وهکذا، بل البحث فیه عن قواعد الترکیب أکثر، کما یظهر للمتأمّل. ولا دلیل علی خروج قواعد الترکیب عن النحو حتّی یقال: إنّه یبحث عنها فیه استطراداً.

ثمّ إنّي وصفت الاُصول بالضابطة تنبیهاً علی أنّها - کالقاعدة والمیزان - مفهومٌ مترتّبٌ علی الأصل، فإنّ الأمر الکلّي المنطبق علی جزئیّاته أصلٌ باعتبار شباهته بأصل النبات وتنزیِلِه منزلته، فإنّ الأصل یختصّ بأصل النبات کما أنّ الفروع یختصّ بغُصنه وفنّه، فلمّا شابهت الجزئیّات أغصانَ الشجر وأفنانه، والأمرُ

ص: 20

الکلّي المنطبق علیها أصلُه وأساسُه، سمّیت الجزئیّات فروعاً والکلّي أصلاً.

وأمّا إطلاق الضابطة والقاعدة علیه فهو باعتبار ضبطه للجزئیّات المندرجة تحته وقعودِه وتمهّدِه لاستکشافها منه، کما أنّ إطلاق المیزان علیه باعتبار أنّ المجزئیّات توزن به، فهي صفاتٌ للأصل لا مترادفةٌ معه، کما قد یتوهّم.

﴿و﴾ حیث ظهر لک حدّه فقد ظهر لک أمران:

الأوّل: أنّ ﴿فائدته صون اللسان عن الخطأ في المقال﴾ إذا روعي.

﴿و﴾ الثاني: أنّ ﴿موضوعه المرکّب مع غیره کلمةً أو کلاماً أو جملةً﴾ لعموم الأحوال المبحوث عنها لکلٍّ منها، إذ یبحث فیه عن تقدیم المتبوع علی تابعه - مثلاً - کلمةً أو کلاماً أو جملةً، فظهر لک فساد ما قیل: إنّ موضوعه الکلمة أو الکلام أو کلاهما.

ص: 21

تعریف الکلمة

[تعریف الکلمة](1)

وحیث ظهر لک أنّ موضوعه ما یعمّ الثلاثة ﴿ف-﴾ اعرف أنّ ﴿الکلمة لفظٌ مفردٌ﴾.

واللفظ في اللغة: الرمي من الباطن، یقال: أکلتُ الثمرةَ ولفظتُ النواةَ، ولفظه البحرُ، ولفظت الأرضُ المیّتَ، إذا قذفته في الخارج. وینصرف في العرف العامّ إلی رميٍ خاص، وهو رمي الصوت المشتمل علی حرف الهجاء. وحیث إنّ الملفوظ فیه - وهو الصوت - لا وجود له قبل وجود اللفظ ویوجد بوجوده بل لا وجود له في الخارج سواه، انطبق علیه اللفظ واتّحد هو معه في التعبیر کما اتّحد معه في الوجود، فتوهُّم التجوّز فیه کتوهُّم النقل فیه في عرف النحاة في غیر محلّه.

﴿و﴾ المراد بالمفرد في المقام المرکّب المصطلح الشائع في الألسنة، وهو المرکّب من لفظین، ف-﴿هو ما لم یترکّب من لفظین﴾ سواءً رکّب مع لفظٍ آخر أم لا.

ص: 22


1- العنوان منّا.

وممّا بیّنّاه ظهر اندفاع ما یُتوهّم:(1) من أنّ المرکّب حقیقةً ما رکّب مع غیره وإطلاقُهُ علی طرفي الترکیب کإطلاق المفرد علی أحد طرفیه تجوّزٌ وتسمیةٌ للکلّ باسم جزئه في الأوّل، وبالعکس في الثاني.

لأنّ المرکّب إن عُدّي ب-«مع» فهو أحد طرفیه، وإن عُدّي ب-«من» فهو طرفاه، ولمّا اشتهر إطلاقه علی الثاني في عرفهم اکتفي عن ذکر صلته باشتهارها، واُطلق علیه مطلقاً، واحتاج إطلاقه علی الأوّل إلی ذکر صلته، فلا یصحّ إطلاقه علیه مطلقاً، فضلاً عن أن یکون حقیقةً فیه فقط. ومن هذا القبیل المجموع حیث ینصرف إلی المجموع من الأجزاء وإن صحّ إطلاقه علی المجموع مع غیره. ومن هذا الباب أیضاً الزوج فیما تماثل طرفاه کالأعداد والنعال مصراعي الباب وهکذا، وأمّا فیما اختلف طرفاه بالذکورة والاُنوثة فبالعکس، ولعلّ السرّ فیه أنّ الازدواج المقصود في الثاني معيٌّ بخلاف الأوّل فإنّه ترکیبيٌّ اتّحادي، فتفطّن.

هذا، وحیث إنّ آلترکیب لا یثبت غالباً إلّا في المستعمل ینصرف المرکّب إلیه، وکذا المفرد المقابل له، فیخرج به المهمل والمرکّب معاً، فانطبق الحدّ علی المحدود جمعاً ومنعاً.

ثمّ إنّي فسّرت المفرد بمفهومه الأصليّ لا بما تُوُهّم أنّه خاصّةٌ له، وهو: ما لا یدلّ جزؤُه علی جزء معناه؛ لفساده، إذ یدخل فیه حینئذٍ نحوُ: عبد الله علماً، مع أنّه مرکّبٌ من لفظین ومعربٌ بإعرابین، ویخرج به کلماتٌ یدلّ جزؤها علی جزء معانیها، نحو: بصريٌّ وقائمةٌ ورجلٌ والرجل ورجلان والأفعال المزید فیها.

وما یُتوهّم: من أنّ کلّاً منها کلمتان تحقیقاً، عُدّتا کلمةً واحدةً لشدّة

ص: 23


1- المتوهّم میرزا أبوطالب في حاشیته علی السیوطي (منه).

الامتزاج، فاسدٌ؛ لأنّ یاء النسبة وتاء التأنیث واللام والتنوین وأداتی التثنة والجمع ولواحق الأفعال کیفیّاتٌ وهیئاتٌ کالحرکات والإعراب، فإنّ الکیفیّة والهیئة کما قد تحصل بالحرکات فکذلک قد تحصل بالحروف؛ ألا تری أنّ هیئة المضارع واسم الفاعل إنّما انتزعت من زیادة الحرف علی المادّة.

وما حدّدنا به الکلمة أسدُّ الحدود وأخصرُها.

وقد عرّفها بعضهم ب-«قول مفرد» زاعماً أنّ القول أقرب إلی الکلمة من اللفظ من حیث اختصاصه بالمستعمل، غفلاةً عن أنّه أبعد منه من حیث اختصاصه بالجملة دو انصرافه إلیها، فقد اشتهر أنّ محکيّ القول لا یکون إلّا جملة.

وقد عرّفها بعضُهم ب-«لفظٌ مستقلٌّ دالٌّ بالوضع تحقیقاً أو تقدیراً أو منويٌّ معه کذلک».

وفیه أوّلاً: أنّ اللفظ ینصرف إلی المستقلّ، فإنّ همزة «أفعل» وألف «ضارب» وأمثالهما لا تُحتسب ألفاظاً بل أجزاءً، فلا حاجة إلی تقییده به لإخراجها.

وثانیاً: أنّه یخرج به التنوینُ ویاءُ النسبة وما شاکلهما مع أنّها عندهم کلمات، إلّا أن یلتزم فیها بما اخترناه.

وثالثاً: أنّ الدلالة تختصّ بالمرکّبات الإسنادیّة وما بمنزلتها؛ إذ هي کون الشيء بحیث یلزم من العلم به العلمُ بشيءٍ آخر، والمرادُ من العلم به في الموردین الکشفُ التصدیقيّ الذي لا یتعلّق إلّا بالإسناد الذي لا یتحقّق إلّا بالإرادة؛ ولذا ذهب المحقّقون إلی أنّ الدلالة تابعةٌ للإرادة، فالمفرداتُ العاریة عن الإسناد عاریةٌ عن الدلالة، فلا ینعکس الحدّ.

ورابعاً: أنّ الحدّ یعمّ المرکّبات، ولا یوجب تقییدُ الدالّ بالوضع خروجَها منه

ص: 24

ولو قلنا بدلالة هیئاتها الترکیبیّة علی کیفیّات النسب بالمناسبة الذاتیّة کما هو التحقیق؛ إذ یصدق علیها أنّها دالّةٌ باولع باعتبار أنّ دلالتها علی مفاهیمها المرکّبة متسبّبةٌ عن وضع مفرداتها، فلا یطّرد الحدّ حینئذٍ.

وخامساً: أنّ تعمیم اللفظ إلی التحقیقيّ والتقدیريّ فاسدٌ، کما سیظهر لک إن شاء الله تعالی.

وسادساً: أنّ تعمیم الکلمة إلی اللفظ والمنويّ معه فاسدٌ أیضاً، إذ من الظاهر أنّ الکلمة نوعٌ من اللفظ.

وقد عرّفها بعضُهم ب-«لفظٌ وُضع لمعنیً مفرد».

وفیه أیضاً أوّلاً: أنّه یخرج منه المشتقّات بتوصیف اللفظ بالوضع، لاستقلال کلٍِّ من مادّتها وهیئتها بالوضع، ولم یکن للمجموع منهما وضعٌ آخر، ولا وضع الجرئین وضعاً للمجموع وإلّا لدار؛ إذ الترکیب والجمع بعد وضع الجزئین، فلو ورد وضعهما علی المرکّب لزم تأخّره عن الترکیب الذي کان مؤخّراً عنه بمرتبةٍ.

وثانیاً: أنّ ذکر الإفراد بعد ذکر الوضع مستدرکٌ؛ لما ظهر لک من ترتّب الترکیب علی الوضع.

وثالثاً: أنّ وضع الاسم مرآتيٌّ فإنّه بإزاء شيءٍ ووضعَ الحرف آليٌّ لأنّه لإحداث معنی في الغیر، فربط الوضع إلی المعنین مختلفٌ، ولا یتکفّل «اللام» في إطلاقٍ واحد ربطین مختلفین، فلا یعمّ الحدّ الاسمَ والحرفَ معاً.

ورابعاً: أنّ التحدید إنّما یحصّ بما یتقوّم به المحدود أو بخاصّته التي لا تنفکّ عنه عقلاً، لا بما ثبت له في الخارج اتّفاقاً؛ ولذا اشتهر أنّ التعریف للمفهوم بالمفهوم، والوضعُ لیس مقوِّماً للکلمة ولا خاصّةً کذلک له؛ إذ لا یقدح في کون الکلمة کلمةً

ص: 25

مناسبتُها لمعناها ذاتاً کما اختیاره الفاضل الرضيّ في أسماء الأصوات، واختاره بعضُ المحقّقین في مطلق الألفاظ اللغویّة، فما یتقوّم به الکلمة في مصطلحهم إنّما هو الاستعمال المقابل للإهمال، سواء کان بالوضع أو بالمناسبة الذاتیّة.

وخامساً: أنّه لا یشمل المنويّ مع اللفظ مع دخوله في المحدود عندهم، والتکلّفُ في إدخاله في الحدّ بالتزام نقل اللفظ في عرف النحاة إلی ما یعمّ التحقیقيّ والحکميّ مع فساده في نفسه غیر مجد؛ إذ لو عمّه اللفظُ یُخرجه التوصیف بالوضع، إذ من الظاهر أنّ المنويّ معه هو المعنی، وإلّا لاُطلق علیه اللفظ تحقیقاً ولم یُقابَل به في الحدّ السابق. والتعبیر عنه ب-«هو وأنت وأنا» استعارةٌ کما صرّح به المتکلّف، ومن المعلوم أنّ المنی المنويّ معه لا یکون موضوعاً لمعنی آخر، فلا یندرج في الموضوع وإن قلنا باندارجه في اللفظ.

وسادساً: أنّ المعنی ما یتعلّق به القصد فلا یشمل العین لعدم تعلّق القصد به؛ ولذا قوبل بالمعنی وقُسّم الاسم باعتبارهما إلی قسمین: اسم المعنی واسم العین.

وسابعاً: أنّ المعنی علی فرض شموله للمعنی والعین بجعله مقابلاً للّفظ یکون مستدرکاً بعد ذکر الوضع؛ لأنّه لا بدّ له من الطرفین، فذکره یُغني عن ذکر طرفه العامّ.

وقد تکلّف بعضُهم(1) لجعل المعنی قیداً مخرجاً، فقال - بعد تعریف الوضع بتخصیص شيءٍ بشيءٍ بحیث متی اُطلق أو اُحسّ الشيء الأوّل فهم منه الشيء الثاني -: ولمّا کان المعنی مأخوذاً في الوضع فذکر المعنی بعده مبنيٌّ علی تجریده عنه.

ص: 26


1- المراد به شارح الجامي (منه).

قال بعض الناظرین في کلامه:(1) وکما أنب المعنی مأخوذٌ في الوضع فکذلک الدالّ وهو الشيء الأوّل، فلا بدّ من نجرید الوضع عنه أیضاً لیصحّ إسناد الوضع إلی ضمیر اللفظ، ولم یتصدّ لبیانه وضوحاً وإنّما تصدّی لبیان التجرید عن المعنی تنبیهاً علی أمرٍ بدیعٍ تفرّد به بعد إجماع الناظرین علی خلافه، وهو جعل المعنی قیداً مخرِجاً، انتهی.

وفیه، أوّلاً: أنّ کون المعنی قیداً توضیحیّاً لا یبتني علی أخذه في مفهوم الوضع حتّی یصیر بخلّوه عنه قیداً مخرجاً، بل یکفي فیه استلزامه له واستتباعه إیّاه.

وثانیاً: أنّ توهّم دخول اللفظ والمعنی في الوضع وتجریده عنهما من الخرافات؛ إذ لو کان کذلک لزم أن یکون إحداث الواضع عبارةً عن إیجاد التخصیص وطرفیه، وصحّةُ إطلاقه علی المجموع، وإفادتُهُ لمعانٍ ستّة: ثلاثةٌ إسمیّة وهي: التخصیص واللفظ والمعنی، وثلاثةٌ حرفیّة وهي: نسبة التخصیص إلی الفاعل قیاماً وإلی اللفظ وقوعاً وإلی المعنی کذلک بوضعٍ واحد من دون أن ترجع إلی أمرٍ واحد، وعدمُ کونه من الاُمور النسبیّة القائمة بطرفیها وعدمُ صحّة الاشتقاق منه لعدم دلالته حینئذٍ علی معنیً حدثي مع وقوعه منه بجمیع تصاریفه، وعدمُ صحّة إطلاق الوضع والموضوع والموضوع له علی التخصیص وطرفیه حقیقةً - کما هو ظاهر - ومجازاً لعدم العلاقة، وعلاقةُ الکلّ والجزء علی فرض اعتباره یختصّ بما إذا کان للکلّ ترکّبٌ حقیقي، وفسادُ اللوازم بیّن، فهذا غلطٌ عجیب لا تکاد تحصی مفاسده، ولم یستعمله أحدٌ في هذا المعنی حتّی

ص: 27


1- المراد به عصام الدین في حاشیته علی شرح الجامي (منه).

غلطاً. کیف! وعبارة الحدّ التي استظهره منها صریحةٌ في خلافه؛ لأنّ المحمول علی الوضع هو التخصیص المضاف إلی طرفیه لا التخصیص وطرفاه، فهو منادٍ بأعلی صوته بخروج الطرفین منه.

فإن قلت: لعلّ الفرض أخذ النسبة إلیهما في مفهومه لا نفسهما، فیطابق الحدّ ویندفع عنه ما أوردت.

قلت: أوّلاً: إنّ أخذ الربط في مفهومه لا یوجب تجریده عن طرفه إذا ذکر معه کما هو ظاهر. ولو قیل: الغرض من التجرید أیضاً تجریده عن النسبة لا الطرف، لأقول: إنّ ذکر الطرف بعده لا یوجب تجریده عن النسبة إلیه کما هو ظاهرٌ أیضاً، وإلّا لزم تجرید الفعل عن إسناد الحدث إلی الفاعل أو المفعول المدلول بهیئته إذا ذکر الفاعل أو المفعول معه.

وثانیاً: إنّ عبارة الحدّ ناطقةٌ بخلافه أیضاً؛ فإنّ المحمول هو التخصیص المضاف، لا التخصیص وإضافته، والفرق بینهما ظاهر، وتوهّم أنّ الأوّل یؤول إلی الثاني في غیر محلّه، وإلّا لزم التکرّر في الإضافة.

وثالثاً: إنّ أخذ النسبتین فیه غیر معقول؛ لأنّ الدالّ علیهما إمّا هیئة الوضع أو مادّته أو المجموع.

والهیئة الواحدة لا تتکفّل أکثر من نسبةٍ واحدة في إطلاقٍ واحد، وإلّا لزم محذور استعمال المشترک في أکثر من معنی واحد، مع أنّ الأمر في المقام أظهر لأنّ الهیئة کالحرف آلةٌ لامرأة، وعدمُ حدوث أکثر من حادثٍ واحد بآلةٍ واحدة في إعمالٍ واحد ظاهرٌ بیّن. وأیضاً نسبة المادّة إلی المفعول مترتّبةٌ علی نسبتها إلی الفاعل، فمع تکلّفها النسبةَ المتقدّمة حیث فسّره بالتخصیص لا یعقل تکفّلها النسبةَ المتأخّرة وإن جوّزنا إیجادها أکثر من نسبةٍ واحدة. وأیضاً الهیئة جهةٌ لاستعمال

ص: 28

المادّة فلو أفادت النسبَ الثلاثة لزم استعمالها علی وجوهٍ مختلفة في استعمالٍ واحد، وفساده ظاهرٌ غنيٌّ عن البیان. وأیضاً هیئته لا تجتمع مع هیئة الفعل لاستحالة اجتماع الهیئتین، فلا ینفعه دلالتها علیها؛ إلّا أن یُدّعی دلالة سائر الهیئات علیها أیضاً. وفساده فی غایة الوضوح.

وأمّا المادّة فلا یعقل دلالتها علیها؛ لأنّها معانٍ حرفیّة، وهي لا تثبت إلّا بالحروف أو ما بمنزلتها، وهي الهیئات الاشتقاقیّة أو الترکیبیّة.

ومنه یظهر عدم جواز دلالة المجموع علیها.

ص: 29

تعریف الکلام

[تعریف الکلام](1)

﴿و﴾ لمّا عرفت حدّ الکلمة، فاعلم أنّ ﴿الکلام لفظٌ مفید﴾.

وقد مرّ تفسیر اللفظ، وأنّه منطبِقٌ علی الصوت الملفوظ تحقیقاً - کانطباق النطق علی المنطوق، والقول علی المقول، والخلق علی المخلوق، وهکذا ممّا یتّحد فیه الفعل مع المفعول في الخارج - لا أنّه یطلق علیه تجوّزاً، أو اصطلاحاً من النحاة کما تُوهّم. کیف! وهو أمرٌ عرفيٌّ یعرفه جمیعُ أهل العرف.

﴿و﴾ أمّا المفید ف-﴿هو﴾ ما یتّصف بالإفادة، ولاتّصاف الذات بالمبدأ مرتبتان: التلبّس الفعلي، والاقتضاء ذاتاً أو جعلاً علی وجهٍ یعدّ المبدأ صفةً من صفاتها بحیث لو جامع الشرط ولم یکن المحلّ مشغولاً بالمثل وفُقد المانع والمزاحم لأثّر ووُجد المبدأ فعلاً، کما یقال: هذا الدواء نافعٌ ولو لم ینفع، وهذا الدواء ضارٌّ ولو لم یضرّ، والسنا مسهلٌ ولو لم یسهل، والسمّ قاتلٌ ولو لم یقتل، والشمس مضیئةٌ ولو لم تضيء، والشجرة مثمرةٌ ولو لم تثمر، وهکذا من الأمثلة.

ولمّا کان المقام من قبیل الثاني - من حیث أنّ اللفظ إذا اشتمل علی الإسناد

ص: 30


1- العنوان منّا.

التامّ أو بمنزلته خرج عن حدّ النقص إلی الکمال ووصل مرتبة اقتضاء الإفادة، بحیث لو جامع الشرط ولم یمنعه مانعٌ ولم یکن المحلّ مشغولاً بالمثل لأفاد وأعلَمَ فعلاً - فسّرتُ المفید ب-﴿ما یقتضي العلم بمراد المتکلّم﴾.

ثمّ إنّي فسّرت الفائدة بالعلم؛ لأنّ الأثر المقصود من اللفظ لیس إلّا التصدیق والعلم، والفائدة في العرف إنّما هو الأثر المقصود من الشيء، ولذا انحصرت فائدةُ العلم في العمل، وفائدةُ السحاب في المطر، وهکذا.

بیانه: أنّ المترتّب علی اللفظ أمران مترتّبان: إحضار المفهوم في الذهن، والعلمُ بمراد المتکلّم، والأوّل لیس مقصوداً إلّا توطئّةً وتبعاً للثاني؛ ولذا قالوا: الوضع للترکیب، والترکیب للدلالة، فالمقصود بالأصالة إنّما هو العلم والدلالة، ویترتّب الأوّل علی مجرّد الوضع ویتعلّق بنفس المفهوم من دون مدخلیّةٍ للإرادة فیه، ویترتّب الثاني علی صدوره من المتکلّم العارف بالوضع في مقام الإفادة والاستفادة، فیتعلّق ابتداءً بمراد المتکلّم لا بنفس المفهوم، ضرورة أنّ العلم بشيءٍ لا یوجب العلم بشيءٍ آخر إلّا بعد ملازمتهما في الوجود، إمّا بکون أحدهما علّةً للآخر أو باشتراکهما في العلّة، والکلامُ بالنسبة إلی الخارج لا یکون علّةً ولا معلولاً ولا مشترکاً معه في العلّة، وإنّما یکون معلولاً عن مراد المتکلّم إذا صدر منه في مقام الإفادة والاستفادة، ضرورةَ أنّ الداعي علی صدور الکلام من المتکلّم العارف بالوضع في مقام الإفادة والاستفادة لیس إلّا إرادته مفهومَه، فإن کان الکلام خبراً ناظراً إلی الخارج یدلّ علیه ثانیاً بتوسّط دلالته علی المراد بعد ثبوت ملازمته له، إمّا بعصمة المتکلّم مطلقاً أو صدقه إذا کان بدیهیّاً لا یتطرّق فیه الاشتباه، وإن کان الخارج نظریّاً ولم یکن المتکلّم معصوماً أو بدیهیّاً ولم یکن صادقاً، أو کان الکلام إنشاءً غیر ناظرٍ إلی الخارج فلا دلالة له إلّا علی مراد المتکلّم، فالمطّرد في جمیع

ص: 31

الموارد هو الدلالة علیه لا علی الخارج، فلذا فسّرنا المفید بما یقتضي العلم بمراد المتکلّم.

ثمّ اعلم أنّ المفید أعمّ من الکلام لثبوته في الدوال الأربع أیضاً، فما یتقوّم به هو إنّما هو اقتضاء العلم بمراد المُلقي متکلّماً کان أم لا، فالتفسیر بما یقتضي العلم بمراد المتکلّم باعتبار أنّ الکلام في المفید الذي هو من صنف اللفظ، وحیث عزفت أنّ الإفادة في اللفظ وما بمنزلته إنّما هو العلم التصدیقي المقصود منه دون مجرّد إحضار المفهوم وإخطاره، وأنّ اقتضاء العلم فرع ثبوت الملازمة في الوجود بین الطرفین وأنّه لا یکون بین الکلام والخارج ملازمةٌ أصلاً، وأنّ الملازمة إنّما هي بین الکلام ومراد المتکلّم، ﴿ف-﴾ قد ظهر لک أنّه ﴿یتقوّم ب-﴾ تحقّق ﴿القصد الذاتي﴾ للمتکلّم ﴿دون التقییدي﴾ إذ مع عدم تحقّق القصد له لا یکون في البین مرادٌ حتّی تتحقّق الملازمة، ومع عدم الذاتيّ منه لا یکون علّةً تامّةً باعثةً علی صدور الکلام منه بل جزء للعلّة.

فإن قلت: اللفظ إذا اشتمل علی الإسناد التامّ مقتضٍ للعلم وموجبٌ له، غایة الأمر أنّه مع عدم قصد المتکلّم لا یترتّب علیه العلم من جهة فقد الشرط لا المقتضي.

قلت: اقتضاء الشيء للعلم بشيءٍ آخر یدور مدار الملازمة في الوجود الدائرة مدار العلیّة، ومن المعلوم أنّ الملازمة والعلیّة منتفیةٌ مع عدم القصد، بل لا یتحقّق الإسناد بین الکلمات إلّا بالقصد، ضرورة تفرّع الإسناد علی استعمال اللفظ، ومن المعلوم عدم تحقّقه إلّا بالقصد، فإنّه یقع علی وجوهٍ مختلفة وأنحاء متشتّته، وما لم یتعیّن في أحد الوجوه لا یعقل أن یتحقّق، ضرورة أنّ الشيء ما لم یتشخّص لم یوجد، کما أنّه ما لم یوجد لم یتشخّص، وتعیّنُه في أحد الوجوه

ص: 32

- من الفاعلیّة والمفعولیّة والحالیّة وهکذا من الخصوصیّات - إنّما یکون بالقصد، فالصادر من النائم والساهي ونحوهما کلماتٌ مفرَدةٌ معدودةٌ غیر مرتبطة وإن کانت في صورة الترکیب والتألیف.

فما تُوهّم: من تحقّقه بالإعراب أو ما بمنزلته ولو مع عدم القصد في غایة الفساد، ضرورة أنّ الإعراب علامة الترکیب عند القصد لا مطلقاً.

فاتّضح - غایة الاتّضاح - أنّ الإفادة تتقوّم بالقصد الذاتي، فما توهّمه بعضهم: من عدم اعتبار أصل القصد أو الذاتي منه واضح البطلان.

کما اتّضح أنّ اعتبار القصد أو الذاتي منه بعد ذکر المفید مستغنیً عنه.

وإن شئت زیادة التوضیح، فاعلم أنّ الإفادة واقتضاء العلم لا تتحقّق في المرکّبات التي لم تُقصد النسبة فیها لذاتها؛ لأنّ عدم قصدها لذاتها یوجب صیرورة طرفیها في حکم المفرد، فکما أنّه من حیث هو یأبی عن اقتضاء العلم فکذلک ما في حکمه وهو المرکّب الناقص.

توضیحه - غایة الإیضاح -: أنّ العلم التصدیقي لا یتعلّق إلّا بالنسبة، ولذا لا یجوز الاقتصار فیه علی مفعولٍ واحد، وهي إن قصدت لذاتها ولم یُجعل أحد طرفیها قیداً للآخر ولا طرفاها قیداً لأمرٍ آخر تکون تامّة في عالم المفهوم ومورداً للتصدیق والشکّ، والعبارةٌ المطابقة لهذا المفهوم المرکّب تامّةٌ في عالم اللفظ مقتضیةٌ للعلم به، وإن لم تقصد لذاتها وجعل أحد طرفیها قیداً للآخر أو طرفاها قیداً لأمرٍ آخر فهي في حکم العدم لرجوع طرفیها إلی الطرف الواحد حینئذٍ، فمجموع طرفیها کالمفهوم الإفراديّ المقیّد لا یتعلّق به التصدیق، والعبارة المُنبئةُ عنه ناقصةٌ لا تقتضي العلم أصلاً لرجوع طرفیها إلی الطرف الواحد وهو المفرد المقیّد، فتمام النسبة یدور مدار قصدها لذاتها المقتضي للعلم، کما أنّ نقصها یدور مدا رقصدها تبعاً وقیداً بجعل

ص: 33

أحد طرفیها قیداً للآخر أو طرفیها قیداً لأمرٍ آخر الآبي عن اقتضاء العلم، فالنسبة تکون في الأصل تامّةً لأنّ قصد الشيء لذاته متقدّمٌ علی قصده لغیره، بل مرجعه إلی عدم الثاني، فإنّ قصده لغیره عبارةٌ عن قصد الشيء في نفسه مع ضمّ قصدٍ زائدٍ إلیه، فمرجع القصد الذاتي إلی عدم ضمّ القصد الزائد إلیه، فنقصانها عرضٌِّ ناشٍ من القصد التبعي التقییدي، ومن هنا تُشعر النسبة الناقصة بالتامّة دون العکس، واشتهر: أنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبارٌ والأخبار بعد العلم بها أوصاف.

ولا فرق فیما بیّناه - من عدم مجامعهة الإفادة واقتضاء العلم مع عدم قصد النسبة لذاتها - بین أن یکون صوغ الترکیب فیه علی النقص أصلاً بأن یکون أحد طرفیه قیداً للآخر کالترکیب الإضافي والتوصیفي، وأن یکون صوغه علی التمام أصلاً بأن لا یکون أحد طرفیه قیداً للآخر وحصل له النقص بالعرض بواسطة صیرورة طرفیه قیداً لأمرٍ آخر، کالجملة الوصفیّة والمضاف إلیها وجملة الشرط والصلة، لأنّ المناط في عدم الإفادة نفس النقص الملازم لعدم القصد لذاته.

فما اعتبره بعضهم: من القصد لذاته بعد ذکر المفید لإخراج الجمل الناقصة - کالجمل المذکورة وما شابهها - لا وجه له، لما عرفت من خروجها عن الحدّ بالمفید، ولو عمّها لعمّ الناقص بالذات، ک-«غلام زید» و «زید الضارب»، وفسادُه ظاهرٌ بیِّن.

وما وجّهه بعضهم: من أنّ المفید فاعل الإفادة لا ما یتوقّف علیه الإفادة - من الفاعل والشرط وهکذا - وهو موجودٌ في الجمل المذکورة في غیر محلّه، لما ظهر لک من ترتّب اقتضاء الإفادة علی تمامیّة النسبة فما لم تتمّ النسبة فعلاً لا تقتضي الإفادة وإن تمّت اقتضاءً، فإنّ النقص الفعلي یمنع عن اقتضاء العلم ولو کان عرضیّاً، فما أفاده سدیدٌ في حدّ نفسه، لکنّه لا یفیده.

ص: 34

وقد ظهر بما بیّناه - من رجوع القصد لذاته إلی تمامیّة النسبة وعدم نقصها - أنّه لا ینافي کون الکلام توطئةً لکلام آخر.

وحیث قد خفي ما حقّقناه - من معنی القصد الذاتي والغیري - علی جماعةٍ، واختلط علیهم المقصود، وزعموا منافاة القصد الذاتي للتوطئة، وأشکل علیهم الأمر في نحو: نعم الرجل زید توطئةً لقولک أکرمه، فلا بأس لنا ببسط الکلام في المقام علی وجهٍ ینکشف به المرام غایة الانکشاف.

فأقول - بعون الله تعالی ومشیّته -: إنّ القصد الذاتيّ:

قد یُقابَل بالقصد الغیري التقییدي، فمعناه حینئذٍ تعلّق النظر ببیان النسبة أصالةً وتفهیم المخاطب أیّاها من دون أن یجعل أحد طرفیها قیداً للآخر ولا طرفاها قیداً لأمر آخر، فالنسبة حینئذٍ ملحوظةٌ بلحاظها الأصلي الذاتي وتکون تامّةً في عالم المفهوم ومحلّاً للتصدیق والشکّ، کما أنّ النسبة اللفظیّة حینئذٍ تامّةٌ في عالم اللفظ وموجبةٌ للعلم والکشف عن النسبة المطابقة لها، والقصد الغیري حینئذٍ عبارةٌ عن تعلّق النظر ببیان النسبة علی وجه التقیید والتبعیّة، سواء کان بجعل أحد طرفیها تبعاً وقیداً للآخر کما هو الحال في الترکیب الإضافي والتوصیفي، أو بجعل طرفیها تبعاً وقیداً لأمر آخر کما هو الحال في جملة الشرط والصلة، فالنسبة حینئذٍ عاریةٌ عن حالتها الأصلیّة من صفة التمامیّة ولا یکون محلّاً للتصدیق والشکّ، کما أنّ النسبة اللفظیّة حینئذٍ ناقصةٌ في ,الم اللفظ ولا توجب العلم بشيء.

توضیح الحال فیه: أنّ النسبة أمرٌ إضافيٌّ لا بدّ فیه من الطرفین، وکلٌّ منهما رکنٌ في الطرفیّة لها واقعٌ في عرض الآخر بحسب الذات، فصیرورةُ أحد طرفیه من قیود الطرف الآخر وحدودِه، وتوابعِه - بحیث یصیر الطرفان طرفاً واحداً وموضوعاً لحکمٍ آخر او محمولاً له - موجبةٌ لخروج النسبة عمّا کانت علیه أصالةً

ص: 35

وذاتاً: من تعلّق النظر بتفهیمها وکشفها في حدّ نفسها کما هو ظاهرٌ، فتصیر ناقصةً بعد أن کانت تامّةٌ.

وحیث إنّ النظر الذاتي الأصیل إلی تفهیم النسبة وکشفِها ذاتاً إنّما یکون عند جهل المخاطب بها، کما أنّ النظر التبعیي التقییدي إلیها إنّما یکون عند علم المخاطب بها، اشتهر بینهم: أنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبارٌ والأخبار بعد العلم بها أوصاف، وصحّ تفریع النسبة الناقصة علی التامّة، فیقال: ضَرَبَ زیدٌ فضربُهُ شدیدٌ، ویَضرِبُ فهو ضاربٌ، ومن هنا قلنا باشتقاق المصدر من الماضي واسمِ الفاعل من المضارع معنیً.

وهکذا الأمر في صیرورة طرفي النسبة تبعاً وقیداً لأمرٍ آخر؛ إذ کما ینافي تمایّةَ النسبة صیرورةُ أحد طرفیها من قیود الآخر وحدوده وتوابعه، فکذلک ینافیها صیرورةُ طرفیها من قیود الأمر الآخر وحدوده وتوابعه، وکما تتقوّم تمامیّة النسبة ببقاء کلٍّ من طرفیها علی صفة العرضیّة والاستقلال، فکذلک تتقوّم ببقاء طرفیها علی صفة الاستقلال وعدم التعبیّة، فإنّ التبعیّة والتقیید لا تجتمع مع النظر الأصیل إلی کشف النسبة وتفهیمها، من دون فرقٍ بین تعلّق التقیید بالطرفین وتعلّقه بأحدهما کما هو ظاهر.

ولا فرق في کون الجملة من توابع أمرٍ آخر وحدودِهِ بین کونها قیداً للنسبة کجملة الشرط حیث أنّها قید للنسبة الواقعة في الجزاء، وکونِها طرفاً للنسبة الناقصة کمفعولي علمت، وکونِها قیداً لأحد طرفیها مطلقاً کالجملة الحالیّة والوصفیّة والمضاف إلیها وجملة الصلة، کما أنّه لا فرق بین حصول التقیید من الحرف کالشرطیّة وصلة الموصول الحرفي وحصولِهِ من الترکیب کالجمل المذکورة.

وحیث إنّ الجمل الناقصة - کالمرکّبات الناقصة ذاتاً - في حکم المفرد من

ص: 36

حیث عدم استقلالها وجوازِ وقوعها طرفاً للنسبة أو قیداً له، حَکَم القول بأنّ الجمل الناقصة مقدّرةٌ بالمفرد ولها محلٌّ من الإعراب.

وهذا معنی قولهم: إنّ صلة الموصول الحرفيّ مأوَّلةٌ بالمصدر، لا ما توهّمه القاصرون منهم: من تأوّلها به حقیقة؛ إذ لا یصحّ حلول المصدر محلّها في کثیرٍ من المقامات، ألا تری أنّه لا یصحّ حلوله محلّها في قولک: فلان أجَلّ من أن یُمدح، والأخبار أکثرُ من أن تُحصی، وهکذا. والتفصیل موکولٌ إلی محلّه.

فإن قلت: لو کان وقوع الجملة طرفاً للنسبة موجباً للنقص ومانعاً عن التمام، لزم عدم جواز تعلّق العلم بمفعولیه لما بیّنتَ: من عدم تعلّقه إلّا بالنسبة التامّة.

قلت: العلم إنّما یتعلّق بالمرکّب التامّ وهو المبتدأ والخبر، والنقص إنّما یحصل من قِبَل تعلّقه به، فهو بعد التعلّق لا قبله، فلم یتعلّق العلم بالناقص وإن صار المتعلَّق ناقصاً، فتفطّن.

وقد یقابل بالقصد الغیري المقدّمي التوطّئي،(1) فالمقصود لذاته حینئذٍ عبارةٌ عمّا لم یکن مقدّمةً وتوطئةً لغیره کالنتائج المقصودة لذاتها؛ والمقصود لغیره عمّا کان مقدّمةً وتوطئةً لغیره، سواء کان تامّاً کالأقیسة، أو ناقصاً کالجملة الشرطیّة.

ولا شبهة في أنّ المقصود من القصد الذاتي في المقام هو المعنی الأوّل لا الثاني، وإلّا لزم خروج الأقیسة وسایر القضایا التي تکون مقدّمات لغیرها عن حدّ الکلام مع دخولها في المحدود بالضرورة، مع أنّ المعنی الثاني لا یحتمله المقام لأنّ الذاتیّة والتبعیّة بهذا المعنی إنّما یرجعان إلی المعنی لا اللفظ، فإنّ قولک: «نعم الجرل زیدٌ» لا یکون تبعاً ومقدّمةً لقولک: «أکرمه» إلّا في المعنی؛ ضرورة أنّه في مرحلة

ص: 37


1- عطف علی قوله: «قد یقابل بالقصد الغیري التقییدي» في الصفحة 33.

الترکیب مستقلٌّ وواقعٌ في عرض الآخر، وکلامنا في المقام إنّما هو في اللفظ وجهاته، فهو بعیدٌ عن المقصد وأجنبيٌّ عن المطلب، وما یتعلّق بالمقام إنّما هو الذاتیّة والتبعیّة بالمنی الأوّل، لما اتّضح لک من رجوعهما إلی اللفظ وتأثیرهما في تمامیّة الترکیب ونقصه، فانکشف لک بما بیّناه - غایة الانکشاف - فسادُ توهّم خروج مثل «نعم الرجل زیدٌ» توطئةً لإکرامه عن المقصود لذاته ودخولِهِ في المقصود لغیره.

وأعجب منه ما التزم به: من تقیید الغیر بالکلمة، أو ما لا إفادة له وحده؛ لاستلزامه صیرورة الجملة الشرطیّة کلاماً، لخروجها عن المقصود لغیره حینئذٍ، حیث إنّها توطئةٌ لجملة الجزاء التي تکون مفیدةً بنفسها ومقصودةً لذاتها.

والعجل أنّ المحقّق الرضي (قدس سره) - مع تنبّهه لما بیّناه: من أنّ القصد الذاتي في المقام في مقابل التقییدي، حیث علّل خروج الشرطّة عن المقصود لذاته بأنّها قیدٌ في الجزاء - حَکَم بخروج الجملة القَسَمیّة عنه أیضاً؛ لأنّها لتأکید جواب القسم، فإنّ المُقسَم به بناءً علی کونه جملةً مشتملةً علی الإسناد - بجعله مبتدءاً لخبر محذوف أو متعلّقاً بفعلٍ محذوف - یکون تامّاً في مرحلة الترکیب ولا یکون قیداً في الجواب وإنّما یکون توطئةً له، فهو حینئذٍ کالمنادی حیث لا یکون إلّا توطئّةً لما بعده، مع أنّه صرّح بعد ذلک - بأسطر قلیلة - أنّ نحو «یا زید» کلامٌ، لسدّ «یا» مسدّ «دعوت» الإنشائي، فالتفصیل بیهما کما صنعه في غیر محلّه. نعم، إن قلنا بعدم اشتمال المُقسَم به علی الإسناد - کما هو التحقیق - وأنّ الدالّ علی القسم هو أدواته - من اللام والباء والواو والتاء - ولا حذف في البین لعدم الحاجة إلیه، فهو مفردٌ مرتبط بجوابه علی وجه القسمیّة والتأکید، ولا یکون کلاماً لکونه قیداً لجوابه، ولکنّه حینئدٍٍ لا یکون جملة.

ومن غرائب الأوهام ما اشتهر في المقام: من خروج الجملة الخبریّة عمّا

ص: 38

یقصد لذاته، وما صدر عن جماعة: من خروج جملة الجزاء عنه أیضاً؛ لاندراجهما فیه بالمعنیین، فإنّ یضرب في قولک: «زید یضرب» تامّة النسبة، ولا یکون توطئةً لأمر.

وتوهّم: أنّ إسناد یضرب إلی ضمیر المبتدأ لیس مقصوداً بالذات والأصل، بل المقصود بالذات إسناده إلی المبتدأ، ولمّا کان الضمی رمحصِّلاً للربط بین الفعل ومبتدأه أسند إلیه، في غیر محلّه؛ لأنّ الفعل إنّما یُسند قصداً وبالذات إلی المنويّ الذي یعبّر عنه بالضمیر - کما سیظهر لک تفصیله إن شاء الله تعالی - والاسم الظاهر مقدّماً کان أو مؤخّراً إنّما یؤتی به مفسِّراً أو مؤکِّداً له، فهو توطئةٌ للمنويّ لا المنويّ له، وتقدیمه علیه لا ینافي وقوعه في مقام التفسیر أو التأکید، فلا یکون في البین إسنادٌ آخر غیر إسناد الفعل إلی ضمیره حتّی یکون توطئةً له.

وهکذا الأمر في «زید أبوه قائم» لما ستعرف تفصیلاً: من عدم وقوع الجملة طرفاً للإسناد حتّی یصیر الإسناد الثابت فیها توطئةً له.

وما یتوهّم: من تأوّلها بالمفرد الصالح للإسناد - وهو قائم الأب مثلاً - في غیر محلّه لعدم الدلیل علیه، بل استحالته کما سیظهر لک. نعم، ینتزع ذلک منها ویتفرّع علیها لما عرفت: من انتزاع النسبة الناقصة عن النسبة التامّة وتفرّعها علیها وصیرورتِها منشأً لانتزاعها منها. وتفرُّعها علیها لا یوجب تأویلها إلیها کما هو ظاهرٌ، فما یسمّی مبتدأً في لسانهم إنّما یکون توطئةً لمرجع الضمیر، لا أنّه طرفٌ للإسناد کما توهّموه.

هذا حال الجملة المسمّاة بالخبریّة.

وأمّا جملة الجزاء فالأمر فیها أظهر لظهور أنّ تعلیق الجزاء علی الشرط إنّما یؤثّر في صیرورة الشرط ناقصاً وقیداً للجزاء وتوطئةً له، لا العکس وإلّا لزم کون

ص: 39

الشرط تامّاً، ولا صیرورة کلّ واحدٍ منهما ناقصاً وقیداً للآخر، ضرورة اختلاف الطرفین وعدم اتّحادهما في الطرفیّة، فإنّ أحدهما یکون مقیَّداً ومعلَّقاً والآخر قیداً ومعلّقاً علیه، ولا یجوز أن یؤثّر التقییدُ والتعلیقُ النقصَ في المعلّق والمقیّد أیضاً، وإلّا لکان تعلیق الکلام علی سائر القیود موجباً لنقصه أیضاً، إذ لا فرق بین أدوات الشرط وأسمائه وسائر القیود في إفادة التعلیق، فإنّ قولک: إن ضربتَ أو إذا ضربتَ أضربُ، بمنزلة قولک: بعد ضربک أو وقت ضرب أضربُ، في إفادة أصل التعلیق وإن اختلفا في کیفیّته، مع أنّ تأثیره في الطرفین یوجب نقصَهما معاً وعدمَ کونهما کلاماً، لنقص کلّ منهما حینئذٍ وعدمِ ارتباط أحدهما إلی الآخر بإسنادٍ تامّ حتّی یتمّ به الطرفان، ضرورة أنّ الربط الحاصل بینهما إنّما هو التعلیق والتقیید، فظهر أنّ عدّ الجملتین کلاماً لا یکون إلّا لاشتمال أحدهما علی الإسناد التامّ المقصود لذاته.

فإن قلت: مقتضی ذلک عدّ دحدهما کلاماً واحداً دون المجموع.

قلت: عدّ المجموع کلاماً دون الجزاء فقط إنّما هو لمکان الاتّحاد الحاصل من الاتّصال، وهکذا الحال في عدم عدّ الجملة الخبریّة فقط کلاماً، وسنبیّن لک تفصیل الحال فیه إن شاء الله تعالی.

وبعد ما ظهر لک: أنّ الإفادة في الدلالة التصدیقیّة ولا مرتبة أعلی منها للّفظ وأنّها الأثر المقصود من اللفظ؛ ضرورة أنّ الغرض من وضع الألفاظ تفهیم المراد والمرام لا مجرّد إحضار المفاهیم وإخطارها في الذهن، وهذا معنی ما قالوا: إنّ الوضع للترکیب والترکیب للدلالة، ظهر لک أنّه بواسطة اتّصافه فها ووصوله إلی درجتها یخرج عن حضیض النقص إلی ذروة الکمال فیتمّ.

﴿ویلزمه صحّة السکوت علیه﴾ والوقوف لدیه والاکتفاء به، إذ عدم صحّة السکوت إنّما یکون من النقصان وترقّب التمام وتوقّع الکمال، فبعد زوال

ص: 40

النقصان وحصول الکمال ینتفي الترقّب والانتظار، فیحقّ الوقوف ویحسن السکوت.

وبهذا البیان یتبیّن لک اُمور:

الأوّل: تفسیر المفید بما یصحّ السکوت علیه وما یحسن السکوت علیه وما یصحّ الاکتفاء به راجعٌ إلی أمرٍ واحد وتفسیر باللازم، وتنبیهٌ منهم علی کفایة الاقتضاء في تحقّق الاتّصاف وعدمِ اعتبار الفعلیّة فیه، لا أنّ لهم اصطلاحاً في المفید کما قد یسبق إلی الوهم.

الثاني: أنّ تفسره بما فسّره في کمال الصحّة ونهایة الجودة، فما قیل: من أنّ فیه تکلّفاً، غلطٌ واضحٌ.

الثالث: فساد ما استشکله بعضهم: من أنّ المراد إن کان صحّة السکوت علی المفهَم عن جمیع ما یتعلّق به لا یصدق الترعیف علی لفظٍ مفیدٍ موجود، بل کاد أن یکون المفید ممّا لا فرد له أصلاً، لأنّ متعلّقات المفهَم کاد أن تکون غیر متناهیة وحسن السکوت عنها موقوفٌ علی ذکرها، وإن کان صحّة السکوت عن بعض ما یتعلّق به یصدق التعریف علی کلّ قولٍ تکلّم به مفیداً أم لا، لحسن السکوت علی زید مثلاً عن ذکر صفته ونحوها ممّا لا یتقوّم به الإفادة.

لما ظهر لک: من أنّ المراد صحّة القیام علیه والوقوف لدیه بواسطة خروجه عن حدّ النقص، لا الاستغناء به عمّا یتعلّق به، فإنّ الاکتفاء والسکوت قد یستعمل بمعنی الاستغناء فیلزمه طرفان، وقد یستعمل بمعنی الوقوف والقیام فلا یلزمه طرفٌ آخر، فلا یکون حینئذٍ في البین مستغنی عن حتّی یُسأل عنه ویُردّد أمره بین أمرین.

ولو تنزّلنا عنه لنقول: إنّه یصحّ الاستغناء بالمفهَم بعد بلوغه حدّ الدلالة

ص: 41

والإفادة عن جمیع ما یتعلّق به، بمعنی أنّه لا یفتقر إلیه في تحقّق الإفادة لاستکمالها بدونه. وصحّةُ السکوت عن جمیع المتعلّقات لا تتوقّف علی ذکرها وحضورها في الذهن تفصیلاً کما هو ظاهر.

الرابع: أنّه لا فاعل للسکوت في المقام، لأنّ المصدر إنّما یسند إلی الفاعل إذا تعلّق الغرض ببیان الحدث المسند إلیه، وأمّا إذا تعلّق النظر ببیان نفس الحدث فلا، وقد ظهر لک أنّ حسن الوقوف وصحّة السکوت کنایةٌ عن اقتضاء العلم کنایة اللازم عن ملزومه، ومن الظاهر الواضح: أنّ اللازم له حسن الوقوف وصحّة السکوت مع قطع النظر عن إسناده إلی المتکلّم أو المخاطب أو کلیهما، ضرورة أنّه لا دخل للساکت والواقف في هذا الحکم أصلاً.

ویظهر لک - غایة الظهور - بالنظر إلی مقابله وهو ما لا یصحّ السکوت علیه، فکما أنّه لا نظر فیه إلی المتکلّم أو المخاطب فکذلک فیما یصحّ السکوت علیه فلا مجال للاختلاف في فاعله، مع أنّا لو فرضنا أنّ له فاعلاً فالواجب جعله مبهماً أعمّ من الجمیع کما یناسبه الحذف فکفایة صحّة سکت أحدهما علیه لا علی التعیین في تحقّق الإفادة وإن انفکّت عن صحّة سکوت الآخر، مع أنّه لا تنفکّ صحّة سکوت أحدهما عن صحّة سکت الآخر، ضرورة أنّه إذا بلغ اللفظ مرتبة الإفادة والدلالة صحّ السکوت علیه من کلیهما.

وتوهّم اختلاف صحّة السکوت باختلاف غرضهما في کیفیّة الإفادة والاستفادة وَهَمٌ؛ لأنّ اختلاف الغرض إنّما یوجب الاختلاف في نفس السکوت لا في صحّته وحسنِه المعلولِ عن تحقّق الإفادة والدلالة، فظهر أنّه لا مجال للاختلاف في فاعله من وجوه ثلاثة.

هذا کلّه إذا فسّرنا السکوت في المقام بالوقوف والاکتفاء کما هو التحقیق.

ص: 42

وأمّا إذا فسّرناه بما یقابل المتکلّم کما یظهر من بعضٍ فیختصّ بالمتکلّم لأنّ السکوت إذا تعدّی بکلمة «علی» فهو للمتکلّم، وأمّا المخاطب فهو ساکتٌ عن الکلام، فلا تتحمّل العبارة حینئذٍ إلّا وجهاً واحداً فلا مجال للاختلاف أیضاً.

الخامس: لزوم صحّة السکوت للمفید دائماً بل بالضرورة، لما ظهر لک: من ملازمة الإفادة لحسن الوقوف وصحّة السکوت، فما قیل: من أنّ الغرض منه الحسن الفعليّ المقابل للإمکان بمعنی ثبوته له وقتاً ما في غیر محلّه، وکأنّه أدار حسن الوقوف وصحّة السکوت مدار غرض المتکلّم وغفل عن أنّ الدائر مدار غرضه هو نفس السکوت لا صحّته، ضرورة أنّ اللفظ متی خرج عن حدّ النقص یصیر أهلاً للوقوف ومحلّاً للسکوت، تعلّق به غرض المتکلّم أم لا، ولیس لصحّة السکوت علی اللفظ معنی غیر صیرورته محلّاً له.

السادس: أنّ القضایا المعلومة - سواء لم یجهلها أحدٌ أم لم یکن کذلک - کلامٌ لاتّصافها بالإفادة واقتضائها العلم، ولا یقدح فیه عدم حصول الاستفادة منها لعدم خفاء مضمونها، لما ظهر لک من مجامعة المقتضي مع اشتغال المحلّ بالمثل الموجب لعدم ظهور أثره فیه.

ولا یتوهّم متوهّمٌ أنّه استقرّ اصطلاحهم علی خروجها منه؛ لأنّ کثیراً منهم لم یخرجوها منه، والمُخرِج علّل الخروج بعدم الإفادة لا بالاصطلاح، مع أنّ قواعد الترکیب والإعراب تجري فیها کما تجري في القضایا المجهولة فلا وجه للتفرقة بینهما، فالاصطلاح لو وقع - مع أنّه یم یقع لوقوع الاختلاف - غلطٌ لا وجه له.

ثمّ إنّ توهّم الخروج إنّما هو فیما لا یجهله أحدٌ، وأمّا في مطلق ما علمه المخاطب - کما یظهر من بعض - فأوضح فساداً لاستلزامه اتّصاف الکلام الواحد بطرفي النقیض لاستفادة شخصٍ منه وعدم استفادة الآخر منه.

ص: 43

﴿والمعلوم إنّما یکون مرکّباً إسنادیّاً خبریّاً﴾ إذ العلم التصدیقي لا یتعلّق إلّا به.

﴿والمقتضي﴾ للعلم به ﴿قد یطابقه﴾ في الأوصاف الثلاثة ﴿کزیدٌ قائمٌ﴾ ونحوه ﴿فیدلّ علیه مطابقةً﴾ ولا ینافي ذلک دلالته علی القضیّة الذهنیّة وهو مراد المتکلّم أوّلاً وعیه ثانیاً بتوسّط ملازمة المراد له مع عصمة المتکلّم مطلقاً أو صدقه إذا کان بدیهیّاً، لاتّحاده مع المراد وانطباقه علیه.

﴿وقد یفارقه في الأوّل﴾ أی الترکیب ﴿ کالأفعال الدالّة بهیئاتها الاشتقاقیّة علی إسناد الحدث إلی الفاعل فتدلّ علی أحد طرفیه﴾ أی المرکّب الإسنادي الخبري وهو الحدث بمادّتها ﴿تضمّناً وعلی الآخر﴾ وهو الفاعل تبعاً و﴿التزاماً﴾ للإسناد المدلول علیه بهیئتها، ولا فرق فیما بیّناه بین أنواع الفعل الماضي والمضارع والأمر وصیغها غائبةً ومخاطبةً ومتکلّمةً، مفردةً ومصنّاةً ومجموعةً؛ فإنّ هیئة الفعل مطلقاً تدلّ علی الإسناد التامّ اقتضاءً، فجمیع أنواع الفعل بجمیع صیغها متّصفةٌ بالإفادة ومقتضیةٌ لها ما لم تعرضها جهةٌ طارئة موجبةٌ لنقض نسبتها. ولا یقدح فیه إبهام الفاعل في بعض تصاریفه لعدم منافاته لتمامیّة الإسناد المقتضیة للعلم والإفادة وإلّا لزم أن لا یکون «ضَرَبَ الضارب» ونحوه کلاماً مع أنّه لا کلام في کونه کلاماً.

فما في «التصریح»: من أنّ شرط حصول الفائدة مع الفعل والضمیر المنوي أن یکون الضمیر واجب الاستتار، ف-«قام» علی تقدیر أن یکون فیه ضمیرٌ لا یسمّی کلاماً علی الأصحّ، في غیر محلّه.

﴿وقد یفارقه في الأخیرین﴾ أي الإسناد ﴿کالمنادی والتحذیر والإغراء﴾ فإنّها عاریةٌ عن الإسناد اللفظي.

ص: 44

﴿و﴾ الأخبار ک-﴿الإنشاءات﴾ مرکّبةً کانت، ک-«أنت طالق»، أم مفردةً ک-«اضرب» ﴿فتدلّ﴾ أي الکلمات العاریة عن الإسناد اللفظي الدالّة علی الإسناد الذهني والإنشاءات ﴿علیه﴾ أي علی المفهوم الخبري ﴿التزاماً وقد وافقنا القومُ في الثالث﴾ أي المفارقة في الأخبار، فلم یوجب أحدٌ منهم المطابقةَ بینهما في الخبریّة ﴿وخالفونا في الأوّلین﴾ أي الترکیب والإسناد ﴿فأوجبوا مطابقته﴾ أي الکلام للمدلول والمعلوم، وهو المرکّب الإسنادي الخبری ﴿فیهما﴾ أي في الترکیب والإسناد ﴿فتکلّفوا﴾ وتعسّفوا من جهة التزامهم بوجوب المطابقة فیهما ﴿لتصحیح الإسناد في التحذیر والإغراء بتقدیر الفعل﴾ المناسب لهما: من اُحذرکَ واتّق واجتنب وحافظ وارم وما شاکلها ﴿وفي المنادی بتقدیر حرف النداء وجعله بمنزلة الفعل﴾ وهو أدعو ﴿ولتصحیح الترکیب في الأفعال بجعلها مرکّبةً مع فواعلها﴾ أسماءً ﴿ظاهرةً﴾ نحو: ضرب زیدٌ ﴿أو﴾ ضمائر متّصلةً ﴿بارزةً﴾ نحو: ضربت ﴿أو﴾ ضمائر متّصلةً ﴿مستترة﴾ نحو: اضرب ﴿وغفلوا عن أنّ المطابقة﴾ بین الدلیل والمدلول والمفید والمفاد ﴿غیر لازمة﴾ وأنّ اقتضاء العلم والإفادة لا یتوقّف علی اجتماع الأوصاف الثلاثة في اللفظ ﴿وأنّ التحذیر والإغراء والنداء﴾ کالاستفهام والإخبار والابتداء والخبریّة ﴿أنحاءٌ لاستعمال الکلمة﴾ فهي خصوصیّاتٌ في التلفّظ ﴿ومعانٍ حرفیّة﴾ آلیّةٍ لا استقلالیّة، غایة الأمر أنّ بعض الخصوصیّات ممّا وضع له الحرف کالنداء والاستفهام فیستفادان من الحرف مرّةً ومن خصوصیّة الاستعمال تارةً، وکثیرٌ منها ممّا لم یوضع لها حرف ﴿فلا تؤول إلی معانٍ فعلیّة﴾.

فتوهّم تقدیر الفعل أو الحرف وجعل المقام دلیلاً علی الحذف والتقدیر، في غیر محلّه، بل سیظهر لک إن شاء الله تعالی فساد توهّم التقدیر في جمیع الموارد.

ص: 45

وأمّا جعل «یا» بمنزلة الفعل فأفسد، لأنّه لو کان بمنزلته لصحّ قولک: «أنا یا زید» کما یصحّ قولک: «أنا أدعو زیداً» ولزم أن یکون فعلاً لا حرفاً، مع أنّ «دعوتُ» ناظرٌ إلی تحقیق الدعوة من المتکلّم نظراً استقلالیّاً، ولا نظر في الحرف إلی المتکلّم أصلاً. وبالجملة: فکما لا یضرّ مخالفة الدلیل المدلوله في الأخبار فکذا لا یضرب مخالفته معه في الإسناد، ولا دلیل علی لزوم المطابقة حتّی یجب ارتکاب تلک التکلّفات والتعسّفات.

هذا ﴿و﴾ أمّا توهّم الترکیب في الفعل فأظهر فساداً ف-﴿إنّ مرجع استتار الضمیر إلی دلالة الفعل علی الفاعل﴾ المعبّر عنه بالمنويّ معه ﴿التزاماً﴾.

توضیح الأمر فیه: أنّ الفعل لمّا اشتمل علی الهیئة الدالّة علی إسناد الحدث إلی الذات دلّ علی الذات من قِبَل دلالته علی الإسناد إلیه، فهو بإفراده یدلّ علی أطرافٍ ثلاثة: الحدث لمادّته، والإسناد لهیئته، والذات تبعاً واستلزاماً من قِبَل الإسناد المستتبع لها، فهي کالحدث والإسناد واقعةٌ في طرف المفهوم، وإنّما عُبّر عنها بالضمیر استعارةً من جهة شباهته به من حیث الإبهام والتعیینف وعن کیفیّة ثبوتها من قِبَل اللفظ ودلالته علیها بالاستتار والاستکان من جهة فهمها منه بعاً واستلزاماً من دون أن تدلّ علیها کلمةٌ أصالةً واستقلالاً، فلا یجوز ترکّبها مع الفعل لاستحالة ترکیب اللفظ مع المعنی المستفاد منه، ولو جاز ترکّبه معه لجاز ترکّبه مع الحدث المفهوم منه، مع أنّ وقوع المستتر في طرف المدلول والمُفاد یمنع من وقوعه في طرف الدالّ والمفید، لاستحالة اتّحاد الدالّ مع المدلول والمفید مع المُفاد، کما هو ظاهرٌ.

فاتّضح - غایة الوضوح - فسادُ ما توهّموه: من کون الفعل کلاماً بلحاظ ترکّبه مع فاعله المستتر فیه، ومن هنا ظهر اُمورٌ:

ص: 46

الأوّل: فساد ما اصطلحوا علیه: من إطلاق الکلمة علی المستتر لکونه في حکمها من حیث وقوعه طرفاً للإسناد وسائر الأحکام اللفظیّة؛ لما عرفت من عدم وقوعه طرفاً للترکیب والإسناد اللفظي لاستحالته، ووقوعُه طرفاً للإسناد المعنوي لا یوجب شباهته باللفظ وصیرورته کلمةً حکمیّةً وإلّا لجری ذلک في جمیع المعانی.

﴿و﴾ الثاني: ﴿أنّه﴾ أي الاستتار ﴿مقوِّمٌ للفعل﴾ ضرورة تقوّمه بالهیئة الاشتقاقیّة الدالّة علی الإسناد الحدوثي المستتبع للفاعل - وهو الذي حدث عنه الحدث - فهو أبداً ینبئ عن حدثٍ عن ذات، کما أنبأ عنه کلامُ الإمام (علیه السلام) حیث عرّفه ب-«ما أنبأ عن حرکة المسمّی».(1)

﴿فالظهر أو البارز﴾ المذکور ﴿مفسِّرٌ للمستتر أو مؤکِّدٌ له، فترکیبه مع الفعل﴾ إنّما هو ترکیبٌ ﴿تفسیريٌّ أو تأکیديٌّ، والترکیبُ الإسنادِ بینه وبین﴾ الاسم ﴿الظاهر أو﴾ الضمیر ﴿البارز غیرُ متصوَّر﴾ إذ لو أسند الفعل ثانیاً استقلالاً بالهیئة الترکیبیّة لزم التکرّر في الحدوث، مع أنّ الهیئة الترکیبیّة إنّما تقید الاتّحاد لا الحدوث، ولا اتّحاد بین الفعل والاسم الظاهر کما هو ظاهر، ﴿علی أنّ لواحق الأفعال﴾ إنّما هی ﴿حروفٌ مبیِّنةٌ لکیفیّة النسبة لا ضمائر﴾ متّصلة ﴿بارزة﴾ کما سیجيء في »حلّه إن شاء الله تعالی.

ومن العجب تفصیلهم بین «إضرب أنت» و «ضرب زید» بالحکم بکون الضمیر المنفصل تأکیداً للمستتر في الأوّل وبصیرورة المستتر ظاهراً في الثاني، مع عدم الفرق بینهما في فهم المسند إلیه منهما إلّا في الإبهام والتعیین.

وأعجب منه التفصیل في الاستتار بین تقدّم الظاهر علی الفعل وتأخّره عنه

ص: 47


1- بحار الأنوار 40: 162.

في الفعل الغائب.

وقد تبیّن لک ممّا بیّناه: من أنّ مرجع استتار الضمیر إلی فهم المسند إلیه تبعاً للإسناد، أنّه یختصّ بالهیئة الاشتقاقیّة الطارئة علی أحد طرفيِ الإسناد، وأمّا الهیئة الترکیبیّة القائمة بالطرفین فلا یعقل معها الاستتار.

ومنه نبیّن(1) فساد توهّم الاستتار في الأخبار المشتقّة ضرورة أنّ الإسناد فیها إنّما یحصل من قِبَل الترکیب المتحقّق بین اللفظین، فهو معلولٌ عنه قائمٌ بما قام به هو من اللفظین المذکورین، فلا یعقل استتار أحد الطرفین في الآخر، فالأخبار المشتقّة والجوامد علی حدٍّ واحد في عدم تحمّل الضمیر. نعم، لو قلنا بحصول الإسناد من قِبَل الإعراب الطارئ علی أحد الطرفین یتعیّن القول بالاستتار وتحمّل الضمیر في الأخبار مطلقاً جامدةً ومشتقّةً، کما نسب إلی الکوفیّین. ولکنّ التحقیق أنّ الإعراب علامةٌ لا آلةٌ، ولذا یثبت الإسناد بین المبنیین ک-«هذا هو».

وکیف کان فالتفصیل بین الجامد والمشتقّ في الاستتار - کما عن الأکثر - في غیر محلّه؛ لأنّه إن ثبت فمن قِبَل الإسناد الخبري الجاري فیهما فلا تختصّ به المشتقّ، وأمّا الاستتار الآتي من قِبَل هیئته الاشتقاقیّة فلا یختصّ بحال کونه خبراً.

وقد تبیّن بما بیّناه سرّ عدم جواز استتار ضمیر النصب في الفعل؛ لأنّ الهیئة الفعلیّة إنّما تدلّ علی إسناد الحدث إلی الفاعل أو نائبه، وأمّا النسبة إلی المفعول فإنّما تحصل من طرف الترکیب.

﴿و﴾ اعلم أنّ ﴿للکلام مراتب متفاوتة باختلاف مراتب الإفادة﴾ تجمعها مراتب ثلاث: الاُولی: الخارجة عن حدّ النقص البالغة درجه التمام.

ص: 48


1- کذا، والمناسب: تبیّن.

والعلیا: المشتملة علیها وعلی جمیع القیود، والوسطی: المتوسّطة بینهما المترتّبة علی مراتب شتّی.

﴿فلا ینحصر فیما حصر﴾ تألیفه ﴿فیه﴾ من المسندین فقط لعدم انحصار الإفادة فیهما، وما یتوهّم: من أنّ الإفادة واقتضاء العلم تدور مدار الإسناد التامّ ولا إسناد في القیود والمتعلّقات فلا إفادة فیها بوجهٍ حتّی یصیر المجموع منها ومن المسندین مفیداً، في غیر محلّه؛ لأنّ الخلوّ عن الإسناد إنّما یمنع من الاستقلال بالإفادة لا منها ولو باعتبار الانضمام إلی المسندین، کما هو ظاهر.

ومنه یظهر: أنّ ما ذکره ابن هشام في بعض کتبه من حصر صور تألیف الکلام في ستّة: اسمان وفعل، واسم وفعل، واسمان وفعل، وثلاثة أسماء وفعل، وأربعة أسماء وجملة القسم وجوابه، وجملة الشرط وجزاؤه، فاسدٌ أیضاً؛ لعدم انحصار مراتب الإفادة فیما ذکره - کما هو ظاهر - وإن أراد حصر صور التألیف التامّ فیما ذکره فهو أظهر فساداً، ضرورة أنّ التألیف التامّ لا یکون إلّا بالإسناد التامّ وهو لا یقوم بما فوق الکلمتین.

﴿و﴾ قد ظهر لک بما بیّناه أنّه ﴿لا مجال للنزاع في أنّ نحو «ضربت زیداً قائماً» بمجموعه کلامٌ أو المسندان فقط﴾ لتحقّق الإفادة فیهما وفي المجموع، فالمسندان کلامٌ کما أنّ المجموع کلام.

فما توهّمه بعضٌ: من سقوط المسندین عن الکلامیّة حینئذٍ لتعلّق الغرض بالمجموع في غیر محلّه؛ لأنّ تعلّق الغرض بالمجموع لا یمنع من إفادة المسندین اقتضاءً ولا فعلاً - کما هو ظاهر - وعدمُ تعلّق الغرض بالمسندین فقط لا یرجع إلی عدم تعلّق القصد بهما بل إلی تعلّق القصد بهما وبمتعلّقاتهما. نعم، لا یعدّ المسندان فقط في المثال المذکور کاملاً بل یعدّ المجموع کلاماً واحداً للاتّحاد الحاصل من الاتّصال، فإنّه

ص: 49

سبب الاتّحاد ورافع التعدّد في جمیع الموارد، ألا تری أنّ القطرات المنفصلة میاهٌ متعدّدة، وإذا اجتمعت واتّصلت اتّحد الماء ولا یکون إلّا ماءً واحداً، فاتّصال القیود بطرفي الإسناد لا یخرجهما عن الکلامیّة، وإنّما یوجب الاتّحاد وصیرورة المجموع کلاماً واحداً، فتفطّن وتنبّه، ولقد نبّهتک علی أصلٍ شریف وأساسٍ قویم، فلا تکن عنه من الغافلین، والحمد لله ربّ العالمین.

وما حدّدنا به الکلام أسدّ الحدود وأخصرها، وسائر الحدود لا تخلو عن فسادٍ وقصور.

فقد عرّفه بعضهم ب-«لفظٌ مفیدٌ بالإسناد»، وقد عرفت أنّه - مع عدم الاحتیاج إلی ضمّ الإسناد - یجلّ بالحدّ لثبوت الکلام مع عدمه.

وقد عرّفه بعضهم ب-«ما ترکّب من کلمتین بالإسناد» وهو فاسدٌ من وجوه:

الأوّل: أخذ الترکیب في الحدّ؛ لما عرفت من وقوعه مفرداً کالفعل.

والثاني: تقیید الترکیب بالکلمتین؛ لتحقّق الترکیب التامّ المفید بین المهمل والمستعمل ک-«دیز» مقلوب «زید»، وبین الجملة والکلمة کلا حول ولا قوّة إلّا بالله کنزٌ من کنوز الجنّة.

والثالث: عدم انحصار الکلام في المرکّب التامّ المتحقّق بین الکلمتین؛ لما ظهر لک من عدم خروج القیود والمتعلّقات عنه.

والرابع: قصر الحدّ علی الإسناد؛ لثبوته مع عدم الإفادة، فإنّه النسبة التامّة الاقتضائیّة المجامعة للنقص الفعلي الذي لا یفید ولا یقتضي العلم، کالإسناد الذي في جملة الشرط والصلة، فاللازم حینئذٍ تقییده بالمقصود لذاته، کما قیّده به بعضهم.

وقد عرّفه بعضهم ب-«ما تضمّن کلمتین بالإسناد» وهو مثل سابقه إلّا في عدم حصره الکلام في الکلمتین.

ص: 50

وقد تبنّه بعضهم لبعض ما أوردناه علی الحدّ: من تحقّق الترکیب والإسناد بین المهمل والمستعمل والجملة والکلمة، ممثّلاً للأخیر بنحو «زید أبوه قائمٌ، وقام أبوه، وقائم أبوه» فرام الدفع، وجعل الکلمة أعمّ من الحقیقیّة والحکمیّة، وقال: المهمل في حکم هذا اللفظ لجواز وقوعه موقعه، والخبر في المثال المزبور في حکم قائم الأب لتأوّله به.

وهو تعسّفٌ واضح؛ ضرورة أنّ المهمل لا یقع موضوعاً وطرفاً للإسناد إلّا إذا کان الحکم ثابتاً علی نفس اللفظ مع قطع النظر عن المعنی، وفي هذا الحال لا یتفاوت الحال بالوضع والإهمال، بل قد یکون الإهمال مقوّماً للإسناد ک-: جسق مهمل، فلا معنی لجعله في حکم الموضوع تصحیحاً للإسناد والترکیب، مع أنّ جواز وضع الموضوع موشع المهمل لو أوجب صیرورته في حکمه لأوجب صیرورة الموضوع في حکمه أیضاً لجواز العکس، وأمّا تأویل «أبوه قائم» ونحوه ب-«قائم الأب» فکذلک لا وجه له أیضاً، لأنّهما نحوان من الترکیب وسنخان منه، فإنّ نسبة «قائم» إلی «الأب» ناقصةٌ وإلی «أبوه» تامّةٌ، فلا یرجع أحدهما إلی الآخر.

فإن قلت: کلّ إسنادٍ صالحٌ لصیرورته ناقصاً بالعارض، کما في جملة الشرط والصلّة ونحوهما، فلا مانع من رجوعه إلی النقص بجعل الجملة خبراً.

قلت: الإسناد إنّما یصیر ناقصاً بصیرورة طرفیه قیداً لأمرٍ آخر، والجملة لا تصیر قیداً للمبتدأ بجعلها خبراً عنه حتّی یصیر ناقصاً، وإلّا لزم صیرورة جملة «زید أبوه قائم» ناقصةً غیر تامّة.

والتحقیق: أنّ «زید» في الأمثلة المذکورة توطئةٌ لمرجع الضمیر، ورفعُهُ لا یکون علی المبتدائیّة، کما سیجيء تحقیقه في محلّه إن شاء الله تعالی.

وقد یتوهّم: أنّ «دیز» في المثال المزبور اسمٌ لنوعه، ومن هنا صحّ وقوعه

ص: 51

مسنداً إلیه، وهکذا الأمر في «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ونحوه.

وفیه أوّلاً: أنّ الحکم الثابت لنفس اللفظ لا یقدح فیه الإهمال حتّی یستدلّ به علی خروجه عن الإهمال.

وثانیاً: أنّه لو کان اسماً لنوعه لزم اتّحاد الاسم ومسمّاه؛ لأنّ الاسم هو النوع أیضاً، ضرورة أنّ التسمیة لو تحقّقت في اللفظ فإنّما تتعلّق بنوع اللفظ لا بشخصٍ خاصٍّ منه، ولو فرض تعلّقها بشخص اللفظ لزم اتّحادهما أیضاً لدخول الشخص في النوع أیضاً، ومن هنا ظهر الأمر في الجمل الواقعة مسنداً إلیها، وأنّها تقع طرفاً للإسناد باعتبار لفظها.

ثمّ اعلم: أنّ ما أوردنا في المقام وفي حدّ الکلمة من النقص في الطرد والعکس، فهو علی مذاق القوم من التدقیق في طرد الحدود وعکسها، وإلّا فالتحقیق أنّ هذه التعاریف شبه التعاریف اللفظیّة لا یتعلّق الغرض بالکشف بها إلّا في الجملة، فیندفع حینئذٍ غالب النقوض، فلا حاجة إلی ارتکاب تلک التعسّفات الفاضحة والتکلّفات الباردة لدفع النقوض وتصحیح الرسوم، ومع ذلک کلّه فأجود الحدود ما بیّناه.

وقد یتوهّم: أنّ فیه قصوراً من حیث جعل اللفظ جنساً؛ لأنّ الکلام مرکّبٌ من اللفظ والهیئة الترکیبیّة من حیث أنّ الإفادة قائمةٌ بهما.

وهو وَهَمٌ؛ ضرورة أنّ الکلام من مقولة اللفظ، والإفادة قائمةٌ باللفظ الخاصّ لا باللفظ وخصوصیّه بأن تکون في عرضه.

﴿و﴾ إذ قد عرفت الکالم، فاعلم أنّه ﴿قد یکون مفرداً﴾ سواء کان ﴿مشتملاً علی الإسناد کالفعل أم لا کالمنادی﴾ والتحذیر والإغراء ونحوها ﴿ومرکّباً من اسمین نحو: زیدٌ قائمٌ، وزیدٌ في الدار﴾.

ص: 52

ولا یقع الحرف والفعل طرفاً للترکیب والتألیف. أمّا الحرف فلأنّه آلة الترکیب وأداة التألیف فیستحیل طروّ مطلق الترکیب علیه. وأمّا الفعل فلما عرفت: من استحالة ترکیب الاسم الظاهر معه، وأنّه مفسِّرٌ للمستتر أو مؤکِّد له، فالترکیب الإسنادي المتحقّق به رکنا الکلام کما هو المقصود في المقام یختصّ به الاسم، وأمّا سائر أنحاء الترکییب فتجري فیه وفي الفعل معاً.

ثمّ إنّ ما ذکرناه إنّما هو بالنظر إلی المعنی الحرفيّ والفعليّ، وأمّا إذا اُرید من الحرف والفعل نفس اللفظة، کقولک: «من» حرفٌ، و «ضَرَبَ» فعلٌ ماض، فلا مانع من وقوعهما طرفین للترکیب والإسناد، وتوهّم صیرورتهما حینئذٍ اسمین ل-«من» الحرفيّ و «ضَرَبّ» الفعليّ، ولذا صحّ وقوعهما مسنداً إلیهما مع اختصاصه بالاسم، في غیر محلّه؛ لأنّ الإسناد إلیه من خواصّ الاسم بالنظر إلی معناه، یعني أنّ الکلمة إذا استعملت في معناها فالمستحقّ للأخبار عنها من بین الکلمات المستعملة هو الاسم فقط، وأمّا بالنظر إلی نفس اللفظ فالجمیع علی حدٍّ سواء لعدم الفرق بین أقسامها من هذه الجهة، مع أنّه کرٌّ علی ما فرّ منه لرجوع الإخبار عنهما إلی الإخبار عن الفعل والحرف، ضرورة أنّ الإخبار عنهما حینئذٍ باعتبار مسمّاهما، والمفروض أنّ مسمّاها حینئذٍ «من» الحرفي و «ضَرَبَ» الفعلي، وإلّا لم یجز الإخبار عنهما بالحرفیّة والفعلیّة.

والحاصل: أنّه لا مانع في اللفظ في حدّ نفسه من قبول الإسناد والترکیب - کما هو ظاهر - وإنّما یمنع منه المعنی الحرفي والفعلي، وحیث إنّ الترکیب غالباً إنّما هو بالنظر إلی المعاني خصّصوا الإسناد إلیه بالاسم ونفوه عن الفعل والحرف اعتماداً علی الغلبة - کما هو طریقتهم المألوفة - فتوهّم منه من لا خبرة له الإطلاقَ علی سبیل الحقیقة، فصنع ما صنع ووقع فیما وقع.

ص: 53

واعلم أنّ القوم قسّموا الکلام إلی ملفوظٍ ومقدّر، والمقدّر إلی ما قدّر جزءاه وإلی ما قدّر أحد جزئیه، واشتهر التمثیل للأوّل بالجملة المقدّرة بعد «نَعَم» في جواب القائل: أزیدٌ قائم، وللثاني بقولک: «زیدٌ» مجبیاً لمن قال: من جاءک؟

﴿و﴾ التحقیق: أنّه ﴿لا یکون إلّا ملفوظاً ومرجع التقدیر إلی الاکتفاء بدلالة الحال أو المقال﴾ علی المدلول ﴿عن الکلام﴾ لا إلی تقدیره تحقیقاً بدلالة الدلیل علیه حالاً أو مقالاً.

توضیح الحال: أنّه لا یجوز الحذف والتقدیر إلّا بدلیلٍ حاليٍّ أو مقالي، وهما کالإشارة والخطّ وسائر الدوالّ إنّما یدلّان علی المفهوم لا علی اللفظ الدالّ علیه، ضرورة أنّ هیئة السفر إنّما تدلّ علی مفهومه لا علی لفظ تسافر، و «أزید قائمٌ» إنّما یدلّ علی المفهوم لا علی قولٍ آخر مماثلٍ له، لهما کالإشارة في عرض اللفظ من حیث الدلالة، فتوهّم التقدیر في الموردین کتوهّمه في مورد الإشارة باطلٌ، مع أنّه لو سلّم دلالتهما علی اللفظ ابتداءً لا یوجب التقدیر أیضاً، لأنّهما حینئذٍ کالخطّ حیث یکشف عن اللفظ أوّلاً وعن المفهوم ثانیاً، ومع ذلک لم یحکموا فیه بالتقدیر.

فإن قلت: الداعي علی تقدیر الکلمة أو الکلام مراعاة القواعد اللفظیّة فإنّ قولک: «زید» في جواب قول القائل: «من قام؟» مرفوعٌ إمّا علی الفاعلیّة أو علی المتبدائیّة، فلا بدّ من تقدیر الفعل أو الخبر. وقولک: «نعم» في جواب «أزیدٌ قائم؟» حرف تصدیقٍ، ولا بدّ له من ضمیمةٍ، ولا یمکن ضمّه إلی الجملة السابقة علیه، وإلّا لزم استعمالها علی وجهین مختلفین: التصدیق والاستفهام، وهو أظهر فساداً من استعمال المشترک في أکثر من معنی واحد، مع أنّ لفظة «نَعَم» لا تقع إلّا في صدر الکلام فلا تفید التصدیق في الجملة السابقة، علی أنّ استعمالها قد تمّ بفراغ التکلّم منها فلا یعقل استعمالها علی وجهٍ آخر ولو فرض جواز استعمالها علی

ص: 54

الوجهین المختلفین ابتداءً.

قلت: الحروف إنّما وضعت لإحداث معنیً في غیره لفظاً کان أم ما بمنزلته، فکلمة «نَعَم» إنّما تحدث التصدیق في القضیّة لفظیّةً کانت أم مشاریّةً أم حالیّةً أم مقالیّةً، وحیث إنّ المقال أحضر النسبة اکتفي به عن محضرٍ آخر، واُتي بکلمة «نَعَم» مبیّنةً لکیفیّة النسبة الحاضرة عنده. وهکذا الأمر في المثال الأوّل، فإنّ المسند إلیه لا بدّ له من مسندٍ به لفظاً کان أم ما بمنزلته، ولا یختصّ اللفظ به حتّی یجب التقدیر.

فاتّضح - غایة الاتّضاح - فساد جعل المقدّر قسماً من الکلام، بل جعل الملفوظ قسماً منه أیضاً لانحصار الکلام فیه.

وقد ظهر أیضاً فساد تقسیم الکلام إلی ما یجب ذکره و مایجب تقدیره وما یجوز فیه الأمران.

کما ظهر أیضاً فساد ما ذهب إلیه بعضهم: من کون «نَعَم» کلاماً لإفادته مفاد الجملة من حیث قیامه مقامها، لما ظهر لک من أنّ الإفادة إنّما حصلت من اقترانه بالمقال، فحاله حاله مقروناً باللفظ، ومنه یظهر أنّ الکلام المذکور بعده مؤکِّدٌ لما یمسّی مقدّراً، وهو المدلول علیه بالدلیل المقالي، لا أنّه یخرج به عن التقدیر ویصیر ملفوظاً.

ص: 55

تعریف الجملة

[تعریف الجملة](1)

﴿و﴾ إذ قد عرفت الکلمة والکلام فاعرف أنّ ﴿الجملة ما تضمّن لفظین بالإسناد﴾ إثباتاً أو نفیاً، وهو في مصطلحهم ما یتمّ اقتضاءً وإن کان ناقصاً فعلاً، کالنسبة الواقعة في جملة الشرط والصلة والجملة الوصفیّة.

وحیث خفي ما حقّقناه علی أکثرهم اضطربت کلماتهم في المقام:

فمنهم من فسّره بالنسبة التامّة الفعلیّة، وزعم أنّ إطلاق الجملة علی الجمل المذکورة إطلاقٌ مجازيٌّ من باب إطلاق الشيء علی ما کان علیه، غفلةً عن أنّ الکون السابق لا یؤثّر في اللاحق، ولا یصحّح الاستعمال، وإلّا لصحّ إطلاق الکلام علیها أیضاً.

ومنهم من فسّره بها أیضاً، وقال: المقصود اشتمال المرکّب علیها حالاً أو أصلاً.

ومنهم من فسّره بمطلق النسبة تامّةً کانت أم ناقصةً، غفلةً عن أنّه یعمّ النسب الناقصة التقییدیّة، فیلزم حینئذٍ صیرورة «غلام زید» ونحوه جملة.

ص: 56


1- العنوان منّا.

وکیف کان فاعتبار الإسناد فیها إنّما هو بحسب اصطلاحهم.

وأمّا اعتبار تضمّن اللفظین فهو بحسب أصل اللغة، فإنّ أقرب التعابیر إلیها «الجمع» و «الضمّ» ومن هنا فسّرها في القاموس بجماعة الشيء، ومن هذا الباب أجملتُ الحساب، أي: جمعته ورددته من التفصیل إلی الإجمال، ومنه أیضاً إطلاق المجلمل علی خلاف المبیّن، فإنّ الکلام إنّما یجمل لجمع الاحتمالات فیه بحیث لا یتبیّن المراد منها، کما أنّه إنّما یبیّن لعدم جمع الاحتمالات فیه، فظهر أنّ المفرد لم یکن جملةً لعدم کونه جماعةً من اللفظ. نعم، هو جملةٌ باعتبار کونه جماعةً من الحروف.

ثمّ إنّي عبّرت بالتضمّن دون الترکیب والتألیف تنبیهاً علی عدم انحصار الجملة فیما ترکّب من لفظین وتألّف منهما، واخترت لفظین علی کلمتین تنبیهاً علی جواز وقوع الترکیب بین المهمل والمستعمل ک-«دزی مقلوب زید»، وتوهّمُ أوله إلی المستعمل قد ظهر لک فساده.

ولا ینافي وقوعَ المهمل مورداً للترکیب جعلُ موضوع الفنّ الموضوع؛ لأنّه بالنظر إلی الغالب من التراکیب، فقد جرت عادتهم لبالحکم علی الشائع الغالب، ومن هذا الباب قصرنا الإسناد علی اللفظین مع صحّة وقوعه بنی اللفظ والجملة مقصوداً منها لفظها، کما عرفت.

وقد ظهر بما بیّناه أنّ الجملة تباین الکلمة وتعمّ الکلام من وجهٍ لاجتماعهما في الجمل المفیدة وافتراقها عنه في الجمل الناقصة وافتراقه عنها في المفردات المفیدة، فظهر بطلان القول بترادفهما أو أعمیّة الجملة منه عموماً مطلقاً.

واعلم أنّ الإسناد ینقسم إلی أقسام ثلاثة: حملِيٌّ اتّحاديٌّ یتّحد أحد طرفیه مع الآخر، وینطبق علیه، ویصحّ قیام أحدهما مقام الآخر، ووضع «هذا هو» موضعهما، تحقیقاً ک-«زیدٌ قائمٌ» أو تنزیلاً ک-«زیدٌ أسدٌ»، إثباتاً کما مرّ أو سلباً

ص: 57

ک-«ما زید قائماً أو بأسد»، وحدوثيٌّ فعليٌّ یحدث أحد طرفیه من الآخر ویظهر منه، تحقیقاً أو تنزیلاً، إثباتاً أو نفیاً نحو «ضرب زیدٌ» و «ما یضرب عمرو» و «بال زید» و «ما حاضت هند»، وإضافيٌّ حرفيٌّ یضاف أحدهما إلی الآخر بنحوٍ من أنحاء الإضافة، تحقیقاً أو تنزیلاً، إثباتاً أو سلباً نحو «زید في الدار» و «نظري في العلم» و «ما زیدٌ في الدار» و «ما نظري في علم الرمل».

﴿فهو إن کان حملیّاً اتّحادیّاً فهي﴾ أي الجملة تسمّی ﴿اسمیّة﴾ لتحقّقه بین الاسمین إثباتاً بمجرّد الترکیب الجملي، وهو جعل أحدهما عقیب الآخر محمولاً علیه من دون حاجةٍ إلی رابطٍ مخصوص: من هیئةٍ اشتقاقیّة أو أداةٍ تفیده، وعدم تحقّقه في الفعل والمجرور بحرف الجرّ.

﴿وإن کان حدوثیّاً فعلیّاً فهي﴾ تسمّی ﴿فعلیّة﴾ لعدم تحقّقه إلّا من قِبَل هیئة الفعل، کما هو ظاهر.

﴿وإن کان إضافیّاً حرفیّاً فهي﴾ عندی ﴿حرفیّة﴾ لعدم تحقّقه إلا من الحرف أو ما بمنزلته ﴿مسمّاةٌ﴾ في لسان القوم ﴿بظرفیّة﴾ وإنّما عدلت عنها لاطّراد الحرفیّة دونها، ضرورة عدم انحصارها فیها، فإنّ «زید علی السطح» و «المال لزید» و «عمروٌ کالأسد» وهکذا لا تکون ظرفیّة، مع أنّه لو لم یکن إلّا حسن مقابلة الحرفیّة بالاسمیّة والفعلیّة دون الظرفیّة لکفی في العدول عنها إلیها. ونبّهت بقولي: «إثباتاً أو نفیاً» علی أنّ الإسناد أعمّ من الإثبات والسلب، وأنّهما إنّما یتعلّقان بطرف الإسناد وهو المسند به، فالثابت للمسند إلیه أو المسلوب منه هو المسند به لا الإسناد فإنّه ثابتٌ علی التقدیرین، وإنّما ینتفي الإسناد في مقام التعداد کقولک: زید، عمرو، بکر، قائم، قاعد، وهکذا في مقام تعداد الإسماء، ولذا لا تستحقّ الأسماء المعدودة الإعرابَ بخلاف أجزاء القضیّة السلبیّة فإنّها معربة، فما

ص: 58

توهّمه جماعةٌ: من عدم الإسناد في القضیّة السلبیّة وأنّ تسمیتها قضیّةً تجوّزٌ، غلطٌ ظاهر.

ثمّ إنّ ما بیّنته: من تسمیة الجملة المشتملة علی الإسناد الحمليّ الاتّحاديّ بالاسمیّة لتحقّقه بین الاسمین من دون حاجةٍ إلی مؤونةٍ زائدة، إنّما هو بالنظر إلی الغالب من التراکیب من ثبوته بلحاظ المفهوم، وأمّا إذا ثبت بلحاظ الحکم علی نفس اللفظ فلا یختصّ بالاسمین لجواز الحکم علی اللفظ من حیث هو، مهملاً کان أو موضوعاً، جملةً کان أو مفرداً، اسماً کان أو فعلاً أو حرفاً، وقد ظهر لک أمثلتها ممّا سبق، مع أنّ اللفظ في هذه المواضع في حکم الاسم من حیص الاستقلال لأنّه حینئذٍ مفهومٌ مستقلٌّ اسميٌّ، کما هو ظاهر.

هذا، وقد خفي وجه التقسیم علی الأکثر فزعموا أنّ تقسیمها إلی الأقسام المذکورة باعتبار صدرها، قال في مغني اللبیب: الاسمیّة التي صدرها اسمٌ، ک-: زیدٌ قائمٌ، وهیهات العقیق، وقائم الزیدان عند من جوّزه - وهم الأخفش والکوفیّون - والفعلیّة التي صدرها فعلٌ کقام زیدٌ، وضرب اللصّ، وکان زیدٌ قائماً، وظننته قائماً، ویقوم زیدٌ، وقم، والظرفیّة المصدّرة بظرفٍ أو مجرورٍ نحو: أعندک زیدٌ، وأفي الدار زیدٌٍ، إذا قدّرتَ زیداً فاعلاً بالظرف والجارّ والمجرور، لا بالاستقرار المحذوف، ولا مبتدأً مخبراً عنه بهما، ومثّل الزمخشري ذلک ب-«في الدار» من قولک: زیدٌ في الدار، وهو مبنيٌّ علی أنّ الاستقرار المقدّر فعلٌ لا اسم، وعلی أنّه حذف وحده وانتقل الضمیر إلی الظرف بعد أن عمل فیه - ثمّ قال: - مرادنا بصدر الجملة المسند أو المسند إلیه فلا عبرة بما تقدّم علیهما من الحروف، والمعتبر أیضاً ما هو صدرٌ في الأصل، فالجملة من نحو: کیف جاء زیدٌ؟ ومن نحو (فأيّ آیات الله تنکرون)،(1)

ص: 59


1- سورة غافر، الآیة 81.

ومن نحو (فریقاً کذّبتم وفریقاً تقتلون)(1) و (خُشَّعاً أبصارهم یخرجون)(2) فعلیّةٌ؛ لأنّ هذه الأسماء في نیّة التأخیر، وکذا الجملة من نحو: یا عبد الله، ونحو (وإن أحدٌ من المشرکین)،(3) (والأنعام خلقها لکم)،(4) (واللیل إذا یغشی)(5) لأنّ صدورها في الأصل أفعالٌ، والتقدیر: أدعو زیداً، وإن استجارک أحدٌ، وخلق الأنعام، واُقسم باللیل، انتهی.

وفیه أوّلاً: أنّ المسند في نحو: ضرب زید، وأفي الدار زیدٌ؟ هو الضرب والدار لا الفعل ومجموع الجار والمجرور، لما سیظهر لک إن شاء الله تعالی: من أنّ الإسناد بأقسامه الثلاثة إنّما یقوم بالمعنی الاسمي والمفهوم المستقل، فصدر الجملة کعجزها في الأقسام الثلاث هو الاسم، فلو کان التقسیم باعتبار الصدر لزم بطلانه لانحصار الجملة حینئذٍ في الاسمِیّة.

وثانیاً: أنّک قد عرفت جواز صیرورة الجملة والحرف والمهمل أطرافاً للإسناد وصدرواً للجملة مراداً منها ألفاظها، فیلزم حینئذٍ خروج الجمل الثلاث من الأقسام الثلاثة، وکونها رابعةً وخامسةً وسادسةً.

وثالثاً: أنّه یلزم حنیئذٍ أن یکون نحو «ضَرَبَ فعلُ ماضٍ» جملةً فعلیّة لتصدّرها بالفعل مع أنّها اسمیّةٌ قطعاً، وتوهُّمُ صیرورة «ضَرَبَ» حینئذٍ اسماً قد

ص: 60


1- سورة البقرة، الآیة 87.
2- سورة القمر، الآیة 7.
3- سورة التوبة، الآیة 6.
4- سورة النحل، الآیة 5.
5- سورة اللیل، الآیة 1.

ظهر لک فساده.

وفي کلامه أنظارٌ اُخر لا بأس بالإشارة إلیها.

أحدها: جعل «هیهات العقیق» جملةً اسمیّة؛ لأنّه إن جعل «هیهات» موضوعاً لمفهوم «بَعُدَ» فهو ک-«بَعُدَ» فعلٌ لا اسمٌ لأنّ الفعلیّة إنّما تجيء من قِبَل المعنی الفعلي، ولا یقدح فیه عدم کونه علی الأوزان المعهودة للفعل، وإن جعل موضوعاً للفظ «بَعُدَ» الدالّ علی مفهومه - کما یظهر من بعضٍ - فهو حینئذٍ إلی الفعل أقرب منه إلی الدسم، لأنّ دلالته علی لفظ «بَعُدَ» لا یکون إلّا توطئةً للدلالة علی مفهومه کما هو ظاهرٌ، ولذا لا یراد به اللفظ فقط أبداً.

والحاصل: أنّ «هیهات العقیق» أقرب إلی «بَعُدَ العقیق» من نحو «یا زید» إلی «أدعو زیداً»، فلا وجه للتفصیل بینهما، وجعل جملة النداء فعلیّةً دونها.

هذا کلّه علی مقتضی مذاقهم.

وأمّا علی ما سنحقّقه في محلّه إن شاء الله تعالی: من عدم کونه فعلاً ولا اسماً وإنّما هو صوتٌ یشیر بالطبع إلی البُعد فهو ملحقٌ بالفعل أیضاً لتنزّله منزلة «بَعُدَ»، وعلی کلّ حالٍ فعدُّها جملةً اسمیّةً في غیر محلّه.

وثانیها: جعل «قُم» ونحوه جملةً؛ لما تبیّن لک من أنّه مفردٌ مفید، وتوهّم أنّه مرکّب من الفعل وفاعله المستتر فیه قد ظهر لک فساده.

وثالثها: جعل «في الدار» من قولک: «زید في الدار» جملةً بناءً علی تعلّقه باستقرّ مقدّراً وعلی حذفه وحده وانتقال الضمیر إلی الظرف؛ لما سیظهر لک - إن شاء الله تعالی - من فساد التقدیر وانتقال الضمیر.

ورابعها: أنّه ظهر من تفسیر صدر الجملة بالمسند أو المسند إلیه أنّ نحو «کیف جاء زیدٌ؟» إلی آخر ما ذکره جملةٌ فعلیّةٌ لأنّ الأسماء المتصدِّرة في الأمثلة المذکورة

ص: 61

مفاعیل للأفعال المتأخّره أو أحوال عن فواعلها، فلا حاجة إلی تقیید الصدر بالأصالة لإدخال الجمل المذکورة في الفعلیّة.

وخامسها: فساد جعل نحو «یا عبد الله» جملةً؛ لما ظهر لک من عدم اشتماله علی الإسناد، وفساد تأویل حرف النداء إلی «أدعو». وهکذا الأمر في نحو «واللیل» فإنّ القسم فیه إنّما یحدث بالواو وکیفیّة لاستعمال(1) مدخوله، فهو خصوصیّةٌ في التلفّظ وجهةٌ في الاستعمال، فتقدیر الفعل أو تأویل «الواو» إیه في غیر محلّه، فلا یصحّ درجهما في الجملة فضلاً عن درجهما في الفعلیّة.

وسادسها: أنّ نحو «وإن أحدٌ من المشرکین... الآیة» جملةٌ فعلیّةٌ وإن لم نقل بتقدیر «استجارک»، لما سیتبیّن لک إن شاء الله تعالی: من جواز تقدیم الفاعل علی الفعل.

هذا، وقد ظفرت علی کلامٍ له في الباب السابع في الجملة المصدَّرة بالفعل أو الحرف زاعماً صیرورتها اسمین لا بأس بإیراده وإیراد ما فیه، قال - بعد أن ذکر أنّه یعبّر بنفس اللفظ إن کان مشتملاً علی حرفین لا باسمه، وإن کان أکثر من ذلک نطق به أیضاً، فقیل: «سوف» حرفُ استقبالٍ، و «ضَرَبَ» فعلُ ماضٍ، و «ضَرَبَ» هذه اسم ولهذا أخبر عنها بقولک: فعل ماضٍ، وإنّما فتحت علی الحکایة -:

یدلّک علی ما ذکرنا أنّ الفعل ما دلّ علی الحدث وزمانٍ محصّل، و «ضرب» هنا لا یدلّ علی ذلک، وأنّ الفعل لا یخلو عن الفاعل في حالة الترکیب، وهذا لا یصحّ أن یکون له فاعل. وممّا یوضح لک ذلک: أنّک تقول في «زیدٍ» من قولک «ضرب زیدٌ» مرفوعٌ ب-«ضَرَبَ» أو فاعلٌ ل-«ضَرَبَ»، فتُدخِل الجارّ علیه،

ص: 62


1- کذا، والمناسب بدل «لاستعمال»: استعمال.

وقال لِ بعضهم: لا دلیل في ذلک؛ لأنّ المعني: بکلمة «ضرب»، فقلت: فکیف وقع «ضرب» مضافاً إلیه مع أنّه لیس باسم في زعمک. فإن قلت: فإذا کان اسماً فکیف أخبرت عنه بأنّه فعل؟ قلت: هو نظیر الإخبار في قولک زیدٌ قائم، ألا تری أنّک أخبرت عن زید باعتبار مسمّاه لا باعتبار لفظه وکذلک أخبرت عن ضرب باعتبار مسمّاه وهو «ضرب» الذي یدلّ علی الحدث والزمان فهذا لفظ مسمّاه لفظ کأسماء السور وأسماء حروف المعجم، وأمّا قول ابن مالک إنّ الإسناد اللفظي یکون في الأسماء والأفعال والحروف وإنّ الذي یختصّ به الاسم هو المعنويّ فلا تحقیق فیه - ثمّ قال:- وممّن قلّد ابن مالک في هذا الوهم أبو حیّان، انتهی.

أقول: لا شبهة في أنّ اللفظ کسائر المفاهیم:

قد یلحظ مستقلّاً ومن حیث هو، فهو حینئذٍ کالمفاهیم الاسمیّة أمرٌ مستقلٌّ یمکن الإخبار عنه وبه، ولا یختصّ به لفظ دون لفظٌ، بل یشترک فیه المهمل والمستعمل والجملة والمفرد، فنقول: «دیز» مهملٌ، و «زید» موضوعٌ لفلان، و «ضرب زیدٌ» جملةٌ فعلیّةٌ.

وقد یلحظ توطئةً وتبعاً للمفهوم منه، فهو حینئذٍ قنطرةٌ لإراءته، ولا نظر إلی نفسه أصالةً، فلا یمکن الحکم علیه وبه بلحاظ نفسه، وإنّما یحکم علیه بلحاظ مفهومه، فإن کان مفهومه أمراً مستقلّاً یقبل الإخبار عنه وبه یجوز الإخبار عنه وبه، وإلّا فلا، ویختصّ هذا باللفظ المستعمل کما هو ظاهرٌ، فهو قابلٌ لکلا اللحاظین، فإن لوحظ بنفسه غیر مستعملٍ في مفهومه یمکن الحکم علیه وبه، وإن لو حظ قنطرةً وتبعآً مستعملاً في مفهومه فهو تابعٌ له في جواز الحکم علیه وبه، فإن کان أمراً مستقلّاً ومفهوماً اسمیّاً یجوز الحکم علیه وبه، وإلّا فلا. وما نحن فیه من قبیل الأوّل؛ لأنّ الفعل کالاسم والحرف من صفات الألفاظ لا المفاهیم، وتوقّفُ اتّصاف اللفظ به علی

ص: 63

وضعه للمعنی الفعليّ لا ینافي کونه صفةً له، وإنّما یوجب کونه صفةً ثانویّةً لا أوّلیّة.

وتوهّم أنّه من صفات اللفظ المستعمل في مفهومه استناداً إلی ما اشتهر في تعریفه: من أنّه ما یدلّ علی الحدث والزمان، فاسدٌ؛ ضرورة أنّ اللفظ الموضوع للحدث المقترن بأحد الأزمنة فعلٌ - استعمل في مفهومه أم لا - وإلّا لزم أن لا یکون قبل استعماله فعلاً ولا اسماً ولا حرفاً، فیلزم منه عدم انحصار الکلمة في الأقسام الثلاثة. والتعریف لا یکشف عمّا توهّمه لأنّ المقصود منه الدلالة الاقتضائیّة لا الفعلیّة، مع أنّ نفي الدلالة الفعلیّة في المثال المزبور إنّما یتمّ علی ما اخترناه وحقّقناه: من أنّها هي الإفادة والإعلام المتوقّف حصوله علی الإرادة والاستعمال، وأمّا علی ما اشتهر بین الأواخر: من أنّها الإحضار والإخطار، ،لا تتوقّف علی الإرادة والاستعمال کما هو ظاهر.

وممّا بیّناه ظهر أنّ الفعل إنّما یلازم الفاعل إذا استعمل في مفهومه لا مطلقاً، فلا وجه لنفي فعلیّته بسبب خلوّه عن الفاعل.

ومنه یظهر وجه دخول الجارّ علیه؛ لما عرفت من أنّه حینئذٍ أمرٌ مستقلٌّ کالمفاهیم الاسمیّة، فلا مانع من دخول الجارّ علیه، ولعلّه مراد من قال: إنّ المعنی بکلمة ضرب.

ولو تنزّلنا وسلّمنا توقّف اتّصاف اللفظ بالفعلیّة علی استعماله في مفهومه، لزم عدم جواز الإخبار عنه بأنّه فعلٌ؛ لأنّ المستعمل في المفهوم الفعليّ لا یقبل الإخبار عنه کما هو ظاهر، فلا یصحّ الإخبار عن اسمه باعتباره، لما عرفت: من أنّ صحّة الإخبار عن اللفظ المستعمل فرع جواز الإخبار عن مفهومه، فهو حینئذٍ من قبیل أسماء الأفعال، فکما لا یصحّ الإخبار عن «هیهات» و «صه» مستعملین في مفهومیهما وهو لفظ «ابعد» و «اسکت» المستعلمین في مفهومیهما، کذلک لا یصحّ

ص: 64

الإخبار عن «ضَرَبَ» اسماً مستعملاً في «ضَرَبَ» فعلاً مستعملاً في معناه، فما ارتکبه لتصحیح الإخبار عنه علی فرض صحّته لا ینفعه في شيءٍ.

مع أنّه لو کن اسماً لزم جواز إجرا الإعراب علیه، ولا یدفعه ما ذکره: من أنّه إنّما فتحت علی الحکایة؛ لأنّه یوجب الجواز لا الوجوب.

علی أنّ ما ذکره لا یتمّ في نحو «ضَرَبَ ثلاثيّ» حیث أنّه من الصفات الأوّلیّة الثابتة للّفظ بلا واسطةٍ، لا الثانویّة الثابتة له بواسطة، فإن سُلّم أنّه موضوعٌ حینئذٍ باعتبار نفسه یلزمه الرجوع عمّا توهّمه من اختصاص الإسناد إلیه مطلقاً بالاسم. وإن توهّم أنّه حینئذٍ اسم لنوعه کما توهّمه بعضهم فهو أفسد؛ لأنّ صیرورة شخص اللفظ إسماً لنوعه مسلتزمةٌ لاتّحاد طرفي التسمیة وطرفي الاستعمال وتقدّمِهِ علیها، وفسادها من أوائل البدیهیّات؛ ضرورة أنّ الفرد لیس إلّا النوع الموجود، فهما متّحدان حقیقةً ولا اختلاف بینهما إلّا في التشخّص، فضَرَبَ - مثلاً - مع قطع النظر عن وجوده في الخارج نوعٌ والموجود منه في الخارج فردٌ، فتسمیة أحدهما للآخر واستعماله فیه تسمیةٌ للشيء لنفسه واستعمالٌ له في نفسه، بل الأمر في الاستعمال أظهر لأنّه عبارة عن إیجاد اللفظ لإراءة مفهومه ومسمّاه، والإیجاد إنّما یعرض علی النوع، وبعروضه علیه یصیر فرداً، فالمستعمل هو النوع وإن صار بالاستعمال فرداً، فلا یختلف طرفاه حنیئذٍ حتّی في التشخّص.

ومنه یظهر وجه تقدّم الاستعمال علی التسمیة؛ لأنّ المفروض تعلّقها بالشخص الحاصل تشخّصه من قبل الاستعمال.

وکیف کان، فقد اتّضح لک أنّ ما ذهب إلیه ابن مالک - من عدم اختصاص الإسناد اللفظي بالاسم - في غایة المتانة، وما ذهب إلیه ابن هشام في نهایة السخافة.

ص: 65

والعجب أنّه بعد أن لم یتنّبه لما نبّه علیه ابن مالک أخذ في الطعن علی أبي حیّان، وجعل اهتداءه إلی ما حقّقه تقلیداً له في الوهم.

وإذا اتّضح لک أنّ تقسیم الجملة إلی الأقسام الثلاثة باعتبار أقسام الإسناد لا باعتبار صدرها، کما توهّمه الأکثر ﴿ف-﴾ قد ظهر لک أنّ ﴿زیدٌ ضَرَبَ کضَرَبَ زیدٌ﴾ جملةٌ ﴿فعلیّةٌ﴾ لا اسمیّة، لظهور أنّ الإسناد فیهما حدوثيٍّ، ولا یختلف الإسناد بتقدّم الاسم علی الفعل.

وما توهّمه الجمهور: من اشتمال «زیدٌ ضَرَبَ» علی إسنادین: إسناد الفعل إلی الضمیر المستتر فیه العائد علی الاسم المتقدّم علی الفاعلیّة، وإسناد جملة الفعل وفاعله إلیه علی وجه الخبریّة، وَهَمٌ ظاهرٌ؛ فإنّ التعبیر عن المستتر بالضمیر استعارةٌ کما عرفت، فلا ضمیر فیه تحقیقاً حتّی یعود علی ما تقدّم ویصیر جزءاً للجملة وطرفاً للترکیب اللفظي - کما توهّموه - فالفعل المتأخّر کالمتقدّم مفردٌ لا جملة، ولا إسناد في البین سوی الإسناد الحدوثي المستفاد من هیئة الفعل، والاسم المتقدّم - کالمتأخّر - مفسّرٌ للمستتر وفاعلٌ للفعل من جهة اتّحاده معه؛ إذ لو ثبت إسنادٌ آخر لکان إمّا حدوثیّاً أو اتّحادیّاً أو إضافیّاً.

والأوّل لا یحصل إلّا من قِبَل الهیئة الاشتقاقیّة، ولو فرض جواز حصوله من الهیئة الترکیبیّة لوجب الالتزام به في صورة تأخّر الاسم أیضاً؛ لاستتار الضمیر في الفعل في الصورتین، لما عرفت من وجوب الاستتار وتقوّم الفعل به، مع أنّه لو کان کذلک لزم حدوث الفعل مع فاعله من الاسم الظاهر، وبطلانه في غایة الوضوح.

والثاني مستلزمٌ لاتّحاد طرفي الإسناد وصحّة قیام أحدهما مقام الآخر وإجراء أحکامه علیه، وانتفاء اللازم بیّن، مع أنّه لو ثبت لجری في صورة تأخّر الظاهر عنه أیضاً لاستتار الضمیر فیه في الصورتین.

ص: 66

وأمّا الثالث فأظهر فساداً ضرورة انتفائه فیما بینه وبین المتقدّم، ولو فرض ثبوته فیما بینهما لجری في صورة تأخّر الظاهر؛ أیضاً لما عرفت مع أنّه إنّما یحصل من قِبَل حرف الجرّ أو ما بمنزلته لا الهیئة الترکیبیّة.

فقد اتّضح بما بیّناه - من أنّ الظاهر المتقدّم کالمتأخّر مفسّرٌ للمستتر أو مؤکّدٌ له - أنّه لو بنینا علی ما بنوا علیه من کون التقسیم باعتبار صدر الجملة لزم کون الجملتین فعلیّتین أیضاً لصدارة الفعل في الصورتین حینئذٍ.

﴿و﴾ قد ظهر بما بیّناه أنّ ﴿زیدٌ في الدار وفي الدار زیدٌ مثل أفي الدار زیدٌ؟﴾ وما في الدار زیدٌ ونحوها ﴿حرفیّةٌ ظرفیّةٌ﴾ لاتّحاد الإسناد في الجمیع، وعدم اختلافه باختلاف الصدر والاعتماد علی الاستفهام والنفي وعدمه، فالتفصیل بینها بجعل الاُولیین اسمیّةً بجعل المرفوع مبتدءاً والظرف خبراً، والثالثة محتملة لها وللفعلیّة بجعل المرفوع فاعلاً لمتعلّق الظرف المقدّر وللظرفیّة بجعله فاعلاً للظرف، في غیر محلّه لفساد التقدیر أوّلاً، وعمل الظرف ثانیاً:

أمّا التقدیر، فلعدم الداعي علیه معنیً ولا لفظاً:

أمّا الأوّل، فلأنّ «الدار» مثلاً مرتبطٌ إلی «زید» علی وجه الظرفیّة من دون حاجةٍ إلی تقدیر فعلٍ أو شبهه بحسب المعنی، وما توهّمه الفاضل عصام الدین: من أنّ الظرف یکون ظرفاً لأمرٍ من اُمور زیدٍ من قیامه أو سکونه أو حصوله أو غیر ذلک فلا بدّ من تقدیره لیتمّ به البیان، لا محصّل له: إذ لا یختصّ العَرَض بالظرف کما هو ظاهر، فکما أنّ العرض لا یخلو عن مکانٍ وزمان فکذلک الجوهر، مع أنّه لا یتمّ ما ذکره فیما إذا کان المظروف عرضاً في الکلام مثل «ضربي في الدار» عل یأنّه لا یجري في نحو «المال لزید» فإنّ المملوک هو عین المال لا أمرٌ من اُموره.

وأمّا الثاني، فلعدم الدلیل علی أنّ انتصاب الظرف والمجرور بالعامل اللفظي

ص: 67

أوّلاً، وعلی انحصاره بالفعل وشبهه ثانیاً، فقد ذهب ابنا طاهر وخروف إلی أنّ الناصب في نحو «زید عندک» و «عمرو في الدار» المبتدأ، وزعما أنّه یرفع الخب رإذا کان عینه وینصبه إذا کان غیره، وأنّ ذلک مذهب سیبویه، والکوفیّون إلی أنّ الناصب فیهما أمرٌ معنويٌّ وهو: کونهما مخالفین للمبتدأ، بل سیظهر لک - إن شاء الله تعالی - أنّ العامل ینحصر في المعنوي وهو: المعنی المقتضي للإعراب، ولا عامل سواه، بل لا دلیل علی انتصاب المجرور محلّاً حتّی یحتاج إلی ناصبٍ، وما یتخیّل: من الاستدلال علیه بنصبه بعد نزع الخافض عنه في غیر محلّه؛ لأنّ الأسماء المدّعی کونها منصوبةً بنزع الخافض منصوبةٌ علی المفعولیّة تحقیقاً أو علی سبیل التوسّع، علی ما سیظهر لک تفصیله.

وأمّا عمل الظرف، فلأنّه مبنيٌّ علی تقدیر المتعقّق ونیابة الظرف عنه في العمل، وهما ممّا لا یجتمعان؛ لأنّ المقدِّر في حکم الموجود، ونیابة الظرف عنه في العمل فرع تضمینه معنی المتعلّق وصرف الإسناد عنه إلی الظرف، وهو رجوعٌ عن التقدیر.

وأقبح منه ما حکموا به: من انتقال الضمیر عنه إلی الظرف واستتاره فیه وتسمیته ظرفاً مستقراً لاستقرار الضمیر فیه في نحو «زیدٌ في الدار»؛ لما عرفت من رجوع الاستتار إلی دلالة الفعل علی الفاعل تبعاً والتزاماً، فلا یکون في البین ضمیرٌ حتّی ینتقل عنه إلی الظرف.

﴿و﴾ اعلم أنّه ﴿یتّحد الطرفان في﴾ القسم ﴿الأوّل﴾ من الإسناد وهو الاتّحاديّ الحملي ذاتاً و ﴿صدقاً﴾ فیصدق وینطبق کلٌّ منهما علی الآخر ﴿ویختلفان اعتباراً﴾ أي باعتبار نظر المتلکّم بجعل أحدهما مسنداً إلیه والآخر مسنداً به ﴿فیقبل کلّ واحدٍ منهما الإسناد إلیه وبه ذاتاً﴾ وفي حدّ نفسه، لأنّ نسبة

ص: 68

الاتّحاد إلی الطرفین علی حدٍّ واحد، فکما یتّحد «القائم» مع «زید» مثلاً فکذلک یتّحد «زید» معه، فیجوز الإخبار عنه بأنّه قائم کما یجوز الإخبار عنه بأنّه زیدٌ، فتقول: القائم زید.

﴿وإنّما یتعیّن أحدهما﴾ أي الطرفین ﴿في أحدهما﴾ أي الإسناد إلیه وبه ﴿بالنظر والاعتبار﴾ أي بنظر المتکلّم واعتباره، فإن أراد الحکم علی «زید» مثلاً ب-«القیام» بأن کان زیدٌ معروفاً عند المخاطب في نظره فیجعله مسنداً إلیه ویحکم علیه بالقیام الذي هو مجهولٌ للمخاطب في نظره، وإن کان الاتّصاف بالقیام معلوماً عند المخاطب في نظره فیجعل «القائم» مسنداً إلیه ویحکم علیه بأنّه «زید» الذي هو المجهول للمخاطب في نظره.

فإن قلت: الجملة الخبریّة اسمیّةً کانت أو فعلیّةً تقع خبراً وطرفاً للترکیب الاتّحادي بالاتّفاق، بل الإنشائیّة أیضاً تقع خبراً علی الأصحّ عندهم، مع أنّها مطلقاً لا تقع مسنداً إلیها، فلا یستقیم ما ذکرتَ: من انّ کلّ واحدٍ من طرفي الترکیب الاتّحادي یقبل الإسناد إلیه وبه.

قلت: الجملة کما لا تقع مسنداً إلیها فکذلک لا تقع مسنداً بها، وتوهّم: أنّ «أبوه قائم» و «ضربته» و «أضربه» في قولک: زید أبوه قائم، وزیدٌ ضربته، وزیدٌ أضربه، أخبارٌ لزید، في غایة السخافة؛ إذ لا یعقل اتّحاد أحد طرفیته مع الآخر مع عدم اتّحاده معه، فلو اتّحدت الجمل المزبورة مع زید مثلاً لاتّحد معها، فصحّة الإخبار بها عنه تستلزم صحّة الإخبار به عنها، فعدم صحّة أحدهما یکشف عن عدم صحّة الآخر، وأیضاً لو کانت الجمل المزبورة مسنداً بها لزم أن تتکرّر لفظة «است» الدالّة علی الإسناد في ترجمة «زید أبوه قائم» بالفارسیّة، ویقال: زید پدرش ایستاده است است، وأن تظهر علی الجملتین الأخیرتین في ترجمتها

ص: 69

بالفارسیّة ویقال زید زدم او را استف وزید بزن او را است، وأیضاً: طرف الإسناد الاتّحادي لا بدّ أن یکون مفهوماً مستقلّاً اسمیّاً، والجملة لاشتمالها علی الإسناد لا یکون مفهوماً مستقلّاً.

وما یتوهّم: من تأوّلها بالمفرد الصالح للإسناد ورجوع الإسناد الثابت فیها إلی النسبة الناقصة التقییدیّة، ک-«قائم الأب» في المثال الأوّل، و «مضروبي» في المثال الثاني وهکذا، وَهَمٌ فاضح؛ لأنّ التأویل بالمفرد:

إن کان من قِبَل الإسناد الخبريّ ففیه:

أوّلاً: أنّ المؤثّر لنقص الجملة إنّما هو صیرورتها قیداً لأمرٍ آخر، لا إسنادها إلیه بالإسناد التامّ المنافي للتقیید.

وثانیاً: أنّه لو فرض نقص الجملة فلا ترجع إلی المرکّب التقییدي الذي أحد طرفیه قیدٌ للآخر.

وثالثاً: أنّه لو فرض رجوعها إلی المرکّب التقییدي لزم جواز وقوعها مسنداً إلیها أیضاً؛ فإنّ «قائم الأب» مثلاً کما یجوز الإخبار به عن زید، یجوز الإخبار عنه بأنّه زیدٌ.

وإن لم یکن من قِبَل الإسناد، ففیه: أنّه لا سبب للتأویل في البین سواه.

وبالجملة: عدم ثبوت الإسناد بین الجملة والاسم في غایة آلوضوح، وکأنّهم اغترّوا بما تضمّنته الجمل المذکورة من الإخبار عن حال الاسم المتقدّم، ولم یتفطّنوا أنّ ذلک لم یکن بأصل الترکیب وإنّما یکون بالتعب والالتزام، فلا دلالة له علی وجود الإسناد؛ ألا تری أنّ «ضربت زیداً» یتضمّن الإخبار عن زید بأنّه مضروب للمتکلّم مع عدم الإسناد بینه وبین الجملة المتقدّمة.

فإن قلت: فما الوجه في ارتفاع الاسم المتقدّم إذا لم یکن مسنداً إلیه للجمل المذکورة؟

ص: 70

قلت: لا یحتاج الرفع إلی سببٍ بعد تحقّق الترکیب الموجب للإعراب؛ لأنّه الأصل في أنواع الإعراب - علی ما سیظهر لک تفصیله في محلّه إن شاء الله تعالی - فترتفع الکلمة ما لم یکن في البین ناصبٌ أو جارّ.

﴿ویختلفان﴾ أي الطرفان ﴿في﴾ القسمین ﴿الأخیرین﴾ من الإسناد وهما: الحدوثي والإضافي ذاتاً و ﴿صدقاً﴾.

﴿فیتعیّن الحدث في﴾ القسم ﴿الثاني﴾ وهو الحدوثي ﴿للثاني﴾ أي الإسناد به؛ لأنّه حادث من الذات فلا یعقل إسناد الذات إلیه علی وجه الحدوث، فکلٌّ من طرفیه متمحّضٌ في أحد الأمرین، فلا یجوز أن یختلف الأمر باعتبار نظر المتکلّم. نعم، یختلف الأمر باختلاف نظره من حیث تقدیم الفاعل علی الفعل وتأخیره عنه، فإن کانت العمدة في نظره بیان الفاعل ینبغي تقدیمه علی الفعل، وإلّا فالأولی تأخیره عن الفعل.

﴿و﴾ یتعیّن ﴿الظرف﴾ وما بمنزلته وهو المجرور ﴿في الثالث﴾ وهو الإسناد الإضافيّ ﴿للأوّل﴾ أي الإسناد إلیه؛ لأنّه لا یحصل إلّا من قِبَل حرف الجرّ أو ما بمنزلته، ومن المعلوم أنّ حروف الجرّ إنّما وضعت للإفضاء بأمرٍ وإضافته إلی ما یلیها، ومن هنا سمّاها بعضهم بحروف الإضافة. وقیل: إنّها إنّما سمّیت حرف الجرّ لأنّها تجرّ أمراً آخر إلی مدخولها، فمدخولها أبداً هو المسند إلیه بالإسناد الإضافيّ، فلا یختلف الأمر باختلاف نظر المتکلّم إلّا في تقدیم المضاف علی المضاف إلیه والعکس، فإن کان المضاف معروفاً للمخاطب والمضاف إلیه مجهولاً له في نظر المتکلّم یقدّم المضاف علی المضاف إلیه، فیقال: زید في الدار، بجعل المضاف إلیه في موضع الخبر، وإن کان الأمر بالعکس فبالعکس، فیقال: في الدار زید، بجعل المضاف في موضع الخبر؛ فما اشتهر بینهم: من جعل المضاف مسنداً إلیه والمضاف

ص: 71

إلیه مسنداً به بجعله نائباً عن متعلّقه المقدّر أو قیداً له بعدم جعله نائباً عنه، لا أصل له لما ظهر وسیظهر لک إن شاء الله تعالی: من فساد التقدیر والنیابة.

فإن قلت: الإضافة نسبةٌ ناقصةٌ تقییدیّة کما هو ظاهر؛ ضرورة أنّ المضاف إلیه من متعلّقات المضاف وتوابعه وقیوده، فلا تکون قسماً من الإسناد حتّی یخرج بها الفظ عن حدّ النقص ویتمّ الکلام بطرفیها ویصحّ السکوت علیهما، فلو أبقی «زید في الدار» مثلاً علی ظاهره: من عدم اشتماله علی نسبةٍ سوی الإضافة، ولم یقدّر متعلّقٌ للظرف من فعلٍ أو اسمٍ مسندٍ إلی زیدٍ بإسنادٍ حدوثِيٍّ أو اتّحادي، لزم أن لا یکون کلاماً تامّاً وإلّا لزم تأثیر الإضافة في إتمام الکلام وإخراجه عن حدّ النقص، وهو خلفٌ وتناقض، فلا بدّ من الالتزام بما أوّله الجمهور: من تقدیر متعلّقٍ للظرف یتمّ به الکلام.

قلت: الإضافة بین الاسمین - کالاتّحاد والحدوث - لا تکون ناقصة أوّلاً وبالذات، وإنّما یعرض علها النقص ثانیاً وبالعرض، وما ادّعي - من الضرورة علی أنّ المضاف إلیه من قیود المضاف - إنّما یصحّ في الإضافة الحاصلة من الهیئة الترکیبیّة المصوغة علی انقص لا في مطلق الإضافة، کیف! والترکیب الإضافيّ کالترکیب التوصیفي ینتزع من الترکیب التامّ الخبري الإضافي، کما أنّ الترکیب التوصیفي ینتزع من الترکیب التامّ الخبري الاتّحادي، فلو لم یتصوّر فیها التمام لم یکن للتفرّع والاتنزاع وجه، فظهر أنّ الإضافة متّصفةٌ بالتمام أوّلاً وبالذات، والنقص إنّما یعرض علیها ثانیاً وبالعرض، فتوهّم ثبوت النقص في مطلق الإضافي في غایة الغرابة، وکأنّ الاغترار إنّما حصل من شیوع إطلاق الإضافة علی خصوص الإضافة الترکیبیّة.

ص: 72

تنبیه: إعلم أنّ طرفي نسبتي الاتّحاد والحدوث مطلقاً لا یکونان إلّا اسمین. وأمّا الإضافة، فإن کانت تامّةً أو منتزعةً منها فکذلک، وإن کانت ناقصةً في حدّ ذاتها فأحد طرفیها وهو المضاف یجوز أن یکون فعلاً.

فما أفهمه کلام ابن الحاجب في کافیته: من إضافة الفعل إلی المجرور بواسطة حرف الجرّ من دون أن یأوّل بالاسم، في محلّه.

وما ذکره شارح الصمدیّة: من لزوم تأویل الفعل بالاسم استناداً إلی أنّ المضاف لا یکون إلّا اسماً، في غیر محلّه.

قال مفسّر الکلام(1) الماتن في حدّ المجرور بالحرف:

واعلم أنّه لیس في کلامه ما یقتضي أنّ الفعل یضاف حیث یکون حرف الجرّ ملفوظاً کمررت بزید، فلا ینبغي حمله علی ذلک وإن کان محتملاً له؛ إذ الحقّ أنّ المضاف لا یکون إلّا إسماً، کما صرّح به الزمخشري وغیره. فإذا قلت: مررت بزید، فمررت من حیث أنّ زیداض مفعول له لیس مأوَّلاً بالاسم، ومن حیث هو مضافٌ إلی زید مأوَّلٌ به، أي بمرورٍ مضاف، فالمضاف هو المرور لا الفعل الاصطلاحي، والذي دعا شرّاح کلام ابن الحاجب في کافیته إلی إلی حمل عبارته علی أنّ المضاف یکون فعلاً تعریفه لحروف الجرّ بأنّها ما وضعت لإفضاء الفعل أو معناه إلی ما یلیه، وهو صریحٌ في ذلک، انتهی.

أقول: التأویل بالاسم في غایة السخافة، ومن توهّم أنّ المضاف لا یکون إلّا اسماً فقد زعم أنّ المضاف هو الفعل باعتبار معناه التضمّني وهو: الحدث الذي هو

ص: 73


1- کذا، والمناسب: کلام.

مفهوم اسميٌّ، لا أنّه یأوَّل بالاسم حینئذ، مع أنّ التحقیق أنّ الفعل إنّما یتعلّق به الظرف والمجرور باعتبار معناه الحرفي وهو: الإسناد؛ ضرورة أنّ الظرف في قولک «ضربت في الدار» ظرفٌ لحدوث الحدث وصدوره من الذات، وهکذا الأمر في قولک «مررت بزید» و «سرت من البصرة إلی الکوفة» و «ضربت للتأدیب» و «دخلت حتّی البلد» وهکذا من الأمثلة، فإنّ الحدث إنّما یضاف إلی المبدأ والمنتهی والملصق به والعلّة والغایة وهکذا بحدوثه وصدوره، لا بنفسه؛ ضرورة أنّ الحدث مع قطع النظر عن حدوثه وصدوره في الخارج لا نسبة له من الاُمور المذکروة، فالذي یضاف وینتسب ابتداءً إنّما هو الحدوث والوجود.

وإن شئت زیادة التوضیح فانظر إلی قولک: «بعت في الدار» وأمثاله من الأفعال المصوغة من الأحداث القارّة، فإنّ المضاف إلی الدار علی وجه الظرفیّة المقیّد بها إنّما هو إیجاد البیع لا البیع نفسه، وإلّا لزم أن لا یثبت البیع خارج الدرا، فلو کان الظرف ظرفاً للحدث لزم أن لا یصحّ قولک: «بعت في الدار» وأمثاله، وبطلان اللازم واضحٌ مستغن عن البیان. وهکذا الأمر في الإضافات المتعلّقة بالجمل الاسمیّة کقولک: «زید ضارب في الدار» ونحوه، فإنّ الدار ظرفٌ للإسناد.

ص: 74

أقسام الکلمة

[أقسام الکلمة](1)

﴿تقسیمٌ: الکلمة﴾ تنقسم إلی ثلاثة أقسام ﴿اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ جاء لمعنیً، فالاسم ما أنبأ عن المسمّی، والفعل ما أنبأ عن حرکة المسّی، والحرف ما أوجد معنیً في غیره، أي في لفظ غیره، والتحدید بما حدّدنا﴾ وعرّفنا الأنواع الثلاثة بها ﴿هو النبأ الیقین﴾ والحقّ الصریح ﴿الذي نَبَّأنا به النبأ العظیم مولانا أمیر المؤمنین(2) سلام الله علیه وعلی أبنائه الطاهرین﴾ فیجب علینا توضیحها وتبیینها حسب ما یقتضیه المقام.

فأقول - بعون الله تعالی ومشیّته -: إنّ کلمة «ما» ترد اسمیّةً وحرفیّة، والاسمیّة موضوعةٌ للشيء مطلقاً، وترد موصولةً وموصوفةً وشرطیّةً واستفهامیّة بحسب خصوصیّات الاستعمال، لا أنّها مشترکة فیها.

والنبأ لغةً: للانشکاف یقیناً أم عرفاناً أم تذکّراً، والمسمّی ما یتّصف بوقوع التسمیة علیه، وهي ناشئةٌ عن المناسبة الذاتیّة تارةً وعن الوضع مرّةً وعن الوضعین

ص: 75


1- العنوان منّا.
2- بحار الأنوار 40: 162.

اُخری إذا کن أحد الموضوعین قیداً للآخر بحیث صارا عنواناً لأمرٍ واحد، کالأسماء المشتقّة، فإنّ کلّاً من مادّتها وهیئتها مستقلٌّ بوضع، إلّا أنّ مدلول الهیئة فیها قیدٌ للحدث، بحیث یکون المجموع إمّا عنواناً للحدث کالمصدر المعروف المشتمل علی الحدث والنسبة الناقصة، أو عنواناً للذات کسائر الأسماء المشتقّة.

والحرکة مقابلةٌ للسکون، وهي الأمر الحادث من الشيء تحقّقاً أو اتّصافاً، قیاماً أو وقوعاً، وهي لا تنطبق علی الحدث إلّا إذا لو حظ مسنداً بالإسناد الحدوثي، فإنّ الحدث إذا لو حظ مع قطع النظر عن النسبة أو مع النسبة علی سبیل التقیدد یکون کسائر المفاهیم مورداً للتسمیة، وأمّا إذا لو حظ سنداً بالإسناد الحدوثي یخرج عن کونه مسمّی، ویصیر المجموع المتحصّل منه ومن الإسناد حرکةً وفعلاً للمسند إلیه.

ویسمّی اللفظ المنبِئ عنه تبعاً لمدلوله فعلاً، فتسمیته فعلاً إنّما هو باعتبار العنوان الوحدانيّ المتحصّل من اجتماع الحدث والإسناد، لا باعتبار مدلوله التضمّني وهو: المبدأ العاري عن النسبه، کما توهّمه أکثر أهل الصناعة؛ لأنّه قد یکون صفةً کالعلم والجهل، وقد لا یکون صفةً ولا فعلاً کالعدم والفقد ونحوهما. وإنّما طرأ علی الحدث عنوان الفعلیّة بصیرورته حرکة للمسند إلیه بالاشتمال علی الإسناد الحدوثي.

ولا فرق في ذلک بین کون المبدأ فعلاً کالضرب، وصفةً کالعلم، وعدماً مخضاً کالعدم، فإنّ عنوان الحرکة والفعلیّة إنّما هو باعتبار الحدوث والظهور المشترک فیه جمیع الموادّ والمبادي حتّی السکون المقابل للحرکة، ف«سَکَنَ» فعلٌ منبِئٌ عن حرکه المسمّی، ولا یجري ذلک في الإسناد الاتّحادي والإضافي؛ لعدم صیرورة أحد المتّحدین والمتضایفین حرکةً وفعلاً للآخر وعدم صیرورة المسند مع الهیئة الترکیبیّة وحرف الجرّ کلمةً مستقلّة، بخلاف الهیئة الفعلیّة فإنّها مع مادّتها کلمةٌ مستقلّة، فهي في عالم اللفظ تتّحد مع اللفظ، کما أنّ مفهومها في عالم المفهوم یتّحد مع الحدث

ص: 76

ویتحصّل منهما عنوانٌ بسیط وهو: حرکة المسمّی، فالفعل في مرحلة التحلیل مرکّبٌ من المعنی الاسمي والحرفي ومنحلٌّ إلیهما، فلا یکون مقابلاً لهما في حدّ ذاته وإنّما یتقابل معهما باعتبار تحصّل العنوان الوحداني من اجتماع الأمرین.

والمعنی مخفّف «معنيّ» أو اسم مکانٍ من العنایة، وعلی کلّ تقدیرٍ لا ینطبق المعنی إلّا علی النسب والروابط؛ ضرورة أنّ العنایة والإرادة لا تتعلّق إلّا بالنسب، والحدث إنّما یصیر معنی بلحاظ النسبة، والأمر في بقیّة المفردات واضحٌ.

وإذا اتّضحت لک مفردات الحدود، فاعلم: أنّ المسمّی لکونه مفرداً لا ینطبق علی مسمّیین فصاعداً، فخرج به نحو «زید قائم».

ومنه یتبیّن عدم انطباقه علی مفهوم الفعل من وجهین: الأوّل: خروجه عن کونه مسمّی وصیرورته حرکةً بالاشتمال علی الإسناد الحدوثي. والثاني: إنباؤه عن مسمّیین: الحدث والذات، الأوّل تضمّناً والآخر التزاماً، فهو مع کونه مفرداً - کالجملة - ینبئ عن مرکّبٍ إسنادي. فکما لا ینطبق المسمّی علی مضمون الجملة، فکذلک لا ینطبق علی مدلول الفعل.

فإن قلت: المسمّی اسم جنسٍ، والجنس صادقٌ علی القلیل والکثیر، کالماء والتمر ونحوهما.

قلت: صدق الجنس علی الکثیر إنّما یکون إذا کان الکثیر کالقلیل فرداً له، فإنّ الماء الکثیر کالقلیل فردٌ واحدٌ، غایة الأمر اشتماله علی أجزاءٍ متکثّرة بحیث لو انفصلت صار کلّ جزءٍ منها فرداً للماء، بخلاف المقام فإنّ المسمّیین فصاعداً لا ینطبق علیهما المسمّی؛ لعدم صیرورتهما فرداً واحداً له.

فإن قلت: مقتضی کونه جنساً جواز صدقه علی الأفراد المتعدّدة أیضاً.

قلت: صدقه علیها إنّما یکون علی وجه البدلیّة لا الشمول.

ص: 77

فإن قلت: لو لم یکن صدقه علی الأفراد علی وجه الشمول لزم عدم جواز تثنیته وجمعه بمعناه الحقیقي.

قلت: الجنس في حدّ ذاته قابلٌ لصدقه علی أفرادٍ متعدّدةٍ علی وجه الشمول، ولکنّه بصیغة الإفراد ینصرف إلی الواحد فلا ینطبق علی المثنّی والمجموع إلّا بالصارف، کأداتي التثنیة والجمع ونحوهما.

ثمّ إنّ المسمّی مأخوذٌ في تعریف الاسم عنواناً یدور مداره الإنباء، وفي تعریف الفعل معرّفاً للموضوع.

توضیح الحال: أنّ الواسطة في ثبوت الإنباء للاسم حدوثاً وبقاءً هي علقة التسمیة کما هو ظاهر، فاللفظ من حیث کونه اسماً یصدر منه الإنباء، والمفهوم من حیث کونه مسمّی له یتعلّق به الإنباء، فمتعلّق الإنباء أوّلاً وبالذات هو وصف المسمّی، کما هو مقتضی وساطة التسمیة في ثبوته حدوثاً وبقاءً، وذات المسمّی إنّما یتعلّق بها الإنباء ثانیاً وتبعاً من جهة انطباق الوصف علیه، غایة الأمر أنّ الملحوظ قصداً وبالذات في موارد الاستعمالات غالباً هو الذات، والوصف قنطرةٌ توطئةً لها، فیندکّ النظر إلیه في جنب النظر إلی الذات، فکأنّه لا نظر إلّا إل الذاتف وقد یتعلّق النظر إلی الوصف أصالةً، کما في صورة تثنیته أو جمعه.

وحیث خفي الأمر علی الجلّ، بل علی الکلّ؛ توهّموا أنّ الاسم في هذه الصورة مجاز، ولم یتفطّنوا أنّ الاسم مستعملٌ في الوصف دائماً ومُنبئٌ عنه أبداً، وأنّ الإنباء عن الموصوف إنّما هو بتبعه، غایة الأمر أنّه قد یکون ملحوظاً أصالةً، وقد یکون ملحوظاً توطئةً للموصوف - کما هو الغالب - ولولاه لم یتحقّق الاستعمال، ولم یکن للحقیقة أصلٌ أصلاً.

هذا بالنسبة إلی المأخوذ في تعریف الاسم.

ص: 78

وأمّا المأخوذ في ترعیف الفعل فهو معرِّفٌ للموضوع؛ ضرورة أنّ الحرکة حرکةٌ للذات لا لوصف المسمّی، وإنّما عبّر به تنبیهاً علی أنّ طرف الحرکة لا بدّ أن یکون مفهوماً مستقلاً اسمیّاً، سواء کان فاعلاً أم نائباً عنه؛ فما اشتهر: من اختصاص الأوّل بالاسم الخالص وجواز نیابة الظرف والمجرور عنه، لا وجه له، بل التحقیق: أنّ ما سمّوه نائباً هو الفاعل تقحیقاً؛ إذ کما ینتزع عنوان الفعل للمفهوم البرزخي المجتمع من الحدث والإسناد باعتبار صیرورته حرکةً للمسمّی، فکذلک ینتزع عنوان الفاعل والمتحرّک له من قِبَل تعلّق الحرکة به، فما حقّقه عبد القاهر والزمخشري: من أنّه فاعلٌ في الاصطلاح، في غایة المتانة وکمال الجودة.

وقد ظهر ممّا بیّناه - من أنّ المأخوذ في حدّ الاسم هو الوصف العنوانی الدائر مداره الحکم - سرُّ اختیاره معرّفاً؛ لأنّه - من حیث أنّه عنوانٌ ت أمرٌ واحد لا تعدّد فیهف فوجب الإتیان به معرّفاً حینئذ.

ومنه یظهر وجه الإتیان به مُظهَراً في حدّ الفعل لا مضمراً؛ إذ لو اُضمر لتوهّم أنّه في حدّ الفعل مأخوذٌ کذلک، مع أنّه معرّفٌ للموضوع فیه. وأمّا سِرّ اختیاره معرِّفاً لا منکّراً فبلحاظ أنّه معرّف للمفهوم المستقلّ الاسمي من دون نظرٍ إلی الأفراد.

ثمّ اعلم: أنّ المنطبق من الإنباء الدائر مداره حقیقة القسمین هو: التذکّر المطّرد في جمیع موارده، لا التصدیق ولا العرفان؛ فإنّ العرفان لا یترتّب علی اللفظ بالنسبة إلی مفهومه أبداً کما هو ظاهر، وأمّا التصدیق، فلا یحصل من فعل الإنشاء بالنسبة إلی حرکة المسمّی بل بالنسبة إلی ضمیر المتکلّم، ومن الاسم إلّا في حال الترکیب بالنسبة إلی حال المسمّی لا نفس المسمّی، فالمراد من الإنباء في الحدّین التذکّر المترتّب علی النوعین بالنسبة إلی نفس المسمّی وحرکة المسمّی، مع أنّ ملاک

ص: 79

الاسمیّة والفعلیّة إنّما هو الکشف الذکري وإن کان الغرض الأصلي من ترکیب الألفاظ هو الکشف التصدیقي، فهو أوفی بالمقام من الألفاظ المقاربة له، کالإعالم والإخبار والإرشاد والهدایة والدلالة والتنبیه والإیقاظ؛ فإنب مفاهیمها تختصّ بالکشف التصدیقي، فلا تثبت إلّا في حال الترکیب وما بمنزلته، ولا تتعلّق إلّا بالمفهوم المرکّب الإسنادي.

فاتّضح بما بیّناه - غایة الاتّضاح - حقیقة الاسم والفعل، وأنّهما مشترکان في الإنباء، متمیّزان من طرف المنبئَ عنه.

وأمّا الحرف فهو مفترقٌ عنهما في الإنباء؛ فإنّه موجد المعاني المعتورة علی الأسماء والأفعال، وهي أنحاء الاستعمالات وکیفیّات التراکیب.

کشف الحال: أنّ الاسم قابل للاستعمال علی وجوهٍ متعدّدةٍ وأنحاءٍ مختلفة، وما لم یتعیّن استعماله في وجهٍ من الوجوه لم یترتّب علیه الدلالة والکشف التصدیقي الذي هو المقصود بالأصالة، مثلاً کلمة «زید» قابلةٌ لأن تستعمل علی وجه الفاعلیّة أو المفعولیّة أو المتبدائیّة أو الاختصاص، فما لم یتعیّن استعماله بمعونة الهیئة الترکیبیّة أو الحرف، مثل أن تقول «زید قائم» أو «جاءني زید» أو «ضربت زیداً» أو «المال لزید» وهکذا، لم یترتّب علیه الإفادة والاستفادة، فالحروف کالهئیات الترکیبیّة والاشتقاقیّة إنّما تعیّن أمر الاستعمال وتشخّصه، فمعانیها في طول معاني الأسماء، بل في طول ألفاظها؛ لأنّها صفاتٌ قائمةٌ بنفس الألفاظ قیام الصور بموادّها.

وإن شئت زیادة التوضیح، فاعلم أنّ القضایا علی أقسامٍ ثلاثة: خارجیّة وذهنیّة ولفظیّة، وکلٌّ منها لا یتمّ إلّا بالإسناد کما هو ظاهر، والإسناد في القضیّة اللفظیّة لا بدّ أن یکون من عوارض اللفظین، کما أنّ الإسناد الذهني أو الخارجي لا بدّ أن یکون من عوارض الطرفین الذهنیِّین أو الخارجیّین، فإسناد کلمة «دار»

ص: 80

إلی کلمة «زید» علی وجه الظرفیّة - مثلاً - صفةٌ حادثةٌ في الکلمتین قائمة بهما، ولا بدّ لها من آلةٍ توجدها وأداةٍ تحدثها، وهي کلمة «في»، فتقول ند ذلک: «زید في الدار» ولا یقوم مقامها الاسم الذي ینبئ عن معناها مثل لفظ «الظرفیّة»، فلا یصحّ أن تقول مکان «زید في الدار» و «المال لزید» و «زید علی السطح»: «زیدٌ ظرفیّة الدار» و «المال اختصاص زید» و «زید استعلاء السطح» وهکذا؛ لأنّ الأسماء لا توجِد معاني في الألفاظ، وإنّما تنبئ عن المسمّیات والمفاهیم المستقلّة، فلا یعقل أن تعیّن وجه الاستعمال وتتمّ أنحاءه.

وقد اتّضح لک بما بیّناه حقیقة الأنواع الثلاثة بما لا مزید علیه، وأنّ الحدود منطبقةٌ علیها جمعاً ومنعاً، بل تتضمّن التنبیه علی أسرارٍ غریبة ونکاتٍ عجیبة قد خفي أکثرها علی الأکثر بل علی الجمیع، وقد کشفت الستر عنها بحمد الله تعالی وتوفیقه في رسالةٍ مستقلّةٍ(1) قد عملناها في شرح الحدیث الشریف.

﴿وکلّ ما ذکره أهل الصناعة في المقام بین فاسدٍ وقاصرٍ، وأحسن ما قیل ما﴾ حکاه شارح الصمدیّة ﴿عن بعضهم في وجه انحصار الأقسام﴾ أي أقسام الکلمة ﴿في الثلاثة أنّها تابعةٌ للمفاهیم، وهي ثلاثة: ذاتٌ، وحدثٌ عن ذات، وواسطةٌ بینهما، فکذا الکلمات، فإنّه مقتبس من الأصل﴾ القویم والأساس المتین ﴿ولکنّه﴾ لم یراع المقتبس حقّ الرعایة، فتصرّف في التعبیر بفهمه ونظره فصار ﴿قاصراً﴾ لأنّ الذات هي العین فلا یشمل المسمّی الذي یکن منیً أو عدمیّاً، مع أنّه فات منه بالتعبیر بها دون المسمّی التنبیه علی أنّ وصف المسمّی واسطةٌ في عروض الإنباء، وکثیرٌ من الأسرار إنّما یستفاد منه.

ص: 81


1- وهي رسالة «الاشتقاق» المطبوعة سنة 381 ﻫ.ق بطهران.

وحدثٌ عن ذات إنّما ینطبق علی مفهوم الفعل تحلیلاً وتفصیلاً وهو الحدث المسند إلی الذات، ولا تنبیه فیه علی العنوان البسیط الوحداني المتحصّل من اجتماع الأمرین الذي هو ملاک الفعلیّة.

وواسطةٌ بینهما لا ینطبق علی المعنی الحرفي تمام الانطباق، فإنّه واسطةٌ بین اللفظین لا المفهومنی، والواسطة بینهما مدلولٌ للمعنی الحرفي.

﴿وأقبح ما قیل ما اشتهر بینهم: من تحدید الاسم ب-: ما دلّ علی معنی في نفسه غیر مقترنٍ بأحد الأزمنة الثلاثة، والفعل ب-: ما دلّ علی معنیً في نفسه مقترنٍ بأحدها، والحرف ب-: ما دلّ علی معنیً في غیره، فإنّه فاسدٌ من وجوه:﴾

﴿الأوّل: جعل الدلالة جامعةً بین الأقسام مع أنّها تختصّ بالأوّلین: فإنّ الحرف إنّما یُحدِث﴾ ویوجد ﴿خصوصیّات الاستعمال﴾ وکیفیّاته ﴿في لفظ غیره﴾ کما عرفت، لا أنّه یدلّ علی شيءٍ ویکشف عنه؛ ﴿ولذا سمّی آلةً وأداةً﴾ ولا یُتوهّم أنّ تسمیته بهما باعتبار أنّه آلة إحضار المعنی وأداة إخطاره؛ لا باعتبار أنّه آلة نفس المعنی؛ أنّ الآلیّة في الإحضار جاریةٌ في الاسم والفعل، فیلزم أن یکون الجمیع آلات وأدوات.

﴿والثاني: أنّها لا تثبت في الأسماء إلّا في حال الترکیب الإسنادي أو ما بمنزلته﴾: فإنّها هي کون الشيء بحیث یلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر، والمراد من العلم في الموردین بقرینة التعدیة بالباء العلم التصدیقي لا التصوّري، مع أنّ التصوّر بمعنی العرفان الذي هو قسمٌ من العلم لا یعقل أن یحصل إلّا ممّا ساواه في الصدق، والتصوّر بمعنی مجرّد الخطور والحضور في الذهن التفاتٌ مجامع للجهل والعلم، ولا یکون علماً. وتوهّم أنّ العلم في مصطلح أهل النظر منقولٌ إلی الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل علماً کان أم جهلاً، والمأخوذ في حدّ الدلالة إنّما هو

ص: 82

بحسب مصطلحهم، غفلةٌ واضحةٌ؛ لأنّ بحثهم إنّما هو في المعرّف والحجّة، والنقل إنّما یصحّ إذا کان بحثهم فیما هو أعمّ من المفهوم اللغوي، وأمّا إذا اختصّ بحثهم به فالنقل إلی الأعمّ نقضٌ للغرض، فالمراد من التصوّر المقابل للتصدیق الذي هو قسمٌ من العلم إنّا هو التصوّر بکنهه أو بوجهٍ یمتاز عمّا عداه، لا مجرّد الخطور في الذهن، مع أنّ الحدّ لا یختصّ به أهل النظر.

وإذا ظهر أن المراد من العلم في الحدّ إنّما هو العلم التصدیقي، فقد ظهر لک أنّ الدلالة لا تتحقّق في اللفظ بمجرّد الوضع.

وتعریفه بتخصیص شيء بشيء بحیث متی اُطلق أو اُحسّ الشيء الأوّل فُهم منه الشيء الثاني، غلطٌ أو توسّعٌ في التعبیر. والصحیح حضر منه بدل فهم، وإنّما تتحقّق الدلالة بعد صدوره من المتکلّم العارف بالوضع في مقام الإفادة والاستفادة وإسناد أحدهما إل الآخر أو ما بمنزلته المنبعث من إرادة المتکلّم وقصده؛ ولذا ذهب الشیخ الرئیس وسائر المحقّقین إلی أنّ الدلالة في الألفاظ تابعةٌ للإرادة.

ولمّا غفل الأکثر عن حقیقة الأمر واغترّوا بإطلاق التصوّر علی الخطور، وأنّه قسمٌ من العلم، زعموا قضاء الضرورة بخلافه، وأنّ الدلالة هي کون الشيء بحیث یوجب خطور شيءٍ آخر.

﴿والثالث: جعل المعنی جامعاً مع أنّ المسمّی قد یکون عیناً لا معنیً، ولذا قسّم الاسم باعتبرهما إلی قسمین: اسم المعنی واسم العین﴾.

﴿والرابع: جعل کون المعنی في نفسه جامعاً بین النوعین مع اختصاص الأوّل به مطابقةً، وتعمیمه للمطابقي والتضمّني لا یلائم الحدّ﴾ من وجهین:

الأوّل: أنّ الملائم للحدود ذکر الأجزاء العقلیّة المحمولة علی النوع وهي: الجنس والفصل، لا الجزء الخارجي الذي لا یحمل علی النوع، والمعنی المستقلّ من

ص: 83

الأجزاء الخارجیّة التي لا تحمل علی المعنی الفعلي، فلا یلائم ذکره في الحدّ.

والثاني: أنّ المعنی ینصرف إلی المعنی المطابقي، فحمله علی ما یخفی - وهو الأعمّ منه ومن التضمّني - منافٍ مع وقوعه في التعریف الذي یجب فیه استعمال الألفاظ الظاهرة الدلالة.

وقد یتوهّم أنّ النسبة إلی الفاعل معنیً حرفيٌّ إن قلنا بوضع الهیئة للنسبة إلی فاعل معیّن؛ لاحتیاجها حینئذٍ إلی ذکر الفاعل في فهمها من الهیئة، وأمّا إن قلنا بوضعها للنسبة إلی فاعلٍ ما فهي معنی مستقلّ بالمفهومیّة؛ لانفهام الفاعل منها إجمالاً، وعدم الحاجة إلی لفظٍ آخر في فهم النسبة من الهیئة، فالمعنی المطابقي حینئذ في الفعل کائنٌ في نفسه ومستقلٌّ بالمفهومیّة.

وهو فاسدٌ جدّاً؛ لأنّ الهیئة من لواحق الحروف، ولا یعقل استقلالها بالمفهومیّة، ولا یرجع معنی الاستقلال بالمفهومیّة إلی ما توهّمه: من عدم الحاجة إلی لفظٍ آخر في فهم المعنی، کما ستعرف إن شاء الله.

وأعجب منه ما توهّمه الفاضل عصام الدین: من عدم کون النسبة إلی الفاعل جزءاً لمدلول الفعل حتّی یکون معنی حرفیّاً أو اسمیّاً.

قال في حاشیته علی شرح الجامي: اعلم أنّ القول بأنّ الفعل موضوعٌ للحدث والنسبة والزمان - کما أجمعوا علیه - لیس ألّا لأنّ الفعل لا یکون بدون الفاعل، فألجأهم تصحیح سِرّ ذلک إلی أن جعلوا النسبة داخلةً في مفهوم الفعل؛ لئلّا یکون له بدٌّ من الفاعل، ولا اضطرار لمن شرح الله صدره ورزقه نصره، فنقول لک: ممّا ألهمني ربّي أنّ الفعل موضوعٌ لحدثٍ مقیّدٍ بالزمان، والنسبة إنّما جاءت من الهیئة الترکیبیّة کما في الجمل الاسمیّة؛ إذ لا یخفی علی منصفٍ أنّه لا یناسب جعل هیئة «زید قائم» للنسبة وجعل هیئة «ضرب زید» لغواً، ومن أمارات أنّ النسبة لیست

ص: 84

مدلولةً للفعل أنّه یفهم الحدث والنسبة تفصیلاً، وقد اتّفقوا علی أنّ دلالة المفرد لا تکون تفصیلیّة؛ ولهذا لم یصحّ ترکیب القضیّة من مفردین، وإنّما التزم مع الفعل ذکر الفاعل؛ لأنّ الفعل یؤدّي معنی الحدث علی وجهٍ یکون مستعدّاً لأن ینسب إلی شيءٍ، فیلتزم إسناده إلی شيءٍ لئلّا یکون إحضاره علی هذا الوجه لغواً، انتهی.

فإنّ فهم الإسناد من الهیئة الاشتقاقیّة الفعلیّة وعدم توقّفه علی الترکیب مع الاسم من أبده البدیهیّات.

مع أنّ الهیئة الترکیبیّة إنّما تفید الاتّحاد لا الحدوث؛ إذ لو أفادته لزم صحّة قولنا: «ضربٌ زیدٌ» بالإسناد، کما یصحُّ قولنا: «ضَرَبَ زیدٌ».

مع أنّ قوام الفعلیّة إنّما هو بالهیئة الاشتقاقیّة الدالّة علی الإسناد الحدوثي، فلو فرض خلوّه عنها وعدم استفادة النسبة إلّا من الهیئة الترکیبیّة لزم صیرورة الفعل اسماً وجواز وقوعه مسنداً إلیه.

وما ذکره - من وضع الفعل للحدث مستعداً للنسبة - لا یرجع إلی محصّل.

وأمّا ما ذکره - من لزوم کون هیئة «ضرب زید» لغواً حینئذٍ وهو غیر مناسب - وَهَمٌ باردٌ؛ لأنّ الهیئة الترکیبیّة إنّما تفید التفسیر أو التأکید ولا تکون لغواً.

وأمّا ما جعله من أمارات ما توهّمه فهومن أمارات اشتقاق الفعل واستقلال کلٍّ من مادّته وهیئته في الوضع والدلالة - کما نبّهوا علیه وبیّناه في محلّه - والقضیّة الشرطیّة یصحّ ترکیبها من الفعلین وهما مفردان.

وبالجملة: فساد ما توهّمه لا یخفی علی من دله أدنی مسکة، والعجب کلّ العجب عدّ غفلته عن أوائل البدیهیّات من الملهمات.

﴿والخامس: جعل الاقتران بأحدها مائزاً للفعل وعدمه للاسم، مع أنّ

ص: 85

الفعل لم یقترن به وضعاً حتّی التزاماً، بل لو فرض اقترانهب ه تضمّناً لم یصلح أن یکون مائزاً﴾.

توضیح الحال یتوقّف علی نقل شطرٍ من کلماتهم وبیان ما فیها، فأقول بعون الله تعالی و مشیّته:

قال في شرح الجامي: إعلم أنّ الفعل مشتملٌ علی ثلاثة معان: أحدها الحدث الذي هو معنی المصدر، وثانیها الزمان، وثالثها النسبة إلی فاعلٍ ما، ولا شکّ أنّ النسبة إلی فاعلٍ ما معنی حرفي.

وفي حاشیته لعصام الدین: هذا هو المشهور فیما بین القوم، والتحقیق أنّه مشتمل علی أربعة معان، رابعها تقیید الحدث أو النسبة بالزمان، وهو أیضاً معنی حرفي غیر مستقلّ.

وفي حاشیته للسیّد الجزائري (قدس سره) : اعلم أنّ المتأخّرین قد أطبقوا علی أنّ الفعل یدلّ علی الحدث والزمان ونسبة الحدث إلی فاعلٍ ما، وهو معنی حرفيّ یحتاج إلی الطرفین - إلی أن قال -: وکلام المتقدّمین في عدّ الزمان من أجزاء معنی الفعل مضطربٍ، فمنهم من وافق المتأخّرین، ومنهم من ذهب إلی أنّ دلالته علیه بطریق الالتزام، ولهم دلائل حرّرناها في کتابنا الموسوم بمفتاح اللبیب. ونذکر هنا بعضها:

أوّلها: أنّ الزمان طرفٌ لتعلّق الفعل بالفاعل، ومعلومٌ أنّ الظرف لا یکون جزءاً من المظروف.

ثانیها: أنّهم متّفقون علی أنّ اقتران مثل اسم الفاعل واسم المفعول بالزمان کاقتران الفعل به، غیر أنّ زمان الفعل معیّنٌ، ویقولون: إنّ الزمان لیس جزءاً لمعنی اسم الفاعل فکذلک في الفعل.

ثالثها: أنّه لو کان الزمان جزءاً للفعل لم یمکن تحقّق الفعل بدونه، وقد تحقّق

ص: 86

في جمیع الإنشاءات.

رابعها: لو کان الزمان الماضي جزءاً للماضي وکذا في المستقبل، لما أمکن اختلافه بعارض، وقد یختلف کما في قولک: «إن قمت» و «لم تضرب» فلا یکون جزءاً؛ لأنّ ما بالذات لا یختلف بالعارض.

ونحن حیث اخترنا مذهب المتأخّرین لا بدّ لنا من الجواب عن هذه الدلائل.

فالجواب عن الأوّل: أنّه مغالةٌ من باب اشتباه الفعل اللغوي بالفعل الاصطلاحي؛ فإنّ الزمان طرفٌ لتعلّق الفعل اللغوي أعني الحدث بالفاعل، وهو لیس بجزئه لیلزم المحذور بل جزء الفعل الاصطلاحي.

وعن الثاني: بالفرق بین الاقترانین فإنّ اقتران الفعل به باعتبار أنّه جزء معناه، واقتران اسم الفاعل به باعتبار تحقّقه، لأنّ کلّ فعلٍ - من ضَرَبَ وغیره - فلا بدّ له من زمان، ولم یفهم من لفظ ضارب إلّا ذاتٌ متّصفة بالضرب، من غیر اعتبار زمانٍ مطلقٍ أو مقیّد؛ ولذا عرّفوا اسم الفاعل بما اشتقّ من فعلٍ لمن قام به بمعنی الحدوث، من غیر زیادة زمانٍ مطلق.

وعن الثالث - بعد تسلیم عدم دلالتها علی زمان الحال -: بجواز أن یجردَّد الشيء عن جزئه فیصیر مدلوله الجزء الآخر، کا جرّدوا الوضع عن المعنی.

وعن الرابع: أنّ الزمان الماضي - مثلاً - جزءٌ للفعل الماضي صورةً ومعنیً، و«قمت» في المثال وإن کان ماضیاً صورةً إلّا أنّه مستقبلٌ حقیقةً؛ لمکان «إن» الشرطیّة، وعلیه فقس المضارع، انتهی.

وإذا استمعت کلماتهم، فاعلم أنّ هناک أمرین: أحدهما: کون الزمان جزءاً لمعنی الفعل، والثاني: کونه مقوِّماً وممیّزاً له عن الاسم، والمقوّمیّة تلزمها الجزئیّة وإن لم تلزمها المقوّمیّة، ولکنّ القائلین بالجزئیّة هنا قائلون بالمقوّمیّة؛ لأنّهم جعلوه جزءاً

ص: 87

لمفهوم نوع الفعل وممیّزاً له عن الاسم، فمرجع النزاع بالأخرة إلی فصلیّة الزمان وتقوّم الفعل به، فمن أثبت الجزئیّة أثبت الفصلیّة ومن نفاها نفاها، فمعنی قول النافي - أنّه لو کان الزمان جزءاً للفعل لم یمکن تحقّقه بدونه، وقد تحقّق في جمیع الإنشاءات - أنّ الزمان لو کان جزءاً لکان فصلاً، ولو کان فصلاً لما أمکن تحقّق الفعل بدونه؛ لعدم تحقّق النوع إلّا بفصله، وقد تحقّق في جمیع الإنشاءات ضرورة بفائها علی الفعلیّة وعدم صیرورتها أسماءً حینئذٍ، فتحقّقه بدونه ینبئ عن عدم کونه فصلاً وجزءاً.

فالاعتراض علیه بجواز تجرّد الشيء عن جزء مدلوله، فیصیر مدلوله الجزء الآخر، کما جرّدوا الوضع عن المعنی، غیر متوجّه إلیه؛ لأنّه لم یدّع عدم جواز استعمال اللفظ في جزء مدلوله، وإنّما ادّعی عدم تحقّق النوع بدون الفصل المقوّم له، وجواز استعمال اللفظ في جزء مدلوله في الجملة ممّا لا یخفی علی ذي مسکة؛ فإنّ استعماله في غیر معناه - جزءاً أم لا - تابعٌ للعلاقة المصحّحة، وهي المشابهة في أظهر الخواصّ - مطلقةً أو مقیّدة - علی ما اخترناه من انحصارها في الاستعارة، فإن وجدت صحَّ وإلّا فلا.

ثمّ إنّه لا مشابهة بین مدلول الفعل وجزئه في المقام، فلا یصحّ استعماله فیه وتجریده عن الجزء الآخر، وتمثیله بتجرید الوضع عن المعنی باطلٌ أیضاً؛ لما ظهر لک: من أنّ توهّم دخول المعنی في مفهوم الوضع من أقبح الأغلاط.

وقد ظهر لک بما بیّنّاه معنی الدلیل الرابح وهو: أنّ الزمان الماضي لو کان فصلاً مقوِّماً للماضي والمستقبل للمضارع لما أمکن اختلافه بعارض؛ ضرورة أنّ العارض علی الشيء خارجٌ عنه لاحقٌ له فلا یعقل أن تتغیّر حقیقة النوع بالعارض الخارج عنه، وهذا معنی قوله: «لأنّ ما بالذات لا یختلف بالعراض» مع أنّ

ص: 88

العارض علی حقیقة لو أوجب تبدّل حقیقة المعروض لزم عدم عروضه علیها، وهو خلفٌ للفرض.

ولقد أغرب في الجواب، حیث قال: بأنّ الزمان الماضي جزءٌ للماضي صورةً ومعنیً، و «قمت» في المثال وإن کان ماضیاً صورةً إلّا أنّه مستقبلٌ حقیقة لمکان «إن» الشرطیّة، وعلیه فقس المضارع؛ لأنّ «قمت» قبل دخول إن الشرطیّة ماضٍ صورةً ومعنی، فانقلابه إلی المستقبل حقیقةً بدخولها لعیه - باعترافه - التزامٌ بورود الإشکال، واختلاف الذاتي بالعارض. وهکذا الأمر في انقلاب المضارع إلی الماضي حقیقةً - باعترافه - بدخول کلمة لم علیه، مع أنّ انقلابه حقیقةً إلی الماضي حینئذٍ ینافي اختصاصها بالمضارع.

هذا، ویقرب منه في الغرابة ما أجاب به عن الدلیل الثاني: من الفرق بین الاقترانین؛ فإنّ الوجه في الجواب إمّا مع الاتّفاق أو حجّیّته، ویمکن إرجاعه إلی الأوّل بقرینة ذیله بنوع تکلّف.

وأمّا الجواب عن الدلیل الأوّل بأنّه مغالظٌ فیمکن منعها أیضاً؛ إذ مدّعاه أنّ الزمان ظرفٌ لتعلّق الحرکة بالمسمّی، والفعل الاصطلاحي إنّما هو المنبئ عن حرکة المسمّی کما عرفت، ولا دلیل یدلّ علی خلافه، بل التقحیق أنّه کذلک؛ لأنّ الظرف إنّما یکون ظرفاً للحدث بعد صیرورته حرکةً للفاعل بإسناده إلیه.

هذا، ویدلّ علی فساد ما توهّمه المتأخّرون أیضاً وجوهٌ اُخر:

الأوّل: أنّه لو کان الزمان مدلولاً للفعل لکان مدلولاً لهیئته؛ ضرورة عدم دلالة المادّة إلّا علی الحدث الصرف، والزمانمعنیً مستقلٌّ اسمي - کما هو ظاهر - والهیئة من لواحق الحروف ولا تُبیّن إلّا نحو استعمال المادّة، فلا یعقل دلالتها علیه.

والثاني: أنّه لو کان الزمان مدلولاً لهیئته لزم دلالتها علی أمرین متباینین:

ص: 89

- النسبة إلی فاعلٍ ما، والزمان - في إطلاق واحد.

والثالث: أنّ النسبة إلی فاعلٍ ما معنیً حرفي، والزمان مفهوم مستقلٌّ اسمي، ودلالة الهیئة علیهما مستلزمٌ لصیرورتها اسماً وحرفاً في حالٍ واحد.

والرابع: أنّه لو کان الزمام مدلولاً للفعل لزم أن یکون معنی «ضَرَبَ»؛ حدث الضرب من الفاعل زمان، من دون ارتباط؛ لانحصار مدلول الفعل علی المشهور في ثلاثة: الحدث، والنسبة إلی فاعلٍ ما، والزمان، وهو مضحکٌ. وإن قیل بدلالة الهیئة علی معنی رابع وهو: تقیّد الحدث أو النسبة إلی الزمان، لزم دلالة الهیئة الواحدة في إطلاقٍ واحد علی ثلاثة معان متباینة: النسبة إلی فاعلٍ، والزمان، والنسبة إلیه.

والخامس: أنّ النسبة إلی الزمان ناقصةٌ تقییدیّةٌ تابعةٌ للحدث، فلا یعقل أن یخرج بها المادّة عن الاسمیّة، کما لم یخرج مضرب ونحوه بدلالة هیئته علی النسبة الناقصة إلی الزمان أو المکان عن الاسمیّة.

والسادس: أنّ المقترن بأحد الأزمنة الثلاثة إنّما یغایر غیر المقترن به في کونه کلّاً والآخر جزءاً، فلا یعقل أن یکون أحدهما نوعاً في عرض الآخر؛ لاستحالة صیرورة النوع کلّاً أو جزءاً للنوع المقابل له.

والسابع: أنّ هیئة الفعل لو دلّت علی الزمان لأفادته أبداً ولم یجز تجریدها عنه؛ لأنّ الحروف وما بمنزلتها من الهیئة الاشتقاقیّة أو الترکیبیّة إنّما هي آلاتٌ وأدواتٌ لمعانیها، ولا استعمال لها فیها، فلا یجزي التجوّز فیها.

والثامن: أنّه لو جوّزنا التجوّز فیها، وقلنا بأنّها مستعملةٌ في المعنی کالأسماء، لم یجز استعمالها في المجرّد عنه بناءً علی وضعها له؛ لعدم العلاقة المصحّحة للاستعمال، ومجرّد الکلّ والجزء لا یکون علاقةً مصحّحة.

ص: 90

وقد اتّضح بما بیّنّاه فساد کون الزمان مدلولاً للفعل وإن لم یکن فصلاً له.

وقد تنبّه بعضهم لبعض الإشکالات وهو: أنّ «کاد» وأخواتها أفعالٌ مع عدم اقترانها بالزمان، و «صه» و «مه» و «هیهات» وأخواتها أسماءٌ مع اقترانها به.

فأجاب: بأنّ المراد الاقتران بحسب الوضع الأوّل، ف-«کاد» وأخواتها داخلةٌ في حدّ الفعل؛ لاقتران معناه بأحد الأزمنة بحسب الوضع الأوّل، وأسماء الأفعال خارجةٌ عنه؛ لأنّ جمیعها إمّا منقولةٌ عن المصادر الأصلیّة - سواء کان النقل فیه صریحاً نحو «روید»، فإنّه قد یستعمل مصدراً أیضاً، أو غیر صریح نحو «هیهات»، فإنّه وإن لم یستعمل مصدراً إلّا أنّه علی وزن «قوقاة» مصدر «قوقا» - وعن المصادر التي کانت في الأصل أصواتاً، نحو «صه» أو عن الظرف أو الجار والمجرور، نحو أمامک زیداً وعلیک زیداً، فلیس لشيءٍ منها الدلالة علی أحد الأزمنة الثلاثة بحسب الوضع الأوّل، انتهی.

وهو في غایة الغرابة؛ ضرورة أنّ الاسمیّة والفعلیّة والحرفیّة تابعةٌ للمعاني، فاللفظ الدالّ علی المعنی الاسمي - سواء کانت بالوضع الأوّلي أو الثانوي أو بالمناسبة الذاتیّة أو بالشهرة - اسمٌ، وهکذا الأمر في أخویه، ولو صحّ ما ذکره لزم أن یکون «شمّر» علماً لفرس، و «ضرب» موضوعاً للضرب فعلاً، مع أنّه لا دلیل علی اقتران «کاد» وأخواتها بأحد الأزمنة بحسب الوضع الأوّل وعدم اقتران «هیهات» به هکذا.

وأغرب من الجمیع تقسیمه النقل إلی الصریح وغیر الصریح، وجعل «هیهات» منقولاً من المصدر لکونه علی وزن «قوقاة» وهو مصدر قوقا.

ثمّ إنّ القول بفعلیّة الکلمة واسمیّتها باعتبار وضعین غلطٌ عجیبٌ؛ فإنّ النوع

ص: 91

الواحد المرکّب من الجامع والمائز لا یحصل إلّا بعد حصول التألیف والترکیب بین الجزءین، وهو لا یحصل إلّا بالوضع الواحد کما هو ظاهر.

وقد تنبّه بعضهم للوجه الأخیر، حیث قال: ولا یخفی أنّ اسمیّة أسماء الأفعال اعتبرت باعتبار وضعه الحالي للمعنی وعدم اقترانه باعتبار الوضع الأصلي، وذلک بعیدٌ عن الاعتبار؛ إذ اللائق أن یکون مدار الاسمیّة علی وضعٍ واحد، ولا یکون وضعٌ لغواً ومعتبراً لاعتبار شيءٍ، وفي أسماء الأفعال مثل «دونک» وضعه الأوّل - وهو الوضع الظرفي - لغوٌ في اعتبار اسمیّتها وإلّا لم یکن کلمةً، ومعتبرٌ(1) فیها لأنّ عدم الاقتران إنّما یتحقّق به، ووضعه الثاني معتبرٌ لأنّه باعتباره یکون کلمةً، ولغوٌ لأنّه باعتباره لا یکون غیر مقترن، انتهی.

أقول: اللائق الحکم باستحالته - کما بیّنّاه - لا ببُعده عن الاعتبار.

ثمّ اعلم أنّ مراد المتقدّمین من اقتران الفعل بأحد الأزمنة بدلالة الالتزام - کما حکي عنهم - هو الانصراف إلیه لا دلالته علیه التزاماً علی حدّ دلالته علی الفاعل بتوسّظ دلالته علی الإسناد المستتبع له، وإلّا لدلّ علیه أبداً، ولم یتجرّد عنه أصلاً.

وسِرّ انصراف الفعل الماضي إلی الزمان الماضي والمضارع إلی الزمان المستقبل سنبیّنه في مبحث الفعل إن شاء الله تعالی.

بل التحقیق: أنّه لا انصراف للفعل إلی الزمان أصلاً، وإنّما ینصرف الماضي إلی انقضاء الحدث ومضیّه، والمضارع إلی استقباله وعدم انقضائه، سواء کان الحدث واقعاً في الزمان کما هو الغالب أم لا، کقولک: خلق الله الزمان، وفات الزمان، ومضی الدهر، وانقضت الأیّام واللیالي، وتتجدّد الأیّام واللیالي، وتأتي

ص: 92


1- في الأصل: «معتبراً» ولعلّه سهو.

الشهور والسنون، ولا یخلو زمانٌ عن حجّةٍ لله علی عباده، وهکذا من الأفعال المتعلّقة بالزمان، فإنّها غیر واقعةٍ في الزمان،؛ لاستحالة اتّحاد الظرف والمظروف.

﴿والسادس: أنّ الضمیر المجرور إن کان راجعاً إلی معنیً واُرید من کونه في نفسه الکون الخارجي﴾ أي تقوّمه بنفسه في الخارج ﴿ینحصر في العین﴾ والذات ﴿فلا ینطبق علی المعنی المقابل لها وعلی المعنی الفعلي أصلاً﴾ لعدم تقوّمها بنفهسا.

﴿وإن اُرید منه﴾ الکون الذهني أي ﴿تصوّره في الذهن قصداً وبالذات﴾ لا باعتبار أمرٍ خارج عنه ﴿ففیه: أنّه﴾:

﴿إن اُرید به تصوّر المستعمِل﴾ حال استعمال اللفظ فیه ﴿فهو من لواحق الاستعمال المتأخّر عن الوضع﴾ فلا یعقل أخذه قیداً للموضوع له، وتوهّم أنّه معتبرٌ في الوضع شرطاً غلطٌ فاحش؛ إذ لا تأثیر للاشتراط مع إطلاق الموضوع له وعدم تقیّده، مع أنّ المعنی الاسمي قد یکون في مرحلة الاستعمال ملحوظاً تبعاً وتوطئةً لغیره، کالکنایات، فإنّ معانیها الحقیقیّة ملحوظةٌ توطئةً لملزوماتها أو لوازمها، وکسور القضیّة نحو «کلّ رجل» فإنّ مفهومه ملحوظٌ أبداً تبعاً لملاحظة أفراد الرجل وآلةً لتعرّفها وملاحظتها.

﴿وإن اُرید به تصوّر الواضع ففیه﴾:

أوّلاً: أنّ تصوّره المفهوم کتصوّره اللفظ مقدّمةٌ للوضع لا أنّه مأخوذٌ في الموضوع له قیداً؛ وإلّا لزم أن یکونا للفظ الموضوع حاکیاً عن المعنی وتصوّره الذاتي أو الغیري، مع وضوح عدم حکایة اللفظ إلّا عن نفس المهموم.

وثانیاً: ﴿أنّ تصوّره إیّاه کذلک لا یوجب أن یتصوّره المستعمِل کذلک﴾ کما عرفت في الکنایات وسور القضیّة ﴿مع أنّ المقصود بالأصالة في مرحلة الإفادة إنّما هي النسب والروابط التي هي معانٍ حرفیّة﴾ فالمقصود من قولک: «سرت من

ص: 93

البصرة إلی الکوفة» بیان وجود السیر منه مبدوّاً بالبصرة منتهیً بالکوفة، فالنسب والروابط وإن کانت متقوّمةً بوجود أطرافها، ولا وجود لها في الخارج سوی وجود أطرافها، إلّا أنّها مقصودةٌ بالأصالة في مرحلة الإفادة والاستفادة، ولا منافاة بین الأصالة في القصد والتبعیّة في الوجود.

﴿وإن کان راجعاً إلی الموصول واُرید من کون المعنی في نفس ما دلّ عدم الحاجة﴾ في استفادته من الدالّ ﴿إلی ضمّ ضمیمةٍ باعتبار عموم الموضوع له﴾ فیها ﴿ومن کونه في غیر ما دلّ احتیاجه إلیه﴾ أي إلی ضمّ ضمیمةٍ في استفادته منه ﴿باعتبار وضعه لکلّ فردٍ من أفراد الکلّي المتعقّلة من حیث إنّها حالاتٌ لمتعلّقاتها﴾ وآلاتٌ لتعرُّف أحوالها ﴿ففیه﴾.

أوّلاً: ﴿أنّ الحروف لا وضع لها بإزاء شيءٍ حتّی یکون الموضوع له فیها عامّاً أو خاصّاً﴾ وإنّما هي موضوعةٌ بالوضع الآلي، والموضوع له بالوضع الآلي له یکون إلّا کلّیّاً، والخصوصیّة إنّما تثبت في مرحلة الإعمال وإیجاده وإحداثه بالحرف.

﴿و﴾ ثانیاً: ﴿أنّ خصوص الموضوع له لا یوجب صیرورته آلةً لتعرّف حال متعلّقة﴾ کما أنّ عموم الموضوع له لا یوجب استقلاله ولحاظه قصداً وذاتاً، بل یمکن لحاظ کلٍّ من الخاصّ والعامّ علی وجه الاستقلال والآلیّة.

فما ذکره في شرح الجامي في توضیح الحدّ المعروف تبعاً للسیّد الشریف حیث قال: والحاصل أنّ لفظ «الابتداء» موضوع لمعنی کلّي، ولفظة «من» موضوعة لکلّ واحد من جرئیّاته المخصوصة المتعلّقة من حیث أنّها حالات لمتعلّقاتها وآلات لتعرُّف أحوالها، وذلک المعنی الکلّي یمکن أن یتعقّل قصداً ویلاحظ في حدّ ذاته فیستقلّ بالمفهومیّة، ویصلح أیضاً أن تکون محکوماً علیه وبه، وأمّا تلک الجزئیّات فلا تستقلّ بالمفهومیّة، ولا تصلح أیضاً أن تکون محکوماً علیها أو بها؛ إذ لا بدّ في

ص: 94

کلٍّ منهما أن یکون ملحوظاً قصداً لیمکن أن یعتبر النسبة بینه وبین غیره، بل تلک جزئیّات لا تتعقّل إلّا بذکر متعلّقاتها لتکون آلات لملاحظة أحوالها، وهذا هوا المراد بقولهم: إنّ الحرف یدلّ علی معنی في غیرها، انتهی - واضح البطلان.

مع أنّ ما ذکره من أنّ الجزئیّات آلاتٌ لملاحظة أحوال متعلّقاتها لا معنی له؛ لأنّ أحوال المتعلّقات إنّما هي الجزئیّات، فجعلها آلاتٍ لملاحظتها یرجع ذلی جعل الشيء آلةً لنفسه، وما حکم به: من أنّ المُدرَک آلةً وتبعاً لا یصلح أن یکون محکوماً علیه وبه، ینتقض بسور القضیّة الملحوظ آلةً الصالح للحکم علیه وبه، وأیضاً الإسناد إلی فاعلٍ ما معنی حرفيّ لا شبهةٍ علی ما اعترف به مع أنّه لیس جزئیّاً.

﴿ف-﴾ اتّضح غایة الاتّضاح: أنّ ﴿المقوّم للاسم إنّما هي علقة التسمیة، والاستقلال الذي یختصّ به المعنی الاسمي إنّما لزمه من قِبَل تعلّقها به﴾ لا أنّه صفةٌ زائدةٌ ملحوظةٌ فیه قبل التسمیة، ومرجعه إلی عدم کونه جهةً لاستعمال الغیر ﴿والمقوِّم للحرف إنّما هو کونه موجِدَ معنیً في لفظ الغیر﴾ ومتمّماً لاستعمال الاسم ﴿فمعناه کائنٌ في غیره في الخارج لا في الذهن﴾ ومن هنا لا یصحّ وقوعه مسنداً إلیه وبه؛ لأنّ وقوعه کذلک مستلزمٌ لوقوعه محلّاً للاستعمال وطرفاً له. نعم، یصحّ وقوعه طرفاً للنسبة الناقصة التقییدیّة؛ فإنّ القیود متعلّقةٌ بالإسناد غالباً، ولا یوجب صیرورة الإسناد طرفاً للاستعمال. وإنّما یوجب إحداث کیفیّةٍ في استعمال طرفي الإسناد، فما توهّمه عصام الدین: من أنّ المعنی الحرفي لا یصلح أن یکون طرفاً للنسبة مطلقاً - تامّةً کانت أم إضافیّةً أم تعلّقیّةً - في غیر محلّه. نعم، لا یصحّ وقوعه طرفاً للنسبة الناقصة المنتزعة من النسبة التامّة کالتوصیف ونحوه.

ص: 95

خواصّ الاسم

[خواصّ الاسم](1)

وإذا اتّضحت لک حقیقة الأقسام الثلاثة، فاعلم أنّ لکلٍّ منها خواصٌّ وعلائم یعرف ویتمیّز بها عن أخویه.

﴿و﴾ أنّه ﴿یختصّ الاسم﴾ أي ینفرد عن أخویه ﴿بما یتمّ استعماله بها﴾ غالباً، ولا یخلو الاسم عن واحدٍ منها في مرحلة الاستعمال إلّا قلیلاً ﴿وتتعاقب علیه في الوجود﴾ فلا یجتمع واحدٌ منها مع الآخر إلّا في الإضافة اللفظیّة فإنّها تجتمع مع اللام ﴿وهي اللام﴾ أي لام التعریف، وفي حکمه أم في لغة طيّ ﴿والتنوین﴾ ما عدا تنویه الترنّم، وهو المنقسم عندهم للتمکّن والتنکیر والعوض والمقابلة ﴿والإضافة﴾ المصطلحة الشائعة علی ألسنتهم ﴿وبالجرّ﴾ الحاصل من الإضافة أو حرف الجرّ ﴿وقبول النداء والإسناد المعنوي﴾ إلیه أو به ﴿مطلقاً﴾ اتّحادیّاً کان أم حدوثیّاً أم إضافیّاً.

وإنّما اعتبرنا القبول في الأخیرین؛ لأنّ قبول الکلمة إیّاهما أمرٌ ظاهرٌ یظهر بأدنی نظرٍ إلی المعنی. وأمّا قبول الأربعة الاُول فلا یظهر للجاهل بالحقیقة إلّا

ص: 96


1- العنوان منّا.

بالاستعمالات الخارجیّة، ولذا اعتبرنا وجودها في الخارج.

ثمّ إنّا قیّدنا الإسناد بالمعنوي؛ لأنّ الإسناد اللفظي لا یختصّ به الاسم، بل یجري في جمیع الألفاظ کما عرفت.

ولم نقیّد الإسناد بالإسناد إلیه کما قیّده به الجمهور بل الجمیع؛ لأنّ الإسناد به أیضاً من خصائص الاسم، والفعل إنّما یقع مسنداً به باعتبار معناه الحدثي الذي هو مفهومٌ اسمي، والجملة لا تقع مسنداً بها کما عرفت، وستعرف تفصیلاً إن شاء الله تعالی في مبحث المبتدأ والخبر.

فإن قلت: الجملة تقع مسنداً إلیها، وتنوب عن الفاعل في باب القول بلا مقال، بل یجب کونه کذلک، وقد اشتهر: أنّ محکيّ القول لا یکون إلّا جملةً، قال عزّ من قائل: (وإذا قیل لهم لا تفسدوا).(1)

قلت: قد أجاب بعضهم بأنّ الجملة مفسِّرةٌ حینئذٍ لا نائبةٌ عن الفاعل، فعن ابن بابشاذ: إذا قلنا: قد قیل زید منطلق، فموضع الجملة رفعٌ لکونها مفسِّرةٌ لقولٍ مقدِّر، کأنّه قال: قد قیل قولٌ وهو زید منطلق، ولم یجز «زید منطلق قیل»؛ لأنّه مفسِّرٌ للفاعل أي نائبه، وهو لا یتقدّم علی فعله، انتهی.

وعن أبي البقاء مثله في الآیة الشریفة.

وعن ابن عصفور أنّ ذلک قول البصریّین.

وقال ابن هشام: والصواب أنّ النائب الجملة؛ لأنّها کانت قبل حذف القول منصوبةً بالقول، فکیف انقلبت مفسِّرة، والمفعول به متعیّنٌ للنیابة، وقولهم: الجملة لا تکون فاعلاً ولا نائباً، جوابه: أنّ التي یراد بها لفظها یحکم لها بحکم المفردات؛

ص: 97


1- سورة البقرة، الآیة 11.

ولهذا تقع مبتدأً نحو «لا حول ولا قوّة إلّا بالله کنزٌ من کنوز الجنّة»(1) وفي المثل «زعموا مطیّة الکذب» ومن هنا لم یحتج الخبر إلی رابطٍ في نحو «قولي لا إله إلّا الله» کما لا یحتاج إلیه الخبر الجامد المفرد، انتهی.

وقیل: بل المرکّب مطلقاً یصیر بإرادة اللفظ إسماً، وکلّ اسمٍ مفرد، فنائب الفاعل هنا في الحقیقة مفردٌ لا جملة، وکذا المبتدأ في المثالین المذکورین.

أقول: النائب کالفاعل یستتر في الفعل أبداً؛ لما عرفت من أنّ مرجع الاستتار إلی دلالة الهیئة الاشتقاقیّة الفعلیّة الدالّة علی الإسناد الحدوثي علی المسند إلیه استتباعاً والتزاماً، وهو جارٍ فیهما معاً، فالظاهر مفسِّرٌ للمستتر أبداً فاعلاً کان أم نائباً، فما حکم به الجماعة: من کونها مفسِّرةً للنائب، في غایة المتانة، ولکن تخصیص التفسیر بالمقام وجعله جواباً للإشکال لا وجه له؛ لأنّ مفسِّر الفاعل أو النائب لا بدّ أن یکون معنیً اسمیّاً متّحداً معه ومنطبقاً علیه.

فالصواب في مقام الجوابل ما ذکره ابن هشام وأکثر القوم: من أنّ المراد بالجملة حینئذٍ لفظها.

توضیح الأمر فیه: أنّ القول کاللفظ، والنطق إنّما یتعلّق باللفظ لا المعنی، ضرورة أنّ المقول کالملفوظ، والمنطوق هو اللفظ، ولکن حیث یعتبر في القول الکشف والحَلّ لا یتعلّق باللفظ المهمل والموضوع الغیر المستعمل في مفهومه.

کشف الحال فیه: أنّ القول في أصل اللغة قریبٌ من الکشف والحلّ، ویقرب منه الأجوف الیائي من هذه المادّة، ومن هنا یطلق الإقالة علی کشف البیع وحلّه، والاستقالة علی طلب کشفه وحلّه، ومن هذا الباب استقالة العثرات والخطایا

ص: 98


1- بحار الأنوار 77: 131، باب جوامع وصایا رسول الله، الحدیث 35.

وإقالتها، فإنّ کشف الذنوب وحلّها عبارةٌ عن العفو والصفح عنها، فالقول إنّما یتعلّق باللفظ إذا حلّ المضمر وکشف عمّا في الضمیر، ومن هذا القبیل أیضاً إطلاق القول علی الرأي والاعتقاد، فإنّ کلّ واحدٍ منهما حلٌّ للواقع وفصلٌ له عن الإبهام والتردّد.

فظهر فساد ما اشتهر بینهم: من اشتراک القول بین المعاني المزبورة بالاشتراک اللفظي.

کما ظهر سِرّ عدم تعلّقه إلّا بالجملة؛ إذ المفردات لا کشف لها ولا دلالة، وأنّ الذي یترتّب علیه إنّما هو الحضور والخطور کا عرفت.

وظهر لک أنّ المقول هي الجملة المستعملة الدالّة، فما بیّنّاه: من أنّ المراد بها حینئذٍ لفظها، لیس علی ظاهره من کونها منظورة بالنظر الاستقلالی، وإنّما المراد منه أنّ القول إنّما یتعلّق بها من حیث لفظها، وهي من حیث کونها لفظاً أمرٌ وحدانيٌّ ومفهومُ اسمي، فلا مانع من وقوعها طرفاً للإسناد باعتباره، فتفطّن.

وقد ظهر لک أیضاً بما بیّنّا - من أنّ تعلّق القول باللفظ کتعلّق النطق واللفظ به - أنّ المصدر متّحدٌ مع المفعول في الخارج في المقام، کما نبّهنا علیه في حد الکلام، فما ذکره ابن بابشاذ وأبو البقاء وابن عصفور من البصریّین: من وقوع القول نائباً عن الفاعل، عبارةٌ اُخری عن وقوع المفعول به نائباً عنه، فتضعیفه بتعیّن المفعول به للنیابة في غیر محلّه، مع أنّک قد عرفت أنّ المفعول به إنّما یتعیّن لتفسیر النائب لا النیابة.

ثمّ إنّه اتّضح بما بیّنّاه - من أنّ الجملة المحکیّة للقول مستعملةٌ في مفهومها، ولا یکون الغرض منها لفظها - أنّ ما توهّمه بعضهم من صیرورة الجملة حینئذٍ اسماً في الحقیقة في غیر محلّه، مع أنّه قد اتّضح لک مفصّلاً أنّ مرجع إرادة اللفظ من الجملة

ص: 99

إلی عدم استعمالها في شيءٍ وعدم دلالتها علی أمر، لا إلی صیرورتها اسماً للفظها ومستعملةً فیها؛ ضرورة أنّ الحاجة إلی الدالّ إنّما تکون إذا لم یکن المدلول محسوساً بنفسه مقروعاً للسمع، وأمّا إذا کان کذلک فلا حاجة إلی الدالّ، فهي حینئذٍ في حکم المفردات لا أنّها مفردةٌ تحقیقاً.

فإن قلت: الجملة الفعلیّة قد تقع مسنداً إلیها مع عدم إرادة اللفظ منها بوجهٍ، نحو قوله تعالی: (سواء علیهم ءأنذرتهم... الآیة)،(1) إذا أعرب «سواء» خبراً، و «أنذرتهم» مبتدأً، ونحو «تسمع بالمعیدي خیر من أن تراه» إذا لم یقدّر الأصل أن تسعم.

قلت: المسند إلیه في هذه الموارد هو المعنی الحدثي المضاف إلی الفاعل المستفاد من الجملة لا نفس الجملة، ولا یجب أن یکون المسد إلیه مذکوراً في الکلام صریحاً، بل یکفي دلالة الجملة علیه ولو التزاماً، وهذا معنی انسباکهما بالمصدر من دون سابک.

فإن قلت: قد یُنوَّن الحرف کقول الشاعر:

اُلامُ علی لَوٍّ وإن کانت عالماً *** بأذناب لوٍّ لم تفتني أوائلُه

وقد ینادی کقوله تعالی: (ویا لیتنا نردّ)،(2) والفعل نحو «ألا یا اسجدوا».

قلت: «لوّ» مشدَّداً صار اسماً ومصدراً جعلیّاً بمعنی قول لو، و «یا» في المثالین إمّا للتنبیه أو حرف نداء محذوف المنادی؛ ضرورة أنّ التوجّه والإقبال لا یتعلّق إلّا بالمعنی المستقلّ الاسمي.

ص: 100


1- سورة البقرة، الآیة 6.
2- سورة الأنعام، الآیة 27.

أقسام الاسم

اشارة

[أقسام الاسم](1)

المشتقّ والجامد

[المشتقّ والجامد](2)

﴿تقسیمٌ: الاسم إن أنبأ عن حدثٍ منسوبٍ إلی الذات متّحدٍ معها صدقاً﴾ ومنطبقٍ علیها وجوداً کعالم ومعلوم وعلّام وأعلم ﴿فهو مشتقٌّ﴾ لاشتقاقه من المادّة الساذجة ﴿وإلّا﴾ یکن کذلک ﴿فجامدٌ، وهو إن أنبأ عن ذاتٍ فاسم عینٍ، وإن أنبأ عن حدثٍ فاسم معنیً﴾؛ لأنّ العنایة لا تتعلّق إلّا بالحدث، وإنّما جرینا في ذلک علی ما جری علیه الأکثر: من جعل اسم المعنی جامداً، وإلّا فالتحقیق أنّ المصدر المعروف المنبئ عن الحدث والنسبة الناقصي »ن المشتقّات.

المعرب والمبني

[المعرب والمبني](3)

﴿أیضاً﴾ أي رجع الکلام رجوعاً إلی تقسیم الاسم ﴿فإن اختلف آخرد باختلاف المعاني المعتورة﴾ أي المتعاقبة والمتبادلة ﴿علیه﴾ من الفاعلیّة والمفعولیّة والإضافة والحالیّة والتمییز، وهکذا من المعاني الحرفیّة التي لا تخلو الاسم

ص: 101


1- العناوین منّا.
2- العناوین منّا.
3- العناوین منّا.

عن واحدٍ منها في حال الترکیب والاستعمال ﴿لفظاً﴾ کزید ﴿أو تقدیراً﴾ کموسی ﴿ف-﴾ هو ﴿معربٌ﴾.

اعلم: أنّا عدلنا عن قولهم باختلاف العوامل إلی قولنا باختلاف المعاني؛ لما ستعرف إن شاء الهل تعالی: من أنّ المؤثّر في اختلاف الآخر إنّما هو اختلاف المعاني لا غیر.

ثمّ إنّ ابن حاجب جعل اختلاف الآخر من أحکام المعرب، وعدل عمّا علیه الجمهور من تحدیده به، بزعم أنّه دوريٌّ؛ لأنّ الغرض من معرفة المعرب الحکم علیه باختلاف آخره باختلاف العوامل، فمعرفته بعد معرفة موضوعه وهو المعرب، فلو عرّف به لزم تقدّم معرفته علی معرفة المعرب، فیلزم تقدّم الشيء علی نفسه.

وقد اُجیب عنه في مثل المقام: بأنّ مقتضی الحکمیّة تأخّر التصدیق بالحکم عن معرفة موضوعه، لا معرفته عن معرفة الموضوع. ومقتضی صیرورة الحکم معرِّفاً تقدّم معرفته علی معرفة الموضوع لا التصدیق به علی معرفته، فلا یلزم الدور لاختلاف الطرف.

وفیه: أنّ معرفة ما یختلف آخره باختلاف العوامل التي تتوقّف معرفة المعرب علیها مؤخّرةٌ عن التصدیق باختلاف الآخر ومنتزعةٌ منه؛ ضرورة أنّ التصوّر الجزمي لاختلاف آخر الشيء باختلاف العوامل الذي هو العرفان لا یتمّ إلّا بالتصدیق، ولا ینافي ذلک وجوب تقدّم التصوّر علی التصدیق؛ لاختلاف التصوّرین، فإنّ المقدّم إنّما هو التصوّر بمعنی حضور أطراف القضیّة وخطورها في الذهن، والمؤخّر هو العرفان.

والتحقیق في الجواب ما ذکره بعضهم: من أنّ الغرض من معرفة المعرب لیس الحکم علیه باختلاف آخره باختلاف العوامل، بل الحکم علیه بالرفع والنصب أو

ص: 102

الجرّ وهکذا من أحکام خصوصیّات التراکیب، بعد معرفة أنّه ممّا یختلف آخره باختلاف العوامل.

ثمّ اعلم آنّه اختلفت کلماتهم في المفردات المعدودة العاریة عن مشابهة مبنيّ الأصل، فعن صاحب الکشّاف والشیخ عبد القاهر الجرجاني: أنّها معربة، وعن ابن الحاجب: أنّها مبنیّة، وعن بعضهم: أنّها موقوفة.

ففي شرح الجامي: اعلم أنّ صاحب الکشّاف جعل الأسماء المعدودة العاریة عن المشابهة المذکورة معربة، ولیس النزاع في المعرب الذي هو اسم مفعولٍ من قولک: أعربت الکملة، فإنّ ذلک لا یحصل إلّا بإجراء الإعراب علی آخر الکلمة بعد الترکیب، بل في المعرب اصطلاحاً، فاعتبر العلّامة مجرّد الصلاحیّة لاستحقاق الإعراب بعد الترکیب، وهو الظاهر من کلام الإمام الهمام عبد القاهر الجرجاني، واعتبر المصنّف مع وجود الصلاحیّة حصول استحقاق الإعراب بالفعل، ولهذا أخذ الترکیب في تعریفه، وأمّا وجود الإعراب بالفعل في کون الاسم معرباً بفلم یعتبره أحد؛ ولذلک یقال: لم یُعرَب الکلمة، وهي معربة، انتهی.

أقول: قد أخذه من السیّد الشریف في حاشیته علی شرح الکافیة للرضي (قدس سره) .

والتحقیق ما ذکره صاحب الکشّاف والشیخ عبد القاهر؛ لأنّ التقسیم المذکور لیس من مقاصد الفنّ، وإنّما ذکر مقدّمةً من جهة تمییز الموارد التي یظهر فیها الإعراب بعد تحقّق مقتضیه ممّا لم یظهر فیها، ومن المعلوم عدم مدخلیّة الترکیب في هذه الجهة، والمفهوم اللغوي منطبقٌ علی ما قبل الترکیب أیضاً.

کشف الحال فیه: أنّ نسبة الذات إلی المبدأ لا تخلو عن أحد وجوهٍ ثلاثة: الصلوح المحض، والاقتضاء والفعلیّة.

ص: 103

والأوّل لا یوجب اتّصاف الذات بالمبدأ؛ وإلّا لصدق القائم علی القاعد وعکسه، والمؤمن علی الکافر وعکسه، والعالم علی الجاهل وعکسه، وهکذا، فینحصر الاتّصاف في أحد أمرین: الاقتضاء أو الفعلیّة.

والمراد من الاقتضاء: تمحّض الذات للمبدأ بحیث یعدّ صفة من صفاتها.

وهو قد یکون في صدوره منها أو اتّصافه بها، کالإحراق بالنسبة إلی النار، والقتل بالنسبة إلی السمّ، والإضاءة بالنسبة إلی الشمس، والإنارة بالنسبة إلی القمر. فالنار محرقةٌ وإن لم تحرق، والسمّ قاتلٌ وإن لم یقتل، والشمس مضیئةٌ وإن لم تضيء والقمر منیرٌ وإن لم یُنر، لاشتغال المحلّ بالمثل، أو فقد شرطٍ أو قابلیّة المحلّ، أو لوجود مانعٍ أو مزاحمٍ أقوی.

وقد یکون في وقوعه علیها، کالرفع بالنسبة إلی الفاعل، والنصب بالنسبة إلی المفعول، والجرّ بالنسبة إلی المضاف إلیه. والإعراب بالنسبة إلی الاسم العاري عن مشابهة مبنيّ الأصل، والاقتضاء حینئذٍ بمعنی الاستحقاق والتأهّل؛ لوقوع المبادي المذکورة علیها، أو الإعداد له، فالفاعل مرفوعٌ وإن لم یرفع، والمفعول منصوبٌ وإن لم ینصب، والمضاف إلیه مجرورٌ وإن لم یجرّ، والاسم العاري عن المشابهة معربٌ وإن لم یُعرَب.

وقد یکون في وقوعه فیه، کالسجدة بالنسبة إلی المحلّ المعدّ لها، والطبخ بالنسبة إلی المحلّ المعدّله، والرکوب بالنسبة إلی الفرس ونحوه، والاقتضاء فیه بمعنی الاستحقاق أو الإعداد أیضاً، فالمحلّ المعدّ للسجدة مسجدٌ وإن لم یجسد فیه ساجدٌ، وللطبخ مطبخٌ وإن لم یطبخ فیه طبّاخٌ، والفرس مرکَبٌ وإن لم یرکبه راکبٌ، فاتّضح أنّ صدق المعرب علی الاسم العاري عن المشابهة قبل الترکیب لیس بمجرّد اصطلاحٍ من النحاة، بل منطبقٌ علی المفهوم الأصلي اللغوي أیضاً؛ لإعداده ذاتاً

ص: 104

لظهور الإعراب فیه عند الترکیب، فهو قبل الترکیب معدٌّ لقبول جنس الإعراب، وبعد الترکیب یحدث فیه استحقاق نوعٍ منه: من رفعٍ أو نصبٍ أو جرّ، فالاقتضاء الثابت قبل الترکیب إنّما یکون بالنسبة إلی جنس الإعراب، والحاصل بعده إنّما هو بالنسبة إلی النوع. فالزمخشري والجرجاني تنبّها لثبوت الاقتضاء قبل الترکیب فحکما بصدق المعرب قبله، وقد غفل عنه ابن الحاجب فزعم عدم حصول الاقتضاء إلّا بعد الترکیب، فحکم بعدم صدقه إلّا بعد الترکیب، فمرجع النزاع إلی ثبوت الاقتضاء الدائر مداره الاتّصاف قبل الترکیب وعدمه، لا إلی ما زعمه الجامي تبعاً للسیّد الشریف: من أنّ النزاع في الاصطلاح، وأنّ الزمخشري والجرجاني یقولان بکفایة الصالحیّة في صدق المعرب، وابن الحاجب یقول بلزوم الاستحقاق.

فإن قلت: لو کان الأمر کما ذکرت من عدم حدوث اصطلاحٍ في البین لزم عدم صحّة أن یقال: لم یُعرَب الکلمة، وهي معربة.

قلت: صحّة هذا الکلام لا تکشف عمّا توهّمه من ثبوت الاصطلاح في لفظ المعرب؛ للفرق بین صیغة الوصف وصیغة المضارع الداخل علیه کلمة «لم» فإنّ الاُولی ناظرة إلی الاتّصاف علی وجه الاقتضاء، والثانیة إلی نفي الاتّصاف الفعلي؛ ولذلک یقال: لم یقتل السمّ وهي قاتلة، ولم ینفع الدواء وهي نافعة، وهکذا من الأمثلة، فلو کانت صحّة ما ذکره لأجل الاصطلاح لزم عدم صحّة مثله في الأمثلة المذکورة ونحوها.

﴿وإلّا﴾ یختلف آخره کذلک ﴿فمبنيٌّ﴾ علی سکونٍ أو فتحٍ کسرٍ أو ضمّ، ک-«مَن» و «أینَ» و «أمسِ» و «قبلُ» في بعض حالاته، أو علی الحرکات الثلاثة کحیث ﴿لمناسبةٍ ذاتیّةٍ﴾ لا مجعولة ﴿خفیّة﴾ عن الأنظار لدقّتها ﴿لا لشباهته من الحروف وضعیّةً أو تضمّنیة أو افتقاریّةً﴾ ضرورة أنّ بناء الحروف إنّما هو من جهة

ص: 105

عدم قبولها المعاني المقتضیة للإعراب، فشباهة الاسم بها في الوضع أو الافتقار الاجنبيّ عن جهة البناء لا تؤثّر فیه بالضرورة، بل في التضمّن أیضاً؛ لأنّ التضمّن للمعنی الحرفي لا یوجب عدم اعتوار المعاني المقتضیة علی المتضمّن حتّی یوجب الحکم ببنائه، وأیضاً لو أوجب التضمّن البناء لبنیت الأسماء المشتقّة لتضمّنها النسب الناقصة التي هي معانٍ حرفیّة.

ثمّ أنّ افتقار الحرف إلی غیره من قبیل افتقار العرض إلی معروضه والصورة إلی مادّته؛ لما عرفت من أنّ المعنی الحرفي وجهٌ لاستعمال الاسم وقائمٌ به قیام الصورة بمادّته، وافتقار الاسم إلی غیره إنّما هو للتوضیح والتبیین، فلا یکون من قبیل افتقار الحروف، فلا یعقل تأثیره للبناء الذي هو من أحکام الحروف وآثاره، مع أنّه لو أثّر لزم الحکم بالبناء في صورة الافتقار إلی المفرد أیضاً؛ لعدم اختصاص افتقار الحرف بالجملة.

وتوهّم: أنّ افتقار الحروف إنّما هو إلی خصوص الجملة لأنّها إنّما وضعت لنسبة معان الأفعال إلی الأسماء، في غیر محلّه؛ لما ظهر لک من أنّ الحروف الجارّة إنّما وضعت لإفضاء أمرٍِ إلی أمر، سواء کان المفضی اسماً جامداً أو فعلاً أو شبهه.

وأمّا الشبه الاستعمالي والإهمالي فإنّهما إنّما یوجبان انتفاء الإعراب لانتفاء مقتضیه لا ثبوت البناء لثبوت مقتضیه، وفرقٌ بیّنٌ بین الأمرین، مع أنّهما لو اقتضیا البناء فلیس بسب الشبه بالحرف بل بالاستقلال؛ ضرورة أنّ اقتضاءهما إیّاه لیس دائراً مدار الشبه بالحرف.

ثمّ إنّ في تمثیل الشبه الإهمالي بفواتح السور نظراً؛ لأنّها حروفٌ مقطّعة لا أسماءٌ حتّی تکون مبنیّةً أو معربة.

فاتّضح لک غایة الاتّضاح: أنّ بناء المبنیّات من الأسماء لیس إلّا لمناسبةٍ

ص: 106

ذاتیّةٍ کامنةٍ في نفسها وإن خفیت علینا، وأنّ ما نسجوه: من أنواع الشبه ضابطةً للبناء في غایة السخافة، ولا حاجة إلی کشف سبب البناء ووضع ضابطةٍ له؛ لأنّ المبنیّات کلمات محصورةٌ معدودةٌ مسموعةٌ ستتبیّن لک في بابها.

وقد ظهر لک من تعلیل المبنيّ بالمناسبة الذاتیّة دون المعرب أنّ الأصل في الأسماء أن تکون معربة، ولا یکون اتّصافها بکونها معربةً مسبّبةً عن شيء، وهو کذلک؛ إذ الأصل سلامة الاسم عن المانع الموجب لعدم ظهور الإعراب علیه عند اعتوار المعاني المقتضیة له علیه.

﴿والإعراب أثرٌ في آخر اللفظ یقتضیه معنی من المعاني المعتورة علیه﴾ أي علی اللفظ، وهي أنحاء الاستعمالات الحادثةبالحرف أو الهیئة الترکیبیّة أو الهیئة الاشتقاقیّة أو بالقصد فقط، التي تتعلّق بها عنایة المتکلّم في مقام الإفادة والاستفادة: من الفاعلیّة والمفعولیّة والإضافة والحالیّة والتمییز، وهکذا من أنحاء الاستعمالات المعتورة علی اللفظ، فیدلّ علیه دلالةً إنّیّةً وهي: دلالة المقتضی علی مقتضیه.

ثمّ اعلم أنّ التعریف لمطلق الإعراب الثابت للاسم والفعل، وأنّه ینحصر مقتضیه مطلقاً في المعاني المعتورة، ولکن لیس کلّ معنی یقتضیه؛ ولذا لا یکون کلّ حرفٍ عاملاً، والهیئة الاشتقاقیّة لا تطلب العمل إلّا هیئة المضارع، فإنّها تقتضي الرفع إذا تجرّد عن ناصبٍ وجازم.

﴿وهو﴾ أي المعنی المقتضي للإعراب ﴿أحقّ بأن یسمّی عاملاً ممّا یتقوّم به هو﴾.

بیانه: أنّ وجود العمل الصحیح في الخارج یتوقّف علی أمرین:

الأوّل: استحقاق اللفظ إیّاه الحاصل باعتوار معنی من المعاني علیه.

ص: 107

والثاني: الموجد له وهو المتکلّم، فالعامل حقیقةً هو المتکلّم، ولا ینبغي إطلاق العامل علی غیره، ولو کان فإنّما هو المعنی المقتضي له لدخالته فیه بالاقتضاء.

قال نجم الأئمّة الرضي (قدس سره) في شرح قول ابن حاجب: «والعامل ما به یتقوّم المعنی المقتضي للإعراب»، ما حاصله: أنّ محدِث المعاني المعتورة علی اللفظ وعلاماتها هو المتکلّم، لکنّ النحاة جعلوا الآلة التي یحدث بسببها المعاني المذکورة في اللفظ کأنّها هي الموجدة للمعاني ولعلاماتها، فلهذا سمّیت الآلات عوامل، ف-«الباء» في قوله: «به یتقوّم» للاستعانة؛ نظراً إلی أنّ المسمّی عاملاً في الحقیقة آلة، انتهی.

أقول: إطلاق الفاعل علی آلة الفعل لا مانع منه، بل التحیقی أنّه علی سبیل الحقیقة؛ لأنّ مرجع الفاعلیّة إلی التسبیب للفعل، ولا یختصّ به المباشر. نعم، ینصرف إلیه من جهة أنّه أقوی، فکلٌّ من المباشر والآلة فاعلٌ للفعل حقیقةً، ولکن آلة إحداث المعنی في اللفظ لیس آلةً للعمل، فإنّ آلة العمل هي اللسان لا غیر. ومجرّد کون الشيء آلةً للمعنی المقتضي للإعراب لا یوجب کونه آلةً له کما هو ظاهر، مع أنّ المعنی المقتضی له قد یحصل بمجرّد القصد من دون آلة، کما في المنادی المحذوف النداء والتحذیر والإغراء، فیلزم حینئذٍ تحقّق العمل بلا عامل، علی أنّه لا ینطبق علی العامل المعنوي؛ ضرورة أنّ المتبدائیّة والخبریّة لا تتقوّمان ولا تحصلان بتجرّدهما عن العوامل اللفظیّة، بل بالهیئة الترکیبیّة الحاصلة عند تجرّدهما عن العوامل اللفظیّة، بل لا ینطبق علی ما عدا الحروف من العوامل اللفظیّة؛ لأنّ آلة إحداث المعنی في اللفظ من بین الألفاظ تنحصر في الحرف، فإنّ الفاعلیّة والمفعولیّة لا تحصلان بالفعل وشبهه، وإنّما تحلان بالهیئة الترکیبیّة، والفعل وشبهه محلٌّ للإسناد وطرفٌ له، فهما بسبب الاشتمال علی الإسناد والنسبة یطلبان المعمول، لا أنّ

ص: 108

العمل أو المعنی المقتضي له حادثٌ مهما، کما هو ظاهر.

وکیف کان فقد تبیّن بما بیّنّاه اُمور:

الأوّل: أنّ إطلاق العامل علی المعنی المقتضي للإعراب أقرب إلی الصواب ممّا ذکروه، وما ذهب إلیه خلف: من أنّ العامل في الفاعل هو الإسناد لا الفعل، مبنيٌّ علی ما بیّناه.

والثاني: فساد ما اشتهر بینهم؛ من أنّ الحروف الزائدة تعمل ولا یقدح زیادتها؛ لأنّ العمل فرع حدوث المعنی المقتضي له، والحرف الزائد لا یحُدث المعنی المقتضي له، فلا یتصوّر معه العمل، فما اشتهر زیادتها في الکلام حروفٌ مؤکّدة لا زائدة، کما سیظهر لک إن شاء الله تعالی في محلّه.

والثالث: جواز توارد الأفعال المتعدّدة علی معمولٍ واحد، ومجرّد تسمیتها عوامل من دون أن یکون لها حقیقةٌ أصلاً لا یمنع من تواردها علیه.

ثمّ اعلم: أنّ الإعراب صفةٌ لنفس الکلمة وإن کان أثراً ظاهراً في آخرها، فإنّه أثر المعنی المقتضي له القائم بنفس الکلمة لا بآخرها.

قیل: وإنّما جعل الإعراب في آخر اسم المعرب؛ لأنّ نفس الاسم یدلّ علی المسمّی، والإعراب یدلّ علی صفته، ولا شکّ أنّ الصفة متأخّرةٌ عن الموصوف، فالأنسب أن یکون الدالّ علیها أیضاً متأخّراً عن الدالّ علیه، انتهی.

وفیه: أنّ الإعراب یدلّ علی صفة اللفظ لا المسمّی، والمعاني المقتضیة له: من الفاعلیّة والمفعولیّة وهکذا، معتورةٌ علی الاسم وصفاتٌ له کما بیّنّاه، ونبّه علیه نجم الأئمّة الرضي (قدس سره) .

فالصواب أن یقال: وجه تأخیر الإعراب أنّ الدالّ علی الوصف بعد الموصوف کما ذکره (قدس سره) .

ص: 109

فإن قلت: لو کانت المعاني المعتورة من صفات الأسماء لم یصحّ إطلاق المعاني علیها؛ لأنّ صفات الألفاظ تابعةٌ هلا قائمةٌ بها مؤخّرةٌ عنها، فلا تکون معاني؛ لأنّها متقدّمةٌ علی الألفاظ، وهي منبئةٌ عنها.

قلت: ما ذکرت إنّما ینفي کونها معاني للألفاظ لا مطلقاً؛ فإنّ المعنی ما یتعلّق به القصد والإرادة، وکیفیّات الترکیب والتألیف وأنحاء الاستعمالات المعتورة علی الألفاظ لا بدّ أن تکون مقصودةً للمتکلّم، حتّی یتمّ بها الأسماء في مرحلة الترکیب والاستعمال وتدلّ علی القضیّة الذهنیّة أو علیها وعلی الخارجیّة، فالمعاني المعتورة علی الألفاظ مقصودةٌ أوّلاً أبداً، غایة الأمر أنّها مقصودة توطئةً وتبعاً للقضیّة الخارجیّة أو الذهنیّة؛ ومن هنا یصحّ لک أن تقول: إنّ المعاني الحرفیّة توطئةٌ أبداً لمعانٍ ذهنیّةٍ أو خارجیّةٍ مطابقةٍ لها، بخلاف المعاني الاسمیّة فإنّها صالحةٌ لأن تلحظ استقلالاً وتوطئةً لمعانٍ اُخر لا تکون مطابقةً لها بل من لوازمها.

ص: 110

أنواع الإعراب

[أنواع الإعراب](1)

﴿وأنواعه﴾ أربعة ﴿رفعٌ ونصبٌ وجرٌّ وجزم﴾.

اعلم: أنّ في المقام إشکالاً مشهوراً، وهو: أنّ کلاً من الأنواع مستقلٌ في المعمولیّة، فینبغي أن یکون معروضاً للحکم ومحمولاً علی الموضوع بالاستقلال، فیلزم أن یکون کلٌّ من الرفع والنصب والجرّ والجزم أنواعاً.

وقد اشتهر الجواب عنه: بأنّ العطف مقدّمٌ علی الحکم والحمل، وهو متأخّرٌ عنه، فیثبت للمجموع، فلا إشکال.

وفیه: أنّ حرف العطف إنّما یعطف ما بعده علی ما قبله في حکمه، ویشرّکه معه فیه، فهو خصوصیّةٌٍ وکیفیّةٌ في الحکم مؤخّرةٌ عنه، فکیف یتقدّم علیه؟

وببیانٍ آخر: الحروف إنّما تتکفّل جهات استعمال الاسم وتتمّ أنحاءه، فلا یعقل دخول الحرف علیه من دون استعمال، والعطف قبل الحکم مرجعه إلی وجود الحرف والإتیان به في مقام الترکیب من دن استعمال، وهو مستحیل.

وإن شئت زیادة التوضیح، نقول: إنّ مفاد واو العطف هو التشریک، وهو

ص: 111


1- العنوان منّا.

لا بدّ أن یکون في جهةٍ، فإن کان في جهة النسبة والحکم فهو مؤخّرٌ عنها؛ ضرورة أنّ تشریک شيءٍ مع شيءٍ في جهةٍ فرع ثبوتها ووجودها. وإن کان في جهة الذکر فهو محسوسٌ لا حاجة له إلی علامةٍ، مع أنّ الاشتراک في الذکر ثابتٌ مع قطع النظر عن الواو، فلا یعقل حدوثه بها، ولا ثالث في البین حتّی یثبت الاشتراک فیه، ثمّ إنّ الحکم علی المجموع یلزمه إعرابٌ واحد، وأیضاً دخول تنوین التمکّن علی کلّ واحدٍ من الأنواع ینافي الحکم علی المجموع.

وقد اُجیب عن الإشکال بوجه آخر أسخف من الأوّل، وهو: أنّ العطف من قبیل عطف الجزئیّات بحذف المضاف، أي بعض أنواعه رفع.

والتحقیق في الدفع، أن یقال: إنّه کما یکون المجموع متّحداً مع الأنواع، فکذلک کلٌّ من الأنواع متّحدٌ معها، غایة الأمر أنّ الاتّحاد في الأوّل یختصّ به المحمول، بخلاف الثاني فإنّه یشترک فیه هو والمعطوفات علیه، والحمل إنّما یفید الاتّحاد علی وجه الإطلاق في حدّ نفسه، واختصاص المحمول به إنّما یستفاد من الاقتصار علیه وعدم تشریک شيءٍ آخر معه، فإن اقتصر المتکلّم علیه ولم یعطف علیه شیئاً اختصّ به الاتّحاد وإلّا فلا، ویکشف عمّا بیّناه ما اشتهر: من أنّ للمتکلّم ما دام متشاغلاً أن یلحق بکلامه ما شاء من اللواحق، فافهمه فإنّه دقیق، وبالصیانة حقیق.

﴿ویشترک في﴾ النوعین ﴿الأوّلین﴾ وهما الرفع والنصب ﴿الاسم والفعل، ویختصّ بالثالث﴾ وهو الجرّ، أي ینفرد به ﴿الأوّل﴾ وهو الاسم ﴿وبالرابع﴾ وهو الجزم ﴿الثاني﴾ أي الفعل.

﴿والرفع بالضمّة، والنصب بالفتحة، والجرّ بالکسرة، والجزم بالسکون﴾.

قال نجم الأئمّة الرضي (قدس سره) : اعلم أنّ الحرکات في الحقیقة أبعاض حروف

ص: 112

العلّة، فضمّ الحرف في الحقیقة إتیانٌ بعده بلا فصلٍ ببعض الواو، وکسره الإتیان بعده بجزءٍ من الیاء، وفتحه الإتیان بعده بشيءٍ من الألف، وإلّا فالحرکة والسکون من صفات الأجسام، فلا تحلّ الأصوات، لکنّک لّما کنت تأتي عقیب الحرف بلا فصلٍ ببعض حرف المدّ سمّي الحرف متحرّکاً، کأنّک حرّکت الحرف إلی مخرج حرف المدّ، وبضدّ ذلک سکونالحرف، فالحرکة إذن بعد الحرف، لکنّها من فرط اتّصالها به یتوهّم أنّها معه، فإذا اُشبعت الحرکة وهي بعض حرف المدّ صارت حرف مدٍّ تاماً.

وإنّما قیل لعَلَم الفاعل رفعٌ؛ لأنّک إذا ضممت الشفتین لإخراج هذه الحرکة ارتفعتا عن مکانهما، فالرفع من لوازم مثل هذا الضمّ وتوابعه، فسمّي حرکة البناء ضمّاً وحرکة الإعراب رفعاً، لأنّ دلالة آلحرکة علی المعنی تابعةٌ لثبوت نفس الحرکة أوّلاً، وکذلک نصب الفمّ تابعٌ لفتحه، کأنّ الفم کان شیئاً متساقطاً فنصبته أي أقمته بفتحک إیّاه، فسمّي حرکة النباء فتحاً وحرکة الإعراب نصباً. وأمّا جرّ الفکّ الأسفل إلی أسفلٍ وخفضه، فهو ککسر الشيء؛ إذا المکسور یسقط ویهوي إلی أسفل، فمسّي حرکة الإعراب جرّاً وخفضاً وحرکة البناء کسراً؛ لأنّ الأوّلین أوضح وأظهر في المعنی المقصود من صورة الفم من الثالث. ثمّ الجزم بمعنی القطعف والوقف والسکون بمعنی واحد، والحرف الجازم کالشيء القاطع للحرکة، فسمّي الإعرابيّ جزماً والنبائيّ وقفاً وسکوناً، انتهی.

وهذا منه في غایة آلعجب؛ ضرورة أنّ الحرکة والسکون من الکیفیّات العارضة علی الحرف، وتوهّم أنّهما من صفات الأجسام فلا تحلّ الأصوات لا محصلّ له؛ لأنّه إن اُرید منه أنّهما یختصبان بالأجسام فهو ممنوع، وإن اُرید منه أنّ العرض لا یقوم إلّا بالجوهر ولا یعرض إلّا علیه فمنعه أوضح؛ ضرورة أنّ الاستقامة والانحناء من عوارض الخطّ الذي هو عرض، والشدّة والضعف من عوارض

ص: 113

الضرب ونحوه من الأعراض، وإن اُرید منه عدم جواز اشتراک الجوهر والعرض في قیام سنخٍ واحد من العرض بهما، فهو کذلک أیضاً لعدم المانع من اشتراکهما فیه بالبداهة.

ویدلّ علی فسادها توهّمه - مضافاً إلی ما بیّنّاه - أنّ حروف المدّ لا تتجزّی تحقیقاً، والحرکات لا تکون أبعاضاً لها، وإنّما هي متّحدةٌ معها من حیث المخرج، وإشباعها إنّما یوجب تولید حرف المدّ منها، لا صیرورتها أحرف مدٍّ تامّة کما زعمه؛ فإنّ الحرکة والحرف موجودان في صورة الإشباع؛ ألا تری أنّ الفتحة والضمّة والکسرة مجامعة مع الألف والواو والیاء في نحو: اضربا واضربوا واضربي، وأنّه لو لم تکن الحرکة کیفیّةً عارضة علی الحرف والحرف معروضاً لها لزم جواز الابتداء بالساکن؛ لأنّ الإتیان ببعض حرف المدّ عقبیه لا تأثیر له في آبتداء النطق، وأنّه لو صحّ ما ذکره لزم جواز تحریک الألف؛ إذ لا مانع من الإتیان بحرف المدّ بعده تامّاً، فمع عدم المانع من الإتیان به بعده لا مانه من الإتیان ببعضه.

هذا، وأمّا ما ذکره في وجه تسمیة الحرکات المذکورة ففي غایة المتانة.

واعلم: أنّ الأصل في الرفع وقسیمیه ما ذکرناه، وقد یخرج عن الأصل ﴿فینوب عن الضمّة النون في الأمثلة الخمسة﴾ وهي: یفعلان وتفعلان ویفعلون وتفعلون وتفعلین ﴿وعن الفتحة الکسرة في﴾ لفظ ﴿اُولات﴾ وهو اسم جمعٍ بمعنی ذوات، لا واحد له من لفظه ﴿و﴾ في ﴿الجمع بألفٍ وتاءٍ﴾ مزیدتین، ولا فرق بین أن یکون مسمّی هذا الجمع مؤنّثاً بالمعنی فقط کهندات ودعدات، أو بالتاء والمعنی جمیعاً کفاطمات ومسلمات، أو بالتاء دون المعنی کطلحات وحمزات، أو بالألف المقصورة کحبلیات، أو الممدودة کصحراوات، أو مذکّراً لا یعقل کاصطبلات. ولا فرق بین أن یکون سلمت فیه بنیة واحده کضخمة وضخمات، أو

ص: 114

تغیّرت کسجدة وسجدات.

وقد عبّر الأکثر بجمع المؤنّث السالم، وإنّما عدلت عنه إلی ما ذکرته؛ لأنّه أوضح منه وإن کان تعبیر الأکثر شاملاً للصور المذکورة؛ لأنّ السالم في قبال المکسّر ما لم یکن بناؤه علی تغیبر واحده وإن تغیّر أحیاناً، کما أنّ المکسّر ما کان بناؤه علی تکسّر واحده وإن لم یتکسّر أحیاناً، کفلک مفرداً وجمعاً.

﴿وفي ما سمّي به من ذلک﴾ الجمع ﴿فینصبت بالکسرة نحو قوله تعالی: (وإن کنّ اُولاتِ حملٍ)(1)﴾ ف-«اُولات» خبر «کنّ» منصوبةً بالکسرة ﴿(وخلق الله السماوات)(2)﴾ ف-«السماوات» منصوب بالکسرة علی أنّه مفعولٌ به.

وقیل: إنّه مفعولٌ مطلق؛ لأنّ المفعول به ما کان موجوداً قبل الفعل الذي عمل فیه، والمفعول المطلق ما کان الفعل العامل فیه هو فعل إیجاده وإن کان ذاتاً، والسماوات لم تکن موجودة قبل خلقها، وإنّما خرجت من العدم بالخلق.

وفیه: أنّ المفعول به ما وقع علیه الفعل خارجاً نحو: ضربت زیداً، أو تحلیلاً نحو: قلت زید قائم، فإنّ المقول لم یکن موجوداً قبل القول، وإنّما یوجد في الخارج به، ولکنّه یغایره تحیلاً؛ فمن جهة المغایرة التحلیلیّة یطلق علیه المقول، ومن جهة الاتّحاد الخارجي یطلق علیه القول. وهکذا الأمر فیما نحن فیه، فإنّه مخلوقٌ بالاعتبار الأوّل، وخلقٌ بالاعتبار الثاني، وأمّا المفعول المطلق فهو ما کان عین الفعل تحلیلاً وخارجاً، ولا مغایرة بینه وبین الحدث الذي تضمّنه العامل بوجه.

﴿و﴾ نحو ﴿رأیت عرفات﴾ وهو عَلَمٌ لموضع الوقوف ﴿وسکنت

ص: 115


1- سورة الطلاق، الآیة 6.
2- سورة الجاثیة، الآیة 22.

أذرعات﴾ وهو علمٌ لقریةٍ من قری الشام.

ویجوز في هذا القسم أن یعرب إعراب ما لا ینصرف، فیجرّ بالفتحة مع ترک التنوین، ونصبه بالکسرة مع ترک التنوین أیضاً، وروي بالأوجه الثلاثة: تنوّرتها من أذرعات.

﴿وحذف النون في الأمثلة الخمسة﴾ نحو: لن یفعلا وتفعلا ویفعلو وتفعلوا وتفعلي، فتحذف النونات منها بالنصب عوضاً عن الفتحة.

﴿و﴾ ینوب ﴿عن الکسرة الفتحة فیما لا ینصرف﴾ وهو ما افجتمع فیه علّتان من العلل التسع الآتیة علی ما ذهب إلیه الجمهور ﴿فیجرّ بالفتحة﴾ نحو: مررت بأحمد ﴿إلّا إذا اُضیف﴾ نحو: مررت بأحمدکم، وصلّیت في مساجدکم ﴿أو حلّي باللام﴾ کالأعمی والأصمّ، فیجرّ بالکسرة.

﴿و﴾ حذف ﴿الآخر من المعتلّ﴾ أي معتلّ اللام الذي هو مصطلح النحاة، سواء کان واویّاً کلم یدع، أو یائیّاً کلم یرم، أو ألفیّاً کلم یخش.

﴿ویستغنی عن الإعراب بالحرکة في الأسماء الستّة وهي: أبوه وأخوه وهنوه وحموها وفوه وذو مال مفردةً مکبّرةً مضافةً إلی غیر یاء المتکلّم بانقلاب﴾ الحرف ﴿الآخر منها﴾ وهو لام الکلمة في الأربعة الاُول، وعینها في الأخیرین ﴿ألفاً ویاءً حالة النصب والجرّ﴾ فتقول في حالة الرفع: جاءني أبوه... إلی آخرها بالواو علی الأصل؛ لأنّ الأصل في أنواع الإعراب الرفع، وفي حالة النصب رأیت أباها بالألف؛ لمناسبة الألف للفتحة، وفي حالة الجرّ مررت بأبیها، وهکذا الحال في سائر الکلمات، فببقاء اللام أو العین علی الأصل یعلم أنّها مرفوعة، وبانقلابه إلی الألف

ص: 116

یعلم أنّها منصوبة، وبانقلابه إلی الیاء یعلم أنّها مجرروة، فیستغني بالانقلاب عن الإعراب؛ إذ به یعلم النصب أو الجرّ، وبعدمه یعلم الرفع، لا أنّ الحروف المذکورة علاماتٌ لإعراب الکلمة کالحرکات، وأنّ الإعراب ینقسم إلی إعرابٍ بالحرکة وإعرابٍ بارحف؛ ضرورة أنّ الإعراب علامةٌ لاستعمال الکلمة، والاستعمال صفةٌ متأخّرةٌ عن موصوفها وهي الکملة، فلا یعقل أن یکون لام الکلمة أو عینها علامةً للإعراب، وإلّا لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمراتب.

وإلیه یرجع ما قاله الجرمي: من أنّ انقلابها هي الإعراب، وأمّا هي فإمّا لامٌ أو عین.

بل لعلّه إلیه یرجع ما قاله أبو علي: من أنّها حروف إعرابٍ وتدلّ علی الإعراب، یعني أنّها تکون محلّاً للإعراب یستفاد منها ما یستفاد منه.

وأوضح منه ما حکي عن ابن الحاجب: من أنّ الواو والألف والیاء مبدّلةٌ من لام الکلمة في أربعة، ومن عینها في آلباقیین؛ لأنّ دلیل الإعراب لا یکون من سنخ الکلمة، فهي بدلٌ یفید ما لم یفده المبدل منه وهو الإعراب، کالتاء في «بنت» یفید التأنیث، بخلاف الواو التي هي أصلها. ولا یبقی ذو مال وفوک علی حرفین؛ لقیام البدل مقام المبدل، انتهی.

ولکن فیه: أنّ الواو لا یکون مبدلاً من شيء وإنّما المبدل هو الألف والیاء.

وإلی ما بیّنّاه أیضاً یرجع ما عن سیبویه: من أنّ هذه الأسماء لیست معربةً بالحروف، بل بحرکاتٍ مقدَّرةٍ علی الحروف، فإعرابها کإعراب المقصور، لکن اتّبعت في هذه الأسماء حرکات ما قبل حروف إعرابها حرکات إعرابها، کما في «امرء» و «ابنم»، ثمّ حذفت الضمّة للاستثقال، فبقیت الواو ساکنة، وحذفت الکسرة للاستثقال، فانقلبت الواو یاءً لکسرة ما قبلها، وقلبت الواو المفتوحة ألفاً

ص: 117

لتحرّکها وانفتاح ما قبلها، انتهی.

وفي «أب» و «أخ» و «حم» لغتان اُخریان:

النقص، کقولک: هذا أبک وأخک وحمک، ورأیت أبک وأخک وحمک، ومررت بأبک وأخک وحمک.

والقصر، کقول: جاءني أباک، ورأیت أباک، ومررت بأباک.

ولکنّ القصر أشهر من النقص.

وفي «هن» لغتان: الإتمام والنقص، کقولک: هذا هنک، وهکذا. ومنه الحدیث: «من تعزّی بعزاء الجاهلیّة فأعضّوه علی هن أبیه ولا تکنوا».(1) والنقص أفصح من الإتمام.

وفي «ذي» و «الفم» مقطوعاً عنه المیم، لیس إلّا لغةٌ واحدة.

فتحصّل أنّ في أب وأخ وحم ثلاث لغات: الإتمام وهو الأصل، والقصر وهو أشهر من النقص، والنقص وهو نادر. وفي هن لغتان: الإتمام والنقص، وهو أفصح من الإتمام. وفي الاثنتین الباقیین لغةٌ واحدة.

﴿و﴾ یستغنی عن الإعراب بالحرکة ﴿في التثنیة﴾ وهو ما لحق آخره ألفٌ أو یاءٌ مفتوحٌ ما قبلها، لیدلّ علی أنّ معه مثله من جنسه ﴿والجمع المذکّر السالم بانقلاب أداتیهما﴾ وهما الألف والواو ﴿یاءً کذلک﴾ أي حالة النصب والجرّ، قیل: ویشترط في کلّ ما یثنّی عند الأکثرین ثمانیة شروط:

أحدها: الإفراد، فلا یثنّی المثنّی، ولا المجموع علی حدّه، ولا الجمع الذي لا نظیر له في الآحاد.

ص: 118


1- کنزالعمّال 1: 260، الحدیث 1303، وفیه: بهن أبیه.

الثاني: الإعراب، فلا یثنّيی المبنيّ، وأمّا نحو «ذان» و «تان» و «اللذان» و «اللتان» فصیغٌ موضوعةٌ للمثنّی ولیست بمثنّاة حقیقةً علی الأصحّ عند جمهور البصریّین.

الثالث: عدم الترکیب، فلا یثنّی المرکّب ترکیب إسنادٍ اتّفاقاً، ولا مزجٍ علی الأصحّ، وأمّا المرکّب ترکیب إضافةٍ من الأعلام فیستغنی بتثنیة المضاف عن تثنیة المضاف إلیه.

الرابع: التنکیر، فلا یثنّی العلم باقیاً علی علمیّته، بل ینکّر ثمّ یثنّی.

الخامس: اتّفاق اللفظ، وأمّا نحو «الأبوان» للأب والاُم فمن باب التغلیب.

السادس: اتّفاق المعنی، فلا یثنّی المشترکة ولا الحقیقة والمجاز، وأمّا قولهم «القلم أحد اللسانین» فشاذٌّ.

السابع: أن لا یستغنی بتثنیة غیره عن تثنیته، فلا یثنّی «سواء» لأنّهم استغنوا بتثنیة سيَّ عن تثنیته فقالوا: سیّان، ولم یقولوا: سواءان، وأن لا یستغنی بملحقٍ بالمثنّی عن تثنیته فلا یثنّی «أجمع» و «جمعاء» استغناءً بکلا وکلتا.

الثامن: أن یکون له ثانٍ في الوجود، فلا یثنّی الشمس ولا القمر، وأمّا قولهم: «القمران» للشمس والقمر فمن باب المجاز، فما استوفی هذه الشروط فهو مثنّیً حقیقةً.

أقول: التحقیق اعتبار أربعةٍ منها، وهو الأوّل والثالث والخامس والسادس، وإن اختلف في الأخیر فنفاه بعضهم واکتفی بالاتّفاق اللفظي، فإنّ أداة التنثیة إنّما تفید جهة استعمال المفرد ووجود مفهومه في فردین، وهو لا یتمّ إلّا بالاتّفاق في المعنی.

وتوهّم: أنّ التثنیة بمنزلة متعاطفین متماثلین في اللفظ فکما یجوز إرادة معنیین

ص: 119

مختلفین من المتعاطفین کذلک فکذا من التثنیة الذي هو بمنزلتهما، في غایة السخافة؛ ضرورة أنّ أداة التثنیة لا تدلّ علی لفظٍ مماثلٍ للفظ مفرده وإنّما هي جهةٌ لاستعماله من حیث وجوده في فردین منه.

وأمّا الشرط اسسابع فاعتباره غیر واضح؛ إذ لا یوجب الاستغناء بکلمةٍ عن کلمةٍ اُخری عدم صحّة استعمالها، وإنّما اتّفق في المثالین المذکورین عدم ورود استعمالها.

وکذا الشرط الثاني، بل الأصحّ عدم اعتباره بعد ورود نحو: ذان وثان واللذان واللتان، ولا داعي إلی صرفها عن ظاهرها وجعلها صیغاً موضوعةً للمثنّی.

وأمّا الشرط الثامن فیندرج في السادس؛ ضرورة أنّه إذا لم یکن له ثانٍ في الوجود لا یحصل الاتّفاق في المعنی.

وأمّا الرابع فلا وجه لاعتباره؛ ولذا یجوز أن یثنّی المعرّف بلام الجنس، وثنّي اسم الإشارة والموصول. نعم، یجب أن یکون قابلاً للتعدّد، والعلم لعدم قبوله إیّاه مع بقائه علی معناه العلمي لزم تنکیره وأوله إلی النکرة باستعماله في المسمّی به مجزاً. مع أنّ التحقیق کما عرفت عدم خروجه عن العلمیّة وعدم استعماله في غیر معناه العلميّ؛ لأنّ الاسم أبداً مستعملٌ في عنوان المسمّی، غایة الأمر أنّه قد یکون منظوراً توطئةً وتبعاً لما انطبق علیه معیّناً کما هو الأکثر، وقد یکون منظوراً أصالةً واستقلالاً کما في صورة تثنیة العلم وجمعه.

ثمّ إنّه مع عدم اتّفاق اللفظ أو المعنی تحقیقاً واتّفاقهما تغلیباً وتأویلاً کالأبوین والقمرین والقلم أحد اللسانین وأمثالها تکون مثنّاةً تحقیقاً لثبوت الاتّفاق فیهما ولو تأویلاً أو تغلیباً، فما یظهر من کلامه: من عدم کونها حینئذٍ مثنّاةً حقیقةً بل ملحقةً

ص: 120

بها کما صرّح به بعضهم في غایة الرداءة؛ ضرورة أنّ التأویل والتغلیب في مدخول الأداة لا فیها.

ویشترط في ما یجمع جمع المذکّر السالم ما یشترط فیما یثنّی مع شروطٍ اُخر:

الأوّل: خلوّه من تاء التأنیث، فلا یجمع نحو طلحة وعلّامة.

والثاني: کونه مذکّراً، فلا یجمع نحو هند وطالق.

والثالث: کونه لعاقل، فلا یجمع نحو واشق علماً لکلب وسابق صفةً لفرس.

ثمّ یشترط أن یکون أمّا علماً غیر مرکّب ترکیباً إسنادیّاً ولا مزجیّاً، فلا یجمع نحو «برق نحره» علماً ولا نحو معدي کرب وسیبویه، وإمّا صفةً تقبل التاء أو تدلّ علی التفصیل فلا یجمع هذا الجمع نحو جریح وصبور وسکران وأحمر، وقیل: یجوز ذلک في المزجيّ مطلقاً، وقیل: یجزو إن کان مختوماً بویه نحو سیبویه.

فإن قلت: العلم لا یجمع إلّا بتأویله إلی المسمّی به وصیرورته نکرةً، فکیف یجتمع مع اشتراط کونه علماً؟

قلت: اُجیب بأنّ معنی کلامهم: أنّ الاسم إذا کان علماً بشروطه صحّ إیراد الجمع علیه بعد أن تنکّره فیؤول الأمر إلی أنّ ما یشترط وجوده شرطٌ للإقدام علی الحکم وعدمه شرطٌ لثبوت ذلک الحکم.

والتحقیق: أنّ التأویل بالمسمّی لا یوجب خروجه عن العلمیّة - کما عرفت - فلا حاجة إلی ما ذکروه.

واعلم أنّه یندرج في الصفة التي تجمع بالواو والنون المصغّر والمنسوب، ثمّ إنّا لم نحکم بما حکمه به الجمهور: من کونهما معربین بالحروف؛ لأنّ أداتي التثنیة والجمع إنّما تکفّلتا جهة استعمال المفرد من حیث وجوده في ضمن فردین أو فوق الواحد، فلا یعقل صیرورتهما علامةً للإعراب المتأخّر عن مرحلة الاستعمال، وإلّا لزم تأخّر

ص: 121

الشيء عن نفسه بمرتبتین؛ ضرورة أنّ الأداة آلةٌ لحصول الاستعمال في اللفظ فمرتبتها قبل الاستعمال، والإعراب علامةٌ متأخّرةٌ عنه، فلو تکفّلت الجهتان لزم تأخّرها عن نفسها بمرتبتین، مع أنّه لا یعقل تکفّل أداةٍ واحدةٍ لجهتین مختلفتین وإن لم تکن إحداهما في طول الاُخری.

فظهر ممّا بیّنّاه: انحصار الإعراب في الإعراب بالحرکة، وهذا هو المناسب طبعاً أیضاً؛ لأنّ الاستعمال کیفیّةٌ في اللفظ فینبغي أن یکون علامته أیضاً کیفیّةً فیه، وکیفیّة اللفظ إنّما هي الحرکة والسکون ذاتاً وإن کان الحرف قد یقع کیفیّة أیضاً قسراً ومنعاً.

﴿واُلحق بالمثنّی﴾ في الحکم المذکور وهو انقلاب الألف یاءً حالة النصب والجرّ ﴿اثنان واثنتان﴾ وثنتان مطلقاً ﴿وکلا وکلتا إذا اُضیفا إلی مضمر﴾ وأمّا إذا اُضیفا إلی ظاهرٍ فحکمهما حکم المقصود.

﴿وبالجمع﴾ المذکّر السالم في انقلاب الواو یاءً ﴿أربعة أنواع:﴾

﴿أحدها: أسماء جموع وهي: اُلو﴾ وعالمون ﴿وعشرون وبابه﴾ وهو سائر العقود ﴿إلی تسعین﴾.

﴿و﴾ النوع ﴿الثانی: جموع تکسیر﴾ مجموعةٌ بالواو والنون ﴿وهي بنون وأرضون وسنون وبابه﴾ وهو کلّ ثلاثيٍّ حذفت لامه وعوّضت عنها هاء التأنیث ولم یتکسّر، فخرج بالحذف نحو تمرة، وبحذف اللام نحو عدة، وبالتعویض محو ید، وبالهاء نحو اسم، وبالأخیر نحو شفة.

﴿و﴾ النوع ﴿الثالث: جموع تصحیحٍ لم تستوف الشروط﴾ المتقدّمة ﴿کأهلون ووابلون﴾ لأنّ أهلاً ووابلاً لیسا علمین ولا صفتین، ولأنّ وابلاً لغیر عاقل.

ص: 122

﴿و﴾ النوع ﴿الرابع: ما سمّي به من هذا الجمع﴾ وما اُلحق به کعلّیّون وزیدون مسمّی به شخصٌ ﴿ویجوز في هذا﴾ النوع ﴿أن یجري مجری غسلین﴾ في لزوم الیاء والإعراب بالحرکات علی النون منوّنةً ﴿ودون هذا أن یجري مجری هارون﴾ في لزوم الواو والإعراب علی النون غیر منوّنةٍ؛ للعلمیّة وشبه العجمة ﴿کحمدون أو﴾ یجري ﴿مجری عربون﴾ بفتح العین والراء المهملتین وباء الموحّدة في لزوم الواو والإعراب بالحرکات الثلاث علی النون منوّنةً، کقوله: «اعترتني الهموم بالماطرون» ﴿ودون هذه﴾ اللغة ﴿أن تلزمه الواو وفتح النون﴾ کقوله:

ولها بالماطرون إذا *** أکل النمل الذي جمعا

﴿وبعضهم یجري بسنین وبابه﴾ وإن لم یکن علماً ﴿مجری غسلین، وبعضهم یطّرد هذه﴾ اللغة ﴿في جمع﴾ المذکّر ﴿السالم﴾ وما حمل علیه.

﴿والتحقیق: أنّ ما عدا النوع الرابع﴾ کلّها ﴿تندرج تحت جمع المذکّر السالم سوی اُولو؛ لأنّ صوغه للمذکّر العاقل وسلامة واحده إنّما هو بحسب القیاس﴾ والاقتضاء فلا ینافي صوغه لغیر المذکّر أو غیر العاقل وعدم سلامة واحده شذوذاً وعلی خلاف القیاس والاقتضاء.

توضیح الأمر غایة الإیضاح یتوقّف علی بیان اُِمور:

الأوّل: أنّ الجمع ما یدلّ علی المعنی الجمعي بالأداة أو الهیئة الطاریة علی المفرد، واسم الجمع ما یدلّ علی المعنی الجمعي بمادّته کالقوم والرهط والطائفة، وإلیه یرجع ما قیل: من أنّ الجمع ما دلّ علی آحاده بالمطابقة، فإذا قلت: جاء الزیدون، فکأنّک قلت: جاءني زید وزید وزید؛ لأنّه موضوعٌ للآحاد بشرط انضمام بعضها إلی بعض، واسم الجمع ما دلّ علی کلّ واحدٍ واحدٍ من تلک الأفراد بالتضمّن کقوم

ص: 123

ورهط، فإنّه موضوعٌ لمجموع الأفراد، فدلالته علی کلّ واحدٍ من قبیل دلالة المرکّب علی کلّ واحدٍ من أجزائه.

وجه الرجوع: أنّک قد عرفت أنّ من شرائط الجمع کون واحده اسم جنسٍ أو مأوّلاً به قابلاً للتعدّد، ومن المعلوم أنّ الجنس إنّما ینطبق علی أفراده بالمطابقة، وهیئة الجمع إنّما تفید انضمام بعضها ببعض، وأمّا اسم الجمع فهو موضوعٌ ابتداءً للجماعة فلا ینطبق علی آحاده إلّا بالتضمّن.

والثاني: أنّ جمع المذکّر السالم عبارةٌ عن الجمع بالواو والنون، وتسمیته بجمع المذکّر السالم باعتبار أنّ القیاس صوغه للمذکّر العاقل وسلامة بناء واحده، کما أنّ تسمیة الجمع بالألف والتاء بجمع المؤنّث السالم باعتبار أنّ القیاس صوغه للمؤنّث وسلامة بناء واحده.

والثالث: أنّ أقلّ مدلول الجمع اثنان فصاعداً، کما بیّنّاه في محلّه.

والرابع: أنّ دلالة الجمع علی عدّةٍ معیّنةٍ من أفراد المفرد بالعرض والاستعمال لا ینفاي عدم تعیّنه بالوضع لذلک.

والخامس: لا فرق بین کون المفرد لعاقلٍ وضعاً وبین کونه له استعمالاً.

وإذا اتّضحت لک هذه الاُمور اتّضح لک غایة الاتّضاح: أنّ النوع الثاني والثالث مندرجان تحت جمع المذکّر السالم حقیقةً، ولا ینافي ذلک عدم اجتماع شرائط القیاس فیهما وعدم سلامة بناء الواحد في النوع الثاني؛ فإنّه إنّما یوجب الشذوذ والجري علی خلاف الاقتضاء لا الخروج عن الحقیقة.

وهکذا الأمر في أمثلة النوع الأوّل سوی «اُولو»؛ ضرورة أنّ المعنی الجمعيّ فیها إنّما یستفاد من الأداة الملحقة بمفرداتها لا من مادّة اللفظ، فعالمون جمعٌ لعالم ولا ینافیه اختصاص «العالمین» بالعقلاء وعموم «العالم» لما سوی الباري تعالی

ص: 124

مطلقاً؛ لأنّه عند جمعه بالواو والنون یراد منه العاقل ممّا سوی الباري تعالی، والقرینة الصارفة عن العموم جمعه بالواو والنون المختصّ بالعقلاء قیاساً، ولا یجب اختصاص المفرد بالعاقل وضعاً. وکذا أسماء العقود جموعٌ لمفرداتها، ولا ینافیه إطلاق عشرین علی مثلي مفرده وعدم جري الجمیع علی طریقة الجمع: من عدم تعیّنها لمرتبةٍ مخصوصةٍ؛ لأنّ أقلّ مدلول الجمع هو الفردان فصاعداً، وإنّما ینصرف إلی ما فوق الاثنتین في مقابل التثنیة، لا أنّه یختصّ به حقیقةً کما توهّمه الأکثر، وإلّا لم یجز إطلاقه علی الموجود في ضمن الفردین کما لم یجز إطلاق التثنیة علی الموجود في ضمن فوق الفردین. وتعیّنها لمرتبةٍ مخصوصةٍ من الأعداد واختصاصها بها استعمالاً للغرض المصوغ لأجله هذه الجموع وهو تعداد العشرات لا ینافي أعمیّیتها منها بحسب الوضع الأصلي وعدم جواز إطلاقها علی الأعمّ المنافي للغرض المذکور.

هذا، وأمّا النوع الرابع فهو في الأصل جمعٌ صار مفرداً بالعرض روعي في الإعراب أصله.

تنبیه: نون المثنّی وما اُلحق به مسکورةٌ مطلقاً، وفتحها بعد الیاء لغةٌ، کقوله: «علی أحوذیّین استقلّت عشیّة»، وقیل: لا یختصّ بالیاء بل بعدها وبعد الألف، کقوله: «أعرف منها الجید والعینانا»، ونون الجمع مفتوحةٌ والکسر جائزٌ في الشعر بعد الیاء، کقوله: «وقد جاوزت حدّ الأربعین».

ص: 125

فصل: فی الاعراب اللفظی والمحلی والتقدیری

اشارة

الاسم والفعل إن کان مبنیّین فإعرابهما محلّيٌّ، یعني: أنّه لو کان في محلّهما لفظٌ معربٌ لظهر الإعراب فیه.

وإن کانامعربین فإن منع من ظهور الإعراب فیهما تعذّرٌ أو استثقالٌ فإعرابهما تقدیريٌّ وإلّا فلفظيٌ.

ولمّا کان الإعراب التقدیري محصوراً مستنداً إلی أحد السببین ذکرتُ مواضعه واستغنیتُ به عن ذکر اللفظيّ، فقلت: ﴿تقدیر الإعراب إمّا لتعذّرٍ أو استثقالٍ فینحصر في سبغة أشیاء﴾ من اسم وفعل.

﴿فمطلقاً﴾ أي فیقدّر مطلقاً، أي الأنواع الثلاثي من الرفع والنصب والجرّ، أو الرفع والنصب والجزم ﴿في السام المقصور﴾ وهو کلّ ما کان آخره ألفٌ لازمةٌ قبلها فتحةٌ سواء کانت محذوفةً ﴿کهدی﴾ أو موجودةً ﴿کالهدی﴾ لتعذّر ظهور الحرکة علی الألف مطلقاً ﴿وفي المفرد﴾ وما في حکمه وهو الجمع المکسّر ﴿والجمع المذکّر السالم المضافین إلی الیاء﴾ أي الیاء المتکلّم ﴿نحو غلامي ومسلمي﴾ وعلّل الحکم في الأوّل بأنّه لمّا اشتغل ما قبل یاء المتکلّم بالکسرة للمناسبة قبل دخول العامل امتنع أن یدخل علیه حرکةٌ اُخری بعد دخوله موافقةٌ لها أو مخالفةٌ لها.

وقیل: في الحکم بتقدّم کسرة المناسبة مع تقدّم عامل الجرّ حسّاً نظرٌ.

أقول: والتحقیق أنّ تقدیر الإعراب فیه مطلقاً لا یکون بملاحظة تقدّم کسرة المناسبة علی الکسرة الحاصلة من قِبَل عامل الجرّ حتّی یقال بأنّه ممنوعٌ، بل لأجل

ص: 126

أنّ الإعراب إنّما هو العلامة علی کیفیّة الاستعمال، ومع وجود الکسرة في الحالات مطلقاً لا یبقی علامةٌ فتسقط عن کونها إعراباً. ومنه یظهر وجه تقدیر الإعراب مطلقاً في نحو مسلمي؛ لأنّ انقلاب الواو إلی الیاء في الحالات الثلاث یمنع عن کونه علامةً للنصب أو الجرّ.

فإن قلت: لو کان الاشتراک منافیاً للعلامة لزم أن لا یکون الیاء في الجمع أو التثنیة مطلقاً إعراباً لاشتراک النصب والجرّ فیها.

قلت: الیاء أو انقلاب الواو أو الألف إلیها إنّما یکون علامةً باعتبار اختصاصها بغیر حالة الرفع.

فظهر بما بیّنّاه فساد ما ذهب إلیه الأکثر بل الجمیع: من تقدیر خصوص الرفع فیه أو عدم التقدیر فیه أصلاً.

﴿وفي المضارع المتّصل به نون تأکیدٍ غیر مباشرٍ کیضربان﴾ فإنّ أنواع الإعراب الثلاثة الجاریة في الفعل - وهي الرفع والنصب والجزم - مقدَّرةٌ فیه؛ إذ لا یختصّ حینئذٍ حذف النون الذي هو عرض الرفع في المفرد بحالة النصب والجزم، حتّی یکون دلیلاً وعلامةً علیهما، بل یشترک فیه الحالات الثلاثة.

وبما بیّنّاه ظهر متانة ما ذکره شیخنا البهائي: منتقدیر الإعراب فیه مطلقاً. فما ذکره شارح کلامه: من أنّه سهوٌ منه فإنّ الإعراب إنّما یقدّر في الصورة الاُولی فقط، ناشٍ عن عدم التأمّل التامّ.

﴿و﴾ تقدیر الإعراب ﴿رفعاً وجرّاً﴾ أي في حالة الرفع والجرّ ﴿في﴾ الاسم ﴿المنقوص﴾ وهو کلّ اسمٍ معربٍ بالحرکات آخره یاءٌ لازمةٌ بعد کسرةٍ سواء کانت موجودةً أو محذوفةً ﴿کالقاضي وقاضٍ﴾ تقول في حالة الرفع والجرّ: جاء القاضی ومررت بالقاضي بسکون الیاء، وجاء قاضٍ ومررت بقاضٍ، وفي

ص: 127

حالة النصب بفتح الیاء: رأیت القاضي وقاضیاً.

﴿ورفعاً ونصباً﴾ أي في حالتي الرفع والنصب ﴿في المضارع المعتلّ بالألف کیخشی﴾ لتعذّر تحریکها. وأمّا الجزم فلا مانع منه لأنّه بحذف الآخر حینئذٍ.

﴿ورفعاً﴾ أي في حالة الرفع فقط ﴿في المضارع المعتلّ بالواو والیاء﴾ لثقل الضمّة علیهما ﴿کیدعو ویرمي﴾ فتقول: زید یدعو ویرمي بسکون الواو والیاء.

وقیل: یقدّر مطلقاً في المعرب بالحروف نحو: جاءني أبو القوم ورأیت أبا القوم ومررت بأبي القوم؛ لأنّه لمّا اُسقطت أحرف الإعراب عن اللفظ بالتقاء الساکنین لم یبق الإعراب لفظیّاً بل صار تقدیریّاً.

وفیه: أنّ العلامة للرفع والنصب والجرّ إنّما هو الانقلاب کما عرفت لا أحرف اللین، وأثر الانقلاب وهي ضمّة العین وفتحته وکسرته باقٍ مع حذف الحروف، فیستغنی به عن الإعراب کما استغنی بالانقلاب عنه، فلا یکون الإعراب تقدیریّاً.

تنبیه: یقدّر الرفع والجرّ في حالة الوقف والإعراب مطلقاً في الحکایات نحو: من زیدٌ؟ لمن قال: جاء زید، ومن زیداً؟ لمن قال: رأیت زیداً، ومن زیدٍ؟ لمن قال: مرردت بزید، وإنّما لم أذکرهما لأنّ الکلام في التقدیر الواجب والتقدیر فیهما لیس واجباً لعدم وجوب الوقف والحکایة. نعم، یجب حکایة الجملة إذا صارت علماً، کقولک: تأبّط شرّاً، ولکنّها أشبه بالمبنيّ من المعرب لأنّها بإعرابها الأصليّ صارت منقولةً إلی المعنی العلميّ الإفرادي.

ص: 128

تقسیم: فی علم الشخص والجنس

﴿الاسم إن کان مسمّاه شخصاً فعلم شخصٍ﴾ کزیدٍ وعمروٍ وبکرٍ.

فإن قلت: مسمّی النکرة - مثل رجل - شخصيٌّ أیضاً، غایة الأمر أنّه غیر معیّنٍ یصدق علی أفرادٍ کثیرةٍ علی البدل، فاللازم حینئذٍ أن یقال: شخصاً معیّناً لیخرج النکرة.

قلت: مسمّاها جنسٌ، نهایة الأمر أنّه لوحظ موجوداً في فردٍ غیر معیّنٍ لا أنّ مسمّاها ابتداءً هو الشخص، فهي اسم جنسٍ حقیقةً، وتقابلها معه إنّما هو باعتبار ملاحظة التقیّد فیها دونه، فاسم الجنس ما أنبأ عن جنسٍ ساذجٍ صالحٍ لأن یلاحظ في حدّ نفسه مع قطع النظر عن الأفراد، وموجوداً في ضمن فردٍ معیّنٍ أو غیر معیّنٍ، والنکرة ما أنبأ عن جنسٍ لوحظ موجوداً في فردٍ منتشرٍ في مرحلة الاستعمال، سواء کان قصد الوجود في الفرد بمعونة تنوین التنکیر أم لا.

والدلیل علی ما بیّنّاه: من أنّ مسمّی النکرة إنّما هو الجنس ولحاظ وجوده في الفرد إنّما طرأ علیه من قِبَل الاستعمال، انّ کلّ اسمٍ نکرةٍ صالحٌ للتعریف بلام الجنس، فلو کان موضوعاً للشخص ابتداءً امتنع دخوله علیه، فاسم الجنس أعمّ من النکرة تحقیقاً، إلّا أنّه شاع إطلاقه علی ما إذا لوحظ الجنس ساذجاً مجرّداً عن اعتبار وجوده في فردٍ فقوبل معها.

ثمّ إنّ تقابل النکرة مع اسم الجنس إنّما هو باعتبار معناها الأخصّ، وأمّا باعتبار معناها الأعمّ - وهو المقابل للمعرفة - فهي أعمّ منه أیضاً، فیجتمعان في نحو «رجل» إذا لوحظ الجنس فقط، فیکون نکرةً واسم جنسٍ، ویفترق عنها في نحو

ص: 129

«الرجل» معرّفاً بلام الجنس، وتفترق عنه في نحو «رجل» إذا لوحظ موجوداً في فردٍ شائع.

ثمّ اعلم أنّ اختلاف المعنیین للنکرة لیس علی سبیل الاشتراک اللفظي - کما توهّم - لرجوعهما إلی معنیً واحد مع الاختلاف في المترتبة، فقد یراد من النکرة ما تعیّن وتمحّض في التنکیر من قِبَل الاستعمال بحیث لا یصلح للتعریف مع اللحاظ المذکور، فینطبق علی النکرة بالمعنی الأخصّ حینئذٍ، وهذه هي المرتبة التامّة. وقد یراد منها ما فقد التعریف سواء کان صالحاً له أم لا، فینطبق علی المعنی الأعمّ حینئذٍ، فقد ظهر بما بیّنّاه أنّه لا حاجة إلی قولنا معیّناً لإخراج النکرة.

﴿وإلّا﴾ یکن مسمّاه شخصاً ﴿فعلم جنسٍ إن لوحظ﴾ أي الجنس متمیّزاً عن سائر الأجناس و ﴿من حیث هو هو بحیث لا یصلح الحکم علیه إلّا بما ثبت له مع قطع النظر عن أفراده﴾ ویمتنع من دخول أداة التعریف والتنکیر وأداتي التثنیة والجمع علیه ﴿کاُسامة للأسد وثُعالة للثعلب﴾ وذؤابة للذئب، فإنّ کلّاً من هذه الألفاظ تصدق علی کلّ واحدٍ من هذه الأجناس من حیث هي هي.

وبما بیّنّاه ظهر لک صحّة ما ذکره ابن هشام، حیث قال: تقول لکلّ أسدٍ رأیته: «هذا اُسامة مقبلاً» وکذلک البواقي، ویجوز أن تطلقها بإزاء صاحب الحقیقة من حیث هو وتقول: اُسامة أشجع من ثعالة، کما تقول: الأسد أشجع من الثعلب، أي صاحب هذه الحقیقة أشجع من هذه الحقیقة، وکذا الباقي. ولا یجوز أن تطلقها علی شخصٍ غائبٍ، لا تقول لمن بینک وبینه عبدٌ في أسدٍ خاصّ: ما فعل اُسامة؟ انتهی.

فإنّ محصّل کلامه عدم جواز الحکم علیه بما تعلّق بفردٍ من أفراد الجنس، ولا ینافي ذلک صحّة إطلاقه علی الفرد المعیّن وحمله علیه في قولک: هذا اُسامة؛ لأنّ

ص: 130

صدق الجنس علی الفرد مقتضی کونه جنساً له، وإنّما المنافي له إرادة الفرد منه والحکم علیه بما ثبت له دون جنسه.

﴿وإلّا﴾ یلاحظ الجنس متمیّزاً عن سائر الأجناس، بل لو حظ لا بشرط بحیث یقبل التعریف بلام الجنس ولحوق الأدوات الناظرة إلی الأفراد - کتنوین التنکیر وأداتي التثنیة والجمع - والحکم علیه بکلا الاعتبارین ﴿فاسم جنسٍ کرجل وعِلم﴾ فإنّه قد یلحظان في حدّ أنفسهما مع قطع النظر عن الأفراد فتقول: الرجل خیرٌ من المرأة، والعِلم خیرٌ من الجهل، وقد یلحظان بلحاظ الأفراد کقولک: جاءني رجلٌ أو رجلان أو رجال، وعلمت علماً أو علمین أو علوماً.

ص: 131

تقسیم: فی المعرفة والنکرة

﴿وأیضاً الاسم إن أنبأ عن مسمّیً بعینه وضعاً﴾ کلأعلام ﴿أو استعمالاً﴾ کالمضمرات والموصولات وأسماء الإشارة والمعرّف باللام والمضاف إلی أحدها معنیً والمنادی المقصود ﴿فمعرفةٌ﴾.

توضیح الحال: أنّ العلم بالوضع العلميّ الاسميّ ینبئ عن المسمّی بعینه شخصاً کان أو جنساً، فإنّ الجنس الملحوظ من حیث هو هو متمیّزاً عن سائر الأجناس یکون معیّناً غیر شائع؛ لأنّ الشیوع إنّما هو بلحاظ الأفراد، فإذا لوحظ الجنس في حدّ نفسه بحیث یأبی النظر إلی الأفراد ولا یصلح للحکم علیه إلّا بما ثبت له من حیث هو هو مع قطع النظر عن الأفراد ووضع اللفظ بإزائه کاُسامة، لا یکون شائعاً. وأمّا سائر المعارف فالموضوع له فیها عامٌّ، وإنّما طرأ التعیین علیه من قِبَل المعاني الحرفیّة وهي: الغیبة والخطاب والتکلّم والإشارة والعهد وهکذا، التي هي شؤونٌ للاستعمال وأنحاءٌ له، غایة الأمر أنّه لم یوضع لها حرفٌ إلّا في المعرّف باللام، فتبیّن بما بیّنّاه أنّ تعریف المعرفة ب-«ما وضع لشيءٍ بعینه» باطلٌ.

لا یقال: یمکن أن یقال یتعیّن المسمّی بحسب الوضع في ما عدا الأعلام من المعارف أیضاً، أمّا في المعرّف باللام والمضاف إلی المعرفة والمنادی المقصود فبالوضع الترکیبي، فإنّ الموضوع له بحسب الوضع الترکیبي فیها معیّنٌ غیر شائعٍ وإن کان بحسب الوضع الإفرادي عامّاً شائعاً في أفراده، وأمّا في المبهمات فبالوضع الإفرادي علی ما أفاده بعض المحقّقین وتبعه أکثر المتأخرین: من أنّ الواضع لاحظ المفرد المذّکر مثلاً بعمومه ووضع الضمیر أو اسم الإشارة أو الموصول لکلّ فردٍ منه

ص: 132

في وضعٍ واحد؛ إذ لو لم یکن کذلک وقلنا بعموم الموضوع له فیها - کما نسب إلی المتقدّمین - لزم أن یکون هذه الألفاظ الشائعة الاستعمال مجازاتٍ لا حقائق لها؛ إذ لم تستعمل فیما وضعت هي لها من المفهومات الکلّیة، بل لا یصحّ استعمالها فیها أصلاً، وهذا مستبعدٌ جدّاً، کیف لا؟ ولو کانت کذلک لما اختلفت أئمة اللغة في عدم استلزام المجاز الحقیقة، ولما احتاج في نفي الاستلزام إلی أن یتمسّک في ذلک بأمثلةٍ نادرة.

لأنّا نقول: الوضع الترکیبیّ لا أصل له؛ ضرورة أنّ الترکیب التألیفي إنّما هو بعد وضع الجزئین، فلا مجال لطروّه علی المرکّب إلّا إذا نقل عن معناه الترکیبيّ إلی المعنی الإفرادي، کالجمل المنقولة عن معناها الأصليّ إلی العلمیّة، مع أنّ ترکیب الألفاظ المذکور إنّما هو من الحرف والاسم وهما مختلفان وضعاً ومرتبةً؛ فإنّ وضع الاسم مرآتيٌّ ووضع الحرف آليٌّ، ومعناه جهةٌ لاستعماله الأوّل ومتأخّرٌ عنه رتبةً، فلا یعقل جمعهما في وضعٍ واحدٍ وصیرورتهما متعلّقین له.

ومنه یظهر فساد ما توهّمه بعض المحقّقین وتبعه أکثر المتأخّرین: من وضع المبهمات لکلّ فردٍ من الأفراد؛ لأنّ تعیین مسمّیاتها إنّما نشأ من قِبَل المعاني الحرفیّة المتضمّنة لها من الغیبة والتکلّم والخطاب والإشارة والعهد وهکذا، التي هي جهاتٌ لاستعمال الأسماء المذکورة فلا یعقل وقوعها في عرض معانیها الاسمیّة وتعلّق الوضع المرآتيّ الاسميّ بها.

فالتحقیق ما ذهب إلیه المتقدّمون: من أنّها موضوعةٌ لمعانٍ کلّیةٍ مبهمةٍ، ولذا سمّیت مبهمات، ولا یلزم کونها مجازاتٍ لا حقائق لها؛ لأنّ استعمالها إنّما هو في تلک المعاني الکلّیة، والخصوصیّة متأخّرةٌ عن الاستعمال حاصلةٌ من قِبَله، فالمستعمل فیها في الموارد المزبورة عامّةٌ، وإنّما تصیر خصاّةً بطروّ الاستعمال علیها. وقد خفي

ص: 133

ما بیّنّاه لدقّته علی السیّد الشریف ومن تبعه.

﴿وإلّا﴾ ینبئ عن مسمّطً بعینه کذلک ﴿فنکرةٌ﴾ وقد فهم بما بیّنّاه أنّ النکرة أصلٌ، وأنّ تقابلها مع المعرفة من قبیل تقابل التناقض، وأنّ التعریف زائد علی التنکیر ﴿و﴾ مسبَّبٌ عن أسبابٍ وجودیّة موجبةٍ لتعیّن المسمّی، ولذا انحصرت ﴿المعرفة﴾ في دصنافٍ مخصوصة فهي ﴿سبعة﴾:

ص: 134

الضمیر

[الضمیر](1)

﴿الأوّل: الضمیر﴾ والمضمر باصطلاح البصریّین والکنایي والمکنّی باصطلاح الکوفیّین ﴿وهو ما تضمّن معنی الغیبة أو الخطاب أو التکلّم﴾ کهو وأنت وأنا، فإنّها متضمّنةٌ للمعاني المزبورة التي هي جهات استعمالها، فهي بمعناها الاسمطّ مبهمةٌ إلّا أنّها تتعیّن بالمعاني المذکورة.

وما بیّنّاه في تعریف الضمیر أحسن ممّا قیل بأنّه ما وضع لمتکلّمٍ أو مخاطبٍ أو غائبٍ؛ لأنّ عنوان الغیبة والخاطب والتکلّم لیس داخلاً في معناه الاسمّي حتّی یصحّ درجه في الموضوع له

ثمّ اعلم أنّ الغیبة في المقام لا تکون في مقابل الحضور کما یظهر من کلام ابن مالک، حیث قال: «فما لذي غیبةٍ أو حضور * کأنت وهو سمِّ بالضمیر» بل في قبال الخطاب والتکلّم، فالضمیر الغائب ما تتضمّن الإشارة العهدیّة المستلزمة لتقدّم معهودٍ لفظاً أو معنیً أو حکماً، سواء کان المعهود غائباً أو حاضراً في المجلس، ألا تری أنّه یصحّ قول: زید هو الذي فعل کذا، مع حضوره في المجلس، مع أنّه

ص: 135


1- العنوان منّا.

لو کان کذلک لزم أن یکون اسم الإشارة ضمیراً لتضمّنه معنی الإشارة الحضوریّة.

وما قیل: ولا یرد علی هذا اسم الإشارة لأنّه وضع لمشارٍ إلیه لزم منه حضوره لا وجه له؛ لأنّه لم یتضمّن مطلق الإشارة الحضوریّة، فالحضور داخلٌ في المعنی الحرفيّ المتضمّن له، لا أنّه خارجٌ عنه لازمٌ له، بل التحقیق: أنّ مفهوم الحضور خارجٌ عن معنی الخطاب والتکلّم ولازمٌ لهما؛ فإنّ معنی الخطاب توجیه الکلام نحو الغیر کما أنّ معنی التکلّم توجیه الکلام نحو نفسه، وکلا التوجیهین یستلزمان الحضور لا أنّهما عینه، فحینئذٍ یلزم دخول اسم الإشارة في الضمیر الحاضر وخروج الضمیرین عنه، ولو تنزّلنا وقلنا بخروج الحضور عن الإشارة أیضاً ولزومه إیّاها لزم خروج الجمیع عن الضمیر الحاضر.

وقد تبیّن بما بیّنّاه: من أنّ الغیبة التي تضمّنها الضمیر هي الإشارة العهدیّة، أنّها کالتکلّم والخطاب جهةٌ وجودیّةٌ ملحوظةٌ فیه، فما أفهمه کلام بعض الأعلام ممّن عاصرناه: من أنّها أمرٌ عدميٌّ ینتزع من عدم الخطاب والتکلّم، في غیر محلّه.

نعم، یصحّ ما ذکره في صیغة الفعل الغائب بالنسبة إلی صیغة الخطاب والتکلّم، فإنّها موضوعةٌ لإسناد الحدث إلی الذات من دون لحاظ أمرٍ زائدٍ، ومقابلتها مع الصیغتین من قبیل مقابلة العدم والوجود؛ ولذا تلحقها علامة الخطاب والتکلّم من دون تناقض، وتکون الصیغتان مشتقّتین منها معنیً، وکأنّه اختلط علیه کلام شیخنا (قدس سره) ولم یحط به تمام الإحاطة.

﴿وینقسم﴾ الضمیر ﴿عندهم إلی مستتر﴾ وهو ما لا صورة له في اللفظ ﴿وبارز﴾ وهو بخلافه.

﴿والمستتر إلی جائزٍ﴾ وهو ما یخلفه اسمٌ ظاهر ﴿وواجبٍ﴾ وهو ما

ص: 136

لا یخلفه اسمٌ ظاهرريال وانحصر ذلک عندهم في أربعة مواضع: فعل أمر الواحد المذکّر نحو اضرب، وصیغتي المتکلّم من المضارع نحو أعلَمُ ونَعلَمُ، وصیغة المخاطر المذکّر منه نحو تَعلَمُ، وقد الحق بها اسم فعل الأمر والمضارع کنزال واُوّه، وفعل الاستثناء کقاموا ما خلا زیداً وما عدا عمراً ولا یکون خالداً، وأفعل في التعجّب کما أحسن الزیدین، وأفعل التفضیل کهم أحسن أثاثاً.

﴿والبارز إلی متّصلٍ﴾ وهو ما لا یتّصل إلّا بعامله ولا یبتدئ به ولا یلي حرف «إلّا» اختیاراً ویقع بعدها اضطراراً، کقوله: إلّا یجاورنا إلّاک دیّار ﴿ومنفصل﴾ وهو ما یبتدئ به ویقع بعد إلّا اختیاراً.

﴿و﴾ ینقسم ﴿المتّصل﴾ البارز ﴿بحسب مواقع الإعراب إلی ثلاثة﴾ أقسام:

الأوّل: ﴿ما یختصّ بمحلّ الرفع وهو خمسة:﴾ أحدها: ﴿تاء الفاعل﴾ مضمومةً ومفتوحةً ومکسورةً کقمت مثلّثاً ﴿و﴾ ثانیها: ﴿الألف﴾ الدالّة علی الاثنین کقاما ﴿و﴾ ثالثها: ﴿الواو﴾ الدالّة علی الجمع کقاموا ﴿و﴾ رابعها: ﴿النون﴾ الدالّة علی جمع المؤنّث کقمن ﴿و﴾ خامسها: ﴿یاء المخاطبة﴾ کقومي.

﴿و﴾ الثاني: ما هو ﴿متشرکٌ بین النصب والجرّ﴾ فقط ﴿وهو ثلاثة:﴾ أحدها: ﴿یا المتکلّم﴾ نحو ربّي أکرمني. ﴿و﴾ ثانیاً: ﴿کاف المخاطب وفروعه﴾ کاف المخاطبة، کُما، کُم، کُنَّ نحو: ضربتک ومررت بک، وقس علی ذلک فروعه ﴿و﴾ ثالثها: ﴿هاء الغائب وفروعه﴾ ها، هما، هم، هنَّ نحو: ضربته ومررت به، وقس علی هذا.

﴿و﴾ الثالث: ما هو ﴿مشترکٌ بین﴾ المحالّ ﴿الثلاثة وهو «نا»﴾

ص: 137

خاصّةً نحو: (ربّنا إنّنا سمعنا)،(1) وأمّا المستتر فمرفوعٌ أبداً إذ لا یستتر إلّا ضمیر الرفع.

﴿و﴾ ینقسم ﴿المنفصل إلی مرفوع﴾ فقط ﴿وهو: هو وأنت وأنا وفروعها﴾ هي، هما، هم، هنَّ وأنتِ، أنتما، أنتم، أنتنّ، ونحن ﴿ومنصوب﴾ فقط ﴿وهو: إیّاه وإیّاک وإیّاي وفروعها﴾ وإیّاها، إیّاهما، إیّاهم، إیّاهنّ، وإیّاکِ، إیّاکما، إیّاکم، إیّاکنّ، وإیّانا.

﴿و﴾ إذ قد عرفت ذلک فاعلم أنّ ﴿التحقیق انحصار الضمیر في المنفصل﴾ البارز ﴿فإنّ المستتر﴾ کما عرفت ﴿عبارةٌ عن المعنی المدلول علیه بالدلالة﴾ التبعیّة ﴿الالتزامیّة الحاصلة من قِبَل الهیئة الاشتقاقیّة الدالّة علی الإسناد، والتعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ﴾ کما نبّهوا علیه في حدّ الکلمة حیث جعلوه مقابلاً للّفظ وقسیماً له وعبّروا عنه بالمنويّ معه، فلو کان ضمیراً تحقیقاً لاندرج في اللفظ وصحّ توصیفه بالمحذوف والمقدّر، فتوصیفه بالمستتر والمستکنّ والمنويّ معه أقوی شاهدٍ علی ما بیّنّاه: من کونه معنیً منهماً من اللفظ الموجود تبعاً والتزاماً.

﴿ولا تنتفي الدلالة المذکورة بذکر﴾ الاسم ﴿الظاهر بعده﴾ مطابقاً للمستتر؛ ضرورة دورانها مدار دلالة الهیئة علی الإسناد المستتبع للمسند إلیه، فهي باقیةٌ ما دامت الهیئة دالّةً علی الإسناد ﴿فالاستتار واجبٌ أبداً﴾ ولا یختصّ وجوبه بالمواضع المذکورة ﴿والظاهر﴾ المذکور الصالح للمسند إلیه ﴿مفسِّرٌ للمستتر أو مؤکِّدٌ له﴾ لا إظهارٌ وإبرازٌ له.

ص: 138


1- سورة آل عمران، الآیة 93.

وما ذکره بعض الأعلام ممّن عاصرناه: من أنّ هیئة الفعل إن کانت متکفّلةً لنسبةٍ خاصّةٍ بحیث یوجب تعیّن طرفها وضعاً - کصیغة المخاطب والمتکلّم والمثنّی والمجموع - یفهم منها المسند إلیه معیّناً بحیث لا حاجة معه إلی ذکر اسم ظاهرٍ بعده، بل یکون ذکره حینئذٍ لغواً، وهذا معنی وجود الاستتار، وإن کانت دالّةً علی مطلق النسبة - کصیغة المفرد المذکّر الغائب التي لا یستفاد منها المفرد المذکّر الغائب وضعاً بل إطلاقاً - یجوز للمتکلّم الأمران: الإطلاق، والتقیید، فإن أطلقه استتر الفاعل في الفعل لفهمه منها عند الإطلاق معیّناً، وإن قیّده زال الإطلاق فلا یستتر الفاعل فيه لاستناد فهمه منه إلی إطلاقه وقد زال، في غیر محلّه؛(1) لأنّ فهم المسند إلیه من الفعل مستندٌ إلی دلالة نفس الهیئة علی الإسناد لا الإطلاق حتّی یزول بالتقیید، مع أنّ الإطلاق إنّما یزول بالتقیید بخلاف مقتضاه لا بذکر الاسم الظاهر بعده مطلقاً ولو کان علی طبقه، فذکر «زید» بعد قول: ضَرَبَ، لا یوجب زوال الإطلاق لأنّه لم یکن علی خلاف مقتضاه حتّی یکون تقییداً له، مع أنّ التقیید بما ینافي الإطلاق في نحو قول: جاءني هندٌ، وضرب الزیدان، إنّما یوجب تبدیل الخصوصیّة المستفادة إطلاقاً بخصوصیّةٍ اُخری، لا إبراز المستتر وإظهاره لما هو ظاهر. وأیضاً مقتضی کلامه وجوب الاستتار في صیغة المؤنّث حینئذٍ لدلالتها علی نسبةٍ خاصّة مع أنّهم لم یعدّوه من مواضع وجوب الاستتار.

﴿وأمّا المتّصلات البارزة فهي آلاتٌ﴾ وأدواتٌ ﴿تحدث بها معانٍ﴾ وخوصیّاتٌ ﴿في النسب توجب تعیّن طرفها﴾ من حیث الغیبة والخطاب والتکلّم والإفراد والتثنیة والجمع والتذکیر والتأنیث ﴿فما هي من لواحق

ص: 139


1- خبر «وما ذکره بعض الأعلام».

الأفعال﴾ فإنّما هي ﴿من توابع الحروف وتکون أجزاءً لهیئاتها﴾ وصورها ﴿ولذا تختلف باختلاف صیغها وأوزانها﴾ ألا تری أنّ صیغة المفرد مغایرةٌ لصیغة المثنّی والجمع، وصیغة الغائب مغایرةٌ لصیغة المخاطب والمتکلّم، وصیغة جمع المذکّر مغایرةٌ لصیغة جماعة الإناث، فلو کان أسماءً منبئةً عن مسمّیاتٍ متضمّنةٍ للمعاني المذکورة استحال تأثیرها في صیغ الأفعال واختلافها باختلافها؛ ضرورة أنّ اتّصال الاسم بالفعل لا یوجب تغییر صیغته ووزنه، مع أنّ اللواحق المذکورة توجد في غیر الأفعال وتفید ما أفادته في الأفعال ومع ذلک تکون حروفاً عندهم، ألا تری أنّ تاء «أنتَ» و «أنتِ» تفید الخطاب کما أفادته في الأفعال، والألف والواو الملحقین بالأسماء تفیدان معنی التثنیة والجمع کما یفیدانهما في الأفعال ولا تکون إلّا حروفاً حینئذٍ، فهل هذا إلّا تهافتٌ وتناقض؟! بل التفصیل بین حروف المضارعة الدالّة علی الغیبة والخطاب والتکلّم ولواحق الماضي الدالّة علیها تهافتٌ أیضاً؛ لأنّ الجمیع من وادٍ واحد.

وما یتوهّم: من وجود الفارق والداعي علی التفصیل، وهو وقوع اللواحق المذکورة مسنداً إلیها للأفعال وهو من خصائص الاسم، وَهَمٌ ظاهر؛ إذ لا دلیل علی وقوعها کذلک للأفعال؛ لأنّ استفادة خصوصیّة المسند إلیه منها لا دلّ علی وقوعها مسنداً إلیها کما هو ظاهر، مع أنّه لو کان کذلک لزم أن یکون «ضربتَ» بمنزلة «ضرب أنت» قبیحاً مستنکراً ملتفتاً عن الغیبة إلی الخطاب، وفساده - مع قطع النظر عن الفرق بینهما من حیث الاتّصال والانفصال - في نهایة الوضوح. هذا کلّه في لواحق الأفعال.

﴿وأمّا ما هي﴾ من الکلمات المسمّات بالضمائر البارزة عندهم التي هي ﴿خارجةٌ عنها﴾ أي الأفعال ﴿فهي من قبیل نفس الحروف﴾ لا من قبیل

ص: 140

الضمائر المنفصلة المنبئة عن مسمّیاتٍ للمعاني المذکورة ﴿ولذا لا تستقلّ بالذکر ووجب اتّصالها بعاملها﴾ ولو کانت أسماءً کالضمائر المنفصلة لجاز الابتداء بها، ولا یمنع منه کونها أقلّ من الثلاثي وإلّا لزم عدم جواز الابتداء ببعض الضمائر المنفصلة أیضاً مثل لفظة «هو» ونحوه، فظهر أنّ سرّ وجوب اتّصالها بعاملها لیس إلّا ما بیّنّاه: من أنّها آلاتٌ وأدواتٌ محدثةٌ خصوصیّاتٍ في النسب التي تتقوّم بما قبلها الذي زعموا أنّه العامل فیها.

ویدلّ علی ما بیّنّاه أیضاً أنّ مفاد کاف الخطاب ولواحقه في اسم الإشارة ولواحق إیّاه وفروعه متّحدٌ مع مفادهما في سائر الموارد، وکاف الخطاب ولواحقه في اسم الإشارةحروفٌ باتّفاق، ولواحق إیّاه وفروعه کذلک علی الأصحّ عندهم، ولا یعقل التفصیل باعتبار المواردمع اتّحاد المفاد. ولا ینافي ذلک دخول حرف الجرّ علیها ووقعها موقع المضاف إلیه؛ لأنّ المجرور والمضاف إلیه هو المفهوم الاسميّ، وإنّما هي علامةٌ علی خصوصیّةٍ فیه استغنی بها عن ذکر اسمه.

فإن قلت: یلزم علی ما ذکرت أن یکون المجرور والمضاف إلیه محذوفین في نحو قولک: مررت بک، وجاءنی غلامي.

قلت: الحذف بمعنی الاستغناء عن المحذوف بالعلامة المستغنی بها عنه لا مانع من الالتزام به.

فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّ تقسیم الضمیر إلی متّصلٍ ومنفصل والمتّصل إلی مستترٍ وبارز باطلٌ لا أصل له، والعجب أنّهم مع تنبّهم لعدم کون المستتر ضمیراً علی سبیل الحقیقة وأنّ التعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ أجروا علیه أحکام اللفظ والضمیر حقیقةً، فجعلوه طرفاً للترکیب اللفظي وجزءاً للکلام والجملة، والتزموا بعوده علی متقدّمٍ لفظاً أو معنیً أو حکماً إذا کان غائباً، وعدم جواز رجوعه إلی

ص: 141

متأخّرٍ لفظاً ورتبةً.

تنبیه: وقد یستعمل الضمیر المرفوع مجروراً کقولهم: أنا کأنت وکهو، وهو کأنا، ومنصوباً کقولهم: ضربتک أنت. وقد یستمل الضمیر المنصوب مجروراً کقولهم: أنا کإیّاک، بل قد یستعمل مرفوعاً أیضاً کما في الدعاء: «یا من لا یعبد إلّا إیّاه» ولم أر من نبّه علیه.

﴿ولا یسوغ﴾ أي لا ستعمل الضمیر ﴿المنفصل﴾ مطلقاً مرفوعاً کان أو منصوباً ﴿إلّا إذا تعذّر المتّصل﴾ لإغنائه عنه مع اختصاره ﴿إمّا بتقدیمه علی عامله﴾ کإیّاک نعبد ﴿أو بکونه محصوراً﴾ فیه کقولک: ما ضرب إلّا أنت، وإنّما ضرب زیداً أنت ﴿أو بحذف عامله﴾ کقولک: إیّاک والشرّ، علی مذهبهم من حذف عامله ﴿أو بکونه﴾ أي العامل ﴿معنویّاً﴾ کقولک: أنا قائمٌ ﴿أو حرفاً والضمیر﴾ المعمول له ﴿مرفوع﴾ کقولک: ما أنت قائم ﴿أو بکونه﴾ أي الضمیر ﴿مسنداً إلیه صفةٌ جرت علی غیر من هي له﴾ مطلقاً سواء أمن اللبس کقولک: هند زید ضاربته هي، أم لم یؤمن اللبس کقولک: زید عمرو ضاربه هو، عند الأکثر، وقیل: یختصّ ذلک بصورة عدم أمن اللبس، وسیظهر لک تفصیل ما هو الصواب فیه إن شاء الله تعالی.

﴿وإذا اجتمع ضمیران﴾ في کلمةٍ واحدً ﴿فإن کان أحدهما مرفوعاً وجب اتّضالهما﴾ علی الأصل نحو: ضربته، وضربتک ﴿إلّا في باب «کان» فیختار انفصال ثانیهما عند الجمهور﴾ واتّصاله عند جماعةٍ منهم ابن مالک نحو: کنته، وکنت إیّاه ﴿وإلّا﴾ یکن أحدهما مرفوعاً سواء کانا منصوبین أو کان أحدهما مجروراً ﴿فإن کان المقدّم أعرف فلک الخیار في﴾ الضمیر ﴿الثاني﴾ نحو:

ص: 142

أعطیتکه، وأعطیتک إیّاه، ونحو ضربیک، وضربي إیّاک ﴿وإلّا﴾ یکن المقدّم أعرف ﴿فهو منفصلٌ﴾ لا غیر نحو: أعطیته إیّاه، وأعطیته إیّاک ﴿وقد یجوز في﴾ الضمیرین الغائبین مع اختلافهما﴾ إفراداً وتثنیة وجمعاً أو تذکیراً وتأنیثاً ﴿انفصاله﴾ أي انفصال ثانیهما نحو قوله: أنا لهماه قفو أکرم والد.

تنبیه: وقد ینفصل الضمیر مع إمکان اتّصاله وعدم المسوّغ لانفصاله للضرورة، کقوله:

بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت *** إیّاهم الأرض في دهر الدهاریر

﴿و﴾ اعلم أنّه ﴿یجب﴾ إذخال ﴿نون الوقایة قبل یاء المتکلّم مع الفعل﴾ مطلقاً ماضیاً کان أو مضارعاً أو أمراً، نحو: نصرني ویعینني وأکرمني؛ وقایةً من التباسه بالاسم المضاف إلی یاء المتکلّم في نحو: ضربي، ومن التباس أمر مذکّره بأمر مؤنّثه، ومن الکسر المشبه للجرّ للزوم کسر ما قبل الیاء.

﴿و﴾ مع ﴿اسمه﴾ أي اسم الفعل نحو: دراکني، وتراکني بکسر الکاف فیهما بمعنی أدرکني وأترکني، وعلیکني بفتح الکاف بمعنی ألزمني.

﴿و﴾ مع ﴿من وعن﴾ من بین الحروف الجارّة ﴿إلّا في الضرورة﴾ کقوله: «إذ ذهب القوم الکرام لیسي»، وقوله:

أیّها السائل عنهم وعني *** لست من قیسٍ ولا قیسٌ مني

وإن اجتمعت نون الوقایة مع نون الإعراب في المضارع یجوز إثباتهما بالفکّ وحذف نون الإعراب وإدغامها في نون الوقایة، وقرء بالثلاثة «تأمروني».

﴿ویغلب﴾ دخولها ﴿مع لیت﴾ حتّی أنّ بعضهم أوجبه وحکم بأنّ ترکه ضرورة.

ص: 143

﴿و﴾ مع ﴿قد وقطّ﴾ بمعنی حسب ﴿ولدن ویقلّ﴾ ترک النون فیها.

ویقلّ دخولها ﴿مع لعلّ﴾ ففي التنزیل: (لعلّي أبلغ الأسباب)،(1) واتّصالها بها قلیلٌ نحو قوله:

فقلت أعیراني القدوم لعلّني *** أحطُّ بها قبراً لأبیض ماجد

﴿ولک الخیار مع إنّ وأنّ وکأنّ ولکنِّ﴾ بیجوز لک أن نقول: إنّي وإنّني، وهکذا قال الشاعر: «وإنّي علی لیلی لزارٍ وإنّني».

ص: 144


1- سورة غافر، الآیة 36.

العلم

[العلم](1)

﴿والثاني﴾ من المعارف: ﴿العلم وهو﴾ لغةً العلامة مطلقاً، واصطلاحا ﴿ما﴾ أي اسمٌ، فإنّ المقسم معتبرٌ في مفهومات الأقسام ﴿أنبأ بنفسه عن شيءٍ بعینه شخصاً﴾ کان ﴿أو جنساً، وضعاً أو بالغلبة﴾ وهو معطوفٌ علی قولنا وضعاً من باب العطف علی التوهّم.

والمقصود من الإنباء بنفسه الإنباء بمعناه الاسمي، لا بالمعنی الحرفيّ المتضمّن له أو العارض علیه باقتران الحرف به أو بالهیئة الترکیبیّة أو بالقصد.

ومن قولنا بعینه التعیّن في الذهن لا الخارج؛ إذ مدلول النکرة في قولک: «جاءني رجلٌ» متعیّنٌ في الخارج فإنّ الجائي لا یکون إلّا واحداً معیّناً ولا یکون شائعاً بین الأفراد. نعم، یکون شائعاً في الذهن بمعنی تردّده في الذهن بین أفرادٍ کثیرة، فمناط التعریف والتنکیر تعیّنه وشیوعه في الذهن لا تعیّنه وشیوعه في الخارج.

وبهذا البیان یظهر أنّ الجنس إن لوحظ لا بشرط بحیث یصلح للحکم علیه

ص: 145


1- العنوان منّا.

بملاحظة الأفراد وبملاحظة نفس الجنس فاللفظ الموضوع له بهذا اللحاظ اسم جنسٍ ونکرة، لشیوع مدلوله بین الأفراد خارجاً وذهناً وعدم خروجه عن حدّ شیاعه الذاتي في الذهن، وإن لوحظ متمیّزاً عن سائر الأجناس وفي قباله ومن حیث هو هو بحیث لا یصلح للحکم علیه إلّا بملاحظة نفس الحقیقة فاللفظ الموضوع له بهذا اللحاظ علم جنسٍ لتعیّنه حینئذٍ وخروجه عن حدّ الشیاع في الذهن.

وهذا معنی ما اشتهر بینهم: من أنّ علم الجنس موضوعٌ للحقیقة الذهنیّة، ولا ینافي ذلک سریانه في الأفراد وشیوعه فیها في الخارج وإطلاقه علی کلّ واحدٍ من الأفراد حقیقةً.

وأمّا ما ذکره شارح اللباب: من أنّ «اُسامة» موضوعةٌ للحقیقة آلذهنیّة للأسد فلا یتناول غیرها، وإذا اُظلقت علی فردٍ من الأفراد الخارجیّة نحو: هذا اُسامة مقبلاً، کان إطلاقها علیه بطریق المجاز بخلاف اسم الجنس فإنّ إطلاقه علی أفراده بالحقیقة، لأنّه موضوعٌ لکلّ فردٍ خارجيٍّ علی البدل، فقي غایة السخافة؛ لأنّ الغرض من الحقیقة الذهنیّة الحقیقة المتعیّنة في الذهن لا الموجودة فیه الغیر الساریة في الأفراد الخارجیّة، وإلّا لزم أن لا یصحّ قولک: «اُسامة أجرأ وأشجع من ثعالة» علی وجه الحقیقة؛ لأنّ الحقیقة الموجودة في الذهن لا تتّصف بها وإنّما هي من صفات الطبیعة الموجودة في الخارج.

ثمّ إنّ ما ذکره: من أنّ اسم الجنس موضوعٍ لکلّ فردٍ خارجيٍّ علی البدل غلطٌ أیضاً؛ لأنّه موضوعٌ لنفس الجنس لا بشرط؛ ولذا یقبل الحکم علیه بکلا اللحاظین.

إذا اتّضح لک ما بیّنّاه، فقد ظهر لک انطباق الحدّ علی المحدود جمعاً ومنعاً، فخرجت النکرة بقولنا «بعینه» و ما عدا العلم من المعارف بقولنا «بنفسه»، أمّا

ص: 146

المعرّف باللام فلأنّ تعیبن مدلوله إنّما هو باقتران اللام به، وأمّا المضاف إلی المعرفة فبالإضافة وهي الهیئة الترکیبیّة، وأمّا المنادی فبالنداء أو بالقصد، وأمّا المبهمات وهط الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات فبالمعاني الحرفیّة التي تضمّنتها هي.

لا یقال: ما ذکرت إنّما یتمّ بناءً علی عموم الوضع والموضوع له في المبهمات، وأمّا علی ما اختاره المتأخّرون: من عموم الوضع وخصوص الموضوع له فیها، فتعیُّنُ مفاهیمها إنّما هو بالوضع الاسميّ.

لأنّا نقول: تضمّنها للمعاني الحرفیّة مسلّمٌ واضحٌ عند الجمیع؛ ولذا علّلوا بناءها به، وإنّما غفل أکثر التأخّرین عن حقیقة المعنی الحرفي وأنّه من شؤون استعمال الاسم وفي طوله ولایجوز وقوعه في عرض المعنی الاسميّ وتعلّق الوضع الاسمي به، فصنعوا ما صنعوا ووقعوا فیما وقعوا. ومن تنبّه لما نبّهنا علیه لا یخفی علیه متانة ما ذهب إلیه المتقدّمون: من عموم الموضوع له فیها، بل المستعمل فیه أیضاً؛ لأنّ التعیّن إنّما بحثل من قِبَل الاستعمال، فهو عارضٌ علی المستعمل فیه کالتعیّن الحاصل للمستعمل فیه بلام العهد في قولک: جاء القاضي.

﴿فهو﴾ نوعان ﴿شخصيٌّ، ومسمّاه نوعان:﴾ الأوّل: ﴿اُولو العِلم من المذکّرین کجعفر﴾ علم رجلٍ ﴿ومن المؤنّثات کخرنق﴾ علمٌ لامرأةٍ ﴿و﴾ الثاني: ﴿ما تؤلف کالقبائل کقرن﴾ بفتح القاف والراء علمٌ لقبیلةٍ من مراد وإلیها ینسب اُویس القرني ﴿والبلاد کعدن﴾ بفتح العین والدالّ المهملتین علم بلدةٍ بساحل الیمن ﴿والخیل کلاحق﴾ علم فرس ﴿والبغال کدلدل﴾ علم بغلٍ لمولانا أمیر المؤمنین (علیه السلام) ﴿والإبل کشدقم﴾ علم فحلٍ من فحول الإبل ﴿والبقر کعرار﴾ علم بقرةٍ ﴿والغنم کهیلة﴾ علم عنزٍ ﴿والکلاب کواشق﴾ علمٌ لکلبٍ.

﴿وجنسيٌّ ومسمّاه ثلاثة أنواع:﴾ أحدها: وهو الغالب ﴿أعیان

ص: 147

لا تؤلف کالسباع والحشرات کاُسامة﴾ للأسد ﴿وثُعالة﴾ للثعلب ﴿وذُؤابة﴾ للذئب ﴿واُمِ عریط﴾ للعقرب ﴿و﴾ الثاني: ﴿أعیانٌ تؤلف کهیّان ابن بیّان﴾ للمجهول العین والنسب ﴿وأبي المضاء﴾ بفتح المیم والضاد المعجمة والمدّ للفرس ﴿وأبي الدغفاء﴾ بفتح الدال المهملة وسکون الغین المعجمة وفتح الفاء ممدوداً للأحمق ﴿و﴾ الثالث: ﴿اُمورٌ معنویّة کسبحان﴾ علماً للتسبیح ﴿ویسار﴾ للمسیرة ﴿وفجار﴾ للفجرة ﴿وبرّه﴾ للمبرّه. والدلیل علی أنّ الألفاظ المزبورة أعلام أجناسٍ لا أسماء أجناس المعاملة معها معاملة المعارف: من توصیفها بالمعرفة، ومجيء الحال منها، وامتناعها من دخول لام التعریف علیها ومن الصرف مع سببٍ آخر.

﴿وینقسم﴾ العلم ﴿إلی مرتجلٍ﴾ وهو ما لم یسبق له استعمالٌ في غیر العلمیّة، وهو مأخوذٌ من الارتجال بمعنی الابتکار ﴿ومنقولٍ﴾ وهو ما استعمل قبل العلمیّة في غیرها وصار علماً بالوضع الثانوي التبعي ﴿وعلمٍ بالغلبة﴾ وهو ما استعمل في لامعنی الأوّل وغلب إطلاقه علی فردٍ معیّنٍ حتّی لا ینسبق الذهن منه إلّا إلیه، کابن عبّاس وابن عمرو وابن مسعود الغالبة علی العبادلة دون من عداهم من أخواتهم.

وقد أهمل الأکثر هذا القسم، قیل: الوجه في إهماله أنّ التقسیم إنّما هو بالنسبة إلی الأعمّ الأغلب.

أقول: المرتجل علی فرض تحقّقه أقلّ منه.

وقد یتوهّم أنّه مندرجٌ في المنقول بزعم تحقّق الوضع التعیّني المستند إلی الغلبة بالنبة إلیه.

وهو باطللٌ لأنّ ال؛لبة في الإطلاق أو الاستعمال إنّما توجب قوّته لا تبدّله

ص: 148

بالوضع کما هو ظاهرٌ. فتقسیم الوضع إلی التعییني والتعیّني - کما ذهب إلیه بعض الأواخر - واضح الضعف.

ثمّ الظاهر من اقتصارهم في تعریف المنقول بما سبق استعماله في غیر العلمیّة عدم اعتبار اشتهار استعماله في المنقول إلیه بحیث یصیر المنقول منه مهجوراً مجازیّاً عند الناقل، وهو کذلک لأنّ الوضع للمعنی الثاني تبعاً لأوّل یکفي في اعتبار النقل وعدم الارتجال، مع أنّ اشتهار الاستعمال في المعنی الثاني الموجب لهجر المعنی الأوّل لا یوجب بطلان وضعه له، حتّی یصیر مجازیّاً له. والاحتیاج إلی القرینة في انفهامه حینئذٍ لا ینافي بقاء الوضع له کما هو ظاهر.

﴿و﴾ حکي ﴿عن سیبویه نفي الارتجال، وهو غیر بعیدٍ عن الصواب﴾ لعدم تحقّقه تحقیقاً. وقد قیل: إنّه لم یثبت إلّا في «فقعس» علماً لأبي قبیلة من بني أسد، وهو غیر معلومٍ أیضاً إذ عدم الوقوف علی استعمال غیر العلمیّة لا ینافي ثبوته في الواقع وهجره بسبب الغلبة.

﴿والنقل إمّا من اسم حدثٍ کزید وفضل﴾ فإنّهما في الأصل مصدرا «زاد» و «فضل» ﴿أو اسم عینٍ کدسد﴾ فإنّه لي الأصل اسم جنسٍ للحیوان المفترس ﴿أو وصفٍ کحارث وحسن ومنصور ومحمّد﴾ وهکذا من الأعلام التي في الأصل صفات ﴿وإمّا من فعلٍ ماض کشَمّر﴾ بتشدید المیم ﴿أو مضارعٍ کیَشکر أو أمرٍ کاصمت﴾ لبریّة ﴿وإمّا من جملةٍ فعلیّة کشاب قرناها أو اسمیّةٍ کزیدٌ منطلقٌ﴾ قیل: ولیس النقل منها بمسموعٍ من العرب ولکنّ النحاة قاسوه علی ما سمع من النقل من الجملة الفعلیّة.

ص: 149

فصل: فی تقسیم العلم إلی مفرد و مرکب

اشارة

﴿وینقسم﴾ العلم ﴿أیضاً إلی مفردٍ﴾ کزید وهند ﴿و﴾ إلی ﴿مرکّبٍ إسناديّ﴾ کتأبّطَ شرّاً ﴿فیُحکی﴾ علی ما کان علیه قبل التسمیة به ﴿ومرکّبٍ مزجي﴾ کبَعلَبَک وحَضرَمَوت ﴿فیبنی الجزء الأوّل منه علی الفتح إلّا أن یکون﴾ آخره یاءً ﴿کمعدیکَرَب ف-﴾ یبنی ﴿علی السکون و﴾ الجزء ﴿ الثاني منه معربٌ﴾ إعراب ما لا ینصرف ﴿إلّا أن یکون﴾ مختوماً بویه ﴿کسیبویه فیبنی علی الکسر﴾ ومرکّبٍ إضافي کعبدالله فیعرب الجزء الأوّل بحسب العوامل، ویکون الجزء الثاني مجروراً بالإضافة الباقیة حال العلمیّة.

ص: 150

تقسیم: فی الاسم واللقب والکنیة

﴿أیضاً إن صدّر﴾ العلم ﴿بأب أو اُمّ أو ابن أو ابنة فکنیة﴾ سواء کان العلم شخصیّاً کأبي عبدالله واُمّ کلثوم وابن عباس وابنة عمرو أو جنسیّاً کأبي الحارف للأسد وأبي الحصین للثعلب وأبي جعدة للذئب واُمّ عریط للعقرب وابن رایه للغراب وبنت الأرض للحصاة ﴿وإلّا فإن أشعر بمدحٍ أو ذمٍّ﴾ کزین العابدین (علیه السلام) وأنف الناقة ﴿فلقبٌ وإلّا فاسمٌ﴾ کزید وعمرو.

﴿وإذا اجتمع مع اللقب فالغالب تأخیره عنه﴾ لأنّ اللقب أشهر فلو قدّم لأغنی عن الاسم فلم یجتمعا، ومن غیر الغالب قوله: أنا ابن مزیقیا عمرو وجدّي أبوه منذر ماء السماء.

وقیل: یجب تأخیره عن الاسم؛ لأنّ الغالب أنّ اللقب من اسم غیر إنسانٍ - کبطة وقفّه - فلو قدّم لتوهّم السامع أنّ المراد مسمّاه الأصليّ، وذلک مأمونٌ بتأخیره عنه فلم یعدل عنه.

وفیه: أنّه لو تمّ لاختصّ بصورة اللبس، مع أنّه یجري ما ذکره في تقدیمه علی الکنیة مع جوازه باتّفاقٍ؛ إذ لا ترتیب بین الکنیة وغیرها فیجوز تقدیمها علی الاسم أو اللقب والعکس.

﴿وإن کانا﴾ أي الاسم واللقب ﴿مفردین جاز إضافة الأوّل إلی الثاني﴾ نحو: هذا زید بطّةٍ وسعید کُرزٍ ﴿علی تأویل﴾ الأوّل بالمسمّی والثاني بالاسم، کأنّک قلت: هذا صاحب هذا الاسم ﴿حیث لا مانع﴾ کأن یکون الاسم مقروناً بأل، کالحارث قفّه، أو کان اللقب وصفاً في الأصل مقروناً بأل، کهرون الرشید، علی

ص: 151

ما حکي عن ابن خروف.

وقد أوجب جمهور البصریّین الإضافة حنیئذٍ، ولا وجه له مع عدم صحّتها إلّا بالتأویل ﴿والإتباع علی الأصل﴾.

وإلّا یکونا مفردین بأن کانا مرکّبین - کعبد الله زید العابدین - أو مختلفین وجب الإتباع علی الأصل علی أنّ] بدلٌ أو عطف بیان، ویجوز القطع إلی الرفع والنصب إن کان مجروراً وإلی الرفع إن کان منصوباً، وإلی النصب إن کان مرفوعاً.

﴿تبصرة: اللفظ إذا قصد به نفسه﴾ کضَرَبَ فعل ماض، ومن حرفٌ، وجسق مهمل ﴿أو وزنه﴾ کقولک: فعلان الذي مؤنّثه فعلانة ﴿یکون في حکم العلم﴾ من حیث جواز الابتداء به وتوصیفه بالمعرفة وسائر أحکام المعرفة؛ لتعیّنه حینئذٍ وعدم شیوعه.

وقد یتوهّم أنّه حنیئذٍ یصیر علماً تحقیقاً، وهو باطلٌ لعدم استعماله في شيءٍ حینئذٍ، حتّی یقال بأنّ مسمّاه معیّنٌ غیر شایع، فتعریفه باعتبار تعیّنه في نفسه لا باعتبار تعیّن مسمّاه کسائر المعارف؛ ولذا لم یعدّ قسماً برأسه.

ص: 152

اسم الإشارة

[اسم الإشارة](1)

﴿والثالث﴾ من المعارف: ﴿اسم الإشارة﴾ والإضافة فیه لامیّة، أي اسمٌ متمحّضٌ للإشارة به إلی مسمّاه ﴿قهو ما تضمّن الإشارة إلی مسمّاه﴾ بغلبة الاستعمال، فإنّها في الأصل إنّما حصلت بما یقترن إلی اللفظ: من إشارة المتکلّم بالید أو بجارحةٍ اُخری کما نبّه علیه نجم الأئمة الرضيّ (قدس سره) . فتعریفه بما وضع لمشارٍ إلیه، باطلٌ، مع أنّ الإشارة من المعاني الحرفیّة التي هي من وجوه استعمال الاسم فلا یعقل دخولها في الموضوع له، بل الأمر في المقام أظهر؛ لأنّ الإشارة کالخطاب والتکلّم حادثةٌ في اللفظ والخارج معاً بخلاف سائر المعاني الحرفیّة؛ فإنّ أغلبها إنّما تحدث في اللفظ وتکون صفةً له فقط، وقد نبّهنا علیه بجعل المشار إلیه المسمّی لا الاسم.

وبما بیّنّاه ظهر أنّ تعریفه بما دلّ علی مسمّی وإشارة إلیه - کما ذکره ابن مالک في التسهیل - في غیر محلّه أییضاً؛ لأنّ الإشارة لا تکون معنیً اسمیّاً مدلولاً علیه، وإنّما الإشارة تحدث به کما هو ظاهر، مع أنّ الدلالة تخصّ بالکشف التصدیقي کما بیّنّاه

ص: 153


1- العنوان منّا.

غیر مرّة، فلا تجري في المعاني الاسمیّة العاریة عن الإسناد؛ ولذا أخذنا في التعریف الإنباء لا الدلالة.

ولقد أجاد في خلاصته حیث قال: «بذا لمفردٍ مذکّرٍ أشر» فجَعَلَه سبباً لوجود الإشارة في الخارج لا دلیلاً علیها.

وأقبح من الجمیع ما عرّفه به بعضهم: من أنّه ما دلّ علی الإشارة إلی المسمّی؛ إذ یرد علیه - مضافاً إلی ما ذکرناه - أنّه لو کان کذلک لزم أن یکون اسم الإشارة اسم عرضٍ، وأن لا یصحّ قولک: هذا زیدٌ، لعدم صحّة حمل العین علی العرض.

هذا، وقد یتوهّم: أنّ التعریف دوريٌّ إن کانت الإشارة المأخوذة فیه اصطلاحیّةً، وإلّا فغیر مطّردٍ لشموله للضمیر الغائب لاشتماله علی الإشارة العهدیّة.

أقول: المراد بالإشارة هي الحضوریّة - ما هو المتبادر منها - لا أعمّ منها ومن العهدیّة، فیطّرد الحدّ ویندفع الدور.

وقیل: المراد منها الحسّیة، وجعل مثل (ذلکم الله ربّي)(1) مجازاً.

وهو فاسدٌ من وجوهٍ عدیدة:

الأوّل: عدم اختصاص الإشارة المأخوذ فیه بالحسّیة.

والثاني: أنّها تستند إلی غلبة الاستعمال لا الوضع فلا وجه للتجوّز حینئذ.

والثالث: أنّ التجوّز لا تجري في المعاني الحرفیّة أصلاً، والتجوّز المتوهّم علی فرض تحقّقه إنّما هو في متعلّقه من حیث تنزیل غیر المحسوس منزلة المحسوس، فالتجوّز فیه حینئذٍ لیس تجوّزاً في الکلمة بل من قبیل التجوّز العقلي.

ص: 154


1- سورة الشوری، الآیة 10.

وإذ قد اتّضح لک حقیقة اسمالإشارة، فاعلم أنّ له ألفاظاً مخصوصةً، فللمفرد المذکّر ذا، ولمثنّاه ذان رفعاً، وذین نصباً وجرّاً، وللمفردة المؤنّث: تا، وذي، وذه (بکسر الهاء) وذه (بإسکانها) وذهي (بالیاء) وتي، وته (بالکسر) وته (بالسکون) وتهي (بالیاء) ولمثنّاها: تان رفعاً، وتین نصباً وجرّاً، ولجمعهما: أولاء مدّاً وقصراً.

ویدخلها «هاء» التوجیه، فیقال: هذا، وهاتا، وهذان، وهاتان، وهؤلاء، وهکذا. وإنّما سمّیناها بحرف التوجیه لا التنبیه لاستعمالها في المخاطبة مع الله جلّ جلاله، والتنبیه هنا غیر متصوّر، فهي حرفٌ جيء به لتوجیه المخاطب نحو المشار إلیه، سواء ترتّب علیه التنبیه أم لا.

واعلم أنّها تدخل علی الجملة الإسنادیّة أیضاً، کقولک: ها زید قائم، وها إنّ زیداً قائم، ولا تدخل علی غیر اسم الإشارة من المفردات.

وتلحقها حروف الخطاب، وهي: کاف الخطاب وفروعه لبیان حال المخاطب إفراداً وتثنیةً وجمعاً وتذکیراً وتأنیثاً، وهي خمسة: الکاف بالفتح وبالکسر، وکُما، کُم، کُنَّ.

واسم الإشارة أیضاً خمسة أنواع: المفرد المذکّر والمؤنّث ومثنّاهما وجمعهما، وهي ستّةٌ راجعةٌ إلی خمسةٍ لاشتراک جمعهما، فیکون الحاصل من ضرب خمسةٍ في خمسة خمسةٌ وعشرین، وهي من ذاک إلی ذاکنَّ، وذانک إلی ذانکنَّ، وکذلک البواقي بلا لامٍ أي مجرَّداً عنه للمتوسّط، ومعه للدلالة علی البعید إلّا في المثنّی مطلقاً وفي الجمع عن من مدّه، وفیما دخله هاء التوجیه فلا تحلقها اللام، فلا یقال: ذا نلک واُولائلک وهذا لک.

وقد علم ممّا بیّنّاه أنّ «ذا» للأعمّ، وللدلالة علی توسّط المشار إلیه یؤتی

ص: 155

بحرف الخطاب مجرّداً عن اللام، وعلی کونه بعیداً یؤتی به مع اللام، لا أنّ «ذا» یختصّ بالقریب کما توهّمه بعضٌ؛ وإلّا لزم أن لا یقبل اللام والکاف. نعم، یستفاد منه قرب المشار إلیه من جهة عدم اقترانه بما یدلّ علی بعد المشار إلیه أو توسّطه.

تنبیه: قد یشار إلی القریب بما للبعید لعظمة المشیر نحو: (وما تلک بیمینک یا موسی)،(1) أو المشار إلیه نحو: (ذلک الکتاب)،(2) أو لتحقیره نحو: ذلک اللعین.

وقد یشار إلی البعید بما للقریب لحکایة الحال نحو: (بل هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّک)،(3) وهذا من شیعته، وهذا من عدوّه.

وقد یتعاقبان مشاراً بهما إلی ما ولیاه کقوله تعالی متّصلاً بقصّة عیسی (علیه السلام) : (ذلک نتلوه علیک)(4) ثمّ قال: (إنّ هذا لهو القصص الحقّ).

ویختصّ بالإشارة إلی المکان المطلق «هنا» المنصرف إلی القریب، وبالمکان المتوسّط «هناک» وبالعبید «هنالک» و «هنّا» بتشدید النون مع فتح الهاء وکسرها، و «ثَمَّ» بالتشدید وفتح المیم، وقد یستعار غیر «ثَمَّ» للزمان کقوله تعالی: (هنالک ابتلي المؤمنون)(5) کذا قیل. ویحتمل إرادة المکان منه.

ص: 156


1- سورة طه، الآیة 17.
2- سورة البقرة، الآیة 2.
3- سورة الإسراء، الآیة 20.
4- سورة آل عمران، الآیة 58.
5- سورة آل عمران، الآیة 62.

الموصول

[الموصول](1)

﴿والرابع من المعارف: الموصول﴾ وهو ینقسم إلی حرفيٍّ واسمي، والمراد منه الثاني لخروج الأوّل عن المقسم، ومع ذلک قد جرت عادة جماعةٍ بذکره في المقام استطراداً، فلا بأس لنا بذکره هنا بتعاً لهم وتتمیماً للإفادة.

فاعلم أنّ المعروف عند الجمهور أنّ الموصول الحرفي ما اُوّل مع صلته بالمصدر تحقیقاً، وذهب صاحب العباب إلی عدم تأویله به تحقیقاً، وأنّ المقصود من تأویله به ترتّب آثاره علیه: من صحّة دخول حرف الجرّ علیه والإضافة والإسناد إلیه، وإلّا فالفرق بینهما ظاهرٌ لأنّ من رجع إلی المعنی یعرف أنّ المصدر الصریح لا یرنبط بالذات من غیر تقدیر، والفعل المأوّل به یرتبط به من غیر حاجةٍ إلی التقدیر، واختاره المحقّق الشریف.

أقول: کشف الحال فیه یتوقّف علی بیان مقدّمةٍ، وهي: أنّ الحروف کالهیئات إنّما تبیِّن وجوه استعمال مدخولها، فمعانیها إنّما هي کیفیّاتٌ تتعاقب علی نفس المدخول، وشؤونٌ وأحوالٌ طاریةٌ علیه، لا أنّ لها مفاهیم مستقلّةً واقعةً في عرض

ص: 157


1- العنوان منّا.

مفهوم مدخولها، حتّی یتطرّق فیها المخالفة معه ویفتقر الجمع بینهما إلی التصّرف فیها أو في المدخول، فإن کان المعنی الذي یفیده الحرف ویحدثه شأناً من شؤون المدخول وحالاً من أحواله ولو تنزیلاً، فهو صالحٌ لأن یدخل علیه ذلک الحرف وإلّا فلا، ولذا یختصّ بعض الحروف بالأسماء کالحروف الجارّة، وبعضها بالأفعال کالجوازم والنواصب، وبعضها ممّا یشترک فیه الأفعال والأسماء، فالفعل إنّما یقبل من الحروف ما یکون معناه جهةً لاستعماله لا ما ینافي حقیقته ویوجب تبدّله بحقیقةٍ اُخری.

إذا اتّضح لک ذلک، فاعلم أنّ الموصول الحرفي إن لم یناسب المعنی الفعلي ویکون مناسباً للمعنی المصدري یلزم أن یکون دخوله علی المصدر أحقّ من دخوله علی الفعل، بل أن لا یدخل علی الفعل أصلاً.

فإن قلت: أغلب الحروف موجبٌ لتبدّل حقیقة المدخول إلی حقیقةٍ اُخری ک-«لم» و «لمّا» حیث تقلبان المضارع إلی الماضي، أو صفته الوضعیّة الأصلیّة إلی صفةٍ اُخری کأداة التعریف الموجبة لزوال التنکیر عن النکرة، وأداة التأنیث الموجبة لزوال صفة التذکیر عن المذکّر، وأداتي الخطاب والتکلّم الموجبتین لزوال الغیبة عن الغائب، وأداتي التثنیة والجمع الموجبتین لزوال الإفراد عن المفرد، وأدوات الاستفهام الموجبة لزوال الإخبار عن القضیّة الخبریّة، وأدوات النفي الموجبة لزوال الإثبات عن القضیّة الموجبة، أو الحقیقة مرّةً والصفة الوضعیّة اُخری کأدوات الشرط حیث تقلب الإسناد التامّ الموضوع له الفعل إلی الناقص مطلقاً، وحقیقة الماضي إلی المستقبل عند دخولها علی الماضي، فکیف حکمت بأنّ المدخول لا یقبل الحرف الذي لا یکون معناه من وجه استعماله؟ مع أنّ المعاني الحرفیّة في الموارد المذکورة لاتکون أحوالاً للمدخول، بل موجبةً لانقلاب حقیقة المدخول أو صفته الأصلیّة.

ص: 158

قلت - بعون الله تعالی ومشیّته کاشفاً للستر عن السرّ المحجوب ورافعاً للنقاب عن وجه المطلوب -: إنّک قد عرفت أنّ مقوّم الفعل إنّما هو الإنباء عن حرکة المسمّی لا الاقتران بأحد الأزمنة وضعاً، وهو إنّما یحصل بالاشتمال علی الإسناد الحدوثي - کما یظهر لک وسیظهر لک تفصیله إن شاء الله تعالی في مبحث الفعل - فاختلاف أنواع الفعل إنّما هو باختلاف کیفیّة الإسناد لا باختلاف الأزمنة.

فالماضي إنّما یدلّ علی تحقّق الحدث من الذات ویتقوّم به ولا ینفکّ عنه هذا المفهوم أبداً باختلاف الأدوات الطاریة علیه، والمضارع إنّما یدلّ علی اتّصاف الذات بالمبدأ ولا یختلف لاختلاف العوارض والطوري. والزمان الماضي إنّما یکون منصرَف إطلاق المضارع عند تجرّده عن القیود کذلک، ف-«لم» و «لمّا» إنّما یدلّان علی نفي الاتّصاف أزلاً فیصرفان المضارع عن منصرَف إطلاقه، کما أنّ أدوات الشرط باعتبار دلالتها علی التعلیق الغیر المتحقّق إلّا بالنسبة إلی الزمان المستقبل تصرف الماضي عن الزمان الماضي الذي هو منصةرف إطلاق إلی الزمان المستقبل، والتنکیر إنّما ینتزع من عدم ما یوجب تعیین المسمّی لا أنّه أمرٌ وجوديٌّ داخلٌ في وضع النکرة، کما أنّ التذکیر إنّما یستفاد من تجرّأه عن علامة التأنیث لا أنّ الفعل والاسم موضوعان للمذکّر؛ ولذا اشتهر بینهم أنّ المعرفة فرع النکرة والمؤنّث فرع المذکّر، فتقابل تعریف اللفظ وتأنیثه مع تنکیره وتذکیره من قبیل تقابل التناقض.

فالتعریف حالٌ للاسم النکرة، کما أنّ التأنیث حالٌ للمذکّر اسماً کان أو فعلاً لخلوّ اللفظ عن صفتي التنکیر والتذکیر وضعاً، ولو کانا مأخوذین في وضع اللفظ لکان تقابلهما مع التعریف والتأنیث من قبیل تقابل التضادّ ولم یکن لتفرّعهما علی

ص: 159

التذکیر والتنکیر مجالٌ.

ویدلّ علی ذلک أیضاً صحّة إسناد صیغة المذکّر إلی المؤنّث في نحو: ضرب في الدار هند، وطلع الشمس، فإنّ التذکیر لو کان مأخوذاً في الوضع لزم التناقض إذ لا سبیل إلی التجوّز لعدم العلاقة المصحّحة بین المتضادّین، وإلّا لزم صحّة إسناد صیغة المؤنّث إلی المذکّر أیضاً، وبطلانه بمکانٍ من الوضوح. والغیبة أمرٌ عدميٌّ منتزعٌ من عدم اقتران أداتي الخطاب والتکلّم، فلا تکون مأخوذةً في الوضع، کما أنّ الإفراد أمرٌ عدميٌّ أیضاً منتزعٌ من عدم اقترانه بما یدلّ علی تعدّد الفاعل.

ویدلّ أیضاً علی عدم أخذهما في الوضع إسناد الغائب إلی المتکلّم والمخاطب في قول: إنّما قام أنا، وإنّما قام أنت، ولزوم تجرید الفعل عن علامتي التثنیة والجمع في قولک: قام الزیدان، وقام الزیدون؛ إذ لو کانا مأخوذین في الوضع لزم التناقض، ولا سبیل إلی التجوّز لما عرفت، مع أنّه لو کان کذلک لم یکن لامتناع الحقیقة ولزوم التجوّز وجهٌ، وتمامیّة الإسناد ترجع إلی قصده الذاتي وعدم لحاظ أمرٍ زائدٍ: من جعل طرفیه قیداً لأمرٍ آخر، وأحد طرفیه قیداً للطرف الآخر، فهي منتزعةٌ من عدم لحاظ أمرٍ زائدٍ علی لحاظه الذاتي لا أنّها مأخوذة في الوضع، ولو کانت هیئة الفعل مصوغةً علی التمام وضعاً لم یجز انفکاکه عنه، کما لا یجوز انفکاک النقص عن النسبة في هیئة المصدر المصوغة علی النقص وضعاً، ولو جاز التجوّز في أحدهما لزم جواز التجوّز في الآخر. والإخبار خصوصیّةٌ في الاستعمال تتولّد من جعل الکلام في وزان الواقع ولم یوضع له أداةٌ تبیّنه فیستفاد من إطلاق الکلام وتجرّده عن أدوات الإنشاء، ولو کان مأخوذاً في الوضع لم یجز استعمال القضیّة الخبریّة في الإنشائیّة کما لا یجوز استعمالها في الخبریّة، والإثبات خصوصیّةٌ في الإسناد ولم یوضع له هیئةٌ مخصوصة ولا أداة، وإنّما ینصرف الإسناد إلیه ما لم یصرفه عنه

ص: 160

صارفٌ من أدوات النفي وما بمنزلتها. والوجه في انصراف الإسناد إلیه ظهور اقتران إحدی الکلمتین بالاُخری علی وجه الإسناد فیه.

فاتّضح أنّ المعاني المذکورة وجوهٌ لاستعمال مدخولاتها ولا ینقلب بها الحقیقة والصفة الوضعیّة أصلاً، وأنّ التنکیر والإفراد والغیبة و تمامیّة الإسناد اُمورٌ عدمیّةٌ لا حاجة في استفادتها من الموارد إلی دلیلٍ لفظي، وأنّ التذکیر والإخبار والإثبات والزمان اُمورٌ وجودیّةٌ مستفادةٌ من الإطلاق لا بتوسّط الوضع.

فظهر أنّ نحو «ضرب» و «یضرب» یستفاد منها اُمورٌ ثمانیة: تنکیر الفاعل، وتذکیره، وغیبته، وإفراده، والزمان، وتمامیّة الإسناد، والإثبات، والإخبار، ولا یستند شيءٌ منها إلی الواضع، ولا ینافي تنکیر الفاعل مع التعبیر عنه بضمیر الغائب الذي هو معرفةٌ لأنّ التعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ کما عرفت.

فإن قلت: إذا لم تکن هیئة الفعل مصوغةً علی الإسناد التامّ وضعاً ولا مانع من عروض النقص علیه بسبب أدوات الشرط، فأيّ مانعٍ من تأویله بالمصدر بسبب الحروف المصدریّة؟ فإنّ تأویله به یرجع إلی نقصان نسبته، فإنّ المصدر هو الحدث المشتمل علی النسبة الناقصة.

قلت: فرقٌ بیّنٌ بین النقصین لأنّ نقص إسناد الفعل بأداة الشرط إنّما ینتزع من صیرورة طرفیه قیداً للجزاء، وهو لا ینافي مع بقاء الإسناد علی ما یتقوّم به من التمامیّة الاقتضائیّة المجامعة للفعلیّة، وأمّا نقص المصدر فإنّما ینتزع من صیرورة الذات التي هي أحد طرفي النسبة قیداً للحدث المنافیة للفعلیّة الموجبة للإسمیّة، فلا یقاس أحدهما بالآخر.

فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّ تأویل الفعل بالمصدر - کما نسب إلی الجمهور - عیر متصوّر.

ص: 161

ویدلّ علی فساده - مضافاً إلی ما بیّنّاه - أیضاً: أنّه لو کان کذلک لزم التجوّز في هیئة الفعل، لما عرفت: من أنّها موضوعةٌ للإسناد المتقوّم به المعنی الفعلي، مع أنّ الهیئات - کالحروف - ممّا لا یتطرّق فیها التجوّز، وعلی فرض تطرّقه فیها یتوقّف علی علاقةٍ مصحّحةٍ للاستعمال، ولا علاقة کذلک هنا؛ إذ لو کانت لصحّ الاستعمال من الطرفین، واستعمال النسبة الناقصة المصدریّة في التامّة بمکانٍ من البطلان.

ویدلّ علی فساد ما توهّمه المأوّلون أیضاً: أنّه لو کان کذلک لزم أن لا یصحّ قولک: عسی زید أن یقوم، ونحوه ممّا یستلزم فیه الإخبار عن الذات بالحدث، وقولک: فلان أجلّ من أن یمدح، والأخبار أکثر من أن تحصی، ونحوهما ممّا لا یصحّ حلول المصدر فیه محلّ أن مع صلته، وقولک: علمت أنّ زیداً قائمٌ، بدون تقدیر خبر، کما لا یصحّ المأوَّل به، وهو قولک: علمت قیام زید کذلک، مع أنّه معلومٌ لمن له أدنی دُربةٍ أنّه یصحّ الأوّل بدون تقدیرٍ بخلاف الثاني.

وقد أجاب المأوّلون عن مثل قولک: عسی زید أن یقوم، بوجوهٍ سخیفة:

منها: أنّ الفعل مع «أن» منصوبٌ بنزع الخافض، ولیس خبراً، والمعنی قرب زید من القیام.

وفیه: أنّه علی فرض صحّته إنّما یتمّ في «عسی» وما في معناه، وأمّا في سائر الموارد فلا، فإنّ منها قولک: الکلمة اسمٌ وفعلٌ وحرف لأنّها إمّا أن تدلّ علی معنیً في «فسها أو لا، ولا یجري فیه هذا الدفع بوجه.

ومنها: أنّه من باب «زیدٌ صومٌ وعدلٌ».

وفیه: أنّ کونه من باب المثال المزبور فرع تنزیل غیر من هو له منزلة من هو له، وإلّا انفتح باب الغلط، وهو لا یجري في جمیع الموارد کما هو ظاهر، بل لا یتحقّق في أخبار أفعال المقاربة أصلاً؛ لأنّ التنزیل المزبور فرع اتّصاف الذات بالحدث علی

ص: 162

وجه الکمال بحیث یصحّ تنزیل الذات منزلة نفس الحدث، والذات في المقام لم تتّصف بالحدث بعد، فضلاً عن اتّصافها به علی وجه الکمال.

ومنها: أنّه علی حذف مضافٍ، إمّا في طرف الاسم أو في طرف الخبر.

وفیه: أنّ التجوّز في الحذف لا أصل له أصلاً، وإنّما یرجع إلی التجوّز في الإسناد بعد تنزیل المذکور منزلة المحذوف وقیامه مقامه في إسناد حکمه إلیه، وهو غیر متحقّقٍ في المقام.

ومنها: أنّ المصدر المأوّل به في تأویل الوصف، أي عسی زید قائماً.

وهو أسخف من الجمیع؛ لأنّه - مع کونه موجباً للتجوّز في الهیئة التي لا یتطرّق فیها التجوّز - مستلزمٌ لسبک مجازٍ من مجاز، فهو غلطٌ في غلط.

فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّ التحقیق ما حقّقه صاحب العباب واختاره الشریف: من عدم التأویل بالمصدر تحقیقاً، بل التحقیق أنّ نسبه التأویل به تحقیقاً إلی الجمهور لا أصل لها.

وکیف کان، فالموصول الحرفي خمسة، وهي: أن، وأنّ، وما، ولو، وکي. وسیأتي تفصیل الکلام فیها في مبحث الحروف إن شاء الله تعالی.

﴿و﴾ أمّا الموصول الاسمي ف-﴿هو ما تضمّن معنی العهد في جهةٍ من جهاته لا في نفسه الموجب لافتقاره إلی صلةٍ مشتملةٍ علی الإسناد مبیِّنةٍ للعهد العهود﴾ فخرج بقولنا «العهد» أسماء الشرط لأنّها لم تتضمّن معنی العهد وإن افتقرت إلی صلةٍ لغویّةٍ تتّصل بها. وبقولنا «الموجب لافتقاره» ضمیر الغائب لأنّه متضمّنٌ للعهد في نفسه لا في جهته فلا یفتقر إلی صلةٍ، بل إلی عائد. وأمّا الموصول الحرفيّ فقد خرج عن الجنس لأنّ المراد به الاسم فإنّ المقسم معتبرٌ في الأقسام.

وحیث ظهر لک أنّ العهد في جهةٍ یفتقر إلی صلةٍ مشتملةٍ علی الإسناد بها

ص: 163

یتبیّن المعهود، فاعلم أنّ المسند إلیه للإسناد المذکور قد یکون نفس الموصول، وقد یکون اسماً آخر.

فإن کان المسند إلیه نفس الموصول فهي أي الصلة مفردةٌ لا تحتاج إلی عائدٍ، سواء کان الإسناد حدوثیّاً کقولک: جاءني الذي أکرمني، أو إضافیّاً کقولک: أحسن إلی الذي عندک، أو في الدار.

وتوهّم أنّهما حینئذٍ جملتان مشتملتان علی عائدٍ یعود علی الموصول باعتبار استتار ضمیر الغائب فیهما الذي هو فاعلٌ للفعل في الأوّل وللظرف أو الفعل المقدَّر في الثاني باطلٌ؛ لما عرفت غیر مرّةٍ: من أنّ مرجع استتار الضمیر في الفعل إلی دلالته علی الذات تبعاً لدلالته علی إسناد الحدث إلیها بهیئته، وأنّ التعبیر عنها بضمیر الغائب استعارةٌ من جهة شباهتها به في الإبهام، کما أنّ التعبیر عن کیفیّة استفادتها منه بالاستتار والاستکان أیضاً استعارةٌ من جهة أنّها علی وجه التعبیّة والالتزام، وأمّا استتار الضمیر في الظرف فمبنيٌّ علی تقدیر الفعل واستتار الضمیر فیه وانتقاله عنه إلی الظرف، والمقدّمات کلّها ممنوعة، أمّا التقدیر فلما مرّ وسیجيء لک تفصیلاً إن شاء الله تعالی في مبحث المتبدأ والخبر، وأمّا استتار الضمیر في الفعل فلما عرفت آنفاً، وأمّا الانتقال فلتفرّعه علی استتار الضمیر حقیقةٌ في الفعل الذي ظهر لک بطلانه، وانفکاکه عنه بعد ثبوته الذي ظهر لک استحالته، وتضمّن الظرف إیّآه الواضح بطلانه لأنّ إسناد الظرف إنّما هو من قِبَل الحرف أو الهیئة الترکیبیّة التي لا یعقل معها الاستتار، وکأنّهم تنبّهوا لما بیّنّاه في الجملة حیث لم یجعلوا الظرف والمجرور التامّین مندرجتین في الجملة بل شبهتین بها.

ثمّ اعلم أنّه لا یجري ذلک في الإسناد الاتّحادي لأنّ صیرورته مسنداً إلیه للصلة کذلک یوجب انقلاب الإسناد إلی النسبة الناقصة التقییدیّة المنافیة للصلة

ص: 164

لأنّها قیلد للموصول وصفةٌ له، والمسند الاتّحادي إذا صار قیداً وصفةً للمسند إلیه انقلبت الهیئة الترکیبیّة الموجبة للإسناد إلی الهیئة الترکیبیّة الموجبة للنسبة الناقصة التقییدیّة؛ إذ هو مقتضی صیرورة أحد طرفیه قیداً للآخر، بخلاف الأمر في الإسناد الحدوثي والإضافي لأنّه إنّما یحصل بالهیئة الاشتقاقیّة وحرف الجرّ لا بالهیئة الترکیبیّة حتّی ینقلب بتغییرها إلی هیئةٍ اُخری إلی النسبة الناقصة التقییدیّة، فمرجع التقیید فیهما إلی تقیید المسند مع الإسناد للطرف الآخر، لا إلی تقیید أحد الطرفین للآخر، کما هو الحال في الإسناد الاتّحاديّ.

وإلّا یکن المنسد إلیه للصلة نفس الموصول فهي جملةٌ - اسمیّةً کانت أو فعلیّةًَ أو حرفیّة - ولا بدّ لها من عائدٍ تعود علی الموصول، نحو قولک: جاءني الذي قام أبوه، والذي عندک أو في الدار غلامه، والذي أبوه قائم.

فاتّضح بما بیّنّاه أنّ ما اتّفقوا علیه: من وجوب اشتمال الصلة علی العائدة مطلقاً، في غیر محلّه.

وکیف کان فهو أي الموصول صنفان: نصٌّ، ومشترک.

فالنصّ ثمانیة:

«الذي» للمفرد المذکّر، عاقلاً کان أم لا.

و «التي» للمفرد المؤنّث، عاقلةً أم لا.

ولمثنّاهما «اللذان» و «اللتان» رفعاً أي حالة الرفع، فقام المصدر مقام ظرف الزمان، و «اللذَین» و «اللتَین» نصباً وجرّاً أي حالتیهما، وإنّما ذکرت تثنیة الموصول واسم الإشارة وأنّهما بالألف رفعاً وبالیاء نصباً وجرّاً، ولم نکتف بما ذکرت في باب التثنیة؛ من جهة أنّ تثنیتهما علی خلاف القیاس، والاختلاف في أنّهما مثنّیان حقیقةً أم لا، وأنّهما معربان أم لا، فإنّ القیاس «ذیان» و «تیان» بقلب الألف یاءً

ص: 165

و «اللذیان» و «اللتیان» بإثبات الیاء فیهما، وقد أشرت إلی أنّهما کسائر الأسماء المثنّاة معربةٌ بقولي «ولمثنّاهما» هنا وفي اسم الإشارة، إذ من یقول ببنائهما یقول بأنّهما علی صورة التثنیة ولیسا بمثنّیین حقیقةً.

ولجمع المذکّر العاقل «اللذِین» مطلقاً رفعاً ونصباً وجرّاً، و «الاُلی» غالباً، وقد ترد هذه لغیر العاقل قلیلاً.

ولجمع المؤنّث «اللاتي» و «اللائي» بإثبات الیاء فیهما، وقد تحذف یاؤهما اجتزاءً بالکسرة، قیقال: «اللات» و «اللاة».

وقد یتقارض «الاُلی» و «اللاة» فیقع کلٌّ منهما مکان الآخر. قال الشاعر:«محی حبّها حبُّ الاُلی قبلها» أي حبّ اللاء، وقال آخر:

فما آباؤنا بأمّن منه *** علینا اللاء قد مهدوا الحجور

وأمّا المشترک، وهو ما یأتي للمفرد والمثنّی والجمع مذکّرةً ومؤنّثةً بلفظةٍ واحدة، فهي خمسة: مَن، وما، وأيُّ، وذو، وذا.

ف-«مَن» موضوعٌ لمن یعقل، وترد موصولةً وموصوفةً واستفهامیّةً وشرطیّةً باختلاف خصوصیّات الاستعمال المتعاقبة، لا أنّ لها مفاهیم مختلفة بأوضاعٍ متعدّدة؛ لاتّحاد المفهوم الاسميّ في الجمیع وعدم اختلافها إلّا في المعاني الحرفیّة التي هي معانٍ معتورة ووجوهٌ لاستعمال الکلمة.

فإن قلت: الصلة صفةٌ للموصول في الحقیقة، فوجوه الاستعمال حینئذٍ ثلاثةٌ لا أربعةٌ، فلا ینبغي عدّ الموصولة في قبال الموصوفة قسماً آخر.

قلت: الموصولة تتضمّن معنی العهد في جهةٍ، ولذا تکون معرفة وتلزم معها الصلة المشتملة علی الإسناد، بخلاف الموصوفة فإنّها لم تتضمّن معنی العهد، ولذا

ص: 166

تکون نکرةً ولا یجب أن تکون صفتها جملةً أو شبیهةً بها، بل تجيء مفردةً عاریةً عن الإسناد، کقولک: مررت بمن مُعجبٌ لک.

فإن قلت: لو کانت الموصولة متضمّنةً للعهد ومعرفةً وصلتها صفةً لها کاشفةً عن الجهة التي تعلّق بها العهد، لزم أن تکون صلتها معرفةً، لوجوب المطابقة بین الصفة والموصوف في التعریف والتنکیر، مع أنّ الجملة وما في حکمها إنّما تکون نکرةً أو في حکمها.

قلت: التحقیق أنّ الجمل لا تکون نکرةً ولا في حکمها، بل هي صالحةٌ للوقوع موقع المعرفة والنکرة علی ما سیظهر لک إن شاء الله تعالی في مبحث الجمل، هذا.

وتکون لغیر العاقل إن نزّل بمنزلته، نحو: أسِربَ القطا هل من یعیر جناحه؟ أو اختلط به تغلیباً للأفضل، نحو قوله تعالی: (یسجد له من في السماوات ومن في الأرض)(1) أو اقترن به في عمومٍ فصّل ب-«مِن» نحو (والله خلق کلّ دابّةٍ من ماء فمنهم من یمشي علی بطنه ومنهم من یمشي علی رجلین)(2) لاقترانه بالعالم في کلّ دابّة، هکذا قیل.

والتحقیق أنّ إطلاقها عی غیر العاقل علی وجه التنزیل مطلقاً، غایة الأمر أنّ أسباب التنزیل مختلفةٌ، فإنّ التغلیب مع اختلاطه بالأفضل واقترانه به في عمومٍ فُصّل ب-«مِن» من أسباب التنزیل.

و «ما» للشيء مطلقاً عاقلاً کان أم لا، وإنّما ینصرف بمقتضی المقابلة

ص: 167


1- سورة الحجّ، الآیة 18.
2- سورة النور، الآیة 45.

ل-«مَن» إلی ما لا یعقل. ولا یعبّر به عمّن یعقل إلّا مع الغمض عن جهة کماله، کقوله تعالی: (فانکحوا ما طاب لکم من النساء)(1)... الآیة، أو للترفّع عنه کما في الدعاء: «لولا أنت لم أدرِ ما أنت».

وتستعمل مع الوجوه المتقدّمة: من وقوعها موصولةً وموصوفةً واستفهامیّةً وشرطیّةً صفةً لنکرة أیضاً نحو: اضربه ضرباً ما.

و «أيّ» للشيء مطلقاً عاقلاً کان أم لا، وترد شرطیّةً واستفهامیّةً وصلةً لنداء ما فیه اللام موصوفةً به وموصولةً باختلاف خصوصیّات الاستعمال.

وهي معربةٌ في الموارد کلّها إلّا الأخیرة في حال إضافتها وحذف صدر صلتها عند سیبویه. والحقّ أنّها معربةٌ مطلقاً، کما ذهب إلیه الخلیل ویونس والأخفش والزجّاج والکوفیّون.

قال الزجّاج علی ما حکي عنه: ما تبیّن لي أنّ سیبویه غلط إلّا في موضعین هذا أحدهما؛ فإنّه یسلّم أنّها تعرب إذا اُفردت فکیف یقول ببنائها إذا اُضیفت؟ انتهی.

وعمدة ما استدلّ به سیبویه: قراءة الجمهور: (لننزعنّ من کلّ شیعةٍ أیّهم أشدّ)(2) بالضمّ.

وقد أجاب المانعون بأنّ «أیّاً» في الآیة استفهامیّةٌ، وأنّها مبتدأً و «أشدّ» خبره.

ثمّ اختلفوا في مفعول ننزع، فقال الخلیل: محذوف، والتقدیر للنزعنَّ الذین

ص: 168


1- سورة النساء، الآیة 3.
2- سورة مریم، الآیة 69.

یقال فیهم أیّهم أشدّ، وقال یونس: المفعول الجملة وعلّقت «ننزع» عن العمل فیها، وقال الکسائي والأخفش: المفعول کلّ شیعة ومن زائدة.

أقول: ویمکن أن یقال: أيُّ موصولةٌ خبراً عن متبدءٍ محذوف، والجملة جوابٌ للسؤال باعتبار عدم ذکر مفعوله، فکأنّه قیل: من المنزوع؟ فقیل: أیّهم أشدّ.

وقد تستعمل «أیّة» بالتاء للمؤنّث.

و «ذو» لمن یعقل وغیره، ولا ترد موصولةً إلّا عند طيّ، وقد تؤنّث وتثنّی وتجمع عند طائفةٍ من طيّ، فیقال: «ذات» للمؤنّث، و «ذوا» لتثنیة المذکّر، و «ذواتا» لتثنیة المؤنّث، و «ذوو» لجمع المذکّر، و «ذوات» لجمع المؤنّث.

و «ذا» إذا کان بعد «ما» أو «من» الاستفهامیّة ولم تکن للإشارة ولا ملغاةً بأن تصیر مرکّبةً مع «ما» للاستفهام، وقیل: یجوز إلغائها علی وجهٍ آخر، وهو صیرورتها زائدً، وهو وَهَمٌ؛ لأنّ زیادة الأسماء غیر ثابتةٍ بل وکذا الحروف، فإنّ زیادتها بمعنی أنّها لا تفید إلّا ما استفید من المورد مع قطع النظر عنها، ولذا تکون زیادتها للتأکید.

ولم یشترط الکوفیّون تقدّم «ما» أو «من» في استعمالها موصولةً، واستدلّوا بقول الشاعر: «وهذا تحملین طلیق».

والمشترطون أوّلوه بوجهین:

الأوّل: جعل «هذا طلیقٌ» جملةً اسمیّة، وتحملین في موضع الحال من فاعل طلیق.

والثاني: بأن یکون ممّا حذف فیه الموصول، أي هذا الذي تحملینه طلیقٌ، علی حدّ قوله:

ص: 169

فوالله ما نلتم وما نیل منکم *** بمعتدلٍ وفقٍ ولا متقارب

أي: ما الذي نلتم.

أقول: قد عرفت أنّ «ذا» لم تکن موضوعةً للإشارة وضعاً، وإنّما تضمّنت معنی الإشارة بغلبة الاستعمال، فلا مانع من استعمالها علی وجه الموصولیّة مطلقاً؛ لأنّ الإشارة والموصولیّة معنیان حرفیّان معتوران علیها من دون اختلافٍ في المفهوم الاسمي، فلا حاجة إلی تأویلٍ وارتکاب خلاف ظاهر.

وقد عدّ الأکثر من جملته «أل» إذا دخلت علی الصفة المحضة، وهي اسم الفاعل والمفعول إذا لم یغلب علیهما الاسمیّة، قیل: والصفة المشبّهة أیضاً، وهو وَهَمٌ.

والحقّ أنّها حرف تعریفٍ مطلقاً.

والاستدلال علی کونها موصولةً بعود الضمیر علیها في نحو «قد أفلح المتّقي ربّه» في غیر محلّه؛ لأنّه إن اُرید به الضمیر المجرور فهو عائدٌ علی نفس الوصف، وإن اُرید به الضمیر المستتر في الوصف، ففیه:

أوّلاً: أنّ الاستتار یختصّ به الفعل، کما تقدّم وسیأتي تفصیله في مبحث المبتدأ والخبر.

وثانیاً: أنّ مرجع استتار الضمیر حیث استتر إلی فهم الذات من اللفظ تبعاً للإسناد، لا إلی استتاره تحقیقاً حتّی یعود علی ما تقدّم.

وثالثاً: أنّه علی فرض استتاره فیه تحقیقاً یمکن رجوعه إلی الذات المنطبق علیها الوصف المدلول علیها التزاماً.

فإن قلت: لو لم یستتر الضمیر في الوصف المذکور لزم أن لا یکون له فاعلٌ في الکلام، مع أنّ اسم الفاعل کالفعل المعلوم لا یستعمل بدون الفاعل.

قلت: نلتزم به ولا ضیر فیه، بل التحقیق أنّه لا فاعل لاسم الفاعل أبداً،

ص: 170

یتوهّم أنّه فاعلٌ له في سائر الموارد فهو مبتدأٌ مخبرٌ عنه واسم الفاعل خبرٌ له؛ لأنّ الفاعل إنّما یختصّ بالمسند إلیه بالإسناد الحدوثي الحاصل من قِبَل الهیئة الاشتقاقیّة، والمسند إلیه لاسم الفاعل إنّما هو لامسند إلیه بالإسناد الاتّحادي الحاصل من الهیئة الترکیبیّة، فظهر أنّ اسم الفاعل إنّما یعمل النصب ولا یعمل الرفع أبداً، إلّا علی القول بأنّ العامل في المبتدأ هو الخبر.

فإن قلت: لو کان اللام حرف تعریفٍ حینئذٍ لزم أن لا یعمل اسم الفاعل حینئذٍ إلّا إذا کان بمعنی الحال أو الاستقبال ومعتمداً علی أحد الاُمور التي ذکرها القوم.

قلت: التحقیق أنّه لا یشترط علمه بالأمرین مطلقاً، وتفصیل الکلام فیه سیأتي في محلّه إن شاء الله تعالی.

واعلم أنّ الصلة إنّما یکون خبریّةً خالیةً من معنی التعجّب معهوداً معناها غالباً، فإن کانت جملةً فلا بدّ لها من ضمیرٍ مطابقٍ للموصول إفراداً وتذکیراً وغیرهما، وهو المسمّی بالعائد. ویجوز في ضمیر «مَن» و «ما» مراعاة اللفظ والمعنی. وقد یحذف للعلم به وعدم فوت الغرض المقصود منه.

فإن کان مرفوعاً ولم یصلح الباقي للصلة یکثر حذفه في صلة أيّ، نحو قوله تعالی: (لننزعنّ... أیّهم أشدّ)(1) أي هو أشدّ، ومع طول الصلة في غیر صلة أيّ، نحو قوله تعالی: (هو الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ)(2) أي هو في السماء.

فإن صلح الباقي للصلة کأن یکون جملةً أو ظرفاً أو مجروراً تامّاً لا یجوز

ص: 171


1- سورة مریم، الآیة 69.
2- سورة الزخرف، الآیة 84.

حذفه؛ لأنّه لا یعلم أحذف منه شيء أم لا، فیفوت الغرض المقصود منه.

وإن لم تستطل الصلة شذّ حذفه في غیر أيّ، نحو «من یعن بالحمد لا ینطق بما سفهٌ» أي بما هو سفهٌ.

وإن کان منصوباً متّصلاً بالفعل فکذلک یکثر حذفه، نحو قوله تعالی: (یعلم ما تسرّون وما تعلنون).(1)

فإن کان منفصلاً کقولک: ضربت الذي إیّاه ضربت، لا یجوز حذفه لفوت الغرض الذي انفصل الضمیر لأجله.

ویجوز حذفه إن کان منصوباً متّصلاً بالوصف علی قلّةٍ عند الأکثر، نحو قوله: ما الله مولیک فضلٌ، أي الذي مولیکه فضل، أو مجروراً بإضافته إلیه نحو قوله تعالی: (فاقضِ ما أنت قاض)(2) أو بحرف الجرّ إذا کان الموصول مجروراً بمثله واتّفقا متعلّقاً، نحو مررت بالذي مررت، أي به.

فإن کان الضمیر منفصلاً، أو اختلف الحرفان کقولک: استعنتُ بالذي استعنت علیه، أو المتعلّقان کقولک: مررت بالذي فرحت به، لا یجوز الحذف لفوت الغرض في الأوّل والالتباس في الآخرین، هکذا ذکره القوم.

أقول: وقد یجوز في الأخر للعلم به.

ص: 172


1- سورة التغابن، الآیة 4.
2- سورة طه، الآیة 72.

المعرّف باللام

[المعرّف باللام](1)

﴿والخامس: المعرَّف باللام﴾ وإنّما عبّرت ب-«اللام» دون «أل» تنبیهاً علی أنّ أداة التعریف هي «اللام» لدورانه مدارها وسقوط الهمزة في الدرج.

وهي للإشارة إلی المدخول، فإن کان هناک عهدٌ تنصرف إلی المعهود، ذهنیّاً کان ک-«جاء القاضي» إذا کان بینک وبین مخاطبک عهدٌ في قاضٍ خاصّ، أو ذکریّاً ک-«اشتریت فرساً ثمّ بعت الفرس» أو حضوریّاً کقوله تعالی: (الیوم أکملت لکم دینکم)(2) وإلّا فتنصرف إلی الجنس سواء کانت مبیّنةً للحقیقة، نحو قوله تعالی: (وجعلنا من الماء کلّ شيء حيّ)(3) أو مستغرقةً للأفراد حقیقةً إن حلّ محلّها «کلّ» حقیقةً، أو مجازاً إن حلّ محلّها علی سبیل التجوّز، فظهر بما بیّنّاه أنّه لیس لها معاني عدیدة کما قد یتوهّم.

وأکثر دخولها علی النکرة فتعرّف بها، وقد تجتمع مع المعرفة بالعلمیّة أو

ص: 173


1- العنوان منّا.
2- سورة المائدة، الآیة 3.
3- سورة الأنبیاء، الآیة 30.

بالصلة أو بتضمین معنی الحضور فلا تؤثّر فیها تعریفاً فتسمّی زائدة:

وهي إمّا لازمةٌ کالمقارنة للعلم في وضعه ک-«السموأل» علمٌ لرجل من الیهود علی ما قیل، و«الیسع» علمٌ لنبيّ (علیه السلام) ، و «اللات» و «العُزّی» علمان لصنمین فإنّه لم یعهد استعمالها بغیر اللام، وکالمصاحبة ل-«الذي» و «التي» وفروعهما فإنّها معارف بالصلة ولم یعهد استعمالها إلّا باللام، وکالتي في «الآن» اسمٌ للزمان الحاضر فهو متضمّن لمعنی الحضور؛ ولذا بني علی ما تقرّر عندهم: من أنّ علّة بناء الاسم شباهته بالحرف ومع ذلک لم یستعمل إلّا مصاحباً للّام.

أو عارضةٌ، وهي إمّا زائدةٌ للضرورة ک-«بنات الأوبر» في قول الشاعر:

ولقد جنیتک أکمأً وعساقلاً *** ولقد نهیتک عن بنات الأوبر

فإنّ بنات أوبر علم جنسٍ لضربٍ من الکمأة.

وقد تزاد للضرورة في النکرة أیضاً إذا وجب تنکیرها، کقول الشاعر: «وطبت النفس یا قیس بن عمرو» فإنّها تمییزٌ والتمییز واجب التنکیر عندهم فاللام فیها لا تکون إلّا زائدة.

أو زائدةٌ للمحل الأصل کالداخلة علی الأعلام المنقولة عن وصفٍ، کالحسن والحسین - سلام الله علیهما - والقاسم والطاهر والعبّاس، أو عن مصدرٍ کالفضل، أو اسم عینٍ کالنعمان. وأکثر وقوعه في الأوّل، ولکنّ کلّه سماعيٌّ، فلا یجوز في نحو محمّد وصالح ومعروف لعدم السماع.

وقد تلزم اللام مع عدم زیادته في الأصل کالمعرّف بها إذا صار علماً بالغلبة علی بعض أفراده، ک-«النجم» للثریّا، و «المدینة» للطیّبة، و «البیت» لبیت الله الحرام، و «الکتاب» لکتاب سیبویه، وهکذا من الأمثلة، إلّا في نداءٍ أو إضافةٍ فیجب حذفها حینئذٍ نحو: یا أعشی، وهذه مدینة الرسول (صلی الله علیه و آله) ، وقد تنحذف بدونه

ص: 174

أي بدون نداءٍ أو إضافةٍ بقلّةٍ نحو: هذا عیّوق طالعاً.

والحقّ: أنّها مع المعرفة باقیةٌ علی معناها الأصلي - من الإشارة إلی المدخول - وإن لم تفد التعریف لأنّه لیس معنی أصلیّاً لها حتّی تصیر بخلوّها عنه زائدة، وإنّما هو من لوازم معناها الأصليّ، فإن لم یشتغل المدخول بمثله ترتّب اللازم علی الملزوم وإلّا فلا، بل یترتّب التعریف علیها في القسم الأخیر لأنّ العلمیّة بالغلبة لاحقةٌ علی التعریف باللام فلا تؤثّر فیه، وأمّا مع النکرة فتفید التعریف مطلقاً وإن کانت تمییزاً أو حالاً فإنّ تنکیرهما أغلبيٌّ لاکلّي.

تبصرة: أجاز الکوفیّون وبعض البصریّین وکثیرٌ من المتأخّرین نیابة اللام عن الضمیر المضاف إلیه، وخرّجوا علی ذلک قوله تعالی: (فإنّ الجنّة هي المأوی)(1) و «مررت برجلٍ حسن الوجه» و «ضرب زیدٌ الظهر والبطن» والمانعون یقدّرون «له» في الآیة، و «منه» في الأمثلة، وقیّد ابن مالک الجواز بغیر الصلة، قال الزمخشري في: (وعلّم آدم الأسماء کلّها):(2) إنّ الأص أسماء المسمّیات، فجوّز نیابتها عن الظاهر.

أقول: والتحقیق أنّ الالم في الصور المزبورة للعهد؛ إذ کما یتحقّق العهد بذکر المدخلو له صریحاً یتحقّق بذکر الکلّ المتضمّن له کالأمثلة المذکورة، أو بما یوجب تعیینه للمخاطب کما في الآیتین. ومن هذا القبیل ما ذکره أبو شامه في قوله «بدئت ببسم الله في النظم أوّلاً»: أنّ الأصل في نظمي، ولعلّه مراد المجوّزین.

ص: 175


1- سورة النازعات، الآیة 41.
2- سورة البقرة، الآیة 31.

﴿والسادس من المعارف: المضاف إلی أحدها﴾ أي أحد الخمسة المذکورة ولو بواسطةٍ نحو: غلام أبیک ﴿معنی﴾ أي من حیث المعنی، فهو تمییزٌ عن النسبة ما لم یتوغّل في الإبهام کمثل وغیر، إلّا إذا وقع بین المتقابلین فیعرّف حینئذٍ «غیر المغضوب علیهم»، وسیظهر لک التفصیل في باب الإضافة إن شاء الله تعالی.

﴿والسابع: المعرَّف بالنداء﴾ ک-«یارجل» مقصوداً به معیّن.

ص: 176

أساس في حکم أرکان الکلام

اشارة

أساس في حکم أرکان الکلام(1)

هذا ﴿أساسٌ﴾ ولمّا فرغنا من المقدّمات التي یستحقّ تقدیمها شرعنا في مسائل الفنّ، وقدّمنا الکلام في حکم أرکان الکلام، ثمّ عقّبناه ببیان حکم التوابع والقیود، ف-﴿اعلم أنّ الإعراب یدور مدار المعاني المعتورة علی الکلمة﴾ من الفاعلیّة والمفعولیّة والإضافة وهکذا، ولذا یختلف باختلافها الإعراب، وسمّیت بالمعاني المقتضیة له ﴿وهي علی قسمین: أصلٌ﴾ یتقوّم به الأرکان ﴿وتابعٌ﴾ ینعقد به القیود ﴿والأصل﴾ فیها هو ﴿الإسناد﴾ الذي یتحقّق به التألیف التامّ الموجب لصیرورة طرفیه رکناً وعمدةً في الکلام، فالواسطة في عروض الکرنیّة للطرفین إنّما هو الإسناد ﴿کما أنّ الأصل فیه الرفع ویدور﴾ الرفع الذي هو الأصل في الإعراب ﴿مداره﴾ أي الإسناد الذي هو الأصل في المعاني المعتورة القضیة له ﴿غالباً﴾ فلا یوجد إلّا حیثما وجد الإسناد أو ما بمنزلته إلّا نادراً ﴿وهو علی أقسامٍ﴾ ثلاثة: ﴿حدوثيٍّ واتّحاديٍّ وإضافيٍِ﴾ ولا یحصل الأوّل إلّا بالهئیة الفعلیّة، فأحد طرفیه الفعل بمفهومه الاسميّ التضمّنيّ وهو الحدث، والآخر

ص: 177


1- العنوان منّا.

الفاعل، ولا یحصل الثالث إلّا بحرف الجرّ أو ما بمنزلته، فطرفاه المضاف والمضاف إلیه بالإضافة الإسنادیّة التامّة ﴿فهناک أبواب ثلاثة﴾.

ص: 178

الباب الأوّل: في الفاعل

قد اختلفت کلماتهم في أنّ الأصل في المرفوعات هو المبتدأ أو الفاعل، وقد ذهب إلی کلٍّ منهما فریقٌ، واحتجّ الفریقان بما لا حجّة فیه.

والأقوی: أنّه إذا کان المسندان قابلین لکلا الإسنادین کالحدث والذات یکون الأصل هو الفاعل، فإنّ الحدث کما یصحّ أن یسند إلی الذات علی وجه الحدوث بأن تقول: ضرب زیدٌ، یصحّ أن یسند إلیها علی وجه الاتّحاد بعد صوغ اسم الفاعل منه المنطبق علی الذات بأن تقول: زید ضارب، ولکنّ الأوّل أصلٌ للثاني.

توضیح الحال: أنّ نسبة الحدث إلی الذات في الخارج لا یکون إلّا علی وجهٍ واحد، والاختلاف إنّما هو باختلاف اللحاظ.

فقد یلاحظ المتکلّم النسبة علی ما هي علیه أصالةً، وهو حدوث الحدث من الذات، فیخبر عنه ویقول: ضرب زیدٌ، مثلاً.

وقد یلاحظ اتّصاف الذات بالحدث فیخبر عنه ویقول: یضرب زیدٌ، وهو مترتّبٌ علی الأوّل، ولذا یصحّ أن یقال: حدث الضرب من زیدٍ فاتّصف به.

وقد یلاحظ الاتّصاف قیداً للذات فیصاغ منه صیغة الفاعل المنطبقة علی الذات، وهذا اللحاظ إنّما هو بعد علم المخاطب بأصل الاتّصاف في نظر المتکلّم، ولذا اشتهر: أنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبارٌ والأخبار بعد العلم بها أوصاف.

فالنسب في الموارد الثلاثة في الحقیقة لا تکون إلّا واحدةً والاختلاف إنّما هو

ص: 179

في لحاظ المتکلّم فإذا أراد المتکلّم إسناد الصفة المزبورة إلی «زید» بالإسناد الاتّحادي وقال: زیدًٌ ضاربٌ، فهو متأخّرٌ عن «یضرب زیدٌ» بمرتبتین، وعن «ضرب زیدٌ» بمراتب ثلاث.

ولعلّه ینبّه علی ما بیّنّاه ما اشتهر في لسان أهل الصرف والاشتقاق، وهو قولهم: ضرب یضرب ضرباً فهو ضاربٌ وذاک مضروبٌ، فالتصدیر بالفعل الماضي إشارةٌ إلی أنّه أوّل صادرٍ من المبدأ الساذج، والتعقیب بالمضارع إلی أنّه في المرتبة الثانیة وأنّه صادر من الصادر الأوّل بملاحظة تقدیم النظر إلی الذات، ثمّ الإتیان بالمصدر وانتصابه بالفعل إلی صدوره من الفعل بملاحظة جعل النسبة قیداً للحدث بحیث صار المجموع عنواناً منطبقاً علیه. وهل هو في المتربة الثالثة أو في عرض المضارع من حیث صدوره من الصادر الأوّل؟ وجهان، ولعلّ الأوجه الأوّل.

ثمّ تفریع الجملة الاسمیّة عی الفعلیّة تنبیهٌ علی ترتّب الاسمیّة علیها واشتقاق اسم الفاعل من المضارع، کما أنّ التعبیر بضمیر الغائب من جهة وجوب المطابقة بین الأصل والفرع؛ ولذا یختلف الضمیر إفراداً وتثنیةً وجمعاً وتذکیراً وتأنیثاً وغیبةً وخطاباً وتکلّماً باختلاف الفعل، ففي التصریف: حيَّ یحیی حیوةً فهو حيٌّ، وحیّا وحییا فیهما حیّان، وحیّوا وحییوا فهم أحیاء.

وأمّا التعبیر باسم الإشارة لا بالضمیر لاسم المفعول، فلخروجه عن سلسلة المشتقّات المنبیّة للفاعل وعدم اشتقاقه من الفعل المعلوم وعدم تفرّعه علیه. نعم، لو کان الفعل المذکور قبلُ مبنیّاً للمفعول لزم الإتیان بالضمیر له وباسم الإشارة للفاعل، فیقال: ضُرب یُضرَب ضرباً فهو مضروب وذاک ضارب.

فما في بعض کتب الصرف بالفارسیّة المعروف ب-«صرف میر» في مقام تعداد

ص: 180

الأفعال بعد قوله: «مجهولان وُرم یُورَم تا آخر» فهو ورامٌ وذاک مورومٌ، غلطٌ من وجوه:

الأوّل: تفریع الفاعل علی الفعل المجهول.

والثاني: إخراج المفعول عن کونه فرعاً له.

والثالث: أنّ مقتضی قوله: «تا آخر» عقیب الفعلین أن یقول: فهو مورومٌ تا آخر.

فظهر بما بیّنّاه سرّ الإتیان بالفاء مع الضمیر لاسم الفاعل وباسم الإشارة لاسم المفعول.

وأمّا ما ذکره بعضهم في وجه التفکیک بینهما، حیث قال: کان المتعارف بینهم عند إرادة أن یقولوا: إنّ الوصف من الفعل الفلاني هو الفلان، صدّروا هذا الوصف بلفظ «هو» إن کان غیر اسم مفعول وبلفظ «ذاک» إن کان اسم مفعول، فیقولون: ضرب فهو ضاربٌ وذاک مضروبٌ، ولا بدّ ها هنا من بیان نکتتین: الاُولی: نکتة إدخال الفاء علی لفظ «هو» وبیان المرجع والمشار إلیه، فقیل: إنّه فاء جزاءٍ وحذف شرطه والمرجع والمشار إلیه اسم الفاعل واسم المفعول، أي إذا ثبت أنّ ضَرَبَ فعلٌ فاسم فاعله ضاربٌ مثلاً، وقیل: الفاء للتفریع والمرجع أو المشار إلیه فاعل ذلک الفعل أو مفعوله، ومعناه ظاهرٌ، ولا یبعد أن یکون علی هذا أیضاً فاءٌ جزائیّة. الثانیة: نکتة اختصاص الضمیر باسم الفاعل واسم الإشارة باسم المفعول، وهي أنّ ما حکم علیه بالضارب - مثلاً - ذاتٌ ذات صفةٍ ناشئةٍ من تلک الذات، فلم یتمیّز تلک الذات عن تلک الصفة غایة التمیّز، فکأنّهما متّحدتان، فناسب أن یعبّر بالضمیر لکونه موضوعاً للذات فقط، وهذا بخلاف اسم المفعول؛ فإنّ ما حکم علیه بالمضروب مثلاً هو ذاتٌ ذات صفةٍ غیر ناشئةٍ من تلک الذات، بل واقعةٍ علیها،

ص: 181

فاشتمالها علی الذات والصفة في غایة الوضوح، فناسب أن یعبّر باسم الإشارة الموضع للإشارة إلی الذات والصفة. هذا ما ظهر لي في هذا المقام، انتهی.

ففي غیر محلّه؛ لأنّ مرجع لاضمیر کالمشار إلیه إنّما هو المعنی الاسمي، ذاتاً کان أو حدثاً، قال عزّ من قائل: (اعدلوا هو أقرب للتقوی)،(1) وتوهّم التجوّز في صورة الرجوع إلی الحدث في نهایة الشناعة، مع أنّه إن فرض رجوع الضمیر إلی اسم الفاعل کما ذکره أوّلاً لا یجدیه ما ذکره علی فرض صحّته؛ لأنّ الاسم لیس ذاتاً وإن فرض رجوعه إلی الفاعل، فالتفکیک بینه وبین اسم المفعول لا وجه له، لأنّ الذات المحض هي المرجع والمشار إلیه لا الصفتان، وإنّما هما محمولتان علیها، مع أنّ اسم الفاعل قد یدلّ علی ذاتٍ ذات صفةٍ غیر ناشئةٍ من تلک الذات کاسم الفاعل المصوغ من باب الانفعال کالمنکسِر، فإنّ الانکسار یثبت له من قِبَل الکاسر مع أنّه یقال: انکسر ینکسر فهو منکسِرٌ، هکذا الأمر في الصفات المصوغة من أفعال المطاوعة.

ثمّ إنّ تردیده في مرجع الضمیر والمشار إلیه لا وجه له؛ لما ظهر لک: من أنّ مرجع الضمیر والمشار إلیه إنّما هما الفاعل والمفعول لیس إلّا، وهکذا الأمر في تردیده في أنّ الفاء فاء جزاءٍ أو فاء تفریعٍ لرجوعهما إلی معنیً واحد، فإنّ مفاد الفاء هو الترتّب بلا مهلةٍ، وهو إمّا زمانيٌّ کقولک: جاء زیدٌ فعمروٌ، وإمّا طبعيٌّ کترتّب المعلول علی العلّة والجزاء علی الشرط، ومن هذا القبیل تفریع العلّة علی المعلول لتأخّرها عنه وترتّبها علیه في مرحلة العلم، فتعداد معانٍ للفاء وجعلها من الألفاظ المشترکة باطلٌ، فظهر أنّ التردید في کونها من أيّ القسمین في المقام باطلٌ. مع أنّ

ص: 182


1- سورة المائدة، الآیة 8.

حذف الشرط ممّا لا أصل له ﴿و﴾ قد اتّضح بما بیّنّاه أنّ الفاعل أصلٌ فیما إذا صلح السمندان لکلا الإسنادین لا مطلقاً.

وکیف کان، ف-﴿هو ما اُسند إلیه الفعل﴾ بمعناه التضمّني وهو الحدث، فإنّه بمعناه المطابقي المرکّب من الحدث والإسناد الحدوثي لا یقبل إسناداً آخر وإلّا لزم التکرّر فط الحدوث، بل صیرورة الحدوث حدثاً إن کان الطاري حدوثیّاً، واتّحاد الفعل مع فاعله وانطباقه علیه إن کان اتّحادیّاً، وإضافته إلیه إن کان إضافیّاً، وبطلان اللوازم بیّنٌ، مع أنّ الإسناد الحدوثي والإضافي إنّما یتحصّلان بالهیئة الفعلیّة وحرف الجرّ أو ما بمنزلته، ولیس في المقام حرف جرٍّ ولا هیئةٌ فعلیّةٌ سوی هیئةٍ واحدةٍ. علی أنّ القابل للإسناد إنّما هو المعنی الاسميّ المستقلّ فالفعل بمعناه المطابقي لا یقبل الإسناد في حدّ نفسه.

﴿قیاماً أو وقوعاً﴾ أي إسناد قیامٍ نحو: ضرب زیدٌ وعلم بکرٌ، أو وقوعٍ نحو: ضُرب عمروٌ وعُلم ذلک، سواء کان الإسناد علی وجه الإخبار کالأمثلة المتقدّمة، أو علی وجه الإنشاء کالضرب ولیُضرب زیدٌ.

واعلم أنّ المراد من القیام ما یقابل الوقوع، سواء کان قیاماً حقیقةً کقیام العلم بالعالم فإنّه صفةٌ قائمةٌ به تحقیقاً، أو لاکقیام الضرب بالضارب فإنّه صادرٌ من الفاعل تحقیقاً لا قائمٌ به کما هو ظاهر.

ثمّ إنّي نبّهت بقولي: «قیاماً أو وقوعاً» علی أنّ ما سمّوه نائباً عن الفاعل ومفعولَ ما لم یسمَّ فاعله إنّما هو الفاعل المسمّی الذي یقتضیه الفعل، فإنّ الفعل المشتمل علی الإسناد الوقوعي إنّما یقتضي الفاعل الذي یقوم به الحرکة الوقوعیّة وهو المضروب، فکما أنّ «انکسر» لا یقتضي سوی المنکسِر ولا فاعل له سواه، فکذلک الفعل المجهول لا یقتضي إلّا ما قام به الحرکة الوقوعیّة ولا فاعل له سواه.

ص: 183

ولا ینافي ذلک کون المضروب مفعولاً للفعل المعلوم؛ فإنّ وقوع اسمٍ مفعولاً لفعلٍ لا ینافي مع وقوعه فاعلاً لفعلٍ آخر وإن اتّحدا مادّةً، کما أنّه لا منافاة بین وقوع مبدء حرکةٍ للمسمّی وفعلاً للفاعل في موردٍ ووقوعه مسمّیً لحرکةٍ وفاعلاً لفعلٍ في موردٍ آخر، فإنّ الکوز - مثلاً - مفعولٌ لکسرت وفاعلٌ لانکسر، والضرب حرکةٌ للمسمّی في «ضرب» وفاعلٌ في «وقع الضرب».

کشف الحال فیه: أنّ الحدّ الذاتي للفعل - کما نبّأنا به مهبط الوحي، مولانا أمیر المؤمنین،(1) علیه وعلی أبنائه الطاهرین أفضل صلوات المصلّین - هو: ما أنبأ عن حرکة المسمّی، فحقیقته متقوّمةٌٍ بالإنباء عن حرکةٍ مضافةٍ إلی المسمّی، وإضافتها إلیه من قبیل إضافة الحرکة إلی ذیها وهو المتحرّک، فانطبق عنوان الفعل علی الحدث المسند بالإسناد الحدوثي باعتبار انطباق عنوان الحرکة علیه، کما انطبق عنوان الفاعل علی المسمّی المسند إلیه کذلک باعتبار صیرورته متحرّکاً وذا حرکةٍ، فالعنوانان متلازمان ولا یعقل انفکاک أحدهما عن الآخر، فلو کان الفعل المجهول فعلاً لم یسمّ فاعله لزم انطباق عنوان الحرکة علی الحدث المسند بالإسناد الحدوثي من دون انطباق عنوان المتحرّک علی المسمّی المسند إلیه کذلک، وهو خلفٌ، بل یلزم خروج الفعل عن حقیقته لعدم إنبائه حینئذٍ عن حرکةٍ مضافةٍ إلی ذیها.

فإن قلت: یمکن أن یراد من إضافة الحرکة إلی المسمّی ما یعمّ إسنادها إلی ذیها وإلی من وقع علیها، فلا إشکال.

قلت: النسبتان متقابلتان ولا یمکن أن یراد منها کلّ واحدٍ منهما، وإلّا لزم مفسدة استعمال المشترک في أکثر من معنی، ولا جامع بینهما إلّا إذا قطع النظر عن

ص: 184


1- بحارالأنوار 40: 162.

خصوصیّة النسبتین. ومعلومٌ لمن له أدنی دربة أنّ الخصوصیّة ملحوظةٌ في المقام، بل لا تستفاد من إضافة الحرکة إلی المسمّی إلّا إضافتها إلی المتحرّک وذیها، کما لا یخفی علی الفطن العارف بأسالیب الکلام.

فاتّضح غایه الاتّضاح: أنّ الطرف للإسناد الوقوعي في الفعل فاعلٌ له وإن کان مفعولاً للفعل المعلوم، ولا منافاة بینهما. ولقد تنبّه لما بیّنّاه الزمخشري والشیخ عبد القاهر حیث حکما بأنّه فاعلٌ اصطلاحاً، ومن غفل عن حقیقة الحال زعم أنّ نزاعهما إنّما هو في النسبة.

ثمّ اعلم أنّ المراد بالإسناد أعمّ من الإیجاب والسلب، فإنّهما طرفان للإسناد ونحوان منه، لأنّهما إنّما یتعلّقان بالمسند لا بالإسناد، فهو ثابتٌ علی کلا التقدیرین وإنّما ینتفي الإسناد في مقام التعداد، فما توهّمه جمعٌ: من انتفائه في صورة النفي، وهمٌ ظاهر.

واعلم أیضاً أنّ المراد من «القیام» و «الوقوع» القیام والوقوع الربطیّان بمعنی الاختصاص الناعت، فلا ینتقض عکس الحدّ بنحو: قرب زیدٌ ومات عمروٌ، ضرورة قیام القرب والموت بالقریب والمیّت بمعنی الاختصاص الناعت، فلا حاجة إلی أن یقال: «علی جهة القیام به»، کما صنعه بعضهم.

﴿مقدَّماً کان الفعل نحو ضرب زیدٌ، أو مؤخّراً نحو زیدٌ ضرب﴾ لأنّ الاسم في الصورتین مسندٌ إلیه للفعل بمعناه الحدثيّ التضمّني بالإسناد الحدوثي.

وتوهّم: أنّ الفعل في صورة تأخّره مسندٌ إلی الضمیر المستتر فیه ولاجملة خبرٌ عن الاسم المتقدّم، باطلٌ من وجوه:

الأوّل: أنّ استتار الضمیر ثابتٌ في الصورتین؛ لما عرفت من تقوّم حقیقة الفعل به، فإن کان الاسم المتقدّم مبتدأً من جهة استتار الضمیر في الفعل لزم ذلک في

ص: 185

صورة تأخّره عنه أیضاً.

والثاني: أنّ مرجع استتار الضمیر في الفعل إلی دلالته علی فاعلٍ ما تبعاً والتزاماً، لا إلی استتار الضمیر فیه حقیقةً کما عرفت، فهو مفردٌ لا جملة، فمرجع جعل الجملة خبراً إلی جعل الفعل بمعناه المطابقي خبراً ومسنداً، وقد ظهر لک استحالته.

والثالث: أنّ الجملة علی فرض انعقادها وإسنادها إلی الاسم المتقدّم لا یکون إسنادها إلّا علی وجه الاتّحاد، لأنّ الإسناد الحاصل من الهیئة الترکیبیّة لا یکون إلّا اتّحادیّاً، فیلزم حینئذٍ اتّحاد الفعل وفاعله مع الاسم المتقدّم، وفساده ظاهر.

فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّ الاسم المتقدّم - کالمتأخّر - فاعلٌ للفعل ومسندٌ إلیه بالإسناد الحدوثي، والتفصیل بینهما - کما اشتهر بین القوم تبعاً للبصریّین - غلطٌ فاحش، فالحقّ ما اختراه الکوفیّون: من وحدة الإسناد في الصورتین وعدم اختلاف الترکیب باختلاف تقدیم الاسم وتأخیره.

فإن قلت: ما ذهب إلیه الجمهور من کون الاسم المتقدّم علی الفعل مبتدأً، مجرّدُ اصطلاحٍ منهم، ولا یبتني علی اختلاف الترکیب وتعدّد الإسناد - کما زعمت - فالنزاع بینهم لفظيٌّ اصطلاحيٌّ، ولا مشاحّة فیه، کما هو ظاهر.

قلت: هذا التوهّم إنّما نشأ من قصور النظر وقلّة التأمّل؛ ضرورة أنّ الفاعلیّة والابتداء في اصطلاحهم سنخان من الترکیب ونحوان منه، ولا یندرج أحدهما تحت الآخر بوجهٍ، فلا یعقل اتّحاد الفاعل والمبتدأ في الترکیب والإسناد.

یدلّک علی ما بیّنّاه - مع وضوحه وظهوره - اُمور:

الأوّل: عقد بابین لهما؛ إذ لو کان أحدهما عین الآخر أو أعمّ منه لم یکن لجعل أحدهما قسیماً ومقابلاً للآخر وجهٌ.

ص: 186

والثاني: اختلافهم في أنّ الأصل في المرفوعات هو المبتدأ أو الفاعل، إذ لو اندرج أحدهما تحت الآخر لم یکن لجعل أحدهما أصلاً والآخر فرعاً معنی.

والثالث: اختلاف أحکام المبتدأ والفاعل: من استحقاق الأوّل التقدّم علی خبره والثاني التأخّر عن فعله، بل استیجابه عند الجمهور، إلی غیر ذلک من الأحکام المختلفة.

والرابع: تصریح کلماتهم بأنّ «زیدٌ ضرب» جملةٌ اسمیّةٌ کبری دون «ضرب زیدٌ».

فإن قلت: لو اتّحد الترکیب في الصورتین لوجب تجرید الفعل عن علامتي التثنیة والجمع في صورة تأخّره عن المسند إلیه، کما وجب ذلک في صورة تقدّمه علیه، مع أنّه لا شبهة في وجوب إلحاق العلامة عند تقدّمه علی الفعل.

قلت: أوّلاً: اختلافهما في تجرید الفعل وعدمه لا یدلّ علی اختلافهما في الترکیب، بل یمکن أن یکون من أحکام تقدیم الفعل وتأخیره عن المسند إلیه.

وثانیاً: أنّ وجوب إلحاق العلامتین عند تأخّر الفعل غیر معلومٍ، بل یستفاد من التصریح وجوب التجرید علی مذهب الکوفیّین حینئذٍ.

قال فیه: فإن قلت: ما فائدة الخلاف بین أهل البلدین؟ قلت: فائدته تظهر في التثنیة والجمع، فنقول علی رأي الکوفیّین: الزیدان قام والزیدون قام بالإفراد فیهما، ولا یجوز ذلک علی رأي البصریّین، انتهی.

﴿تامّاً﴾ کان ﴿أو ناقصاً﴾ وما اشتهر بینهم: من عدم کون المرفوع بالفعل الناقص فاعلاً له حقیقةً وأنّ تسمیته فاعلاً أحیاناً مجازٌ تشبیهاً به، في غیر محلِّه؛ لأنّ کلّ فعلٍ لا بدّ له من فاعلٍ، ولا یعقل صدق حرکة المسمّی علی مفهومٍ من دون أن یصدق المتحرّک علی مسمّی الذي قامت هي به، فمرفوع الفعل الناقص فاعلٌ له

حقیقةً وإن اشتهر تسمیته اسماً له.

ص: 187

﴿أو ما بمنزلته﴾ أي ما بمنزلته الفعل في الإسناد الحدوثي، وهو اسم الفعل نحو «هیهات العقیق» أي بعد، و «سرعان زیدٌ» أي سرع.

ویلحق به المصدر فإن نسبته إلی فاعله - مع کونها من قبیل نسبة المضاف إلی المضاف إلیه حاصلة من الهیئة الترکیبیّة، وحقّها أن تحصل بالإضافة، ولذا کثر استعماله مضافاً وقلّ استعماله معرَّفاً أو مجرَّداً سیمّا إذا ذکر فاعله - إنّما تکون علی وجه الحدوث؛ ولذا یلحق بالفعل، وصحّ استعمال فاعله مرفوعاً، ولکنّه في غایة الندرة.

وأمّا الصفات والظروف فلا تکونان بمنزلة الفعل في الإسناد، لأنّ إسنادهما إلی مرفوعیهما إنّما یکون علی وجه الاتّحاد والإضافة، فلا یصدق عنوانٍ الفاعل علیهما لدورانه مدار الإسناد الحدوثي، وإنّما یکون مرفوع الصفات مبتدأً مسنداً إلیه، ومرفوع الظروف مسنداً مضافاً.

توضیح الحال: أنّ الفاعل إنّما یکون مسنداً إلیه - کما یفصح عنه کلماتهم - ومرفوع الظروف المعتمدة علی نفيٍ أو استفهامٍ إنّما یکون فاعلاً لها عندهم بزعم أنّه مسندٌ إلیه لها بتقدیر متعلّقٍ لها وتضمّنها معناه، وسیظهر لک تفصیلاً فساده إن شاء الله تعالی. والمسند إلیه یعمّ الفاعل والمبتدأ، فلا بدّ من تخصیص کلٍّ منهما بنوعٍ منه وإلّا اختلطا ولم یتقابلا، ولمّا لم یکن له إلّا نوعان، الاتّحادي والحدوثي، یختصّ کلٌّ منهما بأحدهما، ومعلومٌ أنّ الفاعل لا یختصّ بالاتّحادي وإلّا لزم عدم انطباقه علی ما اُسند إلیه الفعل، فیختصّ لا محالة بالحدوثي والمبتدأ بالاتّحادي.

فإن قلت: یمکن تنویعه - باعتبار اقتضاء المسند إیّاه وعدمه - إلی نوعین آخرین وجعل الفاعل عبارةً عن الأوّل والمبتدأ عن الثاني، فینطبق الفاعل حینئذٍ

ص: 188

علی مرفوعي الفعل والصفات معاً.

قلت: أوّلاً: إنّ اتّحاد مرفوع الصفات معها في الصدق یأبی عن صدق عنوان الفاعل علیه، ضرورة أنّ المتّحد إنّما یکون عین المتّحد معه لا فاعلاً له وإن کان فاعلاً للمبدأ المأخوذ منه هو.

وثانیاً: إنّ الفعل إنّما یقتضي الفاعل من جهة هیئته الاشتقاقیّة الدالّة علی الإسناد المقتضي للمسند إلیه، وأمّا الصفات فلا تقتضي بهیئتها الاشتقاقیّة طرفاً آخر لأنّها إنّما تفید نسبة الحدث إلی ذاتٍ ما علی وجهٍ ینطبق علیها، فمفهوم الصفة إنّما هو عنوانٌ منطبق علی الذات، فهي کالجوامد منبئةٌ عن مسمّی ولا تستلزم طرفاً آخر، وإنّما تقتضي طرفاً آخر من قِبَل الترکیب الإسناديّ کالجوامد، فحالها حالها بعینها في هذه الجهة.

وبهذا البیان ظهر أنّ الصفات لا تکون عاملةً ورافعةً لمرفوعاتها إلّا بناءً علی القول بأنّ الأخبار عاملةٌ ورافعةٌ لمبتدئاتها.

فإن قلت: لو کان الاسم المرفوع بعد الصفات مبتدأً مخبراً عنه بها وجب مطابقتها إیّاه إفراداً وتثنیة وجمعاً، مع أنّه یصحّ: أقائمٌ الزیدان؟ وأقائم الزیدون؟ بالإفراد اتّفاقاً.

قلت: مطابقة الخبر إنّما تجب في صورة تأخّره عن المبتدأ، وأمّا مع التقدّم فیجوز التجرید والمطابقة، فالصفة کالفعل في هذه الجهة. وما اشتهر بینهم: من وجوب مطابقة الصفة إذا کانت خبراً لأجل استتار ضمیر المسند إلیه فیها، في غیر محلّه؛ لما عرفت وستعرف: من انحصار الاستتار في الفعل.

فإن قلت: لو کان المسند إلیه للصفة مبتدأً دائماً ولم یجز کونه فاعلاً لها لزم أن یکون «أبوه» في قولک: جاءني زید راکباً أبوه، ومررت بزید الراکب أبوه، مبتدأً

ص: 189

بلا خبر إن لم تجعل الصفة خبراً عنه، ومبتدأً منصوب الخبر أو مجروره من دون ناسخٍ إن جعلت خبراً عنه، بل یلزم أن تکون مستعملةً حینئذ علی وجهین مختلفین خبراً أو حالاً أو نعتاً.

قلت: الصفة في المثالین خبرٌ عنه، وانتصابها أو انخفاضها لیس باعتبار کونها حالاً أو نعتاً حتّی یلزم استعمالها علی وجهین مختلفین، بل باعتبار أنّ الجملة حالٌ في المثال الأوّل ونعتٌ في الثاني، فلا فرق في المعنی بین قولک: جاءني زیدٌ راکباً أبوه، وجاءني زیدٌ أبوه راکبٌ، وبین قولک: مررت برجلٍ راکبٍ أبوه ومررت برجل أبوه راکبٌ. والقوم لمّا لم یعطوا النظر حقّه في الأمثلة المزبورة وما ضاهاها وتبع الخلف السلف من غیر تحقیقٍ تامّ - کما هي عادتهم في أغلب المقامات بحیث صارت مخالفتهم عند قاصریهم بدعةً وموافقتهم سنّةً بل فریضةً - اتّفقوا علی أنّ الصفة المتقدّمة علی المسند إلیه محلٌّ لاعتوار المعاني المختلفة التي یختلف باختلافها الإعراب رفعاً ونصباً وجرّاً، فحکموا بأنّ الصفة في نحو: «زیدٌ قائمٌ أبوه» خبرٌ لزید، وفي «جاءني زیدٌ راکباً» أبوه حالٌ عنه، وفي «مررت بزید الراکب أبوه» نعتٌ له، اغتراراً بظاهر ما رأوه من طروّ أنواع الإعراب علیه، ولم یتفطّنوا أنّ الخبر والحال والنعت إنّما هي مضمون الجملة لا المفرد؛ إذ لو کان «قائم» في المثال المزبور خبراً عن «زید» لزم أن یکون مسنداً إلیه وإلی «أبوه» في استعمالٍ واحد، وأن یتّحد معهما في الوجود، فیلزم ثبوت القیام لهما، وهو باطل قطعاً، وهکذا الأمر في المثالین، فإنّ الحال خبرٌ عن ذي الحال والصفة عن الموصوف في المعنی، فلو کانت الصفة حالاً عن زید ونعتاً له مع کونها مسندةً إلی «أبوه» لزم ثبوت الرکوب لهما، وبطلانه غنيٌّ عن البیان.

فانکشف غایة الانکشاف: أنّه کما یکون الخبر والنعت والحال مع تقدّم

ص: 190

المسند إلیه جملةً، فکذلک مع تقدّم المسند، والاختلاف إنّما هو في الآثار اللفظیّة.

والحاصل: أنّ الجملة المشتملة علی الإسناد الاتّحاديّ إن لم تقع قیداً وجب ارتفاع طرفیه مطلقاً، وإن وقعت قیداً فکذلک مع تقدّم المسند إلیه، وأمّا مع تقدّم المسند وهي الصفة فیظهر أثر إعراب القید علیها رفعاً أو نصباً أو جرّاً. ولا یقدح في ذلک منافاته للقواعد المقرّرة عندهم؛ لأنّ القواعد المضروبة إنّما تعتبر إذا وافقت استعمالات أهل اللسان، وأمّا مع مخالفتها لها وقیام الدلیل علی خلافها فیجب الإضراب عنها وضرب قاعدةٍ موافقةٍ لها، فالقاعدة المعتبرة ما قرّرناه لا ما قرّروه.

وإذا اتّضح لک حدّ الفاعل وأنّه ینحصر في ما اُسند إلیه الحدث بالإسناد الحدوثي، فاعلم: أنّه یتقوّم الفعل الذي هو المسند بالإسناد الدوثي بالإنباء عن حرکة المسمّی علی ما ظهر لک في حدّه، فینبئ عن فاعلٍ ما أو الفاعل المعیّن باختلاف صیغه، وهو المسمّی الذي اُضیف إلیه الحرکة في حدّه تبعاً للإسناد المتکفّل له هیئته الفعلیّة، فهو مستترٌ فیه أبداً، لانفهمامه منه واستحالة انفکاکه منه، فلا یتطرّق فیه الحذف.

وما توهّم: من حذفه في مواضع، منها: فاعل الفعل المؤکّد نحو: ضرب ضرب زید، ومنها: فاعل الفعل المفرّغ نحو: ما قام إلّا زید، ومنها: الفاعل الذي یکون حرف مدٍّ وقد اتّصل به ساکنٌ نحو: ضربا القوم وضربوا الرجل واضربي ابنک واضربُن واضربِن، وَهَمٌ؛ لما عرفت من وجوب استتار الفاعل في الفعل وتقومّه به، والمحذوف في الصورة الأخیرة إنّما هي العلامة؛ لأنّ الحروف المذکورة إنّما هي علائم لکیفیّة الإسناد إلی الفاعل علی ما عرفت، ولا حذف في الاُولیین أصلاً، غایة الأمر أنّه لم یؤت فیهما بما یفسّر المستتر، بل التحقیق في صورة التأکید أنّه اکتفي

ص: 191

فیها بمفسّرٍ واحد، والظاهر المنطبق علیه مفسِّرٌ للمستتر إن کان مبهماً نحو: ضرب زید، أو مؤکّدٌ له إن کان معیّناً نحو: اسکن أنت، فما اشتهر بینهم: من ظهور الفاعل في الأوّل، باطلٌ لا وجه له.

ثمّ اعلم أنّ المستتر من مقولة المعنی لا اللفظ، والتعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ کما عرفت مراراً، فإن کان مبهماً ولم یتعلّق الغرض بتعیینه نحو: لا یشرب الخمر حین یشربها وهو مؤمنٌ، أو ظهر تفسیره من القرینة لفظیّةً کقولک: «نعم قام» في جواب قول القائل: هل قام زید؟ أو حالیّة کقوله تعالی: (کلًا إذا بلغت التراقي)(1) اکتفي به ولم یحتج إلی ظاهرٍ یفسّره، وإلّا فلا بدّ من ظاهرٍ یفسّره.

وما توهّم: من استتار الضمیر فیه تحقیقاً، وعوده إلی ما تقدّم ذکره صریحاً أو إلی ما دلّ علیه الفعل أو الحال المشاهدة، باطلٌ لا وجه له.

والعجب من غفلتهم عمّا بیّنّاه في هذا القمام مع تصریحهم بکون المسترتر معنیً منويٌّ مع اللفظ، وأنّ التعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ، ولا یکون الظاهر المنطبق علی المستتر إلّا اسماً محضاً قائماً به الحدث أو واقعاً علیه؛ لأنّ المستتر وهو المسمّی الذي اُضیف إلیه الحرکة المنحلّة إلی الحدث والإسناد إنّما یکون مفهوماً اسمیّاً خالصاً، سواء کان الإسناد إلیه علی وجه القیام أو الوقوع، فالاسم الظاهر المنطبق علیه المفسِّر له لا بدّ أن یکون اسماً محضاً وإلّا لا ینطبق علیه.

فما اشتهر بینهم: من التفصیل بین ما تعارف التعبیر عنه بالفاعل وما سمّوه نائباً عنه، والحکم بعدم اعتبار الاسم المحض إلّا في الأوّل، وبجواز وقوع الظرف أو المجرور أو المصدر نائباً عنه عند فقد المفعول به في الکلام، باطلٌ لا أصل له؛ لأنّها

ص: 192


1- سورة القیامة، الآیة 26.

لا تنطبق علی المسمّی المستتر في الفعل، إلّا المجرور بحرفٍ زائدٍ فإنّه ینطبق علی الفاعل بقسمیه نحو: ما جاءني من أحد، وما ضرب من أحد. نعم، قد ینزّل الظرف والمصدر منزلة المسمّی الواقع علیه الحدث فینطبقان علیه ویخرجان عن الظرفیّة والمصدریّة، أي کونه مفعولاً مطلقاً حینئذٍ.

ویدلّ علی ذلک ما صرّحوا به: من اشتراط نیابة الظرف والمصدر عن الفاعل بکونهما متصرّفین؛ إذ لو صحّت نیابتهما عن الفاعل مع بقائهما علی الظرفیّة والمصدریّة لم یکن لاشتراط التصرّف حینئذٍ وجهٌ، وأمّا المجرور بحرفٍ غیر زائدٍ فلا ینطبق علیه حتّی تنزیلاً لا بنفسه ولا مع حرف الجرّ کما هو ظاهر.

فما ذهب إلیه الجمهور من کونه بنفسه نائباً، کالقول بأنّهما معاً نائب، في غیر محلّه. وأسخف منهما ما نسب إلی الفرّاء: من أنّ النائب هو حرف الجرّ فقط.

فإن قلت: بناءً علی ما ذکرت، من عدم قبول المجرور النیابة یلزم خلوّ الفعل المجهول عن النائب إذا لم یکن في البین إلّا المجرور، نحو: ضُرب في الدار.

قلت: النائب عن الفاعل الذي هو نفس الفاعل عندنا مستترٌ في الفعل أبداً، فلا یلزم خلوّه عن النائب، وإنّما یلزم خلوّه عن المفسّر، ولا مانع منه؛ إذ لا حاجة إلیه إذا لم یتعلّق الغرض بالتعیین.

فإن قلت: هذا إنّما یتمّ في الفعل المتعدّي الذي یتعدّی عن الفاعل إلی المفعول به، فیستتر حینئذٍ المفعول الذي وقع علیه الفعل، وأمّا الفعل اللازم الذي لا یتجاوز عن الفاعل فلیس له مفعولٌ به حتّی یستتر في الفعل المجهول، فاللازم حینئذٍ عدم صحّة صوغ الفعل المجهول منه، مع أنّ صحّة صوغه منه بمکانٍ من الوضوح.

قلت: لا شبهة في أنّ صیغة المجهول إنّما تفید إسناد الحدث إلی ذاتٍ ما وقوعاً، فمع عدم تحقّقه تحقیقاً لا بدّ من تحقّقه تنزیلاً فیستتر فیه حینئذٍ المسمّی الذي اعتبر

ص: 193

وقوع الحدث علیه تنزیلاً، وهو إمّا مصدر الفعل المذکور کما نسب إلی بعضٍ، أو أعمّ منه ومن الزمان والمکان کما نسب إلی آخر.

وبما بیّنّاه ظهر أنّ ما نسب إلی الفرّاء: من أنّ الفعل حینئذٍ فارغٌ لا ضمیر فیه، في غایة السخافة؛ لاستلزامه خروج الفعل عن کونه فعلاً حینئذٍ؛ لما اتّضح لک غایة الاتّضاح: من تقوّم الفعل بدلالته علی المسمّی تبعاً، المعبّر عن بالضمیر المستتر استعارةً.

فإن قلت: المصدر عین الحدث فکیف یصحّ جعله مسمّیً واقعاً علیه الحدث تنزیلاً؟

قلت: العینیّة إنّما تمنع من الإسناد التحقیقي، وأمّا التنزیلي فلا، فإسناد الحدث إلی نفسه علی وجه الوقوع کنایةٌ عن تحقّقه قطعاً.

ثمّ اعلم: أنّه إن وجد في اللفظ مفعولٌ به اختصّ تفسیر المستتر به فیرفع علی وجه النیابة عندهم وعلی الفاعلیّة عندنا؛ لأنّه طرف وقوع الحدث تحقیقاً فلا یصار إلی غیره إلّا عند فقده، ضرورة عدم جواز المصیر إلی التنزیل إلّا عند التعذّر عن الأصل، فإن اتّحاد المفعول به تعیّن له، وإن تعدّد فلک الخیار في جعل واحدٍ مفسّراً مرفوعاً والباقي منصوباً إلّا ثاني باب «علمت» وثالث باب «أعلمت»، فلا یصلحان له عند الجمهور.

ولیعلم أنّ الظاهر المنطبق علی المستتر قد یتمحّض في کونه مفسّراً أو مؤکّداً له بأنیؤتی مؤخّراً عن الفعل تابعاً له کقولک: ضرب زید، واستقم أنت، أو مقدّماً علیه من دون أن یقع في ترکیبٍ آخر کقولک: زید ضرب، وأنت اضربه، وقد لا یتمحّض فیه بأن یقدّم علیه ویقع في ترکیبٍ آخر کقولک: رأیت رجلاً جاءني، ومررت برجلٍ أکرمني، فإن تمحّض فیه یرفع علی الفاعلیّة بالتبعیّة لا بالأصالة کما

ص: 194

هو ظاهرٌ. وإن لم یتمحّض فیه یعرب بحسب ما یقتضیه العامل الذي دخل علیه نحو المثالین المتقدّمین. ولا یقدح في ذلک انجراره بحرفٍ زائدٍ في نحو قولک: ما جاءني من أحدٍ، و (کفی بالله شهیداً)(1) و (هیهات هیهات لما توعدون)(2) لأنّ المراد ارتفاعه اقتضاءً واستحقاقاً فلا ینافي عدمه لأجل مانعٍ یمنعه.

ویتجرّد الفعل عن علامتي التثنیة والجمع غالباً إن کان المفسّر مؤخّراً عنه کقام الزیدان، وقام الزیدون، استغناءً بالمفسّر عن العلامتین، وقد یلحقانه فیقال: قاما الزیدان، وقاموا الزیدون، وسمّاه بعضهم ب-«لغة أکلوني البراغیث» وبعضٌ آخر ب-«لغة یتعاقبون فیکم ملائکة» وذکر بعضهم أنّها من لغة «أزد شَنَؤُه».

وقد اختلفت کلماتهم في لواحق الأفعال حینئذٍ، فقیل: إنّها علاماتٌ تدلّ علی التثنیة والجمع ولیست بضمائر، وقیل: إنّها ضمائر. والقائلون به اختلفوا فیما بعدها، فمنهم: من ذهب إلی أنّه بدلٌ عنها، ومنهم: من ذهب إلی أنّه مبتدأٌ والجملة المتقدّمة خبرٌ عنه.

أقول: قد عرفت أنّ لواحق الأفعال علاماتٌ مطلقاً، سواء قدّم المفسِّر أم اُخّر، فلا یعقل التفصیل بینهما بجعلها ضمائر في الصورة الاُولی وعلامات في الصورة الثانیة.

وقد تبیّن بهذا البیان أنّ جعلٍ الظاهر بدلاً عنها غلطٌ أیضاً، وإنّما هو بدلٌ أو بیانٌ للمستتر دائماً. وأمّا جعله مبتدأً والجملة خبراً عنه فقد عرفت بطلانه بما لا مزید علیه.

ص: 195


1- سورة النسا،، الآیة 79.
2- سورة المؤمنون، الآیة 36.

وإلّا یکن المفسّر مؤخّراً عنه اُلحقت العلامات به، فیقال: الزیدان قاماً والزیدون قاموا، رفعاً للالتباس، إذ لو قیل الزیدان قام - مثلاً - لتوهّم السامع أنّ المستتر مفردٌ لأنّ الظاهر المتقدّم لیس کالمتأخّر نصّاً في کونه مفسِّراً للمستتر، فیحتمل أن یکون غرض المتکلّم قام أبوهما أو غلامهما - مثلاً - واکتفی بقرینةٍ خفیّةٍ.

وإذا کان الظاهر مؤنّثاً فإن کان مقدّماً علی الفعل وجب إلحاق علامة التأنیث به مطلقاً، سواء کان المؤنّث حقیقیّاً نحو: هند قامت، أو مجازیّاً نحو: الشمس طلعت رفعاً للالتباس.

وإلّا یکن مقدّماً، فإن کان مؤنّثاً حقیقیّاً فکذلک یجب إلحاق العلامة به نحو: قامت هند، إلّا مع الفصل بإلّا نحو: ما قام إلّا هند، أو غیره نحو: قام في الدار هند، أو مع قصد الجنس نحو: نعم المرأة هند، فیترجّح ترک العلامة في المثالین الأوّل والثالث، والإلحاق في المثال الثاني.

وإن کان مجازیّاً فلک الخیار في إلحاق العلامة بالفعل وعدمه، فتقول: طلعت شمسٌ وطلع شمس. وفي حکمه الجمع المکسّر، فتقول: قام الرجال علی التأویل بالجمع، وقامت الرجال علی التأویل بالجماعة، وما لا واحد له من لفظه نحو «نسوة»، فتقول: قال نسوة وقالت النسوة، وأمّا الجمع السالم فحکمه حکم واحده.

وقد یأتي الفعل بلا علامةٍ مع عدم الفصل وعدم قصد الجنس، حکی سیبویه عن بعضهم «قال فلانة» وهو قیاسٌ لا سماعٌ کما زعمه ابن هشام؛ لما عرفت من أنّ صیغة المذکّر لم توضع للمذکّر وإنّما وضعت للأعمّ، وإلّا لم یجز مجیئها للمؤنّث أصلاً، فهو قیاسٌ قلیل الاستعمال کما أفهمه کلام ابن مالک.

والأصل في مفسِّر الفاعل الذي هو بمنزلة الفاعل - أي ما یقتضي أن یکون علیه في حدّ نفسه - تقدّمه علی المفعول، ولهذا شاع نحو ضرب غلامَه زیدٌ؛ لتقدّم

ص: 196

مرجع الضمیر - وهو زید - رتبةً، فلا یلزم الإضمار قبل الذکر مطلقاً بل لفظاً فقط، وذلک شائع، بل یمکن أن یقال حینئذٍ برجوع الضمیر إلی المستتر المتقدّم لفظاً ورتبة، وشذّ نحو ضرب غلامُه زیداً، بل قیل یمتنع، والأظهر جوازه علی شذوذٍ کما اختاره ابن مالک.

ویجب ذلک الأصل إذا خیف اللبس بین المفسِّر والمفعول لعدم ظهور الإعراب وعدم قرینةٍ تمیّز المفسّر عن المفعول، سواء کانا مقصورین أم اسمي إشارة أم موصولین أم مضافین إلی الیاء علی ما اختاره أکثر المتأخّرین، وخالفهم في ذلک ابن الحاجب علی ما حکي عنه، فقال في نقده - علی المقرب لابن عصفور -: لا یوجد شيءٌ من هذه الأغراض الواهیة في کتاب سیبویه محتجّاً بأنّ العرب تجیز تصغیر عمرو وعُمَر علی عمیر مع وجود اللبس، وبأنّ الإجمال من مقاصد العقلاء، وبأنّه یجوز ن یقال: زیدٌ وعمروٌ ضرب أحدهما الآخر، وبأنّ تأخیر البیان لوقت الحاجة جائزٌ عقلاً باتّفاق وشرعاً علی الأصلح، وبأنّ الزجّاج نقل في معانیة أنّه لا خلاف بین النحویین في أنّه یجوز في نحو: (ما زالت تلک دعویهم)(1) کون «تلک» اسمها و «دعویهم» الخبر وبالعکس، انتهی.

أقول: نعم، الإجمال في الکلام من مقاصد العقلاء کما ذکره، ولکنّه فرقٌ بینه وبین الالتباس؛ لأنّه ناشٍ عن إرادة خلاف الظاهر من دون قرینةٍ صارفةٍ فیوجب نقض الغرض لدلالة الکلام حینئذٍ علی الظاهر الذي هو خلاف مرامه، بخلاف الإجمال فإنّه ناشٍ من عدم ظهور الکلام في شيءٍ فلا یوجب نقض الغرض ولا فوت المقصود؛ لعدم تعلّق القصد حینئذٍ إلّا بالإبهام والإجمال، والمقام من قبیل

ص: 197


1- سورة الأنبیاء، الآیة 15.

الالتباس لا الإجمال لأنّ الظاهر أنّ المقدّم هو الفاعل.

فالوجوه الثلاثة الاُول غیر متوجّهةٍ؛ لأنّها راجعةٌ إلی جواز الإجمال لا الالتباس، مع أنّها راجعةٌ إلی وجهٍ واحد، وهو ثبوت الإجمال في کلامهم وعدم المانع منه عقلاً وعرفاً، والوجه الأوّل والثالث إنّما یکونان مثالین لا دلیلین مستقلّین.

وأمّا الرابع، فتوجّهه علیهم یتوقّف علی أن یکون غرضهم من عدم الجواز عدمه مع ثبوت اللبس عند التکلّم وإن فرض تأخّر وقت الحاجة عنه وانتفائه عنده، وهو غیر معلومٍ لأنّ کلامهم إنّما ینظر إلی عدم الجواز مع ثبوت اللبس وبقائه.

وأمّا الخامس، فعدم توجّهه أظهر لأنّ التباس الفاعل بالمفعول لیس کالتباس اسم «زال» بخبره؛ لأنّ الأوّل یوجب نقض الغرض بخلاف الثاني، لأنّ الاسم والخبر متّحدان في الخارج مختلفان بالاعتبار، فتأمّل

وأمّا عدم وجوده في کتاب سیبویه فلا یدلّ علی شيءٍ لأنّ المسائل إنّما تتکامل بتلاحق الأفکار.

ویمتنع ذلک الأصل إذا أوجب انفصال الضمیر نحو: ضربک زیدٌ فإنّ تقدیم المفسِّر فیه یؤدّي إلی انفصال الضمیر، وهو غیر جائزٍ مع إمکان الاتّصال.

وما وقع منهما أي المفسّر والمفعول محصوراً فیه بإلّا أو بإنّما وجب تأخّره، فیجب تأخّر المفسّر في نحو: ما ضرب عمرواً إلّا زیدٌ، وإنّما ضرب عمرواً زیدٌ؛ إذ المقصود حصر مضروبیّة عمروٍ في زید، فلو قُدّم والحال هذه وقیل: ما ضرب زیدٌ إلّا عمرواً، وإنّما ضرب زیدٌ عمرواً، کان معناه انحصار ضاربیّة زیدٍ في عمروٍ فینقلب المعنی.

ویجب تأخّر المفعول في نحو: ما ضرب زیدٌ إلّا عمرواً، وإنّما ضرب زیدٌ

ص: 198

عمرواً؛ إذ المقصود حینئذٍ حصر ضاربیّة زیدٍ في عمروٍ، فلو قُدّم انقلب المعنی، هذا.

وقد جوّز بعضهم تقدیم المحصور بإلّا مقروناً بها نحو: ما ضرب إلّا زیدٌ عمرواً؛ بعدم الالتباس، وهو کذلک إلّا أنّه غیر مستحسن.

ویجوز الاکتفاء عن الفعل بقیام قرینةٍ دالّة علی معناه نحو «زیدٌ» جواباً لسؤالٍ محقَّقٍ لمن قال: من قام؟ و «ضارعٌ» جواباً لسؤالٍ مقدّرٍ في قوله «لیُبکَ یزید ضارع لخصومة» بالبناء للمفعول، فکأنّه قیل من یبکیه؟ فاُجیب بقوله «ضارعٌ» أي یبکیه ضارعٌ.

وقد یتوهّم: أنّه قد یحذف الفعل وجوباً في مثل قوله تعالی: (وإن أحدٌ من المشرکین استجارک)(1) بزعم أنّ هناک فعلاً محذوفاً یفسّره الفعل المذکور.

وهو وَهَمٌ؛ لأنّ «أحدٌ» مفسِّرٌ للمستتر في الفعل المذکور، وتقدیمه علی الفعل لا یوجب صیرورة الجملة إسمیّةً حتّی ینافي دخول أداة الشرط علیها.

ص: 199


1- سورة التوبة، الآیة 6.

الباب الثاني: في المبتدأ والخبر

﴿المبتدأ: ما اُسند إلیه إسناداً اتّحادیّاً مجرَّداً عن العوامل اللفظیّة غیر المزیدة﴾ فالموصول یعمّ الاسم وغیره؛ لأنّ الإسناد إن کان لفظیّاً یجري في جمیع الکلمات ولا یختصّ به الاسم کقولک: «ضَرَبَ» فعل ماض، و «من» حرفٌ، وإن کان معنویّاً یختصّ به الاسم.

ویخرج بالقید الأوّل ما لا یکون مسنداً إلیه، وبالقید الثاني نحو: زیدٌ ضَرَبَ؛ لأنّه مسندٌ إلیه بالإسناد الحدوثي، وبالقید الثالث الاسم في باب کان وإنَّ ونحوهما، والمفعول الأوّل في باب ظنّ، ودخل بقولنا غیر المزیدة نحو (هل من خالقٍ غیر الله)(1) و «بحسبک درهمٌ»، إن قلنا بأنّ الأوّل مبتدأ.

﴿والخبر: ما اُسند به کذلک﴾ أي اتّحادیّاً مجرَّداً عن العوامل اللفظیّة غیر المزیدة، والمراد بالتجرید الخلوّ لا الإخلاء فلا یقضتي سبق الوجود، ووجه صحّة التعبیر تنزیل الإمکان منزلة الوجود کقولک للحفّار: ضیّق فم الرکیّة.

واللام في العوامل للماهیّة لا للاستغراق، فلا یرد ما قیل: من أنّه إنّما یقتضي سلب العموم لا عموم السلب، فیصدق عند عدم بعض العوامل ووجود البعض، ونسبة العوامل إلی اللفظ من قبیل نسبة الفرد إلی الکلّي.

وهو ینقسم إلی قسمین: جامدٍ ومشتقٍّ ﴿فإن کان مشتقّاً﴾ وهو اسم

ص: 200


1- سورة فاطر، الآیة 3.

الفاعل والمفعول والصفات المشبّهة والمنسوب واسم التفضیل ﴿طابق المبتدأ﴾ إفراداً وتثنیةً وجمعاً ﴿إن تأخّر عنه﴾ کما هو الأصل فیقال: زیدٌ قائمٌ، والزیدان قائمان، والزیدون قائمون ﴿وإلّا﴾ أي إن لم یتأخّر عنه ﴿فالأغلب التجرید کالفعل﴾ بالنسبة إلی فاعله فیقال: أقائمٌ زیدٌ، وأقائمٌ الزیدان، وأقائمٌ الزیدون، ویجوز المطابقة حینئذ.

وما اشتهر: من أنّ الوصف في صورة التقدّم لا یکون خبراً، وإلّا لاستتر فیه الضمیر ووجب مطابقته مع المرفوع، وإنّما یکون حینئذٍ مبتدأً مسنداً به مستغنیاً عن الخبر مکتفیاً بمرفوعه الذي هو فاعله أو النائب عنه، ولذا یجب إفراده حینئذٍ، في غایة السخافة؛ لأنّ الخبر لا یستتر فیه الضمیر أبداً کما عرفت وستعرف، ومرفوع الوصف لا یکون إلّا مبتدأً کما عرفت، مع أنّ استتار الضمیر فیه في صورة تأخّره علی فرض صحّته لا یقتضي المطابقة، وإلّا لطابق الفعل فاعله الظاهر أبداً لاستتار الضمیر فیه دائماً کما عرفت، فالمطابقة وعدمها إنّما یکونان باعتبار تقدّم الوصف وتأخّره مع عدم اختلافٍ في الترکیب، کما أنّ اختلاف الفعل في المطابقة وعدمها إنّما یکون باختلاف تقدّمه وتأخّه مع عدم اختلافٍ في الترکیب.

وهما أي: المبتدأ والخبر، مرفوعان بالإسناد الاتّحاديّ القائم بهما لا بالابتداء والخبریّة، لأنّ استواءهما في اقتضاء الرفع یدلّ علی أنّ المقتضي له إنّما هو الجامع بینهما - وهو الإسناد - لا الخصوصیّتان المختلفتان باختلاف تعلّقه بالطرفین، فما اشتهر: من رفع المبتدأ بالابتداء، في غیر محلّه.

ومن الغریب ما توهّمه بعضهم: من رفع الخبر بالابتداء أیضاً؛ لأنّه من عوارض المبتدأ لا الخبر، فهو إنّما یقتضي الإعراب بالنسبة إلی معروضه، والمعنی المقتضي للإعراب بالنسبة إلی الخبر إنّما هو الخبریّة، والابتداء والخبریّة إنّما یتقوّمان

ص: 201

ویتحصّلان بالهیئة الترکیبیّة، ولیس أحدهما متقوِّماً بالآخر - کما هو ظاهر - وإنّما خصوصیّتان مختلفتان متقابلتان مشترکتان في الإسناد، فإن قلنا: إنّ العامل هو الذي یتقوّم به المعنی المقتضي للإعراب - کما شاع بینهم - فالعامل هي الهیئة الترکیبیّة، وإن قلنا: إنّه المعنی المقتضي له - کما اخترناه - فهو الإسناد علی ما حقّقناه، ولو تنزّلنا فهو الابتداء والخبریّة، فجعل العامل فیهما الابتداء لا وجه له علی کلّ حال.

وقد تبیّن بهذا البیان: أنّه لا وجه للقول برفع الخبر بالمبتدأ أو الابتداء والمبتدأ معاً، کما أنّه لا وجه للقول برفع کلٍّ من المبتدأ والخبر بالآخر.

ثمّ إنّ الابتداء - کما ذکره بعضهم - هو جعل الاسم أوّلاً لیخبر عنه، بل هو عین الإخبار عنه، وأمّا ما اشتهر: من أنّه التجرّد عن العوامل اللفظیّة، فَوَهَمٌ؛ لأنّه أمرٌ وجوديٌّ معتورٌ علی اللفظ، والتجرّد أمرٌ عدميٌّ، والتعبیر عنه بکونه معرّی عن العوامل اللفظیّة لا یوجب صیرورته وجودیّاً؛ لأنّ الکون فیه ناقصٌ، والکون الناقص عبارةٌ عن الکون الربطي، فهو تابعٌ للربط الموجود في الکلام فإن کان إیجاباً فإیجابٌ وإلّا فسلب، ومعلومٌ أنّ الربط الموجود في القضیّة هو التجرّد الذي هو سلبٌ لا إیجاب. وتوهّم أنّ الکون في المقام عبارة عن الکون التامّ فأفسد؛ ضرورة أنّ الکون علی صفةٍ لا یکون إلّا ناقصاً.

﴿ولا یقع الخبر ظرفاً ومجروراً﴾ لأنّ الإسناد فیهما إضافيٌّ لا اتّحاديٌّ.

وتوهّم أولِ الإسناد إلی الاتّحادي أو الحدوثي بتقدیر متعلّقٍ للظرف: من کائن أو استقرّ ونحوهما من أفعال العموم، في غیر محلّه؛ لعدم الدلیل علیه.

توضیح الحال: أنّ الداعي علی تقدیر المتعلّق إمّا عدم تمامیّة المعنی بدونه، کما یظهر من الأکثر وصرّح به عصام الدین، حیث قال: قیل: اتّفق النحاة علی أنّ

ص: 202

الظرف لا بدّ له من متعلّقٍ، وفیه بحثٌ لأنّ الظرف لا بدّ له من مظروفٍ، والمظروف في «زیدٌ في الدار» هو زید، ولا حاجة إلی أمرٍ آخر. قلت: الظرف یکون ظرفاً لأمرٍ من اُمور زید: من قیامه أو سکونه أو حصلوه أو غیر ذلک، فلا بدّ من تقدیره لیتمّ البیان، وأمّا رعایة القواعد اللفظیّة کما تظهر من کلام ابن هشام حیث قال - بعد ما ذکر أنّه لا بدّ للظرف والمجرور من متعلّقٍ -: وزعم الکوفیّون وابنا طاهر وخروف أنّه لا تقدیر في نحو «زیدٌ عندک» و «عمروٌ في الدار» ثمّ اختلفوا فقال ابنا طاهر وخروف: الناصب المبتدأ، وزعما أنّه یرفع الخبر إذا کان عینه وینصبه إذا کان غیره وأنّ ذلک مذهب سیبویه، وقال الکوفیّون: الناصب أمرٌ معنويٌّ وهو کونهما مخالفین للمبتدأ، ولا معوَّل علی هذین المذهبین، انتهی.

وصرّح به المحقّق الجزائری (قدس سره) في حاشیته علی شرح الجامي، حیث قال: ثمّ إنّهم اختلفوا في الخبر، فقال بعضهم: الخبر هو الفعل المقدَّر لا الظرف السادّ مسدّه، وقال بعضهم: هو الظرف، وقال بعضهم: هو الفعل مع الظرف، وخیر الاُمور أوسطها، والدلیل علیه أنّ الکلام تامّ المعنی بلا احتیاجٍ إلی ذلک الفعل المقدَّر، وما اتّفقوا علیه: من تقدیر المتعلّق، فظنّي أنّه رعایةٌ لأمرٍ لفظيٍّ، حیث إنّ الجارّ والمجرور مفعولٌ بحسب المعنی، فهو معمولٌ، فلا بدّ له من عاملٍ، لا لأنّ المعنی یحتاج إلی تقدیره کما فهمه الأکثر، فإنّ العربيّ القُحّ یقول: زیدٌ في الدار، ویفهم نسبة الظرف إلی المظروف بلا احتیاجٍ إلی تقدیر، وکذا اختلفوا في أنّ الضمیر منتقلٌ من الفعل المقدَّر إلی الظرف أو محذوفٌ مع الفعل، قال أبو علي ومن تابعه: إنّه منتقلٌ وإلیه یشیر کلام المصنّف، انتهی.

وکلاهما بمکانٍ من الوهن والسقوط:

أمّا الأوّل، فلبداهة عدم حاجة القضیّة إلیه بحسب المعنی.

ص: 203

وما توهّمه الفاضل المذکور إن اُرید به أنّه لا یصلح أن یتعلّق حروف الجرّ مطلقاً إلّا بالحدث، کما یدلّ علیه کلام ابن الحاجب، حیث قال في تعریفها: إنّها ما وضعت لإفضاء الفعل أو معناه إلی ما یلیه ففیه:

أوّلاً: أنّه بدیهيّ البطلان لأنّ الإضافات المتکفّلة لها حروف الجرّ مطلقاً - إلصاقاً واستعلاءً واختصاصاً وظرفیّةً وهکذا - کما تتحقّق بین الحدث وما یلیه، فکذلک تتحقّق بین العین وما یلیه، بل بعض أنحائها لا تتعلّق إلّا بالعین، کقولک: المال لزید، فإنّ الإضافة علی وجه الملکیّة إنّما هي بین المال وزید، لا بینه وبین حدثٍ من الأحداث المتعلّقة بالمال.

وثانیاً: أنّه علی فرض صحّته لا یدلّ علی تقدیر المتعلّق فیما إذا کان المبتدأ حدثاً، نحو الحمدلله.

وثالثاً: أنّ المقدَّر عندهم إنّما هو الفعل العامّ وهو: الکون الناقص المنطبق علی نفس النسبة، فلیس المقدَّر بحسب المعنی إلّا نفس النسبة المستفادة من الحرف، فلا یدلّ علی حدثٍ آخر سواها حتّی یصلح لتعلّق الحرف به. وهذا معنی ما قیل: إنّ الفعل الناقص لا یدلّ علی الحدث.

وإن اُرید به خصوص النسبة الظرفیّة، ففیه - مضافاً إلی الوجوه المتقدّمة -: أنّه لو تمّ لا یثبت المدّعی لأنّه أعمّ منها.

وأمّا الثاني، فلما ظهر لک: من أنّ موجد العمل إنّما هو المتکلّم، والمقتضي له إنّما هي المعاني المعتورة علی الکلمة: من خصوصیّات الترکیب وکیفیّات الاستعمال. واللفظ إنّما یسند إلیه العمل في اصطلاحهم إذا تقوّم المعنی المقتضي به، والمعنی المقتضي لانتصاب الظرف إنّما هي الظرفیّة المعتورة علیه، وهي إنّما تتقوّم وتتحصّل باستعماله في مقام الظرفیّة لا بالفعل العامّ المقدَّر وما في معناه - کما هو ظاهر -

ص: 204

فالالتزام بالتقدیر لتحصیل الناصب غلطٌ لا وجه له.

هذا حال الظرف، وأمّا المجرور فلا یکون منصوباً لفظاً ولا محلّاً حتّی یحتاج إلی ناصب، وما یتخیّل: من الاستدلال علیه بنصبه بعد نزع الخافض عنه، في غیر محلّه؛ لأنّ الأسماء المدّعی کونها کذلک منصوبةٌ علی المفعولیّة - تحقیقاً أو علی سبیل التوسّع - علی ما سیظهر لک تفصیله، ولو سلّم انتصابه محلّاً فهو إنّما یکون باعتوار معنی الإضافة المتقوّمة بالحرف لا بالفعل المقدّر، کما هو ظاهر.

وإذ قد اتّضح لک ما بیّناه: من فقد الدلیل علی التقدیر لفظاً ومعنی، اتّضح لک فساد القول بالتقدیر؛ إذ لا یصحّ التقدیر إلّا بعد قیام الدلیل علیه حالاً أو مقالاً، بل قد عرفت سابقاً أنّ مرجع تقدیر اللفظ إلی دلالة الدلیل الحالي أو المقالي علی المعنی، ومجرّد صحّة قیام قولک: «زیدٌ کائنٌ في الدار» مقام قولک: «زیدٌ في الدار» لا توجب رجوع أحدهما إلی الآخر بحذفٍ وتقدیر، وإلّا لزم أن یرجع قولک: «زیدٌ ضاربٌ» إلی قولک: «زید حيٌّ ویقظانٌ وضاربٌ» لصحّة قیامه مقامه. مع أنّه إن اُرید من صحّة قیام أحدهما مقام الآخر صحّته بعد الغمض والصفح عن الخصوصیّات الفارقة فصحیحٌ غیر نافع، وإلّا لا یصحّ قیام أحدهما مقام الآخر؛ لأنّ الظرف في الاُولی فضلةٌ، وفي الثانیة عمدةٌ، وغیر خفيٍّ أنّ کون الکلمة رکناً وفضلةً ناشٍ من اختلاف نظر المتکلّم، فلا یصحّ قیام أحدهما مقام الآخر مع عدم إلغاء الخصوصیّة المنظورة.

هذا، ویدلّ علی بطلان ما توهّموه - أیضاً - أنّه إن اُرید بالکون المقدّر «الکون الناقص الربطي» کما هو مقتضی کونه من أفعال العموم فلا حاجة إلیه؛ لاستفادته من حرف الجرّ، بل لا یصلح لصیرورته متعلّقاً له إلّا علی وجه التأکید؛ لأنّ مفاده عین مفاد الحرف. وإن اُرید منه «الکون الأصیل» ففیه: أنّه علی خلاف

ص: 205

الواقع؛ إذ لا یتقیّد وجود زید ب-«الدار» مثلاً، وإلّا لزم انتفاء وجوده في غیرها. ویدلّ علیه أیضاً أنّ الکون المقدَّر إن کان تامّاً ففیه ما عرفت، وإن کان ناقصاً یلزم کونه خبراً لنفسه إن کان الظرف متعلّقاً به، وإلّا لزم التسلسل في التقدیر.

فإن قلت: تعلّق الظرف بنفس المبتدأ یوجب صیرورته من قیوده و متعلّقاته، فیلزم أن لا یصحّ السکوت علیهما؛ لأنّ الکلام إنّما یتمّ بالإسناد التامّ لا بالنسبة التقییدیّة التعلّقیّة.

قلت: تعلّق الظرف کما یقع علی وجه التقیید کذلک یقع علی وجه الإسناد، فلا ینحصر في الأوّل؛ فإنّ التعلّق الإضافي کالتعلّق الاتّحادي والحدوثي لا ینحصر في التقیید، بل الأصل فیه التمام کأخویه.

ثمّ إنّه إن قلنا بتقدیر المتعلّق فالخبر هو المقدّر، فما قیل: من أنّه المجموع - کالقول بأنّه الظرف - فاسدٌ لمنافاته مع الحکم بالتقدیر ولو لداعٍ لفظي.

وما قیل: من أنّ المراد من التقدیر اعتبار الفعل ن حیث ارتباط الظرف به لا تقدیره في نظم الکلام حتّی یلزم أن یکون المحذوف خبراً وإنّما الخبر هو نفس الظرف متناقض الصدر والذیل؛ لأنّ ارتباط الظرف به موجبٌ للتقدیر في النظم، فالحکم بارتباط الظرف به مع الحکم بعدم التقدیر متهافتان.

ثمّ إنّ القول بانتقال الضمیر المستتر في الفعل إلی الظرف في غایة السخافة؛ لأنّ مرجع استتار الضمیر في الفعل - کما اتّضح لک مراراً - إلی دلالة الفعل علی الفاعل المعبّر عنه بالمعنی المنويّ معه، فلا یکون في البین لفظٌ حتّی یصحّ انتقاله عن الفعل إلی الظرف.

ثمّ إنّهم اتّفقوا علی أنّه إن قدّر فعلاً فهو جملةٌ، وإن قدّر اسم فاعلٍ فهو مفرد. وهو توهّم باطل أیضاً؛ لما ظهر لک: من أنّ الفاعل المستتر لیس لفظاً حتّی ینعقد

ص: 206

الترکیب بینه وبین الفعل ویصیر المجموع جملة.

﴿ولا﴾ یقع الخبر ﴿جملةً﴾ إلّا إذا اتّحدت مع المبتدأ وانطبقت علیه، نحو قولي الحمدلله، ونطقي حسبي الله، فإنّ الجملتین فیهما عبارةٌ عن المقول والمنطوق، وهما متّحدان مع القول والنطق؛ ضرورة اتّحاد المقول والمنطوق مع القول والنطق. وأمّا نحو: زیدٌ أبوه قائمٌ أو قام أبوه أو في الدار أبوه، فلا تتّحد الجملة فیه مع الاسم المتقدّم، فلا تکون خبراً عنه، بل لا تکون مسندةً مطلقاً؛ إذ لو کان بینها وبین الاسم المتقدّم إسنادٌ لکان اتّحادیّاً أو حدوثیّاً أو إضافیّاً - لما ظهر لک من انحصاره في الثلاثة - وانتفاء الجمیع في المقام بیّنٌ. مع أنّ الأخیرین إنّما یتحصّلان بالهیئة الاشتقاقیّة الفعلیّة وحرف الجرّ المنتفیین فیها.

ویدلّ علی انتفائه - أیضاً - أنّه لو ثبت إسنادٌ بینهما لزم تکرّر لفظة «است» الدالّة علی الإسناد في ترجمته بالفارسیّة، وأنّ الإسناد یختصّ بالمفهوم المستقلّ الاسميّ، ولاجملة باعتبار اشتمالها علی الإسناد لا تکون مستقلّةً، فلا تقبل الإسناد.

وتوهّم تأویلها إلی المرکّب الناقص التقییدي القابل لوقوعه طرفاً للإسناد: من قائم الأب ونحوه، في غیر محلّه؛ وإلّا لزم صحّة وقوعها مسندً إلیها أیضاً.

مع أنّ التأویل إلی الناقص إن کان من قِبَل الإسناد ففیه:

أوّلاً: أنّه لا یصلح لجعلها ناقصةً، وإنّما الموجب لنقصها صیرورتها قیداً لإسنادٍ أو أحد طرفیها.

ثانیاً: أنّهما لا تقبل النقص الذي هو من قبیل نقص الترکیب التقییدِي، وإلّا لخرجت عن کونها جملةً، فهي وإن کانت ناقصةً لا تقع طرفاً للإسناد، کالمرکّب التقییدي.

وإن لم یکن من قِبَله، ففیه: أنّه لیس في البین ما یصلح للتأویل سواه، ومعلومٌ

ص: 207

أنّ التأویل بلا سببٍ وداعٍ له وجه له.

لا یقال: إنّ ربط الجملة إلی المفرد لا یکون من قبیل إسناد المفرد حتّی ینحصر في الأقسام الثلاثة المنتفیة فیها، وإنّما یکون ربطها إلیه علی وجهٍ آخر، والدالّ علی هذا النحو من الربط الضمیر وما بمنزلته، ولذا قالوا: إنّ الجملة الخبریّة لا بدّ لها من رابطٍ یربطها إلی المبتدأ، وهو إمّا اشتمالها علی ضمیره نحو: زید أبوه قائم، أو علی إشارةٍ نحو (ولباس التقوی ذلک خیر)(1) أو علی نفسه نحو (الحاقّة ما الحاقّة)(2) أو علی جنسٍ شاملٍ له نحو: زید نعم الرجل.

لأنّا نقول: أوّلاً: الخبر مطلقاً عندهم من قبیل المسند به؛ ولذا اعتبروه في تعریف.

وثانیاً: أنّ الضمیر وما بمنزلته اسمٌ فلا یعقل أن یکون رابطاً، بمعنی کونه بسبباً لحدوث معنیً حرفيٌّ أي نسبة بینها وبین الاسم المتقدّم مطلقاً ولو علی وجهٍ آخر.

وثالثاً: أنّ الضمیر عین المبتدأ، فلا یعقل أن یحدث به النسبة بینه وبین الجملة التي هو جزؤها.

ورابعاً: أنّ الربط الذي یتحقّق بالضمیر وما بمنزلته لو کان کافیاً في تحقّق الخبریّة لزم أن یکون الجملة المشتملة علیه خبراً مطلقاً مع أنّها قد تقع عندهم خبراً وحالاً وصفةً وهکذا، فعلم أنّ وقوعها خبراً عندهم إنّما هو باعتبار تحقّق الإسناد الذي هو أمرٌ آخر وراء الربط المتحقّق بالضمیر وما بمنزلته.

فإن قلت: قد أوضحت مراراً أنّ النسبة في حدّ ذاتها تامّة، والنقص إنّما

ص: 208


1- سورة الأعراف، الآیة 26.
2- سورة الحاقّة، الآیة 1 و 2.

یعرض علیها من قِبَل صیرورة طرفیها أو أحدهما قیداً وتبعاً، فهو مسبوقٌ بالتمام ومتفرّعٌ علیه، فالنسبتان في الحقیقة واحدةٌ والاختلاف إنّما هو باختلاف نظر المتکلّم ولحاظه، فالتمامیّة إنّما تنتزع من النظر الذاتي الأصیل إلیها، کما أنّ النقص إنّما ینتزع من النظر التبعی التقییدي إلیها، ولا شبهة في أنّ هذا الانتزاع والتفرّع جارٍ في کلّ نسبةٍ ناقصة، ولا اختصاص له ببعضٍ دون بعض. وما اشتهر - من أنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبارٌ، والأخبار بعد العلم بها أوصاف - تنبیهٌ علی بعض موارده لا تبیینٌ لاختصاصه به؛ ضرورة أنّ الترکیب الإضافيّ - کالترکیب التوصیفي - یتنفرّع علی الترکیب الخبريّ أیضاً؛ بداهة أنّه کما لا ینبغي قولک: «زید الضارب» إلّا بعد العلم بأنّه ضاربٌ، کذلک لا ینبغي قولک: «علام زید» إلّا بعد العلم بأنّ له غلاماً؛ ولذا تری أنّ الإضافة إنّما تکون مع العهد غالباً، ولا ریب أنّ الجملة تقع طرفاً للنسبة الناقصة، وتصیر قیداً وتبعاً لأمرٍ آخر؛ ومن هنا یعرض علیها النقص لأنّها في حدّ ذاتها تامّةٌ ولا وجه لنقصها إلّا صیرورتها طرفاً للنسبة وقیداً لأمرٍ آخر، بل لا ریب في وقوعها صفةً ومضافاً إلیها، کما تشهد به موارد الاستعمالات؛ إذ لو لم تقع مضافاً إلیها لم یکن لحذف التنوین من «یوم» في قوله - عزّ من قائل -: (والسلام عليَّ یوم وُلدت ویوم أموت ویوم اُبعث حیّاً)(1) وهکذا وجهٌ. ووقوعها کذلک لا ینفکّ عن ووقوعها محلّاً للإسناد وخبراً - لما عرفت - بل عن وقوعها محکوماً علیها أیضاً؛ لأنّ المضاف إلیه في الحقیقة محکومٌ علیه.

قال ابن الحاجب: المضاف إلیه في المعنی المحکوم علیه؛ لأنّه المسند إلیه أوّلاً، فإنّ قولک: «غلام زید» في معنی قولک: زید له غلام أو مالک غلام، انتهی.

ص: 209


1- سورة مریم، الآیة 33.

قلت: مرجع وقوع الجملة قیداً لأمرٍ آخر إلی صیرورة الإسناد الثابت بین طرفیها قیداً وتبعاً له، لا إلی حدوث نسبةٍ جدیدةٍ بینها وبین المقیّد بها حتّی یدلّ علی جواز وقوعها طرفاً للإسناد، فمرجع إطلاقها إلی بقاء الإسناد الثابت بین طرفیها علی حالته الأصلیّة وعدم عروض نقصٍ علیه، لا إلی ثبوت إسنادٍ لها وراءه، کما أنّ مرجع تقیّدها إلی عروض النقص علیه، لا إلی حدوث نسبةٍ جدیدةٍ بینها وبین أمرٍ آخر.

والحاصل: أنّ صیرورة الجملة قیداً وإن کان معنی حرفیّاً ومن سنخ النسبة إلّا أنّه لیس نسبة مستقلّة، بل کیفیّةً للإسناد الثابت بین طرفیها الموجبة لنقصه، فإطلاقها یرجع إلی عدم طروّ الکیفیّة الموجبة لنقصان إسنادها، لا إلی ثبوت إسنادٍ وراء الإسناد الثابتبین طرفیها.

هذا، مع أنّ ما ذکر: من انتزاع کلّ نسبةٍ ناقصةٍ من نسبةٍ تامّة في غیر محلّه.

توضیح الحال: أنّ الإسناد التامّ وإن کان أصلاً لسائر النسب وهي فروعٌ وتوابع له، ولکنّها تختلف في التبعیّة والتفرّع:

فمنها: ما تتفرّع علیه تفرّع الأمر المنتزع من منشأ انتزاعه، کالتوصیف والإضافة الثابتین بین المفردین، کما أو ضحناه لک سابقاً.

ومنها: ما تتفرّع علیه تفرّع التابع علی متبوعه من دون أن ینتزع أحدهما من الآخر، کنسب متعلّقات الإسناد: من المفعول والزمان والمکان والآلة والعلّة وهکذا، فإنّ النسب الناقصة في قولک: «ضربت زیداً بالسیف في الدار یوم الجمعة للتأدیب» متأخّرةٌ وتابعةٌ لإسناد الحدث إلی فاعله، ولا تکون منتزعةً منه - کما هو ظاهر - ولا من إسنادٍ آخر؛ لکونها علی صفة النقص أوّلاً فلا تنتزع من إسنادٍ تامّ، ولذا یصحّ تفریع النسبة التامّة فیه وفي نظائره علی النسبة الناقصة، فنقول: ضربت

ص: 210

زیداً فضُرب، وکسرت الکوز فانکسر، وضربت في الدار فهي محلٌّ له، وضربت للتأدیب فهو سببٌ له - وهکذا - ولو کان التمام في هذه المواضع قبل النقص لم یصحّ التفریع المذکور، فالنقص فیها ذاتيٌّ والتمام ینتزع من نظرٍ زائد.

وکشف الستر عن وجه هذا السرّ: أنّ هذه النسب متأخّرةٌ وتابعةٌ في الأصل لإسناد الحدث إلی فاعله، ویستحیل أن تستقلّ بنفسها؛ فإنّ ربط الحدث إلی المفعول والظرف والآلة والعلّة - وهکذا - إنّما یتحقّق بحدوث الحدث من فاعله، کما هو ظاهر. فهذه النسب تابعةٌ في الأصل لإسناد الحدث إلی فاعله، ولا تکون واقعةً في عرضها وقبالها. فالنظر الذاتي الأصیل فیها هو النظر التبعي التعلّقي، کما أنّ النظر التبعي العرضي فیها هو النظر الاستقلالي العرضي، فیتأخّر التمام فیها عن النقص وینتزع منه، ویصحّ تفریع التامّة فیها علی الناقصة دون الکعس.

ومنها: ما تتفرّع علیه وتتبعه تفرّع الکیفیّة عی المتکیّف بها، کتقیید إسناد إحدی الجملتین بالآخر، کقولک: إن ضربت ضربت، ومن هذا القبیل تقیید المسند إلیه بالحال، وتوصیف المفرد بالجملة وإضافته إلیها؛ فإنّ التقیید في الأوّل یرجع إلی تقیید الإسناد بالحال، وفي الثاني إلی صیرورة الإسناد قیداً للمفرد، وعلی کلا التقدیرین یرجع التقیید إلی کییّةٍ للإسناد، والنسبة التامّة في هذه الموارد إنّما تنتزع من لحاظ المتکلّم النسب التقییدیّة علی خلاف وجهتها الأصلیّة الأوّلیّة؛ ضرورة أنّ النظر الأصیل الذاتي فیها إنّما هو التقیید. فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّ صیرورة الجملة قیداً لأمرٍ آخر لا تکشف عن جواز وقوعها خبراً وطرفاً للإسناد.

فإن قلت: سلّمنا أنّ النسبة في الموارد المزبورظ ناقصةٌ في حدّ ذاتها، ولا تکون منتزعةً من الإسناد التامّ، ولکنّه ینتزع منها الإسناد التامّ - کما بیّنت - فتطرّق النسبة التقییدیّة فیها لا ینفکّ عن تطرّق الإسناد فیها.

ص: 211

قلت: انتزاع الإسناد من التقیید إنّما هو بعد تأویل الإسناد الثابت بین طرفي الجملة إلی اسنبة الناقصة التقییدیّة، فلا ینتزع الإسناد من التقیید الثابت بین الجملتین في قولک: «إن ضربتَ ضربتُ» إلّا بعد تأویلهما بالمصدر المضاف، فیقال: ضربک سببٌ لضربي، فمع بقاء الجملة علی حالها وعدم التصرّف فیها برجوعه إلی المصدر المضاف - کما هو المفروض - لا یعقل أن تقع طرفاً للإسناد.

وقد ظهر بما بیّنّاه فساد ما اشتهر بینهم: من تأوّل الجملة المضاف إلیها بالمفرد، استنادً إلی أنّ المضاف إلیه في معنی المحکوم علیه؛ لأنّه علی فرض صحّته یختصّ بما إذا کان مفرداً لا جملة، لما اتّضح لک: من أنّ الإضافة إلی الجمة ترجع إلی تقیّدٍ في الإسناد، لا إلی نسبةٍ ناقصةٍ منتزعةٍ من التامّة، مع أنّه باطلٌ - أیضاً - لما عرفت من انتزاع الترکیب الإضافي المصطلح من الإسناد الإضافي، فقولک: «غلام زید» منتزع من «لزیدٍ غلامٌ» لا من «زیدٌ مالک غلام» کما توهّمه ابن الحاجب.

وها هنا أمر ینبغي التنبیه علیه وهو: أنّ الجمهور فصّلوا بین «زید أبوه قائم» و «زید قائم أبوه» فجعلوا الخبر في الأوّل جملةً، وفي الثاني جائز الوجهین: مفرداً بجعل اسم الفاعل خبراً وأبوه فاعلاً له، وجملةً بجعله مبتدأً واسم الفاعل خبراً مقدّماً والمجموع خبراً عن المبتدأ المقدَّم. ولکنّه عندي غلطٌ؛ لأنّ جعل اسم الفاعل خبراً عن «زید» یقتضي وقوعه محمولاً له، وإسناده إلی «أبوه» علی وجه الفاعلیّة یقتضي وقوعه محمولاً له أیضاً فیلزم ثبوت القیام لها، وبطلانه في غایة الوضوح، مع انّ ترتّب إسناده إلی فاعله علی إسناده إلی المبتدأ مستلزمٌ لثبوت القیام الثابت له للفاعل، وهو أظهر فساداً من الأوّل، فیتعیّن حینئذٍ جعل الخبر جملةً في المقامین بناءً علی ما زعموه: من جواز وقوع الجملة خبراً، وأمّا علی ما بنینا علیه وشیّدنا بنیانه - بحیث لا یبقی فیه ریبٌ لمن له أدنی مسکة - فیجب جعل «زید» توطئةً لمرجع

ص: 212

الضمیر في المثالین، أو جعله مبتدأً وأبوه بدلاً تعلّقیّاً عنه في الأوّل، بل الثاني أیضاً، بناءً علی جواز الفصل بینه وبین المبدل بالخبر، کما هو المختار.

فإن قلت: ما الوجه في ارتفاع الاسم المقدَّم إذا جعل توطئةً لمرجع الضمیر ولم یجعل مبتدأ؟

قلت: الأصل في الإعراب الرفع، ولا حاجة له إلی سببٍ سوی الترکیب، وإنّما المحتاج إلیه خلافه، فالکلمة في مقام الترکیب تستحقّ الرفع إلّا أن یعتورها معنیً یقتضي النصب أو الجرّ؛ ولذا یجوز رفع «زید» في نحو «زید ضربته» مع أنّه لا یکون مبتدأً قطعاً. وعدم تنبّه القوم له لا یدلّ علی بطلانه بعد قیام الدلیل ومساعدة استعمالات أهل اللسان علیه. نعم، یصعب التصدیق به علی من غلب علیه التقلید، ولا یهمّنا مخالفته؛ لأنّ تکلّمنا إنّما هو مع أهل النظر والاستدلال.

﴿ولا یستتر فیه الضمیر مطلقاً﴾ وإن کان مشتقّاً؛ لأنّ مرجع استتاره إلی استفادة المسند إلیه من المسند تبعاً للإسناد والتزاماً، وهي إنّما تتحقّق بتوسّط هیئة الفعل.

توضیح الحال: أنّ الإسناد لا بدّ له من طرفین - مسند إلیه وبه - فإن کانت الهیئة المتکفّلة له هیئةً اشتقاقیّةً عارضةً علی أحد الطرفین، کهیئة الفعل العارضة علی المادّه الدالّة علی إسنادها إلی المسمّی قیاماً أو وقوعاً، تستتبع الدلالة علی الطرف الآخر، وهو الفاعل المعیبن أو فاعلٌ ما.

وإن کانت الهیئة المتکفّلة له هیئةً ترکیبیّةً عارضةً علی الطرفین ومتقوّمةً بها، کالهیئة الترکیبیّة المفیدة للحمل والاتّحاد، فاستتباع الدلاة علی أحد طرفي الإسناد غیر متصوّرٍ حینئذٍ؛ لأنّهما مذکوران في القضیّة اللفظیّة، واستتباع الدلالة علی أمرٍ ثالثٍ خارجٍ عن الطرفین أظهر فساداً. فما أطبقت علیه کلمتهم: من استتار الضمیر

ص: 213

في الخبر إذا ان مشتقّاً ولم یرفع ظاهراً نحو «زیدٌ قائمٌ» في غایة السخافة؛ لأنّ المستتر فیه إن اُخذ طرفاً للإسناد الخبري الحملي فهو أوّلاً: خلاف المفروض من کون الوصف خبراً عن المبتدأ. وثانیاً: غیر متصوّرٍ لأنّ الإسناد الخبري الحملي إنّما یتحقّق بالهیئة الترکیبیّة المتقوّمة بالطرفین المذکورین، ولا یعقل قیامه بأحدهما حتّی یستتبع الدلالة علی الطرف الآخر - کهیئة الفعل - ولا إسناد سوی الإسناد المتحقّق من قِبَل الهیئة الترکیبیّة حتّی یجعل طرفاً له، بل لا یعقل وجود إسنادٍ آخر؛ إذ الکلمة الواحدة لا تقبل إسنادین في استعمالٍ واحد، وإن لم یؤخذ طرفاً للإسناد فالقول باستتاره أقبح وأشنع، کما هو ظاهر.

فإن قلت: المشتقّ بهیئته الاشتقاقیّة یدلّ عل نسبة الحدث إلی ذاتٍ ما - قیاماً أو وقوعاً - علی وجه یتحصّل منهما عنوانٌ وحدانيٌّ علی الذات، فهو بهیئته الاشتقاقیّة یدلّ علی ذاتٍ ما تبعاً والتزاماً، فصحّ ما اتّفقوا علیه: من استتار الضمیر في الخبر إذا کان مشتقّاً.

قلت: أوّلاً: إنّهم لم یریدوا ذلک، ولو أرادوا ذلک لزم التزامهم بالاستتار أبداً، لا إذا وقع خبراً أو صفةً أو حالاً.

وثانیاً: إنّ النسبة المستفادة من الهیئة نسبةٌ ناقصةٌ تقییدیّةٌ، والقوم مصرّحون بأنّ المستتر هو فاعله الذي اُسند إلیه هو.

وثالثاً: إنّ الذات المستفادة من الوصف باعتبار انطباق العنوان علیه لا یسمّی مستتراً فیه.

فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّ القول باستتار الضمیر في الخبر إذا کان مشتقّاً ولم یرفع ظاهراً بمکانٍ من الوهن والبطلان وإن اتّفقوا علیه.

لا یقال: کیف تجتري علی مخالفة جمیع علماء الفن في خرق اتّفاقهم مع أنّ

ص: 214

اتّفاقهم في الإخبار عن استعمالات أهل اللسان وما یرجع إلیها حجّةٌ بالضرورة؟

لأنّا نقول: إخبارهم إنّما یکون حجّةً في المسائل الحسّیّة المستفادة من استقراء کلمات أهل اللسان، وأمّا النظریّة فلا، والمرجع فیها إنّما هو الدلیل، ومسئلة الاستتار من المسائل النظریّة التي نسجوها بأنظارٍ غیر صحیحة. ثمّ إنّا لو سلّمنا الاستتار في الأخبار المشتقّة لزم القول به في الأخبار الجامدة أیضاً - کما ذهب إلیه الکوفیّون - لأنّ الاستتار لو ثبت فإنّما هو من ناحیة الإسناد، فلا یتفاوت الحال فیه بالجمود والاشتقاق، فالتفصیل بینهما کما ذهب إلیه أکثر البصریّین وتبعهم الجمهور في غیر محلّه أیضاً.

﴿ویجب أن یؤتی به﴾ أي الضمیر - یعني ضمیر المبتدأ - في طرف الخبر ﴿إذا جری﴾ الخبر ﴿علی غیر من هو له وخیف اللبس﴾ أي تلا غیر من هو له، کقولک: زیدٌ عمروٌ ضاربه هو، فلو لم یؤت بالضمیر المرفوع خیف لبس غیر من هو له بمن هو له. وأمّا إذا أمن اللبس، کقولک: زیدٌ هندٌ ضاربها، فلا یجب الإتیان به وإن کان أولی.

وإنّما عبّرت ب-«الإیتاء به» لا ب-«الإبراز» تنبیهاً علی أنّ ذکر الضمیر حینئذٍ إتیانٌ به ابتداءً لا إبراِزٌ لما استتر، کما توهّموه.

﴿والأصل في المبتدأ﴾ أي ما یقتضي أن یکون علیه من حیث أنّه مبتدأ ﴿التقدیم﴾.

﴿ویجب ذلک﴾ أي التقدیم الذي هو الأصل ﴿إذا استوجب التصدیر﴾ إمّا بنفسه نحو من أبوک؟ أو بسببٍ: من اقترانه بلام الابتداء نحو: لزید قائمٌ، أو إضافته إلی ما له الصدر نحو: فتی مَن وافدٌ؟ ﴿أو کانا﴾ أي المبتدأ والخبر ﴿معرفتین﴾ نحو زیدٌ صدیقک ﴿أو مستاویین في التخصیص﴾ نحو أفضل منک

ص: 215

أفضل منّي ﴿وخیف اللبس﴾ بالتأخیر، فإن أمن اللبس جاز التأخیر نحو: بنونا بنو أبنائنا ﴿أو کان الخبر محصوراً فیه﴾ کإنّما زیدٌ شاعرٌ، وما زیدٌ إلّا شاعرٌ.

﴿و﴾ یجب ﴿تقدیم الخبر﴾ علی المبتدأ الذي هو خلاف الأصل ﴿إذا استحقّ التصدیر﴾ محو: أقائمٌ زیدٌ أو قاعدٌ؟ ومن أبوک؟ علی مذهب بعض النحاة: من کون اسم الاستفهام خبراً مقدَّماً ﴿أو کان المبتدأ محضوراً فیه﴾ نحو: ما فقیهٌ إلّا أنت، وإنّما الشاعر أنت.

﴿ویجوز الاکتفاء بکلٍّ منهما﴾ أي المبتدأ والخبر ﴿عن﴾ الجزء ﴿الآخر مع العلم به﴾ لدلیلٍ یدلّ علیه ﴿کقولک: «سالم» في جواب﴾ السائل ﴿کیف زید؟ و «زید» في جواب﴾ السائل ﴿أزیدٌ قائم أم عمروٌ؟﴾.

وإنّما عبّرت ب-«الاکتفاء» لا ب-«الحذف» تنبیهاً علی عدم تقدیر لفظٍ في نظم الکلام، وأنّ الإفادة کما تتحصّل من ترکیب لفظین تتحصّل من ترکیبه مع ما یقوم مقامه: من دلیلٍ حاليٍّ أو مقالي.

﴿ویستغنی به﴾ أي المبتدأ ﴿عن الخبر﴾ في أربعة مواضع:

أحدها: ﴿بعد لولا﴾ الامتناعیّة ﴿غالباً﴾ أي في القسم الغالب منها، لأنّها علی قسمین: قسمٌ یمتنع فیه جوابها بمجرّد وجود المبتدأ وهو الغالب، وقسمٌ یمتنع لنسبة الخبر إلی المبتدأ وهو قلیل.

فأوّل ﴿نحو لو لا عليٌّ (علیه السلام) لهلک عمر﴾(1) لا خَبَرَ للمبتدأ فیه؛ لأنّ وجود الشيء لیس أمراً زائداً علیه في الخارج، بل هو عینه خارجاً وواقعاً وإن کان زائداً علیه تصوّراً وتحلیلاً، فامتناع الجزاء حینئذٍ کما یصحّ انتسابه إلی وجوده بلحاظ

ص: 216


1- الاستیعاب 3: 39، ومناقب الخوارزمي: 48.

المغایرة معه تحلیلاً یصحّ انتسابه إلی نفسه بلحاظ اتّحاده معه تحقیقاً. فما اشتهر بینهم: من تقدیر الخبر والالتزام بوجوب حذفه لا وجه له.

والثاني ما لا یستغنی المبتدأ فیه عن الخبر نحو قوله (صلی الله علیه و آله) : «لو لا قومک حدیثو عهدٍ بالإسلام لهدمت الکعبة وجعلت لها بابین».(1) نعم، یجوز حذف الخبر حینئذٍ إذا دلّ علیه دلیلٌ.

﴿و﴾ ثانیها: ﴿إذا کان مصدراً أو﴾ في حکمه، کما إذا کان اسم تفضیل ﴿مضافاً إلیه﴾ إذ اسم التفضیل من جنس المضاف إلیه أبداً ﴿قبل حالٍ لا یخبر بها عنه نحو: ضربي زیداً قائماً﴾ وذهابي راکباً، وأکثر شربي السویق ملتوتاً ﴿وأخطب ما یکون الأمیر قائماً﴾ فإنّه لمّا کان الغرض من استعماله في التراکیب المذکورة الإخبار عن حدوثه في حالٍ مخصوصةٍ، لا إسناد شيءٍ إلیه، والحدوث لیس أمراً زائداً علی الحدث، اکتفي بذکره مجرّداً عن الخبر واستغنی عنه به. وإلی ذلک ینظر ما ذکره بعضهم: إلی أنّه لا خبر له لکونه بمعنی الفعل إذ المعنی ما أضرب زیداً إلّا قائماً.

وما اشتهر بینهم: من أنّ تقدیره «ضربي زیداً حاصلًٌ إذا کان قائماً» فحذف «حاصل» کما یحذف متعلّقات الظروف نحو: زید عندک، فبقي «إذا کان» ثمّ حذف «إذا» مع شرطه العامل في الحال، واُقیم الحال مقام الظرف لأنّ في الحال معنی الظرفیّة، فلاحال قائمٌ مقام الظرف القائم مقام الخبر، فیکون الحال قائماً مقام الخبر، غلطٌ؛ لأنّ التقدیر المزبور موجبٌ لانقلاب الحال خبراً ل-«کان» إذ لا مجال لجعله حینئذٍ تامّاً؛ لأنّ مفاده کون الشخص علی صفة القیام لا خروجه عن کتم العدم إلی

ص: 217


1- کنزالعمّال 12: 202، الحدیث 34666، وفیه بدل «بالإسلام» : بالجاهلیّة.

الوجود في الخارج الذي هو مفاد الکون التامّ، مع أنّ مرجع الحذف کما عرفت إلی دلالة دلیلٍ - من حالٍ أو مقام - علی إرادة المتکلّم معنیً من المعاني والاکتفاء به عن اللفظ، ولا دلیل في المقام یدلّ علی إرادة أزید بمن معنی الحدوث في المقام، علی أنّ حذف «إذا» مع الجلمة المضاف إلیها لم یثبت في غیر هذا المقام، کما نبّه علیه الرضي (قدس سره) .

﴿و﴾ ثالثها: ﴿إذا کان صریحاً في القَسَم﴾ نحو: لعمرک لأفعلّن، فإنّه صریحٌ في القَسَم؛ لعدم استعماله إلّا في مورد القسم، فهو معنیً حرفيٌّ ووجهٌ من وجوه استعمال الاسم مستفادٌ من الحرف مرّةً کما في قولک: بالله وتالله، ومن خصوصیّة الاستعمال تارةً کما في المقام، فلا یستقلّ بالمفهومیّة حتّی یجعل خبراً ویلتزم بحذفه، فالمبتدأ حینئذٍ لا خبر له لاستغنائه عنه.

واعلم أنّ العمر بفتح الفاء وضمّه بمعنیً واحد، ولا یستعمل مع اللام إلّا المفتوح؛ لأنّ القَسَم موضع التخفبف لکثرة استعماله.

﴿و﴾ رابعها: إذا کان ﴿ معطوفاً علیه بواوٍ صریحٍ في المصاحبة نحو: کلّ رجلٍ وضعیتَه﴾ فإنّ المقصود من أمثال هذا الترکیب الإخبار بالمقارنة بین المتعاطفین، وهي تستفاد من خصوصیّة المورد، فلا حاجة للمبتدأ إلی خبرٍ حینئذٍ، فلا وجه لما اشتهر بینهم: من تقدیر الخبر حینئذٍ والقول بوجوب حذفه.

واعلم أنّ الضیغة - بفتح الفاء - الحرفة، سمّیت بذلک لأنّ الإنسان یضیع بترکها.

﴿وقد یتعدّد الخبر نحو: زید عالمٌ عاقلٌ﴾.

ص: 218

الباب الثالث: في المضاف

﴿وهو ما اُسند علی معنی حرف الجرّ﴾ سواء کان بتوسّط حرف الجرّ ﴿نحو زیدٌ في الدار﴾ والمال لزیدٍ، أم لا نحو: کلامي عند الأمیر ﴿وصلاتي خلف العادل﴾ خرج بقید الإسناد المضاف الشائع في ألسنتهم وهو المنسوب بالنسبة الناقصة التقییدیّة نحو: غلام زیدٍ، وبالقید الأخیر الخبر والمسند بالإسناد الحدوثي.

﴿وهو مرفوعٌ ب-﴾ المعنی المعتور علیه وهو ﴿کونه مضافاً﴾ إن تمحّض فهی کالمثالین المتقدّمین، وإلّا یعرب حسب ما یقتضیه الترکیب الذي وقع فیه، وأمّا المضاف إلیه فإن کانت الإضافة إلیه بتوسّط حرف الجرّ فهو مجرورٌ، وإلّا فمنصوب.

﴿و﴾ اعلم أنّ ﴿درجه﴾ أي المضاف ﴿في المبتدأ أو الفاعل﴾ بقلب العنوان ﴿وجعله مسنداً إلیه والمضاف إلیه مسنداً به بتأویله إلی مقدَّر من فعل﴾ عامٍّ أو خاصّ ﴿أو شبهه غلطٌ﴾ فاحش ﴿لأنّ الترکیب ناظرٌ إلی الإضافة﴾ أضالةً ﴿والتقدیر یوجب انقلاب النظر﴾ الأصیل ﴿إلی الحدوث أو الاتّحاد﴾ وصیرورة النظر إلی الإضافة تبعیّاً تقییدیّاً؛ فإنّ الإضافة في الترکیب إنّما تکون إسنادیّةً تامّةً موجبةً للإفادة وتمامیّة الکلام بطرفیها، وبالتقدیر تخرج عن الإسناد التامّ وتصیر قیداً للإسناد الحدوثيّ أو الاتّحاديّ الذي یتمّ الکلام بطرفیه ﴿مع عدم دلیلٍ﴾ یدلّ ﴿علی﴾ التأویل و ﴿التقدیر﴾ وتوهّم الاحتیاج إلیه بحسب المعنی أو اللفظ قد ظهر لک فساده مفصّلاً ﴿علی أنّه لو سلّم﴾ التقدیر ﴿لزم درجه في الخبر إذا کان﴾ المضاف من حیث إنّه مضافٌ ﴿مجهولاً والمضاف إلیه﴾ من حیث

ص: 219

إنّه مضافٌ إلیه ﴿معلوماً﴾.

توضیح الحال: أنّه کما یجعل المجهول ثبوته للشيء عند المخاطب في اعتقاد المتکلّم من طرفي الإسناد الحمليّ خبراً وذلک الشيء المعلوم مبتدأً، فیقال لمن عرف زیداً باسمه وشخصه ولم یعرف أنّه صدیقه: زید صدیقک: ولمن عرف أنّ له صدیقاً ولم یعرف اسمه: صدیقل زید، بتقدیم المعروف منهما وجعله مبتدأً والمجهول خبراً، فکذلک یجب جعل المجهول إضافته عند المخاطب في اعتقاد المتکلّم خبراً والمعروف منهما مبتدأً، بناءً علی ما التزموه: من تقدیر المتعلّق وتأویل المتضایفین إلی المسندین بالإسناد الاتّحادي، فیقال لمن عرف زیداً باسمه وشخصه ولم یعرف أنّه في الدار: زید في الدار، بتقدیم المرفوع وتقدیر «کائنٍ» منکّراً، ولمن عرف أنّ في الدار شخصاً ولم یعرف أنّه زید: في الدار زیدٌ، بتقدیم المجرور وتقدیر «الکائن» معرّفاً، فیکون المبتدأ في الصورتین هو المقدَّم من الجزئین لا خصوص المرفوع منهما، مقدَّماً کان أم مؤخّراً.

فإن قلت: بناءً علی ما ذکرت یکون الظرف والمجرور في حکم المعرفة مرّةً وفي حکم النکرة اُخری، لنیابتهما عن المعرفة تارةً وعن النکرة اُخری مع أنّهما کالجملة في حکم النکرة أبداً.

قلت: بعد الالتزام بالتأویل والتقدیر لا وجه لجعلهما في حکم النکرة دائماً؛ ضرورة أنّه ینافي تقدیر المتعلّق نکرةً مع علم المخاطب بثبوت الإضافة للمجرور والظرف في اعتقاد المتکلّم.

فإن قلت: لو لم یکن الظرف والمجرور خبراً بتقدیر المتعلّق لما جاز عطفهما علی الخبر، ولا عطف الخبر علیهما؛ لأنّ المتعاطفین لا بدّ أن یکونا متّحدین في الترکیب ومحلّ الإعراب، مع أنّه یجوز «زیدٌ قائم وفي الدار» وبالعکس بالضرورة.

ص: 220

قلت: تقارب المتعاطفین في الترکیب وجواز حلول أحدهما محلّ الآخر یکفي في صحّة العطف ولا یجب اتّحادهما في الترکیب تحقیقاً؛ ولذا یجوز عطف المسند بالإسناد الحملي علی المسند بالإسناد الحدوثي نحو: قوله تعالی (یخرج الحيَّ من المیّت ومخرج المیّت من الحيّ).(1)

فإن قلت: یلزم علی ما ذکرت أن یکون الاسم المرفوع في المثال المزبور مسنداً إلیه للخبر ومسنداً إضافیّاً للمجرور، ولا یجوز أن یکون الکلمة الواحدة في ترکیبٍ واحدٍ مسنداً ومسنداً إلیه.

قلت: المعنیان المعتوران أمران اعتباریّان فلا مانع من اجتماعهما علی کلمةٍ واحدةٍ في ترکیبٍ واحدٍ بالنسبة إلی کلمتین مختلفتین ما لم یکن بینهما منافاة.

﴿والأصل فیه﴾ أي المضاف المتقدّم ذکره، وهو المضاف الإسنادي ﴿التقدیم﴾ علی المضاف إلیه، وأمّا المضاف المصطلح وهو المضاف بالإضافة التقییدیّة فیجب تقدّمه علی المضاف إلیه کذلک ﴿ومن ثمَّ﴾ أي ومن أجل أنّ الأصل فیه التقدیم ﴿جاز: في داره زیدٌ﴾ مع عود الضمیر إلی المتأخّر لفظاً؛ لتقدّمه رتبةً، لأصالة التقدّم ﴿وامتنع: صاحبها في الدار﴾ لعود الضمیر إلی المضاف إلیه المتأخّر لفظاً ورتبة.

﴿ویجب ذلک﴾ أي التقدیم الذي هو مقتضی الأصل ﴿إذا استوجب﴾ المضاف ﴿التصدیر﴾ إمّا بنفسه نحو: من في الدار؟ إو بسببٍ نحو: لزیدٌ في الدار، وغلام من عندک؟ ﴿أو کان المضاف إلیه محصوراً فیه﴾ نحو: ما زیدٌ إلّا في الدار، وإنّما زیدٌ في الدار.

ص: 221


1- سورة الأنعام، الآیة 95.

﴿و﴾ یجب ﴿تقدیم المضاف إلیه﴾ علی خلاف الأصل ﴿إذا استوجب التصدیر﴾ نحو: أین زیدٌ؟ ﴿أو عاد علیه ضمیرٌ في المضاف﴾ نحو: في الدار صاحبها، وعلی التمرة مثلها زبداً ﴿أو کان المضاف محصوراً فیه﴾ نحو: إنّما في المسجد زیدٌ، وما فیه إلّا زیدٌ.

تنبیه: ﴿اعلم أنّ الأصل في الإعراب الرفع﴾ ولذا یتّسع فیه ما لا یتّسع في غیره من أنواع الإعراب ﴿فیرتفع ما﴾ لم یعتور علیه معنی من المعاني المقتضیة للإعراب، ولکنّه ﴿في حکم المسند إلیه﴾ المعتور علیه الإسناد المقتضي للرفع نحو: زید أبوه قائمٌ، وزیدٌ ضربته؛ إذ لا إسناد بین الاسم المتقدّم والجملة - کما ظهر لک مفصّلاً - وإنّما ذکر أوّلاً توطئةٌ لبیان حال متعلّقه والإخبار عن الإسناد الثابت بینهما، فلا إسناد بینه وبین الجملة أصلاً في الترکیب المذکور، وإنّما یستتبع الإخبار عنه ببیان حال متعلّقه فیصیر في حکم المسند إلیه فیرتفع ﴿وجوباً إن لم یکن مفعولاً معنیً ک-﴾ المثال المتقدّم وهو ﴿زیدٌ أبوه قائم وإلّا﴾ یکن کذلک بأن کان مفعولاً معنیً ﴿یجوز فیه الرفع﴾ باعتبار أنّه في حکم المسند إلیه ﴿والنصب﴾ باعتبار أنّه مفعولٌ معنیً ﴿کزیدٌ ضربته﴾.

ص: 222

فصل: في نواسخ المسندین وما في حکمهما

اشارة

اعلم أنّ الرتفاع المبتدأ والخبر والفاعل والمضاف علی وجه الاقتضاء لا العلّیّة التامّة، ولا ینافي زواله ونسخه بعارضٍ: من وجود مانعٍ أو مزاحم ﴿وهي﴾ أي النواسخ حسب الاستقرار وتتبّع کلمات أهل اللسان ﴿أربعة﴾ وعدُّها ستّةً بإضافة أفعال المقاربة والأفعال الناقصة إلیها - کما اشتهر بینهم - في غیر محلّه؛ لأنّ المرفوع بهما لا یکون اسماً لهما بل فاعلاً لهما تحقیقاً؛ لما ظهر لک إجمالاً وسیظهر لک تفصیلاً في مبحث الفعل إن شاء الله تعالی: من أنّ الفعل لا بدّ له من فاعلٍ، ولا یمکن وجود فعلٍ من دون فاعل، فالمنصوب بهما لیس خبراً لهما، بل حالاً لازمةً للمرفوع في الفعل الناقص، ومفعولاً به تحقیقاً أو توسّعاً لفعل المقاربة.

ص: 223

أوّلها: أحرف النفي

المسمّاة عندهم بالأحرف المشبّهات بلیس ﴿وهي: ما ولا وإن النافیات﴾ فتنسخ ما اقتضاه الإسناد من ارتفاع الطرفین ﴿تنصب الخبر وما في حکمه﴾ من المسند به بالإسناد الحدوثي والمضاف إلیه والجملة في مثل: زیدٌ ضربته، وزیدٌ أبوه قائم ﴿في لغة أهل الحجاز﴾ وبلغتهم جاء التنزیل قال الله تعالی: (ما هذا إلّا بشرٌ)(1) (ما هنَّ اُمّهاتهم)(2) ﴿بشرط تأخّره﴾ عن الجزء الآخر الذي هو الأصل ﴿وبقاء النفي﴾ وعدم انتفاضه بإلّا، فإن انتفض بها بطل النصب ووجب الرفع نحو: ما زیدٌ إلّا قائمٌ؛ ولأجله وجب رفع المعطوف ب-«بل» و «لکن» علیه، فیقال: ما زید قائماً بل قاعدٌ أو لکن قاعدٌ.

﴿ویشترط في «ما» عدم یادة «إن» معها﴾ فإن اقترنت بها وجب الرفع نحو: «بني غدانة ما إن أنتم الذهب * ولا صریف» برفع «ذهب».

﴿وفي «لا» تنکیر الجزئین﴾ نحو لا أحد أفضل منک ﴿والغالب﴾ فیها ﴿حذف خبرها﴾ حتّی قیل بلزومه ﴿وإن لحقتها التاء اختصّت بالأحیان وغلب علیها الانفراد بالخبر، نحو قوله تعالی: (ولات حین مناص)(3)﴾ أي: ولات الحین حین مناص ﴿وما ورد خلاف ما ذکر﴾ من عمل «ما» مع انتفاض النفي بإلّا نحو:

ص: 224


1- سورة المؤمنون، الآیة 24.
2- سورة المجادلة، الآیة 2.
3- سورة ص، الآیة 3.

وما الدهر إلّا منجنوناً بأهله *** وما صاحب الحاجات إلّا معذَّبا

ومع اقترانها ب-«إن» علی روایة یعقوب في الشعر السابق ﴿شاذّ﴾ ولا حاجة إلی ارتکاب ما تکلّفه کثیرٌ منهم في تطبیقهما علی القاعدة.

تنبیه: قد استفید من قولي «فتنصب الخبر» أنّ نسخها إنّما هو بالنسبة إلی حکم الخبر، وأمّا رفع المبتدأ فبمقتضی الأصل، فما اشتهر بینهم: من أنّها ناسخةٌ لحکم الجزئین، وأنّها رافعةٌ للأوّل علی أنّه اسمٌ لها، وناصبةٌ للثاني علی أنّه خبرٌ لها في غیر محلّه.

فإن قلت: لو کان کذلک لجاز استغنائها عن الجزء الأوّل، فعدم استغنائها عنه وطلبها إیّاهما یدلّ علی أنّهما معمولین لها وأنّها عاملةٌ فیهما.

قلت: الوجه في عدم استغنائها عنه أنّها من لوازم الإسناد المتقوِّم بالطرفین، إذ مفادها صرف الإسناد عن الإیجاب إلی السلب، والمقتضي لارتفاع الجزئین - کما عرفت - هو نفس الإسناد المتقوِّم بالهیئة الترکیبیّة عندنا وبالتجرّد عن العوامل اللفظیّة عندهم، والموجب لانتصاب الجزء الثاني انقلاب الإسناد عمّا هو مقتضی إطلاقه إلی السلب المتقوِّم بأحد الأحرف المذکورة، فلا یستند إلیها إلّا نصب الجزء الثاني، وأمّا ارتفاع الأوّل فمستندٌ إلی الإسناد الجامع بین الإیجاب والسلب، فلا وجه لصرفه عنه وإسناده إلی خصوص الإسناد السلبي المتقوِّم بأداة السلب.

ص: 225

ثانیها: أحرف النصب

المسمّاة عندهم بالأحرف المشبّهة بالفعل ﴿وهي ستّة: إنّ وأنّ للتحقیق والتأکید﴾ أي لتحقیق الإسناد وتأکیده، والمقتضي للتحقیق والتوکید شکّ المخاطب في الحکم أو إنکاره، فإن کان متردّداً حسن تأکیده رفعاً لشکّه، وإن کان منکراً وجب إزالةً لإنکاره. ویختلف مراتبه باختلاف مراتب إنکاره قوّةً وضعفاً، وإلّا فلا یحسن ویکون لغواً، إلّا إذا نزّل المخاطب منزلة أحدهما ﴿وکأنّ للتشبیه﴾ في الإسناد ﴿ولکنّ للاستدارک﴾ وهو رفع ما توهّم ثبوته أو نفیه من الکلام السابق، تقول: زیدٌ شجاعٌ، فیوهم إثبات الشجاعة له إثبات الکرم له، فإذا أردت رفع هذا التوهّم تأتي ب-«لکنّ»، فتقول: لکنّه بخیلٌ، وقس علی ذلک النفي ﴿ولعلَّ للترجّي﴾ أي لجعل الحکم والإسناد مورداً للرجاء، سواء کان الرجاء للمتکلّم أم للمخاطب ﴿ولیت للتمنّي﴾ وهو طلب شيءٍ غیر متوقّع، مستحیلاً کان أم ممکناً.

﴿تدخل علی المبتدأ والخبر﴾ نحو: إنّ زیداً قائمٌ ﴿وما بمنزلتهما﴾ من الفاعل المقدَّم وفعله نحو: إنّ زیداً في الدار، والاسم مع الجملة المذکورة بعده المخبرة عنه بحسب المعنی لا الترکیب نحو: إنّ زیداً أبوه قائمٌ، وإنّ زیداً ضربته ﴿وتنصب المبتدأ﴾ وما بمنزلته ﴿ویسمّی اسمها﴾ ویبقی الجزء الثاني علی حاله، فما اشتهر بین النحویّین - تبعاً للبصریّین - من جعلها ناسخةً للجزئین ناصبة للمبتدأ ورافعةً للخبر في غیر محلّه.

﴿ولا یتقدّم أحدهما﴾ أي الجزئین ﴿علیها﴾ أي علی الأحرف المذکورة، فلا یقال: زیداً إنّ قائمٌ، ولا قائمٌ إنّ زیداً ﴿ولا الخبر﴾ وما بمنزلتها ﴿علی

ص: 226

اسمها﴾ إلّا إذا کان ظرفاً أو مجروراً فیجوز تقدّمه علیه نحو قوله تعالی: (إنّ لدینا أنکالاً)(1) و (إنّ في ذلک لعبرة).(2)

﴿وتفتح همزة «إنّ» إن حلّ المصدر محلّ الجملة المؤکّدة به﴾ وتعیّن ذلک ﴿وإلّا﴾ یحلّ محلّها ﴿تکسر، وإن جاز الأمران﴾ الحلول وعدمه ﴿جاز الأمران﴾ فتح الهمزة وکسرها.

إذا علمت ذلک، فاعلم: أنّه یتعیّن فتح الهمزة في سبعة مواضع:

أحدها: أن تقع الجملة موقع الفاعل قیامیّاً نحو قوله تعالی: (أوَلم یکفهم أنّا أنزلنا)(3) أي إنزالنا، أو وقوعیّاً نحو قوله تعالی: (قل اُوحيَ إليّ أنّه استمع نفرٌ)(4) أي استماع نفر.

والثاني: أن تقع موقع المفعول لغیر القول نحو: (ولا تخافون أنّکم أشرکتم)(5) أي إشراککم.

والثالث: أن تقع موقع المبتدأ أو ما بمنزلته نحو: (ومن آیاته أنّک تری الأرض خاشعةٍ)(6) أي رؤیتک.

والرابع: أن تقع موقع خبرٍ عن اسم معنی غیر قول ولا صادق علیه الخبر

ص: 227


1- سورة المزّمّل، الآیة 12.
2- سورة النازعات، الآیة 26.
3- سورة العنکبوت، الآیة 51.
4- سورة الجنّ، الآیة 1.
5- سورة الأنعام، الآیة 81.
6- سورة فُصّلت، الآیة 39.

الواقع فیها نحو: اعتقادي أنّه فاضلٌ، أي فضله، بخلاف قولي: إنّه فاضل، واعتقاد زیدٍ أنّه حقٌّ.

والخامس: أن تقع مجرورةً بالحرف نحو: (ذلک بأنّ الله هو الحقّ).(1)

والسادس: أن تقع مجرورةً بإضافة غیر ظرفٍ إیها نحو: (إنّه لحقٌّ مثل ما أنّکم تنطقون)(2) أي مثل نطقکم.

والسابع: أن تقع معطوفةً علی شيءٍ ممّا ذکر نحو: (اذکروا نعمتي التي أنعمت علیکم وأنّي فضّلتکم)(3) أي نعمتي وتفضیلي، أو مبدلةً منه نحو: (وإذ یعدکم الله إحدی الطائفتین أنّها لکم)(4) أي کونها لکم.

ویتعیّن الکسر في تسعة مواضع لا یحلّ المصدر فیها محلّ الجملة المؤکّدة بها:

أحدها: أن تقع محکیّة بالقول نحو قوله تعالی: (قال إنّي عبد الله).(5)

الثاني: أن تقع في ابتداء الکلام نحو: (إنّا أنزلناه)(6) (ألا إنّ أولیاء الله).(7)

الثالث: أن تقع في أوّل الصلة نحو: (وآتیناه من الکنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء).(8)

ص: 228


1- سورة الحجّ، الآیة 6.
2- سورة الذاریات، الآیة 23.
3- سورة البقرة، الآیة 47.
4- سورة الأنفال، الآیة 7.
5- سورة مریم، الآیة 30.
6- سورة القدر، الآیة 1.
7- سورة یونس، الآیة 62.
8- سورة القصص، الآیة 76.

الرابع: أن تقع في أوّل الصفة، کمررت برجلٍ إنّه فاضل.

الخامس: أن تقع في أوّل الجملة الحالیّة نحو: (کما أخرجک ربّک من بیتک بالحقّ وإنّ فریقاً من المؤمنین لکارهون).(1)

السادس: أن تقع في أوّل الجملة التي اُضیف إلیها ما یختصّ بالجمل، وهو «إذ» و «إذا» و «حیث» نحو: جلست إذ أو إذا أو حیث أنّ زیداً جالس.

السابع: أن تقع قبل اللام المعلّقة نحو: (والله یعلم إنّک لرسوله والله یشهد إنّ المنافقین لکاذبون).(2)

الثامن: أن تقع جواباً للقسم نحو: (حم والکتبا المبین إنّا أنزلناه).(3)

التاسع: أن تقع خبراً عن اسم عین نحو: زید إنّه فاضلٌ.

ویجوز فتح الهمزة وکسرها في تسعة مواضع یجوز فیها حلول المصدر محلّ الجملة المؤکّدة بها وعدمه:

أحدها: أن تقع خبراً عن قول والخبر الواقع فیها قولٌ وفاعل القولین واحدٌ نحو: «أوّل قولي انّي أحمد الله» قیل: الفتح علی أنّ القول علی حقیقته من المصدریّة أي قولي حمد الله، والکسر علی أنّه بمعنی القول أي مقولي إنّي أحمد الله، وفیه: أنّ المصدر متّحدٌ مع المفعول في المقام فلا ینفکّ أحد الاعتبارین عن الآخر، ولو انتفی المقول الأوّل وجب الفتح، أو الثاني أو اختلف القائل وجب الکسر.

الثاني: أن تقع بعد «إذا» الفجائیّة نحو: خرجت فإذا انّک قائم، فالفتح علی

ص: 229


1- سورة الأنفال، الآیة5.
2- سورة المنافقون، الآیة 1.
3- سورة الدخان، الآیة 2.

معنی فإذا قیامک أي حاصلٌ، کما تقول: خرجت فإذا الأسد، والکسر علی معنی فإذا أنت قائمٌ.

الثالث: أن تقع بعد «فاء» الجزاء نحو: (من عمل منکم سوءً بجهالةٍ ثمّ تاب من بعده وأصلح فانّه غفورٌ رحیم)(1) فالفتح علی معنی فالغفران والرحمة، أي حاصلان، والکسر علی معنی فهو غفورٌ رحیم.

الرابع: أن تقع في موضع التعلیل نحو: (إنّا کنّا من قبل ندعوه انّه هو البرّ الرحیم)(2) قرأ نافع والکسائي بالفتح علی أنّه بمعنی «لأنّه» فهو تعلیلٌ إفراديٌّ، وقرأ الباقون بالکسر علی أنّه تعلیلٌ مستأنفٌ بیاني، فهو تعلیلٌ جمليٌّ مثل: (وصلّ علیهم إنّ صلاتک سَکَنٌ لهم).(3)

الخامس: أن تقع بعد فعل قسمٍ ولا لام بعدها نحو: حلفت انّک کریم، فالفتح بتقدیر «علی» أي علی أنّک کریم، والکسر علی أنّه جوابٌ للقسم. ولو أضمر الفعل أو ذکرت اللام نحو: والله إنّ زیداً قائم، وحلفت إنّ زیداً لقائم، تعیّن الکسر إجماعاً.

السادس: أن تقع بعد واودٍ مسبوقةٍ بمفردٍ صالحةٍ للعطف علیه نحو: (إنّ لک أن لا تجوع فیها ولا تعری وانّک لا تظمأ فیها ولا تضحی)(4) قرأ نافع وأبوبکر بالکسر إمّا علی الاستئناف أو بالعطف علی جملة إنّ الاُولی، والباقون بالفتح بالعطف علی «أن لا تجوع».

ص: 230


1- سورة الأنعام، الآیة 54.
2- سورة الطور، الآیة 28.
3- سورة التوبة، الآیة 103.
4- سورة طه، الآیة 118.

السابع: أن تقع بعد «حتّی»، ویختصّ الفتح بالجارّة والعاطفة نحو: عرفت اُمورک حتّی أنّک فاضل، والکسر بالابتدائیّة نحو: مرض زیدٌ حتّی إنّهم لا یرجونه.

الثامن: أن تقع بعد «أما» نحو أما انّک فاضل، فالکسر علی أنّه حرف استفتاح، والفتح علی أنّها مرکّبةٌ بمعنی أحقّا، وهو قلیل.

التاسع: أن تقع بعد «لا جرم» والغالب الفتح نحو: (لا جرم أنّ الله یعلم)(1) فالفتح عند سیبویه علی أنّ «جرم» فعل ماض وأنّ وصلتها فاعلٌ، أي وجب أنّ الله یعلم، ولا زائدً، وعند الفرّاء علی أنّ «لا جرم» بمنزلة «لا رجل» ومعناهما لا بدّ، و «من» بعدهما مقدَّرة، والکسر علی ما حکاه الفرّاه: من أنّ بعضهم ینزّلها منزلة الیمین، فیقول لا رجم لآتینّک، ولا جرم لقد أحسنت، ولا جرم إنّک ذاهب.

﴿وینصب المعطوف علی أسمائها﴾ مطلقاً تبعاً للّفظ سواء کان العطف قبل استکمال الخبر أم بعده کقوله:

إنّ الربیع الجود والخریفا *** یدا أبي العبّاس والصیوفا

﴿ویختصّ إنّ﴾ المکسورة ﴿وأنّ﴾ المفتوحة ﴿ولکنّ﴾ دون الثلاث الاُخر ﴿بجواز رفعه﴾ أي رفع المعطوف علی أسمائهنّ ﴿إذا کان﴾ العطف ﴿بعد استکمال الخبر﴾ قیل: وذلک لأنّهنّ لمّا لم یغیّرن معنی الجملة کنّ کالعدم فیعطف علی أسمائهنّ بالرفع حملاً علی محلّها، ثمّ استشکل بأنّه لا یتمّ ذلک في أنّ المفتوحة لأنّ الجملة معها في تأویل المفرد.

أقول: والتحقیق في الجواب أنّ الجملة معها لیس في تأویل المفرد تحقیقاً - کما توهّمه الأکثر - وإنّما یصحّ حلول المصدر محلّها في الأغلب، لا أنّها مأوّلةٌ به، وإلّا

ص: 231


1- سورة النحل، الآیة 23.

لفات التأکید الذي جيء بها لأجله، وقد تبیّن لک في باب الموصول فساد التأویل بما لا مزید علیه.

ثمّ إنّ جواز رفع المعطوف بعد استکمال الخبر في الثلاثة متّفقٌ علیه - في الجملة - عندهم، واختلفوا في تخریجه، فقیل: هو بالعطف علی محلّ اسم إنّ واُختیها، وقیل: بالعطف علی محلّها مع اسمها، وقیل: بالعطف علی الضمیر المستتر في خبرها، وقیل: هو مبتدأٌ محذوف الخبر ویکون من قبیل عطف الجملة علی الجملة.

ویرد علی الثاني والرابع: أنّه یلزم حینئذٍ عدم تطرّق التأکید والاستدراک إلی المعطوف، مع أنّ الظاهر توجّههما إلی المعطوف والمعطوف علیه معاً، مع أنّه یلزم علیهما جواز العطف بالرفع في جمیع الحروف وعدم الاختصاص بالثلاثة، علی أنّ العطف علی محلّ الحرف مع اسمها غیر معقولٍ إذا کان العطف من قبیل عطف المفرد علی المفرد.

وعلی الثالث أوّلاً: أنّه لا ضمیر في الخبر مستتراً ولو کان مشتقّاً کا مرّ.

وثانیاً: أنّه لو سمّم یختصّ بما إذا کان مشتقّاً عند الأکثر، فلا یجري فیما إذا کان جامداً، مع أنّ جواز الرفع یعمّ الصورتین.

وثالثاً: أنّه لا یختصّ حینئذٍ بالحروف الثلاثة.

ورابعاً: أنّه لا یصحّ حلوله محلّ ضمیر الخبر وإلّا انتفی الربط بین الاسم والخبر، مع أنّ من حقّ العطف جواز حلول المعطوف محلّ المعطوف علیه. فإذا قلت: إنّ زیداً قائم وعمروٌ - مثلاً - وفرضت العطف علی الضمیر المستتر في الخبر، لزم أن یصحّ قولک: إنّ زیداً قائم عمروٌ، مع أنّه لا یصحّ بالضرورة.

واُورد علی الأوّل: بأنّ من جملة شروط العطف علی المحلّ وجود المحرز أي الطالب للمحلّ، وهو هنا منتفٍ؛ لأنّ الطالب لرفعه هو الابتداء الذي هو التجرّد،

ص: 232

والتجرّد قد زال بدخول «أنّ» علیه فامتنع العطف علیه بالرفع قبل استکمال الخبر وبعده.

وفیه: أنّ المقتضي للرفع والطالب له هو الإسناد لا الابتداء - کما عرفت - وهو باقٍ بعد دخول الحرف، مع أنّ الابتداء لا یکون عین التجرّد ولا متقوّماً به، بل جَعل الاسم أوّلاً لیخبر عنه، وهو باقٍ أیضاً بعد دخول الحرف.

فإن قلت: علی ما ذکرت یلزم جواز العطف بالرفع قبل استکمال الخبر أیضاً.

قلت: أوّلاً: عدم الجواز غیر مسلّمٍ، فإنّ الکسائي والفرّاء ذهبا إلی جوازه قبل الاستکمال، وتمسّکا بنحو قوله تعالی: (إنّ الذین آمنوا والذین هادوا والصابئون...(1) إلخ) الأوّل مطلقاً، والثاني بشرط خفاء إعراب الاسم کما في الآیة.

وثانیاً: إنّ التفصیل بینهما باعتبار القرب من الأداة وعدمه غیر ممنوع، فإنّ التأکید - مثلاً - لمّا اقتضی انتصاب المسند إلیه وزاحم الإسناد في مقتضاه وقدّم علیه باعتبار وروده علیه لم یجز في المعطوف علیه قبل استکمال الخبر الواقع في میدانه و مجاله إلّا ترتیب أثره، وأمّا الواقع بعده فلبعده عنه یضعف تأثیره فیه فتساوی المقتضیان بالنسبة إلیه، ویجوز الوجهان، ویتخیّر المتکلّم في ترتیب أثر کلٍّ منهما: من النصب والرفع.

﴿وتلحقها «ما» الزائدة فتکفّها عن العمل، وتدخل علی الجمل﴾ الإسنادیّة کلّها مطلقاً من دون مراعاة تقدّم المسند إلیه علی المسند به، فیقال: إنّما زیدٌ قائمٌ، وإنّما قائمٌ زیدٌ، وإنّما قام زیدٌ ﴿إلّا لیتما﴾ الباقیة علی اختصاصها بالجمل

ص: 233


1- سورة المائدة، الآیة 69.

الإسنادیّة المتقدّ» فیها المبتدأ وما بمنزلته المعبّر عنها بالجملة الاسمیّة عندهم ﴿فیجوز فیها الإعمال والإهمال﴾ وروي بالوجهین «قالت ألا لیتما هذا الحمام لنا».

﴿وتخفّف إنّ المکسورة فیکثر إلغائها﴾ ویقلّ إعمالها لزوال اختصاصها بالأسماء. وقرأ بالعمل والإلغاء قوله تعالی: (وإن کلّاً لمّا لیوفینّهم)(1) ﴿وتلزم اللام إذا اُهملت﴾ لئلّا یتوهّم کونها نافیة ﴿ویجوز دخولها علی الفعل حینئذٍ﴾ والغالب کونه ناسخاً أو بمنزلته نحو قوله تعالی: (وإن نظنّک لمن الکاذبین)(2) (وإن کانت لکبیرة)(3) وقلّ وصلها بغیره نحو «شلّت یمینک إن قتلت لمسلماً».

﴿وتخفّف﴾ أنّ ﴿المفتوحة فتهمل وتدخل علی الجمل مطلقاً وشذّ إعمالها﴾ بل لم یثبت إلّا في الضرورة کقوله: «بأنّک ربیعٌ وغیثٌ مریع» ﴿وإن کان﴾ المدخول ﴿فعلاً متصرّفاً ولم یکن دعاءً، قیل: یجب الفصل بینهما بقد﴾ نحو قوله تعالی: (ونعلم أن قد صدقتنا)(4) ﴿أو حرف تنفیس﴾ نحو قوله تعالی: (علم أن سیکون منکم مرض)(5) وقول الشاعر:

واعلم فعلم المرء ینفعه *** أن سوف یأتي کلّ ما قدّرا

﴿أو﴾ حرف ﴿نفي﴾ نحو قوله تعالی: (أفلا یرون ألّا یرجع إلیهم قولاً)(6) ﴿أو

ص: 234


1- سورة هود، الآیة 111.
2- سورة الشعراء، الآیة 186.
3- سورة البقرة، الآیة 143.
4- سورة المائدة، الآیة 113.
5- سورة المزّمّل، الآیة 20.
6- سورة طه، الأیة 89.

لو﴾ نحو قوله تعالی: (أن لو کانوا یعلمون الغیب)(1) ﴿والصواب أنّه﴾ أي الفصل بینهما بإحدی الفواصل المذکورة ﴿أولی﴾ وأحسن کما اختاره ابن مالک، فقد ورد بلا فصل نحو: «علموا أن یؤمّلون فجادوا» وإن کان جامداً أو للدعاء لم یحتج إلی الفصل نحو: (وأن عسی أن یکون)(2) (وأن لیس للإنسان إلّا ما سعی)(3) (والخامسة أنّ غضب الله علیها).(4)

ثمّ إنّ ما اخترناه: من إهمال المفتوحة، منسوبٌ إلی سیبویه واستقربه الرضيّ (قدس سره) ، وأمّا الأکثر فأوجبوا إعمالها وزعموا أنّ اسمها ضمیر شأنٍ یجب حذفه والجملة خبرٌ لها.

قال في الفوائد الضیائیّة: والسبب في تقدیره أنّ مشابهة المفتوحة بالفعل أکثر من مشابهة المکسورة به کما سبق، وإعمال المکسورة بعد تخفیفها في سعة الکلام واقعٌ، کقوله تعالی: (وإن کلّاً لمّا لیوفینّهم).(5) وإعمال المفتوحة بعد تخفیفها لم یقع في سعة الکلام، ویلزم منه بحسب الظاهر ترجیح الأضعف علی الأقوی، وذلک غیر جائزٍ، فقدّروا ضمیر الشأن حتّی یکون اسماً للمفتوحة بعد تخفیفها والجملة المفسّرة لضمیر الشأن خبراً لها، فیکون عاملاً في المبتدأ والخبر کما کانت في الأصل، فهي لا تزال عاملاً. بخلاف المکسورة فإنّها قد یکون عاملاً وقد لا یکون، والعمل في

ص: 235


1- سورة سبأ، الآیة 14.
2- سورة الأعراف، الآیة 185.
3- سورة النجم، الآیة 39.
4- سورة النور، الآیة 9.
5- سورة هود، الآیة 111.

الظاهر وإن کان أقوی من العمل في المقدَّر، لکن دوام العمل في المقدَّر یقاوم العمل في الظاهر في وقتٍ دون وقت، فلا یلزم ترجیح الأضعف علی الأقوی، انتهی.

وفیه: أنّه مقدّمةٌ خیالیّة؛ إذ لا دلیل علی أنّ عمل الحروف المذکورة لأجل شباهتها بالفعل حتّی یتفرّع علیه ما ذکره، بل الدلیل قائمٌ علی خلافه، لأنّ الشباهة في البناء واللفظ فقط لا یعقل تأثیرها في العمل - کما هو ظاهر - والشباهة في المعنی منتفیةٌ؛ لأنّ معاني الحروف إنّما هي معانٍ ونسبٌ في اللفظ المدخول وجهاتٌ لاستعماله فلا تشبه معاني موادّ الأفعال التي هي مفاهیم مستقلّة. ولو کان الاشتراک في المفهوم الجامع بین الآلي والاستقلالي موجباً للشباهة وکافیاًَ لزم أن یکون أغلب الحروف مشابهاً للفعل وعاملاً للنصب أو الرفع، إذ یصحّ أن یقال: حروف الاستفتاح بمعنی استفتحت، و «قد» بمعنی حقّقت تارةً وقلّلت اُخری، وباء الجرّ بمعنی ألصقت أو استعنت وهکذا، ولام التعریف بمعنی عرّفت، وهاء التنبیه بمعنی نبّهت، وکاف الخاطب بمعنی خاطبت وهکذا، بل لا یخلو حرفٌ من هذه المشابهة لصحّة التعبیر عن المعاني النسبیّة الحرفیّة بالمفاهیم الحدثیّة المنتسبة إلی المتکلّم أو المخاطب أو الغالب.

ص: 236

الثالث من النواسخ: لا النافیة للجنس

اعلم أنّ کلمة «لا» موضوعةٌ للنفي مطلقاً فإن جيء بها لإفادة نفي الجنس - کقولک لا رجل - أو صفةٍ کقولک - لا رجل في الدار - واُرید التنصیص علیه تنصب اسمها بالشروط الآتیة، وإن اُرید نفي الإسناد عن الواحد والجنس من دون إرادة التنصیص علیه تنصب الخبر بالشروط المتقدّمة، وإلّا فلا تعمل مطلقاً لا في الاسم ولا في الخبر، فلا یکون لها وضعان ومعنیان، کما یوهمه ظاهر کلمات بعضهم.

إذا عرفت ذلک فقد تبیّن لک: أنّه إذا اُرید التنصیص علی نفي الجنس أو صفةٍ عنه ﴿تعمل عمل إنّ﴾ فتنصب المبتدأ أو ما بمنزلته ویسمّی اسمها ﴿بشرط عدم دخول جارٍّ علیها﴾ فإن دخل علیها کان العمل له ووجب جرّ الاسم حینئذٍ، لأنّ «لا» مع ما بعدها حینئذٍ کالکلمة الواحدة نحو: جئت بلا زاد، وأتیتک بلا عملٍ صالح ﴿وتنکر اسمها﴾ فلا تنصب معرفةً إلّا إذا کانت مأوّلةً بنکرةٍ نحو قوله: «إذا هلک کسری فلا کسری بعده، وإذا هلک قیصر فلا قیصر بعده» وقول عمر: «قضّه ولا أبا حسنٍ لها»(1) فإنّ المراد من الأعلام في الموارد المذکورة هو الوصف الغالب علیها کما في قولک: لکلّ موسی فرعون ﴿واتّصالها بها﴾ بأن لا یفصل بینهما فاصلٌ ولو کان ظرفاً أو مجروراً، فإذا اجتمعت الشروط اُهملت وجوباً إن اُفردت وجوازاً إن کرّرت، کما نبّهت علیه في المتن عند ذکر الوجوه الخمسة في نحو «لا حول

ص: 237


1- اُنظر تأریخ ابن کثیر 7: 359، والفتوحات الإسلامیّة 2: 306، وفیهما قوله: أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها.

ولا قوّة إلّا بالله».

﴿فإن کان مضافاً أو شبیهاً به﴾ بأن اتّصل به شيءٌ من تمام معناه بأن کان مرفوعاً به نحو: «لا قبیحاً فعله» أو منصوباً به نحو: «لا طالعاً جبلاً» أو مجروراً متعلّقاً به نحو: «لا خیراً من زیدٍ عندنا» ﴿نُصب﴾ وکان معرباً باتّفاقٍ منوّناً في الشبیه به کما مرّ من الأمثلة. وعند البغدادیّین یحذف تنوینه کالمضاف، وعلیه یتخرّج ما ورد في الدعاء: «لا مانع لما أعطیت ولا معطي لما منعت» بحذف التنوین.

﴿وإلّا﴾ یکن مضافاً أو شبیهاً به مفرداً کان أو مثنّی أو مجموعاً ﴿بني علی ما﴾ کان ﴿ینصب به﴾ لو کان معرباً، فإن کان منصوباً بالفتحة کالمفرد والجمع المکسّر بني علیها ﴿نحو لا رجل ولا رجال و﴾ إن کان منصوباً بالیاء کالمثنّی والجمع المذکّر السالم بني علیها نحو ﴿لا قائمَین ولا قائمِین و﴾ إن کان منصوباً بالکسرة کالجمع المؤنّث السالم بني علیها نحو ﴿ولا مسلمات﴾ من غیر تنوینٍ عند الأکثر، وقیل: إنّه ینوّن لأنّ تنوینه للمقابلة لا للتمکین فلا ینافي البناء، وقیل: إنّه یفتح لأنّ الحرکة لیست له بل لمجموع المرکّب وهو «لا» والاسم، وقیل: إنّه یجوز الفتح والکسر بغیر تنوین، قیل: وهو الحقّ لثبوته عن العرب، وقد روي بهما قوله:

إنّ الشباب الذي مجدٌ عواقبه *** فیه نلذّ ولا لذّات للشیب

فلا وجه بعدهذا للاختلاف ﴿عند جمهور البصریّین﴾ وتبعهم أکثر النحویّین وحجّتهم لذلک حذف تنوینه.

واختلف في علّة بنائه، فقیل: لتضمّنه معنی «من» الاستغراقیّة بدلیل ظهوره في قوله: «ألا لا من سبیلٍ إلی هند» وقیل: لترکیبه مع «لا» کترکیبه مع خمسة عشر.

ص: 238

وکلٌّ من العلّتین لا یخلو من علّة:

أمّا الاُولی فلما مرّ لک: من أنّ تضمّن معنی الحرف لا یوجب البناء، مع أنّ الاستغراق إنّما یستفاد من وقوع النکرة في سیاق النفي، ولذا یجري ذلک في ما إذا کانت النکرة في سیاق سائر أدوات النفي ولا یختصّ ذلک بکلمة «لا»، علی أنّ الاستغراق إنّما یستفاد من کلمة «لا» فالمتضمّن لمعنی من» حینئذٍ - کما قاله ابن الضائع - هو «لا» نفسها لا الاسم بعدها.

وأمّا الثاني فلأنّ الترکیب الموجب للبناء إنّما هو الترکیب الذي جعل طرفاه بمنزلة اسمٍ واحد وکلمةٍ واحدة کخمسة عشر، والترکیب بین الاسم والحرف غیر متصوّر - أوّلاً - ما دام باقیاً علی معناه الحرفي لأنّه آلةٌ للترکیب فلا یعقل أن یقع طرفاً له، وغیر واقعٍ - ثانیاً - علی فرض تصوّره، إذ لو کان کذلک لزم أن یکون قولک: لا رجل في الدار، قضیةً موجبةً معدولة الموضوع، وهو باطلٌ بالضرورة؛ لأنّ الغرض منها سلب المحمول عن الموضوع لا إثباته ل-«لا رجل» کما هو ظاهر.

فالصواب أنّه معربٌ کالمضاف وشبهه، وإنّما حذف تنوینه تخفیفاً کما اختاره الکوفیّون والزجّاج والجرمي والرمّاني.

ویوضح ذلک جواز حذف التنوین من نعته المفرد المتّصل به کقولک: لا رجل ظریف.

وتوهّم أنّه بني لأجل ترکیبه مع اسم «لا» في غایة السخافة؛ لأنّ الترکیب التوصیفي لو کان موجباً للبناء لزم اطّرداه في سائر الموارد، وهو باطلٌ بالضرورة.

﴿وإن عرّف﴾ اسمها ﴿أو فصّل﴾ عنها بفاصل ﴿اُهملت وکرّرت﴾ وجوباً نحو: لا زیدٌ في الدار ولا عمروٌ، وقوله تعالی: (لا الشمس ینبغي لها أن

ص: 239

تدرک القمر ولا اللیل سابق النهار)(1) ونحو: لا في الدار رجلٌ ولا امرأة، وقوله تعالی: (لا فیها غولٌ ولا هم عنها ینزفون).(2)

فإن قلت: نفي الجنس لا یتصوّر مع کون المدخول علم شخصٍ، فکیف یدخل علیه «لا» النافیة للجنس کما ذکرت في المثال؟

قلت: قد سبق لک أنّ کلمة «لا» لا تکون موضوعةً لنفي الجنس بخصوصه وإنّما تکون موضوعة للنفي مطلقاً، ونفي الجنس إنّما یستفاد منها إذا کان المدخول صالحاً له، کما إذاکان نکرةً أو علم جنسٍ أو معرّفاً بلام الجنس، فلا ینافي دخولها حینئذٍ علی علم الشخص.

﴿وإذا عطفت مفرداً علی اسم «لا» مفرداً وکرّرتها یجوز لک إعمالهما وإلغاؤهما وإعمال إحداهما وإلغاء الاُخری فلک في نحو: لا حول﴾ أي عن المعصیة ﴿ولا قوّة﴾ أي علی الطاعة ﴿إلّا بالله، خمسة أوجه فتحهما﴾ علی الأصل ﴿ورفعهما﴾ بالابتداء علی إلغاء «لا» في الموضعین ﴿وفتح الأوّل﴾ علی الأصل ﴿ورفع الثاني ونصبه﴾ بناءً علی إلغاء «لا» الثانیة والعطف علی محلّ اسم الاُولی علی الأوّل، وعلی لفظه علی الثاني علی ما هو المختار: من أنّ فتحته فتحة إعرابٍ لا بناء وحذف التنوین منه تخفیفاً ﴿ورفع الأوّل﴾ بالابتداء بناءً علی إلغاء الاُولی ﴿وفتح الثاني﴾ علی إعمال الثانیة الذي هو الأصل ﴿وإن لم تتکرّرها(3) وجب فتح الأوّل﴾ وهو اسم «لا» لعدم الموجب لإلغائها ﴿وجاز رفع الثاني﴾ عطفاً

ص: 240


1- سورة یس، الآیة 40.
2- سورة الصافّات، الآیة 47.
3- کذا، والمناسب: تکرّرها.

محلّ اسم «لا» ﴿ونصبه﴾ عطفاً علی لفظه لا اخترناه: من أنّ فتحته إعراب لا بناء. غایة الأمر أنّه حذف منه التنوین تخفیفاً.

﴿وإذا وصفته﴾ أي اسم «لا» مفرداً ﴿بمفردٍ متّصلٍ به نحو: لا رجل ظریف، جاز في الوصف الرفع﴾ اتباعاً للمحلّ ﴿والنصب﴾ اتباعاً للّفظ وعملاً بالأصل: من عدم سقوط التنوین ﴿والفتح﴾ أي النصب مع حذف التنوین تشبیهاً له بالموصوف المحذوف تنوینه تخفیفاً ﴿وإن لم یکن مفرداً﴾ نحو: لا رجل قبیحاً فعله ﴿أو متّصلاً به﴾ نحو: لا رجل في الدار ظریفاً ﴿لم یجز الفتح﴾ وجاز الرفع والنصب فقط.

﴿و﴾ اعلم ﴿أنّه لا خبر لکلمة «لا» إن اُرید منها نفي وجود الجنس نحو لا إله إلّا الله﴾ و «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» و «لا فتي إلّا عليّ (علیه السلام) ، ولا سیف إلّا ذو الفقار»(1) وأمثالها؛ لأنّ مرجع نفي الجنس في الخارج إلی نفي وجوده بل یکون عینه حقیقة؛ ضرورة أنّه لا معنی لنفي الجنس إلّا نفي وجوده، فما اشتهر: من تقدیر الخبر في أمثال هذه الموارد، لا وجه له.

ولعلّه إلی ما بیّنّاه یرجع ما ذکره الزمخشري: من أنّ کلمة التوحید کلامٌ تامّ، وأنّ الأصل «الله إلهٌ» مبتدأ وخبر، کما تقول:زید منطلق، ثمّ جيء بأداة الحصر وقدّم الخبر علی الاسم ورکّب مع «لا» کما رکّب المبتدأ معها في «لا رجل في الدار» ویکون الله مبتدأً مؤخّراً وإله خبراً مقدّماً. وعلی هذا یخرج نظائره نحو «لا سیف إلّا ذو الفقار، ولا فتی إلّا عليّ (علیه السلام) » انتهی.

وبما بیّنّاه اندفع ما قیل: من أنّه إن قدّر الخبر في کلمة التوحید «موجود»

ص: 241


1- کنزالعمّال 5: 723.

لم یلزم منه نفي إمکان إلهٍ آخر، وإن قدّر «ممکن» لم یلزم إثبات وجوده تعالی.

فإن قلتم: نفي الجنس علی ما ذکرت إنّما هو باعتبار نفي وجوده، فیعود المحذور الذي ذکر: من عدم نفي إمکان إلهٍ آخر.

قلت: نفي وجوده یستلزم نفي إمکانه؛ لأنّ الإله ما وجب وجوده، لا ینفکّ إمکانه عن وجوده، فنفي وجوده یستلزم نفي إمکانه.

﴿وإلّا﴾ یراد منها نفي وجود الجنس بل نفي صفةٍ عنه ﴿فلها خبرٌ یجب ذکره إن جهل﴾ نحو: لا أحد أغیر من الله تعالی ﴿ویکثر حذفه إن علم﴾ نحو: لا ضیر، أي علینا ﴿وأوجبه﴾ أي الحذف ﴿التمیمیّون والطائیّون﴾.

ص: 242

الرابع من النواسخ: أفعال الشکّ والیقین

والشکّ - لغةً - تردّد الذهن وتزلزله في المطلب، فهو خلاف الیقین الذي هو عبارةٌ عن ثوبته عند الذهن واستقراره فیه، فیعمّ الشکّ المصطلح عند أهل المیزان والظنّ ما لم یصل حدّ الأطمئنان المخرج عن التردّد الموجب لانطباق الیقین علیه عرفاً، ولذا یتقابل الیقین مع الشکّ.

توضیح الحال: أنّ الإسناد إذا قیس إلی الذهن باعتبار إدراکه وعدمه، فهو إمّا منکشفٌ لیده أو محتجبٌ عنه، وإذا انکشف استقرّ وثبت في الذهن، وإذا احتجب عنه تردّد فیه وتزلزل. فیعبّر عن الحالتین الاُولیین - الانکشاف وعدمه - بالعلم والجهل، کما أنّه یعبّر عن الحالتین الطارئتین بالشکّ والیقین؛ ولذا یقابل الشکّ مع الیقین، کما یقابل الجهل مع العلم، ولا یحسن مقابلة الشکّ مع العلم والجهل مع الیقین.

وحیث إنّ المتقابلین لا بدّ لهما من جامعٍ یجتمعان فیه، ولولاه لم یتحقّق التقابل بینهما، جعل أفعال الشکّ والیقین نوعاً واحداً، فإنّهما کما عرفت طرفان للحالة القلبیّة المتعلّقة بالإسناد، ولذا عبّر بعضهم عنها بأفعال القلوب. وإنّما عدلنا عنه لأنّه یعمّ فعل القلب مطلقاً ولیس کلّ فعلٍ قلبيٍّ ناسخاً وناصباً للجزئین.

﴿وهي: ظننت وحسبت وخلت﴾ وهذه الثلاثة للظنّ غالباً ﴿وزعمت﴾ وهذا ینطبق علی الظنّ تارة وعلی العلم اُخری ﴿وعلمت ورأیت ووجدت﴾ وهذه الثلاثة للعلم.

وفي حکمها ما في معناها ک-«عدّ» و «حجی» و «جعل» إذا استعملت في مورد الظنّ والاعتقاد، و «دری» بمعنی علم، وإنّما مثّلت بصیغة المتکلّم لا الغائب

ص: 243

تنبیهاً علی أنّ دخولها علی المبتدأ والخبر بعد استیفاء فاعلها.

﴿تدخل علی المبتدأ والخبر﴾ نحو: ظننت زیداً قائماً، وما بمنزلتهما نحو: ظننت زیداً یقوم، وظننت زیداً في الدار ﴿لبیان ما هي﴾ أي تلک الجملة ﴿ناشئةٌ عنه﴾ من العلم أو الظنّ، فإنّ الإسناد الصادر عن المتکلّم قد ینشأ من العلم به، کما أنّه قد ینشأ من الظنّ به ﴿فتنصبهما علی أنّهما مفعولین لهما﴾.

﴿وتلحق بها أفعال التصییر کأخذ وجعل، وردّ وتخذ واتّخذ، فتدخل علیهما وتنصبهما علی المفعولیّة، فتشترکان في أنّه لا یجوز الاقتصار علی ذکر أحد المفعولین﴾ فیهما دون الآخر ﴿بخلاف باب أعطیت﴾ فیجوز فیه الاقتصار علی أحد مفعولیه إذا کان نظر المتکلّم مقصوراً علی بیان المعطی له أو المعطي، فیقال: أعطیت زیداً أو درهماً، ویتنزّل الفعل حینئذٍ منزلة الفعل المتعدّي لواحد. کما یجوز فیه الاقتصار علی ذکر الفعل مع فاعله إذا کان النظر مقصوراً علی إثبات الفعل لفاعله، کما تقول: زید یعطي ویمنع، فترید إثبات العطاء والمنع له من دون نظرٍ إلی بیان المعطی والمعطی له، ویتنزّل الفعل المتعدّي لاثنین حینئذٍ منزلة الفعل اللازم.

وأمّا الأفعال الناسخة وهي أفعال الشکّ والیقین والتصییر یجوز فیها الاقتصار علی ذکر الفعل مع فاعله - کسائر الأفعال - إذا کان النظر مقصوراً علی إثبات الفعل لفاعله، فتتنزّل حینئذٍ منزلة الفعل اللازم، کقولک: یا من یعلم اهدِ فیها علی أحد المفعولین لأنّهما في الأصل مبتدأ وخبر، فإذا ذکر أحدهما فلا بدّ من ذکر الآخر؛ لاستحالة قصر النظر علی أحد طرفي الإسناد مع تلّق النظر إلی الإسناد. وأمّا الاختصار وهو حذف کلیهما أو أحدهما لدلیلٍ یدلّ علیه، فیجري في جمیع الأفعال ولا یختصّ به فعلٌ، ضرورة جواز حذف المبتدأ والخبر معاً أو

ص: 244

أحدهما لدلیلٍ یدلّ علیه، فالقول بعدم جواز حذفهما أو أحدهما اختصاراً لا وجه له.

﴿ویختصّ النوع الأوّل﴾ وهي أفعال الشکّ والیقین ﴿ب-﴾ ثلاثة اُمور:

أحدها: ﴿جواز إلغائها﴾ أي إبطال عملها ﴿إذا توسّطت﴾ بین مفعولیها نحو: زید علمت قائم ﴿أو تأخّرت﴾ عنهما نحو: زید قائم علمت ﴿لصلوح الجزئین للاستقلال﴾ بسبب الإسناد الثابت بینهما بحسب الأصل وعودهما إلی ما کانا علیه من کونهما مبتدأً وخبراً، بخلاف مفعولي باب «أعطیت» فإنّهما غیر صالحین له؛ إذ لیس لهما شأنٌ سوی کونهما من توابع الفعل ومتعلّقاته، ألا تری أنّه یفسد الکلام ویخلّ بالمعنی إذا قلت: زید درهم أعطیت، أو عمروٌ کسوت جبّة، برفع الطرفین ﴿وعدم توقّف النسبة بینهما﴾ أي بین الجزئین ﴿علیها﴾ أي علی أفعال الشکّ والیقین لسبق النسبة بینهما علی الشکّ والیقین؛ ضرورة أنّهما من طواري الإسناد وتوابعه، بخلاف مفعولي أفعال التصییر فإنّ النسبة بینهما متوقّفةٌ علیها وثابتةٌ من قِبَلها، فلا یجوز أن یقال فیها: زیدٌ جعلت قائمٌ، أو زیدٌ قائمٌ جعلت بالإلغاء ورفعهما علی کونهما مبتدأً وخبراً؛ لأنّ جعلهما مبتدأً وخبراً یدلّ علی ثبوت أحدهما للآخر مع قطع النظر عن الفعل، وذکر فعل التصییر متوسّطاً أو متأخّراً یدلّ علی عدم حصول الإسناد بینهما إلّا من قبله، فیتهافتان، فجریا مجری مفعولي باب «أعطیت» من حیث تعلّقهما بالفعل وعدم القبول للاستقلال.

ثمّ اعلم أنّ الجمهور لم یجوّزوا الإلغاء في صورة تقدّم الفعل علیهما، خلافاً الکوفیّین والأخفش، فأجازوا الإلغاء مطلقاً.

واستدلّوا بقوله: «إنّي وجدت ملاک الشیمة الأدب» برفع الجزئین، وبقول آخر: «وما أخال لیدنا منک تنویل» برفع تنویل.

ص: 245

وقد اُجیب: بأنّ الإلغاء کما یجوز بتوسّط العامل بین معمولیه یجوز بتوسّط العامل في الکلام، والعامل في الشعر الأوّل مسبوق ب-«إنّي» وفي الثاني ب-«ما» النافیة.

والصواب: أنّه لا مانع من الإلغاء مع تصدّر العامل لما عرفت: من اجتماع اعتبارین في مفعولي أفعال الشکّ والیقین: الإسناد الأصلي المقتضي لارتفاعهما، والتعلّق الثانوي بالفعل المقتضي لانتصابهما بغیر المانع من رعایة الأصل، فجاز للمتکلّم رعایة کلٍّ من الاعتبارین وترتیب أثره، فمرجع جواز الإلغاء إلی جواز ترتیب کلٍّ من الأثرین باعتبار اجتماع المقتضیین، لا إلی جوازه باعتبار ضعف العامل لأجل توسّطه بینهما أو تأخّره عنهما - کما زعموه - حتّی یقال: بأنّه لا ضعف فیه في صورة تقدّمه فلا یجزي فیه الإلغاء، ولو سلّم ما ذکروه لا یتمّ ما اُجیب به، ضرورة عدم حصول ضعفٍ في العامل بتوسّطه بین الکلام متقدّماً علی معمولیه.

وأمّا ما أجاب بعضهم: من تقدیر لام الابتداء الموجب للتعلیق أو تقدیر ضمیر الشأن فیما وقع فیه الإلغاء مع تقدّم الفعل فأضعف؛ لما مرّ مراراً: من أنّ مرجع تقدیر اللفظ إلی دلالة الدلیل علی معنی المقدَّر فمع انتفاء الدلیل علیه لا مجال للتقدیر.

فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّه لا وجه لمنع الإلغاء في صورة تقدّم الفعل مع وروده، غایة الأمر أنّه شاذٌّ لأنّ مقتضی تقدّم الفعل توجّه نظر المتکلّم أصالةً إلی مدلول الفعل وهو یقتضي جعل المسندین من متعلّقاته، فالعدول عنه إلی جعل المسندین منظوراً بالأصالة وجملةً مستقلّةً لا یلائم مع تقدّمه، وهو موجبٌ لشذوذه لا لمنعه، فالشائع ن الإلغاء إنّما هو مع تأخّر الفعل أو توسّطه.

﴿و﴾ ثانیها: ﴿أنّها تُعلَّق عن العمل فیهما لتصدّرهما بما له صدر الکلام من﴾ أداة ﴿الاستفهام﴾ نحو: علمت أزید عندک أم عمروٌ ﴿و﴾ أداة

ص: 246

﴿النفي﴾ نحو قوله تعالی: (لقد علمت ما هؤلاء ینطقون)(1) (وتظنّون إن لبثتم إلّا قلیلاً)(2) وکقولک: علمت لا زیدٌ عندک ولا عمروٌ ﴿ولام ابتداء﴾ نحو قوله تعالی: (ولقد علموا لمن اشتراه...(3) الآیة) ﴿ولام قسم﴾ کقوله: «لقد علمت لتأتینّ منیّتي» ﴿أو لاستحقاق أحدهما التصدّر کما إذا کان اسم استفهام﴾ نحو قوله تعالی: (لنعلم أيّ الحزبین أحصی)(4) أو مضافاً إلی اسم استفهام کقولک: علمت(5) أبو من زیدٌ؟

واعلم أنّ استحقاق تصدّر المعمول في سائر الموارد لا یوجب تعلیق العامل عنه، وإنّما یوجب تقدّمه علی العامل کقول: أزیداً ضربت؟ وکم درهماً أعطیت زیداً؟ ومتی تسافر؟ وأین تذهب؟ وهکذا، فالتعلیق من خصائص المقام. والسرّ في عدم جریانه في معمولات سائر الأفعال أنّها غیر صالحةٍ للاستقلال فلا یعقل تعلیق العامل عنها، فوجب تعلّقها بعاملها وتقدّمها علیه بمقتضی صدارتها، بخلاف مفعولي أفعال الشکّ والیقین، فإنّهما صالحان للاستقلال - کما عرفت - فتصدّرهما بما یوجب التصدّر أو استحقاق أحدهما التصدّر یوجب غلبة جنبة الاستقلال علی جنبة التعلّق بالفعل وهو الانتصاب، فوجب ارتفاعهما بمقتضی الاستقلال وترتیب أثره دون أثر التعلّق بالفعل، ولذا لم یجب تقدّمهما أو تقدّم أحدهما علی الفعل حنیئذٍ.

ص: 247


1- سورة الأنبیاء، الآیة 65.
2- سورة الإسراء، الآیة 52.
3- سورة البقرة، الآیة 102.
4- سورة الکهف، الآیة 12.
5- کذا صحّحناه، ولم ترد في الأصل: علمت.

فظهر بما بیّنّاه: أنّ التعلیق - کالإلغاء - إرجاعٌ للمعمولین إلی ما کانا علیه من الاستقلال، فهو - کالإلغاء - موجبٌ لإبطال العمل لفظاً ومحلّاً، فلا فرق بینهما إلّا في الوجوب والجواز؛ فإنّ الإلغاء بما یوجب التعلیق واجبٌ وتوسّط العامل بین معمولیه أو تأخّره عنهما جائز، فما اشتهر بینهم: من أنّ الإلغاء إبطالٌ لفظاً ومحلّاً والتعلیق إبطالٌ للعمل لفظاً لا محلّاً في غیر محّله.

فإن قلت: تعلّق الجزئین بالفعل باقٍ في حال التعلیق لتعلّق مضموم الفعل بهما من الیقین ولا شکّ، فهما منصوبا المحلّ حینئذٍ لا محالة.

قلت: التعلّق المعنوي بین الفعل والجزئین ثابتٌ في حال التعلیق والإلغاء، فلو کان ذلک موجباً لانتصاب المحلّ لزم أن یکون الجزءان في حال الإلغاء منصوبي المحلِّ أیضاً، فالموجب لانتصاب المحلّ إنّما هو التعلّق الترکیبي اللفظي لا التعلّق المعنوي فقط.

ثمّ إنّه تبیّن لک ممّا مثّلناه أنّه یجوز أن یکون المعلّق عنه جملةً فعلیّة، ولا یجب أن یکون جملةً اسمیّة، فالتعلیق أوجب جواز الإتیان بها فعلیّة.

﴿و﴾ ثالثها: ﴿أنّه یجوز أن یکون فاعلها ومفعولها ضمیرین متّصلین لشيءٍ واحد، مثل علمتني منطلقاً﴾ وعلمتک منطلقاً، ولا یجوز ذلک في سائر الأفعال، فلا یقال: ضربتک، بل ضربت نفسک، وقس علیه سائر الأمثلة.

﴿وقد تستعمل هذه الأفعال في غیر مورد الشکّ والیقین﴾ المتعلّقین بالإسناد الذي یلزمه طرفان ﴿فیتعدّی إلی مفعولٍ واحد، کظننت بمعنی اتّهمت﴾ یقال: ظننت زیداً، أي: اتّهمته، ومنه قوله تعالی: (وما هو علی الغیب بضنین)(1)

ص: 248


1- سورة التکویر، الآیة 24.

أي بمتّهم ﴿وعلمت بمعنی عرفت﴾ تقول: علمت زیداً، أي: عرفته ومیّزدت شخصه عن غیره ﴿ورأیت بمعنی أبصرت﴾ تقول رأیت زیداً، أي: أبصرته ﴿ووجدت بمعنی أصبت﴾ تقول: وجدت الضالّة، أي: أصبتها.

تنبیه: لیس الغرض من ذلک أنّ الألفاظ المذکورة من الألفاظ المشترکة بالاشتراک اللفظي، بل الغرض أنّها تستعمل في موردین مع اتّحاد الموضوع له والمستعمل فیه، فإنّ الظنّ موضوعٌ للمعنی الجامع بین الاتّهام المتعلّق بالشخص والرجحان المتعلّق بالإسناد، والعلم للانکشاف الجامع بین الیقین المتعلّق بالإسناد والعرفان المتعلّق بالشخص، والرؤیة للظهور الجامع للظهور علی الحسّ والباطن، والوجود للإصابة الجامعة بین الإصابة الحسّیّة والباطنیّة، فاختلاف أحکامها إنّما هو باختلاف موارد استعمالاتها من دون اختلافٍ في وضعها أو استعمالها؛ فإنّ المستعمل فیه - کالموضوع له - في کلّ واحدٍ منها أمرٌ واحد، وإنّما تختلف الموارد باختلاف الخصوصیّات الخارجة عن الموضوع له والمستعمل فیه.

ص: 249

فصل: في باب الاشتغال

﴿إذا اشتغل فعلٌ أو شبهه عن نصب اسمٍ سابقٍ علیه﴾ أي علی الفعل أو شبهه ﴿بالعمل في ضمیره﴾ نصباً کزیدٌ ضربته، أو جرّاً کمررت به ﴿أو﴾ في ﴿متعلّقه﴾ أي متعلّق ضمیره کذلک نحو: زیداً ضربت أخاه، وزیدٌ مررت بأخیه، بحیث ﴿لو سلّط﴾ بمجرّد دفع ذلک الاشتغال ﴿علیه﴾ أي علی ذلک الاسم ﴿هو﴾ أي أحد الأمرین الفعل أو شبهه بعینه ﴿أو مناسبه﴾ بالترادف نحو: زیدٌ مررت به، أو اللزوم نحو: زید ضربت أخاه ﴿لنصبه﴾ أي الاسم السابق وصحّ المعنی، فإنّه لو سلّط في الأوّل «جاوزت» المرادف لمررت به، وفي الثاني «أهنت» اللازم لضربت أخاه، علی زیدٍ لنصبه علی المفعولیّة ولم یخلّ بالمعنی ﴿جاز نصبه﴾ أي الاسم السابق ﴿علی أنّه مفعولٌ في المعنی، ورفعه علی تنزّله منزلة المبتدأ﴾ إذ الجملة مشتغلةٌ عنه بضمیره أو متعلّقه مخبرةٌ عنه معنی وإن لم تکن خبراً عنه بحسب الترکیب، لما عرفت: من استحالة وقوع الجملة خبراً إلّا إذا اُرید لفظها ﴿إن لم یقترن هو﴾ أي الاسم السابق ﴿أو الفعل بما یوجب رفعه، کاقترانه بما یختصّ بالابتداء﴾ ک-«إذا» المفاجئة علی القول باختصاصها به مطلقاً أو إذا کان الفعل مجرّداً عن «قد» نحو: خرجت فإذا زید لقیته ﴿أو اقتران

ص: 250

الفعل بما له صدر الکلام﴾ المانع من العمل في ما قبله، کالاستفهام و «ما» النافیة وأدوات الشرط، نحو زید هل رأیته، وخالد ما صحبته، وعبد الله إن أکرمته أکرمک ﴿أو نصبه، کاقترانه بما یختصّ بالفعل کأدوات التحضیض وأدوات الشرط وأدوات الاستفهام غیر الهمزة﴾ نحو: هلّا زیداًً أکرمته، وإن زیداً أکرمته أکرمک، وهل زیداً رأیته، فإنّ أدوات الاستفهام ما عدی الهمزة تختصّ بالفعل إذا کان في حیزّها فعل.

﴿و﴾ اعلم أنّ ﴿نصب الاسم السابق﴾ علی المفعولیّة ﴿بالفعل المذکور﴾ بعده ﴿لا بفعلٍ محذوفٍ یفسّره هو﴾ أي الفعل المذکور کما اشتهر بینهم ﴿وإلّا جاز النصب قبل﴾ فعل اقترن ب-﴿ماله صدر الکلام﴾ إذ لا مانع من تقدیر الفعل قبل الاسم حینئذٍ.

فإن قلت: لا یصحّ تقدیر الفعل إلّا مع وجود مفسّرٍ له یدلّ علیه، وما لا یعمل فیما قبله لا یفسّر عاملاً، وهذا من القواعد المسلّمة عندهم، فعدم جواز نصبه إنّما هو لعدم إمکان تقدیر الفعل حینئذٍ.

قلت: تفسیر المذکور للمحذوف إنّما هو باعتبار دلالته علی تعلّق مثله أو مرادفه أو لازمه بالاسم السابق، وهذه الدلالة ثابتةٌ له سواء کان صالحاً للعمل فیما قبله أم لا، فلا وجه لاختصاص التفسیر بإحدی الصورتین، والقاعدة غیر مسلّمةٍ عند الکلّ وإنّما اخترعها والتزم بها من زعم أنّ الشمغول عنه منصوبٌ بفعلٍ محذوف فراراً عمّا یرد علیه: من جواز انتصابه في الصورة المذکورة، مع أنّه لا حجّیة في اتّفاقهم علی ضرب قاعدةٍ لا تنتهي إلی دلیلٍ یعتمد علیه.

فإن قلت: لو کان الاسم السابق مفعولاً للفعل المذکور لزم تعدّي الفعل المتعدّي إلی واحدٍ إلی اثنین في نحو: زیداً ضربته، وتعدّي الفعل اللازم إلیه

ص: 251

بلا واسطة حرف الجرّ في نحو: زیداً مررت به، وتعلّق عین الفعل لا لازمه به في نحو: زیداً ضربت أخاه، وبطلان اللوازم بیّن.

قلت: الضمیر متّحدٌ مع مرجعه وهو الاسم السابق، فجاز نصبهما بالافعل المتعدّي إلی واحدٍ لأنّهما في حکم مفعولٍ واحد، وتعدیة الفعل اللازم بحرف الجرّ إلی ضمیره في نحو: زیداً مررت به، أوجبت تنزّله منزلة الفعل المتعدّي إلی واحدٍ وهو جاوزت، فجاز أن ینصب الاسم السابق بعد تعدیته إلی ضمیره بحرف الجرّ، والمدلول المطابقي للفعل في نحو: زیداً ضربت أخاه، إنّما تعلّق بالاسم المتأخّر عنه المتعدّي إلیه ابتداءً، وبعد تعدیته إلیه حصل له مدلولٌ التزاميٌّ وهي الإهانة بالنسبة إلی زید، فنصبه باعتبار مدلوله الالتزامي، فلا یوجب تعلّق عین الفعل به باعتبار مدلوله المطابقي.

والحاصل: أنّ المعنی المقتضي للنصب وهي المفعولیّة ثابتٌ للاسم المتقدّم والمتأخّر معاً، والمفعولیّة المعتورة علیهما متقوّمةٌ بالفعل المذکور، غایة الأمر أنّ إحداهما متقوّمةٌ بمدلوله المطابقي والاُخری بمدلوله الالتزامي، فالعامل فیهما هو الفعل المذکور إذ العامل عندهم إنّما هو ما یتقوّم به المعنی المقتضي للإعراب، فلا یقدح في تعلّق الفعل بهما والعمل فیهما اختلافهما في کیفیّة التعلّق وتعلّق الفعل بأحدهما باعتبار مدلوله المطابقي وبالآخر باعتبار مدلوله الالتزامي، کما لا یقدح تعدّي الفعل إلی مفعولین متغایرین في المقام من جهة خصوصیّة المورد مع أنّه متعدٍّ في حدّ نفسه إلی مفعولٍ واحد.

﴿وإذا جاز الوجهان فالراجح الرفع﴾ في حدّ نفسه؛ لأنّ الظاهر عند اشتغال العامل بضمیر الاسم السابق ومتعلّقه تنزیله منزلة المبتدأ.

﴿ویختار نصبه علی رفعه إذا تلی ما غلب علیه﴾ أن یقع ﴿الفعل﴾ بعده

ص: 252

کهمزة الاستفهام، نحو قوله تعالی: (أبشراً منّا واحداً نتّبعه)(1) ما لم یفصل بینها وبینه بغیر ظرفٍ فالمختار الرفع، وکأدوات النفي نحو: ما زیداً رأیته، ولا خالداً صحبته، وإن بکراً عاشرته ﴿أو وقع قبل فعل طلب﴾ بالصیغة أو بالأداة أمراً کان أو نهیاً أو دعاءً نحو: زیداً أکرمه، وعمرواً لا تکرمه، واللهمّ عبدک ارحمه، وبکراً لیکرمه زید. واستثني منه ما إذا دلّ الاسم علی العموم ودخل الفاء علی الفعل تشبیهاً لهما بالشرط والجزاء فیختار الرفع حینئذٍ أو یجب؛ ولذا اتّفقت السبعة علی القراءة بالرفع في قوله تعالی: (السارق والسارقة فاقطعوا أیدیهما)(2) و (الزانیة والزاني فاجلدوا کلّ واحدٍ منهما مائة جلدة)(3) ﴿أو کان في جملةٍ معطوفةٍ علی فعلیّة﴾ نحو أکرمت زیداً وعمرواً أهنته؛ لأنّ الرفع موجبٌ لتخالف الجملتین المتعاطفتین والنصب موجب لتشاکلهما، وتشاکلهما أولی من تخالفهما، فیختار النصب.

﴿ویستویان إذا کانت﴾ الجملة التي فیها الاسم المشغول عنه ﴿معطوفةً علی﴾ جملةٍ ﴿ذات وجهین﴾ نحو هند أکرمتها وزید ضربته عندها، لتشاکل المتعاطفین علی التقدیرین، هکذا قالوا.

﴿ولیس منه﴾ أي من باب الاشتغال ﴿قوله تعالی: «وکلّ شيءٍ فعلوه في الزبر» بعدم صحّة تسلیط الفعل علی الاسم السابق﴾ للإخلال بالمعنی المقصود علی فرض تسلیطه علیه؛ لأنّ المراد أنّ کلّ شيءٍ فعلوه ثابتٌ في الزبر مکتوبٌ فیها، فلو

ص: 253


1- سورة القمر، الآیة 24.
2- سورة المائدة، الآیة 38.
3- سورة النور، الآیة 2.

جعل منصوباً بفعلوا وقیل: فعلوا کلّ شيء في الزبر وصحائف أعمالهم، فات المعنی المقصود ولزم أن یکونوا فاعلین کلّ شيءٍ ثابتاً في الزبر إن کان الظرف صفةً لشيء وهو خلاف المقصود، أو فاعلین في الزبر کلّ شيء إن کان الظرف متعلّقاً بالفعل فیخلّ بالمعنی من وجهین: الأوّل: أن یکونوا فاعلین کلّ شيءٍ من دون استثناء، والثاني: أن تکون الزبر محلّاً لأعمالهم وأفعالهم، وهو باطل جدّاً.

والحاصل: أنّ نصب الاسم السابق إنّما یصحّ إذا کان الفعل في محلّ الإخبار به عنه، وأمّا إذا کان صفةً له فلا، والفعل في الآیة الشریفة صفةٌ ل-«کلّ شيء» والخبرر عنه هو الظرف.

ص: 254

فصل: في باب التنازع

﴿إذا توجّه العاملان فصاعداً إلی معمولٍ واحد﴾ متأخّرٍ عنهما نحو: ضربني وأکرمني زید، وضربت وأکرمت زیداً، أو متقدّم علیهما نحو: بحول الله تعالی أقوم وأقعد، وإیّاک ضربت وأکرمت.

﴿فإن اتّفقا عملاً﴾ رفعاً أو نصباً أو جرّاً کالأمثلة المتقدّمة ﴿فهو معمولٌ لکلٍّ منهما﴾ ولا تنازع بینهما؛ إذ لا مانع من اجتماع عاملین علی معمولٍ واحد.

وما ذکره الفاضل الرضي (قدس سره) : من أنّهم یجرون عوامل النحو کالمؤثّرات الحقیقیّة واجتماع المؤثّرین التامّین علی أثرٍ واحد مدلولٌ علی فساده في علم الاُصول، في غیر محلِّه؛ لأنّ المراد من المجرین إن کان جماعة النحاة فما ذکره خارجٌ عن وظیفتهم لأنّ وظیفتهم إنّما هو استنباط أحکام التراکیب من کلمات أهل اللسان وتبیینها لغیرهم لا تنزیل غیر المؤثّر الحقیقي منزلة المؤثّر الحقیقي، فلا وجه لنسبة هذا التنزیل إلیهم، مع أنّه لو ثبت صدوره منهم فلا أثر له کما هو واضح. وإن کان المراد أهل اللسان فلم یظهر منهم هذا الالتزام، وأنّی له بإثباته! مع أنّه مقطوعٌ علی فساده؛ إذ لو جرت العوامل عندهم مجری المؤثّرات الحقیقیّة لما جاز تقدیم المعمول علی العامل کما لا یجوز تقدیم الأثر علی المؤثّر، مع أنّ جواز تقدیم المفعول وکثیرٍ من المعمولات علی الفعل متّفقٌ عیه عندهم ولا یمکن لأحدٍ إنکاره، علی أنّ اجتماع

ص: 255

العلّتین التامّتین في حدّ أنفسهما علی محلٍّ واحدٍ جائز، غایة الأمر أنّهما لا یتّمان في التأثیر حینئإٍ، وعدم التمامیّة في التأثیر الفعلي لا ینافي التمامیّة الاقتضائیّة الذاتیّة؛ ضرورة أنّ نقصان العلّة في التأثیر بسبب المزاحمة بمثلها لا ینافي التمامیّة الذاتیّة النفسیّة بل یؤکّدها، لأنّ نقص کلٍّ نقص کلٍّ منهما في التأثیر وعدم الاستقلال فیه عند اجتماعهما علی محلٍّ واحدٍ من آثار تمامیّة کلٍّ منهما في حدّ نفسه وعدم ضعفه بالنسبة إلی الاُخری، مع أنّک قد عرفت أنّ موجد العمل إنّما هو المتکلّم فالعامل الحقیقي هو المتکلّم، واللفظ لیس فاعلاً ولا آلةً له، وإنّما یتقوّم ویتحصّل به المعنی المتقضي للإعراب: من الفاعلیّة والمفعولیّة والإضافة وهکذا، وتسمیته عاملاً مجرّد اصطلاحٍ من بعض أهل الصناعة، وتقوّم المعنی المقتضي بلفظین فصاعداً لا مانع له.

فإن قلت: تقوّم المعنی المقتضي للإعراب المعتور علی کلمةٍ واحدة بکلٍّ من اللفظین فصاعداً یوجب تعدّده باعتبار تعدّد ما یتقوّم به المستلزم لاجتماع معنیین فصاعداً علی محلٍّ واحدٍ في ترکیبٍ واحد، وهو باطل.

قلت: تعدّد المعنی المعتور علی کلمةٍ واحدة باعتبار تعدّد المتقوّم به تعدّدٌ اعتباريٌّ ینتزع من تعدّد الأطراف المقوّمة له، فلا ینافي مع وحدته الحقیقیّة من جهة وحدة موضوعه ومحلّه؛ ألا تری أن المبتدأ المخبَر عنه بأخبارٍ متعدّدةٍ في ترکیبٍ واحد یتعدّد الإسناد إلیه باعتبار تعدّد أخباره، ولا ینافي ذلک مع وحدته، ولذا لم یتأمّل أحدٌ في جوازه.

﴿وإن اختلفا﴾ عملاً ﴿فالعمل﴾ ثابتٌ ﴿لواحدٍ منهما﴾ إذ لا یجوز اجتماع الأثرین المختلفین علی محلٍّ واحد، ولا یتعیّن الأوّل أو الثاني للعمل، بل یتخیّر المتکلّم في إعمال أیّهما شاء وإهمال الآخر، وإنّما اختلف البصریّون والکوفیّون في المختار منهما ﴿فاختار البصریّون﴾ إعمال ﴿الثاني لقربه﴾ من المعمول ﴿والکوفیّون الأوّل لسبقه﴾ علی العامل الثاني.

ص: 256

﴿فإن أعملت الأوّل﴾ منهما ﴿أضمرت للثاني﴾ مطلقاً، طالباً للمرفوع أو المنصوب أو المجرور ﴿نحو أکرمت وضرباني الزیدین، وأکرمني وأکرمته زید، وقام ومررت بهما أخواک﴾ لعود الضمیر علی المتقدّم رتبةً وإن کان متأخّراً عنه لفظاً.

﴿وإن أعملت الثاني﴾ منهما ﴿حذفت من﴾ العامل ﴿الأوّل﴾ المعمول ﴿المنصوب أو المجرور﴾ لعدم کونه عمدةً، واستلزامِ الإضمار عود الضمیر علی المتأخّر لفظاً ورتبة نحو: أکرمت وأکرمني زیدٌ، ومررت ومرّ بي عمروٌ ﴿إلّا إذا أوجب﴾ الحذف ﴿اللبس فیجب إضماره مؤخّراً﴾ عن المعمول المتنازع فیه ﴿نحو استعنت واستعان عليّ زید به﴾ إذ لو حذف من الأوّل لم یعلم أنّ زیداً متسعانٌ به أم مستعانٌ علیه، فوجب إضماره مؤخّراً رفعاً للالتباس ودفعاً للإضمار قبل الذکر.

وقد استثني أیضاً ما إذا کان المعمول خبراً لکان أو ظنّ أو إحدی أخواتهما، فأوجب بعضهم الإضمار مؤخّراً، ومثّل بنحو: کنت وکان زید صدیقاً إیّاه، وظنّني وظننت زیداً قائماً إیّاه. وقیل: یضمر مقدّماً، وقیل: بل یظهر، وقیل: یحذف کسائر الموارد لجواز حذف أحد معمولیها لدلیل.

أقول: والصواب أنّ ما یکون من قبیل المثالین لا یجب فیه الإضمار - لا مؤخّراً ولا مقدّماً - ولا الإظهار ولا الحذف؛ لأنّ العاملین فیهما متّفقان في العمل، فالاسم المنصوب فیهما الذي زعموا تنازع العاملین فیه مفعولٌ ثانٍ للفعلین في باب ظنّ، وهخبرٌ للفلعین في باب کان. وأمّا ما اختلف العاملان فیه عملاً فالحقّ وجوب حذف المنصوب من الأوّل مطلقاً إلّا أن یوجب اللبس.

﴿وإن احتاج﴾ الأوّل ﴿إلی المرفوع فالبصریّون یضمرونه لامتناع حذف العمدة واغتفار الإضمار قبل الذکر حینئذٍ عندهم، وعن الکسائي وهشام والسهیلي: أنّهم یوجبون الحذف﴾ هرباً من الإضمار قبل الذکر ﴿وعن الفرّاء:

ص: 257

أنّه أوجب الإضمار مؤخّّراً﴾ فیقال: ضربوني وضربت قومک بالنصب علی الأوّل، وضربني وضربت قومک علی الثاني، وضربني وضربت قومک هم علی الثالث.

﴿والصواب أنّه یجب المطابقة بینه وبین المتنازع فیه﴾ إفراداً وتثنیةً وجمعاً؛ إذ لو لم یطابق المتنازع فیه مع عدم إعماله فیه لم یعلم أن مطلوب العامل هو المعمول الذي اُهمل عن العمل فیه ﴿وحذف المرفوع إن کان العامل اسماً﴾ نحو أضاربک وضربت زیداً؟ أو أضارباک وضربت الزیدَین؟ لما مرّ لک: من اختصاص الاستتار بالعمل المنبئ عن المسند إلیه بالهئیة الاشتقاقیّة، وفساد توهّم الاستتار في الوصف في صورة المطابقة ﴿والحکم باستتاره﴾ أي المرفوع ﴿لا إضماره إن کان﴾ العامل ﴿فعلاً﴾ لما تبیّن لک: من أنّ المستتر من مقوله المعنی المنويّ مع اللفظ المدلول علیه من قِبَل الهیئة الفعلیّة تبعاً والتزاماً، والتعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ، فلا یکون ضمیراً تحقیقاً حتّی یستتر تارةً ویبرز مرّةً ویلزم عوده علی المتأخّر لفظاً ورتبة حتّی یقال باغتفاره في الصورة المزبورة أو وجوب حذفه هرباً منه أو لزوم إبرازه وذکره مؤخّراً ﴿فالأقوال﴾ الثلاثة ﴿کلّها باطلة﴾ غیر منطبقةٍ علی الواقع، القول الأوّل من وجهین: الالتزام بالإضمار، وعود الضمیر علی المتأخّر لفظاً ورتبةً وإن أصاب في لزوم المطابقة بینه وبین المتنازع فیه. والقول الثاني من وجهین أیضاً: الالتزام بإفراد العامل، وحذف المرفوع في الفعل وإن أصاب في القول بالحذف بالنسبة إلی الوصف. وأمّا القول الثالث فخطأٌ محض.

تنبیه: قد تبیّن لک بما مثّلناه في صدر المبحث أنّه کما لا یعتبر في توجّه العاملین إلی معمولٍ واحد تأخّره عنهما، کذلک لا یعتبر کونه اسماً ظاهراً ویجوز أن یکون ضمیراً، فما اشتهر بینهم من اعتبار الأمرین فیه في غیر محلّه.

ص: 258

أساس في المعاني المعتورة التابعة للإسناد

اشارة

أساس في المعاني المعتورة التابعة للإسناد(1)

﴿هذا أساس: اعلم أنّ المعاني المعتورة التابعة للإسناد﴾ الموجبة لتقییده وانعقاد القیود التي هي فضلةٌ في الکلام ﴿علی أنحاءٍ مختلفة﴾ المفعولیّة والحالیّة والاستثناء والتمییز ﴿والقید المنعقدة منها علی أقسامٍ ثلاثة؛ لأنّها متعلّقةٌ إمّا بالمسند﴾ فقط ﴿أو بالمسند إلیه﴾ فقط ﴿أو بذا﴾ أي المسند إلیه ﴿تارةً وبذاک﴾ أي المسند مرّةً ﴿وبالإسناد اُخری، والأصل فیها النصب کما أنّ الاصل في الأرکان الرفع﴾.

فإن قلت: هنا قسمٌ رابع وهو المتعلّق بالإسناد فقط کالمجرورات، فإنّها کما مرّ ذکرها إنّما تتعلّق ابتداءً بالإسناد لا بالمسند فِلمَ ترکتها؟

قلت: المجرورات لیست من القیود التعابة للإسناد؛ فإنّها قد تکون رکناً في الکلام وطرفاً للإسناد الإضافي نحو: زید في الدار، وقد تکون قیداً وفضلةً کقولک: ضربت في الدار، وکلامنا الآن في القیود المتمحّضة في القیدیّة ولذا ترکتها.

ص: 259


1- العنوان منّا.

﴿فهناک أیضاً أبوابٌ ثلاثة﴾ أي کما أنّ الأصل وهو الإسناد اشتمل علی أبوابٍ ثلاثة فکذلک الفرع.

ص: 260

الباب الأوّل: في المتعلّق بالمسند

﴿وهو المفعول﴾ بلا قیدٍ أخذاً من الفعل الاصطلاحي المنطبق علی حرکة المسمّی ﴿المعبّر عنه بالمفعول به عند الجمهور﴾ تبعاً للبصریّین أخذاً من المفهوم اللغوي المنطبق علی مطلق الإیجاد.

توضیح الحال: أنّ المفعول من الفعل اللغوي بمعنی الإیجاد منطبقٌ علی نفس الحدث؛ ضرورة أنّ المصدر إذا کان بمنی الإیجاد یتّحد مع المفعول منه وهو الموجود في الخارج، ولا تغایر بینهما إلّا في مرحلة التحلیل، فیصدق المصدر علی المفعول حینئذٍ کما یصدق المفعول علیه، کالفعل والمفعول والخلق والمخلوق والصنع والمصنوع - ومن هذا القبیل النطق والمنطوق واللفظ والملفوظ - فالمفعول من الفعل بهذا المعنی مطلقاً إنّما هو الحدث لأنّه الموجود من الفاعل، ولا ینطبق علی ما وقع علیه الحدث إلّا مقیّداً بحرف الجرّ لعدم وجوده من الفاعل، وإنّما فعل الفعل ووجد متعلّقاً به. وأمّا إذا أخذ لمفعول من الفعل بمعنی حرکة المسمّی وحدثٍ عن ذات فهو منطبقٌ علی ما وقع علیه الحدث بلا قیدٍ؛ لأنّ حرکة المسمّی إنّما تقع علیه لا علی الحدث.

وإنّما أخذنا المفعول من الفعل بمعنی حرکة المسمّی وعبّرنا به مطلقاً من غیر تقییدٍ بحرف الجرّ؛ لأنّ الفعل اللغوي لا ینطبق علی جمیع الأحداث حتّی یصیر ما قام به الحدث فاعلاً وما وقع علیه مفعولاً به؛ إذ بعض الأحداث یکون ووصفاً کالعلم والجهل والقدرة والعجز، وبعضها یکون عدماً محضاً کالعدم والفقد والسکون والزوال ونحوهما، وإنّما ینطبق علیها الفعل باعتبار الإسناد الحدوثي الموجب

ص: 261

لانطباق حرکة المسمّی علیه، فالصواب حینئذٍ أخذ المفعول من الفعل بالمعنی الذي بیّنّاه، والتعبیر عمّا وقع علیه الحدث بالمفعول مطلقاً من دون قیدٍ، کما عبّر به الکوفیّون.

فإن قلت: الفعل بالمنی الاصطلاحي المنطبق علی حرکة المسمّی من الجوامد والذوات ولیس من المبادي الاشتقاقیّة حتّی یصحّ صوغ صیغة المفعول منه.

قلت: الفعل بالمعنی المذکور لیس من الذوات حتّی لا یصحّ صوغ صیغ المشتقّات منه بل من الأحداث؛ ضرورة أنّ حرکة المسمّی مصداقٌ من مصادیق المفهوم اللغوي للفعل، فلا فرق بینهما إلّا في العموم والخصوص، وعدم الانطباق علی الحدث إنّما هو من قِبَل الخصوصیّة الثابتة له.

وکیف کان ﴿فهو ما وقع علیه حرکة المسمّی﴾ وحدثٌ عن ذات، سواء کان الوقوع علیه في مرحلة التحلیل والتصوّر ﴿نحو خلق الله العالم﴾ وأنشأت کتاباً، وعملت خیراً، أم کان الوقوع علیه في مرحلة الخارج نحو: رأیت زیداً ﴿وضربت عمرواً﴾ وسواء کان الوقوع علیه إثباتاً کالمثال المتقدّم أم نفیاً نحو: ما عملت شرّاً ﴿وما رأیت بکراً﴾.

توضیح الحال: أنّ المراد من الوقوع هي النسبة الوقوعیّة سواءً کانت إیجابیّه أم سلبیّة، فلا ینتقض الحدّ بمفعول الفعل المنفي؛ لأنّ السلب والإیجاب کیفیّتان متقابلتان متواردتان علی النسبة، فهي جامعةٌ بینهما وثابتةٌ مع کلٍّ منهما، لا أنّ الإیجاب إیجابٌ للنسبة والسلب سلبٌ لها کما قد یتوهّم. والنسبة الوقوعیّة أعمّ من أن یکون الوقوع علیه بحسب الخارج کما إذا کان المفعول موجوداً في الخارج مع قطع النظر عن وقوع الحدث علیه وتعلّقه به نحو: ضربت زیداً، أو بحسب التصوّر وفي مرحلة التحلیل کما إذا لم یکن المفعول موجوداً قبل تعلّق الحدث به وکان

ص: 262

الحدث إیجاداً له کقولک: خلق الله العالم، فإنّ المفعول حینئذٍ متقدّمٌ علی الفعل في مرحلة التصوّر والتحلیل، والفعل عارضٌ وواقعٌ علیه في هذه المرحلة؛ ضرورة أنّ الموجود مرکّبٌ من الماهیّة والوجود ومنحلٌّ إلیهما، والوجود عارضٌ علیها، وهي معروضةٌ له تصوّراً وتحلیلاً وإن لم یکن في مرحلة الخارج ترکیبٌ ولا عارضٌ ولا معروض، فما ذکره عبد القاهر والرازي والزمخشري وابن الحاجب: من أنّ المفعول في أمثال هذه الموارد مفعولٌ مطلقاً لا مفعولٌ به لأنّ فعل الفاعل فیها هو فعل إیجاده فلا یکون واقعاً علیه فیکون مفعولاً مطلقاً لا مفعولاً به، في غیر محلّه؛ لما عرفت: من تقدّمه علی الفعل ذهناً وتصوّراً فیکون واقعاً علیه، والمفعول المطلق غیر متقدّمٍ علی فعله لا ذهناً ولا خارجاً، کضربت ضرباً وضربةً وضرباً شدیداً، ولو کان الأمر کما ذکروه لزم أن لا یصحّ إطلاق المخلوق علی العالم، والمنشَأ علی الکتاب، والمعمول علی الخیر؛ لأنّ صیغة المفعول إنّما تصدق علی ذاتٍ وقع الحدث علیها لا علی نفس الحدث.

وکیف کان، فلا ینتقض الحدّ بالمرفوع في نحو: أعطی زید درهماً؛ لعدم وقوع حرکة المسمّی علیه في هذا الترکیب، لأنّه فاعلٌ للفعل في هذا الترکیب وإن کان مفعولاً به في قولک: أعطیت زیداً درهماً؛ إذ لا منافاة بین کونه فاعلاً في ترکیبٍ ومفعولاً به في ترکیبٍ آخر.

فإن قلت: مقتضی الحدّ أن یکون المفعول متعلّقاً بالمسند بالإسناد الحدوثي ومن قیوده، مع أنّ المفعول قد یتعلّق بالمسند بالإسناد الاتّحادي کقولک: زید ضارٌ عمرواً.

قلت: نعم، الأمر کذلک فإنّ المفعول إنّما سمّي مفعولاً لوقوع الفعل - وهو حرکة المسمّی - علیه خارجاً أو تحلیلاً، واسم الفاعل بمعناه الاسميّ - وهو العنوان

ص: 263

المنطبق علی الذات - لا یکون واقعاً علی المفعول کما هو ظاهر، وإنّما یکون واقعاً علی المفعول باعتبار المعنی الفعليّ المأخوذ منه هو، فلا یطلب مفعولاً بمعناه الاسمي، وإنّما یطلبه بالمعنی الفعلي المشتمل علیه هو، فالفعل أصلٌ في العمل، واسم الفاعل ونحوه إنّما یعمل لأجل اتّصاله به وأخذه منه وإنبائه عن المعنی الفعلي ضمناً.

﴿وهو منصوبٌ بالمفعولیّة﴾ التي هي معنیً معتورٌ علیه مقتضٍ لانتصابه - کما قال به خلف - لا بالفعل وشبهه - کما اختاره البصریّون - لما عرفت: من أنّ المعنی المقتضي للإعراب أقرب إلیه ممّا یتقوّم به هو، فإسناده إلی المعنی المقتضي أولی من إسناده إلی ما یتقوّم به هو.

﴿وقد یتعدّد﴾ المفعول ﴿فیکون اثنین نحو کسوت زیداً جبّة﴾ وعلمته فاضلاً ﴿أو ثلاثة﴾ بواسطة نقل الفعل إلی باب الإفعال أو التفعیل ﴿نحو أعلمت زیداً عمرواً فاضلاً﴾ وعلّمته بکراً فقیهاً ﴿ولا یتجاوز﴾ مفعول فعلٍ واحدٍ ﴿عنها﴾ أي عن الثلاثة، إذ لم یسمع للفعل المجرّد أکثر من مفعولین حتّی یتجاوز عن ثلاثة بواسطة نقله إلی أحد البابین.

﴿والأصل﴾ أي الذي ینبغي أن یکون الشيء علیه في حدّ نفسه ﴿تقدّم﴾ المفعول الذي هو ﴿الفاعل معنیً﴾ علی المفعول الذي لم یکن کذلک ﴿أو مبتدا الأصل﴾ علی المفعول الذي هو خبرٌ في الأصل، فالأوّل ﴿کزیداً في أعطیت زیداً درهماً﴾ وأعلمت زیداً عمرواً فاضلاً، فیتقدّم زیداً علی الدرهم؛ لأنّه آخذٌ والدرهم مأخوذ، وعلی عمرواً فاضلاً؛ لأنّه عالمٌ والمفعولین المتأخّرین عنه معلوم ﴿و﴾ الثاني کزیداً أیضاً في ﴿علمت زیداً فاضلاً﴾ فیقدّم زیداً علی فاضلاً؛ لأنّه في الأصل مبتدأٌ وقائماً خبره.

﴿ویجب ذلک﴾ أي التقدیم الذي هو الأصل ﴿إذا خیف اللبس، کأعطیت

ص: 264

زیداً عمرواً﴾ وظننت زیداً بکراً ﴿أو کان الثاني محصوراً، کا أعطیت زیداً إلّا درهماً أو﴾ کان الثاني اسماً ﴿ظاهراً والأوّل ضمیراًً نحو (إنّا أعطیناک الکوثر)(1)﴾.

﴿ویمتنع﴾ التقدیم ﴿إذا اتّصل الأوّل بضمیر الثاني، کأعطیت المال مالکه﴾ إذ لو قدّم حینئذٍ لزم عود الضمیر علی متأخّرٍ لفظاً ورتبةً ﴿أو کان محصوراً، کما أعطیت الدرهم إلّا زیداً أو﴾ کان ﴿ظاهراً والثاني مضمراً، کالدرهم أعطیته زیداً﴾.

﴿ویجوز حذف المفعول اقتصاراً﴾ بأن یتعلّق نظر المتکلِّم ببیان ثبوت الفعل لفاعله فقط فینزّل الفعل المتعدّي حینئذٍ منزلة اللازم، وکذا یجوز حذف أحد المفعولین اقتصاراً إلّا في باب «ظنّ» کما مرّ التنبیه علیه ﴿أو اختصاراً﴾ بدلیلٍ حاليٍّ أو مقاليٍّ یدلّ علیه ﴿لغرضٍ لفظيٍّ کتناسب الفواصل نحو﴾ قوله تعالی: ﴿(ما ودَّعک ربّک وما قلی)(2) أو معنويٍّ کاحتقاره نحو قوله تعالی: (کتب الله لأغلبنّ)(3)﴾ أي الکافرین، فحذف احتقاراً ﴿أو استهجانه﴾ أو غیر ذلک من الأغراض.

﴿وقد یمتنع﴾ حذفه ﴿کأن یکون محصوراً فیه﴾ نحو إنّما ضربت زیداً ﴿أو جواباً لسؤال﴾ کضربت زیداً، جواباً لمن قال: من ضربت؟

﴿وینحصر المفعول فیه﴾ أي فیما وقع علیه الحدث ﴿لأنّه بالمعنی

ص: 265


1- سورة الکوثر، الآیة 1.
2- سورة الضحی، الآیة 3.
3- سورة المجادلة، الآیة 21.

المذکور﴾ المأخوذ من الفعل المنطبق علی حرکة المسمّی ﴿لا یصدق علی غیره ممّا عدّوه مفاعیل﴾ وإنّما الجامع بین الأقسام التي ذکروها هو المفعول المأخوذ من الفعل اللغوي الصادق علی المصدر مطلقاً وعلی سائر المفاعیل مقیّداً بالقیود التي ذکورها، بل لا یکون جامعاً بینها بهذا المعنی أیضاً؛ لأنّ المفعول من دون قیدٍ یختصّ بالمصدر المسمّی مفعولاً مطلقاً، ولا یشمل المطلق والمقیّد ﴿مع أنّ الظرف منصوبٌ علی الظرفیّة رکناً کان﴾ کصلاتي خلف الأمیر، وخطبتي أمامه ﴿أم قیداً﴾ وفضلةً کصلّیت خلف الأمیر، ومشیت وراءه، فلا یصحّ عدّه من المفاعیل التي هي فضلةٌ في الکلام ﴿وما سمّي مفعولاً معه منصوبٌ علی مصاحبته لفاعلٍ أو مفعول﴾ فلا یکون فضلةً وقیداً مطلقاً ﴿والمفعول المطلق والمفعول لأجله مندرجان في التمییز فتقسیمه إلی خمسةٍ کما اشتهر﴾ بینهم أو إلی ستّةٍ بزیادة المفعول منه کما عن السیرافي، محتجّاً بقوله تعالی: (واختار موسی قومه سبعین رجلاً)(1) لأنّ المعنی من قومه، دو إلی أربعةٍ بدرج المفعول لأجله في المفعول المطلق کما عن الزجّاج والکوفیّین ﴿باطلٌ وسیظهر لک التفصیل﴾ إن شاء الله تعالی.

ص: 266


1- سورة الأعراف، الآیة 155.

الباب الثاني: في المتعلّق بالمسند إلیه

اشارة

﴿وهو علی قسمین؛ لأنّ المتعلّق به: إمّا بواسطة أداة أو لا، ففیه فصلان﴾

الفصل الأوّل: في القسم الأوّل وهو المستثنی

وهو في مصطلح النحاة ما اُخرج بإلّا عن حکم ما یعمّه تحقیقاً أو توهّماً.

﴿فهو علی قسمین فإن کان مُخرَجاً بإلّا عن حکم ما یعمّه تحقیقاً﴾ عموم الکلّي لجزئیّاته أو عموم الکلّ لأجزائه ﴿فمتّصلٌ، کجاءني القوم إلّا زیداً﴾ واشتریت العبد إلّا نصفه ﴿وإلّا﴾ یعمّه کذلک بأن کان خارجاً عن مدلول المستثنی منه وإنّما یتوهّم شمول حکمه له تبعاً فیستثنی منه ﴿فمنقطعٌ﴾ باعتبار خروجه عمّا استعمل فیه المستثنی منه وإن کان متّصلاً به باعتبار أنّه من توابعه ﴿نحو ما فیها أحدٌ إلّا حماراً﴾ ولذا قال ابن السراج: المنقطع عائدٌ إلی المتّصل؛ لأنّک إذا قلت: ما ما فیها أحدٌ إلّا حماراً، فمعناه ما فیها أحدٌ ولا ما یتبعه إلّا حماراً.

واعلم أنّا جعلنا المستثنی مُخرَجاً عن حکم العامّ لا عن نفسه؛ تنبیهاً علی أنّ الاستثناء إنّما یتعلّق بالمسند إلیه من حیث أنّه مسندٌ إلیه لا من حیث ذاته؛ لاستحالة إخراج الجزئي عن ذات الکلّي الصادق علیه، والجزء عن ذات الکلّ المحتوي علیه.

فإن قلت: الإخراج عن المسند إلیه بوصف أنّه مسندٌ إلیه مستلزمٌ للتناقض؛ إذ یلزم حینئذٍ أن یکون المستثنی محکوماً بحکمین متضادّین، فزیدٌ في «قام القوم إلّا

ص: 267

زیداً» مثلاً محکومٌ بحکم القیام حینئذٍ لدخوله في القوم الذین اُسند إلیهم القیام، ومحکومٌ بعدمه من جهة استثنائه عنهم.

قلت: إسناد القیام إلی القوم وإن اقتضی استیعاب الحکم لجمیع الأفراد إلّا أنّه لا یستقرّ فیه إلّا بعد إتمام الکلام وانقطاعه وعدم لحوق الاستثناء به، فإذا لحقه الاستثناء یصرفه عن الاستیعاب والعموم ویستقرّ في خلافه، ولا منافاة بین ظهور أوّل الکلام في شيءٍ وانصرافه عنه بالقیود اللاحقة له، ولا تناقض بینهما؛ ولذا اشتهر أنّ للمتکلّم ما دام متشاغلاً بکلامه أن یلحق به ما شاء من اللواحق، ولا یوجب ذلک تجوّزاً في الکلام؛ لأنّ اقتضاء الاستیعاب لیس بالوضع، بل بمقتضی حمل الشيء علی العامّ المقتضي لعموم الحکم لجمیع الأفراد.

وما ذکره بعضهم: من أنّه اُرید بالمستثنی منه معناه الحقیقي واُخرج عنه المستثنی قبل الإسناد واُسند إلیه الحکم، غلطٌ فاحش؛ لما عرفت: من استحالة إخراج الجزئي أو الجزء عن تحت الکلّي أو الکلّ، مع أنّ المستثنی إنّما هو من توابع الإسناد فلا یعقل تقدّمه علیه.

ویقرب منه ما ذکر: من أنّ المراد بالمستثنی منه ما عدا المستثنی مجازاً، وأداة الاستثناء قرینةٌ علیه؛ إذ لا مجال حینئذٍ للاستثناء المتّصل بل للمنقطع أیضاً فإنّه لا یتوهّم دخول المستثنی في المستثنی منه المراد به ما عداه، مع أنّه یلزم في قولک: «اشتریت العبد إلّا نصفه» الاستثناء المستغرق إن قیل بالاستخدام في الضمیر، ورجوعه إلی العبد بمعناه الحقیقي والتسلسل إن قیل برجوعه إلی المعنی المجازي وهو الباقي بعد الاستثناء، فیرجع النصف إلی الربع والربع إلی الثمن وهکذا.

ثمّ إنّي قیّدت الإخراج ب-«إلّا» تنبیهاً علی انحصار المستثنی في المخرج بها وعدم عمومه للمخرج بسائر الکلمات التي جعلوها من أخواتها؛ لأنّها أفعالٌ وأسماءٌ

ص: 268

مستعملةٌ في مفاهیمها الأصلیّة یتّرتّب علیها الاستثناء باعتبار المورد، ولا یوجب ذلک جعلها من أدوات الاستثناء والمستثنی بها مستثنی في اصطلاحهم؛ وإلّا لزم أن لا ینحصر أدوات الاستثناء في ما ذکروه، وأن یکون المستثنی باستثنیت ونحوه في قولک: «جاءني القوم استثني منهم زیداً» أو «لیس فیهم زیدٌ» أو «خارجٌ عنهم زیدٌ» وهکذا مستثنی في اصطلاحهم. وتوهّم أنّ الکلمات المعدودة أدواتٌ للاستثناء منقولةٌ عن مفاهیمها الاسمیّة والفعلیّة إلی معنی الاستثناء الذي هو معنی حرفيّ في غیر محلّه. نعم، شاع استعمالها في مورد الاستثناء في کلماتهم.

﴿ویجب نصبه﴾ أي المستثنی بالمعنی المقتضي له وهو کونه مستثنی، وإلیه یرجع ما قیل: من أنّ نصبه بالمخالفة ﴿إن کان في کلامٍ موجبٍ تامٍّ﴾ بأن کان المستثنی منه مذکوراً، نحو قام القوم إلّا زیداً ﴿أو مقدّماً﴾ علی المستثنی منه مطلقاً منفیّاً کان أم موجباً، نحو ما قام إلّا زیداً القوم، وقام إلّا زیداً القوم ﴿أو منقطعاً﴾ مطلقاً عند الحجازیّین، سواء کان قبله اسمٌ یصحّ حذفه، نحو ما جاءني القوم إلّا حماراً، أم لا.

وعن بني تمیم: أنّه یجوز اتباع المستثنی للمستثنی منه في الصورة الاُولی دون الثانیة.

ومثّل بعضٌ للصورة الثانیة بقوله تعالی: (لا عاصم الیوم من أمر الله إلّا من رحم)(1) أي من رحمه الله، بزعم أنّه استثناءٌ منقطع؛ لأنّه هو المرحوم المعصوم فلا یکون داخلاً في العاصم فیکون منقطعاً، ولا یجوز حذف «عاصم» في الآیة الشریفة.

ص: 269


1- سورة هود، الآیة 43.

والتحقیق: أنّه من قبیل الاستثناء المتّصل، والمراد لا عاصم لنفسه إلّا من رحمه الله، أي لا یعصم أحدٌ نفسه ولا یقدر علی عصمة نفسه من الغرق إلّا من رحمه الله. وبما بیّنّاه ظهر أنّه لا حاجة إلی ما تکلّفه بعضهم: من جعل اسم الفاعل بمعنی المفعول، أو تقدیر مضافٍ، أي: رحمة من رحم أو مکان من رحم.

﴿وإن کان في :لامٍ منفيٍّ جاز نصبه﴾ علی الأصل ﴿واختیر إتباعه﴾ للمستثنی منه علی أنّه بدلٌ بدل البعض من الکلّ، ولا یضرّ اختلافهما إیجاباً ونفیاً؛ إذ یکفي اتّحادهما في أصل الحکم الجامع بین الإیجاب والسلب. وإنّما جاز البدل في صورة النفي دون الإیجاب لجواز تفریغ الکلام وقیام المستثنی مقام المستثنی منه في هذه الصورة دون الإیجاب. وإنّما اختیر علی النصب لأنّه المقصود بالحکم حینئذٍ غالباً ﴿نحو ما فعلوه إلّا قلیلٌ منهم﴾.

﴿وإن کان الکلام غیر تامٍّ﴾ بأن کان المستثنی منه محذوفاً ﴿یعرب علی حسب العوامل﴾ أي بما تقتضیه العوامل: من الرفع والنصب والجرّ، فیقال: ما قام إلّا زیدٌ، وما رأیت إلّا زیداً، وما مررت إلّا بزیدٍ.

﴿ولا یکون ذلک﴾ أي عدم تمام الکلام وحذف المستثنی منه ﴿غالبا إلّا في﴾ الکلام ﴿المنفيّ﴾ لعدم استقامة المعنی مع الحذف في الموجب غالباً، فلا یصحّ: ضربت إلّا زیداً، أو ضربني إلّا زیدٌ؛ إذ لا یصحّ الحکم بحدوث الضرب من کلّ أحذٍ سوی واحدٍ منهم بالنسبة إلی شخصٍ واحد. نعم، قد یستقیم الحکم في الموجب قلیلاً مع الحذف، محو قرأت إلّا یوم کذا.

﴿وإذا تکرّرت «إلّا»، فإن کان التکرار للتأکید بأن تلت﴾ واواً ﴿عاطفاً أو تلاها اسمٌ مماثلٌ لما قبلها لا یتغیّر الحکم بالتکرار، وإلّا﴾ یکن الترکار للتأکید، بل للتأسیس ﴿فمع تفریغ الکلام﴾ من المستثنی منه ﴿یظهره أثره﴾ أي أثر

ص: 270

التفریغ من الإعراب علی حسب العوامل ﴿في واحدٍ منها﴾ إي المستثنیات، مقدماً کان أو لا ﴿ویجب نصب الباقي﴾ منها، نحو ما قام إلّا زید إلّا عمراً إلّا بکراً ﴿ومع تمامه﴾ أي تمام الکلام ﴿یجب نصب جمیعها﴾ أي المستثنیات ﴿إن کانت متقدّمةً﴾ علی المستثنی منه، کما کان الحکم کذلک في صورة عدم التکرار، نحو قام إلّا زیداً إلّا عمراً إلّا بکراً القوم ﴿وإعراب واحدٍ منها کما لو کان وحده﴾ بما یقتضیه من نصبٍ أو رفع ﴿ونصب الباقي إن کانت متأخّرةً﴾ عن المستثنی منه، نحو ما قاموا إلّا زید إلّا عمرواً برفع الأوّل اختیاراً ونصب الثاني، وقام القوم إلّا زیداً إلّا عمرواً إلّا بکراً بنصب الجمیع؛ إذ لو لم یکن إلّا الأوّل لوجب نصبه.

﴿وکلّ واحدٍ من المستثنیات﴾ الواقع في کلامٍ واحد ﴿یخالف ما قبله إیجاباً أو سلباً إن أمکن استثناء بعضها من بعض﴾ نحو له عندي أربعون إلّا عشرین إلّا عشرة إلّا خمسة إلّا اثنین، فالأوّل والثالث من المستثنیات منفیّان، والثالث والرابع موجبان. وطریق معرفة الباقي من المستثنیات أن تحيطّ الأخیر ممّا یلیه وهکذا إلی ان تنتهي إلی الأوّل أو تسقط الأوتار من المستثنی منه وتضمّ إلی الباقی بعد الإسقاط الأشفاع فما حصل لک فهو الباقي.

﴿وإلّا﴾ یمکن استثناء بعضها من بعض ﴿فتوافق﴾ المستثنیات ﴿الأوّل﴾ منها في الإیجاب أو السلب، ولا یخالف بعضها بعضاً نحو: قام القوم إلّا زیداً إلّا عمرواً إلّا بکراً، وما جاءني إلّا عالم إلّا أدیباً إلّا شاعراً، فالمستثنیات في المثال الأوّل محکومةٌ بانتفاء القیام عنها، وفي المثال الثاني بإثبات المجيء لهم ﴿وتستعمل﴾ کلمة ﴿«غیر» في مورد الاستثناء﴾ بأن یراد منها المغایرة في الحکم لا في الذات أو الصفة ﴿وتعرب کإعراب المستثنی بإلّا﴾ فتنصب في کلامٍ موجبٍ تامٍّ علی أنّها حالٌ نحو: قام القوم غیر زید، ویجوز الوجهان - النصب

ص: 271

والاتباع - في کلامٍ تامٍّ غیر موجب نحو ما جاءني غیر زید، وتعرب علی حسب العوامل إذا لم یکن الکلام تامّاً ﴿و﴾ لکن ﴿یکون ما بعدها مجروراً﴾ بإضافتها إلیه، کما کان مجروراً في غیر مورد الاستثناء.

﴿وکذلک «سوی»﴾ بکسر السین وضمّها مع القصر ﴿وسواء﴾ بفتح السین وکسرها مع المدّ، تستعملان في مورد الاستثناء وتعربان کإعراب المستثنی بإلّا ویکون ما بعدهما مجروراً بإضافتهما إلیه ﴿وقیل: إنّهما منصوبان علی الظرفیّة أبداً﴾ لأنّک إذا قلت: جاءني القوم سوی زید، فکأنّک قلت مکان زید.

﴿وتستعمل لیس ولا یکون وخلا وعدا وما خلا وما عدا کذلک﴾ أي في مورد الاستثناء أیضاً ﴿وتلزم الإفراد حینئذٍ ولا یظهر فاعلها﴾ أي لا یفسّر باسمٍ ظاهر ﴿ویکون ما بعدها منصوباً﴾ علی الخبریّة أو المفعولیّة ﴿نحو قام القوم لیس زیداً﴾ أو لا یکون وهکذا ﴿وقد یجرّ ما بعد خلا وعدا﴾ علی أنّهما حرفا جرّ.

﴿وتستعمل حاشا کخلا﴾ أي في وروده مورد الاستثناء ونصب ما بعده أو جرّه ﴿إلّا أنّ الأغلب﴾ فیه ﴿جرّ ما بعده﴾.

الفصل الثاني: في المتعلّق بالمسند إلیه بلا واسطة أداة وهو الحال

﴿وهي﴾ أنّث ضمیرها لأنّه ممّا یجوز تذکیرها وتأنیثها لفظاً ومعنی ﴿ما یبیّن هیئة المسند إلیه﴾ من حیث إنّه مسندٌ إلیه ﴿تحقیقاً﴾ کالفاعل ﴿نحو جاءني زیدٌ راکباً و﴾ المبتدأ نحو ﴿زید ضاربٌ قائماً﴾.

فإن قیل: قائماً حالٌ من الضمیر المستتر في الخبر، فهو حالٌ من الفاعل لا المبتدأ.

ص: 272

قلت: أوّلاً: قد ظهر لک أنّه لا یستتر الضمیر في الخبر ولو کان مشتقّاً حتّی یقع ذا الحال.

وثانیاً: أنّک قد عرفت أنّ اسم الفاعل لا فاعل له أبداً، وما اُسند إلیه اسم الفاعل یکون مبتدأً، قدّم علیه أو اُخّر عنه، ظهر أو استتر فیه.

﴿أو تنزیلاً ک-﴾ المسند بالإسناد الإضافي نحو ﴿زیدٌ في الدار قائماً﴾ فإنّه بمنزلة المسند إلیه بالإسناد الحدوثي أو الاتّحادي؛ ضرورة أنّ «زیدٌ في الدار» بمنزلة کان زید في الدار، أو زیدٌ ثابتٌ في الدار ﴿و﴾ المفعول نحو ﴿ضربت زیداً راکباً﴾ فإنّه بمنزلة ضُرب زید راکباً. وقد تبیّن ممّا بیّنّاه ومثّلناه: أنّ الحال من توابع الإسناد مطلقاً، اتّحادیّاً کان أم حدوثیّاً أم إضافیّاً.

وقد زعم الأکثر أنّ الحال من توابع الإسناد الحدوثيّ، فقالوا: إنّ الحال ما یبیّن هیئة الفاعل أو المفعول ولا یکون لغیرهما، وما خالف ذلک یأوّل بهما في نحو «زید في الدار جالساً» فجالساً حالٌ من ضمیر الظرف المستتر فیه، وهو فاعلٌ معنی، لا من المبتدأ علی الاصحّ، «وهذا بعلي شیخاً» فشیخاً حالٌ من بعلي، وهو مفعولٌ معنيً، تقدیره: انبّه علی بعلي او اُشیر إلی بعلي، وقد عرّفها ابن الحاجب في کافیته بأنّه: ما یبیّن هیئة الفاعل أو المفعول به لفظاً أو معنی، ونقل عنه أنّه لم یجز أن تقول: رجل قائماً أخوک؛ لعدم الفاعلیّة والمفعولیّة في رجل.

أقول: عدم جواز قولک: «رجل قائماً أخوک» لیس لانتفاء الفاعلیّة والمفعولیّة في رجل، بل لأجل عدم جواز صیرورة الحال قیداً لإسناد الاُخوّة إلیه؛ لأنّ مقتضی کون الحال حالاً عن المسند إلیه من حیث أنّه مسندٌ إلیه تقیید الإسناد بها، ومن المعلوم أنّ الاُخوّة لا تقبل التقیید بالقیام والقعود وأمثالهما من الصفات؛ ولذا تری أنّه لا یصحّ قولک زیدٌ جالساً فقیهٌ، مع أنّ «زید» فاعلٌ معنی باعتبار

ص: 273

کون خبره مشتقّاً، فلیس ذلک إلّا لأجل عدم جواز تقیید الفقاهة کالاُخوّة بالجلوس والقیام ونحوهما من الأحوال والصفات، فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّ عدم صحّة ما ذکره من المثال لا یدلّ علی اختصاص الحال ببیان هیئة الفاعل أو المفعول حتّی یأوّل ما خالف ذلک، مع أنّ تأویل «زیدٌ في الدار جالساً» بما ذکر باطلٌ؛ لما ظهر لک: من بطلان استتار الضمیر في الظرف أوّلاً، وعدم کونه فاعلاً علی فرض صحّة الاستتار ثانیاً.

وأمّا تأویل «هذا بعلي شیخاً» إلی ما ذکره فیکفي في فساده صحّة قول المرأة: زید بعلي شیخاً أو شابّاً، مع انتفاء معنی المفعولیّة المتوهّمة حینئذٍ لانتفاء اسم الإشارة، فصحّة الحال حینئذٍ لا تکون إلّا لأجل جواز تقیید البعلیّة بالشیخوخة والشباب ونحوهما؛ فإنّ البعلیّة قد تثبت في حال الشیخوخة وقد تثبت في حال الشباب، فلا مانع من تقییدها بأحدیهما.

فإن قلت: «شیخاً» حالٌ من «بعلي» وهو خبر، فینتقض الحدّ به لعدم کونه مبیّناً لهیئة المسند إلیه حینئذٍ.

قلت: الإسناد الاتّحادي یوجب تنزّل أحدهما منزلة الآخر، فالخبر حینئذٍ في حکم المسند إلیه، فلا ینتقض الحدّ به.

فإن قلت: الحدّ غیر مانعٍ لشموله لنعت المسند إلیه، نحو زید الراکب جاءني، فإنّه مبیّنٌ لهیئته حینئذٍ.

قلت: النعت ناظرٌ إلی وصف ذات المسند إلیه مع قطع النظر عن کونه مسنداً إلیه، ولذا لا یجب في المثال المزبور مقارنة الصفة للمجيء، ویجوز أن یکون معرّفاً للموضوع ویصحّ التوصیف مع عدم جواز تقیید الإسناد به، کقولک: زیدٌ الراکب أخوک، فلا تکون الصفة ناظرةً إلی بیان هیئة المسند إلیه بوصف أنّه مسندٌ إلیه وإن

ص: 274

استتبعه أحیاناً بمعونة المورد، فلا ینتقض الحدّ به.

﴿وهي﴾ أي الحال ﴿منصوبةٌ علی الحالیّة﴾ التي هي معنیً من المعاني المعتورة علی اللفظ المقتضیة للإعراب.

﴿والإغلب﴾ أي أغلب موارد استعمالاتها ﴿کونها منتقلةً﴾ غیر لازمة، وإنّما لم یجب فیها الانتقال؛ لأنّها إنّما تنظر إلی بیان هیئة المسند إلیه بوصف أنّه مسندٌ إلیه الموجب لتقیید الإسناد بها إن لم تکن مؤکّدةً، ولا یعتبر في التقیید الانتقال والزوال، بل یکفي في تحقّقه احتمال خلافها ﴿و﴾ لذا ﴿تقع ثابتةً قیاساً إذا کانت مؤکِّدةً﴾ لمضمون جملةٍ قبلها ﴿نحو زید أبوک عطوفاً﴾ أو لعاملها نحو ﴿ویم اُبعث حیّاً﴾،(1) أو لصاحبها نحو (لآمن من في الأرض کلّهم جمیعاً)(2) ﴿أو دلّ عاملها علی تجدّد صاحبها نحو خلق الله الزرَّافة یدیها أطول من رجلیها﴾ فیدیها یدلٌ من الزرّافة بدل بعضٍ من کلّ، وأطول حالٌ لازمةٌ من یدیها، وعامل الحال وهو خلق یدلّ علی تجدّد المخلوق، فیحسن حینئذٍ الإتیان بالحال الازمة قیاساً؛ لأنّ الخلق في حدّ نفسه قابل للوجهین، ویصحّ تقییده بأحد الحالین، ومنه قوله تعالی: (أنزل إلیکم الکتاب مفصّلاً)(3) وما قیل: من أنّ القرآن قدیمٌ، غلطٌ لا وجه له؛ لابتنائه علی الکلام النفسي الذي قد ثبتت استحالته في محلّه ﴿وسماعاً في غرهما﴾ أي في غیر صورة التأکید ودلالة العامل علی تجدّد صاحبها.

﴿وکلّ ما دلّ علی هیئةٍ﴾ وصفةٍ ﴿صحّ أن یقع حالاً وإن کان﴾ الدالّ

ص: 275


1- سورة مریم، الآیة 33.
2- سورة یونس، الآیة 99.
3- سورة الأنعام، الآیة 114.

علیها اسماً ﴿جامداً﴾.

وقد ضبطه بعضهم ف عشره أنواع:

الأوّل: ما دلّ علی تشبیهٍ ﴿نحو کرّ زیدٌ أسداً﴾ أي کأسد، وبدت هندٌ قمراً، أي کالقمر.

﴿و﴾ الثاني: ما دلّ علی مفاعلة، نحو ﴿بعه یداً بید﴾ أي مقبوضاً.

﴿و﴾ الثالث: ما دلّ علی ترتیبٍ، نحو تعلّم الحساب بابً باباً ﴿وادخلوا رجلاً رجلاً﴾.

﴿و﴾ الرابع: ما کان موصوفاً بمشتقٍّ أو شبهه ﴿نحو (فتمثّل لها بشراً سویّاً)(1)﴾ و (قرآناً عربیّاً)(2) وتسمّی حالاً موطَئة.

والخامس: ما دلّ علی سعرٍ، نحو ﴿بعه مدّاً بکذا﴾ ف-«مدّاً» حالٌ من المفعول، و«بکذا» بیانٌ لمدّاً.

والسادس: ما دلّ علی عددٍ، نحو 0فتمّ میقات ربّه أربعین لیلة).(3)

والسابع: ما دلّ علی طورٍ فیه تفضیل، نحو هذا بسراً أطیب منه رطباً.

والثامن: ما یکون نوعاً لصاحبه، نحو هذا مالک ذهباً.

والتاسع: ما یکون فرعاً لصاحبه، نحو هذا حدیدک خاتماً، و (تنحتون من الجبال بیوتاً).(4)

ص: 276


1- سورة مریم، الآیة 17.
2- سورة الزمر، الآیة 28.
3- سورة الأعراف، الآیة 142.
4- سورة الشعراء، الآیة 149.

والعاشر: ما یکون أصلاً لصاحبه، نحو هذا خاتمک حدیداً، و (أأسجد لمن خلقت طیناً).(1)

﴿وقیل: لا تقع﴾ الحال ﴿جامداً إلّا مأوّلاً بمشتقّ﴾ والتأویل في کلّ نوعٍ بحسبه، فالأوّل مأوّلٌ بالصفات المنطبقة علیه: من نحو شجاعاً ومضیئاً ونحوهما، والثاني بمعنی متقابضاً ونحوه، والثالث بمعنی مترتّباً، والرابع بمعنی سویّاً في صفة البشر، وعربیّاً قرآنه، والخامس بمعنی مسعَّراً، والسادس بمعنی معدوداً، والسابع بمعنی مطوّراً، والثامن بمعنی منوّعاً، والتاسع بمعنی مصوغاً، والعاشر بمعنی متأصّلاً.

﴿وقیل به﴾ أي بالتأوّل بمشتقٍّ ﴿إذا دلّ﴾ الحال ﴿علی تشبیهٍ أو مفاعلةٍ أو ترتیبٍ﴾ فاقتصر في التأویل علی الأنواع الثلاثة، ووجّهه بأنّ اللفظ فیها غیر مرادٍ منه معناه الحقیقي فالتأویل فیها واجب.

أقول: عدم إاردة المعنی الحقیقي من اللفظ فیها ممنوعٌ؛ لجواز إرادة المعنی الحقیقي کنایةً عن اللازم أو تجوّزاً في النسبة، إذ کما یمکن التجوّز في الإسناد في نحو «زید أسدٌ» و «هندٌ قمر» کذلک یمکن التجوّز في النسبة الناقصة في نحو «کرّ زیدٌ أسداً» و «بدت قمراً».

﴿والأصل فیه أن تکون نکرةً﴾ لأنّ الغرض منها وهو تقیید الإسناد بها یحصل مع تنکیرها، فلا حاجة إلی تعریفها الذي هو أمرٌ زائدٌ.

﴿وقد تجيء معرفةً بقلّةٍ نحو جاءني زیدٌ وحده﴾ وجئتني وحدک، وجئتک وحدي ﴿وجاؤوا الجمّ الغفیر﴾ أي الجماعة الکثیرة الساترة وجه الأرض لکثرتها ﴿وأرسلها العراک، وادخلوا الأوّل فالأوّل﴾ ونحوها من الأمصلة المسموعة

ص: 277


1- سورة الإسراء، الآیة 61.

﴿وأوّلها الأکثر بالنکرة﴾ فحکموا بتنکیرها معنیً، وهو تکلّفٌ بلا دلیل، مع أنّه إن اُرید بکونها نکرًَ معنیً حینئذٍ أنّه یصحّ وضع النکرة موضعها، ففیه: أنّه لا یوجب تنکیرها معنی کما هو ظاهر، وإن اُرید أنّ الإضافة إلی المعرفة واللام والعلمیّة فیها لا توجب تعریفها معنیً وأنّها ملغاةٌ حینئذٍ عن إفادة التعریف، فهو بدیهيّ البطلان؛ إذ لا یعقل تخلّف الإسباب الموجبة للتعریف عنه باختلاف المعاني المعتورة علی اللفظ من الفاعلیّة والمفعولیّة والحالیّة وهکذا.

﴿و﴾ الأصل ﴿في ذي الحال أن تکون معرفةً﴾ لأنّه محکومٌ علیه في المعنی ومن شأنه أن تکون معرفة ﴿فلا تقع منکّراً غالباً إلّا مخصَّصاً﴾ بوصفٍ کقولک: جاءني رجلٌ عالمٌ راکباً، أو بإضافةٍ نحو قوله تعالی: (في أربعة أیّامٍ سواءً للسائلین)(1) ﴿أو مسبوقاً بنفيٍ﴾ نحو (وما أهلکنا من قریةٍ إلّا ولها کتابٌ معلوم)(2) ﴿أو شبهه﴾ من یهي، نحو لا یبغ امرءٌ علی امرءٍ مستسهلاً، أو استفهامٍ کقوله: یا صاح هل حمّ عیش باقیاً ﴿أو متأخّراً﴾ عن الحال کقوله: لمیّة موحشاً طلل، وقد نکّر نادراً من غیر وجود شيءٍ ممّا ذکر، ففي الحدیث: «صلّی رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالساً وصلّی وراء قومٌ قیاماً».(3)

﴿و﴾ یجوز أن ﴿یتقدّم الحال علی صاحبها﴾ مطلقاً، مرفوعاً کان کجاء راکباً زیدٌ، أو منصوباً کضربت راکباً زیداً إذا جعلت راکباً حالاً عن المفعول، أو مجروراً بحرفٍ نحو قوله تعالی: (وما أرسلناک إلّا کافّةً للناس)(4) کما اختاره

ص: 278


1- سورة فصلّت، الآیة 10.
2- سورة الحجر، الآیة 4.
3- اُنظر الوسائل 5: 415، الباب 25 من أبواب صلاة الجماعة، الحدیث 1 و 2.
4- سورة سبأ، الآیة 28.

ابن مالک. والأکثر علی المنع في المجرور بالحرف ﴿إلّا إذا کانت مؤکِّدةً﴾ لمضمون جملةٍ، نحو «أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي» فلا تتقدّم علی صاحبها لعدم جواز تقدیم المؤکِّد علی المؤکَّد ﴿أو محصورةً﴾ نحو ما ضربت زیداً إلّا راکباً، وإنّما ضربت زیداً راکباً ﴿و﴾ یجوز أن تتقدّم ﴿علی طرفي الإسناد﴾ الذي یتقیّد بها ﴿إذا کان المسند فعلاً متصرّفاً أو شبهه نحو مخلصاً زارک، ومسرعاً راحل﴾ ما لم یمنع مانعٌ: من کونه صلةً لأل أو لحرفٍ مصدريّ أو مقروناً بلام القسم أو الابتداء، فإن کان الطرفان جامدین أو کان المسند غیر فعلٍ ولا صفةٍ کاسم الفعل والمصدر أو فعلاً غیر متصرّفٍ کفعل التعجّب أو صفةً کذلک کأفعل التفضیل لم یجز تقدیمها علیهما.

وزعم أکثر النحاة أنّ الحال لا بدّ لها من ناصبٍ: من فعلٍ أو شبهه أو ما تضمّن معنی الفعل دون حروفه، کاسم الإشارة وحروف التنبیه والتحقیق والتشبیه وهکذا، والظرف المتضمّن معنی الاستقرار، فقالوا: لا یجوز تقدّم الحال علی عامله إلّا إذا کان فعلاً متصرّفاً أو شبهه، ثمّ استثنوا من ذلک موضعین: أحدهما: تقدّم الحال علی الظرف بشرط توسّطه بینه وبین صاحبه معنیً، کقولک: زیدٌ جالساً في الدار، والثاني: تقدّمها علی أفعل إذا کان مفضّلاً به کونٌ في حالٍ علی کونٍ في حال، نحو هذا بسراً أطیب منه رطباً، وزید مفرداً أنفع من عمرو معاناً، فإنّهم جوّزوا تقدّمها علی العامل في الصورتین.

والتحقیق: أنّه لا حاجة في انتصابه إلی أزید من المعنی المقتضي له، وهي الحالیّة، وهي لا تتقوّم بخصوص المعنی الحدثي حتّی یجب اعتبار ما ذکروه، بل هي متقوّمةٌ بالإسناد، سواء کان أحد طرفیه حدثاً أو مشتملاً علی معنیً حدثي أم لا، فالعامل في الحال بالمعنی المصطلح عندهم - وهو ما یتقوّم به المعنی المقتضي للإعراب - هو الإسناد فإنّه الواقع في الحالة التي تنبئ عنها الحال مطّرداً والمتقیّد بها

ص: 279

کذلک، لا ما اعتبروه من الأحداث، فلا حاجة حینئذٍ إلی استثناء الموضعین؛ إذ لم تتقدّم الحال علی الإسناد وطرفیه فیهما، بل توسّطت بین المسند إلیه والمسند به، فهي في محلّها إذ وقعت بعد صاحبها ولم تتقدّم علی عاملها بالمعنی المصطلح عندهم. نعم، تأخیر الحال عن طرفي الإسناد في الإسناد الإضافی أولی، کما أنّ تأخیرها عنهما فیما إذا لم یکن المسند فعلاً متصرّفاً أو شبهه واجبٌ إلّا في الصورة المتقدّمة، وهي تفضیل حالٍ علی حال أو تشبیه حال بحال، کقولک: زید قائماً کعمرو قاعداً.

وکیف کان، فالصحیح جعل العنوان ما ذکرناه لا ما ذکروه.

وقد تبیّن بما بیّنّاه أنّ جعل العامل في الحال المؤکّدة لمضمون جملةٍ معقودةٍ من اسمین جامدین - نحو زید أبوک عطوفاً - مقدّراً، في غیر محلّه؛ لأنّ العامل بمعنی الواقع في الحال إنّما هو الإسناد الثابت في الجملة، فلا حاجة إلی اعتبار أمرٍ زائد.

﴿ولا﴾ یصحّ أن ﴿یجيء الحال من المضاف إلیه إلّا إذا کان المضاف جرءه، کأعجبني وجهها مسفرّةً﴾ وقوله تعالی: (أیحبّ أحدکم أن یأکل لحم أخیه میتاً)(1) ﴿أو کجزئه نحو﴾ قوله تعالی: (ثمّ أوحینا إلیک(2) ﴿أن اتّبع ملّة إبراهیم حنیفاً)﴾ فإنّ الملّة بمنزلة الجزء ﴿أو طالباً للحال﴾ بأن کان دالاً علی الحدث الواقع فیها، مصدراً کان ﴿نحو﴾ قوله تعالی: ﴿إلیه مرجعکم جمیعاً﴾(3) فإنّ رجوعهم إلیه واقعٌ حال کونهم جمیعاً، أو صفةً نحو زید ضاربٌ عمرو راکباً ﴿وهذا شاربٌ السویق ملتوتاً﴾ فإنّ ضرب العمرو واقعٌ حال رکوبه وشرب السویق

ص: 280


1- سورة الحجرات، الآیة 12.
2- سورة النحل، الآیة 123.
3- سورة یونس، الآیة 4.

حال لتّه، والوجه في عدم صحّة مجيء الحال من المضاف إلیه مطلقاً: أنّ الحال کما عرفت إنّما تبیِّن هیئة ذي الحال بوصف أنّه مسندٌ إلیه، ولا یصحّ ذلک إلّا إذا کانت النسبة الثابتة لذي الحال قابلةً للتقیید بها، والنسبة الثابتة بین المضاف والمضاف إلیه لا تقبل التقیید بها إلّا في الصورة الأخیرة، وأمّا الصورتان الاُولیان فإنّما یصحّ الحال فیهما باعتبار صحّة قیام المضاف إلیه مقام المضاف في کونه مسنداً إلیه الموجب لرجوع التقیید إلی الإسناد المتعلّق بالمضاف، ألا تری أنّه یصحّ أن تقول: أعجبتني مسفرة، وأیحبّ أحدکم أن یأکل أخاه میتاً، واتّبع إبراهیم حنیفاً. وأمّا في غیر الصور الثلاث فلا یجوز الحال عنه لعدم تطرّق التقیید بها في النسبة الناقصة التقییدیّة حینئذٍ، فلا یصحّ لک أن تقول: جاءني غلام زیدٍ راکباً، بجعل «راکباً» حالاً من زید؛ لأنّ إضافة الغلام إلی زید لا تتقیّد بحال رکوبه وقیامه وهکذا من الأحوال.

﴿والحال بمنزلة الخبر من صاحبها﴾ فلا تکون إلّا متّحدةً معه منطبقةً علیه ﴿فلا تقع مصدراً إلّا إذا صحّ حمله علیه تحقیقاً﴾ من جهة اتّحاده معه في اخارج کاتّحاد المصدر مع المفعول في بعض الموادّ بحیث لا مغیرة بینهما إلّا في مرحلة التحلیل، کاتّحاد الخلق مع المخلوق والنطق مع المنطوق ﴿أو تنزیلاً﴾ من جهة اتّحاده معه ادّعاءً ومبالغةً، کاتّحاد العدل مع العادل کذلک ﴿فیقع﴾ المصدر ﴿حالاً﴾ حینئذٍ ﴿قیاساً﴾ فما حکي عن سیبویه: من أنّه مقصورٌ علی السماع لا وجه له؛ إذ مع عدم اتّحاده مع ذي الحال تحقیقاً أو تنزیلاً لا یصحّ وقوعه حالاً منه ولو سماعاً ومع اتّحاده معه کذلک یصحّ مقیساً. وتوهّم أنّ المصدر قد یأتي بمعنی الوصف مجازاً سماعاً غلطٌ؛ إذ المادّة فیهما واحدةٌ فالتجوّز لو کان فإنّما هو في الهیئة، وهي من لواحق الحروف لا یتطرّق فیها التجوّز أصلاً، ولا استعمال له ولا دلالة وإنّما هي آلةٌ وعلامةٌ لوجه استعمال المادّة، ولو تطرّق فیها التجوّز لا یکون ذلک إلّا

ص: 281

لعلاقةٍ مصحّحةٍ له، فیلزم أن یطّرد وینقاس حینئذٍ، فعلی کلّ حالٍ لا وجه للقصر علی السماع.

﴿هذا﴾ أي انتصاب المصدر علی الحالیّة ﴿إذا لم یکن﴾ المصدر ﴿نوعاً من الفعل وأمّا إذا کان نوعاً منه کطلع بغتةً﴾ وجاء رکضاً، وقتله صبراً، وهکذا ﴿ینصب قیاساً﴾ علی أنّه مفعولٌ مطلقٌ حذف عامله عند المبرّد و ﴿علی أنّه تمییزٌ عن النسبة﴾ عندنا.

﴿وکذا﴾ ینصب علی التمییز عن النسبة ﴿ما وقع بعد أمّا﴾ بفتح الهمزه ﴿نحو أمّا علماً فعالمٌ، وبعد خبرٍ اقترن باللام الدالّۀ علی الکمال، نحو أنت الرجل علماً، أو شبّه به مبتدأه نحو زیدٌ زهیرٌ شعراً﴾ فإنّ الأصل فیه زیدٌ مثل زهیر، فحذف «مثل» وحمل «زهیر» علی «زید» مبالغةً وادّعاءً. وکون المنصوب في الموضعین الأخیرین تمییزاً رافعاً للإبهام عن النسبة أمرٌ واضح؛ إذ اتّحاد المحمول مع الموضوع فیهما یمکن أن یکون في صفةٍ دون صفة، فاُبهم فبیّن بالمنصوب. وأمّا الموضع الأوّل فلا إبهام فیه بمقتضی ظاهر اللفظ، وإنّما یتطرّق فیه الإبهام من جهة احتمال التجوّز في اللفظ فبیّن بالمنصوب تأکیداً ورفعاً للإبهام الموهوم. والتمییز کما یکون رافعاً للإبهام التحقیقي یکون رافعاً للإبهام الوهمي، کما سیأتي بیانه في بابه إن شاء الله.

فتبیّن ممّا بیّنّاه أنّ ما ذکره ابن مالک وابنه: من انتصاب المصدر علی الحالیّة في المواضع الثلاثة قیاساً، صحیحٌ بالنسبة إلی کون النصب قیاساً، باطلٌ بالنسبة إلی جعله حالاً.

﴿وتقع الجملة الخبریّة الخالیة عن دلیل الاستقبال موضع الحال﴾ فیصیر إسنادها ناقصاً حینئذٍ وتکون قیداً للمسند إلیه ﴿فإن کانت مبدوّةً بمضارعِ مثبتٍ

ص: 282

خالٍ من «قد» أو منفيٍّ ب-«لا» أو «ما» أو بماض تالٍ «إلّا» أو متلوٍّ ب-«أو» اشتملت علی الضمیر﴾ المطابق لصاحبها ﴿وحده﴾ وإن اقترن ب-«قد» تلزم الواو، علی ما ذکره ابن مالک في التسهیل.

﴿وإلّا﴾ تکن کذلک بأن کانت اسمیّةً مثبتةً أو منفیّةً أو فعلیّةً مصدرَّةً بمضارعٍ منفيٍّ ب-«لم» أو بماضٍ مثبتٍ أو منفي ﴿ف-﴾ هي مشتملة ﴿علیه وعلی الواو أو علی أحدهما﴾ إلّا أن تکون مؤکِّدةً فتأتي بالضمیر فقط نحو: هو الحقّ لا ریب فیه.

وقد اشترط الأکثر في المصدّرة بالماضي المثبت المجرّد من الضمیر أن یقترن ب-«قد» ظاهرةً أو مقدّرةً، قیل: لتقرّبه إلی زمان صدور الفعل من ذي الحال أو وقوعه علیه؛ لأنّ المتبادر من الماضي المثبت إذا وقع حالا أنّ مضیّه إنّما هو بالنسبة إلی زمان العامل، فلا بدّ من «قد» حتّی یقرّبه إلیه فیقارنه.

وفیه: أنّ ووقع صیغة الماضي موضع الحال المبیِّن لهیئة المسند إلیه یوجب انصرافها إلی المقارن لزمان العامل؛ لأنّ صیغته لیست للزمان الماضي وضعاً، وإنّما ینصرف إلیه عند الإطلاق وعدم التقیید بما یوجب انصرافها إلی خلافه، فلا حاجة حینئذٍ إلی کلمة «قد» لصرفها عن الزمان الماضي إلی المقارن لزمان العامل. مع أنّه لو سلّم الاحتیاج إلی صارفٍ یصرفها إلی المقارن لزمان العامل لا یوجب الحاجة إلی خصوص کلمة «قد» لعدم انحصار فیها، فلا وجه للحکم بتقدیرها في صورة عدمها. علی أنّه لو سلّم ذلک لزم الاحتیاج إلیها مع وجود الضمیر واشتمال الجملة علی صیغة الماضي ولو لم تکن فعلیّة، کقولک: جاء زیدٌ والأمیر رکب، مع أنّهم لا یلتزمون به. فالصواب ما اختاره الکوفیّون: من عدم اشتراط اقترانها ب-«قد».

﴿وقد یحذف﴾ المسند الذي هو ﴿طالبها﴾ المسمّی عندهم بعاملها

ص: 283

﴿جوازاً لدلیلٍ حاليٍّ﴾ کقولک للمسافر: راشداً مهدیّاً، أي تسافر راشداً مهدیّاً ﴿أو مقاليّ﴾ کقوله تعالی: (بلی قادرین)(1) أي نجمعها قادرین، أي یکتفی بما دلّ علیه من الحال أو المقال، لا أنّه یقدّر لفظٌ، کما توهّمه الأکثر.

﴿أو وجوباً کالمذکورة للتوبیخ﴾ نحو أقاعداً وقد قام الناس؟ ﴿أو بیان زیادةٍ أو نقصٍ بتدریج﴾ کتصدّق بدینارٍ فصاعداً، واشتره بدینارٍ فسافلاً، أي یجب الاکتفاء فیهما بدلالة الحال أو المقال، والتلفّظ بالدلیل اللفظي فیهما جارٍ مجری اللغو.

وقد ألحق بهما موضعان آخران: الأوّل: الحال المؤکّدة لمضمون جملةٍ، نحو زیدٌ أبوک عطوفاً، والثاني: الحال السادّة مسدّ الخبر في نحو: ضربي زیداً قائماً، وإنّما ترکناهما؛ لما مرّ أنّ العامل في نحو: زیدٌ أبوک عطوفاً، هو الإسناد الثابت بین الجامدین، وأنّه لا یلزم أن یکون العامل في الحال هو المعنی الحدثي، وأنّ الخبر غیر محذوفٍ في المثال الثاني، وأنّ العامل فیها هو المصدر.

ص: 284


1- سورة القیامة، الآیة 4.

الباب الثالث: في ما یتعلّق بالمسند تارةً وبالمسند إلیه مرّة وبالإسناد اُخری

اشارة

﴿وهو التمییز عن النسبة﴾ وهو والممیِّز والتبیین والمبیِّن بمعنی؛ لأنّ اللفظ باعتبار أنّه یوجب تمییز المبهم وتبیینه یکون ممیِّزاً ومبیِّناً للمبهم، وباعتبار أنّ التمییز متولّدٌ ومنتزعٌ منه ولا وجود للأمر المنتزع في الخارج سوی وجود منشأ انتزاعه یکون تمییزاً وتبییناً، والممیِّز والمبیِّن هو المتکلّم الموجد لمنشأ انتزاعه، فهو بمعناه الصدري منطبقٌ علی اللفظ، لا أنّ صیغة المصدر جاءت بمعنی صیغة الفاعل - کما توهّم - لاستحالة مجيء صیغةٍ بمعنی صیغةٍ اُخری، فإطلاق المصدر علی الفاعل في المقام - کإطلاقه علی المفعول في بعض الموادّ، کالخلق واللفظ والنطق ونحوها - إنّما هو من جهة انطباقهما وتصادقهما علی محلٍّ واحد.

واعلم أنّ التمییز فرع الإبهام، وهو إمّا في الاسم في حدّ نفسه أو بلحاظ النسبة، فینقسم التمییز إلی قسمین: تمییز عن الذات، وتمییز عن النسبة، وهو علی أقسام ﴿لأنّ إبهام النسبة قد یسري إلی المسند أو المسند إلیه وقد لا یسري إلی أحدهما، فالتمییز عنها قد یتعلّق بالمسند وقد یتعلّق بالمسند إلیه وقد یتعلّق بالإسناد، ففیه فصول:﴾

الفصل الأوّل: فیما یتعلّق بالمسند

اشارة

﴿[الفصل](1) الأوّل: فیما یتعلّق بالمسند﴾.

ص: 285


1- الزیادة منّا.

﴿وهو نوعان:﴾

النوع الأوّل: المفعول له

النوع ﴿الأوّل: المصدر المخالف لطالبه﴾ المعبَّر عندهم بعامله مادّةً من فعلٍ أو شبهه ﴿المتحّد معه وقتاً وفاعلاً﴾ کضربت تأدیباً، وقعدت عن الحرب جبناً ﴿المسمّی عند أکثر أهل الفنّ بالمفعول له﴾ والمفعول لأجله ومن أجله.

النوع الثانی: المفعول المطلق

﴿و﴾ النوع ﴿الثاني: المصدر الموافق له﴾ مادّةً ﴿المؤکِّد له﴾ کضربت ضرباً ﴿أو المبیّن لنوعه﴾ کضربت ضرباً شدیداً ﴿أو عدده﴾ کضربت ضربةً أو ضربتین ﴿المسمّی عندهم﴾ أي عند أهل الفنّ ﴿بالمفعول المطلق فإنّ المسند في الأوّل﴾ من حیث إنّه مسندٌ ﴿مبهمٌ من جهة تردّده بین أنواعٍ متعدّدة﴾ وأقسامٍ مختلفة وإن لم یکن فیه إبهامٌ في حدّ نفسه؛ فإنّ الضرب والقعود وما ضاهاهما من الألفاظ الواضحة المفاهیم، ولا إبهام فیها بالنظر إلی ذواتها، ولکنّها مبهمةٌٍ في مرحلة الصدور من الفاعل والإسناد إلیه، أصَدَرَ منه علی وجه التأدیب أو الظلم أو القصاص؟ أم صدر منه علی وجه الجبن أو المکر، وهکذا من الوجوه؟ ﴿والمصدر المتّحد معه وقتاً وفاعلاً منتزعٌ منه ومتّحدٌ معه خارجاً﴾ ومنطبقٌ علیه انطباقاً حملیّاً، فیقال: الضرب تأدیبٌ أو ظلمٌ أو قصاصٌ، والقعود عن الحرب جبنٌ أو خدیعةٌ أو خیانةٌ ﴿وإن کان مغایراً له تصوّراً وعلّةً له في الذهن﴾ ویصحّ أن یقال: ضربت للتأدیب، وقعدت عن الحرب من الجبن.

﴿والترکیب الانتصابي﴾ في قولک: ضربت تأدیباً، وقعدت عن الحرب جبناً، ونحوهما ﴿ناظرٌ إلی﴾ جهة ﴿الاتّحاد وبیان النوع﴾ ورفع الإبهام ﴿ودائرٌ مداره﴾ ومطّردٌ معه ﴿لا التعلیل، وإلّا﴾ یکن کذلک وکان ناظراً إلی التعلیل ﴿لزم أن یصحّ﴾ الترکیب المذکور ﴿مع وجود التعلیل وعدم الاتّحاد وقتاً﴾ بأن یقال: نزعت ثیابي نوماً ﴿أو فاعلاً﴾ بأن یقال: ضربت تأدیب زید عمرواً

ص: 286

﴿بل﴾ أن یصحّ ﴿مع عدم کونه مصدراً﴾ بأن یقال: جئتک سمناً.

بیان الملازمة: أنّ الترکیب الانتصابي لو کان ناظراً إلی التلعیل وقائماً مقام «لام العلّة» لزم أن یصحّ حیث ثبت التعلیل وصحّ دخول لام العلّة فیه، فکما یصحّ أن یقال: جئتک للسمن، وضربت لتأدیب زید بکراً، ونزعت ثیابي للنوم، کذلک یلزم أن یصحّ جئتک سمناً، وضربت تأدیب زید بکراً، ونزعت ثیابي نوماً، والتالي باطلٌ بالضرورة، فکذا المقدَّم. والحاصل: أنّ المصدر المعلّل به فعلٌ متّحدٌ معه وقتاً وفاعلاً فیه جهتان: تولّده وانتزاعه من الفعل الموجب للاتّحاد خارجاً المصحِّح لحمله علیه، ومغایرته معه تصوّراً وتحلیلاً الموجبة لصحّة جعله علّة له ودخول لام التعلیل علیه. ومن دوران الترکیب الانتصابي مدار الاُمور الثلاثة الموجبة للانتزاع الموجب للاتّحاد في الخارج، لا مدار التعلیل المجامع مع عدمها، علمنا أنّه ناظرٌ إلی جهة الاتّحاد ورفع الإبهام وتبیین النوع لا إلی جهة المغایرة وإفادة التعلیل.

وقد تنبّه الزجّاج بأنّ الترکیب ناظرٌ إلی الاتّحاد لا التعلیل، حیث قال: إنّه مصدرٌ من غیر لفظ فعله، والمعنی في قولک: «ضربت تأدیباً» و«قعدت عن الحرب جبناً» أدّبت بالضرب تأدیباً، وجبنت في القعود عن الحرب جبناً، أو ضربت ضرب تأدیبٍ، وقعدت عن لاحرب قعود جبن. ولکن اشتبه علیه الأمر في جعل المنصوب علی المصدریّة مفعولاً مطلقاً وعنواناً مستقلّاً مقابلاً للتمییز عن النسبة.

والعجب أنّه حکي عن ابن الحاجب أنّه قال ردّاً علی الزجّاج: إنّ معنی «ضربته تأدیباً» ضربته للتأدیب اتّفاقاً، وقولک للتأدیب لیس بمفعولٍ مطلق، وکذا التأدیب الذي بمعناه؛ لأنّه إن اُرید أنّه بمعنی «ضربت للتأدیب» أنّه ناظرٌ إلی التعلیل، فقد ظهر لک بطلانه، وإن اُرید أنّه یصحّ التعبیر بالمنصوب بدل المجرور

ص: 287

باللام لا ینفعه؛ لأنّ صحّة کلٍّ من التعبیرین بدلاً من الآخر تدلّ علی اجتماع الخصوصیّتین فیه الموجب لصحّة کلٍّ من التعبیرین لا علی اتّحادهما من کلّ وجه، ومن الغریب دعواه الاتّفاق علی أنّ المنصوب بمعنی المجرور مع موافقة الکوفیّین للزجّاج في الحکم بکونه مفعولاً مطلقاً.

ثمّ اعلم أنّه قد یتحقّق الترکب الانتصابي في الکلام مع اختلاف الفاعل کقوله تعالی: (یریکم البرق خوفاً وطعماً)(1) فإنّ فاعل الإرادة هو الله تعالی وفاعل الخوف والطمع المخاطبون. وقول أمیر المؤمنین (علیه السلام) في نهج البلاغة: «فأعطاه الله النظرة استحقاقاً للسخطة واستتماماً للبلیّة»(2) المستحقّ للسخط إبلیس والمعطي للنظرة هو الله تعالی، ولا یکون ذلک إلّا بتأوّل؛ فإنّ الثاني في قوّة: فاُعطي النظرة من الله تعالی استحقاقاً للسخطة، والأوّل في قوّة: یجعلکم ترون خوفاً، فیتّحد الفاعلان حینئذٍ.

﴿والأمر في القسمین الأخیرین﴾ وهما النوعي والعددي ﴿من النوع الثاني أظهر﴾ من النوع الأوّل ﴿إذ لا یحتملان إلّا تبیین النوع والعدد﴾ ورفع الإبهام عن المسند من جهتهما، فلا مجال لاحتمال عنوانٍ آخر سوی التمییز والتبیین ﴿وأمّا القسم الأوّل﴾ منه ﴿فهو تمییزٌ تأکیدي، ولا منافاة بینهما؛ لأنّ التمییز فرع الإبهام محقّقاً کان أو موهوماً﴾ والإبهام الوهمي ثابتٌ في صورة التأکید؛ إذ یحتمل أن یکون المسند في قولک: ضربت - مثلاً - مجازاً في الکلام المؤلم ونحوه، فتؤکّده بقولک: ضرباً، رفعاً لهذا الوهم وتثبیتاً لظاهره وتبییناً له.

ص: 288


1- سورة الرعد، الآیة 12.
2- شرح ابن أبي الحدید 1: 97.

﴿وفي حکم المصدر﴾ في وقوعه تمییزاً للسمند المماثل له مادّةً ﴿ما یدلّ علیه ویتّحد معه تحقیقاً﴾ وهو اُمور:

﴿الأوّل:﴾ الاسم المضاف إلی المصدر المتّحد معه بحیث یصحّ حمله علیه، کاسم التفضیل والکلّ والبعض المضافة إلیه ﴿نحو سرت أحسن السیر، ونصرت کلّ النصر، وضربت بعض الضرب﴾ فإنّ الأسماء المضافة تمییزٌ للمسند من جهة إضافتها إلی المصدر وصحّة حملها علیه، فیقال: سیر أحسن السیر، ونصر کلّ النصر، وضرب بعض الضرب.

﴿والثاني:﴾ ما یدلّ علی نوعٍ منه، کاشتمل الضمّاء و ﴿قعد القرفصاء﴾ ورجع القهقری، فإنّ الصمّاء نوعٌ من الاشتمال، والقرفصاء نوعٌ من القعود، والقهقری نوعٌ من الرجوع.

﴿والثالث:﴾ ضمیره کقوله تعالی: ﴿لا اّعذّبه أحداً من العالمین﴾ بناءً علی عود الضمیر إلی مصدر الفعل.

﴿والرابع:﴾ الاسم المشار به إلی المصدر متبوعاً به ک-«ضربت ذلک الضرب﴾ أم لا کضربت ذلک، مشاراً به إلی المصدر.

﴿والخامس:﴾ ما دلّ علی عدده ک-﴿ضربت عشر ضربات﴾ وقوله تعالی: (فاجلدوهم ثمانین جلدة)(1) فإنّ اسم العدد فیهما تمییزٌ للمسند باعتبار اتّحاده مع المعدود.

﴿والسادس:﴾ ما وافقه في المعنی الحدثي مع مخالفته له مادّةً ک-﴿جلست قعوداً و﴾ شنئته بغضةً، وأحببته وَمِقَةً،(2) أو هیئةً بأن کان اسم مصدرٍ له

ص: 289


1- سورة النور، الآیة 4.
2- کذا صحّحناه، وفي الأصل: «مقة»، وهو سهو.

ک-﴿اغتسلت غسلاً﴾ وتوضّأت وضوءاً، أو مصدراً لبابٍ آخر، نحو قوله تعالی: (والله أنبتکم من الأرض نباتاً)(1) ﴿وتبتّل إلیه تبتیلاً﴾ فإنّ الأوّل مصدرٌ للمجرّد لا للمزید فیه، والثاني مصدر باب التفعیل لا التفعّل.

وقد یتوهّم: أنّه ینوب عن المصدر اسم عینٍ شارکه في المادّة، ومثّل له ب-«نباتاً» في الآیة الشریفة، بزعم أنّ المراد منه فیها هو العین.

وهو غفلةٌ واضحة؛ إذ مجرّد الاشتراک في المادّة أو الصورة مع المباینة في المعنی لا یوجب جواز قیام أحدهما مقام الآخر، کما هو ظاهر.

﴿أو توسّعاً﴾ کاسم آلته المکنّی به عن الحدث الموجود بها ﴿کضربته سوطاً أو سوطین﴾ فإنّ المراد به ضربةً بسوطٍ وضربتین بسوط، وذلک مطّردٌ فیما کان آلةً معهودةً له ﴿و﴾ کالمصدر المشبّه به نوع المسند ﴿کضربته ضرب الأمیر﴾ فإنّه جعل تمییزاً للمسند بادّعاء اتّحاده معه نوعاً لشباهته به في الکیفیّة.

﴿والقسم الأوّل﴾ وهو التأکیديّ ﴿لا یثنّی ولا یجمع﴾ لأنّ الغرض منه مجرّد التأکید من دون خصوصیّةٍ زائدة، فلو ثنّی أو جمع انقلب عددیّاً ﴿بخلاف أخویه﴾ وهما النوعي والعددي، فیجوز أن یثنّیا ویجمعا، نحو جلست جلستین أو جلسات، بکسر الجیم أو بفتحها.

﴿ویجوز حذف المسند لدلیلٍ حالي نحو خیر مقدم﴾ وقدوماً مبارکاً، أي قدمت خیر مقدم ﴿أو مقالي نحو سیراً سریعاً في جواب أيّ سیرٍ سرت؟﴾ أي یجوز الاکتفاء بالدلیل الحاليّ أو المقاليّ عن اللفظ بالفعل.

﴿ویجب ذلک﴾ أي حذف المسند ﴿عندهم إذا کان بدلاً منه﴾ قائماً مقامه

ص: 290


1- سورة نوح، الآیة 17.

عند أهل اللسان بحیث یکون ذکره لغواً عندهم.

﴿ویطّرد﴾ وقوعه بدلاً ﴿في خمسة موارد:﴾

﴿الأوّل: إذا کان﴾ المسند ﴿طلباً أمراً﴾ کان ﴿أو نهیاً نحو قیاماً لا قعوداً﴾ أي قم قیاماً لا تقعد قعوداً ﴿أو دعاءً﴾ بخیرٍ أو بشرّ ﴿نحو سقیاً ورعیاً﴾ وکیّاً وجذعاً، أي سقاک الله سقیّاً، ورعاک الله رعیّاً، وکواه الله کیّاً، وجذعه جذعاً ﴿أو مستفهماً به﴾ للتوبیخ ﴿نحو أتوانیاً﴾ وقد جدّ قرنائک المشیب؟ أي أتتواني توانیاً؟

﴿والثاني: أن یکون المصدر تفصیلاً لعاقبة جملةٍ قبله نحو﴾ قوله تعالی: (فشدّوا الوثاق ﴿فإمّا منّاً بعد وإمّا فداء)(1)﴾ أي إمّا تمنّون منّاً وإمّا تفدون فداء.

﴿والثالث: أن یکون﴾ المصدر ﴿مکرّراً أو محصوراً﴾ بإلّا أو إنّما ﴿والمسند خبراً عن اسم عین، نحو زیدٌ سیراً سیراً، وما انت إلّا سیراً، وإنّما أنت سیراً﴾ أي یسیر سیراً سیراً، وتسیر سیراً.

﴿والرابع: أن یکون﴾ المصدر ﴿مؤکِّداً لمضمون جملةٍ تحتمل غیره نحو زیدٌ قائمٌ حقّاً، أو لا﴾ تحتمل غیره ﴿نحو له عليّ ألف درهمٍ اعترافاً، ویسمّی الأوّل بالمؤکِّد لغیره، والثاني بالمؤکِّد لنفسه﴾ أي أحقّ حقّاً، واعترف اعترافاً.

﴿والخامس: أن یکون﴾ المصدر ﴿فعلاً علاجیّاً تشبیهاً بعد جملةٍ مشتملةٍ علی اسمٍ بمعناه وعلی صاحبه، نحو مررت بزیدٍ فإذا له صوتٌ صوتَ حمار﴾ أي یصوت صوتَ حمار. والحذف في غیر هذه الموارد سماعيٌّ لا ضابطة له، کقولک: حمدً وشکراً لا کفراً، وصبراً لا جزعاً ونحوهما من المصادر المسموعة

ص: 291


1- سورة محمّد، الآِیة 4.

مجرَّدةً عن المسند.

﴿هکذا قالوا، والصواب أنّ المصدر في﴾ الموردین ﴿الأخیرین تمییزٌ للإسناد﴾ الثابت في الجملة المتقدّمة ﴿ورافعٌ للإبهام عنه فلا حذف ولا تقدیر﴾.

والوجه في التزامهم بالحذف والتقدیر التزامهم بأنّ الناصب للمصدر المؤکِّد وأخوِیه لا یکون إلّا فعلاً أو ما بمنزلته، وهو مفقودٌ فیهما، أمّا في الأوّل فواضح، وأمّا في الثاني فلأنّ المصدر فیه لا یحلّ محلّ الفعل مع حرفٍ مصدري حتّی یصلح للعمل ویتنزّل منزلته لأنّ المعنی یأبی عن ذلک؛ لأنّ المراد أنّک مررت به في حال تصویت، لا أنّه أحدث التصویت عند مرورک به.

وفیه أوّلاً: أنّه لا وجه للالتزام المذکور؛ إذ یکفي في إجراء الإعراب علی اللفظ اعتوار المعنی المقتضي له علیه - کما حقّقناه مراراً - ولا یتعبر فیه أمر زائد.

وثانیاً: أنّ حلول الفعل مع حرفٍ مصدريٍّ محلّ المصدر شرطٌ في أخذه الفاعل والمفعول به لا مطلق المعمول، والتأکید یتحقّق بالاتّفاق في المضمون، ولا یعتبر فیه الاتّفاق في اللفظ، کما هو ظاهر.

ثمّ إنّ جعل «اعترافاً» مؤکّداً لنفسه بزعم أنّ الجملة المتقدّمة لا تحتمل غیره في غیر محلّه؛ إذ الإسناد في الجملة المتقدّمة ظاهرٌ في الاعتراف إذا صدر عن کاملٍ اختیاراً، لا نصٌّ فیه، فیحتمل أن یکون إخباراً عن ادّعاء الطرف أو واقعاً في مقام الإنکار، ولذا یصحّ أن یقال: له عليّ کذا بادّعائه، فلا فرق بینه وبین زیدٌ قائمٌ حقّاً، إلّا في قرب احتمال الغیر وبعده.

الفصل الثاني: فیما یتعلّق بالمسند إلیه

﴿وهو رافعٌ للإبهام عن﴾ مسند إلیه ﴿مذکورٍ في الکلام لا ذاتٍ

ص: 292

مقدّرة﴾ لتطرّق الإبهام فیه من حیث إنّه مسندٌ إلیه وإان لم یکن مبهماً في حدّ نفسه، فإنّ «زید» - مثلاً - مع عدم إبهامه في حدّ نفسه یصیر مبهماً بعد إسناد الطیب إلیه؛ من حیث إنّ إسناد الطیب إلیه قد یکون من حیث نفسه وقد یکون من حیث علمه أو داره أو غلامه وهکذا من التوابع، فلا حاجة إلی تقدیر ذاتٍ مبهمة، کما توهّمه بعضهم.

﴿ویکون﴾ الرافع للإبهام عن المسند إلیه ﴿اسم معنی کطاب زید علماً واُبوّةً، واسم عین کطاب زیدٌ نفساً أو داراً﴾ أو غلاماً ﴿جامداً﴾ کالأمثلة المتقدّمة ﴿وصفةً نحو لله درّه فارساً﴾ فإنّ الظاهر أنّه تمییزٌ لا حالٌ؛ إذ المقصود مدحه بالفروسیّة لا حال الفروسیّة.

﴿فإن کان صفةً فهو لما انتصب عنه﴾ أي المسند إلیه المذکور في الکلام ﴿دائماً﴾ ولا یجوز أن یکون صفةً لمتعلّقه ﴿فیطابقه﴾ أي ما انتصب عنه ﴿إفراداً وتثنیةً وجمعاً﴾ فیقال: لله درّه فارساً، ودرّهما فارسَین، ودرّهم فارسِین ﴿وإلّا﴾ یکن صفةً ﴿فهو له مرّةً﴾ بأن کان اسماً منطبقاً علیه مختصّاً به، کطاب زید نفساً ﴿ولمتعلّقه تارةً﴾ بأن لم یکن منطبقاً عیه، سواء کان عیناً أم عرضاً، کطاب زید داراً وعلماً ﴿وصالحٌ لهما اُخری﴾ بأن کان اسماً صالحاً لانطباقه علیه وعلی متعلّقه، کطاب زیدٌ أباً، فإنّه صالحٌ لأن یراد به نفس زید بأن کان أباً لغیره، وأن یراد به متعلّقه وهو أبوه ﴿فیطابقه﴾ أي المنتصب عنه ﴿کذلک﴾ أي في الإفراد وقسیمیه ﴿في الأوّل﴾ فیقال: طاب زیدٌ نفساً، وطاب الزیدان نفسَین، وطاب الزیدون نفوساً ﴿وما قصد في الأخیرین﴾ فیقال: طالب زیدٌ داراً أو دارین أو دوراً باختلاف قصد المتکلّم وإرادته، وطاب زیدٌ أباً وطاب الزیدان أبوین وطاب الزیدون آباءً مطابقاً للمنتصب عنه إن اُرید بالتمییز له، وطاب زیدٌ أباً

ص: 293

أو أبوین أو آباءً مطابقاً للمنتصب عنه إن اُرید التمییز لمتعلّقه ﴿إلّا إذا کان جنساً﴾ صادقاً علی القلیل والکثیر، نحو طاب زید علماً، والزیدان علماً، والزیدون علماً ﴿إلّا أن یقصد الأنواع﴾ منه فیثنّی أو یجمع حینئذٍ للتنبیه علی التعدّد النوعي، فیقال: طاب الزیدان علمین، ولازیدون علوماً إذا اُرید أنّ الطیّب من کلٍّ منهما أو منهم نوعٌ آخر من العلم، فإنّ صیغة المفرد لا تفید ذلک المعنی.

الفصل الثالث: في ما یتعلّق بالإسناد

﴿وهو رافعٌ للإبهام عنه، وذلک﴾ أي رفع الإبهام عنه ﴿إذا کان الطرفان جامدین﴾ بحیث لا یسري الإبهام منه إلی أحدهما ﴿نحو أنت الرجل علماً، وزیدٌ زهیرٌ شعراً﴾ فإنّ الإسناد في المثالین ونحوهما إنّما یفید تنزیل أحد الطرفین منزلة الآخر، ومن المعلوم أنّ التنزیل لا بدّ أن یکون في صفةٍ من صفات المنزَّل علیه وشأنٍ من شؤونه: من العلم أو العدالة أو السخاوة أو الشجاعة أو الفصاحة أو البلاغة أو صنعة الشعر وهکذا من الصفات والشؤون، فیکون مبهماً ما لم یتبیّن بالتمییز من نحو علماً وشعراً.

﴿ویجب نصبه﴾ أي التمییز عن النسبة ﴿بأقسامه الثلاثة بالمعنی المقتضي له﴾ وهو کونه ممیّزاً رافعاً للإبهام ﴿إلّا إذا کان مجامعاً للتعلیل﴾ کتأدبیاً في قولک: ضربته تأدیباً، وجبناً في قولک: قعدت عن الحرب جبناً ﴿فیجوز جرّه بحرف التعلیل﴾ بقصد التلعیل لا بقصد التبیین فتقول: ضربته للتأدیب، وقعدت عن الحرب من الجبن.

﴿وقد یأتي التمییز عن المفرد إذا تمّ﴾ بالتنوین محقّقاً أو مقدَّراً أو بنون التثنیة أو الجمع أو بالإضافة، وأمّا ما تمّ باللام فلا یأتي عنه التمییز، فلا یقال: عندي

ص: 294

الراقود خلّاً ﴿واُبهم﴾ في حدّ نفسه مع قطع النظر عن الإسناد ﴿وهو ثلاثة أنواع:﴾

الأوّل: ﴿المقدار عدداً کان، کأحد عشر رجلاً﴾ إلی تسعة وتسعین، وهو تامٌّ بالتنوین المقدّر ﴿أو وزناً نحو منوان عسلاً﴾ وهو تثنیة منا بتخفیف النون والقصر کعصا، ویقال فیه «منّ» بالتشدید ﴿أو مساحةً، کذراع ثوباً﴾ وشبر أرضاً ﴿أو کیلاً نحو قفیزان بُرّاً﴾.

﴿و﴾ الثاني: ﴿ ما یشبهه﴾ في الکیل أو الوزن أو المساحة ﴿نحو مثقال ذرّةٍ خیراً﴾ لمشابه الوزن ﴿ونِحيٌ سَمناً﴾ بکسر النون وإسکان الحاء المهملة اسمٌ لوعاء السمن، فهو مشابه للکیل، ولیس به حقیقةً لأنّه یکون کبیراً وصغیراً ﴿ولو جئنا بمثله مدداً ﴾ لمشابه المساحة.

﴿و﴾ الثالث: ﴿فرع التمییز نحو خاتمٌ حدیداً﴾ وبابٌ ساجاً، وجبّةٌ خزّاً. وضابطه: أن یکون مأخوذاً من التمییز وله اسمٌ خاصٌّ، وأمّا ما لیس له اسمٌ خاصّ - کقطعة ذهب - فلا یستعمل إلّا مضافاً.

واعلم أنّ أغلب الألفاظ الموضوعة للمقادیر موضوعةٌ قدرٍ معیّنٍ جارٍ في کلّ ما یقبل التقدیر به، ولا یختصّ وضعاً بالآلة المعدّة للتقدیر بها، فالمنّ والرطل والصاع والکرّ - ونحوها من ألفاظ الأوزان - إنّما وضعت لأوزانٍ معیّنةٍ جاریةٍ في العسل والسمن والتمر والماء، وهکذا من الأشیاء القابلة للوزن، ولا تختصّ بالصنجة التي جعلت آلةً للتقدیر بها، وهکذا الأمر في سائر ألفاظ المقادیر: من العدد والمساحة والکیل. نعم، تنصرف مطلق ألفاظ المقادیر إلی الآلات المعدّة للتقدیر بها، وتختصّ بعضها بها وضعاً، کالشبر والذراع ونحوهما، فتوهّم أنّها مطلقاً موضوعةٌ لآلات التقدیر مطلقاً مستعملةٌ في الموارد المزبورة في المعدود والموزون

ص: 295

والمکیل والممسوح مجازاً في غیر محلّه.

ثمّ إنّه تبیّن ممّا بیّنّاه أنّ العدد قسمٌ من المقدار ولیس قسیماً له، وما ذکره بعضهم: من أنّ المراد بالعدد حقیقته وبالمقدار المقدَّر به فیکون العدد قسیماً له في غیر محلّه، ولا حجّة فیما احتجّ به: من جواز إضافة لفظ المقدار إلیه دون العدد، فیصحّ أن تقول: عندي مقدار رطلٍ زیتاً، ولا یصحّ أن تقول: عندي مقدار عشرین رجلاً، إلّا علی معنی آخر؛ لأنّ الوجه في عدم جوزا إضافة المقدار إلی العدد أنّ العدد لا یختصّ بمعدودٍ خاصٍّ حتّی انصرافاً؛ إذ لیس للعدد آلةٌ معدّةٌ له - کسائر المقادیر - فیکون إضافة المقدرا إلیه من قبیل إضافة الشيء إلی نفسه، فلا تصحّ، بخلاف سائر المقادیر، فإنّها تختصّ انصرافاً أو وضعاً بالآلة المعدّة للتقدیر بها وزناً أو کیلاً أو مساحةً، فإذا اُضیف المقدار إلیها یراد منها الآلات المعودة فلا یتّحد طرفاها فتصحّ.

﴿وینصب﴾ التمییز عن المفرد ﴿بالمعنی المقتضي له﴾ وهو کونه تمییزاً وتبییناً للمبهم ﴿ویجوز رفعه علی البدل﴾ فیقال: عندي رطلٌ زیتٌ، وقفیزٌ بُرٌّ، ولي ذرعٌ ثوبٌ ﴿وجرّه بمن﴾ فیقال: رطلٌ من زیت، وقفیزٌ من بُرّ، وذراعٌ من ثوب ﴿إلّا إذا کان تمییزاً لعدد﴾ فیجب نصبه ﴿وبإضافة المقدار إلیه إلّا إذا کان مضافاً إلی غیره﴾ نحو ملء الأرض ذهباً، فلا یضاف ثانیاً إلیه، ولا یجوز حذف المضاف إلیه عنه وإضافته إلی التمییز لفساد المعنی ﴿أو عدداً﴾ فلا یجوز إضافته إلی تمییزه، فلا یقال: أحد عشر رجل.

﴿والأصل في التمییز﴾ مطلقاً ﴿أن یکون نکرةً، ویجوز تعریف التمییز عن المسند﴾ بقسیمه المسمّیین بالمفعول المطلق والمفعول لأجله عندهم ﴿باتّفاق وأوجبوا تنکیر غیره﴾ من التمییز عن المفرد وعن المسند إلیه وعن الإسناد ﴿وما

ص: 296

جاء منه معرفةً، کطبت النفس﴾ یا قیس السري ﴿مأوَّلٌ بالنکرة عندهم، وهوتعسّفٌ﴾ لا دلیل علیه.

ولا یتقدّم علی﴾ المبهم ﴿الممیَّز عنه مطلقاً﴾ سواء کان تمییزاً عن المفرد أو عن النسبة ﴿وأجاز المازني والمبرّد تقدیم التمییز عن النسبة﴾ علیه وعلی المسند معاً ﴿محتجّین بقول الشاعر: وما کاد نفساً بالفراق تطیب﴾.

ص: 297

خاتمة: في منصوبات ثلاثة

اشارة

في ذکر منصوباتٍ ثلاثة توهّموا أنّ اثنین منها من المفاعیل وثالثها من الملحقات بها وبیان فساد ما توهّموه.

الأول: المفعول فیه

[المفعول فیه](1)

الأوّل: في المنصوب علی الظرفیّة المسمّی بالمفعول فیه ﴿ینتصب﴾ علی الظرفیّة ﴿اسم الزمان مطلقاً﴾ مبهماً کان کحین ومدّة، أو مختصّاً کیوم ولیلة ﴿واسم المکان إذا کان مبهماً﴾ وقد اختلف في تفسیره، ففسّره بعضهم بالنکرة، ولیس بشيءٍ، وإلّا لزم أن لا ینتصب نحو: جلست خلفک وأمامه، مع انّه ینتصب باتّفاقهم، وأن یصحّ قولک: صلّیت مسجداً، وجلست داراً مع عدم صحّته باتّفاق. وبعضهم بغیر المحصور کالزمان المبهم. وبعضٌ آخر بما ثبت له اسمه لأجل إضافته إلی أمرٍ خارجٍ عن مسمّاه ﴿کالجهات الستّ﴾ فإنّ کلّاً من فوق وتحت وأمام وخلف ویمین ویسار یصدق علی مکانٍ باعتبار إضافته إلی شيءٍ آخر ،وهذا مراد من فسّره بما افتقر إلی غیره في بیان صورة مسمّاه ﴿ونحوها﴾ في الإبهام کعند ولدی ووسط وبین وإزاء وحذاء ونحوها من الظروف. واستثني منهاجانب وما بمعناه: من جهة ووجه وکنف؛ فإنّه لا یقال زید جانب عمرو وکنفه بل في جانبه أو إلی جانبه

ص: 298


1- العنوان منّا.

﴿أو من المقادیر کفرسخ ومیل وبرید، أو مصوغاً من الفعل کمقام ومقعد﴾.

﴿ویشترط في الثاني أن یکون ظرفاً للحدث المتقدّر به کالسیر والمشي﴾ تقول: سرت فرسخاً، ومشیت میلاً، وذهبت بریداً، فإنّ هذه الأفعال ونحوها تتقدّر بالمقادیر، ولا یصحّ أن تقول: صلّیت فرسخاً أي في فرسخ، وأکلت میلاً أي في میل، واشتریت بریداً أي في برید، ولک أن تقول: المقادیر في الموارد المزبورة قائمةٌ مقام المصدر ومنصوبةٌ علی المصدریّة، أي سیر فرسخٍ ومشي میلٍ وذهاب بریدٍ ولا تکون ظرفاً للفعل المتقدّم، ولعلّه أرجح وأظهر ﴿و﴾ العجب أنّ النحاة ﴿قد أهملوه﴾ أي هذا الشرط ولم یذکروه.

فإن قیل: لا حاجة إلی ذکره؛ إذ لا یصحّ جعلها ظرفاً لغیر الأفعال المتقدّرة بها؛ لأنّها إنّما تقع ظرفاً للفعل الواقع في کلّ جزءٍ من أجزائها، وما عدا الأفعال المتقدّرة بها - کالصلاة والأکل والاشتراء ونحوها - لا تتعلّق بکلّ جزءٍ من أجزائها.

قلت: لا یعتبر في تعلّق الفعل بالمکان استیغاب الفعل لجمیع أجزائه، وإلّا لزم أن لا یصحّ قولک: صلّیت في المسجد، ونمت في البیت، إلّا بعد استیعابهما لجمیع أجزاء المسجد والبیت، وهو باطلٌ بالضرورة. ولا خصوصیّة للمقادیر؛ ألا تری أنّه یصحّ لک أن تقول: قصّرت في الرید أم أتممت؟ وهل صلاتک فیها قصر؟

﴿و﴾ یشترط ﴿في الثالث﴾ أن یکون ظرفاً ﴿للحدث الذي صیغ منه هو﴾ أي اسم المکان ﴿کذهبت مذهب زید﴾ ورمیت مرمی عمرو، وقوله تعالی: (وإنّا کنّا نقعد منها مقاعد للسمع)(1) ﴿أو لما فیه معنی الاستقرار إن کان مأخوذاً ممّا فیه معناه﴾ کالمجلس والمقعد والمأوی والمبیت والمرکز والمرصد، دون

ص: 299


1- سورة الجنّ، الآیة 9.

المضرب والمقتل والمشرب والمأکل ﴿نحو قوله تعالی: (واقعدوا لهم کلّ مرصد)(1)﴾ وقعدت مرکزه، وجلست منزل فلان، وقمت موضعک ومکان زید. ومن هذا القبیل ما سمع من قولهم: هو منّي مقعد القابلة،(2) إذ معناه هو استقرّ منّي مقعد القابلة، فالواقع في المکان هو الاستقرار، واسم المکان - وهو مقعد - مأخوذ من القعود الذي فیه معنی الاستقرار، فیکون نصبه قیاساً. وأمّا قولهم: هو عمروٌ مزجر الکلب، وعبد الله مناط الثریّا، فشاذٌّ لا یقاس علیه؛ لانتفاء معنی الاستقرار في الحدث المأخوذ منه اسم المکان فیهما.

وقد ذکر بعضهم أنّ لفظ المکان ملحقٌ بالمبهم لشباهته به في الشیاع، فینتصب علی الظرفیّة مطلقاً. ولیس کذلک؛ إذ لا یصحّ أن تقول: کتبت الکتاب مکانک، أو شرت مکان ضرب زید، وهکذا، وإنّما ینتصب المکان بما صیغ من مادّته کقولک: کنت مکان زید، أو بما فیه معنی الاستقرار، کقولک: جلست مکان زید.

﴿ولا ینتصب ما عداها﴾ أي ما عدا الأصناف الثلاثة من اسم المکان ﴿علی الظرفیّة﴾.

﴿ولا بدّ من ذرک﴾ کلمة ﴿«في» معه﴾ إذا اُرید جعله ظرفاً، تقول: صلّیت في المسجد، واشتریت في السوق، ونمت في الدار ﴿إلّا﴾ إذا وقع ﴿بعد دخلت ونزلت وسکنت﴾ فینتصب علی الظرفیّة لکثرة استعمالها نحو: دخلت الدار، ونزلت البیت، وسکنت المدرسة ﴿وقیل: نصب ما بعدها علی التوسّع﴾ ویکون

ص: 300


1- سورة التوبة، الآیة 5.
2- والصواب أنّه سماعيٌّ - کما ذکره بعضهم - لأنّ استقرار المفهوم من الظرف إنّما هو الاستقرار العامّ الجراي في جمیع الأفعلا، لا الاستقرار الخاصّ المختصّ ببعض الأفعال دون بعض (منه).

مفعولاً به لا ظرفاً ﴿وهو الأصحّ﴾ لأنّ الأفعال المذکورة کما تتعدّی إلی المکان بکلمة «في» تتعدّی إلیه بنفسها، والتعلّق الوقوعي لا ینافي التعلّق الظرفي، فلا مانع من اجتماعهما في محلٍّ واحدٍ بالنسبة إلی فعلٍ واحد.

﴿وینتصب علی الظرفیّة ما دلّ علی زمانٍ أو مکانٍ﴾ یقبل الانتصاب بها ﴿واتّحد معه﴾ أي مع أحدهما ﴿صدقاً وهو اُمور:﴾

الأوّل: ﴿اسم العدد الممیَّز بأحدهما نحو سرت عشرین یوماً ستّین فرسخاً﴾.

﴿و﴾ الثاني: ﴿بالمضاف إلی أحدهما الدالّ علی تفضیلٍ فیه أو کلّیّته أو جزئیّته، نحو صمت أفضل الشهور، وطویت أشقّ المراحل، وصمت جمیع شهر رمضان أو بعضه، وسرت جمیع الفرسخ أو بعضه﴾.

﴿و﴾ الثالث: ﴿صفة أحدهما نحو سافرت طویلاً من الدهر، وجلست شرقيّ الدار﴾ أي زماناً طویلاً ومکاناً شرقیّاً.

﴿و﴾ الرابع: ﴿اسم إشارةٍ إلی أحدهما نحو صمت هذا الیوم وسرت هذه المرحلة﴾.

﴿و﴾ الخامس: ﴿المصدر الموقّت به وقت الفعل نحو جئتک صلاة العصر﴾ أي وقت صلاة العصر ﴿أو المتقدّر به مقداره نحو أمهلته نحر جزورین﴾ أي زمان مقدار نحر جزورین.

﴿وقد ینتصب﴾ المصدر ﴿بدلاً عن المکان لاتّحاده معه توسّعاً نحو جلست قرب زید، وهو قلیل، وأقلّ منه قیام اسم العین مقام الزمان باعتبار حدثٍ متعلّقٍ به نحو لا اُکلّمک هبیرة بن قبیس﴾ أي مدّة غیبته. ولا حذف في قیام المصدر واسم العین مقام الزمان أو المکان - کما یتراءی من کلماتهم - وإنّما هو توسّع في النسبة.

ص: 301

﴿والظرف﴾ زماناً أو مکاناً ﴿أن لم یستعمل إلّا علی وجه الظرفیّة، کعند ولدی وقطّ وعوض فهو غیر متصرّف﴾ واستعمال «عند» مجروراً بمن لا ینافي ذلک؛ لأنّه في حکم الظرفیّة ﴿وإن جاز استعماله علی وجوهٍ مختلفة﴾ فاعلاً ومفعولاً مبتداً وخبراً وهکذا ﴿فهو متصرّفٌ کأغلب الظروف﴾.

﴿واعلم أنّ أکثر النحویّین أدرجوا المنتصب علی الظرفیّة في سلسلة المفاعیل﴾ التي هي من القیود ﴿وسمّوه مفعولاً فه، وهو باطلٌ؛ لأنّ الظرف قد یکون رکناً﴾ وعمدةً ﴿ک-﴾ قولک: ﴿صلاتي خلف العادل، وضربي عند الأمیر، وفضلةً ک-﴾ قولک: ﴿صلّیت یوم الجمعة، وصمت شهر رمضان، وجعل الرکن﴾ من الظروف ﴿فضلةً باعتبار تعلّقه ممحذوفٍ عامٍّ﴾ من أفعال العموم ﴿في غیر محلّه؛ لما عرفت: من عدم الدلیل علی التقدیر بل دلالة الدلیل علی العدم﴾.

ص: 302

الثانی: المفعول معه

[المفعول معه](1)

﴿و﴾ الثاني من المنصوبات التي أردجوها في المفاعیل: المنتصب علی المصاحبة المسمّی بالمفعول معه ﴿ینتصب المذکور بعد الواو للنصّ علی مصاحبته مع ما قبله، والجمهور سمّوه مفعولاً معه، واعتبروا سبقه بالفعل أو شبهه لفظاً أو معنی﴾.

قال ابن الحاجب: فإن کان لفظاً وجاز العطف فالوجهان، نحو جئت أنا وزیدٌ وزیداً، وإلّا تعیّن النصب. وإن کان الفعل معنیً وجاز العطف تعیّن العطف، نحو ما لزیدٍ وعمرو، وإلّا تعیّن النصب، نحو مالک وزیداً، وما شأنک وعمرواً، لأنّ المعنی ما تصنع.

أقول: اعتبار سبقه بالفعل أو شبهه إن کان لأجل أنّ النصب یحتاج إلی عاملٍ من الفعل أو شبهه، فقیه: أنّه کالرفع والجرّ لا یحتاج إلی أزید من المعنی المقتضي له - کما مؤ مراراً - ولو سلّم احیتاجه إلی العامل بالمعنی الذي ذکروه - وهو ما یتقوَّم به المعنی المقتضي للإعراب - نمنع انحصاره في الفعل وشبهه، بل نمنع تقوّمه به؛ لأنّ المعنی المقتضي للنصب - وهو النصّ علی المصاحبة - متقوّمٌ بالواو

وإن کان لأجل احتیاج المعنی إلیه من حیث إنّ المصاحبة بین الأمرین لا بدّ أن تکون في حدثٍ من الأحداص المتعلّقة بهما، فهو ممنوع؛ لأنّ المصاحبة لا بدّ أن تکون في نسبة، سواء کانت حدوثیّةً أم اتّحادیّةً أم إضافیّةً، مع أنّهم قدّروا في نحو

ص: 303


1- العنوان منّا.

«ما أنت وزیداً» و «کیف أنت وقصعةً من ثرید» فعل الکون، وقالوا: تقدیره «ما تکون وزیداً» و «کیف تکون وقصعةً من ثرید» ومن المعلوم أنّ الکون المقدّر فیهما ناقصٌ لا تامٌّ، ومفاد الکون الناقص إنّما هي النسبة الثابتة بین اسمه وخبره ولیس أمراً زائداً علیها، وهذا معنی ما قیل: إنّ الفعل الناقص لا یدلۀ علی الحدث، فلو کان تقدیر الفعل لأجل أنّ المصاحبة لا تتعلّق إلّا بحدثٍ زائدٍ علی النسبة الثابتة بین طرفیها لم ینفع تقدیر الکون وأمثاله من أفعال العموم الراجعة إلی مجرّد النسبة.

فتبیّن بما بیّنّاه أنّ الصواب ﴿والأصحّ عدم اعتبار سبقه به﴾ أي الفعل أو شبهه ﴿فلا یکون مفعولاً معه، بل منتصباً علی المصاحبة تابعاً لرکنٍ﴾ من فاعل ﴿نحو استوی الماء والخشبة﴾ وجئت وزیداً، أو مبتدأٍ نحو کیف أنت وقصعةً من ثرید ﴿وما أنت وزیداً﴾ أو خبرٍ ما لک وزیداً ﴿وما لزید وعمرواً أو فضلةٍ نحو حسبک وزیداً درهم﴾ وإنّما مثّلت به ولم نمثّل بما مثّل به بعضهم: من «کفاک وزیداً درهم» لأنّ العطف فیه وفي نحوه واجبٌ، والسرّ فیه أنّ الأصل في الواو العطف، والعدول عنه إلی واو المصاحبة إنّما هو للنصّ علی المصاحبة، وهو إنّما یتمّ عند العدول إلی الرفع أو الجرّ إلی النصب، وأمّا مع نصب المعطوف علیه فلا نصّ علی المصاحبة بالنصب لانتصابه علی التقدیرین.

وقد فهم من کلام ابن الحاجب أنّ المذکور بعد الواو ثلاث حالات، والمعروف أنّ له أربع حالات، وقیل: إنّ له خمس حالات:

الاُولی: وجوب العطف للافتقار إلی المعطوف، إمّا مادّةً نحو: اشترک زیدٌ وعمروٌ، وإمّا هیئةً نحو: تضارب زیدٌ وعمروٌ، أو لعدم النصّ علی المصاحبة بنصب ما بعد الواو نحو: ضربت زیداً وعمرواً.

والثانیة: وجوب النصب لعدم جواز العطف نحو: ما لک وزیداً، بناءً علی

ص: 304

عدم جواز العطف علی الضمیر المجرور إلّا بإعادظ الجارّ، وقمت وزیداً، بناءً علی عدم جواز العطف علی الضمیر المرفوع المتّصل إلّا مع الفصل بالضمیر المنفصل أو فاصلٍ ما.

والثالثة: رجحان العطف علی النصب، کما إذا أمکن العطف بلا ضعفٍ نحو: قمت أنا وزیدٌ.

والرابعة: رجحان النصب علی العطف، کما إذا أمکن العطف مع ضعفٍ نحو: قمت وزیداً، وما لک وزیداً، بناءً علی عدم اشتراط إعادة الجارّ والفصل بالضمیر المنفصل أو فاصلٍ ما فیهما.

والخامسة: امتناعهما، کقوله «علّفتها تبناً وماءً بارداً» لأنّ الماء لا یشارک التبن في العلف ولا یصاحبه، فیقدّر للمذکور بعد الواو فعلٌ یناسبه، ویصیر المعطوف حینئذٍ من باب عطف الجملة علی الجملة، فیقال: الأصل وسقیتها ماءً بارداً. والتحقیق أنّه من باب عطف المفرد علی المفرد ویصحّ نسبة التعلیف إلیه تبعاً وتغلیباً.

واعلم أنّه یشترط في انتصاب الاسم علی المصاحبة جواز عطفه من حیث المعنی، فلا یجوز «ضحک زیدٌ وطلوع الشمی» کما اختراه الأخفش، وقیل: لا یشترط ذلک مستدلّاً بقولهم: سرت والنیل، ولا یقال: سار الماء، وفیه: أنّه یصحّ إسناد السیر إلیه استعارةً عن جریانه، سیّما بعد اقترانه بما یصحّ منه السیر تحقیقاً.

ص: 305

الثالث: المنصوب علی التوسّع

[المنصوب علی التوسّع](1)

﴿و﴾ الثالث من المنصوبات المنصوب علی التوسّع: المسمّی بالمنصوبات بنزع الخافض عندهم ﴿قد ینتصب الاسم توسّعاً بإیصال الفعل﴾ أو شبهه ﴿إلیه بلا واسطة حرف الجرّ﴾ فتوهّم أنّه منصوبٌ بنزع الخافض ﴿وقسّموه إلی﴾ ثلاثة أقسام:

﴿قیاسيٌّ وذلک في أنّ وأن المصدریّتین نحو﴾ قوله تعالی: ﴿(أوَ عجبتم أن جاءکم ذکرٌ من ربّکم)،(2) وعجبت أنّک قادم﴾.

واشترط ابن مالک في اطّراد حذف الجارّ عنهما الأمن من اللبس، فلا یقال: رغبت أن تفعل؛ إذ لا یعلم أنّ التقدیر «في أن تفعل» أو «عن أن تفعل» ونقض بقوله تعالی: (وترغبون أن تنکحوهنّ).(3)

واُجیب بأنّ عدم الاطّراد لا ینافي الورود للقرینة.

والتحقیق: أنّ «رغب» وإن احتمل التعدیة ب-«في» و «عن» إلّا إنّ إیصاله بلا واسطة حرف الجرّ ظاهرٌ في المعنی الأوّل دون الثاني، فلا لبس حینئذٍ.

﴿وسماعيٌّ جائز في﴾ الکلام ﴿المنثور نحو شکرته ونصحته وکِلته ووزنته﴾ أي له ﴿وکاختار وأمر ونهی واستغفر وکنّی وسمّی ودعا وصدق﴾

ص: 306


1- العنوان منّا.
2- سورة الأعراف، الآیة 63 و 69.
3- سورة النساء، الآیة 127.

بالتخفیف ﴿وزوّج متعدّیةً إلی المفعول الثاني بدون حرف جرٍّ﴾ في الظاهر نحو قوله تعالی: (واخترا موسی قومه سبعین رجلاً)(1) أي من قومه، وقوله: «أمرتک الخیر فافعل ما أمرت به» وقد جمع فیه بین الاستعالین، و «نهیت زیداً القبیح» أي عن القبیح، وقوله «استغفر الله ذنباً لست محصیه» و «کنّیته أبا عبد الله» أي بأبي عبد الله، و «سمّیته یحیی» أي بیحیی، وقوله: «دعتني أخاها اُمّ عمرو» أي بأخیها، وقوله تعالی: (صدقکم الله وعده)(2) أي في وعده، وقوله تعالی: (وزوَّجناکها)(3) أي بها.

﴿و﴾ سماعيٌّ ﴿خاصٌّ بالشعر﴾ وذلک في غیر الأفعال المذکورة، کقوله:

تمرّون الدیار ولم تعرجوا *** کلامکم عليًّ إذن حرامٌ

﴿والتقحیق أنّ﴾ أغلب ﴿أمثلة القسم الثاني﴾ أو جمیعها ﴿من الأفعال التي یصحّ تعدیتها إلی المفعول الثاني بنفسها وبواسطة حرف الجرّ﴾ کما نبّه علیه بعضهم ﴿ف-﴾ المنصوبات فیها مفاعیلٌ تحقیقّةٌ لا توسّعیّة و ﴿التوسّع﴾ إنّما هو ﴿في القسمن الآخرین﴾.

﴿وقد تبیّن بما بیّنّاه أنّ محلّ «أنّ» و «أن» منصوبٌ، کما ذهب إلیه الخلیل﴾ لما ظهر لک أنّهما منصوبان علی التوسّع ولا خافض في البین أصلاً، فلا وجه للقول بأنّهما مجرور المحلّ کما ذهب إلیه سیبویه، وقد نسب ابن مالک القول

ص: 307


1- سورة الأعراف، الآیة 155.
2- سورة آل عمران، الآیة 152.
3- سورة الأحزاب، الآیة 37.

بجرّ المحلّ إلی الخلیل، وقال: یؤیّده ما أنشده الأخفش:

وما زرت لیلی أن تکون حبیبةض *** إليّ ولا دینٍ بها أنا طالبه

بجر المعطوف علی «أن» وهو سهوٌ، کما نبّه علیه ابن هشام، ولا حجّة فیما أنشده الأخفش؛ لاحتمال أن یکون من باب العطف علی التوهّم، بل یتعیّن حمله علیه بملاحظة ما بیّنّاه.

ص: 308

أساس في الإضافة

اشارة

أساس: في الإضافة(1)

إعلم أنّ من المعاني المعتورة علی الاسم الإضافة، وهي قد تتحقّق بمعونة حرف الجرّ، وقد تتحقّق بمعونة الهئیة الترکیبیّة.

والاُولی تختلف باختلاف فالحروف، فقد تکون علی وجه الظرفیّة ک-«زیدٌ في الدار» وقد تکون علی وجه الاستعلاء ک-«زیدٌ علی السطح» وهکذا.

وترد تامّةً کالمثالین المتقدّمین ونحوهما، وناقصةً ک-«صلّیت في المسجد» و «ضربت للتأدیب» وهکذا.

والتامّة لا یکون طرفاها إلّا اسمین، وأمّا الناقصة فقد یکون طرفاها أیضاً اسمین ک-«جاء رجلٌ في الدار»، علی أن یکون الظرف صفةً لرجل، وقد یکون أحد طرفیها الإسناد التامّ کالمثالین المتقدّمین، أو النسبة الناقصة ک-«اغتسالي یوم الجملة فرضٌ عليّ».

فإن قلت: النسبة سواء کانت تامّةً أم ناقصةً معنی حرفيّ، فلا یعقل أن تکون مضافة، کما لا یعقل أن تکون مضافاً إلیها، فالمضاف في المثال الأخیر

ص: 309


1- الزیادة منّا.

إنّما هو المصدر، وفي المثالین المتقدّمین إمّا الفعل، کما یظهر من کلام ابن الحاجب في کافیته، حیث عرّف حروف الجرّ بأنّها ما وضعت لإفضاء الفعل أو معناه إلی ما یلیه، أو المصدر الذي تضمّنه الفعل، کما صرّح به الزمخشري وغیره علی ما قیل.

قلت: لا دلیل علی عدم قبول المعنی الحرفيّ التقیید الإضافي وصیرورته مضافاً، بل الدلیل قائمٌ علی خلافه - کما بیّنّاه سابقاً، ضرورة أنّ الحدث مع قطع النظر عن نسبة إلی الفاعل أو المفعول لا مبدأ له ولا منتهی ولا ظرف له زمانیّاً أو مکانیّاً ولا غایة ولا علّة له وهکذا من الإضافات، والمبدأ والمنتهی في قولک: «سرت من البصرة إلی الکوفة» إنّما هما لحدوث السیر من المتکلّم، کما أنّ الظرف في قولک: «ضربت في الدار» ظرفٌ لحدوث الضرب منه.

ویضح لک ما بیّنّاه - غایة الإیضاح - النظر إلی قولک: علمت یوم الجمعة بأنّک فاضلٌ، وبعت متاعتي یوم السبت مثلاً، وهکذا من الأفعال المشتقّة من الموادّ القارّة، فإنّ المضاف إلی یوم الجمعة والسبت إنّما هو حدوث البیع والعلم لا نفسهما، وإلّا لزم عدم ثبوتهما في غیر الجمعة والسبت، وبطلان اللازم في غایة الوضوح، ومع قیام الدلیل علی خلاف ما نقل عنهم لا وجه للرکون إلی ما ذکروه والجمود علیه.

وأمّا الإضافة الحاصلة بمعونة الهیئة الترکیبیّة فهي مصوغةٌ علی النقص أبداً، ولا یکون طرفاها إلّا اسمین، ولا تفید إلّا معنیً واحدً، وهو اختصاص المضاف بالمضاف إلیه من وجه، وإنّما تختلف خصوصیّات الاختصاص في الموارد باختلاف طرفیها، ففیما کان المضاف إلیه جنساً للمضاف - کثوب قطنٍ، وخاتم فضّة - یتلبّس الاختصاص من طرف المورد بخصوصیّة، بحیث یصحّ وضع «من» البیانیّة

ص: 310

موضعها، وفیما کان المضاف إلیه ظرفاً للمضاف یتلبّس بالظرفیّة بحیث یصحّ کلمة «في» موضعها، وفیما عداهما یتلبّس بخصوصیّةٍ اُخری بحیث یصحّ وضع «اللام» الجارّة موضعها فة أغلب الموارد، لا أنّ الهیئة الترکیبیّة المفیدة للإضافة تفید في کلّ موردٍ نحواً من الاختصاص علی وجه الاشتراک، فإنّ الهیئة - ترکیبیّةً کانت أو اشتقاقیّة - بمنزلة الحروف لا یتطرّق فیها الاشتراک والتجوّز أصلاً، کما بیّنّاه في محلّه، وسنبیّنه في مبحث الحروف إن شاء الله تعالی. فما ذکروه: من أنّ الإضافة بحکم الاستقراء إمّا بمعنی «اللام» أو «من» أو «،ي» إن اُرید به ما بیّنّاه فهو، وإلّا ففاسد.

ثمّ إنّ اختصاص ذلک بالإضافة المعنویّة - کما یظهر من کلام ابن الحاجب - لا وجه له؛ لأنّ الهیئة الترکیبیّة المفیدة للإضافة - معنویّةً أو لفظیّة - تفید الاختصاص، والاختصاص في الإضافة اللفظیّة بمعنی «اللام» إن کانت من قبیل إضافة الصفة إلی مفعولها، وإلّا فهو أقوی منه.

وتوهّم أنّ الإضافة اللفظیّة لا تفیده، لأنّ الصفة لها تعلّقٌ بمعمولها فلا تفید إضافتها إلیه تعلّقاً آخر لاستحالة اجتماع المثلین علی محلٍّ واحد، وَهَمٌ فاحش؛ إذ التعلّق له مراتب، والتعلّق الحاصل من الإضافة أتمّ وأقوی من التعلّق الحاصل من قِبَل المعمولیّة - کما هو ظاهرٌ لمن له أدنی دربة - ولو فرض أنّ التعلّق له مرتبةٌ واحدةٌ فلا مانع من إفادتها إیّاه علی وجه التأکید.

ثمّ إنّ بعضهم زعم أنّ الإضافة لا تحصل إلّا بمعونة الحرف، وأنّ المضاف إلیه مجرورٌ بالحرف المقدّر، وهو باطل من وجوه:

الأوّل: أنّه لا دلیل عل تقدیر الحرف، ولا داعي إلی ارتکابه؛ لأنّ الهیئة الترکیبیّة تفید الإضافة بالضرورة فلا وجه لجعلها مهملةً وتقدیر حرف الجرّ.

ص: 311

والثاني: أنّ الإضافة الحاصلة من الهیئة الترکیبیّة أتمّ وأشدّ من الإضافة الحاصلة بالحرف؛ ولذا توجب تعریف المضاف وصیرورته معهودً إذا کان المضاف إلیه معرفةً، فلو کان «غلام زید» بتقدیر غلامٌ لزید لکان مفادهما واحداً واستویا في إفادة التعریف والعهد وعدمهما.

والثالث: أنّه علی القول بتقدیر الحرف یلزم رجوع الترکیب الإضافي إلی الترکیب التوصیفي، حسب ما ذکره الجمهور: من وجوب تعلّق حرف الجرّ - مذکوراً أو مقدّراً - بالفعل أو شبهه أو ما فیه معناه، خاصّاً أو عامّاً مذکوراً أو مقدّراً، فیصیر التقدیر حینئذٍ «غلامٌ کائنٌ لزید» فیصیر المرکّب حینئذٍ توصیفیّاً لا إضافیّاً، وهو مخالفٌ للضرورة.

والرابع: أنّه لا یتطرّق التقدیر في بعض الموارد، کیوم الأحد وعلم الفقه وشجر الأراک وعند زید ولدی عمرو ومع بکر وکلّ القوم وأمثالها.

فالتحقیق ما ذهب إلیه أبو حیّان: من أنّ الإضافة لیست علی تقدیر حرفٍ ممّا ذکروه ولا علی نیّته.

وبما بیّنّاه تبیّن أنّ عامل الجرّ في المضاف إلیه هو کونه مضافاً إلیه أو الهیئة الترکیبیّة، لا ما ذکروه: من المضاف أو الإضافة أو الحرف المقدّر.

بیانه: أنّا قد حقّقنا سابقاً أنّ الذي ینبغي أن یطلق علیه العامل هو المعنی المقتضي للإعراب، ولکن استقرّ اصطلاح الأکثرین علی أنّه هو ما یتقوّم به المعنی المقتضي للإعراب.

فإن بنینا علی ما اخترناه سابقاً فعامل الجرّ حینئذٍ هو کونه مضافاً إلیه لأنّه المعنی المقتضی للجرّ، وإن بنینا علی ما بنوا علیه فالعامل هي الهیئة الترکیبیّة الإضافیّة لأنّها هي التي یتحصّل ویتقوّم بها المعنی المقتضي لجرّ المضاف إلیه.

ص: 312

وأمّا المضاف فلا یکون معنیً مقتقضاً للجرّ ولا ما یتقوّم به المعنی المقتضي للجرّ - کما هو ظاهر - وإنّما هو والمضاف إلیه طرفان للإضافة ومعروضان لها.

وأمّا الحرف المقدّر فلفساد القول به.

وأمّا الإضافة فلأنّها نسبةٌ قائمةٌ بالمضاف والمضاف إلیه، فلو جعلناها مقتضیة للجرّ لزم جرّهما معاً بها، إلّا إن یرجع إلی ما بیّنّاه یجعل العامل هو الإضافة إلیه لا هي مطلقاً.

ثمّ إّنهم قسّموا الإضافة إلی قمسین: لفظیة وهي إضافة الصفة إلی معمولها، ومعنویّة وهي ما لم تکن کذلک، وقالوا: إنّ المعنویّة تفید تخصیص المضاف مع تنکیر المضاف إلیه، وتعریفه مع تعریفه، إلّا إذا توغّل المضاف في الإبهام مثل: غیر ومثل، فإنّهما باقیان علی التنکیر لشدّة إبهامهما إلّا إذا اُضیف «غیر» إلی أحد الضدّین اللذین لا ثالث لهما ک-«غیر المغضوب علیهم» فإنّه صار معرفةً وجعل صفةً للمعرفة وهي اسم الموصول، واُرید ب-«المثل» کمال المماثلة فإنّه یصیر حینئذٍ معرفةً لخروجه عن الإبهام. وأوجبوا تنکیر المضاف حینئذٍ حتّی یترتّب علیه التعریف أو التخصیص، وأوّلوا ما کان معرفةً إلی النکرة، مثل قوله: «علا زیدنا یوم النقاء رأس زیدکم: بتأویله إلی المسمّی به مجازاً.

وأمّا اللفظیّة فزعموا أنّها لا تفید إلّا تخفیفاً في اللفظ وهو حذف التنوین ونوني التثنیة والجمع، وأجازوا أن یکون المضاف حینئذٍ محلّی باللام إن کان المضاف إلیه محلّی به أو مضافاً إلیه.

أقول: ما ذکوره من أنّ فائدة الإضافة اللفظیّة هي التخفیف في اللفظ باطلٌ جدّاً؛ لأنّ الهیئة الترکیبیّة الإضافیّة لا تتحقّق إلّا بحذف التنوین والنونین، فالإضافة - لفظیّةً أو معنویّةً - متحقّقةٌ بهذا التخفیف ومتأخّرةٌ عنه، لا أنّه فائدةٌ للّفظیّة

ص: 313

ومترتّبةٌ علیها، کترتّب التعریف والتخصیص علی الإضافة المعنویّة.

وأمّا ما ذکوره من لزوم کون المضاف نکرةً في الإضافة المعنویّة لأجل انحصار فائدتها في تعریف المضاف أو تخصیصه فباطلٌ من وجوه:

الأوّل: أنّ التعریف واتلخصیص من جملة فوائد الإضافة؛ ضرورة أنّها إنّما تفید الاختصاص، ولا ینحصر الغرض مه في أحدهما، بل قد یکون الغرض منه المباهاة والتعبیر کقوله: «علا زیدنا یوم النقاء رأس زیدکم» وقد یکون الغرض منه تنزیه ساحة المتکلّم عن الفعل المتوهّم انتسابه إلیه کقول أولاد یعقوب لیعقوب (علیه السلام) : «إنّ ابنک سرق» وهکذا من الأغراض المترتّبة علیه في الموارد، فمع عدم انحصار الغرض في التعریف أو التخصیص لا وجه لحصر الفائدة فیهما، فتأویل المضاف المعرفة إلی النکرة حینئذٍ تأویلٌ من غیر موجبٍ وعلّة. نعم، تأویل عَلَم الشخص إلی المسمّی به في صورة تثنیته وجمعه تأویلٌ أوجبه الدلیل؛ لأنّ أداتهما إنّما تلحقان ما یقبل التعدّد، وعَلَم الشخص من دون تأویلٍ إلی المسمّی به لا یقبل التعدّد، وأمّا في صورة الإضافة فالمقصود هو الشخص، فتنکیره وإزالة التعریف عنه ثمّ تعریفه بالمضاف إلیه - مع أنّه لا موجب له - لغوٌ وأشبه شيءٍ بالأکل من القفاء.

والثاني: أنّه لو سلّم انحصار فائدتها في التعریف أو التخصیص نمنع لزوم صیرورته نکرةً؛ لأنّ إفادتها التعریف أو التخصیص إنّما هي علی وجه الاقتضاء، فلا ینافي عدم حصوله منها لأجل اشتغال المحلّ بالمثل.

والثالث: أنّه مع فرض لزوم کون المضاف نکرةً یلزم عدم جواز إضافة الأعلام حتّی مع التأویل إلی المسمّی به؛ لأنّه لا یوجب تنکیرها - کما کشفنا الستر عنه في کشف الأستار - فإنّ الاسم مستعملٌ في المسمّی دائماً وینبئ عنه أبداً، غایة

ص: 314

الأمر أنّه قد یقصد منه عنوان المسمّی أصالةً من دون أن یجعل قنطرةً وتوطئةً لإراءة معنونٍ خاص، وقد یجعل قنطرةً وتوطئةً لإراءة معنونٍ مخصوص، فیتوهّم اختلاف المستعمل فیه في الصورتین.

فإن قلت: إذا جاز أن یکون المضاف بالإضافة المعنویّة معرفةً، فلم لا یجوز أن یکون معرّفاً باللام؟

قلت: اللام والإضافة والتنوین اُمورٌ متقابلةٌ یکون کلٌّ منها بدلاً عن الآخر، فلا یجتمع اثنان منها، وإنّما یجوز في الإضافة اللفظیّة کون المضاف معرّفاً باللام إذا کان المضاف إلیه معرّفاً به أو مضافاً إلیه، من جهة کون الإضافة حینئذٍ غیر محضة.

بیانه: أنّ معمول الصفة منتسبٌ إلیها بمقتضی المعمولیّة، فإضافتها إلیه تؤکّد هذه النسبة ولا تحدث النسبة ابتداءً، فمن هذه الجهة یجوز ترتیب أثر المعمولیّة: من بقاء الصفة ,لی نکارتها مع کون المعمول معرفةً ودخول اللام علیها في بعض الصور، کما یجوز ترتیب أثر الإضافة: من جعل الصفة في حکم المعرفة إذا کان المضاف إلیه معرفةً؛ ولذا یجوز المعاملة معها معاملة النکرة حینئذٍ: من وصف النکرة بها نحو قوله تعالی: (هدیاً بالغ الکعبة)(1) ووقوعها حالاً نحو قوله تعالی: (ثاني عطفه)(2) ومن دخول «رُبّ» علیها، والمعاملة معها معاملة المعرفة: من وصف المعرفة بها نحو قوله تعالی: (من الله العزیز الحکیم غافر الذنب قابل التوب شدید العقاب)(3) فإنّ

ص: 315


1- سورة المائدة، الآیة 95.
2- سورة الحجّ، الآیة 9.
3- سورة غافر، الآیة 3.

الأوصاف المزبورة أوصافٌ للفظ الجلالة الذي هو معرفة.

ولکنّ الجمهور زعموا أنّ اسم الفاعل لا یعمل إلّا إذا کان بمعنی الحال أو الاستقبال أو وقع صلةً لأل، وأنّ الإضافة اللفظیّة تختصّ بهذه الصورة. وأمّا ما کان بمعنی الماضي أو اُرید به تلبّس الذات بالمبدأ غیر مختصٍّ بالحال أو الاستقبال فلا یعمل فلا معمول له، فلا یکون إضافته حینئذٍ لفظیّةً بل معنویّة، وما وصف به المعرفة من هذا القبیل.

والتحقیق: أنّ صیرورة المرفوع والمنصوب معمولین للوصف لا تتفرّع علی جعله عاملاً فیهما؛ لأنّ العامل - کما حقّقناه سابقاً - إنّما هو المعنی المعتور علی اللفظ المقتضي للإعراب، ویکفي في انتساب المعمول إلی الوصف کونه طالباً له، فإنّه طالبٌ للمرفوع مطلقاً وللمنوسب أیضاً إذا کان متعدّیاً، فهما مرفوعٌ ومنصوبٌ بالمعنی المقتضي للإعراب من الفاعلیّة والمفعولیّة، ومعمولان للوصف أي متعلّقان به من حیث الطلب والاقتضاء، فلا یقدح في کونهما معمولین للوصف عدم عمله فیهما، مع أنّ العامل في مصطلحهم هو ما یتقوّم به المعنی المقتضي للإعراب لا ما یوجد العمل، والوصف سواء کان بمعنی الماضي أو الحال أو الاستقبال یتقوّم به المعنی المقتضي للإعراب من الفاعلیّة والمفعولیّة بالضرورة، بل التحقیق - کما بیّنّا سابقاً - أنّ مرفوع الوصف هو المبتدأ، والوصف خبرٌ عنه مقدّماً کان أم مؤخّراً، فلا مجال حینئذٍ لاشتراط کون الوصف بمعنی الحال أو الاستقبال.

فالحقّ ما ذهب إلیه الکسائي: من أنّ معمولیّة الاسم للوصف لا یتوقّف علی کونه بمعنی الحال أو الاستقبال، وأنّ إضافته إلیه لفظیّةٌ مطلقاً، ویجوز جرّ الاسم حینئذٍ بالإضافة ونصبه علی المفعولیّة.

والجمهور أوجبوا إضافة الوصف إلی معموله إذا کان بمعنی الماضي، فإن کان

ص: 316

له معمولٌ آخر وجب انتصابه بفعلٍ مقدَّرٍ دلّ علیه الوصف.

أقول: إذا جاز تقدیر الفعل للمعمول المنصوب بدلالة الوصف علیه فالحکم بوجوب إضافته إلی أحد معمولیه في المتعدّي لاثنین وإلی معموله في المتعدّي لواحدٍ لا وجه له، بل الواجب حینئذٍ الحکم بوجوب انتصاب الزائد علی المعمول الواحد وبجواز جرّ المعمول الآخر بالإضافة وانتصابه بفعلٍ مقدّر، وکذلک الحال فیما کان له معمولٌ واحد.

ثمّ إنّهم حکموا بأنّ إضافة الصفة المشبّهة لفظیّةٌ مطلقاً مع أنّها للاستمرار، فلو کان مجيء اسم الفاعل للاستمرار موجباً لبعده عن الفعل وسقوطه عن العمل وصیرورة إضافته معنویّةً لزم ذلک في الصفة المشبّهة بطریقٍ أولی؛ لأنّ عمل الصفة المشبّهة عندهم إنّما هو لأجل شباهته باسم الفاعل الذي هو شبیهٌ بالفعل، فإن کان المجيء للاستمرار موجباً لسقوط الأصل عن العمل وبعده عن الفعل لکان إیجابه لسقوط الفرع عن العمل أولی، وعدم سقوطه عن العمل حینئذٍ یدلّ علی فساد ما نسجوه في الأصل.

إکمال: الترکیب الإضافي ناظرٌ إلی اختلاف أحد طرفیه مع الآخر، فإن کان أحد طرفي الترکیب متّحداً مع الآخر لا یجوز الإضافة، فلا یضاف موصوفٌ إلی صفته ولا صفةٌ إلی موصوفها. نعم، إذا کانت النسبة بینهما من النسب الأربع هي العموم والخصوص من وجه جازت إضافة الصفة إلی موصوفها باطّرادٍ، کصالح العمل، وإخلاق ثیاب، وجرد قطیفة، من دون تأویل؛ إذ الترکیب حینئذٍ ناظرٌ إلی اختلافهما بالعموم والخصوص، ویکون المضاف إلیه حینئذٍ بمنزلة الجنس، والوصف بمنزلة النوع من هذا الجنس ومن جنسٍ آخر، وتصیر الإضافة حینئذٍ بیانیّةً،

ص: 317

فالأمثلة المزبورة في قوّة قولک: صالحٌ من العمل، وإخلاقٌ من ثیاب، وجردٌ من قطیفة، فلا حاجة إلی تأویلٍ حینئذٍ في أحد طرفي الإضافة.

ولکنّ هذا التنزیل أي تنزیل الموصوف منزلة الجنس والوصف منزلة النوع إنّما یجري فیما إذا کان الموصوف کلّیاً قابلاً لانقسامه إلی قسمین، کعلماء القوم وفضلائهم وأخیارهم وأشرافهم وأعیانهم وهکذا، وأمّا إذا کان الموصوف شخصاً جزئیّاً - کقائم زید - فلا یجري منزلة الجنس ولا یصحّ إضافة الوصف إلیه.

هذا إذا کان الوصف مقدّماً، وأمّا إذا قدّم الموصوف علی الصفة فالترکیب حینئذٍ ناظرٌ إلی اتّحاد طفیها مع الآخر فلا تصحّ الإضافة حینئذٍ إلّا بتأویلٍ في أحد طرفیها، کبقلة الحمقاء، وصلاة الساعة الاُولی، ومسجد المکان الجامع، وجانب المکان الغربي، فالأوصاف المزبورة حینئذٍ لا تکون أوصافاً للمضاف، ولیس المقصود من التأویل تقدیر موصوفٍ للأوصاف المذکورة - کما توهّم - بل المراد أنّه یراد من الأوصاف المذکورة بقرینة الإضافة أوصافٌ غیر المضاف ممّا یناسبه المقام: من المکان أو الزمان أو غیرهما.

تتمیم: یشتمل علی مسائل

الاُولی: قد یکتسب المضاف المذکّر من المضاف إلیه المؤنّث التأنیث وبالعکس، بشرط جواز الاستغناء بالمضاف إلیه عن المضاف نحو: ضُرِبَت رأس هند، وإنارة العقل مکسوفٌ بطوع هوی، فاکتسب «رأس» المذکّر من المضاف إلیه المؤنّث وهي «هند» التأنیث؛ لصحّة قولک: ضُربت هند مکان ضُربت رأس هند، و «إنارة» المؤنّث من «العقل» المذکّر التذکیر؛ لصحّة قولک: العقل مکسوفٌ بطوع هوی، من دون إخلالٍ بالمعنی. ولا یجوز قامت غلام هند، وجاء امرأة زید؛ لعدم

ص: 318

صحّة الاستغناء بالمضاف إلیه عن المضاف في المثالین؛ لوقوع الإخلال بالمعنی بحذف المضاف فیهما.

الثانیة: قد توهّم أنّه قد یحذف المضاف ویقوم المضاف إلیه مقامه في الإعراب، ومثّل بنحو قوله تعالی: (واسأل القریة التي کنّا فیها)(1) أي أهل القریة.

والتحقیق: أنّه وأمثاله من باب المجاز في الإسناد أي إسناد الشيء إلی غیر من هو له لتنزّله منزلة من هو له، لا من باب المجاز في الحذف؛ لأنّ قیام المضاف إلیه مقام المضاف في الإعراب دلیلٌ علی تغییر الترکیب الأصلي وصیرورة المضاف إلیه مفعولاً للفعل وطرفاً للإسناد، وهو معنی التجوّز في الإسناد.

الثالثة: قد اشتهر أنّ المضاف إلیه محذوفٌ في مثل قولهم: خذ ربع ونصف ما حصل، والأصل خذ ربع ما حصل ونصف ما حصل، فحذف المضاف إلیه من الأوّل لدلالة المضاف إلیه من الثاني علیه.

والتحقیق: أنّ المضاف إلیه المذکور مضافٌ إلیه للکلمتین، فالمضاف فیه متعدّدٌ والمضاف إلیه واحدٌ، ولا مانع من تعدّد المضاف مع وحدة المضاف إلیه، ولا دلیل علی امتناعه حتّی یأوّل ما ظاهره ذلک، ویلتزم بحذف المضاف إلیه.

وقد نسب إلی سیبویه أنّه ذهب إلی أنّ المثال المذکور من باب الفصل بین المضاف والمضاف إلیه، والأصل خذ ربع ما حصل ونصفه، ثمّ اُقحم ونصفه بین المضاف والمضاف إلیه فصار ربع ونصفه ما حصل، ثمّ حذف الهاء إصلاحاً للّفظ فصار ربع ونصف ما حصلريال ومثل هذا لا یجوز عنده إلّا في الشعر، وهو باطلٌ جدّاً

ص: 319


1- سورة یوسف، الآیة 82.

لوقوع مثله في کلام سیّد البلغاء ففي دعاء الافتتاح: «أفضل وأحسن وأجمل وأکمل وأزکی وأنمی وأطیب وأطهر وأسنی وأکثر ما صلّیت».

الرابعة: إذا اُضیف الاسم الصحیح أو الملحق به إلی یاء المتکلّم وجب کسر آخره وجاز في الیاء الفتح والسکون نحو: غلامي وظبیي ودلوي، وإن کان آخره ألفاً تثبت، کعصاي وفتاي وغلاماي، وهذیل تقلبها یاءً إذا کانت لغیر التثنیة، وإن کان آخره یاءً اُدغمت في یاء المتکلّم کزیدَيَّ وزیدِيَّ في حال النصب والجرّ، وإن کان آخره واواً قلبت یاءً واُدغمت في یاء المتکلّم وکسر ما قبل الیاء کمسلمِيَّ في حالة الرفع وفتحت الیاء للساکنین في جمیع الصور.

ص: 320

أساس في الأسماء المتّصلة بالفعل

اشارة

أساس: في الأسماء المتّصلة بالفعل(1)

إعلم أنّ الأصل في العمل - أي في طلب المعمول - الفعل، ویلحق به أسماءٌ متّصلةٌ به.

والسرّ في أصالته: أنّ الفعل بهیئته الاشتقاقیّة تدلّ علی إسناد الحدث إلی ذاتٍ ما أو ذاتٍ بعینها - قیاماً أو وقوعاً - فهي ناظرةٌ أبداً إلی إسناد الحدث، فلا بدّ له من مسندٍ إلیه ولا ینفکّ عنه، وأمّا الأسماء المتّصلة به المشتقّة منه فهي بهیئتها الاشتقاقیّة إنّما تدلّ علی النسبة الناقصة التقییدیّة؛ ولذا یمکن قصر النظر فیها علی الطرف الذي هو الأصل، فلا یطلب طرفاً آخر.

المصدر

[المصدر](2)

إذا عرفت ذلک، فاعلم أنّ من الأسماء المتّصلة بالفعل المصدر المعروف المشتمل علی مادّةٍ دالّةٍ علی الحدث وهیئةٍ دالّةٍ علی نسبته إلی الفاعل أو المفعول علی

ص: 321


1- الزیادة منّا.
2- العنوان منّا.

وجه التقیید.

توضیح ذلک: أنّ النسبة لا تنقسم في نفس الأمر إلی تامّةٍ وناقصةٍ، وإنّما تنقسم إلیهما باختلاف لحظا المتکلّم وقصده، فإن کان المخاطب جاهلاً في نظره بالنسبة یقصد إفادتها أصالةً ویخبر عنها، فیقول: ضرب زیدٌ - مثلاً - فتکون النسبة حینئذٍ تامّة، وإن کان المخاطب في نظره عالماً بها یقصدها توطئةً وتبعاً لنسبةٍ اُخری ویأتي بها علی وجه التقیید، فیقول: ضربُ زیدٍ تأدیبٌ أو ظلمٌ أو قصاصٌ مثلاً؛ ومن هنا قالوا: الأوصاف قبل العلم بها أخبارٌ والأخبرا بعد العلم بها أوصاف، فنقص النسبة بعد تمامها؛ لأنّ القصد الأصلي إلی الشيء متقدّمٌ علی القصد التبعي؛ إذ مرجع القصد الأصلي إلی قصد الشيء في حدّ نفسه وعدم جعله توطئةً لأمؤٍ آخر، ومرجع القصد التبعي التوطئي إلی قصد الشيء وجعله توطئةً وتبعاً لأمرٍ آخر، فمنشأ انتزاع النقص یشتمل علی قصدٍ زائد؛ ولذا یصحّ تفریع الناقصة علی التامّة، بأن یقال: ضرب زیدٌ فضربه شدید.

وبهذا البیان تبیّن أنّ المصدر المعروف مشتقٌّ من الفعل بالاشتقاق المعنوي ومتفرّعٌ علیه، فالصواب ما ذهب إلیه الکوفیّون: من اشتقاق المصدر من الفعل.

ویمکن أن یقال: النزاع بین الکوفیّین والبصریّین لفظيٌّ، بأن یقال: مراد البصریّین من الاشتقاق الاشتقاق اللفظي ومن المصدر المادّة الساذجة الدالّة علی الحدث الساریة في جمیع المشتقّات لا المصدر المعروف، فیتوافق القولان ولا یتخالفان.

وکیف کان، فالمصدر المعروف یعمل عمل فعله - لازماً أو متعدّیاً - أي یطلب من المعمول ما یطلبه فعله، وقد زعموا أنّ عمله مشروطٌ بأن یصحّ حلول الفعل مع «أن» أو «ما» محلّه، فإن أرادوا من ذلک أنّه یعتبر النسبة إلی المعمول وأن

ص: 322

لا یکون النظر مقصوراً علی مجرّد الحدث فهو، وإلّا فلا وجه له.

ثمّ إنّهم اعتبروا في عمله اُموراً اُخر: وهي أن لا یکون مصغّراً ولا مضمراً ولا محدوداً ولا موصوفاً قبل العمل ولا محذوفاً. ولا دلیل علی اعتبار هذه الاُمور؛ إذ لا تکون مانعةً من طلب المعمول. نعم، یعتبر أن لا یکون مؤخّراً عن معموله؛ لمخالفته لاستعمالات أهل اللسان، فلا یقال: أعجبني زیداً ضربک.

وإذا اجتمع شرائط العمل فالأغلب استعماله مضافاً إلی فاعله أو مفعوله، ویقلّ استعماله منوّناً، وأقلّ منه استعماله معرَّفاً باللام.

وأمّا اسم المصدر وهو الاسم الدالّ علی مجرّد الحدث، کالغسل والوضوء والعجب والکبر وهکذا، فلا یعمل أي لا یطلب معمولاً؛ لأنّ اقتضاء المعمول إنّما هو من ناحیة النسبة، فمع فرض تجرّده عن النسبة لا مجال للعمل.

وما کان علی وزن «مَفعَل» کمضرب ومقتل فإنّما یعمل لکونه مصدراً میمیّاً، وإطلاق اسم المصدر علیه تجوّزٌ، کما صرّح به بعضهم.

ص: 323

اسم الفاعل

[اسم الفاعل](1)

ومن الأسماء المتّصلة بالأفعال اسم الفاعل، وهو ما اشتقّ من الفعل المضارع المعلوم بالاشتقاق المعنوي لمنشأ الحدث علی وجه الحدوث، فخرج بقولنا: «لمنشأ الحدث»، اسم المفعول؛ فإنّه لما وقع علیه الحدث، وبقولنا: «علی وجه الحدوث»، الصفة المشبّهة؛ لأنّها للثبوت دون الحدوث. وإنّما عدلنا عمّا تعارف بینهم: من أنّه لمن قام به الحدث؛ لعدم اطّراده؛ فإنّ الحدث قد یکون وصفاً قائماً بموصوفه کالعلم والجهل وأمثالهما، وقد یکون فعلاً صادراً عن الفاعل ولا یکون قائماً به کالضرب والقتل وهکذا، ومنشأ الحدث مطّردٌ لأنّ منشأ الوصف في الأوصاف هو الموصوف الذي قام به الوصف، کما أنّ منشأ الفعل في الأفعال هو الفاعل الذي صدر منه الفعل.

وصیغته من الثلاثي المجرّد علی زنة «فاعل»، ومن غیره علی صیغة المضارع بمیمٍ مضمومة موضع حرف المضارعة مع کسر ما قبل الآخر، نحو مُکرِمٌ ومُستغفِرٌ.

وقد اتّفقوا علی أنّه یعمل عمل فعله المعلوم فیرفع الفاعل وینصب المفعول، والأکثر علی أنّه یعمل مطلقاً إن وقع صلةً لأل، وإلّا فإعماله مشروطٌ بأمرین: الأوّل: کونه بمعنی الحال أو الاستقبال، والثاني: الاعتماد علی صاحبه، من المبتدأ أو الموصوف أو الموصول أو ذي الحال أو علی علی النفي أو الاستفهام، فإن کان للماضي وجبت إضافته إلی مفعوله، وإن کان له معمولٌ آخر وجب نصبه بفعلٍ مقدّر.

أقول: وفي الجمیع نظر:

ص: 324


1- العنوان منّا.

أمّا الأوّل، فلأنّ اسم الفاعل لا یطلب فاعلاً بهیئه الاشتقاقیّة، وإنّما اقتضی المرفوع من قِبَل هیئته الترکیبیّة المفیده للإسناد الاتّحادي، ولا اختلاف في الإسناد بین قولک: زیدٌ قائم، وأقائمٌ زید؟ فکما أنّ «زید» في المثال الأوّل مبتدأٌ والوصف خیرٌ عنه فکذلک في المثال الثاني، ومع اتّحاد الإسناد في الصورتین لا مجال لجعل المرفوع في إحداهما مبتدأً وفي الاُخری فاعلاً؛ ضرورة أنّ الترکیب إنّما یختلف باختلاف النسبة لا باختلاف التقدیم والتأخیر.

فإن قلت: لو اتّحد الترکیب في الصورتین لزم أن یطابق الوصف مرفوعه في الإفراد والتثنیة والجمع في صورة التقدیم، کما وجبت في صورة تأخیره عنه.

قلت: إنّما جاز الإفراد في صورة تقدیمه علی المرفوع للأمن من اللبس، فلا حاجة إلی الإتیان بأداة التثنیة والجمع؛ ولذا یکون الإتیان بالمفرد راجحاً بخلاف صورة تأخیر الوصف عنه، فإنّ الإتیان به مفرداً مع کون المرفوع المقدّم مثنّیً أو مجموعاً یوجب اللبس؛ إذ المخاطب یتوهّم حینئذٍ أنّ إسناد الوصف إلی مفردٍ متعلّقٍ بالمرفوع المقدّم، فوجبت المطابقة رفعاً للّبس.

فإن قلت: لو کان الوصف المقدّم خبراً لزم أن یکون فیه ضمیرٌ یعود علی المرفوع المؤخّر؛ لأنّ الخبر المشتقّ إذا لم یعمل في الظاهر فلا بدّ من أن یستتر فیه ضمیرٌ یعود علی المبتدأ، فیلزم حینئذٍ استتار ضمیر غیر المفرد في المفرد مع کون المرفوع مثنّیً أو مجموعاً، وهو ممتنع.

قلت: قد مرّ أنّ الخبر لا یستتر فیه الضمیر مشتقّاً کان أو جامداً.

فإن قلت: لو کان الأمر کذلک لزم أن یکون النعت في قولک: «مررت برجل ضارب أبوه» جملةً کما أنّ النعت في قولک: «مررت برجل أبوه ضارب» جملةٌ، فیلزم حینئذٍ عدم وجوب مطابقة الوصف مع المنعوت إعراباً وتنکیراً وتعریفاً؛ إذ لا یکون الوصف حینئذٍ نعتاً حتّی یتبع المنعوت مع أنّه یجب مطابقة الوصف مع

ص: 325

المنعوت إعراباً وتنکیراً وتعریفاً، وهذا من أقوی الشواهد علی اختلافهما في الترکیب، وأنّ النعت في الصورة الاُولی مفردٌ دون الثانیة.

قلت: إن اُرید أنّ النعت في المثال المزبور هو الوصف قبل إسناده إلی مرفوعه لزم أن یکون المنعوت ضارباً أیضاً، بل یلزم أن یکون المسند إلی المرفوع هو ضرب زید، وهو باطلٌ جدّاً.

وإن اُرید أنّ هو الوصف المسند إلی مرفوعه فهو راجعٌ إلی کون النعت حینئذٍ هو الجملة؛ إذ لا فرق في المعنی بین تقدیم المرفوع علی الوصف وتأخیره عنه، وإنّما یختلفان في ظهور أثر النعت علی الوصف في إحدی الصورتین دون الاُخری، ولا مانع منه مع موافقته لاستعمالات أهل اللسان.

فتحصّل ممّا بیّنّاه أنّ المشتقّ بهیئته الاشتقاقیّة لا یطلب فاعلاً؛ إذ لو طلبه بهیئته الاشتقاقیّة لزم أن تکون النسبة بینهما نسبةً تقییدیّةً، ضرورة أنّ النسبة المستفادة منها إنّما هي تقییدیّة، والحال أنّ الذي زعموه فاعلاً في «أقائمٌ زید؟» ونحوه إنّما هو طرفٌ للإسناد الاتّحادي المستفاد من الهیئة الترکیبیّة الجاریة في المشتقّات والجوامد، فالمرفوع حینئذٍ مرفوعٌ من طرف الإسناد الجاري في المشتقّات والجوامد، ولا اختصاص له بالمشتقّ حتّی یتوهّم أنّه فاعلٌ له.

وأمّا الثاني: فلما مرّ لک في باب الموصول: من أنّ «أل» لا تکون موصولةً أبداً، وإنّما هي حرف تعریفٍ في جمیع الموارد.

وأمّا الثالث، وهو اشتراط عمله بشرطین فلا دلیل علیه، بل الدلیل قائمٌ علی خلافه؛ لأنّ اقتضاء المعمول لا یختصّ بصورة اجتماع الأمرین؛ بل یعمّ صورة فقدهما، فالمقتضي لانتصاب المعمول حینئذٍ موجودٌ، ویکفي للعمل وجود المعنی المقتضي للإعراب علی ما اخترناه - من أنّه العامل - بل العامل موجودٌ أیضاً علی ما اشتهر بینهم - من أنّ العامل هو ما یتقوّم به المعنی المقتضي للإعراب - إذ عنوان

ص: 326

المفعولیّة التي هي المعنی المقتضي للإعراب تتقوّم بالوصف مطلقاً.

فالحقّ ما ذهب إلیه الکسائي: من أنّه یعمل مطلقاً ولو کان للماضي، وما ذهب إلیه الأخفش: من أنّه یعمل معتمداً کان أم لا.

وأمّا الرابع: وهو وجوب إضافته إلی معموله إذا کان بمعنی الماضي لا یتمّ حتّی علی ما اختاروه؛ لأنّه إذا وجب تقدیر الفعل لمعموله الآخر فلا مانع من تجویزه لمعموله الأوّل، فالصواب حینئذٍ الحکم بجواز جرّه بإضافة الوصف إلیه ونصبه بتقدیر الفعل.

ثمّ اعلم أنّ ما وضع منه للمبالغة کضرّاب وضروب ومضراب وعلین وحَذِر حکمه حکم اسم الفاعل، والمثنّی والمجموع منهما مثله، ویجوز حذف النون مع العمل ومع التعریف تخفیفاً، وقد قرأ (والمقیمي الصلاة)(1) بنصب الصلاة علی المفعولیّة.

اسم المفعول

[اسم المفعول](2)

ومن الأسماء المتّصلة بالأفعال اسم المفعول، وهو ما اشتقّ من المضارع المجهول بالاشتقاق المعنوي لمن وقع علیه الحدث. وصیغته من الثلاثي المجرّد علی زنة «مفعول»، ومن غیره علی زنة المضارع المجهول بمیمٍ مضمومة موضع حرف المضارعة.

وهو کاسم الفاعل لا یطلب مرفوعاً بهیئته الاشتقاقیّة، فلا یرفع اسماً علی أنّه نائب عن الفاعل وإنّما یطلب المفعول فینصبه، ولا یشترط بالاعتماد علی صاحبه أو الاستفهام أو النفي، ولا بکونه بمعنی الحال أو الاستقبال.

ص: 327


1- سورة الحجّ، الآیة 35.
2- العنوان منّا.

الصفة المشبّهة

[الصفة المشبّهة](1)

ومن الأسماء المتّصلة بالأفعال الصفة المشبّهة، وهي ما اشتقّ من فعلٍ علی معنی الثبوت، فخرج بقولنا: «علی معنی الثبوت» اسم الفاعل واسم المفعول المشتقّان من الفعل علی معنی الحدوث، فقد یشتقّ من مادّةٍ واحدةٍ اسم الفاعل الناظر إلی الحدوث، والصفة المشبّهة الناظرة إلی الثبوت، کراحم ورحیم وصاغر وصغیر.

وقد حکموا بأنّ صوغها لا یکون إلّا من فعلٍ لازم، وقالوا: إنّ الفعل المتعدّي ک-«رَحِمَ» ینقل إلی «فَعُل» بضمّ العین فیصیر لازماً ثمّ یشتقّ منه رحیم.

والتحقیق: أنّ اشتقاقها منه علی معنی الثبوت یوجب صیرورة الصفة لازمةً؛ ولذا لم نقیّد الفعل باللازم.

وصیعتها مخالفةٌ لصیغة اسم الفاعل، کحَسَن وصعب وشدید وجبان وشجاع.

قالوا: وتعمل عمل فعلها مطلقاً، ولا یعتبر کونها بمعنی الحال أو الاستقبال؛ لأنّها للثبوت فلا مجال لاعتبار أحد الأزمنة فیها، ومعمولا لا یکون إلّا سببیّاً، أي مشتملاً علی ضمیر موصوفها لفظاً أو معنی.

وله ثلاث حالات: الرفع علی الفاعلیّة، والنصب علی التمییز إن کان نکرة، وعلی التسبیه بالمفعول به إن کان معرفة، والجرّ بالإضافة، والصفة إمّا مصحوبةٌ باللام أو مجرّدةٌ عنها، فهذه أقسام ستّة حاصلة من ضرب الاثنین في الثلاثة،

ص: 328


1- العنوان منّا.

والمعلول في کلٍّ من الحالات إمّا مضافٌ أو مصحوبٌ باللام أو مجرّدٌ عنهاف فصارت الأقسام ثمانیة عشر:

اثنان منها ممتنعان: أحدهما: أن تکون الصفة باللام مضافةً إلی معمولها المضاف إلی ضمیر الموصوف بواسطةٍ أو غیر واسطة مثل: الحسن وجهه، والحسن وجه غلامه، وعلّلوه بعدم إفادة الإضافة فیه خفّة. وثانیهما: أن تکون الصفة باللام مضافةً ذلی معمولها المجرّد عن اللام مثل: الحسن وجه أو وجه غلام.

واختلف في مثل: حسن وجهه، فنسب إلی سیبویه والبصریّین تجویزه علی قبحٍ في ضرورة الشعر، وإلی الکوفیّین تجویزه بلا قبح في السعة.

والبواقي ما کان فیه ضمیرٌ واحد منها إمّا في الصفة أو في معموله حسنٌ، وما کان فیه ضمیران أحسن، وما لا ضمیر فیه قبیح.

أقول: قد ظهر لک ممّا بیّنّاه سابقاً وآنفاً أنّ رفع المسند إلیه في الوصف لیس علی الفاعلیّة؛ إذ لا یطلبه بهیئته الاشتقاقیّة حتّی یقال: إنّه مرفوعٌ به علی الفاعلیّة وأنّ استتار الضمیر فیه لا مجلا له وأنّه من حواصّ الفعل، فبطل ما ذکروه: من تقسمی الصور إلی حسن وأحسن، کما أنّ ما ذکروه في امتناع قسمین منها علیلٌ.

وأسماء الفاعل والمفعول غیر المتعدّیین مثل الصفة المشبّهة في الصور الثمانیة عشر، وکذلک مثلها المنسوب نحو «تمیميّ الأب» وغیر المنسوب أیضاً من الأسماء الجامدة التي اُجریت مجری الصفات نحو «شمس الوجه» أي حسن الوجه.

ص: 329

اسم التفضیل

[اسم التفضیل](1)

ومن الأسماء المتّصلة بالأفعال اسم التفضیل، وهو ما اشتقّ من المضارع المعلوم بزیادةٍ علی غیره، وصیتعه «أفعل» للمذکّر، و«فُعلی» للمؤنّث، ولا یصاغ قیاساً إلّا من فعلٍ ثلاثيٍّ معلومٍ متصرّف قابلٍ للتفاضل تامٍّ مثبتٍ، وأن لا یکون اسم فاعله علی وزن «أفعل» کأحمر وأعور.

ویتوصّل إلی التفضیل فیما لا یجتمع فیهالشروط المذکورة مع قبوله التفاضل ب-«أشدّ» ونحوه وجعل المصدر منه تمییزاً، فیقال: أشدّ حمرةً واستخراجاً وعمیً.

ولاسم التفضیل ثلاث حالات:

إحداها: أن یکون مجرّداً من «أل» والإضافة، فیجب له حکمان: أحدهما: في نفسه، وهو أن یکون مفرداً مذکّراً دائماً، وثانیهما: أن یؤتی ب-«من» الجارّة للمفضول، ویجوز حذفه مع مجرورها للعلم به، کقوله تعالی: (ولَلآخرة خیرٌ وأبقی).(2)

والثانیة: أن یکون مقروناً ب-«أل» فیجب له حکمان أیضاً: أحدهما: أن یکون مطابقاً لموصوفه إفراداً وتثنیةً وجمعاً وتذیکراً وتأنیثاً، وثانیهما: أن لا یؤتی معه ب-«من»، وشدّ قول الأعشی: ولست بالأکثر منهم حصی.

والثالثة: أن یکون مضافاً، فإن کانت إضافته إلی نکرةٍ لزمه أمران: التذکیر

ص: 330


1- العنوان منّا.
2- سورة الأعلی، الآیة 17.

والتوحید، ویلزم المضاف إلیه أن یطالب الموصوف، نحو زیدٌ أفضل رجل، والزیدان أفضل رجلین، والزیدون أفضل رجال، وهند أفضل امرأة، وهکذا. وأمّا قوله تعالی: (ولا تکونوا أوّل کافرٍ به)(1) فعلی تقدیر موصوفٍ أي أوّل فریقٍ کافر به.

وإن کانت إضافته إلی معرفةٍ فهو علی أقسام ثلاثة: قسمٌ یقصد زیادته علی ما اُضیف إلیه، وقسمٌ یقصد به زیادةٌ مطلقة، وقسمٌ یأوّل بما لا تفضیل فیه، فإن استعمل علی أحد الوجهین الأخیرین وجبت المطابقة للموصوف به، کقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، أي عادلاهم. وإن استعمل علی الوجه الأوّل جازت المطابقة، کقوله تعالی: (وَکذلک جعلنا في کلّ قریةٍ أکابر مجرمیها)(2) وترکها، کقوله تعالی: (ولتجدنّهم أحرص الناس علی حیاة)(3) قیل: وهذا الوجه هو الغالب.

ثمّ إنّهم اتّفقوا علی أنّ اسم التفضیل یرفع الضمیر المستتر في کلّ لغةٍ - نحو: زیدٌ أفضل من عمرو - والضمیر المنفصل والاسم الظاهر في لغةٍ قلیلةٍ حکاها سیبویه، إلّا إذا حلّ محلّه الفعل فیطّرد ذلک أیضاً، وذلک إذاکان «أفعل» صفةً لشيءٍ وسبقه نفيٌ وکان مرفوعه أجنبیّاً مفضّلاً ذلک الأجنبيّ علی نفسه باعتبارین مختلفین، کقولک: ما رأیت رجلاً أحسن في عینه الکحل منه في عین زید، فإنّه یجوز أن یقال: ما رأیت رجلاً یحسن في عینه الکحل کحسنه في عین زید.

ص: 331


1- سورة البقرة، الآیة 41.
2- سورة الأنعام، الآیة 123.
3- سورة البقرة، الآیة 96.

أقول: قد استبان لک ممّا بیّنّاه مراراً أنّ الصفات لا تطلب فاعلاً لا ظاهراً ولا مستتراً، وأنّ استتار الضمیر إنّما هو من خواصّ الفعل، وأنّ الذي توهّموا أنّه مرفوعٌ بها علی الفاعلیّة لها مبتدأٌ، والوصف خبرٌ عنه، فکما أنّ الاسم المرفوع المقدّم علیه نحو: زید قائم، وعمرو أفضل من بکر - مثلاً - مبتدأٌ والوصف خبر عنهف فکذلک المرفوع المتأخّر عنه؛ إذ لا یختلف الترکیب باختلاف تقدیم الاسم وتأخیره عنه. نعم، یقلّ تقدیم الخبر في اسم التفضیل علی المخبر عنه إلّا في نحو: ما رأیت رجلاً أحسن في عینه الکحل منه في عین زید.

ص: 332

أساس في التوابع

اشارة

أساس: في التوابع(1)

اعلم أنّ الاسم قد یعتوره معنیً مقتضٍ للإعراب ابتداءً کقولک: زید قائمٌ، وعمروٌ في الدار، ونحوهما، وقد یعتوره تبعاً لاسمٍ آخر.

والتبعیّة علی أنحاء أربعة: إذ قد یکون التابع قیداً للاسم المتقدّم ویکون بینهما نسبةٌ تقییدیّةٌ اتّحادیّة، سواء کان القید مشتقّاً کقولک: جاء زید القائم، أم جامداً کقولک: جاء زید أبو عبد الله، فیتبعه في الإعراب من جهة أنّه قیده المتّحد فمعه في الصدق، وقد یشارکه في اعتوار المعنی المقتضي للأعراب بتوسّط حرفٍ من الحروف العاطفة، کقولک: جاء زیدٌ وعمرو، فیتبعه في الإعراب لأجل مشارکته معه في المعنی المقتضي له، وقد یکون بدلاً عنه فیتبعه في الإعراب لقیامه مقامه، وقد یکون تأکیداً له لفظیّاً أو معنویّاً.

والقسم الأوّل ینقسم إلی قسمین: فإن دلّ علی معنی في متبوعه، کقولک: جاءني زیدٌ الفاضل فهو نعت، وإلّا فعطف بیان، کقولک: أکرمت زیداً أبا عبد الله، فالتوابع خمسة:

ص: 333


1- الزیادة منّا.

النعت

[النعت](1)

فالأوّل النعت، وفائدته تخصیص أو توضیح، وقد یجيء لمجرّد المدح أو الذمّ أو الترحّم أو التأکید.

والأصل فیه أن یکون مفرداً، وقد یجيء جملةً إذا کان المنعوت نکرةً نحو: مررت برجلٍ أبوه فاضلٌ، ویلزم فیها الضمیر.

والنعت المفرد ینقسم إلی قسمین: ما یوصف بحال موصوفه نحو: مررت برجلٍ فاضلٍ، وما یوصف بحال متعلّقه نحو: رأیت رجلاً کریماً أبوه، والأوّل یتبعه في أربعةٍ من عشرة: الإعراب الثلاثة والتنکیر والتعریف والتذکیر والتأنیث والإفراد وقسیمیه، والثاني یتبعه في الخمسة الاُول، وفي البواقي کالفعل بالنسبة إلی فاعله.

فإن قلت: قد بیّنت سابقاً أنّ القسم الثاني من النعت من قبیل الجملة، وهو کذلک: إذ لا فرق في المعنی بین قولک: مررت برجلٍ فاضلٍ أبوه، وأبوه فاضل، فلا مجال للتفکیک بینهما بجعل أحدهما مفرداً والآخر جملة، وأیضاً لو کان النعت في الصورة الاُولی مفرداً لزم أن یکون الوصف بحال الموصوف وبحال متعلّقه معاً؛ إذ مقتضی نسبته إلی المنعوت أن یکون الوصف بحال الموصوف، کما أنّ مقتضی إسناده إلی متعلّقه أن یکون الوصف بحال متعلّقه، وهو باطلٌ بالضرورة.

ص: 334


1- العنوان منّا.

قلت: إنّما یلزم ذلک لو کان کلٌّ من النسبة التقییدیّة والإسناد في عرض الآخر، وأمّا إذا کانت النسبة التقییدیّة في طول الإسناد بأن یکون المسند إلی متعلّق المنعوت - بوصف أنّه مسندٌ - نعتاً فلا یلزم ذلک، ویکون النعت حینئذٍ مع إفراده في حکم الجملة من حیث المعنی، ولا منافاة بینهما؛ ولذا یجب أن یتبع المنعوت إعراباً وتعریفاً وتنکیراً.

فإن قلت: إذا جاز أن یکون المسند بوصف أنّه مسندٌ نعتاً، ویکون النعت حینئذٍ مفرداً، لِمَ لم یجز ذلک في المسند إلیه مع تقدّمه علی المسند؟

قلت: المسند إلیه لا یدلّ علی معنیً حتّی یصیر نعتاً بذاته أو بوصف أنّه مسندٌ إلیه، بخلاف المسند فإنّه دالٌّ علی معنیً في متعلّق المنعوت تحقیقاً ویکون حالاً اعتباریّاً للمنعوت، فإنّه یصحّ أن یقال: زیدٌ فاضل الأب أو الابن أو الغلام، ونحو ذلک.

فتبیّن لک بما بیّنّاه أنّ النعت بحسب الترکیب اللفظي یکون مفرداً وإن کان جملةً بحسب المعنی، فما ذکرته سابقاً: من أنّ النعت حینئذٍ یکون جملةً بحسب القواعد اللفظیّة، في غیر محلّه.

* * *

تنبیهات:

الأوّل: قالوا: إنّ المضمر لا یوصف ولا یوصف به، ویجب أن یکون الموصوف أخصّ أو مساویاً؛ ومن ثمّة لم یوصف ذو اللام إلّا بمثله أو بالمضاف إلی مثله.

ص: 335

وعلّل الأوّل: بأنّ ضمیر المتکلّم والمخاطب أعرف المعارف وأوضحها فلا حاجة لهما إلی التوضیح، وحمل علیهما ضمیر الغائب، وعلی الوصف الموضح المادح والذامّ وغیرهما طرداً للباب.

والثاني: بأنّه لیس في المضمر معنی الوصفیّة وهو: الدلالة علی قیام معنیً بالذات.

والثالث؛ بأنّ المقصود الأصلي هو الموصوف فیجب أن یکون أکمل من الصفة في التعریف أو مساویاً لها؛ لأنّه لو لم یکن أکمل منها فلا أقلّ من أن یکون أدون منها، والمنقول عن سیبویه وعلیه جمهور النحاة أنّ أعرفها المضمرات، ثمّ الأعلام، ثمّ اسم الإشارة، ثمّ المعرَّف باللام والموصولات فبینهما مساواة، قالوا: فلو وقع أخصّ نعتاً لغیر أخصّ فهو محمول علی البدل عند صاحب هذا المذهب.

أقول: وفي الأوّل والثالث نظر:

أمّا الأوّل، فلأنّه لا مانع من وصف المضمر الغائب، کما اختاره الکسائي، واستشهد بقوله تعالی: (لا إله إلّا هو العزیز الحکیم)(1) بل ضمیر المخاطب أیضاً؛ إذ لا مانع من أن یقال: لا یفتح هذا الحصن إلّا أنت الشدید القويّ، بل ضمیر المتکلّم أیضاً لجواز مثله فیه، وحمل هذه الموارد علی البدل لا وجه له؛ إذ لم یدلّ دلیلٌ علی امتناع وصف المضمر حتّی یجب حمل هذه الموارد علی البدل، والتعلیل الذي ذکروه علیلٌ جدّاً.

وأمّا الثالث، فما ذکروه في امتناعه أوهن من نسج العنکبوت، فلا وجه لحمل

ص: 336


1- سورة آل عمران، الآیة 18.

ما ورد من وقوع أخصّ نعتاً لغیر أخصّ علی البدل.

الثاني: یجوز أن تتعدّد النعوت لمنعوتٍ واحد، کما یجوز الإخبار بالمتعدّد عن واحد، وحینئذٍ یجوز أن تأتي بها بدون حرف العطف نحو: مررت برجلٍ شاعرٍ کاتبٍ ففیه، وأن تعطف بعضها علی بعض نحو: رأیت رجلاً عالماً وشاعراً وأدیباً.

الثالث: إذا لم تتکرّر النعوت لواحدٍ وکان المنعوت معلوماً بدون النعت حقیقةً أو ادّعاءً جاز إتباعه وقطعه ما لم یکن لمجرّد التوکید نحو: نفخة واحدة، أو ملتزم الذکر نحو: الجمّاء الغفیر، أو جاریاً علی مشارٍ إلیه نحو: بهذا المنظوم، فلا یجوز القطع في شيءٍ منها.

وإذا تکرّرت النعوت لواحدٍ فإن تعیّن مسمّاه بدونها جاز إتباعها کلّها وقطعها کلّها والجمع بینهما بشرط تقدیم المتبع علی المقطوع، وإن لم یعرف المنعوت إلّا بمجموعها وجب إتباعها کلّها، وإن تعیّن ببعضها جاز فیما عداه الإتباع والقطع والجمع بینهما بشرط تقدیم المتبَع علی المقطوع، وإذا کان المنعوت نکرةً تعیّن فط الأوّل الاتباع، وجاز في الباقي الإتباع والقطع، سواء تعیّن المنعوت بدونها أم لا؛ لأنّ المقصود من النعت حینئذٍ التخصیص، وقد حصل بالأوّل.

تتمیم: إذا جاز القطع فإن کان المنعوت مجروراً جاز قطع النعت إلی الرفع بتقدیر مبتدأ، أو إلی النصب بتقدیر فعلٍ منسابٍ للمقام: من مدحٍ أو ذمٍّ أو ترحّم، وإن کان مرفوعاً جاز قطعه إلی النصب، وإن کان منصوباً جاز قطعه إلی الرفع.

ص: 337

وقال ابن هشام: إن کان النعت المقطوع لمجرّد مدحٍ أو ذمٍّ أو ترحّمٍ وجب حذف المبتدأ إن رفعت النعت، والفعل إن نصبته، وإن کان النعت المقطوع لغیر ذلک جاز ذکره وإظهاره.

(هذا تمام ما عثر علیه من قلم المؤلّف قدّس الله نفسه الزکیّة)

ص: 338

العناوین العامّة

ترجمة المؤلف ......................................................................5

المقدّمات التي یستحقّ تقدیمها ................................................17

أساس في حکم أرکان الکلام ...............................................177

أساس في المعانی المعتورة التابعة للإسناد ...............................259

أساس في الإضافة ...............................................................309

أساس في الأسماء المتّصلة بالفعل .........................................321

أساس في التوابع.................................................................333

ص: 339

ص: 340

فهرس المحتوی

ترجمة المؤلف

المقدّمات التي یستحقّ تقدیمها

أحوال الکَلِم

تعریف النحو وموضوعه وفائدته

تعریف الکلمة

تعریف الکلام

تعریف الجملة

أقسام الکلمة

خواصّ الاسم

أقسام الاسم

المشتقّ والجامد

المعرب والمبني

أنواع الإعراب: الرفع والنصب والجرّ والجزم

ص: 341

فصل: في الإعراب اللفظي والمحلّي والتقدیري

تقسیم: في علم الشخص والجنس

تقسیم: في المعرفة والنکرة

الضمیر

فصل: في تقسیم العلم إلی مفرد ومرکّب

تقسیم: في الاسم واللقب والکنیة

اسم الإشارة

الموصول

المعرّف باللام

أساس في حکم أرکان الکلام

الباب الأوّل: في الفاعل

الباب الثاني: في المبتدأ والخبر

الباب الثالث: في المضاف

فصل: في نواصخ المسندین وما في حکمهما:

أوّلها: أحرف النفي

ثانیها: أحرف النصب

الثالث: لا النافیة للجنس

الرابع: أفعال الشکّ والیقین

فصل: في باب الاشتغال

فصل: في باب التنازع

ص: 342

أساس: في المعاني المعتورة التابعة للإسناد، وفیه أبواب:

الباب الأوّل: في المتعلّق بالمسند، وهو المفعول به

الباب الثاني: في المتعلّق بالمسند إلیه، وفیه فصلان:

الفصل الأوّل: في المستثنی

الفصل الثاني: في الحال

الباب الثالث: في ما یتعلّق بالمسند تارةً، وبالمسند إلیه مرّةً، وبالإسناد اُخری، وفیه فصول:

الفصل الأوّل: فیما یتعلّق بالمسند، وهو نوعان:

النوع الأوّل: المفعول له

النوع الثاني: المفعول المطلق

الفصل الثاني: فیما یتعلّق بالمسند إلیه

الفصل الثالث: في ما یتعلّق بالإسناد

خاتمة: في منصوبات ثلاثة:

الأوّل: المفعول فیه

الثاني: المفعول معه

الثالث: المنصوب علی التوسّع

أساس: في الإضافة

تتمیم: یشتمل علی مسائل

ص: 343

أساس: في الأسماء المتّصلة بالفعل

المصدر

اسم الفاعل

اسم المفعول

الصفة المشبّهة

اسم التفضیل

أساس: في التوابع

النعت

النعاوین العامّة

فهرس المحتوی

ص: 344

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.